الفقه السياسةُ

هوية الكتاب

الفقه السياسةُ

آیه الله المجاهد الحاج السيد محمد الحسيني الشيرازي (دام ظلّه)

الفقه ، السياسه

3000 نسخه

مطبعة رضائی

ذى الحجة 1403

ص: 1

اشارة

الفقه ، السياسه

3000 نسخه

مطبعة رضائی

ذى الحجة 1403

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعنة على اعدائهم الى يوم الدين .

ص: 3

ص: 4

تمهيد

لقد كان من الجديران يكون( للفقه السياسي) باب مستقل في الفقه بعد أن كانت له مسائل متشتتة في أبواب الجهاد ،والمكاسب ، والقضاء والشهادات، والحدود ، والقصاص ، والديات ، واحياء الموات ، وما أشبه ذلك.

ان الفقهاء قلما ألفوا كتاباً خاصاً في هذا الشأن وما يتبعه بخصوصه أمثال (قاطعة اللجاج ) و (تنبيه الامة) و (الحكومة الاسلامية) وغيرها ، وذلك لاكتفائهم بما دونوه في تلك الكتب المذكورة من المسائل المتشتتة، مما استنبطوه من الكتاب العزيز ، حيث قال سبحانه :«اني جاعل في الارض خليفة »(1).

والسنة المطهرة : حيث ورد : (اللهم ارحم خلفائی ).

والاجماع : في كثير من مسائلها كما لا يخفى على من راجع كتب الفقه الاستدلالية.

والعقل : حيث انه دل على وجوب تنظيم أمر البشر عامة، والامة الاسلامية خاصة، وقبح ترك الناس فوضى لانظام لهم ، أولهم نظام غير صحيح ، واذ ثبت قبح الترك بلا راعي ، ووجوب تشكيل الحكومة الرشيدة عقلا ، ثبت ذلك شرعاً، للتلازم في القاعدة المعروفة ( كلما حكم به العقل حكم به

ص: 5


1- سورة البقرة / 29 .

الشرع ) اذا كان الأمر في سلسلة العلل كما حقق في الأصول الى غيرها من الايات والروايات ومعاقد الاجماع والادلة العقلية مما يقتضي التدوين المستقل لانه أسهل الى التناول .

لكن الفقهاء اكتفوا بما ذكروه في تلك الكتب الفقهية ، وبما نقحوه في مسألة الإمامة والخلافة فى الكتب الأصولية ، فجزاهم الله خير جزاء المحسنين .

وند كتبت في سالف الزمان ، كتاب( الحكم فى الاسلام )على الاسلوب الفقهى ، ثم رأيت ان أكتب كتاباً أوسع ليشمل جملة من المسائل المرتبطة بالحكم بصورة أشمل ، لعل الله سبحانه يجعله مقدمة لاقامة حكم اسلامي زاهر يضم نحت اجنحته الف مليون مسلم، حيث قد فرقت الاهواء من الداخل والكفر من الخارج بين صفوف المسلمين ، فجعلوا منهم حكومات متشتتة، ومتحاربة احياناً ، وذلك خلاف كونهم امة واحدة.

قال سبحانه : «وان هذه امتكم امة واحدة وانا ربكم »(1).

وقال صلى الله عليه و آله وسلم : (الناس سواسية كاسنان المشط) مما دل على انه لا يحق اي تفرقة بينهم بسبب الحدود الجغرافية، أو الالوان ، واللغات اوغير تلك.

ولا يخفى ان هذا الكتاب الذي نحن بصدده الان مبني على تنقيح الموضوعات السياسية حسب متطلب الزمان في الحال الحاضر ، ليعرف انطباق الاحكام الشرعية عليها وجوباً وحرمة ، واستحباباً و كراهة، واباحة ، كما هو شأن سائر الكتب الفقهية ، مثلا : تنقح اقسام المكاسب والنكاح والجرائم ، ثم تذكر احكامها المستقاة من الادلة الاربعة.

والله سبحانه المسئول ان يجعله سبباً لفهم الاحكام ويصيره مقدمة لتوحيد بلاد الاسلام، وما ذلك على الله بعزيز .

ص: 6


1- سورة الانبياء / 92

مسألة : 1 العناصر الثلاثة للحكومة

اشارة

عناصر الحكومة ثلاثة : (الانسان) و (النظام) و(الارض) . وقد خلق الله الانسان ابداعاً -كما يستفاد من الايات والروايات - لا تكاملياً كما ذهب اليه (دارون) واتباعه. والهمه النظام كما قال سبحانه :« وعلم آدم الاسماء كلها »(1)وخلق من قبل ذلك الارض ، فقد تكاملت الاسس الأولية للحكومة منذ اول انسان (بالنسبة الى آدمنا (عليه السلام) ولذا ورد : (لقد كانت الخليفة قبل الخليقة) واليه يشير ماورد من قوله سبحانه : «انی جاعل في الارض خليفة»(2) والرواية المشهورة(لولا الحجة لساخت الارض باهلها )فان الحجة سياسياً ، منزلتها منزلة الحجة عبادياً ، واقتصادياً ، واجتماعياً ، وغيرها ، على مالايخفى.

نعم لقد تطورت الحكومات، حسب تطور الاحتياجات كما تطور الاقتصاد حسب تطور الالة والاحتياج، وسعة أبعاد الانسان ، وقد جعل الاسلام الاسس الكلية الكفيلة لاستيعاب كل المسائل المحتاج اليها مهما تطورت الاوضاع .

أما الانسان منذ ان وجد على الأرض (ولا يعلم قبل كم وجد ولعله قبل مليارات من السنوات ، حيث قد عثر على بقايا انسان قيل انه كان يعيش قبل

ص: 7


1- سورة البقرة /30 .
2- سورة البقرة/ 29

سبعين مليون سنة ) فمنهم من هدى الله ، ومنهم من حقت عليه الضلالة : حيث كان الاول يتبع قوانين السماء في كل شيء والتي منها

(قوانين الحكم) .

وكنان الثاني يضع بنفسه القوانين أويتبع الجان ، حيث كان يقول : « انا وجدنا آبائنا على امة وانا على آثارهم مقتدون»(1) ، ولم يكن فرق من جهة أصل اسس الحكم ، سواء كانوا يعيشون كجماعات صغيرة وفي الخيام كما هو المشاهد الى الان في بعض القبائل و أهل الارياف والقرى الصغيرة حتى التي تحتوى منها على مأة انسان ، أو ما اشبه ، أو كجماعات كبيرة ، مثل الالاف ، أو الملايين - كما هو الحال في المدن الكبار - .

نعم لاشك ان (الحكومة) في البدائيين لا مؤسسات لها ، بينما الحكومة في المدن، والتجمعات الكبيرة ، لها مؤسسات ، فهى فى( القسم الثاني) عبارة عن مجموعة من مؤسسات اجتماعية تنشأ لتأمين الروابط وحفظ نظم المجتمع- اولا - ولاجل تقديم المجتمع الى الامام - ثانياً - وعليه فشأن الحكومة :

(1) ارساء النظام .

(2) وحفظ العدل .

(3) وتوفير الرفاه للجميع .

(4) والتقديم بالمجتمع الى الامام .

نعم فى التجمعات الصغيرة (مما تسمى بالبدائية) يكون لشيخ القبيلة ونحوه صفة الأمر والنهى والحل والفصل والوقوف أمام العدوان ، واذا حدث حادث من سيل أو حريق أو عدو أوما اشبه ، كان الالتفاف حوله أكثر وتكون كلمته اقرب الى السماع ، و وضع لها ضوابط وقتية ، ثم لما يذهب الخوف ويندفع الشر يرجع افراد الاسرة والقبيلة الى حالتهم السابقة.

ص: 8


1- سورة الزخرف/ 23

غنى الجماعات الصغيرة عن الحكومة

ومما تقدم ظهران غنى الجماعات الصغيرة عن الحكومة (بمعناها الحضاري) لعدة أسباب أهمها :

(1) قلة افراد الجماعة ، فمثلا : الجماعة المكونة من عشرين أومأة ، اوما أشبه ، غالباً لامساكن ثابتة لهم ، لانهم يكونون رحلاً يطلبون الماء والكلأ ولا اقتصاد لهم بل هم يعيشون على الحيوانات والزرع الطبيعي، فلا تحدث فيهم منازعات ، ولا يكون لهم ما يكون للجماعات الكثيرة من الشئون ، والغالب ان المناسبات بينهم كالزواج والموت أو نزاع أخ وأخ لا يعدو ان تكون كالمناسبات بين العائلة الواحدة ، فكما لا تحتاج العائلة الواحدة الى الحكومة ، كذلك الجماعة الصغيرة ، وان تكونت من عوائل ، بل الغالب ان تكون الجماعة الصغيرة عائلة واحدة .

(2)الملكية الخصوصية توجد في الجماعات الصغيرة في نطاق ضيق لافي النطاق الواسع الذي يوجد في المدن والجماعات الكبيرة ، فالانسان البدائي لا يملك الا كوخه واثاث منزله ، وخيمته ، أو بيته المبني من الطين ، وأغنامه وارضه القليلة المزروعة ، وشبكة صيده ونحو ذلك، ومن الواضح ان مثل هذه الأمور ، لاتحتاج الى كتب المتاجر ، وأحياء الموات ، والرهن ، والاجارة، وغيرها من المعاملات خصوصاً المعقدة منها.

(3) قلة الجرائم ، لان الافراد القليلين والعائلة الصغيرة لاتقع بينهم جرائم كثيرة بل الجريمة تكون نادرة جداً ، ولذا فليسوا محتاجين الى كتب القضاء ، والشهادات، والحدود ، والقصاص والديات، وما يتبع ذلك من الشرطة والنجدة والامن.

ص: 9

وحيث ان التعدى عليهم أو تعديهم على غيرهم لا يعدو ان يكون شيئاً طفيفاً سريعاً ، لم يكن احتياج الى الجيش وما يتبع ذلك.

(4) ان الجماعة الصغيرة لاتتبع الاداب والرسوم الكثيرة ، وليست لها مدارس ، ومكتبات ، وكتب ، ومؤسسات ، ومساجد ، وما أشبه، بل انهم يتبعون في امورهم العادات القليلة الموروثة وعبادتهم تؤدى بصورة بدائية ، أي يجعلون خيمة - مثلا - مسجداً ، وغالباً ينظرون الى الكبراء في الاعمال والاداب فلاحاجة لهم الى كتب المعاشرات وصنوف القوانين الموضوعة لهذه الامور حتى تحتاج الى الحكومة الحامية والمنظمة لها.

و من نظر الى القرى والارياف والجماعات الرحل حتى في البلاد المتحضرة يمس كيف انهم لا يحتاجون الى الحكومة مثل احتياج المدينة ، وان الحكومة فيها لو كانت ، تكون بدائية الى أبعد حد .

وقد تبين مما ذكرناه ان قوانين الحكومة مهما كانت موجودة ، لا تكون محل استفادة الجماعات الصغيرة، فالأمر من باب السالبة بانتفاء الموضوع ،لا ان الحكم والمحمول منتفيان ، وكلما كانت الجماعة أكبر كانت قوانين الحكومة أوسع واشمل ، مثلا : اذا كانت للمعاملات مأة ألف قانون، وللقضاء والجرائم عشرون ألف قانون ، تكون كل تلك القوانين محل الابتلاء والاخذ والعطاء ، في بلاد نفوسها مأة مليون، بينما لا يكون الا خمسها محل الابتلاء في بلاد نفوسها عشرون مليوناً .

ص: 10

مسألة : 2 الحكومة والجماعة الكبيرة

اشارة

المؤسسات الحكومية انما توجد في الجماعات الكبيرة ، وكلما كانت الجماعة أكبر تكون الحكومة أوسع وأكثر دائرة وأعمق وتكون صعوبتها أكثر، كما انه كلما تقدم العلم والصناعة ، تكون صعوبات الحكومة ودوائرها أكثر فكما ان الامور الاربعة التي تقدمت في المسألة السابقة مما تسبب عدم الاحتياج الى الحكومة ، الا بصورة بدائية - احياناً - كذلك تكون في الجماعات الكبيرة والامم المتمدنة ، بالعكس ، فالجماعة كبيرة ، والاملاك الخصوصية وفيرة، والجرائم تزداد بقدر سعة الجماعة ، والاداب والرسوم والسنن والمراكز التي يكون فيها التجمع كالمساجد والمدارس والحدائق والحمامات والمصحات وما أشبه تكثر عند الجماعة الكبيرة مما تحتاج كلها الى الضوابط والموازين وهي بدورها تحتاج الى الحكومة .

ومن الواضح ان الاسلام جعل لكل ذلك قوانين وانظمة عامة تشمل كل القضايا المتجددة ، او خاصة بالنسبة الى الامور المتكررة لكل البشر بدائياً

ص: 11

كان او متحضراً ، وقد قسم الاحكام فيها الى واجب وحرام، ومستحب ومكروه ومباح ، وكذلك تنقسم أعمال الحكومة فيها ، كانقسام دوائرها ، الى الاحكام الخمسة، مثلا: دائرة جمع المعلومات والحيلولة دون الجرائم (الامن، المحتسب القضاء )واجبة التكوين ، بينما دائرة التجسس والكبت والارهاب حرام ، وهكذا .

اختلاف المواهب والاهواء والاستجابة

اشارة

ثم ان الانسان لما اختلفت مواهبه واهوائه واستجاباته ، ووقع في افراده و جماعاته التقدم والتأخر والظلم والاستغلال، يقع الاحتكاك والثورات والحروب و كلها تحتاج الى ضوابط وقوانين لادارة دفة العدل ، ولاعطاء كل ذي حق حنه، بحيث لاتظلمون ولا تظلمون والادارة لاتكون الابسبب الحكومة ، ولذا انتاج البشر الى (القوانين) اولا ، والى (الحكومة) المديرة لها في الاجتماع ثانياً ، بيان ذلك :

1 - المواهب

ان الانسان تختلف مواهبه فطرة وخلقة ، فهناك الذكي والغبي ، والنشيط و لخامل ، والسريع ، والبطىء ، وقوي الجسم ، وضعيفه ، ومن الواضح اد المالك للصفات المتقدمة ، يتقدم على المالك للصفات المتأخرة ، بل مثل هذه الاختلافات توجد في الحيوان والنبات ايضاً ، ولذا اذا فرخت الدجاجة عشرة فروخ ، لايمضى زمان الاوتختلف مواهبها ، اي يظهر ما اودع فيها من الصفات ، فكما ان بعضها يكون ذكر أو بعضها انثى، كذلك يكون بعضها مسيطراً

ص: 12

على بعض .

أما لماذا خلق الله الانسان - ولنترك الكلام في الحيوان والنبات - كذلك؟ فالجواب انه :

أولا : لانه سبحانه فياض، فاللازم اعطاء كل قابل حقه .

ثانياً : لانه نوع من الجمال ، حيث اذا لم يكن كان نقص في الخلق فكما انه لم يكن من الجميل تساوى الاشكال والصور ، لم يكن من الجميل تساوى الصفات والمعاني والمحتويات .

2- الاهواء

والاهواء في البشر مختلفة ، فان الانسان خلق مختاراً ، والمختار لا يسلك طريقاً واحداً ، وانما يسلك ما يشاء ، من الطرق ، ولولا الاختيار في البشر لم يكن بشراً ، وانما كان جماداً لا يعدو الطريق المسلوك له، وحينئذ لم يكن حسن وقبح وثواب وعقاب وجنة ونار ، وهذه الاهواء المختلفة ، توجب ظلم بعض لبعض واستغلال بعض لاخر .

3 -الاستجابة الجسدية والنفسية

وكذلك البشر يختلف في الاستجابة جسدياً ونفسياً ، مثلا : اذا كان هناك ماء فاتر ، وكان ثلاثة اشخاص ، أحدهم وضع يده في ماء حار ، والاخر في الماء البارد ، والثالث في الماء الفاتر ، فاذا اخرجوا ايديهم من تلك المياه ووضعوها في الماء الفاتر احس الأول بالبرودة ، والثاني بالحرارة ، والثالث بالملائمة ، فان الماء الواحد ينعكس الى حالات مختلفة ، حسب الاستجابات

ص: 13

الجسدية ، ومثلا : يخاف انسان من الميت بينما يكون الميت للاخر عادياً ، بحيث تكون مجاورته له كمجاورة الحي، فالميت الواحد اعطى حالتين نفسيتين لنفرين حسب اختلاف استجاباتهم النفسية ، الى غير ذلك من الامثلة ، في البابين .

ولهذه الامور الثلاثة يقع التقدم والتأخر ، والاحتكاك ( بمختلف أقسامه ) بين أفراد الجماعات - خصوصاً الكبيرة منها - أما ما توهمه مارکس و اتباعه من الطبقية المبنية على الاقتصاد ، وحصره الطبقية في اثنتين فقط ، فليس الا من جهة البدائية في التفكير .

فاولا : الناس لا ينقسمون الى طبقتين فحسب ، بل الى طبقات .

وثانياً : لا يكون الاقتصاد (فحسب) محركهم الى الظلم والاستغلال ، فهناك الاغنياء والفقراء، والعلماء والجهال ، والظالمون والمظلومون، والاقوياء والضعفاء الى غير ذلك ، كما ان السياسة والمرأة والاقتصاد والدين والغنى وغيرها تحرك الناس.

خطأ الماركسية

ومنه يعلم ان ما رتب الماركسيون على ذلك الوهم من انقسام المجتمع الى طبقتين ، طبقة مستغلة - بالكسر وطبقة مستغلة بالفتح والطبقة المستغلة الكسر تولد الحكومة لتأمين مصالحها ، ولكسر شوكة المقاومين وتحطيمهم من الطبقة المستغلة - بالفتح - ليس الا غاية في السذاجة والسطحية في لتفكير .

ثم ان حكومات العصر الحديث قد تعقدت بصورة كبيرة ، وتتحمل

ص: 14

وظائف خطيرة ، بحيث ان كل حكومة لا تتمكن من السير في المسارب الملتوية المتعقدة ، الموصل الى الاهداف المطروحة ، او لم تتمكن من تحمل الوظائف الخطيرة الملقاة على عاتقها ، لابد عليها من ان تخلى مكانها لحكومة اكثر عصرية ، وأعرف بمسارب الحياة ، وعدم عرفان الحكومة الاسلامية لمثل ذلك ، او عدم تحملها للوظائف محرم شرعاً ، حيث قال( صلى الله عليه وآله وسلم) : (لعن الله من ضيع من يعول ) وقد ذكر الفقهاء (وجوب تعلم الصناعات ) الى غير ذلك .

وجوب تقديم الاسلام

ثم الواجب تقديم الاسلام الى الامام ، بل حفظه مساوياً لسطح الدنيا في مختلف السطوح والتي من اهمها الحكم ، فقد قال (صلى الله عليه و آله وسلم): (الاسلام يعلو ولا يعلى عليه ).

وفي حديث بصدد ذكر صفات المؤمن : ( عارفاً بأهل زمانه ) الى غيرها من الاحاديث الواردة التي تلمح او تصرح بما يفيد ما ذكرناه .

أسباب تعقد الحكومات المعاصرة

اشارة

وانما تعقدت الحكومات العصرية وكثرت وظائفها الشاقة لعدة امور :

1 - استيعاب الأقوام المختلفة

الاول : سعة اراضي الحكومات واستيعابها لعدة اقوام يختلف بعضها عن بعض في اللغة والدين والرسوم والتقاليد ، وفي مثل هذه الحالة يجب على

ص: 15

الحكومة تنظيم امور هذه الامم غير المتجانسة والتنسيق بينها ، ممثلا : نفرض ان حكومة تشتمل اراضيها على المسلمين والمسيحيين، ومن يتكلم بلغة العرب، ومن يتكلم بلغة اخرى ، فهل تضع الدولة الكتب المدرسية حسب تاريخ و معطيات هذا الدين او ذاك ؟ او تكون الكتب المدرسية ووسائل الاعلام حسب هذه اللغة او تلك ؟ واذا وضعت حسب الدينين واللغتين كان ذلك هدراً لاوقات كل طائفة بالنسبة الى ما يوضع بالنسبة الى الطائفة الاخرى ، فالاذاعة لما تذيع باللغة العربية، تهدر اوقات الطائفة الذين يريدون اللغة الأردية ، وحيثما تذيع مراسيم دين المسيح عليه السلام كان غير ملائم للمسلمين الذين يريدون الاستماع الى مراسيم الاسلام- مثلا- .

2 - تقدم العلم والصناعة

الثاني : تعقد الحياة الاجتماعية ، الذي سببه تقدم العلم ، وتدخل الصناعة في الحياة ، فمثلا كانت الوسيلة في الزمان السابق الخيل والبغال والحمير، بينما صارت الوسيلة الان السيارة والطيارة والقطار، ومن المعلوم ان كلا من الوسائل المذكورة بحاجة الى سلسلة من الامور المتقدمة كالمعامل ومصانع صهر الحديد و العمال ، والمكان الذي يسكنونه الى جنب المعامل والمناجم الى غير ذلك ، و سلسلة من الامور المتأخرة عنها، مثل سعة الطرق، ومحلات وقوف السيارات و المطارات ، ومحطات القطار ، والى غير ذلك ، ثم الكل بحاجة الى قوانين خاصة للمرور والحركة والهبوط والطيران والى غيرها.

3- التحول الدائم في المجتمع

الثالث : التحول الدائم الذي حدث للمجتمعات الانسانية، فكل يوم صناعة

ص: 16

جديدة ونظام جديد ومكتشفات حديثة، فقد كان الانسان يغط في سبات عميق قبل ظهور الاسلام ، حتى ان ايران ،مثلا، لم تجد طوال ألف سنة، منذ ما حفظ التاريخ عنه ، الى حين فتح الاسلام لها، علماء أو مكتشفين أو ما أشبه بحيث يشار إليهم او اليها بالبنان ، وكان العلم خاصاً في مراكز صغيرة ، ولما جاء الاسلام وفتح المسلمون البلاد، وأوجبوا العلم على كل مسلم ومسلمة وهيئوا سبل العلم والمعرفة تفتقت الحياة عن ازهار المعرفة ، وقد قال على عليه السلام في علل بعثة الانبياء : ( وليثيروا لهم دفائن العقول ) وبذلك اخذت الحياة في الصعود ومن الواضح ان هذا التحول المتصاعد سبب تعقد واجبات القائمين بالحياة وهم الحكومات ، وكثّر وظائفهم .

ونتيجة هذه الامور الثلاثة تضطر الحكومات الى أمرين :

(1) تكثير المؤسسات الحكومية حتى تتمكن بسبب تلك المؤسسات من فسح المجال وتسهيل الطريق امام سلسلة الصناعة ، سابقة عليها ولاحقه لها ( كما تقدم في أمثلة المواصلات ).

( 2 ) زيادة الموظفين في كل مؤسسة، ولو كانت تلك المؤسسة لها سابقة حتى في الحكومات الغابرة ، كمؤسسة الشرطة ومؤسسة الجيش ، وما أشبه ذلك.

خطأة الحكومات المعاصرة

ولا يخفى ان الحكومات الحاضرة ، قد اخطأت (الى جنب كل ذلك من الامور المحتاج اليها )خطأة كبيرة حيث اوجبت تلك الغلطة لها ، اضافة مؤسسات هي في غنى عنها ، في طبيعة الحكومة ، وانما غلطت بهذه الغلطة لعاملين ، عامل الجهل ، وعامل الاستبداد .

ص: 17

بيان ذلك : ان قيادات السماء لما انحسرت عن الاجتماع لم يدرك موازين الحكم والادارة، فأخذت الحكومة تضيق دائرة الحريات، بتكثير المؤسسات الحكومية التي هي في غنى عنها ، وبذلك كبتت الحريات وخنقت الحركات .

ومن الواضح التلازم الطبيعي بين كثرة الدائرة وبين تقليص الحرية ، مثلا : ادارة البلدية فرضت على من يريد ان يعمر داراً او ما اشبه تحصیل

الرخصة من الدولة ، ولماذا ؟ بينما اللازم أعطاء الحرية للناس في التعمير وه كذا قد كبتوا حرية السفر والاقامة والعمل وابداء الرأى ( باللسان، والكتابة) والزراعة ، والتجارة ، والصناعة ، والثقافة ، والزواج ، والطلاق ، وغيرها - كما ذكرنا تفصيل ذلك في كتاب (نريدها حكومة اسلامية) وغيره ، ولم يكن ذلك في الاغلب الانتيجة الجهل بموازين الانسان ، ومتطلبات الحكم الرشيد .

هذا من ناحية .. ومن ناحية اخرى فرضت الفردية والأنانية على الحكومات المناضرة - مهما كان لونها : ديمقراطية ، أو غيرها ، على ما سيأتي في بعض المسائل الاتية من ان الديمقراطية الحاضرة ثوب مهلهل على الديكتاتورية - تكثير الموظفين حيث ان الديكتاتور لا يتمكن ان يعيش الا في جو خانق للناس، ليبدي شخصيته وقدرته ، ولذا كثر أفراد الجيش لاجل السيطرة على الاسم المظلومة، كما كثر الموظفون في الداخل لاجل السيطرة على الناس كالبوليس ونحوه ، فلامريكا ألفا قاعدة عسكرية في العالم ، كما انه كان لعبد الناصر أكثر من مليون موظف ، بينما الخبراء ذكروا احتياج مصر الى مأتي ألف موظف فقط.

نتائج زيادة المؤسسات

وهذه الزيادات مؤسسة ، وافراداً ، في نظر الاسلام محرمة من جهات :

ص: 18

(1) تعطيل الافراد ، فبينما كان اللازم ان يكون هؤلاء الافراد منتجين تعطلوا عن الانتاج الى الاستهلاك .

(2) خنق حريات الناس ، بينما يقرر الاسلام ان الناس مسلطون على أنفسهم وأموالهم .

(3) تثقيل كاهل بيت المال بالمعاشات والرواتب .

( 4 ) التخريب الذي هو لازم كثرة المؤسسات الحكومية وأفرادها ، وقد قال سبحانه :« ولا تفسدوا في الأرض بعد اصلاحها»(1)وفي حديث تحف العقول ( وكل ما فيه الفساد ) الى غير ذلك من المحاذير ، ونتيجة لزيادة الموظفين والوظائف ، تتعقد الحركات الانتاجية ، لان كل موظف بقدره يعقد الامر كما يتجمد الموظف ويبتلى باللعب الاوراق وبالاخرة تكون زيادتهما سداً في قبال تكامل المجتمع وتقدم البشر الى الامام ، ولنمثل لذلك بزارع يريد زرع أرضه، ففي عالم الحريات، لا يحتاج هذا الزرع الى أكثر من وسائل الزرع كالثور أو (التراكتور) والبذر والسماد، ونحو ذلك من الضروريات الاولية .

أما في عالم كبت الحريات وكثرة الموظفين والمؤسسات ، فهناك مؤسسة للارض ، ومؤسسة الري، ومؤسسة الحيوان ، ومؤسسة للسماد ، و... ... واللازم على هذا الزازع ان يمر بكل هذه المؤسسات لتحصيل الرخصة ، ولتحصيل هذه الآلات والوسائل ، و اذا انضم الى ذلك : المؤسسات التي تلاحق الزارع لاجل تحصيل وسائل نقل ثماره، ولاجل التسويق ،ولاجل تحصيل بدل ثمره البيع ، و... ظهر قدر كبت الدولة وتجميدها للزارع ، بما لو لم تكن تلك المؤسسات ، و اولئك الموظفون ، لامكن ان ينتج ( بقدر ماله المهدور بين تلك المؤسسات ، وعمره الضائع بين اولئك الموظفين ) ما لايقل من زيادة قدر ربع انتاجه ، في الحال الحاضر ، فيجعل الاربعة خمسة ، والثمانية عشرة - مثلا-.

ص: 19


1- سورة الاعراف / 56 .

جمود الموظفين

ثم ان الموظف ، لايكون في هذه المؤسسات الكابتة ، الاجامداً متحجراً فبدل ان يكون له الابداع والابتكار ، والانتاج ، يكون آلة جامدة تدور حويل نفسها ، فهو حجر في نفسه ، ويوجب تعثر الاخر، ويكون بمنزلة الحجر الملقى في الشارع المبلط فبينما كان اللازم ان يكون بلاطا في الشارع ينفع وينتفع به، يكون ملقى على مكان مبلط ، جامد في نفسه غير نافع ، بالاضافة الى کونه موجباً لعثرة المارة .

وبالاخرة ، يكون ماجعل لاجل رفاه المجتمع ، من المؤسسات والموظفين سباً لتكثير مشاكل المجتمع. ولا يتوهم انه اذا كان كذلك ، فلماذا نرى تقدم العالم في العصر الحاضر ؟ اذ يجاب عن ذلك :

أولا : بانه رفاه بعض على حساب بعض ، فألف مليون جائع في العالم الالث ، وألف وخمسمأة مليون جائع في العالم الشيوعي ، على حساب ترفيه الي مليون في العالم الصناعي وما يدور في فلكه (ومما يدور في فلكه ، الاحزاب الشيوعية المستولية على روسيا والصين واروبا الشرقية ونحوها ) .

ثانياً : انه لولم يكن هذا التعقيد المتولد من كثرة الوظائف والموظفين لاعطى العلم أضعاف هذا الانتاج الذى ينتجه الان ، فبينما كان اللازم ان يرفه العلم حياة ثمانية مليارات من البشر مثلا ، لايرفه الان الاحياة مليارين فقط ( ان صح ان نسمى ما يتلقاه الملياران رفاءً ، حيث ان الرفاه ذو ابعاد ، والحال انما يلقاه الملياران من الرفاه الان ، ذو بعد واحد ، هو البعد المادي المحدود، اى المشوب بالقلق والتوتر ، لا الروحى ).

ص: 20

جمود المجتمع

ويتبع جمود الموظفين ، جمود المجتمع و ذلك لان الانسان الجامد يكون حجر عثرة أمام كل انطلاق ، حيث يعلم الجامد ، انه لوحدث في المجتمع حركة وتيار سيال ، لابد وان يجرف الجامد ، فتكون المؤسسات والموظفين سداً أمام تقدم الاجتماع و تكامله، وبهذا المنطق كان يقف المكارون أمام رواج السيارات واصحاب السيارات، أمام رواج الطائرات، وأصحاب النفط أمام تقدم الكهرباء ، ورواج البرق ، الى غير ذلك.

اذاً : فالمؤسسات والموظفون الكثيرون يضرون الاجتماع ضرراً مثلثاً،ضرر وجودهم بأنفسهم ، وضرر تجميد الامة حيث يوقعونها في الروتين، و يصرفون أموالها وطاقاتها هدراً ، وضرر الحيلولة دون التقدم والتكامل.

ومن الواضح ، ان الاسلام يخالف كل ذلك (فلا ضرر ولاضرار في الاسلام) والاسلام تقدمي ومتصاعد( الاسلام يعلو ولا يعلى عليه) و(من ساوى يوماه فهو مغبون) و (الانسان يسأل غدا عن عمره فيم افناه، وعن شبابه فيم ابلاه ) و (ساع سریع نجی) و «استبقوا الخيرات» (1)و «سارعوا الى مغفرة من ربكم»(2) الى غيرها من النصوص الاسلامية الكثيرة .

ص: 21


1- سورة البقرة / 143
2- سورة آل عمران/ 127

مسألة : 3 تدخل الحكومة في الشئون الشخصية

اشارة

تدخل الحكومة في الشئون الشخصية للناس محرم شرعاً ، لكن الحكومات الناضرة اخذت تتدخل في شؤن الناس من غير مبرر ( الا الجهل والديكتاتورية ).

أما الحكومات الشيوعية، فهى ليست الا ادوات كابتة لكل الناس، وبلادها ليست الاسجوناً كباراً ، فالكل في السجن، والكل مكبل ، فالانسان في تلك الحكومات مقيد في اكله وشربه ولبسه و سفره وبنائه وزواجه وسائر شئونه . و ما يقال ان الاتحاد السوفياتي ، او الصين ، او ، او ... سجن كبير، لايراد به (حتی معنى السجن الكبير) حيث ينطلق الانسان في ذلك السجن الكبير، بل يرادبه، ان الانسان في هذا السجن محدود ايضاً ، بسجون اخرى ، كقشور البصل حيث الواحد منها على الآخر، فمثلا : الانسان فى موسكو مسجون فى جملة كبيرة من القيود ثم في موسكو - حيث لا يتمكن من السفر الا بالاجازة - ثم في الاتحاد السوفياتي ككل ، حيث لا يؤذن له في الخروج منها ، ولو حاول الخروج رمى با رصاص .

وأما الحكومات الرأسمالية الاستعمارية ، فهي تنافق في اظهار نوع من

ص: 22

الحرية، وابطان الاستبداد و الاستعلاء بسبب المؤسسات والموظفين، والدعايات و غيرها من الاجهزة التي تجعل الانسان في السجن ، و ان زعم انه مطلق و منطلق .

أما سائر الحكومات فهي أسيرة في يد هاتين ، أو خاضعة - شائت اوابت - للضغوط المتزايدة الواردة عليها منهما . وليس ذلك الالاجل توسعة الحكومة- مؤسسات وموظفين فالانسان وان كان له نوع من الحرية مثلافي البلاد التي تسمى بالديمقراطية ، الا انها حرية محاطة باسوار القانون، واغلفة الدعاية .

وقد نقل عن بعض الاحصاءات ان امريكا كانت تتدخل في عام (1858) م فى (14) نوعاً من الامور الاجتماعية، ثم أخذ يتصاعد تدخلها الى (19) ثم (36) ثم (58) ثم (91) ثم (123) حتى وصل تدخلها أبان الحرب العالمية الأولى سنة (1918) الي (155) ، وعلى هذا المقياس أخذ يتصاعد تدخلها الي الحال، بما لا قبل للشعب الامريكي به ، فالشعب لم تبق له الاحريات ضئيلة .

وهكذا القياس في بريطانيا وفرنسا والمانيا واليابان وغيرها - بمالسنانحن الان بصدد سردها ...

وبالجملة ، ففي البلاد الصناعية أخذ تدخل الدولة -بواسطة مؤسساتها رموظفيها - في الامور الخاصة يكثر ويتصاعد، وبذلك تحولت الدولة من كونها سياسية ( للنظم) و (الادارة) و (العدل) الى دول مايسمى (بالرفاه) وليس الرفاه فيها الاعلى حساب الانسانية والانطلاق والحرية.

فالدول الحاضرة هي دول ( الاصر و الاغلال ) التي جاء الاسلام ، لاجل وضعه و کسرها ، قال سبحانه : « يضع عنهم اصرهم و الاغلال التي كانت عليهم » (1)

واصبح الانسان في هذه الدول كمثل دود القزيفرز حول نفسه على طول

ص: 23


1- سورة الاعراف/ 156 .

الزمان اللعاب الذى كلماز اداز دادت متانة سجنه ، حتى يأتي يوم لا يجد الهواء والخلاص فيموت داخل السجن الذي بناه حول نفسه .

وحيث ان الصبغة العامة في هذه الحكومات التي بقيت لها بقايا من الحرية،الجهل والاستبداد ، - أعم من الاستبداد السياسي والاقتصادي، والاجتماعي- لا ينتك ان تكون في الحكومة جهات ضاغطة ، لمصادرة الحريات ، و تدخل الدولة فى كل الشئون، وقد يعللون ذلك بمختلف العلل والاسباب ، بينما الجوهر هو (مزيد من الديكتاتورية والتسلط المادي والمعنوي على الشعوب ، من غير فرق بین شعب نفس البلاد او شعوب سائر البلدان ) .

تأميم التجارة

مثلا : تأميم مطلق التجارة ، أو التجارة الخارجية، وتأميم الغابات والمنابع الطبيعية العامة، وتأميم منابع الثروة الصناعية، كالمعامل والمطارات والقطارات ومؤسسات الاعلام ، وتأميم المدارس الاهلية ، وملكية الدولة للاراضي كلا أو بعضاً والاستيلاء على الاوقاف حتى الخاصة منها وتأميم المستشفيات الاهلية، ودار العجزة والمؤسسات الخاصة ، الى غير ذلك من بقايا مابيد الشعب، وله الدرية في انجازها و اداراتها، كل ذلك ليس الاخطوات الى الاستبداد المطلق وسلب الشعوب حرياتها تحت اغطية براقة ، من مصلحة الشعب ، و من قطع يد الاستغلال وغيرهما من الاغطية الكاذبة.

والنتيجة الحتمية لمثل هذه التدخلات من الحكومات الحاضرة، في مختلف شئون الناس أمران :

(الاول) تقليص الحريات ، وكبت الاعمال ، والحيلولة دون الانطلاق.

(الثاني) الوقوف دون صحة العمل ونمو الحياة، حيث ان الانسان اذا كان

ص: 24

حراً اندفع العمل، ولاجل جلبه للناس حول نفسه يعمل أحسن ما يمكن وأكثر ما يمكن ، واجمل ما يمكن و أرخص ما يمكن ، وبالاضافة الى الاندفاع النفسى يحدوه الى (الكثرة والجمال والاتقان والرخص) سائق المنافسة الحرة بينه وبين سائر من يعمل عمله، سواء كان صنع السيارات، أو علاج المرضى ، أو بناء الدور وما اشبه ، أو غير ذلك.

أما اذا اخذت الدولة الاعمال من أيدي الناس ، وجعلت مكانهم الموظفين مات الاندفاع ومات التنافس ، و بذلك لايهم الموظف اي من الامور الاربعة المذكورة، وبذلك تتبدل الحياة الى التأخر ، فالجمود فالموت ولذا قال سبحانه «استبقوا»(1)« سارعوا»(2)«فليتنافس»(3) وقال الامام علي عليه السلام: (ساع سریع نجی) وقال : (استبقوا الاعمار) الى غير ذلك من الادلة الشرعية .

وتشتد قبضة الحكومة على مختلف مرافق الحياة ، في أيام الحرب ، لان الدولة في أيام الحرب تريد توجيه كل الطاقات لاجل ربح الحرب، مع الحفاظ على سلامة المجتمع، فتأخذ كل شيء بيدها حتى لاتختل امور الامة، وحتى تتمكن ان تستفيد من كل الامكانات بقدر احتياجات الحرب.

مثلا : اذا كان الحديد بيد الناس استولت عليه الدولة ابان الحرب ، لاجل ان توجه قسماً منه الى الجبهة ، كاسلحة ، وكبناء الخطوط الدفاعية و ما أشبه ذلك ، ولذا تتحول البلاد أبان الحرب الى شبه قاعدة عسكرية كل شيء فيها بانتظام وتوجيه وقدر ، فاذا وضعت الحرب اوزارها لم تتنازل الحكومة عن مكاسبها الاستبدادية .

ولذا لم ترجع حالة امريكا وانكلترا وفرنسا وغيرها بعد الحرب العالمية الثانية كحالتها قبل الحرب، بل الاستعداد للحرب الثالثة أوجب تضييق النطاق الاداري أكثر فأكثر ، حيث حولت تلك الدول جملة من أعمال الناس الى

ص: 25


1- سورة البقرة /143
2- سورة آل عمران/ 127
3- سورة المطففين / 26

عملها ، استعداداً للحرب ، مثلا : استولت على جملة من الصنائع والمخازن وما أشبه لتوجيهها الى ما ينفع الحرب المستقبلة حتى لا تقع في الحرج اذا فوجئت بالحرب .

خطأ استيلاء الدولة على الاعمال

وكلا الامرين - الاستيلاء أبان الحرب ، والاستيلاء قبلها استعداداً لها - خطاء حيث ان تقليص الحريات باكثر من القدر الضروري، يساوى تجميد الطاقات -على ما تقدم - واذا جمدت الطاقات والكفاءات، كان التنزل فالسقوط، ولافرق في ذلك بين ماقبل الحرب ، أوما بعد الحرب ، أو في حالة الحرب ، وقد ورد في الشريعة المطهرة :( الضرورات تقدر بقدرها) فما كان فوق القدر ، لايكون الأمحرماً لانه تخصيص للقانون الأوّلىّ من غير مخصص .

فاللازم ان تحذر الدولة ان تكون دولة انتاجية، بل اللازم ان تكون دولة سياسة فحسب، بأن تكون كل الاعمال والمهن بيد الناس ، وانما الدولة (تنظم) و( نحفظ العدل) و(تمنع الاجحاف) و (توجه الى النقائص لتكمل) . ان الدولة وظيفتها ان تضع النظام العام ، و تقوى جهاز القضاء ، وتقف دون اجحاف أصحاب المهن - كالطبيب والمهندس - وتوجه أصحاب الكفاءات الى سد النقائص الموجودة في البلاد.

ولذا نرى بعض الحكومات التي لها نوع من الاعتدال ، اذا رأت نقصاً، في المدارس والمستشفيات والمطارات والقطارات وما أشبه ، وجهت الشركات والاثرياء الى بنائها ، فاذا لم يبنوها ، بنتها بنفسها ، ثم باعتها الى الناس ، وتشرف على صحة وعدالة سيرها ، وبذلك يخف كاهل الحكومة وتتمكن

ص: 26

من ادارة الامور الاصلية الموكلة اليها وتظهر الكفاءات التي يتوقف ظهورها على كون الناس احراراً فيما يفعلون ، بالاضافة الى ما تقدم من الرفاه وعدم الاجحاف .

أدلة جواز التسعير

وقد ذكرنا في كتاب (الاقتصاد - والتجارة) ، ان للدولة حق التسعير ، و حق الوقوف أمام الاجحاف ، وذلك تبعا للمقنعة و ابن حمزة والعلامة وولده والشهيد وغيرهم خلافا لاخرين حيث لم يجوزوا ذلك ، واستدللنا عليه :

(1) بأن الدولة وضعت لمصلحة المسلمين، فاذا كان في ترك التسعير ضرر عليهم كان عليها ان تفعل ذلك .

(2) وبدليل لاضرر ، وهو عام يشمل الاضرار الخاصة والعامة ، وقولهم ان لاضرر لا يثبت الحكم ، وانما ينفي الحكم خلاف مورد دليل لاضرر ، حيث رتب الرسول (صلى الله عليه و آله وسلم) عليه قلع الشجرة ، ولذا رتب الفقهاء عليه خيار الغبن ونحوه .

(3) وببعض الروايات الخاصة مثل كتاب علي (عليه السلام) الى مالك الاشتر المروي في نهج البلاغة - الذي قوة مؤلفه الذي اسنده اليه عليه السلام يغنى عن الفحص عن سنده، فحاله حال الفقيه والكافي في مراسيلهما ، على ماذكرناه في بعض مباحث (الفقه) -

قال على( عليه السلام):( وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل واسعاً لا يجحف بالفريقين من البائع والمبتاع)الى غير ذلك من الادلة الممكن الاستدلال بها لوجوب التسعير والمنع عن الاجحاف.

وان استدل لعدم جوازه بقاعدة : تسلط الناس على اموالهم وبعض الروايات

ص: 27

الخاصة المذكورة في الجواهر وغيره فى باب الاحتكار ممالاحجية في سندها أو لادلال لها أو لا مقاومة لها لما ذكرناه من الادلة ، كما ان الاشكال في الادلة التي ذكرناها غير تام ، كما لا يخفى على من راجعه فى مظانه وحيث ان هذا البحث خارج عن مهمة الكتاب نكتفى منه بهذا القدر ، والله سبحانه العالم .

ص: 28

مسألة : 4 لادكتاتورية في الاسلام

اشارة

ليس للحاكم حق الديكتاتورية اطلاقاً ، وكل حاكم يستبديعزل عن منصبه في نظر الاسلام تلقائياً ، لان من شرط الحاكم العدالة ، والاستبداد

( الذي معناه التصرف خارج النطاق الاسلامى، أو خارج نطاق رضى الامة في تصرف الحاكم فى شئونها الشخصية )ظلم مسقط له عن العدالة.

وقد انقسم عالم اليوم الى أكبر حكومتين في الشرق والغرب :

الأولى : تمارس ابشع أنواع الديكتاتورية ، وبكل صراحة حيث تسميه (ديكتاتورية البروليتاريا).

والثانية : تمارس الديكتاتورية تحت غطاء ، وانكانت تعطى بعض أقسام الحرية النسبية ، وعليه فكلتا الحكومتين خلاف موازين الاسلام، كما انها خلاف موازين العقل والمنطق ، ولا يجوز لحكومة بلاد الاسلام احتذاء أي منهما.

وقد كذبت الحكومات الشيوعية كذبتين :

(الأولى) تزييف التاريخ : حيث زعمت ان الحكومة في التاريخ مرت بمراحل (الشيوعية الأولى) ثم (الرق) ثم (الاقطاع) ثم (رأس المال) والان اخذت

ص: 29

ترجع الى (الشيوعية) ايضاً ، وذلك لان تجعل لنفسها سنداً تاريخياً ، و تبرر وجودها بانها من طبيعة الانسان ، ولم تقتنع بذلك ، بل جعلت كل شيء من الاجتماع والسياسة والدين والعلم والفن ، وغيرها وليدة (الاقتصاد) الذي زعمت انه اساس الحكومات والتحولات.

والكل يعلم انه لا سند تاريخي لكل هذا الكلام ، فمن اين ان الانسان في أول امره كان شيوعياً ، ثم صار كذا ، وكذا ، وكذا؟ ، والذي يراجع ادلتهم يجدهاني غاية الوهن والبدائية .

( لثانية) تزييفهم لارادة الانسان حيث جعلوا الشيوعية التي هي أسوء أنواع الديكتاتورية التي عرفها تاريخ الانسان الطويل ، هي من ارادة

(الطبقة العاملة) !واي عامل يريد الاستبداد من حكامه؟ وكل ما فى الأمران جملة من زعماء الشيوعية رأوا ان هذا التزييف احسن سلم للتسلط على رقاب العباد وازمة البلاد ، كما جعل فرعون من ذى قبل (خوف تغيير الدين) سلماً للتسلط ، قائلا( عن موسى عليه السلام) :«انى أخاف ان يبدل دينكم »(1)وهذا هو شأن كل مستبد حيث يأتى الى الناس بما يفهمون ليتسلط عليهم ، وليغفلهم عما اخفاه من جوهر مآربه .

دكتاتورية الرأسمالية

أما الحكومات الرأسمالية ، فان عملها مع الشعوب أشبه بالاستعمار الفكرى الذى يتبع المستعمر - بالفتح - المستعمر - بالكسر - لانه أصابه غسل المخ فان تلك الحكومات اقنعت شعوبها بصحة الانتخاباب، وهي غالباً مزيفة، حيث ان المال المجتمع في أيدى القلة ، يجمع حول نفسه ، الجماعات الضاغطة ، والاعلام ، والضمائر المشتراة ، وبذلك يكون الحكم بيد من يريده رأس المال لا بيد من يريده الشعب ، وهذه ديكتاتورية مغلفة بغلاف من الديمقراطية والحرية

ص: 30


1- سورة المؤمن/ 27

وتكون النتيجة الاستبداد لكن مشوبا بشيء من الحرية الصورية ، ولاعلاج للشعب في مثل هذه الحكومات الا ان يراقب عدم تجمع المال ، وانما ينتفي (التجمع)، اذا كان المال في قبال خمسة أشياء فحسب ،( العمل الجسدي والعمل الفكري ، وشرائط الزمان والمكان ، والعلاقات الاجتماعية ، والمواد الاصلية) كما ذكرنا تفصيل ذلك في كتاب (الفقه : الاقتصاد) وحينذاك يكون المال بيد الكل كل بقدر حقه الطبيعي، ولا يكون هناك تجمع غير مشروع للمال ، وبذلك لا يكون للمال قبضة على الاعلام والجماعات الضاغطة والضمائر ، ويكون الدور الارادة الشعب في من ينتخبه.

ومن المعلوم ان المنتخب الطبيعي للشعب، بضرر الشعب بتقليص حرياته ، وبتسليط المؤسسات والموظفين عليه .

واذا تحررت شعوب الرأسمالية من الحكام المزيفين ، لابد وان تحرر سائر الشعوب المضطهدة ، اذ الشعوب لاتفكر في الاستعلاء ، وانما الذي يفكر في الاستعلاء هم الحكام المزيفون ، حيث تتوفر في أيديهم الاموال والاسلحة والسلطة ، فيفكرون في المزيد منها حيث لارقيب عليهم ...

نتائج انانية الحكام

وحيث يجرى دم التزييف والانانية في عروق الحكام، لا ينعكس الاضطهاد الذي يمارسونه ، على الشعوب المستضعفة فحسب، بل ينعكس ذلك على شعوب أنفسهم ايضاً وانما يختلف الأمر بين الشعبين من جهة الرقابة في الجملة عليهم في داخل بلادهم من الحزب المعارض، بينما لا يوجد مثل هذا الشيء بالنسبة الى سائر الشعوب ، فان الطبيعة اذا انحرفت تكون منحرفة مع الكل ، ولذا ورد:( من اعان ظالماً سلطه الله عليه ) فالظالم الذي من طبيعته الظلم ، يظلم من غير

ص: 31

فرق بين المظلومين ، أكانوا من شعبه أم من شعب آخر ، وفي المثل:( عجلة الديكتاتورية اذا تحركت تسحق حتى أقرب المقربين الى الديكتاتور).

وحيث ان الشعوب في البلاد التي تسمى بالديمقراطية ، تعرف تلاعب الساسة بمقدرات الناس، وانهم ديكتاتوريون في أثواب مهلهلة من الديمقراطية وانها تعرف ان الرؤساء انما يعملون لاجل أنفسهم أكثر مما يعملون لاجل شعوبهم(فان ذلك من لوازم الديكتاتورية )اذ الديكتاتور انانی يريد نفسه لاغيره وانها تعرف ان الضرر عليه ، والنفع ليس له .

مثلا : فضائح حكام امريكا وبريطانيا ، تؤدي بسمعة الشعبين ، وذلك أكبر ضرر على الشعب ، ولا فوائد ملموسة للشعب ، ان الشعب يعطي الضرائب و بخضع لنظام الجندية ، و تقلص من حريته ، بينما لا يعود بمقدار ذلك نفع اليه .

الشعوب تعرف المرارات

أقول : حيث ان الشعوب يعرف هذه الحقائق الثلاثة المرة ، اشتهر بينها ان السياسة لعب وخداع وجر نفع للحكام على حساب الشعوب، كما انها لاتهتم بالإنتخابات كما ينبغي .

فمثلا : في عام ( 1956 ) م كان الذين حق لهم الانتخاب في امريكا( 102/700/000) بينما لم يقدم للانتخاب منهم ألا (اثنان وستون مليوناً) .

أما فى روسيا فلا انتخابات الا لاعضاء الحزب ، والناس بعد ذلك لاشيء يساقون أسوء مما تساق الاغنام ، حيث ان الاغنام تساق قسراً في قبال شبع بالمونها والعناية بها ، أما الشعب الروسي أو الصيني وما أشبه فعليهم الغرم وليس لهم حتى شبعة بطونهم ...

ص: 32

ونتيجة للمخداع السياسي الذي فهمته شعوب الحكومات التي تسمى بالديمقراطية لا يهتم الشعب بالسياسة ، ولا يهمه مايدور في فلك الحكومة لان القضية لاتعنيه.

واني لاذكر كيف ان الامة في العراق ، ابان حكم الملكيين . حيث كان بعض الديمقراطية سائداً في العراق ( وانما نقول بعض الديمقراطية لان الديمقراطية هي ان يتبدل كل جهاز الحكم بينما في العراق كانت الملكية الوراثية هي التي تسود وتحكم ، وانما كان باختيار الشعب ، بعض أقسام الحرية الضئيلة)كانت لاتهتم بالانتخابات مع انهم كانو ايغلفونها باغلفة كثيفة من الدعاية ، وكيف ان الشعب لم يكن يهتم باي حدث يحدث في العراق حتى ان الشعب ما كان يهتم بوجود القاعدة العسكرية البريطانية في ( حبانية ) واذا قيل له انه خلاف الاستقلال ، كان يتلقى الكلام بالسخرية ، قائلا: وهل نحن مستقلون ؟ وهل ان ارادتنا بايدينا حتى نفكر في دفع هذا الخطر ؟ وقد نظم احد الشعراء :

ان الوزارة لا ابا لك عندنا ***ثوب يفصل في معامل لندنا

ص: 33

مسألة : 5 السياسة من صميم الاسلام

اشارة

السياسة من صميم الاسلام ، وهنا سؤالان :

الاول : ماهي السياسة ؟

الثانى : بأي دليل هي من صميم الاسلام ؟

ماهي السياسة ؟

والجواب عن الأول : ان السياسة عبارة عن ( ادارة البلاد والعباد )وهي وان عرفت... فی كتب السياسة - بتعاريف مختلفة ، الا ان الجامع أو الاجمع لخصوصياتها هى ما ذكرناه .

نعم لاشك في ان حدود هذا التعريف أمر غير مبين ، اذ لكل صاحب نظر ان يوسع اويضيق حدود هذا التعريف بما يلائم ،نظره، لان الادارة قد تشمل حتى امور الناس الشخصية من مأكل ومشرب ومسكن وزواج وما أشبه ، كما تفعله الحكومات الشيوعية، ولذا عرف بعض علماء الشرق الروسي، السياسة : بانها عبارة عن الامور اليومية للناس، وعليه فادارة البلاد والعباد في نظرهم ادارة كل

ص: 34

شئون البلاد والعباد ، بما لا يبقى للناس حرية في اي شأن .

كما ان الادارة في مثل (اليابان) البلد الاكثر رأسمالية ، اضيق دائرة من الادارة في مثل(بريطانيا) الاكثر ميلا الى الاشتراكية ، الى غير ذلك .

وهذا التهلهل في التعريف للسياسة ، ليس بدعاً ، فان اي شيء متوسطة بين المفهوم الوضعي، والحقيقة الخارجية، يصاب بمثل هذا التهلهل، لوضوح ان الاشياء الخارجية لها حدود خاصة ، بقدرسعة وجودها ، والمفاهيم الوضعية لها حدود ضيقة بقدر الوضع الذى وضعه واضع المفهوم.

مثلا -الانسان - له مفهوم خاص بقدر سعة وجوده الخارجية، -والصلاة- لها مفهوم خاص بقدر ما وضع الشارع هذا الاسم على الذي قصده من المسمى.

أما السياسة ، والاقتصاد ، والاجتماع ، وما أشبه منها ، فتعريفاتها تكون مهلهلة، لانها ليست مفاهيم وضعية، ولاحقائق خارجية ، وانما يراد بها الجامع بين الأفراد الخارجية ، حيث لا يعلم ما هي الافراد الخارجية لها ، بالضبط حتى يعلم حدودها .

ولذا فانك اذا راجعت كتب السياسة ، او الاقتصاد ، او الاجتماع ، ترى اختلاف التعاريف ، والبحث والنقاش حول حدود تلك التعاريف .

تهلهل حدود السياسة

و ( السياسة) انما اصابها ما أصابها من عدم وضوح حدودها الدقيقة لامرين :

الاول : انها تشمل بنحو ٍكل أفراد الانسان سواء عاشوا فرادى أو جماعات، في حكومات بدائية او متحضرة ، ومن الواضح ، انه كلما كان استيعاب معنى لفظ أكثر ، كان جعل تعريف جامع مانع له، أصعب ، لانه تكون الافراد

ص: 35

المشكوك دخولها وخروجها عن ذلك- المفهوم الذي يراد جعل التعريف له- كثيرة ، وبقدر هذه الكثرة يصعب جعل التعريف الجامع للافراد ، الطارد للاغيار( مما يصطلح عليه بالطرد والعكس ) لذلك المفهوم .

الثاني : ان المسائل المرتبطة بالسياسة كثيرة ، وكثرة المسائل المتنوعة المتشعبة توجب صعوبة التعريف ، فان كل مسألة اقتصادية ، أو اجتماعية أو تربوية ، أو عسكرية ، أو غيرها تصبغ عند التأمل بالسياسة ، ومن المعلوم ان تشتت المسائل يوجب صعوبة التعريف .

وعلى هذا ، فالتعريف المتقدم الذي ذكرناه للسياسة ، لم يكن تعريفاً يطمئن فيه الى العبارة ، بل هو أشبه بشرح اللفظ ، بتبديلها بلفظ لعله أوضح في أذهان غير المطلعين من لفظ : (السياسة) ذاتها ، وهذا هو مراد من قال في بعض تعريفات السياسة -.

اطلاقات النسبية

انها ( نسبية ) فان النسبية لها اطلاقات :

(1) اطلاق على كل الاشياء ، كما ذهب اليه بعض المفكرين ، فقالوا بان كل اشياء العالم نسبية ، فليس لدينا شيء ثابت، وهذا الاطلاق باعتقادنا خطأ لوضوح ان من الاشياء ثابتة ابدية ، فهل ( اربعة زوج ) و ( المثلث له ثلاثة اضلاع ) و (الكل أعظم من الجزء ) و (مزج الخل بالعسل يولد شيئاً ثالثا) وغيرها امور نسبية ؟

(2)و اطلاق على بعض الاشياء مما هي نسبية حقيقية ، مثل(نسبة زيد ، فهو بالنسبة الى عمرو، أب، وبالنسبة الى خالد ،أبن ) ومثل(السقف المتوسط بين العلو والسفل ، فهو تحت بالنسبة الى الاول ، وفوق بالنسبة الى الثاني )

ص: 36

ومثل : ( الدينار ، فهو كثير بالنسبة الى فلس ، وقليل بالنسبة الى الف دينار ) .

(3) واطلاق على التعريف غير الجامع والمانع ، فمثل هذا التعريف نسبي ، اى يعرف المعرف، في الجملة ، فليس بأجنبي عن المعرف ، وليس بمطرد منعكس : جامع لكل الافراد ، ومانع عن كل الاغيار.

هذا الماع الى معنى السياسة وتعريفها ، في الجملة .

كيف ان السياسة من صميم الاسلام ؟

وأما ان السياسة من صميم الاسلام ، فلان الاسلام هو الدين المستوعب لا حكام ما يفعله الانسان سواء كان فعل الجوارح الظاهرة ، أو فعل الجوانح، فكل أفعال الانسان مشمولة للاحكام الخمسة ، حتى ان تفكيره السيء منهي عنه نهى تحريم أو كراهة ، وتفكيره الحسن مأمور به أمر وجوب أو استحباب ولذا قال السيد بحر العلوم :

موضوعه فعل مكلفينا *** غايته الفوز بعليينا

نصوص شرعية عامة

وقد روي الكافي، عن حماد، عن ابي عبد الله (عليه السلام) قال : سمعته يقول ما من شيء الاوفيه كتاب وسنة .

وروي ايضاً ، عن ، عن سماعة ، عن ابي الحسن موسى (عليه السلام) في حديث قال: قلت أصلحك الله أتى رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم )الناس بما يكتفون في عهده ؟ قال (عليه السلام) : نعم وما يحتاجون اليه الى يوم القيامة ، فقلت : فضاع من ذلك شيء ؟ فقال عليه السلام : لاهو عند اهله .

وروي ايضاً عن مرازم عن ابي عبد الله (عليه السلام) قال : ان الله تبارك وتعالى

ص: 37

أنزل في القرآن تبيان كل شيء حتى والله ماترك شيئاً يحتاج اليه العباد حتى لا يستطيع عبد ان يقول : لو كان هذا أنزل في القرآن ؟ الا وقد أنزل الله فيه .

أقول : المراد الحكم العام او الخاص - كما حقق في محله - ولذا قال الصادق (عليه السلام )في حديث المعلى : ما من أمر يختلف فيه اثنان الاوله أصل فی كتاب الله ، ولكن لا تبلغه عقول الرجال .

وفي الكافي في حديث ، عن عبد العزيز، عن الرضا (عليه السلام): وماترك (اي الرسول (صلى الله عليه و آله وسلم) شيئاً يحتاج اليه الامة الا بينه، فمن زعم ان الله لم يكمل دينه فقد رد كتاب الله .

أقول : قد ذكر عليه السلام قبل ذلك، آية الاكمال « اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتى»(1) الى غيرها من الروايات العامة المتواترة الشاملة للسياسة وغيرها.

نصوص خاصة

وهناك روايات خاصة بالسياسة ، مثل ماذكره الامام الرضا (عليه السلام) - كما في الكافي - في أوصاف الامام من قوله (عليه السلام) : ( عالم بالسياسة ) وفي زيارة الجامعة الكبيرة ، في أوصاف الائمة (عليهم السلام ): (وساسة العباد) وقال علي (عليه السلام) في كتابه لمالك الأشتر - كما في تحف العقول: (فاصطف لولاية أعمالك أهل الورع والعلم والسياسة)وقال عليه السلام في نفس الكتاب في مكان آخر :(فولّ جنودك انصحهم في نفسك الله ولرسوله ولامامك... واجمعهم علماً وسياسة)، وقال(عليه السلام)كما في الغرر (خير السياسات العدل) .

وكتب (عليه السلام) ، في كتابه الى معاوية - كما في نهج البلاغة - : (متى کنتم يا معاوية ساسة الرعية) فان مفهومه ان غيرهم (الساسة) وليس الا الامام

ص: 38


1- سورة المائدة/5

بعد الرسول ، ومن بعد الامام نوابه ، الى غير ذلك من الفاظ السياسة الواردة في الروايات .

الانبياء سياسيون

أما ان الانبياء كانوا ساسة، فقد ورد في جملة من الروايات كما يراها الطالب في - مجمع البحرين- وغيره في هذه المادة بالاضافة الى دلالة الآيات عليه كما في قوله :« اني جاعل في الارض خليفة»(1) و«يا داود انا جعلناك خليفة» (2)الى غيرهما بضميمة قول الرسول (صلى الله عليه و آله وسلم) : (اللهم ارحم خلفائي قیل یا رسول الله ومن خلفائك ؟ قال : الذين يأتون من بعدى ويروون حديثي وسنتي) ، وقد ذكرنا جملة من الادلة على ذلك في كتابي(التقليد ، والقضاء) وكتابي (الحكم فى الاسلام والاقتصاد) فراجع.

ومما تقدم ظهران السياسة من صميم الاسلام ، وان كل محاولة لفصل الدين عن السياسة ، هي من قبيل محاولة فصل العبادة عن الاسلام ، وقد كان دأب الانبياء والائمة (علهيم السلام) والعلماء أخذ زمام السياسة بأيديهم ماقدروا فان لم يتمكنوا من ذلك وجهوا الناس الى وجوب ذلك مهما قدر و المو كانوا (عليه السلام) يرجعون الناس الى علماء الامة ونواب الائمة، كقوله (عليه السلام): (فاني قد جعلته عليكم حاكماً) وقوله: (أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة أحاديثنا فانهم حجتى عليكم وانا حجة الله عليهم) وغير ذلك .

وقد وقع الخصام بين الائمة والعلماء وبين أصحاب الاهواء من أمويين و عباسيين ، ومن حذى حذوهم في التصدي لمرجعية الامة ، وأخذ زمام السياسة منذ وفاة الرسول صلى الله عليه و آله وسلم ، فتارة حكم الائمة والعلماء وتارة غصب حقهم ، حتى جاء دور المستعمر ، فأدخل فى الميدان عنصرأ جديداً

ص: 39


1- سورة البقرة / 28
2- سورة (ص)/25 .

هو عنصر( انفصال الدين عن السياسة)واشاع بواسطة عملائه( ان العالم الديني الخير هو الذي يشتغل بالعبادة والارشاد ، ولايتدخل فى شئون السياسة )وذلك لانهم رأوان العلماء السد المحكم أمام استعمار هم للبلاد وتسلطهم على رقاب العباد ، وأقل نظرة الى المذكرات المعنية بهذا الشأن أمثال : (مذكرات المس بل) و (مذکرات کینیاز دالکورکی) و (مذکرات مستر همفر )وغيرها يجلى هذه الحقيقة.

واجب العالم الديني

وعلى هذا ، فالواجب الشرعى على العالم الديني ، كوجوب الصلاة والصيام ، ان يهتم لإبعاد الحكام الظلمة عن الساحة الاسلامية ، ليقبض زمام الامة العلماء الراشدون ، فيسيرون بالامة : كما أراد الله سبحانه .

وهذا ما فعله العلماء فى هذا القرن الاخير (مع الغض عن القرون السابقة) أمثال السيد المجاهد ، والميرزا الكبير الشيرازي ، والاخوند صاحب الكفاية والميرزا الثانى وغيرهم ، فان فى ترك الأمر بيد الحكام الظلمة ، هدم الاسلام كله ، وأحياء الكفر والفسق كله ، قال على (عليه السلام) : (لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء ان لا يقاروا على كظة ظالم ولا سعب مظلوم لا لقيت حبلها على غاربها).

وقال (صلى الله عليه و آله وسلم) : (اذا ظاهرت البدع فعلى العالم ان يظهر علمه والا فعليه لعنة الله).

ص: 40

مسألة : 6 الاضطلاع بالسياسة واجب

اشارة

يجب اضطلاع العالم الدينى بالعلم السياسي، بل ذلك وظيفة كل متدين ( على نحو الوجوب الكفائي ) وذلك لانه يتوقف عليه ادارة امور المسلمين ، بل انقاذ المستضعفين من براثن المستكبرين، ونشر الاسلام، وهداية الناس من الظلمات الى النور - اللذان هما واجبان أيضاً - .

قال سبحانه : « وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين ».(1)

وقال تبارك وتعالى: «ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن»(2) الى غيرهما من الادلة الاربعة الدالة نصاً أو بالمناط على الانقاذ والهداية .

ومعرفة السياسة لاتكون الا بمعرفة مالايقل من امور ستة : معرفة الدين ، والاقتصاد ، والحقوق ، والاجتماع ، والنفس ، و التاريخ ، و ذلك لان معرفة السياسة لا يمكن الا بهذه المعارف الستة .

1 - فالدين داخل في تركيبة الأمم والشعوب ، بما لا يمكن فصلهم عنها ، أما البلاد الاسلامية والمسيحية والبرهمية والبوذية ، ونحوها ، فتدخل الدين

ص: 41


1- سورة النساء / 77
2- سورة النحل / 126

في شئونها واضح .

وأما البلاد الشيوعية : فالشيوعية رغم مسيرتها أكثر من نصف قرن والقسوة التي مارستها ضد الدين وأهله، لم تتمكن ان تستأصل المتدينين ، ولا ان تقلع جذور الدين، عن نفوس غير المتدينين، ففي الاتحاد السوفياتي زعيمة الديكتاتورية والالحاد العالميين زهاء مأة مليون مسلم

( كما في بعض الاحصاءات) بالاضافة الى الاعداد الكبيرة من المسيحيين وقلة من اليهود وسائر الاديان والمبادىء والصين الشيوعية فيها بقدر ذلك من المسلمين وملايين كبيرة من البوذيين، بالاضافة الى وجود قدر لا يستهان به من المسيحيين .

أما الذين القوا عن كاهلهم شرف الدين وانخرطوا في سلك الالحاد، فحيث ان الالحاد لايملاء الروح والفكر( فان للانسان جانباً مادياً تملاه المادة، وجانباً روحياً لايملاء الا الروحيات) بقوامر تبطين الى الدين والدين يوجههم من طرف خفيشائوا ام أبوا اعترفوا أو انكروا وحيث ان الشعوب موجهة بالتوجيهات الدينية (علناً أو خفية )لابد لمعرفة السياسة ، (التي هي ادارة عامة للشعوب) من معرفة الدين والامواج التي يحدثها الدين في الناس ، على طول الزمان ، فان الانسان لا يتمكن ان يدير اذا لم يعرف طبيعة الذين يريد ادارتهم ، والتيارات التي توجههم ، وتاخد بازمتهم .

ولذا فاللازم ان يعرف الانسان (السياسة) من خلال معرفته بالدين، وكيفية اخذه لزمام الحياة في الافراد والشعوب ، هذا من الناحية العلمية - التي نحن بصددها الان - فان الانسان لا يفهم السياسة ، اذا لم يفهم الدين ، وكذلك من الناحية العملية - والتي لسنا نحن بصددها الان - فان السياسي لا يتمكن ان يدير البلاد ان لم يأخذ بالاعتبار في أعماله وقراراته ، الناحية الدينية في الشعب ، ولذا فشل( ناصر مصر ) و

( شاه ایران ) و ( قاسم العراق ) و (أيوب باكستان )

ص: 42

و(سوکارنو اندنوسيا) والى آخرهم ، في ادارة البلاد، وكانوا في صراع دائم مع شعوب هذه في البلاد، الى ان سقطوا غير مأسوف عليهم متحملين سخط الناس وكرههم وازدرائهم ، بينما كانوا قد جعلوا أنفسهم في دعاياتهم ، انصاف آلهة بل عبرت خطيب في العراق في الاذاعة عن (قاسم) : ( باله الكائنات ) او قال شاعر البعث :

(آمنت بالبعث رباً لاشريك له ... )

الدين - العلمى والعملى

ومما تقدم تبين ان المراد بالدين (العلمى) الذي لابد( للسياسة) من معرفته وان المراد بالدين (العملي) في الأوساط ، الذي لابد للسياسي من رعايته ، هو الدين الذي له تيار في الاجتماع، يعتقد به الناس ويعملون - قليلا أو كثيراً -على طبقه ، لا الدين المزيف ، الذي يزيفه الحكام ، ويريدون ان يكون وسيلة لهم الى مآربهم السياسية والاقتصادية ، فمعرفة الدين المزيف لا تعطى معرفة السياسة ، كما ان العمل بالدين المزيف وارادة اجرائه في المجتمع، لا يسبب علاقة الشعب بالحكام ، بل بالعكس يوجب انفصالهم عن الحكام ، حيث يصفونهم - حينذاك .. بالدجل والنفاق ، وقد ورد في حديث شريف : ( ان الحيلة في ترك الحيلة ).

فعلم السياسة يعطى للانسان علم كيفية (الادارة) ومالم يعلم الانسان (الدين السائد فى الاجتماع) كيف يعلم كيفية الادارة ، واذا لم يعلم كيفية الادارة، لم يكن عالماً بالسياسة هذا بالنسبة الى العلم أما بالنسبة الى العمل، فان الاجتماع السائر في تيار دینی خاص ، يرفض كل ما يقاوم ذلك التيار .

ص: 43

فالسياسي الذي يريد تزييف الدين، معناه انه يقاوم التيار، وسرعان ما يلفظه الاجتماع ، وان تمكن ان يخدعهم أو يسيطر عليهم بالقوة برهة من الزمان ، ولذا ورد :( الباطل جولة والمحق دولة) وقبل ذلك ، قال سبحانه : « لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل »(1) .

جولۀ الباطل

تفاعل الاقتصاد والسياسة

2- والاقتصاد يتفاعل مع السياسة ، فكل منهما يرتبط بالاخر، ويتداخل فيه فان المال يأتى بالسياسة كما ان الساسة يضعون ضوابط للمال ، فالسياسة في الاسلام يتوقف على فهم الاقتصاد الاسلامى السليم الذي هو عبارة عن :(كون المال فى قبال خمسة أشياء : العمل الفكري، والجسدي ، والمواد الاولية وشرائط الزمان والمكان ، والعلاقات الاجتماعية ) كما فصلنا ذلك في كتاب( الاقتصاد ) .

كما ان المراد بالتفاعل التفاعل السليم ، مثلا : منتخب الامة ، يجب ان يكون مثقفاً ، والمثقف لا يتكون الابالمال، فان المثقف ثمرة المعاهد و المدارس والمكتبات والمختبرات وما أشبه، وكل ذلك يتوقف على الاقتصاد ، واذا أخذ المثقفون أزمة البلاد ، تصرفوافي كيفية تسيير الاقتصاد ، ولوفي (اطار الاسلام) مثلا ، اذ الكليات الاسلامية ، تنزل الى الساحة العملية ، حسب الاجتهادات الخاصة ، في حدود الشريعة فاذا لم يكن اقتصاد لم يكن مثقفون صالحون لادارة البلاد واذا صار المثقفون الصالحون تأثر بهم الاقتصاد، واذا لم ينظر السياسي الى السياسة من زاوية الاقتصاد (ايضا) لم يستوعب السياسة ، كما ان السياسة اذا لم تأخذ بالاعتبار الاقتصاد ، لم تكن سياسة متكاملة .

هذا اذا لاحظنا السياسة ، والاقتصاد بالنظر الاسلامي في كليهما.

ص: 44


1- سورة آل عمران/ 196

السياسة في الراسمالية

أما اذا لاحظنا السياسة والاقتصاد بالمفهوم الرأسمالي لكليهما ، فالتفاعل بين الامرين خارجاً، ولزوم فهم الاقتصاد في فهم السياسة واضح، اذ الديمقراطية لا تكون الا بالانتخابات وهى لاتكون الا بالمال الذي يحر كه رأس المال لانتخاب الذين سيكونون عونه في حفظ ثروة الاثرياء ، وفتح الطريق امامهم بالتشريعات القانونية، لاجل مزيد تكديس الثروة واذا جاء المنتخبون الى مجالس التشريع أو الى مناصب التنفيذ مثلا : (رئاسة الجمهورية )كان أكبر همهم الوفاء لمن أوصلوهم الى تلك المراكز ، فكل لائحة تقدم الى مجلس الامة ، تريد انصاف الفقراء من الأثرياء ، تجمد، كما ان كل لائحة تقدم لاجل زيادة من رأس مال الاثرياء ، تصدق بسرعة .

وهكذا تكون السياسة فى خدمة الاقتصاد ،والاقتصاد في خدمة السياسة ،وهل يمكن فهم السياسة الابفهم اسسها وثمارها ،وهما(الاقتصاد)؟

وفى النظرة الماركسية

واخيراً يأتى الدور الى لزوم فهم الاقتصاد في فهم السياسة بالنظر الماركسى بعد الغض عن النظر الى الاقتصادين الاخيرين، وهما الاقتصاد الاشتراكي والاقتصاد التوزيعى ، ووجه الغض وضوح كليهما من فهم تدخل فهم الاقتصاد( بأقسامه الثلاثة) في فهم السياسة .

فان الماركسية ترى ان الاقتصاد أساس كل شيء من السياسة والاجتماع والدين والاخلاق والحقوق والفن وغيرها ، فان كل ذلك في هذا المنطق البناء الفوقي ، الاقتصاد الذى هو البناء التحتي، فاذا كان الاقتصاد بيد الجميع كان البناء الفوقي شكل خاص ، واذا كان الاقتصاد بيد الرأسمالي ، كان

ص: 45

البناء الفوقي بشكل آخر ، اذ لو كانت وسائل الانتاج بيد زمرة خاصة ، اضطرت تلك الزمرة، ان تنظم السياسة والاخلاق والدين وغيرها بشكل يضمن بقاء الاقتصاد بأيديهم .

أما اذا كانت وسائل الانتاج بيد المجموع كانت السياسة وغيرها بحيث تقدم المجموع لا زمرة خاصة ، مثلا : اذا كان المال بيد عدة خاصة من التجار صرفوه ليأتوا بأناس يخدمونهم في مجلس الامة ، وفي السلطة التنفيذية ، وفي السلطة القضائية ، وفي الاعلام وفي غيرها ، فتكون السياسة والقضاء والاعلام، وغيرها ذات لون خاص، بينما لو كان المال بيد المجموع ( كما في الشيوعية: على ادعاء الشيوعيين )صرفوه بحيث تكون السياسة والقضاء والاعلام وغيرها تخدم المجموع ، لا أن تخدم طبقة خاصة على حساب المجموع- حسب زعمهم .

تقسيم الادوار المزيف

وقد قسم الشيوعيون أدوار التاريخ الى أربعة :

الأول : دور الشيوعية الأولى ، حيث لا انتاج ولا ادوات انتاج وانما كان الناس يعيشون رحلا ، يقتاتون ثمار الغابات ، وصيد البر والبحر ، ولم تكن هناك ملكية فردية، ولا حكومة ، اذ لا نظام، ولا سياسة ، ولا غيرها من الدين والاخلاق والفن والجيش ونحوها .

الثاني : دور العبيد حيث ظهرت بعض آلات الصيد والنار ، ونحوهما فأستولى عليها جماعة من الناس وأخذوا يستولون على آخرين لقاء شبع بطون الاخرين بما يصطادونه من الصيد بآلاتهم ووسائلهم ، وحينذاك أخذت تظهر بعض الانظمة المرتبطة للربط بين السيد والعبيد .

الثالث : دور الزراعة، حيث اكتشفت أدوات الزراعة وتعلم البشر كيف يزرع ؟ و أخذ البشر في هذا الدور يستقر في أماكن خاصة من الارض، كسيف

ص: 46

البحار وشطوط الانهار ، وقرب مجاري العيون والسيول ، وهنا استولى جماعة خاصة على ادوات الزراعة ، مما قسم المجتمع الى طبقتين، وظهرت الملكية الفردية للطبقة المالكة لادوات الزراعة وللارض ، وحينذاك وضعت القوانين التي تربط المالك بالزارع ، وأنظمة القضاء وما أشبه، وذلك لان تحفظ تلك القوانين والانظمة أدوات الزراعة والارض في ايدي الملاكين ، وفي هذا الدور ظهرت السلطة الديكتاتورية ، حيث كان الملاكون يجمعون حول أنفسهم كل وسائل بقاء السلطة في أيديهم ، لئلا تنفلت من أيديهم الملكية الفردية الوسيعة ، فوضعوا الدين وخلقوا الاله - بزعمهم لان يقولوا الفلاحين انهم يستمدون سلطتهم من الله الخالق الكون ، فلا حق للفلاح في مخالفتهم ، لان المخالفة تثير على الفلاح غضب الاله ، كما وضعوا الاخلاق ، مثل : ان الخيانة قبيحة ، حيث أرادوا بذلك ان لا يخونهم الفلاح في الاستيلاء على قدر من الحاصل، وكدلك وضعوا قوانين القضاء بما يخدمهم، وهكذا الى ان جاء (الدور الرابع) وهو دور الصناعة، والذي كان الانتاج بسبب المكائن الكبار ، وحينذاك تنازل الملاكون عن بعض الديكتاتوريات الموجودة في زمان الزراعة ، في قبال الاستيلاء على أكبر قدر من رأس المال ، حيث رأوا ان رأس المال لا ينمو الا باشراك أكبر عدد ممكن من الشعب في الرأى، لتكوين المجالس التشريعية والتنفيذية حتى تشرع ما يفيد توسيع العمل ، وغزو الأسواق ، بحماية جيش من الشعب يحفظ الاسواق العالمية الذي يريد رأس المال غزوها ، اذ من دون اشتراك الشعب في الحفظ والرعاية والحراسة ونحوها ، لا يتمكن رأس المال من امتصاص خيرات سائر الشعوب ، ومن فتح الاسواق لمنتجات الرأسمالي ، ولذلك فقد عمل رأس المال في ميدانين :

أ : ميدان حصر أدوات الانتاج بيده مما بسببه يتمكن من المزيد من تملك الربح.

ص: 47

ب : ميدان الديمقراطية المزيفة ، ليتمكن بذلك من جلب أكثر عدد من الشعب في خدمته ، وبذلك نافق رأس المال، في اعطاء حريات صورية ، و انتخابات مزيفة للناس ، في حال انه أوجد الجماعات الضاغطة ، والاعلام المزيف، الذي يحتوش الشعب ، وصب قسماً من المال لاشتراء الضمائر كل ذلك لكي يأتي الى الحكم بمن يريده (مشرعاً، ومنفذاً، وقاضياً ) ليكونوا جميعاً في خدمة ما احتوى عليه من رأس المال ، كما تقدم بيان ذلك في بيان معرفة السياسة من خلال (معرفة الاقتصاد في الاسلوب الرأسمالي) قالوا: وحيث العمال والفلاحون ومن اليهم دور الرأسمالية ، في امتصاص حق الطبقة الكادحة ، أخذوا يرفضون سيادة الرأسمالية عليهم، وأخذوا بالقوة في روسيا القيصرية ، بازمة البلاد، واعادوا الدور الأول للبشر ، الذي كان الشيوعية ، وهكذا تتوسع الشيوعية ، حتى تشمل كل أقطار العالم ، واذا سادت الشيوعية زالت الدولة عن الوجود ، لانه لا يبقى حينئذ الاحتياج الى الدولة .

تفنيد الادوار الاربعة

وبهذا الاستدلال المبني على ادعاءات فقط ، جعلت الشيوعية للاقتصاد الدور الاساسي في كل شيء ، والتي منها ( السياسة ) ، فالسياسة وليدة الاقتصاد ولذا فالشيوعي اذا أراد ان يدرس السياسة لا بد وأن ينظر اليها من زاوية الاقتصاد .

وحيث ذكرنا في كتاب (الفقه : الاقتصاد) و (ماركس ينهزم) وغيرهما من الكتب نقد النظرية الشيوعية بشيء من التفصيل ، لانرى حاجة الى تكراره هنا وان كان لا بأس بالالماع الى:

(1)انه لادليل على ادوار التاريخ المذكورة .

ص: 48

(2) وانه لا دليل على ان الاقتصاد هو المحرك للتاريخ.

(3) وانه لا دليل على ان الاقتصاد أساس السياسة والدين والاخلاق وغيرها بل الدليل في كل ذلك بالعكس .

(4) ثم لم تكن رأسمالية في بلاد روسيا ، بل كانت بلاد زراعية ، فكيف قفزت الى الشيوعية طافرة دور الرأسمالي .

(5) بالاضافة الى ان الشيوعية لم تطبق في روسيا ولافي غيرها الى الان.

(6) وان بلاد الشيوعية أسوء من كل ناحية من بلاد الرأسمالية (على انها سيئة ايضاً) الى غيرها من الاشكالات الكثيرة التي أوردت على الشيوعية ولم يجد و احتى عن احدها جواباً .

ارتباط الحقوق بالسياسة

أما مدخلية معرفة الحقوق في معرفة السياسة فلان السياسة فة السياسة فلان السياسة تنبع عن الانظمة الحقوقية في الجملة فان الانظمة الحقوقية والتي تدرس في كلية الحقوق هي قوانين عامة توضع لاجل اجرائها على المجتمع في الارتباطات الفردية والاجتماعية سواء (في الاجتماعية) ربط الفرد بالدولة أو العكس أو ربط الدولة بدولة اخرى أو ما أشبه ذلك، فمثلا : (الحقوق) تضع القوانين لاجل القوى الثلاثة

(المقننة) والمنفذة ، والقضائية ولاجل روابط هذه القوى بعضها الى بعض ، ولاجل الحريات العامة والامور التي تجري في البلد، والاحزاب والمنظمات والصحف وسائر وسائل الاعلام وغيرها .

والانسان اذا اراد معرفة السياسة ، لابد وان يعرف هذه الأمور الحقوقية، والسياسي غالباً يجعل الحقوق اطاراً لما يريد تطلبه من الدولة أو الامة ، فاللازم ان يعترف السياسي بهذا الاطار ، وان يجتهد فى كيفية التطبيق على الخارج

ص: 49

واحياناً تختلف الاجتهادات ، حتى الى طرفي النقيض ، و الاتكاء السياسي الى القوانين الحقوقية ، حتى فى مورد تناقض الاحتمالات ، يظهر بالمثال الاتى ، حيث انه لا إشكال ان الادلة الاربعه هي معتمد الفقهاء في استنباط الاحكام ، ومع ذلك فقد تتناقض الاجتهادات ، لافي الحكم فحسب ، بل وحتى في الاستفادة من مدرك واحد .

مثلا : يرى أحد الفقهاء بطلان المعاطات أو جوازها ، استناداً الى قوله سبحانه : « يا ايها الذين آمنوا أوفوا بالعقود» حيث يقول : انها ليست عقداً، فهي باطلة ، أو لا أقل من كونها جائزة وليست ،بلازمة بينما يرى الفقيه الاخر صحة المعاطات ولزومها استناداً الى نفس هذه الاية ، حيث يقول : انه عقد عرفي ، اذ لا يلزم في العقد اللفظ فيشمله قوله سبحانه . . وكما ان الاطار لم يختلف فى المسألة المذكورة ، وأن اختلفت الاجتهادات الى حد طرفي النقيض ، كذلك الاطار الحقوقي لايختلف في الاجتهادات السياسية ، وان وصلت الى طرفي النقيض.

وكذلك يتوقف العرفان السياسي على عرفان (الدستور) والدستور هو في الحقيقة موجز لكل قوانين البلاد الموضوعة، أو التي ستوضع، فبينما قوانين الاقتصاد والاجتماع والقضاء وغيرها، قد تكون مآت الالوف يكون الدستور في نفس الوقت أقل من ألف ، مثلهما في ذلك ، مثل

(الكتاب) و (السنة) حيث ان الثاني شرح للاول وتفسير وتبيين له وعليه فاللازم لمن يريد عرفان السياسة، ان يعرف الدستور، كما يلزم له .

و عليه ان أراد ادارة سياسة البلاد ان لا يخرج من اطاره وان كان له الحق في ان يجتهد في هذا الاطار.

ص: 50

الادلة الاربعة فقط المصدر للدستور

وحيث انجر بنا الكلام الى هنا، لابد من الالماع الى حقيقة، يلزم ان لا يغفل السياسي الاسلامي عنها، وهي أن(القانون الاساسي - الدستور) الذي يدون لاجل بلد اسلامي، لابد وان يؤخذ من الادلة الاربعة - حسب الاحكام الأولية - فاذا تدخلت في الدستور ، أحكام ثانوية - كالاضطرار والعسر و الاهم والمهم ونحوها - سقطت تلك المادة عن صلاحية كونها ضمن الدستور.

كما ان الدستور اذا وجدت فيها مادة ملفقة من الاسلامي وغير الاسلامي كانت تلك المادة غير صالحة ، وهكذا الحال اذا تغافل الدستور عن شيء اسلامي، وان كان التغافل لمصلحة ثانية.

ولهذه الاسباب الثلاثة التي ذكرناها ، ينبغى ان يكون بعض المواد في( دستور الجمهورية الاسلامية فى ايران ) موقتاً لا دائماً حسب الظروف الاضطرارية الخاصة ويجب حذفها اذا اريد ان يكون القانون اسلامياً بحتاً ودائماً.

فمثلا : النص على ان الرئيس يلزم ان تكون ايراني الجنسية انما هو وقتي للظروف الطارئة المعاصرة والافان المسلمين اخوة لافرق بين عربهم وعجمهم وسائر جنسياتهم فى صلاحية تسنم اي منصب رفيع من المناصب ، فان اشتراط الجنسية الخاصة ، من مخلفات القومية، التي لم يعترف بها الاسلام من أول يوم، بل فيما ورد على لسان رسوله الكريم صلى الله عليه و آله وسلم: (الناس سواسية كاسنان المشط ، لا فضل لعربي على عجمي الا بالتقوى) ولاشك ان مجلس الخبراء الذين وضعوا هذه المادة كانوا يعلمون كل العلم ، بما ذكرناه لكنهم

ص: 51

آثروا اقحام هذه المادة ، مراعاة لظروف طارئة ، ( لان الظروف الطارئة الاستثنائية التي تمر بها البلاد في حال الثورة، تفرض ملاحظة مثل هذا الشرط اضطراراً ) .

ومثال آخر مسألة جعل التجارة (تعاونياً ، فردياً شعبياً ) بينما هذه المادة ملتقطة من حكم اولى ومن حكم ثانوي ، بينما كان اللازم (جعل التجارة حرة بشروطها المقررة في الاسلام ، فحسب) والمثال الثالث حذف (المضاربة ونحوها) من القانون ، وذلك مراعاة لظروف خاصة ، و المثال الرابع ، فصل السلطات بعضها عن بعض ، مع ان ذلك ليس حكماً أولياً ، وانما هو مأخوذ من الغرب واي مانع من ان يكون نائب المجلس قاضياً، أو الوزير نائباً ، اذا كان صالحاً الى غير ذلك.

ثم انه وان كان من الممكن الجواب عن كل هذه المآخذ بالحكم الثانوي الا ان الحكم الثانوى لا يصلح ان يكون مادة دائمة في الدستور الا بعنوانه حكماً ثانوياً ، فهل يصح ان يجعل من مادة الدستور( منع التجول في الليالي) لظرف خاص اكتنفت وضع (الدستور)؟ ومجرد الاستحسان في التفكيك بين السلطات الثلاث لا يكفي فى التشريع الاساسي الدائم .

انتهاك الساسة للنظم الحقوقية

وكيف كان ، فقد اندفع بما تقدم من بيان لزوم معرفة السياسي للقوانين الحقوقية - الاشكال الذي ربما يتبادر الى بعض الاذهان ، من انه لافائدة في هذه المعرفة بعد ان كانت القوانين الحقوقية لا تطبق غالباً ، فان الشعوب بما فيهم الحكام يتجاوزون القوانين في أعمالهم والغالب انها تكون ذريعة للوصول الى مآربهم ، فمثلا : القوانين الديمقراطية ، أول من ينتهكهاهم الحكام والنواب ،

ص: 52

حيث ان المهم لديهم الوصول الى الكراسي سواء كان ذلك الوصول عن الطرق القانونية ، أو عن طريق الارشاء واشتراء الضمائر وتزييف الانتخابات ، وكذلك الكلام فى القضاة وسائر قطاعات الدولة ، والشعب لا يشذ عن ذلك ، حيث ان أسهل شيء عندهم انتهاك القانون ، وفي مثل هذا الجو الذي فيه القانون أهون شيء ، اية فائدة لمعرفة السياسي للحقوق ، واي احتياج للسياسة الى القانون الحقوقي ؟

وجه الاندفاع ، ان الانتهاك شيء ، والمسلمية لدي الجميع، ليكون مورد الاخذ والعطاء ، ومرجعاً لدى الاختلاف والتنازع شيء آخر ، وهل يتمكن ان تعيش امة بدون مسلميات تجعل المرجع والمنطلق ؟ فان الفرد يحتاج في حياته الشخصية والاجتماعية الى ما يبنى عليه أمره ، من الأصول والمقررات، والا كانت حياته فرطاً، كما قال سبحانه :«ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا»(1) والانسان المفرط لا يصلح للبقاء لانه هادم، فكيف يصلح للعشرة ، وان يكون للاجتماع الذى يراد اصلاحه ؟ واذا صارت الامة مفرطة فاجدر بها ان تزول وكما قال الشاعر :

وانما الامم الاخلاق ما بقيت *** فان هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

على السياسّي التدقيق في المجتمع

ومما تقدم ظهر أمر آخر ايضاً ، وهوان السياسي ليس يمكنه ان يكتفى بمعرفة القوانين الحقوقية (بما فيها الدستور) اذ لا يعرف الاجتماع من خلال مطالعة القانون ، وذلك لما تقدم من أن القانون ينتهك دائماً، بل اللازم عليه أن يدقق النظر في الاجتماع أيضاً لان السياسي يريد الانطلاق من الاجتماع لاصلاح الاجتماع ، واذا لم يعرف الاجتماع وقدر تطبيقه للقانون وهتكه

ص: 53


1- سورة الكهف / 27 .

للقانون ، كيف يمكنه اصلاح الاجتماع، فان الطبيب الذي لا يعرف الداء لا يمكنه اعطاء الدواء ، ومجرد معرفة الطبيب بالقوانين الطبية والامراض والادوية ،لا يكفى في اعطائه الدواء الملائم اذا لم يشخص مواضع العطب والخلل .

الارتباط بين السياسة وبين علم الاجتماع

4- أما احتياج السياسة الى علم الاجتماع ، واحتياج السياسي الى ان يكون عالماً بالاجتماع ، فلان السياسة شكل من اشكال الروابط الاجتماعية فعلاقة العائلة بعضهم الى بعض رابطة اجتماعية ، وعلاقة المتعاملين أحدهم بالاخ رابطة اجتماعية وعلاقة التلاميذ بالاستاذ وعلاقة المجرم بمن وقعت عليه الجريمة والى غيرها من العلاقات ، كلها روابط اجتماعية والسياسة وهي علاقة مجموع الشعب بهيئة حكامه ، وبالعكس من أكبر الروابط الاجتماعية لوضوح ان ما عداها ،محدود بقطاعات خاصة ، بينما هذه(السياسة) تشمل كل الامة، بمختلف قطاعاتها ، فان بحوث علم الاجتماع من امثال : الارتباط بين الطبعة والمجتمع، وبين العلم والمجتمع، وكيفية السلوك الاجتماعي، وتقسيم المجتمع الى طبقات ، والامور المرتبطة بالشخصية والمؤسسات الاجتماعية ، والطوارى على الاجتماع ، كالحرب والسلم والتقدم والجمود ، والتكامل الاجتماعي ، وغيرها مما يذكر في علم الاجتماع من المسائل ترتبط بالسياسة مباشرة، حتى ان علم السياسة (وهو علم الادارة العامة) لايتم الا به ، وحتى به ، وحتى ان السياسي لا يتمكن من الادارة ، الا بالعلم بتلك المواضيع .

تبادل الاحتياج بين العلمين

ثم ان (علم الاجتماع ) و (علم السياسة) يتبادلان الاحتياج، فالسياسة بدون

ص: 54

الأجتماع ناقصة، كما ان علم الاجتماع بدون علم السياسة ناقص فاجمال كل داخل فى كلي الاخر ، فالسياسة تأخذ عينات من علم الاجتماع لتجعلها موضع الدراسة و الاعتبار ، كما ان علم الاجتماع يأخذ جملا من علم السياسة ليطالعها ويفهم على ضوئها بعض الروابط الاجتماعية (حيث ان علم الاجتماع بصدد فهم الروابط الاجتماعية) .

وبدون معرفة السياسي علم الاجتماع -من ناحية المفهوم- ومطالعته لذات من الاجتماع - من ناحية الانطباق- لا يتمكن ان يكون منطلقاً عن الاجتماع ، كما لا يتمكن ان يكون موجهاً للاجتماع ، فهو كما ذكرنا في الموضوع الثالث المتقدم : كالطبيب الذي لا بدله من علم الطب مفهوماً وانطباقاً ليتمكن من العلاج .

الارتباط بين علم النفس والسياسة

5- ومن هنا يظهر وجه احتياج السياسة الى علم النفس ، حيث أن مهمة السياسة (الادارة)، والادارة لا تكون الا على البشر ولأجل البشر وبدون ان يتعرف السياسي على النفسيات للافراد والفئات ، كيف يتمكن من الادارة ؟ فان حجر الزاوية ، في كل شيء انساني هو فرد الانسان ، وفرد الانسان (جسد) و(نفس) و (روح) فالجسد هذا المشاهد السفلى ، والروح نفحة قدسية .

قال سبحانه : «و نفخت فيه من روحي» (1)همّها السمو بالانسان، والنفس شيء بين ذين الشيئين يجرها الجسد تارة الى السفل وتجرها الروح تارة الى العلو ولذا نشاهد الازدواجية في الانسان ، حيث ان شيئاً في داخله يأمره بالحسن، وشيئاً آخر في داخله ايضاً ينهاه عن الحسن ، وكذلك يأمره احدهما بالقبيح وينهاه الاخر عنه مما يظهر منه انهما ،قوتان في داخل الانسان (فان القوة الواحدة

ص: 55


1- سورة الحجر / 29

لا يصدر منها الا امر واحد )و الا الصدر كل شيء من كل شيء ، كما قالوا في الفلسفة ، ومن جهة توسط النفس بين السمو والانحطاط ، بخلاف الروح التي هي سامية ابداً ، نرى في القرآن الحكيم انه اذ جاء فيه ذكر ( الروح ) قورن بالاحترام، بينما اذ جاء فيه ذكر النفس، قورن بالاحتمالية، قال سبحانه: «ونفس وما سواها فالهمها فجورها وتقواها ». (1)واذ ظهر ان مهمة السياسي الانسان، والانسان جسد و نفس وروح ،( والروح سامية ابداً) فهو مكفي المؤنة وانما يبقى ( الجسد) الذى من شأن الطبيب علاج ،عطبه ، و( النفس) التي يجب على السياسي وغيره تقويمها ، ظهر وجه احتياج السياسة الى علم النفس ومن الواضح انا لا نقصد ان ( السياسي ) وحده عليه تقويم النفس ، بل القصد مدخلية السياسي في ذلك، فان المقوم الاهم المنفس الدين، والاخلاق (وذكر الاخلاق بعد الدين من باب ذكر الخاص بعد العام ) .

جوهر النفس يؤثر في امور اربعة

و النفس اذا قومت تقوم كل شيء حيث ان جوهر النفس يحيط به اربعة امور :

(1) النفس العاملة حيث ان جوهر النفس يؤثر في عمل النفس ، ايضاً ولذا جعلناهما شيئين -.

(2) والبدن .

(3) والمحيط الاجتماعي بكلا شقيه الاجتماع الصغير، كالعائلة والمدرسة والاجتماع الكبير وهي الامة كلها .

(4) والمحيط الطبيعي من الارض وما فيها وما عليها ، ومن الواضح انه اذا صلح جوهر النفس ، قامت النفس باصلاح كل تلك المحيطات ، واذا ترك جوهر النفس وشأنه ، فسد وافسد تلك المحيطات.

ص: 56


1- سورة الشمس / 897

والسياسة ، يجب ان تعرف الاجتماع ، ومعرفة الاجتماع لا يمكن الا بمعرفة النفس، واصلاح جوهر النفس اهم مهمات السياسي، لما قد عرفت من ان الاجتماع من الامور المحيطة بالنفس فاذا صلح جوهر النفس صلح والا لم يصلح .

احتياج السياسي الى التاريخ

6- واخيراً تحتاج السياسة الى علم التاريخ ، فالسياسي لا يكون سياسياً بمعنى الكلمة الا اذا عرف التاريخ، لان ما يجده الانسان الان في الحال الحاضر ليس وليد نفسه ، وانما التاريخ الطويل له مدخلية في تكوينه ، واذا لم يعرف الانسان العلة ، لم يعرف المعلول ، ولم يتمكن ان يعالج الأمر المطلوب علاجه.

مثلا السياسي الذي يهمه امر العراق، لابد له من العمل لاسقاط حزب البعث الذين طغوا في البلاد فاكثروا فيها الفساد ، واسقاط حزب البعث انما يتسنى للانسان اذا عرف الظروف السياسية والاحوال الاجتماعية ، والاسباب الاقتصادية، التي كانت في العراق مما ساعدت على تكون هذا الحزب، معرفة تحليلية فقهية، لاسردية، اذلولا معرفة تلك الظروف والاحوال والاسباب لم يعرف الانسان مكمن المرض في الامة ، واذا لم يعرف مكمن المرض ، لم يتمكن من ازالته ، لتعود الحالة الطبيعية الى البلاد .

المعرفة الفقهية

وانما قلنا يجب ان تكون المعرفة فقهية لاسردية ؟ اذ العلم بمسلسل التاريخ، لا يوصل الانسان الى جوهر المشكلة ، فمثل ( سرد التاريخ ) و( فقه التاريخ ) مثل ( الاحاديث )و ( الفقه ) فالانسان لا يعرف الاحكام والمسائل بمجرد معرفة الروايات ،سرداً، وانما الفقيه بحاجة الى جمع الروايات ومعرفة عامها وخاصها،

ص: 57

ومحكومها وحاكمها ومطلقها ومقيدها وجهات الصدور فيها ، الى غير ذلك من قواعد الدراية، والرجال، والاصول.

التاريخ والسياسة

وبذلك يعرف انه لا يكفى للسياسي معرفة التاريخ فقط ، بل اللازم عليه عرفان مجريات الاحداث والتيارات التي تتفاعل في البلاد ، من الخارج ، اذ كل بلد مهما كان معتزلا عن العالم بالستار الحديدي ، كبلاد الشيوعيين -مثلا- لابد له من الفعل والانفعال في سائر بلاد العالم ، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وغيرها ، فاذا لم يعرف السياسي أحوال العالم المعاصر لا يتمكن فهم ما يجري في بلاده .

وهذا نوع من التاريخ ايضاً ، فان الزمان سيال يستوعب الكل، و ينقضى عن الكل، وما يخفى في باطنه يسمى (تاريخاً) فان كل لحظة سابقة على (الحال) تاريخ ، سواء لوحظت بالنسبة الى بلد السياسي ، أو بالنسبة الى سائر البلاد .

والتاريخ الذي يجب ان يعرفه السياسي ، بعضه أهم من بعض ، فالتاريخ السياسي والاجتماعي والاقتصادي أهم من غيرها كما ان التاريخ السياسي بصورة أعم لا يغني عن معرفة التاريخ الدبلوماسي ، وتاريخ الروابط بين الامم .

معرفة التاريخ بشکل استیعابی

ثم ان التاريخ الذي يجب على السياسي معرفته يجب ان يكون استيعابياً، تصاعدياً، وكلاهما فيه قدر كبير من الصعوبة ، اذ الاستيعابي) بحاجة الى معرفة كدس كبير من التاريخ عمودياً (اي بامتداد الزمان) وافقياً (اي بسعة الامم و المكان) مثلا : من يريد اعادة حكم الاسلام وتوحيد المسلمين تحت حكومة واحدة - كما أمر الاسلام.. بحاجة الى معرفة التاريخ منذ ميلاد المسيح عليه السلام (عمودياً)

ص: 58

كما انه بحاجة الى معرفة كل الامم والامكنة التي تفاعلت بعضها في بعض منذ عشرين قرناً (افقياً) وحيث إن ذلك لا يتسنى لانسان واحد، يحتاج الى الاعتماد على جماعات تخصص كل واحد في قطعة من التاريخ ( قطعة زمانية ، أو مكانية ) .

ومن الواضح ان القطعة لا تكون حينئذ متفاعلة حتى تعطي وحدة شاملة هي مهمة السياسي ، فاللازم ان يعتمد السياسي حينئذ على ذكائه في استنتاج الوحدة تلك من القطع المتعددة ، والالم يعرف الروح العامة للتاريخ، ( وقد فرض ان الروح العامة في الغابر هي المؤثرة في العالم الحاضر ) .

أما التصاعدي، فلان الاستنتاجات عن الاحداث تختلف كلما تقدم الزمان و ظهرت معالم الحق أكثر فأكثر ، فمثلا : قد ينظر التاريخ الى

( هارون ) كأمير المؤمنين، ثم كملك عادل ، ثم كملك عادي ، ثم كديكتاتور سفاك فاجر، فانه كلما جلى التاريخ ظهرت الحقائق أكثر فأكثر ، ومن المعلوم ان التاريخ الحقيقي هو المؤثر ، لا التاريخ المزيف .

ولذا يجب على السياسي أن يتصاعد مع التاريخ، والاكانت النتائج عكسية فان الرئيس العادل ، غير الرئيس الجائر، في جعله اسوة ، وأتباعه في السيرة فان التاريخ يتجدد بتجدد الحياة، في كل زمان ، بسبب مؤرخين جدد، يستندون الى مدارك جديدة و استنتاجات جديدة، فاذا لم يكن السياسي تصاعدياً في فهمه السياسة من خلال التاريخ، لم يتصاعد فهمه فى الاسباب ، وبذلك يفشل فى علاجه للمسببات ، العلاج الذي هو مكلف به باعتباره رجل سياسة عليه ادارة الامور على النحو الافضل.

وحيث ان المؤرخين ينقسمون الى مجموعات ، وكل مجموعة تخالف

ص: 59

المجموعة الأخرى في النظريات ، فاللازم على السياسي ، ان لا يؤطر تفكيره بأحدى تلك الاطارات ، والالم يكن استيعابي ولم يصل الى أفضل النتائج، وفى الحديث : ( اعقل الناس من جمع عقل الناس الى عقله).

مثلا : المؤرخون الماركسيون ، يجعلون أدوار التاريخ ، أربعة - كما تقدم - ويستخلصون من ذلك ، ان الاساس لكل شيء (الاقتصاد) ولذا يبنون تفكيرهم المستقبلي على الاقتصاد ، بينما المؤرخ (توينبي) يقسم أدوار التمدن البشرى الى واحد وعشرين قسماً، ويجعل لكل تمدن أربع مراحل ، كمراحل الفرد : من ولادة ، ورشد ، وشيخوخة ، وموت ، كما يرى ان حجر الاساس في تسيير الفرد (الدين) وكذلك هو حجر الاساس في التحولات الاجتماعية في كل أدوار التاريخ (عنده) ... ولعله يأتى المؤرخون الفرويديون ، ويجعلون المحرك الاساسى فى التاريخ الجنس ، قياساً على كون المحرك الاساسى فى الفرد الجنس حسب نظرية فرويد... وكذلك يأتى فئة رابعة يجعلون حجر الاساس الزعامة وحب السيطرة ، وهكذا.

ترجمة التاريخ وتطبيقه

وقد تبين مما تقدم ، ان اللازم على السياسى ان لا يجعل التاريخ كالميت المحنط الذى ينقله أصحاب الاثار من متحف الى متحف ، فالزمان ليس متحفاً والتاريخ ليس ميتاً بل اللازم ان يترجم التاريخ - الذي يريد ان يجعله اسوة الى روح تلائم عصره ، ليستفيد منه سياسياً ، في حال كونه يتخذه اسوة ايضاً ، فمثلا : انتصارات الاسلام ، يجب ان لا يغفل عنها جسماً وروحاً ، لاجل نهضة اسلامية جديدة، وفى نفس الوقت يجب ان لا تتخذ جسماً هامداً يراد نقلها بأبعادها

ص: 60

المعلومة تاريخياً ، الى الزمان الحاضر، فانه يكون حينئذ من قبيل المحاربة في عصر الصاروخ بالسهم ، والاستطلاع في عصر الاواكس ، بالدخان الذي كان يعتمد عليه فى ارسال الاخبار المهمة الى البلاد البعيدة، بسبب المنائر المنصوبة لذلك .

ص: 61

مسألة : 7 السياسة علم وفن ومعرفة

اشارة

قد يتوهم ان (السياسة) ليست علماً، وانما هى (ادارة) والادارة عمل، وذلك يعتمد على ذكاء الانسان وتجاربه وما يأخذه من المحيط ، وقديتوهم ان( السياسة) ليست الااتقان فن الكذب والدجل والنفاق .

وقد يتوهمان (السياسة) ليست من الاسلام وان العالم الديني هو العارف بالتفسير والتاريخ الاسلامي والفقه وما أشبه ؟ وكل هذه الاوهام ، لا أساس لها من الصحة ، فالسياسة علم ، كسائر العلوم ... ولعل هذا التوهم نشأ من ان البريطانيين قلما يطلقون (العلم) على السياسة ، وكثير من بلاد الشرق الاوسط كانت خاضعة للاستعمار البريطاني ، وسرت اليها ثقافتهم .

ولذا زعم جمع من ا في هذه البلاد تبعاً لهم ، ان السياسة ليست علماً ، وماذا هو العلم ؟ ان العلم هو مجموعة كشوف للحقائق الكونية ، سواء

كانت حقائق (خارجية) أو حقائق (انتزاعية) أو حقائق (اعتبارية) والفرق بين الاخيرين ان الامور الانتزاعية ، لها تقرر في ظرف ما ، سواء كان انسان أوعين او لم يكن احدهما امثال ان(الاربعة زوج) و (الكل يساوى اجزائه )الى غير

ص: 62

ذلك ، حيث انه اذا فرض (عدم وجود مفكر) كانت الاربعة زوجاً ، والكل يساوي أجزائه ، وكذلك اذا لم يكن مخلوق أصلا ، لم تخرج هاتان الحقيقتان عن واقعهما ، فالاربعة كلما وجدت فهي زوج ، وهكذا ...

أما الامور الاعتبارية فهي التي لا حقيقة لها في عالم ما لا عالم الخارج والعين ولا عالم الانتزاع بل وجودها باعتبار المعتبر حتى اذا لم يكن معتبر لم تكن ، مثل كون الدينار له اعتبار المالية فان الدينار (الورق) لا يسوى فلساً واحداً، واذا كان بدون اعتبار من بيده الاعتبار لا يعطى في قبال مأة منه حتى قرص خبز واحد ، بينما اذا اعتبره المعتبر كان كل دينار في قبال مأة خبز مثلا .

واذا تحقق ان العلم عبارة عن مجموعة كشوف ، فالسياسة علم ، حيث انه كشوف لكيفية الادارة العامة ولكيفية الارتباطات وانها عبارة عن مجموعة اغصان علوم ، كعلم التاريخ والاجتماع والاقتصاد وغيره .

ولعل الذين نشروا ان السياسة ليست بعلم ، في البلاد الاسلامية ، كانوا عامدين ، حتى ينسحب المسلمون عن تعلم السياسة ، فيخلو لهم الجو في ان يستغلوا جهل الناس ، فيفعلوا مايشائون ، كما حدث ذلك بالفعل .

ترکیز اسرائیل لانعدام الوعى السياسى

حيث أن عدم الوعي السياسي ، ركز اسرائيل في السياسي ، ركز اسرائيل في المنطقة ، واقتطع لبنان الاسلامي واعطاه للصليبية ، وجاء بحكومات الانقلابات ، التي ليس لها أى سند من العقل والمنطق، حتى قدر قلامة ظفر ، وشتت بلاد الاسلام الى دويلات لا حول لها ولا طول، وجاء المستعمرون الى البلاد ، تارة بالقومية ، واخرى بالشيوعية ، وثالثة بالاشتراكية ، ورابعة بالوجودية ، وهكذا ، وجعلوا (القانون) مكان أحكام الاسلام . الى غيرها وغيرها من المآسي التي لم يكن يمكن ان

ص: 63

يقع حتى جزء منها ، لو كان الوعي السياسي موجوداً .

أما التوهم الثاني : فهو وليد لعمل المستعمرين ، مفهوماً ومصداقاً ، فانهم هم الذين نشروا تفسير السياسة ، بالمعنى المذكور ، حتى يأباها أصحاب الضمائر والدين ، وبذلك يتسنى لهم أن يأتوا بعملائهم الى الحكم ، وفي غياب من الرشد الفكري، والوعي السياسي. وفي جو وصمت السياسة فيه بالانتهازية والدجل والنفاق ، مما سبب انسحاب الاخيار من الميادين ، جاء الاستعمار ب_ (أتاتورك) تركيا و (بهلوى) ایران و(سادات) مصر ، و (قاسم) العراق ، و غيرهم في سائر بلاد الاسلام .. هذا من جهة المفهوم .

وأما من جهة المصداق ، فان الذين دفع بهم المستعمر الى سدة الحكم فى بلاد الاسلام كان مصداقاً لما نشروه من المفهوم الانف، حيث لم ير الناس فيهم الا بائعي الاوطان والمبتغين للشهوات الرخيصة ، والمنافقين والدجالين الى آخر قائمة صفاتهم المعروفة ، واذ (صدق الخبر الخبر) تجنب الصالحون للسياسة اكثر فأكثر ، مما فسح المجال أمام المستعمرين وعملائهم .

وأما التوهم الثالث ، فقد كان من نشر المستعمر ، حيث ان علماء الاسلام اذا انزووا عن الميدان تسنى للمستعمر أخذ أزمة البلاد ، وجعل القوانين التي تخدم الكفر والكفار ، عوض الاسلام الذى فيه العزة والاستقلال والنجاة، والا فقد كان الرسول والائمة عليهم الصلاة والسلام كلهم يزاولون السياسة، وكذلك كان شأن العلماء قبل دخول المستعمر البلاد .

وهذه كتبهم الفقهية وصفحات تاريخهم المشرق، تنبىء عن بيانهم المسائل السياسية ، وتدخلهم في الامور ، كما ينبيء عن تدخلهم ، أحوال الشريفين ، والفاضلمين ، والمجلسيين ، والعامليين ، والشيرازيين ، وغيرهم ممن سردت أحوالهم في كتب مفصلة .

ص: 64

ثم نرجع الى الذين قالوا ان (السياسة) ليست بعلم ، ونقول لهم ، ما هي ميزات العلم ، لنرى هل ان السياسة علم أم لا ؟

ميزات العلم الثلاث

واذا لاحظنا ميزات العلم ، نجد انها ثلاث ميزات رئيسية :

الاولى : ميزة الضبط والمحاسبة .

الثانية : ميزة الرؤية المستقبلية .

الثالثة : ميزة الانفلات عن الخرافة ومشاكل الحياة ، ونرى ان كل هذه الميزات الثلاث موجودة في علم (السياسة) .

أما الميزة الأولى : فالسياسة تضبط الاجتماع وتجعل له الحسابات الدقيقة او التقريبية ، فمثلا : السياسة تبين الروابط بين الفرد والدولة ، والدوائر بعضها ببعض ، والدول بعضها ببعض ، وتجعل للانتخابات ، والاكثرية ، والحريات وسائر الأمور السياسية، حسابات وضوابط وليس معنى ذلك انها كالمحاسبات الرياضية والهندسية ، بتلك الدقة المتناهية ، وعدم التخلف حتى في كل ألف واحد ،كما هو شأن جملة من العلوم كالعلمين السابقين ، وكالمنطق والكلام والفلسفة ، والفيزياء والكيمياء ، ونحوها ، فان من العلوم ، مالاتخرم قواعدها اطلاقاً ومن العلوم ما تجعل القواعد الاكثرية والضوابط الاغلبية، فمن القسم الاول الضرب حساباً ، و المثلث هندسة ، و الاشكال الاربعة منطقاً ، و اصول الدين كلاماً ، ومباحث الوجود والعدم فلسفة ، وآثار المادة بنفسها أو تفاعلها في غيرها ، فيزياءاً وكيمياءاً ، حيث لا تخلف لقواعد هذه العلوم اطلاقاً.

كما ان من القسم الثاني ، مباحث علم الاجتماع ، وعلم النفس ، وعلم الاقتصاد ، وعلم الطب ونحوها، حيث انها غالبية ، لا تدقيقية ، مثلا : (الاجتماع)

ص: 65

يقول : ( الحرب تسرع عجلة العلم الى الامام ) وهذه القاعدة ليست صادقة على كل الحروب ، اذ منها ما تستنفد قوى الشعب فتسقطه الى الحضيض و (النفس) يقول : (الايحاء النفسى يلون النفس بلون الايحاء) وليس ذلك الا اغلبياً ، اذ ربما لا ينفع الايحاء ، في بعض السفهاء وأصحاب الاتجاهات القوية، و (الاقتصاد) يقول : بقاعدة العرض والطلب في الرخص والغلاء) بينما قد يتدخل شيء آخر مما يأخذ الزمام عن القاعدة المذكورة ، فيقل العرض مع الرخص أو يكثر الغلاء.

و (الطب) يقول : ان الطعام الفلاني يوجب اسهالا ، بينما قد يتدخل عامل آخر ، فيورث الطعام المذكور قبضاً ، ولذا ترى ان علماء هذه العلوم يعترفون بأغلبية قواعدهم الموضوعة لتلك العلوم ، بينما ترى العلماء من القسم الاول يقولون بدقة قواعدهم المقررة ، دقة متناهية .

وعلم السياسة من القسم الثاني ، فقواعدها أغلبية لادائمية ، ومجرد ذلك لا يخرج السياسة عن كونه علماً ، وهذا ما يعبر عنه عند بعض بأن أسبابها بالنسبة الى مسبباتها من باب (المقتضى) لا من باب (العلة التامة )...

ثم ان ما ذكرناه من (أغلبية) قواعد بعض العلوم ، لايراد بها، انه لاضوابط دقيقة لقواعد تلك العلم ، اطلاقاً ، بل المراد ان البشر لم يصل في معرفته الى تلك القواعد بشرائطها وموانعها، والا فالله سبحانه جعل لكل شيء قاعدة دقيقة لا يمكن التخلف عنها قيد شعرة ، وانما يصل علم البشر الى بعض تلك القواعد بكل شرائطها وموانعها ، فتكون القاعدة مكتشفة بدقة (كقاعدة ارخميدس) في الماء ، وبعض (قواعد) نصير الدين في الفلك ، وقواعد ( رسطاليس ) في المنطق ، وقد لا يبلغ علم البشر إلى كل تلك القواعد في شرائطها وموانعها، فيضع القاعدة الاغلبية ، كقواعد الطب، فانه لاشك ان (سقمونيا) مثلا : اذا اجتمع

ص: 66

فيه الشرائط الواقعية ، كان مسهلا للصفراء.

شن لكن حيث لا يعرف الطبيب كل تلك الشرائط بدقة، كان لابدله ان يقول انه مسهل أغلبي ، اذ ربما يصادف فقد شرط أو وجود مانع فلا يؤثر الاثر المذكور ، وهكذا بالنسبة الى كل علم له قواعد أغلبية ، لاقواعد دقيقة ، ولذ! كلما تقدم العلم في أمر تقدم الضبط في قواعده ، حيث ان معنى تقدم العلم، المزيد من معرفة الشرائط والموانع .

وانما ادعينا ان كل القواعد الواقعية دقيقة غاية الدقة؟ للقاعدة العقلية المعروفة ( الواحد لايصدر الأمن الواحد، ولا يصدر منه الا الواحد) بالنسبة الى الفاعل بالجبر - والا لصدر كل شيىء من كل شيىء .

وان شئت قلت : ان (قاعدة العلل والمعاليل ) عقلية بكل دقة وتلك لا تدع مجالا لعدم الانضباط ، ولو بقدر شعرة ، وان الذى ندعى هو عدم كشف الانسان حين كشف القاعدة ، لكل شرائطها وموانعها، والا فمع اجتماع الشرائط ،وفقدان الموانع لابد وان تؤثر العلة فى المعلول بدون التخلف .

الرؤية المستقبلۀ

أما الميزة الثانية، وهى ميزة الرؤية المستقبلية، فان العلم عبارة عن مجموعة كشوف يصل الانسان بسببها الى مناهل الحقائق ، فيعطى العلم للانسان رؤية المستقبل ، بانه كلما تحقق السبب تحقق المسبب ، وهل العلم الا ذلك ، فعلم الطب مثلا : يعطى للانسان معرفة ، انه كلما تعفنت الاخلاط، كانت الحمى ، أو كلما دخلت الجرثومة الفلانية فى رئة الانسان تحقق التدرن الرئوى ، وعلم الهندسة يعطى رؤية انه كلما تحقق

(المعين) من ابعاد ثلاثة خاصة تحقق للجسم الاستيعاب بالقدر الفلاني.

ص: 67

وهكذا بالنسبة الى سائر العلوم حتى اللفظية منها ، ففى علم النحو يقال: كلما تحقق وصف فضلة، نصب على الحالية ) ، و(السياسة) هكذا تعطى الرؤية المستقبلية ، مثلا : فى فصل (الانتخابات) تعطى السياسة ، قاعدة انه( كلما كان المرشح اكثر نزاها، وأكبر دعاية ، كان فوزه اقرب من فوز خصمه) .

وفي فصل (السياسة الدولية) نرى القاعدة العامة القائلة ، بانه (كلما كانت الحضارة فى دولة أكمل، كانت السيادة فيها على الدول الاقل حضارة منها أكثر) الى غير ذلك من المسائل السياسية ، التى تعطى الرؤية المستقبلية .

انعدام الرؤية للمستقبل

أما ما نشاهد من عدم تمكن السياسي من الرؤية الدقيقة للمستقبل، في كثير من الاحيان ، فانه يعود الى أحد أمرين :

(الاول) عدم اهتمامه بالمقدمات اهتماماً كافياً، وحيث غلطت عنده المقدمات لم تكن النتيجة المتوخاة .

(الثاني) عدم در که لكل الاسباب والشرائط والموانع ، ومن الواضح ان النتائج تابعة لمقدماتها ، لالما ادرك الانسان من الادراكات الناقصة غير الواقعية، والا فحتى العلوم الرياضية ، اذا لم يهتم الرياضي بالمقدمات حق الاهتمام، أو لم يدركها حق الادراك لم يصل الى فهم النتيجة الصحيحة .

الانقاذ من الخرافة والمشكلة

وأما الميزة الثالثة للعلم ، وهى ميزة الانقاذ من الخرافة والمشكلة ، فهى متوفرة ايضاً في علم السياسة ، فان السؤال المطروح في كل أنواع العلوم: انه ما فائدة العلم ؟ وماذا ننتفع من التحقيقات حول علم ما؟ والجواب أن العلم

ص: 68

(بالغض عن كونه فضيلة ، وعن كونه قد يكون لنفسه، فيقال : العلم للعلم) يعطى للانسان أحد شيئين :

(1) الانقاذ من الخرافة والبدائية .

(2) الخلاص من مشكلات الحياة ، فالانسان يخلق خالى الذهن، كما قال سبحانه :«والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا»(1) وهذا الفراغ الذهني ينتج اول ما ينتج (البدائية التفكيرية) ثم (عدم وصول الانسان الى الحياة السعيدة) وكثيراً تصل البدائية الى الخرافة ، فتزرع في الذهن المواد الضارة، وخلاف الحقائق مما يسمى بالخرافة كما انه كثيراً ما ينتج الفراغ الذهني المشكلات الجمة والتى احياناً تؤدى الى عطب الانسان ، أو فقده حياته .

فمثلا : من لا يعتقد بوجود الله عالم قدير حكيم ، لابد وان يعبد الصنم ، أو ان ينتهي الى ان الكون معلول طبيعة جامدة عاجزة ، وكلاهما خرافة ، مثلهما مثل من يعتقد بان مجلدات - دائرة المعارف - من تأليف (بقرة) أومن تأليف(الشمس والهواء والماء والتراب) وهل الطبيعة شيء الاهذه الامور الاربعة وما أشبهها ؟.

ويأتى بعد ذلك دور المشكلات، فمن ينزل فى عينه الماء ، ولا يعرف الطب، وليس هناك طبيب ، يعيش طول حياته اعمى، ومن ابتلى

(بحمى السل) ولم يكن طبيب ينقذه ، اخترمه الموت في ريعان شبابه ، وهكذا بالنسبة الى راكب البحر بدون ربان ، وبانى الدار بدون قواعد البناء ، حيث يغرق الاول ويخر السقف على الثاني فتتكسر عظامه ، فيدخل في قافلة الزمنى والمعوقين .

وجود هذه الميزة في السياسة

و(السياسة) تغترف من منهل هذه الميزة الثالثة ايضاً، فان من ليس بسياسي

ص: 69


1- سورة النحل / 80

لابد وان يزعم بأن الحاكم الديكتاتور (ظل الله) وينفذ ارادة الله، وهي خرافة ، بالاضافة الى انه يصبح عبداً يساق، كما يشتهيه الديكتاتور حسب أهوائه وذلك يوجب شقاء حياته ، واحياناً يجزره الحاكم المستبد جزر الاضاحي ، فيكون قتيل جهله .

ص: 70

مسألة : 8 للسياسة ساحتان : داخلية وخارجية

اشارة

الفقيه السياسي يجب ان يلاحظ السياسة ، في ساحتين ، ساحة الداخل والساحة العالمية، وذلك لان السياسة بنفسها لها الساحتان المذكورتان ، فان الادارة واعمال القدرة والنفوذ (التى هى عبارة أخرى عن السياسة) لابد وأن تكون في الداخل، كما لابد وأن تكون فى الخارج ، ولكل منهما شعبتان .

للداخل شعبتان

(الأولى) حفظ الداخل بما هو وظيفة الدولة فى ضبط النظام وأخذ زمام العدل، والانماء ، وما الى ذلك

(الثانية) الحيلولة دون تسرب السياسات الاجنبية الى الداخل، هذا بالنسبة الى داخل البلاد المحدودة بحدود هذه الدولة أوتلك.

للخارج شعبتان

وأما بالنسبة الى الخارج ، فللدولة شعبتان ايضاً:

(الأولى) وضع التأثير على سائر الشعوب في الاسهام بنظمها وكف الظلم

ص: 71

عنها وذلك لان الانسانية وحدة واحدة واللازم على الانسان بما هو انسان خدمة الانسان الاخر مهما كان لونه وعقيدته واتجاهه والنظام المسيطر عليه .

قال سبحانه : «ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين» (1)

وقال (صلى الله عليه و آله وسلم) :( الناس سواسية كاسنان المشط).

وقال الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) في كتابه الى مالك الاشتر : (أما أخ لك فى الدين أو نظير لك في الخلق).

وفى الشعر المنسوب اليه (عليه السلام) :

الناس من جهة التمثال اكفاء*** أبوهم آدم والام حواء

وقد كان من أوليات الاسلام ما ذكره سبحانه :« انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ».(2)

وقال (صلى الله عليه و آله وسلم) : ( لكل كبد حراء اجر )مما يوجب ان ينظر الانسان الى أخيه الانسان ، بنظر الانسانية ، فيساعده ويخفف عنه المآسى (والتي منها مأساة خرافة العقيدة) .

(الثانية) محاولة كف حكوماتها عن التأثير في البلد الاسلامي- مثلا- بسبب (الجماعات الضاغطة) وما أشبه ، حيث انه لو لم تتدخل الحكومة في الحيلولة عن التأثير في بلدها اثرت الحكومة الخارجية في البلد بمختلف أنواع التأثير كما سيأتي بعض الكلام فى كيفية تأثير الدول بعضها في بعض.

اذا عرفت ذلك نقول : (المسرح الاول) من مسرحي اعمال الدولة نفوذها وسياستها، هو مسرح الداخل .

اطلاقات الدولة

والدولة لها ثلاثه اطلاقات :

ص: 72


1- سورة النساء / 77
2- سورة الحجرات / 13 .

(الاول) ان يراد بالدولة (القوة التنفيذية) فيقال : قد صممت الدولة على كذا أو كفت الدولة يدها عن كذا فان المراد بالدولة حينئذ (القوة التنفيذية) .

(الثاني) ان يراد بالدولة كل التشكيلات الحكومية من السياسية والقضائية والتنفيذية ، وغيرها ، وهذا الاطلاق أعم من الاطلاق الاول الاطلاق الأول.

(الثالث) ان يراد بالدولة، ما يشمل الامة ايضاً ، وذلك كما يقال ان (دولة العراق محددة بايران وتركيا والخليج) فان الدولة يرادبها حينئذ مجموع السكان بحدودها الارضية الخاصة ، وهذا الاطلاق أعم من الاطلاقين الأولين ، واللازم تعيين المراد من (الدولة) بالقرائن المكتنفة بالكلام...

وبذلك ظهران قولنا: (الدولة تعمل نفوذها في مسرح الداخل) نريد بالدولة أحد الاطلاقين الاولين والغالب ارادة الاطلاق الثاني حيث اعتاد الناس ان يريدوا بالدولة (مجموع التشكيلات السياسية وغيرها) فمجلس الامة كمجلس الوزراء كالهيئة القضائية ، وسائر الادارات ، مسرح اعمال نفوذها مجموع الامة ، بما لها من الارض.

وانطلاقاً مما عرفت من معنى (الدولة) قد يعرف بعض السياسيين الدولة ب_ (انها الجبهة السياسية ، والادارية ، المتحضرة ، المستقاة من ارادة الامة ، والتي تعمل لنفع المجموع في المجموع) ولكن هذا التعريف بقيوده المذكورة لا يمكن انطباقه على كل الدول، أو بعبارة اخرى ان التعريف المذكور تقريبي وليس جامعاً مانعاً، اذ :

أولا : ليست الدولة الجبهة السياسية والادارية المتحضرة دائما ففي الحكومات الديمقراطية تعمل الاقلية غير الفائزة بالحكم، ايضاً في مجال الحكم مع وجود الشرعية لها سواء في مجلس الامة ، أو في دوائر الاعلام ، أوفي سائر الدوائر.

نعم كلمة الفصل في مورد الاختلافات ، تكون للحزب الحاكم ... وفى

ص: 73

الحكومات الديكتاتورية تعمل الجبهة المعارضة ، نفس اعمال الاقلية - في الديمقراطية ولكن ليس مع الشرعية الموجودة في الديمقراطية ، ومن الواضح ان للمعارضة تأثيرها في حركة الدولة لاجل مآربها ، فالجبهة المعارضة تقف من الدولة - دائماً بالمرصاد مماتخرب احياناً ، وتسبب صرف نظر الدولة عن اهدافها ومقرراتها احيانا اخرى .

وثانياً : ليست الدولة مستقاة من ارادة الامة ، الافي الدول الاستشارية ، والافالدول الديكتاتورية ليست الدولة مستقاة الا من السلاح ، احياناً، والاستعمار احياناً ، فليست الدولة ثمرة الامة ، بل مفروضة عليها .

رانما قلنا : (الاستشارية) لان الدولة النابعة من ارادة الامة على قسمين :

(الاول) الدولة الديمقراطية ، التي تنتخب الامة فيها نوابها ، وهم يعينون القوة المجرية ، ويشرعون الاحكام ، سواء للقوة القضائية ، أو التنفيذية ، أو الادارية ، أو غيرها .

الدولة الاسلامية

(الثاني) الدولة الاسلامية التي تنتخب الامة نوابها ، ليكونوا مؤطرين للقانون الالهي، ومعينين للقوة التنفيذية ، فان الامة - في الاسلام - ليس بيدها التشريع ، وانما بيدها التنفيذ فقط، مع فارق آخر، وهي ان (الفقيه) الجامع للشرائط يكون المشرف الاعلى على الدولة والامة، كما سيأتي تفصيل الكلام في ذلك في مسألة آتية انشاء الله تعالى .

وعلى هذا فكلتا الدولتين (استشارية) وان لم تكن كلتاهما (ديمقراطية) ولذا آثرنا كلمة (الاستشارية) على ذكر (الديمقراطية).

وثالثاً : ليس دائماً تعمل الدولة لنفع المجموع ، وان كانت ترفع هذا

ص: 74

الشعار غالباً ، اذ فى الدولة الديكتاتورية انما يكون العمل للمحاكم الاخذ بزمام الحكم ، سواء كان الحاكم واحداً كما في الحكومات الملكية ، أو جماعة خاصة ، كما في الحكومات الاشرافية ... وفى الدولة الاستشارية انما يكون العمل للاكثرية لوضوح ان تعارض مصالح الجماعات ، وعدم امكان جمعها ، يجعل الدولة بين ان تعمل على حسب مصالح الاكثرية ، أو الاقلية ، واذا دار الامر بين الاثنتين قدمت الدولة الأولى ، ولانريد بهذا الكلام ان الدولة لاتعمل للجميع اطلاقاً(حتى في التعليم والطب وما اشبه) بل المراد ان العمل ليس دائماً لنفع الكل ، بل العمل في كثير من الأحيان يكون لنفع الاكثر.

نعم ، يكون العمل لنفع الكل في الحالات الطارئة ، مثل حالة الحرب من عدو خارجى ، أو حالة كارثة طبيعية تهدد الكل ، أو تحرك عواطف الكل حيث ان الامة بجميع فئاتها ، تقف صفاً واحداً وتكون الدولة حينئذ عاملة لمصلحة المجموع.

ورابعاً : ليست الدولة تعمل في المجموع ، مطلقاً .

(1) فان الدولة الفدرالية ، تشترك الدول الواقعة تحت الوحدة ، فى امور ثلاثة فقط وهى :(الجيش والمال والخارجية) وانما لكل دولة نظام خاص بها ، واحياناً يكون الاختلاف بين تلك الدول فى أنظمتها ، اختلافاً كبيراً .

(2) وفى بعض الدول، حيث تضعف القوة المركزية المدولة ، تفوض الدولة لبعض مناطقها (الحكم الذاتى) ولذا توجد سياسات صغيرة في اجزاء

من الدولة ، هى التى تحل القضايا وتعمل النفوذ وانما الدولة المركزية تبارك تلك السياسات ، الى غير ذلك من الامور التي تجعل التعريف السابق ، تعريفاً في الجملة ، لا تعريفاً جامعاً مانعاً.

وحيث ان الدولة الاسلامية لها قانون واحد ، هو الاسلام المستفاد من

ص: 75

الكتاب والسنة والاجماع والعقل ، ويكون رئيسها الفقيه الجامع للشرائط ، الذي تنتخبه الامة فالشكل الاولى لهذه الدولة، هو الشكل المنطبق عليه التعريف المتقدم بكل قيوده .

نعم ، اذا اضطرت الدولة الاسلامية لظروف قاهرة ان تجعلها كالدول الفدرالية ، أو ما أشبه تلك جاز (حسب القانون الثانوي) .

قال سبحانه :« واعدوا لهم ما استطعتم من قوة » فكلما كانت قوة الدولة أكثر ، كانت أقرب الى الروح الاسلامية .

میزان وحدة الامة

ثم ان ارض الدولة الاسلامية ، هي أرض واحدة ، وكل أفراد المسلمين اخوة، وسواسية في كل شيء مرتبط بالدولة ، لا يفضل بعضهم على بعض ، باختلاف اللون ، أو اللغة ، أو العرق ، أو الحدود الجغرافية ، أوغيرها ، فالقانون يجرى على الكل، على حد سواء فالامة في الاسلام تتوحد ، على هذا الميزان. وبهذا ظهران ميزان (الامة) عند الاسلام ، هو (العقيدة) فحسب ، خلافاً لما اعتبره الغربيون ميزاناً.

فقد اختلفوا في ميزان وحدة الامة الى قولين :

(الأول) ان الميزان (ارادي) وهو (احساس الفرد بتعلقه باجتماع خاص) وتبعاً لهذا الاحساس ، يشترك الفرد مع اجتماع ما ، في العمل و يربط مسيره ومصيره بذلك الاجتماع ، وهذا الرأى ذهب اليه جماعة من علماء السياسة في فرنسا .

(الثاني) ان الميزان (قهري) وهو الاشتراك في اللغة ، والارض، وسوابق التاريخ والثقافة العامة، وهذا الرأى ذهب اليه جماعة من علماء السياسة في (المانيا) وهناك قول ثالث ، يمزج بين الأمرين السابقين ، فتكون الامة واحدة باعتبار

ص: 76

العناصر القهرية والارادية معاً، ولو أردنا الموازنة بين هذه الاراء - مع الغض عن الميزان الاسلامي الذي ذكرناه - كان الميزان الأول أقرب الى انسانية الانسان.

مسرح الخارج

(المسرح الثاني) من مسرحي اعمال الدولة نفوذها وسياستها ، هو مسرح الخارج ، فان دول العالم منذ القديم ، كانت تتدخل بعضها في شئون بعضها ، بمختلف الاسباب والعلل ، فان الانسان لم يزل يطلب العلم والاستيلاء ، وهما جناحا الانسان الى السمو ، ان صرفهما في الخير ، كما انهما من أسباب شقاء الانسان ، ان صرفهما في الشر ، حالهما حال الماء والنار ، ان صرفهما الانسان في النافع نفعتا ، والا كانت النار محرقة ، والماء مغرقاً له.

وقد كان التدخل فى الزمان السابق ، قبل وجود الصناعة والالة ، تدخلا قليلا، الا ما اذا كان التدخل عسكرياً، أما في الحال الحاضر فالتدخل اخذ يتشكل بمختلف الاشكال والوسائل ، التي وضعها العلم في يد الانسان ، ولامناص لاية دولة من هذا التدخل شائت أم أبت .

وأهم عامل للحيلولة أمام هذا التدخل بعد ملاحظة وجوب ترك الناس وحرياتهم ، في قبال ضرب الستار الحديدي حول البلاد ، مما يجعل الانسان أسوء من البهيمة ، كما فعلته الدول الشيوعية - هو تقوية المراكز في الداخل حتى لا يكون تأثير من الخارج، وتأثر من الداخل ، وذلك بأن يمنح الانسا داخل الدولة حاجته( الفكرية والجسدية) فاذا كان الامر كذلك ، لم يكن نقص في الانسان ، حتى يلتمس سده من التيارات الخارجية ، فان الانسان بطبيعته متطلب للكمال ، فاذا وجد الكمال في بلده اتبعه، ولم يتأثر بالتيارات الخارجية

ص: 77

أما اذا لم يجده في بلده ، ووجده في خارج بلده اتبعه ، ولم يمنعه عن السير ورائه اي شيء .

وهذا هو سر ما يعمله الاستعمار من طمس معالم نقاط الكمال في البلد ،ومن تزيين نقاط الكمال في بلد المستعمر، مهما كان الامر بالعكس.

وقدمثل لذلك أحد المستعمرين، قائلا ان ما في الاسلام مثله كمثل ضياء ساطع النور ، وما عندنا مثله مثل ضياء خافت النور، واذا وجد الناس الضياء الساطع لم يلتفوا حول الضياء الخافت ،فالمهم ان نطفى ذلك الضياء ، حتى اذا لم يجد الناس نوراً أقوى من النور الذي عندنا ، التفواحول نورنا تلقائياً، ولعلنا نعود الى تفصيل هذا الذي يفعله المستعمر بالبلاد المستعمرة ، في مسألة اخرى .

عوامل النفوذ

اشارة

وكيف كان ، فعوامل تدخل الدول بعضها فى بعض ، مما يجعل الدولة المتنفذة ، الدولة الاجنبية مسرحاً لاعمالها السياسية ، ولنفوذ قدرتها ، امور:

1 - عامل الدين

(الاول) عامل الدين - أوما يشبه الدين - فان ترابط الشعوب بعضها ببعض في الدين ، يجعل امكانية تدخل دولة في دولة ، تتحدان دينا ، امراً سهلا ، والفكر لا حدود له ، مهما حاولت الحكومات جعل الحد له ، هذا من ناحية ، ومن ناحية ثانية ، فان الدين أو ما اشبه الذي له الاستيعاب العالمي ، لابد وان يمهد الجو لنفسه في كل مكان يمكنه ذلك ، وكذلك سائر الافكار والمباديء ولذا تهتم الفئات الدينية والاحزاب السياسية، بالتدخل في شئون الدول ، واذا

ص: 78

كان بيد الدين أو الحزب السياسي ، الدولة ، كان التدخل أشد ، حيث تملك الدولة وسائل التدخل الكثيرة ، من المال وأجهزة الاعلام وسهولة التحرك ، وغير ذلك .

ومن الواضح، ان الدين حيث يرتبط بالروح، أسهل في النفوذ من الحزب السياسي المرتبط بالمادة ، فان المادة ليس لها من الاغراء ما يكون للدين حتى الدين المزيف اطلاقاً ، أو المنحرف عن نبعه الصافي.

2 -عامل القدرات

(الثاني) عامل القدرات الكبرى ، فان الدول تنقسم الى ثلاثة أقسام الكبرى والمتوسطة ، والصغار، والقدرات الكبرى تتدخل بشكل وبآخر في القدرتين الاخريين كما ان القدرة المتوسطة تتدخل في الاخيرة ولذانرى ان القدرتين الاخريين في اضطراب دائم، وكلما حدثت الحروب أوما أشبه بين قدرتين غير كبيرتين ، تدخلت القدرات الكبرى، في الحلبة رأساً ، كما وجدنا ذلك ، في قصة فيتنام وفلسطين وغيرهما، فان روسيا وقفت الى جانب فيتنام، وامريكا ضدها، وكذلك الحال في فلسطين فى الحرب العربية الاسرائيلية، ولوان وقوف روسيا الى جانب العرب كان صورياً، بينما كان وقوف امريكا الى جانب اسرائيل واقعياً، كذلك بالنسبة الى التدخل المصري السعودي في اليمن ، والايراني العراقي في حرب الاكراد - في زمن الشاه - الى غيرها، ولذا فاذا تمكنت الدولة الكبيرة من فرض سياستها في الدولة الصغيرة من وراء الستار فعلت ذلك، لتظهر نفسها بمظهر النزاهة والبرائة والا تدخلت علناً، اعلامياً، ثم عسكرياً .

ص: 79

3- عامل الثقافة

(الثالث) عامل الثقافة ، حيث ان الثقافة المشتركة ، توجب تفاهم الشعوب وذلك يسهل تأثير بعضها في بعض ، والثقافة تشمل اللغة ، والتقاليد، والعادات وكيفية التفكير ، ووحدة الاصول العقائدية، والفروع الفقهية وما أشبه ، ولذا يحاول الاستعمار دائماً ، ان ينشر ثقافته فى البلاد المستعمرة ، ليسهل بذلك استعمارها ، ويتسابق المستعمرون فى جذب طلاب المدارس الى بلادهم ليتلونوا بلونهم ، ويكونوارسلهم الى البلاد المستعمرة - بالفتح - فان الانسان لا يفرز الا ما أخذ ، فلو أخذ طلاب ( بلد ما) لون الثقافة البريطانية ، أو الفرنسية أو الروسية، افرزوا ذلك اللون في بلادهم، مما يسهل للاستعمار أن يفتح موضع قدم هناك.

ولهذه الجهة نرى ان الاستعمار لماورد بلاد الاسلام فعل امرین:

الاول : تضعيف ثقافة الاسلام ولغته العربية ، فأعاد تقوية اللغات والاداب والرسوم المحلية التى كانت قبل الاسلام : كالسنسكريتية في الهند، والفهلوية في ایران ، والبشتو فی افغانستان الى غير ذلك .

أما في البلاد العربية ، فقد أحيوا اللهجات المحلية بما سبب اندثار اللغة الفصحى ، التى هى لغة القرآن والسنة، وفى جملة من المستعمرات منعوا اللغة العربية اطلاقاً ، كما في الجزائر، كما منعوا الخط العربي في بعضها كمافي تركيا ، هذا الى جانب أحيائهم سوابق البلاد ، وذلك لقطع صلتهم بالاسلام الذى هو عامل وحدة البلاد، واحياء صلاتهم بسوابق البلاد، كما احيوا الفرعونية فى مصر ناصر ، والشاهنشاهية المجوسية في ايران الشاه، والبابلية في العراق وهكذا أحيوا الكلدانية والاشورية والطورانية والبرهمية وغيرها ، في مختلف

ص: 80

بلاد الاسلام .

الثاني : تقوية ثقافة بلاد المستعمر ، من لغة و آداب ورسوم وما أشبه فصار تعلم لغة المستعمر مفخرة، والتأدب بآداب المستعمر فضيلة والدراسة في بلاد المستعمر مباهاة ، الى غير ذلك. وقد اثمرت هذه الثقافة ثمارها المرة ، حتى بعد الاستقلال ، فزعماء الهند الذين تعلمو اثقافة بريطانيا ، الغوا الاسلام الذي كان دين الهند منذ الف سنة ، بعد ان استقلوا ، وزعماء الجزائر الذين تعلموا ثقافة فرنسا ، لم يعملوا بأحكام الاسلام بعد استقلالها، و زعماء اندنوسيا ، الذين تعلموا ثقافة هولندا ، حالوا دون احياء الاسلام ، بعد زوال الاستعمار الهولندى عن بلادهم، بل وزعماء مايسمى بالاستقلال ، في البلاد العربية ، هم الذين كانوا من أشد الناس عداوة للاسلام في هذه البلاد .

4- الامم المتحدة

(الرابع) عامل الامم المتحدة ، ومؤسسهاتها الكثيرة التي هي التي هي زهاء مأة وخمسين مؤسسة، فإن هذه المؤسسة خلفت (عصبة الامم )وممارستها الوقوف دون الحروب بين الدول التي هي أعضاء في المؤسسة ،والمؤامرات التي تحاك ضد الدول غير الكبرى، جعلت هذه المؤسسة ، لا قليلة الفعالية فحسب، بل آلة بيد الدول الكبرى ، وقد صارت آلة لايجاد الاضطراب والفوضى والحروب في العالم ، حيث ان لهذه المؤسسة ، بفروعها الكثيرة ، وحدورها في مختلف شعب الحياة ، الثقافية ، والاقتصادية ، والاجتماعية ، والتربوية ، وغيرها ، اليد الطولى في ايجاد الاضطرابات ، وهي تتعاون غالباً مع سفارات الدول الكبرى في التدخل في الشئون الداخلية في البلاد، وحيث انها ملجأ للدول الصغرى كان ضرها أكثر لانه من قبيل الاستعمار الفكري ، بل انها تنشر بالفعل الاستعمار الفكري ، فمثل الذين يلتمسون العون من هذه المؤسسة ، كما قال الشاعر :

ص: 81

المستجير بعمرو عند كربته*** كالمستجير من الرمضاء بالنار

وعلى أي حال ، فالامم المتحدة ، من وسائل البلدان الكبار ، المتدخل في الشئون الداخلية في بلدان العالم، واحياناً تعمل مؤسسات الامم المتحدة، لاجل توسعة الاستعمار الواحد، واحيانا لاجل توسعة اكثر من استعمار، واحيانا تتحد دولتان كبيرتان أو اكثر في مقاومة ثورات الشعوب، من خلال بث مؤامراتهم في البلاد الصغيرة .

وحال (جامعة الدول العربية) و (مؤسسة الوحدة الافريقية) و ( مؤسسة دول عدم الانحياز) ليس بأفضل من حال (الامم المتحدة ) فانها ايضاً ، ادوات بيد الدول الكبرى ، لتوسيع نفوذها في الدول الصغيرة ، التي تشملها هذه الاغطية البراقة . وبكلمة واحدة ، حيث ان دول العالم الثالث ، ضعيفة في كل شئونها و محتاجة الى الدول الكبرى في كل شئونها ، فهي مسرح لتدخل الدول الكبرى فيها ، وقد قال علي أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام : (أحسن الى من شئت تكن أميره واستغن عمن شئت تكن نظيره ، واحتج الى من شئت تكن اسيره) .

وقد قال الشاعر :

(كل من كان ضعيفاً أكلته الاقوياء )

مسرح السياسة للحكومة

وكيف كان ، فقد ظهر مما تقدم تقدم ، ان السياسة ، الحكومة ما ، أكبر من الدولة المحدودة بالحدود الجغرافية من ناحية ، وفي نفس الحال أصغر من الدولة (المذكورة) من ناحية اخرى ، ففي ناحية انها أكبر من الحكومة، توسع نشاطها الى داخل الدول الأخرى.

(1) أما بقصد الاستعمار - كما هو شأن الدولة المستعمرة - بالكسر- .

ص: 82

(2) أو بقصد الحفظ والوقاية، حتى لا تتآمر ضدها الدول الاخرى .

(3) او بقصد الهداية والانقاذ ، حيث ان الحكومة تريد هداية الاخرين الذين هم تحت نفوذ سائر الدول المنحرفة ، وانقاذ أفرادها عن الخرافة والظلم وهذا غالباً هو شأن الحكومات الدينية.

ومن الواضح الفرق بين الحكومات الاستعمارية والحكومات الدينية المخلصة حيث ان الاولى : تريد الاخذ والاستغلال، والثانية تريد العطاء والانقاذ ،وليس معنى هذا الكلام ان الحكومة الدينية دائماً كذلك ، ولذا قيدناها بالمخلصة ، اذ الحكومة قد تكون فى سطحها دينية وفي باطنها استعمارية، كما هو بالنسبة الى حكومات التبشير ، بل المراد ان الحكومة اذا كانت منطلقة عن الدين الصحيح تكون ضد الاستعمار في جوهرها ، وفي عملها .

أما من ناحية أنه أصغر ، فقد عرفت ان جبهات سياسية مجازة أو محظورة تعمل دائماً الى جانب الحكومة الرسمية، والتي تسمى (بالمشروعة) ولذا تتقلص سياسة الحكومة الرسمية ، بقدر نفوذ تلك السياسات الظلية ، فان كانت مجازة عملت بصراحة ، وحددت من السلطة السياسية الرسمية علناً، وان كانت محظورة عملت في الخفاء بالدعاية والتهريج والجماعات الضاغطة مما يقلص الحكومة الرسمية ، أحياناً خوفاً ، واحياناً من جهة عدم قدرتها على تنفيذ مآربها .

هذا بالاضافة الى ما تقدم من انحسار نفوذ الحكومات ( الفدرالية ) عن الحكومات المهضومة في معدتها ، والحكومات (الضعيفة) في قبال قطعات من الدولة لها حكم ذاتي ، في قبال الدولة المركزية .

ص: 83

توحيد السياسة للدولة الاسلامية

ثم ان الدولة الاسلامية ، يلزم ان تكون لها وحدة سياسية ، تضم كل اقطار بلاد الاسلام تحت حكومة مركزية واحدة، واذا لم يمكن جمع الاقطار في وحدة شاملة ، كان من الممكن جعلها ، في حكومات ولايات ، لها انتخابات حرة لرؤسائها ، وان كانت كلها خاضعة لحكومة مركزية واحدة ، تجمع شملها وتوحد صفوفها.

كما ان اللازم ان تكون الخارجية، والجيش ، والمال فيها متحدة ، فتكون كلها مشمولة لوحدة اقتصادية كما هو الحال في بلدان قطر واحد ، لا ان يغوص قطر في النعيم بينما لايجد البلد الاخر لقمة العيش ، وقد قرأت في تقرير ان بعض البلدان الإسلامية في الحال الحاضر دخل الفرد فيها في العام ما يقارب عشرة آلاف دينار ، بينما قطر آخر دخل الفرد فيها في العام عشرون ديناراً ، وبالوحدة الاقتصادية ، يحصل النمو الاقتصادي ايضاً ، مثلا : اراضى السودان القاحلة القابلة للزراعة ، والتي تعطى الكثير من احتياجات البلاد الاسلامي تزرع بواسطة البلاد النفطية وهكذا .

لا . . . للاحتكار التجارى

وسوف تكون التجارة حرة - كماهو المنهاج الاسلامي - لكن يمنع من الاجحاف :

أولا : بواسطة اتجار الدولة ، ومن الواضح ان بعض التجار لو باع الشيء رخيصاً ، لم يتمكن الاخرون من الاحتكار والغلاء .

وثانياً : بواسطة المنافسة الحرة بين التجار

ص: 84

وثالثاً : بواسطة المعاقبة لمن سولت له نفسه بالغلاء ، كما ذكرنا ذلك في (الفقه : الاقتصاد) وهنا ، الماعاً .

وكذلك سوف تكون للدولة الاسلامية الواحدة المترامية الاطراف ، وحدة اجتماعية ، اذ وحدة الدين، ووحدة القانون ، ووحدة الاقتصاد ، ووحدة السياسة لابد وان تنتهى الى وحدة الاجتماع ، ولاتكون البلاد الاسلامية الموحدة ، كالولايات المتحدة الأمريكية ، حيث لكل قطر منها سياسة خاصة ، و قوانين خاصة ، لوضوح الفرق بين الدولة العقائدية وبين الدولة الململمة، خصوصاً: اذا فرضنا وحدة اللغة العامة لكل الولايات ، وهى اللغة العربية ، حيث ان الواجب على المسلم ، تعلمها من أجل الصلاة ونحوها . . . وبذلك يعاد مجد الاسلام الغابر ، و يأخذ الدين بزمام العالم فينجي الناس من الديكتاتوريات ،بقوانينه التي تضع عنهم اصرهم والاغلال التي كانت عليهم.

ص: 85

مسألة : 9 النظرة الاسلامية المستوعبة

اشارة

للاسلام نظرة واقعية الى (الافراد) الذين لهم شخصية علمية ، أوسياسية، أو اجتماعية ، أو اقتصادية، أو غيرها، والى (التاريخ) الذي يضم الافراد في رحم التيار العام ، فليس الاسلام مما يخصص بأهميته (الاول) وحده ،ولا (الثاني) وحده، بخلاف المدارس الفكرية العالمية - على الاغلب حيث تهتم بأحدهما فقط.

فترى الاسلام تارة ، يذكر أحوال الاشخاص صالحين كانوا أم طالحين ، أمثال آدم عليه السلام والشيطان ، وهابيل و قابيل ، ونوح (عليه السلام) وولده و ابراهيم (عليه السلام) و نمرود ، وموسى وفرعون، وامرأة فرعون وامرأة لوط الى غير ذلك ، وتارة اخرى يذكر أحوال الامم ، كعاد وثمود و قوم يونس و بنى اسرائيل، الى غير ذلك فقد قال تعالى :« قل سيروا في الارض فانظروا كيف بدء الخلق »(1) .

وفي الحديث: (من ورّخ مؤمناً فقد أحياه) .

وقال أمير المؤمنين عليه السلام :( فسر فی دیار هم و انظر الی آثار هم).

ص: 86


1- سورة العنكبوت / 19 .

وأنشد عليه السلام :

باتوا على قلل الاجبال تحرسهم*** غلب الرجال فلم تنفعهم القلل

الى غير ذلك .

و هذه النظرة الاسلامية المزدوجة هى النظرة الواقعية اذكل واحد من الشخصيات والاحداث التاريخية، يتفاعل بعضها في بعض خارجاً ، وكل واحد منهما يوضع نصب عين الانسان اللاحق، والتاريخ اللاحق اسوة ، فان الاخيار تحيى للاسوة ، والاشرار تبقى ليرى الانسان كيف انشرهم لم يعد اليهم والى غيرهم الا بالخسران ، فيجتنب ، هذا بالنسبة الى الأفراد .

أما بالنسبة الى الاحداث التاريخية فالتاريخ تكاملي اذ الانسان الذي هو محور التاريخ وصانعه ، ميال بطبعه الى الكمال .

ولذا يرى التاريخ في حال التكامل، وكلما صنع في التاريخ ابقى ، وبنى عليه أكمل منه ، كالمصباح يبتدء بالسعف، والى ان ينتهى الى الذرة ، ووسيلة النقل فى البحر تبتدء بالخشبة ، والى ان تنتهى الى الباخرة وهكذا ، و الزمان يسير الى الاكمل ، وقد فسر بعضهم قوله سبحانه :« لتركبن طبقاً عن طبق »(1) بذلك.

تفاعل الانسان والتاريخ

والانسان العبقري والتاريخ المتصاعد يتفاعل احدهما مع الاخر ، ويستفيد احدهما من الاخر ... فالعبقري يستفيد من التاريخ قدر تكامله الى زمانه ، مثلا العبقري يركب الطائرة بسرعة الوصول الى محل تدريسه ، ويستنجد بالطابعة لايصاله أفكاره الى الطلاب، كما ان التاريخ يضع نسبة جديدة في بنائه التكاملي من العبقري ، فابن سينا يقدم الطب ، والعلامة يقدم الفقه ، والمجدد الشيرازي يقدم استقلال ايران.

ص: 87


1- سورة الانشقاق/ 19

نظرة على مدرسة ماركس

وبذلك تبين ان اهتمام( مدرسة ماركس )بالتاريخ، وعدم الاهتمام بالافراد لان التاريخ تكاملي ، يسير لاجل انقاذ الانسان من يد استغلال الانسان ، وذلك يكون بتعميم الشيوعية ، غير تام ، اذ يرد عليه :

أولا : ان النظرة الى التاريخ فقط ليست نظرة مستوعبة ، كما عرفت لزوم ازدواجية النظرة .

وثانياً : انهم لم يلتزموا بهذه النظرة، ولذا أخذوا يهتمون بماركس وانجلز ولينين وستالين وماو و كاسترو وكيم ، فاذا كان الامر كما ذكروا ، فلماذا هذا الاهتمام ؟

وثالثاً : ان التاريخ الذين قالوا به ،من أدوار أربعة لم يدل عليه دليل، بل الدليل دل على عدمه كما ذكرناه سابقاً وفي( كتاب الاقتصاد) و

(ماركس ينهزم) وغيرهما ، فكبراهم بتكامل التاريخ تام لكن صغراهم ترقيع دل الدليل على عدمه .

ورابعاً : التكامل اختياري، وليس بجبرى ، اذ الانسان يصنع هذا التكامل والانسان مخير وليس بمسير كما ثبت في علم الكلام والفلسفة .

المدرسة الغربية الاخرى

كما تبين مما ذكرناه من ازدواجية الامر ، ان الاهمية ليست للافراد فقط كما تقوله المدرسة الاخرى التي شاعت في الغرب والشرق ، ولها بقية الى الان ، ثم يشتبه غالباً بعض مناصري هذه المدرسة (بل هو أشتباه عام لكثير من المؤرخين) حيث يذكرون - على الاغلب -

(السلاطين) و (الديكتاتوريين)

ص: 88

و (الفاتحين) ومن اليهم ، مع انهم جزء وليس بكل ، بل اللازم الى جنب اولئك ذكر العلماء والخطباء والمؤسسين والبناة ، ومن اليهم ممن تعاونوا في تكميل الحياة والانسان ، وقد تقدم ان الانسان ، يكمل نفسه وجسده ومجتمعه ومحيطه الطبيعي ، وقد سار اثرهم الشعراء الذين يتبعهم الغاوون ، فترى ديوان فلان - عربياً كان أو فارسياً - مليئاً بمدح الطغاة والمستبدين والقتلة وممتهني كرامة الانسان ، أما الامة فلا أثر لهم، فى أمثال هذه التواريخ، والدواوين.

وكيف كان ، فاللازم ان يكون مسرح السياسة أمور ثلاثة :

(1) الاشخاص ، الذين لهم مدخلية في السياسة بالمعنى العام .

(2) والتاريخ بمافيه الامم ، حيث ان الفرد العبقري بدون الأمة لا يقدر على البناء ، كما ان ضده بدونها لا يتمكن من الهدم .

(3) الاطارات الحقوقية ، والقوانين التي لها مدخلية في صنع الانسان والتاريخ ، اذ في كل هذه الاطارات ، ينمو أو يسقط الانسان والتاريخ ، وان لم تكن الاطارات بوحدها بانية وهادمة .

واذ قد عرفت ان المسير للتاريخ الى الامام ، الذي يجب ان يكون مسرحاً للنظر السياسي ، هو الافراد والقيادات جميعاً نقول : ان هاتين تظهران في ثلاثة وحدات (الوحدة العليا) و (الوحدة الوسطى) و(الوحدة القاعدية).

الوحدة العليا : الدولة

فالوحدة العليا هي (الدولة) حيث انها تكون في صدد تسيير دفة الحكم والسير بالبلاد والاجتماع الى حيث الهدف المنشود، ولايهم في الأمران يكون المسير للدولة فرداً (كما في الدكتاتوريات) أو جماعة (كما في حكومة الاشراف ونحوهم) أونواب الامة( كما في الاستشاريات ديمقراطية كانت أم لا) اذالمهم - في كلامنا الان - ان الدولة هي مركز التصميم الذي يجب ان ينظر اليه السياسي

ص: 89

ولابدان يعلم ان الدولة لسعة قدراتها المادية والمعنوية ، من أهم عوامل تسيير الاجتماع .

أما قدرتها المادية فواضح ، وبها توظف الناس رغبا ورهباً ، في مختلف الخدمات والتي منها الجيش والشرطة والامن والقضاء وغيرها .

وأما قدرتها المعنوية ، فلوضوح ان الدولة تستمد شرعيتها من أمرين :

(الاول) (القانون) فان القانون مسلم الاتباع عند قطاعات كبيرة من الامة والدولة تنفذ القانون ، سواء كان القانون موضوعاً في الدين ، أو بسبب نواب الامة ، أو بسبب قيادات الحزب، وحتى الدول الديكتاتورية، تزيف ارادة جماعة باسم (مجلس قيادة الثورة) أو (مجلس الشعب) أو ما أشبه ذلك .

ومن الجدير بالذكر ، ان نقول بين قوسين (ان الامم يجب ان لا تخدع بأمثال هذه الظواهر اطلاقا والا تمست فيهم الدكتاتورية المطلقة مما يوجب هلاك الحرث والنسل ، وقتل الابرياء، وفتح باب السجون والتعذيب ومصادرة الاموال وخنق الاصوات الى آخر الامور الديكتاتورية، بل اللازم ان تعي الامة فان كانت الحكومة دينية كان اللازم ان يكون القانون حسب دساتير الدين الموجودة في منابعه ، وان يكون تطبيق الكلى على الشخصى، حسب رأي أكثرية مجلس الامة ، المنتخبة بكل حرية وأمانة ، وان كانت دولة غير دينية ، يجب ان يكون القانون والتطبيق حسب رأي أكثرية الامة كذلك ).

(الثاني) المعنويات ، فقد تكون هذه بسبب ان الدولة على طبق معنويات الناس ، كما في الدول الدينية ، والدول التي لها مبادىء خاصة منطبقة على مبادىء الناس المسلّم بها لديهم وقد تكون هذه بسبب (القوة الخامسة) التي تنظمها الدولة داخل صفوف الناس بقصد تهيئة الرأي العام على وفق أعمال الدولة فهذه القوة الخفية بالاضافة الى وسائل الاعلام هي التي تحتوش الناس لقبولهم أعمال الدولة وهذه

ص: 90

القوة قد تتمكن من التأثير على رأي الاكثرية - اذا كانت غير واعية - او اذا كانت اعمال الدولة ملائمة نوعاً ما - وقد لا تتمكن الا من ايجاد رأى ثان في المجتمع بسببه لا تكون الدولة منفردة فى الميدان، لتصب الجماهير عليها اللعنة والبرائة .

واذا تمكن وعاة الامة من سلب الشرعية عن أعمال الدولة لم تتمكن ( القوة الخامسة ) من اداء رسالتها ، باضفاء الشرعية على أعمال الدولة

وسرعان ما ينكشف للجماهير زيف الدولة ، فان تمكنوا من اسقاطها بالطرق المقبولة ، اسقوطها كذلك ، والا توسلوا بالقوة ، ولذا يجب على الدول الديكتاتورية ان لاتطمئن بهذه الاساليب في بقائها ، وأفضل لها ان تعدل سياستها تجاه الامة ، من السير في مثل هذا الخط المنحرف الذي يؤدي اخيراً بنفسها وسمعتها.

وبما تقدم تبين ، ان بين (القانون) و (المعنوية) عموماً من وجه - حسب اصطلاح المنطقيين- اذ ربما يكون قانون ومعنوية، وربما يكون قانون دون معنوية كما في حكومات الاستعمار حيث يوضع القانون على يد المستعمر وعملائه ، الا ان الناس ينظرون الى القانون شزراً ، وربما تكون معنوية دون قانون ، كما في الحكومات الدينية ، حيث أكثرية الشعب متدينون ، وبعدلم توضع القوانين التي تستند اليها الدولة في امورها .

والتجربة والمنطق ، يدلان على ان الحكومات الدينية أكثر دواماً من غيرها والسبب ان الحكم تحمله القلوب والابدان بينما الحكومات غير الدينية حاملها الابدان فقط ، واذا اختلف القلب والبدن كان الاجدر ان ينتهى الحكم في مدة وجيزة ، بخلاف ما اذا اتفقا ، اذ لا مبرر لسقوط الحكم حينئذ بسرعة .

الوحدة الوسطى : الجماعات

(والوحدة الوسطى) الجماعات ذات النفوذ و الفعالية في الجماهير كالجمعيات

ص: 91

والمنظمات والاحزاب، سواء تشكلت باسم الدين أو الدنيا ، أمثال الجمعيات الاقتصادية والطبية والثقافية، وغيرها وهذه الجمعيات و الجماعات ان كان هدفها الوصول الى الحكم كانت احزاباً سياسية، وما أليها ، وان لم يكن هدفها ذلك ، كانت جماعات اجتماعية واقتصادية وغيرهما .

وعلي اي حال ، فأمثال هذه الوحدات تؤثر فى السياسة دائماً ، أما تأثيراً مباشراً ، اذا هدفت السياسة ، فتطلب من الدولة اجراء سياسة خاصة مما يوجب اضطرار الدولة القبول ، أو تحول دون إعمال الدولة سياسة خاصة ، مما يجد مسار حركة الدولة ، وأما تأثيراً غير مباشر اذا لم تهدف السياسة ، كما اذا تصرفت في الاقتصاد ، حيث ان الاقتصاد وجه ثان للدولة .

ولنفرض ان الجماعات الصناعية عملت للتقليل من الصناعة، فان الصناعة تقل ، ويؤثر ذلك في بيع الدولة مصنوعاتها للخارج ، مما يؤثر في ضبط الدولة رقبة الاسواق الخارجية، وهذه ضربة سياسية تتلقاها الدولة وبقدر الضربة يضعف وزن الدولة في الخارج .

وعلى اي حال ، فأمثال هذه ( الوحدة الوسطى) تكون مسرحاً لمطالعة السياسي لها ، كمسير لسياسة الدولة في الجملة، وكثيراً ما تجعل الدولة بين بعض هذه الوحدات ، وبين وحدات اخرى ، تنافساً بقصد عدم امكانها الضغط على الدولة بالقدر الطبيعي، ولا يمكن ذلك الا اذا جعلت الدولة تنافساً طبيعياً اذ الجمعية المصطنعة العميلة للدولة لاتقدر على التخفيف من الضغط الطبيعي الذى تورده الجمعية الحقيقية على الدولة مثلا اذا كانت بعض التجمعات العمالية حول معمل تضغط على الدولة ، فبامكان الدولة ان تكون معملا آخر ، يجتمع حوله العمال، يضغطون على التجمع الأول ، ليكفوا الضغط عن الدولة من جهة ضغطهم المضاد على التجمع الاول .

ص: 92

الوحدة القاعدية : الجماهير

(والوحدة القاعدية) هي ثالث الوحدات في ملاحظة السياسي، وهم جماهير الناس ، الذين ليسوا من الوحدتين السابقتين، ومع ذلك لهم مطالب منبعثة عن (الدين) أو (القومية) أو (الاقتصاد) أو غيرها توجب الضغط على الدولة في سياستها حتى تلتزم الدولة سياسة خاصه ايجاباً أو سلباً أو تعديلا، واسلوب ضغط الجماهير على الدولة ، مع انهم ليسوا بمتشكلين ، في شكل خاص ، هو ضغطهم على الجماعات ذات النفوذ وعلى أفراد الدولة ، مما ينعكس الضغط على الدولة وأحياناً يتجمعون في مظاهرات و اضرابات جماهيرية، اذا كانت مطالبهم قوية. والدولة في ما اذا كانت

((استشارية: بكلاشقيها ) تفادي الرأي العام غالباً بمختلف الاساليب والاسباب لان الرأي العام اذا صار ضد الدولة، يسقطها .

أما في الحكومات الديكتاتورية ، فهي غالباً تتجاهل الرأي العام، وتقابله بالعنف لكن هذا لايدوم زماناً طويلا وانما تتمكن الدولة ان تقاوم مدة حسب قوة المعارضة العامة أو ضعفها ، وأخيراً ، تسقط ، حيث تأخذ الجماهير مطاليبها .

(أ) فالانبعاث عن الدين، فيما اذا كان عمل الدولة مخالفاً للدين ، حيث ان الجماهير المتدينة تأخذ فى التجمع ، وأبداء الرأي ، والضغط على الجماعات ذات النفوذ ، وعلى الأفراد المنخرطين في سلك الدولة .

والمثال الظاهر لمثل هذا الانبعاث ، ماحدث في ايران (أبان قصة التنباك) و (أبان الدعوة الى المشروطة : الدستور) و (أبان الدعوة الى تأميم البترول) و (أبان الدعوة الى ازالة الملوكية لتأخذ الجمهورية الاسلامية مكانها) وكذلك ما حدث في

ص: 93

العراق (أبان الدعوة الى اخراج الاستعمار البريطاني) و كذلك في الحال الحاضر حيث الدعوة الى اسقاط البعثيين الذين ثبتت عمالتهم لبريطانيا وأسرائيل وامريكا فقد كان الانبعاث في كل هذه المواره دينياً بحتاً .

وأدل دليل على ذلك، أن العلماء المراجع قادوا هذه المعارك و الجماعات الصغيرة الذين ألقوا دلوهم فى الدلاء، لم يكن لهم اي تأثير يذكر، وانما هم ارادوا تسجيل موقف ليكون لهم فى المستقبل نصيب وهذا بالنسبة الى الجماعات الصغيرة الصادقة فى الوطنية.

أما غيرهم من عملاء الشرق والغرب (الذين ادخلوا انو فهم في المعركة) فليس المهم الكلام ،حولهم ، اذ هؤلاء كانوا يمثلون الاستعمار والثورة المضادة وان تظاهروا في ثوب الوطنية والاخلاص .

تحطم الثورات لنقص الوعى السياسى

ولا بأس هنا بالالماع الى أنه اذا كانت الجماهير وراء هذه الحركات فلماذا تبدل الأمر ، الى ان جاء عملاء الغرب الى الحكم بعد فترة وجيزة من الحركة ؟ فالبهلويان، والملوكيون ومن بعدهم و (هم عملاء الغرب) كيف جائوا أثر تلك الحركات الجماهيرية الثورية ؟.

والجواب : ان الجماهير الذين وقفوا وراء العلماء لتحرير بلادهم، عن الاستعمار والاستبداد، كان ينقصهم الوعي السياسي) ولذا لم يصنعوا التنظيم) اللائق بحفظ الحكم ، كما لم يهيئوا الجو الصناعي، الذي يسند الحكم، فان هذه الثلاثة، هي أساس الحكم في الوقت الحاضر(الوعي) و(التنظيم) و(الكفائة الذاتية .).

ومن الواضح ان الوعي يستدعى الأمرين الاخرين: اذ الجماهير المسلمة

ص: 94

الذين قاموا بتلك الحركات لم يشعروا بأن الغرب الذي يقف وراء التخريب قداعد عدته والثوار الذين قاموا بالحركات امثال( الاخوند) و

(الشيرازي) و (الشيخ النورى) وغيرهم رحمهم الله ، ماتوا بالسم أو قتلوا فلم يكن لهم زمان التوعية وأن صرحوا بما وعو اللجماهير حتى قال (النورى) :

( المشروطة التي يطبخها البريطانيون لا تنفعنا ) ( ولماذا تستوردوا قوانين القضاء من باريس ، وقوانين مجلس الامة من انكلترا ؟) ولذا أصر على اضافة (المشروعة) الى (المشروطة).

والجماهير كانت غافلة عن المؤامرات الاستعمارية، وعن أساليب الحكم في العصر الحاضر وكانوا يزعمون ان مجرد التقويض يكفي في رجوع الزمام الى الاسلام، ولذا لم ينظموا أنفسهم التنظيم اللائق، ولم يسرعوا في صنع الاكتفاء الذاتي وجاء المستعمرون ونظمو اعملائهم كما ان الحاجة سببت خضوع المحتاج الى المحتاج اليه ، كما قال على (عليه السلام) : (احتج الى من شئتتكن أسيره) وبذلك ضاعت البلاد .

وهكذا حدث في تركيا بعد تحطيم الغرب (الخلافة الهشة) التي انهكتها مخالفة الملوك الذين سموا أنفسهم بالخلفاء للدين ولم يكونوا يشبهون خلفاءالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في قليل أو كثير .

واجب حركات التحرير

وعلى هذا، فاللازم على حركات التحرير في بلاد الإسلام أن يهتموا بهذهالنواحي الثلاث :

(1) ايجاد الوعي السياسي والاقتصادي والاجتماعي، بين الأمة بقدر الكفايةفان الواعي لا يستعد للخضوع ولا تنطلي عليه المكائد ...

(2) التنظيم الدقيق ، وقد قال تعالى :« وأعدوا لهم ما أستطعتم من قوة» (1).

ص: 95


1- سوره الأنفال/62 .

والتنظيم من أهم وسائل القوة ، وقد قال على (عليه السلام) : (ونظم أمركم).

(3) والعمل للاكتفاء الذاتي صناعة وسلاحاً وأرزاقاً وغيرها ، وألا فبدون هذه الثلاثة ، لا يمكن تحرر يبقى .

ثم ان استطلاع (الرأي العام) له صورتان :

(الاولى) الاستطلاع من الجمعيات والمنظمات، وما أشبه كالاستطلاع من قراء الصحف ، حيث ان نسبة انتشار الصحيفة بين الجماهير ، دليل على قدر رأي الناس ، مثلا : لو كانت هناك صحيفتان ، احداهما تطبع مليوناً، والأخرى ربع مليون كان ذلك دليلا على ان اقبال الناس على الاولى أربعة أضعاف الثانية فاذا كان لكل من الصحيفتين خط سياسي مستقل، أوخط اقتصادي مستقل، كان ذلك دليلا على أغلبية الرأى الاولى عند الامة والالم يكثر مشترو الأولى، ولم يقل مشترو الثانية .

(الثانية) من الجماهير مباشرة بسبب السئوالات، في كافة المجالات التي يراد الاستطلاع بواسطتها، فينزل أعضاء المؤسسة الاستطلاعية

(مؤسسة كانت أو جريدة أو غيرهما) الى الشارع يسألون المارة، والدكاكين ، والدور، وغيرها عن رأيهم حول القضية الفلانية كالحرب او السلم - أو حول الشخص الفلاني مثل من هو اليق بالحكم في الانتخابات القادمة - ونتيجة الاراء ، تدل على الرأى العام مأة في ماة أو أقل .

ومثل تحصيل هذا الرأي ليس لفائدة التنبأ بالمستقبل ليكون ترفاً فكرياً بل ينفع السياسي والاقتصادي والديني والاجتماعى، فرداً ومؤسسة ومنظمة ليعملوا على طبق تلك الاراء ، مثلا : رجل اقتصادي يريد معرفة نوع السيارة التي يرغب فيها الناس اكثر ، ليصنعها، أو منظمة سياسية تريد استطلاع رأيهم حول المنتخب المستقبل لتساومه ، أورجل يريد ان يعقد في داره مجلس وعظ

ص: 96

فيريد استطلاعهم حول الخطيب المرغوب فيه ، وهكذا .

نصوص الشريعة .. فى الراي العام

ويظهر من المطالعات الاسلامية ، اهتمام الاسلام بالرأي العام ، فقد كان الرسول (صلى الله عليه و آله وسلم) يقول :( ايها الناس اشيروا علي ) ويستطلعهم حول الحرب، وكذلك شاور (صلى الله عليه و آله وسلم) في قصة اعطاء التمر لليهود وأخذ برأي من اشار اليه بالمنع ، وفي القرآن الحكيم : « وَامرُهُمُ شُورى »(1) و « شاوِرهُم فِي الاَمرِ»(2) وورد ايضاً : ( ان علياً (عليه السلام) اذا بعث والياً، قال له اقرء كتابي عليهم فاذا رضوابك كن والياً عليهم ) وقصة استشارته (عليه السلام) في صفين ، والمرأة التى جائت شاكية اليه (عليه السلام) فعزل الوالي بشكايتها وغيرهما معروفة .

وقال علي (عليه السلام) للامة : ( فلا تكفوا عن مقالة بحق ، أو مشورة بعدل) وقال ايضاً : ( من استبد برأيه هلك ) و (من شاور الرجال شاركها في عقولها).

وقال (عليه السلام) : (لاظهير كالمشاورة) .

وقال (عليه السلام ): (ولا مظاهرة اوثق من المشاورة) .

وفي الحديث : (خذ بما اشتهر بين اصحابك ودع الشاذ النادر ، فان المجمع عليه لاريب فيه) .

ومن هذا الباب حجية العرف العام فى معانى الالفاظ ، والذي يستدل له بقوله سبحانه : «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ »(3).

وفي الكافي ان رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) قال :( انا معاشر الانبياء امرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم) الى غير ذلك، بل الاسلام يحبذ استطلا الاراء حتى فى الامور الشخصية أمثال (الزواج) كما استشار علي (عليه السلام )

ص: 97


1- سورة الشورى / 36 .
2- سورة آل عمران/ 153
3- سورة ابراهيم / 4

في زواجه بفاطمة ام البنين . (والرضاع) كما قال سبحانه :« وتشاور» ، ممايدل على سبق الاسلام بقرون ما اكتشفه المتأخرون من الغربيين من الاهتمام بالرأى العام، فان ذلك حدث عندهم فى عام (1930) م وجعل (جورج كلوب) له اسساً في عام (1935) م .

وقد يستطلع الفرد او المؤسسة ، الرأي العام بالنسبة الى الماضي، ليتخذ منه عبرة للمستقبل ، مثلا : يسأل عن الحرب(العراقية القومية مع الاكراد ) بعد انتهائها، ليظهر ايجابية اوسلبية الرأى العام تجاهها ، ليتخذ من ذلك درساً لما اذا تهيئت الظروف في المستقبل لمثل تلك الحرب، هل الافضل خوضها، او تفاديها بالتنازلات وما اشبه ؟

الرأى العام .. والعاطفة العامة

ومن الجدير بالذكر أن هناك فرقاً( بين الرأى العام) و(العاطفة العامة) فان الأول من آثار الجذور الناشبة فى الانفس، والتي تبقى مدة طويلة في الاجتماع واحياناً تكون كرواسب يرثها الابناء من الاباء اما الثاني فليس الاوليد ظروف خاصة ، تشتعل في النفوس كالنار في الهشيم ، ولا تلبث ان تزول بسرعة، أمثال الانقلابات العسكرية التي تأتي بعد طول الكبت والارهاب، فيلتف الناس حولها عاطفياً، بزعم انها جائت منقذة ، وحيث ان الثوار( على فرض اخلاصهم ، وهذا مالم نشاهده في كل الانقلابات التي شاهدناها )لايعرفون ادارة البلاد ولا يعرفون الناس حق قدرهم ، سرعان ما ينفض الناس من حولهم ،حتى لا يبقى امامهم الا السلاح والسجن، وحينذاك يظهر (الرأى العام) على حقيقته في كرههم و از درائهم والسعى للتخلص منهم .

ثم ان من الغنى عن الذكر ان الرأي العام ، له مردودان :

ص: 98

(الأول) المردود الايجابي ، وهو في الرأى العام المتفق عليه.

(الثاني) السلبي، وهو في الرأى العام المتضارب بين رأيين مثلا ، فانه و ان لم يعط الايجابية ، الا انه يعطى السلبية، بالنسبة الى الامر المخالف لكلا الرأيين فاذا كان رأيان في انتخابات هذا أو ذاك، استفيد منه عدم مساعدة الرأي العام لانتخاب الثالث المرشح ، مثلا .

(ب) والانبعاث عن القومية والوطنية، عامل آخر من عوامل تكوين الرأي العام الضاغط على الدولة ، من القاعدة ، والمراد بوحدة القوم ، انهم من نسل واحد وان كانوا مختلفي اللغات وفي أراضي ذات دول متعددة، كما ان المراد بوحدة الوطن انهم في أرض واحدة وان كانوا من نسل مختلف، وبلغات مختلفة فقد اعتاد الانسان ان ينضم الى الاخرين ، ليقوى جانب نفسه، فقد يختار آخرین من لغته ، أو من قومه ، أو في أرض محددة ، أو من دين واحد ، أوما اشبه ذلك و كثيراً ما يشتد هذا الانضمام ، أمام عدو خارجي ، أو حاجة داخلية ، كالاحتياج الى تكوين سد لحفظ الماء من جهة ري الاراضي التي تعود الى الجميع بالنفع ويلحق بهذا القسم الانبعاث من لون واحد .

انواع الانقسام

ثم ان هذا التجمع حول احد هذه الامور، والذي يكون الرأى العام :

(1) قديكون غير حاد، فيكون مطلب الرأى العام المكون من ذلك الانبعاث هو جلب النفع لنفسه ، او دفع الضرر عن نفسه ، بدون التعدى على الاخرين.

(2) وقديكون حاداً ، بأن كان معتدياً على الاخرين .

(3) وقديكون اكثر حدة ، وذلك بأن يرى التفوق لجماعته على الاخرين خلقة ، كما كان اليهود يقولون : «نحن ابناء الله واحبائه »(1) وكانوا يقولون: ان

ص: 99


1- سورة المائدة / 21

سائر الناس من أولاد البغال والحمير، وكماظهر في التاريخ الحديث (الفاشية) و (النازية) وغيرهما ، وغالباً الدول الغالبة ، كالافراد الغالبين ، يزعمون هذا الزعم ، ولذا كان السلطان يسمي نفسه بظل الله ، اذا لم يزعم انه الله ، كما قال فرعون :« ما علمت لكم من اله غيرى»(1) و كما قال نمرود : « انا احيي واميت »(2).

وقدجاء الاسلام لينظر الى الحقيقة ، فينسف كل هذه المعايير، لامرين:

( الأول)كذب هذه المعايير ، فقد قال سبحانه : « انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم».(3)

وقال رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) : ( الناس سواسية كاسنان المشط) .

وقال علي (عليه السلام) في الشعر المنسوب اليه :

الناس من جهة التمثال اكفاء ***أبوهم آدم و الام حواء

فإن يكن لهم في أصلهم نسب *** يفاخرون به فالطين و الماء

بل روى السيوطي ، عنه (عليه السلام) انه قال : ( من تعزى بعزاء الجاهلية فاعضوه بهن أبيه ولا تكنوا) فمن اين له الفخر و قد خرج من مخرج البول مرتين وهذا هو المعنى المتبادر من الحديث ودليل الكذب، وضوح ان اللغة والارض والقوم ، لاترتبط بالكمال ، فان الكمال بالنفس .

يقول الشاعر :

اقبل على النفس واستكمل فضائلها*** فانت بالنفس، لا بالجسم انسان

(الثاني) ان هذه المعايير ، توجب نضوب الفضائل ، وظهور الرذائل ، اذ الانسان الذى لا ينفتح الاعلى قومه ، أولغته ، او ارضه ، لا يتعاون مع الاخرين، وكثيراً مايزدرى بهم ، فان الانغلاق يوجب رؤية النفس فوق الاخرين ، كما قال سبحانه : «كل حزب بما لديهم فرحون»(4) ، اذ يصنع هذا الانسان المنغلق، صنماً من قوقعته يعبده من دون الله ، ومن الطبيعي ان يزدري مثل هذا الشخص

ص: 100


1- سورة القصص / 38
2- سورة البقرة / 260
3- سورة الحجرات / 13 .
4- سورة المؤمنون/ 55

بالآخرين ، ولذا قال شاعرهم: الموال :

بلادى وان جارت علي عزيزة *** وقومي وان جاروا علي كرام

خلافاً للرواية التى تقول : (خير البلاد ما حملك ) ولماذا البلاد الجائرة عزيزة ؟ والقوم الجائرون كرام ؟

ومن شعب نضوب الفضائل، عدم تقدم العلم ولا العمران، حيث ان تقدمهما رهن التعاون، والمفروض ان تقديس القوم والارض واللغة، كلها يمنع التعاون وهكذا حال اللون ، ان للابيض الحق في ان يتزوج بمن يريد ، وكذا الاسود لكن ليس لاحدهما الحق ان يرى نفسه فوق الآخرين ( وقد حدث هذا بالفعل ،في الامم غير المتدينة ، حيث ان كلا من اللونين يرى نفسه أجمل من الآخر ،و أفضل)، وقد كان من خطط الاسلام الحكيمة ، نسف كل هذه الاعتبارات ، ولذا تقدم في فترة وجيزة ذلك التقدم الهائل ، فقد قال (صلى الله عليه و آله وسلم) : ( لافضل لعربي على عجمي ، ولا لابيض على أسود الا بالتقوى) .

مالك فالتقوى معناها الفضيلة النفسية، ومن المعلوم ان الفاضل مقدم على المفضول لكن ليس بمعنى (الانانية) ورؤية النفس خيراً، بل بمعنى القيمة الذاتية، كما قال على عليه السلام : ( قيمة كل امرء ما يحسن ) وتبعاً لهذه الفلسفة الانسانية الرفيعة ، نرى رسول الاسلام صلى الله عليه و آله وسلم يجلس الى جنبه ابوذر العربي ، وسلمان الفارسي، وصهيب الرومي، وبلال الحبشي ، ويتزوج بخديجة العربية ، الى جانب مارية القبطية، وصفية الخيبرية، ويتزوج ابنه الحسين عليه السلام بشهر بانويه الفارسية، ولما قال ذلك الرجل من هذا العجمي المتصدر بين العرب ؟ نهره رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم .

ويقول علي عليه السلام لما اعطى لعربية وفارسية عطاء أب السوية: (اني لا أجد في كتاب الله فضلا لبني اسماعيل على بني اسحاق) الى غيرها من النصوص الكثيرة

ص: 101

والسيرة الوضائة التي لم يصل العالم اليها بعد ، ولن يصل الا اذا قبل رسالة الاسلام ، عقيدة وشريعة ونظاماً .

يقظة العالم الاسلامى

و لما رأى المستعمرون يقظة العالم الاسلامي بعد طول سبات ، بفعل الديكتاتوريات و الابتعاد عن تعاليم الاسلام ، نشروا فكرة القومية ، وتقديس القديم، بين الامة الواحدة لتبديد أوصالها ، فجائوا الى البلاد العربية بالقومية العربية ، والى ايران بالقومية الفارسية ، وهكذا في تركيا ، والهند ، وافغانستان، واندنوسيا، وغيرها، كما جائوا بتقديس القديم، امثال دين المجوس والفرعونية والاشورية ، والبابلية ، وما اشبه ، وهكذا جاءوا بالشيوعية ،والوجودية ،والبعثية ،ونحوها ، لقلع جذور الاسلام، وتفتيت الامة الواحدة ، هذا من ناحية ، ومن ناحية ثانية ، جائوا بالانقلابات ، ليركزوا عملائهم ، ويفعلو ما يشائون بالاسلام والمسلمين، وفعلوا ما أرادوا ، لكن المسلمين اخذوا في اليقظة من جديد وذلك بفضل عدة امور :

1- انكشاف الامر لكثير منهم ، بسبب اقتطاع فلسطين ، وجعلها يهودية ، و اقتطاع لبنان وجعلها مسيحية ، واقتطاع بلاد المسلمين في كل من

( روسيا و الصين ، وجعلها شيوعية ، واقتطاع الهند ، وجعلها وثنية ) .

2 - اشعال نار الحرب في جملة من البلاد ضد المسلمين كارتريا والفليبين وبورما ، وأفغانستان والعراق ولبنان ، واليمن ، وغيرها .

3- نهب خيرات البلاد، كالنفط و سائر المعادن بواسطة عملائهم ، نهباً لم يسبق له مثيل طول التاريخ .

4- كبت المسلمين و اذلالهم واهانتهم ، بأنواع من الكبت و الارهاب والسجون والاعدامات وغيرها .

ص: 102

5- تجزئة البلاد الاسلامية الى قطع ، وجعل حدود وهمية لها ، يحفظها عملاء لهم امام المسلمين بينما اهل الغرب والشرق يدخلون البلاد بكل حرية .

6 -فرض التخلف الزراعي والصناعي والتجارى والثقافي، على المسلمين بمختلف الوسائل والحيل.

7 - نشر الأديان المزيفة ، بين المسلمين كالوهابية، والبهائية، والقاديانية ، بقصد تفتيتهم وتضعيف شأنهم، أكثر فأكثر

8- تبديل القوانين الاسلامية بالقوانين الوضعية ، بما في الثانية من النقص والتهافت ومخالفة طبيعة البشر ، الى غيرها من الاسباب التي لا يهمنا ذكرها في هذا الكتاب .

وبذلك جدد المسلمون عزمهم لخوض الكفاح ، من أجل رفض المباديء المستوردة ، وارجاع الحكومة الواحدة ، ولذا أخذ يظهر زيف القوميات ، و كذب المباديء المستوردة ، ولم يبق امام المستعمر للبقاء في بلاد الاسلام وابقاء عملائه ، الا قوة السلاح ، وهي قوة ضعيفة أمام عزيمة الامم ، و وعيها «ولقد نصركم الله ببدر وانتم أذلة» .

(ج)واخيراً يأتي دور الانبعاث عن الاقتصاد ، الذي هو من عوامل تكون الرأي العام ، فان الاقتصاد أحد اسس الانسان في حياته الفردية والاجتماعية ، فان ماركس وان اخطأخطأ أجسيماً، حيث زعم ان الاساس الوحيد هو الاقتصاد (كما بينازيفه هنا ، وفي بعض الكتب الاخر) الا انه أحد الاسس، ويسبب تجميع الرأي العام ، في حالتين :

(الأولى) خوف انهيار الاقتصاد الموجود ، كما اذا كانت الامة تعيش على معدن ، أو زرع ، أوماء أوما أشبه ، فأخذت عوامل الطبيعة أو نحوها في نسف ذلك المورد ، كما اذا أخذ المعدن في الانتهاء ، أو الزرع في عدم الفائدة كما اذا سدت طرق حمل الحاصل الى الاسواق التي يباع فيها ، أو أخذ الماء

ص: 103

في النضوب ، أو ما أشبه ذلك ، فان الامة اذا تحطم اقتصادها ، تتحطم ، كما تحطمت سبأ ، وغيرها ، في قصص مذكورة في القرآن الحكيم ، وغيره .

(الثانية) عدم استقامة الاقتصاد ، مما يسبب الجوع والفقر والمرض والموت فيتجمع الرأي العام حول حل المشكلة ، لاجل انقاذ الامة من تلك الحالة...

ثم ان ماذكرناه من (أ، و ب ، و ج) وان لم تكن الحالات الوحيدة لتكوين الرأي العام عند الامة ، الا انها أكثرها دوراً .

التفاعل الثلاثى

بقي شيء ، وهو ان القمة والقاعدة والوسط ، يؤثر بعضها في بعض ويتأثر بعضها من بعض ، فالقاعدة تؤثر في الاحزاب والمنظمات والجماعات لتؤثر هي بدورها في القمة ، في مطالب الرأي العام، وبالعكس اذا أرادت القمة شيئاً من القاعدة والوسط غالباً، يكون جهاز امتصاص التعديل وامتصاص الضغط من الجانبين...

ولهذه الشئون كان اللازم على السياسي الاطلاع الكامل على أحوال هذه الاطراف بكل دقة .

ص: 104

مسألة : 10 بين الشخصية الانسانية وشلال التاريخ

اشارة

لاشك ان للتاريخ سيراً تصاعدياً ، يضم تحت جناحه كل شيء من الاحداث ومرادنا بقولنا تصاعدياً ليس على الاطلاق ، فان التاريخ يتعثر في سيره احياناً بل احياناً كثيرة ، كما ليس مرادنا حتمية التاريخ الذي ذكره ماركس واتباعه اذ لادليل على هذه الحتمية على الكيفية لتى ذكروها ، بل قد عرفت في هذا الكتاب وفي غير هذا الكتاب ان الادلة دلت على بطلان نظرية ماركس ، سواء في الفلسفة أو في السياسة ، أو في الاقتصاد ، بل حتى في تنباته.

فقد قال في الفلسفة، ب_ (تز) و (انتي تز) و (سنتز) أي (التقرير) في الجانب الموجب و(النقيض) في الجانب السالب ،و(التوفيق )في الوضع الجديد المتولد من الأولين، وقد ذكرنا بطلان هذه النظرية ، في كتاب الفقه : الاقتصاد. و كتاب (ماركس ينهزم) وبذلك تسقط تسمية ماركس هذه الفكرة (بالعلمية ) في قبال (نظرية (الخياليين) و (دعاة الاصلاح) و ( دعاة الانقلاب ) حيث قال : ان الأول ليس بواقعي ، وانما يصلح في عالم الخيال ، والثاني لا ينفع ، لان الاصلاح الفوقي غير منتج ، بل اللازم تغيير بنية الاجتماع، والثالث غير صحيح.

ص: 105

اذ الانقلاب بدون وصول المرحلة السابقة حد النضج ، لايؤثر في تغيير البنية وانما يغير الشكل فقط ، وبما رددناه في ذين الكتابين ، ظهران نظريته ايضاً لیست علمية ، وانما هي كسائر النظريات الخيالية، وقد دلت التجربة الشيوعية على بطلان هذه النظرية .

ماركس: لا للسياسة

وقال ماركس في الحقل السياسي : بالغاء علم السياسة ، بسبب اختفاء الدولة عاجلا ، أو آجلا، ولذا لايدرس الماركسيون السياسة دراسة مستقلة ، بل يلحقونها ببقية أجزاء النظرية الماركسية، ويدرسونها في اطارها ، واستدل لهذه النظرية بأن في المجتمع طبقتين متصارعثين (المستغلون) و(المستغلون) بالكسر وبالفتح - فاذا كانت أدوات الانتاج بيد الرأسماليين احتاج الامر الى الدولة لحفظ مصالح اولئك ازاء الطبقة العاملة ، واذا صارت الادوات ، بسبب الانقلاب البروليتاري بيد الطبقة العاملة احتاج الأمر الى الدولة لحفظ هذه الطبقة ازاء الطبقة الرأسمالية.

أما اذا صار التوزيع والاستهلاك عادلا (فالكل عمل بقدر جهده ، والكل استهلك بقدر احتياجه) اختفت الدولة تلقائياً، اذ لا تكون حينذاك طبقتان ، حتى تحتاج احدى الطبقتين الى الدولة في قبال الطبقة الاخرى .

وهذه النظرية أشبه بالخيال، فالدولة لاقامة العدل، ولتنظيم النظام ، ولتقديم الامة الى الامام ، فكيف يتسنى كل ذلك ، وان فرض مستحيلا عادياً، ذهاب الطبقية .

وقال ماركس في (الاقتصاد) بنظرية (فائض القيمة) وان القيمة الاقتصادية للسلع هي بقدر ما بذل في انتاجها من عمل - وقد سبقه الى هذا

(ديكارت) كما سبقه الى نظريته في الفلسفة (هيجل) - مع تعديل - وطبقاً لهذه النظرية ، قال:

ص: 106

بأن الرأسمالي يسرق من العمال والفلاحين ، ما هم مستحقون له بازاء عملهم وقد ذكرنا في كتاب (الفقه: الاقتصاد )وكتاب (الاقتصاد الاسلامى المقارن)بطلان هذه النظرية ، وان القيمة في قبال خمسة أشياء(العمل الجسدي، والفكري والمواد، وشرائط الزمان والمكان، والعلاقات الاجتماعية) صحيح ان الرأسمالية الغربية ايضاً باطله ، كما ذكرناه فى الكتابين ، لكن ذلك لا يعنى صحة نظرية ماركس .

وقال ماركس ، في تنباته ، بأن العالم الصناعي سوف يهدم الى الشيوعية بمعاول هدم الطبقة العاملة للرأسمالية ، ثم لم يذكر صورة العالم الخالي عن الطبقية، وكأنه كان يفترض انه على أثر استيلاء العمال على الحكم تصح الاوضاع الفاسدة . التي هي وليدة الرأسمالية بطريقة آليه تلقائية ، ومن ثم يتجمد التاريخ الى الابد ويصبح المجتمع بدون دولة ...

والتنبأ الأول لم يقع ، بل وقع ضده وهو انهدام العالم المتخلف الزراعى في روسيا ، ولم تصح الاوضاع الفاسدة ، بل ان روسيا أشد فساداً من العالم الرأسمالي ، والتاريخ لا يعقل ان يتجمد ، والحكومة لم تختف، بل صارت أشد الحكومات ديكتاتورية وطمعاً (1).

واذا ظهر عدم صحة نظرية ماركس السياسية (والتي لسنا نحن بصددها الان) نرجع الى ماكنا بصدده من ان التاريخ سيراً تصاعدياً ، لكنه ليس كل شيء . . . كما ان للشخصية الانسانية الأثر القوى في الاجتماع والاقتصاد و غيرهما - كما تقدم الالماع الى ذلك في المسألة السابقة - ويأتي هنا سؤالان :

(الاول) هل ان الشخصية الانسانية عامل مؤثر فى عالم السياسة ؟ أم عامل بسيط في شلال التاريخ الجارف ؟

ص: 107


1- راجع فى شأن ( نبؤات ماركس الاقتصادية) كتاب البروفسير ( بير بيجو ) ونحوه.

(الثاني) وهو نتيجة جواب أول شقى السؤال الاول : هل بالامكان تغيير الشخصية العاملة ، ووضع غيرها مكانها ، أم لا ؟ فاذا كانت الشخصية لها الاثر الكبير في الحياة ، لم يمكن تغييرها الى انسان آخر فليست الشخصية كالموظف العادي الذي يمكن تغييره الى موظف آخر ، أما اذا لم تكن الشخصية كذلك، بل كانت قطرة في بحر التاريخ ، وانما الاثر الكبير لشلال التاريخ الجارف كانت الاهمية للتاريخ وامكن تبديل الشخصية .

نتائج الخلاف

وفائدة هذا الاختلاف في (السياسة) هي هل ان السياسي يجب أن يجعل ثقل بحثه وعمله على الشخصيات السامية ، أو أن يجعل ثقل بحثه و عمله على التاريخ ؟ الماركسيون غالباً يذهبون الى النظرة التاريخية ، بينما جماعة آخرون من المفكرين ذهبوا الى النظرة الشخصية . . . مع ان مقتضى القاعدة ان لا نغالى باحدى النظريتين، بل نقول : ان لكل من التاريخ والشخصية دوراً كبيراً التأثير على الاخر ، فالانسان الكبير يغير مجرى التاريخ بقدر، كما ان شلال التاريخ يلون الانسان الكبير بلونه ، فبدون المؤهلات التاريخية لا يمكن ان تبرز الشخصية الكبيرة ، كما انه بدون المؤهلات الشخصية لا يمكن ان يتغير مجرى التاريخ ...

أما لماذا ذهب كل صاحب رأي الى رأيه ؟ فمار كس حيث أراد أن يعطي كل الدور للاقتصاد الصانع للتاريخ ، لم يكن يقدر على اعطاء الدور للشخصية الانسانية، ولذا جعل ثقله على التاريخ بينما كثير من المفكرين وجهوا انظارهم الى الملوك الديكتاتوريين ، والفاتحين القساة ، بل وشيئاً من انظارهم ، الى امثال الانبياء والعلماء كأفلاطون و ارسطو واشباههم ، فرأوا ان التاريخ مشى

ص: 108

في ركابهم ، وتبعهم لا العكس، ولذا جعلوا الثقل على الشخصيات وقد عرفت لزوم جعل الثقل على كلا الامرين .

أقوال فى مركزية الشخصية

ثم ان الذين قالوا بأن مركز الثقل الشخصية ، انقسموا الى ثلاث فئات:

(الأولى) من قال بأن الشخصية المؤثرة هي الطبقة الحاكمة والابطال من غير نظر الى ان الحاكم أو البطل المؤثر في التاريخ ، هل توفرت فيه اللياقة النفسية أم لا ؟

(الثانية) من قال بأن الشخصية المؤثرة هي اصحاب النفسيات الغيبية ، والتي استمدت القوة والشعلة من الغيب ، بدون ان يكون للشخصية العملية والتربوية مدخل في تكوين شخصيته .

( الثالثة ) من قال بأن الشخصية المؤثرة هي اصحاب النفسيات المرباة تربية قوية ، جديرة بأن تجعل الانسان شخصية ، فلا أثر للغيب في ذلك، وانما المؤثر ، تقوية النفس وتربيتها ، والاقدام في الامور المهمة .

ولا يخفى ان الغالب عدم انكار كل فئة رأي الفئة الأخرى ، انكاراً كلياً ، وانما الكلام في مركز الثقل حتى يكون القول الثاني قولا ثانياً ، والاختلاف المذكور ليس اختلافاً في مجرد العلميات بل له آثاره ، فاذا كان الثقل نشلال التاريخ، يكون اللازم الاهتمام بصنع التاريخ حسب القدر الممكن، كالارض اذا صلحت انبتت نباتاً حسناً .

أما اذا كان الثقل لامر غيبي لم يكن علاج بيد الانسان اذ الغيب خاص به سبحانه « وربك يخلق من يشاء »(1)

« وماتشائون الا ان يشاء الله »(2) .

نعم ، اذا كان الثقل للتربية والايحاء والتلقين والاقدام كان من الممكن

ص: 109


1- سورة القصص / 68
2- سورة الدهر / 30 .

ايجاد كل ذلك .

وكل الاراء الثلاثة مقبولة بنسبة جزئية ، أما ان الثقل لاي الاقسام ؟ فذلك بحاجة الى مطالعات دقيقة ، واحصائيات كثيرة .

نعم، لاشك في أنه لا يستوى الكل في ذاتية النفسيات ، كما لاتستوى أزمنة التاريخ ، وامكنته في الصلاحية للانماء واظهار الكفاءات، وكذلك لاتتساوى كيفية التربية، في بروز القابليات...

ثم ان المراد بشلال التاريخ ، الوف العوامل التي تحقق الانماء والاظهار من العوامل الغيبية والطبيعية والاجتماعية وغيرها، ولعل شخصاً بارزاً في التاريخ لم يكن يظهر لولا أي حزئى من الجزئيات المكتنفة بحياته ، وكثيراً ما يقرأ الانسان ، ان صفعة معلم او موت حبيب، أو غبطة التسامي، أو صدمة مفاجئة اثرت في تغيير مجاري حياة انسان ...

سمات الشخصية

ثم انه لما كان وضع اليد على بعض الصفات التي تغير التاريخ بقدرها مما يساعد السياسي في تفهم مجريات التاريخ في الماضي والمستقبل، ذكر بعض علماء السياسة، عدة من هذه الصفات، نذكرها نحن ايضاً تباعاً بدون الاسهاب وذكر الخصوصيات .

1 - فالسياسي قد يكون بطبعه محارباً ، وقد يكون مسالماً، فالاول يبقى النزاعات ويهتم لتشديدها ، بل ويخلق عداوات جديدة ، بالعكس من القسم الثانى ، حيث يقلل العداوات كماً وكيفاً ، ويسلك الطرق الاقرب الى السلم والقسم الثانى هو الذي حبذه الاسلام .

قال سبحانه : «فبما رحمة من الله لنت لهم ، ولو كنت فظا غليظ القلب

ص: 110

لانفضوا من حولك ، فأعف عنهم ، واستغفر لهم ، وشاورهم في الامر ، فاذا عزمت فتوكل على الله ». (1)

وقال سبحانه: «ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ، وجادلهم بالتي هي أحسن»(2)

وقال سبحانه :« وان جنحوا للمسلم فاجنح لها»(3).

وقال سبحانه :« ادخلوا في السلم كافة » .(4)

وقال سبحانه « ادفع بالتي هي احسن فاذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولىّ حميم ، ولا يلقاها الا الذين صبروا ، ولا يلقاها الاذو حظ عظيم »(5)الى غيرها من الايات والروايات الكثيرة والسيرة الطاهرة للانبياء والائمة عليهم الصلاة والسلام.

2 - والسياسي قد يكون صاحب نظرية خاصة ، وقد لا يكون كذلك بل يدور مع السياسة حيث ما دارت ، فالاول يهتم لتطبيق السياسة على نظريته سواء كانت نظرية دينية أو الحادية أو غيرهما، بخلاف الثاني حيث يعمل الاوفق بمزاجه، ومن المعلوم ان الاسلام يربى السياسي من القسم الأول ، حيث انه دین عقائدي ، وله في كل مسرح نظرية ، سواء كان اجتماعياً أو اقتصادياً ، أو غير ذلك ، ولا يخفى ان كلا من القسمين من السياسي قابل للانعطاف ، الاان صاحب النظرية انما يكون انعطافه في مسائل ينطبق عليها قاعدة الاهم والمهم بخلاف غيره حيث يتوخى الفائدة.

وان شئت قلت : ان الثاني انتهازي ، بخلاف الاول وقد ينطبق على الثاني قوله سبحانه : «ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا، واتبع هواه و كان امر دفرطا» (6)بخلاف الأول الذي ينطبق عليه قوله سبحانه : «وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر» (7)كما انه فرق واضح بين (قاعدة الأهم والمهم) و بين قاعدة الهدف يبرر الواسطة حيث ان القاعدة الاولى تقدم الاهم - وهي

ص: 111


1- سورة آل عمران / 153
2- سورة النحل / 126 .
3- سورة الانفال / 63
4- سورة البقرة / 204 .
5- سورة فصلت / 34 و 35 .
6- سورة الكهف / 27 .
7- سورة الكهف / 28

قاعدة عقلائية - بينما القاعدة الثانية تقدم الهدف مساوياً كان أو مرجوحاً أو راجحاً .

3- والسياسي قد يكون ثورياً، وقد يكون مصلحاً ، فالاول يريد الثورة على الأوضاع ، حتى يقلبها الى الصالح بنظره ، بينما الثاني يريد الابقاء على صلاح الاوضاع ، وان رأى خراباً أراد ترميمه و اصلاحه مثلهما مثل من يريد هدم الدار ليبنى داراً بطرز جديد ، ومن يريد تعمير بعض جوانب الدار التي وصل اليها العطب ، أما ما قد يرى من تحول الثورى الى المصلح، وبالعكس فهو معلول ان الثوري قد يحصل على النظام المطلوب له فيهتم لاصلاح الفاسد من البناء الجديد ، بينما قد يرى المصلح خراب تمام الدار فيريد بنائه من جديد على الطرز السابق .

وبما ذكرنا ظهران الاسلام يريد الثوري المصلح فى كل حال ، ثورياً بالنسبة الى الابنية غير الاسلامية ، ومصلحاً بالنسبة الى الابنية الاسلامية ، التي أصابها العطب والفساد.

نعم ، حيث ان الاسلام دين عالمي، فهو ثوري مادام هناك بناء غير اسلامي فاذا شمل الاسلام العالم كله، انقلب اصلاحياً ، قال سبحانه : «ومالكم لاتقاتلون في سبيل الله والمستضعفين» فمادام هناك سبيل الله مصدود ، ومستضعف حقه مهدور ، فالثورة مستمرة .

4- والسياسي قد يكون عنيداً، وقد يكون محنكاً فالاول يواجه المشاكل بروح التعصب والعناد ، ولا يعرف الطرق الدبلوماسية ، والحلول السياسية ، أما المحنك فهو بالعكس، يحل المشاكل من أقرب الطرق ، كالطبيب البصير الذي يداوى المرض بالعلاج الايسر الاسلم ، وقد ورد في وصف الرسول الاعظم( صلى الله عليه و آله وسلم) : (طبيب دوار بطبه ، قد أحكم مراهمه وأحمى

ص: 112

مياسمه) ولذا فالاسلام يريد تكوين السياسي المحنك الذي يدفع بالتي ه-ي أحسن ، وفي الحديث : (لووضع الرفق على شيء زانه ، ولو وضع الخرق على شيءشانه) .

والاسلام يرى القلع والقمع والبتر والقطع ضرورة، ويرى ان الضرورات تقدر بقدرها ، وفي الآية الكريمة«يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر».(1)

والسياسي العنيد وان أرضى كبريائه ، الا ان العاقبة تعاكسه، بينما المحنك وان لم يرض كبريائه في اول مرحلة، الا ان العاقبة المحمودة تحالفه. 5- والسياسي قد يكون عالمياً، وقديكون موضعياً - وليس الفارق النطق بالأمرين، فما أيسر ان ينطق الانسان بأنه عالمي ، بل الواقع والتخطيط: فالاول يخطط ، ويعمل في نطاق العالمية ، حسب الممكن ، والثاني يعمل في نطاق الموضعية ، والاسلام يرى الأول ،.

قال علي (عليه السلام) : ( الناس أما أخ لك فى الدين ، أو نظير لك فى الخلق ).

وقال : (أحب لغيرك ما تحب لنفسك ) . الى غير ذلك من المعايير العالمية التي زخرت بها الشريعة الاسلامية .

6- الى غيرهم من أقسام السياسيين الموجودين في الخارج، كالمقدام والمحجم ، والعميق والسطحي وغيرهم ، ولا يخفى ان هذه التقسيمات انما هي بالنسبة الى السياسة والساسة ، مجرداً عن اعتبار الشريعة .

أما اذا لاحظنا هذا الاعتبار ، فالسياسة اما شرعية تلاحظ الدنيا و الدين، وأما عقلية تلاحظ الدنيا الموزونة ، واما مادية تلاحظ الدنيا الشهوانية .

والسياسي ينقسم بهذا الاعتبار الى الاقسام الثلاثة، فالسياسة الشرعية تخطط السلامة الدنيا والدين، كما قال سبحانه :« ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا

ص: 113


1- سورة البقرة / 181

حسنة ، وفي الاخرة حسنة وقنا عذاب النار»(1) وكما قال (عليه السلام) : (ليس منا من ترك آخرته لدنياه، وليس منا من ترك دنياه لاخرته ) وفي كلمة اخرى قال عليه السلام : (اعمل الدنياك كأنك تعيش أبداً ، و اعمل لاخرتك كأنك تموت غداً ) .

السياسة الفلسفية والشهوانية

أما السياسة الفلسفية (اي التي ينظر اليها الفلاسنمة وأصحاب العقول المجردة عن الشريعة ) فانها تخطط السلامة الدنيا عن الاخطار والمكاره ، والتي يعيش کل انسان فيها بسلام ورفاه ، وبذلك تسقط الشهوات العاجلة ، لاجل العاقبة واخيراً يأتي دور السياسة المادية التي لاتهتم الا بالشهوات ، ومن الطبيعي ان يرتطم الانسان تحت ظل هذه السياسة ، في اوحال المشاكل والامراض والمنازعات ، اذ الدنيا محدودة ، فاذا أراد الانسان ان يسير فيها بدون ضوابط وموازين ارتطم بالحدود، ونشب الخلاف بين الافراد الذين يريدون الانتهاز من مناهلها المحدودة ، والنيل من فرصها القليلة .

ولعل الى ما ذكرناه أشار بعض علماء المسلمين في تقسيمه السياسة ، الى( طبيعية وعقلية وشرعية ( فالاولى ما تحمل الناس الى مقتضي الغرض والشهوة والثانية ما تحملهم الى مقتضى جلب المصالح الدنيوية ودفع مضارها ، والثالثة تحملهم الى ما يصلحهم في دنياهم وأخراهم، وذلك لما هو واضح من ان الاسلام دين ودنيا ، أو بالاحرى ان الاسلام يرى( الاولى والاخرى) مملكة واحدة لرب واحد ، والكل عبيده ، وبهذه النظرة وضع الخطط العامة لصلاح العبيد في ارجاء هذه المملكة الواحدة العاجلة منها والاجلة ...

وكيف كان فالسياسي الاسلامي هو الذي يضيف الى المحامد التي ذكرت فى الاقسام الستة السابقة ، المنهجية الاسلامية، في اسلوبها السياسي.

ص: 114


1- سورة البقرة /197.

مسألة : 11 موضوع علم السياسة

فرق بين (العلم) و (العلوم) فالاول له موضوع واحد ، بينما الثاني له موضوعات متعددة ، والعلم الواحد ليس علوماً، وكذلك العكس ، فعلم النحو علم واحد ، وكذلك علم الاقتصاد ، وغيرهما .

وأما اذ لاحظنا الادب قلنا العلوم الادبية ، الشاملة الصرف والنحو والمعاني وغيرها ، وبهذا الميزان يظهر ان ما اصطلح عليه جماعة من علماء السياسة القدامى بتسمية هذا العلم ب_ (العلوم السياسية) كان في غير محله ، اذ هو بمثابة ان نقول : (العلوم النحوية ) أو (العلوم (الاقتصادية اذ السياسة موضوع واحد له مسائل ، كسائر العلوم ، أما أولئك الذين جعلوا هذه التسمية ، فكان منطلق تفكيرهم، ان جميع العلوم الانسانية ، تهتم بالحياة السياسية ، بوجه أو بآخر، فليس للسياسة ميدان خاص، بل لكل علم من العلوم الانسانية، فرع مرتبط بالسياسة كالتاريخ السياسي ، والجغرافيا السياسية ، والاقتصاد السياسي ، و علم النفس السياسي، وعلم الاجتماع السياسي، والى غير ذلك، لكن هذا المنطق لا يكفي

ارنض وحدة العلم السياسي ، فهذه فروع من السياسة ، أخذتها سائر العلوم،

ص: 115

لا ان كل فرع علم .

ولذا جاء جمع من المتأخرين ، قبل اربعين عاماً تقريباً وصحوا ه-ذا الانحراف ، و ارجعوا الامر الى ما أشار اليه القدماء من كون السياسة علماً ، لاعلوماً ، فقالوا : (علم السياسة) والامر ، وان كان اصطلاحياً و ( لامشاحة في الاصطلاح) الا ان التحديد الواقعي، في الامور الاعتبارية أجدر بان يجعل الانسان لا يخطأ في مسارب تلك الامور الاعتبارية ، كما ان التحديد الواقعي ، في الامور الخارجية يحفظ الانسان من التيه .

ثم ان جمعاً من علماء السياسة حددوا موضوع هذا العلم (بالنظر ، وبالعمل) والعمل قسموه الى الداخلية والدولية) فالموضوع له أربعة فروع اساسية :

الأول : (1) يشمل النظرية السياسية .

(2) وتاريخ الافكار السياسية وانما جعلوا التاريخ من العمل، لاجل مساعدة العلم بذلك في تعليم السياسة ، وفي تمرين الذهن لاعداد العالم على التطبيق الخارجي .

الثاني : المؤسسات السياسية الشاملة :

(1) للمؤسسات السياسية المقارنة .

(2) والمؤسسات التشريعية ، كالدستور.

(3) والمؤسسات التنفيذية كالحكومة، وهذه الثلاثة بمجموعها تتحلل الى ست مؤسسات هي (الدستور ) و ( الحكومة المركزية ) و (الحكومة الاقليمية والمحلية) و (الادارة العامة) و (وظائف الحكومة الاقتصادية والاجتماعية ) و ( المؤسسات السياسية المقارنة ) .

الثالث : الأمور التي هي بمنزلة النسبة الأولى للسياسة ، حيث ان منها منطلق السياسة ، وفيها يكون النضج السياسي ، وما الى ذلك .

ص: 116

وقد قسم علماء السياسة الجدد ، هذا الى اربعة امور :

(1) الرأي العام .

(2) الفئات او الجمعيات.

(3) الاحزاب السياسية .

(4) مشاركة الانسان في الادارة، أو الحكومة، وقد تقدم في المسألة السابقة ان هذه الثلاثة - بتوحيد الثاني والثالث .. بمنزلة القمة والوسط والقاعدة، وعليه يكون التدرج السياسي من الرأي الى الفئة الى الدخول في الحكم - تنفيذاً او تشريعاً - .

لا يقال : فأين مكان (القضاء) ؟

لانه يقال : (القضاء) داخل فى قسم التنفيذ، وان لم يصطلح عليه بذلك.

الرابع : وأخيراً يأتى دور العلاقات الدولية التي هي عبارة :

(1) عن السياسة الدولية .

(2) والتنظيمات والادارات الدولية.

(3) والقانون الدولي .

ومما تقدم يظهر نقص (علم السياسة) عند من يعرفه، (بأن السياسة علم الدولة) اللهم الااذا أراد السعة في معنى تعريفه ذلك، حتى يشمل مثل الرأي العام والفئات الضاغطة ، وما أشبه ، لكن مثل هذا المعرف، للسياسة بذلك ، انما يشرح السياسة ، بما يخص الدولة فقط ، فيكون حاله حال من يخصص علم الاقتصاد ، بالنقد مثلا ، أو علم البلاغة ، بالبيان فقط.

نعم، لاشك ان أهم فروع علم السياسة (علم الدولة) ومن هذا المنطلق انطلق اليونانيون والمسيحيون والمسلمون في سالف الزمان في محور دراساتهم للسياسة .

ص: 117

(1) فالفلاسفة اليونانيون ، الذين تعرضوا للسياسة ، كان محور كلامهم الدولة المثلى ولا يخفى ان تخطئة بعض لهم ، بأنهم مثاليون لاواقعيون ، غير جدير بالاعتناء، اذهم أرادوا التخطيط لسعادة الانسان ، فمهما وصل الانسان الى ذلك المخطط كان اقرب الى السعادة ، مثالهم في ذلك مثال كل عالم و باحث يهدف اخير المطاف ، وصل اليه الانسان بسرعة أو بطوء.

(2) والمسيحيون تعرضوا للعلاقة بين الدولة والكنيسة انطلاقاً مما أثر عنهم (ما الله الله ، ومالقيصر لقيصر).

(3) والمسلمون انطلقوا من فكرة الدولة الشرعية والخلافة الالهية فالمحور عند الأولين ( الانسان ) و عند المسيحين (الله) و عند المسلمين

(كلاهما حتى جاء الساسة المحدثون ، فنظروا الى السياسة) بما انها سياسة، مبتدءاً بنشأة الدولة وسياستها ، وهذا وان كان خطأ أ عند المسلمين ، كالرأى الأول و الثاني ، الا ان لكل وجهة نظر منطلقه من خلفياته الفكرية.

ص: 118

مسألة : 12 بحوث في الدولة

اشارة

لقد تقدم الكلام حول الشخصية السياسية والمسرح السياسي، وان المسرح السياسي هو الذي يظهر فيه السياسي كرجل سياسة، كما ان المسرح السياسي قد يكون محصوراً في حدود البلاد الذي هو موطن رجل السياسة ، وقد يتعداه الى سائر الامم والبلدان .

ثم ان السياسي القدير هو الذى يتمكن من تعدى حدود بلاده ، و اعمال السياسة في البلدان الآخر ، وذلك لان السياسة كالشجرة لها جذور وكلماقلت جذور الشجرة كانت عرضة للسقوط أكثر فأكثر، خصوصاً عند هبوب العواصف ولذا اعتاد السياسيون الأقوياء على تحصيل الصداقات خارج حدود بلادهم ، والنفع حينئذ يكون متبادلا بين الجانبين فيشد احدهما أزر الآخر ، هذا بالاضافة الى ان بعضهم يشترى الصحف والرجال وما أشبه خارج ! البلاد.

وكيف كان ، فموضع الكلام حول السياسة ، في أمرين:

أ : (الدولة) .

ب : (الامة) .

ص: 119

فالامة يكون موضعها المملكة ، والدولة هي المتصرفة في كلتيهما، وربما يتعدى السياسي حدود بلاد ، الى سائر البلاد والامم - كما ذكرنا - كما ان السياسة قديكون مسرحها بين الامم ، كما تقدم في المسألة السابقة.

أما (الدولة) فهي ارقى التشكلات البشرية لادارة أمور جماعة كبيرة ، في مختلف شئونها، وكلما تقدم العلم والصناعة وكثر البشر في منطقة ، وتعقدت أحوال الامم ، كان الاحتياج الى الدولة أكثر ، حيث ان العلم يزيد حاجات البشر، والكثرة توجب تبادل العلاقات اكثر ، وتعقد أحوال الامم ، يؤثر تلقائياً على أحوال غيرهم ، وكل ذلك يرفع درجة الاحتياجات ، و بارتفاع درجة الاحتياجات يكون الاحتياج الى الدولة المنظمة لهذه الاحتياجات ، والمملية الفراغات الحاجات اكثر فأكثر.

(1) مثلا : بعد ان تدخلت في الحياة ، الماء والكهرباء و المواصلات الحديثة، واحتاج الناس الى معامل التصفية، ومكائن البرق والمطارات والمحطات وما أشبه ، زادت وظيفة الدولة ، باعطاء هذه الحاجات ، بينما لم تكن من ذى قبل.

(2) والفرق واضح بين الدولة التي تشرف على اصلاح شئون ملیون انسان وبين الدولة التي تشرف على اصلاح شئون مأة ،مليون، حيث ان الاولى تعالج مشاكل علاقات مليون ، بينما الثانية تعالج مشاكل مآت الملايين من العلاقات ، حيث ان التضاعف العددى فى الافراد لا يوجب التضاعف العددي في العلاقات ، بل يوجب التضاعف الهندسى .

مثلا : علاقة انسان واحد بآخر علاقتان من الطرفين ، أما اذا وجد انسان ثالث صارت العلاقات ستاً ، فاذا وجد رابع ، صارت العلاقات اثنتى عشرة ، وهكذا ، وكلما زاد ،فرد، زادت العلائق بالقياس السابق ، وبذلك يعرف وجه كثرة

ص: 120

الاحتياج الى الدولة ، فيما اذا تعددت الامم ، و تعقدت الظروف لكل امة ، حيث ان تعدد الامم حاله حال الثاني ، وتعقد ظروفها حاله حال الاول .

وبما تقدم ظهرت شدة الاحتياج الى الدولة، كلما تقدم العلم و و كثر أفراد البشر ..

لكن الماركسيين خالفوا ذلك ، فهم يرون الدولة أمراً عارضاً ، لم تكن في أول أزمنة البشر، حيث لا أدوات للانتاج، وانما حدثت ، عند ظهور الملكية و بروز أدوات الانتاج، حيث أخذ بعض البشر يستغل البعض تبعاً للطبقية، فظهور الدولة ، انماهو انحراف في طبيعة البشر ، والدولة هي الحافظة لمصالح الاقلية المستغلين - بالكسر - ، ضد الاكثرية المستغلين - بالفتح - واذا تمكنت الاكثرية من الاستيلاء على وسائل الانتاج ، زالت الطبقية ، وتساوى الكل في الانتاج والاستهلاك ، كل يعمل بقدر طاقته ، ويستهلك بقدر حاجته ، واذا زالت الطبقية ، زالت الاحتياج الى الدولة

نقد النظرية الماركسية في الدولة

وهذه النظرية يرد عليها امور :

الاول : ماتقدم من وجه الحاجة الى الدولة ، فليس الاحتياج الى الدولة من جهة ما ذكروا ، بل من جهة ماذكرنا من الامور الثلاثة :( 1 - 2 - 3 ) وهذه الثلاثة التي هي مبعث الاحتياج الى الدولة باقية ما بقى الانسان انساناً، وقد ذكرنا في بعض المسائل السابقة زيف نظرية الانسان المتوحش الأول ، التي ذكرها دارون وتبعه عليها ماركس وغيره ،فان العقل والنقل متطابقان على تحضر الانسان منذ ان وجد وسيبقى متحضراً الى النهاية.

الثاني : ان قولهم : (ان الدولة وليدة الطبقات المتضادة) لازمه اختفاء الدولة

ص: 121

اذا اختفت الطبقات المتضادة ، مع انا نجد عدم اختفاء الدولة في ذلك الحال ، كما اذا توحدت الطبقات أمام خطر داخلي (كالسيول ، والأوبئة ) أو خارجي كالحرب ، ففي الحرب العالمية الاولى والثانية، اتحدت الطبقات، ولم تختف الدولة، بل كان الاحتياج اليها أكثر، ولماذا حاربت طبقة العمال الالمان طبقة العمال الفرنسيين ؟ فهل الحرب كانت طبقية ، وكذا حارب المسلمون اليهود في فلسطين ، والفرنسيين في الجزائر ، وقد سببت هذه الحروب توحيد طبقات المسلمين ، ومع ذلك لم تختف الدولة، بالاضافة الى ان الشغيلة حاربت الشغيلة ولم تحارب طبقة طبقة.

الثالث: ان النزاع ليس بين الطبقتين الاقتصاديتين المستغلون - بالكسر والمستغلون بالفتح ، فقط حتى اذا اختفت اجتفت الدولة ، بل النزاع له منطلقات متعددة ، كالقومية ، والثقافة ، والدين ، والرئاسة ، وغيرها ، والدولة حيث انها الحافظة للمعدل وعدم تعدي بعض على بعض تبقى مادامت هذه المنطلقات موجودة وان اختفت الطبقية الاقتصادية .

الرابع : الدولة لاتحفظ مصالح طبقة ضد طبقة، حتى يكون وجودها رهن وجود المصالح، فاذا اختفت المصالح اختفت الدولة (نعم ذلك ممكن في الدولة المنحرفة) اذ الدولة غالباً تراعى كل الجوانب وان كانت رعايتها لبعض الجوانب أكثر ( في بعض الاحوال) فالماركسيون نظروا الى بعض الدول ثم عمموا أحوالها الى كل دولة ، مع ان من أوليات المنطق ان (الجزئي لا يكون كاسباً ولا مكتسباً) وسنذكر في آخر هذا الفصل النظرية الاسلامية حول الدولة لمزيد توضيح هذا الامر .

الخامس: لو كان تسلّم العمال لوسائل الانتاج يوجب اختفاء الطبقات (الموجب لاختفاء الدولة) فلماذا نرى فى كل البلاد الشيوعية وجود الطبقات

ص: 122

وقد مر على بعضها زهاء ثلثى قرن ، حيث ان ثورة اكتوبر في روسيا كانت سنة (17) وقد ملك العمال كل شيء - حسب زعمهم - .

السادس : لا انه لم تختف الدولة في روسيا ، وسائر بلاد الشيوعية فقط، بل ازدادت شدة وصلابة ومؤسسات ودوائر ؟ وبالسادس والخامس ظهر بطلان ما ادعوه من التلازمين (تأميم وسائل الانتاج ، لاختفاء الطبقات) و(اختفاء الطبقات، لاختفاء الدولة) .

الدولة فى منظار على عليه السلام

قال على امير المؤمنين عليه السلام ، كما في نهج البلاغة : « لابد للناس من أمير بر او فاجر (الظاهر ان المراد حاكم بر في بلاد الابرار، وحاكم فاجر في بلاد الفجار ، لان كل طائفة تنتخب من نفسها ، او كما ورد كيفما تكونوا يولّى عليكم) يعمل في امرته . المؤمن ويستمتع فيها الكافر ، و يبلغ الله فيها الاجل ، ويجمع به الفيء ، ويقاتل به العدو ، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوى ، حتى يستريح بر ، ويستراح من فاجر انتهى كلامه(عليه السلام)

وقال عبدالله بن عباس : دخلت على أمير المؤمنين (عليه السلام) بذي قار وهو يخصف نعله ، فقال لي ما قيمة هذه النعل ؟ فقلت : لاقيمة لها ، فقال (عليه السلام) : والله لهى أحب الي من أمرتكم ، الا ان اقيم حقاً أو أدفع باطلا) .

وقال (عليه السلام) :( فقد جعل الله لي عليكم حقاً بولاية امركم ، ولكم علي من الحق مثل الذي لي عليكم ، والحق أوسع الاشياء في التواصف ، وأضيقها في التناصف ، لا يجري لاحد الاجرى عليه ، ولا يجرى له الاجرى عليه ، ولوكان لاحد ان يجرى له ولا يجرى عليه ، لكان ذلك خاصاً لله سبحانه ، دون خلقه لقدرته على عباده، ولعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه، ولكنه سبحانه

ص: 123

جعل حقه على العباد ان يطيعوه ، وجعل جزائهم عليه مضاعفة الثواب ، تفضلا وتوسعاً بما هو - من المزيد - أهله.

ثم جعل سبحانه من حقوقه ، حقوقاً افترضها لبعض الناس على بعض ، فجعلها تتكافيء في وجوهها ، ويوجب بعضها ، بعضاً ولا يستوجب بعضها الا ببعض .

وأعظم ما افترض الله سبحانه من تلك الحقوق، حق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي، فريضة الله سبحانه ، لكل على كل ، فجعلها نظاماً لا لفتهم ، وعزاً لدينهم ، فليست تصلح الرعية الابصلاح الولاة ، ولا تصلح الولاة الا باستقامة الرعية فاذا أدت الرعية الى الوالي حقه ، وادى الوالي اليها حقها عز الحق بينهم ، وقامت مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل ، وجرت على اذ لالها السنن ، فصلح بذلك الزمان ، وطمع في بقاء الدولة ، ويئست مطامع الاعداء .

واذا غلبت الرعية واليها ، أو أجحف الوالى برعيته ، اختلفت هنالك الكلمة ، وظهرت معالم الجور ، وكثر الادغال في الدين ، وتركت محاج السنن ، فعمل بالهوى ، وعطلت الاحكام، وكثرت علل النفوس، فلا يستوحش بعظيم حق عطل ، ولا بعظيم باطل فعل ، فهناك تذل الابرار ، وتعز الاشرار ، وتعظم تبعات الله سبحانه عند العباد .

وسأله (عليه السلام )رجل : العدل أفضل أم الجود ؟فقال عليه السلام : العدل يضع الامور مواضعها ، والجو يخرجها من جهتها، والعدل سائس عام والجود عارض خاص ، فالعدل اشرفهما وأفضلهما .

وقال (عليه السلام) :( الحق القديم لا يبطله شيء ، والله لو وجدته (اي المال المغصوب) قد تزوج به النساء ، وملك به الاماء لرددته ، فان في العدل سعة ،

ص: 124

و من ضاق عليه العدل ، فالجور عليه اضيق).

وقال (عليه السلام) : (أما والذي فلق الحبة وبرء النسمة لولاحضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر ، و ما أخذ الله على العلماء ان لا يقاروا على كظة ظالم ، ولاسغب ،مظلوم ، لالقيت حبلها على غاربها ، و لسقيت آخرها بكأس اولها ولا افيتم دنيا كم هذه أزهد عندي من عفطة عنز) .

وطلب منه (عليه السلام) ، بعض ان يعمل حسب القاعدة المعروفة : (الغاية تبرر الواسطة )؟ فقال (عليه السلام): (أتأمرونني ان أطلب النصر بالجور ؟ و الله ما اطور به ما سمر سمير، وام نجم في السماء نجماً ، لو كان المال لي لسويت بينهم ، فكيف وانما المال مال الله) .

وقال عليه السلام : (وليس امرء - وان عظمت في الحق منزلته ، وتقدمت فى الدين فضيلته - بفوق ان يعان على ما حمله الله من حقه ، ولا امرء - وان صغرته النفوس وأقمحته العيون - بدون ان يعين على ذلك ، أو يعان عليه .

فلا تكلمونى بما تكلم به الجبابرة ، ولا تتحفظوا منى بما يتحفظ عند أهل البادرة ، ولا تخالطونى بالمصانعة، ولا تظنوا بى استثقالا في حق قيل لي ، ولا التماس أعظام لنفسى، فانه من استثقل الحق ان يقال له أو العدل ان يعرض عليه ، كان العمل بهما أثقل عليه، فلا تكفوا عن مقالة بحق ، أو مشورة بعدل) .

وقال عليه السلام فى كتابه الى عامله باذربایجان : (وان عملك ليس لك بطعمة ، ولكنه فى عنقك امانة ، وانت مسترعى لمن فوقك، ليس لك ان تفتات في رعيته).

وقال (عليه السلام) ، في مرسومه العام فانصفوا الناس من أنفسكم، واصبروا لحوائجهم ، فانكم خزان الرعية ، ووكلاء الامة ، وسفراء الائمة).

وفي عهد الامام (عليه السلام) الى مالك الاشتر حين ولاه مصر :

ص: 125

(واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم ، فانهم صنفان ، أما اخ لك في الدين ، أونظير لك في الخلق ... ولا تقولن اني مؤمر آمر فاطاع ، فان ذلك ادغال في القلب ومنهكة للدين وتقرب من الغير ... فان حقاً على الوالي ان لا يغيره على رعيته فضل ناله ، ولا طول خص به ، وان يزيده ما قسم الله له من نعمة دنواً من عباده وعطفاً على اخوانه) .

وهنا نكتفى بهذا المقدار من كلام الامام عليه السلام ، لكفايته في عرض النموذج الذي نحن بصدده ، وان كانت جملة من الايات والروايات الواردة عن الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين عليهم الصلاة والسلام بهذا المعنى كثيرة وسيأتى الكلام حول بعضها.

ص: 126

مسألة : 13 بحوث في الامة

اشارة

وأما (الامة) فهي الجماعة التي ربطت أنفسها بعضاً ببعض ، لمصير واحد فلهم علائق متبادلة ، سواء كانت لهم لغة واحدة أو عدة لغات ، أو دين واحد ، أو عدة أديان ، وهكذا ، وقد تقدم في بعض المسائل السابقة ، وجه توحيد الامة وسبب تمايز بعضها عن بعض ، وان لعلماء السياسة( الالمان والفرنسيين) رأيين مختلفين في هذا السبب ، وسيكون الكلام في هذا الصدد في اربعة أمور :

(الاول) الفرق بين الامة والناس .

(الثاني) ظهور الامم في طول التاريخ ، واختفائها .

(الثالث) العناصر التي تشكل الامم.

(الرابع) المكان الجغرافي المحدود الذي تعيش فيه كل امة بما انهاامة واحدة.

(أما الاول) : فالناس أعم من الامة لان الامة لا تطلق الا على مجموعة ربطت مصالحها بعض ببعض ، بحيث توحدت في وحدة ما ، وتمكنت ان يتفاعل بعضها في بعض بنوع من التفاعل ، وجعل العلائق بينها ، ولها اطلاقان باعتبارين :

ص: 127

( الأول ) الاطلاق المرتبط بالحدود الجغرافية ، فيقال : الامة الهندية - في قبال- الامة التركية- مثلا .

(الثاني) الاطلاق المرتبط بالحدود الدينية ، فيقال: الامة الاسلامية - في قبال الامة المسيحية مثلا، ومن الواضح ان الامة بأي من الاعتبارين يلاحظ فيها وحدة خاصة ،ويكون بينهما عموم من وجه على الاصطلاح المنطقي- فالامة الهندية تشمل الامة الاسلامية وغيرها، والامة الاسلامية ، تشمل الامة الهندية وغيرها .

أما بين (الناس ) و ( الامة فعموم مطلق ، اذ (الناس) اوسع مفهوماً من الامة نعم قديتحدان مفهوماً ، بسبب الاضافة ، فيقال( الامة العربية ) و(الناس العرب). وحيث ان الغالب صياغة كل شيء من فلسفة نظرية خاصة ، اختلفت الاصطلاحات فى الامة ايضاً، مثلا : (الاجتماع) و(الاقتصاد) و (السياسة) قد تصاغ من (فلسفة الدين) وقد تصاغ من (فلسفة القومية) وقد تصاغ من (فلسفة الجغرافيا) فان المفكرين يجعلون فلسفة لانفسهم ، ويرجعون كل الانظمة الى تلك (الفلسفة فالمتدين) مثلا يلاحظ في المسائل الاقتصادية الحلال والحرام، بينما( القومي) يلاحظ ماذا ينفع قومه ، وماذا لا ينفع ؟( و من ينطلق من الفلسفة الجغرافية) يلاحظ ما ينفع الذين يعيشون في هذا القطعة الخاصة من الارض .

و أما من وضع فلسفته على اللون - كما في افريقيا وأمريكا - فانه ينطلق من فلسفة وجوب الاهتمام بهذا اللون دون ذاك، فيضع اقتصاده على طبق تلك الفلسفة، ولذا تجد افكاراً اقتصادية متعددة في مكان واحد، فالمسلم في العراق مثلا ، ينطلق من الاقتصاد الاسلامي ، بينما القومي ينطلق من الاقتصاد للامة العربية ، وهكذا الملاحظ للحدود الجغرافية الخاصة ، ينطلق من الاقتصاد العراقي .

ص: 128

أقول : حيث ان الغالب اختلاف صياغة المسائل ، من فلسفات خاصة ، كان اصطلاح (الامة) ايضاً مما تأثر بهذه الصياغات، فقد يلاحظ فيها (الدين) فيقال: (الامة الاسلامية) من دون نظر الى اللغة والحدود الارضية، وقد يلاحظ فيها اللغة ، فيقال (الامة العربية) من دون نظر الى الدين والحدود الارضية، وقد يلاحظ فيها الارض ، فيقال :( الامة المصرية) من دون نظر الى الدين واللغة .

وقد ظهر بما تقدم ، ان الاطلاقات المختلفة ، ليست مجرد اصطلاحات وانما يترتب على ذلك الابنية الفوقية التي تبنى على هذه الفلسفات التي انطلقت منها الصياغات المتعددة، وكثيراً ما يقع الخلط والمغالطة ، لعدم اهتمام الشخص في صياغاته بالمنطلقات والاسس الفكرية .

تكون الامة المسلمة

ولا بأس في المقام أن نشير - في مثال الرابطة بين المنطلقات الفكرية ، و بين العمل ، في تكوين الامة ، في قبال سائر الامم - الى الامة الاسلامية ، و التي يقاس عليها سائر الامم ، في كيفية الارتباط بين المنطلق الفكري لها، وبين تكونها امة واحدة ، لاجل ذلك المنطلق ، فالاسلام بنى امته على (العقيدة بالتوحيد) اذاً( فالارض ومافيها كلها لله ) و (الناس مخلوقون الله) و (التشريع لله) و( الجزاء على الله) حيث يجازى المحسن بالاحسان ، واما المسىء ، فان شاء عفى عنه وان شاء عذبه - والمشيئة حسب المصلحة ، لا اعتباطية فيهما -.

و من هذا المنطلق بنى الاسلام على (الصلاة) و (الصوم) و(الحج) و(الزكاة) و (الولاية) فالصلاة لدوام الارتباط مع الله ، والصوم المسيطرة على النفس، ومن الواضح ان النفس مبعث الخيرات والشرور ، فان جوهر النفس اذا صلح صلحت النفس والبدن ، و المحيط الاجتماعي، والمحيط الطبيعى، والحج لاجتماع المسلمين حتى يحلو امشاكلهم ويتشاوروا فيما يقدمهم ويهيئوا الاسباب

ص: 129

لانقاذ المستضعفين ، ولاعلاء كلمة الله ، والزكاة مال لابد للنظام منه ، والولاية (بشقيها) قيادة الاصلح ، فان القيادة اذا كانت صالحة رشيدة ، صلحت الامة واذا لم تكن كذلك وقعت الامة في مهاوى الضلال والانحطاط، والمراد بشقيها (الشق المعين الذى انتهى دوره الظاهر ، وان بقيت القيادة في حال ستار ، لفلسفة مذكورة في مسألة الامام الغائب (عليه السلام) ) و ( الشق المنطبق) على كل احد توفرت فيه المواصفات الشرعية ، ورضاية أكثرية الامة ، كما ذكرناه في كتاب (الحكم في الاسلام) .

واذ قد ظهر (المنطلقان : الأول ، والثاني) للاسلام ، ظهر كيف تكونت الامة الاسلامية - التي نحن بصددها - فالامة هى كل من يؤمن بالله الواحد ، ويتمسك بشريعته المنزلة على خاتم أنبيائه محمد (صلى الله عليه و آله و وسلم) وقد قرر في الشريعة (ان الاقليات التي تعيش في بلاد الاسلام، ملتزمة بشروط الاسلام ، تعيش في أمن وسلام ، من جهة نفسها وعرضها ومالها).

وعلى هذا الاساس ، فالمسلمون كلهم اخوة ، ولهم حقوق وواجبات متساوية (الا ماخرج لفلسفة خاصة، كالرجل والمرأة وما أشبه، في بعض الاحكام) فلافضل للغة على لغة ، ولاللون على لون ، ولا لقطر على قطر ، ولا لعرق على عرق ، ولالمكانة اجتماعية على غيرها ، فالعربي والعجمي والابيض والاسود والعراقي والمصرى ، وبني تميم وبني ساسان ، ورئيس الدولة وكناس البلدية كلهم سواء امام القانون الالهى، والمفاضلة (بالتقوى) وليست تلك المفاضلة ، في ان يشمل القانون احدهما دون الآخر ، وانما المفاضلة عند الله ، فكلاهما متحد الحكم بالنسبة الى العبادات والمعاملات والاحوال الشخصية والجنايات والكفاءات ، أليس الههم واحد ؟ واليست شريعتهم واحدة ؟ فلماذا التفاضل بغير الكسب ؟ «لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت »(1) و «لهن مثل الذى عليهن بالمعروف »(2) .

ص: 130


1- سورة البقرة / 286
2- سورة البقرة / 228

حكومة واحدة لكل المسلمين

ومن هذا المنطلق تتكون الدولة الاسلامية الواحدة لكل مسلمى العالم ،حيث قال سبحانه :«ان هذه امتكم امة واحدة»(1) وحيث( ان الاتحاد قوة) وقد قال سبحانه : «واعدوا لهم ما استطعتم من قوة»(2) الى غير ذلك من الادلة المذكورة في محلها ، فالمسلم في كل بلاد الاسلام مواطن، له جميع حقوق المواطنة ، لا تفصله عن سائر المسلمين حدود جغرافية ، ولالغة ، ولالون ، ولاغير ذلك.. بل الاسلام يقول فوق ذلك : ان كل البشر ، في كل الارض (اما اخ لك في الدين ، اونظير لك في الخلق) فالتفرقات : لغة ، وقوماً ، وحدوداً كلها مصطنعة وانما الفارق الوحيد هو (الدين) وذلك (لا اكراه فيه ) وانما منطق و استدلال و اتباع للافضل الذي دل عليه البرهان ، ولذا قال سبحانه « ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن»(3) الى غيرها من الايات والروايات بهذا الصدد.

والفرد المسلم - ضمن هذه الامة الواحدة ذات المبادىء المنطقية -أخذه وعطائه وسفره واقامته وابداء رأيه بمختلف وسائل الاظهار ، وعمله أي عمل شاء من زراعة وصناعة واكتساب و عمل جسدی او فكرى او غير ذلك، كما انه حر في ان يملك ما يشاء من الارض وغيرها ، بشرط عدم الغصب وعدم الضرر بالاخرين باى نحو من الوان الضرر ،وعدم أخذ الفرصة من الاخرين على ما ذكرنا تفصيله في (كتاب الاقتصاد).

ولا يخفى ان (هذا المنطلق الصحيح) المبني عليه (تلك الشريعة الكاملة) و الذي انطبق كثير من بنودها في زمان الاسلام ،الاول كان هو سر دخول الناس دين الله أفواجاً ، وامتداد دولة الاسلام الى أقاصي الارض صحيح ان الامويين

ص: 131


1- سورة الانبياء / 92
2- سورة الانفال / 62 .
3- سورة النحل / 126

والعباسيين وأشباههم، كانوا لا يطبقون الاسلام على أنفسهم وذويهم ، الا ان الخط العام في البلاد كان الاسلام ، مثلا : لم يكن الحد الجغرافي ، واللسان واللون ، والعرق ، مفرقاً بين لون ولون ، وكان العلماء حفظة الشريعة ، ولذا كانوا مضطهدين من قبل الخلفاء (الملوك) وكذا كان القضاء ونحوه بأيديهم ، و كان الحكم على عمومه مستقى ، من الكتاب والسنة والاجماع والعقل ، اى من الاطار الاسلامي -على اختلاف الاجتهادات داخل هذا الاطار - وكانت الحريات متوفرة ، فالناس مسلطون على أنفسهم وأموالهم ، يتحرك أحدهم من أقاصي البلاد الاسلامية الى أقاصيها ، بدون مانع أورادع ، يعمر كيف شاء وكذلك كانت شئونه ، التجارية، والزراعية ، والصناعية ، وغيرها .

التقدم الاسلامي

لما رأى الناس احترام الانسان ، تحت لواء الاسلام، بينما لم تكن توفر لهم هذا الاحترام، سائر الاديان والانظمة الموجودة في ذلك الوقت ، ورأوا صحة العقيدة والشريعة ، بالاستدلال والمنطق ، أخذوا يتهافتون على الاسلام ولم يقف دون الناس فى دخولهم في الاسلام ، كل المناقشات العقائدية التي صاغها علماء سائر الاديان والمذاهب ضد الاسلام ، لانها كانت مناقشات واهية لا يتمكن الالتزام بها حتى من أصحابها ، وكذلك لم تنفع كل الاتهامات السياسية التي صاغها سياسيو الدول الكافرة، لتوقيف مد الاسلام، أمثال الاتهام بأنه دين

السيف ونحوه ، لان الاتهام - كما يقال - سهل ولكن اقامة الدليل عليه صعب فقد رأى الناس ان حروب النبي (صلى الله عليه و آله وسلم )كانت - كلها دفاعية و بعض الحروب الاخر بعده صلى الله عليه و آله وسلم ، وان كانت هجومية الا انها كانت هجوماً على الحكام الذين كانوا ضد الشعوب ، لاجل منعهم

ص: 132

عن الظلم -والمعيار في كل زمان هم الشعوب، لا الحكام الظلمة، فرأت الشعوب كذب الاتهام ، ولذا لم تمتنع عن الدخول في الاسلام .

وبعد ان كان المسلمون يأخذون بزمام البلاد، لم يكونوا يظهرون التعصب بل يجعلون نفس أهل البلاد حكاماً ، كما صنعه الرسول الاعظم صلى الله عليه و آله وسلم، وبعده كان كذلك على الاغلب، واذا كان الحاكم يأتى من طرف الدولة ، كان يحتف به العلماء والشعراء والمثقفون من أهل البلاد، ليكونوا جهاز ضغط على الحاكم، ان أراد بالمسلمين أو بغيرهم من الشعب سوءاً .

ثم لم يكن الحكام يجبرون الناس على الاسلام ، فقد كان قانون : (لا اكراه في الدين)(1) هو الحاكم في هذا السبيل ، أخذاً من النبي صلى الله عليه و آله وسلم حيث لم يجبر لا اسارى بدر ، ولا أهل مكة، ولا أهل طائف ، ولاغيرهم من الذين وقعوا تحت سلطته ، على ان يسلموا ، بل كانوا يدعون الامر للشعوب أنفسهم ان شائوا أسلموا وأقاموا الصلاة وأدوا الزكاة وان شائوا بقوا على دينهم وأدوا الجزية ، في قبال توفير الدولة لهم الحرية والامن (الحرية والامن الذين لم تحلم الشعوب بمثلهما قبل ذلك) .

كما لم يكن الحكام يجبرون الناس على تغيير لغتهم ، وانما غير بعضهم لغتهم ، كأهالي العراق ومصر ، وما أشبه ، تلقائياً، حباً لهم بالاسلام ولغته ، و انما لم يغير البعض الاخر لغته ، كأهالي ايران والهند ، لانهم رأوا بامكانهم الجمع بين اللغتين : المحلية والاسلامية ، ولذا نبغ فيهم حفظة لغة الاسلام . على غرار ما نبغ فيهم من حفظة دينه ، أمثال صاحب القاموس أمثال صاحب القاموس والكلينى(رحمۀ الله علیه).

هذا كله بالاضافة الى ان الشعوب رأوا ان الاسلام فتح باب العلم وربى العلماء وحسن أحوالهم الاجتماعية والاقتصادية والعائلية - بالاضافة الى تحسين أحوالهم السياسية - بمابهر الابصار، ومن الطبيعي ان الناس يلتفون حول النور

ص: 133


1- سورة البقرة /257

أينما وجدوه ، فقد كان رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) بحر العلم الذي لا ينزف ، والقرآن يفتح على الانسان آفاقاً بعيدة من المعرفة المتجددة، والامام علي (عليه السلام )كان يقول : (سلوني قبل ان تفقدوني) وقد أحصى التاريخ ان اماماً واحداً من الائمة عليهم الصلاة والسلام ألقى من العلم على أربعة آلاف تلميذ (أو عشرين ألف تلميذ) ما تمكن التلاميذ بسببه من تأليف أربعمأة كتاب في مختلف العلوم، والتى منها الكيمياء والفيزياء و الطب والنجوم وغيرها ، كما احصى التاريخ ان تلاميذ الأئمة من الامام علي (عليه السلام) الى الامام العسكري (عليه السلام) ألفوا ما لا يقل من ستة آلاف وستمأة كتاب( اى ما يقارب كتاب واحد في كل عشرة أيام) لمدة مأتي سنة ، هذا بالاضافة الى سائر الكتب التي ألفها آخرون من العلماء .

وهكذا ، بهذه الأوصاف، وتحت هذه الظروف تكونت الامة الاسلامية الواحدة .

ص: 134

مسألة : 14 ظهور الامم واختفائها

اشارة

(الثاني) من الامور الاربعة في مادة (ب) بحث ظهور الامم في طول التاريخ ، والتي شكلت المسرح السياسي ، في كل زمان ومكان وبهذا الصدد نقول : ان تأسيس الامم ابتدء منذزمان آدم عليه السلام ، حيث انه جاء الى العالم ، بحضارة سماوية ، كما اتفقت على ذلك الاديان خلافاً لغيبيات (دارون وماركس) وأتباعهما ، حيث زعم الأول ، التكامل في الخلقة ، وزعم الثاني التكامل فى الحضارة ، فكلا المذهبين غارق فى الغيبيات بدون اساس ، لان دارون قال بكيفية خلق الانسان : كما قال بماينتهى اليه الانسان من الشكل حسب نظريته فى التكامل وهل هذان الا امران غيبيان بدون دليل ؟ وماركس قال بتدرج الحضارة ، ثم جمودها في المستقبل على الشيوعية العالمية ، وهل هذان الا امران غيبيان بدون دليل ؟ بل الادلة العلمية نسفت كل ما ذكره هذان الاثنان حول ماضي الانسان وحضارته وحول مستقبل الانسان وحضارته .

أما الالهيون الذي قالوا بالانسان الاول ، والحضارة الأولى ، ويقولون بانتهاء الحضارة والانسان ، فقد أقامو الذلك أدلة علمية ، لا تستند الى الغيب فقط

ص: 135

والادلة العلمية تنتهى الى المنطق المبني على أوضح البديهيات وهى (قانون التناقض) المبني عليه (استحالة ظهور المعلول بدون علة) - لانه يستلزم كون الشيء واجباً ممكناً في آن واحد فالفرق بين (غيبيات دارون وماركس) وبين (علميات المتدينين) كالفرق بين من يقول :

(ألف الكتابي الفلاني حصاة لاشعور لها ولاعلم ولاقدرة) وبين من يقول: (ألفه عالم قدير) فمع ان كليهمالم ير المؤلف الا ان قول الأول خلاف العقل ، وقول الثاني وفق العقل ، وحيث ان هذا البحث خارج عن مرمى النظر السياسي ، نتركه لمحله .

وانما نرجع لنقول ، لاشك ان الحضارة التي نعيشها الان ، التي تشمل الامم بهذه الصورة الفعلية، انما هي وليدة التدرج، ولامنافاة بين وجود الخطوط العامة لحضارة ، وبين ان الجزئيات والتفاصيل كانت ولائد الازمنة المتتالية ، وقد قسم بعض علماء التاريخ عهود البشر ، الى أربعة أدوار : ( العهد القديم ) و(القرون الوسطى) و (العصر الحديث) و(العصر الحاضر) ولا يخفى ان هذا التقسيم فيه نوع من الانانية ، اذ (العهد القديم)الذي جعلوه عصر التوحش، قول بدون دليل، بل قد ظهر في الحفريات ما ينسف هذا الرأي ، حيث دل على وجود حضارة راقية المبشر ، في نفس الازمنة التي ذكروا انها عهد قديم كما ان القرون الوسطى والتي قالوا انها عنها مظلمة ، انما يصح بالنسبة الى الغربيين ، لا بالنسبة الى أجزاء أخر من العالم، كان يحكمها المسلمون ، وبذلك ظهر ، ان التقسيم المذكور ، ناش عن رأي أنانى يرى النفس فوق الاخرين ، و كل حزب بمالديهم فرحون» .

نعم هنالك اصطلاح ، على جعل العهد القديم ، مبتدءاً من عشرين قرناً قبل ميلاد المسيح عليه السلام ، اي قبل أربعة آلاف سنة تقريباً ، وعدم وجود الحضارة القوية في هذه الحقبة يدل عليه التاريخ .

ص: 136

العلماء

وكيف كان ، فالعهد الأول ينتهى الى سنة (395) بعد الميلاد ، ثم تبتدء القرون الوسطى من (395) م حيث موت (تئودوز) وتنتهي في عام (1492)م حيث اكتشفت امريكا، لمرة ثانية بواسطة( كرستف کلمب )- حيث ان امريكا اكتشفت قبل ذلك بواسطة رجل يسمى (احمد) ، كما ذكره جمع من المنقبون في التاريخ، ولعل المكتشف الثاني مشى على خريطة المكتشف الاول أما العصر الثالث فيبتدء من ذلك العام وينتهى بعام (1789) م حيث الثورة الفرنسية حيث يبتدء الزمان المعاصر ، والذي دام الى الان ، وكما كان الامر بالنسبة الى القديم) و (الوسطى) مشتملا على الانانية كما عرفت كذلك الامر بالنسبة الى (الجديد ، والمعاصر) حيث قد عرفت كيف أنهم أسسوا الاساس على كشف

( امريكا) وثورة (فرنسا) .

وعلى هذا ، فالأمر بحاجة الى بحث علمي نزيه، لتقسيم الادوار التاريخية حسب الحضارات والامم ، وقد تعرض لذلك جمع من علماء المسلمين ، وتقسيمهم أقرب الى النزاه التاريخي، والبحث العلمى، وحيث ان تفصيل ذلك خارج عن مهمة البحث ، نتركه لمظانه وانما نقول ان( الامة)- والتي نحن بصددها الان - مفهومها فى الحال الحاضر ، غير مفهومها في الأديان ، حيث ان العهد الحاضر لا يقيم للدين وزناً ، ولذا فالامة عبارة عن القومية الخاصة ، أو الذين يعيشون فى مكان جغرافى خاص ، أو ما أشبه ذلك ، بينما الامة - في اصطلاح الاديان - هو كل من قبل ذلك الدين مثل ، الامة المسيحية ، والامة الاسلامية .

الاديان . . . والدول

الاديان السماوية عامة، وخصوصاً الاسلام - الذي يكون أقرب الى المطالعة

ص: 137

لقرب عهده - كانت تكون الامم، وتغير جذور حياة الانسان ، التي كانت ناشبة في عروق الفرد والمجتمع ، وذلك لان الدين السماوي بطبعه حيث يبنى على المصلحة الانسانية - يقلع جذور المناهج المبنية على مصلحة القوم ، أو اللغة، أو الحدود الجغرافية ، فمثلا : جاء الاسلام ، حيث الامم المتشتتة ، التي حكم التشتت لا بين اللغات والحدود والقوميات والالوان فحسب، بل وحتى حكم بين الامة الواحدة ايضاً، فالعرب قبائل متحاربة، مع وحدة قوميتها ولغتها وحدودها الارضية، والفرس طبقات حتى فى تحصيل العلم، حتى ان سواد الناس كان يحظر عليهم التعلم كما يظهر ذلك من قصة (درفش كاوه) وغيرها والعلماء مضطهدون.

حتى ان ألف سنة من تاريخ فارس منذ تأسيسه الى ظهور الاسلام لم يظهر فيه الا رجلان لهما الاسم والشهرة الواسعة ، واضطهد كلاهما ، احدهما نبي المجوس الذي ورد عن علي عليه السلام انهم قتلوه و احرقو اكتابه ، والثاني (بوذرجمهر) الحكيم المشهور، الذي سجنه (هرمزد) سنتين في صندوق داخله محددات ، ثم أمر بصلبه عارياً .

ولم يكن حال الروم أحسن ، فقد كانت التفرقة والاضطهاد من أظهر سماتهم- كما ذكرت احوالهم في تواريخ بهذا الشأن- وقدجاء الاسلام ، بكل المعايير الانسانية، بالعكس تماماً من الجاهلية، ولذا انضوي تحت لوائه مختلف الاديان والشعوب، بسهولة فائقة ، فاول ما انضوي تحت لوائه قبائل العرب ، ثم الفرس واهالي سوريا وفلسطين والحبشه ، ومصر والبربر وغيرهم ، اى العالمان المتحضران ، حيث ذهبت الدولة الفارسية بكاملها ، و تحولت الى الدولة الاسلامية .

أما الروم فلم يتحول كله ، وذلك لانهم اعتزوا بما كان فيهم من اثارة علم ، بالاضافة الى ان الامويين ، وقد تسلموا اريكة الحكم، لم يهتموا بالاسلام، بل

ص: 138

ضربوه ، فلم يعرف العالم الغربي لارونق الاسلام المنهاجي، ولا أسوة الاسلام العملية ، فان الناس قد جبلوا على النظر ، في المنهج ، ثم التطبيق ، فاذا كان المنهج سليماً ، والتطبيق جذاباً ، انجذب الناس اليه ، أما اذالم يكن احدهما، كان الانجذاب ضعيفاً ، فكيف اذا ما كان كلاهما مفقوداً ، وقد اورثت الثقافة الاموية الدخيلة بواسطة علماء البلاط، سلب الاسلام رونقه ، اما العمل الاموى فكان نسخة أخرى أو أقسى من نسخة ما عند الروم وغيرهم ، فلماذا ينجذب الناس الى الاسلام والحال هذه ؟

ولذا فقد تشتت الامة الواحدة فى زمان الامويين وان لم يظهر التشتت على السطح لشدة بأسهم وقامت السلطة الزمنية مكان السلطة الدينية ، وان تزيت احياناً زي الدين ، الخداع ، وبذلك هيئت الظروف للثورة الداخلية ، التي قام بها العباسيون ، و للغزو الخارجي من الغرب تارة ، تحت لواء الصليب، ومن الشرق اخرى ،تحت لواء الالحاد ، وهكذا تحولت تلك الامة الواحدة النقية المنهج والسيرة الى امة في ثنايا التاريخ ، وأوراق الكتب، ولولا محاولة الائمة عليهم السلام ، ايقاف الثقافة الدخيلة من الامويين والعباسيين (داخلا ) والغرب والشرق (غزواً) لكان الاسلام اليوم غير ظاهر الملامح، وأصابه ما أصاب الاديان السماوية السابقة، وقد تقدم ان تلاميذهم اخرجوا الى العالم كتباً بمعدل كتاب واحد في كل عشرة ايام - تقريباً - مدة قرنين من الزمن ، ومحاولات التجديد من العلماء والدول ، وان تعددت لارجاع الاسلام ، الى حالته الاولية و ارجاع المسلمين الى الامة الواحدة ، الاانها لم توفق الى الان لذلك، وعمدة السر في عدم التوفيق عدم وجود الوعي الكافي بين المسلمين الى الان.

ولقد كان هذا مثالا من أمثلة تكوين الامة الواحدة ، كما كان مثالا لتفتت الامة الواحدة ، الى امم ، فقد كان الذين دخلوا في الاسلام امماً ، ثم تحولوا

ص: 139

من جهل الداخل، وكيد الكفار والمستعمرين من الخارج ، الى امم، يجمع افرادها، لواء القومية تارة ، ولواء الشيوعية اخرى، ولواء الحدود الجغرافية ثالثة ، ولواء اللغات المختلفة رابعة ، وهكذا ، فبينما كان على عليه الصلاة والسلام، يحكم رقعة شاسعة من الارض بلغات، وقوميات ، وما أشبه ، تحولت تلك الرقعة الان الى خمسين دولة ... ولم يكن التجمع تحت لواء العرب ، حيث يحلو للشرق والغرب، تسمية الاسلام بالعرب ، الالامرين :

الاول : احياء الاصل العربي في قبال سائر الاصول ، حتى يرى المسلم ان الاصل هو كونه عربياً ، لاكونه مسلماً ، فيدافع عن العرب لا عن

العربي المسلمين .

الثاني : الفصل بين المسلمين بعضهم عن بعض ، فلماذا يحن الباكستاني والاندنوسي والايراني والتركي وغيرهم على الدين الذى جاء لمجد العرب ، ولتحطيمهم ؟ واخيراً لاروابط ولا وحدة بين المسلمين حسب هذا المنطق - عليه فاللازم على المسلمين ان يعوا امكان رجوع الامة الواحدة اذا وفروا في أنفسهم عناصر الارجاع، وامامهم منذ نصف قرن تلاحم الامة الروسية ، في حكومة تستوعب مأتين وخمسين مليون ، وتلاحم الامة الهندية في حكومة تستوعب ثمانمأة مليون ، وتلاحم الامة الصينية في حكومة تستوعب ألف مليون، مع وجود التناقضات الهائلة بين محتوى كل هذه الحكومات ، والامة الاسلامية ذات ألف مليون مسلم، ليس لهم حتى عشر تلك التناقضات.

ص: 140

مسألۀ: 15 العناصر التي تشكل الامم

اشارة

الثالث من الامور الأربعة في مادة (ب) بحث العناصر التي تشكل الامم ورؤوس هذه العناصر امران :

(الاول) العنصر المعنوي .

(الثاني) العنصر المادي .

ففى الاول : يكون سبب تكون الامة وحدة العقيدة، فلا اعتبار لسائر الموازين وهذا ما يوجد في الاديان ، حيث ان العقيدة الواحدة تكوّن الامة الواحدة.

نعم قديكون أهل الدين يعتقدون بقومية الدين فالدين لايكون الوحدة الجامع بل الدين والقوم الخاص يكونان معاً جامعاً، كما في اليهودية المنحرفة ، حيث انهم يدعون ان دينهم خاص بهم، فلا يقبلون دخول انسان في دينهم، ولاشك انه تحريف . حيث ان الادلة دلت على ان دين موسى عليه السلام كان عالمياً، ولذا كان عليه السلام من اولى العزم - كما ثبت في علم الاعتقاد - والظاهران هذا التحريف دخل في دينهم، لاجل شدة ارادة انطوائهم على أنفسهم حيث ان مبادئهم التي وضعوها فى التوراة والتلمود ، لم تكن تنسجم مع الناس ،

ص: 141

فاضطروا الى الانطواء، واورث الانطواء زعمهم قومية الدين حتى لا يدخل فيهم داخل يطلع على اسرارهم ، وربما كان الدخول بعنوان التجسس ، فرأوا من الافضل اختراع مبدء قومية الدين

كيف تتكون الامة على العنصر المادي ؟

أما في الثاني اى كون سبب تكون الامة العنصر المادى ، فقد اختلفوا فيه على أقوال :

(1) كون الاصل الواحد هو سبب تكون الامة الواحدة فالمشتق من الاصل العربي-مثلا -أمة والمشتق من الاصل الحبشى امة اخرى وهكذا، وهذا ما ذهب اليه جماعة من علماء فرنسا و المانيا ، قبل هتلر ونفخ فيه هتلر لاغراض سياسية .

(2) كون الاقتصاد المشترك هو سبب تكون الامة الواحدة سواء كان منبع الاقتصاد الماء ، أو المعدن أو الزرع أو غيرها ، فالناس المجتمعون على هذا الاقتصاد والمنتفعون به يشكلون امة واحدة قال فرعون :« اليس لى ملك مصر وهذه الانهار تجرى من تحتى»(1) و كان سد مأرب سبب وحدة امة سبأ فلما انهدم السد تفرقوا الى غيرهما من الامثلة للمصلحة الواحدة التي تتجمع لديها اناس وهؤلاء حيث لابد لهم من التزاوج وتنظيم العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والجنائية والعائلية ، وغيرها بينهم :

هذه العلاقات والانظمة ، تصهرهم في بوتقة واحدة وتجعل منهم امة واحدة ، ولذا اذا انهدمت تلك المصلحة الاقتصادية تفرقوا ، وتفككت الامة الى ان تزول من الوجود، لتجمع اشلائها في أعضاء امة جديدة ، أو امم جديدة اذليس معنى تحطم الأمة عدمها، بل معناه ذهاب سماتها، ولذالم ينعدم الاشوريون والفينقيون والكلدانيون وغيرهم، بل اضمحلت وحدتهم، ودخلوا تحت وحدات

ص: 142


1- سورة الزخرف / 50

جديدة .

(3) كون تجمع عوامل متعددة سبباً لتشكيل امة واحدة وهؤلاء بين من يرى ان (القومية) و (اللسان) و (الدين) هي المقومات الاساسية لتكوين الامة الواحدة ، وهم جملة من علماء السياسة وبين من يرى عدم كفاية تلك فقط، بل اللازم اضافة العامل( الاقتصادى) و(التاريخي) ونجوهما الى تلك العوامل ، وهم جملة من علماء السياسة الفرنسيين ، فانهم يرون المسير المشترك والمصير المشترك، والحروب والاحزان والاعياد و الافراح، والانتصارات والانكسارات هي التي توحد الافراد والمجتمعات وتجعل منهم وحدة واحدة .

ولا يخفى ان عوامل متعددة تتجمع حتى تشكل الامة الواحدة ، أهمها المعنويات - حتى عند المنكرين للمعنويات كالشيوعيين - اذلا نقصد بالمعنوية الا المثل التى يؤمن بها جماعة من الناس سواء كانت تلك المثل مستمدة من العقل والبرهان أو من الاوهام والسفسطات، وبعد المعنويات تأتى الماديات ، كالامور المتقدمة في (2-3) لكن ليس كل واحد من تلك الامور مما لابد منه ، بل يتبادل بعضها مكان بعض ، مثلا قد تكون القومية ، وقد تكون اللغة ، وقد تجتمعان -من باب منع الخلو، على اصطلاح المنطقيين -.

ولذا فالاقليات التي تريد الاستقلال السياسي قد توفق لذلك حيث تتجمع فيهم عوامل الامة الواحدة وقد لاتوفق حيث لا تكون كذلك ، ولذا نشاهد ان بعض الامم الكبار التي تتجزء بعض اجزائها تستقل في امة واحدة ذات استقلال سياسي ، وبعضها لاتستقل كذلك ، وربما تساعد العوامل الاجنبية في اضفاء الامة الواحدة وعدم أضفائها ، على الجزء المذكور ، وانفصال جزء عن امة واحدة الى الاستقلال أصعب من انضمام جزء ضعيف مستقل الى امة كبيرة لان الامة الكبيرة بامكانياتها الكثيرة تتمكن من هضم الامة الصغيرة في نفسها، بينما قد

ص: 143

لا يتمكن الجزء الذي يريد الانفصال من الاستقلال لعدم توفر امكانيات الامة المستقلة لها ، فمثلا : الجزء الذي يريد الاستقلال ، بحاجة الى المثقفين والسلاح ، والمال ، والمراكز ، وغيرها وكثير أما لا يتوفر له كل ذلك ، بينما اذا ارادت امة كبيرة هضم عضو ضعيف تمكنت ان تشمله بكل المقومات المذكورة .

وأحياناً ينفصل عضو من امة ، لكن عدم توفر الامكانيات له ، يجعله ضعيفاً في سيره الى الاستقلال الذاتي ، ولذا يسير الى الفناء حتى تصطاده امة قوية فيهضم في داخل تلك الامة القوية ، وبالعكس فاحياناً يتصل عضو قوى بامة كبيرة ، لكن امكانياته المتوفرة تجعله ينفصل عن الامة الكبيرة بعد مرور زمان ، وفي العصر القريب انفصلت فيتنام الى جزئين ، ثم اتصلت واتصلت سوريا بمصر، بمصر، ثم انفصلت، وكوريا واليمن ، والمانيا، المجزئات تحاول الرجوع الى الوحدة، كما ان البلاد الاسلامية المنهضمة في روسيا والصين، وايرلندا المنهضمة فى بريطانيا ، تحاول الانفصال .

ومن ذلك يعرف ، ان محاولات الاتصال يلزم ان تكون عن تخطيط تحتّى الموحدة ، كما ان محاولات الانفصال ، يجب ان تكون عن تخطيط تحتّى للانفصال، ومن الواضح ان كلا القسمين من التخطيط يشتمل على جانبين ايجابي الى الهدف ، وسلبى عن الأمر المرغوب عنه ، فاللازم في محاولة الاتصال ،التخطيط لايجاد عوامله ، وكذلك التخطيط لازالة عوامل الفرقة، وبالعكس فى محاولة الانفصال .

التفكير السياسي الموحد

ونوعية التفكير السياسي ، هي اهم عامل لاضفاء التوحيد ، أو الانفصال

ص: 144

اذ التفكير السياسى هو الذي يستوعب جميع مقومات التوحيد ، ومقومات التجزئة - سواء المقومات الايجابية أو السلبية - .

ولا يخفى ان من أهم عوامل وحدة الامم، عامل الاستقامة الفكرية والرفاه المادى ، كما ان من أهم عوامل تجزئة الأمم عامل الانحراف الفكرى ، والجشوبة المادية فان حال الاجتماع حال الفرد ، فكما ان الفرديتطلب دائماً صحة الفكر ورفاهة الحياة ، كذلك الاجتماع ، ولذا الامم الكبيرة التي تريد هضم الامم الصغيرة في نفسها ، تسبغ عليهم أولا نوعية ثقافتها وكيفية تفكيرها، وثانياً تعدهم بالتحرير ، فان صدقت التفت حولها الامم الصغيرة بسرعة وبقوا في داخلها بل انصهروا فيها انصهاراً كاملا ، وان كذبت كان الأمر بالعكس.

ولذا نرى الامم دخلت في الاسلام بسرعة حيث ان فكره مبني على المنطق والعقل ، والقرآن الحكيم أشار بالعقل ودعى الى التعقل وطلب من الناس اعمال فكرهم ورويتهم ضاربين بالتقاليد عرض الحائط ، وفي نفس الوقت دعى الى (الحرية) و (الرفاه) وتحكيم (الكفاءات) فقال سبحانه : « يضع عنهم اصرهم والاغلال التي كانت عليهم».(1)

وقال سبحانه : «من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق».(2)

وقال تبارك وتعالى :« ان أكرمكم عند الله أتقاكم».(3)

وقد كان سبب تحطم العالم المسيحى هو عكس ذلك تماماً ، فتعقد الفكر المسيحي المحرف - الذي يبتدء بكون الواحد ثلاثة ويكون الثلاثة واحداً وضغط الكنيسة على كل أنواع الحرية والرفاه والكفاية كان سبب تحطمه السريع.. و نفس هذا السبب موجود الان في العالم الشيوعي، حيث تنباعن تحطمه السريع مما يظهر بوضوح من :

(1) تنازلاته الكثيرة عن مبدء ماركس .

ص: 145


1- سورة الاعراف / 156
2- سورة الاعراف / 30 .
3- سورة الحجرات / 14 .

(2) وانقاذ الغرب له في الحرب العالمية الثانية .

(3) وتقوية امريكا له بالتكنلوجيا والقمح لبقائه الى الان.

(4) وأخذ رومانيا ويوغسلافيا وبولندا والصين في الانفلات .

(5) والاضطرابات الداخلية التي اخذت تهددها بالانفجار، وذلك بسبب توفر عاملي التجزئة فيه :

(أ) حيث ابتناء عقيدته على مصادمة العلم والعقل ( بصحة التناقض) و (باللاءات الخمسة) : لادين ، لاأخلاق ، لاعائلة ، لاحرية ، لاملكية .

(ب) وحيث ان مثل هذه العقيدة المطبقة بكل قسوة، لاتدع مجالا لابسط أنواع الرفاه والحرية والكفائة .

ص: 146

مسألة : 16 الحدود الجغرافية للامة

اشارة

الرابع من الامور الاربعة في مادة (ب) مو بحث المكان الجغرافي للامة الواحدة ، ونقول بهذا الصدد :

(1) انه من الممكن ان تكون الامة الواحدة بدون مكان جغرافي وذلك لعوامل سببت تشتت الامة الواحدة، سواء كانت تلك العوامل نابعة من داخل الامة، أو من خارجها، كما فى اليهود الذين عاشوا زهاء أربعين قرناً بلامملكة واحدة، وقد كان ذلك نابعاً من داخل أنفسهم، حيث انهم انتهازيون، فلا يتمكن ان يعيش بعضهم مع بعض في مكان واحد ، اذ من طبيعة الانتهازي المستغل التصادم، و التصادم يخالف وحدة المكان الجغرافي ، وبسبب هذا الامر نفسه أيضاً كانوا يعيشون بين الامم في قواقع ، وكلما ظهر استغلالهم لتلك الامم التي عاشوا بينها ، اخرجهم أهل البلاد، كما أخرجوا من روسيا ، وبريطانيا والمانيا ، وبعض البلاد الاسلامية وغيرها .

أما تجمعهم الحالي في فلسطين المغتصبة ، فشيء لايدوم، وقد ظهر الان ولما يمر على دولتهم ثلث قرن ، آثار الانشقاق والنفاق والتخاصم بينهم وأثر

ص: 147

ذلك على هجرتهم من هذه البلاد زرافات زرافات ولولا الضبط الشديد للدولة الغاصبة لهم، لكانت الهجرة باعداد أكبر ، بالاضافة الى انضمام الغرب والشرق -بكل وسائلهما - لبقائهم هناك ليكونوا رأس رمح الاستعمار في جسم الامة الاسلامية ، لكن القسر لايدوم واليهود ما داموا متمسكين بمبادئهم (تبقى طبيعتهم التجزئية) وصدق الله سبحانه حيث قال :« الا بحبل من الله وحبل من الناس »(1) فاذا غيروا مبادئهم الى مباديء الله ، خرجوا عن الذلة ، وكذلك اذا قواهم الناس فيما لو بقوا على مبادئهم - قالوا : والواو في الاية المباركة بمعنى (أو) مثل : الكلمة اسم وفعل وحرف - .

(2) كما انه من الممكن ان تكون للامة الواحدة عدة أماكن جغرافية ، كما في المسلمين الان، وذلك لعوامل داخلية، كقلة الوعي، أو خارجية كتشتيت القوى الكبرى الخارجية للامة الواحدة وقد اجتمع كلا الامرين في الوقت الحاضر بالنسبة الى الامة الاسلامية الواحدة مما لسنا نحن الان بصدد تفصيله .

اماكيف يتحد المكان الجغرافى للامة، حتى تكون امة واحدة ؟ فذلك لان من عادة الانسان ، ان يتزاوج ، للشهوة وللنسل وللتقويى بالاولاد ، وللتعاون والدين ولغير ذلك مما ذكر في (علم الاجتماع) وتكوّن العائلة ينتهي بالاخرة الى وحدات ،قبائلية كبيرة أو صغيرة، أما ثابتة في مناخ ملائم، ذي ماء وهواء وعشب على سيف البحار ، وضفاف العيون والانهار غالباً ، وهذه المقومات للحياة العائلية والقبلية ان دامت طول السنة سكنوا ذلك المحل في بيوت طينية ونحوها وان كانت المقومات فصلية صاروا رحلا للاستنفاع بالمكان المناسب لكن كونهم رحلا ، لا يدوم فحيث توجد الثقافة للحياة ذللوا الطبيعة حتى تلائم بقائهم في المكان الواحد دائماً حيث ان السفر بطبعه صعب ، فينزع الانسان الى الاستقرار .

ص: 148


1- سورة آل عمران / 108

فاذا صارت هناك في رقعة فسيحة من الأرض وحدات عائلية ثم قبلية تأخذ في النمو البشرى ، والزراعي وما أشبه ، ثم تأخذ العلائق بين تلك العوائل والقبائل في النمو والتشابك وهذان الأمران :

(1) النمو المادى.

(2) النمو المعنوى أول نواة للامة الواحدة فان تلك القدرات الصغيرة والمتجمعة في شكل وحدات عائلية أو قبلية تتبدل تدريجياً الى قوة واحدة لها مقومات خمسة أساسية :

مقومات الدولة

(الاول) ان حدود المناطق تتبدل الى حدود الدولة ، فبينما كان لكل قدرة صغيرة حدود خاصة بها ، في القرية ، أو فى المدينة الصغيرة ، أوما أشبه تتخد تلك القدرات فى وحدة جغرافية كبيرة تضم كل تلك الحدود.

(الثاني) ان قوانين تلك المناطق ، والتي كان لكل منطقة قانون خاص بها، في باب العائلة ، وباب الجنايات ، وباب المعاملات ، وسائر الابواب ، تتحول الى قانون واحد يعم الجميع ، وربما لا يقدر القانون الواحد ان يفرض نفسه كوحيد في الميدان، فيكون القانون العام الجديد، الى جانب القوانين السابقة فلكل من المتخاصمين أو المتعاملين ، أو نحوهما: ان يرجع الى اي قانون يشاء من القانون العام أو القانون الخاص ، كما هو الحال في بعض القوانين ، مثلا في الاسلام يحق للاقليات الرجوع الى قوانين أنفسهم في امورهم . كما يحق لهم ان يرجعوا الى القانون العام للامة الاسلامية.

(الثالث) ان اقتصاديات القدرات الصغيرة تتحول الى اقتصاد عام شامل للجميع ، فالبحر الذي في جانب ، والمعدن الذي في جانب ، والغابة التي في

ص: 149

جانب ، وهكذا لايختص بأهل جانبه - كما كان كذلك قبل تكون الحدود الجغرافية الموسعة بل الجميع يشتركون في الجميع بكيفية أو بأخرى حسب الموازين الاقتصادية التي جعلت منهاجاً للعموم من رأسمالية أو اشتراكية أو شيوعية أو اسلامية أوغيرها .

(الرابع) ان المجتمعات الصغيرة تتحول الى مجتمع كبير في تقاليده واعرافه وعاداته ، مثلا كانت بعض المجتمعات الصغيرة تجعل أعيادها وأحزانها ومناسباتها في أيام أبطالها ولما تحولت الى المجتمع الكبير لم يعد لتلك المناسبات معنى لانها أصغر من مناسبة الامة الكبيرة فولادة ابن رئيس القبيلة ليست قابلة لان يحتفل الشعب كله لاجلها وكذلك موت أخ الرئيس أو انتصار القبيلة على قبيلة اخرى ليس له أهمية على مستوى الامة ، فكل هذه تلغى تلقائياً، ويأخذ مكانها يوم الاستقلال ويوم اخراج الاجنبي من كل تلك الرقعة الكبيرة من الارض الى غير ذلك كما ان تلقائية الاندماج لكل بعض في المجموع يجدد العلاقات في مناسبات اخرى فالزواج من بنات القبيلة ليس احتكاراً على شباب القبيلة ، كما ان دعوة التأبين للموت لا يكون خاصاً بأفراد القبيلة ، وهكذا فالتقاليد والاعراف والعلاقات كلها تجدد على مستوى المجموع لاعلى مستوى كل قطعة قطعة .

(الخامس) توسيع الشبكات الادارية ، فالجباية للمال ، والانخراط في الجيش، ودوائر القضاء وكيفية صرف المال على المشاريع العمرانية والثقافية والصحية وغيرها تكون على مستوى الامة في حدودها الجغرافية الجديدة بينما كانت في السابق على مستويات صغار اذ العقل المفكر (وهي الدولة) يكون عقلا لكل الجسم ويدير كل الجسم، لا كالسابق الذى كانت لكل قبيلة ونحوها دائرة صغيرة تهتم بشئون القبيلة مثلا وحينئذ يكون التقسيم حسب العدل ، لا

ص: 150

حسب قدرة القبيلة وضعفها ، مثلا : كانت موارد قبيلة كذا تمكنها من جعل قاض واحد لالف انسان بينما القبيلة الاخرى لكثرة مواردها تتمكن من القاضي الواحد لكل خمسمأة إنسان وحيث صارت الوحدة يكون التقسيم . النفوس وعدد القضاة فلكل سبعمأة وخمسين قاض واحد .

هذه هي أهم المقومات التي تتبدل حسب التبدل الجغرافي فالاطارات الصغيرة للجماعات الصغيرة كلها تنتهي لتعطي مكانها للاطار الكبير للامة في حدودها الجغرافية الجديدة ...

ومن الجدير بالذكر ان نقول : انه حسب النمو البشري وسرعة الاتصالات (مما سببت سرعة اتصال البشر بعضهم ببعض) وتفهم البشر بعضهم لبعض لابد وان يحدث تحولان جديدان عند الشعب :

(الاول) التحول الى الفهم الاصلح ، فإذا كان أحدهم يعتقد ان (لارب) والاخر يعتقد بأن هنالك (ربيّن) والثالث يعتقد (برب واحد) لابد ، وأن ينتخب المجموع الاقرب من هذه الاراء الثلاثة الى العقل والمنطق حيث ان الانسان بطبعه ميال الى الاخذ بالاصلح وكذا الكلام فى سائر الشئون كالمناهج الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتربوية وغيرها ، وكما يحق لاديسون - يوم اكتشف الكهرباء ان يقول : ستغزو الكهرباء العالم لان تفوق طبيعة الكهرباء على المصباح النفطي يوحى بذلك وهكذا بالنسبة الى تقدم الطائرة على الدابة والباخرة على القوارب الشراعية، الى غير ذلك كذلك يحق للفكر الاصلح ، ان يقول : بأن فكره سيغزو الافكار الآخر حيث انها تعطي مجالها للفكر الاصلح ، ومن هنا يكون مفهوم الاية الكريمة : ليظهره على الدين كله طبيعياً الى جانب كونه غيبياً، وفى الاحاديث الشريفة كثرة تدل على ذلك.

(الثاني) توحد العالم في حكومة واحدة ، بكل مقومات تلك الحكومة

ص: 151

الواحدة من اقتصادية واجتماعية وسياسية ،وغيرها لان بلدان العالم - اليوم - مثلها مثل تلك القبائل المتناثرة ، التي تنتهي . الى حكومة واحدة ، فكما ان الإطارات الصغيرة تتحطم لتعطي مكانها للاطار الكبير ( الذي هو الدولة) كذلك اطارات الدول تتحطم لتعطي مكانها للاطار الكبير الذي هو العالم ، وليست المحاولات الكثيرة ، من الأمم لجمعها في وحدات ، مثل جامعة الدول العربية والوحدة الافريقية ورابطة العالم الاسلامى، وتجمع دول عدم الانحياز ، أو لجمعها في وحدة واحدة كالامم المتحدة ، الاطريقاً الى تلك الوحدة الحقيقية ، وقد بشر بذلك الدين الاسلامي في أحاديث متعددة، ومسألة قرب ذلك اليوم أو بعده منوطة بالرشد الفكري للانسان ، فحينما حصل ذلك الرشد ، تحولت الدول الى دولة واحدة.

وحين هذا التحول الواسع، تكون الامور الخمسة السابقة، حسب الاطار العالمي ، فلا حدود لبلد ، وتكون القوانين لكل البلاد ، والاقتصاد الموحد للجميع ، والمجتمع يكون بسعة العالم ، والشبكات الادارية تستوعب كل الكرة الارضية .

ولنرجع الى ما طرحناه في أول المسألة من المكان الجغرافي للامة، فنقول ان المكان الجغرافي الواحد للامة له حدود خاصة ، توجب اموراً ثلاثة :

(الامر الاول) ان الحدود ليست خاصة بالارض ، بل الحدود تشمل الفضاء ايضاً دائماً ، وقسماً من البحر - فيما كانت الدولة مطلة عليه - وتعين الحدود الدولية ، بواسطة القوانين الدولية التى تطبقها لجان خاصة من العلماء ، وبعد ان عرفنا سابقاً انه لاحدود بين المسلمين اطلاقاً ، فكل أرض الاسلام بلد لكل مسلم ، وان هذه الحدود كلها مصطنعة ، عاملها الجهل الداخلي والاستعمار الخارجي ، نقول : كل مسلم لابد له ان يهتك هذه الحدود ، حسب امكانه ،

ص: 152

لانه من باب دفع المنكر والنهي عنه ، فالواجب على المسلمين خرق قوانين الحدود ، وليس من يدخل بلداً آخر من بلده ، بدون المراسيم متسللا، وانما هو فاعل لما هو حقه الطبيعي ، كمن يدخل من غرفة من غرف داره الى غرفة اخرى واللازم تخصيص التقيد بالمراسيم الحدودية، بصورة الاضطرار، والا كان المقيد بها فاعلا للمنكر ، حاله حال من يأكل الميتة في حال الاختيار .

الحدود بين بلاد الاسلام وبلاد الكفر

وأما بالنسبة الى الحدود بين بلاد الاسلام وبلاد الكفر، ففيه أمران :

الاول: ما كان الكفار سيطروا عليه، وهو من بلاد الاسلام، كروسيا المسيطرة على الجمهوريات الاسلامية ، وكاليهود المسيطرين على فلسطين ، وهنا حال القطعة المغتصبة المسيطر عليها الاستعمار ، حال سائر قطع بلاد الاسلام ، فلا حدود بين الاردن وفلسطين المستعمرة - بالفتح - و كذلك لاحدود بين افغانستان و تاجکستان المستعمرة - بالفتح - فان حال القطعتين حال غرفتين لعائلة واحدة ، غصب احداهما غاصب.

الثاني : مالم يكن كذلك ، امثال لندن وباريس ، وفيه - تختلف الاحكام فهو ( باعتبار) أرض الكفر ، لها أحكام أرض الكفر ، مثل : أحكام اللقطة و أحكام الاموات وأحكام اللحوم وما أشبه ذلك ، و (باعتبار) أرض الله الفسيحة التي منحها لعباده المؤمنين فلهم التمتع بما يشائون منها ، ولا احترام لقوانين الكفار بالنسبة الى تجزئتها .

نعم ، يستثنى من ذلك ما لو كانت بين الكفار و بين المسلمين معاهدة ، فاللازم على المسلمين احترام تلك المعاهدة، وذلك لان دليل الوفاء بالعهدبين الحكومة الاسلامية وبين الحكومة الكافرة وارد على دليل : حل ما في الأرض

ص: 153

ودليل : كل شيء مطلق ، وغيرهما من الادلة، كما هو واضح .

ومما تقدم، ظهر ان الحدود الفضائية والحدود البحرية حالهما حال الحدود الارضية ، التي تعين من قبل الدول ، لا احترام لها اطلاقاً الافي مورد المعاهدة فقط، مع قيد ان تكون المعاهدة من قبل الدولة الاسلامية المشروعة لا مايسمى بالدول الاسلامية ، فان الاسلام لا يقبل كون الدولة اسلامية الابشرطين من :

(1) كون قانون الدولة قانون الاسلام .

(2) وكون رئيس الدولة رجلا يرضاه الاسلام وترضاه أكثرية الامة كما ذكرناه في كتاب (الحكم في الاسلام)- و بدون هذين الشرطين فكل أعمال الدولة غير نافذة ، والمسلمون أحرار فيما يفعلونه في نطاق الاحكام الاسلامية اي انهم لا يقيدون بمقررات الدولة، وفي مثل هذه الدولة لا احترام لاموال الدولة بل هي من قسم مجهول المالك المرتبط بالحاكم الشرعي .

مقررات الدولة الاسلامية

أما مقررات الدولة الاسلامية الشرعية ، فالواجب اتباعها ، وان كان بعضها خلاف بعض الاحكام الأولية، لامن جهة اطلاق ولاية الفقيه ، فان ولاية الفقيه لیست مشرعة، بل اللازم على الفقيه كغيره ان يسير في النطاق الاسلامي، وانما يلزم الاتباع في ما كان خلاف الاحكام الأولية، من جهة الحكم الثانوي النابع من الاضطرار ، وملاحظة الاهم والمهم ، وما أشبه ذلك ، مثلا : يحرم عمل العشار ، ويحرم العشر والمكوس في الاسلام ، فإذا رأى الفقيه الرئيس للدولة جعل الحدود على الاقتصاد الذي يدخل من الخارج أو يخرج من الداخل ، لانه اذا لم يجعل ذلك سبب هجوم الاقتصاد الاجنبي مما يسبب تضرر بلاد الاسلام و افلاس المسلمين ، جاز ان يجعل ذلك من باب الاضرر، وقاعدة الاهم والمهم

ص: 154

وغيرهما ، وحينئذ يجب اتباعه وكان المال المأخوذ عشراً حلالا للدولة ، ويدل عليه الادلة المذكورة والتي منها ماقاله على عليه السلام -كمافي الكافي- من انه لم يتقيد ببعض الاحكام، خوفاً من انهدام عسكره .

لكن مثل هذا الحكم الثانوي لا يكون قانوناً، بل يبقى حكماً ثانوياً مقدراً بقدره ، لقاعدة : الضرورات تقدر بقدرها ، فاذا ارتفعت الحالة الثانوية ، الزم على الفقيه ارجاع الامر الى ماكان ، ولو لم يرجع لاشتباه ونحوه انتهى مفعول أمره بالنسبة الى الحكم الثانوى، حاله حال ما اذا علم اشتباه الفقيه ، وقد قال صلى الله عليه و آله وسلم : ( فقد اقتطعت له قطعة من النار ) - كما في كتاب القضاء - .

ومما تقدم يظهر انه يلزم ان يكون القانون الثانوي مجعولا من قبل الفقيه أو نائبه ، فحكم النائب حكمه، كما ان حكم والي الامام عليه السلام حكم الامام فلا يتقيد الأمر فى جعل القوانين الثانوية بمباشرة الفقيه بنفسه.

الامر الثانى ان الحدود الجغرافية للدولة تميز الدولة عن الدولة الاخرى سيادتها على أراضيها من جهة (المكوس ) و( حدود الدخول والخروج ) و (المنابع) و (المياه) و (امكانية العمل) حيث يصح لها ان تزرع هنا دون هناك وتبنى هنادون هناك الى غير ذلك ، واذا أرادت ان تؤجر قسماً من حدودها أو تعطيها مجاناً لدولة اخرى مدة من الزمان ، لقاعدة عسكرية أو ما أشبه ، كان لها ذلك ، ولا يضر ذلك باختيارها ، اذا كان الايجار ونحوه ملأ ارادتها.

(الامر الثالث) ان الحدود الجغرافية، تميز الشعب عن باقي الشعوب، فالساكن فيها خاضع لاوامر هذه الدولة سواء كان مواطناً ، أولا ، وقد تقدم ان الاسلام لا يجعل الناس درجات، فالمسلمون كلهم اخوة والأقليات كلها لها حكم واحد، فليس هناك مسلم ل-ه الدرجة الأولى ، وآخر له الدرجة الثانية ، وثالث اجنبي

ص: 155

مقيم في البلد، كما هو الحال في الدول، سواء منها مايسمى بالدولة الاسلامية أو التى لا تسمى بهذا الاسم، فان هذه القوانين قوانين كافرة ، يجب محوهاعن بلاد الإسلام .

وقد عرفت ان الحدود الجغرافية ، لاقيمة لها في بلاد الاسلام اطلاقاً وانما القيمة الوحيدة للمعاهدة التي يبرمها البلد الاسلامى الشرعى مع البلد الكافر، تكن هذه الحدود الموجودة الان الى قبل القرن السابع عشر المسيحى ، وانما نظمت الحدود بهذا الشكل منذ ذلك الزمان، وذلك تبعاً لضيق النظر العربى في تحطيم الحريات الانسانية...

ولو رجع الغرب الى العقل ( ولو لم يأخذ بالاسلام) يجب عليه الغاء الحدود ولورجع فى وجه الانسان وانما يجوز عقلا الحدود اذا كان اضطرار ، والافلماذا تقيد حريات الانسان ؟ ويكون أسوء من الطيور والبهائم وما أشبه ؟ فاللازم ان يكون الانسان حراً اينما سافر وسار ، وكيفما استفاد من الارض وخيراتها ، وحيثما تاجر ، وللدولة ان تأخذ الضرائب ممن وجدته فى بلادها عند حيلولة وقت الضريبة ، ومن الواضح ان (بلادها) غير (الحدود) .

وحيث لسنا الآن بصدد الاستدلال لبطلان القانون الغربي بتحديد (البلاد) وانما مهمة هذا الكتاب ، الموضوع السياسي فقط، نترك الأمر في الحدود صحة وبطلاناً ، الى موضعه ، ويكفى ان نلمع ان الحدود منذ القرن السابع عشر (م) قد أوجدت للانسان مشاكل جمة ، لم يكن لها قبل ذلك عين ولا أثر .

ص: 156

مسألة : 17 القدرة الانسانية وآثارها في الحقل السياسي

اشارة

البحث حول القدرة بحث طويل، لا يهمنا في هذا الكتاب الابقدر ارتباطه بالسياسة ، فنقول : البحث فى القدرة حول امور :

(الاول) ان القدرة تنقسم الى ايجابية وسلبية( فالقدرة السلبية) عبارة عن المقاومة ، وهذا ما يأتى من كل شيء يقاوم حياً كان بقسميه ذى الحياة الارادية - الانسان والحيوان - وذى الحياة غير الارادية ، أى النبات ( أو لم يكن حياً كالجماد بأقسامه الثلاثة :( السيال ، وغير السيال ، سواء كان السيال كالماء ، أو كان كالهواء ) فان في كل هذه الامور قدرة المقاومة ، وحتى السيال الاولى ( كالهواء) يقاوم النور ونحوه بنحو من انحاء المقاومة، ووجه تسمية هذا القسم من القدرة بالسلبية ،واضح ، حيث هي حالة فى الشيء لولاها لم تحصل تلك المقاومة. ومما ذكرنا يظهر انالم نصل الى جوهر القدرة، ولم نعرف حقيقتها، ولذا كان تعريفنا لها بمنزلة (الرسم) لا (الحد) على الاصطلاح المنطقى ، وتدخل حقيقة القدرة في ضمن دائرة جهل الانسان حيث ان عرفان حقائق الاشياء من أصعب الامور فان الوجود الذي هو من أوضح الأمور في نفس الوقت معرفة حقيقته من

ص: 157

أصعب الاشياء وكما قال السبزواری رحمة الله عليه :

مفهومه من أعرف الاشياء*** و كنهه في غاية الخفاء

فكيف بمثل القدرة ، التى ليس لها من الظهور ما للوجود.

أما (القدرة الايجابية )فيمكن ان تعرف (تعريفاً رسمياً ، أيضاً) بانها التأثير فى الاشياء ، والتأثير تجمعه انحاء ثلاثة :

(أ) تأثير ارادى، كما فى الانسان والحيوان ، وان كان فرق بينهما أيضاً بأن الانسان يعمل القدرة عن ارادة ،وتعقل بينما الحيوان يؤثر عن ارادة بدون تعقل، ويظهر الفرق بين (الارادة والتعقل) ان الثاني متطور حيث القياس والاستنتاج والتصاعد، بخلاف الأول حيث انه مجرد عن التعقل ، وليس الا عملا روتينياً يؤدي غريزياً، ولذا لا تطورفيه ومن هذه الجهة لم نر تصاعد عالم الحيوان، فعالمه الان مثل عالمه قبل ملايين السنوات ان فرض ان عمر الحيوان هذا المقدار المديد -.

نعم ، هناك بعض العلماء يفترضون امكان تصاعد عالم الحيوان الى التعقل ان صرفت له الطاقات الكثيرة ، كما تطورت الوسائل الالية ، بعد صرف الطاقات لها - وهذا البحث خارج عن مهمة الكتاب - ولذا ندعه لموضعه في علم الحيوان.

(ب) تأثير حيوي غير ارادي ، كما في النبات ، حيث انه يؤثر في التقدم والاطراد ، فيأخذ من الماء والهواء والضرء والاملاح ، بتأثيره فيها ، فيجعلها جزءاً من نفسه ، ثم ينمو ويشق الارض والفضاء( وكل ذلك تأثير) وقد عرفت ان التأثير هو القدرة الايجابية .

(ج) تأثير غير ارادى ، يصدر من الجماد ، لكن بضميمة قدرة أجنبية اليه كما في تأثير السكين في الشق ، والحجر المرمي في الخرق ، وماء الشلال في التخريب أو البناء والهواء ونحوه في جملة من الاشياء ، لكن هذه الامور بدون

ص: 158

المحرك لا تتحرك حتى تؤثر ، وحتى في الشلال المحرك جاذبية الأرض ، و هى أجنبية عن الماء ، وفى الهواء تمديد الحرارة لها ، وتقليص البرودة اياها -كما هو واضح - .

تساؤلات حول القدرة

و كلامنا في هذا المبحث في (القدرة الانسانية) التي هي مرمى نظر السياسي فنقول :

(الامر الثانى) ان القدرة فى الانسان عبارة عن الأمر والطاعة فهي داخلة في قسم التأثير والتأثر ، فهما من قبيل المتلازمين، أو من قبيل الكسر والانكسار حيث ان المتلازمين أمران ، أما الكسر والانكسار فهما وجهان لعمل واحد : اذا نسب العمل الى المؤثر سمى كسراً ، واذا نسب الى المتأثر سمى انکسارا والقدرة هكذا ، فوجهها في طرف المؤثر (أمر) ووجهها في طرف المتأثر (اطاعة) ولولا احدهما لم تعقل قدرة، فهما اثنان في الذهن، لافى الخارج، والغالب ان الآمرين قلة والمطيعين كثرة ، ولماذا الأمر هكذا ؟ فهل ان الناس سواء في القدرة ، وانما بعضهم يعملها وبعضهم لا يعملها حتى ان القدرة مثل قابلية العلم والكتابة والصنعة بعض يكتسبه وبعض يتركه ، فاذا اكتسبها الكل كانوا سواء فى الفعلية فتقسم القدرة بينهم حينئذ فلا آمر الاوهو مطيع ، ولا مطيع الا وهو آمر ، حتى ان بعض علماء الغرب قال: ان الديمقراطية الحقيقية ، هي ذلك و انه كلما تصاعد الانسان اقتربت اعداد الامرین و اعداد المأمورين ؟ أو انه ليس كذلك فكما فى الحيوان يكون حيوان مسلطاً على حيوانات اخر وان كانوا اخوة عن أب وام واحد ، كذلك في الانسان ؟

ولماذا يطيع المطيعون؟ فهل عامل ذلك الخوف من الأمر ، أو عن فوت المصلحة

ص: 159

التي يتوخونها ؟ لكن الكلام فى انه كيف تمكن الأمر من جمع القوة ، حتى يخشى منه المطيعون ، أليست تلك القوة تنتهى الى القوة البشرية الذين هم أعضاء تنفيذ ارادة الأمر؟ وننقل الكلام الى اولئك البشر الذين هم أعضاء تنفيذ ارادته وأعوانه على المطيعين ، فهل اولئك خافوا فوت مصلحتهم فانضموا اليه ؟ و يأتى الكلام في انه ماهي تلك المصلحة؟ و الحال ان مصالحهم توجد بدون أمر الأمر ، وبدون تعاونهم مع الامر ، وبدون اطاعتهم للامر ؟ .

اننا يجب ان نطالع القدرة - بما القدرة - بما هي هي هي ثم نلاحظها في اطار الدولة حيث ان هذا الاطار هو مرمى نظر السياسي الذي نحن بصدده في هذا الكتاب .

انه لاشك في وجود القدرة فى جميع أفراد الانسان - بما هو هو - كما انه لاشك في تفاوت أفراد الانسان فى هذه الصفة ، كتفاوتهم فى الشجاعة والكرم وسائر الصفات ، كما لاشك فى ان هذه الصفة الكامنة فى الانسان قابلة المظهور و للنمو الى حدما (فسالت أودية بقدرها )والغالب ان أهل القدرة في الخارج يصلون الى هذه المرتبة الظاهرة من قدرتهم ، بأحد سببين :

(1) كونهم فى ظروف القدرة ، كما اذا ولد فى عائلة تملك القدرة كابناء السلاطين ، ومنه ما اذا ربط نفسه بالقدرة المهيئة كما اذا صار موظفاً عندذي القدرة كوزراء السلاطين .

(2) كونهم استمروا فى انماء قدرتهم ، كما اذا كوّن حزباً أو ما أشبه حيث يكون الأول كابن التاجر الذي ولد في مال أبيه ، والثانى كالذي يتجر حتى يصل الى المال ، وماذكرناه هو الذي يجده الانسان(بالفطرة) وعلى أي حال لابد للأمر - في كلا القسمين - ان تكون له حالة آمرية وهي ما تسمى بالقدرة الطبيعية .

و الى هنا ظهر الجواب عن السؤال الأول ، وهو هل الناس سواء في القدرة ؟

ص: 160

والمتحصل من الجواب عدم استوائهم ، وانما كلهم ذو قدرة في الجملة ، وبعضهم يكون في ظرف حسن ، وبعضهم ينتى قدرته ، وبعضهم لا يكون في ظرف حسن ، ولا ينمي قدرته .

أسباب الطاعة

اما الجواب عن السؤال الثاني، وهو لماذا يطيع المطيعون ؟ فحاصله ان الاطاعة لاحد سببين ، أما لجلب النفع أو لدفع الضرر ، لكن تزايد القدرة في جانب الأمرين، وتزايد الاطاعة فى جانب المطيعين ، ناش، عن جهل المطيعين : فان (القدرة كالثروة ، فكما انها مشتركة بين الجميع ، وانما الرأسمالي يظلم العمال باستيلائه على أكثر من حقه ، في حقوق العمال ، في حقوق العمال ، وانهم انما يتركونه و استيلائه ، لجهلهم بقدر حقهم وبقدر حقه اذليس حقه الابقدر عمله (أي الفكري )والجسدي : كما ذكرناه في كتاب (الفقه- الاقتصاد) .. كذلك الكلام في القدرة فان القدرة مشتركة بين الجميع وانما جهل المطيعين بأن اي قدر منها حق الامر وان أي قدر منها حق المطيعين يسبب ان يتركوا الأمر يستولى على قدراتهم بينما اذا لم يكن هذا الجهل اعطوا الأمر بقدر قدرته الذاتية وكانت لهم باقي القدرات .

فاذا فرضنا ، ان التفاوت الذاتي من القدرة ، في نفس جملة من الناس بین (1) و (2) و (3) كان حق من فى الدرجة الثالثة نصف مجموع القدرات فله أن يأمر بقدر النصف، ويأتمر من الاثنين الاخرين بقدر النصف، بينما يوجب جهل الأول والثاني ان يستولى الثالث على قدرتهما، فالثالث يستولى على ست درجات من القدرة، بينما الاولان لا يحصلان حتى على حقهما (اي النصف)من مجموع القدرة(انتى فرضناها ستة) ويظهر ذلك جلياً اذا فرضنا ان كل قدرة تتحول الى (درهم مجسم) فاذا استولى الثالث على ستة دراهم كان معنى ذلك انه سرق ثلاثة

ص: 161

دراهم ، أما اذا استولى على ثلاثة دراهم ، وبقي درهم للاول، ودرهمان للثاني كان معنى ذلك ان أحداً لم يسرق من الاخر شيئاً .

وكون الحكم استشارياً - كما في الاسلام - أو ديمقراطياً ، كما في رأي علماء السياسة الغربيين وقد ذكرنا الفرق بينهما في بعض المسائل السابقة معناه هو توزيع القدرة حسب المواهب الذاتية التي يظهرها الانسان القادر في طاقاته الخارجية) حتى يكون الحال فى المثال ان للاول قدر درجة ، وللثاني قدر درجتين ، والثالث قدر ثلاث درجات فاذا ترجمت القدرة وجسمت في (المال) أو في (السلاح) أو في (صلاحية الامر، واطاعة الناس) كان الاول من الحاصل السدس ، وللثاني (الثلث) ، وللثالث (النصف) .

أما ان يستوعب الثالث على الكل، أو على خمسة أسداس، أو على أربعة اسداس، فذلك ظلم للاخرين، وكذلك اذا استولى الاول على أكثر من السدس أو استولى الثاني على أكثر من الثلث، واذا علمنا هذا القانون في القدرة (كونها مثل الثروة ، لكل بقدره) وجب ان نسير الى ان يطبق القانون في الخارج حتى لا يكون ظلم

منبع القدرة

(الامر الثالث) تنقسم القدرة الى قدرة ذاتية ، اي ان الانسان بنفسه له قدرة سواء كان هناك من يمده أم لا ، ولا كلام فى هذا القسم ، والى قدرة عرضية وهى ما يستمده الانسان من الخارج لاجل السيطرة على الآخرين ، وهذا هو محل البحث ، وقد اختلفت فيه انظار السياسيين، الى أقوال أهمها اثنان :

(الاول) ان قدرة الأمر مستمدة من الله سبحانه ، بمعنى انه لاحق لاحدان يتسلط على أحد الا باجازة الله تعالى .

ص: 162

(الثاني) ان القدرة مستمدة من الشعب، والاول كان نظر الكنيسة في القرون الوسطى ، حتى ان الملوك والرؤساء عندهم كان عليهم ان يستمد وا سلطانهم من الباب لاكبر الذي كانوا يرون انه خليفة عيسى المسيح عليه السلام ، والواسطة بينهم وبين الله تعالى. والثاني هو نظر الديمقراطيين ، حيث يرون وجوب استمداد القدرة من الشعب .

ونظر الاسلام : ان بعض أقسام القدرة مستمدة من الله سبحانه فقط كما في الرسول والامام، وبعض أقسام القدرة مستمدة من الله ومن الامة ، حيث ان الرئيس يلزم فيه شرطان :

(الاول) ان يكون فقيهاً عادلا جامعاً للشرائط.

(الثاني) ان تختاره أكثرية الامة، لما دل على وجوب الشورى في الحكم - كما ذكرنا دليله في كتاب (الحكم في الاسلام)- .

و عليه فاذا انتخبت أكثرية الامة انساناً لا توجد فيه شروط الاسلام ، لم يكن ذا سلطة بنظر الاسلام، بل كان غاصباً وكانوا أعوانه في اغتصابه للمنصب، كما انه اذا لم ينتخبوه - وان كان بشروط الاسلام- لم يكن له ان يزاول السلطة والقدرة ، واذ يوجد الشرطان في انسان (الشرط الشرعي ، ورضى الامة) لايفرق ان يجعل المرضى ملكا ما دام عمره ، أو لفترة معينة وفي كلا الحالين، اذا فقد أحد الشرطين سقط عن الاهلية فور فقده ، كما لافرق بين ان يجعل ميزان رضى الامة رضی نوابهم الذين هم في مجلس الشورى ، أورضى الامة مباشرة ، ففي الاول أكثرية مجلس الشورى اذا اختارت انساناً كان له الحكم ، بينما في الثاني تختار نفس الامة مباشرة الرئيس لها .

ولا يخفى ، ان كل النظريات الثلاثة (الالهية) و (الامية) و (المركبة) انما يمكن تطبيقها في الخارج اذا آمن بتلك النظرية الناس، مثلا: في أمة لاتؤمن بأن القوة الهية ، لا يمكن ان يسيطر عليهم انسان باسم الاله ، وكذلك لا يمكن

ص: 163

ذلك بالنسبة الى النظريتين الاخريين، نعم يمكن ان يرى الرئيس نفسه مؤهلا ، و ان لم يررأى الناس ، كما اذا كان الشعب ينتخبه حسب ميزان الديمقراطية ، بينما يرى هو الالهية) أو (المركبة) .

ومما ذكرنا تبين ، ان (ولاية الفقيه في الحكم) التي نقول بها ، ليست خلاف (الاستشارية) في الحكم ، بل تزيد على الاستشارية شرطاً جديداً ، وهو ان يكون المنتخب واجداً لشرط الفقاهة والعدالة، وسائر الاوصاف المذكورة في كتاب التقليد، ويكون حينئذ على الحكم التنفيذي والقضائي والاداري رقيبان من قبل الامة، رقيب هو نوابهم في مجلس الشورى، ورقيب هو الفقيه المنتخب من عندهم ، ويكون الحكم حينئذ أقرب الى الصواب من الحكم الديمقراطي الذي اخترعه الشرق والغرب .

وانما نقول انه شرقي غربي ، لأنه ورد في التواريخ انتهاج كلا الجانبين هذا النهج في برهة ما من الزمان فقد سن هذا النظام داريوش) الأول عام (521) فقدسن قبل الميلاد، كما انه سن في الهند وفي الصين، وفي (آتن) ، نعم اختفى النظام الاستشاري في كل العالم، حتى أظهره الاسلام ، بقوله سبحانه :« وشاورهم »(1)و« امرهم شورى»(2) ، وأخذ به الغرب في العصر الحاضر.

لكن يجب ان نعترف بان الغرب ، خلط الشوری ، بمادتين سامتين :

(الاولى) مادة الاقتصاد في الداخل ، فان الاقتصاد هو الأخذ بزمام الحكم بالاخرة، حيث ذكرنا في كتاب (الفقه - الاقتصاد) في اعداد أضرار الرأسمالية ما يوضح ذلك ، فان الرأسماليين : القلة بيدهم الاعلام، والانتخابات، وتلقائياً تقع في أيديهم السلطة التنفيذية والسلطة القضائية

( التابعة للقانون : الموضوع حسب أهوائهم ) .

( الثانية )مادة الاستعمار ، في الخارج، حيث انهم يريدون ان يفتحوا

ص: 164


1- سورة آل عمران /153
2- سورة الشورى / 36 .

الاسواق في الخارج، وفتح السوق ملازم للاستعمار، كما ذكرنا تفصيل ذلك في الكتاب الانف ذكره .

ترويض القدرة

(الامر الرابع) القدرة من طبيعتها الطغيان، قال سبحانه : « ان الانسان ليطغى ان راه استغنى » .

وقال علي (عليه السلام) :( من ملك استأثر) .

وقال الشاعر :

الظلم من شيم النفوس فان تجد*** ذا عفة فلعلة لايظلم

ولذا فكر عقلاء العالم منذ القديم في ترويض القدرة ، كما فكروا في الوقوف أمام طغيان البحر ، والكوارث الطبيعية، وهناك مناهج لهذا الترويض نذكر منها ثلاثة :

(الأول) الترويض الديني ويعتمد على عاملين :

(1) العامل الداخلي بتهذيب النفوس ، وتخويفها من عذاب الله سبحانه ، وهذا مقدم على كل شيء ، ولذا قال سبحانه : يزكيهم ويعلمهم الكتاب و والحكمة»(1) وهذه الرقابة اذا حصلت فهي من أشد الرقباءدقة ومحاسبة وضبطاً.

قال (عليه السلام) : (وكيف اظلم أحداً بنفس يسرع الى البلى قفولها ويطول في الثرى حلولها ) .

وقال : (والله لان أبيت على حسك السعدان مسهداً واجرّ في الاغلال مصفداً أحب الي من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد وغاصباً لشيء من الحطام ) . الى غير ذلك من الآيات والروايات التي تدل على جريان آثار النفس المرباة المؤدبة على جوارحها، بحيث تكفها عن الظلم، بخلاف النفس

ص: 165


1- سورة الجمعة / 3 .

غير المرباة التي تنضح منها الانانية والكبرياء

قال يوسف النبي (عليه السلام):«رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الاحاديث فاطر السماوات والارض انت وليي في الدنيا و الآخرة توفني مسلماً و الحقني بالصالحين » (1).

وبالعكس من ذلك، قال فرعون :« اليس لي ملك مصر وهذه الانهار تجرى من تحتى »(2) فالملك له ، ومبعث الخيرات من تحته. أما يوسف (عليه السلام) فملكه من الله ، وعلمه من الله ، والملك كله لله لانه فاطره ، وهو المشرف عليه في الدنيا والاخرة ، ومنتهى رغبته ان يبقى مسلماً صالحاً الى حين الممات .

(2) العامل الخارجي ، بالقوانين التي توقف الانسان عند حده، وقوانين عقوبات الجنايات ، وقوانين الامر بالمعروف والنهي عن المنكر :

( الرقابة الاجتماعية) . وعدم تطبيق الناس لهذه القوانين - حتى طغت قدرة الحكام و فعلوا ما يشائون (وبمعاونة نفس الناس الذين كان من المفروض ان يكونوا عوناً على الحكام، لا للحكام على الناس) - ذنب الناس لا ذنب القانون ، كما ان عدم تطبيق الناس لقوانين الديمقراطية (عند من يؤمن بها )حتى صار الاستغلال الداخلي والاستعمار الخارجي ، ذنب الناس ، لاذنب الديمقراطية.

مع فارق بين الدين الاستشاري التربوي ، والديمقراطية ، هو ان الدين مستوعب لجانبي الروح والجسد، وفي جانب الجسد مستوعب لكل ما يصلح، بينما الديمقراطية خاصة بجانب الجسد ، فليس لها جانب روحي ، وفي جانب الجسد - ايضاً - حكمها ناقص وليس بمستوعب ، فالديمقراطية تعطي ربع الاصلاح بينما الدين ( ونقصد الاديان السماوية غير المحرفة ) يعطى الوحدة الكاملة للاصلاح .

(الثاني) الترويض الديمقراطي ، حيث ان الديمقراطيين فكروا ان يقفوا

ص: 166


1- سورة يوسف / 102 .
2- سورة الزخرف / 50 .

سداً أمام طغيان القدرة ، وذلك بجعل زمام القدرة بيد الناس ، ومن الطبيعي ان الانسان لا يطغى على نفسه فلا يقتل نفسه، ولا ينتهك عرض نفسه، ولا يتلف أموال نفسه (الاشاذاً) .

الا ان الديمقراطيين اخفقوا في ترويض القدرة ، فالذين استند الزعماء اليهم في القدرة أصبحوا هم عبيد القدرة، حالهم في ذلك حال العمال حيث أوجدوا هم المال ، لكنهم أصبحوا عبيد المال ، حيث يتصرف فيهم الرأسماليون بقدرتهم التي حصلوها من أموالهم ، كيف شائوا ، وفى ظل الديمقراطية تولّد (هتلر) و(موسيليني) وتولّد (الشاه) و (اسرائيل) وتولّد الاستعمار ، وقامت الحرب الجزائرية ، كما قامت الحربان العالميتان وفي ظل الديمقراطية، أصبح ألف مليون جائع فى العالم ، وأصبح بمعدل حرب موضعية في كل شهرين ونصف ستين سنة ، وقذفت القنابل الذرية على بلاد اليابان ، كما ان في ظلها تصاعدت الطبقية في نفس بلاد الرأسمالية ، بصورة حادة.

من أخطاء الديمقراطية

وسبب ذلك امران :

(أ) ان الديمقراطية لم تضع برامج لتهذيب النفس ، فهي كما اذا نظر الى الشيء من زاوية واحدة، ومن المعلوم ان الانسان ليس كالطين والخشب يستجيب لداعى التغيير حيث يأخذ الانسان فأساً فيقطع الخشبة أو معولا فيهدم البناء أو يصنع من الطين آجراً ، ومن الخشب باباً ، بل الانسان عواطف ومدارك و أهواء و شهوات الى آخرها ، وبدون التهذيب ، لا يخضع للقانون ، مهما كان القانون نزيهاً ، وضعه العدول المستقيمون ، وعليه فماذا يحول دون حماة الديمقراطية، ان يكونوا هادمين لها ؟ كما حدث بالفعل ، من غير فرق بين ان يكون الحماة

ص: 167

من قبيل المشرعين ، أو المنفذين ، أو الدعاة ، أو القضاة .

(ب) ان الديمقراطية الغربية : استغلها رأس المال، في صالحه ، ولذا فهى رأسمالية ، في قالب الديمقراطية ، والرأسمالية لاتعمل الالصالح نفسها.

أما الامة فهى ليست في مرمى تفكير الرأسمالي ، ان همه ان يحصل على أكبر قدر من المال، ولو بقتل الناس ، واشعال نار الحروب .

واليك شاهداً من الشواهد لهذه الحقيقة قالها - ايزنهاور الرئيس الامریکی عند انتهاء ولايته الثانية عام (1961)م : ان الولايات المتحدة لم تعرف صناعة الاسلحة حتى نشوب آخر حرب عالمية ... وأصبحنا منذ ذلك الحين مكرهين على ان نخلق صناعة للاسلحة ذات ابعاد شاسعة واضفنا الى هذه الصناعة ثلاثة ملايين ونصف من الرجال والنساء، يرتبطون بالمؤسسة الدفاعية ارتباطاً مباشراً وأصبحنا ننفق سنوياً على الامن العسكرى أكثر من الدخل الصافي للشركات الامريكية .

وهذا التواتر بين مؤسسة عسكرية ضخمة ، وبين صناعة كبيرة للاسلحة هو تجربة امريكية جديدة ، ولذلك فان كل مدينة ، وكل مجلس من مجلس الولايات وكل ادارة من ادارات الحكومة الفدرالية، تشعر بالتأثير الكلى لهذه البدعة الجديدة ، سواء كان هذا التأثير اقتصادياً أو سياسياً أو روحياً ، ونحن نقرّ بحاجتنا لمثل هذا التطور ، ولكن علينا ان لانغفل عن مضاعفاته ، لان هذه المضاعفات تدمر عملنا ومواردنا وحياتنا ، اي انها تدمر بنية مجتمعنا فيتوجب علينا ان نحذر من اكتساب( المركب العسكري الصناعي) لقوة تأثير في مجالس الحكومة ، سواء اسعى المسئولون عنه لاكتساب هذا التأثيرة أولم يسعوا اليه ويكمن فى مثل هذا التأثير خطر كارثي، وهو خطر نشوء قدرة تحل محل جميع القدرات الأخرى ، وهو خطر موجود ويمكن ان يستمر .

ص: 168

فعلينا ان لانتيح مطلقاً لقوة هذا المركب الجديد، ان تهدد خرياتنا و عملياتنا الديمقراطية ، ولابدان يكون المواطنون في حالة يقظة وبصيرة ، تمكنهم من اكراه الالة الدفاعية الصناعية العسكرية، على ان تظل خاضعة لاساليبنا واهدافنا السليمة ، وتؤمن لهم ان يضمنوا نمو سلامتنا وحرياتنا معا . .)..

ولذا فالديمقراطية ، أصبحت جوفاء لاوسيلة للحد من القدرة ، بل آلة بيد المقتدرين ضد المستضعفين، ولاعلاج للديمقراطية من هذه المشكلة، الابالحد من سيطرة رأس المال ، (هذا مع الغض من نقص الديمقراطية بذاتها، حيث تفقد مناهج للروح ، كما تقدم) وقد ذكر نافى كتاب (الفقه - الاقتصاد ) انه لابد وان يكون المال بازاء خمسة أشياء هى : العمل الفكري والجسدي، والمواد الأولية، وشرائط الزمان والمكان والعلاقات الاجتماعية ومثل هذا المال لا يتكوّن منه رأس المال بالمعنى الغربي، حتى يتبع ذلك القدرة الموجبة للاخذ بازمة الديمقراطية .

الاقتصاد في ظل الديمقراطية

و قد اصبحت القدرة الاقتصادية المستظهرة بالديمقراطية المزيفة ذات حدين حد التزييف لارادة الشعب في الداخل وحد الاستعمار في الخارج، ثم ان هذا الاستعمار للخارج، حيث انه صار من منهج من بيدهم القدرة (السياسية الاقتصادية )وحيث انه لاتزدوج طبيعة الانسان بأن تكون ظالمة في مكان دون مكان، اثرت تلك الطبيعة في الداخل ايضاً ، حيث الظلم لنفس الشعب الابقدر الخوف من الاحزاب المناوئة التي لها شيء من الحرية ولذا فقد تحول ما يسمى بالبلدان الديمقراطية الى بلدان للظلم لنفسها ولغيرها ، وأخذت الحريات تتقلص الى ان يخنق الحبل عنق صاحبه.

ص: 169

(الثالث) الترويض الشيوعي ، حيث فكر الشيوعيون ان يقفوا سداً أمام طغيان القدرة التي بيد الرأسماليين بتوزيع المال على العمال (فمن كل بقدر طاقته ، ولكل بقدر حاجته) واذا سقطت آلة المال عن يد الرأسماليين ، لم تكن هنالك قدرة طاغية ، ويعيش الكل بسلام ، وقالوا : ان هذا لايمكن في مرحلته الأولى ، الا بديكتاتورية البروليتاريا ، حتى ينتهي الى سقوط الدولة فيعيش الناس بدون دولة كما تقدم تقريب وجه سقوط الدولة لكن انعكس الامر فصارت القدرة في هذا المنهج أطغى : حيث جمع اولئك الذين صارت بيدهم القدرة السياسية بين (المنهج الديكتاتوري اذ قد عرفت انهم انتهجوا منهج ديكتاتورية البروليتاريا)وبين (القدرة السياسية) وبين(القدرة الاقتصادية )أما في(المنهج الرأسمالي) فقد أصبح (القانون ديمقراطياً ظاهرياً)و(القدرة السياسية بيد الدولة) و (القدرة الاقتصادية بيد التجار )و لذا عجت بلاد الشيوعية بمظالم لم يسبق لها مثيل .

ولنسمع ذلك من لسان المفكر اليوغسلافي (دجيلاس)على ما كتبه(حسن صعب) بالنسبة الى الطبقة السياسية الماركسية :

( فجميع التغييرات التي يحدثها الزعماء الشيوعيون تمليها قبل كل شيء مصالح الطبقة الجديدة وأمانيها ، شأن هذه الطبقة الان شأن أية فئة اجتماعية اخرى فهي تعيش وتتصرف وتدافع عن نفسها ، وتتقدم تحدوها الرغبة في ان تزيد قدرتها ) قال (الصعب) وبلغ نقد القدرة السياسية الشخصية المطلقة أشد ما يمكن ان يبلغه في الحملة التي شنها كروتشيف على ستالين في التقرير الذي قدمه للمؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي ، وقد استهل كروتشيف التقرير بقوله : (عمدت اللجنة المركزية بعد وفاة ستالين الى تنفيذ سياسة ترمي لاعلان استنكار التعاليم الماركسية اللينينية لاعلاء فردما ، ورفعه فوق البشر،

ص: 170

ونعته بصفات خارقة للطبيعة تشبه صفات الالهة وتفترض في هذا الانسان انه يعرف كل شيء ويرى كل شيء ويفكر بكل شيء ويستطيع ان يفعل اي شيء، وهو معصوم عن الخطأ في كل ما يفعل) .

ولانريد ان نطيل البحث بذكر الارقام والشواهد على أن الشيوعية في كل مكان لم تحد من طغيان القدرة ، بل زادتها أضعافاً مضاعفة حتى ان كوبا البلد ذو التسعة ملايين نسمة فيه نصف مليون سجين، وان (ماو) الصين قتل في ثورة ثقافية واحدة مليوني انسان و ان روسيا قتلت الى الان في افغانستان مليون انسان و شردت زهاء ثلاثة ملايين مع العلم ان الشعب الافغاني زهاء عشرين مليون الى غير ذلك من مآسيهم في اروبا الشرقية وفي غيرها.

مناقشة فكرة (راسل)

ومما ذكرنا تبين وجه النظر في ومما ذكرنا تبين وجه النظر في فكرة )راسل) حيث قال: )وان الديمقراطية الكلاسيكية والديمقراطية الماركسية الجديدة ارادتا ترويض القدرة واخفقتا في ذلك اخفقت الاولى لانها سياسية صرفة وأخفقت الثانية لانها اقتصادية صرفة ولا يمكن ان تحل المشكلة الا بالجمع بين الاثنين).: وجه النظر ان الجمع بينهما ايضاً لا ينفع حيث لا يكون تهذيب للروح اذ الاهتمام بنصف الانسان لا يصلح الانسان هذا مع الغض عن ان اى قانون يضعه انسان لا يمكن ان يكون كاملا حيث ان الانسان لابد وأن يعيش في شرائط وظروف خاصة وهي تكون وراء وضع القانون - مهما كان نزيه والقانون الصالح لشرائط وظروف لا يصلح لغيرها فيكون فى غير تلك الشرائط والظروف جائراً - فان معنى عدم الصلاح الجور- ).

لا يقال : والاسلام ايضاً لم يتمكن ان يضع حداً لطغيان السياسة ولذا نشاهد الظلم

ص: 171

بعد الرسول (صلى الله عليه و آله وسلم) والى الان ، الا في فترات ؟

لانه يقال : فرق بين كون القانون منحرفاً ، وبين كون التطبيق منحر فأفقد يكون الطريق ملتوياً وقد تسير السيارة فيه بالتواء ، والنقص في الديمقراطية الغربية، والشيوعية في نفس القانون ، أما الحكام الظلمة في بلاد الاسلام فقد انحرفوا عن القانون اذ قد عرفت ان الديمقراطية الغربية لا تقف دون كثرة المال عند الرأسمالي وان كان يجمعه من مجهود الآخرين ، واذا زاد المال في ايدي قلة ، ونضب عن ايدي الكثرة ، تلاعب أهل المال بالمقدرات كلها ، و طغت قدرتهم بسبب المال ... كما ان الشيوعية ارست دعائمها على جمع المال والقدرة واضفاء الشرعية على الديكتاتورية، ومن الواضح ان جمع هذه الثلاثة في مكان يوجب أبشع أنواع طغيان القدرة ..

أما في الاسلام( فالمال له ضوابط ) و ( لادكتاتورية) و(القدرة من الله لمن فيه الشرائط ممن تنتخبه الامة )

القدرة الاجتماعية

(الامر الخامس) في القدرة الاجتماعية ، التي يحصلها الانسان من ربط نفسه بالمجتمع، وذلك لان الانسان ضعيف غاية الضعف، حتى من أضعف الحيوانات (بله النباتات ) اذالحيوان مهما كان ضعيفاً يتمكن من تحصیل شئون نفسه بنفسه بدون مساعدة الحيوانات الآخر ، بينما الانسان لا يتمكن من ذلك، الابمساعدة الاخرين ولذا فكل إنسان لابدله من ربط نفسه برابطتين :

الأولى : الرابطة الاجتماعية ، حيث يجتمع مع الاخرين من عائلة أو نحوها و حتى اذا كان يعيش في الاكواخ وبيوت الطين والكهوف ، حيث يتعاون الجميع في تحصيل اللباس والمسكن والمأكل ونحوها ، (واذا شذانسان فعاش

ص: 172

وحده ، في جزيرة لانه انكسرت سفينته ، أو ما أشبه ، فذلك اضطرار أو انحراف فردي) .

الثانية : الرابطة السياسية فيما اذا كان هناك حكم اي لون من الحكم كان حيث ان الانسان له مصالح عالية، وتلك المصالح تؤمن بواسطة الدولة ، فيربط الانسان نفسه بالدولة ، حيث يتفيأ تحت ظلالها ، وفي قبال ذلك يطيع أوامرها كرهاً أو طوعاً ، وقد يكون الارتباط ، بجماعة سياسية ، ارتباطاً عضوياً ، كما اذا صار عضواً فى حزب أو منظمة أو ما اشبه وقديكون الارتباط بجماعة غير سياسية لاجل وحدة الهدف بين هذا الفرد وتلك الجماعة كجمعية ثقافية، أو اقتصادية أو تربوية ، أو نحوها ، من الجماعات الكثيرة ، ذات الاهداف المختلفة .

وبهذا تبين ، ان الارتباطات على أربعة أقسام لانها اما تلقائية، أو تعمدية وعلى كل حال، أما سياسية أو غير سياسية... والنتيجة في الكل واحدة، هو كسب القدرة .

ثم اهداف الانسان الذى انضم الى جماعة أما معنوية مثل كسب الشهرة والحكم ، أو مادية مثل كسب الملابس والمآكل والثروة ، أو ارضاء الشخصية بابداء رأيه ، أو امكانية الخدمة للاخرين ، الى غير ذلك .

العلاقة بين الفرد والجماعة

ثم ان الجماعة كما تعطى للفرد المنضم اليها قدرة فوق قدرته الفردية تأخذ منه قسطاً من حريته ، حيث ان الواجب عليه ان يترك بعض آرائه وقدراته الفردية ، ازاء رأى الجماعة وعملها ، فلو كان فرداً مثلا استراح في أيام العطلة بينما اذا انضم لزم عليه ان يعمل ، وكذلك لو كان فرداً انتخب زيداً للنيابة في مجلس الامة - مثلا- بينما حيث صار منضماً الى الجماعة- وصارر أى الجماعة

ص: 173

انتخاب عمرو - لزم عليه ان ينتخب عمرواً ، ويترك رأيه ، لرأى جماعته ، لكن حيث ان الانسان يوازن بين حريته الفردية وبين قدراته الاجتماعية ، ويرى ان الثانية أهم ، يرجح الاهم على المهم .

وبذلك يقع الفرد المنضم الى الجماعة في كثير من الاحيان، بين تناقض آرائه ، وآراء الجماعة ، ويقع في داخله تدافع في اتخاذ اى المسلكين ، أيترك مسلك نفسه وفى ذلك وخز ضميره ، أويترك مسلك الجماعة وفى ذلك تأنيب الجماعة ، واحياناً عقابهم له ، بالطرد أو الاهانة أو ما أشبه ذلك ؟ وفى بعض الاحيان يجد الانسان والجماعة - في مفترق الاراء - حلا وسطاً، وبذلك يكون تنازل من كل جانب عن بعض آرائه .

لكن قد لا يتحمل الفرد التنازل عن رأيه لرأى الجماعة ، والجماعة تصر على رأيها ، فيخرج الفرد عن الجماعة ، ملتزماً بكل العواقب السيئة لذلك، وقد يتخطى الى ان ينضم الى اعداء الجماعة ، أو الى تشكيل جماعة جديدة، تكون بالاخرة فى قبال الجماعة الأولى ، وقد يحدث الانشقاق فى الجماعة فتصبح کتلا تعادى بعضها بعضاً ، وان اجتمع الكل في اطار عام ، يحترم الكل ذلك الاطار كما يحدث ذلك في غالب مجالس الامة ولهيئة الوزراء ، وما أشبه ذلك...

وفى النظر الفلسفى : اختلاف الاراء ،رحمة اذلولاه لجمدت الحياة ، فان الحياة تتقدم بالابتكار الموجب لاختلاف المبتكر وغيره، بالاضافة الى ان الاختلاف دافع الى التنافس الموجب لتقدم عجلة الحياة ، نعم اللازم ان لا يخرج الاختلاف عن موازينه العلمية والعملية ، الى موازين التخاصم والتحارب.

ثم انه كلما كان الانسجام بين أفراد الجماعة أكثر، كان التقدم الخارجي والاطمئنان النفسى فيهم أكثر ، وبالعكس كلما كان التخاصم وعدم الانسجام أكثر ، ولذا فالواجب على الجماعة ان يقرروا ضوابط للعمل ، تحد من نشاط

ص: 174

التخاصم والنزاع ، أمثال الشورى بأخذ أغلبية الاراء، والقرعة ان تعادل الجناحان وقرار الحلول الوسطى فيما لو امكن فيه ذلك ، الى غير ذلك ، وفي الاسلام ضوابط كثيرة بهذا الصدد أمثال : «امرهم شورى »و( القرعة لكل أمر مشكل) و( انصاف الناس من نفسك) و (أحب لغيرك ما تحب لنفسك )مما قد ذكر في كتاب (العشرة) وفى كتب (الاخلاق) باسهاب .

وتعلق الفرد بالجماعة قد يكون شديداً ، أما طمعاً أو خوفاً ، بحيث يتنازل الانسان عن كل ارتباطاته العائلية والاجتماعية لاجل ذلك الارتباط ، فيضحى بمصالحه الطبيعية لاجل مصلحة جماعته واحياناً يضحى بنفسه في سبيل ذلك الارتباط خصوصاً اذا كان معتقداً بالثواب والأجر في الاخرة .

ولا يخفى ان اطاعة الفرد لجماعته التي انضم اليها لا توجب الضغط عليه دائماً ، فان الامر اذا كان بدون الموازين أوجب الضغط ، أما اذا كان بالموازين التي قررت للافراد ، واعتقد الفرد بها ، لم يكن الأمر ضاغطاً عليه بل كثير أما يوجب السرور والبهجة ، حيث يرى الفرد في الاطاعة راحة ضميره ووصوله الى هدفه ، ولذا فاللازم ان يكون للجماعة هدف ووسيلة واضحان ، وتعمل الجماعة لتهيئة الجو العام لذلك الهدف ، ولتلك الوسيلة ، وكلما كان جو الحرية أوفر للافراد فى الجماعة ، وكان الانصاف أكثر سيادة ،وكانت الشورى حقيقية ، كان تعلق الفرد بالجماعة أوثق ، وتحققت الاطاعة بصورة تلقائية مع الرضا الكامل ، اذ الانسان يعير المعنويات احتراماً بمثل ما يعير الماديات اهتماماً ولذا وضع الاسلام خطوط الشورى ، وكان الرسول (صلى الله عليه و آله وسلم) يقول : (أيها الناس اشيروا علي) الى غير ذلك مما تقدم الالماع اليه ، وقد قال (صلى الله عليه و آله وسلم) : (يسعى بذمتهم ادناهم) فكل فرد كان يرى نفسه كغيره فى الجماعة الاسلامية ، فلا يحس بثقل الاوامر

عليه ، ولذا ذكروا فى فن القيادة ، ان الرئيس الناجح هو الذي يشعر جماعته

ص: 175

بان ما يفعله هو رأي الجماعة ، لاانه استبد بالامر.

انواع انتماء الانسان

ثم ان انتماء الانسان قد يكون الى جماعات متكافئة أو متسلسلة ، كما اذا كان عضواً في جماعة اقتصادية ، وجماعة سياسية ، وكما اذا كان عضو أفى جماعة ، وفردا في دولة وفى مثل هذا الحال ، قد يتصارع رأي الطرفين، ويكون لكل رأى تطلب لانضمام هذا الفرد اليه ، فاذا كان رأى الجماعة السياسية انتخاب زيد لانه أقدر على الادارة ، ورأى الجماعة الاقتصادية انتخاب عمر ولانه اكفأ في تقديم الاقتصاد أو كان رأى الجماعة عدم الحرب ، لانها جماعة سلام ، ورأي الدولة الحرب باعتبارها ضرورة لهيبة الدولة ، وقع العضو في تضاد ، هل يطيع هذا أو ذاك؟ وفي كل اطاعة خسارة الطرف الآخر ، بل أحياناً عقوبته، كما اذالم يطع الدولة حيث يكون معرضاً لنيل عقوبة المخالفين .

نعم ، احياناً تكون هنا فرجة يتمكن الفرد من الفرار عن المحذور لكن الفرجة ليست دائماً ، فعلى الفردان ينتخب احسن الطريقين بنظره ، لان المقام من باب الاهم والمهم ، وهي قاعدة عقلائية.

ثم ان كلا من الجماعة والفرد ينقسم الى (أهوج) و (معتدل) فالاقسام المتصورة أربعة ، ادمع كلا جالى الجماعة ، حالان للفرد ، وخير الاقسام ، ما كانا معتدلين فالجماعة الهوجاء ، هى التي تفرض رأيها على الفرد، واذا خالف في رأي أو عمل ، تجعله محل الضغط ، أو تفصله ، ويكون الرأى فيها بيد فرد أوقلة ، يفرضون آرائهم على المجموع ، وكانت آرائها ، بدون الاستقاء من الشرائط و الظروف.

والفرد الاهوج هو الذي يدخل الجماعة بدون ملاك ، ويخرج منها بدون

ص: 176

بر رويكثر المخالفة، يستبد برأيه واذا خالف الجماعة اشتغل بالتخريب..وبالعكس من الجماعة الهوجاء، والفرد الاهوج، الجماعة والفرد المعتدلان، فليس كل انسان يدخل في الجماعة أو يخرج عنها، اعتباطاً، وبدون رؤية، واذا كان في الجماعة اعمل رؤيته في القرارات، ولايغتر بالانتصارات ، ولا ييأس من الانتكاسات ، بل يعالج الأمر بالواقعية والرؤية الرزينة ، سواء في صنع القرارات ، أو في مقابلة الانتصار والانكسار ... كما انه ليس كل جماعة تعمل الديكتاتورية في قبال الفرد .

نعم هناك بعض الجماعات تعمل الديكتاتورية ، فلا تحترم رأي الفرد، ولا تجنح الى الاستشارة ، وتخلط الحق بالقوة الباطلة ، ومثل هذه الجماعة تكون خطراً على الفرد .

ص: 177

مسألة : 18 شروط تقدم الجماعات

اشارة

حيث انتهى بنا الكلام فى المسألة السابقة، الى الفرد في ضمن الجماعة والى الجماعة المشتملة على الافراد ، من جهة تبادل القدرات ، واستفادة كل منهما من الاخر امتداد قدرته ، نحو الاهداف التي يتوخاها كل منهما ، نعطف عنان الكلام فى هذه المسألة ، الى المؤهلات التى تؤهل الانسان ، لان يكون عضو اً صالحاً في الجماعة سواء كان رئيساً ، أوغيره ، فان الجماعة انما تتركب من الأفراد، كما ان المجتمع الكبير انما يتركب من الجماعات ، فان صلح الفرد، وكان بالمستوى اللائق في الاطار الفكرى المناسب ، صلحت الجماعة لانها ليست الا افراداً ، واذا صلحت الجماعات صلح المجتمع الكبير والعكس بالعكس، واذا توفرت في العضو هذه المؤهلات كان اقرب الى بلوغ اقصى القدرة ، مما يقربه الى الهدف .

أ- الهدوء والتوازن

الهدوء والصفاء والتوازن الفكري والعملي ، فان القلق والهياج والخلط

ص: 178

فيهما خليقة ، بان تجعل من الانسان عضواً فاسداً مفسداً ، فهو لا يبتعد عن القدرة فقط ، بل يسقط قدراته ايضاً في الوصول ، وكما يلزم ان يكون العضو بنفسه متصفاً بتلك الصفات الحسنة الانفة الذكر ، كذلك يلزم ان يكون له الايحاء بهذه الصفات الى غيره، فان للايحاء أيضاً تأثيراً كبيراً، في كبح جماع الهيجان الذي قد يحدث عند النقاش في الاجتماعات ، وعلى العضو اذا رأى من نفسه هياجاً لا يتمكن من كبحه، أو رأى ذلك في النقاش ان يعتزل انعز الا بسلام، لا بشدة ليهدء من نفسه، ومن الاخرين ، والانعزال في هذا الحال ، يعطى الانسان الهدوء الذي يهيىء المناخ الملائم للتفكير وتحرى المخرج .

ومما يؤثر سلباً على الهدوء، الدخول في الجانبيات، فان المهم عند النقاش ان ينظر الانسان الى الهدف ويسير اليه ، ولا يدخل فيما لايهم الامر...

واللازم ان لا يقول السياسي القدير، ابداً ، ان له اتعاباً كثيرة ، وانه مشغول الذهن ، وانه لا يستجيب ،ذهنه أولا يسعه عمله فان كل ذلك يوحى الى النفس بما يقوله الانسان ، وينتهى به الامر الى الاعتقاد بصحة ما يقول .

ب - الصبر في المشاكل

الصبر على المشاكل، وعلى السير الى الهدف ، فانه من أقوى سمات القدرة قال سبحانه :« ولمن صبر وظفران ذلك من عزم الامر» (1)، والصبر ضمان احفظ النظام ، ولحفظ الهدوء ، ولتبصر العواقب ، و لمعرفة ارتباط الاشياء بعضها ببعض.

ولذاورد( والصبر من الايمان كالرأس من الجسد) فانه المسيطر المسيّر للامور ، كما ان الرأس هو المسيّر للاعضاء ، والمسيطر عليها ، وقد قال احد الفلاسفة (اخضع نفسك لتستطيع اخضاع الاخرين ، فان لم تفعل ذلك ، لم

ص: 179


1- سورة الشورى / 41 .

تستطع ان تسيطر على الاخرين ) والوجه في ذلك واضح، فان الناس لا يخضعون لهش النفس ، الضعيف الارادة ، اما اذا تمكن الانسان من جمع نفسه وتقويتها، صلحت للسيطرة على الآخرين . ومن بعض علل الصوم ، هو هذا ، حيث ان الصوم يوجب تقوية الارادة ، والسيطرة على الذات ، وفي الاية الكريمة : «واستعينوا بالصبر والصلاة »(1) فمن يعرف فن الصبر يعرف فن الاصبار ، ومن يقدر على الخضوع( فان الصلاة خضوع الله سبحانه) يقدر على الاخضا واللازم ان يوحى العضو الى الاعضاء ، بالصبر ، فيقول لهم: اصبروا ، وثقوا وكونوا مثابرين ، تتذلل لكم الصعاب، قال سبحانه « يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ، ورابطوا ، واتقوا الله ، لعلكم تفلحون »(2) والمرابطة والتقوى أيضاً، نوعان من الصبر !

ج - معرفة الناس

والعضوية ، تتطلب اول ما تتطلب ، معرفة الناس ، حتى يتمكن الانسانان يضع كل احد موضعه ، ويعامل كل فرد ، وكل جماعة ، المعاملة اللائقة به وبها .

وفي الحديث ( اعرف الناس باهل زمانه ) وذلك مالا يمكن الابمعاشرة الناس ومخالطتهم والتطلع الى قضاياهم واحوالهم ، وسوابقهم وافكارهم واهدافهم واذا احسن الانسان فهم الناس تمكن من ان يستولى على افكارهم، وان يجرهم الى هدفه ، ولذا نجدان انساناً واحداً قديمدحه شخص ويذمه آخر وليس ذلك الالان الاول فهمه وتمكن من توجيهه بينما الثاني لم يفهمه ووقعت بينهما المنازعة والخصام، واللازم ان لايعامل العضو الناس - اعضاء آخرين أو غيرهم - وكأنهم أرقام أو آلات ، والا أوجب ذلك الاهمال والحقد ، وعدم التعاون ..

ص: 180


1- سورة البقرة / 42 .
2- سورة آل عمران / 200.

ويجب ان يعرف الانسان ان الناس لا يطلبونه لحل مشكلاتهم وانمايريدون منه ، الاستماع الجيد لمشكلاتهم ، ثم حل الميسور من تلك المشكلات ، وهذا ما يقدره العضو غالباً - بقدره - وقد ورد عن رسول الله( صلى الله عليه و آله وسلم) ( انكم لن تسعوا الناس باموالكم فسعوهم باخلاقكم) والاخطاء التي تصدر عن العضو الآخر، أو عن سائر الناس، يجب على الانسان السياسي ان يلاحظها مراعياً الظروف المحيطة بالخطأ ، ولذا قد يكون خطأ واحد ، من انسان واحد مختلفاً في درجات البشاعة بين زمان و زمان ، و شرط و شرط ، وهكذا بالنسبة الى الخطأ الواحد من نفرين .

د - مستويات مختلفة

تختلف درجة العضو في الجماعة ، باختلاف فهمه وحزمه ،وهمته بالنسبة الى الهدف ، فقديكون عضو فاتر الهمة ، لايؤمن بالهدف ايماناً كاملا ، وقدلا يفهم الهدف حق فهمه ، وقد لا يكون حازماً عند سيره الى الهدف ، وكل ذلك مما يقلل قيمة العضو ، ويجعله سياسياً فاشلا ، ولذا فاللازم ان يجتنب العضو عن الاقوال المثبطة، والروح السلبية والفكرة التشائمية ، فان السياسي الناجح هو الذي يكون ايجابياً، ويخلق في نفسه مزيداً من القدرة فمثل (هذا الامر لا يفيد) و( لن نقدر عليه )و (لا نصل الى الهدف) و( ليس هنالك مخرج من المشكلة )و (لا اجد ما يمكن عمله) الى غير هذه الجمل، لاتفيد العضو الاتأخراً، والجماعة الا انحطاطاً ...

واللازم ان ينقل العضو ايمانه بالهدف و امكانه الى سائر الاعضاء، وبذلك يكون الاقتراب الى القدرة اكثر فأكثر .

ص: 181

ه_ - القدرة

والقدرة امانة في عنق الانسان ، لا يحق له تبذيرها ، ولا تجميدها.

فالاول : ان يصرفها في غير مصرفها، سواء كان مصرفاً باطلا، أو مصرفاً اقل من المصرف المقرر .

والثاني : ان لا يصرفها

(فالاول) كما اذا صرف ديناره المقرر صرفه في كتاب درسه ، في الافيون اوفي کتاب دون درسه .

(والثاني)كما اذا جمد الدينار فلم ينتفع به ، والانسان القدير ليس ملكاً لنفسه ، بل للمجتمع ان القدرة مستمدة من الجمع، فاذا لم يستعمل القدرة حق قدرها ، كان قد خان .

قال الله سبحانه :« انا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال ، فابين ان يحملنها واشفقن منها ، وحملها الانسان انه كان ظلوماً جهولا »(1) انه ليظلم نفسه والآخرين، ويجهل قدر نفسه والآخرين، فلايرد الامانة اصلا ، اولايؤديها حق ادائها ..

والقدرة كالشجرة كلما صرفها الانسان نمت أكثر فأكثر، وجائت بقدرات جديدة ، بينما اذا لم يصرفها ، أولم يجعلها في المكان اللائق بها ، تقلصت و ذبلت حتى تموت .

قال سبحانه : « انفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه»(2).

وفي الحديث : ان ملكاً ينادى ويدعو: (اللهم اعط كل منفق خلفاً، وكل ممسك تلفاً ) .

واللازم على ذي القدرة ان ينمي قدرته ، فان القدرة أيضاً قابلة للنمو ،

ص: 182


1- سورة الاحزاب / 72
2- سورة الحديد /7 .

فالقدرة السياسية والاقتصادية والعلمية وغيرها ، كلها قابلة للنمو، وانمانمو كل قدرة حسب موازين تلك القدرة

و - الفكر المتكامل

الفكر المتكامل والجرئة والمبادرة واتخاذ القرار من الامور الضرورية للانسان ذي القدرة ، وعليه فاللازم على القدير ان لا يقدم بدون تفكر في جوانب الامر، و الاكان ما يفسده أكثر مما يصلحه ، ثم اذا فكر لكنه تجبجب وتردد لم ينفعه تفكره والسابقون هم الفائزون ، فاللازم المبادرة .

قال سبحانه : « والسابقون السابقون اولئك المقربون»(1).

وقال تعالى : «سارعوا»(2) و «استبقوا»(3) و «في ذلك فليتنافس المتنافسون»(4) يقول أحد الحكماء : (الجرىء من فكر فى الاشياء بهدوء ، ودرسها بدقة ووازن بين الامور و اختار الاصلح ، ثم بادر و اسرع ، لايلوى على شيء) ...

ولذا يكون الروتين أضر شيء بالقدرة ، واذا رأى ذو القدرة ان أمره يسير بروتين ، لزم عليه ان يخترع أمراً جديداً يمكنه المبادرة في نطاقه ، فاذا فتح مدرسة ، وتجمد، فكر في فتح مكتبة ، ثم مستشفى ، ثم مطبعة ، وهكذا ..

وكذلك يجب ان يكون دائماً على اهبة الاستعداد للعمل ، ويفكر لكل ظرف في رد فعل حسن وسريع ، فالحياة عبارة عن مجموعة قرارات و انجازات وكل من كانت قراراته وانجازاته أكثر ، كان أكثر حيوية وأجدر بالاحترام والتقدير، ولذا فلا يجوز انتظار الوقت الافضل ، الافي موارد خاصة ، أما كل من يقول انه ينتظر ذلك، فليس الاتهرباً من المسؤلية - في بعض الاحيان - ومثله من يقول : انه يتحرى العمل الافضل وليتذكر صاحب القدرة المثل المشهور : (من لم يحطم المتاعب حطمته).

ص: 183


1- سورة الواقعة / 10 .
2- سورة آل عمران / 127.
3- سورة البقرة / 143
4- سورة المطففين /26

ز - الارادة الفولاذية

ليتذكر صاحب القدرة - دائماً - ان ارادة التنفيذ عامل من عوامل النجاح، والمريد للتنفيذ اذا أوصد أمامه ألف باب دخل من الباب الواحد والالف فليس الجومهما كان خانقاً بدون فرج ، كما ان الجولمن لايريد التنفيذ ، لا يوجد فيه ولاكوة ، فالاعذار تلبد الاجواء ، واذا أراد ذو القدرة ان يعالج معضلة مستعصية كان عليه ان يحللها ، فان المعضلات الصعاب عبارة عن امور صعبة تجمعت في صورة واحدة ، كالعقد في الخيط ، تحل عقدة عقدة ، وكلما كان الانسان أكثر نفوذاً وعملا وحلا الصعاب ، كان أجدر بالحياة ، وبان يكون سياسياً بارعاً ، فان السياسة كالبناء له أحجار توضع بعضها فوق بعض حتى يكون بناءاً متكاملا، واذا لم يقدر الانسان من عمل كبير ، فخير له أن يعمل اعمالا صغاراً ، فان بتجميع القطرات يكون البحار، وبجمع الذرات تكون الصحارى .

ح - الانضباط

ومهما كان الانضباط رائد الانسان القدير في كل شأنه ، ازداد قدرة على قدرة ، وهو عبارة عن وضع العمل المناسب في المكان المناسب في الزمان المناسب ، وكذلك بالنسبة الى وضع الافراد في أماكنهم ، فالشجرة قد تعطى ألف برتقال اذا كانت في مكان مناسب ، بينما لا تعطى حتى مأة في المكان غير المناسب ، والانضباط لا يأتي الا بعد رؤية مستقبلية وحالية ، ليعرف مقادير الاشياء ومواضعها ، فهو العمل ضمن فكرة مدروسة باتقان ، بعدان يفهم القدير بسبب الدراسة: المشاكل ويضع الحلول وكيفية رد الفعل لها ، والانضباط يجب ان ينفذ في جومرح ، ولا يكون قاسياً ، والاحطم الروح مما يوجب قلة

ص: 184

التقدم ، فان الروح والجسم يشتركان فى تقديم الامور ، فاذا انسحب احدهما من الميدان لم يقدر الأخر على امر .

ط- رفع المستحيل

وليعلم السياسى القديران لا مستحيل الاماينتهى الى ( النقيضين) جمعاً أو رفعاً فكل شيء ممكن حتى ما اذا أراد توحيد ألف مليون انسان تحت حكومة واحدة ولقد فعل مثل ذلك غيره قبله ، فاذاقال انه لايمكن فتح مدرسة أو تشكيل منظمة أو انقاذ بلد ، كان ذلك منبئاً عن عدم جدارته بنفسه لا عن عدم امكان العمل واللازم في السير ، ان يجعل برنامجين برنامج الطريق وبرنامج المتاعب ، فاذا فعل ذلك وارتطم بالمشكلات لم يؤثر ذلك عليه ، حيث قد ادرجه مسبقاً في برنامجه العام .

هناك قد تأتى حواجز استثنائية ، ولايهتم بها السياسي القدير حيث انه هضم أمثالها ، وقد قالت الفلاسفة : ( حكم الامثال فيما يجوز و فيما لا يجوز (واحد) . . وكلما قوى العضو نفسه كان أجدر بالوصول الى الاهداف ، فمهما قويت النفس ، قل ضغط الانفعالات والاضطرابات عليها ، ولذا وردفي الحديث (المؤمن اصلب من الجبل ، فان الجبل يقتطع منه والمؤمن لا يقتطع منه)

ى - التخطيط السليم

أما الاماني فهي بضائع النوكي - اي الحمقى - كما يقول علي عليه السلام ، فالقدرة لا تأتى بالاماني ، وانما بالتخطيط السليم ، ووضوح الرؤية المستقبلية ، وتحرى الوسيلة التي تنتج الهدف، بايسر الطرق وأقربها ، ومامن شك فى ان كل أسباب السعادة ليس بيد الانسان ، بل منها مابيد التقدير، ولذا

ص: 185

قال سبحانه : «أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ؟ » (1).

وقال : «ومارميت اذ رميت ولكن الله رمى ».(2)

وقال: «نبلوكم بالخير والشرفتنة»(3)... وانما الكلام فيمن ينال السعادة ؟ انه هو الذي يهي كل الاسباب الممكنة ، مثله في ذلك مثل من ينال الصيد ، فانه ليس كل أسباب الصيد بيد الانسان، لكن مع ذلك الذي ينال الصيد هو الذي هيىء أسبابه الممكنة ، والى غير ذلك من الامثلة .

فمن سمع عنه الانسان انه ذو حظ في التقدم لابد وان يفهم السامع ان ما جناه من الثمرة الطيبة انما هو نتيجة جهد وعمل طويلين، قد يضرب بجذوره الى ما قبل خمسين عاماً فالماشي على الدرب باستمرار يصل كثيراً ما ، واذا أصابه نوع من اليأس لما يجده من عدم الثمرة ، فليعلم ان الاعمال وان كانت تمر مضنية وثقيلة وبلا نتيجة - في بعض الاحيان - الا ان الواقع غير ذلك ، فالجهد لا يكون ضائعاً والتعثر ليس دائماً ، وانما بعض الاشجار يعطى الثمرة بعد حين ، وقد قال سبحانه : «ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة ، أصلها ثابت و فرعها في السماء ، تؤتي أكلها كل حين بأذن ربها» (4)

وكما ان البذور تختلف في الانتاج ، وكذلك تختلف البذرة الواحدة في الانتاج حسب شروط الزمان والمكان كذلك الاعمال السياسية ، وبذل الطاقات والقدرات تختلف اختلافاً انتاجياً ، واختلافاً زمنياً .

يا - اغتنام الفرص

ومن أهم ماينتج القدرة ، اغتنام الفرصة ، فبينما (اضاعة الفرصة غصة) يكون انتهازها قوة، وقد ورد في الحديث: (انتهزوا الفرص فانها تمر مر السحاب) والفرصة لاتطرق أبواب كل أحد ، كما لا تستمر في طرق باب أحد ، فاللازم

ص: 186


1- سورة الواقعة / 64
2- سورة الانفال / 17
3- سورة الانبياء / 36 .
4- سورة ابراهيم / 29 و 30 .

ان يكون السياسي ذكياً ، ينتهزها اينما وجدها ، ولذا يقول احد الحكماء :

( انتهز الفرصة كلما وجدتها ، ولا تجعل وقتك يذهب بتعلل فاذا تذكرت في نصف الليل في الفراش الوثير ، انك لم تفعل ماكان ينبغي عليك ان تفعله فانهض ، واعمله) والحياة كلها قدرات وفرص ، كالبحر كل جوانبه ماء ، وانما الكلام فيمن يغترف ، فاذا لم تغترف واغترف غيرك فلا تلم الانفسك ( واعلم ان اللوم لا ينفع) ولا يزعم الانسان ان غداً أيضاً وقت ، فهو وقت عمل ثان ، ولا يستوعب غداً عمل نفسه وعمل اليوم الماضي ، وانتهاز الفرصة يحتاج الى يقظة دائمة ، واستشارة مستمرة وعمل دائب ، وتحرى للافضل ، في كل لحظة .

يب - التواضع

والقدرة تلازم التواضع ، والسياسي القدير هو الذي يعلم ان الاراضى المرتفعة محرومة من مياه الأنهار ، فالمتواضع مصب القدرات ، ولان البحر ذو تواضع يجمع مياه الامطار المستعلية ، أما الربى فيسيل عنها الماء حتى لا يبقى فيها منه قطرة ، والحركات انما تنجح بتجميعها قطرات القدرة ، حيث تتواضع للقدرات ، بينما الحكومات انما تفشل لاستعلائها، فتنحدر عنها القطرات الى ان لاتبقى فيها قطرة فتسقط.

واذا أراد الانسان ان يعرف ، سرسقوط حكومة مع قدراتها الكثيرة ، وبدء حكومة مع انه لاقدرة اطلاقاً في حال الشروع ، فلينظر الى مجنون الغرور والتواضع ، فقبل الوصول الى الحكم تواضع واخذ في الصعود ، ولما وصل الى الحكم اخذه الغرور ، فأخذ في الهبوط وهكذا حتى يسقط ويأخذ غيره مكانه .

ومن طرق التواضع ان يحترم الانسان آراء الاخرين ، ويستشيرهم فقد

ص: 187

ورد في الحديث : (أعقل الناس من جمع عقل الناس الى عقله) .

وفي شعر منسوب الى علي (عليه السلام) : (وترى قفاك بجمع مرآتين).

فاذا فكر السياسي القدير انه انسان ، و کل انسان ( باستثناء المعصوم ) معرض للخطأ، لم يمتنع ان يتحرى الرأى الاصوب في اموره كما كما لم يمتنع ان يعترف بالخطأ اذا ظهر له ذلك وفي المثل : الاعتراف بالخطأ فضيلة ) وهذان الأمران الشورى والاعتراف بالخطأ يزيدان الانسان قدرة، كما يزيدان الناس به ثقة .

يج - البحث عن النقد

وعلى الانسان الذي يتطلب القدرة لانجاح المهمات، ان لا يتطلب المديح ولا يقبله من أحد ، بل بالعكس يجب عليه ان يفحص عن النقد، ويتطلب النقد البنّاء من أصدقائه ومن الاخرين .

وفي الحديث : ( خير الاصدقاء من اهدى الي عيوبي) فكل معرفة بالنقص توجب اكمال الناقص ، وهو خطوة جديدة الى القدرة ، فان القدرة والكمال متلازمان .

أما اذا انتظر الانسان مدح الاخرين له بماهو كذب ، وهش لمدحهم اياه بما ليس فيه ، فهو أخذ في السقوط، والقدرة تنحدر عنه انحدار الماء من الشلال ومن أسباب سقوط الانسان ان يمدح نفسه واذا أراد ان يتحدث بماعمله، لاجل مصلحة في الحديث مرتبطة بالمهمة ، فاللازم ان يترك كلمة (انا) وانما يستبدلها ب_ (نحن) فان (انا) يعني انه وحده عمل ، بينما (نحن) معناه انه جزء في العمل و انما كانت جماعة عاملة هو أحدهم ، وفي ذلك تواضع واكتساب قدرة...

كما ان اللازم اجتناب كلمات تدل على الغرور ، مثل : ( لقد قلت لكم )

ص: 188

( لقد تنبأت ) ( لقد كنت اتوقع ) ( سترون اصابة رأيي ) ( الاتذكر اني قلت هذا قبل مدة ) الى غيرها ، مما يعطى تبجحاً ، فان أمثال هذه الالفاظ ، توجب انفضاض الناس ولازمه تقليل القدرة .

يد - الانسان الواقعی

واخيراً فليعلم الذي يريد تحصيل القدرة ، ان حل الامور لا يمكن بالاقوال المجردة ، والتأفف ، واظهار النفس بمظهر الجد ، مع الفراغ عن العمل ، بل القدير هو الانسان الواقعى الذي يلاحظ الامور بكل واقعية ، وبدون ان ينظر اليها بمنظار غير صحيح ، فان عدم الانسجام مع الواقع في الفكر والعمل أول خطوة للعجز . فالتشائم ، و التفائل ، ورؤية الامور صغاراً أو كباراً - بماليس بواقع كل بدوره ينقص القدرة، ولا يخفى ان الكلام في هذه المسألة ينتهي الى (مات المواد) نكتفى منها بهذا القدر، تمشياً مع وضع الكتاب والله المستعان.

ص: 189

مسألة : 19 بين الحقوق والقدرات

اشارة

في الشريعة الاسلامية ، (الحق) يقال لما يطابق الواقع ، من جانب الواقع و (الصدق) يقال له من جانب الخارج ، فاذا قيل زيد قائم ، فان لوحظ كونه خارجاً قيل له (حق) وان لوحظ الكلام المطابق لذلك الخارج، يقال له (صدق) فهما وجهان لشيء واحد ، و (المشروع) يقال لما شرع من قبل الله سبحانه ، ولذا يكون ذلك خاصاً بالاحكام ، ويكون أخص مطلقاً من (الحق) ولا يشرع الاما يطابق المصلحة عند العدلية حيث يرون ان الاحكام تابعة للمصالح والمفاسد الموجودة في متعلق الاوامر والنواهي والمصلحة ما تعطى نفعاً دينياً أو دنيوياً للفرد أو الجماعة ، والمفسدة بعكس ذلك ، والنفع ما يلائم الانسان .

أما في الاصطلاح السياسي ف_ (الحق) يقال لما اختاره كل الناس أو أكثريتهم قانوناً لانفسهم ، ولا يختار الناس شيئاً قانوناً لانفسهم الا فيما كانوا شركاء في وضعه ، وبقوا على رؤيتهم الحسنة له اما اذا لم يشتركوا في وضعه،( بانفسهم أو بنوابهم) فهو (باطل) كما انه اذا وضعوه ثم وجدوا ضرره ، لم يروه مشروعاً ، فان تمكنوا من ازالته ازالوه ، والا اسندته القوة الديكتاتورية ، وسقطت

ص: 190

مشروعيته ، فلا يكون حقاً ، ولذا ف- الحق والمشروع شيء مترجرج عند (السياسة) بينما كلاهما شيء ثابت عند الاسلام وسر الفرق ان الاستناد إلى ( الله سبحانه) الثابت يوجب ثبات المسند ، بينما الاستناد الى( الانسان) المتقلب الاحوال ، يوجب ترجرج المسند.

وبما ذكرنا تبين ، ان النسبة بين (القدرة والحق) في الاصطلاح السياسي: ان كل قدرة استندت الى القانون الموضوع من قبل الاكثرية ابتداءاً واستدامة فهي قدرة حقه وماعداها قدرة باطله بينما في الاصطلاح الاسلامي (القدرة الحقه) ما كانت مستندة الى القانون الالهي .

وبذلك تبين ، ان (القدرة) التي تريد النفوذ على الانسان على قسمين :

(الأول) ما يثقل على كاهل الأفراد والجماعات ، وهي القدرة التي يراها الفرد أو الجماعة (غير حقة) .

(الثاني) مالا يثقل، بل احياناً يكون موجب الراحة والسرور، وهي القدرة التي يرونها (حقة) وعليه فاذا تضادت (القدرات) سواء كانت في العرض ، كقدرتين لجمعيتين ، أو في الطول ، كقدرة الجمعية وقدرة الحكومة، لابدوان یری الانسان حقية احداهما ، فاذا كان الانسان حراً فى الاختيار، اختار ما رآه حقاً .

اما اذا كان الانسان مضطراً ، فهو يختار ما يضطر اليه ، وان رآه باطلا، كاختیار فرد المرشح من قبل الجماعة ، المعارض لسياسة الدولة الديكتاتورية حيث ان الفرد الخائف من الدولة ، المنضم الى عضوية تلك الجماعة ، يقع بين أمرين متضادين ، الى غير ذلك من الامثلة .

والحقوق ، والقدرات ، في المجتمع، توجب تنظيم الروابط، والانسان في هذا الدرب المعقد لابد وأن يختار ، في كل خطوة ، ويرجح الاهم على المهم اذا

ص: 191

لم يتمكن من حل الاختلافات ، بالحلول الوسطى وفي صورة تضاد القدرات لابد وان ينتهى الانسان الى ما ينفع جانباً ويضر الجانب الآخر ، وكثيراً ما يطيع الانسان الاجواء الضاغطة ، وأن لم يرها حقاً ، وذلك خوفاً من عواقب عدم الاطاعة ، الذي يكون ضرره بنظره أكثر من ضرر سلوك الباطل الذي ليس بحق ، والجماعات السياسية ، غالباً يجدون في ان يلبسوا قدراتهم لباس الحق . حتى الديكتاتوريين منهم ، وذلك لئلا يقاوموا من قبل الامة من ناحية وحتى يحصلوا على أكبر قدر ممكن من النفع ، من ناحية اخرى ، حيث ان رؤية الناس الحق الى جانبهم يوجب استجابتهم تلقائياً للجماعة السياسية وفي ذلك أكبر الفائدة للجماعة .

ومما تقدم يظهر ، انه كثيراً ما يستجيب الانسان لأمر ما (وان لم يكن قانوناً )لانه يراه حقاً، بل ويحاول ان يقدمه الى مشرعي القانون ليجعلوه قانوناً حيث ان القانون الموضوع من قبل الاكثرية أيضاً لابد وان يستند الى (روح القانون) الذي هو عبارة عن (وجود المصلحة )في نظرهم ...

وغني عن الذكر انه اذا تكافئت المصلحتان ، أو المصلحة والمفسدة سرت تلك الروح الى هيكل القانون ، وتكون النتيجة تقديم الاهم ، واذ لا أهمية فالنتيجة التخيير، كما انه قد تتعارض القدرات في مقام التشريع ، ويكون الغلب لمن خرج رأيه بالاقتراع، فالقرعة قدرة هائلة سرية ، لاضوابط لها ، توجب ثقل الكفة بدون مبرر خارجي ، يستند اليها العقلاء حلا للتضاد ، اذ لاعلاج لهم سواها ، أما كيف تستند القدرة العاقلة

(فى الانسان ) الى قدرة غير عاقلة (فى القرعة)؟ فلانه (انصاف) يقرره العقل أيضاً، أو لان تقديم هذا أوذاك مجهول غیر قاطع ، يحال الى

(القرعة) التي هي مجهولة لكنها قاطعة، والانسان واسطة فقط ، الى غيرهما من الاحتمالات الفلسفية والتي لسنا بصددها الان ولذا لم

ص: 192

نتعرض الى فلسفة القرعة المذكورة في الروايات .

القدرة غير المتمركزة

ثم ان أية جمعية مرتبطة بعضها ببعض لابد لها من قدرة، فهي كالروح السارية في الجسم ، وتنقسم القدرة الموجودة في الجماعة الى قسمين:

الاول: القدرة غير المتمركزة.

الثاني: القدرة المتمركزة.

(أما الأولى ) فهي القدرة الموزعة على أعضاء الجماعة ، سواء كانت بنسبة واحدة أو بنسب مختلفة ، وهذه القدرة هي المنحصرة في الجماعة ، ولا ربط لها بالخارج عن الجماعة ، كما لارئيس ولا مرئوس فيها ، وفيها النظر الى القدرة لامن حيث ذاتها الموجودة ، بل من حيث ظهورها في الجماعة وهذه القدرة تسود الجماعة بدون تركيز لها ، وبدون جعل ضوابط لها من قبل الجماعة ، بل أفراد الجماعة حيث استقوا الاداب والرسوم من غيرهم- سواء كانت الجماعة مغلقة، أو تعيش في جو اجتماعي -أخذ يعامل أحدهم الآخر حسب تلك الاداب والرسوم ، وانما قلنا . (سواء...) لان الجماعة قد تعيش ، في جو صاخب ، كالجماعة في المدينة والقرية وما أشبه ، وقد تعيش منعزلة .

أما استقاء الاداب والرسوم في الجماعة التي تعيش في جو صاخب، فواضح انها كيف استقت من المجتمع، آداباً ورسوماً ، تأتي بها الى الجماعة ، فكل فردفيها يعامل الأخر، كما عرف ان يعامل المجتمع .

وأما استقاء الاداب والرسوم في الجماعة التي تعيش منعزلة، ولنفرض رجلا وامرأة ذهبا الى غابة وتوالدا و تناسلا هناك منعزلين عن العالم اطلاقاً - كما يذكرون في جماعة (تازارى) التي تعيش في غابة من غابات (اندنوسيا) حيث

ص: 193

وصل الى عام (1967) م عدد افرادها (25) فرداً منقطعين عن العالم اطلاقاً - فانه لاشك ان للجماعة آداباً ورسوماً استقيت أولا من الاجتماع الصاخب الذي عاش فيه الوالدان ، ثم سرت تلك الاداب والرسوم الى الاولاد والاحفاد ، مع خلطها بشيء من الاداب والرسوم الجديدة، التي اقتضتها حياة الجماعة وسط الغابة ، حيث التعاون المشترك ، في تهيئة الثمار للاكل ، وتنظيف المكان والطبخ واستعمال الالات الاولية، ثم قضايا الزواج، وعلاج مرضاهم، والی غير ذلك.

ولا بدوان تحدث بينهم سلسلة مراتب في الاحترام، وفي الرئاسة والمرئوسية و في السيطرة ، فقد تحقق في علم الاجتماع، وفي علم النفس، وفي علم الحيوان ان الانسان والحيوان وان كانو الوحدهم، لابدوان تحصل بينهم سلسلة مراتب و مسلط و مسلط عليه ، فالدجاجة تفرخ عشرة أفراخ ، فاذا كبروا خاف بعضهم من بعض ، وسيطر بعضهم على بعض ، وهكذا في سائر أفراد الحيوان ، وفي افراد الانسان.

ان القدرة في مثل هذه الجماعة غير مركزة، حيث ان القدرة الطبيعية تسير الجماعة .. كما ان القدرة غير المركزة تسيّر الجماعة التي ينضم أعضائها لهدف واحد، بدون ان تقسم القدرات بين الافراد ، كما في الجماعات السرية - غالباً- حيث ان الاداب و الرسوم المستقاة من المجتمع هي السائدة بينهم ، بدون ان يسمّى أحدهم رئيساً والاخر معاوناً . وهكذا ، فانه من غير الشك، ان سلسلة المراتب التي ذكرناها في الحيوان موجودة في الجماعات السرية ، كما ان مما لا شك فيه ان الجماعة السرية قد تجعل لنفسها ضوابط فتركز القدرة في بعض أفرادها، أو بعض فئاتها ، فهذه الفئة للمال ، وتلك للقرارات، والثالثة

ص: 194

للثقافة وهكذا ، الا أن الكلام في انه قد تعيش أيضاً بدون تركيز قدرة، فتكون القدرة السائدة فيها ، قدرة غير مركزة ، فلا ضوابط ، ولاقرارات ، وانما يربط الجماعة بعضها ببعض القدرة الخفية بسبب الضوابط والاداب والرسوم التلقائية التي استقاها افراد الجماعة ، من المجتمع الصاخب المدني أو القروي .

القدرة المتمركزة

( الثاني) القدرة المتمركزة ، حيث ان الجماعة تجعل لانفسها ضوابط ، وتوزع القدرات ، وتكتب فيما بينها وثيقة العمل والحركة والتقدم . وبذلك تتمركز القدرة ، في وحدات خاصة ، فرداً كانت أوفئة في ضمن الجماعة ، وهذا هو المظهر الثالث من مظاهر القدرة بعد القدرة الطبيعية الكامنة والقدرة الظاهرة في الجماعة ( كما ذكرناها في القسم الاول ) .

وهذه القدرة المركزة ، قد تكون ضعيفة فيما كانت حسب المقررات للجماعة فقط، وقد تقوى وتشتد ، اذا حصل الارتباط بين هذه الجماعة وسائر الجماعات البشرية، سواء حصل الارتباط بواسطة الحرب، أو بواسطة الصداقات والتعاونات أمام كارثة ، أولاجل زواج هذه من تلك، أو بواسطة المعاملات.

و بهذه الارتباطات بين الجماعة يحصل أمران :

(أ) تمركز واشتداد القدرة في الجماعة أكثر فأكثر ، فان رئيس الجماعة يكون أقوى عند الحرب - حيث لزوم السمع والطاعة وصرامة النظام الحربي من الرئيس حال السلم، وكذلك سائر الفئات التي تمركزت فيها القدرة ، عند الحرب ، وكذلك عند أقسام الارتباطات الاخر

(ب) استفادة كل جماعة من الجماعة الاخرى الاداب والرسوم ، حيث انه لدى المقايسة بين الضوابط الموجودة عند هؤلاء وهؤلاء ، ينتخب كل جانب الافضل

ص: 195

من الاداب والرسوم ، وهذا هو سر عدوى صفات الامم الى الامم الاخرى .

وقد ذكروا في علم الاجتماع ان التجار والسواح والمحاربين والعيون ومن اليهم هم طلائع تغيير الامم، حيث انهم يرون آداباً ورسوماً جديدة، فينقلونها الى امم أنفسهم كما انهم ينقلون آداب ورسوم امم أنفسهم الى سائر الامم التي يحتكون بها .

ثم ان تمركز القدرة له سببان أساسيان :

(1) السبب الداخلي .

(2) السبب الخارجي من غير فرق في كون الجماعة ، عائلة ، أو حزباً ، أو نقابة ، أو حكومة ، أوغيرها .

(1) فالسبب الداخلي هو الامر النابع من داخل الجماعة، الموجب لتمركز القدرة، كالعلم ، والدين والمال ، والسلاح وما اشبه ذلك ، فالعالم في الجماعة قدرته اكثر من قدرة غيره وذلك لاحساس الاحتياج اليه في الهداية والارشادوفي رفع المشكلات الناشئة عن الجهل ، فان الجهل يوصل الانسان الى الطريق المسدود، بينما العلم يهدي الانسان الى الطرق السالكة التي تنتهى الى المطلوب من غير فرق بين علم الحرب أو علم الطب أو علم الهندسة، أوسائر العلوم ومن اقسام العلم، العلم الديني.

الدین قسمان

و (الدين) على قسمين :

(أ) الدين الصحيح اى الهادي للانسان الى مصالح دنياه وآخرته ، ومن الواضح ان العلم الهادي الى مصالح الدنيا اذا كان موجباً لتمركز القدرة يكون العلم الهادي الى كلتا المصلحتين أكثر ايجاباً لتمركز القدرة ، و الدين غريزة فطريه فى الانسان ولا يرتبط بتحول :- اقتصاد كما زعمه مارکس و اتباعه ، ولذا

ص: 196

نجد الدين يرافق البشر منذما حفظ التاريخ والى الان، وقوله (الدين البناء الفوقي الاقتصاد) يشبه قول من يقول ان الشجاعة والجبن ، والذكاء والغباء بناء فوقي للاقتصاد وقد ذكرنا فى جملة من كتبنا الاعتقادية الادلة الفطرية والعقلية للدين في مستويات مختلفة - أمثال : (كيف عرفت الله ؟) و (هل تحب معرفة الله ؟) و (العقائد الاسلامية) و (القول السديد في شرح التجريد) وغيرها .

(ب) الدين المزيف ، وكما للنقد صحيح ومزيف، وللمصنوعات صحيح ومزيف ، وللمعجونات صحيح ومزيف ، كذلك للدين فاحياناً يلبس الزيف لباس الدين ، لان اللابس جاهل ، أو لانه دجال، فقد يستغل بعض جهل الناس بالكوارث الطبيعية ، فيزعمون انهم قادرون على رفعها بسبب الاتصال بالالهة وبذلك يستدرون القدرة والمال من الناس الجهلة، وكثير أما يرافق هذا الزيف ذكاء المستغل فيعطى لزيفه مثال الواقع ، مما يستدرّ قدرة متمركزة من الجهلة كما ينقل ان احدهم كان راكباً في السفينة ، ولما تلاطمت الامواج ، واشرفت السفينة على الغرق، قال لجماعته انه اتصل بالالهة، طالباً منها ان لا يغرقوا ، واتفق لهم السلامة ، فقال له بعضهم وكان يعلم انه مزيف : كيف قلت ذلك ؟ قال: ان السفينة لاتخرج من حالين ، فان غرقت لم يبق أحد يخبر عن كذبي ، وان لم تغرق استفدت من قوة اعتقاد الجماعة بهذا النبأ الغيبي . وكان آخر ينبيء عن المستقبل - في جماعة جهلة - واحياناً يطابق خبره الواقع ، فلما سأله بعض أصدقائه عن مصدر علمه؟ قال : اني اخبر أخباراً اجمالية والاخبار الأجمالية ، تطابق احياناً الواقع . مثلا أقول لكل فتاة تراجعني : انها تتزوج، ولكل محارب انه سينتصر ولابد في الفتيات من الزواج ، وللمحاربين من الانتصار ، اما من لم تتزوج ولم ينتصر، فاذا استفسرني عن عدم مطابقة كلامي؟

ص: 197

أقول له : انه فعل ما يوجب سوء حظه ، الى غير ذلك من طرق الزيف . . ولذا كان الدين في المزيفين خليطاً مع السحر والكهانة والقيافة وما أشبه حيث انهم كانوا يستمدون دينهم المزيف من هذه الاسباب، كما استمد ماركس طريقته من الغيبيات ، حيث جعل التاريخ الغابر ادواراً ، بدون دليل يستنداليه وكذلك قال: ان الشيوعية هي الصيغة المستقبلية للبشر، حيث اذا وصل التاريخ اليها ، يتجمد و الى الابد ، وكلا الغيبيين ظهر زيفه ، كما حققه العلماء.

وقد ذكرنا طرفاً من ذلك في كتبنا الاقتصادية، وفي كتب اخرى أمثال : (ماركس ينهزم) وغيره ، ولذا فالماركسية تعدديناً مزيفاً، استمدت قدرتها من جهل الناس ، فسردت لهم الغيبيات في ظلام، فلما ظهر الزيف استمد القائمون بها ، قدرتهم من السلاح والسلطان ، حالها حال كل دكتاتور يأتى الى الناس باسم تهيئة مصالحهم ، فلما استولى على الحكم جعل السلاح حاكماً .

المال

و(المال) أيضاً من أسباب تمركز القدرة ، فالملكية الصحيحة ، هي التي تكون في قبال الاشياء الخمسة ، وهي توجب توزيع الثروة بين الجميع ، ولا يكون هناك محتاج يضطر الى اتعاب جسده واعطاء قدرته الاثرياء، كما لايكون هناك رأسمالي( - بالمفهوم الغربي أو الشرقي، فان الأول يجعل المال في ايدي التجار الكبار كما في امريكا ، والثاني يجعل المال في يد الطبقة الحاكمة كما في البلاد الشيوعية - )يكون محل تمركز القدرة .

وبهذا ظهر ان الملكية الخاصة الصحيحة ، لا توجب الاتمركز القدرة بقدر الاستحقاق ، مثل العلم الذي يمركز القدرة بقدر تعب العالم، وانما الملكية الخاصة الموجبة لتمركز القدرة الاعتباطية هي سيطرة فئة أوفرد على المال سيطرة

ص: 198

مطلقة ، تفعل ماتشاء ، واللازم ان لا ينخدع الانسان بالدعاية الشيوعية ، حيث يذكرون انه لاملكية خصوصية في بلادها ، فالقلة الحاكمة في تلك البلاد أقدر على التصرف في أموال الناس (التي هي نتيجة اتعابهم) من قدرة الرأسماليين في الغرب .

والسلاح

و(السلاح) هو الاخر من أسباب تمركز القدرة ، ولذا يعتمد الحكام الديكتاتوريون عليه في ضرب الداخل وحرب الخارج ، فهذه امور داخلية

توجب تمركز القدرة ، سواء كان من بيده هذه الامور حصل عليها بالحق ، أو بالباطل ، وسواء كان داخلا في حزب سياسي ، أو نقابة صناعية أوزراعية ، أو غير تلك ، كما اذا كان فرداً في امة.

السبب الخارجي للقدرة

(2) أما السبب الخارجي لتمركز القدرة ، فهو أمثال الحروب والكوارث نحوهيجان البحر ، والسيول ، والجفاف ، ونحوها ، فان العائلة - مثلا - التي تعيش في سلام ، لاتحتاج الى الرئيس المتمركز فيه القدرة ، أمالدى محاربة جماعة لهم ، أو جفاف مياههم أو ما أشبه يحتاجون الى رئيس يمركزون فيه قدراتهم ، لاجل ازالة تلك المشكلة ، اذ المشكلات لاتزال الابقدرات كبيرة ، والقدرة الكبيرة انما تكون وليدة تمركز القدرة .

وقد تبين مماسبق ان تمركز القدرة يلازم التخصص ، حيث ان القدرات المنتشرة في الافراد ، يتجمع كل نوع منها فى فرد أو فئة ، مثلا : توزع في

ص: 199

الجماعة السياسية التي هدفها الوصول الى الحكم ، القدرات ، ففئة للاعلام واخرى للاتصال بالمجتمع ، وثالثة للمال ، وهكذا ، وكذلك القدرة الدينية ، لدى تشكلها ، فجماعة للخطابة ، واخرى للدراسة ، وثالثة لبناء المؤسسات ، فان الدين يسيطر على الناس ، من ناحيتين :

(1) ناحية الولاية الشرعية ، حيث ان حق التصرف في الكون الله ولرسوله و لخلفائه ولا منائهم ، بشرط ان يكون الامين مرضياً من قبل الاكثرية ، فاذا كان هناك امينان ، واختارت الامة احدهما ، كان هو الولى .

قال عليه السلام : (فاني قد جعلته عليكم حاكماً).

وقال سبحانه : «امرهم شورى» وحذف المتعلق يفيد العموم ، هذا بالاضافة الى قوله عليه السلام : ( اياكم ... أن تحاكموا الى أحد من هؤلاء الفساق اجعلوا بينكم رجلا قد عرف حلالنا وحرامنا) الحديث . الى غير ذلك ، مما ذكرناه في كتاب (الحكم في الاسلام ).

(2) ناحية الادارة الدينية ، فان الادارة الدينية ببيان أحكام الاسلام وفهم تطبيقها على الخارج لا يمكن الا للعالم الديني .

والحاصل : ان القدرة تتمركز ، عند جعل الجماعة الوظائف ، الاقتصادية والعسكرية ، والدينية ، وغيرها ، لفرد أو لفئة منهم . . ووصول فرد أو جماعة الى نوع من القدرة المتمركزة يحتاج الى امرين :

(أ) شرائط المجتمع الذى يعيش فيه فان المجتمعات تختلف في شرائط الوصول الى القيادة ، أي نوع من القيادة.

مثلا : في المجتمع الاسلامي لاتشترط الوطنية أو القومية أو اللون للوصول الى المراتب الراقية في السلطة التشريعية(تأطير القانون الاسلامي)، أو السلطة التنفيذية ، فكل من اكتملت فيه شروط الاسلام كان قابلا للحكم ، كان من اى

ص: 200

قطعة جغرافية من الارض، أو من أى قوم أو من اى لون أولغة، بينما في المجتمعات القومية ، أو الوطنية ، أو العنصرية أو ما أشبه ، لايصل الا من كان له تلك اللغة أو ذاك اللون الى آخره . ..

(ب) المؤهلات النفسية التي تدفع بالفرد الى مقام قبول الجماهير له ، اذ من الواضح انه ليس كل فرد توفرت فيه شرائط القومية ، أو غيره تقبله الجماهير قائداً مرشداً ، والاسلام لا يعطى القدرة ، الا لمن اجتمع فيه شرطان :

(1) شرط الكفائة، فان الاسلام دين الكفاءات وقوله سبحانه : «ان اكرمكم عند الله اتقاكم » اشارة الى الكفائة، فالتقوى وهى التحذر عن المزالق الدينية والدنيوية ، تعطى للانسان الكفائة الفائقة ، التي لاتماثلها الكفاءات الدنيوية ، التي تشترطها القوانين الوضعية ، وأقل الفرق الرقابة الداخلية الموجودة في المتقي دون غيره من اصحاب الكفاءات ، ومن المعلوم أهمية الرقابة النفسية في تسيير الامور على النحو الاصلح .

(2) شرط ان تكون القدرة المعطاة لذي الكفاية، قدرة مشروعة، أي بقدر الحق ، ابتداءاً واستمراراً ، فان القدرة المتمركزة ، ديكتاتورياً لا يعترف بها الاسلام ، فلا تجمع القدرة - في نظر الاسلام - بالديكتاتورية، كما ان القدرة المتمركزة بالعدل تزال اذا مارست الديكتاتورية، ولذا فتمركز القدرة في القادة - اسلامياً - تمركز بالعدل ابتداءاً وبقاءاً .

قدرة لاحقة

بقى شيء، وهو ان ذا القدرة المتمركزة فرداً كان أو جماعة ، يلتف حوله جماعة آخرون ، يعطونه مزيداً من القدرة ويستمدون منه القدرة، اذانهم يرون

ص: 201

نجاحه نجاحهم وسقوطه سقوطهم ، فالتفافهم حوله يزيده قدرة، كما انهم بقدرته المتمركزة ، يستمدون منه القدرة ، مثله ومثلهم مثل ماء البحر وقطرات الامطار حيث ان البحر يستمد منها مزيداً من القدرة بينما تلك القطرات تصبح ذات قدرة كبيرة باستهلاكها في البحر وكذلك في قدرة الجيش فان الافراد الذين ينضمون الى الجيش يزيدونه قدرة كما انهم يتقوون به .

وتصاعد القدرة بالانضمام هندسي لاعددي، فان تفاحة وتفاحة اخرى لاتزيد على تفاحتين ، أما قدرة وقدرة اخرى تكون أكثر من قدرتين ، ولذا الجيش يقدر على فتح المدن ، بينما لا توجد هذه القدرة الجديدة - بسبب الانضمام - في كل فرد فرد من أفراد الجيش ، فالقدرة كالبذرة اذا زرعت حيث انها تنمو ، وتعطى الاغصان والاوراد والازهار والثمار ، وعليه فالقدرة ذات نماء واطوار، وليست جامدة محدودة كسائر الجوامد .

ص: 202

مسألة : 20 أقسام القدرة

اشارة

القدرة قد تكون بالسلطة ، وقد تكون بالشخصية ، وقد تكون بالسندية ، فان كلها قدرات وان اختلفت أسبابها :

1 - السلطة

فالسلطة هي القدرة التي توجب خضوع الضعفاء أمام الأقوياء، والخضوع انما يكون الرغبة ،أو لرهبة، ثم الرغبة والرهبة قد تكون بالحق ، وقد تكون بالباطل، فالديكتاتور يكون مرهوب الجانب مرغوباً فيما عنده ، و تكون سلطته بالباطل بينما الحاكم العادل يرهبه الفساق والمجرمون، ويرجوه الضعفاء والمحرومون وسلطته بالحق ، وقدمر في مسألة سابقة ، موضوع الحق والباطل والسلطة قد تأتي بواسطة المال، وقد تأتي بواسطة السلاح ، وقد تأتي بواسطة السياسة والحكم والى غير ذلك.

ثم قد تكون السلطة حاصلة بالتدريج ، كمن يجمع السياسة قطرة قطرة ، وقد تأتى فجئة ، كمن ينصبه السلطان أميراً ، أو يختاره الناس رئيساً ، والقدرة

ص: 203

لها مصادر ، ولها مراكز ، ولها موارد ، فان كانت الثلاثة بالحق ، كانت القدرة في مجراها الصحيح، والاكانت باطلة ، مثلا : قد تكون الاراء مصدر السلطة ويكون المركز الذى فيه الاراء له الكفائة والقابلية والشرائط وتصرف السلطة في اقامة العدل واعطاء كل شيء حقه ، كما انه بالعكس قد لا تكون آراء ، بل قفز الى الحكم بواسطة السلاح ، وقد تكون آراء لكن حصلها غير الكفوء بالتزوير، وقد يجتمع الشرطان ، لكن يصرفه ذو السلطة في ماليس بموردها ، وفى كل هذه الموارد يكون الامر باطلا.

2 - الشخصية

والشخصية هي القدرة التي تعطي لفرد أوامة رفعة على الاخرين، سواء كانت من ناحية العلم، أو المال، أو السلاح ، أو الادارة ، او الصناعة أو الفن أو غيرها، فالخطيب البارع ، والكاتب القدير ، والعالم المتفوق علماً، والفنان الماهر، والصناعي المتقدم، والبطل القوي ، والاداري الحسن الادارة ، وغيرهم من امثالهم - له قدرة الشخصية ولذا يقال فلان له وزن ، فلان له ،ثقل فلان له شخصية ، وهذا يجري في الامم والاحزاب ، والمنظمات ، والجمعيات كما يجرى في الافراد أيضاً، والمحتفون حول مثل هذه القدرة ينالون منها دائماً ، كالذي في امة قوية أو ولد عالم عادل ، أوزوجة خطيب بارع ، أوما شاكل ذلك ، وفي الحديث (المرء يحفظ فى ولده) وذلك ليس عطاءاً من الاجتماع اعتباطياً ، بل هو نوع تشجيع للفضيلة ، فان الانسان اذا عرف انه تكون له الشخصية لنفسه ولذويه اذا حصل على الكمال الفلاني، كان اهتمامه بتحصيله اكثر من اهتمام من يعلم ان شخصيته لا تتعداه الى ذويه .

واحترام الناس لمثل هذه القدرة له عاملان :

ص: 204

(الاول) التشجيع على الكمال

(الثاني) استفادتهم منها ، فالعالم يفيض علماً ، والفنان يعطى الرفاه الى غيرهما وهذا هو سر انجذاب الناس الى ذوى الشخصية والمنجذب قد لا يستفيد بنفسه الا انه يعيش حالة سرور وغبطة كالانسان الذي ينزح الى بلد قوى ليجد السرور النفسي في كونه من اتباع تلك الدولة .

3 - السندية

والسندية، قسم ثالث من القدرة قديحصلها الفرد أو الجماعة ، أو الامة بسبب ما ، مثلا : يقال المحقق سند فقهي، والطريحي حجة في اللغة، والكلينى مطلع على موازين الحديث والى غير ذلك ، والمقصود انه اذا قال أو كتب اصغي اليه ، وأخذ قوله مدركاً ، وهذه السندية تعطى للانسان نوع قدرة، وان لم تكن قدرة السلطة، وقدرة الشخصية، اذ بين هذه الاقسام الثلاثة عموم من وجه على الاصطلاح المنطقي وانما نسميها قدرة لان مفهوم القدرة ( وهو الخضوع للمقتدر) حاصل للسندثم قديكون السند فرداً وقد يكون جماعة، مثلا (الجريدة الفلانية سند) والحال ان هيئة تحريرها عشرون ،انساناً، وحيث انهم سندفالمنتسب اليهم - وهي الجريدة - أيضاً سند ، كما ان الامة قد تكون سنداً مثلا يقال ان هذا الكتاب صدر من النجف ، أوفلان من أهالي كربلاء ، ومجرد ذلك يكفي في اعتماد الناس عليهما ، بعد ان عرفوا القاطنين في البلدين، بالعلم والنزاه والخبرة .

والسندية ، لاتزول بالموت ، بل تبقى الى الابد ، اذا مات سنداً ، أمثال العلماء العظام، ومن أشبههم، كما انها لاتزول بانحراف السلطة عنهم . بينما لا تكون السندية بالسلطة ، فموسى بن جعفر عليهما السلام في السجن ، وتحت الكبت سند ، بينما هارون في قمة السلطة ، ليس سنداً .

ص: 205

نعم ، قد يسقط السند اذا سقط مستنده، مثلا : اذا فسق العادل ، سقط عن صحة سنديته في الشهادة ، واذا ابتلى العالم بالنسيان سقطت سنديته فيما يقول، واذا خان الامين سقطت سنديته في أئتمان الناس عنده، ومن الواضح ان السنديه انما تكون ، اذا كانت واقعية لا بالتزوير ، والاكان الشخص غير سند واقعاً، وان زعم بعض الناس انه سند ، كالذي ليس بطبيب ويرى نفسه طبيباً .

كيف تدوم القدرة ؟

ثم ان كل الاقسام الثلاثة من القدرة ، انما تدوم بشرطين :

(الأول) ان تكون القدرة قد حصلت من مجاريها الطبيعية ، فاذا حصلت بالتزوير ، أو القفز ، أو الصدفة ، اوما أشبه ذلك لم تدم ، كما ان العكس أيضاً كذلك ، فاذا خرج من له قدرة حقيقية ، عن مجرى القدرة بالديكتاتورية ، أو التزوير ، او ما أشبه ذلك ، لم يدم وسار الى الانعزال .

ففي : (1) لو وصل انسان الى السلطة صدفة ، أو حصلت له الشخصية بالتزوير ، كما اذا زور شهادة دكتوراه لنفسه ، والحال انه لم يحصل عليها حقيقة، أو جعل نفسه سنداً بالدعاية، فانه سرعان ما ينكشف زيفه، وتنفلت القدرة من يده ، ولذا أجاب الامام عليه السلام لمن سأله : ما الحيلة ؟ بقوله: في ترك الحيلة : وفي المثل : سريع النمو سريع الزوال. وقد اشار الشاعر الى هذه الحقيقة بقوله :

(و من أخذ البلاد بغير حرب*** يهون عليه تسليم البلاد)

فالنمو يجب ان يكون طبيعياً .

وفي: (2) لابدان يظهر الحق، وقد قالت الحكماء: (القسر لا يدوم) اذا لقسرباق مادام القاسر ، فاذازال القاسر ظهر الامر على حقيقته .

ص: 206

وفي قصص القرآن الحكيم ، والتاريخ الغابر أمثلة ، وعبر ، قال سبحانه «وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ *وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ »(1) فطالما ادعى فرعون ونمرود الربوبية وطالما اضطهد موسى وابراهيم عليهما السلام ، لكن لم يدم الباطل في عرشه ، ولم يبق الحق في مخبئه ، بل ورث موسى عليه السلام ملك مصر، كما دمر فرعون ، وظهر ابراهيم عليه السلام مسيطراً على التاريخ ، بينما ذهب نمرود (الى حيث القت رحلها ام قشعم).

ولذا فاللازم على صاحب القدرة الذى غصب السلطة أو الشخصية أو السندية ان كان أحب نفسه وأراد بقاء قدرته ، ان يحوّل الزيف حقيقه ، فاذا زور شهادة الطب، درس الطب حتى يستحق الشهادة ، واذا زيف الانتخابات فوصل الى السلطة، ان يهيىء آراء العام لنفسه بمختلف الوسائل والسبل الصحيحة...

كما انه في العكس اللازم لذى القدرة الحقيقية، ان يظهر زيف الغاصب ،بما يسقطه عن قدرته المغتصبة ، ليرجع الحق الى أهله ، وفي الشريعة الاسلامية الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، واحقاق الحق و ابطال الباطل واجبات.. والزيف مبغوض حتى في الدرهم ، ولذا قال الامام عليه السلام في النقد المزيف .

(اكسره والقه في البالوعة ) فان جزاء الزيف الكسر والتلويث .

(الثاني) ادامة مقومات القدرة ، فمثلا : (السلطة) التي جائت بالانتخابات المشروعة ، انما حصلت للسلوك الحسن ، فاذا تغير سلوك المنتخب ، سقطت سلطته عن القلوب أولا ، وعن الابدان ثانياً ، فان تمكنت الجماهير من اسقاطه اسقطوه، كما سقط (نكسون) في فضيحة (ووترغيت) وان لم يتمكنوا من الاسقاط لم ينتخبوه مرة ثانية . . . وكذلك حال (الشخصية) ... وكذلك حال (الشخصية) الحاصلة من أسبابها ، فان صاحب الشخصية اذا لم يدم الاسباب سقطت شخصيته، بما يذهب قدرته...

ص: 207


1- سورة القصص الاية / 5 - 6

وهكذا بالنسبة الى (السندية) فالسند يبقى سنداً مادام يستمر في تحفظه على مقومات السندية ، فان زالت المقومات السندية، مثلا: (السياسي الفلاني) حجة في آرائه وتنبأته المستقبلية ، لاتصاله الدائم بالعالم، عن طريق وسائل الاعلام فاذا قط قطع اتصاله بالعالم تدرج الى ضعف آرائه و تنباته، الى حين يسقط نهائياً.

بل قسم من القدرة ، بقائها، بحاجة الى تصعيدها الدائم، فمثلا : الطبيب المشهور انما يبقى كذلك ، اذا أضاف كل علم جديد الى علمه ، أما اذا جمد واقتنع بما تعلمه عند تخرجه من المعهد تقدم عليه غيره وانتزع منه الشهرة ، فتأخر الى الصف الخلفي بعد ان كان في الصف الأمامي ، وكذلك الدولة القوية ذات السلاح المتطور ، اذا جمدت على سلاحها السابق ، تقدمت عليها غيرها ممن استمرت في تطوير السلاح ، فبريطانيا قبل نصف قرن كانت أقوى الدول والان رجعت في الصف الثالث ، بينما قفزت غيرها الى الصف الثاني والأول، ولذا قرر الاسلام ان : (من ساوى يوماه فهو مغبون ، ومن كان غده شراً من امسه فهو ملعون) : اي مطرود من الخير ...

واخيراً : فالاقسام الثلاثة (السلطة ، والشخصية ، والسندية) تلازم بعضها بعضاً ، خارجاً غالباً ، وان كان بينها تفاوت مفهوماً - كما عرفت - .

ثم ان لكل من الفرد والمجتمع ، نوعاً من القدرة وقد تتعارض القدرتان ، ويقدم أقواهما ، كما اذا أراد الفرد انتخاب رئيس أو نائب ، وأرادت جماعته انتخاب غيره ، فان قدرة الفرد قد تطغى على الجماعة ، وقد يكون العكس، ولا يلزم طغيان قدرة الفرد الديكتاتورية، اذ قديكون الطغيان من جهة حب الجماعة للفرد، بما يوجب ترجيح رأيه على رأيهم ، وقد كان غاندي ، يستفيد من هذه القدرة ( المحبوبية ) في فرض آرائه على حزب المؤتمر ، و كان الحزب (رغم انه يخالف رأى غاندى) يخضع له ، لطغيان محبوبيته عليهم .

ص: 208

وهذه القدرة التي تكون للفرد أو الجماعة ، قد تكون قدرة غير مقيدة بالحقوق ، وقد تقيدبها ، فان القدرة بذاتها مطلقة وحشية ، وانما الروابط بين الفرد في ضمن الجماعة ، وبين الفرد بالنسبة الى سائر أفراد المجتمع هي التي تقيد القدرة، وتحددها ، مثلا : الفرد له قدرة ابداء آرائه ، لكن ربطه بالجماعة يحدد ذلك حيث ان ابداء رأيه يوجب ضرر الجماعة وكذلك فقد تكون الجماعة ذات القدرة على ابداء رأيها، تتقيد برابطتها بالرئيس أو نحوه ، فتكف عن ابداء رأيها ، لان الابداء يضر ذلك الفرد.

وهذه الروابط التي توجد بين الفرد وبين جماعته أو بينه وبين سائر افراد المجتمع، تسمى : (الحقوق)ومن هنا يتبين الفرق بين(الشخص الطبيعي) و (الشخص الحقوقي) فالاول هو الفرد بدون ملاحظة روابطه ، والثاني هو الفرد مع ملاحظة روابطه . . .

والجماعة ايضاً لها شخصية طبيعية ، كما ان لها شخصية حقوقية ، ومن آثار ذلك ، ان الفرد في ضمن الجماعة ، كل التزاماته تحت غطاء الجماعة ، لا ترتبط به ، وانما ترتبط بمن له هذا المقام، فإذا تبدل رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء ، أو غيرهما ، وحتى في الجماعات الصغيرة ، لا يكون لهذا الفرد بعد خروجه عن ذلك المنصب ، أي من تلك الالتزامات ، بل كان الملتزم بها، الفرد الجديد الذى خلفه في مقامه ، وكذلك اذا تبدل كل اعضاء الجماعة ، كانت الافراد الجديدة التي تشكل الجماعة - مكان الجماعة الأولى - لها كل تلك الحقوق ، كما ان عليها كل واجبات الجماعة الأولى .

فان الفرد في ضمن الجماعة، أو بالنسبة الى سائر الأفراد، وكذلك الجماعة في قبال افرادها ، أو سائر الأفراد أو سائر الجماعات ، له ولها، حقوق وواجبات والحق أخذ ، والواجب اعطاء ، فاذا تعادلا كان الفرد أو الجماعة في حالة

ص: 209

جمود وركود، اما اذا كانت الحقوق اكثر ، كان الفرد أو الجماعة في حالة تأخر كمن يستهلك اكثر مما يحصل ( واذا كان الأمر بالعكس بان كانت الواجبات اكثر، كان الفرد أو الجماعة في حالة تقدم ( كمن يحصل أكثر مما يستهلك) .

ثم ان للحقوق والواجبات تكاملا، وتطوراً ،( اما التكامل) فهوان الانسان فی مسيره التاريخي يكشف حاجات جديدة ، هي بحاجة الى ضوابط جديدة وهذه الضوابط الروابط ، ولذا كلما سارت الامة أو الجماعة ، ازدادت روابطها، حيث تكشف لهم الايام حاجات جديدة، هي بحاجة الى جعل ضوابط جديدة ولافرق في ذلك بين ان يكون السائد على الجماعة (الدين) أو (القانون) ففي الأول، يطبقون الحاجة الجديدة على الكليات الدينية ، وفي الثاني يضعون قوانين جديدة ، ان لم يكن قانون يمكن تطبيقه على الواقعة الجديدة ، ولذا قال عليه السلام : (اما الحوادث الواقعة فارجعوافيها الى رواة حديثنا) فان راوي الحديث يعرف كيف يطبق الكلي على الواقعة الجديدة ، وقد قال الامام الرضا عليه السلام : علينا الاصول وعليكم الفروع وقد قررفي محله ان الاسلام ذكر كل حاجات البشر ، اما في صور الجزئيات أو في صور القوانين الكلية ، راجع (هكذا الاسلام) و (الاصول الاصلية : للشبر).

(وأما التطور) فلان الجماعة تواجه ظروفاً مختلفة ، كل ظرف له حقوق خاصة ، وبتطور الظروف تتطوير الحقوق فمثلا ظرف الحرب في الحقوق والواجبات غير ظرف السلم، وظرف تكاثر الناس في المدينة غير ظرف قلتهم حيث ان تقسيم المدينة في حال الانتخابات يختلف في باب السياسة» كما انه يختلف (بالنسبة الى المجتمع) حيث صعوبة المرور في حال الكثرة مما يحتاج الى قوانين جديدة ، وكذلك في حال تطور الاقتصاد ، والى غير ذلك .

ص: 210

ثم ان مجموعة الحقوق التي توضع ، من جهة الروابط ،سواء للامة أو الجماعة ، تسمى ب_ (الضوابط) مثل (ضوابط الادارات) و (ضوابط الجيش ) و (ضوابط المدارس) و (ضوابط المقاومة الشعبية) و (ضوابط الحزب ، أو المنظمة أو الجمعية) وهكذا ...

وهذه الضوابط قسم منها مقدمة على الامة والجماعة ، حيث سبق ان وضعت ، وقسم منها تضعها نفس الامة والجماعة ، وهكذا تسير الضوابط على طول التاريخ كنهر جار ، يتسع ويكثر مائه بروافد العيون التي تنصب فيه على طول الطريق .

ص: 211

مسألة : 21 مهمة علم السياسة تجاه القدرة

اشارة

القدرة حقيقة واحدة حالها في المجتمع حال الطاقة في الكون ، فكما ان القدرة فى امواج البحار ، وفى العواصف ، وفي الشلالات ، وفي النار، وفي غير ذلك واحدة ، تعطي تارة البناء وأخرى الهدم ، كذلك القدرة في المجتمع سواء كانت في السلاح أو الثروة أو العلم أو الدين أو الدعاية ، وكما ان النار ان قيدت بقيودها اعطت طبخ الطعام أو صهر الحديد المفيد للانسان وغير ذلك ، وان اطلق سراحها ، قتلت ، كذلك الثروة ، مثلا : ان زمت بزمام الصلاح كانت مفيدة ومنعشة للمجتمع ، بينما ان اطلق كونت الرأسمالية التي تضر الرأسمالي ، وتضر الطبقة الكادحة .

وكذلك العلم ان صرف فى الصلاح نفع وان صرف في صنع القنابل الذرية و ما أشبه من أجل الفتك و التدمير ضر و قد قال جملة من الفلاسفة القدماء : ان الماء والنار والتراب والهواء جوهر واحد ، تتبدل صورها بهذه الامور الاربعة .

وهنا يمكن ان يأتي هذا الكلام في القدرة ، فهي حقيقة واحدة تظهر في

ص: 212

مظاهرها المختلفة ولذا يتمكن الانسان ان يبدل بعضها ببعض فالمال يجعله سلاحاً أو دعاية، والسلاح يبدله الى المال، والدعاية يبدلها الى المال ، وهكذا ولولا الروح الواحدة السائدة في الجميع لم يكن امكان التبديل وهكذا يقال في عالم الاقتصاد ، فلو لا ان الدهن والصوف يشتملان على روح واحدة اقتصادية ، لم يبدل الرجل الريفي احدهما بالاخر .

نعم هناك خطأ وقع فيه بعض ، حيث زعم ان الروح العامة في أنواع القدرة المتعددة ، (الروح العسكرية) وزعم آخر ، انها الاقتصاد، وزعم ثالث

انها الدعاية ووجه في الخطأ فی ذلك ، انه لاوجه لجعل احدها أصلا ، والبقية اشكالا بل الجميع اشكال والروح السائدة تختفي فان الشيء المشكل لا يمكن ان يكون جوهراً.

وقد قالوا في الفلسفة ان الكم والكيف وباقي المقولات التسع لا يمكن ان تكون جواهر ، والا لم يتحول الجوهر من احدها الى الاخر ، فالمربع لا يمكن ان يكون مثلثاً ، وهكذا ، وعليه فالشمع لاشكل له بنفسه - اطلاقاً- وانما يتبادل عليه الاشكال ، وان لم يمكن رؤية الشمع خالياً عن شکل.

ووظيفة العلم الاجتماعى والذي هو من فروع السياسة اكتشاف طاقة (القدرة) وقوانين القدرة سواء في :

(1) أسبابها .

(2) أو مسبباتها

(3) أو اسباب تحولها من شكل أوشكل .

وعلى هذا فاذا عرفت القدرة بما هي نتمكن من ان نعرف قوانينها ، و اذا عرفت قوانينها ، امکن ترويضها بما يوجب استعمالها في الصلاح والوقوف

ص: 213

دون استعمالها في الفساد، فنقف دون (هدر القدرة) كما نقف دون طغيان القدرة سواء في علم السياسة (حتى لا تظهر الديكتاتوريات) أوفى علم الاقتصاد (حتى لا تظهر الرأسماليات )أو في غيرهما، من اشكال القدرة، حال القدرة في المجتمع حال النار في الطبيعة ، فان الانسان اذا لم يعرف كيف يستخرجها من الزنار ،و كيف يحوطها بالاحتياجات ، اما لا ينتفع بها ، و أما تحرقه ، الى غير ذلك .

وكلما عرفنا أنواع القدرة ، ودققنا فى مزاياها ، واستقرئنا خصوصياتها، نكتشف قوانينها أكثر فأكثر ، ولذا يقول ( راسل): يجب القاء النظرة الفاحصة الى اشكال القدرة الرئيسية ، أمثال القدرة الكهنوتية ، والقدرة الملكية ، و القدرة الغاشمة، والقدرة الثورية ، والقدرة الاقتصادية والقدرة على التأثير في الرأي ،وغيرها، حتى نتمكن من ترويضها، وذلك بعد ان نعرف ان القدرة في الجميع شيء واحد وهي (تحقيق النتائج المطلوبة).

وإذا كان للقدرة جوهر واحد ، ولها اشكال، فكل فئة تتطلب القدرة في شكلها المطلوب لها، فالانسان السياسي يندفع في طلب هذه القدرة ، في شكلها الموجب لقبول الناس أمره ونهيه ، ونفوذه فيهم ، واطاعتهم له ، بينما الانسان الاقتصادي يندفع في طلب هذه القدرة (الجوهر ) في شكلها الموجب لجمع الثروة ،والوصول الى نتائج الثروة من الشخصية الخاصة ،الى غير ذلك من اشكال القدرات ...وليس معنى ذلك ان الانسان يحصل على شكل من اشكال القدرة فقط بحيث يمكن عزله عن سائر الاشكال، بل معناه ان المهم لديه، أولا وبالذات هذا الشكل دون ذلك، وان كانت الاشكالات متشابكة لا يمكن عزل بعضها من بعض، كما تقدم الكلام في مثل ذلك في القدرة (السلطوية، والشخصية والسندية ) .

ص: 214

ويظهر من النصوص الاسلامية ، ان القدرة واحدة في جوهرها ، حيث ان كونه سبحانه (قديراً) يفسر بالقدرة على الخلق والرزق والاعطاء والمنع والاحياء والاماته وغيرها، كما ان اكتشاف أسباب القدرة داخل في مثل: قل انظروا...»(1)و «سيروا ...» (2)و «سخر لكم ..» (3)أما ترويض القدرة في النظر الاسلامي فقد سبق الكلام حوله ، في مسألة سابقة .

الأمور التی هی محور علم السیاسیة

واذقد عرفت ان السياسة هي عبارة عن اعمال القدرة، وان القدرة حقيقة واحدة لها مظاهر، وان بعض أقسام اعمال القدرة مصلح ، وبعضه ،مفسد، فأهم ما يجب أن يبحث عنه في علم السياسة امورثلاثة :

(الاول) ما هو نوع السياسة الذى يجب ان يسود المجتمع حتى يوفر أكبر قدر من الخير لاكبر كمية من أفراد المجتمع، وانمالم نقل كل افراد المجتمع لان الغالب - ان لم يكن الدائم - تضارب مصالح المجتمع ، حقيقة( ولا اقل من زعم التضارب عند جماعات من الناس) فلا يمكن ان يعم الخير - في المفهوم العرفى - الجميع .

مثلا : في الحال الحاضر ، النظام الرأسمالي ، تتضارب فيه مصلحة كبار الاثرياء مع مصلحة الطبقة العاملة، والنظام الشيوعى تتضارب فيه مصلحة الطبقة الحاكمة المالكة للثروة والقدرة مع مصلحة بقية الشعب، والنظام الديمقراطى تتضارب فيه مصلحة الاحزاب بعضها مع بعض ، اذ كل يريد تنفيذ برنامجه والوصول الى الحكم ، و النظام الديكتاتورى تتضارب فيه مصلحة الديكتاتور ومصلحة الشعب ، الى غير ذلك.

(الثاني) ماهى الوسائل التي تصطنعها الدولة لتنفيذ هذه السياسة ، اذقد

ص: 215


1- سورة يونس / 101 .
2- سورة الانعام / 11 .
3- سورة الحج / 64

تختلف الوسائل مع وحدة الهدف، فمثلا الهدف هو كبت العدو، فهل الوسيلة الى ذلك السلم والحرب؟ أو فى ما نحن فيه الهدف مشاركة أكثر الامة في صنع القرارات (اى حكومة الناس على الناس للناس) لكن هل الوسيلة الى ذلك، كون الامة تنتخب رئيس الجمهورية مباشرة ، أوان نواب الامة ينتخبون رئيس الجمهورية؟ الى غير ذلك من امثلة تعدد الوسائل مع وحدة الهدف .

(الثالث) ما هو نوع التأثير الذى يمكن ان يكون لنا في اختيار هذه السياسة واختيار هذه الوسائل ، اذ كما ان عللا متعددة تعطى أثراً واحداً كذلك يكون حال الواسطة مع الاثر النهائى الذى يتوخاه الانسان اذ ليس المهم غالباً - السبب والمسبب بل المهم نتيجة المسبب اذاً فالبحث السياسي، قرار وكيفية تنفيذ، ونتائج تترتب على القرار، وكل من الثلاثة لها اشكال ولذا يجب ان يبحث السياسي عن ماهو القرار الملائم ؟ وعن ماهو التنفيذ الملائم لهذا القرار ؟ وعن ماهو الأثر الذى يتوخاه من هذا القرار ؟

ص: 216

مسألة : 22 المؤسسات السياسية

الامة هي التي توجد السياسة والسياسة تكبر بشرور الزمان ، كماً وكيفاً وكلما كبرت السياسة كبرت المؤسسات المرتبطة بها، سواء المؤسسات

السياسية، أو الاقتصادية ، أو الاجتماعية ، أو الإدارية أو غيرها ، و الإدارة السياسية - للدولة بالكيس الإدارات السياسية ، في البلاد على مثل دوائر الاحزاب المنظمات والجمعيات السياسية ، فانها كلها في جنب الادارة السياسية للدولة ، ادارات صغيرة ، وبين الادارة السياسية للدولة ، وتلك الادارات تجاذب وتدافع، فحيث ان كلا منهما يستفيد من الاخر ويستند اليه يكون بينها تجاذب ، أما حيث ان كلا منها يريد التوسع يكون بينهما تدافع.

ثم ان الادارة السياسية للدولة أكمل الادارات، واكثرها أجهزة ، وأشد ها تعقيداً ، فان الامكانيات المتوفرة للدولة ، توجب تكميل الادارة السياسية ، بينما الدوائر السياسية الصغيرة ، غالباً تشكو من نقص في العنصر البشري، ومن نقص في العنصر المادي، بينما الدولة لا تشكو اي النقصين،( نعم في الدول الديكتاتورية

ص: 217

نقص في العنصر البشرى للدولة، حيث انها لاتقدر على جذب ذوي الخبرة و الحصافة)..

وحيث كثرت أعمال الدولة ، يجب تكثير الاجهزة لتكون الاجهزة كافية للحاجات المتكثرة كما ان الكثرة المرتبطة توجب التعقيد ، حيث انه كلما كثر الارتباط كثر التعقيد، وقد تقدم ان الاثنين بينهما علاقتان، فاذا صار العدد ثلاثة، كانت العلاقة ستة فاذا صار العدد أربعة صارت العلاقة اثنتى عشرة وهكذا، ولذا تجعل الدول الحديثة ادارة التنسيق بين دوائرها المختلفة.

وفي هذا الاطار المكمل المعقدة الكبير، يجرب السياسي حظه في القرارات والحلول والتأثير، اذ كلما اتسع الأمر أكثر وتعقد وكثرت اجهزته يكون القرار أخطر ، وحل المشكلة أصعب، وكلاهما بحاجة الى شدة الانتباه ، مع كثرة العلم ، وطول التجربة ، فكلما كان الطريق أطول ، وأكثر شوكاً ، يكون المسير فيه بسلام إلى آخر الطريق، اخطر وأصعب . خصوصاً اذا كانت حرية الصحافة وكان حزب منافس يتربص باخطاء السياسي .

اذ كل خطأ صغير خليق باسقاط السياسي عن عليائه ، الى أسفل سافلين ، كما يشاهد في فضائح الحكام في البلاد التي تتمتع بشيء من الحريات .

والغالب ، ان القرار في الدول لا يكون الابأكثرية آراء الساسة، فلا موضع - في غير الدول الديكتاتورية - للقرارات الفردية ، وحتى الذين يأخذون القرار فردياً ، يجبرون أصدقائهم على الامضاء على القرار ، أو يعلنون في أجهزة الاعلام ان القرار بالاكثرية ، والقرار الصحيح هو الذي يعالج موضوعاً طبيعياً ، بأحسن علاج ، فقد لا يحتاج الأمر الى قرار ، وقد يحتاج اليه ، فوضع القرار في الأول ، كعدم وضعه في الثاني كلاهما غير ملائم للواقع.

كما انه في صورة وضع القرار حيث الاحتياج اليه، قد يكون القرار أقل

ص: 218

وقد يكون أكثر ، وقد يكون مساوياً ، وقد يكون أفضل ، ولنفرض الواقع طيراً ، فهو قد لا يحتاج الى الحب ، وقد يحتاج ، فاعطائه في الاول كعدم اعطائه في الثاني ، كلاهما غير صحيح .

واذا احتاج فقد نعطيه أقل من حاجته ، وقد نعطيه أكثر، وقد نعطيه بالقدر اللازم كماً ، لكن ليس أحسن حسب نوعاً ، وقد نعطيه أحسن الحب نوعاً ، ومن الواضح ان خمسة من الاقسام الستة ليس على ما ينبغي .

مثلا : في الامور الاجتماعية، الرابط الجنسي أمر طبيعي، وهذا الامر الطبيعى يحتاج الى قرار وضع الآداب والرسوم والضوابط، فعدم الوضع كوضع الأقل مما يتطلب أو أكثر منه ، أو غير الاحسن الاحسن ، كله خروج عن استقامة القرار...

ونحن في هذا الكتاب انما نقصد القرارات السياسية ، لا مطلق القرارات الأمور الاقتصادية او الاجتماعية ، أو نحوهما ، وإنما ذكرنا الزواج من باب المثال ففى عالم السياسة مثلا : توسيع العاصمة امر يتطلبه الواقع فعدم تقرير الدولة ذلك او تقريره بأكثر او اقل مما يتطلب او توسيعه بمالا ينبغي (مثل توسيعه من طرف واحد مثلا بينما الذى ينبغي توسيعه من كل الجوانب )كل ذلك خبال في القرار السياسي.

ثم ان الامة( وهي المجتمع الانساني الكبير) لايمكن استقامتها بدون القدرة السياسية المتشكلة كما لا يمكن صحتها بدون التشكل الصحيح للقدرة السياسية الكامنة فى الامة ... والامر بالعكس ايضاً حيث ان القدرة السياسية المتشكلة لا يعقل وجودها بدون وجود الامة فالامران متلازمان استقامة ، وان كان الثاني بدون الاول لا يعقل بينما الأول يعقل بدون الثاني.

نعم يصبح الأمر حينئذ فوضى ويكون كما قال الشاعر :

لا يصلح الناس فوضى لاسراة لهم *** ولا سراة اذا جهالهم سادوا

ص: 219

التفاعل بين الامة والمؤسسات السياسية

والامة والقدرة السياسية المتشكلة تتفاعل احديهما مع الاخرى فالامة هي التي تصنع السياسة المتشكلة كما ان السياسة المتشكلة هي التي تقرر مصير الامة وتسيرها لا في سياستها فحسب بل في كل الحقول الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية ، والثقافية ، وغيرها ، والثقافية ، وغيرها ... و كذلك حال الامة والفرد فيان الامة وان تكوّنت من الافراد ، لكن للامة الافراد ، لكن للامة واقعية غير واقعية كل فرد ، كما ان للغابة والمدينة والبحر واقعية غير واقعية الشجرة والدار والقطرة، وان كانت الثلاثة الاول مكونة من وحدات من الثلاثة الثانية، والسر في ذلك ان الصورة غير المادة والغابة لها صورة بالاضافة الى كل شجرة شجرة وكذلك فی المدينة ،والبحر ، والامة .

وكما تتفاعل المادة والصورة احداهما مع الأخرى، فالصورة تتقو بالمادة ، والمادة لاتكون خارجية الا بالصورة ، كذلك الفرد والامة فى عالم السياسة فالمجتمع يحمل الفرد قراراته كما ان الفرد بانضمامه الى غيره يحمل المجتمع ارادته وبالنتيجة فالفرد فاعل ومنفعل واقصى امنية السياسة أن تصل الى هذه الحالة بأن يكون كل فرد فاعلا للسياسة، ومنفعلا بها ، اذ الغالب ان الامة محل تنفيذ قرارات الاقلية ، سواء الاقلية التي قفزت الى الحكم بدون رضاها ، أو الاقلية ، التي اختارتها نفس الامة ، لكن وقعت الامة في شباكها، حيث ان قراراتها ليست في صالح الامة مأة في مأة مأة ...

وقد تقدم في مسألة سابقة ، لزوم الوصول الى طرق ترويض القدرة ، بما تكون للامة ، لاعلى الامة ، وقد ذكرنا هناك ان ذلك لا يمكن الا في الاسلام الصحيح وحده .

وما تقدم من ان للفرد شخصية عادية ، وشخصية حقوقية ، يجري في الامة

ص: 220

فالملامة شخصية عادية ، هي ذات الامة مع الغض عن القرارات الشاملة لها ، و شخصية حقوقية هي الامة مع ملاحظة القرارات المحملة عليها وكما ان قرارات الامة تؤثر على كل فرد فرد كذلك يمكن للفرد - انفرادياً أو في ضمن المجتمعات الصغيرة كالاحزاب والمنظمات - ان يؤثر على القرارات وهذا ما أشرنا اليه من التفاعل بين الامة والفرد ، واخيراً تؤثر القرارات على الافراد ، سواء كانوا داخلين في جماعة ما أو لا، كما ان قرارات الدولة تؤثر في الجماعات ، وقرارات الجماعات تؤثر على الدولة ، وتؤثر بعضها على بعض .

ص: 221

مسألة :23 الدولة أكبر المؤسسات السياسية

اشارة

الدولة مؤسسة سياسية ، وهي من أكبر المؤسسات السياسية التي تعمل داخل البلاد أمثال الاحزاب والمنظمات السياسية وما الى ذلك، وهي المؤسسة السياسية التي تعمل داخل البلاد وخارجها بكل حرية بينما سائر المؤسسات لا مسرح لها خارج البلاد الا بقدر جزئي و تحت أغطية اخرى ومسرح سائر المؤسسات في الداخل هو القدر الذي تسمح المؤسسة الكبرى(الدولة) بمزاولة أعمالها صحيح ان الضغوط تتوجه الى المؤسسة الكبرى من المؤسسات الصغيرة اذ لكل حزب ومنظمة وجماعة سياسية ضغط على الدولة توجب احياناً منع الدولة عن المسيرة التي تريدها الا ان ذلك من باب الضغط لامن باب القرار ووضع الضوابط أما الذى يتمكن من وضع القرار والضابطة فانما هو الدولة وحدها ومثل ذلك الكلام فى مزاولة المؤسسات الصغرى أعمالها فى خارج الدولة حيث انها قد تشتري الصحف وتتستر بالاحزاب المجازة هناك والى غير ذلك الا انها لاشرعية لها وانما تتستر بالشرعية المحلية بينما الدولة لها شرعية ذاتية في العمل السياسي خارج بلدها ، بواسطة السفارة في حدود فسح تلك الدولة

ص: 222

الاجنبية للعمل في بلدها .

ثم اذا أردنا معرفة المؤسسة السياسية الكبرى في البلد(اى الدولة) كان اللازم معرفة امرين :

(الاول) معرفة المؤسسات التي تحتوي الدولة عليها لان الدولة ليست الا تلك المؤسسات ، فكما ان معرفة جسم الانسان عبارة عن معرفة أجزاء بدنه كذلك معرفة الدولة ليست الا عبارة عن معرفة المؤسسات .

نعم لا تكفي معرفة المؤسسات بانفراد كل منها، بل اللازم معرفة المجموع من حيث هو مجموع أيضاً ، كما تقدم فى مثال الغابة وكل شجرة شجرة .

(الثاني) معرفة الواقع السياسي لكل دولة، اذالمؤسسات انما توضع بازاء واقع يتطلبها ، والواقع السياسي انما يعرف ، اذا عرف الانسان تاريخ الامة و اعتقاداتها ، وتقاليدها ، والضوابط الحقوقية التي تجري في الدولة ، والتى بحسبها يكون الاخذ والعطاء، وتكون هي الاطار لحق كل فرد و جماعة ولواجب كل فرد و جماعة ، بل يظهر من بعض علماء السياسة ، وجوب معرفة شيء (ثالث) لمعرفة الدولة وهي معرفة الارض والمناخ ، وطقسه البارد أو الحار أو المعتدل مع نوعية التربة وموقع البلدوحجم السكان وما أشبه ذلك ، حيث ان القوانين لاتوضع الاللذي يعيش في مثل هذا الجو ، فاذا لم يعرف الجو، لم يعرف ما يلزم ان يوضع ، وما يلزم ان لا يوضع .

مثلا : السياسي الناجح هو الذى يعطى الرفاه للمجتمع، والرفاه له شعب، منها تهيئة (المرور) المريح ، وتهيئة الراحة في مختلف الازمان ومن الواضح ان (المرور) يتأثر بكثافة السكان وقلته ، كما ان من الواضح ان المكان المريح في المدارس والمؤسسات والمستشفيات وما الى ذلك - يختلف، من جهة كون المناخ حاراً أو بارداً، أو معتدلا حيث ان الاول بحاجة الى وسائل التبريد، والثاني

ص: 223

الى وسائل التدفئة، بينما الثالث لا يحتاج الى شيء منهما الى غير ذلك من الامثلة لسائر ماذكر للسياسي .

الشخصية الحقوقية للدولة

ثم ان الدولة عبارة عن جريان مستمر كانت وستكون مادامت الامة موجودة أما الافراد الذين يتقدمون في صف الدولة ، من رئيس ومدير ووزير وسفير ، فانماهم أفراد وقتيون لهم مدة محدودة ، يظهرون في النور ثم يختفون، ولذا جاء في المثل : (الكراسي عوارى ) وهؤلاء الافراد ، لهم صفتهم الشخصية ، قبل وصولهم الى مؤسسات الحكم ، فاذا وصلوا اليها كانت لهم شخصية ثانية، هي شخصية الدولة ، وما يسمى ( بالشخصية الحقوقية )وهذه الشخصية حيث انها جزء من شخصية الدولة ، تكون باقية ببقاء الدولة والشخص الواصل الى مؤسسات الدولة ، يعامل معاملتين :

(1) معاملة فردية ، مثل ان يشترى لنفسه طعاماً ، أو يقتل انساناً خطأ أوما اشبه ، وعلى عمله هذا تترتب القوانين الشخصية ، فسواء كان في الحكم أولم يكن تكون لمعاملاته الشخصية آثار خاصة ، فهو ملزم ببيعه وقتله ، كما يلزم بها سائر من ليس في الحكم.

(2) ومعاملة بشخصيته الدولية ، حيث ان امضاءاته ومعاملاته لاجل الدولة وغيرهما، كلها ليست من جهة انه فرد بل من جهة الشخصية الحقوقية التي حصلها بواسطة الكرسي ، ولذا لم تكن له هذه الصلاحية ، قبل وصوله الى الحكم ، كما انه اذا تنحى عن الحكم لم يكن مسئولا عما فعله ، وانما المسئول من يأتي بعده ، فاذا اشترى رئيس الدولة (ألف طن من القمح) كانت الدولة مسئولة عن الوفاء فاذا تنحى عن الحكم، كان الرئيس الذي يأتي بعده مسئولاعن ذلك ، لا الرئيس المنحى .

ص: 224

رأى الدين فى( الشخصية الحقوقية)

ولا بأس في المقام بالاشارة الى موضوع تاريخي اسلامي يدل على ان الاسلام مقر بالشخصية الحقوقية، وهوان النبي صلى الله عليه و آله وسلم لما أراد الوصية طلب من عمه العباس ذلك ؟ لكنه لم يقبل لانه لا يقدر على ديو نه، وطلب من على عليه السلام فقبل فقال صلى الله عليه و آله وسلم له : (أنت تقضى ديني) وقد قرء بعض العلماء (الدال) مكسوراً ، كما فى شرح التجريد، فالمراد ان مالم اقله من الدين ، انت تقوله ولا ينافي ذلك ، ان النبي صلى الله عليه و آله وسلم اكمل حيث ان الاكمال، بما في ذلك الوصى، فكل ما يحتاج اليه الناس قاله صلى الله عليه و آله وسلم ، حتى لا يبقى الناس بدون مرشد في احكامهم ، سواء كان المرشد ماقاله صلى الله عليه و آله وسلم او من عينه من بعده.

أما من قرء (الدال) مفتوحاً ، فقد يقال ان المراد ديونه الشخصية ، بمافي ذلك مواعيده صلى الله عليه وآله وسلم لان الوعد عند الحردين - كما يقال - لكن اباء العباس ينفى ذلك، وأقله انه يبعده، حيث ان ديونه صلى الله عليه و آله وسلم لم تكن بمنزلة لا تمكن قيام العباس بذلك .

وقد يقال ان المراد ديونه الحكومية ، اى معاهداته ، فان النبي صلى الله علیه و آله وسلم بما انه رئيس دولة ، كانت له مواعيد ومعاهدات وما اشبه ذلك مما هو من شئون رئيس الدولة، وبهذا المعنى يكون على عليه السلام الخلف الذي يتحمل الشخصية الحقوقية للرسول ، وهذا المعنى انسب بقرينة الحكم والموضوع، فيكون قد البس الرسول صلى الله عليه و آله و سلم علياً عليه الصلاة و السلام شخصيته الحقوقية، ويؤيد وجود الشخصية الحقوقية في الاسلام قول على عليه السلام (لقد تقمصها فلان) فالخلافة شخصية حقوقية شبهت باللباس.

ص: 225

هذا بالاضافة الى ان مقتضى الادلة الشرعية وجود الشخصية الحقوقية ،حيث انه أمر عقلائى فى المعاملات فيشمله (اوفوا بالعقود)(1)فانه لا يلازم وجود الموضوع في زمان الشارع، كما لا يلزم وجود الطيب الخاص في زمان الشارع فيشمل حل الطيبات الطيب المستحدث بعده .

وكذلك في سائر الموضوعات التى لم يكن لها بعض المصاديق في زمان الشارع ، كما اذا قال الشارع ، كل مسكر حرام ، ثم احدث مسكر بعده الى غير ذلك ، فقوله سبحانه« اوفوا بالعهد»(2) و « اوفوا بالعقود يشمل العهد والعقد مما يعهد ويعقد مع الرئيس بما انه شخصية حقوقية، لابما انه شخصية خارجية ، وقد ذكرنا فى الفقه شرح العروة الوثقى (فى كتاب الحج) ما يؤيد ذلك .

وحدة المواقف بين الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم) وعلىّ(عليه السلام)

وقد قام على عليه السلام بالشخصية الحقوقية للرسول صلى الله عليه و آله وسلم وحذى حذوه ، بدون زيادة أو نقيصة وربما توهم ان علياً عليه السلام كان له تكليف غير تكليف الرسول صلى الله عليه و آله وسلم ، لكنه لا دليل عليه وان كان ربما يستدل له بقول عمار :

انا ضربناكم على تنزيله***واليوم نضر بكم على تأويله

لكنه لا دلالة له ، بل ظاهره انه جاء وقت التأويل كما قال سبحانه : «يوم يأتى تأويله » والافلو كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حياً ، ثم حاربته فئة من المسلمين ألم يكن يحاربهم ؟ فعلى عليه السلام حارب كما حارب الرسول صلى الله عليه و آله وسلم ، وعفى عن اهل البصرة كما عفى الرسول )صلى الله علیه و آله وسلم( وقال:( مننت على أهل البصرة كما من رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم على أهل مكة) و كماقال الرسول )صلى الله عليه و آله وسلم( لاهل مكة

ص: 226


1- سورة المائدة / 1 .
2- سورة اسراء /36 .

(اذهبوا فانتم الطلقاء) اطلق علی (علیه السلام) سراح مروان وغيره من اقطاب أهل الجمل ، مع انهم يستحقون القتل، لانهم كانوا مجرمي حرب والرسول (صلى الله عليه و آله وسلم) لم يسترجع داره التي بيعت في مكة لما فتحها، وعلى( عليه السلام) لم يسترجع فدك التي اخذت ، بعد ان وصل الى الحكم، وقال كلاماً بهذا الشأن كما في نهج البلاغة .

أما خطبة علي( عليه السلام بعد مقتل عثمان في قطائعه ، فالظاهر انهالم تكن الامجرد تهديد ، والافلم ينقل انه استرجع شيئاً مما اقتطعه عثمان ، فحال الخطبة حال قوله سبحانه : «جاهد الكفار والمنافقين» حيث ان الرسول (صلى الله عليه و آله وسلم) لم يحارب مع المنافقين ، فهو مجرد تهديد ، بأن له(صلى الله عليه وآله وسلم) حق حربهم ، أما حمل (جاهد) على أعم من الحرب ليشمل ما فعله (صلى الله عليه و آله وسلم) بالمنافقين فهو خلاف الظاهر حيث ان المتبادر من الجهاد الحرب ، وكون عدم حربه (صلى الله عليه وآله وسلم )مع المنافقين قرينة على ارادة الاعم ، ليس باولى من كونه تهديداً ، بل الثاني أقرب الى الذهن العرفي ...

والرسول(صلی الله علیه وآله وسلم)كان يقسم بالسوية وكذلك فعله علي(عليه السلام)، والرسول(صلی الله علیه وآله وسلم) كان يعزل الامراء ، وكذلك فعل علي(عليه السلام)بمعاوية ، وبالجملة فلم نجد دليلا على الاختلاف بينهما(عليهم السلام)حتى يقال انه كان له(عليه السلام) تكليف خاص.

ثم ان العفو كان لهما رخصة ، لاعزيمة ، كما يدل عليه تمثيل الرسول (صلى الله عليه و آله وسلم) أهل مكة ، باخوة يوسف ، وقول علي( عليه السلام) (مننت) حيث ان يوسف كان له العقاب ، وظاهر لفظ : (المنّ) ان له خلاف المن بل الظاهر ان هذا الحكم جار في الدولة الاسلامية ، حيث ان لرئيسها العفو عن

ص: 227

كل ما سلف ولم يكن عفو الرسول( صلى الله عليه و آله وسلم) عن أهل مكة ، لقاعدة جب الاسلام عما قبله فانهم لم يسلموا ، ثم بماذا يجاب عن عدم تغيير علي(عليه السلام) أحكام من سلفه ؟ بل يدل على ذلك مارواه الكافي ، عن العباس بن هلال ، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) ذكر انه لو افضى اليه الحكم لاقر الناس على ما في أيديهم الا بما حدث في سلطانه ، وذكر ان النبي(صلى الله عليه و آله وسلم) لم ينظر في حدث أحدثوه وهم مشركون ، وان من أسلم أقره على مافي يده.

ولهذا الامر الذي فعله الرسول (صلى الله عليه و آله وسلم) وعلي (عليه السلام) وقال الرضا (عليه السلام) وجه عقلي ايضاً ، حيث ان التغيير بالنسبة الى السابق، يوجب ضجة تقف دون تقدم الاسلام فقاعدة الاهم والمهم، تقتضي عدم التغيير .

لا يقال : اذ اقتضت قاعدة الاهم والمهم ذلك لم يكن تركهم وشأنهم منة ، فلما ذاقال علي( عليه السلام) مننت؟ ثم (الاسلام) يجب ماقبله) فكيف كان للرسول (صلى الله عليه و آله وسلم) حق الاخذ ؟

لانه يقال : قد يكون الاهم الى درجة الوجوب ، وقد يكون الى درجة الفضل ، وقد كان المصداق في أهل مكة من القسم الثاني ، وعليه ففي الدولة الاسلامية المعيار درجة اهمية العفو، فان كانت الى حد المنع عن المنع عن النقيض وجب العفو، والاكان فضلا وندبا ... والاسلام يجب بالنسبة الى غير ما كان للمحاكم الاخذ، فالصلاة والصيام وما أشبه مجبوب ، أماقتل مجرم الحرب واسترداد ما أخذه من المال الذي عينه موجودة ونحو ذلك ، فليس الاسلام يجبه ، بل للحاكم الاسلامي الاخذ الا اذا تفضل عفواً، أو انطبق عليه قانون الاهم والمهم (اللزومي) فيترك الحاكم الجزاء، وجوباً .. وحيث ان تفصيل البحث التاريخي والفقهي . من هذا الحيث - خارج عن موضوع الكتاب ، اجملنا المقام بما

ارتبط بالبحث في الجملة .

ص: 228

مسألة : 24 بحوث في الدولة

اشارة

الدولة في الحكومات الديكتاتورية غير مرتبطة بالشعب ، ولذا اذا تحدث الناس عن الحكومة ، جائوا بضمير الغائب فقالوا ، هم فعلوا ، هم قرروا ، هم منعوا ، بينما الحكومات الاستشارية مرتبطة بالشعب ، بل هي جزء منهم .

ولذا حين التحدث يأتي الناس بضمير المتكلم فقالوا نحن فعلنا ، نحن قلنا نحن عملنا و السر واضح اذ في الحكومة الاستبدادية لايكون العمل للمناس فلماذا يقولون (نحن) بينما في الحكومة الاستشارية ، الناس يصنعون القرار باكثرية الاراء مباشرة كما في انتخاب رئيس الجمهورية ، والنواب، أونوابهم يصنعون القرار، وصنع الوكيل صنع الاصيل ، ولذا يقولون انتخبنا ، قررنا ، والاقلية التي لم تنتخب ، ايضا تنسب الى نفسها ، لانها قبلت بان الاكثرية اذا حكمت فالحكم حكمها ، فالمنتخب - بالاخرة - انتخب حسب قبولها للاكثرية.

وبهذا ظهران احساس الناس بالدولة ، أما احساس بالجزئية، وأما احساس بالغربة ، ولا يخفى ان الاحساس بالجزئية في الحكومات الاستشارية ، لا يكفى فيه أول الانتخابات ، فان الناس قد ينتخبون انساناً ، ثم يسييء التصرف فيعزل

ص: 229

عنه الناس، فان أمكن نحوه، والاتنخوا عنه، وحينئذ لا يقولون (قررنا) بل يقولون (قرر) كما ان الناس قد يبقون مع الحاكم، لكنهم يخالفون قراره ، وحينئذ ايضاً لا يقولون (قررنا) بل يقولون (قرر) .

اذاً فالشرط في رؤية القرار قرارهم :

(1) ان يكون الحكم استشارياً

(2) ان يبقوا مع الحاكم .

(3) ان يكونوا مع القرار، والحاكم اذا فقد أحد هذه الثلاثة، فهو غاصب لحق الامة ، مهما تردى برداء النزاه ، لان الحق حق الامة فكيف يأتي أويبقى أو يتصرف بدون رضاهم وفي الاسلام شرط رابع، وهو ان يكون الحاكم مرضياً لله ولرسوله ، أما اشتراط ان يكون حكماً برضى الله ، فمستدرك ، اذلو حكم بما لا يرضى الله ، فقد الشرط الرابع .

آثار وجود الشخصية الحقوقية

ثم ان الأمر بالنسبة الى السياسة يكون في ثلاثة امور :

(1) الدولة .

(2) الحكومة

(3) الامة والكلام في هذا الباب في أمرين: (الدولة والحكومة) و (الدولة والامة ) والكلام في هذه المسألة في الدولة والحكومة ، فنقول: للدولة(شخصية حقوقية) و (حاكمية) والشخصية الحقوقية ، نمت حتى صارت بهذا الشكل المعترف به الان ، ولولا الشخصية الحقوقية للدولة لم تتمكن الحكومة من بعض ما هو ضروري لصالح الأمة ، كما في بعض الامور المرتبطة(بالدولة والحكومة )بلا تغيير، فان الشخصية الحقوقية للدولة تفسر (التداوم) وتبرر

ص: 230

(التعامل) والتعامل له شعبتان ، شعبة التعامل الخارجي، وشعبة التعامل الداخلي فالكلام في ثلاثة أمور :

(أ) التداوم للدولة، اذ لولم تكن للدولة الشخصية الحقوقية لم يكن تداوم و استمرار ، فان الاشخاص القائمين بالحكم يتغيرون، فلماذا تبقى التعهدات على الدولة ؟ ان ذلك دليل على فرض العقلاء شخصية مستمرة للدولة كاستمرار النهر ، فان قطرات مياهه وان تغيرت في كل لحظة الاان وحدته باقية مادام الجريان وبهذا الاعتبار العقلائي يجوز للرئيس عقد الاتفاقات، لاعن نفسه بل عن الدولة ومادامت الدولة جارية كان الاتفاق المذكور ساري المفعول ، وبتبدل الرئيس لا يتبدل الاتفاق .

والشخصية الحقوقية، ليست خاصة بالدولة ، بل كل رئيس وكل عضو في جمعية أو جماعة سياسية أو اقتصادية أو ثقافية او اجتماعية او غيرها ، تكون له هذه الشخصية فاذا اشترى مدير المدرسة شيئاً بما انه مدير ، كانت المعاملة على المدرسة ، لاعلى المدير ولذا بتبدل المدير لا يصيب المعاملة شيء ، وهكذا في الاحزاب والجمعيات ومن اليهم ...

أما ما يشاهد احياناً ، من نقض الرئيس الثاني الاتفاق والمعاملة ، فليس ذلك نقضاً بما انه شخص ، وانما النقض بما انه ممثل للدولة، حيث يرى الرئيس الثاني الغبن ، وذلك بما يجر النقض حق للرئيس الأول، او يرى الخيانة ، والخيانة خارجة عن تخويل الامة ، ومصلحة الشعب ، فهو كمن اجرى عقداً بعنوان الوكالة من زيد ، فظهر انه لم يكن وكيلا .

حجم النقد أم القوة الشرائية؟

نعم هناك مسألة اقتصادية يتبعها نقض بعض الاتفاقات ، وهي هل ان المعيار (حجم النقد) او (قوته الشرائية) مثلا : يأخذ المقاول مليون دينار ، لبناء مطار

ص: 231

في البلد ، ثم تتصاعد الاسعار تضخماً الى الضعف، حيث ينقض المقاول الاتفاق الا اذا أدت الدولة الفرق، وبالعكس قد تتنزل الاسعار الى النصف حيث تنقض الدولة الاتفاق ، الااذا استعد المقاول لاخذ نصف مليون فقط ، وهل هذا صحيح شرعاً ام لا ؟ الظاهران يقال : انه اذا كان المركوز في اذهان المتعاملين عند المعاملة مركوزاً بنى عليه العقد ، من قبيل الشرط الضمني - القيمة العادلة من حين العقد الى حين الانجاز ، كان نقض الاتفاق صحيحاً، اذ المعاملة حينئذ الحقيقة بين (صنع المطار) وبين (ذات المواد: مثل مأة طن من الحديد، وألف طن من الاسمنت ، وهكذا) و (النقد) حينئذ ليس الابمنزلة (الواسطة) العادلة للمواد ، فبارتفاع المواد ، يكبر حجم النقد (المليون يصعد الى مليونين و بانخفاض المواد ، يصغر حجم النقد (المليون ينزل الى نصف المليون)...

وان كان الاتفاق على( ذات النقد) بدون ملاحظة (المواد) كان نقض الاتفاق باطلا . . وهذه المسألة سيالة في الاجارة ، والمهر ، والوقف ، وغيرها ، كما اذا استأجر الدار عشر سنوات كل سنة مأة دينار ، أو جعل المهر الغائب بعد عشرين سنةمأة دينار، أو وقفه ليكون لكل فقير من ريعه ، دينار ، بل وتأتي المسألة في القرض ايضاً ، فهل القرض (حجم) أو (قيمة) فعلى الاول اذا أخذ ديناراً رد ديناراً ، وعلى الثاني يكلف برد (قيمة الدينار) - الذي هو طن من الحديد .

مثلا : (الاعتبار بقيمة متوسطة بين قيم المواد) فأحياناً يجب عليه ان يرد نصف دينار (في التنزل) وأحياناً يجب عليه ان يرد دينارين في التضخم، ولا يلزم الربا ، اذا كان الميزان( القيمة)لانه علل في الاحاديث حرمة الربا ، بأنه فساد في المال ، وهنا ليس فساداً في المال ، بل عكسه فساد المال .

وكيف كان ، فهذه مسألة اقتصادية لسنا الآن بصدد الكلام حولها ، وقد المعنا اليها في (الفقه : الاقتصاد) .

ص: 232

(ب) التعامل الخارجى ، فان الدول بعضها تتعامل مع بعض باعتبار (الدولة) لا باعتبار اشخاص الرؤساء فالحقوق المجعولة للامم بعضها مع بعض، لاحظت الشخصية الحقوقية للدولة ، ولذا لايهم الدول، تغير الرؤساء ، بل وحتى الانظمة ، والنظام الجديد لا يحق له نقض الاتفاق - دولياً - الا اذا ثبت الغبن أو خيانة النظام السابق.

نعم ، هنا مسألة مطروحة اخذت الامم المتحدة بطرف منها، بينما الطرف الاخر هو الصحيح الذي ينبغي الاخذ به دولياً ، وذلك ان الامم المتحدة تعامل الدول بما انها دولة ، من غير نظر الى عدد افرادها، فدولة ذات مآت الملايين لها صوت ، بينما دولة نفوسها مأة الف انسان كبعض بلاد الخليج ، لها صوت فالشخصية الحقوقية للثانية ، كالشخصية الحقوقية للاولى بينما هذا التساوى باطل عقلا اذ القرار الذي تعترف به الشعوب الحرة ( و الاسلام : في الشورى) الاكثرية الحقيقية ، لا الاكثرية الاعتبارية والااذا لوحظت الاكثرية الاعتبارية ، كان معناه تصرف الاقلية، أحياناً ، في الاكثرية ، فاذا قررت اكثرية دول الامم المتحدة قراراً، نفذت في كل البشر بينما أكثرية الدول قد لا تكون ممثلة لاكثرية

البشر...

نعم اذا كانت كل الشعوب هى التى تختار بانفسها حكوماتها ، وحكوماتها الممثلة لها قررت باكثرية الحكومات عند التصويت في الامم المتحدة صحت اكثرية الدول بينما الواقع ليس كذلك، (مع) ان شعوب معظم الدول في العصر الحاضر ليست هي التي اختارت حكوماتها بل الحكومات تسلقت الى الحكم بديكتاتورية ، أو نصف ديكتاتورية أو تزوير اضف الى ذلك ان فرض ارادة شعب مهما كثروا على شعب آخر مهما قل عددهم ليس صحيحاً في نفسه.

(ج) التعامل الداخلي ويظهر ذلك فى الامور المالية وغيرها فان للدولة مالا

ص: 233

مستقلا ، لا يرتبط باموال افراد الامة ولا اموال افراد الحكومة ويصرف الرئيس والاعضاء هذا المال في المحتاجين ومصالح البلاد ولاجل تقديم الامة الى الامام وهذه الاموال لها موارد خاصة ، كمالها مصارف خاصة وحتى رئيس الدولة لا يتمكن من الزيادة والنقيصة، الا حسب القوانين المقررة ، فلولم تكن للدولة شخصية حقوقية لمن كان يجمع هذا المال؟ والحال انه لا يجمع في كيس فرد من الامة أو الحكومة .

وفي الاسلام سمي ذلك ب_ ( بيت المال) فالاموال تجمع في بيت المال ، ويصرف من بيت المال في الامور اللازمة ، كرواتب الموظفين ، والمصالح العامة وغير ذلك امثال (خطأ القضاة و ( دية من لا يظهر له قاتل ) وقد امر علي علیه السلام في ان يجري من بيت المال راتب لمن كان يتكفف فى الكوفة كما أودى المرأة وولدها حيث قتلا من الزحام في البصرة الى غير ذلك، مما ذكرناه في كتاب (الفقه: الاقتصاد) و كتاب (القضاء) وغيرهما...

لكن الاسلام زاد على متعارف الدول مصرفاً جديداً على بيت المال هوانه كلما زاد شيء قسم على كافة المسلمين من غير فرق بين غنيهم وفقيرهم،کما كان يفعله الرسول صلى الله عليه و آله وسلم وقد قسم على عليه السلام بيت مال المدينة بعد ان بويع له ، بين الناس وكذا قسم بيت مال البصرة وكان يقسم بيت مال الكوفة كذلك .

والسبب فى ذلك ان المسلمين اعوان الاسلام، في صلاته وصيامه وحجه وجهاده وغير ذلك فكما ان عليهم الواجب كان لهم الحق ، وذلك يوجب شدة ارتباطهم بالاسلام وتعلقهم به وتفانيهم فى سبيله اما سائر تفاصيل بيت المال فليس الكتاب محل ذكرها وانما يرجع بشأنها الى الكتب التي ذكرناها - على ما تقدم وحيث ان مال بيت المال ليس لاحد لا يتعلق به خمس ولازكاة .

ص: 234

الشخصية الحقوقية : أمر اعتبارى أو متأصل

بقى الكلام فى أن الشخصية الحقوقية للدولة حيث ذكرنا ترتب ( الف ب ، ج ) عليها ، هل هي شخصية افتراضية اى ان العقلاء افترضوا لها هذه الشخصية مثل سائر الامور الاعتبارية ، ام ان الافتراض انما كان بازاء امر واقعی فليست امراً مجعولا لواضعى القوانين؟ وقد اختلف السياسيون في ذلك والفرق انه لو كانت امر أمجعولا كانت بقدر الجعل كما تكون الشخصية للشركات والجمعيات والمنظمات امراً مجعولا ويكون ذلك الأمر المجعول بقدر الجعل ، وكذلك الحال في كل أمر مجعول فانه بقدر الجعل ، بينما لو كانت الشخصية أمراً واقعياً لزم ان يكون الجعل بقدره ، فاذا كان الجعل أقل أو أكثر ، كان نقصاً فيه و لزم تكميله ...

والذى تقتضيه ملاحظة الواقع ان الشخصية الحقوقية أمر خارجي بل هو كذلك بالنسبة الى الشركات ، والاحزاب ، وغيرهما ، اذ العلاقات التي توجد في الشركة والمنظمة وما اشبه تقتضى فرض الشخصية الحقوقية فان الدولة عبارة عن مجموعة علاقات، وتلك العلاقات لا ترتبط بالفرد بل ترتبط بالمجموع بما هو مجموع .

وفي ازاء تلك العلاقات تكون الشخصية الحقوقية، وحيث ان قوله عليه السلام(لايتوى حق امرء مسلم) وما اشبه مطلق يشمل حق المسلمين ، يشمل المقام أيضاً كما يشمل الحق الفردي، بل شموله للحق الاجتماعي بالاولوية وهذا بخلاف مالو كان امراً مجعولا ، فان الأمر المجعول لا يكون حقاً عرفياً ، حتى يشمله الدليل المذكور فان الادلة تشمل الموضوعات الحقيقية لا الموضوعات الفرضية

ص: 235

فاذا قال الشارع : الماء طاهر، أو التراب يصح به التيمم، كانت الطهارة وصحة التيمم حكماً للماء الواقعي والتراب الحقيقى ، لاما فرض ماءاً وتراباً ، ولذا فاذا فرض انسان لنفسه ان حقه ان لا يمشى احد الى جنبه بمسافة ذراعين مثلا لم يكن ذلك حقاً يشمله لايتوى حق امرء مسلم ، ومنه يعلم ان الرأيين في موضوع الشخصية الحقوقية، بالنسبة الى الدولة ، يؤثران في الامر الشرعي أيضاً بالاضافة الى تأثيرهما في الأمر الخارجي حيث ان كونها حقيقية تكون بقدر الحقيقة ، بينما كونها فرضية تكون بقدر الفرض .

وحيث قد ظهر ان الشخصية الحقوقية التي يعتبرها العقلاء، انما هي أمر بازاء الواقع ، كان اللازم ان تختلف ، باختلاف قدر الواقع ، فشركة افراد البشر في التعاون والتعامل لجلب المنافع ودفع المضار، وكل قسم من الشركة ركز من مراكز الجذب والدفع الجذب للمنفعة، والدفع للمضرة ، وكلما كانت الشركة أكثر كماً، واعمق كيفاً ، كانت الشخصية الحقوقية كذلك ، فاذا كان هناك تجمعان كانت شخصيتان حقوقيتان وفي ثلاثة اجتماعات تكون ثلاث شخصيات وهكذا ، وكذلك الامر بالنسبة الى الاعمق ،كيفية، اذ قد تكون الشركة معقدة

وقد تكون بسيطة.

لا يقال : اذا كانت الشركة بيد الافراد والشركة مبعث الشخصية الحقوقية فليست امراً واقعياً وقد فرضتم انها امر واقعي؟

لانه يقال : ما نفيناه ان يكون اعتبارياً بحتاً وفرضياً صرفاً وما اثبتناه هو ان يحقق الانسان الموضوع الخارجي فان تكوين الموضوع الخارجي بيدالانسان وتتبعه الشخصية الحقوقية، مثل كون البيع بيد الانسان ويتبعه الحكم الشرعي لوجوب الوفاء والخيار وغير ذلك .

ص: 236

الشخصية الحقوقية بين الدولة والتكتلات

وكيف كان فالدولة حيث انها اكبر مركز للتجمع الانساني - بالنسبة الى التجمعات الصغيرة في داخلها كتجمع الاحزاب والشركات والنقابات وغيرها تكوّن الشخصية الحقوقية لتلك التجمعات الصغيرة . والدولة - كتلك التجمعات الصغيرة بيدها توسيع واقعها وتعميقها، فتكون الشخصية الحقوقية لها اوسع واعمق ، كما ان لها التضييق والتبسيط فتكون الشخصية اضيق وأبسط ، مثلا كلما زادت الصناعة ، والثقافة ، والتجمعات الصغيرة في باطن الدولة ، وما أشبه ذلك توسعت وتعمقت الشخصية الحقوقية أكثر فاكثر ، والعكس بالعكس .

ثم ان كلا من تجمعي الدولة، والجماعات في باطنها يؤثر على الشخصية الحقوقية للاخر ، لان الشحصية الحقوقية تكون بقدر الواقع- كما تقدم -والاحزاب والمنظمات تحد من واقعية الدولة ، مثلا من واقعية الدولة ، مثلا تمنع من (صنع الاسلحة النووية) و بقدر الحد من الواقعية، تحد من الشخصية كما ان الدولة تحد من نشاطات الجمعيات والاحزاب ، أما بالقوة الديكتاتورية ، وأما لاجل المصلحة في الحكومات الاستشارية - والحد من النشاط يقلل الواقعية، وبقدر التقليل يكون التقليل من الشخصية الحقوقية .

وبهذا تبين ان حدّ احداهما عن نشاط الأخرى ، قد يكون مشروعاً بنظر الاسلام ، وقد لايكون مشروعاً، لكن في كلتا الصورتين اذا لم يكن واقع لم يكن حق وان كان التحديد في صورة عدم المشروعية محرماً شرعاً فيكون كمن يقتل انساناً ظلماً ، حيث ينتفي حق المقتول ، في الخمس والزكاة وما أشبه - تلقائياً - من باب انتفاء الموضوع .

وكما ان الجمعيات والمنظمات ، تحل الدولة ، اذا خالفت القوانين التي

ص: 237

عينت لها ، وبذلك تسقط الشخصية الحقوقية لهؤلاء الافراد ، ليأخذ مكانهم أفراد آخرون (وذلك عن طريق الاسقاط أو الضغط حتى الاستقالة )كذلك المدولة حل الجمعيات والمنظمات ، اذا خالفت القوانين المرعية ، فتسقط الشخصية الحقوقية لها ، لكن في الاطار الاسلامي ، وحيث (الناس مسلطون على اموالهم وانفسهم)، يكون حل الامة للدولة ، سهلا ، اذ الدولة تابعة للامة ونائبة لها ، فاذا لم يرد الموكل الوكيل عزله .

اما حل الدولة للمنظمة والجمعية، فلا تؤثر الا اذا انطبق علیه میزان اسلامی مثل باب النهي عن المنكر أو قاعدة لاضرر، أو قاعده الاهم والمهم، أو ما أشبه ذلك ولذا لايؤثر الحل في الحكومات التي لا تتوفر فيها الموازين الاسلامية ، لانها غاصبة ، ومثلها لاولاية لها ، فلافراد الجمعية المنحلة رسمياً العمل كما كانت تعمل سابقاً .

ثم ان الشخصية الحقوقية للدولة، ليس معناها ان كل قوة من قواها (المقننة) و (المنفذة) و (القضائية) لها شخصية حقوقية ، مثلا القوة القضائية ليس لها تلك الشخصية ، بل المراد ان الدولة بمجموعهالها الشخصية الحقوقية ، كما ان التقسيم الى القوى الثلاث غير مهم في نظر الاسلام حيث يمكن ان يكون انسان نائباً وقاضياً في وقت واحد ، وهكذا .

نعم يجب ان يقدر على ادارة الامرين والأشمله الحديث (لعن الله من ضيع من يعول) بل يكون ذلك منه خيانة ، وتفريطاً بحق الامة ، وذلك محرم في الشريعة الاسلامية

ص: 238

مسألة : 25 على الدولة تحري الغرض الصالح

اشارة

واذ قد تقدم في المسألة السابقة البحث حول الشخصية الحقوقية للدولة ، وهي الشخصية التي قررها العقل والمنطق والدين [ ولعل قوله سبحانه : «ولا تفسدوا في الارض بعد اصلاحها»(1) ونحوه يلمع اليه أيضاً] .

نقول : اللازم علی الدولة (الحكومة) تحرى الغرض الصالح ، لحفظ مصالح الامة والتقديم بها الى الامام ، وجعل القوة وسيلة للعدل والمساواة في موضعها -وانما قلنا في موضعها لان المساواة في كل موضوع قد يكون خلاف العدل، ولذا قال سبحانه :« ان الله يأمر بالعدل والاحسان» وقد المعنا الى ذلك في هذا الكتاب ، وفي (الفقه : الاقتصاد) - والغرض الصالح يتجلى في ثلاثة امور :

(الاول) كون الهدف مطابقاً للعقل والمنطق (وفي الدولة الاسلامية ان يكون مطابقاً للإسلام أيضاً) بان تكون الدولة عاملة للحسن في كل الشؤن مجتنبة عن القبيح ، فيوجب عملها حفظ الانفس الاعراض والاموال للكل ، فلا استبداد، ولا اعتباط، ولا ترفيع أو تخفيض لفرد أو لجماعة، على حساب الآخرين ومن خرج عن القانون العقلي والشرعي - في الدولة المتشرعة - عوقب بقدر

ص: 239


1- سورة الاعراف / 54

خروجه ، بما يقتضيه العقل والشرع فقط فقط ..

وقد ألمعناهنا وفي بعض كتبنا الاسلامية ان الاسلام لا يحلف في قوانينه وتشريعاته ، حتى قانوناً واحداً عقلياً ، فكل قانون قرر في الاسلام ليس مخالفاً للعقل - العقل الذي هو الاساس القانون الطبيعي - نعم قد يوجد في الاسلام مالا يصل اليه العقل ، لاما يخالف العقل ، ولذا ورد في الشريعة الاسلامية مدح العقل بما لا يشبهه دين أو قانون .

ففي الكافى قال ابن السكيت لأبي الحسن(عليه السلام)، فيما قال: فما الحجة على الخلق اليوم ؟ قال : فقال(عليه السلام): العقل يعرف به الصادق على الله ، فيصدقه و الكاذب على الله فيكذبه : قال ابن السكيت : هذا والله هو الجواب .

وقال موسى بن جعفر (عليه السلام) لهشام( كما فى الكافي ) : يا هشام ان الله تبارك وتعالى ، بشر أهل العقل والفهم فى كتابه فقال :

«فبشر عباد - الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه اولئك الذين هداهم الله واولئك هم اولو الالباب»(1) ياهشام ان الله تبارك وتعالى أكمل للناس الحجج بالعقول ونصر النبيين بالبيان ودلهم على ربوبيته بالادلة .

وفي الكافي، عن علي (عليه السلام) قال : العقل غطاء ستير، والفضل جمال ظاهر ، فاستر خلل خلقك بفضلك وقاتل هواك بعقلك تسلم لك المودة وتظهر لك المحبة .

وفي الكافي ، قال الحسن بن جهم : ذكر عند الرضا (عليه السلام) العقل فقال (عليه السلام ): لا يعبأ باهل الدين ممن لا عقل له، قلت جعلت فداك ان ممن يصف هذا الامر قوماً لابأس بهم عندنا وليست لهم تلك العقول فقال ليس هؤلاء من خاطب الله الحديث .

ص: 240


1- سورة الزمر / 19 .

وفي الكافي ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : كان أمير المؤمنين( عليه السلام) يقول : بالعقل استخرج غور الحكمة وبالحكمة استخرج غور العقل .

وقال ابن عباس - كما عن روضة الواعظين أساس الدين بنى على العقل وفرضت الفرائض على العقل وربنا يعرف بالعقل ويتوسل اليه بالعقل والعاقل أقرب الى ربه من جميع المجتهدين بغير عقل وطمثقال ذرة من بر عاقل أفضل من جهاد الجاهل ألف عام .

وقال النبي (صلى الله عليه و آله وسلم) : قوام المرء عقله و لادين لمن لاعقل له . . . الى غير ذلك من الروايات الكثيرة .

بل وقبل الروايات الايات المباركات ، كقوله سبحانه : «لايات لقوم يعقلون» و «لعلكم تعقلون» و «ما يذكر الا اولوا الالباب» و «ان كنتم تعقلون» و«لايات لاولى الالباب» و« افلا تعقلون».

وقال سبحانه: «ان شر الدواب عند الله الصم والبكم الذين لايعقلون».(1)

وقال : ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون»(2) و «ان في ذلك لايات لاولى النهى» (3)و«قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون»(4) الى سائر الايات .

موقف الدولة تجاه التكتلات المفسدة

وقد ظهر مما تقدم ان القراصنة الذين يتخذون حصناً طبيعياً ، من غابة أو جبل أو جزيرة ، أوما اشبه منطلقاً للسلب والنهب وليس لهم هدف طيب، وانزين لهم سوء عملهم فرأوه حسناً، لا يشكلون دولة، ولذا جعل الاسلام جزائهم احد الامور الاربعة، قال سبحانه : «انما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فساداً ان يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع ايديهم وارجلهم من خلاف أو ينفوا من الارض» .

ص: 241


1- سورة الانفال / 22 .
2- سورة يونس / 100 .
3- سورة طه / 56
4- سورة الحديد / 16 .

وقد ذكرنا في كتاب الحدود اجراء الحاكم الاسلامي العادل احد الامور المذكورة عليهم حسب ما يراه صلاحاً ... وقد تبع القانون الدولي الحديث بعد اكثر من عشرة قرون قانون الاسلام ، فاستباح مطاردتهم والقضاء عليهم لخروجهم على القانون العقلي والدولي

لكن هناك نقصاً في القانون الدولي ، حيث ان القانون الدولي لم ينظر الى الامر من الزاوية الانسانية ، بل نظر اليه من الزاوية القانونية فقط ، ومن الواضح ، إن القانون ان لم يستمد من العقل والمنطق ، ليس قانوناً صالحاً للانسان ، فقد اباح القانون المذكور قانون مطاردة القراصنة ، لكن القانون حرم مطاردة الدولة التي تستبيح دم وعرض ومال الامة التي تسيطر الدولة عليها في نفس الوقت الذى يستبيح القانون الدولي الاستيلاء على الحكم بالسلاح (ويسمى ذلك حدثاً داخلياً) لكن القانون الانساني يقول :

(1) لاحق لاحد الجارين فى الاعتداء على الاخر.

(2) ولاحق لاحد من افراد العائلة في دار الجار أن يستولي بالسلاح على العائلة وينحى رئيس العائلة بالقوة .

(3) وانه اذا ظلم رئيس العائلة عائلته وجب انقاذ العائلة عن ظلمه فكيف اذا كان الظالم هو المستولي بالقوة ، فانه قد ظلم الرئيس المنحى، وقد ظلم العائلة الذين اضطهدهم وما ذكرناه فى العائلة ينطبق على الدولة تماماً فاذا انضم الى المواد الثلاث في الدولة ( رابعة) هى حق الفيتو للامم القوية ، في مجلس الامم المتحدة ، كان للقانون الدولى ثلاثة اخطاء كبار كلها خلاف العقل والمنطق والانسانية.

بينما الاسلام، جعل واجب النهي عن المنكر ، وانقاذ المستضعفين ، عاماً لافرق فيه بين أهل هذه الدولة أو الدولة الاخرى ، وجعل الاستيلاء بالسلاح على

ص: 242

الامة بدون رضى الاكثرية للحاكم غير مشروع، فالحاكم في الاسلام يجب ان يستمد صلاحيته فى الحكم من (الله) ومن (الامة) ثم ان الاكثرية - في النظر الاسلامي ، حيث ما يستفاد من اطلاق اذلة الشورى - لافرق فيها بين :

(1) (امة واحدة) .

(2) أو (الاسم) .

(3) أو ( كل البشر ) ، بينما القانون الدولى ، لا يقول الابالاول فقط حيث قد عرفت في مسألة سابقة ، ان القانون الدولى يجعل الامة الصغيرة ، في حكم الامه الكبيرة فى ان لكل منهما - فى الامم المتحدة - رأياً واحداً ، فالدولة ذات مأة مليون ، كالدولة ذات مأة ألف ، لكل منهما رأى واحد، وحيث قد عرفت جعل حق الفيتو لبعض الدول فلا اعتبار لاكثرية كل البشر في منطق الامم المتحدة.

فاذا أراد القانون الدولي ان يكون مستقيماً حسب العقل والمنطق، يجب ان يأخذ برأى الاسلام.

(1) فالحكم لا يكون بالسلاح بل بالاكثرية (حتى مع الغض عن رأي الاسلام في لزوم كون الحاكم برضى الله سبحانه والحكم في اطار القوانين الاسلامية).

(2) والظلم يجب ان يرفع سواء في داخل الامة ، أوفي خارجها ، حيث كان، و ان كان بسبب أن حكومة أخرى تظلم سعبها .

(3) وأكثرية الامم المتحدة يجب ان تكون حسب أفراد الناس ، لاحسب أفراد الحكومات ، فلحكومة مأة مليون مأة رأي ولحكومة مليون رأي واحد ،اذا كانت الشعوب هي التي تختار بكل حرية حكوماتها .

(4) ولاحق للفيتو لاحد من الحكومات مهما كانت قوية وصناعية ...ومن الواضح ان حق الفيتوانما املاه الاستكبار وشريعة الغاب .

(1) كما ان تصديق الاستيلاء بالسلاح املته ارادة الدول الكبرى ، حيث

ص: 243

جعلوا ذلك ذريعة لتدخلهم في الشئون الداخلية للامم المستضعفة ، فيبدلون الحكومة الصغيرة ليأتوا مكانها بحكومة موالية لهم .

أما (2) الظلم داخل حكومة اخرى.

(3) واعتبار أكثرية الحكومات المعاصرة فقد أملاهما على القانون الدولي جهل اولئك المقننين بالموازين العقلية، ولذا لا تجد حتى مبرراً واحداً لهذين القانونين في كل كتب القوانين المدونة .

ليكن الهدف فى صالح الفرد والمجتمع

(الثاني) ان يتجه الهدف الطيب للدولة لصالح الفرد :

(1) بتأمين المأكل والمشرب و المسكن والملبس والمركب والدواء و الزواج له الى سائر حاجاته ، وحفظه من الخوف والقلق

(2) وحفظ حقوقه بعدم تعدي الاخرين عليه، سواء كان المتعدي في الخارج كالدولة الاجنبية أو في الداخل كالسراق ومن اليهم.

(3) وتهيئة وسائل الانماء والتقدم ، بما يكفل النهوض به فقد قال على عليه السلام في حكمة بعثة الانبياء( ليثيروا لهم دفائن العقول) ويدل على ذلك كله بالاضافة الى العقل ، جملة من الادلة الشرعية مثل ان خلاف ذلك تضييع وقد ورد : ( لعن الله من ضيع من يعول) وانه خلاف الرعاية ، وقد ورد: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) وورد : ( من ساوى يوماه فهو مغبون ) الى غير ذلك بالاضافة الى ماروى عن رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) من قوله : (الاسلام يعلو ولا يعلى عليه فيما اذا كان الكفار في تقدم وقد استدل به الفقهاء على عدم جواز بناء الكفار بيوتهم أعلى من المسلمين ، فكيف بمثل المقام فان الظاهر (علو الاسلام )بطبعه فيشمل (عدم ارتفاع حجة غيره عليه) و (لزوم ترفيع ما يرتبط به)

ص: 244

وليس هذا من باب الجمع بين الاخبار و الانشاء، حتى يقال ان الجمع بينهما محال اوخلاف الظاهر فلايصار اليه الابالقرينة ؟

(الثالث) ان يتجه الهدف الطيب للدولة لصالح الجماعات سواء كانت جماعات سياسية أو اقتصادية ، أو ثقافية ، أو صحية، أوغيرها ، والدليل في المقام هو الدليل في (الثاني) .

نعم ، هناك فرق بين (الاسلام) وبين (القوانين الوضعية) في هذا الامر فالاصل في الاسلام (الحرية ) فانها المستفادة من (الناس مسلطون على أنفسهم وأموالهم) ولذا فلكل انسان ان ينضم الى الاخرين لبناء الحياة وتقدمها ولا يحد هذه الحرية ، الامايوجب الضرر على الاخرين أو على النفس (بمالا يجوز تحمله شرعاً ) فليس للدولة - في نظر الاسلام التدخل فى شئون الجماعات أو وضع الدساتير والقوانين لها، وتقييدها بقيود - اطلاقاً -.

نعم ، اذا اخطأ فردها أو كل الجماعة حق المدولة ايقافها على المقرر الشرعى وذلك كالفرد حيث انه حر لا يقيد واذا ثبت خطأه أوقف عند حده - حسب المقرر شرعاً - بينما القوانين الوضعية تقيد الجماعة بقيود كلها مناف للحرية ، ولذا كانت كل تلك القيود باطلة في نظر الاسلام .

ص: 245

مسألة : 26 حاكمية الدولة

اشارة

لقد سبق ان ذكرنا الشخصية الحقوقية للدولة ، وفى هذه المسألة نذكر سيادة الدولة اي حاكميتها ، والسيادة والحاكمية معناها رابطة الأمرية والاطاعة فالحاکم آمر والامة مطيعة و بهذه الرابطة تجرى الامور على موازينها ، ولولا هذه الرابطة لم تكن السيادة ، وهذه السيادة تكون في ثلاثة موارد :

(1) في المجتمع الصغير كالعائلة والحزب ، والمنظمة والجمعية، وغيرها فهناك تكون آمرية ممن قرر ان يكون آمراً ، ومأمورية من سائر الاعضاء ، وقد يتحد الأمر و المأهور كما اذا قرر ان تكون الاكثرية آمرة ويطيع الجميع.

(2) في المجتمع الكبير كالدولة حيث ان الدولة آمرة و الشعب مأمور ، ولولا هذه السيادة لم يستتب النظام ولم تتقدم الامة الى الامام .

(3) في المجتمع الاكبر وهو بين الامم كلها مثل : (الامم المتحدة) أوبين جماعة من الامم مثل:( رابطة الدول الاسلامية ) حيث أن لمثل هذه المنظمات السيادة ، على تلك الدول ، حسب ماقرروا في ما بين أنفسهم باطاعة ما يصدر من الاكثرية - فيما لو كان نظامها بموازين العدل - .

ص: 246

لكن السيادة ، في كل هذه الامور الثلاثة ليست مطلقة وانما هي محددة حسب القوانين الموضوعة فحقهم انما يكون فى اطار القانون ، وخارج ذلك الاطار لاحق( هذا حسب كثير من الاعراف الدولية لكنك قد عرفت في بحث متقدم، انه لاحق للقانون التدخل فى شئون الناس الا بالقدر المقرر في الشريعة الاسلامية ،والاكان خلاف قاعدة تسلط الناس على اموالهم وانفسهم ) .

و علی ای حال فكل من الشريعة- السمحة- والاعراف الدولية- المشددة- قد جعل اطاراً المتصرفات الفردية والاجتماعية الصغيرة فى نطاق الدولة والدول ( الكائنة في ضمن الوحدة) مثلا : تصرف الفرد مشروط (بالبلوغ) و (العقل) و (عدم كون التصرف المالى اسرافاً) و (عدم كون التصرف العملى حراماً )الى غير ذلك ومثل هذا الامر جار فى الجماعة والدولة والدول الموحدة...

ولا بأس بالالماع السريع، الى ان جعل الاسلام قانون(البلوغ) أحد الاشياء الثلاثة المعروفة فى الفقه ، مسايرة للطبيعة، بينما جعل العرف الدولى القانون ثماني عشرة سنة، لايدل عليه عقل أو منطق ، ولذا فاللازم ترك العرف السائد الان الى القانون الاسلامي ، وقد ثبت حسب الاستقراء ان كلما يخالف القانون المقرر في الشريعة كان الاوفق بالعقل والمنطق الثاني .

والغالب ان القوانين توضع مع ملاحظة تساوي الأفراد :

(1) في العلاقات، فتكون علاقة زيد بعمرو، وبالعكس كعلاقة خالد ببكر وبالعكس ، مثلا، أما ان تكون العلاقة من طرف اقوى ، ومن طرف أضعف أو تكون علاقة أقوى وعلاقة اضعف ، فالقانون لا يتحمله ، فلا يكون للشريك الاغنى ان يفرض ارادته على الشريك الغني ، ولا يحق للشريك الغنى فرض ارادته على الشريك الاغنى ، بل حق فرض الارادة متساو من الجانبين كمالا يكون قانون الشركة بين الاغنى والغني الاكقانون الشركة بين فقيرين مثلا ، وهكذا

ص: 247

الحال في قوانين العائلة والجرائم وسائر المعاملات الى غيرها .

(2) وفي النتائج فالدولة مكلفة بانهاء كل فرد من غير ترجيح لفرد على فرد .

نقص القوانين البشرية

لكن هذا الغالب منخرم بأمرين :

(الأول) ان القوانين لاتنظر الى البشر كعائلة واحدة، بل تنظر الى البشر من زوايا الوطنية والقومية و اللون واللغة وما أشبه ، ففى امريكا للامريكي حقوق، ليست تلك للاجنبي الذي يعيش في امريكا ، وفي مصر ناصر العربي حقوق لا تتوفر للمهندى وفى روديسيا للابيض حقوق نيست تلك للاسود وهكذا وهذه التفرقة البشرية لا يقرها عقل ولا منطق، فكما ان العقل لا يقر الفرق بين الامريكي والامريكى فى القانون، كذلك لايقر الفرق بين الامريكي والاجنبي وهكذا ... وهذا الامر تابع لضيق النظرات حول البشر ، وعدم سعة الفكرة حتى تشمل الانسانية ، بينما الاسلام ، يجعل الأمر يدور على الكفائة (انعند الله اتقاكم).(1)

اكرمكم أما التفاوت بين المسلم وغير المسلم، فلم يقره الاسلام الا لاجل اختلاف الكفائة ، حيث ان المسلم دل العقل والمنطق على صحة طريقته في العقيدة والشريعة ، دون من سواه ، والاختلاف بين الافراد من جهة الكفائة مما يقره العقل والمنطق بل التساوي مع الاختلاف في الكفائة ظلم يأباه العقل.

(الثاني) ان القوانين حيث يضعها ذوو النفوذ (نفوذاً خاصاً ، رأسمالياً ، أو عمالياً ، أوما أشبه) تنحرف الى حفظ مصالح تلك الطبقة الواضعة للقوانين ،فترجح كفة جماعة ذوى النفوذ ، فالقوانين في امريكا توضع لصالح الطبقة

ص: 248


1- سورة الحجرات / 14

الرأسمالية بينما توضع في روسيا لصالح الحزب الحاكم وفي بريطانيا توضع لصالح هذا مرة وهذا مرة حسب أخذ أحد الحزبين المتصارعين على الحكم الزمام بيده- .

هذا مع الغض عن محذور التطبيق فى القوانين ، حيث ان التطبيق لا يكون الافي صالح الاكثر قدرة ، وبمقدار ضعف القانون ونقصه في موردى الجعل والتطبيق بالنسبة الى الافراد للقانون ضعف جعلا أو تطبيقاً في مورد الاحزاب والمنظمات والجماعات داخل الدولة، وفي مورد الدول، بالنسبة الى القوانين بين الدول ، فالمنظمة المرتبطة بجعل القانون تضع القانون لصالحها ، كما ان المنظمة المرتبطة بتنفيذ القانون تنفذ القانون لصالحها ،والدولة الاقوى - في الامم المتحدة - تضع القوانين وتنفذها لصالح نفسها، ومن هنا نشأ (حق الفيتو)و (حق اسرائيل في اراضي فلسطين) الى غير ذلك ، ومن هنا يصح ان يقال : (القانون) تحت ظل (الوضع) ليس الامخلب نمر فى قفاز حرير .

حاكمية الدولة ذاتية ومطلقة

و اذقد تقدم ان حق السيادة والحاكمية، يتجلى في (الجماعات) و(الدول) و(بين الدول) نقول : ان حق الحاكمية فى (الدول) له خصوصيات لا توجد في حق المالكية فى الجماعات ، وبين الدول ، وتلك الخصوصيات تجمعها امور :

الاول : ان حق الحاكمية فى الدولة ذاتى (اي ان الأمرينتهى اليها) فالدولة هي التي تضع القوانين وتكون المرجع الأخير في فصل الخصومات ، فهى المنبع ، وغيرها الانهر التي تستقى منه ، فقوانين العائلة في الزواج والطلاق والارث وفصل خصوماتهم وحقوق الاولاد ، وكبار السن فيهم ، والى غيرها ، كلها موضوعة من قبل الدولة .

ص: 249

وكذلك قوانين الاحزاب والمنظمات والنقابات والجمعيات والشركات وغيرها ، وقد ذكرنا سابقاً الفرق بين الدولة الاسلامية وسائر الدول، بأن الاولى لا تضع القوانين ، وانما تؤطر القوانين الاسلامية المستفادة من الكتاب والسنة والاجماع والعقل ، بينما الثانية تضع القوانين ..

وبذلك يظهر ، ان المراد( بكون الدولة المصدر والمرجع في الدولة الاسلامية ) معناه (في التأطير) وفي الدولة غير الاسلامية ، معناه في

(التشريع) وهذا الاختلاف بينهما ، لايهم في هدف هذا البحث.

ولذا فالعائلة ، والحزب، وما اليهما، يكون لهم رئيس وقانون داخلي يضمن الحقوق وكيفية الاجراء ، الا ان واضع هذا القانون ومنظم الارتباطات ، و المرجع لدى المخاصمات (التي لا تحل في داخل العائلة والحزب وما اليهما) هی الدولة ، وهكذا الأمر في كل تجمع صغير في داخل الدولة.

فالسلطة في الدولة مستقلة قائمة بذاتها، بينما السلطة في التجمعات الصغيرة التي في داخل الدولة مستقاة من الدولة ومنتهية اليها ولاتستمد الدولة السلطة من قدرة اخرى(غير قدرة الامة كمجموع، وقدرة الله سبحانه - في الاسلام- ) سواء كانت تلك القدرة داخلية أو خارجية ، وحتى دولة المؤسسات ، فيما لو تحولت الامة الى امة عصرية ، هي مجموعة مؤسسات صناعية ، وزراعية واقتصادية ، واجتماعية ، وثقافية ، وغيرها، تكون الدولة ذات سلطة مستقلة قائمة بذاتها ، أي ليست كالتجمع الصغير الذي يستمد السلطة والقدرة من الدولة.

أما اذا استمدت الدولة سلطتها من دولة اجنبية ، فليست دولة مستقلة ،بل تكون حينئذ اقليماً تحت الحماية أو مستعمرة أو ولاية أو مقاطعة . . . ولذا لم تكن دول (الدومينيون )في الدولة البريطانية، دولا، لانها لم تكن تملك حق التصرف في شئونها الداخلية والخارجية( الابقدر ما يملك تجمع صغير داخل

ص: 250

الدولة) فكانت تستمد سلطتها من البلد الام (انكلترا) فكان برلمان تلك الدول وحكومتها وحكامها يؤدون وظائفهم بمعونة خارجية ...

أما (الكومنولث) الذي حل محل (الدومينيون) فهي دول مستقلة ذات علاقة متبادلة مع انكلترا ، باستثناء ان بريطانيا تأخذ منها أكثر مما تعطى لها ،أمثال كندا واستراليا ونيوزيلاندة وغيرها ، ويصح ان يسمى مثل ذلك ب_ (الاستعمار الحريري) .

وهكذا يكون لاستعمار بريطانيا مراتب : السافر ، كالهند أبان الاحتلال والخفى كالعراق في الحال الحاضر( حيث يحكمه البعث ظاهراً ، وبريطانيا حقيقة) وعلى نحو الدومينون، وعلى نحو الكومنولث ، وعلى نحو ايرلندا ، و بينما القسمان الاولان لا استقلال لهما اطلاقاً ، بل هما كجمعية داخل دولة ، أو أسوء ، تكون الاقسام الثلاثة الاخيرة ذات استقلال، ولكنها ترتبط بخيط الاستعمار بشكل او باخر.

أما البلاد الاسلامية داخل روسيا، فهى مستعمرة بالفتح بكل معنى الكلمة وليست لها حتى ما للجمعية في داخل حكومة من الحقوق. . . بينما الولايات الاكثر من الخمسين ، في الولايات المتحدة الامريكية كل منها دولة باعتبار قوانينها الداخلية ، ولها برلماناتها وحرية تشريعها وقضائها وبوليسها وما الى ذلك ، وكلها دولة واحدة باعتبار سلطات الدفاع والسياسة الخارجية واعلان الحرب وعقد الهدنة والصلح وابرام الاتفاقات والمعاهدات .

صلاحيات الدولة

ثم ان حق الحاكمية في الدولة يعطيها صلاحيات كثيرة، كالتشريع وسن القانون (تأطير القانون في الاسلام) ويكون ذلك ، حسب رأى الاكثرية في

ص: 251

البرلمان (وقد يبنى البرلمان على صحة العادات في الامة ، فلايكون القانون مسطوراً كما في الدستور الانكليزي ، حيث ان جملة من العادات لها قوة القانون وليس ذلك بمسطور في الدستور) وكذلك تنظيم المحاكم وتنفيذ الاحكام...

وحق فرض الضرائب وجبايتها ، والمنع عن جباية المال للافراد والجماعات الاباذن الدولة . . . وأخذ الناس للخدمة العسكرية بجعل قوانين لها ، والنفير العام لدى الاحتياج ... واعمال البوليس و المحافظة على الامن بمختلف الوسائل وسن قانون العقوبات وتنفيذها بحق المجرمين ، وجعل الوقايات (والتي هی خير من العلاج) خصوصاً في ظروف الحرب والفوضى والاضطراب ، ومنع التجول، وقد تصل العقوبة الى الاعدم (ولكن اللازم الاحتياط والتثبت في ذلك فان الدم من أهم ما تعتزبه الانسانية ، ومن تلك الاحتياطات ربط التوقيع على الاعدام ، بلجنة عليا من أنزه الناس العارفين بموازين القانون و اعراف الاجتماع أو برئيس الدولة النزيه مباشرة) .

وجعل القوانين المراعية لحق الملكية الفردية والجماعية ، ممالا اجحاف فيه ولا اضرار ، فلكل حقه(البدني والفكرى وما يقابل المواد وشروط الزمان والمكان والعلاقات العامة) ولايكون حق نزع الملكية الافي الحالات النادرة جداً ، فانه كحق القتل وكحق اباحة العرض - في رتبة واحدة مما لا يبيحه عقل أودين الافي قصوى حالات الاضطرار - .. والاستيلاء على ارض الغير في حالات الاضطرار ، كالشئون العسكرية في حالات الحرب (والحصار) مع تعويض أصحابها ، ببدل الايجار ، أو بدل الملك ، تعويضاً عادلا . . ومصادرة ماتصح مصادرته كادوات الجريمة، مثل ما يستعمل في الاعتداء ، أو يهدد أمن وسلامة المجتمع (ومن ذلك كسر المعازف ونحوها و اراقة الخمر ونحوها في الشريعة

الاسلامية . .)

ص: 252

وتشريع قوانين السجون وتنفيذها بحق بعض المجرمين ، مع الاحتياط الكامل( لانه خلاف حرية الناس المقررة عقلا وشرعاً . . ) وحق صك النقود و اصدارها ( وقد يخول ذلك الى البنك المركزي، أو غرف التجارة ، أو ما أشبه..) و ادارة الاشياء التي لامالك لها ، أو هم قصر لاولي خاص لهم . . . واعطاء العقود الصيغة الرسمية وذلك بوضع الدولة خاتمها على المعاملات ..

..والوقوف دون نقل بعض الامور ، كالاثار العتيقة ، والحيوانات النادرة ، والكتب المخطوطة ، ونحو ذلك، كالوقوف دون هدم وتغيير الاثار القديمة. . الى غير ذلك مما ينبثق عن سيادة الدولة من مجموعة التصرفات السياسية و الاجتماعية والاقتصادية : لمكافحة المشكلات ولتوجيه الحياة ، ولتنميتها وكذلك تقوم الدولة بالجهود السلام العالمي، والسلام المحلى اذا قامت الحرب بين دولتين ، أو نشبت حرب أهلية في دولة .. وبالجهود ، لازالة التفرقة العنصرية واللونية واللغوية وما أشبه . . وكذلك بالجهود لاجل تحسين الجوار بين الدول ، ولاجل تخفيف اعباء دولة على شعبها ، ولاجل تخفيف المرض و الجهل والجريمة وما أشبه الكائنة فى بعض الامم .

ولا يخفى ان الدولة الاسلامية تعمل بكل هذه الامور لكن بثلاثة فوارق ، بالقياس الى الدولة غير الاسلامية :

(1) ملاحظة قانون : الناس مسلطون على اموالهم وانفسهم) الى أبعد حد حيث ان الحرية أصل كبير من الاصول الاسلامية، وهذا الفارق وان كان داخلا في الفارق الثاني ، الا ان اهميته أو جبت ذكره مستقلا ، بالاضافة الى ان هذا الاصل مسحوق في الدول التي تدعى الحرية ، فكيف بالدول التي بنيت على الديكتاتورية (كالبلاد الشيوعية) .

(2) لزوم كون كل القوانين تشريعاً وتنفيذاً في الاطار الاسلامي الذي استقى

ص: 253

من الأدلة الاربعة .

(3) لزوم كون التنفيذ مشتملا على شرطين :

(أ) ولاية الفقيه، اى ان الرئيس الأعلى للدولة هو الفقيه الجامع للشرائط فهو وحده الذى له الحق في ادارة البلاد وتوجيه العباد ، فادارة البلاد - ولو على نحو الاسلام مأة في مأة - لا تجوز لغير الفقيه ، قال الامام (عليه السلام) : (فانهم حجتي عليكم ، وانا حجة الله عليهم) .

(ب) كون الفقيه الصالح منتخباً من قبل أكثرية الامة، فاذا كان هناك فقيهان جامعان للشرائط و انتخبت الامة احد هما ، لا يحق للاخر تولى الشئون كما هو مقتضى دليل الشورى ، وقوله (عليه السلام) :( انظروا الى رجل منكم ...) . وقد ذكرنا تفصيل دليل الشورى في كتاب : الحكم في الاسلام) ولعله يأتي له مزيد توضيح في بعض المسائل الاتية انشاء الله تعالى.

وبذلك تبين ، ان لاولاية الفقيه خارج الاطار الاسلامي ، فان الفقيه هو المراعي لاحكام الاسلام ، لا الذي يعمل خارج نطاق الاسلام ، كما تبين ان لا ولاية الفقيه خارج انتخاب الامة ، بالنسبة الى التصرف فى شئون البلاد والامة .

بين سيادة الدولة وسيادة الامم المتحدة

(الثاني) ان سيادة الدولة على داخلها اقوى من سيادة (الامم المتحدة) على داخل الدولة .

(1) اذ لاقدرة عسكرية للامم المتحدة، حتى تنفذ ارادتها في داخل البلاد، اذالم ترضخ الدولة لمطاليب الامم المتحدة، ولا تخرج قدرة الامم المتحدة عن القدرة الدبلوماسية ، واحياناً تصل الى المقاطعة الاقتصادية ونحوها ، ومثل هذه القدرة ليست كافية لاخضاع الدولة في شأن من الشئون ، ولذا كثر فى التاريخ

ص: 254

عدم قبول الدولة لمطالب الأمم المتحدة ، كما لم ترضخ روديسيا العنصرية ولا اسرائيل ، ولا بعض الدول الاخر لما اتخذته الأمم المتحدة من القرارات .

(2) هذا بالاضافة الى ان وجود الدول الكبرى العاصية عن الاوامر ، و المتأمرة ضد القرارات، والجاعلة حق (الفيتو) لانفسها ، قد قلل من قدرة الامم المتحدة ، وكثيراً ماتمشي الامم المتحدة ، وراء الدول الكبرى ، في جعل القرارات ، وتنفيذ الأوامر .

(3) وحتى اذا قدرت الامم المتحدة عسكرياً من التدخل في داخل البلاد حيثما عصت الدول الصغار ، وكانت بعض الدول الكبار موافقة فان شلل الامم المتحدة من جهة (توازن القوى) يمنع عن سلطة الامم المتحدة على الدول الصغار ، بينما سلطة الدولة الصغيرة على داخلها لامانع لها، مثلا تخاف الامم المتحدة من التدخل لانقاذ لبنان ان تتدخل روسيا في بلد آخر ، حيث ان تدخل الامم المتحدة يكون لحساب امريكا ، وهكذا بالعكس هذا كله مع العلم ان الامم المتحدة اليوم جهاز بيد الاستعمار ليس غير .

بين سيادة الدولة وسيادة التكتلات

(الثالث) لا تعادل أية من المنظمات العالمية ، حتى ما كانت لها فروع داخل الدولة قدرة الدولة على داخلها، وسيادتها على شعبها وأراضيها ، مثلا: الحزب الشيوعي العالمي، ومنظمة اليونسكو ، ونقابة العمال العالمية، والهلال الاحمر الدولي ، وجمعية حقوق الانسان ، وغيرها ، لا تقدر على ماتقدر عليه الدولة فان كل تلك خاضعة لسياسة الدولة على داخلها ، فان تلك وان كانت عالمية الاانه لاقدرة تحميها في قبال قدرة الدولة ، نعم ان تلك القوى تقدر على ايجاد الضغوط العالمية على الدولة التي تسيء التصرف .

ص: 255

السيادة المتكافئة

(الرابع) قد سبق ان الدول تكافئ بعضها بعضاً ، من جهة الحقوق والواجبات والاصوات ولو غالباً كما سبق ان المكافئة المعاصرة، خلاف العقل والمنطق ، لكن لا يخفى ، ان هذا النوع من السيادة (اي السيادة المكافئة) لاتكون الابالنسبة الى الدول التي يعترف بعضها ببعض ، أما اذا لم تعترف بعض الدول لم تكن مكافئة بالنسبة الى الدول غير المعترفة ، و من آثار عدم الاعتراف عدم التبادل الدبلوماسي والعلاقات التجارية ونحوها ،لكن ربما يصل عدم الاعتراف الى عدم دخول دولة في الامم المتحدة، واحياناً الى عدم الاعتراف بها داخل الامم المتحدة. (فالاول) كالصين، حيث انها دخلت تحت لواء الشيوعية ،عام (1949)م ، بعد مجازر رهيبة فاستغلها العامل السياسي العالمي ذريعة لمقاطعتها ، فلم يأذنوا لها بدخول الامم المتحدة ، حتى دخلت تحت الامم المتحدة عام (1970)م ، ومن المؤسف ان هذا الشعب الذي يبلغ عدده ملياراً من البشر تقريباً، احياناً تستغله حكومة موسكو ، وأحياناً تستغله حكومة واشنطن ، كما حدث في الحال الحاضر ، والسبب انه لاكفائة ذاتية له عقيدة ونظاماً واقتصاداً ، ولارشد فكري له ، حتى ينقذه ينقذه من الاستغلال .

(الثاني) كاسرائيل، حيث انها وان دخلت الامم المتحدة تحت مظلة امريكا) وروسيا الا ان كثيراً من البلاد بقيت على عدم الاعتراف بها ، لانها دولة غاصبة والاعتراف بالغصب لا يصدر الا عمن لا يهتم بالعقل والمنطق.

بقى شيء ، وهوان الدولة ذات السيادة ، يلزم ان يكون لها من الاراضي وأفراد الشعب ، ما تتمكن بسببها من القيام بنفسها، والاكانت سيادتها اصطناعية، وكانت شبح دولة ، اذ كيف يمكن ان تسمى دولة ما لا تتمكن من القيام بنفسها وقد حدث ان كان من مصلحة الاستعمار أو غيره تكوين أمثال هذه الدول ، أما

ص: 256

لامر روحى ، كدولة الفاتيكان ، فانها ليست الا رمزية ، كونت ليتمكن الدين المسيحي من السيطرة التامة على مصالحها الروحية، في كل العالم المسيحي الخاضع لتلك الكنيسة ، بينما لامقوم لهذه الدولة من حيث الاراضي ولا السكان وأما لأمر مادي كبعض دول الخليج ، حيث أراد الاستعمار استغلال منطقتها الاستراتيجية ، وثروتها المعدنية ، فجعلها في صورة دولة ، بينما هي في حقيقتها بقدر المحلة فى المدينة الواحدة المتوسطة .

ص: 257

مسألة : 27 شعاع سيادة الدولة

اشارة

لقد تقدم ان سيادة الدولة سيادة مطلقة ، لا تشابهها في القدرة سيادة اخرى سواء السيادة الداخلية للاحزاب والجمعيات، أو السيادة الخارجية للامم المتحدة أو السيادة للاحزاب والمنظمات العالمية كسيادة نقابة العمال العالمية ، وسيادة حقوق الانسان ، وغيرهما .

وهنا نقول ان الدولة سيادة داخلية، وسيادة خارجية والسيادة الداخلية هي المطلقة - نوعاً ما - حيث ان الدولة قادرة على التشريع والتنفيذ ، ضمن اطار ما تسالم عليه الشعب كله من الدستور أو الدين أو العادات التي هي وان لم تكن مدونة كما في بريطانيا - والذي يحفظ هذه السيادة المطلقة في الداخل هو (المال) و (السلاح) حيث ان المال يعطى للموظفين ، و لولاه لم يكن خضوع وضبط للامور ، والسلاح لاسناد القانون وعقوبة المجرم بسبب الجيش والشرطة والنجدة وما اشبه ، ولا تقدر أية جماعة أو منظمة - غالباً - على مقابلة مال الدولة وسلاحها، حتى تتمكن ان تقاوم ارادة الدولة وان كان یسند الجماعة مال كبير وأسلحة كثيرة، حيث ان لا تنظيم لمال الجماعة وسلاحها كما للدولة ، ولذا احياناً نجد السلاح بيد الشعب لكنه لا يقدر على مقاومة الدولة ، كما نجد أحياناً أثرياء كثيرين يسندون منظمة أو ما أشبه لكنها مع

ص: 258

ذلك لا تقدر ان تقاوم الدولة .

أما فى الخارج، فقدرة الدولة محدودة، وليست مطلقة( كما في الداخل) وذلك لان الحرية متكافئة ، فالحرية انما تقدر على الانطلاق اذا لم تكن حرية اخرى الى جانبها، والافكل حرية تأخذ نطاقاً لنفسها تمنع نفوذ الحرية الاخرى الى تلك المنطقة ، كحال الافراد فى داخل الدولة، فإن حرية تصرف زيد محدودة بشعاع حرية عمرو ، وبالعكس وحرية حر كة منظمة محدودة بحرية حركة منظمة اخرى ، وكذلك حال الدولة فلكل منها شعاع سيادة لنفسها ، وذلك الشعاع يمنع من تعدي الدولة الأخرى في محيط ذلك الشعاع ، فاذا أرادت دولة فتح الأسواق لها فى خارج بلادها ، لم تتمكن من ذلك الابقدر ما تسمح الدولة الأخرى ذات السوق ، وكذلك فى مجال الثقافة ، والاعلام ، والدبلوماسية ، وغيرها ، بينما الدولة فى داخل بلادها، تقدر من كل ذلك بدون ان يكون لها مقاوم - واذا قاومها فرد أو جماعة، سحقته بقواها المسلحة- .

ثم انه كما لا تساوي في شعاع حرية الافراد والجماعات في داخل الدولة حيث ان الفرد المقتدر مالياً ، أو علمياً ، أو ما أشبه له شعاع حرية اكبر ، من الفرد الذي ليس كذلك ، وهكذا بالنسبة الى جماعتين ، وكذلك الامر بالنسبة الى دولتين فى سطح الامم ، فالدولة الاقدر مالا وعلماً وما أشبه لها من شعاع الحرية ، ما ليس للدولة التي ليست بتلك القدرة مالا وعلماً (هذا بالرغم من ان القانون الدولى يعطي لكل الدول قدراً واحداً من الشعاع فلكل دولة صوت فى القرارات كبرت الدولة كماً وكيفاً أو صغرت)- باستثناء مثل حق الفيتو و نحوه وقد عرفت فيما تقدم عدم صحة هذا القانون ، بل اللازم اعطاء حق الاصوات حسب كبر الدولة وصغرها لان الدولة تمثل الافراد فليس من الحق

تساوي ألف مليون مع مليون واحد ، فيما لو توفرت الحريات للشعبين .

ص: 259

ضرورة التعادل بين الكفائة والشعاع

نعم ، ليس من الحق ان يكبر الشعاع حسب كبر الامكانيات للدولة، الا اذا كانت الامكانيات نابعة عن الكفاءات ، فاللازم قياس الدولة بالافراد ، من هذه الجهة ، فاذا كان فرد أعلم أو أقوى جسماً ، أو ما أشبه ذلك ، كان شعاع حريته بقدر كفائته ، بينما ليس كذلك الاقل علماً أو قدرة ، مثلا : الذي يعملكل يوم عشر ساعات له خمسة دنانير، بينما الذي يعمل ثماني ساعات له أربعة دنانير فى صورة تساوى العمل من حيث الكيف وتبعاً للاقدرية مالياً يكون الفرد الاول أقدر انطلاقاً وأوسع دائرة لشعاع الحرية ... واذا صح هذا الشيء عقلا ومنطقاً فى الفرد ، صح مثله في الدولة فالدولة الاقدر المستندة قدرتها الى الكفائة فى أفرادها ( اذ كفائة الدولة بمعنى كفائة افرادها ) يحق لها ان يكون شعاع حريتها وانطلاقها أكثر من شعاع حرية وانطلاق الدولة التي ليست بتلك المثابة من الحرية .

أما ان يكون الشعاع حسب الامر الباطل كما في امريكا حيث ان قدرتها بحسب الرأسمالية المستغلة بالكسر - وفى روسيا ، حيث ان قدرتها بحسب الديكتاتورية المستبدة فذلك خلاف موازين العدالة التى هي اعطاء كل أحد بقدر كفائته ...

و بما ذكرناه تبين :

(1) موقف الاسلام من التساوى بين الدول ، في الامم المتحدة .

(2) كما تبين الخطأ القانوني والخارجي فى قوة وضعف الاعضاء في الامم المتحدة .

أما الاول : فلان الاسلام لا يرى التساوي بين الدول بهذا الشكل الموجود

ص: 260

حالا بليرى التفاوت حسب أفراد كل دولة وكفاءاتهم ، أما حسب الافراد ، حيث ان الاكثرية تشكل من الافراد لامن الوحدات الدولية المجعولة، اذ مثلا: هذه المأة ألف دولة، وتلك المأة مليون دولة ، أمر جعلي حسب المقررات ، ولذا كان قابلا للتغيير عند تغيير خرائط الدول ، وأما حسب الكفاءات فالعالم - مثلا -حيث انه خبير مسموع الكلام فى شهادة تحتاج الى الخبير ، بخلاف غير الخبير حيث لا يسمع كلامه.

قال تعالى : «فاسألوا اهل الذكر ».(1)

وفي الحديث : الاعتماد على كثير القدم في أمرهم عليهم السلام الى غير ذلك من أدلة الاحتياج الى الخبروية ، في الامور المحتاجة الى أهل الخبرة.

واما الثانى : فلان قانون الامم المتحدة يجعل لكل دولة صوتاً مهما كانت كبيرة أو صغيرة ، ويجعل حق الفيتو لبعض الدول من جهة القانون - كما يجعل المكانة الاقتصادية ، والسلاح ، وما أشبه ، مبرراً لمسير في ركاب تلك الدولة والسماع لكلامها ، وان كان مخالفاً للمنطق والعقل من جهة التطبيق فالحالة فى الامم المتحدة، كالحالة فى أفراد دولة واحدة، حيث ان الفرد الذي له مكانة اجتماعية أو مال أو ما أشبه يتمكن ان يفرض على الفرد الضعيف ارادته بدون ان يكون مبرر لذلك الفرض ... وكل ما يجري في الامم المتحدة من عدم العدالة - مثل ما يجري بين الأفراد، والجماعات في الدولة الواحدة - مخل بالحرية الممنوحة للانسان حسب المنطق والعقل ، و حسب الشريعة الاسلامية فاللازم ان يكون شعاع الحرية للفرد و الجماعة و الدولة حسب الكفائة ومعلوم ان سير الامم المتحدة بهذا الشكل الموجود ، لا يدعمه عقل و لا منطق كما ذكرنا سابقاً .

ص: 261


1- سورة النحل / 45

توسيع شعاع الحريات : بقدر الكفاءات

وعلى هذا فسيادة الدول فى المجال الخارجي ، يجب ان تكون حسب كفاءاتها ، وكلما تقدمت الدول فى النضج، والاقتراب من العقل والمنطق توسع شعاع الحريات ، للدول، وبالاخرة للافراد ، وذلك لان كفائة الافراد كلما وجدت المجالات المفتوحة ، تمكنت من الانطلاق حسب سعة ذلك المجال، فان الانطلاق العملى الناشيء من الكفائة الذاتية ، مثله مثل نور العين كلما صد وقف ، وكلما فسح له المجال ، أبصر بمقدار استعداده الاشعاعي... فقد كان فى القديم حكومات القبائل ، وفى ذلك الوقت كان مجال كل قبيلة خاصاً بمقدار سيادتها المحدودة بشعاع سيادة القبيلة الثانية ، واذ توحدت القبائل تحت حكومة ، صار مجال عمل كل قبيلة بمقدار شعاع الحكومة ، أى فى منطقة كل تلك القبائل ... وكلما تترفع الحواجز بين الدول في أمر يتسع انطلاق عمل الحكومة ، بقدر ما يتسع أمامها المجال .

ولنفرض ان دولتين مجال عمل كل واحد منهما فى مليون هكتار من الارض على أمة ذات مليون انسان ، فانطلاق احداهما على الاخرى ، يجعل كفاءات أفرادها ، تنطلق بقدر أرضها وسكانها فقط ، بينما اذا تصافقتا على فتح المجال الاقتصادي، صارت الكفائة الاقتصادية تجد مجال العمل في مليوني هكتار، ومليوني انسان ، وهذا نوع من الحرية كانت الدولة تقف أمامها قبل فتح هذا المجال.

وهكذا الكلام في المجال السياسي ، والاجتماعى ، والثقافي والسياحي وغيرها وليست (الامم المتحدة) و(الوحدة الافريقية) و(السوق الاروبية المشتركة) و (نقابة العمال العالمية ) وأشباهها ، الا ارهاصات ، لتوسيع مجال الكفاءات

في كل الميادين ...

ص: 262

نعم الصيغة النهائية للتوسيع انما تكون بتوحيد العالم تحت حكومة واحدة كما قال سبحانه :« وان هذه امتكم امة واحدة وانا ربكم»(1) وفي آية اخرى ذكرت طريقة الوصول الى ذلك :

قال سبحانه :« انا خلقناكم من ذكر وانثى ، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ، ان اكرمكم عند الله اتقاكم»(2) فالشعوب والقبائل للتعارف ، والمعيار في التقدم الكفائة (التقوى).

ولذا كانت المهمة الإسلامية ان يسعى كل فرد لتضعيف الحاكمية المحلية لتقوية الحاكمية العالمية، اذ الحاكمية المحلية ،قوقعية، بينما الحاكمية العالمية انطلاقية ، وكلما ضعفت الأولى قويت الثانية ، وبالعكس ، ومن الواضح انه ليس المراد بالتضعيف الفوضي ، بل تكثير الحريات والانطلاقات ، وتوسيع مجال عمل الكفاءات ، فاذا تمكنت الكفاءات من العمل بأقصى قدرتها ، كان معنى ذلك سقوط الحكومات المحلية ، وقيام الحكومة الواحدة العالمية .

الانغلاق سبب تخلف العالم الثالث

ومما تقدم ظهر سبب التناقض بين البلاد الصناعية، وبين البلاد المتأخرة والتي وصلت جملة منها الى الاستقلال ، حيث ان البلاد الصناعية ، أخذت ترفض القومية ، وتوسيع الحريات الحدودية ،وتسهل حركة الكفاءات، في مختلف المجالات الثقافية والصناعية والتجارية والاجتماعية ونحوها ، بينما البلاد المتأخرة بعكس ذلك ، تشدد على القوميات والاقليميات والحدود وما أشبه ذلك ...

وجه الظهور ان البلاد الصناعية( بما تقدمت في رشدها الفكري وعرفت

ص: 263


1- سورة الانبياء / 92 .
2- سورة الحجرات/ 14

ان التقدم انما يكون لاطلاق الكفاءات) أخذت تسير في اتجاه توسعة نطاق العمل ، ومن الواضح ان كل الحدود المادية( كالحدود الجغرافية) وما يسمى بالمعنوية ( كالحدود القومية ) من أكبر العوائق للتقدم ، ولذا فقد أدركت تلك الدول وجوب ازالة تلك العوائق ، وأخذت تزيلها بخطى بطيئة ، ولو لا انانية تلك الحكومات ، وكبريائها على الامم الضعيفة ، وعدم خروجها عن سباق التسلح ، لكان السير في ازالة العوائق بخطى سريعة...

ولذا لم تكن مسألة نزع السلاح، ، مسألة (سلام) فقط، بل هي مسألة (انطلاق) ايضاً ، فان السلام والانطلاق وجهان لعملة واحدة ، حيث ان السلام لازالة القلق ، وحينما يزال القلق ينطلق الانسان الى أهدافه الرفيعة ، و عليه فالسلام يؤمن الجزء (السلبي) بينما الانطلاق يؤمن الجزء (الايجابي) .

أما البلاد المتأخرة، سواء ما استقل منها وتسمى : (مجاملة بالبلاد النامية) أو مالاتزال بعد تحت الاستعمار الظاهر أو الخفي، فهي بالعكس من تلك تماماً، انما تمر في مرحلة الطفولة ، وحالة القبلية و الانغلاق ، و بعبارة الين ( الملوك الطوائفية ).

وهذه الحالة تلازم الديكتاتورية، والديكتاتورية ضد الكفاءات - كما هو واضح - ولذا تتمسك بالقومية ، وتشدد في أمر الحدود ، وتعارض اي انطلاق فالقومية تقول : (قومي)، والاقليمية تقول : (حدودي) بينما الانسانية تقول :( اينما وجدت الكفاءات) سواء في قومى أو غيرهم ، او في حدودي أوغيرها، والقاعدة الاسلامية المعروفة : الناس مسلطون على أنفسهم وأموالهم والاية الكريمة : « لتعارفوا ... اتقاكم »(1) تشكلان الاساس الاولى لصرح الكفاءات والانطلاقة العالمية .

ص: 264


1- سورة الحجرات / 14 .

القومية العربية : وسيلة للتقدم أم عامل للانحطاط ؟

لا يقال : ان تم ماذكر بالنسبة الى القومية في الجملة ، لايتم بالنسبة الى القومية العربية ، حيث ان توحيد العرب ( مأة وخمسون مليون ) في حكومة واحدة يعطى النتائج المطلوبة في القدرة ، وهو خير من تبعثر العرب في حكومات متعددة ؟

لانه يقال : لم تكن الدعوة الى القومية العربية الاخداعاً، قصدبها الجانب السلبي من القضية اى عدم قيام الاسلام الذى هو المنقذ الحقيقي في هذه البلاد ولم يقصد بها قيام وحدة عربية ، بل الذين دعوا الى القومية العربية ، علموا بانه لا يعقل توحيد البلاد تحت هذا اللواء وذلك لما تنطوى عليه هذه الدعوة من بذور المقاومة والفرقة والمشكلات .

(1) مثل ان القومية تقاوم من قبل كافة المسلمين، حيث ان المسلمين يعتقدون بالامة الاسلامية، ويرون حرمة اي تجمع آخر.

(2) وتقاوم من قبل جملة من الاقليات القاطنة في هذه البلاد مثل : ( الاقلية المسيحية) فى مصر ولبنان وغيرهما ، و( الأقلية الكردية) في العراق وغيرها وسائر الاقليات الموجودة في هذا البلاد.

فالمسيحيون عرفوا الاسلام بالسماح لهم، لكنهم لم يعرفوا القومية بالسماح لهم، بل عرفوا عدم سماح القومية، حيث قد عرفت ان القومية ضد الكفائة... والاكراد قالوا بانه اذا كان الموضوع الاسلام فالكل سواء واخوة .

أما اذا كان الموضوع القومية ، فنحن قوم ، كما انتم قوم، وباى مبرر يكون لكم الحكم و السيادة ، و نحن نكون شعباً تحت نفوذ كم ؟ الى غير ذلك .

(3) وتقاوم من قبل الاقليمية ، حيث ان الاقاليم المرتفعة اقتصادياً لاتستعد

ص: 265

ان تتنازل من اقتصاديات لاجل التوزيع تحت لواء لاتؤمن به ... وقد حدثت كل هذه المقاومات بالفعل .

(4) هذا بالاضافة الى ان القومية لم تكن تتمكن من مقابلة اسرائيل (التي تجمعت تحت لواء الدين) اذالدين اعمق اثراً في النفوس من القومية، فكانت الدعوة الى القومية العربية مكيدة استعمارية، لترسيخ اسرائيل في المنطقة اكثر فاكثر ، كما حدث بالفعل .

ثم ان القومية حيث تلازم ايجاد الاعتزاز بالنفس فى الناس اعتزازاً مكذوباً والاعتزاز بالنفس ضد التواضع ، لازمت القومية الديكتاتورية.

وهذا ما حدث في البلاد العربية (الداعية الى القومية) بالفعل كما لازمت القومية( انطلاقا من اعتزازها المكذوب بالنفس) احیاء آثار الاباء ولو كانوا كفرة كما احيت قومية مصر (فرعون) وقومية العراق (آثار بابل) وقومية ايران( آثار المجوس) الى غير ذلك ، وذلك استلزم انفضاض اهل البلاد عن الحكومة، فضلا عن انفضاض سائر المسلمين في البلاد الاخر فضعفت كل من الحكومة و الشعب بما جعلهما لا يقدران على التقدم في اى مجال ، بل جنحت البلاد الى التأخر اكثر فاكثر.

ص: 266

مسألة : 28 الدولة والقوى الثلاث

اشارة

استقر رأى جماعة من السياسيين على ان المؤسسات السياسية في الدولة يجب ان تقسم إلى ثلاثة اقسام :

(1) القوة التشريعية .

(2) القوة التنفيذية .

(3) القوة القضائية .

فالقوة التشريعية ،عبارة عن الذين تنتخبهم الامة - في انتخابات حرة - ليكونوا نوابهم في جعل القوانين الصالحة، لاجل رفاههم وتقدمهم، وبذلك تكون الامة مسيطرة على مقدرات نفسها ، بواسطة ،نوابها، حيث ان الامة غالباً لا تقدر على التشريع المباشر، وان كان ربما يمكن ذلك بصعوبة (كما في الانتاج) ويقول بعض السياسيين بامكان تشريع الامة مباشرة ، وذلك لان القوانين المهمة غير الجانبيه - ليست كثيرة ، فكلما رأت الدولة الصلاح - اورأى المنتخبون الصلاح - فى سن قانون تجمهر الناس ، في كل محلة محلة - اوكل بلد بلد ، اذا كانت البلاد صغيرة وادلو ابآرائهم حول القانون، وترفع الاراء الى مجلس

ص: 267

الامة ، ويقرر الاكثر صوتاً ، وكيف كان فيقع الكلام في القوة المقننة في عدة امور .

وحدة القوة المقننة ام تعددها ؟

الامر الاول : في وحدة مجلس القوة المعننة ، وفي المسألة ثلاثة آراء . (الرأى الاول ) لزوم وحدة القوة المقننة ، لان تعددها يوجب التضارب، بالاضافة الى عدم الحاجة الى تعدده لان مجلس الامة نواب للامة انتخبوا بملاء ارادتها فقولهم قول الامة وتشريعهم تشريع الامة، فلماذا الحاجة الى مجلس ثان... ثم كما لاحاجة الى المجلس الثالث ، كذلك لاحاجة الى المجلس الثاني.

و على هذا الافرق في لزوم وحدة المجلس بين الحكومات الفدرالية والحكومات الواحدة ، فاللازم ان تلاحظ كمية الجمعية - مطلقاً - و يجعل لكل فئة منها (مأة الف)او(مليون) او اكثر او اقل (نائب) في مجلس التشريع ... او يجعل للاكثر صوتا (بدون تعيين العدد) حق النيابة.

وهكذا الى العدد المطلوب مثلا : اذا كان للمليون حق خمسة فالخمسة ، هم الأكثر صوتاً من غيرهم ، ولو كان هناك عشرون مرشحاً ، حاز احدهم مأة صوت والاخر تسعين، الى ان حاز عاشرهم عشرة اصوات فالفوز حينئذ للخمسة الاول ، والحاصل انه قد تكون العبرة بعدد الأصوات وقد تكون العبرة باكثرية الاصوات( وكل نوع من الاعتبارين ، جار في بعض البلدان الديمقراطية ) .

(الرأى الثاني) لزوم تعدد القوة المقننة، والتعددله اشكال .

(1) شكل الانتخاب في كلا المجلسين من قبل الامة ، وذلك لان يكون نضج الحكم المشرع اكثر ، حيث يشرف المجلس الثاني على المجلس الأول، واذا خرج من المجلس الأول حكم غير ملائم اوقفه المجلس الثاني، وحيث تكون

ص: 268

الرقابة بين المجلسين يكون الحكم المقنن اكثر نضجاً وصلاحاً للامة كما يقف المجلس امام طغيان المجلس الاول .

(2) شكل انتخاب المجلس الثاني (مجلس الاعيان) من قبل السلطة التنفيذية او من قبل الملك، وذلك حيث ينتخب (احدهما) جماعة من عقلاء القوم وكبار السن المجربين منهم ، ويكون هذا المجلس ، كالمجلس الاستشارى للسلطة التنفيذية أو الملك... وقد ينتخب بعض هذا المجلس الأمة، وبعض هذا المجلس السلطة التنفيذية او الملك حسب المقرر بينهما - وقد يكون بعض اعضاء هذا المجلس بالوراثة لاعتبار مالي او نحو ذلك، وقد كان مثل هذا المجلس في العراق و ایران قبل حكم الجمهورية فيهما كما في بريطانيا وغيرها .

(3) شكل انتخاب الامة او السلطة التنفيذية ، هذا المجلس الثاني ، من جماعة من المثقفين او الحرفيين او النقابات مثلافى يوغسلافيا كان المجلس مركباً من المنتجين ، وفي ايطاليا كان مركباً من الحرفيين الى غير ذلك .

(الرأى الثالث ) التفصيل فى المجلس الثاني بين الحكومات الفدرالية المتشكلة من حكومات متعددة وبين الحكومات الواحدة ، ففى الاولى يحتاج الامر الى (المجلس الثاني) فلكل حكومة مجلسه النيابي ، وللكل مجلس آخر قديكون الممثلون فيه حسب افراد الامة ، وقديكون الممثلون فيه حسب اعداد الحكومة .

مثلا اذا كانت لامريكا خمسون ولاية فلكل ولاية مجلس برلمان، ثم يكون للكل مجلس برلمان مشترك ، قديكون لكل ولاية عشرة نواب بالتساوي، وقد يكون لكل ولاية حسب افرادها ، فللولاية التى نفوسها عشرة ملايين عدد النواب ضعف الولاية التى نفوسها خمسة ملايين ، وهكذا ، وسيأتى فى مسألة ولاية الفقيه ان الاقرب جمعاً بين الادلة فى الدولة الاسلامية - وجود مجلسين(مجلس

ص: 269

الامة) و (مجلس الفقاهة) حيث تنتخب الامة كليهما باسلوب ملائم لمصالح الاسلام ولمصالح المسلمين ، اما مجلس الاعيان فلا مبررله و مجلس الحرف ونحوه فهو تابع لمجلس الامة.

التفكيك بين القوة التشريعية والقوة التنفيذية

الامر الثاني : استقلال القوة المشرعة عن القوة المنفذة ، وهذا ما تصر عليه الديمقراطية فى الحال الحاضر اشد اصرار ، بينما كان فى الزمان السابق خلط بينهما ، وذلك لانه لولا الاستقلال التام للقوة التشريعية لسيطرت عليها القوة التنفيذية، فكانت من ادوات الديكتاتورية اولا اقل لم تكن تقدر على العمل الجاد المستمر ، في جو من المنطق والعقل والمصلحة العامة ، وذلك لامور .

(1) اذالم يكن استقلال القوة المشرعة، كانت اللوائح والتنظيم والتدوين للقوانين خاضعة للمنفذة وبذلك تكون الديكتاتورية وقد قال على عليه السلام (من ملك استأثر) والديكتاتور لايكون ديكتاتوراً الالان بيده التشريع والتنفيذ، و الحكومات الانقلابية ، انما تضج بالمظالم ، لانها، أما لاتسمح بمجلس التشريع اطلاقاً ، أو تسمح لكن تحت نظرها ، مما يسقط القوة التشريعية عن الواقعية وانما تكون آلة بيد الديكتاتور .

وكذلك الحال فى الحكومات ذات الحزب الواحد ، حيث ان الحزب الواحد يسيطر على المجلس فيفعل مايشاء، ولذا فأي مبرر للانقلاب العسكرى والحزب الواحد ليس الاخداعاً يخفى ورائه الديكتاتور ، وقد كان (ماو) يقول قبل وصوله الى الحكم دعوا الف زهرة تتفتح، وألف مدرسة تفتح، لكن لما وصل الى الحكم بحزبه الواحد، أوصل الصين الى اسفل سافلين، مما اعاد الاستعمار الغربي الى بلاده فورموته ، بعد ثلاثين سنة من حكمه ، وكان (بكر العراق) ينتقد تصرف الدولة - قبله - اذا افرطت فى دينار ، أو سجنت انساناً ، ولما

ص: 270

وصل الى الحكم بحزبه الواحد ، ضجت العراق بالمظالم بمالم يشاهد مثله منذ ايام نمرود (باستثناء مثل قتل الامام الحسين عليه السلام) الى غير ذلك من الامثلة الكثيرة فى السابق ، وفى الحال الحاضر .

(2) اذا لم يكن استقلال للقوة المشرعة يكون مواعيد انفتاح المجلس وغلقه ، وما اشبه ذلك بيد القوة المنفذة ، ومن الواضح ان في مثل هذا الحال لا فعالية للقوة المشرعة، حيث انها كلما ارادت تشريعاً ليس في صالح الديكتاتور اغلق المجلس او عطله ، كما فعل ذلك (محمد على شاه) و (البهلوى الاول) بمجلس الأمة ، في ايران ، وكذلك كان يفعله(اتاتورك) بمجلس تركيا، والى غير ذلك من الامثلة القديمة والمعاصرة .

(3) اذا لم تكن مصونية للقوة المشرعة (وهي نوع من الاستقلال) تمكن القوة التنفيذية من عقوبة كل عضو ينتقد الدولة، او يصر على وضع قانون لصالح الامة ، وللحد من نشاطات الديكتاتور ، والامثلة كثيرة في معاقبة الدول الديكتاتورية للاعضاء ، بما اخفها سحب الجواز ، واشدها الاعدام ، مروراً بالسجن والتعذيب ، وهتك العرض ومصادرة الاموال .

(4)وقد كان من اسباب خوف القوة التشريعية من التنفيذية، اقالته عن وظيفته فيما كانت له وظيفة حكومية حيث كان لافراد القوة التشريعية وظائف حكومية وقد كانت التنفيذية تجعل ذلك سيفاً مسلطاً على العضو، والعضو خوفاً من قطع راتبه الذي كان يعيش به ، لم يكن يجرء على التشريع او الاقتراح الذي لاترضى به الدولة، فجاء نص القانون على حظر الجمع بين الوظيفتين لاعضاء البرلمان ، حيث يهدد ذلك استقلاله فى ابداء الرأى وتشريع القانون.

(5) وحاولت بعض السلطات التنفيذية الحيلولة دون نشر اخبار مجلس الامة حيث يكون فيه النقد للحكومة ، حيث انه يوجب توعية الناس ، والحد من ديكتاتورية التنفيذية، ولذا قرر القانون استقلال المجلس في نشر اخباره بمختلف

ص: 271

وسائل الاعلام، حيث لاحق للسلطة التنفيذية فى الوقوف دون ذلك، فاذا كانت لائحة فى صالح الامه ، يجب ان تنفذ ، واذا كان نقد المدولة ، فعلى الدوله ان تكف عن عملها ، او تجيب جوابا مقنعاً .

وعلی ای حال فاللازم تشریع ارادة الامة( على السنه نوابها : المجلس) وتنفيذ ذلك التشريع( على ايدي خدامها : الحكومة) فلماذا لاتعرف الامة مايدور فى المجلس ؟ وما المبرر في عدم معر وما المبرر في عدم معرفة الامة، ما يفعلة بانبها او خادمها؟

(6) وقد قررت بعض القوانين - لمزيد الاستقلال و الانتاج - مجانبة اعضاء البرلمان لكل نوع من انواع العمل ، لان ذلك قد يوجب نقص الاستقلال ، حيث ان طرف العمل يمكنه الضغط على العضو ، فيكون ذلك من وسائل الدولة في الضغط على العضو ، مثلا اذا كان العضو محرراً في جريدة ، امكنت الدولة الضغط على العضو ، بواسطة ادارة الجريدة وهكذا ... اما ان العمل يحد من نشاط العضو في صالح الامة فمما لاشك فيه .

(7) واخيراً لم يكن - في السابق - للنائب - راتب من بيت المال ، وكان ذلك يعنى عدم تمكن الفقير من ترشيح نفسه، حيث ان نيابته ، كانت تمنعه عن الارتزاق وكان ذلك يقف دون تمكن الأمة من تحييد المجلس -حسب ارادتها - لاضطرارها الى انتخاب غير الفقير، وفي ذلك صدمة لاستقلالية المجلس ولذا شرع قانون وجوب قانون وجوب اعطاء الراتب للعضو.

اما رأى الاسلام في هذه الامور ف_ :

(1) لابدوان تكون القوة المشرعة (أى المؤطرة والمطبقة للقوانين الاسلامية المستقاة عن الادلة الاربعة ، في اطاريلائم التطبيق في كل زمن زمن) تعمل بكامل استقلالها في التقنين ·

(2) وتعمل بكامل استقلالها في مواعيد انفتاح المجلس وانغلاقه وعطلاته

ص: 272

وما اشبه ذلك ، لانهم وكلاء الامة الجامعون للشرائط الاسلامية فلاولاية عليهم والناس مسلطون على اموالهم وانفسهم .

(3) والقوة المشرعة مصونة اذا لم تخالف الاسلام، واذا خالفت لزم اعطائها عقوبتها الشرعية ، واذا اختلفت في انها خالفت ام لا ، كان القضاء (المستقل تماماً ، والعادل كاملا) المرجع في التشخيص.

(4) ولامانع من جمع العضوبين العضوية والوظيفة ، ولاحق للدولة في اقالته الابسبب مشروع يقبله المجلس ، اما اذا كان عمله الاخرينافي نيابته عن الامة ، فاللازم ان يترك احدهما ، لانه حرفي انتخابهای العملين ، كما ان الامة حرة في ابقائه او اقالته .

(5) واخبار المجلس يجب ان تنشر حسب الموازين الشرعية .

(6) وقد عرفت حكم عمل العضو من الذي ذكرناه في البند الرابع .

(7) اما الراتب من بيت المال فيصح لانه من سبيل الله، ولماورد في ارتزاق القاضى من بيت المال ، وقد ذكر نا تفصيل ذلك في كتاب (القضاء) والله سبحانه العالم .

ضرورة وجود اللجان المختلفة في مجلس الامة

(الامر الثالث) يجب ان تكون فى داخل مجلس الامة ، تجمعات وكتل، تنقسم في اقسامها الأولية ، الى :

(1) تجمعات دائمة ، امثال الكتلة الاقتصادية، والكتلة الثقافية ،الكتلة و القضائية.

(2) تجمعات غير دائمة ، وتلك بالنسبة الى الامور التي تحدث في وقت كارثة ، او حرب، اوازمة او ما اشبه ذلك ، والواجب على المجلس ، ان يجمع

ص: 273

حول نفسه المثقفين وذوى الاختصاص ، ويجعل لكل مهمة فرعاً كفرع التجارة و فرع الزراعة ، وفرع الصناعة، وفرع السياحة وفرع الاقليات، من غير فرق بين ان تكون الأقلية قومية اودينية اولغوية او غيرها، كما لا فرق بين ان يكون للاقلية نائب فى المجلس ام ، اذالا قليات غالباً لهم مشكلات بحاجة الى الحلول .

وقد ذكرنا في كتب الجهاد والقضاء، والشهادات، والحدود والتعزيرات طرفاً من المسائل المرتبطة بالاقليات، ورجحنا هناك، ان لافرق بين اقسام الكفار فى انه يصح ان يدخلو اتحت حماية الاسلام ، اذا التزموا بالموازين للمواطنة الصالحة ، كما فعل رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم بمشر كى مكة وغيرها حيث انهم لما القوالسلاح عمل معهم احسن عمل عرفه التاريخ وبهذا تبين ان الاقلية الاصطلاحية على قسمين :

الاول : من يكون مسلماً وهذا لايسمى اقلية ، بل كل المسلمين متساوون فى الحقوق والواجبات من غير تفاوت بين الالوان واللغات والقوميات وغيرها.

الثاني : من لا يكون مسلماً وهذا القسم يسمى فى الاصطلاح الإسلام بالاقلية - او بالذمى - وهؤلاء يتركون وشأنهم اذ (لا اكراه فى الدين)(1) و(لكم دينكم ولى دين) (2)ولهم شعائر هم اذالم يظهروا بالمناكير ، ويحق لهم ان يراجعوا قضاتهم اوقضاتنا ، وأحوالهم الشخصية تجرى حسب ما عند هم ، فلا يجبرون على اتباع فقهنا ، ويجرى فى حقهم قانون (الزموهم بما التزموا به).

لكن اذا رأى المسلمون الصلاح ، في دخولهم في مجلس الامة، لا يكون لهم الاحق التصرف فى شئون موكليهم من غير المسلمين، كما لهم المطالبة بما هو حقهم فى الدولة الاسلامية ، من حفظ النفس والمال والعرض ، وما جعل الاسلام لهم من حق، في قبال ما يؤخذ منهم من المال .

اما الاقلية السياسية ، وهي عبارة عن تجمع الاقلية (والتي يجب ان تكون

ص: 274


1- سورة البقرة / 257 .
2- سورة الكافرون / 6

في الاطار الاسلامي ، لأن المفروض ان الدولة للاسلام ) فلهم حق نقدهم و اجتهادهم، ومعارضتهم فى اطار النصيحة كماقال( عليه السلام)( الدين النصيحة) والامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والمعاونة على البر ، والمشورة.

وفي الحديث عنه (صلى الله عليه و آله وسلم) (ايها الناس اشيروا علي) و تقدم قول على عليه السلام في المشورة كما ورد في حديث عنهم (عليهم السلام) (خير الاخوان من اهدى الي عيوبى) الى غير ذلك مما سنذكره انشاء الله تعالى .

ولا يخفى ان الحقوق المذكورة ثابته حتى للافراد ولا تختص بالاقليات السياسية ، لاطلاق أدلتها .

ص: 275

مسألة : 29 القوة التنفيذية : انواع الحكومات

اشارة

ذکر نافى المسألة السابقة، القوة التشريعية من القوى الثلاث السياسية في الدولة والان نذكر شيئاً من شئون القوة التنفيذية، وهى القوة التي تتكفل الاجراء ، ولا ترتبط بالتشريع الانادراً كما يأتي بيان النادر في مسألة تفكيك القوى (الثلاث والصور التي تتصور في القوة الاجرائية اثنتى عشرة صورة، هى ان يكون الحكم بيد واحد أو اثنين أو اكثر وكل من الاقسام الثلاثة اما بالوراثة او بالانقلاب او بالانتخاب والانتخاب اما من قبل الامة او من قبل المجلس) ونحن نذكر من هذه الصور ، ما هي الان واقعة في الخارج .

(1) ان تكون القوة الاجرائية بالملوكية الوارثية، وليس المهم اسم الملك وانما المهم هذه الصيغة اذ قد يكون باسم (السلطان) أو (الامير) أو (الخليفة) أو (الشيخ) او ما اشبه ذلك ، كما في الخلفاء في الامارات المطلة على الخليج كما ان الارث قد يكون فى الاولاد، وقديكون في القبيلة، كما اذا مات احدهم ورثه ابن عمه او ما اشبه ذلك ، والغالب ان ترافق هذه الصورة حالة الاستبداد فان من ملك استأثر كما قاله امير المؤمنين عليه السلام - لكن لاملازمة ، اذ

ص: 276

من الممكن ان يكون الملك عادلا ، ويكون حسب رضى الامة .

ولذا ورد في القرآن الحكيم( ان الله قد بعث لكم طالوت ملكا)(1) ومن الواضح انه اذا كان بامر الله سبحانه ، لايكون للامة الاختيار ، قال تعالى : «فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في انفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما» (2).

نعم لاشك ان الذى ينتخبه الله لادارة الامة يكون في قمة العدالة، وانما قولنا( لادارة الامة) فهو لاخراج المنتخب للانتقام كما هو قول بعض المفسرين فى قوله سبحانه :« بعثنا عليكم عباداً لنا أولى بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولا »(3)كما ورد ذكر الملك في آية اخرى قال سبحانه : «واذ قال موسى لقومه ياقوم اذكروا نعمة الله عليكم اذ جعل فيكم انبياء وجعلكم ملوكا واتاكم مالم يأت احداً من العالمين»(4) ، أما ما ورد في القرآن «ان الملوك اذا دخلوا قرية افسدوها وجعلوا اعزة اهلها اذلة» (5)فهو عام مخصص ، كسائر العمومات.

وربما كانت القوة التنفيذية فى بعض الازمان ملوكية غير وراثية ، فكان اذا مات الملك انتخبوا ملكا آخر مكانه وكان ملكاً الى آخر العمر .. وقد ظهر مما تقدم ان الخلافة الأموية والعباسية والعثمانية وما اشبه لم تكن الا ملوكية وراثية ، وتسميتها باسم الخلافة لم تكن على واقعها، ولذا سميت في الاحاديث (بالملك العضوض).

(2) ان تكون القوة الاجرائية بالسلطنة المشروطة ، فيكون الملك السيد المطلق، ولكن لاتنفذ الاحكام التي يريد تنفيذها الا بمو افقة المجلس من قبل الامة ، وفي هذه الصورة ( اذا كانت واقعية ( لايكون الملك الارمزاً وأنما تكون القدرة التشريعية هي السيدة في البلاد، وبريطانيا الحاضرة حالها هكذا حيث

ص: 277


1- سورة البقرة / 248
2- سورة النساء /68
3- سورة الاسراء /5
4- سورة المائدة /23 .
5- سورة النحل / 34 .

نجد الملك وهو رمز ، والى جانبه القوة التشريعية في البلاد والقوة التنفيذية لكن لاوجه في الحقيقة لهذه الملوكية، بل اللازم ان تنسحب من الميدان بعد ان لم يكن مبرر لبقاء الملك ، بل هو ارهاق لخزانة الامة ..

وأما ان لم تكن واقعية ، كما في ايام البهلويين في ايران حيث ان الملك كان ديكتاتوراً ، والمجلس لم يكن الاصورة ديكورية ، فالمجلس ليس له امر و سلطة وعلى هذا فصورة الجمع بين الملك والمجلس، ليست الا كالجمع بين الحجر والانسان ، احدهما زائد لا فائدة فيه ، وقد استدل بعضهم الجمع بين الامرين بقوله تعالى حكاية عن بلقيس « قالت يا ايها الملاء افتوني في امري ما كنت قاطعة امراً حتى تشهدون ، قالوا نحن أولوا قوة واولوا بأس شديد والامر اليك فانظرى ماذا تأمرين»(1) حيث استشارتهم الملكة، وأرجعوا هم الامر اليها ، بعد اعطائهم لها وجه الرأى، لكن فيه ان قولهم ليس حجة، ولم تكن القوة ملكية استشارية ، هل استشارت الملكة ،وزرائها، فلم يكن الامر مشروطة.

(3) ان يكون رئيس القوة التنفيذية بالانتخاب ، فقد يكون انتخابه من قبل الامة مباشرة ، كما في رئيس امريكا ، ورئيس فرنسا ، حيث ان الشعب مباشرة ينتخبونه ، لكن لا يحق للرئيس اتخاذ القرار بدون مشاركة المجلس التقنيني، بل الكونجرس وغيره دخيل في قرراات الرئيس و ناظر علی اعماله و حاصل ذلك ان الامة تتصرف فى شئون نفسها باشرافين ، اشراف الرئيس المنتخب و اشراف المجلس المنتخب ... وقد يكون انتخابه بواسطة جماعة خاصة، مثل مجلس الشورى ، او مجلس الاعيان ، اوما أشبه ، اوكلا المجلسين، وحينئذ فالامة انتخبت نوابها ، ونوابها انتخبوا خادم الامة ( رئيس التنفيذ : كرئيس الجمهورية ) ، ولا شك ان الامة ان تختار احدى الكيفيتين ، الا ان الكيفية الاولى اقرب الى اشراف الامة على مقدرات نفسها .

ص: 278


1- سورة النحل 32 و 33

( 4 ) ان يكون الرئيس التنفيذي اثنين أو اكثر ، والغالب في هذا النحو من الحكم ان يكون احد الرئيسين بيده التنفيذ، وليست له مسئولية والرئيس الثاني يشارك الأول فى التنفيذ ، الا انه مسئول ايضا ، ويكون احدهما رئيس الجمهورية ، والاخر رئيس الوزراء ، أو يكون أحدهما رئيس مجلس السيادة ، والاخر رئيس الوزراء - كما كان في العراق ، في ايام قاسم : وان كان الامر صورياً وفي هذا الحال يكون المسؤل عن التنفيذ ، وعن ادارة البلاد ودوائرها احدهما ، كرئيس الوزراء مثلا : وحينئذ قد يكون مجلس السيادة ذا فرد واحد، وقد يكون ذا افراد.

اما اذا كان الرئيس التنفيذى اكثر من اثنين ، فيكون المقوة التنفيذية افراد في مجلس اعلی ، مثل مجلس السوفيت الأعلى ، في روسيا ، وكذلك السويسرا ، وان كان اولهما اقرب الى الديكتاتورية حتى في مجلس السوفيت وذلك لان الديكتاتورية عجلة اذا تحركت لاتعرف نظاماً ولا قانوناً وانما يسود فيهم شريعة الغاب ، ولذا تمكن ستالين من قتل اصدقائه ، وبرجنيف من اقالة خرشوف، ففى سويسرا يكون المجلس الاعلى للقوة التنفيذية مركباً من سبعة اشخاص ينتخبون لمدة اربع سنوات... ويجب ان يعرف انه اذا اريد معرفة ان الحكم ديكتاتوري، او استشاري ، يجب ان يلاحظ امران :

( الأول) هل في البلد حزب واحد او أكثر ؟.

(الثاني) هل ان الرئيس الذي بيده التنفيذ حقيقة - لا الرئيس الصوري كملكة بريطانيا هل يبدل كل اربع سنوات ، او اقل او أكثر أم لا ؟ فان كان البلد ذا حزب واحد ، او أن الرئيس لايبدل، فالحكم ديكتاتوري ، والناس لا قيمة لهم، وان كان في البلد حزبان او أكثر ، والرئيس يبدل فالحكم استشاري وسيأتي الكلام في مسألة تعدد الاحزاب وعدمه في بعض المسائل الاتية انشاء

ص: 279

الله تعالى .

(5) ان تكون القوة التنفيذية بيد الرئيس الذى جاء الى الحكم بالانقلاب العسكري ، ومثل هذا الحكم لايكون الاديكتاتوراً ، والناس تحت مثل هذا الحكم، لا يكونون الا اسوء من العبيد ، ومهما قيل في شأن الانقلاب العسكري ، فليس الا استئثاراً بالسلطة بالقوة والسلطة المتكية على القوة دون الاراء الحرة - لا شرعية لها لا في ميزان العقل ولافي ميزان الدين ...

هذا مع الغض عن انالم نر - منذ الحرب العالمية الثانية - انقلاباً عسكرياً في آسيا وافريقيا ، الا كان انقلاب استعمارياً .

بقي الكلام في امرين :

(الاول) ان الاقرب الى الاستشارة والنيابة عن الامام - في الاسلام - ان يكون الحكم ذا رتبتين - طولا - فتنتخب الامة نوابها لمجلس الامة، وتنتخب (الفقيه الجامع للشرائط) لان يكون سلطة اعلى في الدولة، وهذان المنتخبان يتعاونان في انتخاب السلطة التنفيذية ، كرئيس الجمهورية ، اما مباشرة ،واما ترشيحاً في عدد ينتخب الجمهور احدهم ، فيكون الفقيه المشرف الاستشارى الاعلى والمجلس يقنن (اى يؤطر القوانين الاسلامية، ويرى التطبيق الاليقل ها) ورئيس الدولة ينفذ ، مع ان يكون فى الدولة احزاب متعددة، ولافرق بعد ذلك ان تكون (قيادة الفقيه) على نحو الجماعية والتعدد والشورى ، او تكون على نحو الوحدة .

وسيأتي تفصيل الكلام فى ذلك في مسألة ولاية الفقيه .

كيف تتوفر الحرية الحقيقية ؟

(الثاني) ان الحرية الحقيقية لاتكون للامة ، اذا لم يتوفر هناك امران :

ص: 280

(1) الوعى الكافي للامة .

(2) عدم وجود جهة مزيفة لادارة الامة كالاقتصاد المنحرف بسبب رأس المال، وذلك لوضوح ان عدم الوعى الكافي يوجب سيطرة اهل المكائد والحيل على الامة (ولو كان النظام ذا احزاب وانتخابات حرة فيتبدل الرئيس الاعلى کل اربع سنوات مرة...) كما ان منهاج المال لو كان منحرفاً الى الرأسمالية حيث يستغل الاثرياء العمال والفلاحين والمعلمين ومن اليهم (وذلك بان لايكون المال ازاء الأمور الخمسة : العمل الفكري، والجسدي، والمواد ، والعلاقات والشروط ، كما فصلناه في كتاب : (الفقه - الاقتصاد) وبذلك يتجمع لدى الرأسماليين المال الزائد عن حقهم، ولايكون التوزيع على الامة توزيعاً عادلا فيستعمل فائض هذا المال( الذى جمع بغير حق) في تحوير الانتخابات حسب صالح الرأسمالي ، ولا يكون حينئذ حسب صالح الامة ، (والحاصل يكون المحور المال) وعلى قمته بضعة من الرأسماليين ، ولا يكون المحور الامة (على قمته ارادة الامة وصالحها) .

وهذا هو الذى يشاهد في بلاد الرأسمالية ، وعلى رأسها امريكا ، حيث ان الحرية الموجودة فيها ، بانتخابات وتبدل الرئيس كل اربع سنوات، لیست الاشكلية، حيث ان الكلمة الحقيقية ، لجماعة من الرأسماليين ، لا للشعب ، وقد ذكرنا بعض تفصيل ذلك في( الفقه : الاقتصاد) .

ص: 281

مسألة : 30 القوة القضائية

اشارة

تقدم الكلام حول القوة التشريعية والقوة التنفيذية ، والكلام الان حول القوة القضائية وهذه القوة تعد من القوى السياسية الثلاث، بينما اطلاق السياسة على هذه القوة انما هو بنوع من التوسع اذ السياسة معناها الادارة ، والقضاء لا يدير ، بل المدير حقيقة للبلاد ، القوة التنفيذية ، واذا اريد ملاحظة القوى الثلاث، فالتشريعية شأنها قبل التنفيذية، لان التشريعية هي التي تقنن او (تؤطر) وبعد ذلك يأتى دور التنفيذية لتدير البلاد حسب تلك التشريعات.

واما القضائية فهى تتدخل في موارد النزاع، سواء بين الأفراد أو المنظمات في دولة ، اوبينهما وبين الدولة ، اوبين الدول ، لاجل ان تقول كلمتها في ان القانون الذى صدق عليه التشريع ماذا يقتضى ؟ وبذلك يفصل بين الدعاوي .

القوة القضائية في الاسلام

وقد كانت القوة التشريعية في الاسلام متمثلة في الفقهاء، الذين يستنبطون الاحكام من الادلة الاربعة، و القوة التنفيذية متمثلة في الدولة ممن يسمى بالخليفة

ص: 282

اوغيره، و (القوة القضائية )متمثلة فى القضاة الذين تخرجوا على ايدى الفقهاء.

وقد تقدم سابقاً ان في الاسلام لا يلزم هذا القسم من الانفكاك، الذي يشاهد الان بين القوى الثلاث ، كما ان القوة القضائية ، في الاسلام كانت لها صلاحيات واسعة ، فالذي جعل - في القانون الحديث - دوائر، كانت في الاسلام ضمن دائرة القضاء ، من الأوقاف ، واموال الايتام وسائر القاصرين ،والحدود والديات والقصاص، والأحوال الشخصية وما اشبه ذلك ، والسبب في ذلك بساطة الدوائر الاسلامية ، حيث تعددت في الدول الحديثة ، وقد كان وجه تلك البساطة امران :

الأول : ان الاسلام يربى الامة على خوف الله والفضيلة ، مما يقلل الاحتياج الى القضاء ، اذ الأيمان والتزام الفضيلة يقللان الجرائم والمنازعات وما الى ذلك ، ولذا نرى مدينة ذات اربعة ملايين (كما يقول بعض المؤرخين)مثل الكوفة يدير شئونها القضائية رجل واحد فقط.

الثانى : ان الاسلام لا يعرف الالتواء في قوانينه، اذ قوانين الاسلام وضعت لاجل الانسان لا لاجل المادة - كما المعنا الى ذلك في مسألة سابقة - وبذلك تكون القوانين الاسلامية انسانية ، والقانون الانسانى المتحرى للحقيقة لا يكون فيه التواء، واذا لم يكن التواء لم يحتج الامور الى كثرة الموظفين - كما فصلنا الكلام حول ذلك في جملة من كتبنا الاسلامية - .

وكيف كان فالقوة التشريعية تلاحظ المجتمع ، من ناحية ، و المنظمات والاحزاب ، والدوائر من ناحية ثانية ، فتضع لها القوانين الملائمة ، الكفيلة بسلامتها وتقدمها ، « وفي الاسلام حيث القوانين موضوعة من قبل الله سبحانه» فالقوة التشريعية تعمل أمرين :

(1) استنباط القوانين الملائمة من الادلة الاربعة .

ص: 283

(2) تفهم كيفية تطبيق القوانين المستنبطة على الخارج، مثلافي باب الاقتصاد يستنبط المجلس كيفية الاقتصاد في الاسلام، وهل انه رأسمالي او شيوعي او اشتراكي او توزيعي ، او قسم خامس ؟ وهو ما ذكرناه في كتاب ( الفقه : الاقتصاد) وبعد هذا الاستنباط يأتي دور التطبيق، وان هذا الميزان كيف يمكن تطبيقه في (المعمل: فای قدر من النتائج ، للمعمل ، ولرأس المال، وللعامل ، وللمدير ؟ ) وهكذا . والقوة التنفيذية توفر الاجواء الملائمة لتنفيذ تلك القوانين ، او تجعل الموظفين ، والادارات ، وتشرع القوانين التنفيذية وتطبق القوانين التشريعية على الخارج، مثلا وزارة المواصلات ، تجعل الموظفين المراقبين للطرق ،و تجعل قوانين للمرور، وتشرع عقوبات للمخالف كل ذلك مستقى من قوانين مجلس الامة ، فقوانين المواصلات في الدرجة الثانية من القوانين بينما قوانين مجلس الامة في الدرجة الأولى .

اما القوة القضائية ، فهى تنفذ قوانين مجلس الامة ، في حقل خاص ، هو حقل (المنازعات) فيما اذا راجعها المتنازعون او كان الأمر يتطلب تدخل القضاء لانه من صلاحية الادعاء العام ... ولذا كانت القوة القضائية ، كالقوة التنفيذية، في جعل الموظفين ، والادارات الخاصة بالقضاء، وتشريع القوانين المرتبطة بهذا الشأن ، بشرط ان تكون تلك القوانين مستقاة من قوانين مجلس الامة .

و قد سبق الفرق بين سعة دائرة القضاء الاسلامي، وضيق دائرة القضاء على الاسلوب الغربي، وبهذا تبين ان القوة القضائية في الاسلام تشمل امثال الاحوال الشخصية والحدود والاوقاف وما الى ذلك .

ثم ان القوة القضائية في بعض البلاد الغربية تهتم بموضوع آخر (بالاضافة الى المنازعات) وهو التوفيق بين (دستور البلاد) وبين (القوانين التي يريد المجلس وضعها) وكذلك بين الدستور، وبين (اجراءات القوة التنفيذية) مثلا

ص: 284

الدستور يقول : (كل انسان حر في أن يتصرف في ماله وفي نفسه بمالا يضره ولا يضر الآخرين) والقوة التنفيذية تريد الاستفادة من هذه الحرية ، باجازة (مصارعة الثيران) فالقوة القضائية تأتي لتنظر هل ان هذا الاجراء يلائم المستثنى او المستثنى منه ، فان كان داخلا في الاول منعه وان كان داخلا في الثاني اجازه الى غير ذلك من الامثلة ...

وفي الحقيقة ان هذا العمل من القوة القضائية عبارة عن حل النزاع بين( القوة التشريعية ) و (القوة التنفيذية )لانه ملاحظة ان لاتخالف القوة التنفيذية القوة التشريعية ، وعليه يشكل القضاء (شعبه) خاصة ، لتكون المرجع الاخير في هذه المنازعة بين القوتين المذكورتين ، ويعين لهذه الشعبة اقدر الخبراء المحنكين في القوانين وفصل المنازعات .

كيفية نصب القضاة

وحيث قد عرفت ان اعلى سلطة في الدولة الاسلامية هي سلطة الفقيه الجامع للشرائط المنتخب من قبل اكثرية الأمة ، فاللازم ان يكون نصب قضاة ( هذه الشعبة القضائية) بيد الفقيه، لكن الافضل ان يكون مع استشارة المجلس اويعين بعضهم الفقيه وبعضهم المجلس ، ويكون النظر لاكثرية الاراء (كما اذا كانوا خمسة أو سبعة مثلا).

وقد تعرضنا في كتاب القضاء انه لامانع من تعدد القضاة وحكمهم باكثرية الاراء ، بل هذا هو الاقرب في القضايا المهمة امثال عمل( هذه الشعبة) حيث ان الشورى قاعدة عقلية ، قررها الاسلام كتاباً وسنة واجماعاً ، واطلاق ادلة الشورى يشمل المقام ، بل يشمله المناط في قوله عليه السلام (خذبما اشتهر بين اصحابك) بل والمناط والاطلاق في استشارات الرسول (صلى الله علیه و آله وسلم )

ص: 285

و أقوال على عليه الصلاة والسلام - كما تقدم - .

وبعد ذلك يسهل الامر فى ان القضاة الذين يعينون لهذه الشعبة ، يكونون دائمين او موقتين؟ فان الخصوصيات يعين حسب رأى الفقيه القائد والمجلس.

نعم ، لا اشكال في لزوم ان يتوفر فيهم العلم والعدالة والخبرة وغير ذلك من الشروط الاسلامية ، والظاهر ان هذا النوع من القضاء، داخل في اطلاقات ادلة القضاء (فلاحاجة الى القول بأن هذا النوع يفهم من مناط أدلة القضاء ) وجه ما ذكرناه ان التعارض بين الدستور والقوانين الثانوية ، يرجع في حقيقته، الى التعارض بين حقين ، لانسانين ، أو لجماعتين ، واعطاء الحق الى مستحقه بالقضاء ، مشمولا لادلة القضاء، واى فرق بين الفصل عند منازعة حقين شخصيين وبين الفصل عند منازعة حقين تقمصتهما شخصيتان حقوقيتان .

ومثل ذلك المنازعة بين مختلف اجهزة الدولة، مثلا طلبت جماعة فتح نادى المحل الفلاني واراد وزير الشئون اعطاء الاجازة استناداً الى قانون الحريات الاسلامية ، واراد وزير البلديات المنع ، استناداً الى قانون لاضرر حيث ان ضوضاء النادى يسلب راحة المارة او الجيران، فمنع هيئة القضاة لهذا الوزير اوذاك ، يرجع بالاخرة الى ترجيح حق المارة ، أوحق الطالبين لفتح النادى صحيح ان الوزيرين يتنازعان في شخصيتهما الحقوقية، الا ان الشخصية الحقوقية راجعة بالاخرة الى الحق الفردى - كما تقدم الكلام في ذلك-.

بين القوة القضائية والقوة التنفيذية

ثم ان القوة لها حقوق بالنسبة الى القوة التنفيدية ،هي لاجل استقلال القضاء وتوفر الامكانات لها لتعمل حسب العدالة التامة ، وهى :

(1) لا يحق للقوة التنفيذية نقل القضاة من مكان الى مكان الاحسب القوانين

ص: 286

الدقيقة جداً ، والالتعرض كل قاض لا يطيع القوة التنفيذية في اوامرها ، الى النقل، لتأتي التنفيذية مكانه بمن يطيع أوامرها، ويكون حق النقل للتنفيذية سيفاً مصلتاً على رأس القاضي ، وبذلك لا يتمكن من اجراء العدالة في القضايا التي تدير التنفيذية طرفاً من اطراف القضية المتنازع فيها.

(2) يجب على التنفيذية توفير المال والمكان والشرائط الملائمة للقاضي ومن اليه ، ليتمكن القاضى من استفراغ الوسع في تحرى الحق ، فى كافة القضايا، سواء كانت بين الناس أو بين الناس والدولة، أو بين المنظمات والاحزاب أو بين الدولة وبين الاحزاب والمنظمات، أو بين الناس والاحزاب والمنظمات .

(3) يجب على التنفيذية تنفيذ آراء القضاة المتعلقة بفصل المنازعات، واذا تكاسل بعض موظفى التنفيذية من التنفيذ تجب عقوبته بما قرره الاسلام (او القانون في الدولة غير الاسلامية )والالم يكن ضمان لاجراء العدالة .

(4) لا يحق للتنفيذية ان تتدخل في شئون القضاة بان تصدر اليهم الامر والنهي والاكان ذلك نقضاً للعدالة ، وتجميداً لفعالية القضاء.

(5) يجب ان يكون كل افراد الامة، بما فيهم الرئيس الاعلى للدولة ، خاضعاً للقضاء ، فالكل امام القانون سواء ، والقوة التنفيذية يجب عليها اطاعة القضاء فيما يأمر بالنسبة الى اى فرد أو جماعة ، وفي قضايا الرسول صلى الله عليه و آله وسلم وعلى عليه السلام وكل منهما كان الرئيس الاعلى للدولة في زمانه، ما يدل على احترام الاسلام للقضاء وخضوع كل الافرادله، بما يجب ان يكون درساً وعبرة.

(6) لاحق للتنفيذية فى التعرض لاى شأن الابموافقة القضاء ، اذ التنفيذ بدون القضاء معناه الحكم على احد المتنازعين بدون الرجوع الى القضاء مثلا اذا اراد الشرطي القاء القبض على انسان ، لا يحق له ذلك الابعد جلب موافقة القضاء، حيث ان جوهر القضية نزاع بين حق الشرطة، وحق ذلك الانسان و تقديم احد الحقين على الاخر بدون الرجوع الى القضاء خرق لقانون العدالة...

ص: 287

الى غير ذلك من الأمور التي لسنا نحن بصددها الان .

وقد قرر بعض القوانين ، عدم الحق للقاضي في الانتماء الى الاحزاب و المنظمات السياسية ، او ما اشبه السياسية ، مما يجعل القاضي مظنة للتحيز وذلك نقض لحياد القضاء ... وهذا الشرط في الشريعة الاسلامية ، قديمكن ان يستند الى بعض الادلة في بعض الحالات مثل اشتراط ان لايكون الشاهد متهماً كما دل عليه النص والاجماع ، فاذا كان محظوراً في الشاهد كان اولى ان يكون محظوراً في القاضي .

وعلى هذا فلمجلس الشورى ان يقرر هذا الشيء ، او لقاضي القضاة (او لوزير العدل) ان يراعي هذا الأمر في القضاة الذين يريد استخدامهم .

ص: 288

مسألة :31 مهمات الدولة

اشارة

الدولة بقواها الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، تراعى(القانون)و(حقوق الانسان) و(العدالة) و (الرفاهية) و (حسن التدبير) و (رعاية النظام) و (تقديم الامة) و من هذه المجموعة تتكون الدولة الصالحة وبسببها تكون الأمة الرشيدة.

(1) (القانون) فعلى الدولة ان تطبق نصوص القانون على الامة ، ولا تحيد عنها ارضاءاً لفئة او للحاكم ، ولا فرق في ذلك بين ( الدولة الاسلامية ) وبين غيرها ، ففى الاسلام يجب على الدولة تطبيق القوانين الاسلامية على الجميع وان لم يفهم الحاكم وجه القانون ، بل وان زعم انه غير كامل ، واللازم أن لا يحيد الحاكم عن ذلك الا الى القانون الثانوى (الاسلامي ايضاً) فقد يكون ذلك القانون الثانوي بسبب (قاعدة لاضرر ) أو (قاعدة لاحرج) أو (قاعدة الاهم والمهم )أو غير ذلك من القواعد الثانوية .

ومنها ما اذارأى الحاكم الاسلامي - الذي بيده الامر - الصلاح في العفو أو ما اشبه ذلك، كما على رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم عن اهل مكة وعفى على عليه السلام عن اهل البصرة وعفى عن سارق ، فقال له عليه السلام (وهبتك

ص: 289

لسورة البقرة) الى غير ذلك مما المعنا اليه في كتب (الحكم في الاسلام والقضاء والحدود وغيرها ).

و في الدولة غير الاسلامية واجب الدولة تنفيذ القانون، حتى اذا كان لا ينصف المواطن ولا يقوم على اساس من العدالة ، ولايرد الحقوق الى أربابها ، بل اللازم السعى لاسقاط القانون باستفتاء الشعب في تبديله الى القانون الصالح . وباثارة الشعب الى حد الهياج ليعدل المشرعون القانون ، وباصدار الهيئة التشريعية قوانين جديدة .. وذلك لان مراعاة القانون ، أهم من مراعات الافراد الذين يطبق عليهم قانون غير عادل ، حيث ان الفوضى التي تترتب على عدم مراعات القانون اضر من ذهاب حق بعض المواطنين .. بل قد نجد في الاسلام مثل ذلك تقنيناً وتطبيقاً ، فيقال ان (العدة) لاجل عدم اختلاط المياه لكن العدة تجرى بالنسبة الى العقيم ، ضرباً للقاعدة وتوحيداً للقانون ، مع ان في عدتها ذهاباً لحقها ان لم نقل بان العدة لمصلحة احترام الزوج ايضاً، وهى موجودة في العقيم) .

وفي التطبيق نرى انه اذا كان خوف سراية الوباء جاز منع استعمال انواع اللبن ومشتقاته ،مع انه ليس كل لبن فيه جراثيم الوباء وذلك لتقديم مصلحة حفظ الصحة العامة ، على مصلحة حق صاحب اللبن فى ماله .

اما هل للدولة مراعاة (روح القانون) أو مراعاة (صورة القانون) في صورة التعارض بينهما ؟ قولان :

(الاول) لزوم مراعاة روح القانون، لان القانون وضع لروحه لا لصورته (كما قال الفقهاء في العمل بالمركوز في ذهن الواقف ، اذا لم يمكن العمل بالوقف مصدراً او مصرفاً) .

(الثاني) مراعات صورة القانون ، بحجة انه لو ترك الامر الى (الروح) لاتسع المجال لكل مخالف للقانون ، ان يخالف القانون بأنه رجح روح

ص: 290

القانون على صورة القانون ، وفساد ذلك اكثر من صلاح روح القانون .

وكيف كان فاذا لم تعمل جهة من جهات الدولة بالقانون، عوقبت على ذلك العقوبة القانونية - في دول القانون - والعقوبة الشرعية ، في الحكم الاسلامي والعقوبة قد تكون بدنية كالسجن والتعزير، وقد تكون مالية كالتغريم، وقد يجمع بينهما ، الا ان من مختصات الشريعة الاسلامية عدم العقوبة الجسدية لغير المقصر فبينما ترتب العقوبة المالية حتى للجاهل القاصر (كما في الاتلافات) لاترتب العقوبة الجسدية ، الا للعامد و الجاهل المقصر - على مافصل في كتب الحدود والديات والقصاص وغيرها .

نعم ، قدترتب العقوبة الجسدية في موارد نادرة ، كسجن المتهم بالقتل ستة ايام كما في حديث عن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم ، وذلك لقاعدة الاهم والمهم ، و اذا كانت هناك ابدال رجح البدل الانسب بالحرية و بحقوق الانسان ، مثل اخذ الكفيل الذى هو مقدم على السجن على ماذكرناه في كتاب القضاء .

الدولة وحقوق الانسان

(2) وحقوق الانسان هي مستقى القانون ، سواء في الاسلام (حقيقة) أوفي الدول الديمقراطية (صورة) أما الدول الديكتاتورية فمستقى القانون فيها، رأى الديكتاتور - ولا يهمنا الكلام حولها - وانما نذكر الاولين فقط ، فالاسلام جعل الانسان محور العالم، كما ذكر في آيات مكررة ، قال سبحانه : «الله الذي خلق السماوات والارض وأنزل من السماء ماءاً فاخرج به من الثمرات رزقاً لكم وسخر لكم الفلك لتجرى في البحر بامره ، وسخر لكم الانهار ، وسخر لكم الشمس والقمر دائبين، وسخر لكم الليل والنهار وأتاكم من كل ما سألتموه

ص: 291

وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها ان الانسان لظلوم كفار » .

وفي الحديث القدسي( لاشياء لاجلك ون اخلقت خلقتك لاجلى)ومعنى الجملة الثانية تفسير لقوله سبحانه :«وان الى ربك المنتهى»

(1) حيث ان (كل ما بالغير لا بدوان ينتهى الى ما بالذات) كما تقول بذلك (القاعدة الفلسفية) .

وحيث ان القانون الاسلامي وضع لاجل الانسان ، فالقاسم المشترك في كل قوانين الاسلام السياسية والاقتصادية ، والعبادية، والجزائية، والشخصية هو فائدة الانسان ، ابقاءاً وانماءاً ، ولذا كان الناس في نظر الاسلام، سواسية كاسنان المشط، وكان اكرمكم عند الله اتقاكم وكان كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ، وكان الناس مسلطون على اموالهم وانفسهم ، ولذا كان الاسلام دين الحرية والكفائة والتقدم، ومن ساوى يوماه فهو مغبون، الى غير ذلك .

الانظمة الغربية تسحق حقوق الانسان

اما الدولة الديمقراطية، فلم تصل الى الديمقراطية، الابعدقرنين من الكفاح والحروب والثورات اى عبر القرنين :( السابع عشر والثامن عشر المسيحى) ثم بعد ذلك الكفاح الطويل ، لم يحصل الانسان الغربي على حقوق الانسان الامزيجاً باخطاء كبار نلخصها في خمسة :

(الاول) تقييد الحريات ، فترى الشعوب الغربية مقيدة في اغلب شئونها ، فالسفر والاقامة والبناء والزراعة والصناعة والتجمع وغيرها كلها مقيدة بالاذن والرخصة من الدولة ولماذا الاذن؟ اليس ذلك تقييداً للحرية .

وقد ذكر نافي كتاب ( الى حكم الاسلام) ، و ( نريدها حكومة اسلامية) وغيرهما سعة الحرية الممنوحة للانسان في ظل النظام الاسلامي ، بما لا يوجد مثلها في أي قانون أو دستور حتى في (الدستور الامريكي) و(القانون الفرنسي) وان تبجح

ص: 292


1- سورة النجم /43

بهما اصحابهما ، وغالوا في اطرائها .

(الثاني) السماح لرأس المال بالتراكم الجائر حتى أوجب ذلك سيطرته على مختلف الشئون السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها ، فحرية الرجل الغربي، و حقوق الانسان بالنسبة اليه مثلهما مثل حرية الطائر وحقه، وهو في القفص، انه حرهناك ، وله حق في داخله الحركة وهل مثل هذا يسمى حرية وحقاً؟

وقد ذكر نافى بعض الكتب الاقتصادية ومنها( الفقه : الاقتصاد) كيف ان رأس المال سلب الانسان الغربي لاسيادته وحريته وحقوقه بل وحتى صحته وراحته فاورثه المرض الجسدي، والقلق النفسي وكتاب (دع القلق) يكشف الستار عن بعض جوانب هذا المرض والقلق، ولذا ندد بالحقوق القانونية والحقوق السياسية أمثال (راسل) و (هاکسلی) وقد ذكر غير واحد من علماء الغرب و فلاسفته ان (ثورة (فرنسا) والتي اسموها (كبرى) اسماً بدون مسمى ، ان الثورة وقفت في منتصف الطريق .

أقول : بل اللازم ان يقال : انتكصت على عقبيها ، بينما الاسلام قيدرأس المال بما لا يتمكن من الطغيان، وطبقاً لذلك لا يقدر رأس المال على تقييد الحريات وتضييع الحقوق .

(الثالث) الاستعمار للخارج ، فحقوق الانسان في الغرب تنظر بعين واحدة حالها حال القومية و ما اشبه ، فليست للانسان وانما للسادة فقط ، ولافرق بينها وبين (قانون سيادة السادة على استعباد العبيد) ولذائری ابشع استعمار عرفه العالم في تاريخه، مارسته فرنسا وبريطانيا وامريكا وسائر دول اروبا ، بالنسبة الى آسيا وافريقيا وغيرهما ، بينما يرى الاسلام( ان الناس اما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق) - كما في نهج البلاغة-...

ولا يخفى ان الاستعمار للخارج ، لم ينحصر في ممارسة الظلم للخارج ،

ص: 293

اذ عادت هذه الحالة الى الانسان الغربي نفسه ، اذ الملكة اذا حصلت في الانسان لم يميز في موضوع ممارستها بين الغريب والقريب ، حاله حال سائر الملكات ، وهذه الملكة السيئة ، وان لم تقدر أن تتنفس في داخل الغرب ، بمثل ما تنفست فى خارج الغرب ، الا انها اظهرت نفسها بشكل او بآخر بما اضرت أهل البلاد ايضاً و هذا ما سبب انزعاج جملة من فلاسفة الغرب وحكمائها فنددوا بالممارسات الاستعمارية لافي المستعمرات ، بل في بلادهم انفسهم.

(الرابع) رد الفعل للقوانين الموضوعة في الغريب وللممارسات والتطبيقات لتلك القوانين حيث ان ذلك خلق الشيوعية ، مما اتت بابشع الثمار ، ومن يعرف داخل روسيا والصين واروبا الشرقية وكوبا وأمثالها، يعرف كيف يهان الانسان في هذه البلاد ، بما لايجد مثيلا له ، على طول التاريخ المحفوظ والشيوعية وان اخذت منذ عشرين سنة فى النقص ووصلت الان الى الاشراف على الزوال، حتى ان جملة من الخبراء ، لا يقدرون باقي عمرها بأكثر من عشر سنوات أو ما أشبه الا ان اهانة زهاء ربع البشرية في مدة طويلة ( اكثر من ربع قرن) هي من سيئات الممارسات الغربية (وقد كان شأن الغرب التذرع بحقوق الانسان لاقامة الحروب والثورات ونصب الديكتاتوريين وصنع الانقلابات، امثال اغتصاب فلسطين ولبنان واقامة البهلوى واتاتورك وانقلابات مصر والعراق الى كثير من الامثلة ).

اما القوانين الاسلامية فحيث كانت عادلة لم يكن لها الأثر السيء ، بل كان لها الاطراد والتقدم حتى ان الغرب بنفسه يسمى المسلمين آباء العلم والحرية وذكر المنصفون منهم ان علم الغرب وما فيه من الحرية ، انما هو من آثار الاسلام .

(الخامس) الاضطراب الذى اوجدوه حول المرأة ، فمن ناحية جعلوا

ص: 294

المرأة سلعة رخيصة واداة اطفاء الشهوات ، فجعلوها وسيلة لجلب المال ، وفتحوالها المواخير ومراكز الفساد ، وبذلك أهانوا المرأة اكبراهانة ، حيث سبب ذلك تبذلها ورخصها من ناحية ، وبقائها عانسة تتكسع في دروب الحياة الصعبة من جهة اخرى...

و من ناحية اخرى زعموا انها تساوى الرجل في كل شيء ، فصار ذلك وبالا عليها ، حيث لم تتمكن ان تنقدم كما تقدم الرجل(في الوزارات والسفارات والنيابات ونحوها) لانها بطبيعتها لشئون غير هذه الشئون، بينما القيت عليها خشونة الحياة الصناعية مما اضرت بجمالها وانوثتها وسائر شئونها الطبيعية ، التي خلقها الله سبحانه لها ، ولذا أخذ علماء الغرب يفكرون في وضع القوانين العادلة للمرأة لاخراجها من الاهانة والخشونة ، كما ذكر ذلك في جملة من الكتب ، وقد ذكرنا نحن جملة من شئون المرأة في الاسلام في كتاب فى ظل (الاسلام وفي غيره .

الدولة بين العدل والاحسان

(3) والمراد بالعدالة في اصطلاح القانون هو ما يسميه الاسلام (بالاحسان) والاصطلاح الاسلامي أقرب الى الحقيقة ، وكيف كان فهناك (مساواة) و (عدل) و (احسان) قال سبحانه : ان الله يأمر بالعدل والاحسان فالمساواة معناه التساوي ،وقد يكون التساوي عدلا ، وقد لايكون عدلا ، وكذلك النسبة في العكس فبينهما (عموم) من وجه - على الاصطلاح المنطقي - فاذا ساوى الاخوين في الارث كان تساوياً وعدلا ، واذا ساوى الكبير والصغير في اعطاء قماش اللباس كان تساوياً لا عدلا ، واذا اعطاهما متفاوتاً كلا بقدر حاجته ، كان عدلا لامساواة ..

فالعدل اعطاء كل ذي حق حقه ، وادانة كل ذى جرم بجرمه ، والاحسان

ص: 295

اعطاء المزيد من الحق، فيما لايضر بحق آخر، والعفو عن المجرم فيما لايكون العفو سيئاً لبطلان حق ، و (الاحسان) فوق القانون ، فان القانون مجرد الحقوق والواجبات والادانات اما (الاحسان) فهو مراعاة ترطيب الحياة وتلطيف الجو والدولة يلزم عليها مراعاة ذلك ، ليجعل من القانون واحة خضراء فيها الرحمة والحنان على الانسان، وهو يوجب تقوية الروابط بين الدولة والامة وتقديم الامة الى الامام اذ العلاقة المتبادلة توجب اجراءاً من الثقة والحرية والرفاه، وكل ذلك من مقومات التقدم، بله الاطمينان والسكينة ورفع القلق .

ولهذا القانون يشرع المشرعون نصوصاً لاجل رفاه الامة كما ينفذ المنفذون اكثر من النصوص المرفهة ويمتنع القضاة عن الادانات الثقيلة سواء كانت الادانة حكم الاعدام، او التعزير ، او السجن ، او الغرامة .

وقد ذكرنا في كتاب الحدود والقضاء الاطار الذي يمكن للقاضي و ولقائد المسلمين ، ان يخفف من العقوبات ، وقد عفى رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم من أهل مكة ، وقرر القانون الاسلامي (يجب ماقبله) وعفى عن غيرهم ، كما عفى علي عليه السلام والحسن والحسين وغيرهم من الائمة عليهم السلام ، عن جملة من المجرمين كأهل البصرة ، وكان على عليه السلام يعطى جوائز الخوارج ، الى غير ذلك.

والفرق بين العدل والاحسان ، ان العدل واجب اطلاقاً، بينما الاحسان في الجملة ، فلا يحق للقائد أو القاضي أو ما أليهما، تطبيق القانون بحذافيره بل اللازم ان يتخلله احسان في الجملة وهذا هو الفارق بين وجوب العدل ، ووجوب الاحسان ، حيث قال تعالى يأمر ...» اما حمل الأمر في الأول على الوجوب وفي الثاني على الاستحباب، فهو خلاف الظاهر أولا، وخلاف لظاهر«ينهى ...» الذى هو في سيافه ، فكما ان النهى (تحريمى) كذلك الامر (وجوبي) .

ص: 296

لا يقال : وحمل (الاحسان) على الجملة ، خلاف الظاهر ايضاً ، اذ الظاهر في كل من (العدل) و (الاحسان) الاطلاق ؟ .

لانه يقال : نحن امام احد خلافي الظاهر ، وماذكرناه اولى ، لما نعلم من الخارج من عدم وجوب كل احسان بالضرورة فهذه قرينة على كون (وجوب الاحسان ) في الجملة .

بل يمكن ان يقال في (تقريب وجوب الاحسان في الجملة) ان خلافه فظاظة وهي محرمة لانها توجب انفضاض الناس، والتسبيب في ذلك محرم اذ هو نقض المغرض ، قال سبحانه : « فبما رحمة من الله لنت لهم ، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ، فاعف عنهم واستغفر لهم ...»(1) وقال سبحانه : «خذ العفو وأمر بالعرف واعرض عن الجاهلين»(2).

ثم انه لاحاجة الى تقييد الاحسان ، بان لايكون موجباً للتجرى او اضاعة حق الاخرين اذ لا يكون ذلك حينئذ احساناً ، بل اسائة ، والفرق بينهما - في هذا المورد - دقيق، ولذا كان اللازم على القوى الثلاث (السياسية) تفهم الفرق لئلا يقع الخطأ في التطبيق ، حتى يقع في افراط مر القانون ، او تفريط الاسائة بزعم الاحسان ، قال الشاعر :

ووضع الندا في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندا وقد يصطلح على العدل المذكور (الاحسان : في اصطلاح الاسلام) بالعدالة الاجتماعية - ولامشاحة في الاصطلاح -.

توفير الرفاهية للامة

(4) اما الرفاهية التى هى واجبة على القوى السياسية فهى، عن ان يكون التشريع والتنفيذ والقضاء موجباً للرفاه بقدر الامكان ، فالقانون يلزم ان

ص: 297


1- سورة آل عمران / 153 .
2- سورة الاعراف / 198.

يكون بحيث يسبب وجود العمل لكل عامل ، ويجعل الاجر المجزى الكافي لكل عامل مع وضع ساعات العمل بقدر اليسر لا بقدر العسر، وتكون للعمال الاجازات والعطلات، وزيادة الاجور بزيادة التضخم، والعطلة للنساء العاملات أيام الولادة وقبلها وبعدها بمدة معقولة وتسهيل وسائل الزواج باعطاء المريد لذلك منحاً وسلفاً ، وتسهيل وسائل العلاج ، والدراسة ، والسياحة ، وما أشبه ذلك مثل المدارس ، والمستشفيات والمستوصفات ودور العجزة ، والحدائق والمخيمات ودور الرياضة والنوادى، وما أشبه ذلك ...وتلطيف الهواء بالتشجير وتكثير المياه في المناطق الحارة ، وعكس ذلك في المناطق الباردة الجسور والطرق وتكثير وسائل المواصلات مع جعل القوانين المسهلة للمرور وجعل الدوائر المرفهة للموظفين والمراجعين وكون القضاء واجراء الحدود في اجواء ملائمة وقد ذكرنا في كتاب القضاء ما يرتبط بهذا الشأن ، فلاحاجة الى

تکراره .

اما الدليل الشرعي على هذه الأمور، فلان الدولة موضوعة للمصالح العامة والخاصة ، فاللازم عليها مراعاتها ، والاجحاف محرم ، فالواجب على الدولة أن تحفظ الموازين حتى لا يحجف عامل ولافلاح بصاحب العمل والارض، ولا العكس بينما نرى في الشرق اجحافاً من العمال والفلاحين « ديكتاتورية البروليتاريا» .

وفي الغرب اجحافاً من أصحاب الاعمال والاراضي «طغيان رأس المال» و كذا حال مايدور في فلكهما وكذا لاعسر في الاسلام يريد الله بكم اليسر ولايريد بكم العسر)(1) وفي الحديث (اتقوا الله في الضعيفين الايتام والنساء )وقال عليه السلام (المرأة ريحانة وليست بقهرمانة) الى غيرها من الادلة النقلية والعقلية .

ومع ذلك فاللازم على الدولة الجمع بين (حقى الحرية ، والرفاه) في مثل

ص: 298


1- سورة البقرة / 181

العامل وصاحب العمل وما أشبه ذلك ، حيث انه لا يصح لها، الارفع الاجحاف من الطرفين ، وكذا من البائع والمبتاع وسائر اطراف المعاملة ، لا ان تضغط الدولة على حرية طرف لاجل التوفير على طرف آخر ...

وهذه الامور التي ذكرناها جارية على القوة التشريعية بالنسبة الى التشريع( تأطير القوانين الاسلامية )وعلى القوة التنفيذية بالنسبة الى التنفيذ ... ومن أهم ما تجب على الحكومة مراعاته الحفاظ على حريات الناس ، فان كل قانون كابت وكل اجراء كابت ، خلاف جعل الاسلام الناس مسلطين على أنفسهم وأموالهم الابقدر المصلحة العامة حقيقة لا ما تتذرع بها الدول من المصلحة العامة التى تختفى ورائها (جهلهم وأنانيتهم) كما تعارف الان في اغلب الدول من سلب الناس حرياتهم ، في كثير من الشئون.

الدولة وحسن التدبير

(ه) ويأتي بعد ذلك دور حسن عد ذلك دور حسن التدبير من الدولة في الشئون العامة والخاصة وذلك .

(أ) بالعمل الايجابي، بأن تسهر الدولة على صالح الامة ، وتبادر الى انجاح طلبها واسعافها ، في الساعات الحرجة، فالدولة ليست الاخادمة للامة، ووكيلة لها ، والدائرة ليست محل اهانة المواطن وارهاقه ، بل محل اكرامه وتسهيل أمره ، فعلى الموظف أن يسرع في اعطاء المراجع حاجته ، وفي ارشاده الى وضع حاجته ان لم تكن حاجته عنده ، وعلى كل موظف ان يهيىء الاجواء الملائمة في دائرته ، سواء الاجواء العملية أو الاجواء المناخية ، فاذا احتاج تسريع الامر الى جعل كاتب و خادم و ما اشبه جعلهما ، واذا احتاج الهواء الى مدفئة ومروحة وفرهما ، الى غير ذلك.

وكذلك بالنسبة الى القوة التشريعية ، حيث يجب عليها تقنين القوانين

ص: 299

المؤدية الى ذلك ، فان من أهم أسباب نجاح الدولة وتقدم الامة تسهيل الامور والاجراءات بالمقدر الممكن ، وفي حدود عمل كل قوة من القوى الثلاث السياسية .

(ب) وبالعمل السلبي ، وذلك بأن لا يوضع القانون ، ولا ينفذ القانون الموضوع - سواء في التنفيذية أو القضائية الذي ينبي عن التعسف والتجاوز وما يوجب عدم أمن واستقرار المواطن ، من جهة نفسه أو ماله أو عرضه ، فان اللازم على الدولة ان تكون بحيث يشعر المواطن تحت لوائها بالراحة الجسدية والفكرية ، لا بالقلق والعذاب، ولا يسمح للدولة باي حال من الاحوال ، ان يفضل مواطناً على مواطن ، وطبقة على طبقة في جعل القانون أو تنفيذه، بل اللازم عليها النظر اليهم بحد سواء ، وحتى في الانسان المنحرف (عقيدة او عملا) اللازم على الدولة مراعاة قاعدة (الضرورات تقدر بقدرها) وقاعدة( الاهم والمهم) .

ولذا نجد في الاسلام حيث اراد تصحيح العقيدة في باب الاديان واصلاح المجرم في باب الاعمال ، لاحظ هاتين القاعدتين ، وقد المعنا الى طرف من ذلك في كتاب الجهاد (حكم الاقليات الدينية) وفي كتاب (القضاء والحدود ونحوهما) .

الدولة ومراعاة النظام

(6) وأخيراً (مراعاة النظام) فان القانون العادل، وتطبيق القانون على الدوائر لا يكفى فى سير النظام على ما يرام، بل اللازم حسن التدبير في الادارة ، وصنع جهاز المراقبة والتنسيق ، والكفائة ، وما اشبه ذلك، فالاجهزة الثلاثة للدولة (التشريع والتنفيذ والقضاء لابدوان تسود فيها روح تسيرها على أحسن وجه ، وذلك بأن تمكن تلك الروح من اعطاء الدولة حقها ، واعطاء الفرد حقه

ص: 300

ولهذا الأمر عينت الدول الحديثة (ادارة التنسيق) و (ديوان المحاسبة) و (ادارة مراقبة أعمال الدولة والامة ) و (مجلس الدولة) و(قواعد التأديب للمخالف) الى غير ذلك ، كما هيئت الدول الحديثة لذلك (الالات الحاسبة) و(العقول الالكترونية) و (آلات الانصات ) وغير ذلك .

بل قد جعلت بعض الدول اسلوباً حديثاً لبناء الدوائر ، حيث تبنى الغرف

بنصف حائط ، وتكون منصة مشرفة على كل الغرف فيجلس فيها المراقب الكفوء ، ويشرف دائماً على الموظفين لئلا يعطلوا المراجع اكثر من قدر الاحتياج وهذه الامور في الدولة الاسلامية بين واجب ومستحب ، قال صلى الله عليه و آله وسلم (رحم الله امرءاً عمل عملا فاتقنه) وقال صلى الله عليه و آله وسلم ( لعن الله من ضيع من يعول) وقال صلى الله عليه و آله وسلم (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) الى غير ذلك.

هذا بالاضافة الى شمول مثل (اعدّوا لهم ما استطعتم من قوة)(1) وقوله صلى الله عليه و آله وسلم (الاسلام يعلو ولا يعلى عليه حيث يجب ان تكون البلاد الاسلامية في مقدمة البلاد ، وان لا يكون غير المسلمين اعلى من المسلمين، وغير ذلك مما يستفاد منه الدقة والاتقان في كل شيء والتي منها شئون السياسة بشعبها الثلاثة : التشريعية والتنفيذية والقضائية اما تفصيل كيفية هذا الامر (مراعاة النظام) فموكول الى الكتب المعنية بهذا الشأن .

ص: 301


1- سورة الانفال / 62 .

مسألة : 32 كيف نضمن استقلال القوة التشريعية ؟

اشارة

القوى الثلاث( التشريعية ، والتنفيذية والقضائية) تتفاعل وتتدخل بعضها في بعض، ويقع الكلام حول ذلك في مباحث :

(الاول) فى تدخل القوة التنفيذية في القوة التشريعية ، وذلك بأمور :

(1) ان القوة التنفيذية ، كثيراً ما يكون بيدها المال، كما أن بيدها القوة والاعلام ، وبذلك يتسنى لها التدخل فى التشريعية من ناحيتين .

الف : ناحية النصب والعزل، ففي انتخاب مجلس الامة تتدخل القوة التنفيذية - في السر - لنصب الموالين لها بتزيف ارادة الامة وانتخابهم لغير الصالح لهم ، الصالح للقوة التنفيذية، وكذلك تعزل القوة التنفيذية فروع القوة التشريعية التي لاتكون فى صالح التنفيذية ، بل احياناً توجد مبررات لاسقاط النائب أو تجميده اذا لم يكن فى صالح التنفيذية . . وفي بعض الاحيان تنصب التنفيذية نواباً ومشرعين بالشكل الخفى غير الصريح وبذلك لا يكون لمجلس الامة ، وما أشبهه من أجهزة التشريع فعالية مطلوبة في صالح الامة ، بل يكون الامر في صالح التنفيذية .

ص: 302

ب : ناحية الترغيب والترهيب بالنسبة الى نواب الامة حقيقة ، فان القوة التشريعية لاتملك التنفيذ ، وحيث انها نائبة الامة والامة لها حوائج بيد التنفيذية تضطر التشريعية للتنازل أمام التنفيذية ، لاجل تمشية امور الامة ، هذا بالاضافة الى الترغيب والترهيب المالي ونحوه.

وهذا النحو من التدخل مما يعتاد في البلاد المتأخرة، كآسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية وغيرها والعلاج الاول والاخير لهذا التدخل الضار بالمصالح العامة و الخاصة (رشد الامة) فاذا رشدت الأمة لم تقبل بالتنفيذية الوراثية وما اشبه كما راقبت تحركات التنفيذية فلا تدعها تنصب الموالين، أو تتصرف ترغيباً وترهيباً بالنسبة الى المشرعين .

ومن اهم ما يفسد على الامة مصالحها في البلاد التي تسمى بالديمقراطية (اما البلاد الشيوعية فهى خارجة عن محل البحث حيث ان التنفيذ والتشريع والقضاء وكل شيء بيد فئة خاصة الحزب ) هو طغيان رأس المال ، حيث ان الرأسماليين يصرفون المال لتسنيم من فى صالحهم ، سواء في التشريعية أو التنفيذية او القضاء أو الاعلام اوغيرها، وبذلك تكون الامة مكتوفى الأيدى لا امام التشريع فحسب بل أمام كل شيء.

ولذا فالواجب لتحرير ارادة الامة من قص اجنحة رأس المال الطاغي، والا فكل الاجراءات لعدم تدخل التنفيذية في التشريعية ، غير مجد .

(2) يلزم أن تكون كل شئون القوة التشريعية بيد نفسها ، حتى قدر المال المحتاج اليه والحماية المحتاج اليها في التشريع ، اذقد تحتاج التشريعية الى قدر من المال لموظفيها المساعدين لها في التشريع ، وقد تحتاج الى الحماية لحفظ الهدوء المحتاج اليه عند التشريع، وقد تتدخل التنفيذية في مجلس التشريع لاجل التشريع اولاجل عدم التشريع فى نفع التنفيذية ، ولذلك صور .

ص: 303

(الف) أن تحيط المجلس بالمتظاهرين، لاجل تشريع حكم أو عدم تشريع حكم ، فيكون ضغط المتظاهرين موجباً لتشريع الحكم أو عدم تشريعه ، و مثل الاحاطة بالمتظاهرين ، صنع المتظاهرين داخل المجلس .

(ب) حيث ان القوة التشريعية بحاجة الى المؤسسات واللجان ، مثل الهيئة الرئيسية ، واللجان الاقتصادية والخارجية وما أشبه ، فاللازم أن لا تكون تلك المؤسسات واللجان منصوبة من طرف القوة التنفيذية اذ لو كانت منصوبة من قبلها كانت تحت نفوذها ، مما يفسد على التشريعية استقلالها.

(ج) يلزم أن يكون اختيار عقد المجلس التشريعي بيد نفس النواب لابيد التنفيذية اذ لو كان اختيار عقد المجلس بيد التنفيذية تحول دون عقده فيما اذا علمت انهم يريدون عقده لاجل تشريع قانون لاترغب فيه التنفيذية ، أو لاجل الغاء قانون ترغب فيه التنفيذية ، وكذلك تحول دون عقده فيما اذا علمت ان التشريعية تريد اسقاط الدولة.

(د) أن يكون اختيار جدول اعمال التشريعية بيد نفسها ، اذ لو كان اختيار الجدول بيد التنفيذية ، أدرجت في الجدول ماتريد ، لاماتريده الامة أو يريده نواب الامة . . . الى غيرها من الاختيارات ، فاللازم ان تكون التشريعية حرة طليقة في كل شئون نفسها بدون ادنى قدر من التدخل للتنفيذية في شئونها.

(3) يلزم ان يكون جواز تقديم اللوائح لاجل التصديق عليها بيد كلتا القوتين التنفيذية والتشريعية لابيد التنفيذية فحسب، اما ان يكون بيد كلتيهما فلان كلتيهما تحتكان بالواقع المعاش ، وينقدح في انفسهما الاحتياج الى سن القانون، فلامعنى لاحتكار احدهما حق تقديم اللوائح، كما لاوجه لان لايكون للتنفيذية ان تقدم اللوائح بنفسها ، بأن يقال ان التنفيذية لاحق لها في تقديم

ص: 304

اللوائح ، بل اذارأت من الصالح تشريع قانون كان لها ان تتوسل الى التقديم بالتشريعية بأن تلمس من التشريعية أن تقدم اللائحة ، أو ان تتوسل بالامة ، لتضغط الامة على نوابها لتقديم اللائحة .

وانما قلنا لاوجه ، اذ يقال ما هو المبرر لسلوك التفيذية الطريق الملتوى الى تقديم اللائحة دون الطريق المستقيم : بتقديم نفسها اللائحة الى المجلس؟ لكن كما لا ينبغي ان تطرد التنفيذية من تقديم اللائحة، كذلك لا يحق ان يكون حق التقديم خاصاً بالتنفيذية ، اذ لو كان خاصاً بالتنفيذية ، اوجب ذلك :

الف :خروج الزمام من يد التشريعية ، ويقع المجلس تحت التنفيذية . حيث انها تقدم ما في نفعها ، ولو في ضرر الامة، ولا تقدم مافي ضررها ولوفي الامة ... صحيح ان التشريعية مختارة في تصديق أو عدم تصديق ما قدم من نفع قبل التنفيذية ، لكنها ليست مختارة حينئذ في تقديم ما تراه صالحافي حق الامة ، وبذلك تكون التنفيذية سيدة المجلس ، وبيدها الزمام .

ب: يجب ان لا يكون المتنفيذية الحق المطلق ، فى التدخل في مذاكرات التشريعية في المجلس ، اذلو لم يحدد هذا الحق لتمكنت التنفيذية من التدخل في المذاكرات ، وتحريف سياسة التشريعية الى نفع التنفيذية ، والتقليل من أهمية المجلس أمام الرأى العام فاللازم ان يكون حق تدخل التنفيذية في مذاكرات المجلس محدوداً، لتستريح التشريعية في ملاحظة الامور بكل تجرد لان تضع لها القانون او ان لاتضع .

ج : يلزم ان يكون حق نشر القانون المصدّق من قبل المجلس في الوقت المطلوب باختيار التشريعية ، لا باختيار التنفيذية ، اذ لو كان بيد التنفيذية

استغل هذا الحق في ان تنشر القانون في الوقت الذى يصلح لها ، لا للامة ، اذ القانون اذا لم ينشر لم يكن صالحاً للتنفيذ، فكون الاختيار في وقت النشر

ص: 305

بيد التنفيذية نوع آخر من انواع تدخل التنفيذية ، مما يخرج الزمام عن يد نواب الامة .

د: يحق للمتشريعية ان تعطي الصلاحية للتنفيذية في تقديم اللوائح كما يحق لها ان تمنع التنفيذية من التقديم ولكن لمدة محدودة اما ان تعطي الصلاحية التنفيذية بأن تكون المقدم الوحيد لللوائح ، فذلك تسليط للتنفيذية ، على مقدرات الامة ، اللهم الا ان يكون اعطاء التشريعية التنفيذية هذا الحق لمدة محدودة جداً ، وذلك محل نظر أيضاً ، اذ بأية صلاحية تسقط التشريعية حق نفسها في التقديم ؟ وتعطى الحرية لمن يسلبها الحرية ؟

نعم فى بعض الحالات الأضطرارية التي لا تتحمل البطوء مثل حالات الحرب المفاجئة ، يعطي المجلس الصلاحية للتنفيذية لمصلحة ثانوية ، وهذا امر اضطراري ، وفي القاعدة الاسلامية المعروفة (الضرورات تقدر بقدرها).

تساؤلات في حلّ الدولة لمجلس الامة

(4) من وسائل نفوذ التنفيذية في التشريعية حق الأولى في حل المجلس وهنا اسألة :

هي: هل التنفيذية لها حق حلّ التشريعية ؟ وما المبرر لهذا الحق مع ان التنفيذية ليست الامثل الخادم بينما التشريعية وكيل ، والوكيل فوق الخادم ؟ ولو كان هناك مجلسان للامة والاعيان (أوغير الاعيان) فهل للتنفيذية حق حل كليهما ؟ ولماذا تحل التنفيذية المجلس ؟ وما هي منافع واضرار حل التنفيذية للمجلس .

(الف) اما هل للتنفيذية حق الحل ؟.

فالجواب: انه تابع للقانون المجعول المصدق من قبل الامة بواسطة نوابهم

ص: 306

فإن سمح القانون جاز والا لم يجز ، ومثل ذلك مثل ان يعطي صاحب الدار الصلاحية لخادمه بعزل وكيله والدليل الشرعي الناس مسلطون) شامل للمقام اذ التشريعية وكلاء الامة ، والتنفيذية خدامها.

(ب) والمبرر لهذا الحق ؟ انه قديكون تضاد حاد بين القوتين التنفيذية والتشريعية ، ولا يمكن حل التضاد ، فاذا حلت التنفيذية التشريعية ، كان معنى ذلك ارجاع الامرالى الامة، هل ينتخبون نفس هؤلاء النواب، لتنتخب التنفيذية أو ينتخبون غيرهم ، فيكون لهؤلاء النواب الجدد ، ان يقبلوا بالتنفيذية ، او يبدلوها ...

وفي صورة التضاد الحاد ، يمكن حلول اخرى مثل الارجاع الى الامة في

(استفتاء عام) هل يريدون التنفيذية او التشريعية ، وعند ارادة الامة احديهما يجب انسحاب الاخرى، لان الكلمة للامة ، وقد عرفت في مسألة

(الشورى) ان للامة ان تنتخب احد الافراد الجامعين للشرائط كما دل عليه النص والفتوى.

(ج) ولو كان للامة مجلسان ، فالغالب ان يكون تضاد بين المجلسين، لان الاعيان كثيراً ما يرد تشريعات مجلس الامة، بحكم اكثرية خبراته، فيكون بينهما تضاد تستغل التنفيذية ذلك التضاد لتقترب من احدهما ، فلا يكون العمل ، الالاحد المجلسين، وحينذاك يستقل المجلس الاخر بالتشريع الى حين انفتاح المجلس الثاني ... وقد تحل التنفيذية كلا المجلسين ، فيما لو خولتها الامة ذلك ، لكن اللازم ان لا يحق للتنفيذية ذلك الالمصلحة تفوق خطر الديكتاتورية التي تمارسها التنفيذية بعد حل المجلسين .

(د) والتنفيذية انما تحل المجلس، أما لاجل التضاد بين التشريعية وبين التنفيذية وأما لاجل ارادة العجلة في الأمور مما ينافيها تداول المجلس للقضايا ، كمافي حالات الحرب ونحوها ، وأما لاجل ان التنفيذية، ترى الجو الملائم لدخول

ص: 307

انصارها في المجلس فتحل المجلس ، في أيام الانتخابات ، ليفوز الحزب الموالي لها، وهذه الحالة توجد في بعض البلاد الغربية ، أو لغير ذلك من أسباب حل المجلس .

(ه_) اما ضر رحل المجلس ، فهو شدة قبضة التنفيذية على البلاد ، اذه-ى لاتخاف الامن اموراهمها فضح المجلس لها ، فاذا انغلق المجلس تصرفت التنفيذية كما تشاء . اذلاسوط من الانتقاد عليها ... بل ان يكون للتنفيذية حق الحل ، وتهدد بذلك ، يكفى في نكوص التشريعية عن المجاهرة بمصالح الامة و انتقادها للتنفيذية ، اذالنائب انما وصل الى المجلس بشق الانفس ، ولا يأمن الوصول ثانياً بعد الانحلال ، فاذا هددته التنفيذية بالحل سكت عن النقد ولم يفعل ما يغضب التنفيذية .

وأما نفع حل المجلس ، فهو اعطاء الفرصة للامة بانتخاب من تريدها ، وللحد من النزاع بين القوتين ، ولان التشريعية تلتجأ احياناً لتغرير السذج (برفع اللوم عن نفسها والقائها على التنفيذية )بالتشديد على انتقاد التنفيذية (بينما هى المقصرة أو الشريكة في التقصير) فتصلت التنفيذية سيف تهديد الحل على رقبتها ، وبذلك تقطع عليها طريق التغرير وتبرئة ساحة نفسها لتقوى جاهها عند الامة .

ولا يخفى ان التنفيذية انما تتمكن من حل المجلس لمرة واحدة ، مثلا اذ لا يعطيها القانون حق الحل مكرراً ، فان اعطائها هذا الحق ، يوجب تسليطها على التشريعية ، تسليطاً كاملا ، وبذلك لا تتمكن التشريعية من تشريع القوانين الصالحة للامة اذا كانت مما لا ترضى بها التنفيذية ...

ولا يخفى ان (قانون حق حل التشريعية للتنفيذية) في الدولة الاسلامية يجب أن يكون في اطار( المصلحة العامة ، وولاية الفقيه ، ورضى اكثرية الامة) اذ لا يجوز الاضرار بالعامة، وان رضيت الاكثرية (وان كان التفكيك بين الأمرين

ص: 308

صرف فرض) والفقيه ولى من قبلهم عليهم السلام ، فالتصرف يجب ان يكون برضاه ، فان اى تصرف في شئون المسلمين و البلاد يجب أن يكون حسب دستوره ، و من الواضح ان الاطار الذي يعمل فيه الفقيه ، في صورة ولايته ، هو :

(1) النصوص الشرعية مثل كون الحق المالي خمساً أوزكاة .

(2) والقواعد العامة التي بيده انطباقها ، مثل سجن المتهم بالحبس أو أخذ الكفيل عنه ، أو أخذ مال عنه أو وثيقة وما اشبه مما يدخل في ضمن دائرة (دفع الفساد « والله لا يحب «الفساد» او دفع المنكر ، اوما اشبه ذلك) .

(3) وقاعدة الاهم والمهم بعد القطع بأن المورد من صغريات هذه القاعدة

كما ذكروا في مسألة (قتل المسلم الذى تترس به الكفار) الى غير ذلك، وقد ذكرنا بعض ذلك في الفقه القضاء، والشهادات، والحكم في الاسلام كما سيأتي تفصيل الكلام فيه انشاء الله تعالى في بعض المسائل الاتية .

وكيف كان فاللازم تشريع قانون حل التنفيذية للتشريعية ، بكمال الاحتياط ومراعاة عدم مصادرة الحريات فان التنفيذية من شأنها الطغيان، فانها قوة وغنى ، و الانسان يطغى ان رآه ،استغنى، وقد قال الامام امير المؤمنين عليه السلام: (من ملك استأثر) فاللازم ان لا يجعل للتنفيذية القدرة الطاغية ، يقول الشاعر :

والظلم من شيم النفوس فان تجد*** ذاعفّة فلعلة لايظلم

وللامام عليه السلام كلمة اجمل من هذا الشعر مذكورة في نهج البلاغة...

ولا يخفى ان قوة الرشد في الامة ، وكثرة المؤسسات السياسية والثقافية ، من نشاط التنفيذية ، حتى مع حلها للتشريعية ، بينما لو كان العكس كانت ضراوة التنفيذية اكثر .

ص: 309

مسألة : 33 حدود تدخل التشريعية في القوة التنفيذية

ذكرنا في المسألة السابقة تدخل القوة التنفيذية في القوة التشريعية: وكيفيات التدخل ، واضرارها ومنافعها .

وفي هذه المسألة نذكر المبحث (الثاني) وهو عكس ذلك ، اى تدخل التشريعية في التنفيذية ، وذلك يكون بصور :

(الف) ان نصب اعضاء التنفيذية - غالباً - يكون بواسطة التشريعية، وانما ذكرنا غالباً ، لان هناك منهجين :

(الاول) كون نصب رئيس الجمهورية بيد الامة مباشرة وحينذاك لايتدخل المجلس في نصبه .

(الثاني) كون نصبه بيد مجلس الامة ، ولكل واحد من هذين المنهجين محاسن ومساوى، وان كانت المحاسن اكثر في اولاول ، حيث ان اشراف الامة على ،نوابها ومنفذى ارادتها يكون اكثر ، ولا يهمنا الان بحث ذلك ، وانما محل البحث ان نصب التشريعية للتنفيذية (كلا أو بعضاً) له صورتان :

الأولى : أن يحصر القانون افراد التنفيذية الذين يحق للتشريعية نصبهم،

ص: 310

فی نطاق مجلس الامة، وبذلك يكون مجال النصب التشريعية ضيقاً ، بالاضافة الى انه حيث ينصبهم الأكثرية وحيث كانواهم قبلا نواب الامة ، تكون سلطة المجلس على التنفيذية قليلة، لانهم حينئذ اكفاء ، وكلاهمان يتمتعان بانتخاب الامة لهم، ولان الاقلية في المجلس الذين لم يصوتوا لانتخاب أفراد التنفيذية، يكونون خارج حلبة المنفوذ حيث لم يصوتوا .

الثانية : أن لا يحصر القانون أفراد التنفيذية في نطاق المنتخبين في مجلس الامة ، وحينئذ ترتفع المحذورات الثلاثة المركوزة في ( الأولى ) وهاتان الصورتان ، وان كانت حسب اختيار نواب الأمة ، الاأن الصورة الثانية ، لعلها أقرب الى الاتقان وأبعد عن ايجاد التضاد بين القوتين ومن المعلوم ان كلما كان انسجام بينهما كانت الاعمال تسير - في صالح الامة - بسرعة اكثر ، فيشمل ذلك: وجوباً أو استحباباً مثل (رحم الله امرءاً عمل عملا فاتقنه) وغيره .

(ب) للتشريعية الاشراف على التنفيذية، بأن تلزمها باراءها وذلك لانه قد تقدم ان المجلس نواب الامة ، والتنفيذية خودام الامة ، والوكيل أعلى سلطة من الخادم، ولو لم تستجب التنفيذية للتشريعية في طلباتها ، تمكنت التشريعية من استيضاح التنفيذية في المجلس ، وذلك يحرج وضع التنفيذية، مما يحوج التنفيذية الى اخذ الاعتماد من المجلس وربما لا يوافق اكثرية المجلس اعطاء الاعتماد على التنفيذية - بعد الاستيضاح واجابة التنفيذية - وحينذاك تسقط التنفيذية، وتضطر الى الاستقالة ، واذا كانت التشريعية قوية ، خافت التنفيذية من العمل المخالف.

(ج) وقد تتدخل التشريعية في شئون التنفيذية بجعل لجنة دائمة في المجلس لتلقى الشكايات الموجهة الى التنفيذية، واعلام التشريعية بها ، وحينذاك تخاف التنفيذية من أي عمل مخالف، لان ذلك سيف سلط على رقبة التنفيذية، بسببه لا تتمكن من الانحراف ، ومثل هذه اللجنة لازمة ، وان كانت متداولة في بعض

ص: 311

الحكومات فقط .

(د) و من أقسام تدخل التشريعية في شئون التنفيذية جعل القانون الذي يحول التشريعية بمحاكمة المنحرف من اسرة التنفيذية ، وفرض العقوبات السياسية أو الجزائية عليه ، فإذا فعلت التنفيذية خلافاً حاكمتها التشريعية، فاذا ثبتت الادانة فرضت العقوبة المناسبة عليها ، وقداراد الاعيان محاكمة (نكسون) في فضيحة (ووترغيت) لكن عدم رؤية الجهات العليا الصلاح في محاكمته ، لاسباب دولية أو جبت نصحها له سراً بالاستقاله ، فاستقال وبذلك نجى نفسه عن المثول امام المحكمة .

ولا يخفى ان (القضاء في الاسلام، يصلح للمنظر في الشكايات المرفوعة حتي ضد رئيس الدولة، كما راجع الرسول صلى الله عليه و آله وسلم وعلي عليه السلام القضاء ، في قصة الناقة ، وقصة درع طلحة ، وغيرهما على ماذكرنا تفصيله في كتاب القضاء ...

نعم لا يمنع الاسلام عن تخصيص لجنة خاصة في مجلس الامة ، او غيره للنظر في قضايا التنفيذية، بشرط أن تكون اللجنة صالحة للنظر ، حيث تتوفر فيها شروط القضاء المقررة في الشريعة الاسلامية .

ثم ان مسؤلية التنفيذية أمام التشريعية ، قد تكون سياسية ، والمراد بها ان تكون التنفيذية قصرت في تقديم البلاد الى الامام ، واذا ثبت ذلك لزم على التنفيذية التنحى، ليملأ الفراغ الاكثر كفائة منها، فان هذا الامروان لم تكن قضية قضائية مقرراً لها عقوبة في القانون ، الاانه تقصير ، و أقل جزاء المقصر ان ينحى ...

ولا يبعد أن يعد في الاسلام قضية قضائية ، حيث ورد ( لعن الله من ضيع من يعول) وهذا نوع من التضييع . وقال تعالى : «واعدوا لهم ما استطعتم من قوة». وتخلفها عن ذلك ، منكر ، وفاعل المنكر يحد او يعزر ، الى غير ذلك... .

ص: 312

لكن ذلك اذا عد عدم تقديم البلاد تضييعاً ومخالفة لإمر الاعداد .

ثم انا حيث ذكرنا في بعض المسائل السابقة ، تدخل القوة القضائية ، في القوتين ، وتدخلهما في القضائية لاداعى هنا الى تكرار ذلك ..

ثم ان مسألة تدخل القوتين في القضائية، وبالعكس ، غير مسألة تدخل سائو القوى الاجتماعية كالسياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها في القضائية ، اذ فيما اذا كان احد طرفي النزاع يتمتع بمال اوجاه اوقوة ، شفع لنفسه قوته في انجاح القضيه في جعل القضاء الى جانبه ، والقاضى دائماً بين محذورين، فان كان اجتماعياً عملت الضغوط الاجتماعية لتحريفه ، وان لم يكن اجتماعياً لم يتمكن من فهم الموازين الاجتماعية التي لها مد خلية في القضاء اذ القضاء يعتمد على ركنين: ركن القانون ، وركن الاطلاع على الاجتماع ، ليعرف كيف يتمكن أن يطبق القانون .

و كيف كان فهذا بحث خارج عن مرمى نظر هذا الكتاب ، ونتركه ل بالسم و التسارع لمظانه .

ص: 313

مسألة : 34 بحوث في الديمقراطية

اشارة

قد عرفت ان الديمقراطية أسست على (التشريعية ، والتنفيذية ، والقضائية) فلابد من البحث عن الامور التي تكتنف الديمقراطية من الشرائط ، والاضرار والمنافع وسائر الخصوصيات ، فنقول :

الديمقراطية افضل انواع الحكم

(الامر الاول) ان الديمقراطية (الاستشارية) [ ونسميها استشارية (أخذاً من: أمرهم شورى ، وشاورهم ) لان فى الاستشارية لا تشريع بمعنى جعل القانون ، وانما فيها (تأطير القانون الوارد في الأدلة الاربعة )بينما في الديمقراطية تشريع القانون ...] .

نقول : ان الديمقراطية ( الاستشارية ) افضل اساليب الحكم، لانها تهييء الجو الكامل للحرية، وفى الحرية تظهر الكرامة الانسانية من جانب، والكفائة الانسانية من جانب آخر فتنموا لملكات ، وتبرز العبقريات، ويعمل النقد البرىء على اظهار عيوب الاستنباطات ، ومؤاخذة التطبيقات للقوانين .

ص: 314

وبذلك يظهر في الحياة الاصلح فالاصلح ، وهو يوجب اعطاء الانسان حاجاته ويقدم الانسان الى الامام ، لان التنافس البريء سوط لتقديم الانسان . كما ان المراقبة الدائمة من الرقباء، توجب سد الانسان خلله ، وستر عيوبه ، وخوفاً من السنة النواب في أروقة المجلس ، تقف السلطة التنفيذية موقف الحذر ، كما ان النواب لابدلهم من العمل الجاد المثمر ، لانهم جائوا الى المجلس من أجل ذلك ، واذا حادو اسقطت حرمتهم عند الجماهير ، وفضحتهم الصحافة المسئولة( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) وانقطع املهم في انتخاب الامة لهم في المستقبل .

و (الاستشارية) ليست بالالفاظ ، ولا بتسطير دستور يتضمن نصه الحريات والعدالة ، وما أشبه ذلك ، بل علامة الاستشارية الصادقة ، انتخاب الامة

لنوابها بكل حرية ، وجعل النواب (أو الامة مباشرة) للسلطة التنفيذية وتمكن النواب من ابداء الرأى ، وتأطير القوانين ، وأن يعطى كل فرد وجماعة حريته في نطاق الدستور الاسلامي، وحينذاك يكون الميزان في التقدم الكفائة ولكل ان يعمل حسب مايريد، في إطار الدستور ، ويكون لكل انسان كرامته.

وبذلك يتوفر لكل انسان العيش الكريم ، وتكون الدولة ساهرة على مصلحة الامة، وفي مثل هذا الجو ، تتقدم الامة الى الامام ، ويكون السائد :

رأيها في كل شيء ، فالاستشارية حقيقة في باطن الحكم حالها حال الروح السائدة في الجسد لافي الالفاظ والاعلام والدستور فحسب ويعرف وجودها وعدمها من آثارها ، فان ظهرت تلك الآثار ، فالاستشارية موجودة والا فهى مفقودة .

واذا كان الميزان هذا -وهو ما يقوله العقل ويؤيده الاسلام فالعالم الثالث خال عنه لافي بلاده المسلط عليها الديكتاتوريون ، بالانقلابات العسكرية،

ص: 315

والحكومات الوارثية ، فان بين الاستشارية ، وبينهما تضاداً لا يمكن جمعهما ، فهل الذى جاء الى الحكم بالوراثة او بالانقلاب العسكرى جاء بالاستشارة فحسب ؟ بل حتى في بلاد العالم الثالث التي لها صورة ديمقراطية .

وأظهر دليل على عدم وجود( الاستشارية : الديمقراطية) فيها ، عدم حرية الاحزاب ، وعدم حرية الصحف ، وعدم وجود العدالة الاجتماعية ، وعدم حرية بناء المدارس والمستشفيات، وكون الحكم للاقرباء والانسباء، لا للمناضجين والاكفاء ، الى غيرها من آثار الاستبداد و الفردية، وان تغلفت بصورة الديمقراطية والاستشارية .

لكى لاتكون الديمقراطية عقيمة

(الامر الثاني) قد تقدم ان الحكم الاستشاري (الديمقراطي)هو افضل اقسام الحكم ، لكن يجب ان يقال :

(اولا) انه قد لا يكون الحكم ديمقراطياً بمعنى الكلمة ، وان تظاهر بمظهر الديمقراطية، وحينذاك يكون منبع السيئات، فالذنب على التطبيق لا على المبدء وبعبارة اخرى لا اشكال في الكبرى الكلية وانما الاشكال في الصغرى ، فهو كما اذا قال هذا انسان ، وكل انسان ناطق ، مع ان الصغرى خطأ ، حيث ان المتكلم اشار الى صورة الانسان (المجسمة) لا الى الانسان الخارجي ، وازمة الحكم الغربي ، هى هذه (مع الغض عن ان كل حكم اتكأ في تشريعاته على الانسان لا على خالق الانسان لابد وان يكون خطاءاً) فان رأس المال قد أخذ بازمة البلاد الاروبية والامريكية ، فالحكم رأسمالي في صورة الديمقراطية لاانه ديمقراطي .

ومن الواضح ان رأس المال يعمل لنفسه لا للبشر سواء بشر الداخل أوبشر الخارج ولذا كان البؤس الفظيع في الداخل والاستعمار البغيض في الخارج.

ص: 316

ومنه يعلم ان هتلر وموسيلين وأشباههما لم ينبتوا في منبت الديمقراطية بل في منبت الاستبداد ، كما ان الشيوعية نبتت في نفس المنبت ، ومن نفس المنطق المكذوب انطلقت الحربان العالميتان ، ويهييء الان للحرب الثالثة.

(ثانياً) ان الحكم الاستشارى (الديمقراطي ) له معايب :

(1) مثل ان الخطأ يضيع غالباً بين الفئات والاحزاب والتشريعية والتنفيذية حيث ان كلامهم يلقي الخطأ على الاخر ، ويتنصل عن المسؤلية فاذا عقدت صفقة اسلحة ، وظهر خطاء ذلك قال كل ان الاخر هو السبب في هذا العقد، ولا يشخص المجرم حتى ينال عقابه ، وهذا وان أمكن تداركه باظهار المجرم الحقيقي بسبب القضاء العالي - كما تقدم في مسألة القوة القضائية الا ان الغالب اضاعة الخطاء في متاهات السياسة .

(2) ومثل ان الرقابة والتنافس بين الاحزاب والكتل البرلمانية وما أشبه توجب عدم تقدم الامة حيث ان كل فئة تتربص بالأخرى ان لا تتقدم ، وان تظهر عيوبها ، وخوفاً من الوقوع في المشكلة ، تتجمد الفئات ، بل احياناً تنتكص فترفع اليد عن مشروع حيوى ابتدئته ، خوفاً من توجيه النقد ، او تحرزاً عن تفاقم الأمر ضد الفئة البادية بالمشروع فان عنصر الخوف يسيطر على الساسة وعلى المحكومين في وقت واحد ، حيث يتخذ كل منهم حذره من الاخر وذلك سبب آخر من اسباب التجمد وعدم التقدم .

(3) والشعب في الحكم الديمقراطي كثيراً ما يستهين بالقانون وبالقائمين بالحكم ، وذلك لان القانون خصوصاً الجزائي منه ، يمشي في الحكومة الديمقراطية مشي السلحفاة : حيث ان تشابك الحكام بالشعب يقف دون اجراء القانون ، فان الوساطات والصداقات والرشوات تجد في الحكم الديمقراطي سوقاً رائجة.

ص: 317

(4) كما ان الدائرات ضد الحكم ، من المتنفذين كالا حزاب والكتل تقوم على انشط ما يكون وبذلك احياناً تتساقط الحكومات احداها تلو الاخرى بدون اى مبرر الا المؤامرات الحزبية وبذلك تضعف الحكومة كما ان رأس المال والصحافة وما أشبه تقوم بدور كبير في هذا الامر واذا ضعفت الحكومة لم تتمكن من القيام بالخطوات الاصلاحية فى الداخل ولا كبح جماح الاعداء في الخارج .

(5) وحيث تتوفر الحريات الكثيرة ، في الحكومة الديمقراطية ، ويجد المخرب والمتأمر مآربه في ظل القانون المهلهل تنحرف الديمقراطية عن مسيرها الشعبي ، الى المسير التأمرى فلا تعطى ثمارها المتوخاة ، ولذا كان المحكى عن ( ارسطو ) انه قال :( اذا كان يسهل انشاء حكومة ديمقراطية فانه يصعب السهر على تقويمها والاحتفاظ بكيانها).

لكن لا يخفى ان الاسلام يخفف من هذه المشاكل التي تتعرض سبيل (الاستشارية) بأمور :

(الأول) ان الفقيه العادل يكون المشرف الاعلى على الدولة - حسب ولاية الفقيه - كما سيأتي في بعض المسائل الاتية، وبذلك يكون هو المرجع الاول والاخير والمقوم لانحراف الدولة وما اليها ، وقد كان (غاندي) الزعيم الهندي بعد تسلم حزبه الحكم ، يقول لابد من بقاء زمرة صالحة من المكافحين خارج الحكم ، ليكونواقائمين ليكونو اقائمين على سلامة الحكم ، وبقى هو خارجاً ايضاً .

(الثاني) ان الايمان الذي يتمتع به الحكام، في الدولة الاسلامية افضل مقوم للانسان.

(الثالث) مع الغض عن ان نفس القانون الاسلامي قانون الهى لا يمكن التلاعب به ، وفي ظله لا يمكن الانحراف والمنحرف - حيث يعرف كره

ص: 318

المجتمع له - يحذر من الانحراف، وهذا عبارة اخرى، عن تنفيذ الامة قانون الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وارشاد الجاهل و تنبيه الغافل (والدين النصيحة) وغير ذلك من المعايير الاسلامية التى تقف دون الانحراف .

الصراع بين القوة والحقيقة

(الامر الثالث) هناك تنازع دائم بين القوة وبين الحقيقة ، فالقوة تريد تزييف الحقيقة ، واستخدامها في سبيل مآربها كما يفعله الديكتاتوريون غالباً بينما الحقيقة تريد استخدام القوة وترويضها لصالح القوة والانسانية كما يفعله الاكفاء الاستشاريون والغلب اخيراً للثاني ، وان كان الأول قد يجول في الساحة . ولذاورد( للحق دولة ، والباطل جولة) وقبل ذلك قال القرآن الحكيم :

« فاما الزيد فيذهب جفاءاً ، واما ما ينفع الناس فيمكث في الارض»(1) .

وقال سبحانه في آية اخرى: «لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل»(2) الى غيرها من الايات والروايات المشيرة الى حقيقة واحدة هي : ان الباطل سواء كان في العقيدة او في العمل، خلاف نظام الكون المبني على الحق والعدل فالسائر في طريق الباطل يصطدم اخيراً بالقوانين الكونية، مما يسقطه من الاعتبار كالذي يسير في الطريق المسدود حيث يصطدم اخيراً بالحائط ، بينما الحق والعدل يسيران في الطريق المفتوح ولذا يسيران دائماً ، وقصص التاريخ مليئة بالعبر والعظات من هذه الجهة ، والاستشارية تحاول دائماً اخضاع القوة و استخدامها في سبيل اقامة العدل، بينما الاستبدادية تريد العكس ، ولكن العاقبة للمتقين ، وكما قال الشاعر :

للمتقين من الدنيا عواقبها*** وان تعجل فيها الظالم الاثم

(1) والعاقبة قد تكون لشخصه بانتصار صاحب الحق

ص: 319


1- سورة آل عمران / 196 - 197
2- سورة الرعد / 17

(2) وقد تكون لسمعة صاحب الحق كماقال عليه الصلاة والسلام واجعل لى لسان صدق في الاخرين.

(3) وقد تكون للمبدء الذى عمل لاجله صاحب الحق وكل ذلك انتصار بل الثالث أهم الاقسام ، ولذا قال سبحانه: «انا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا »(1) اذ صاحب الحق انما يعمل دائماً ، لاجل الهدف لالاجل الشخص و السمعة ، وان اراد السمعة ارادها لذلك ايضاً .

ومع الغض عن الامثلة المشهورة المستقاة من الكتاب والسنة وتاريخ الانبياء والأئمة والصالحين، مما هى متداولة عند كل الناس، نذكر مثا لاواحداً لبقاء الاستشارية ، وزوال ( الاستبدادية ) مما حفظه التاريخ ، وبقيت آثاره الى الان وهو ( حكومتا : اثينا ، واسبارطة) فالاولى كانت ديمقراطية تعمل على تقوية روح الحرية وابراز المواهب الانسانية الفكرية والعملية ، ووضع العدل في نصابه، واستخدام القوة لحفظ الانسان و تقديمه الى الامام، وقد اثمرت تلك الجهود في ولادة دولة ديمقراطية نعمت بالحرية والرفاه ، وتقدم فيها العلم والمعرفة ، وتفتقت فيها المواهب الانسانية ، وصارت نبراساً للانسان ، منذ ذلك الوقت الى هذا اليوم .

واصبحت مدينة اثينا الصغيرة تربة خصبة للعلماء و العلوم، والجهابذة والحكماء والفلاسفة والمفكرين ، صحيح ان في بعضهم كان الانحراف ، لكن الاشواك تسقى لاجل الاوراد ، وأبو سفيان يتنعم بالاسلام لاجل ابي ذر، وقد قال بعض العلماء انه لا يستبعد ان تكون تلك الحضارة مستندة الى بعض الانبياء الذين بعثوا هناك.

وقد قال سبحانه : «وان من امة الاخلافيه نذير»(2) بل قد شخص بعض علماء الغرب نبي ذلك الزمان، باحد الحكماء المعروفين ، وكيف كان فقد تربى تحت ظل الحريات، سقراط و افلاطون و ارسطو آباء الحكمة والفلسفة وفيد ياس الفريد

ص: 320


1- سورة المؤمن / 45
2- سورة فاطر / 22 .

فى عالم الفن و ارخميدس صاحب نظرية العوم في الماء و بر كليس السياسي المشهور وديموستين اشهر رجال الخطابة، وموستو كليس الذى عد من اكبر قادة الجيوش فیذلك اليوم، واشيل وسوفو كل صاحبا القصص التراجيدية ، وارسطفان المبدع في تمثلياته الهزلية ، الى غيرهم ، و قد قال الامام امير المؤمنين (عليه السلام) (فسر في ديارهم و انظر الى آثارهم ).

وهكذا كلما لاحت الحريات وظهرت الاستشاريات تفتقت العبقريات، وفي نهج البلاغة، في فلسفة بعثة الانبياء نجد هذه الجملة الحكمية (ليثيروا لهم دفائن العقول ويروهم الايات المقدرة) وقبل ذلك قال القرآن الحكيم :« يضع عنهم أصرهم والاغلال التي كانت عليهم (1)».

وهذه الظاهرة نجدها في الاسلام بأجلى مظاهرها فمثلا (ایران) كانت بلاد الكبت والارهاب منذ تأسيس الدولة قبل (25) قرناً الى ماقبل (14) قرناً، وحتى ان نبى المجوس قتل ، مع آياته الباهرات - كما روى عن علي عليه السلام - والحكيم المشهور بوذرجمهر صلب عارياً بعد ان سجن مدة مديدة ، في سجن ذى شفرات محددة ، لا يتمكن من الحركة فيه، ولما سيطر عليها الاسلام (عند مقدم الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم)) صارت منطلق العلم والحكمة والنورو كل فنون المعرفة ونبع فيه العلماء العظام ، من كل لون وصنف ، أمثال المحمدين الثلاثة ، والمحمدين الاربعة، وابن سينا ومحمد بن زكريا ، والبهائى ، والصدرا، والفياضين، والنراقيين و شريف العلماء وتلميذه الانصاري ، والمجلسيين ، والداماد ، والفندرسكي ، ونصير الدين الطوسي، والشيرازيين ، وغيرهم ممن هم مفخرة العالم الى اليوم وسيبقون كذلك الى ماشاء الله .

أما (سبارطة) التي اعتمدت الديكتاتورية ، وجعلت تهتم بالسلاح وتقوية

ص: 321


1- سورة الاعراف/156

العضلات وقضت على الحرية والعدالة فذهبت أدراج الرياح وقد تحطمت شر تحطم، ولم يبق منها الاذكرى الاستبداد وكبت الحريات ، وخنق الأصوات، فلاعين منها بقيت ، ولا سمعة طيبة ، ولا هدف يتصاعد ويستضاء به بينما آثار (اثينا) نقلها المسلمون بضميمة ما أضافوا عليها من عبقرياتهم ، وما تعلموها من دينهم الى كل العالم، مما أخذ منهم العالم الصناعي اليوم ، ولذا يسمى المسلمون ب_ ( آباء العلم) كما اعترف بذلك

(راسل) و (لبون) وغيرهما من فلاسفة الغرب والشرق ، مما لسنا بصدد تفصليه الان .

ولابد هنا من اشارة عابرة ، الى ان القوة ليست الالتقويم الباطل، والتوجيه بالفرد والمجتمع الى الطريق المستقيم ، والا فان استعملت القوة في وجه الحق والنيل منه ، كان أخيرها الفشل .

وقد لخص الله سبحانه قوة الباطل أمام الحق في هذه الاية الكريمة: «ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض و نری فرعون وهامان و جنودهما منهم ما كانوا يحذرون » (1)فالحق المجرد عن القوة المادية، لا بدوان يقوى وينمو حتى يأخذ مكان الباطل المزود بالقوة المادية، وينقلب الميزان فالحق يجعل اماماً و وارثا ، والباطل و مستشاره وقدرته يكون مصيره الى الهلاك والجحيم «اغرقوا فادخلو ناراً».(2)

وهكذا كان حال انبياء الله مع المستكبرين، وكذلك رأينا حال الامم المستضعفة مع المستعمرين وعمالهم ، ومن نظر في القرن الحاضر الى أمثال ( بهلوى ، و اتاتورك، وياسين) وغيرهم من أعو ان الباطل وعرف كيف تحطمت امبراطورية اليابان ، وهولندا ، وبريطانيا ، وايطاليا ، وما الى ذلك ، لم يشك في ان الحق هو المنتصر ، وان المستكبر وقوته يندمر ، بما لا يبقى له الا الخزى والشنار.

ص: 322


1- سورة القصص / 4و5 .
2- سورة نوح / 26

البيئة الصالحة ضرورة لاستمرار الديمقراطية

(الامر الرابع) قد عرفت ان النظام الاستشارى خير الانظمة البشرية التي عرفها العالم فى حفظ العدل، واظهار الكفاءات، والتقديم بالامة ومنحها الرخاء والرفاه، والسير بها الى مدارج الرقى والكمال، لكن يجب أن يعرف ان النظام الديمقراطي (الاستشاري) انما يتمكن من العمل على أحسن وجه في البيئة الصالحة، فكلما كانت البيئة اصلح كان النظام اقدر على العمل ، فان الدولة انما تتكون من الامة ، والامة انما تتكون من الأفراد ، وكيف كانت الافراد كانت الدول.

وقدورد ( كيفما تكونوا يولى عليكم )فان الثمرة انما تكون من نحو الشجرة وهل يظهر التفاح من شجرة الحنظل ؟ وهل يعطى العنب شوكا؟ وعلى هذا فاللازم على المصلحين تعاهد الامم، بأفرادها ليكونوا صالحين، بوجود المعاني السامية فيهم من التواضع والايمان، وصحة المواعيد، واحترام الكلمة ، والشورى فى الأمور، وحب الخير للناس، والتعاون والاريحية وتقبيح القبيح وتحسين الحسن، والاتقان، والتضحية والاندفاع وغيرها، وقد قال الشاعر:

و انما الامم الاخلاق ما بقيت*** فان هم ذهبت اخلاقهم ذهبو

نعم للافراد والمنظمات والاحزاب والكتل، أن تختلف في الذوق والعمل والاجتهاد ، لكن ليس لهم الاختلاف والانطواء على المعاني الشريرة، والمؤامرات وتحيين الفرص لنيل بعضهم من بعض وغيرها من أسباب التأخر والانحطاط فكلما كانت الامة بافرادها في الصعود، كانت الديمقراطية (الاستشارية) أحسن واكمل واتقن وأقدر والعكس بالعكس...

وفي التاريخ الحديث فضلا عن التاريخ الغابر) امثلة لهذين النوعين من الامة ، حيث ظهرت فيها الديمقراطية فسقطت بعضها وبقيت بعضها الاخر .

ص: 323

فمثلا العراق ومصر والسودان وباكستان، و ما اشبه از دهرت فيها الديمقراطية ولو في الجملة لكن لما لم يكن كل الشعب آهلا بالمعاني السامية ، لم يمر زمان الاوسقطت فيها تلك الصورة ، و سيطر عليها الديكتاتوريون ، بمعونة الأستعمار الخارجي ، بينما لو كان كل الشعب منطويا على تلك الفضائل ، لم يتقبل الديكتاتور ، ولم يجد عملاء الغرب والشرق سبيلا الى الاطاحة بالديمقراطية -ولو الصورية منها -.

الاستشارية ضمانة تطبيق القانون

(الامر الخامس) الاستشارية (الديمقراطية) و(الديكتاتورية)، امران متقابلان فالحكومة اذا كانت ديكتاتورية لم تكن استشارية ، وبالعكس، والديكتاتورية لها سيان :

(1) السبب الداخلى ، بأن يتسلط على الحكم من لا يحترم ارادة الامة ،مهما جاء لذلك ، باعذار.

(2) السبب الخارجي بأن تستعمر دولة هذه الدولة سواء بالاستعمار العسكري او بسائر انحاء الاستعمار ، فتنصب للحكم ديكتاتوراً يعمل لصالح المستعمر لا لصالح البلد ، ومثل هذا الحكم لا يمكن ان يكون استشارياً ، اذ الاستشارة تنتهي الى خير الامة ، والاستعمار جاء بهذا الحكم لينتهي الى فائدة المستعمر و من هذا يظهران( الدستور الصحيح المعمول به) لا يمكن وجوده في الحكومة الديكتاتورية ، اذ لو وضع الدستور في الحكومة الديكتاتورية- اى الوانها كانت - فلابد وان لايكون صحيحاً ، فان الديكتاتور يقف دون وضع الدستور الصحيح ، مثلا يريد الديكتاتور دوام السلطة له ، أو حتى لورثته ، أو وضع منهاج السياسة أو الاقتصاد ، لينفعه أو ينفع أسياده .

ص: 324

وبهذا لابد له ان يقف امام صحة بنود الدستور ، فاولا يمنع الديكتاتور وضع الدستور صحيحاً...ولو كان الدستور قد وضع صحيحاً(بأن كان قد وضع قبل زمان الديكتاتور ، حيث كان المنهج (صحيحاً ) وقف الديكتاتور دون تطبيق مواده ، أما بالتزييف ، أو بالقوة .

فتطبيق الدستور الصحيح ، والاستشارية وجهان لعملة واحدة ، فاذا رأى المواطن الدستور غير صحيح ، او رأى التطبيق غير صحيح ، علم بوجود الديكتاتورية ، ولزم عليه ان يعمل لاجل تقويضها، لتأخذ مكانها الاستشارية.

الف: والغالب فى العالم السابق ، كون الديكتاتورية داخلية ، ففرعون و نمرود ، ومعاوية ، وهارون ، وعبد الحميد ، ومن اليهم كانوا ديكتاتوريين داخليين ، يريدون كل خيرات البلاد لانفسهم ، فبينما كان في بغداد عشرات الالوف من الذين لا يجدون حتى لقمة الخبز ، كان الخليفة واتباعه ، يتقيئون الغذاء ، ليأكلوا ما يشتهون ، مرة أخرى ، وكان يفرش في قصر عبد الحميد سبعمأة مائدة لسبعمأة زوجة وحظية ، والى غير ذلك .

وقد كان الدستور في عهد فرعون و نمرود غير صحيح حيث ان الدستور كان رأى الديكتاتور ... بينما كان التطبيق ، في زمن بني امية وبني العباس والعثمانيين غير صحيح ، اذ الدستور كان الاسلام ، والاسلام منهاج مستقيم، وانما حرف تطبيقه الحكام ، فكان معاوية ملكا ، وينصب من بعده الملك ، ولا مكان للامة والاستشارة ، التي أمر بها الاسلام فى أى من العهدين وجاءهارون الى الحكم بالوراثة ، واعطى عهده للامين والمأمون والمعتصم وكأن الحكم ملكا له ولا ولاده ، كل ذلك فى الوقت الذي يقتل في ليلة واحدة ستين علوياً ممن يطالبون بتطبيق الدستور الاسلامي ، ويلقى بجثثهم فى حفائر بلا غسل و لاصلاة ولا مراسيم .

ص: 325

وقد كان من اسباب بقاء الصليبيين في فلسطين، اخطاء صلاح الدين الايوبي، حيث ان الدكتاتورية التي سيطرت عليه ، بضربه الاستشارية عرض الحائط ، سببت تقسيم مصر وسوريا الى مدينتين ، وبذلك ضعفت المقاومة الاسلامية للصلية.

ثم اشعل نار الطائفية مما جزء سوريا الى قسمين أيضاً، واحرق المكتبات وقتل العلماء وطاردهم ، ولما ضعفت الجبهة الداخلية ، لم يتمكن من مقاومة الصليبيين فاضطر الى مهادنتهم ولم يكتف بهذا بل قسم البلاد من بعده بين ابنائه ، كأنه ارث ورثه من ابيه ولذا بقى الصليبيون في البلاد ( باستثناء بعض ما استرجعه منهم) في زمانه ، وبعد زمانه عندما انقسمت البلاد اكثر فاكثر بين اولاده .

ب: بينما الغالب في زماننا ، كون الديكتاتورية في البلاد الضعيفة خارجية حيث ان الدول القوية ، يأتي بالحكام الديكتاتوريين ، او يحالف من كان منهم موجوداً، لاستخدامهم في مصالح المستعمر ، فيصبح كل واحد من الحكام عبداً للاجنبي وسيداً ديكتاتوراً على الامة، وبذلك تسام الامة الخسف المضاعف ، والذل المكرر (اسد عليّ وفي الحروب نعامة فتخاء تنفر من صفير الصافر).

والامثلة لذلك في العصر الحديث كثيرة، فقد جاء البريطانيون بالبهلوى الاول، فجعل بلاد ايران طعمة لنفسة ولهم يعيث فيها ماشاء من الفساد قتلا وسلباً ونهباً وسرقة، ثم نصب من بعده ولده ولياً للعهد فلم يترك حرمة لله سبحانه الا انتهكها، ولما ارادت الامة اسقاطه قبل ربع قرن ارجعه الامريكان الى اريكة الحكم وفعل ما فعل في قصص مشهورة .

فمثل : بينما كان نصف اطفال ايران يموتون من جهة عدم وجود الدواء وسوء التغذية - حسب الاحصاءات الدقيقة - سرق هو وحده (مع الغض عما سرقه آل بهلوی من اخوانه واخواته و ...) زهاء خمسين ملياراً من الدولارات

ص: 326

-حسب احصاء بعض الصحف-.

ان من الطبيعي ان تصطدم أهواء الديكتاتور مع مصالح البلاد ، كما ان من الطبيعى ان تصطدم رغبات المستعمر مع مصالح الامة، واذا اجتمع الامران (الديكتاتورية والاستعمار) فالويل للبلاد ، اذ لا يكتفى المستعمرون حينذاك بالاقتصاد والسياسة، بل يكون ههم اذلال الامة وافراغ حقدهم.

فعبد الناصر الذي جاء به الامريكيون، كان من جملة تعذيباته انه كان يربى الكلاب الوحشية، ويتركها جائعة ، ليسلطها على السجناء، وينقل ان بوكاسا ، كان يحشى بطن الميت بالاطعمة، ويجعله في الافران، ثم يتغذى به هو واصحابه، وصدام كان يشرب من دم ضحيته (حيث ان كاهنه قال له انه يقوى القلب، وانه بحاجة الى قوة القلب) وعيدى امين ، كان يعبث بجثث الضحايا بمشرطه ليفرغ حقده ، ثم يغرق فى ضحك هستيرى ، وهؤلاء الثلاثة كانوا من عملاء بريطانيا واسرائيل، وقصص احقاد عملاء الروس في افغانستان والجمهوريات الاسلامية المستعمرة - بالفتح - وعملاء (ماو) مشهورة غنية عن الذكر.

فالدستور الصحيح هو الجسد و الاستقلال (الاستشارية) هو الروح فاذا حرمت امة استشاريتها واستقلالها، ونكبت بالديكتاتور مع الاحتلال أو بدونه - أصبح الدستور الصحيح في خبر كان ، واذا كتب - فرضاً - كان حبراً على ورق ، وصارت الحريات اسماً بلا مسمى، ويكون للديكتاتور وأسياده ، كل الرغائب بيمنا الامة لهم العرق والجوع والسجون والمشانق .

الحرية بحاجة الى ضوابط

(الامر السادس) الاستقلال والحرية متلازمان ، اذ كل مستقل حر ، وك-ل حر مستقل ، اذ لا يمكن ان تجتمع ارادتان متعارضتان على شخص واحد ، أو

ص: 327

أمة واحدة ، فاذا كانت الارادة النافذة في انسان او امة، ارادة غيره ، لم تكن ارادة نفسه نافذة ، وبذلك فلا حرية ولا استقلال ، وبالعكس اذا كان الفرد والامة صاحب الارادة ، لم تكن ارادة اجنبية نافذة فيه، فتحرير الانسان يعني تحرير ارادته . . .

والحرية الصحيحة (الاستقلال) في الامة ، بحاجة الى اطارات وضوابط والا انقلبت الحرية فوضى ، او عبودية ، فان الحرية هى الخط الفاصل بين

الامرين، وطرفاها الافراط والتفريط . . . والضوابط والاطارات نفسية وخارجية فالانسان يجب ان يبنى على الضوابط ، كالشورى والوفاء بالوعد ، والاستقامة والاتقان والتعاون وما اشبه ، والا اخذت الانانية والاثرة مكان كل ذلك .

وبهما يحصل التضارب حيث يصل الامر الى الفوضى، أو الى تسلط بعض الافراد على بعض حيث الديكاتورية فلاحرية ولا استقلال - سواء لوحظ ذلك في سطح الامة ، او في سطح الافراد - .

والى هذا يشير ما في الحديث الشريف (اذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نزعت عنهم البركات وسلط بعضهم على بعض) فان(المعروف) عبارة عن الضوابط والمنكر عبارة عن (عدم الضوابط) فان لم يكن معروف، وكان منكركان معنى ذلك انهدام الضوابط ، واذا انهدمت ، انجر الامر الى الفوضى ، والفوضى تنتهى الى تسلط الاقوى (الديكتاتور) وحيث لا تعاون حينذاك ، لا بركة بالاضافة الى ان الديكتاتور ينهب الخيرات ، فلا يدع البركة ، وقد ذكرنا في كتاب الفقه : الاقتصاد) مسألة البركة .

ثم ان معنى جعل الضوابط الخارجية للحرية - وقاية لها عن الانحراف وانماءاً لها الى الحدود الممكنة -.

(1) وضع القانون الكفيل بحدود الحرية ، فلا تتعدى الحرية حدودها

ص: 328

المعقولة ، ولا تتقلص الحرية عن حدودها المعقولة .

(2) تطبيق القانون على الخارج، فيكون الخارج وعاءاً للحرية ، فلها اوعية منطبقة لاضيقة ولا مهلهة ، ولنمثل للامرين ب_ (حرية ابداء الرأى لساناً قلماً وافلاماً ) فاللازم اولا ، ان يحدد القانون كمية وكيفية تلك الحرية ؟ فهل حرية في ابداء العقيدة ؟ في ابداء الاراء السياسية ؟ فى ابداء الاراء الاقتصادية ؟ في ابدء الاراء الاجتماعية ؟ وهكذا ثم الحرية فی كل ذلك (مثلا) هل بكيفية خاصة من الايجابية فقط (با بداء الرأى) أو بالسلبية ايضاً (بنقد الاراء المخالفة) ولو حدد القانون جواز النقد، فهل نقد الاذعاً أو نقداً ملائما ؟ الى غير ذلك من حدود الكم والكيف ؟ .

اوعية الحرية

هذا بالنسبة الى تحديد القانون ، ثم ياتى بعد ذلك دور الخارج بتكوين الاوعية الخارجية لهذه الحريات القانونية.

والاوعية ، هى (الاعلام): الصحف، الراديو ، التلفزيون، وما اشبه ذلك و (الهيئآت): الاحزاب، الجمعيات الكتل المنظمات، و(المعاهد) : المدارس الكليات ، الجامعات، و(مراكز الاشعاع الثقافي): المكتبات ، الكتب، الافلام، والنوادي، الى غير ذلك .

فان هذه هي التي ترعى القانون، وتحفظه عن خطر الديكتاتوريين ، كما تحفظه عن خطر الفوضى والترجرج .

ثم اللازم أن يكون كل ذلك بنسبة معقولة، تستوعب كمية الحرية وكيفيتها بلازيادة (فتكون هدراً )ولا نقصان (فتكون فوضى أو ديكتاتورية) حال ذلك حال المدرسة والطلاب ، فاذا لم تكن المدرسة بقدر الطلاب، بقى فائض الطلاب

ص: 329

بدون تثقيف ، واذا كانت اكثر منهم ، كان الزائد هدراً .

بقى : ان أوعية الحرية ، لا بدلها من (مال) يمدها، اذ لا يمكن بقاء المؤسسات بدون الأموال الكافية ، ومن (قوة) تمنع خصومها من الاعتداء عليها ، وقد ورد عن رسول الله صلى عليه و آله وسلم قوله (لولامال خديجة وسيف علي عليه السلام)وفى الايات المباركات «اتوا الزكاة »(1)و «اعدوا لهم ما استطعتم من قوة ».(2)

ثم لا يخفى ان أوعية الحرية ، كما تحفظ الحرية ، تنمي الحرية اذ كل من الحرية والديكتاتورية ، قابلة للنمو ، كالاشجار القابلة لها ، مثلا المستبد ، يحدد اسفار الناس ، ثم بنائهم للعمارات ، ثم كتابتهم ، ثم ابدائهم للاراء ، ثم مداخلهم المال ، ثم مصارفهم له ، الى غير ذلك ، وبالعكس اوعية الحرية تحررهم عن الضرائب الباهضة ، وعن قيود سفرهم وحضرهم ، وزواجهم وبنائهم ، وغير ذلك ...

ولذا كان من الضروري في الحكومات (الاستشارية) وجود كتلة في(مجلس الامة) التحرير ، شأنها سن القوانين المحررة تدريجياً ...وذلك بالاضافة الى انه عمل انساني يحكم به العقل هو امر شرعي واجب لقاعدة الناس مسلطون على اموالهم وأنفسهم ، فكل سلب لحرية من حرياتهم ، اسقاط لجانب من التسلط على انفسهم وأموالهم ، فهو منكر تجب ازالته ، ولقاعدة لايتوى حق امرء مسلم ، ولان العقل اذا حكم فقد حكم به الشرع لتلازمهما في سلسلة العلل -كما قرر فى الاصول الى غير ذلك من الادلة .

نعم لو دخل هذا في باب الترفيه ، على الامة ولم يكن عنوان ثانوي يوجبه- كان مستحباً ، فمثلا جعل الطرق وتنظيم المرور ، بحيث لا يكون فيها وقوف ولو لحظة ، مما يعطي حرية السير السريع ترفيه مستحب .

ومثل الكلام في المسائل السياسية (الحرية) الكلام في المسائل الاقتصادية

ص: 330


1- سورة البقرة / 40
2- سورة الانفال/ 62

وغيرها فأن اللازم ان تكون كتلة برلمانية لاجل تخفيض الاسعار على المستهلك فأنه ان كان الغلاء اجحاناً ، كان واجباً ، والاكان ترفيهاً مستحباً، قال سبحانه : «يريد الله بكم اليسر »(1) وفى الحديث ( من نفس عن مؤمن كربة ...) .

وفي حديث آخر (احب لغيرك ما تحب لنفسك الى غير ذلك... وفي بعض الحكومات الديمقراطية ، كلما اجتمعت اللجنة الخاصة بتخفيض الاسعار ، استبشر الشعب ، لكن لا يخفى ان اللازم في باب التخفيض ، ملاحظة الاهم والمهم من بقاء الاسعار وتخفيضها.

فقد ذكرنا في كتاب (الفقه : الاقتصاد) آراء الاقتصاديين في (تثبيت الاسعار) و( تخفيضها تدريجياً ) و ( ترفيعها تدريجياً ) فالمسألة في ما نحن فيه مبنية على تلك المسألة .

يبقى الكلام في مسألة فسح المجال أمام الحريات ، وجعل الضوابط الحافظة والمنمية لها ، فان هناك امراً ،آخر وهو ان الحرية قد توجد بايجاد موضوعها فاذا لم يكن الموضوع كان عدمها من باب السالبة بانتفاء الموضوع مثلا : حرية ابداء لرأي بواسطة المذياع ، لم يكن لها موضوع قبل اختراع المذياع ، وحرية السفر بالطائرة لم يكن لها موضوع قبل اختراع الطائرة وهكذا وهكذا ، فقبل الالة لا معنى للحرية ، وبعدها لاوجه لكبتها ، وايجاد الموضوع لها يكون مستحباً ، لانه نوع من التيسير والترفيه وما أشبه ، وأن كان قد يكون واجباً او حراماً ، لامر ثانوي .

القومية ام الكفائة ؟

(الامر السابع) القومية في الحكم تقابل الانسانية بكل معنى الكلمة - لان القومية ترى تقدم القوم ، ولا تعتني بالكفائة ، بينما الانسانية لاتقدم الا

ص: 331


1- سورة البقرة / 181 .

الكفائة ، ولذا كانت القومية حتى في الفرد - نوعاً من القوقعة والانغلاق ، والانحطاط الى الاسوء ، فاذا طبيبان أحدهما افهم لكنه ليس من القوم، والآخر اقل فهماً لكنه من القوم ، قدم القومى الثاني على الاول وهكذا في كل الامور الى ان يصل الى الحكم ، بينما المعيار عند غير القومى الكفائة.

وقد قال سبحانه :«وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم » (1)بينما قال الشاعر القومي :

سلام على كفر يوحد بيننا *** واهلا وسهلا بعده بجهنم

وهل الخير يكون بعده جهنم ؟ الا اذا انبتت شجرة البرتقال حنظلا؟ أليس ما يكون بعده جهنم نواة لجهنم ؟ ثم هل الكفر يوحد او يفرق ؟ ان الكفرانانية والانانية فرقة دائماً، بينما الايمان تواضع وتحرى للحقيقة والتواضع وتحرى الحقيقة سبب التجمع.

ولذا قال سبحانه :« وان هذه امتكم امة واحدة وانا ربكم»(2) .

وقال سبحانه: « علا في الارض وجعل اهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم ذبح ابنائهم ويستحي نسائهم».(3)

وبقدر تأصل النظام القومي في بلد ، يكون التأخر بكل اسبابه ، فان من ول القوم أفضل من غيره ، لابد وان يقول القطر افضل من غيرها ، والبلد أفضل من ره و المحلة افضل من غيرها، والدار أفضل من غيره وهو بنفسه افضل من ئر عائلته ، فان الحكماء يقولون( حكم الامثال فيما يجوز وفيما لا يجوز حد) وقد رأينا كيف أن القوميات الضيقة جنت على البلاد القومية ومن اوضح الامثلة لذلك ( القومية العربية) فهي يوم تحكمت في الجزيرة بية قبل بزوغ شمس الاسلام كانت من اسوء أسباب الجهل والتأخر فرقة حتى أوصلتهم الى ماقالته الصديقة الطاهرة سلام الله عليها

( كنتم تشربون ق وتقتادون القد والورق اذلة خاسئين).

ص: 332


1- سورة الحجرات / 14
2- سورة الانبياء / 92
3- سورة القصص / 3 .

ثم وحدهم كما وحد غيرهم معهم الاسلام الى ان جاء الغرب بالقومية مرة ثانية الى البلاد العربية في غياب من التعقل والادراك واذا بنفس الحالة تعاد الى البلاد ، فصاروا اذلة خاسئين تدمعهم حتى اذل الامم والذين قال الله عنهم : «ضربت عليهم الذلة والمسكنة».(1)

ولذا كان الواجب ان يكون الحكم انسانياً ، حتى وان لم يكن اسلامياً (لكنا نعتقد ان الانسانية لا يمكن وجودها الا بالاسلامية) ولقد اخطاء القوميون من المسلمين سواء بالنسبة الى القومية العربية ، أو سائر القوميات - حيث تحطمت الامبراطورية العثمانية بسبب تمسكها بالقومية التركية كما تحطمت غيرها بمثل هذا أيضاً - حيث رأوا الغرب تقدم باسم القومية ، فلم يعرفوا ان القومية الغربية كانت تحطيماً للسجن الاصغر الى السجن الاكبر ، بينما كانت القومية العربية ، او التركية ، أو الفارسية ، أو غيرها تحطيماً للحرية الى العبودية ...

ان البلاد الغربية كانت يحكمها الباب فى أسلوب ديكتاتورى فردى يجمع بين أصابعه مقدرات الناس ديناً ودنياً وحيث لم يكن الغرب يعرف

(الانسانية) فى الحكم اراد تحطيم الديكتاتورية الفردية الى القومية ، لانها اوسع دائرة وهكذا نبتت القومية الغربية فى منبت الجهل بالانسانية ، بينما العرب الذين قلدوا الغرب ( وغير العرب من سائر المسلمين القوميين !) حطموا الانسانية ( المتمثلة فى الاسلام ) الى القومية الضيقة.

فأن الحكم قد يتقمص :

(1)( الالهية ) المزيفة كما كان يفعله الباب ، يحكم باسم الاله ، فينهب ما يشاء ويقتل من يشاء ، ويفعل ما يشاء، و (باستيل) و (حروب الكثلكة) و (محاكم التفتيش ) وعشرات الامثلة غيرها من أوضح الشواهد لذلك.

ص: 333


1- سورة البقرة / 58

(2) وقد يكون الحكم ( شعبياً ) اى يكون الشعب مصدر السلطات وبهذا يخرج الحكم عن الفردية ، الى الشعبية ، فلا تكون الديكتاتورية المسماة بالالهية .

(3) وقد يكون الحاكم (ديكتاتورياً زمنياً فردياً )كالملك أو جماعياً كحكومة الاشراف ، أوقومياً والقومية فى الحكم نوع من الديكتاتورية ، لان الحكم ينحصر في دائرة القوم ، واليس كل انحصار ضد الكفائه ؟ .

(4) بينما الاسلام جاء بالحكم الذي يجمع فيه (رضى الله ورضى الامة ) فهو انساني صرف اكثر من الانسان الذي لا يلاحظ فيه الاطار الالهي(المستفاد من الكتاب والسنة) فارادة الانسان بما هو انسان هي سيدة الموقف في اطار ارادة الله سبحانه ، فاذا كان فقيهان المدنيا والدين ، عادلان كفؤان للحكم ، كان الامة ان تختار احدهما ، وأين هذا من الحكم القومي الضيق المصادم للكفائة بله الالهية المزيفة ؟ .

كيف يكون الحكم الهياً ؟

ومعنى كون الحكم مرضياً لله (بالاضافة الى انتخاب الناس) أمران :

(الاول) ان يكون الحاكم ممن يرضاه الله سبحانه ، بأن يكون فقيهاً ، صائناً لنفسه ، حافظاً لدينه ، مخالفاً لهواه ، مطيع الامر مولاه ، فان الصائن لنفسه بأن لايأتى بالمحرمات ، والمطيع بأن يأتى بالأوامر ، والمخالف لهواه بأن لا يتطلب المحرم - نفسيا - والحافظ لدينه بأن تقف نفسه على الواجب - فالاربعة المذكورة اثنان منها تذكر الاعمال ايجابيا وسلبياً، واثنان منها تذكر صفة النفس سلبية وايجابية ، والصفات النفسية وان لم تكن ذات تأثير في الطاعة والعصيان (في غير مثل الكفر والايمان) .

ص: 334

كما قرره الشيخ في الرسائل وغيره في غيره، الا ان العدالة حيث كانت (ملكة) كما ذهب اليه المشهور من المتأخرين لقوله(عليه السلام)(ان يعرف بالستر والعفاف ولغيره ، كانت لها مدخليه في خلافة النبي صلى الله عليه و آله وسلم والامام عليه السلام ، حيث قال صلى الله عليه و آله وسلم (اللهم ارحم خلفائى) وقال (عليه السلام) (اما الحوادث الواقعة) الى غير ذلك .

(الثاني) ان يؤخذ القانون من الادلة الاربعة، ومن الواضح ان الحكم الذى وضعه الله سبحانه خير من حكم البشر من جهة :

(الف) عدم تأثير الظروف والاهواء في الاول بخلاف الثاني .

(ب) ومن جهة علم الله سبحانه بما يصلح البشر ، وجهل المشرعين مهما كانوا نزيهين ومعتدلين .

(ج) ومن جهة ان الحكم المستند الى الله يوجب اطمينان الانسان في الاستناد اليه بخلاف الحكم الموضوع من قبل البشر ، حيث لايصلح للاستناد، فان كل شيء من الخلق والامر لابد وان ينتهى الى ما بالذات والاكان ورائه شیء .

ولذا قال سبحانه : «له الخلق والامر» (1)وقال سبحانه :« وان الى ربك المنتهى»(2) ولنفرض ان اغلبية المجلس ( في الحكم الديمقراطى) وضعت قانوناً ، بكل نزاه ، فهل الاقلية الذين هم نواب الملايين مثلا ، المخالفون لذلك القانون ، يعتمدون عليه واذا لم يعتمد عليه اولئك - نفسيا - فهل مثل هذا القانون يكون مبعث رضا الجماهير؟ وحيث لا اعتماد عليه عند أقلية الجماهير ؟ لايهمهم خرق القانون .

وهذه هى من مشاكل القانون الذى تحير فيه عقلاء الغرب ؟ ولا يجدون له حلا وقد رأى الغرب ان اهم ما يتمكن به من تمزيق اوصال البلاد الاسلامية ،

ص: 335


1- سورة الاعراف/52
2- سورة النجم / 43

ونهب خيراتهم، واستبعاد ،اهلها ان يفرقها بالقوميات ، والاقليميات، واللغات وان يضع القانون الوضعى مكان القانون الالهى ، وان يوصل الى الحكم عملائه الذين يطيعون أوامره في ضرب الاسلام والمسلمين . ولقد قال (غلاد) (ستون) مادام القرآن قانون بلاد الاسلام ، والعلماء مسيطرين على الامة ، والكعبة محل اجتماعهم، لا تستقر ارجل بريطانيا في بلاد الاسلام قالواله وهل نحرق القرآن،ونقتل العلماء، ونهدم الكعبة ؟ قال : لا ، قالوا فماذا نفعل ؟قال ضعوا القانون مكان القرآن، وفرقوا بين الدين والدولة ، وارموا العلماء بما يفرق الشعب عن حولهم ، واجعلوا الكعبة محل ظهور خلافاتهم ، حتى تكون مبعثاً للتفرقة بدل كونها مبعثاً للتأليف ...

وهكذا فعل الغربيون كما أوصى ، ومطالعة كتاب( الغارة على العالم الاسلامي) و (مذكرات المس بل) و (التبشير والاستعمار) و (مذكرات كينياز) و (مذکرات مستر همفر وعشرات الكتب الاخر ، تدل على هذه الحقيقة المرة .

هذا بالاضافة الى ما رآه المسلمون في هذا القرن من تطبيق تلك المبادىء الغلادستونية .

(1) من احياء القوميات ، في بلاد العرب ، والهند ، وتركيا، وافغانستان و ایران ، واندونيسيا ، وغيرها وغيرها .

(2) ومن فصل الدين عن الدولة ، ليأخذ مكانه القانون الوضعي ، حيث صار لكل بلد قانون ، خلاف القانون في البلد الاخر امعانا في التفرقة ، مثلا أخذ القانون في ايران (العهد الملكي)من (بلجيكا)، وفي العراق من (بريطانيا) وهكذا .

(3) ومن احياء الاقليميات، فلكل بلد حدود وكل مسلم في غير بلده اجنبي بينما الكافر وطني اهلي .

ص: 336

(4) والعلماء حوربوا جهراً كما حاربهم البهلويان . واتاتورك، وناصر ، والمسيطرون على الحكم فى بغدادهم اتباع ( دروزة) والحوراني ، وعفلق ، وفهد ، ومن اليهم : من الصليبيين والصهيونيين والشيوعيين ، وفروعهم .

(5) كما اوجدوا في الحجاز عائلة سعود والوهابية ، فصار الحج مركز تكفير المسلمين ، وتفريق كلمتهم ، وايجاد الشقاق بين فئاتهم ، الى غير ذلك مما لسنا بصدده في هذا الكتاب .

الحروب الفردية والحروب الهدفية

(الامر الثامن) كانت الحروب في الزمان السابق ، حروب الافراد غالباً سواء كانت حروب الملوك الديكتاتوريبين أو حروب الزيجات ، او الحروب الدينية المزينة ، حيث ان الباب يريد الاستئثار بالسلطة ، فيشعل نار الحرب لاجل السيطرة على اكثر ما يقدر من البلاد والعباد.

و اما حروب القبائل في الجاهلية ونحوها للاطماع ، فقد كانت حروباً اطماعية، اشبه بالحروب الفردية، لان شيخ القبيلة كان المقرر للحرب، وقد كانت حروب الصليبيين للبلاد الاسلامية ، وحروب المغول كلها حروباً ذات شعارات دينية و اهداف دنيوية تقمصت لباس الدين للاطماع الدنيوية فان المغول وان كانوا وتنيين ، الا أن المحرك لهم كانت المسيحية ، كما ثبت في التاريخ، ولذا كانوا يهدمون المساجد ويبنون مكانها الكنائس.

ولولا الشيخ الجليل نصير الدين الطوسى لم يبق للاسلام اثر كبير (لااقل في ذلك الزمان) فقد رأى ان السيل جارف ، ومن الممكن ان يزمه بمسايرته وهكذا فعل، وكان من اثر ذلك :

ان طلب من الملك ان ينظر في النجوم ليرى كيف يتغلب الملك على الاعداء

ص: 337

(وذلك بعد ان اطمأن الملك بصدقه لان الشيخ اظهر له عدة أعمال جليلة، امثال تبريد غرفة الملك بواسطة نوع خاص من الشوك واسكات نقيق الضفادع بواسطة امعاء البقر وغير ذلك مما ذكر في التواريخ المفصلة) ولما قبل منه الملك قال له ، ان ذلك بحاجة الى الكتب والاوقاف والعلماء ، ولذا من منح الملك اياه ان يحفظ مايشاء فجمع حول نفسه علماء كثيرين نجاهم من القتل ، وكتباً بلغت زهاء اربعمأة الف، وحفظ اوقافاً كثيرة، باسم أن تكون مادة لاستخراج الفلكيات حيث بنى مرصد (مراغة) المشهور ، وهكذا حفظ علماء وعتبات النجف وكربلاء والحلة وغيرهم.

اما اتهام بعض المتعصبين لابن العلقمي والطوسى بالتآمر مع الملك إنتقاماً من السنة، فليس ذلك الاكذباً صريحاً، يفضحه ان الشيعة في بغداد كالسنة كلاهما اصابهما اعصار المغول ، كما يفضحه ان الطوس حفظ علماء الطرفين وكتبهما و اوقافهما ، وفي المثل( ما اسهل كيل التهم، واصعب اقامة الدليل على ذلك) .

الحروب الاسلامية كانت دفاعية

اما الحروب الاسلامية في زمان الرسول صلى الله عليه و آله وسلم فقد كانت دفاعية، باجمعها ، كما ذكرنا ذلك في كتاب (في ظل الاسلام) فان الجهاد الابتدائي، وان كان جائزاً ، فى سبيل الله والمستضعفين الا ان الرسول (صلى الله عليه و آله وسلم) اراد اتمام الحجة بعد ان كان يعلم انه لابد من الاصطدام ، فما افضل ان يبدئها الكفار ؟ وبنفس هذه الفلسفة لم يبدء على والحسن والحسين عليهم السلام حروبهم في الجمل وصفين والنهروان وكربلاء وغيرها ، مع انه كان لهم البدء بالحرب.

و من نظر الى كتاب( الدعوة الى الاسلام) وهو تأليف لبعض المسيحيين،

ص: 338

يرى كيف ان الاسلام دخل اغلب البلاد بدون حرب ، واذا كانت حرب ، كان الاكثر تعدى غير المسلمين على المسلمين ،اولا فان من طبيعة الاسلام السلام ، فان من اسامى الله (السلام) وتحية المسلم (السلام) وليلة القدر فى كل سنة (سلام هى)(1) وقد قال سبحانه :« ادخلوا في السلم كافه » (2)وقد المعنا الى بعض ذلك فی كتاب (كيف انتشر الاسلام )؟ .

وبهذه المناسبة - في الحروب الدينية والاطماعية وما اشبه، مما تأخذ بالاخرة طابع الفردية - تذكر حروب اروبا للامبراطورية العثمانية، وحروب العثمانيين لبلاد ،ایران وحروب روسيا القيصرية من طرف الشمال والشرق والحروب التي مزقت أوصال الامارات الالمانية والممالك الاروبية، وحروب الكثلكة ضد البرتستانيتة ، وكفاح رجال الدين المسيحى ، امثال (ایراسمس) و ( لوثر ) و (كالفن )للاصلاح ضد الباب، الى غير ذلك .

ثم تطور الباعث للحروب من الفردية الى الامة، حيث اصبحت الحروب الفردية ، باسم الدين والملوك والزيجات في خبر كان ، وصارت الحروب استعمارية تخوضها الامة المستعمرة من جانب، والبلاد التي تريد استقلالها من جانب آخر، والامثلة عليها كثيرة أمثال حروب بريطانيا ضد الصين ، وضد ،العراق، حيث قتلوا في الأولى عشرين ملیون انسان فیما سمى بحرب الافيون - وفي الثانية مأتى ألف انسان ( من ثلاثة ملايين عراقيين ) ويلحق بذلك قتل البريطانيين زهاء خمسة ملايين من الهنود ، في ثورتهم اللاعنفية للاستقلال - بزعامة غاندى والجناح - حيث قتلوا قسماً من هؤلاء تجويعاً ، وقسماً في السجون، وقسماً عند انفصال باكستان عن الهند .

ومن هذا القبيل كانت حروب (بونابرت) وحروب تحرير امريكا الشمالية من انكلترا، وامريكا اللاتينية من اسبانيا والبرتغال، وحرب الترنسفال، وحروب

ص: 339


1- سورة القدر/5 .
2- سورة البقرة / 204 .

البلقان، وحرب الريف في بلاد المغرب ضد فرنسا واسبانيا ، وحروب جنوب شرق آسيا ، وكفاح البلاد الافريقية ، وحروب البلاد الاسلامية مع اسرائيل ،الى غير ذلك، حيث بدء المستعمرون بالحرب لاجل السيطرة، أو بدئتها الدول التي وقعت تحت الاحتلال.

وقد امتدت هذه الحروب حتى الان في اطراف فلسطين المحتلة ، وفي ارتريا ، والفليبين ، كما تجددت فى افغانستان حيث غزتها الروس ، كما غزت الروس من ذى قبل( الجمهوريات الست الاسلامية ، والحكومات اللامركزية الإسلامية السبع عشرة).

كما ان بعض الحروب كانت بين دولتين ،استعماريتين، لان كلا منهما يريد الاستعمار، واستغلال موارد بلاد الاخر كما في الحرب العالمية الاولى، والحرب العالمية الثانية ، حيث سبقهما اشتداد التنافس الاقتصادى و نحوه بين كبريات امبراطوريات الغرب الصناعية ، وتسابقهما في سبيل السيادة على مسالك البر و البحر ، للسيطرة على الشعوب واستغلال اكبر قدر ممكن من موارد البلاد ، و لذا اطلق عليهما (الحرب الاستعمارية) ... ومنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، الى سنة ثمانين (م) :

تحدث في كل شهر ونصف، حرب او ثورة او انقلاب صغير أو كبير ، ووراء الكل مطامع الشرق والغرب .

و الحاصل ان الحروب (غير التحريرية : امثال حروب الشعوب المستضعفة، والحروب الاسلامية الدفاعية، والانقاذية) ربما كانت فردية من ملك يريد السيطرة، او - باب - يريد الاستغلال اوزوجة تريد فرض الرأى، اوما اشبه، وربما كانت جماعية، لاجل الاقتصاد، او توسيع رقعة السيادة، اوغير ذلك ...

والقسم الأول كان الطابع العام للحروب السابقة ، كما ان القسم الثاني ،

ص: 340

هو الطابع العام للحروب الحاضرة . . . وهذا القسم من الحروب تنطلق من المنطلق (السياسي الاقتصادى) [لانهما وجهان لعملة واحدة] وتنتهيان الى المنتهى السياسي الاقتصادي ، ايضاً .

الدولة وتنظيم الحياة الاقتصادية

(الامر التاسع) كان للاقتصاد، ولايزال الدور الفعال في حياة الافرادو الامم، وقد ورد في الاسلام : (من لامعاش له ، لامعادله) و (الفقر سواد الوجه في الدارين) و (كاد الفقران يكون كفراً) .

أما قوله (صلى الله عليه و آله وسلم) : (الفقر فخری) فالظاهر ارادته صلى الله عليه و آله وسلمانه ،فخره، حيث انه كان قائداً، والقائد اذاكان فقيراً كان سلوة الفقراء، ولذا قال علي( عليه السلام) (لئلا يتبيغ الفقير بفقره) بالاضافة الى ايجابه التفاف الناس حوله أكثر ، لانهم يعرفونه مخلصاً ، ولكي يتخذه (صلى الله عليه و آله وسلم) القادة اسوة فانهم اذا كانوا فقراء معورين عرفوا ما يعانيه الفقراء، مما يحثهم على العمل لمصلحة الشعب أكثر ، فان الجائع يعرف ألم الجائع.

أما الشبعان فهو يعيش في قصر عاجي فلا يعرف مشاكل سكنة الاكواخ (وقيل غير ذلك في معنى الحديث المتقدم ، مما لسنا بصدده) .

والدولة مكلفة بتنظيم اقتصاد الناس، بحيث يكون لكل فرد الرفاه - بما للرفاه من شمول في المعنى - وقد ذهبت المذاهب الاقتصادية الى أنواع خاصة من تنظيم الاقتصاد، لكن كلها ابدى فشله حيث لم يعالج اي منها مشكلة التأخر الاقتصادي بالنسبة الى أغلبية الامة، فالرأسمالية بكلاقسميها (الرأسمالية الغربية، حيث ان المال بيد التجار ، وأغلبية الشعب يعيش دون الرفاه ، أو البؤس ،والرأسمالية الشرقية، حيث ان المال بيد الطبقة الرفيعة من الحزب الشيوعي،

ص: 341

وكل الشعب يعيش البؤس ) ، والاشتراكية ، والتوزيعية - وهما مزيجان من قسمى الرأسمالية - كلها لم تحل المشكلة الاقتصادية (كما فصلنا ذلك في كتاب الاقتصاد : الفقه)

الاسلام والمشكلة الاقتصادية

والاسلام هو المبدء الوحيد الذي تمكن من حل المشكلة الاقتصادية ، حيث أباح الاتجار والمضاربة والميراث والملكية الفردية من ناحية ، وحدد ذلك بأن يكون المصدر حلالا، والمصرف حلالا وان لايكون اجحاف و اضرار، وان يعطي الحق فى المال على تفصيل ذكرناه في

(كتاب الاقتصاد) ولازم كل ذلك التحفظ على الحرية الاقتصادية من ناحية.

وعلى عدم طغيان المال من ناحية ثانية، فليس موقف الدستور الاسلامي من الاقتصاد موقفاً سلبياً ، بل إنه قد عين بكل دقة المنهج الاقتصادى السليم . كما انه تبعاً لذلك ليس موقف الحكومة موقفاً سلبياً، فاللازم ان تراعي الدولة تطبيق الدستور في الحياة الخارجية ، ولم يكن الاسلام في يوم من الايام ، مثل الشرق والغرب، سواء في السابق اوفي الحال، أما في السابق، فكانت دول العالم (غير المسلمة )تصب جهودها على شئون الجيش والقضاء والامن، ولا شأن لها بالاقتصاد لافي أصله ولاعند الازمات ، كما لم تكن تهتم بالبطالة والاسواق والغلاء والقحط وما أشبه.

وأما في الحال الحاضر ، فالدول الغربية تهتم باقتصاد الرأسماليين ، أما سائر الشعب (وهم الاكثرية الكاسحة) فغاية اهتمام الدولة لها ، رعاية بعض شئونها الاقتصادية، مما هو أقل من الرفاه ، وتحت ظل مثل هذه الدول يعيش كثير من الشعب في حالة البؤس . . . والدول الشرقية ، الشعب عندها أقل من

ص: 342

الاغنام (بل الفرد حاله حال آلة في معمل كبير قيمته قيمة الجماد ) ولذا فالبؤس والعوز والمرض هي الحالة العامة - كما دل على ذلك قانون الشيوعيين ، وخطابات زعمائهم ، ومشاهدة من رأى بلادهم عن كثب - .

والاسلام يتدخل في الشئون الاقتصادية، لا تدخلا بايراث الفوضى، والافراط والتفريط ولا تدخلا بالكبت وسلب الحريات والغاء الملكية الفردية ولوازمها، بل تشرف الدولة اشرافاً فعالا على الشئون الاقتصادية (من العمل والارباح والمعامل والمزارع والمعادن وغيرها وتضع حداً للاحتكار والربا والاجحاف، وارهاق المستهلك وحدوث الازمات الاقتصادية، وذلك بامرين :

(1) تأطير القوانين الاقتصادية الاسلامية ، بأطر تناسب العصر ، لان كيفية تطبيق القوانين العامة تختلف حسب اختلاف الظروف ، فان الحكم يتبع الموضوع، مثلا اذا كانت مأة كيلومتر من الاراضى البائرة، وكان الذين يريدون تعميرها مأة انسان كل له قابلية تعمير كيلومتر ، قررت الدولة لكل واحد كيلو متراً أما اذا كانوا ألفاً كذلك قررت الدولة لكل واحد عشر كيلومتر، وهكذا سائر الشئون الاقتصادية ، فقد يكون ربح واحد في عشرة ليس بأجحاف ، وقد يكون حتى ربح عشر العشرة في واحد اجحافاً ، فالذي استورد مايكون ربحه بقدر قوته لم يكن العشر بالنسبة اليه اجحافاً ، بينما من استورد مايكون ربحه بقدر مآت أضعاف قوته يكون ربح عشر العشرة له ايضاً اجحافاً غالباً، الى غير ذلك من تغير الاحكام بتغير الموضوعات (ولا يخفى ان هذا التأطير هو شأن مجلس الامة).

وعليه فاللازم ان يكون في مجلس الامة كتلة اقتصادية ، تحفّ بها جمهرة من الدكاترة الاقتصاديين ، وفقهاء الاسلام ، والخبراء الاجتماعيين ، كيما يعرفوا موازين الفقه والاقتصاد والاجتماع، فيصبوا القوانين الاقتصادية بحيث

ص: 343

تطابق الاسلام وتكون صالحة - في نفس الوقت لاعطاء حياة اقتصادية مرفهة للامة .

أما السير في المنهاج الاقتصادى اعتباطياً ، بالتأميم ، أو باطلاق حريات اقتصادية ضارة ، أو بجعل المنابع الكبرى ، والتجارة (عموماً أو خصوصاً) بيد الدولة ، أو ما أشبه ذلك ، فليس الاطفولة في التفكير ، وبدائية في وضع المنهاج لاتزيد الأمر الا اعضالا فالمهم ان توضع القوانين الاقتصادية المطابقة الموازين الاسلامية (وهى التي تجعل للفرد حرية العمل والملكية الفردية على أساس العدالة الاجتماعية ، والمساواة القانونية )على أساس الكفائة والجد بما لا يكون ضرراً ولا اجحافاً (وقد ذكرنا في الكتب الاقتصادية) بعض مشخصات هذه الموازين.

(2) ضمان اجراء تلك القوانين المؤطرة وهذا شأن القوة التنفيذية )فان التنفيذ ليس سهلا - كما ربما يزعم بل اللازم فى التنفيذ اجراء المحاسبات الدقيقة، واعطاء كل ذي حق حقه ، وصعوبة هذا ليس بأقل من صعوبة التأطير، مثلا :

(أ) لزيد المعمل .

(ب) ولعمرو رأس المال .

(ج) وهناك مدير يدير المعمل ، ويشرف على العمال .

(د) ورابع لجلب رأس المال الخام كالصوف الذي يصنع منه القماش- ولتسويقه بعد الصنع.

(ه_) والعمال باختلاف درجاتهم ومراتبهم.. ولنفرض ان المعمل كانت قيمته الفاً ، والصوف قيمته أربعة آلاف وكان نائج الربح خمسة آلاف(بان كانت قيمة البيع تسعة آلاف).

ص: 344

فان صاخب الصوف يأخذ أربعة آلاف قيمة صوفه الخام ... وبعد ذلك يجب ان تقسم خمسة آلاف بين صاحب المعمل، ومالك الصوف، والمدير،

والعمال وهنا المشكلة لكل واحد منهم كم من هذه الخمسة ؟ لان:

(أ) صاحب المعمل يريد حقه من جهة تحطم شيء من معمله ، وربح ذلك ايضاً( فان المعمل عمل مجسم وله ربحه ) .

(ب) وصاحب الصوف يريد ربح صوفه

(ج) والمدير يريد ما يقابل عمله الفكري والجسدي .

(د) وكذلك الدلال الجالب والمسوق .

(ه_) والعمال يريدون بقدر عملهم الجسدي .

ومن الواضح ان مثل هذا التقسيم بحاجة الى عدة من الفقهاء والاقتصاديين والاجتماعيين ليعرفوا الشرع والعرف والموازين الاقتصادية... ومثل هذا الكلام يجري باختلاف في كل انواع النجارة والمهن والزراعة ، وغيرها ، فكم يكون لكل من المتضاربين حتى لا يكون اجحاف من احدهما على الاخر؟ و كم يكون أجر الطبيب (بمختلف ما يقوم به من العمليات الجراحية وغيرها)؟ وكم يكون أجر المهندس والمعلم وصاحب المطبعة و..؟ وكم يكون لمالك الارض الذي تعب عليها (بدون استغلال وأخذ الفرص من الاخرين) وللمزارع و للمسوقين للحاصل ؟ الى غير ذلك من عشرات المسائل الاقتصادية العويصة؟

بين نص القانون وروحه

(الامر العاشر) الدستور الاسلامي في الحكم له روح تنبع من الفطرة الانسانية كما قال سبحانه : «فطرة الله التي فطر الناس عليها»(1) وحيث إن الانسان بنى في خلقته على السماح والتعاون والحرية واحترام الانسان ومساواة افراده والخضوع للقوة

ص: 345


1- سورة الروم / 29

التي خلقته ، فقد وضع الدستور الاسلامي على تلك المباديء ، كما أشار الى كل تلك المبادىء القرآن الحكيم بقوله : «خذ العفو وأمر بالعرف واعرض عن الجاهلين» (1)و «تعاونوا على البر والتقوى» (2)و «يضع عنهم اصرهم والاغلال التي كانت عليهم»(3) و « جعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله أتقاكم»(4)و «وجهت وجهي للذي فطر السماوات والارض حنيفاً مسلماً »(5) الى غير ذلك من الايات والروايات .

وحيث ان القانون بنفسه قد لا يتلائم مع الانسان لاختلاف البيئات والمناخات والشعوب وما أشبه ذلك فقد لاحظ الاسلام في جعل القوانين ثلاثة امور :

(1) الامور الاصيلة التي لاتختلف اطلاقاً ، كالمبادىء السابقة.

(2) القوانين الكلية التي اطارات تصح ضمنها مختلف التطبيقات ، فلكل ظرف تطبيقه الخاص به .

(3) الاحكام الثانوية التي تطبق عند تعذر او تعسر الاحكام الأولية ، مثل قوانين (مالا يعلمون ، وما اضطروا ، وما استكرهوا ، والحدود تدرء بالشبهات) وقاعدة العدل والانصاف، وقاعدة الاهم والمهم، وغيرها ... وبسبب هذا التنويع في الاحكام ، أصبح للدستور الاسلامي جسم وروح ، تستقى منهما التطبيقات في مختلف الظروف والاحوال .

أما القوانين الوضعية ، فقد اختلف القائمون بها بين ان يعملوا بالنص أو بالروح عند التضارب، سواء فى التشريعية( اذا خالف الدستور الظروف، فهل يتقيد المتشرعون في وضع القوانين الجديدة بإطار الدستور ، ام لهم الخروج عنه الى المماشاة مع الظروف) أو التنفيذية ( فيما كانت السلطة التنفيذية ترى المضادة بين قوانينها وبين متطلبات الظروف الخارجية ) أو القضائية( كما اذارأى القاضي المخالفة بين « روح القانون : الموضوع لاجل الحق والعدل»

ص: 346


1- سورة الاعراف / 198
2- سورة المائدة/3
3- سورة الاعراف / 156
4- سورة الحجرات / 14
5- سورة الانعام / 79

وبين القانون الموضوع ، مثلا : كانت البينة في جانب المدعي ، لكن كانت القرائن في جانب المنكر .... ولهذا التضاد والتناقض تجبر الدولة على تعديل القوانين ، بين حين وحين وليس التعديل في الحقيقة الاتقييداً لمطلق القانون أو اطلاقاً لمقيده ، أو شطباً لقانون لتضع مكانه قانوناً ملائماً ... لكن الاسلام كما عرفت غنى عن كل ذلك ، حيث ان قوانينه وضعت ذات روح وجسد ، والامر لا يخرج عنهما أبداً ، ولذا ورد :( حلال محمد صلى الله عليه و آله وسلم حلال الى يوم القيامة وحرام محمد صلى الله عليه و آله وسلم حرام الى يوم القيامة ) .

التوقيع في القوانين

وقد وقعت البلاد بعد ان دخلها المستعمرون وعملائهم في اضطراب شديد من جهة الدستور : حيث ان المشرعين الغربيين - حقيقة أو ائتماراً - وقعوا في حيرة بين قوانين الاسلام السائدة في البلاد، والتي لا يتمكن المسلمون بحكم دينهم - ان يغضوا عنها وبين القوانين الوضعية التي أرادوا اجرائها ، لتلوين البلاد بلون الغرب حتى يكون ذلك ضماناً لتبعية البلاد للمغرب) - وهكذا كان شأن البلاد الاسلامية التي استعمرها الشرق - ومن هذه الجهة حدثت ترقيعات مشينة في القوانين مثلها مثل تركيب (فهدمع (طائر) وأصبحت الدساتير متهافتة متناقضة ، كما أصبح المجرون لتلك القوانين كيفيين يعملون حسب أمزجتهم. وفي بعض البلاد كالعراق جعل المستعمر (بريطانيا منذ أول الملكيين والى اليوم حيث يحكم البعث) ثلاثة أشكال من القوانين (القانون المدني المتهافت )و (القانون الشرعي) و (القانون العشائري) والثلاثة متناقضة بعضها مع بعض ، بالاضافة الى تناقض نفس كل واحد في مواده المتعددة ، حيث انهم أرادوا

ص: 347

خداع المسلمين فأدخلوا في كل واحد من الثلاثة اموراً اسلامية وغير اسلامية وقد مثل أحد ظرفاء شعراء ایران حكومة رضاخان البهلوى ب_ (بعير ثور نمر)(1)

أما دساتير سائر البلاد، فمن الواضح انه لم يكن للمسيحية وغيرها من الاديان السائدة الى ما قبل الحضارة الحديثة - دستور سياسي اقتصادي اجتماعي ، بل كان الشعار دع، ما لقيصر لقيصر ، وما الله الله، ولما ان وضعت الدساتير ،تداخلت الاطماع مع الاخلاص ، فالمخلصون الذين أرادوا تحرير الانسان ورفاهه كان لهم اتجاه في كتاباتهم واشعارهم وشعاراتهم ( كالعدالة والحرية والمساواة و تخليص الانسان من استغلال الانسان )وأصحاب الاطماع والاهواء ،أمثال الرأسمالية، والشيوعية ، كان لهم اتجاه آخر من النفعية، والسيطرة (ديكتاتورية البروليتاريا) وبين هذين الاتجاهين: المخلص والطامع ، وضعت الدساتير ، ولذا كانت الدساتير ترقيعاً مشيناً ، بالاضافة الى ان التطبيقات صارت حسب الاهواء .

هذا بالاضافة الى انه قد اختلفت الدساتير من بلد الى بلد مع ان الانسان فيها واحد ، فاذا اغمضنا النظر عن المناخات المختلفة ، المناخات المختلفة ، والطبائع المختلفة ، لم يكن وجه للاختلاف في الدساتير ، بالاضافة الى ان المناخات والطبائع ،لا تغير من الأمر المشترك ، مع ان الدساتير تختلف في الامر المشترك ، مثلا: تجد بلداً يحكم بالاعدام بالنسبة الى بائع المواد المخدرة بينما ترى بلداً آخر يبيح بيعها ..

وحينما كان بلد غربي أو شرقى يريد تصدير دستوره، كان لابد له من ملاحظة البيئة و المناخ و مزاج الشعوب المصدر اليهم ، فكان يأقلمه بصفات البلاد

ص: 348


1- قال (اینست حکومت شتر گاو پلنك )تشبيهاً بالزرافة التي يسميها الفرس بهذا المزيج من الاسماء الثلاثة لانها تشبه البعير في رقبتها ، والثور في ضخامتها، والنمرقي لون جندها .

المصدر اليها ، و بذلك كان يقع التناقض بين دستور المستعمر - بالكسر - والمستعمر - بالفتح - .

وحسب هذه الامور، و التي ذكرت جملة منها - وضع الدستور الغربي غالباً، على العقيدة المسيحية والفكر الرأسما لي الديمقراطي، بينما وضع الدستور الشرقى ، على الالحاد والفكر الشيوعي الديكتاتورى ، مع العلم انه اختلفت البلدان الغربية والشرقية، في وضع الدستور المأخوذ من نفس تلك المبادىء التي آمن بها زعمائها ، بین متشدد، ومستهسل .

ص: 349

مسألة : 35 بحوث فى الاحزاب

اشارة

نتكلم فى هذه المسألة حول (الاحزاب) بالقدر المحتاج اليه في هذا الكتاب فنقول: الجماعة من الناس اذا لم يكن لهم لون بنائى ( أي لم يبنوا على لون خاص) تسمى (شعباً) فيقال الشعب الهندى ، والشعب الاندونيسي ، حيث ان الذين يعيشون فى الهند أو أندونيسيا ، لم يبنوا على هذا اللون ، بل ولدوا في ذلك البلد بغير ارادتهم، واذا بنواهم على شيء سميت (أمة) مثل الامة الاسلامية ثم في داخل الشعب والامة قد تتكون مجموعة لها هدف خاص، من سياسة أو ثقافة أو مال أو نحوها ، فتسمى (جماعة) أو (جمعية) أو (هيئة) أو (فرقة)، وفى الغالب تسمى (حزباً) اذا كان لها هدف سياسي، أى ادارة البلاد.

وقد تنسب الجماعة الى محل جلوسهم مثل : (مجلس العموم البريطاني) ويقال:( مجلس الامة )باعتبار ان نواب الامة يجلسون في ذلك المجلس، ومثله (مجلس اللوردات وما أشبه ذلك، وهذه الاسامى اصطلاحات (ولا مشاحة في الاصطلاحات) وان كانت هنالك ،واقعية، باعتبار( اللابناء) اى لا بشرط، و(البناء) على شيء من عقيدة أو عمل . والبناء قد يكون (واسعاً) كالامة وقد يكون (خاصاً)

ص: 350

كالحزب والجماعة، وفى البناء الخاص قد تكون النسبة الى المحتوى- بالكسر-(كالمجلس )وقد تكون النسبة الى المحتوى-بالفتح - كالجماعة والحزب. وقد ورد اسم الحزب في القرآن الحكيم، لا بالمعنى الاصطلاحي في الحال الحاضر ، فهناك سورة في القرآن الحكيم باسم (سورة الاحزاب و استعماله في القرآن الحكيم تارة في الخيرين ، مثل (حزب الله )وتارة في الشريرين ،أو الاعم، مثل قوله سبحانه:(ولما رأى المؤمنون الاحزاب». (1)

و قوله سبحانه : «من الذين فرقوا دينهم و كانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون».(2)

وقوله تعالى : « فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً كل حزب بما لديهم فرحون»(3)

كيف تتكون الاحزاب؟

وأصل تكوّن الحزب، انما هو من وجود الفوارق النفسية بين الناس، فكل جماعة وأمة وشعب وقبيلة، لابد وان يوجد بينهم اناس لهم صفات نفسية متمايزة وكفاءات خاصة، وتلك الصفات تدعو اولئك الافراد الى( الانانية) تارة والى (المشاركة الوجدانية) اخرى، وبذلك يجمع ذلك الانسان حول نفسه جماعة يصبهم في اتجاهه، أما لاشباع رغبته في السيادة والانانية ، وأما لجعلهم خدمة الناس بالقيام بحوائجهم لحسه بالمشاركة مع الناس في احزانهم و آلامهم و آمالهم وهذا ما يصطلح عليه بالمشاركة الوجدانية .

الاحزاب :والتواجد الدائم

وحيث ان التجمع الصغير في داخل التجمع الكبير ، نابع عن داخل الانسان -كما عرفت- فقد كان الحزب موجوداً منذ الاول، وانما اختلفت الضوابط والخصوصيات وتطورت حسب تطور الزمان ، وحيث ان الحكم كان في كل

ص: 351


1- سورة الاحزاب / 22
2- سورة الروم / 32
3- سورة المؤمنون / 53 .

تجمع حتى البدائى منه ، (اذ رئيس القبيلة يحكم في قبيلته) فالتجمع السياسي (الحزب )كان موجوداً منذ ذلك الحين ...

ثم انه فرق بين (الحزب السياسي) وبين (الجمعية السياسية) في المصطلح الحديث، فالاول عبارة عن جماعة ذات ضوابط خاصة تريد الوصول الى الحكم بينما الثاني يكون في هامش الحكم ، مثل ما يسمى ب_ (جمعية الصداقة) حيث يكون في البلد جماعة يهوون حكومة خاصة ، ويدافعون عن مصلحتها ، أما عمالة ، او اصالة - حيث يرون ان من صالح البلاد الارتباط بتلك الحكومة -فمثل هذه الجمعية لاتريد الوصول الى الحكم ، وانما تكون في هامش الحكم لانها تقوى الحكم .

واذ قد عرفت ان لفظ :( الحزب) ليس الا اصطلاحاً، فقد كان هذا اللفظ غير متداول في السابق، ولذا خلى الدستور الفرنسي المدوّن (1831) م عن هذا اللفظ ثم لما دوّن الدستور البلجيكي مقتبساً عن الدستور الفرنسي ، لم يذكر فيه هذا اللفظ ، ولما أخذ الدستور الايراني عن البلجيكي في أبان (المشروطة) خلى هذا اللفظ ، (وان ذكر فيه لفظ آخر بمعناه أيضاً ، مثلا : ذكر في متمم الدستور الايراني( ان كل مجلس وتجمع لا يولد فتنة دينية أو دنيوية ولا يوجب الفوضى، فهو حر في عمله) .

نظرة على حركة المشروطة

ومما يجب التنبيه عليه بهذا الصدد، ان العلماء الذين قادوا حركة المشروطة أمثال الزعيم الرشيد الواعي آية الله الاخوند صاحب الكفاية ، لم يخطأوا في الحركة :

(1) فان تسليمهم بالملوكية، كان من باب جعلهم (الملك) يسود ولا يحكم

ص: 352

ص: 353

هو عدم اطلاعهم على الاوضاع العالمية ، فقدمات الاخوند(رحمۀ الله علیه)(بالسم) عند بزوغ المشروطة والذين جاءوا من بعده ، لم تكن لهم قوة الاخوند الاجتماعية و نفوذه الشعبي ، بالاضافة الى انه لم تكن عندهم تلك الرؤية المستقبلية ، ولذا وقعت ایران فی انیاب الاستعمار الغربي .

وبمثل هذا السبب وقع العراق فى انياب الاستعمار، حيث ان القائد المخطط للثورة ضد المستعمر ؛ وهو آية الله الميزا الشيرازي ، مات سماً عند بزوغ الاستقلال ، ولم يكن لمن بعده الرؤية والشعبية التى تمكنه من ايصال سفينة الاستقلال الى الشاطى بسلام، وبين عدم الرؤية المستقبلية، وعدم النفوذ الشعبي سقط العراق فى انياب المستعمر البريطاني العجوز .

وكيف كان ، فالكلام الان فى مهية الحزب وبعض خصوصياته .

أركان التكتل الحزبي

ان السياسيين قالوابان الحزب لا بدوان تكون له أركان خمسة .

(الاول) يجب ان يكون الحزب شلالا مستمراً ، كالنهر الجاري الذي لا یوقت بزمان دون زمان ، بل اللازم ان يكون بحيث لا يرتبط وجوده ببقاء زعمائه ، كلما مات زعيم قام آخر مكانه ، وحتى لومات جميع الزعماء دفعة واحدة بقى الحزب ، وانما سميناه شلالا ، لان الواجب في الحزب النشاط المتزايد المندفع، والافلو سار الحزب سيراً جريانياً، لتوقف عن التزايد الكمى والكيفى ، وكل شيء ليس فيه تزايد افل الى الزوال، كما ورد في الحديث (ومن لم يكن في زيادة فهو في نقصان) اذ الاحداث تلطمه وتلطمه حتى تمحيه من الوجود .

ص: 354

الفلسفة الحزبية

(الثاني) أن يكون له فلسفة حزبية ينبعث منها ، فليس الحزب عملا خارجياً فقط ، وانما فلسفة توجب شد بعض اجزائه ببعض ، وتحدد له هدفاً ووسيلة ، وتكون هى المرجع عند الاختلاف ، وذلك مثل فلسفة استمرار الرأسمالية أو الاشتراكية ، أو الشيوعية ، أو تعميمها أو ما أشبه ، ومثل فلسفة تطبيق عقيدة أو شريعة ، أو تعميمها ، الى غير ذلك من الفلسفات التي ترجع بالاخرة الى العقيدة ، أو النظام، أو كيفية التطبيق ، مثلا . انا نريد التعميم للعقيدة الاسلامية ، أو تطبيق الشريعة الاسلامية ، ويكون التطبيق للشريعة باسلوب اللاعنف المستفاد من «ادع الى سبيل ربك . . .»(1) أو «ادخلو في السلم كافة»(2) الى غير ذلك .

فروع الحزب

(الثالث) يجب ان يكون الحزب ذا تنظيمات ومؤسسات محلية ، ترتبط كلها بالنواة المركزية للحزب ، لان تلك التنظيمات المحلية ، اذا لم تكن لم يقدر الحزب على العمل في ذلك المحل ، ولو كانت ،ولكنها لم ترتبط بالمركز ، حصل الانفصام المخرج للحزب عن الوحدة فلايكون بينهما ترابط وبذلك يخرج عن كونه حزباً واحداً ، بل كان مثله في عالم (الحكومات ) مثل الملوك الطوائف ، أو كالبدن المقطوع أجزائه .

ص: 355


1- سورة النحل / 125
2- سورة البقرة / 208

ص: 356

ص: 357

(2) الاتصاف بالحزم واللين والاستقامة وروح الشورى والواقعية:

قال الشاعر:

و احزم الناس من لم يرتكب عملا *** حتى يفكر ما تجنى عواقبه

وهذا المعنى هو شيء من الحزم، وقد وصف الامام أمير المؤمنين عليه السلام أحد تلاميذه بقوله : (كان) والله بعيد المدى.

وقد قال الرسول صلى الله عليه و آله و سلم لعلي عليه السلام (ان من مکارم اخلاق الدنيا والاخرة اللين والعفو والسخاء).

وقد نظمه الشاعر بقوله :

مكارم الاخلاق في ثلاثة منحصرة ***لين الكلام و السخا والعفو عند المقدرة

والاستقامة توجب اطمينان الناس بالحزب، قال سبحانه:«فاستقم كما امرت» والاستقامة تكون في الكم وفى الكيف ، فالسيارة التى تمشى بسرعة أو ببطوء غير مستقيمة ، كما انها اذا مشت تارة ذات اليمين واخرى ذات الشمال ليست مستقيمة .

وروح الشورى ان يكون الحزب بحيث لايريد الديكتاتورية والاستبداد برأيه، ففى الحديث :(من استبد برأيه هلك)و ذلك لان الاعضاء يتفرقون عن الحزب ، و لا ينضم اليه أعضاء جدد. وبذلك يضمحل الحزب، والشورى وان دانت تدمع الانانية الكامنة فى بعض النفوس، الا ان دمغة التأخر والسقوط أشد ايلاماً من دمغة الشورى.. والواقعية عبارة عن رؤية الواقع كماهو، والعمل بتلك الرؤية، وذلك بالاضافة الى انه صدق، يوجب التفاف الناس حول الحزب، فان الكذب والخداع وما أشبه، امور وقتية .. ثم تتبخر ويبقى عارها الموجب لانفضاص الناس من حول الحزب.

ص: 358

قال سبحانه : « فاما الزبد فيذهب جفاءاً ، و أما ما ينفع الناس فيمكث في الارض»(1).

نعم شجرة الحق ، كسائر الاشجار ، قد تكون بطيئة الثمر ، كثمرة التفاح ، وقد تكون سريعة الثمر كشجرة اليقطين، ولذا قال سبحانه : « الم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء» (2)

و علی ای حال فالحزب ، مثله مثل الفرد فى انه كلما كان متصفاً بالعلم والفضيلة كان تقدمه فى الاجتماع أسرع، والتفاف الناس حوله أكثر ، واحتمال سقوطه أقل ، وكلما كان بالعكس كان الامر بعكس ذلك ، وقد سأل رجل عن الامام عليه السلام ما الحيلة ؟ فقال : في ترك الحيلة. فان الحيلة لاتفتاً ان تنكشف وعند ذلك السقوط الذي لاقيام بعده...

ومما تقدم يفهم وجوب كون الحزب متصفاً بالدقة في فهم الزمان ومتغيراته، اذا لزمان كالنهر الجاري كل آن غير الآن السابق، وكما قال على عليه السلام: (يتقلب بأهله من حال) الى حال فاذا لم يفهم الحزب متغيرات الزمان، تغير فجئة بما يسقط الحزب في كثير من الاحيان ، و يجعله تاريخاً في ثنايا الكتب، وقد رأيت انا (43) حزباً في العراق كلها سقطت فى أقل من ربع قرن، وذلك بسبب عدم امتلاكها لشرائط الحزب الصحيح.

ولا يخفى ان من شرائط الحزب: الانسجام مع ذهنيات وعقائد الامة التي يريد الحزب ان يعيش فيها، ففى البلد المؤمن لا يمكن ان يعيش حزب ليس مقيداً بالايمان - فكيف بالحزب الكافر - فاذا أراد حزب ان يعيش في بلد الاسلام وجب عليه ان يتقيد بالايمان عقيدة وشريعة ونظاماً ، وبهذا السبب سقطت الاحزاب الشيوعية والاشتراكية والبعثية في جميع البلاد الاسلامية، مهما كان الشرق والغرب ورائها وكانت مزودة بالمال والارهاب، والسر انها لم تكن من

ص: 359


1- سورة الرعد/ 17
2- سورة ابراهيم / 24

ص: 360

ص: 361

الديكتاتورية ليست الا انانية، لا يمكن ان تنمو الافي بلاد ضعف الرشدالفكري فيها ، فكما ان الانسان الاناني لا يمكن ان يعيش الا في مجتمع جاهل ، كذلك الحزب الواحد الديكتاتورى لا يمكن ان يعيش في مجتمع رشيد ناضج، ولذا نرى انه كلما نضج المجتمع ، اشتد صراعه مع الحزب الديكتاتورى .

(2) الاحزاب الفجة ، فان الفجاجة لاتكون الامن آثار السرعة ، فكما ان رجل الشارع اذا وضع في مكان مدير قدير، لم يتمكن من الادارة، وأتى بالاعمال الفجة ، كذلك اذا تكون الحزب بدون المقومات الاساسية له، فانه يكون فجاً، واذا كان سرياً، كانت الفجاجة فيه أكثر ، حيث لم ينبت فيجو طبيعي، وتعقدت نفسیات کو ادره وكلما كان الحزب اكثر فجاجة كان اعماله اللاانسانية اكثر وكان عنفه واعتباطياته اكثر ، وذلك يوجب اجتثاثه عن المجتمع ، فلا محل له في المجتمع ، ولا يتمكن من عمل شيء الابمساندة الاستعمار وبالعنف، وبقاء هذين النوعين من الاحزاب رهين بجهل الامة ، ولذا يمارس كلاهما سياسة التجهيل، ويحارب الرشد بكل قوة وخداع .

ثم ان الحزب الذي يتمتع بالشعبية ، يقدر على تكوين المظاهرات والاضرابات ، وكلما كان الحزب اقدر على هذين الأمرين كان دليلا على كثرة شعبيته، وبالقوة الشعبية المتزايدة يتمكن الحزب من فرض ارادته على الدولة، وتحقيق المصالح الاجتماعية ، حسب مايراه صالحاً، والعكس بالعكس .

اتحاد الاحزاب

ثم انه في كثير من الاحيان ، تشكل الاحزاب المتعددة وحدة واحدة، لاجل الوصول الى الحكم ، من جهة تقوية اعلام كل حزب ، أومن جهة التقليل من مصارف الانتخابات وقد تندمج بعض الأحزاب فى بعض ، وذلك

ص: 362

لقرب اهدافها، أولامكان وقوفها فى مواجهة الحزب القوي الذي هو ضد أهداف كل هذه الاحزاب ، مثلا : الاحزاب المتعددة ، التي تجمعها الرأسمالية تتحد ضد الحزب الاشتراكي .

وكذلك الاحزاب المتعددة التي تجمعها الاشتراكية تتحد ضد الحزب الرأسمالي الى غير ذلك من الامثلة، وكثيراً ما تتعارض الاحزاب عند ارادتها التوحد، أو التجمع تحت وحدة واحدة لأجل تحديد كيفية وكمية تقسيم الاضرار والارباح ... واذا حصل لهم تجمع أو توحد عينوا المرشحين في الانتخابات ، والمرشحين للسلطة التنفيذية والسلطة القضائية فيعرفونهم للمنتخبين ليدلوا بآرائهم، لهؤلاء المرشحين، دون من سواهم، أو ليعينهم المرشحون اذا فازوا فى الانتخابات ، للسلطتين التنفيذية والقضائية ... ومثل هذا الترشيح يكون بالنسبة الى الحزب الواحد ، حيث يرشح من يختاره ليعرفه للامة كيما تدلى بأصواتها لاولئك المرشحين .

ومن الطبيعي بعد ذلك ان يتقيد النائب او الحاكم أو القاضي في السلطتين بآراء أكثرية حزبه في علاج الأوضاع ، لكن في الاطار المعين دستورياً أو تنفيذياً أو قضائياً ، مثلا : الحزب الحاكم لا يرى محاربة دولة ، فلا يصوّت نوابه للحرب مع تلك الدولة ، أويرى لزوم قبول زيد لا عمرو ، لوزارة المال أو يكون الحزب ضد ان يدخل القاضي الفلاني ضمن القضاة الذين هم مرجع التضارب بين الدستور والقوانين الجزئية التي يضعها مجلس الامة ، أو تضعها السلطة التنفيذية، الى غير ذلك من الامثلة، لوضوح ان من يرشحه الحزب، لابد وأن يكون مقيداً بآراء الحزب - لكن في ضمن الاطار المقرر - فانه لا يتمكن احد في الدول الديمقراطية ان يتجاوز الاطار المقرر من اي السلطات الثلاث كان .

ص: 363

ص: 364

ص: 365

وتنمية الانتاج وتكثير الزراعة وتصنيع البلاد، أو التقديم بها في هذا المضمار وفى التقارب مهما أمكن مع الشعوب وبالاخص الجيران والابتعاد مهما أمكن عن الحرب، واذا كان الحزب دينياً في فكرته أوفى افراده، حاول توسيع المناهج الدينية وتضييق دائرة الالحاد والرذيلة والفساد...

ولا يخفى ان الاصلاح الذي يبرمجه الحزب لا يكون قفزياً اذ القفز العالى يوجب السقوط والانكسار غالباً ، بل ينظم الحزب برامج في جداول زمنية معقولة للتسيير بالامة صعداً، ولحل المشاكل باسلوب معقول .

ولذا يحتاج الحزب الى جيشن من المثقفين والخبراء والفنيين من مختلف قطاعات الثقافة ، سواء قبل وصوله الى الحكم ، أو بعد وصوله الى الحكم ، اذعرض البرنامج على الجماهير لكسبهم( حتى يصوتوا للحزب عند الانتخابات) لا يمكن ان يكون غير مدروس بدقة، والالم يتمكن الحزب من اكتساب الجماهير الذين فيهم المثقف والعالم والخبير ، وما الى ذلك ممن يميز بين الشعار والواقع، كما ان الحزب اذا وصل الى الحكم ولم يقدر على تنفيذ ما وعده سقط عن الاعتبار.

ص: 366

مسألة : 36 موقف الاسلام تجاه الاحزاب

اشارة

حيث قد عرفت في المسألة السابقة مهمة الحزب وبعض خصوصياته، نبين هنا رأى الاسلام في الحزب وهل انه جائز أو حرام ؟ فنقول :

(1) الحزب اذا كان مقدمة البرلمان الذي يحكم حسب الاراء والاهواء كان حراماً ، وذلك لانه مقدمة الحرام، وتعاون على الاثم والعدوان ، بل يعد في عرف المتشرعة من ابشع المنكرات، حيث انه تهييء لهدم الاسلام كله، واحياء الباطل كله وانتهاك الاعراض والانفس والاموال والحقوق - ولا يخفى ان مثل هذه الأمور تجعل الشيء من أشد المحرمات - وان قيل في الاصول بعدم حرمة مقدمة الحرام.

(2) وكذلك يحرم الحزب اذا كان سبباً لقبض أزمة السياسة في البلاد من دون الانضواء تحت لواء الفقيه العادل الجامع للشرائط ، اذ الاسلام قرر الولاية لله سبحانه ، ثم الرسول صلى الله عليه و آله وسلم ثم الامام عليه السلام، ثم الفقيه الذي هو نائبهم .

(3) ويحرم ايضاً اذا كان الحزب سبباً لتسليط من لاترضى به أكثرية الامة،

ص: 367

ص: 368

والاغلال التي كانت عليهم»(1) أو رفع حكم (حرمة الخمر) حيث قال سبحانه : «انما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه».(2)

الثانية : الحكم المخالف لمصلحة المسلمين، اي ان يكون التطبيق غير ملائم ، مثلا : كان الدخول في السلم صلاحاً ، فيقول بالحرب ، أو بالعكس، أو ان يكون اللازم تقديم الصناعة على الزراعة ، فيخصص المال للزراعة، دون الصناعة ، الى غير ذلك من الامثلة .

الحزب ومقررات البرلمان

(الثاني) قديكون الحزب لا يهمه ماذا يكون الحكم ، اذا وصل الى البرلمان وهذا غير جائز ، اذ التربية الفكرية الاسلامية مقدمة للتطبيق الاسلامى وبدونها لا يمكن التطبيق الاسلامي ، فاذا لم يهتم الحزب بالاسلام كتشريع ، و كتطبيق ، لم يقدر على العمل بالاسلام بعد الوصول الى مجلس الأمة، والى السلطة التنفيذية والقضائية، وفى ذلك هدم الاسلام ، وقد قال سبحانه :« ولو ارادوا الخروج لا عدواله عدة».

ومن الواضح ان كونهم الحزب اقامة حكم الله يلازمه ان يربي افراده على هذا اللون من الحكم تشريعاً وتطبيقاً ، فحينذاك يقدر على ان يؤطر الاحكام الاسلامية ، حسب متطلبات الزمان - كما ذكرنا مثاله فى ماسبق - كما انه يقدر على ان يصوّت فى المجلس ويعمل فى التنفيذ حسب الموازين الاسلامية، ومثاله ما اذا كان جاران للدولة كلاهما متساويان من جهة صلاح البلاد اقتصادياً ، لكن احدهما أقرب الى روح الاسلام اختار الحزب صداقة هذا على ذاك فيما تتمكن الدولة من صداقة أية منهما - الى غير ذلك من الامثلة التشريعية والتطبيقية .

ص: 369


1- سورة الاعراف/157
2- سورة المائدة / 90 .

الولاية للفقيه العادل

(الثالث) الذى يصح ان يجعل فى الاسلام رئيساً للدولة، هو الفقيه العادل الجامع للشرائط ، فالحزب يلزم عليه ان يكون مقصده ذلك ، والا كان حائداً عن الاسلام ، فلا يجوز له ان ينصب للرئاسة العليا غير المؤهل، كمالا يجوز له ان يصوّت لغير المؤهل.

التزوير الانتخابي

( الرابع ) لا يجوز للحزب ان يجنح إلى الاساليب الملتوية - غ-ير اسلوب الشورى وأكثرية الامة فى سبيل تقديم مرشحه للرئاسة وان كان ذلك المرشح مؤهلا ، اذ ذلك هدم للشورى الاسلامية ، واضاعة لحق الامة ، وقد قال عليه السلام : ( لايتوى حق امرء (مسلم ومثل هذا جار في انتخاب اعضاء مجلس الامة ، لوضوح ان هناك امرين :

(1) كون الرئيس والمنتخب مؤهلا بنظر الاسلام .

( 2 ) كونه جائزاً لاكثرية الاصوات ، فكما لا يجوز ترشيح غير المؤهل فقهياً، كذلك لايجوز تقديم المؤهل الذي لاترضي به اكثرية الامة والوصول الى تقديمه بالاساليب الملتوية غير الشرعية .

لا ... لنظام الحزب الواحد

( الخامس ) ان لا يستبد الحزب بالأمر، فالحزب الواحد استبداد لايجوز شرعاً ، لانه اضاعة لحق سائر المسلمين .

ص: 370

لا يقال : ان كان الحزب الاخر يريد الاسلام تشريعاً وتطبيقاً فلا داعي الى تنظيم حزب ثان ، بل ينضم من يريد ذلك الى هذا الحزب الواحد ، وان كان لا يريد الاسلام تشريعاً أو تطبيقاً ، فلا يجوز له تشكيل الحزب السياسي ، ولم لا يحق للحزب الاول منعه عن التشكيل ؟

لانه يقال : نختار الشق الأول ونقول ان الحزب الثاني يريد اقامة الاسلام لكن له رأى خاص فى كيفية التأطير وكيفية التطبيق، فمثل الحزبين في ذلك مثل المجتهدين، الذين كلاهما يستنبط فى دائرة الادلة الاربعة لكن يختلف استنباط هذا عن ذاك فكلا الحزبين يعملان استنباطاً وتطبيقاً في دائرة الاسلام وان كان لهما اختلاف في الاجتهاد واختلاف في انتخاب الاصلح لحال الامة فى السلطة التنفيذية وما اشبه ..

لايقال : اذا كان الامر كذلك بان يكون عدم اجازة الحزب الثاني آئلا الى الديكتاتورية ومحرماً من جهة انه اضاعة الحقوق كان اللازم اجازة حزب ثالث ورابع ، وهكذا حتى يؤل الامر الى الفوضى ؟

لانه يقال : اللازم اجازة كل حزب ، مؤطراً باطار عدم الفوضى لان ذلك لايجوز شرعاً وعقلا ومن الواضح عدم التلازم بين ان يجوز الحزب الثاني وبين الفوضى ، كما ان من الواضح ان أى استدلال للحزب الواحد، ليس الا جنوحاً للاستبداد...

والحاصل : انه يلزم ان يكون الاطار اسلامياً تشريعياً وتنفيذياً ثم بعد ذلك فلكل اجتهاده المستند الى الادلة .

ثم الذي قد يمكن ان يستنبط من القرآن الحكيم والسنة المطهرة والسيرة العطرة ، ان سيرة الاسلام كان على تشقيق المسلمين الى جماعتين ، فمثلا: في عهد الرسول (صلى الله عليه و آله وسلم) كانت جماعتان ، جماعة المهاجرين،

ص: 371

وجماعة الانصار فمع انه لم يكن بينهما أى تفاوت في الامور الدينية كالصلاة والصوم والحج وما الى ذلك، وفى الأمور الدنيوية، كالرئاسة في الجهاد وقدر الحقوق الذي كانوا يعطونه لدى التقسيم ، وفى الزواج ، والارث، والحدود وما أشبه ذلك ... مع ذلك جعلا جماعتين متمايزتين ، ذلك جعلا جماعتين متمایزتين ، في الاسم والتكتل ، والرسول صلى الله عليه و آله وسلم يمدح هؤلاء تارة ، وأولئك اخرى ، كما كان يلتجأ الى هؤلاء تارة ، اذا ضغط عليه أولئك ، والى اولئك اخرى اذا ضغط عليه هؤلاء ، كما لا يخفى على من راجع سيرته الطاهرة صلى الله عليه وآله وسلم .

قال سبحانه :« والسابقون الاولون من المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم باحسان رضی الله عنهم ورضوا عنه ».(1)

وقال تعالى : «لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والانصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة » .(2)

وقال سبحانه : «ان الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا و نصروا اولئك بعضهم أولياء بعض».(3)

وقال سبحانه وتعالى:« والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا اولئك هم المؤمنون حقاً»(4) الى غير ذلك من الايات التي تكرر فيها لفظ المهاجرين والأنصار بمختلف اشتقاقاتهما -.

وقد قال النبي (صلى الله عليه و آله وسلم )في غزوة حنين حين اجزل قسمة الغنائم للمؤلفة قلوبهم ، وجعل للانصار شيئاً يسيراً ، ( لو سلك الناس وادياً وسلك الانصار شعباً لسلكت شعب الانصار اللهم اغفر للانصار ولابناء الانصار ولا بناء ابناء الانصار ).

و قد وصى (صلى الله عليه و آله وسلم) للانصار قرب وفاته ، وقال( صلى الله

ص: 372


1- سورة التوبة / 100
2- سورة التوبة / 117
3- سورة الانفال/ 72
4- سورة الانفال/ 74

عليه و آله و سلم) للانصار :( انكم سترون بعدى اثرة) فلما تولى معاوية منعهم العطاء.

وفى الحديث ، عن الامام الباقر (عليه السلام) جائت الانصار الى رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) فقالوا: انا قد آوینا و نصرنا فخذ طائفة من أموالنا فاستعن بها على ما نابك الى غير ذلك مما يجده الانسان بكثرة في سيرته المطهرة وهكذا كان الأمر فى زمن الخلفاء فهما فريقان يتصارعان احياناً، كما يظهر من قصة سورة المنافقين ، و قولهم بعد الرسول (صلى الله عليه و آله وسلم) : منا أمير و منكم أمير ، وكذلك كان في زمن على (عليه السلام) ثم تحول الامر الى جماعتين أخريين هما (المضرية واليمنية) وفى أيام العباسيين الى فرقتين طرفي دجلة، كما في قصة ( قشم ) و يدل كل ذلك ، على وجود طائفتين اعتني ببقائهما متمايزتين في أطار الكتاب والسنة ، وتبع ذلك الخلفاء بنفس اللون الاسلامي أوبلون آخر.

موقف الاسلام من الاحزاب غير الاسلامية

بقى شيء، وهوانه لماذا لا يجوز الاسلام الحزب غير الاسلامي؟ أليس ذلك كبتاً المحريات ، و أليس ذلك يوجب ان تكون حكومة الاسلام أقل حرية من حكومة امريكا و فرنسا مثلا ؟ مع ان الاسلام دين الحريات ، لا دين الكبت والخنق ؟

والجواب : ان الاسلام دين بني على العقيدة الصحيحة والشريعة المدعمة بالادلة، وليس من الصحيح اجازة الصحيح للغلط، والمستقيم للمنحرف ، اما الصغرى فقد استدل له في الكتب الاعتقادية، وأما الكبرى فلوضوح ان الانحراف فى العقيدة ينتهى الى الانحراف فى العمل ، و الانحراف في العمل معناه هدم

ص: 373

الحياة، فاجازة الحزب غير الصحيح ، مثل اجازة التحزب للصوص والقتلة أما ان الانحراف فى العقيدة ينتهي الى الانحراف في العمل، فلان العمل تابع العقيدة ، مثلا : الذى يعتقد بأن الالهة ثلاثة ينتهى الى جملة (دعوا ما لقيصر لقيصر ما الله الله ).

ومن الواضح انه تقرير للديكتاتورية، والتى تنتهى أما الى الظلم في داخل البلاد كما في عهود الكنيسة، واما الى الظلم خارج البلاد، كما في الحال الحاضر حيث يستعمر الغرب بلاد العالم بقدر امكانه ولا يخفى وجود الظلم في الحال الحاضر لبلاد الغرب بالنسبة الى داخل بلادها ايضاً كما المعنا الى ذلك هنا، وفي كتاب (الفقه: الاقتصاد) وغيرهما).

و هل يجوز ان يفسح المجال للقاتل ، أو نعطي الحرية للظلمة ليوسعوا الظلم والفساد؟

وبما ذكرناه ظهر الجواب عن الاشكال الثاني ايضاً : أى كيف يكون بلد الإسلام أقل حرية من مثل امريكا وفرنسا ؟ وحاصل الجواب : ان تلك ليست حرية ، بل فوضى .

فلا يقال : ان بلد الاسلام أقل حرية ؟

بل يقال : ان امريكا بجهلها اجازت الفوضى ، كما أباحت الزنا ، وكما اجازت استغلال الانسان القوى (الرأسمالي) للانسان الضعيف (أغلب أفراد الشعب) هذا باضافة الى جواب ثان عن هذا الاشكال الثاني ، وهوان أمريكا. وفرنسا وبريطانيا ، مثلا : لم تجز الا الاحزاب التي تعمل في اطار الوطنية، و لا تجيز الاحزاب التي تعمل فى خارج هذا الاطار، فلا يكون لها حريات أكثر من حريات الاسلام منتهى الأمران الاسلام أجاز الاحزاب الكائنة في اطار العقيدة بينما البلاد الغربية تجيز الاحزاب الكائنة في اطار الوطنية ... مع وضوح ان

ص: 374

اطار الوطنية باطل عقلا ، اذليس ذلك مبنياً على الكفاءات، بينما اطار الاسلام صحيح عقلا ، حيث انه مبني على الكفائة (فان معنى كون الاسلام دين العقل كونه دين الكفائة) .

فهل اذا ولد الانسان في هذا البلد او ذاك يؤهله ، لان يكون له هذا الحق أوذاك أو يسلب عنه أهلية هذا الحق ؟

أما ان الانسان لو اختار هذا الطريق الصحيح في العقيدة، دون ذلك الطريق في العقيدة - التي قام على بطلانها الدليل - فانه يؤهله لان يكون له هذا الحق لان الاهلية ترجع في (الثاني) الى الاختيار، وليس كذلك في (الاول) .

لا يقال : كل من الاسلام والغرب يدعي صحة عقيدته، وشريعته، وطريقته ؟

لانه يقال : بالامكان الكشف عن صحة وزيف الادعاء بالبحث الحرّ في التلفزيون ، فان ظهرت صحة عقيدة من يريد طلب اجازة تشكيل الاحزاب غير الاسلامية أباح الاسلام له ذلك ، ولكن من اين له اثبات عقيدته ؟.

وبعبارة أخرى ، لو أراد مسلم غير مواطن في الغرب تأسيس حزب ، لم يجزه قانون الغرب ، ويعلله بانه ليس من أهل الوطن ، وكذلك لو أراد كافر في بلد الاسلام تأسيس حزب ، لم يجزه الاسلام ، ويعلله بانه ليس من أهل العقيدة . . . والى هنا لا يكون بلد الاسلام أضيق دائرة من بلد الغرب ... ثم يأتى الكلام فى ان بلد الاسلام لم يجز الحزب الكافر لوجه صحيح عقلی وبلد الغرب لم يجز الحزب المسلم، لوجه باطل ، اذ الاسلام لم يجز لفقد العقيدة وهو بمعنى عدم الكفائة في طالب الحزب، لان عدم اسلامه يرجع الى اختياره أما الغرب فلم يجز الحزب المسلم لفقد الوطنية ، وهو بمعنى الاعتباط ، لان عدم ولادته في ذلك الوطن يرجع الى ما ليس باختياره، وبهذا ظهران الاسلام له حرية مبنية على الصحيح ، والغرب له كبت مبنى على الباطل ، وكم من فرق بين الامرين ؟

ص: 375

مسألة : 37 معطيات الاحزاب السياسية

اشارة

الاحزاب السياسية ذكرت لها فوائد واضرار ، وفى هذه المسألة نذكر جملة من الفوائد التي ذكرت لها :

1 - انتخاب الاصلح

(الأولى) ان الحزب السياسي هو الصيغة الكاملة ، لتطبيق الشرط الثاني الاسلامي في باب الحكم - فى الواقع الخارجي ، فان الاسلام - كما تقدم - يشترط في الحاكم ان يكون مرضیه الله ، وحسب شورى الامة ، اي برضاهم الذى هو رضى الاكثرية كما هو المستفاد من الشورى اذ انتهاء الشورى الى توافق آراء الكل ، أمر نادر غالباً فاللازم كون الحاكم، منتخباً بين متعدد كل واحد منهم يحمل مواصفات الفقيه العادل ، مرضياً لاكثرية الامة .

أما الشرط الاول :( اي الفقاهة والعدالة و ...) فذلك واضح غالباً لاهل الخبرة الذين يتوفرون في المراكز العلمية .

ص: 376

ويبقى الشرط الثانى : وهو اختيار أكثرية الامة له ، وذلك ما يحصل بالانتخاب ، وتلك غالباً تتحقق بواسطة الاحزاب السياسية ، حيث انهم أهل الخبرة في تحديد الاصلح لادارة الدين والدنيا ، بين المتعدد.

لا يقال : فلماذا لم يكن من هذا الامر (الانتخاب) أثر في سالف الزمان ؟

لانه يقال : لم يكن الحكم بيد المسلمين حسب موازين الاسلام بل بيد الديكتاتوريين من الملوك وما أشبه ، فكان التقليد وتوابعه بيد المسلمين وفى تعيين الاعلم والاعدل والاورع كان يكفى أهل الخبرة العلمية الدينية بدون الاحتياج الى أهل الخبرة السياسية.

هذا بالاضافة الى انالا ندعى ، ان الحكم الصحيح يتوقف على الاحزاب السياسية مطلقاً ، بل ذكرنا سابقاً وهنا ، انه أفضل الطرق ، فاذا رضيت الامة باكثرية آرائها بملك عادل ، أو بمن يعينه أهل الحل والعقد ، كفى ذلك في وجود الشرط الثانى فى الحاكم ، فالمهم ان يكون الحاكم مرضي الله ومرضياً لاكثرية الامة فى دائرة المتعدد الذين كلهم فقهاء عدول) فاذا عين الفقيه العادل الذي رضيت به اغلبية الامة وكيلا عن نفسه ، (ملكاً ،أو رئيساً ) توفر الشرطان واذا عينت الامة بالاكثرية أهل الحل والعقد ، وهم عينوا الفقيه، توفر الشرطان واذا عينواهم بأنفسهم بالاكثرية (كما في النظام الحزبي) الفقيه ، كذلك توفر الشرطان - وهذا الطريق خير الطرق بالنسبة الى الطرق الثلاثة ، كما دل عليه العقل والاستقراء - وعليه، فللامة ان تختار جماعة من الفقهاء لادارة الحكم کعشرة من الفقهاء يكون بينهم الشورى ، ويؤخذ بأغلبية آرائهم ، في الادارة والظاهر ان هذا أفضل ايضاً :

(1) لانه أقرب الى (الشورى المطلقة الشاملة ، لشورى الامة (الاكثرية) و شورى النواب (مجلس الامة) وشورى المرجعية( شورى الفقهاء) .

ص: 377

(2) ولانه أقرب الى قوله سبحانه : «فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة» مما يلمع الى كون الفقهاء طائفة ، ومن المعلوم ان الطائفة أقرب الى الاستيعاب من ناحية والى الاداء من ناحية ثانية.

(3) ولانه أقرب الى جمع الكلمة ، والى اصابة الواقع ، والى الهيبة لدي الجماهير ، والى سعة العمل ، فان يدالله ، فان يد الله مع الجماعة - كما الجماعة - كما في الحديث – وذلك امر عقلي شرعي كما هو واضح

2- تحكيم ارادة الشعب

(الثانية) ان الافراد بماهم أفراد قوى مبعثرة لا يقدرون على تنفيذ آرائهم بالنسبة الى مصير أنفسهم ، فان الحكم، كما هو واضح ، ادارة الافرادو التصرف في شئونهم ، وهذه الادارة والتصرف سواء كان كليا (كما في البلاد التي تؤمن بعقيدة ، أو شريعة حيث ان الحكام يضعون القانون وينفذون القانون بالسلطتين التنفيذية ، والقضائية ، أو في الجملة (كما في البلاد التي تؤمن بالعقيدة والشريعة) حيث ان الحكام مقيدون بالاطار الخاص (كما في البلاد الاسلامية لابد وان تكون تصرفاً في الناس ، ولماذا هذا التصرف دون ارادة المتصرف فيه ؟

ومن هنا ينشأ لزوم كون الحاكم هو الذي يريده الناس سواء كانت ارادة مطلقة (كما في البلاد غير المؤمنة أو ارادة مقيدة باطار خاص)كما في الاسلام حيث يشترط في الحاكم الفقاهة والعدالة و . . . فاللازم تجميعهم في وحدات كبار تستقى من وحدات صغار ، الى ان يصل الدور الى الافراد كالقطرات التي تتجمع فتكون العيون الصغار، ثم الكبار، ثم الانهر ، حتى ينصب الجميع فی النهر الكبير أو البحر .

ص: 378

تحكيم ارادة الشعب

فلا بدوان يكون هناك جماعة من الزعماء ، يعرفون الأمور السياسية حق معرفتها، يستقون من المجتمع بواسطة التجمعات الصغيرة: الاتجاهات والافكار الاراء ، ويوصلون الى المجتمع ، بتلك الوسائط: آرائهم حول الامور ، و بذلك تتجمع القدرات والافكار في سواقي خاصة، وتتمركز حتى تأتي بالنتائج المطلوبة التي تكون في صلاح المجتمع ، فلايكون الفرد الضعيف في مقابل قوى الدولة المتمركزة وحيداً لا يقدر على أمر ، ولا على تغيير ، وعليه فالحزب يعطى القدرات المبعثرة الضعيفة غير المتمركزة ، القدرة والتمركز والجمع .

ومثله مثل الزجاج الجامع لاشعة الشمس ، حيث ان ألف كيلو من نور الشمس لا يسبب اشعال شيء، أما اذا تجمع النور ، ولو بمقدار كف في مثل هذا الزجاج أعطى النار وقد ورد عن الرسول (صلى الله عليه و آله وسلم): (يد الله مع الجماعة )فان اليد بمعنى القوة والقدرة ، والجماعة تكون معهم قوة الله ، لان الله سبحانه جعل القوة في التجمع. فلا يقال: كيف وفاقد الشيء لا يعطيه؟ ببيان ان كل فرد فاقد، فكيف بجمع

الفاقدين يكون الشىء الذى فقدوه ؟ و أليس ذلك مثل ان يكون الانسان بتجمع الحيوانات أو يكون العلم بتجمع أفراد من الجهل، وهكذا؟

فان الجواب واضح : ان التجمع صفة جديدة، والله سبحانه جعل في هذه الصفة الجديدة، صفة القدرة، وكذلك في كثير من التجمعات ، فان تجمع القطرات يكون الشلال الذى له قدرة خارقة عن قدرة القطرات، وبتجمع البيوت تكون المدينة، وبتجمع ذرات الحديد يكون الفاس القادر على هدم الجدران، الى غير ذلك من الامثلة.

ص: 379

3- مدرسة السياسة التطبيقية

(الثالثة) الحزب مدرسة السياسة التطبيقية للجماهير، فان المدارس لاترتبط بالسياسة لأ علمياً ولا تطبيقياً ، و مدارس السياسة الخاصة بها ، لاتعمل الا تعليم السياسة علمياً، و من الواضح ان العلم غير العمل، فالذي يدرس الطب ، غير الذى له خبرة فى الطبابة، وكذلك من درس الهندسة غير من عمل مدة في الاعمال الهندسية، الى غير ذلك.

فالحزب يوجد الفهم السياسى فى أفراده كما انه مدرسة علمية للسياسة ، حيث ان الافراد الذين علموا السياسة سواء في المدارس السياسية، او في الحرب - يطبقونها تطبيقاً عملياً خارجياً ، حيث التداول اليومي للمواضيع السياسية، والتهيىء الدائم للاخذ والعطاء السياسيين ، فحالهم حال البناء الذي يبنى الدور كل يوم، وبهذه المدرسة الحزبية، يكون التعلم والتعليم السياسيين، كما ان هذه المدرسة تعطى الرشد السياسى لكل أفراد المجتمع، حيث عرفت ان الحزب تيار كبير، تصب فيه (أنهر الاجتماع الانهر المكونة من العيون الصغيرة، المكونة من القطرات) وبهذا يندفع الفرد فى الحزب الى تعلم السياسة، وتطبيقها العملى فأن ورد في الحزب عالماً بالسياسة تقدم عمله وان ورده جاهلاتعلمها، وفي كلا الحالين ، يتدرب عملياً على التطبيق الخارجى .

4 - تحمل المسؤلية السياسية

(الرابعة) المجتمع بحاجة الى من يحمل المسؤلية السياسية، والحزب هو الذي بقدر على حمل هذه المسؤلية، بينما الفرد ليس كذلك، ولذا فالمجتمع بحاجة الى الحزب ، و هذا ما يعبر عنه في الاصطلاح السياسي( بان الحزب مدرسة

ص: 380

الاخلاق) اذليس مرادهم الاخلاق التي يصطلح عليها في علم الفلسفة والاخلاق، بل الاخلاق التي يجب ان تتوفر في حملة السياسة، ولتوضيح هذا الامر لا بد من تحليل كل اجزائه الاربعة فنقول:

(أ) اما ان المجتمع بحاجة الى من يحمل المسؤلية السياسية، فلوضوح انه كما تقدم -عبارة عن ادارة الناس، والتسلط على اموالهم واعراضهم ودمائهم ومقدراتهم ، فاللازم ان يكون فى المجتمع ، من يثق الاجتماع به في القاء مقاليد السياسة اليه فيحمل مسؤلية السياسة .

(ب) والحزب هو الذى يقدر على حمل هذه المسئولية، لان الحزب عبارة عن جماعة كبيرة من نفس الناس ، و بالاخرة يكون معنى الحزب ان الناس يديرون أنفسهم بواسطة جمهرة كبيرة من ابنائهم واخوانهم الذين يثقون بهم .

(ج) أما الفرد فلا يتمكن من تحمل المسئولية، لان الفرد:

(1) لاقدرة له على الادارة السياسية الطويلة العريضة - مهما كانت قدراته كثيرة.

(2) ولادوام له، فانه يموت أو يمرض أو ما أشبه ذلك، فلا يمكن ان يكون موضع الثقة.

(3) ولاضمان لبقاء نزاهته ، حيث انه كثيراً ما ينقلب الفرد النزيه في أنظار الناس، الى فرد غير نزيه... بينما الحزب لكثرة أفراده له قدرة الادارة السياسية، ولاستمرار حياته له دوام وبقاء ممتد ، ولان مفاهيم الحزب لاتتغير بمثل تغير الفرد ، فاذا كان الحزب نزيهاً بقى على نزاهه ، و بذلك يكون الحزب مورد ثقة الناس سياسياً ، من جهة السعة العلمية ، ومن جهة الامتداد الزمانى ومن جهة بقاء النزاه الذى تحتاجه الامة فيمن تضع ثقتها عنده (اى كماً وكيفاً ، وجهة) .

(د) ومن ما تقدم ظهر وجه الامر الرابع اى وجه تسمية الحزب بمدرسة

ص: 381

الاخلاق ) فان الفرد كما قد يكون صدوقاً مستقيماً متواضعاً محباً للخير عاملا لخير المجتمع ، وبذلك يقال : فلان( ذو اخلاق رفيعة) كذلك الحزب المبنى على تلك الصفات الخيرة .... وحيث وجد حزب لا يكون الأمن الناس والى الناس، لا يمكن ان يوجد حزب ليس بهذه الصفات.

نعم ، قد يوجد في الاحزاب السرية التي يصنعها المستعمرون ، او الافراد المنحرفون ، من لا توجد فيه هذه الصفات، لكن ليس الكلام في مثل هذه الاحزاب حيث ان ما يصنعه الاستعمار رتل خامس ، وليس بحزب وان تسمى باسمه زوراً، و ذلك أمثال الحزب الشيوعى والبعثى في البلاد الإسلامية، كما ان ما يصنعه منحرف داخلى ، لا يكون حزباً بالمفهوم الصحيح للحزب، بل تجمع أصحاب عقد، لانتقام أو وصول الى هدف شخصى ، و لذا لايكون لاى منهما أخلاقيات، ولا يعتمد عليهما الناس، وسرعان ما يتشتت أفرادهما، بقطع الاستعمار عونه في الاول، وبموت زعمائه المنحرفين فى الثانى.

5 - مدرسة الانضباط الفكري والعملى

(الخامسة )الحزب مدرسة الانضباط الفكري والعملى، وذلك لان الحزب يحاول الوصول الى الحكم ، وسحب البساط من تحت أقدام منافسيه، وذلك لان للحزب برنامجاً اصلاحياً يريد تطبيقه فى المجتمع ، والتطبيق لا يمكن الا بالوصول إلى مقاليد القدرة ، و الحكم ، وحيث أنه يحاول مقاليد القدرة هي منافسة الحكومة ، والحكومة مؤسسة كبيرة ذات قدرة وانضباط ، كان لابد المحزب من الانضباط الشديد فى افراده وبرامجه حتى يتمكن من المنافسة ، فيعطى الحزب

لافراده الانضباط الفكري ، بان يفكروا بموضوعية وصحة و استقامة.

اذ لولا الانضباط الفكرى لم يحصل الانضباط العملى ، ولولا الانضباط

ص: 382

العملى، لا يمكن مقابلة الانضباط الموجود لدى الحكومة... كما يعطى الحزب لافراده الانضباط العملي، حيث ان كثرة العمل ( الفكرى والجسدى هي التي توجب التفاف الناس وثقتهم واعطائهم الرأى للحزب في الانتخابات، وبدون الانضباط لايكون علم ولا عمل، وكلما كان انضباط الحزب أحسن، وكان عمله أكثر كان أقرب الى النجاح، وهذا الانضباط العلمي لاتعطيه المدارس الابقدر، كما ان الانضباط العملي لا يوجد الا في مثل المؤسسات الحكومية وغيرها، و من المعلوم ان الانضباط الحكومي و نحوه لا يرتبط بالمجتمع، ليدخلوا في مدرسته ويتعلموا الانضباط فينحصر الأمر في الحزب.

ولذا نجد الاحزاب يطردون من لانشاط له ولا انضباط، أما من الحزب رأساً و اما من المهام الحزبية، واذا ربى الفرد فى الحزب على الانضباط الفكرى والعملي، يكون عضواً صالحاً حتى اذا خرج عن الحزب ، و حتى في اعماله الخارجة عن اعمال الحزب، وهو داخل فى الحزب وبهذا الميزان (الانضباط ، والنشاط) يتقدم فرد وافراد في الحزب على الاخرين، وقد يكون هذا الفرد او الافراد في رتبة متأخرة من السابقين عليهم ، فى الدخول في الحزب ... ولذا يكون هناك تصارع دائم ، بين القدمة والجدة ، فالقديم يريد احترامه و تقديمه لانه قديم ، و الجديد يريد شق الطريق الى الصف الامامي ، لانه أليق و انشط ، بينما القديم قد ترهل وكسل، ولكن العاقبة دائماً لاكثر هم صلاحية ، اذ المجتمع جبل على تقديم الاحسن .

قال سبحانه : « اما الزبد فيذهب جفاءاً ، و أما ما ينفع الناس فيمكث في الارض ».

6 - صنع التنافس الخلاق

(السادسة) حيث ان الحزب يوجد التنافس بين أفراده من ناحية، وبين هذا

ص: 383

الحزب والحزب الاخر من ناحية ثانية ، و بين أفراده ، و بين افراد المجتمع المبعثرين من ناحية ثالثة ،( حيث ان الانسان بطبعه لا يتمكن ان يرى تأخر نفسه وتقدم غيره عليه) يكون الحزب مضماراً للتقدم والتقديم، ولذا نجد الحكومات ذات الاحزاب في تسابق دائم، سواء فى العلم أو الفن اوغير ذلك.

وقد أرشد القرآن الحكيم الى التنافس في الخير، فقال سبحانه: «سارعوا»(1) و «فاستبقوا الخيرات»(2)و«في ذلك فليتنافس المتنافسون»(3)

7- تقديم الشعب الى الامام

(السابعة) الحزب له قيمة المؤسسة ، كسائر المؤسسات التي لها قيمها ، فكما ان المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والتربوية وما أشبه لها قيمها، حتى ان وجودها خير من عدمها ، كذلك المؤسسات السياسية ، فان المؤسسة تقد. الامة في الجهة التي وضعت المؤسسة لاجلها ، و هكذا بالنسبة الى الحزب ، حيث انه يقدم الامة بالنسبة الى السياسة ، والظاهر ان هذه الفائدة ليست فائدة جديدة غير الفوائد السابقة، وانما هذه اجمال لتلك الفوائد .

و كيف كان ، فلهذه الجهة يتقدم الاعضاء الى اختيار العضوية فيه ، كما يقدمون النشاط والعون المالى لاجل تقويته، فان الحزب لما لم يكن من قبيل الاشياء الضارة ، والعقلاء يقدمون عليه كان لابد وان يؤخذ اقدامهم دليلا على حسنه مثل سائر ما يقدم العقلاء عليه، حيث ان اقدامهم دليل على حسنه.

وقد قررت جملة من الحكومات اعانة الاحزاب السياسية بالمال لاجل تقديم شؤنها ، تصديقاً منها بفائدة الحزب أمثال ايطاليا ، وامريكا الشمالية ، وآلمانيا الغربية واليابان ،وغيرها، وذلك بحجة ان الحزب حتى المخالف منه المدولة- يسير فى تقديم الامة الى الامام فى هذا المجال ، وانه مما يريده الشعب فليس

ص: 384


1- سورة آل عمران/133
2- سورة البقرة / 148
3- سورة المطففين / 26

على الحكومة ان تلاحظ موافقته للدولة (بالاكثرية) أو مخالفته( بالاقلية)...

نعم في اكثر دول العالم ذات الاحزاب المتعددة( لانساعد الدولة الحزب) وانما عليه ان يحصل ما يحتاجه من الاموال من أمثال بيع الجرائد ، وبطاقات العضوية ، و تبرعات المحسنين ، الى غير ذلك ، اما الحكومات المبنية على وحدة الحزب ، فحيث انها ديكتاتورية ، يتصرف الحزب في اموال الامة كيف يشاء .

ولا يخفى ان الاسلام، لا يخالف ما تقدم من البنود السبعة، اذا لم تكن فيها أضرار اذلاشيء أهم من فوائد وجود الحزب :

(1) كتفريغ ارادة الامة في المنتخب.

(2) وتجميع القوى المبعثرة في الشعب.

(3) والتقديم بالامة سياسياً .

(4) وتكوين المسؤلية النظيفة الصالحة.

(5) وصنع مدرسة الانضباط الفكري والعملي.

(6) وايجاد التنافس الحر الصحيح لتقديم الامة .

(7) و تكوين قيمة جديدة في المجتمع في ناحية من النواحي والتي منها السياسية .

ص: 385

مسألة : 38 الحزب بين مؤيديه ومعارضيه

اشارة

قد ذكرنا فى المسألة السابقة ، فوائد الحزب ، ونذكر في هذه المسألة ، ما ذكروا من اضرار الحزب، ولنقدم المذكورات ونرى وزن كل عيب في نفسه وما يمكن ان يكون أهم من الاضرار والمنافع المتقدمة ، حتى يوجب الجواز أو الحرمة أو الوجوب، فان كل شيء ثبت ان له اضراراً ومنافع، ان تساويا أوزاد احدهما بمالا يمنع النقيض، كان جائزاً - بأحد أقسامه الثلاثة - وان زاد احدهما بما يمنع النقيض كان واجباً أو حراماً، والمذكور من الاضرار أمور :

(الأول) ان الحزب يزاحم الحرية الفردية، فان الانسان قبل دخوله في الحزب حرفی آرائه واعماله ، فاذا دخل فى الحزب يجب عليه بان يتقيد بآراء الاكثرية في قوله وعمله ، والأطرد من الحزب ، ولذا لم يكن للفرد في الحزب أهمية خاصة، بل الاهمية للاكثرية، وربما أضاف على ذلك بعض الاسلاميين ان تحطيم الحرية الفردية خلاف الاسلام الذي جعل الناس مسلطين على أموالهم و أنفسهم .

وفيه اولا ان الانسان يدخل في الحزب باختياره ، ويحق للانسان ان يحدد

ص: 386

من حرية نفسه بنفسه ، بما لايصل الى القدر المحرم ،ومقتضى كون الانسان مختاراً في شئونه (غير المحرمة) ان له ذلك، فان الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم ثم ان الفرد حرفي ان يخرج من الحزب في اي وقت شاء، فهو حتى بعد الدخول لم يفقد حريته ، فالحزب لم يناف الحرية .

وثانياً ان التقيد برأى الاكثرية في نفع الفرد الى جنب ضرر التقيد وهو مزيد قوة الانسان وقدرته كما تقدم من مثال القطرات المتجمعة ، والانسان كثيراً ما يقدم المصلحة الاهم على المصلحة المهم .

وثالثاً : ان الفرد في الرأي والعمل ليس دائماً يقع في الصف المقابل للاكثرية ، ونفع كونه في الصف الموافق احياناً ، يوازى أويغلب على ضرر كونه في الصف المخالف أحياناً، والفرق بين هذا وسابقه، ان السابق كان يقول: ان ضرر المخالف يقابل بنفعه في كونه قوياً بالانضمام ، وهذا يقول : ان ضرر المخالف في هذا الرأى المخالف مثلا يقابل بنفعه في الرأى الاخر الموافق .

(الثاني) ان وجود الحزب يخالف وحدة الامة ، سواء في الحكومات ذات الاحزاب، أو الحكومات ذات الحزب الواحد حيث الاحزاب تفرق كلمة الامة - في الاول- والحزب الواحد، يوجب تشقيق الامة الى الحزبي واللاحزبي فى الثاني فلولم يكن حزب كان جميع الافراد بشكل واحد ورأي الكلانهم أفراد اسرة واحدة بخلاف ما اذا تشكل الحزب داخل الامة ، حيث تتكوّن الانتماءات المختلفة، ويحدث التضارب والاختلاف ... ولا يخفى ان هذا الرأي يخالف أصل الحزب وحدة وتعدداً .

وهناك رأيان آخران :

(1) الرأي الذي يخالف الحزب الواحد لانه يوجب الديكتاتورية ولا يفسح المجال الالمن كان في اتجاهه فقط.

ص: 387

(2) الرأي الذي يخالف الاحزاب المتكثرة المتعددة بحجة ضرر الاحزاب المتعددة دون الحزب الواحد

موقف الشيوعية تجاه الاحزاب

و الشيوعية والفاشية من انتصار الرأي الثاني.

أما الشيوعية، فقد استدلت لرأيها، بان اللازم قيادة الشعب الى الاشتراكية حيث لا طبقات ، والحزب اذا كان متعدداً ، كان سبباً للطبقات فلا ينتهى الامر الى الاشتراكية .

واما الفاشية ، فقد استدلت لرأيها ،بأن الأمة واحدة وتعدد الاحزاب يوجب تحطم الوحدة ، فالجمع بين فائدة الحزب حيث انها(مدرسة السياسة) وبين ضرر تعدد الاحزاب، يوجب ان يكون فى البلد حزب واحد .. وحيث قد تقدم فوائد الحزب المتعدد في المسألة السابقة ، لا بدوان نتعرض لرد الرأيين الاخرين ، اي (عدم الحزب) و (عدم الحزب المتعدد) .

فنقول : أما ما ذكر للحزب من الضرر ، فالجواب عنه : انه ان اريد بتشقق الامة التشقق الضار، فهو أول الكلام، وان اريد التشقق غير الضار، كان التشقق غير مهم ، فلا يمكن ان يكون التشقق سبباً لالغاء الحزب .

ان قلت : كل تشقق ضار ؟

قلت : ليس كذلك فان الاخذ ببعض الامة لتقديم الامة الى الامام نافع وهو كذلك في كل مؤسسة اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافيه أو غيرها، بل وحتى الدين كذلك قال سبحانه : كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين الى قوله وما اختلف فيه الا الذين اوتوه وسبب ذلك ان كثيراً من الناس لا يتحملون التقدم ، في أية جهة كان التقدم ، سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو غيرها ،

ص: 388

حسداً ، أوجهلا ، بظنهم ضرر ذلك التقدم، ولذا حارب الناس حتى الانبياء والائمة والمصلحين .

قال سبحانه : «ياحسرة على العباد ما يأتيهم من رسول الاكانوا به يستهزئون».(1)

وقال تعالى : «و همت كل امة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليد حضوا به الحق »(2)

وقال عز من قائل : « أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله»(3) الى غير ذلك من الايات والاخبار .

فاذا تكوّن حزب لتوعية الامة ، وللسير بهم في طريق الشورى الصحيحة، كي لا يستغلهم الديكتاتوريون ، لابد وان يجهل بعض فوائد ذلك ، كما لابدوان يحارب من يريد الاستبداد هذا العمل، وبذلك تتشقق الامة . . . هذا بالاضافة الى انه لوقيل بضرر التشقق ، لكان ربحه من الجهة التي ذكرناها اكثر من ضرره ولدى الموازنة لابد وان يقدم الربح على الضرر ، فمثله مثل عمل الجراح ، اما لانه ليس بضار، أو انه ضار لابد منه، لان لما يتبعه من الصحة فائدة ترجح على ضرره .

وأما ما ذكره الشيوعيون دليلا على لزوم وحدة الحزب ، فيرد عليه انهم يريدون ضرب الاستغلال - كما يزعمون ولاربط لذلك بوحدة الحزب وتعدده اذ من الممكن تعدد الحزب في اطار العمال ، كما كان من الممكن تعدد الحزب في اطار الاستغلال - في أمريكا ونحوها - وقولهم : لابد وان ينتهى تعدد الاحزاب الى تسلل الاستغلال الى بعضها ، قول لم يقم عليه دليل، والحقيقة : ان بناة الشيوعية حليت الديكتاتورية فى مذاقهم ، فارادوها ، ولما قوبلوا بالاعتراض ؟ أجابوا بهذا الجواب ، الذي بمثله يجيب كل ديكتاتور، أليس انهم يجيبون : بأن الخطر يهدد البلاد اذا مارضوا بحزب آخر ؟ وقبلهم

ص: 389


1- سورة يس / 30
2- سورة غافر/5
3- سورة النساء/54

قال الديكتاتور الكبير فرعون :« اني أخاف ان يبدل دينكم ، اوان يظهر في الارض الفساد» (1)الى غير ذلك من التبريرات التي يتذرع بها المستبدون لاخفاء جوهر مآربهم .

موقف الفاشية تجاه الاحزاب

ويأتي بعد ذلك دور الفاشيين ، واي منا لا يعلم ديكتاتورية هذا الحزب ؟ ويكفى ذلك دليلا على ان كلامهم صرف تبریر مهلهل تختفى ورائه الديكتاتورية والأفهل سحق ارادة نصف الامة - الذين لايرون رأي الحزب الواحد - أفضل أو اعطاء الارادة لكل الامة ، فيريدون مايشائون ؟ هذا مع الغض عما تقدم من ان كل تقدم يوجب تشقق الامة وانه لاضرر في ذلك اطلاقاً... هذا مع انا نسلم ان بعض الاحزاب، كبعض الافراد انتهازيون وصوليون ،نفعيون لاتصح اجازتهم و اطلاق سراحهم ، لكن انحراف البعض ليس ملازماً لانحراف كل بعض ، وقد قالت الفلاسفة من القديم :( الجزئى لا يكون كاسباً ولا مكتسباً) .

ثم انه ينتقض من يحارب تعدد الاحزاب ، ويسلم أصل الحزب - بحجة ان التعدد يسبب التشقق بنفس الحزب الواحد، اليس الحزب الواحد ايضاً يسبب تشقق الامة ، الى الحزبي واللاحزبي ؟ واذاً يعود المحذور بالحزب الواحد ايضاً ... ثم يأتى دور النتائج ، فهل الانسان في ظل الحزب الواحد أكثر مأساة أو الانسان في ظل الاحزاب المتعددة ؟ ومن يقول بالثاني ، لابدوان يكون غالطاً او مغالطاً .

هل الحزب يزيد المشاكل اعضالا؟

(الثالث) ان الحزب يلوّن كل مشكلة باللون السياسي ، وان كانت المشكلة

ص: 390


1- سورة غافر / 26

اجتماعية أو اقتصادية أو نحوهما، وذلك لكي يجني الحزب من وراء ذلك أرباحاً سياسية ، في تقوية نفسه ، أو تضعيف الحزب المخالف له ليسحب البساط من تحت اقدامه .

اما وجه ضرر تلوين كل مشكلة باللون السياسي فهوان حل المشكلة يصعب حينئذ بينما اذا لم تلوّن باللون السياسي كان حلها سهلا، وببقاء المشكلة تتضرر الامة ، فالحزب - بالاخرة - يوجب تضرر الامة .

مثلا : قد تغلق الدولة الجامعات لاجل تعديل مناهجها ، حيث كانت تلك المناهج قديمة لاتساير تقدم العلم والصناعة ، وحل هذه المشكلة ، ان تتعاون الاحزاب في وضع البرامج الصحيحة التقدمية للجامعات ، كيما تفتح بعدمدة قليلة ، واذا حصل ذلك التعاون انتفعت الامة بفتح الجامعات ، بينما الحزب السياسي المخالف للدولة - علناً كان أوسراً - يفسر غلق الجامعات بان الدولة لا تتحمل انتقاد الطلاب والاساتذة لسوء تصرف الدولة ، ولذا اغلقت الجامعات لتستريح من انتقادهم ومظاهراتهم واضراباتهم ، أطوال مدة ممكنة ، و بذلك يبرر الحزب المناوء عدم اشتراكه فى اصلاح المناهج ، وبذلك تتضرر الامة من خبرة وعمل الافراد الصالحين - الذين لايشاركون ، بتأثير من الحزب المناوء ، في اصلاح المناهج - الى غير ذلك من الأمثلة ..

ولا يخفى ان هذا النقد انما يوجهه - الى الحزب - أصحاب السلطات ، وذلك بقصد ان يظهروا الحزب أمام الرأي العام مضراً بمصالح الامة ، فيكون لهم المبرر في الديكتاتورية، التي يريدونها لانفسهم، ويختفون وراء المبررات لابقاء صفتهم الاصلاحية .

ويرد على هذا التبريران اتخاذ بعض الاحزاب مثل هذه التهجمات على الدولة لايوجب ان يكون الحزب غير ذي فائدة أكثر من ضرر هذا النحو من

ص: 391

التهجم ، والامة ليست جاهلة الى هذا الحد حتى لا تدرك ان أية من الجهتين : الدولة، أو الحزب المخالف ، صادقة في مدعاها، والمفروض ان كلتيهما تملك وسائل الاعلام والدعاية ، سواء كان الحزب المناوء محظوراً أو مجازاً .

هل يضيق التحزب من آفاق الفكر؟

(الرابع) ان الحزب ضيق ، اي يوجب تضييق اطار فكر أعضائه ، فلا يهم عندهم الحق والباطل، بل المهم عندهم رأى الحزب مهما كان - ولذا قال سبحانه «كل حزب بمالديهم فرحون»(1)- بينما الفرد غير الداخل في الحزب ليس له هذا الافق الضيق، بل يكون مع الحق این وجده، ولذا اشتهر عند الناس لفظة (الحزبيات الضيقة ) .

وفيه أولا : ان هذا حال كل انتماء الى دين أوقوم أو ارض أولغة أوما اشبه وهل يمنع كل انتماء لذلك ؟

وثانياً : لاتلازم، حيث ان الاحزاب الطبيعية هم فى المجتمع ومن المجتمع والى المجتمع، ومثل هذا الحزب لابد وان يحس كما يحس المجتمع، واذا كان هناك ضيق حتى في مثل هذا الحزب ، فلابد وان يتحمل هذا الضيق لمافيه من الفوائد المتقدمة ، من باب قاعدة الاضرار والارباح .

وهذا الاشكال نشأ من غلبة كون الاحزاب في الشرق الاوسط ، أحزاباً استعمارية ليست من المجتمع ، ولا الى المجتمع ، ولافي المجتمع ، بل هي أحزاب ديكتاتورية تطبق أو امر الاسياد ، وليذهب المجتمع بعد الى الجحيم كما هو الحال فى حزب البعث ، والحزب الاشتراكي ، والحزب الشيوعى، وغيرهم ، ولذا كان شعارهم : ( نفذثم ناقش ) وكان ديدنهم الفردية ، والمطارة للاحزاب الاخرى ، والاستبداد بالسلطة، والى آخره .

ص: 392


1- سورة المؤمنون/53

نعم لابد للحزب من المراقبة الكاملة، حتى لا ينحرف ، فانه باعتباره قوة،- والانسان يطغى ان رآه استغنى - يوجب كبرياء أفراده ، اذالم يواظبوا مواظبة كاملة ، حاله حال سائر القدرات ، امثال العلم ، والمال ، والسلاح ، والعشيرة وغيرها ، بل المواظبة اللازمة في الحزب أكثر من المواظبة اللازمة في الفرد، من جهة انه مؤسسة، والمؤسسات لها اعداء كثيرون ، بينما ليس الأفراد كذلك كل ذي نعمة محسود كما في الحديث - فاذا لم يكن لافراد الحزب المواظبة الكاملة ولو مشوا مشياً عادياً - كان لهم خطر السقوط هذا بالاضافة الى ان سلبيات الفرد فى الحزب ، تسرى الى كل الحزب ، لانهم وحدة واحدة ما لبعضهم لجميعهم ، وما على بعضهم على جميعهم.

الحزب والوسائل اللا اخلاقية

(الخامس) : ان الحزب مدرسة الانحراف، حيث ان الذين ير أسون الحزب (حيث يريدون امتداد بقائهم فى الرئاسة) لا بد لهم من الكذب والخداع والتضليل اذبدون هذه الامور يقصر بقائهم، بل ولا يقدرون على السيطرة الكاملة على الحزب و اظهار انفسهم بمظهر النشط العامل لخير المجموع ، الى غير ذلك من الم ناذير المقارنة للسلطة.

وفيه اولا : لانسلم كلية التلازم فهذه الكلية مثل كلية التلازم بين التسلط على البلاد وبين انحراف الطبقة المتسلطة ، ومثل كلية التلازم بين كل قدرة من علم ومال وجاه و... وبين الانحراف .

وثانياً : اذا سلم بالتلازم ، فاللازم المقارنة بين الاضرار والمنافع ، ولاشك ان المنافع أكثر ، حيث الترشيد الفكري للامة والوقوف في وجه طغيان السلطة والتنافس الحر للتقدم الى غير ذلك مما تقدم في مسألة منافع الحزب .

ص: 393

هل الحزب عدو للديمقراطية ؟

(السادس) ان الحزب يأتي الى المجتمع بعنوان كونه مؤسسة للديمقراطية، بينما الحزب من أعداء الديمقراطية، وذلك لان الحزب انما يتكون لاجل جعل الناس متساويين في الحقوق ، واتاحة الفرصة لكل فرد في التقدم ، والتمتع بكل مزايا المجتمع من المال والرفاه والسلطة وغيرها، وحيث يصل بعضهم الى قيادة الحزب ينسى مصالح حتى قاعدة الحزب : من الافراد بله مصالح سائر الامة وانما كل همه مصالح نفسه ابقاءاً لما حصله ، واكتساباً لمصالح جديدة، ولذا نجد ان رؤساء الاحزاب يتنعمون باضعاف أضعاف ما يحصله افراد القاعدة . . . و حينذاك تقوم و حينذاك تقوم فئة من الحزب بنقد الزعماء ، حتى يقوضوا عروشهم، ويأتي بعدهم جماعة اخرى الى الرئاسة يكررون نفس المنهج السابق اذا وصلوا الى القيادة ، فالحزب مطية للاستغاليين والديكتاتوريين أعداء الديمقراطية والعدالة الاجتماعية .

وفيه أولا : ان ذا الامر يأتي بالنسبة الى الحكومة، فهل هؤلاء الناقدون للحزب يرون مثل هذا الرأي في الحكومة ؟ واذا لم يكونوا يرون ذلك - وهم لايرون ذلك بالفعل - فما هو مبرره-م لتجويزهم الحكومة ، بينما لايجوزون مثل ذلك في الحزب ؟

وثانياً : لانسلم ان كل حزب يعيش في الحريات حاله هكذا ، فان الرقابة الجماهيرية تمنع مثل ذلك ، أما الحزب الذي يعيش في حالة ديكتاتورية ، فليس الكلام فيه - اذ مطرح نقد اولئك في الاحزاب الديمقراطية - .

وثالثاً : نسأل هل اطلاق السلطة تفعل ماتشاء خير أم وجود أحزاب تراقب السلطة ؟ وان كان بعض رؤساء الاحزاب يفعلون ماذكرتم ؟

وكيف كان ، فالمجتمع ، والرقابة ، جناحان للتقدم، وفي الحديث : (يد

ص: 394

الله مع الجماعة) وقد شرّع الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، لاجل الرقابة فانسلاخ الاجتماع عن احدهما معناه هبوط الاجتماع ، كما هو المشاهد فى البلاد الديكتاتورية، حزبية كانت أو غير حزبية، وبعكسه ما يشاهد في البلاد الاستشارية وان كان لنا مأخذ على البلاد الديمقراطية ، بانها انحرفت عن طريق الاستشارية والعدالة الاجتماعية ، الى الرأسمالية التي تتدخل في كل شيء ، سياسة كانت أو اجتماعاً ، أو اقتصاداً ، أو ثقافة ، أو غيرها ، فتحرّفه ، كما المعنا الى شيء من ذلك في كتبنا الاقتصادية .

ص: 395

مسألة : 39 صور التجمع واشكاله

اشارة

التجمع له صور المعنا الى اجمالها في السابق، ولتوضيح الصور المذكورة لما فيها من الفائدة السياسية - نأتي في هذه المسألة الى تفصيل بعض تلك الصور فنقول :

1-التكتلات النقابية

من التجمعات (النقابة) وقد اسست النقابات في الاصل لتجميع قطعة خاصة من الامة لاجل رعاية مصالحها، وقد ذكر في القرآن الحكيم، حيث قال سبحانه: «ولقد أخذ الله ميثاق بنى اسرائيل ، وبعثنا منهم اتنى عشر نقيبا وقال الله اني معكم لئن اقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة ...»(1)

وقد كان بيد والد المرتضى والرضي- قدس الله اسرارهم- نقابة الطالبيين، وحيث انتقلت علوم المسلمين الى الغرب، وعرفوا بفائدة هذا الشيء ، شكلواهم أول نقابة - في بريطانيا ، كما يقال - للعمال، وقد أعترفت بمشروعيتها الدول الصناعية ، وأخذت تنتشر هناك ، في النصف الثاني ، من القرن التاسع عشر

ص: 396


1- سورة المائدة/ 12

المسيحي ، وكان الاعتراف بها في المملكة المتحدة على نطاق واسع ، ثم اعترفت بالنقابة فرنسا عام( 1884 : م) وهكذا توالت البلاد الصناعية في تكوين النقابات للعمال

هدف تشكيل النقابات

وانما يكون العمال النقابات ، للدفاع عن مصالحهم ، التى أهمها زيادة الاجور وتخفيض ساعات العمل، وليس ذلك اعتباطاً ، وظلماً من العمال لاصحاب العمل ، سواء كان صاحب العمل رأسمالياً ، أو شركة ، أو حكومة بل لاجل الاجر العادل - للجسد - بان يكون الاجر بقدر العمل ، بما يسبب الرفاه المعامل، وان يكون بقدر العمل والفكر ، فيما يكون العمل جسدياً فكرياً كما في المدير ونحوه، والغالب ان التضخم يسبب غلاء الاسعار، بينما الاجور لا ترفع بقدر ذلك الغلاء - كما ذكرنا تفصيل ذلك في كتاب (الفقه : الاقتصاد )كما ان النقابة تهتم لحماية العامل ضد اصابات العمل واخطار المهنة ، وحماية المرأة العاملة بصورة خاصة، حيث نعومتها الطبيعية، وحيث لها واجبات الحمل والولادة والرضاع ، وحقوق الزوج ، وكذلك حماية الاطفال العاملين ، اذا كان هناك طفل عاملا .

وتهتم بتوفير ساعات الراحة للعمال وأوقات الرفاه والاجازات السنوية ، وانشاء تأمينات جماعية وصناديق ادخار تساهم الدولة فيها للتأمين ، في حال البطالة والعجز والشيخوخة وضمان التعليم للعامل ، وتوفير الوسائل الصحية والمدرسية وما أشبه للعامل واسرته واذا كان اجحاف على العمال ، دعت النقابة الى الاضراب والمظاهرات ، مما يوجب اعطائهم حقهم ...

وفي نظر الاسلام ، لا بأس بهذا الامر ، بل هو لازم شرعاً ، اذا كان من

ص: 397

طرق انقاذ الحق ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والتقديم بهذا القطاع من الامة الى الامام ، وقد جعل الاسلام دساتير خاصة ومناهج محددة للعمال والفلاحين ، مذكورة في الفقه الاسلامي ، وفي الاحاديث الشريفة ، و قد جمع جملة من علمائنا ، حقوقهم في كتب خاصة، فعلى الطالب مراجعتها.

نقابات جديدة

ولم يتوقف أمر النقابات ، الى حدنقابة العمال ، بل تعدته الى نقابات الفلاحين والمعلمين ، والاطباء ، والمهندسين ، والصيادلة ، والطيارين ، و

الموظفين ، الى غير ذلك من سائر اصحاب المهن وعمال المصالح ، وهناك مجلس ادارة ، واعضاء منتخبون، وانتخابات حرة للجمعية الادارية ، كل سنة مثلا - مرة الى غير ذلك ... ثم تعدى نشاط النقابات من الأمور المذكورة سابقاً ، الى السياسة وكانت هي النواة الأولى لتكوين الاحزاب العمالية ، في مختلف البلدان الصناعية في الغرب وغيره ، وحاولت ان تستغل مثل ذلك الشيوعية ، فتجعله سلماً الى تسلمها السلطة ، وبناء الديكتاتورية على اكتافهم -مما لسنا بصدد تفصيله الان - .

وانما تدخلت النقابات في السياسة ، لاجل ان توصل أصوات العمال و مطالبهم الى مسامع مجلس الامة لاجبار السلطة التنفيذية على اتخاذ الاجراءات اللازمة ، بشأن انصاف العمال ... وبقيت نقابات لم تربط نفسها بالسياسة كاملة وان كان لها دلو من الدلاء في هذا المجال .

وحيث ان النقابات تحتاج الى المال ، لاجل شئون العمال حال البطالة والمرض والشيخوخة وما أشبه ، كان لابد لها من وضع صناديق لجمع المال والاتجار بذلك المال للاسترباح ، بغرض وفاء الحاجات لا لغرض التجارة على

ص: 398

غرار الشركات ، والا خرجت عن نظام النقابات الى نظام الشركات - وذلك غير مقصود للنقابة - .

2 - القوى الضاغطة

(ب) القوى الضاغطة ، وهي عبارة عن جماعات من الناس لهم مطالب معينة ، في اطار مصلحتهم ، أو المصلحة العامة، يشكلون مظاهرات و اضرابات ومراجعات الى الدولة ، لالغاء قانون ، أو تشريع قانون ، أو تعديل قانون ، و قد يطلق على هذه الجماعات كلمة (لوبي) ويرمز بهذه الكلمة الى الممرات ، وغرف الانتظار والمداخل والاشخاص الذين يترددون على المجالس التشريعية للتأثير على أعضائها ، وهم يطلبون من رجال الحكومة وممثليهم من المجالس النيابية ان يستجيبوا لمطالبهم ، بتشريع أو الغاء أو تعديل قانون ، وفق طلبهم لاعطائهم حقاً أو رفع كلفة عنهم ، أو اعطاء الجماهير ذلك الحق ، أو رفع الكلفة عن الجماهير، وهذا الممر أو غرفة الانتظار بمثابة المأوى لحقوق الجماعة ومنها يتوجهون لتفسير مطالبهم ، والدفاع عن حقوقهم ، ويعبر عن اللوبي في اللغة العربية (باللولب) وأهم الشرائط في هذه القوى الضاغطة :

(1) استخدام الضغط ، بدون العنف ، ولاشق عصا الطاعة، والاكان فوضى واضطراباً ، ولا تستعمل هذه القوى الضغط بتحطيم الاملاك الحكومية ، ولا الاملاك الخاصة ، ولا عرقلة المواصلات ، وارهاب الناس فى الشوارع ولاحرق المباني ونهب الحوانيت، والقتل والجرح، وما أشبه، فالضغط أدبي بالاضراب والمظاهرات ومراجعة القوى .

(2) ان يكون الضغط في خطوط مدروسة ، لفترة معينة، تبدى فيها الجماعة احتجاجها على السلوك المتبع في رعاية مصالحها ، أو المصالح العامة .

ص: 399

وذلك مثل اضراب عمال الموانيء وشحن السفن والمناجم والمواصلات، وغيرها في فرنسا وامريكا وبريطانيا وايطاليا واليابان وغيرها، فقد شكل (مارتن) مسيرة سلمية كبيرة للاحتجاج على التمييز العنصرى في امريكا ، كما فعل جماعة اضراباً لمنع مطار خاص في اليابان، وهذا دائم ومستمر في البلاد الغربية، التي لها بعض الحريات ، بينما لا يوجد مثل هذا الشيء في البلاد الشيوعية اطلاقاً اذتقابل مثل هذه الحركة بمنتهى القسوة والعنف والقتل الجماعي ، اذ لاقيمة للانسان في هذه البلاد، وانما قيمته قيمة آلة حقيرة في معمل كبير ، الا ما حدث في بولونيا ، في هذه الاونة الاخيرة فلم تتمكن الحكومة الشيوعية من قمعه ،بشدة، لاجل خوفها من الدعاية المضادة في العالم، ومن تدخل الغرب بما لا يحمد للشيوعيين عقباه .

وقد تبعت البلاد الشيوعية في القمع القاسي ، البلاد ذات الانقلابات العسكرية الغربية، أمثال ايران الشاه ومصر عبد الناصر و السادات، وعراق قاسم وعارف والبعث وغيرها حيث ان الاضراب والمظاهرة تقابل بأقسى العنف ، وذلك لان حكومات هذه البلاد عميلة يأتى بها الغرب الامريكي، أو البريطاني، أو الاسرائيلي أوما اشبه لاملاء جيوب المستعمر، وتحطيم بلاد الاسلام، ومن الواضح ان الاضراب والمظاهرة وما أشبه ، تنافي مثل هذه المصلحة للمستعمر ومثل هذه الحالة تكون في بلاد العملاء الوراثيين .

موقف السلطة تجاه القوى الضاغطة

الحكومات الديمقراطية (ولو الصورية منها) تتخذ كثير أوسائل السلم في ارجاع القوى الضاغطة الى حالتها الطبيعية، وذلك باعطاء بعض حقوقها وارضائها للتنازل عن بعض دعاواها الآخر، مثلا اذا كان التضخم بمقدار خمسة في المأة،

ص: 400

وطالب العمال - بواسطة القوى الضاغطة - تلك الزيادة في الاجور ، اعطتهم الدولة ثلاثة في المأة ، واقنعتهم بالتنازل عن الاثنين الاخرين ، بحجج تكون في الصورة صحيحة ... وتعمل الحكومات اليوم جاهدة على علاج ارتفاع الاسعار، والتوفيق بين ارباب الاعمال والعمال ، كما ينشأ ضمن النظام السياسي في الدولة مجلس اقتصادى ، أو لجنة خاصة للتوفيق بين الاسعار والاجور حتى لا يؤدى اتساع الهوة الى موجة من السخط والتذمر تنتهى بتهديد النظام السياسي .

وقد ذكرنا في كتاب الفقه : الاقتصاد ان الغالب في أسباب هذا الغلاء الفاحش الذي أورث التضخم، هو انانية الحكومات الرأسمالية والشيوعية - على حد سواء - حيث انها تصرف مبالغ طائلة في التسلح، وهذا يوجب صرف الشيء الكثير من المواد والنقود في هذه الجهة، وبه يحدث التضخم . ثم ان مطالب القوى الضاغطة، قد تكون غير عادلة، مما يضر اعطائها بالاخرين خصوصاً اذا كانت القوى الضاغطة قوة مرتبطة بخارج البلاد، كما هو الحال بالنسبة الى الصهيونية المتواجدة في امريكا وفرنسا وبريطانيا، فان القوة اليهودية حيث انها تلاحظ الشبكة العالمية لليهود من ناحية ، ومصلحة اسرائيل من ناحية ثانية ، لاتهتم بمصالح البلاد التي تقطنها ، وانما تضغط على تلك البلاد لاجل مصالحها الخاصة، وبذلك يختل توازن ،البلاد، فاللازم أن تلاحظ القوى الثلاث (التشريعية ، والتنفيذية ، و القضائية ) قدر العدل في القوة الضاغطة ، فتعطيها ولا تتعدى عن ذلك ، حيث يورث التعدى الفوضى والاضطراب ، اختلال و التوازن ، فقد تزعج القوى الضاغطة السلطة التشريعية فتشرع قانوناً ليس في مصلحة البلاد، أو تطلب القوة الضاغطة تنحى السلطة التنفيذية السلطة التنفيذية عن الحكم بحجة عجز التنفيذية عن حل المشاكل ، فاذا استجابت التشريعية لذلك ، كان معناه

ص: 401

ضعف السياسة، الا اذاكان الحق مع القوى الضاغطة .

والقوى الضاغطة البريئة لها أهميتها في البلدان الديمقراطية ، لانها القوى المعبرة عن مطالب الجماعات ، في ميادين الاقتصاد والزراعة والتجارة والعمل والمهن ، وما الى ذلك ، وكل قوة لجماعة معينة تنبىء عن نشاط تلك الجماعة في الدفاع عن مصالحها، وعن عدالة القضية ، أو عدم عدالتها ، فالجماعة ان لم تكن مربوطة بالخارج، وكانت ناضجة، كانت مصالحها أقرب الى العدالة، بخلاف العكس... وتستعين الهيئات التشريعية بآراء جمعياتها في الحصول على رأى الجماعات الضاغطة، فاللازم على القوة التشريعية ان تعرف قدر وقيمة الجماعات الضاغطة ، حتى لا تخطىء في اعطائها دون قدر العدالة ، أو فوق قدر العدالة ، اذ كلا الامرين يمثل انحرافاً عن الحق، بالاضافة الى ان اعطائها فوق حقها يشكل خطراً على اقتصاد البلاد، وميزانيتها ورؤس أموال الشركات وارباحها والنظام الاجتماعي .

وقد ذكرنا هنا اجمالا، وفي الكتب الاقتصادية تفصيلا، ان الاقتصاد السليم هو الذى يعترف بالملكية الفردية (بما في فلكها) فى اطار الحق العادل للعمل الجسدى والفكرى والمواد والشرائط والعلاقات فاللازم على التشريعية ملاحظة هذه الجهة عند اعطاء القوى الضاغطة مطاليبها فاللازم ان لاتكون القوى الضاغطة كلا على النظام الديمقراطى ومحرفة له ، بل عوناً له في وضع العدالة في نصابها ، وجعل الاستشارة والاكثرية ميزاناً في أمورها .

ولذا فاللازم زمّ المتطرفين في القوى الضاغطة، حتى لا يتعدوا عن حدودهم، وتجنيب المسؤلين في النظام، عن دخو لهم في القوى الضاغطة، والاكان ذلك تمهيداً للانحراف و اختلالا بالتوازن... والجماعات الضاغطة، تكون اسلامية، اذا قامت

ص: 402

بواجب احقاق الحق و ابطال الباطل ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلم تتعد الحق ولم تطلب الامر الجائر، فهى بالاخرة (جماعة) ويد الله مع الجماعة - بشرط ان تلتزم بالاطار الاسلامى .

3- الجمعيات التعاونية

(ج) الجمعيات التعاونية، تؤسس على أساس اعطاء كل ذي حق من المنتج والمستهلك حقه، بالاضافة الى التخفيف عن المستهلك مهما أمكن، حتى يتمكن من الوصول الى حاجاته، فان المستهلك قد لا يصل الى حاجة اطلاقاً ، وقديصل الى حاجة بأكثر من قيمته، وكذلك المنتج قد لا يتمكن من الانتاج اطلاقاً، كما قد يتمكن من الانتاج لكن بصعوبة أكثر من الصعوبة المتعارفة ، و قد يستغل فيعطى انتاجه بأقل مما يجب ان يعطيه .... ولذا كانت الجمعيات التعاونية وسيلة وضع الحق في نصابه بواسطة شعبها الثلاث .

(1) شعبة تعاونيات المنتج.

(2) وشعبة تعاونيات الموزعي .

(3) وشعبة تعاونيات المستهلك .

فان هذه الجماعات الثلاث، حيث تجمع كل طائفة منهم المصلحة المشتركة، يشكلون تعاونيات لاجل الوصول الى تلك المصلحة ، سواء كانت تعاونيات زراعية أو صناعية أو بنائية أو ثقافية أو غيرها .

و هذه التعاونيات لها أنظمة خاصة ، وتشريعات وأساليب تنفيذ، ونجاح التعاونيات ، يؤدى الى كون الكسب مشروعاً ، و الى الوقوف في وجه الربا والاحتكار والاجحاف، والى الوقوف في وجه اختفاء المواد الاولية والسلع حيث لولاها لعل المحتكرون ذلك ، حتى يبيعوها باسعار باهضة ، كما انها

ص: 403

تقف، دون سوء التوزيع، ودون استغلال حاجة المنتج لبيع منتوجاته بأقل من القيمة العادلة، الى غير ذلك من الفوائد... والتي منها ايضاً عدم تمكن الشيوعية من الاستغلال المكذوب للعمال والفلاحين، فهي تقف تقف بوجه كلا الانحرافين الرأسمالي والشيوعي.

و أحياناً تمتد نشاط التعاونيات الى اعانة الاقسام الثلاثة في غير الامور الاقتصادية، كزواج عزابهم وعلاج مرضاهم وتثقيف جهالهم، الى غير ذلك... والتعاونيات تأخذ العون من الدولة غالباً ، كما ان الدولة تشرف على صحة سيرها، وتراقب نشاطها حتى لا تتحول الى شركات تجارية غرضها الربح وتكوين رأس المال، بهذا الاسم.

جمعیات اخری

والى جانب الجمعيات التعاونية المتقدمة ، تؤسس جمعيات تعاونية من نوع آخر :

(1) مثل الجمعيات التي تؤسس في صورة صناديق لاقراض طائفة معينة كالفلاحين، أو كل من يطلب العون واللازم فى المنهج الاسلامي، ان لايكون القرض بربا. كما يلزم ان لايكون اقتراض الصندوق من الناس بربا، بل يمكن تدارك الأمرين بجعل قسم من المال فى المضاربة، فيعطى الصندوق اجور عماله من الارباح المقررة له بالنسبة لا بقدر خاص، سواء كانت المضاربة بالاموال التبرعية التى هي ملك الصندوق، أو باموال الناس الذين أودعوها في الصندوق بدون ارادة أرباحها، أو مع طلبهم ارباحها المضاربية النسبية...

و كثيراً ما تعطى الجمعيات التعاونية للاقراض الزراعي السلف ، نظير ابداع حاصلات الزارع فى مخازن الجمعية الى حين ارتفاع الاسعار وبيعها بما

ص: 404

يتفق وجهد الفلاح المقترض ، حتى لا يدفعه الاضطرار الى بيع حاصله بخسارة أو بأقل من الربح المناسب لعمله.

(2) والجمعيات التي تؤسس لاجل اعطاء سائر المحتاجين، حوائجهم ، مثل جمعية الزواج، وجمعية بناء المساكن، وجمعية تشجير البلاد أو تصنيعها أو تجميلها ، وجمعية تشغيل العاطلين، وجمعية بناء المستشفيات، ودور العجزة، ودور الحضانة، وغيرها ...

وفى النظر الاسلامي ، كل جمعية تعاونية بالشروط الاسلامية، حسنة ومرغوب فيها، يشملها قوله سبحانه «تعاونوا على البر والتقوى»(1) وقوله صلى الله عليه و آله وسلم ( يد الله مع الجماعة) وغيرهما .

علي كما ان الرأسمالية والشيوعية من أشد الناقمين على الجمعيات ، أما الرأسمالية فلانها تريد امتصاص جهود الناس . والجمعية تقف دون ذلك ، وأما الشيوعية ، فلانها تريد زيادة نقمة الناس لتتسنم السلطة باسم العامل والفلاح ، والجمعيات تقف دون هذا الهدف.

4- التكتلات الرأسمالية

(د) التكتل الرأسمالي، وذلك بتجمع أصحاب رأس المال الذين منهجهم في الاقتصاد منهج الرأسمالية لاجل امتصاص المزيد من أموال الامة ، بالربا و الاحتكار و الاجحاف والاستغلال ، وصنع و عمل ما يدر ربحاً من دون نظر الى ضرره على الشعب، مثل صنع المواد الضارة، وفتح المواخير،وغير ذلك.

وحيث ان مثل هذا التكتل ينكشف أمره فوراً فيحول القانون دون عملهم، كان لابد لامثاله من السيطرة على الاحزاب السياسية والقضاة، والسلطة التنفيذية ووسائل الاعلام، حتى تكون أكثرية المجلس لهم، فلا يشرعون قانوناً ضدر أس

ص: 405


1- سورة المائدة / 4

المال ،لانصاف الناس ، واذا كان قانون هكذا ، لم تنفذه القوة التنفيذية، واذا وصل الأمر الى القضاء، توقف القضاء عن ادانتهم، وأخذ الاعلام الذى سيطروا عليه يضلل الرأى العام، فلايكون الرأى العام ضدهم، وهكذا يسخر رأس المال كل القوى، لاجل بقائه وامتداد سيطرته.

و بعد ما يطمئن التكتل من احكام قدرته فى الامة، يفعل ما يشاء، في كنز فراده الثروات الفاحشة على حساب كد الفقراء، وعرق العمال، ودماء الذين يقتلون في ساحات الحرب بسلاح الرأسماليين الذين هم تجار الاسلحة، ويريدون رواج هذا السوق، وبالجملة تعمل هذه التكتلات ، ضد الغالبية في الخفاء و تقيم حكومات وتسقط أخرى ، بمختلف الاتهامات التي لا أساس لها ، الا انها ارادت الوقوف دون نشاط الكتلة، وهذا الوضع له الاثر الفعال في بلاد رأس المال ، كامريكا ، والمانيا الغربية ، وما أشبه تلك البلاد .

ومثل هذه الأمور كلها محرمة فى الشريعة الاسلامية بل بعضها من أشد المحرمات كالر با الذي ورد فيه :

«فان لم تفعلوا فاذنوا بحرب من الله ورسوله»(1) وان درهماً منه أعظم اثماً من سبعين زنية كلها بذات محرم كماورد ان ثمن المسترسل سخت، الى غيرها من النصوص ...

والعلاج ان ينظم الاقتصاد ليكون في قبال الاشياء الخمسة: العمل والفكر. والمواد والشرائط، والعلاقات، واذا كان الاقتصاد بهذا اللون الاسلامى العادل لم يتكون رأس المال المجحف، ليتكون التكتل الرأسمالي الانف الذكر .

ص: 406


1- سورۀ بقره/279

مسألة : 40 تقسيمات الاحزاب السياسية

اشارة

تقسم الاحزاب السياسية الى عدة تقسيمات نذكر اهمها ، لنرى مزاياها و الاصلح منها عقلا والاوفق بالقواعد الاسلامية شرعاً ، فنقول :

الاحزاب العلنية والاحزاب السرية

(1) الحزب قد ينشأ في الاطار الحكومي، وقد ينشأ خارج الاطار الحكومى ولابد في القسم الاول ان يكون علنياً وله كل الامتيازات القانونية، وقد يسبق مثل هذا الحزب الحكومة بان تكوّن الحزب، ثم وصل الى الحكم، وقرر له القانون وجعلت له الامتيازات ، كما انه قد تسبق الحكومة الحزب، كما اذا جائت الدولة و قررت قانون الاحزاب .

الها فمثلا: في العراق قبل حكم الملكيين لم يكن حزب ، ولماجاء الملكيون نظموا الاحزاب، وقرروا قوانينها ، وكذلك كان الامر بالنسبة الى بعض الاحزاب (في ايران الجمهورية الاسلامية).

أما في ايران قبل ثورة المشروطة فلم تكن هناك احزاب ، وانما كانت

ص: 407

جمعيات ومنظمات ومجالس شكلتها الاضطرابات التي حدثت من قصة التنباك، فلما ارست المشروطة دعائمها، تحولت المنظمات وما اليها الى جماعات سياسية انتهت الى تكون الاحزاب، أما قبل الجمهورية الاسلامية فقد كانت في ايران أحزاب سياسية حكومية ، ومناوئة للحكومة ، نشطت الموافقة للمشاهانية ، کرستاخيز وبقيت بعضها الاسلامية تعمل ، ومن دون موافقة الحكومة لها .

أما القسم الثانى، فان كانت الحكومة ضعيفة، عمل الحزب علناً ، وحيث تضعف الحكومة لا تتمكن من منعه ، أو تحديده ، بل يكون هو والحكومة في منافسة دائمة وان كانت الحكومة قوية اضطر الحزب الى العمل سراً، ووقع مطرود الحكومة .

لكن هذا القسم المطرود المختفى يكون قوياً في المعنى ، بل أقوى من الحكومة في بعض الاحيان لان مثل هذا الحزب لما كان خارج النظام مبغوضاً عند الحكومة، وعاملا لتقويض الحكومة، لابد له ان يقوى نفسه كماً وكيفاً ، ليتمكن من مقابلة النظام وسلاح مثل هذا الحزب في مقابل النظام الدعاية الواسعة ضد النظام، والتهجم على أركانه والتشكيك فى كل مايتبناه النظام من مشاريع ولو كان الحزب - في الحقيقة - مؤمناً باولئك الاشخاص، أوبتلك المشاريع.

والاحزاب السرية غالباً، تتشقق، وتلتحم، وذلك لان سرية الحزب تفسح المجال لظهور الانانيات، اذلا مناقشات ولاشوري حقيقية غالباً، ولا جماهير تقف دون التشقق، ولذا قلما تجد حزباً سرياً الا وتجده قد انشق على نفسه ، واحياناً حدثت منه عدة انشقاقات ... كما ان حزبین سریین قدیلتحمان لتوحيد جهودهما ضد الحكم القائم ، خصوصاً اذا كان الضغط شديداً.

وفي مثل هذه الاحوال ربما يوجد حزب جديد أقدر من الحزب السابق على قيادة دفة المعارضة، واحياناً يضمحل الحزب السابق، او الحزبان السابقان لاخلاء المكان للحزب الجديد وحالة التشقق والالتحام توجد في الأحزاب

ص: 408

العلنية ايضاً بجهة الاختلاف في النظر ، وقلة النضج ، وبسبب توحيد الجهود للتحصيل على مغانم أكثر ، سواء المغانم الشخصية أو المغانم الهدفية، فان أصحاب الاهداف يعدون الوصول الى أهدافهم من أكبر المغانم .

الاحزاب الشخصية

(ب)الاحزاب قد تكون شخصية ، اي ان الشحص القوى(سواء كان في الحكم أو خارج الحكم) يكون حزباً، فقد يكون هدفه الانانية وحب الظهور، وقد يكون هدفه برامج اصلاحية أوثورية يريد اجرائها في المجتمع ، وغالباً اذا كان الشخص الموجد للحزب أنانياً، لم يبق الحزب، اذا ضعفت تلك الشخصية أو ماتت لان هذا الحزب ليس هدفياً حتى يمتد بعد ضعف، أو موت مؤسسه. أما اذا كان الحزب وجد لاجل الهدف، وكان حاوياً على عناصر الدوام، دام، و ان مات أو ضعف المؤسس له، ومن عناصر الدوام الشورى، والاهتمام باقتصاديات الحزب وبثقافة أفراده، وسعة الارتباط بالناس، حيث ان الشورى تمنع الاستبداد والاثرة الموجبة لتفرق القلوب والاقتصاد والثقافة والارتباط أسباب بقاء الماديات والمعنويات والاجواء الصالحة ...

وقد تكون الشخصية قوية الى حد ان الاحزاب تستمد منه الشخصية وتتفيأ تحت ظلاله ، حتى بعد موته ، كما حدث في ( ديغول) رئيس فرنسا ، وان لم يكن هو حزبياً ولا مؤسس حزب .

الاحزاب الوقتية والدائمية

(ج) وقد تكون الاحزاب وقتية، فيتشكل الحزب، في وقت خاص ولاجل هدف خاص، فاذا انتهى ذلك الهدف، انتهى الحزب، كما اذا أراد أحد الحصول

ص: 409

على مقام فى مجلس الامة، أو فى السلطة التنفيذية، فانه يشكل جماعة ، ويتخذ مقراً، ويخرج جريدة ، ويعمل لاجل التفاف الناس حوله، فاذا فاز في الانتخابات ،اوما اشبه أولم يفز اغلق محله وحل حزبه، وانفض الناس من حوله، وكذلك اذا تشكل الحزب لاجل عدو ،خارجي، أو كارثة داخلية، أو اضطرابات، أو ما أشبه ذلك .

وهذه الاحزاب الوقتية اشبه بالتجمعات، وغالباً لا انسجام حقيقى بين أفرادها، ولذا لا تتمكن من ادامة عمرها بعد انتهاء الوقت المذكور .

نعم، قد ينتهز بعض اعضائها الفرصة لتشكيل حزب حقيقي لاينتهي بانتهاء الفصل المذكور ...وكثيراً ماتتوحد تجمعات واقعية عند الأمور المذكورة ، لطرد العدو الخارجى ، أو الكارثة الداخلية، فتشكل حزباً واحداً ، كما فعلت ذلك تجمعات الجزائر، وشكلت (جبهة تحرير الجزائر) ويسمى هذا التجمع، بالجبهة او الاتحاد، او ما أشبه ذلك، وهكذا فعل الفلسطينيون، حين تجمعوا تحت الوية متعددة من أهمها منظمة (فتح) .

ثغرتان في الكفاح الفلسطيني

وان كان ربما يؤخذ على (فتح) مأخذان مهمان، ويبعدان تنجح فتح، نجاحاً كاملا، بسبب وجود هاتين الثغرتين فيها وهما :

(الأولى) انها تجمع تحت لواء فلسطين ، او العرب، ومن الواضح ، انه لا تنجح في بلاد الاسلام ، الا التجمعات الاسلامية، فان شعور الناس وعواطفهم مع الاسلام والقومية والوطنية لا أساس لهما من الصحة في نظر المسلمين هذا بالاضافة الى ان اليهود يحاربون تحت لواء دينهم ، والدين سلاح ، ليس عند (فتح) مثله لانها لاتحارب تحت لواء الدين ... وثانياً التجمع تحت

ص: 410

لواء الوطنية والقومية اوجب ابتعاد سائر المسلمين منهم - الاعاطفياً احياناً - فلماذا يحارب الباكستاني والاندونيسي مثلا ، لاجل وطن جماعة او قوم غير قومه ؟ والمظنون ان الاستعمار البريطاني الامريكي الاسرائيلى الروسي ، هو الذي اوقع اهل فلسطين في هذا الفخ، حتى يبتعد عنهم سائر المسلمين، فلا يقدروا على الحرب الحقيقية ، كما حصل ذلك بالفعل ...

اما الخطب والتجمعات والجرائد ، وما أشبه ، فلا تخرج عن كونها اموراً هامشية، لا تتمكن ان تدخل فى المتن، لتنهى الحرب فى صالح اهل البلاد من المسلمين الفلسطينيين .

وعذرهم بانه لابد لهم من تجنب اسم الاسلام لاجل ارضاء المسيحيين؟ فالجواب ذكره القرآن الحكيم :« ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم» .. بالاضافة الى ان ايهما خير ارضاء (850) مليون مسلم غير عربي، أو (15) مليون عربي مسيحي - على تقدير ان يكون عدد المسيحيين هذا الرقم و تأتي بعد بعد ذلك مسألة الاكثرية ، فاللازم اتباع الاكثرية الاسلامية، او العربية، او الفلسطينية وهم المسلمون ولا حق للاقلية ان لا ترضى لا شرعاً ولاعرفاً.. والزمان كفيل بأن يظهر صحة ما ذكرناه او صحة ما عملوه ؟ وان كان التاريخ ايضاً يدل على صحة ما ذكرناه (لان مستقبل الدنيا كماضيها) فالاسلام نجى فلسطين من الظلم اول مافتحها الاسلام، ثم استردها بعد الحروب الصليبية ، والان لا يستردها الا الاسلام .

(الثانية ) ان هناك محاولات جادة من المستعمرين لادخال الفلسطينيين (الفتح) في لعبة الامم ، والثورى اذا دخل في اللعبة سقط ، كما دل على ذلك سالف التاريخ وحاضره، والثوري لا يوالي الحكام السعوديين العملاء الصرحاء لامريكا ، وبعث العراق العملاء الصرحاء لمثلث الاستعمار البريطانيا واسرائيل

ص: 411

و امريكا الى غير ذلك ، مما تعرفه (فتح) قبل غيرها ...

وقديجاب عن ذلك بانهم مضطرون لاجل تحصيل المال، ولاجل الاعلام ولاجل ان لا يضر بهم هؤلاء العملاء ؟ لكن هذا الجواب غير مقنع، فالثورى من هدف الثورة وحصل المال النظيف، لا ان يكون تاجراً ، وعمل التجارة غير عمل الثورة... والاعلام المرتبط بالعملاء يضر بدل ان ينفع، أما ان لايضر بهم العملاء، فان العملاء لايتجاوزون خط أسيادهم في الكف والضرب، وكفهم خدعة أسوء من ضربهم .

وهذا شيء معلوم في الفنون الدبلوماسية ، كما هو معروف في الموازين العسكرية - .

كيف ننقذ فلسطين ؟

ولا بأس هنا بالالماع الى كيفية انقاذ فلسطين كلها من أيدي اليهود ، كما انقذت كلها من ذي قبل من الصليبيين، والكيفية تعرف من سبب سقوط فلسطين، وهی ضعف الحكومة العثمانية التي كانت حامية فلسطين ، لانها لم تر أهمية لقوله سبحانه : « واعدوا لهم ما استطعتم من قوة » ولغير ذلك من الموازين الاسلامية ..

أما الان، فاللازم ان يشكل المسلمون تكتلا داخل كل بلاد الاسلام وغيره، مثل تكتل اليهود في العالم تحت لواء الصهيونية، وذلك التكتل يأخذ بأسباب القوة ، من العلم والصناعة والمال والسلاح والدعاية ، وغيرها ، فاذا وصلت قوتهم التنظيمية وسائر قواهم بقدرقوة الصهاينة، وزودوا بالايمان قابلوا بقواهم المادية قوة الغاصبين ، وبقواهم المعنوية (الايمان) قوى من وراء اليهود من

ص: 412

المستعمرين الشرقيين والغربيين، وبذلك يحصل النصر باذن الله تعالى...

والكلام حول انقاذ فلسطين طويل ، نكتفى منه بهذا القدر ، حيث انه خارج عن صلب البحث في هذا الباب ، والله العاصم الناصر .

الاحزاب الهدفية

(د) وقد تكون الاحزاب هدفية ، اي تشكل للوصول الى هدف خاص ، وهذه الاحزاب هي الاحزاب الحقيقية، ان لم تكن بهدف تقوية المستعمرين والاكانوا عملاء ، ولا كلام لنا فيهم ومثل هذه الاحزاب تتكون من الجماعة الذين تتقارب أفكارهم، ولذ نجدان الاحزاب الثورية غالباً تشكل من الشباب، حيث ان التغيير وتجديد البناء يلائم أفكار الشباب، بينما الاحزاب المحافظة، تشكل غالباً من الشيوخ وكبار السن ، حيث ان المحافظة على القديم والسير في ركاب التقاليد أقرب الى أفكار الشيوخ ، ونادراً ينعكس الامر ، فالشاب قد يدخل في المحافظين ، والشيخ قد يدخل فى الثوريين ، لان بنيتهم الفكرية تلائم غير طبقتهم ...

وهكذا تشكل الاحزاب الدينية من المتدينين ، والاحزاب الالحادية والحيادية من الملحدين والحياديين ، وينطبق على ذلك قوله سبحانه : «قل كل يعمل على شاكلته» وقد قال أحد الحكماء : قل لي فيماذا يفكر المرء أقول: لك اي رجل هو ، و حسب هذا التقسيم فالاحزاب قد تنظر الى المستقبل( الشباب ) وقد تنظر الى الماضى ( الشيوخ ) وقد تنظر الى الدنيا و الآخرة (المتدينون) وقد تنظر الى الدنيا (الملحدون والحياديون) فان كان نظره الى الاخرة سلبياً ، كما قال سبحانه: بل ادارك علمهم في الاخرة ، بل هم منها فى شك ، بل هم منها عمون كان ملحداً ، وان كان بغير مبالاة كان حيادا .

ص: 413

الاحزاب اليمينية واليسارية

(ه_) وقد تصنف الاحزاب الى (اليمبية) و (اليسارية) وكل منهما افراطي ، و اعتدالي، قالوا فاليمين الافراطي هو ا الذي يريد الرجوع الى القديم ، وينظر الى الحاضر والمستقبل شزراً ، واليمين المعتدل هو الذي يريد حفظ الحاضر، ولا نظر له بالنسبة الى الماضى أو المستقبل ، واليسار الافراطي هو الذى يهدف الشيوعية ، اي مافيه اللاءات الخمسة (لادين ، لا اخلاق ، لاحرية ، لاملكية ، لاعائلة) واليسار المعتدل هو الذي يريد الاشتراكية ، وأكثر هذه الاربعة رجعية هو اليسار المتطرف، لانه يقول : كان الانسان في قديم الزمان شيوعياً ، والان يجب العود الى ذلك القديم ثم من بعده الاشتراكى ، ثم اليمين المتطرف ، ثم اليمين المعتدل ، لكن هذه الاحزاب ، التي لاتنظر الى الاخرة لابد وان تعد رجعية ، حيث لانظرة لهم الى المستقبل، كما قال سبحانه : « يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون»(1).

هذا بالاضافة الى انهم يرجعون في التشريع والتنظيم والتنفيذ الى الهوى والشهوات والميول النفسية ، وهذا رجعية بحته، حيث ان العقل تقدمي . ومنه تستمد الرؤية المستقبلية ، ولذا ورد فى الحديث : (من ساوى يوماه فهو مغبون) .

وقال سبحانه : قيل ارجعوا ورائكم فالتمسوا نوراً .

وقال الشاعر الاسلامي :

وقال نبي المسلمين تقدموا

واحبب الينا ان نكون المقدما

ص: 414


1- سورة الروم / 7 .

الاحزاب الاسلامية والكافرة

(و) وقد تقسم الاحزاب الى الاحزاب الاسلامية والاحزاب الكافرة ، فالحزب الاسلامى بمعناه الصحيح، هو الذي يعمل لاعادة حكم الاسلام ، ولاعادة توحيد المسلمين، والاحزاب الكافرة هى التى تعمل لتقوية سيطرة الكفار، أمثال : (البعث : الغربي) و (الشيوعي : الشرقي) أما ما يخلط بين هذا وذاك ، أو يقف حياداً من العقيدة والشريعة ، فاحرى به ان ينطبق عليه قوله سبحانه :

«مذبذبين بين ذلك ، لا الى هؤلاء ، ولا الى هؤلاء».(1)

من مقومات الحزب الاسلامى

ومن معالم الحزب الاسلامي الصحيح :

(1) ان يكون متفائلا بالنسبة الى المستقبل ، كما قال سبحانه :« ونريد ان نمن على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم ائمة ونجعلهم الوارثين. ونمكن لهم في الارض ، ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون»(2) الى غير ذلك من الايات الكريمات ، والروايات المباركات .

(2) ان يعتقد بتساوى الانسان ، وانما الفارق التقوى كما قال سبحانه :

«وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ، ان اكرمكم عند الله اتقاكم» (3).

وقال صلى الله عليه و آله وسلم : (الناس سواسية كاسنان المشط).

وقال عليه السلام : (الناس أما أخ لك في الدين او نظيرلك في الخلق) الى غيرها .

(3) ان يري تساوى الرجل والمرأة في كل الشؤن ، الا الشئون النابعة من الفرق بينهما خلقة ، حيث وضعت الشريعة الاسلامية ، فروقاً تبعاً لاثار

ص: 415


1- سورة النساء / 142 .
2- سورة القصص / 5 و 6
3- سورة الحجرات /14

تلك الفوارق الخلقية، اما من يريد تنقيص الرجل حقه أو سحب المرأة الى مراكز الفساد ، وفرض الاعمال الخشنة التي لا تتناسب مع خلقتها الجسدية عليها، ومع وظائفها الطبيعية من الحمل والولادة والرضاع والتربية، ومع جمالها وعواطفها و انوثتها ، فلا ينبغي ان يسمى حزبا رجعيا فحسب، بل و خارجاً عن دائرة العقلانية .

(4) ان يرى لزوم اقتران العلم بالايمان، اذ العلم بدون الايمان ، اعطاء السلاح بيد الشهوات ، كما نرى ذلك في العالمين الغربي والشرقي، ونتيجته ، حربان عالميتان، وتهييء لحرب ثالثة، وألف مليون جائع والقلق والحروب والانقلابات ملاً السجون و ... كما ان الايمان بدون العلم سطح بدون عمق ، ولذا قال سبحانه : «شهد الله انه لا اله الاهو، والملائكة واولو العلم»(1) .

وقال الامام أمير المؤمنين عليه السلام :( قيمة كل امرء ما يحسن) الى غير ذلك من الايات والروايات .

(5) ان يرى عدم التفكيك بين الدين والسياسة، بل السياسة جزء من الدين، ولزوم الانتخابات الحرة ، وكون الحاكم مرضياً لله ولاكثرية الامة، ولزوم وحدة بلاد الاسلام ، ولزوم رفاه الاقليات تحت الحكم الاسلامي، واعطائهم حقوقهم .

(6) ان يرى في الاقتصاد، بطلان الخطين الشيوعي والرأسمالي - ومايدور فی فلكهما - وصحة الخط الاسلامي الذى يجعل المال في قبال خمسة اشياء كما سبق - وبذلك يعيش الكل متساويين اقتصادياً، حسب العدل ، وينعمون بالرفاه واعطاء الحاجات، وينالون ما يسبب تقدمهم وظهور كفاءاتهم ، كما قال سبحانه :« واذ قلنا ادخلوا هذه القرية ، فكلوامنها حيث شئتم رغداً »(2)الى غيرها من الايات والروايات الواردة بهذا الصدد .

وقد عمل المستعمر الغربي والشرقى على التربية الاحزاب الالحادية ، أو

ص: 416


1- سورة آل عمران / 17
2- سورة البقرة / 56 .

الحيادية ، أو المذبذبة ، في بلاد الاسلام ، ولا يصح ان يسمى احدها بالحزب الاسلامي او بحزب المسلمين، ونذكرهنا نموذجاً واحداً من تلك الاحزاب، والتي شكلها جماعة ممن احسن ما يقال فيهم انهم كانوا مغفلين، قبل ثلاثة أرباع قرن في ايران، والذي كان يسمى بالحزب

(الديمقراطي العمومي)، وقد كان منهج حزبهم الذي طبعوه مؤلفاً من مقدمة وسبعة فصول، واثنتن وثلاثين مادة، وعناوين الفصول هى هذه :

(الاول) التربية الاسلامية.

(الثاني) الحقوق المدنية .

(الثالث) الانتخابات .

(الرابع) القضاء ..

(الخامس) الامور الدينية والمعارف .

(السادس) الدفاع القومي.

(السابع) الاقتصاد .

ثم اشتمل البرنامج المذكور (فصل الدين عن السياسة) و ... ومن غير الخفي استعمارية :

(1) جعل الدين فى زاوية خاصة ، غير مرتبط بسائر الاموركما في البند الخامس .

(2) وفصل الدين من السياسة ، كما ذكر في المنهج .

(3) وتسمية الحرب دفاعاً، لا (جهاداً) .

امضا بعض الالملك

ريق الصفا ایشان

(4) واضافة القومية عليه بدل الاسلامية . الى غير ذلك مماذكر في داخل البرنامج .

ص: 417

احزاب الاقليات

(ز) وقد تشكل الاقليات احزاباً للدفاع عن مصالحها، سواء كانت الاقلية دينية، أولغوية، او نازحين من بلد آخر او ما اشبه ذلك، ومثل هذه الاحزاب ، لا تسمى نفسها الاحزاب المدافعة عن الامة، ولا تجمع حول نفسها كل من تتمكن، بل من كان داخلا في تلك الاقلية وفى البلاد التي فيها جملة من الاقليات ، مثل الكردية والعربية واليهودية، والمسيحية في تركيا، وما اشبه، تشكّل كل منهم اقلية منهم حزباً ، وذلك لتحصيل منافع اكثر من مدارس ومصحات واذاعة وثقافة خاصة بهم، وما اشبه ذلك ...

وفى الاسلام نسمى غير المتدين بدين الاسلام ،أقلية، اما المتدين بهذا الدين فلا فرق بين افراده فى اى جهة من الجهات - كما هو واضح - . ولذا لايصح تشكيل حزب أقلية - من جهة اللغة أو القوم أوما أشبه-.

وكثيراً ما يصل من احزاب الاقلية مندوبون الى المجلس، مثل وصول الايرلنديين الى مجلس العموم البريطاني ، ومثل وصول اعضاء من الحزب الكردى الى مناصب رفيعة في الدولة فى العراق ، عام 1960م) وينبغي هنا الالماع الى ان تشكيل الأكراد حزباً في العراق، انما كان لاجل اضطهاد القومية العربية للاكراد ، مما اضطرهم الى تشكيل حزب الاقلية ، وحمل السلاح في وجه الحكم، فانهم قالوا اذا كنتم انتم أيها العراقيون قوماً عرباً، فنحن قوم کرد، فلماذا يكون لكم كل شيء، ولا يكون لناشيء ؟ لكن العراق اذا صارت اسلامية، زالت الفوارق، وكان الميزان الكفائة، فلا فرق بين الكردي والعربي والفارسي وغيرهم، وانما كل مسلم متساوى الحقوق مع الاخرين .

وفى ايران شكلت الارامنة فى اوائل حركة المشروطة حزب (دشناكسيون) الى غير ذلك من امثلة الاحزاب للاقليات في البلاد الاسلامية وغيرها ، وكلما

ص: 418

كان حزب الاقلية اكثر نضوجاً ، تمكن من الوصول الى أهدافه اسرع ، وربما يتبدل حزب الاقلية ، الى حزب سياسي حاد ، اذا لم تستجب الدولة الى مطاليبها ، كما تبدل حزب (الاتحاد الاسلامي الاحمر) الذي تشكل في اندونيسيا، الى الحزب الشيوعى زعماً منه انه بهذه الطريقة يتمكن من انقاذ حقوق المسلمين كما ان حزب الاقلية قد يتبدل الى حزب الاكثرية ، اذا سار فى هذا الطريق ،مثل الحزب (الديمقراطى المسيحي) في المانيا ، حيث تمكن من النفوذ في كثير من الكاثوليك والبروتستانت فصاروا من انصاره ، وبذلك صار حزبا للاكثرية .

الدولة واحزاب الاقلية

ثم ان من الضروري على الدولة ان تلاحظ احزاب الاقلية، لكي لاتسبب تجزئة الدولة، فيما كان الحزب قوياً، كما حدث ذلك بالنسبة الى الجناح الاسلامى في حزب المؤتمر في الهند ، حيث سبب تجزئة الهند الى الهند والباكستان، وذلك اثر عدم قبول حزب المؤتمر ، اعطائهم حق الاكثرية في الاقلية ، بان يعملوا بالنسبة الى المسلمين الذين كانوا يمثلونهم ما يشائون فقال الجناح الاسلامي: الان وانتم تحت الاستعمار البريطاني وضعفاء لاتقررون لنا ذلك الحق ، فاذا وصلتم الى الحكم ، وكانت لكم الاكثرية ، ذاب المسلمون في اكثريتكم ، ولذا جنح الجناح الاسلامي بقائده (جناح) الى الاستقلال ... وهناك خلاف بين المسلمين في الباكستان والمسلمين في الهند هل كان استقلال الباكستان في نفع البلاد، حيث لولا الاستقلال لذاب المسلمون في الاكثرية غير الاسلامية (كما يقوله الباكستانيون) ؟ أو كان الاصلح العكس ، بان لاتستقل الباكستان ، حيث تكون القوة الاسلامية ، في القارة الهندية ، ضمان رجوع الهند الي

ص: 419

المسلمين كما كانت في ايديهم قبل استعمار بريطانيا للهند ، منذ ثلاثمأة وخمسين سنة (حيث ان الاسلام دخل الهند من زمان الامام السجاد(عليه السلام) واخذ البريطانيون الهند من أيدى المسلمين ، بعد كونها في ايدى المسلمين، قرابة عشرة قرون) (كما يقوله الهنديون) .

وقد ابتليت الباكستان بابتلاء التجزئة من جهة حزب الاقلية الذي تشكل في الباكستان الشرقى باسم حزب (العوام) حيث قوى هذا الحزب ، وبمساعدة الهند ، وسائر الحكومات الاستعمارية تمكن من تجزئة الباكستان، وتولدت بذلك حكومة (بنغلادش) واللازم على مسلمى هذه البلدان الثلاثة (الهند وبنغلادش ، وباكستان) ان يكونوا حزباً قوياً واحداً ، لارجاع قارة الهند الى الحكومة الواحدة الاسلامية، وذلك ممكن بعد ان نعرف ان الهنود منذ القديم اهل حكمة وتأمل وانصاف، فاذا وجدوا الحق رجعوا اليه .

ولهذا السبب رجعوا الى الاستقلال، لما وجد حزب المؤتمر، ولم ينفع بريطانيا كل الاعيبها في ابقائها خاضعة لتاجها كما ان الشيوعية لم تتمكن ان تجد موضع قدم فيها، مع كونها جارة لها، ومع شدة الفقر والبؤس في الهند ، حتى ان اعضاء الحزب الشيوعى في (800) مليون هندى لايتجاوز عن (30)ألفاً، مع انه حزب مجاز قانوناً... كما ان امريكا لم تتمكن من جذبها الى جانب نفسها ، و كذلك لم تتمكن روسيا ، مع كثرة ما اغريا به الهند للدخول في فلكهما.

ثم انه قد تتشكل أحزاب الاقلية بالنسبة الى الصنائع والمهن، مثل حزب اصحاب الصنائع ، وحزب التجار، وما اشبه لكن الغالب فشل هذه الاحزاب، حيث ان الامة لاتقف وراء هذه الاحزاب ، وكل حزب لا يستمد نشاطه وقوته من الامة لابد وان يفشل بالاخرة .

ص: 420

الاحزاب العمالية

(ح) الاحزاب العمالية، وهذه الاحزاب تشكلت اول ما تشكلت في البلاد الغربية، لاجل انقاذ حقوق العمال من أيدي الرأسماليين، الذين كانوا يظلمونهم بأخذ كثير من أتعابهم، وقد كانت تلك الاحزاب تشكل سرية، لان الحكومات كانت بايدى الرأسماليين، وهى تمنع مثل هذه الاحزاب ، ثم تسربت الشيوعية الى هذه الاحزاب ، وقد زعم اولئك العمال ان فى الشيوعية خلاصهم ، لانها اداة هدم ، واذا تمكنوا من هدم الحكم بالعنف ووصلوا هم الى الحكم كما وعدهم الشيوعيون المتسللون - تحسنت أحوالهم ، ولم يستغلهم الرأسماليون ، لكن سرعان ما انقذت الاحزاب العمالية من زيف الشيوعية :

(1) بتشكيل النقابات للعمال ، وقد كانت تلك النقابات حرة، فتحسنت أحوال العمال نسبياً بمالم يحتاجوا الى الانضواء تحت لواء الشيوعية .

(2) ان الشيوعية التي وصلت الى الحكم فى روسيا ، أظهرت نواياها تجاه العمال، فالحكومة صارت ديكتاتورية الى أبعد حد، فسحقت العمال تحت أرجلها ، كما سحقت سائر الناس ، والقتل والموت والسجن والتعذيب التي شاهدها العمال والفلاحون فى أيام لينين وستالين ، لم يحدث مثلها في كل تاريخ العالم - حسب ما حفظه التاريخ - مما سبب عداء العمال في كل مكان للشيوعية .

ثم البلاد الغربية أجازت الاحزاب العمالية الشيوعية، فأخذت تعمل ببعض حرية، لكن لم ينضو بعد ذلك تحت لوائها الاندرة يدارون غالباً من بلاد الروس و أمامى كتاب مطبوع قبل ست سنوات احصى أفراد الاحزاب الشيوعية في كل البلاد - حسب الاحصاءات الرسمية لتلك البلاد ويجد الانسان في ذلك

ص: 421

الاحصاء ضآلة أفراد الاحزاب الشيوعية، فى البلاد الغربية ونحوها، فعددهم في فرنسا زهاء (33) ألف ، وفي المانيا الغربية ( 39 ) ألف ، وفي سويسرا (3) آلاف ، وفي انكلتر (28) ألف ، وفي كل من البلجيك و السويد (15) ألف : الى غير ذلك .

كما انى رأيت فى أحصاء رسمى آخر ان عدد الشيوعيين في امريكا الشمالية زهاء (50) ألف .

وليس معنى ذلك انا نقول بأن الغرب أعطى العمال والفلاحين حقهم ؟ بل معناه ان العمال و الفلاحين رضوا بلقمة العيش التي يحصلونها تحت مظلة النقابات بدلا من الانضواء تحت الوية الشيوعية التي تحرمهم حتى لقمة العيش ...

ولو ان البلاد الشيوعية أعطت لعمالها وفلاحيها مهلة اسبوع واحد لابداء آرائهم ، في أجواء حرة ، لم يبق من العمال والفلاحين في الحزب الشيوعي، حتى امثال أعداد الاحزاب الشيوعية التي تتواجد في البلاد الغربية . وان كانت الدول الشيوعية تنكر ذلك، فلتجرب التجربة التي تجعلها (المادية الديالكتيكية) الدليل الوحيد في كل العلوم والمعارف ، وفي المثل : (التجربة أكبر برهان).

(ومما يؤيد ما ذكرناه تجربة شيء من الحرية في مصر والعراق والسودان و ایران ،وغيرها، فقد خرج العمال من الحزب الشيوعي، بمجرد ان اتيحت لهم فرصة ضئيلة، حيث لم يبق في تلك الاحزاب منهم الا المرتبطون بروسيا والصين و مايدور في فلكهما ، والان نجد الصين - حيث صار لشعبها بعض التنفس بعد موت الديكتاتور (ماو)- تنزل تصاویر مارکس و لينين و ستالين وماو عن الساحات والدوائر والمحلات وغيرها). وتخرج من الحزب الشيوعي . زرافات زرافات

ص: 422

مع ان الديكتاتورية بعد باقية في تلك البلاد ... هذا مع العلم ان البلاد الرأسمالية ، لاتعطي حق العامل والفلاح، كما لا تعطيهما الحرية الصحيحة . ولو وصل الاسلام الى تلك البلاد، فاعطي العمال والفلاحون، حقهم الشرعي فى المال وفي الحرية ، على ما بينا خطوطهما العريضة في كتابى :

(الاقتصاد) و (نريدها حكومة اسلامية) وغيرهما ، لر أو مالم يكونوا يحلمون به .

مصائر الاحزاب العمالية

وكيف كان ، فقد آلت حالة الاحزاب العمالية فى العالم الى ثلاثة مصائر : (الأول) حال الاحزاب العمالية فى البلاد التي أعطيت لهم بعض الحرية في العمل، وفي هذه البلاد تقلصت إلى أدنى حد، كما انها لم تستقل كاملا، بل صارت عملاء الشيوعية العالمية نوعاما.

(الثاني) حالهم فى البلاد التى لم تعط لهم حرية، فأخذت تعمل في السر، وفي هذه البلاد تمكنت الشيوعية العالمية من تكثير أعداد المنتمين اليها بالمال والاغراء والدعاية، وساعدتها على ذلك، ضغوط الحكومات المحلية .

(الثالث) حالهم في البلاد التي تحكمها الشيوعية ، و في هذه البلاد حلت مثل هذه الاحزاب اطلاقاً ، واستبدت بالامر زمرة ديكتاتورية تسحق العمال بكل قسوة .

قلة افراد الاحزاب الشيوعية

ولذا نجد ان أعضاء الحزب الشيوعي- مع مالهم من الامتيازات ، ومع ما يخشون من بطش الحكومة اذا لم يقبلوا الدخول في الحزب (قبل دخولهم) ومن الخروج من الحزب (بعد دخولهم)- قلة بالنسبة الى أهالى البلاد مما يدل

ص: 423

على ان اعضاء الحزب أو وجدوا الحرية ، لم يدخلوا فيه، أو خرجوا عنه، حتى يكون حال الحزب الشيوعي في البلاد الشيوعية ، حال الحزب الشيوعى في البلاد غير الشيوعية ، التي أعطى فيها للحزب الشيوعي الحرية .

ولا بأس بهذه المناسبة ان نذكر اعضاء الحزب الشيوعي في البلاد الشيوعية حسب الاحصاءات الرسمية الى قبل ست سنوات، فعددهم في الصين ذات الالف ملیون زهاء (خمسة وعشرين) مليون وفى الاتحاد السوفياتي، ذات اكثر من ربع مليار ، زهاء ( 12 ) ،مليون، وفي كل من رومانيا وبولونيا (2) مليون ، وفي چیکوسلفاكيا (مليون ونصف) وفي كوبا (ثسن مليون) الى غير ذلك ، مع انا نظن ان الاعداد المذكورة مبالغ فيها، حيث ان الاحصاءات رسمية في بلاد لاحرية فيها ولارقابة، ومن المعلوم ان الديكتاتوريين يبالغون في كل شيء منسوب اليهم، بينما يذكرون ضئالة كل شيء مرتبط بخصومهم ...

و قدر أينا المبالغة في طر فى التضخيم والتقليل، في عراق قاسم والديكتاتوريين الذين قفزوا على الحكم ،بعده ، وفي ايران البهلويين، وفي غيرهما .

ولا بأس بالالماع الى بعض هذه المظاهر في جملة من بلاد العالم ، ففي البرتغال كانت الدولة تعلن - لمدة ثلاثين سنة - ان أكثرية الجماهير تريد الدولة ولما سقط النظام قبل سبع سنوات ظهرانه الى اي حدكان الشعب يكره النظام وانه كان يحكم بالحديد والنار...

وفي الحبشة (اثيوبيا: حيث ان الاستعمار من عادته تغيير أسامي البلاد الاسلامية لقطع صلتها بماضيها الاسلامي المجيد) كان - هيلاسيلاسي يحكم البلاد بابشع ديكتاتورية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية ، الى ماقبل سبع سنوات، ويظهر ان الناس يريدونه ، وهم في بحبوبة الحرية والرفاه ، ولما سقط ، ظهر انه الى اي حد كان الشعب في كبت وفقر و ارهاب ...

ص: 424

وفي اليونان لما سقط الديكتاتوريون العسكريون قبل سبع سنوات تقريباً خرج الناس الى الشوارع يظهرون الابتهاج والفرح بتحرير بلادهم من الطغاة المستبدين ، بينما كان العسكريون من قبل ، يظهرون حب الشعب لهم باستثناء زمرة عميلة خائنة !

ص: 425

مسألة : 41 دور الاحزاب في البلاد الاسلامية

قد تقدم ان الاحزاب الالحادية ممنوعة في البلاد الاسلامية ، وكما لا يحق لمسلم ان يمنح اجازة حزب رأسمالي امريكي ، لان الرأسمالية منهج منحرف ، وامريكا دولة استعمارية، كذلك لا يحق لمسلم ان يمنح اجازة حزب شيوعي روسي ،أوصيني، لان الشيوعية منهج منحرف ، وكل من روسيا والصين دولة استعمارية، ولهذا الميزان لاتجاز الاحزاب المنحرفة، والاحزاب المرتبطة بالاستعمار .

أما الاحزاب الاسلامية التي تهتم بالشئون الاسلامية خاصة ، أو بكل شئون البلاد الاسلامية بصورة عامة ، والاحزاب التي تهتم بشئون البلاد خاصة، كالاحزاب العمالية ، والاحزاب الاقتصادية ، والاحزاب الاجتماعية ، وما أشبه ، فتمنح لها الاجازة بشرط ان لا تخرج عن الاطار الاسلامي . ... ووجه الجواز جمع قانوني الحرية الاسلامية ، والتعاون .

وقد قال سبحانه : « يضع عنهم اصرهم »(1) وقال تعالى : « تعاونوا على البر والتقوى»(2) وفال صلى الله عليه و آله وسلم ( يد الله مع الجماعة) الى غير ذلك.

واننالايهمنا اسم الحزب ، بل المهم ان يكون هناك جماعة واعون نزيهون

ص: 426


1- سورة الاعراف / 157 .
2- سورة المائدة / 4

دور الاحزاب في البلاد الاسلامية

يتكتلون ، لبناء (الافكار) و (الاشياء) في ضوء الاسلام ، مع ملائمة جزئياته مع العصر الحديث، لاخراج البلاد عن الاستعمار أولا، ولبناء بلاد الاسلام بناءاً حضارياً اسلامياً ثانياً، ولجعل زمام العالم في يد الاسلام، ليقود العالم الى الرفاه والسلام ثالثا... وانما قلنا لبناء الافكار و الاشياء ؟ لان العالم الاسلامي تخلّف تخلف عن العصر الحديث، فكرياً ، وشيئياً ، ومادام لم يبن البلد بهذين البنائين لا يتمكن من الخروج عن حبائل الاستعمار ، فكيف بالمرحلتين الثانيتين ، ولتوضيح ما ذكرناه نقول : ان المسلمين منذ النهضة الغربية ، مروا بادوار ثلاثة ، كادوار الطفل :

(1) فان الطفل أول ما يولد ، يكون حاله أشبه بحال النائم ، لايفهم فكراً ولا شيئاً .

(2) ثم بعد مدة يفهم الاشياء، ولا يفهم الافكار ، ولذا يأخذ في الاكل واللعب ، وسائر الاعمال الارادية، لكن بدون فكر (وبدون الاطلاع على ماوراء الاشياء) ولذا نراه يمد يده ليأخذ القمر، ويشعل الثقاب بدون مبالاة لاجتناب النار ، و يقفز في الماء بدون ملاحظة انه يغرق ، ويبدل الذهب بالتمر ، بدون ادراك ان قيمة الاول الوف أضعاف قيمة الثاني ، الى غير ذلك من الامثلة ، وسبب كل ذلك انه ادرك الاشياء ، ولم يدرك الافكار ، وانما يفعل الاشياء تقليدياً، وبدون ادراك الحسن و القبح والصحة والسقم ، والشرائط والمزايا والخصوصيات .

(3) وفى الدور الثالث ، حين يكبر الطفل ، يشرع فى فهم الافكار (اى ماوراء الاشياء) ولو لم يفهم الطفل في هذه المرحلة الثالثة الافكار ، كان ناقصاً يجب علاجه ، كما انه اذا لم يقلد في المرحلة الثانية ، ولم يفهم الاشياء ، كان ناقصاً.

وهكذا مر المسلمون بحالة النوم والتقليد، عندماصد موا بالغرب الناهض

ص: 427

في مدة مأة وخمسين سنة الاخيرة ، اما الدور الثالث ، وهو دور الادراك وفهم الافكار فلم يصل اليه المسلمون، فصار مثلهم مثل الطفل الذي وصل الى دوره الثالث ، لكنه بعد لم يتجاوز الدور الثاني ، وقد قلنا ان مثله مريض يجب ان يراجع بشأنه الطبيب . . . بينما نرى ان (اليابان) وفي نفس الوقت مرت بالمرحلة الأولى ، ثم الثانية ، ثم الثالثة .

وعليه فما تقدم من وجوب التكتل للبناء الفكرى الشيئى ليس المقصود منه تكوين الحزب ، فقط ، وانه عصى سحرية للانقاذ وغيره ، بل المقصود منه ، الايصال بالمسلمين الى المرحلة الثالثة في فترة زمنية معقولة تتناسب ، و بناء الافكار والاشياء.

والاحزاب التى تتمكن من ان تقوم بهذه المهمة ، يجب ان تكون (سياسية) تفهم أعماق السياسية ولها نضج سیاسی، (حرة) لاتخاف مطاردة السلطة، لتتمكن من ان تعمل بكل حرية ، حتى تظهر كفاءات افرادها ، في مختلف الميادين المحتاج اليها، (شعبية) مرتبطة بالشعب ، بأن تكون منهم واليهم، فهى ليست الا جزءاً من الشعب عاملة لانقاذه، وحينئذ يلتف الشعب حولها، بما يمكنها الوصول الى هدفها .

ص: 428

مسألة : 42 الحزب بين اعضائه و مناصريه

اشارة

الارتباط بين الافراد وبين الحزب على ثلاثة أقسام :

(الاول) أعضاء الحزب، الذين سجلوا أنفسهم كاعضاء، ولا يكون فرد عضواً الا اذا عرفه الحزب بالذات، أو كان له شاهد كفائة وتزكية ، واذا قبل في الحزب وضع تحت التجربة لمدة ، فان ظهر منه الاخلاص والنشاط و الايمان بمباديء الحزب ، فهو ، والاطردوه عن العضوية . والنواة المركزية للحزب ، تنتخب الاعضاء ، لتجعل لكل واحد منهم مهمة ، أخذاً من الرئيس ، وانتهاءاً بالعضو العادى ، الذي له مهمة سائر الاعضاء ، ويشترك كل الاعضاء في كل برامج الحزب الجماهيرية ، أمثال الانتخابات ، ونشر المناشير ، وبيع المظاهرات ، وغير ذلك ... وبقدر نشاط أعضاء الحزب وصلاحيتهم للانسجام مع الامة ، يكون تقدم الحزب ...

ومن الواضح ان في الاعضاء ، من يعملون للحزب ليل نهار ، فلا عمل لهم سوى ذلك ، وهؤلاء يتقاضون من الحزب اجورهم ، وكلما كان العضو أكثر اخلاصاً للهدف كان أكثر قناعة بضآلة الاجور التي يتقاضاها، فبينما كان

ص: 429

بامكانه ان يعمل خارج الحزب براتب خمسمأة دينار، يعمل للحزب بربع هذا الراتب ، وهكذا ، فالحزب مؤسسة لها موظفون ، بمختلف نشاطاتهم واندفاعاتهم واجورهم واعمالهم .

(الثاني) المناصرون للحزب ، وان لم يقبلوا العضوية ، وهؤ لاء هم الذين لهم نفس هدف الحزب ويتعاطفون مع الحزب ، لكنهم لا يستعدون للعضوية وهؤلاء يشتركون في الانتخابات والمظاهرات ، ويقرأون نشرات الحزب و جرائده ، ويدا فعون عنه ، ويسددونه قدر امكانهم ، ويكونون عيونه و آذانه و السنته في المجتمع ، ومن المعلوم ان دائرة هؤلاء أوسع من دائرة الاعضاء، ومن المناصرين - غالباً - ينتخب الاعضاء لدى الاحتياج .

( الثالث) الجماهير الذين ليسوا باعضاء ، ولا مناصرين ، وانما لهم هوى يشتركون في انتخاباته كل مرة يكون للحزب انتخابات سنوية

في الحزب ، أو ما أشبه ، وان لم يشتركوا في مظاهرات الحزب، ولم يعقدوا علاقات قريبة معه، و كلما كانت الجماهير الملتفة حول الحزب أكثر ، كان فوز الحزب فى الانتخابات المجلس الامة ، أو غيره أقرب ، ولاتلتف الجماهير حول حزبما ، الا اذار أوا منه برنامجاً صحيحاً ، ونشاطاً واسعاً ، وخدمة صادقة ، وصداقة مع الناس بريئة ، ولذا قد ينشأ حزب ، ويترقى سلم الصعود بسرعة، بينما قد ينشأ حزب ويبقى مدة ثم يزول و يتلاشي.

وقدرأيت في العراق ثلاثة وأربعين حزباً ، تلاشت شيئاً فشيئاً ، حتى لم يبق منها الا الاسم في بعض ثنايا التاريخ ، ولم يكن ذلك الالفقدان تلك الاحزاب المقومات الاساسية للحزب ، وانما كان لهم تجمع وقتى ، لهدف عابر مثلها مثل (سحابة صيف عن قريب تقشع).

ص: 430

التشكيلات المتدرجة للحزب

ثم أعضاء الحزب وهو الأمر الأول الذي ذكرناه يشكلون بين أنفسهم ثلاثة تشكيلات بعضها فوق بعض ، ومؤسستين مركزيتين احداهما فوق الاخرى كما ويشكلون مؤتمراً عاماً بين كل فترة واخرى .

(1) التشكيل الأول : الوحدة الصغيرة المكونة من عدد محدد كثلاثة أو خمسة أو سبعة ، أو ما أشبه ، التي تتشكل ، في المحلة ، أو الشارع ، أو السوق ، ولهذه الوحدة مسئول هو الرابط بين الوحدة وبين التشكيلات الفوقية ويجتمع أفراد هذه الوحدة كل أسبوع أو أسبوعين ، او أقل أو أكثر ، مرة واحدة المتداول فى الشئون السياسية، أو المرتبطة بالسياسة ، كالشئون الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية أو غيرها، ويدير الجلسات ذلك المسئول الذي ينتخب من قبل الوحدة بين فترة وفترة باكثرية الاصوات . وحيث ان مثل هذه الوحدة ، يسكن اعضائها في محل واحد يمكن اعلامهم بما يجرى في الحزب أو البلاد بسرعة وحتى اذا لم تسمح الدولة بالحزب وكان غير مجاز امكن اجتماعهم بسهولة لبعد نظر الرقابة الحكومية عنهم لان كونهم في محل واحد طبيعي ، فلا يلفت اجتماعهم الانظار.

المواصفات الضرورية للوحدة الحزبية

واللازم على الوحدة ان ترفع من معنوياتها، بالمطالعة والمذاكرة والمناقشة، والا فمجرد الاجتماع الفارغ لا يعطى مفعولا جيداً ، كما ان الوحدة الناجحة هى التى تتمكن ان توجد الانسجام بين أفكار الحزب، وأفكار المجتمع، لا بمعنى

ص: 431

ان تسفّ الى المجتمع اذا كان مجتمعاً متأخراً ، بل بمعنى ان تتمكن من أخذ يد المجتمع الى الصعود خطوة خطوة باللطف واللين والاقناع ، كما قال سبحانه :«ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن »(1)ومن اخطر ما يوقع الوحدة في الانزلاق ان ترفع الوحدة نفسها عن طبقة الشعب الى طبقة الكبراء، وان تأخذها الانانية، فتفعل عن وحي ذلك، وقد أشار القرآن الحكيم، الى كلا الامرين في آيتين :

(أ) فقال سبحانه :« ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي، يريدون وجهه، ولاتعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا، ولا تطع من اغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان امره فرطاً»(2) .

ففى المؤمنين ثلاث صفات حميدة :

(1) قلبهم مع الله : «يريدون وجهه» .

(2) وجسمهم مع الله : «يدعون ربهم بالغداة» .

(3) وهم مستمرون في هذا الطريق : «والعشى» كما ان فى الذين اخلدوا الى الارض من المستكبرين ثلاث صفات سيئة، ضد صفات المؤمنين :

(1) قلبه غافل من أغفلنا قلبه عن ذكرنا ومن غفل عن الله غفل عن نفسه ولم يفهم مصالح شخصه ، كما قال سبحانه : «نسوا الله فانساهم أنفسهم» (3).

(2) ويتبعون في اعمالهم القطب المخالف لله سبحانه : « واتبع هواه»

(3) وليس لهم استقامة في ،امورهم فان الهوى تميل كل يوم الى جانب: «وكان امره فرطا» .

ولذا فعليك ايها الرسول (صلى الله عليه و آله وسلم) ، وكل من كان على طريقك اتباع ثلاثة امور :

(1) لا تطرد المؤمنين، حتى تبتعد منهم جسماً :« ولا تطرد الذين» .

ص: 432


1- سورة النحل / 127
2- سورة الانعام /53 .
3- سورة التوبة / 68

(2) ولا ينحرف قلبك عنهم : « وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ » (1).

(3) ولا تجعل قطب اتجاهك غير الله سبحانه : «تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا » (2).

(ب) وقال سبحانه:«وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ »(3) فكن ملائماً مع الناس، لافى مظهر الكبر والانانية وعدم الاعتناء بهم ... وكن في نفسك متواضعاً - وان لم يكن هناك ناس - فلا تضرب برجلك الارض ، كما يفعله الجبارون لارضاء انانية أنفسهم، ولا ترفع صدرك وعطفك حين المشي كبرياءاً واستعلاءاً على الطبيعة ، فمهما ضربت الارض ، فان الارض لا تنشق تحت رجلك، وانما تتعب رجلك ، ومهما مددت قامتك ، كما يفعله الانانيون، فانك لا تصل الى طول الجبال، فكيف بما هو أطول وأرفع من الجبال وانما تتعب جسمك، والحاصل كن متواضعاً مع الناس، ومع الطبيعة التي خلقها الله سبحانه، فان السماء والارض لا تتكبران ، فقد« قالتا اتينا طائعين»(4) فلا ينبغى الكبرياء لمن هو أصغر منهما .

ثم اليس الحزب انما شكل لخدمة الناس (وان كان اسلامياً ، لخدمة الله سبحانه ايضاً )؟ وهل يمكن خدمة الله وخدمة الناس بالتكبر والاستعلاء ؟ وبعد فالحزب يحتاج الى جمع الناس حول نفسه، والناس لا يجتمعون حول الانانيين، وفي المثال : (قطرة من العسل تجمع حول نفسها من الذباب مالا يجمعه دن من العلقم) ..

وماذكرناه في (الوحدة) جار فى سائر أعضاء الحزب ، وكلما كان اتسا دائرة عمل الفرد - في الحزب - أكثر، كان احتياجه الى اتباع ماذكرناه، في الوحدة اكثر ، لانه بقدر دائرة الاتساع ، تكون مسؤلية الصلاح والاصلاح ، فمن كان معاشراً مع عشرة كان اللازم عليه مراعاة الاخلاقيات مع عشرة، بينما الذي يعاشر مأة ، يلزم عليه مراعاة الاخلاقيات مع مأة ، وهكذا .

ص: 433


1- سورة کهف /28
2- سورة کهف/ 28 .
3- سورةلقمان / 18
4- سورة فصلت / 11

واللازم على افراد الوحدة ايجاد الالتئام بين سياسة الحزب، وبين السياسة العامة في الدولة( فى غير الدول الديكتاتورية، التي يجب على الحزب هدمها، بكل حال) وذلك لان الغالب ان سياسة الجماعة الصغيرة تخالف سياسة الجماعة الكبيرة ، لان الجماعة الصغيرة تريد فتح المجال لنفسها للتقدم، والجماعة الكبيرة قد ملئت المجال ، فلاتريد فسح المجال للجماعة الصغيرة ، ولذا فاذا كانت الوحدة تريد تقديم الحزب لزم عليها ان تعرف كيف تتقدم من الخلل والفرج ومواضع الثغرة، حتى لا تصطدم بالسياسة العامة للدولة . . .

ولنفرض ان سياسة الحزب تقديم عضو منه ، لوزارة الخارجية، وسياسة الدولة بقاء الوزير السابق فى مثال التعارض فى السلطة التنفيذية فان الحزب يجب ان يدرك كيف يتمكن من التقديم، بما لا يوجب التصادم ، اذ التصادم في الغالب يوجب انتكاس القوة الصغيرة أمام القوة الكبيرة .

الوحدة المدنية للحزب

(2) التشكيل الثاني :( الوحدة المدنية) حيث يجتمع في هذه الوحدة ، المسئولون فى الوحدات الصغيرة، مثل ان فى المدينة عشر وحدات في شوارعها وأسواقها ومحلاتها ، فان عشرة مسئولين ، يشكلون وحدة المدينة، واذا كانت المدينة كبيرة، يمكن تشكيل وسط بين (الوحدة) الصغيرة، وبين وحدة المدينة، فمثلا : مدينة ذات مليون ،انسان لايمكن جمع المسئولين في الوحدات الصغيرة فيها، في وحدة المدينة ، بل اللازم وحدة متوسطة بين الوحدتين، فللمحلات وحدة متوسطة ، والشوارع وحدة اخرى وللمؤسسات الحكومية وحدة ثالثة والمهنيين وحدة رابعة ، وللعمال وحدة خامسة ، وهكذا ، وهذه الوحدات

ص: 434

المتوسطة ، يجتمع مسئولوها ،( في وحدة المدينة) وأحياناً يحتاج الامرالى وحدات متوسطات ( بين الوحدات الصغيرة - وبين وحدة المدينة ) بحيث تكون بين تلك الوحدات المتوسطة ، أيضاً سلسلة مراتب ، فوحدات شوارع محلة تجتمع في وحدة المحلة، ووحدات المحلات تجتمع في وحدة

(المنطقة الشرقية للمدينة) ووحدات المناطق تجتمع في وحدة المدينة وهكذا .

الوحدة العامة للحزب

(3) التشكيل الثالث: (الوحدة العامة)التي تجتمع فيها كل وحدات المدن، وغالباً، تجعل عاصمة البلاد مقراً لها، فمثلا في شوارع كربلاء: (1) وحدات اولية ، ثم لهذه الوحدات مسئول عام ، ولوحدات( المسيب) و (الطويريج) (والشفاثة ثلاثة مسئولين عامين، فهؤلاء المسئولون يشكلون (2) (وحدة) فوق -على مستوى المحافظة - ثم المسئولون في كل محافظة محافظة، يشكلون (3) و(حدة فوق) هى اللجنة المركزية للحزب ، وقد لا تكون الوحدة رقم(2)التقسيمات الادارية للبلاد، كالمحافظات في المثال -بل تكون حسب التقسيم الصالح بنظر الحزب، مثل شرق البلاد وغربها وجنوبها وشمالها، ومثل القوميات التي تقطن البلاد ، مثل : عرب خوزستان) و (اکراد سنندج وغيرها) و اتراك آذربیجان) و (فارس (الوسط) في ايران ، الى غير ذلك من التقسيمات الصالحة لتشكيل الوحدة رقم (2) في البلاد

ثم هناك أمر رابع، وخامس ، وسادس، مرتبط بالتشكيلات رقم (3،2،1)ف: (4) هو اللجنة التنفيذية للوحدة رقم (2) وذلك لان اعمال الوحدة رقم (2) كثيرة فلابد للوحدة المذكورة ، ان تنتخب بعض أعضائها ، ليشكلوا وحدة منبثقة منهم ، لان يكونوا المشرف على سير الاعمال وتنظيم الامور.

ص: 435

و (5) هو اللجنة التنفيذية للوحدة رقم (3) وهذه تشكل لكثرة اعمال الوحدة المركزية مما لابد لها من انبثاق لجنة من خيرة أفرادها للاشراف العام ، والتنظيم العام ، والغالب ان تكون هذه اللجنة رقم (5) أهم جهة في كل الحزب ، واذا اوتوا العلم والفهم والاخلاق والنشاط تمكنوا من ترفيع الحزب وبالاخرة من ترفيع البلاد ، سواء كانوا في الحكم ، أو في المعارضة أو حتى اذا كانوا يعملون في السر ، لتقديم الحكومة او تقويضها .

الحزب والفكر

وحيث ذكرنا (الفكر) لابأس هنا بالالماع الى حقيقة مهمة له مكان الصدارة ، لانه الذي يقود الفرد والامة الى الصلاح والفساد ، فالطبيب

والمهندس والاقتصادي والفقيه انما وصلوا الى هذه الدرجات ، لان فكرهم اولا قادهم الى لزوم السير في هذا الخط ، وكذلك كل مجرم وسفاك وطاغوت و ديكتاتور ، انما سار في خطه لان فكره سبب له ذلك ، ولعل ما ورد من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (نية المؤمن خير من عمله ، ونية الكافر شر من عمله) يشير الى ما ذكرناه - كما جعله كشف الغطاء أحد احتمالات الرواية ، حيث احتمل(رحمۀ الله علیه)فيها أكثر من ثلاثين احتمالا.

و لذا فالواجب على الحزب، ان يهتم بالتفكير أكثر من اهتمامه بالعمل فان العمل وراء الفكر ، وقد يعطى الفكر للعمل قيمة كبيرة، بينما قد يكون العمل بدون الفكر ذا قيمة قليلة جداً .

و كما ان العمل اذا زاد أو نقص ، يفقد مفعوله أحياناً ، بل ينقلب الى ضده كما اذا خالط الماء شيء من العفص حيث يوجب الماء مزيداً من العطش عوض ان يرفع العطش ، أو اذا نقص من السكنجبين الخل زاد في الصفراء ،

ص: 436

بدل ان ينقص من الصفراء ... كذلك اذا زيد في الفكر ، او نقص منه انقلب الفكر في كثير من الاحيان ضاراً ، عوض كونه نافعاً ، مثلا: ان الحزب الاسلامي يفكر في تشكيل وحدات عاملة ، في كل قطر اسلامي ، لتنمو تلك الوحدات حتى تتمكن من اسقاط الجدر الاستعمارية لترجع الامة الواحدة الى حكومتها الواحدة ، التي هي حالتها الطبيعية ، واذا بالاستعمار يأتي ليضيف الى هذه الفكرة ، فكرة ان تكون من مبادىء هذا التشكيل تساوي البشر - في البلاد الإسلامية - من غير فرق بين مسلمهم وكافرهم أمام القانون ، فان هذه زيادة في أصل الفكرة توجب ان ينقلب التشكيل ضاراً . . . وهكذا اذا نقص من الفكر ، كما اذا انضمت الى الفكرة الآنفة ، فكرة وجوب الشروع من البلاد العربية فقط فلا يدخل في الأمر غیر عربی، فان نقص الفكر عن الاسلامية العامة الى الاسلامية العربية فقط ، يوجب تشقيق المسلمين ، وهو ضار بالعمل ، لا انه ليس بنافع فحسب .

المؤتمرات العامة للحزب

و 6 - المؤتمرات العامة للحزب ، فان الحزب يعقد ، في كل فترة زمنية خاصة ، مثل كل سنة مرة ، مؤتمراً عاماً ، من الاعضاء الذين هم أعضاء في كل الوحدات واللجان المذكورة آنفاً ، وذلك لاجراء الانتخابات العامة ، وكيفيته أن يكون لكل فرد صوت بمقدار خدماته ، أو يكون لكل فرد مهما كان صوت واحد ، بالاسلوب الذي يقرره منهج الحزب ويخطب في المؤتمر ، الرؤساء ، فيذكرون انجازات الحزب، في العام المنصرم وما يحتاجه الحزب في الحال الحاضر ، ورؤية الحزب للمستقبل ، وما يحتاجه المستقبل من العدة وأحياناً يتكلم غير الرئيس في الوحدة ونحوها ، كما يقررون الاعمال المستقبلية ، أما

ص: 437

بأكثرية الاراء ، وأما بالاقتراع ، أو بغيرهما مما يساعد عليه منهاج الحزب .

واللازم ان يتم الانتخاب (الاعضاء الذين يحضرون المؤتمر، والذين يصوت لانتخابهم )في أجواء حرة، وحينذاك يكون الحزب (استشارياً ) ديمقراطياً، فان لم تكن الاجواء حرة ، كان الحزب ديكتاتورياً ، ونتيجة ذلك هي: تصفية الديكتاتور لاصدقائه كما حدث في روسيا ، وفي الصين، وفي غيرهما من البلاد الشيوعية ، فقد قتل ستالين أصدقائه ، كما قتل ماو ، أصدقائه ، وكما قتل عبد الناصر عبد الحكيم عامر وأصدقائه الاخرين ، وقتل بكر وصدام اصدقائهما أمثال : ناصر الحاني ، وحردان التكريتي ، الى غيرهم من الديكتاتوريين ،هذا غير قتلهم سائر أفراد الشعب ، ولذا فاللازم في أعضاء الاحزاب ان يقفوا بشدة دون دیکتاتورية الكلمة والعمل، والاتنتهى الديكتاتورية المذكور ذالى ديكتاتورية التصفيات الجسدية .

وكذلك يلزم ان يقف أعضاء الحزب ، دون عدم عقد المؤتمرات ، المقرر لان معنى عدم عقد المؤتمرات ، ان الرؤساء لايرغبون في زحزحة في

المنهاج، مكانتهم في الحزب ، وهو نوع آخر من الديكتاتورية ، ويجب ان لا يخدع الاعضاء بممارسة الرؤسا النوعين السابقين من الديكتاتورية

(عدم حرية أجواء الانتخابات ، وعدم انعقاد المؤتمرات) وأحياناً يهدد بعض الرؤساء بالخروج عن الحزب ، اذا لم يستجب الاعضاء لقوله ، وحينئذ يكون اللازم قبولهم استقالته ، لان فقدهم عضواً نشطاً كثير العمل ( كما يتفق غالباً ، ان العضو النشط هو الذي يمارس الديكتاتورية) أهون من بقاءه ديكتاتوراً مسلطاً على رقابهم واللازم ان يعرف الاعضاء ان كل عذر لعدم انعقاد المؤتمر ، ولسلب الحرية في الاجواء الحزبية ، غير مقبول.

فان الرؤساء قد يعتذرون لعدم عقدهم المؤتمر، أوسلبهم حرية الاجواء بأن

ص: 438

الحزب يعمل في خفاء، وذلك مالايلائم عقد المؤتمر ، وقد يعتذرون بأن حرية الاجواء تظهر التناقضات الموجودة في الحزب، وقد يعتذرون باعذار واهية اخرى وكلها تبريرات تختفى ورائها ديكتاتورية الرؤساء ، فكلما ابتعد المؤتمر عن المؤتمر الاخر في الفواصل الزمنية، وكلما كانت الاجواء في داخل الحزب خانقة كان ذلك دليلا على ديكتاتورية، وانه يسير الى تأليه الفرد، وتسليطه على رقاب الحزب ، ليفعل ما يشاء.

اختلاف الاتجاهات الحزبية

ثم ان قيادة الحزب يجب ان تلاحظ بعين الاعتبار أمرين مهمين:

(الاول) : ان رؤساء الفروع الذين يتجمعون في المؤتمر ، كانت لهم أجواء خاصة في بلادهم، خصوصاً اذا كانت البلاد متنائية واللغات مختلفة، والحكومات المسيطرة على تلك البلاد متعددة ، و تلك الاجواء تفرغ العضو افراغاً فكرياً وعملياً خاصاً .

ولذا يمكن الاصطدام بين القيادة و بين اولئك الرؤساء ، فاللازم تفادى هذا الامر بالجلسات التحضيرية، التي تقرّب من وجهات النظر ، حتى لا يقع الاصطدام ، ثم الشقاق كما يحدث كثيراً في الاحزاب والاحزاب الشيوعية المنشقة بعضها على بعض ، شاهدة لذلك ، حيث ان الاحزاب الشيوعية مبنية على الديكتاتورية والعنف ، وبذلك يقع التشقق الفظيع بين أعضائها ، فان كان الحزب مسيطراً على الدولة قتل المسيطرون المنشقين ، وان لم يكن مسيطراً نشطت الاغتيالات بينهم والتعاون مع السلطة لضربها البعض غير المرغوب فيه الى غير ذلك من أساليبهم التصفوية .

ص: 439

بين الحزبيين القدامى والجدد

الثاني : ان الصغار الحزبيين، يكبرون ثقافياً ، وسياسياً ، ومكانة اجتماعية وهؤلاء يريدون ان يفتحوا طريقهم الى التقدم في درجات الحزب ، و كثيراً ماتكون لهم كفاءات ان صبوها في الحزب، تقدم الحزب، وتمكن من الوصول الى أهدافه. . . .

ومن المعلوم ان القدامى في الحزب، يقفون دون تقدمهم، لان ذلك يؤثر في : تأخر القدامى ، أو التنازل عن بعض امتيازاتهم ، فاللازم على القادة

العقلاء للحزب ان يجمعوا بين تقدم الافراد الجدد و بقاء الافراد القدامى على نشاطهم ، فان القدامى لهم الخبرة والسابقة والجدد لهم النشاط والكفائة المتنامية .

مما يوجب عدم الاستغناء عن أي منهما، وقد قال سبحانه : « ولا تبخسوا الناس أشيائهم » .

وفي الحديث لايتوى حق امرء مسلم الى غيرهما من الايات والروايات الشاملة لما نحن فيه .

المحسوبية والمنسوبية في الحزب

كما ان هناك مشكلة اخرى يقع فيها الحزب غالباً، هي مشكلة المحسوبية والمنسوبية، فكثير من القياديين ، يريدون ادخال بعض ذويهم في المناصب الحساسة ، وفي كل من الادخال وعدمه محذور ، حيث ان في الادخال محذور عدم كفائة ذلك العضو ، فهو يضر الحزب احياناً بدل ان ينفعه ، وفي عدم الادخال محذور خروج القيادى المذكور عن الحزب ، وفى ذلك خسارة الحزب ؟ واللازم حل هذه المشكلة بالموازنة بين اكثر الامرين نفعاً ، اواقلهما ضرراً من

ص: 440

باب قاعدة الاهم والمهم .

نعم اذا كانت التربية الحزبية نظيفة، والرقابة الاجتماعية على الحزب شديدة يكون وقع هذه المشكلات الثلاث :( الأول ، والثاني،والمحسوبية) أقل وحلها أسهل .

ولا يخفى ان هذه المشكلات كلها أو بعضها ، هي مشاكل اجتماع في حالة تقدم ، أو ممكن التبدل ، كالجمعيات ، والنقابات والتكتلات ، والحكومات،وغيرها ... وكلما كانت الرقابة الاجتماعية ، على هذه التجمعات أكثر وكانت التربية صحيحة ، والانسجام العام بين الأفراد أقوى و أمتن ، كانت المشاكل المذكورة أقل بروزاً، واسرع حلا. والتربية والانسجام يمكن تقويتهما بتكثيف الحوار والمناقشات الحرة، وخصوصاً اذا كانت تحت اشراف المجتمع ، أو عقلاء الحزب ، حيث يظهر لكل طرف ، جوانب القوة والضعف في آرائه ومتطلباته .

ص: 441

مسألة : 43 بين الانظمة السياسية والاحزاب

اشارة

الانظمة السياسية المبنية على الاحزاب ، على قسمين (النظام السياسي ذو الحزب الواحد) و (النظام السياسي ذو الاحزاب والقسم الثانى ينقسم الى ما كان بعض الاحزاب مسيطراً على الحكم مع حرية الاحزاب الاخر ، و ذلك لقلة اعضاء تلك الاحزاب الاخر ، وماليس كذلك ، وماليس كذلك ينقسم الى النظام ذى الحزبين فقط ، أوذي الاحزاب ، فالاقسام أربعة :

(1) ذو الحزب الواحد .

(2) ذو الحزبين .

(3) ذو أحزاب احدها مسيطر.

(4) ذو احزاب كلها تتصارع على الحكم...

ولا يخفى ان الحكومات كانت قبل ان تكون الاحزاب لها هذه الشخصية الحاضرة وان كان واقع الحزب موجوداً، في كل حكومة ، أما بصورة القبائل وأما بصورة الطبقة الممتازة ، لثروتها، أوقوتها العسكرية ، أو امور اخر ، وعليه فالاحزاب بهذه الصورة الحاضرة ، تشكل حديث غالباً، يتكون في ظل الدولة

ص: 442

التي لها مشخصات جغرافية ودينية وقومية خاصة ، ثم يترعرع ، ويكبر ، حتى يتمكن ان يصل الى الحكم ... وتأثير الحكومة والحزب احدهما في الاخر من قبيل تأثير الولد والعائلة احدهما في الآخر، فالولديكون في العائلة ويتأثر بالعائلة ولما يكبر يؤثر فى العائلة ، وتدريجياً يغير وجه العائلة الى وجهة نفسه .

فى النظام الحزبي الواحد

(1) والنظام الحزبي الواحد ، أول ماحدث في التاريخ - كما قال بذلك بعض السياسيين - هو في زمان لينين ، حيث ألف كتابه : (ماذا نصنع؟) وطرح هناك لزوم وحدة الحزب ، وبرر بذلك ، ديكتاتوريته والتي انتهت الى جعل روسيا أسوء مكان يضطهد فيه البشر ، وقد كانت قبل هذا النظام ، مكاناً للحريات النسبية ، والاحزاب المتعددة ، وكان اضطهاد قيصر للانسان الروسي ، أقل من اضطهاد الشيوعيين له بأقل من نسبة الواحد الى الالف، ولا ينتهى هذا الاضطهاد الا برجوع الحريات الى روسيا والظاهر من الغليان داخل روسيا ، وتحرك الانسان الروسي للخلاص من هذا النير الاستعبادي ، ان خلاصهم قريب باذن الله تعالى ولولا مساعدة أمريكا والجبهة الغربية ، لستالين في الحرب العالمية الثانية، لكانت الديكتاتورية الشيوعية خبر أينقل في ثنايا التاريخ لكنهم ساعدوا الشيوعية حتى تمكنت من ابقاء ديكتاتوريتها والاستمرار في اضطهاد الشعوب المتسلطة على رقابها بالحديد والنار ، ولاتزال امريكا تساعدها بالقمح وبالعلم ، ولكن من طبيعة الديكتاتورية ان لاتبقى لان الانسان جبل على الحرية والحرية هي صاحبة الكلمة اخيراً .

وقد كانت ايطاليا والمانيا واسبانيا والبرتغال وغيرها ذات حزب واحد ديكتاتور ، لكن تحطمت ديكتاتورية ايطاليا والمانيا ، بانتهاء الحرب العالمية

ص: 443

الثانية ، حيث انهزمت النازية والفاشستية ، والبرتغال تحطمت ديكتاتوريتها ، قبل سبع سنوات بالانقلاب الذي حدث هناك ، كما تحطمت ديكتاتورية اسبانيا بموت (فرانكو) والصين وبولندا أخذتا تتململان، للخروج عن هذا الطرق بعد موت (ماو) في الصين، وبعد التحرك العمالي في بوالندا .

أما الديكتاتوريات العميلة الصغيرة ، أمثال : (الشاه) و (ببرك) و (السادات) و (صدام) فمنها ماسقطت ، ومنها ما تترنح للسقوط، ولم يبق من الانظمة الديكتاتورية الانظام روسيا وما يدور في فلكها من اروبا الشرقية ونحوها ، و اللازم تظافر الجهود لتحطيمها، لاجل خلاص الانسان من هذا المرض العضال . قال سبحانه: «ومالكم لاتقاتلون في سبيل الله والمستضعفين ؟».

كما ان اللازم خلاص البلاد الرأسمالية ، كأمريكا ، من أخذ رأس المال بخناق الناس وقد ذكرنا أسلوب الخلاص من هذين النظامين ، في جملة من كتبنا مثل (الفقه : الاقتصاد) و (الى حكومة ألف مليون مسلم )وغيرهما، والله سبحانه المستعان .

بطلان منطق الاحزاب الفاشسية والشيوعية

ثم ان الاحزاب الفاشسية والاحزاب الشيوعية ، ان واختلفتا في التكتيك والمنطق لكنهما لا يختلفان فى الجوهر ، حيث ان كلتيهما تحطمان الحرية ، وتطاردان الاستشارية (الديمقراطية).

فالشيوعية تقول : ان الديمقراطية كذب لبسها رأس المال ليخفى جشعه تحت هذا الثوب المهلهل، ولذا يجب تحطيمها الى الديكتاتورية بقصد تحطيم رأس المال ...

والفاشسية تقول : ان الديمقراطية ضعيفة، لا أثر لها الا انتهاز الشيوعية هذا

ص: 444

الضعف لتقوى نفسها وتتسلط على البلاد ، فتطبق منهاجها بالدم والنار والحديد ولذا فاللازم تحطيم الديمقراطية المهلهلة، بقصد تحطيم الشيوعية المنتهزة... والصحيح بطلان كلتيهما كبطلان الرأسمالية ، وانما اللازم وجود الحكومة الاستشارية التي لا يأخذ برقبتها رأس المال.. وقد تقدم، ان الصحيح في الحكومة ان تكون في الاطار الاسلامى .

أضرار الحزب الواحد

والحكومة ذات الحزب السياسي الواحد ، عرضه للزوال السريع، بينما الحكومة ذات الاحزاب ليست كذلك، والسبب ان الناس لا يتحملون الديكتاتور وحتى أعضاء الحزب الواحد تكون بينهم الديكتاتورية ، اذالديكتاتورية اذا تحركت عجلتها لا تفهم الغريب والقريب وتسحق كل من وقف في طريقها ولذا نجد الديكتاتوريين يقتلون حتى أقرب المقربين اليهم ، فشاه ایران قتل اخاه وعبد الناصر قتل زميله عامر والبكر وصدام قتلا زملائهما، کرشید مصلح وحردان التكريتي .

أما ما و وستالين وهتلر ، فلقد اكثروا القتل في اصحابهم ، و من الواضح ان الوضع بهذه الحالة لايدوم ، ولا يقصد عدم الدوام على الاطلاق بل الدوام المترقب من الحكومة، فعمر الحكومات الديكتاتورية اقصر من عمر الحكومات الديمقراطية...

هذا بالاضافة الى ان الحكومات الديكتاتورية دائماً متأخرة، بالنسبة الى الحكومات الديمقراطية، وذلك لان الديكتاتورية ضد ظهور الكفاءات، بينما

الديمقراطية مهد ظهور الكفاءات، وكلما ظهرت الكفاءات واعطيت لها فرص العمل، كان التقدم أكثر .. ولذا نجد الشيوعيين دائماً محتاجين الى الديمقراطيين

ص: 445

حتى الديمقراطيين في الجملة ، كما هو الحال فى الحكومات الغربية .

وكلما كانت الديكتاتورية أكثر ، كان التأخر أكثر ، كما انه كلما كانت الديمقراطية أكثر كان الدوام والثبات أكثر .. أما كيف بقيت روسيا الى الحال؟

فقد تقدم وجهه، فان امريكا وسائر البلاد الاستعمارية الغربية هي التي أوجدتها، كما انها هي التي انقذتها فى الحرب العالمية الثانية وهي التي ابقتها ، حيث ان بسببها :

(1) تتمكن من امتصاص اموال الناس بالباطل، لتخويفهم اياهم من الشيوعية، كما تستدر امريكا وبريطانيا، بلاد النفط العربية ، بهذه الوسيلة .

(2) وتجعل منها سوقاً لقمحها وتكنلوجتها، ولذا نرى ان الغرب لما يرد بقاء شيوعية الصين . أخذ يجرها الى جانب الغرب، منذ أواخر (ماو). والتصفيات الجسدية، والسجن والتعذيب، بدون المحاكمة (حتى المحاكمة الصورية) من أظهر سمات الحكومة ذات الحزب الواحد ، كما ان الكذب والدجل وقلب الحقائق ظاهرة اخرى من ظواهر هذه الحكومات ، كيف لا ،وقد قال زعمائهم :(لادين، ولا اخلاق) وحتى رؤساء الحزب لم يستثنوا من التصفية ، كما صفى بلغانين وبيريا، بل والمشهور ان ستالين هو الذي قتل لينين، واساس التصفيات في الحكومات الديكتاتورية ، هي النزاع على الكرسي والسيطرة ... والطبقية داخل الحكومات الديكتاتورية تدور رحاها على أشدها ،فهناك طبقة الحاكم التي لها كل شيء، وطبقة الشعب التي ليس لها حتى الشبع من الخبز .

ولذا تجد الطبقية في روسيا الشيوعية، بشكل لم يوجد لها مثيل طول التاريخ، فمثلا فى أمريكا المال بيد التجار وهم كثرة ، والحكم بيد الحكام وبين التجار والحكام وان كان تقارب من ناحية ، الا ان بينهما تدافعاً من ناحية ثانية ، بينما

ص: 446

في روسيا المال والحكم بيد طبقة واحدة هي الطبقة المستكبرة التي تفعل ما تشاء .

وانا نعتقد خطأ كلا النظامين اذا اللازم ان يكون المال بيد الكل، والحكم بيد الكل ، كما قال سبحانه :« كي لا يكون دولة بين الاغنياء منكم» (1).

وقال تعالى : «أمرهم شورى »(2)وقد ذكرنا في كتاب ( الفقه : الاقتصاد )و( الفقه : الحكم في الاسلام) كيفية توزيع المال- بما يخالف المناهج الاربعة: (الرأسمالية ، والاشتراكية، والشيوعية ، والتوزيعية) - وكيفية توزيع الحكم بما يكون شوری ،حقيقية، لاشوري صورية ، كما في أمريكا والبلاد الرأسمالية.

ثم ان بريطانيا وفرنسا وبلجيكا وما أشبه ، حيث أخذت البلاد المستعمرة تحت نفوذهم في آسيا وافريقيا، تتحرر ، واضطروا بسبب الضغوط العالمية ، الى الانسحاب من تلك البلاد، مكروا لرجوعهم اليها بنشر مبادىء الديكتاتورية في تلك البلاد ، كما أخذوا أزمة الديكتاتوريتين الذين جاءوا باسم التحرر الى منصة الحكم ، وكان هدفهم من ذلك ، تضجر أهل البلاد من الديكتاتوريين وطلبهم رجوع الاستعمار ، لانهم كانوا أقل عنتاً في حال الاستعمار من عنتهم حال الاستقلال المزعوم .

النظام ذو الحزبين

(2) والنظام ذو الحزبين هو الذي يقوى فيه حزبان سياسيان ، مثل بريطانيا وأمريكا الشمالية (وليس معنى ذلك ان لا حزب سياسي آخر في مثل هذه البلاد بل هناك تجمعات صغيرة في جانب هذين الحزبين مثلا : فى امريكا ، الى جانب الحزبين الديمقراطي والجمهوري احزاب صغار تنصب في نهر الحزبين الكبيرين مثل الحزب العمالي والحزب الاشتراكي، وحزب المزارعين، وحزب تحريم

ص: 447


1- سورة الحشر / 8
2- سورة الشورى /37

المسكرات والحزب التقدمي ... ) .

والحزبان فى كلا البلدين ، لهما أطار واحد ، وان اختلفا في الاجتهادات الحزبية، مثلا : أحد الحزبين يهتم بالداخل أكثر ، والحزب الاخر يهتم بالخارج أكثر، وأحد الحربين يهتم بصنع السلاح والصناعات الثقيلة، والحزب الاخر يهتم بالاشياء التجميلية كالثلاجات والمبردات و المدافيء وما اشبه ، وهكذا ، والعمدة في الدولة ذات الحزبين ، ان الحزبين يكونان بمنزلة جناحى الطائر في طيران الامة .

وفي كلمة للامام أمير المؤمنين عليه السلام : ( يطير المرء بهمته كما يطير الطائر بجناحيه فكل حزب يهتم لجمع الناس حول نفسه، ولذا يخدمهم ويتقرب اليهم ويقضى حوائجهم كما ان كل واحد منهما يقف بالمرصاد للحزب الاخر فكلما رأى زلة نشرها، وبذلك يعيش الشعب فى راحة من الديكتاتورية والاحكام التعسفية التي يبتلون بها في الحكومات ذات الحزب الواحد ، حيث لا محاسبة ولا مراقبة ، كما انه لادافع للحزب الواحد في جلب رضاية الناس، ولذا يكثر غير الراضين ، وحيث لامسؤل ، فالحزب يتخذ منهج الديكتاتورية ، و القتل والتعذيب ومصادرة الاموال مخلصاً لتصفية أعدائه وقد قال على عليه السلام (من ملك استأثر ) .

وجملة من بلاد العالم اتخذوا مسلك الحزبين في الحكومة ، لكن جملة منها وقعت في شباك الاستعمار فلم ينفع الحزبان فيها، في توفير الرفاه وايجاد جو الحريات الصادقة ، في الشعب اذليس وجود حزبين في الدولة كل شيء بل اللازم وجود سائر مقومات الحرية والرفاه والاستقلال.

لا يقال : ان كان وجود حزبين يكفى في رفع الظلم ، فلما ذا نرى ان بريطانيا وامريكا من أكثر بلاد العالم ظلماً ، لا بالنسبة الى البلاد المستعمرة

ص: 448

- بالفتح - بل بالنسبة الى شعوب أنفسها ، حيث الطبقية الحادة ، فبطون تتخم وبطون تحرم ؟

لانه يقال : ان الحزب في كلا البلدين وقع أسير رأس المال ، ورأس المال يتحرك لتقوية نفسه من دون ملاحظة الغريب والقريب ، فالشعب مثاله مثال طائر في

قفص ، بينما شعب ذي حزب واحد ، كطائر ملفوف بالقيود، ولا خلاص للعالم من الاستعمار ، ولا لشعوب البلدان المستعمرة - بالكسر - من الاستغلال الا بتحطيم رأس المال المنحرف ، وتوزيع الثروة توزيعاً عادلا ، حسب حسب الامور الخمسة ، التي ذكرناها في( الفقه : الاقتصاد) . . . هذا فقط من ناحية التحرر من حيث المال .

أما التحرر الحقيقى ، فليس الا في ظل الاسلام ، كما قال سبحانه : «يضع عنهم اصرهم والاغلال التي كانت عليهم» .

باليد المعلمة

النظام ذو الاحزاب المسيطر احدها

(3) أما النظام ذو احزاب احدها مسيطر ، فذلك لايكون الا اذا كان في أحد الاحزاب مؤهلات أكثر لادارة الحكم ، وكان له أنصار كثيرون، أما لسوابقه وأما لانه تمكن من استقطاب رضاية الناس أكثر ، وحفظ نفسه عن الانزلاق.

فقد ورد في الحديث : ( من أصلح فاسده ارغم حاسده ) و الهند منذ استقلالها من يد بريطانيا عام (48) الى الان ، كذلك حيث يسيطر على الحكم فيها (حزب المؤتمر) الذى تحمل اكثر الاتعاب في تحريرها، ولذا فهذا الحزب له الاكثرية في المجلسين التشريعي والتنفيذي ، وأما سائر الاحزاب المجازة فليس لها شيء يذكر ، وان كانت لهم الحريات في مجال السياسة ، أما الأحزاب الاخر في الهند ، مثل الحزب الشيوعي ، والحزب الاشتراكي ، فلم يتمكنوا

ص: 449

من اخذ الزمام عن يد حزب المؤتمر .

والسبب ان ذينك الحزبين ثبت ارتباطهما بالاجنبي ، فلم يلتف حولهما الناس ، كما انه لم يكن لهما سوابق نضال، بالاضافة الى ان الحرية الموجودة في الهند تقف دون هذين الحزبين بالمرصاد ، لان كلا من الحزب الشيوعي والاشتراكي ، لا يتمكن ان يعيش الا في جو من الديكتاتورية والظلام، فاذا لم يجد مثل هذا الجو لم يتمكن اي منهما ان يعيش الاعيشة لايموت فيها ولا يحيى فان كلا من الشيوعية والاشتراكية خلاف العقل والمنطق - كما بينا ذلك في كتبنا الاقتصادية -

أما بعض الاحزاب الاخر في الهند ، فليس لها سوابق ولا برامج مغرية - ولذا فانها بقيت فى ذيل القافلة ، وقد حاولت كل من بريطانيا وامريكا وروسيا والصين جر الهند الى تبعيتها ، لكنها آبت بالفشل، وليس معنى ما ذكرناه انا نرضى بالنظام في الهند ، وانما هذا بيان لسبب تسلط الحزب الواحد ، او كيف ان سائر الاحزاب لم تتقدم منذ ثلث قرن ؟

النظام ذو الاحزاب المتصارعة

(4) واخيراً يأتى دور النظام ذي الاحزاب المتكثرة ، والتي تتصارع كلها على الحكم ، من غير انصباب في نهر حزبين كما تقدم في حزبي امريكا - وفي مثل هذا النظام يمكن ان لايفوز أحد الاحزاب بأكثرية الاراء ، ولذا لا يتمكن أحد الاحزاب أن يأخذ بأزمة القدرة في يده ، وانما تتشكل منهم الحكومة الائتلافية : وبقدر قدرة كل واحد منهم في الفوز السياسي ، تكون بيده الوزارات ، فاذا فرض ان أحد الاحزاب كان له 0/050 ، من المجلس والثاني له 0/030 ، والثالث له 0/020 ، وزعوا الوزراء فيما بينهم بتلك

ص: 450

النسبة فاذا كان عدد الوزراء عشرين، كان الاول عشرة والمثاني ستة ، وللثالث اربعة.

وهكذا . . . (واذا لم تأتلف الدولة من قدرات الاحزاب ، سقطت الدولة) وقد كان لا يطاليا قبل سبع سنوات ، هذا النوع من الحكم ... لكن اذا كان

تعيين رئيس الجمهورية من قبل الامة مباشرة ، فرئيس الوزراء من قبل رئيس الجمهورية ، لم تتمكن القوة التشريعية (مجلس الامة) في صورة ائتلاف الدولة من اسقاطها ، لان القوة التشريعية ، في أغلب الاحيان لا تتمكن من تعبئة الرأي العام ، لاسقاط منتخبهم للقوة التنفيذية : رئيس الجمهورية) كما كان الحال في فرنسا عام (1958م) حينما اختير ديغول رئيساً للجمهورية في المرة الثانية وفائدة هذا النحو : الحكم في (فرنسا) انه يمنع من اسقاط الدولة ، كلما لم ترغب فيها القوة ،المقننة، ومن الواضح ان سقوط الدولة يوجب الضعف وفوضى البرامج المقررة للاصلاح والتقدم .

ثم لا يخفى ان الانتخابات قد تكون ذات درجة ، وقد تكون ذات درجتين فالاولى عبارة عن فوز من له أكثرية الاصوات بالنسبة ، لكرسي مجلس الامة ، فاذا كان هناك عشر مرشحين ، حصلوا على الأصوات (5 ، 10،908،7،6 12 ، 13 ، 14 ، 16) كان الفائز من حصل على (16) لانه أكثر المرشحين ل- اصواتاً بالنسبة ، أما الانتخابات ذات درجتين فمن حصل على (16) صوتاً ، لايفوز بكرسي المجلس ، لانه لم يحصل على الاكثرية المطلقة، والاكثرية المطلقة هي (51) من مجموع الأصوات الذي هو مأة صوت ، واذا كانت الانتخابات ذات درجتين ، تتحد الاحزاب الصغار ، ويتنازل المنتخبون بعضهم لبعض ، ويبقى في الميدان فائزان فقط ، يجربان حظهما في الانتخابات الثانية ، فمن فاز بأكثرية الاصوات المطلقة (51) في المثال ، حصل على كرسي المجلس لكن الاحزاب التي اندمجت في الانتخابات، وتنازلت بعضها لبعض ، لا تفعل ذلك

ص: 451

اعتباطاً ، بل في مقابل ضمانات ، وغنائم يوفرها الحزب الفائز بمنتخبه للحزب الذي لم يفز.

طريق معرفة احجام الاحزاب

ثم ان معرفة احجام الاحزاب ، انما تكون في الاحزاب السرية بقدرتها على نشر الاشاعة ضد الحكم فيما اذالم يصل الحزب، الى امكانية خلق الفوضى والا كانت مظاهر الفوضى دليلا على حجم الحزب، مثلا : لوتمكن الحزب من ايجاد الفوضى، بالمظاهرات والاضرابات ، واحراق المباني الحكومية ، و ما أشبه في بلد واحد كان دليلا على ان له قوة بقدر قوة خمس الحزب الذى يتمكن من فعل ذلك ، في خمسة بلاد.

وهكذا بالنسبة الى نشر الاشاعات ، مثلا الحزب الشيوعي السرى ، في بلد كذا ، ضد ادخال مادة الدين والفضيلة في المدارس( بناءاً ، على قول ماركس: لادين ، لااخلاق) فاذا صممت الدولة على ذلك أخذ الحزب الشيوعي السرى في اشاعة ان هذا العمل خلاف التقدمية . ورجوع الى الوراء فاذا اريد معرفة قوة الحزب الشيوعي (القوة الكيفية ، وان لم يظهر بذاك القوة الكمية في عدد أفراده) علم ذلك من امكانية اشاعتهم في البلدان ، فان تمكنوا من الاشاعة ضد المشروع في عشر البلد ، كان دليلا على قوتهم بهذا القدر ، وهكذا .

أما معرفة احجام الاحزاب العلنية ، فقد ذكروا لها مقاييس ثلاثة :

(1) معرفة كمية المنتسبين وكيفيتهم ، هل لهذا الحزب ألف منتسب أو عشرة آلاف ؟ وكم له من الاطباء والمعلمين و المهندسين ورجال الدين ؟ الى غير ذلك .

(2) معرفة كمية الناخبين وكيفيتهم ، والكيفية وان لم تكن تعطى الصوت

ص: 452

الزائد (فان لكل ناخب صوتاً واحداً )الا انها تعطى الوزن ، حيث ان الناس تبع للمثقفين مثلا .

(3) معرفة عدد المقاعد البرلمانية ، وكيفية أفراد الحزب في البرلمان لان الكيفية لها وزن في التأثير على سائر الاعضاء ، وفي الرأى العام الضاغط على أعضاء البرلمان ، ومن الواضح انه يقل احترام الحزب عند ما يقل عدد نوابه لان وزنه في المقررات يخف . ويتضائل امكان حصوله على مقاعد أو مكاسب أو معلومات من الناخبين، وتبعاً لقلة احترامه وقلة مكاسبه ، يقل نموه في المجتمع..

ولا يخفى ان البحث في الاحزاب طويل ، يصل الى مجلد أو أكثر ، ولذا ألف فيه (موريس) وغيره كتاباً مستقلا ، لكنا ذكرنا بعض تلك المباحث هنا الماعاً الى الخطوط العامة لهذا الشأن السياسي ، الذى له وزنه في عالم اليوم ومن شاء التفصيل فليرجع الى المفصلات والله الموفق المستعان.

ص: 453

مسألة : 44 اصالة الحرية

اشارة

الاصل في الأنسان الحرية ، في قبال الانسان الآخر ، بجميع أقسام الحرية اذ لا وجه لتسلط انسان علی انسان آخر وهو مثله ، كما ان الاصل في الانسان العبودية لله سبحانه ، فانه هو الذي خلقه ورزقه و کل اموره بیده ، لا تصر فأفقط ، بل بقاءاً ايضاً حيث ان الانسان باق بارادة الله تعالى ، فان أقل لحظة صرف الله لطفه عن الانسان يلحقه بالعدم ، وقد مثل الحكماء لذلك (والامثال يقرب من جهة ويبعد من جهة) بالصور الذهنية ، فانها موجودة في الذهن ، ما دام اللاحظ يعيرها الانبياه ، فاذا صرف ذهنه عنها ، لم تكن شيئاً .

و لعل الامام الصادق عليه السلام أشار الى ذلك فيما حاصله ان انساناً سأل عنه عليه السلام عن شأن الله فى الكون ، بعد كونه سبحانه لا يحتاج الى أكثر من لحظة في خلق الكون وابقائه الى الابد ، كما للانسان الذي يصنع ماكنة ثم يشغلها ، ويدعها وشأنها ، فلا شأن له سبحانه بعد ذلك ؟ و حاصل جواب الامام عليه السلام : ان الاستمرارية مستندة اليه سبحانه في كل لحظة).

وعليه فلا يطابق المثل مع شأن الله فى الخلق ، كما ان قوله سبحانه :« كل

ص: 454

يوم هو في شأن»(1) لعله اشارة الى ذلك .

وكيف كان ، فيدل على اصالة حرية الانسان قول على أمير المؤمنين عليه السلام : (لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً)وقد ذكر هذه الاصالة الفقهاء فى مسألة الرق ، فراجع كلامهم.

وقد خرج عن هذا الاصل استعباد اسراء الحرب ، اذا رأى الامام ذلك صلاحاً ، فانه مخير بين امور : القتل، والسجن ، والفك ببدل ، والفك بلا بدل والاسترقاق ، ومن يزعم انه اهانة لكرامة الانسان ؟ نسأله هل هو أكثر اهانة أم سجنه ؟ لاشك ان السجن أكثر اهانة ، لانه تقييد الحريات كثيرة، بينما الاسترقاق تقييد الحريات قليلة ، فاذا جاز السجن ، جاز الاسترقاق بطريق أولى ، كما ان من يزعم ان القصاص فى العضو قسوة ، نسأله : هل القتل أكثر قسوة أو القصاص ؟ فاذا كان القتل جائزاً ، كان قصاص بعض الاعضاء جائزاً بطريق أولى ، وحيث ذكرنا في كتاب( الفقه : الاقتصاد ، القصاص) تفصيل الكلام حول ذين الأمرين ، لم يكن داع الى الاعادة.

اقسام الحريات

اشارة

والمقصود في المقام الالماع الى بعض الحريات ، وخصوصياتها، فنقول قد تبين مما سبق ان الحرية ليست من الحقوق الموضوعة، حتى يعطيها انسان لانسان آخر ، أويسلبها انسان عن انسان آخر.

نعم، المولى العبد( العبد المتقدم) ان يحرره ، كما ذكره الفقهاء، في كتاب الرق وفي ما عدا ذلك فالانسان ،حر، سواء أقربه فرد او جماعة، أودولة، أولا و الحرية وان كانت حق الانسان ولا يمكن ايجاد التزلزل في اسسها، لكنه قابلة التأطير بالاطر ،المعقولة ونذكر ذلك ضمن امور:

ص: 455


1- سورة الرحمن / 30

الحرية الجسدية، حرية العمل

(الاول) في الحرية الجسدية والعملية :

(1) فكل انسان حر في بدنه، لا يملك في بدنه لايملك فى غير المورد المستثنى سابقاً، وما كان يفعله الغرب من سرقة الانسان و بيعه والاستيلاء عليه بالقوة، كان عملا باطلا في نظر العقل والاسلام، الى ان ألغاه بعض عقلائهم وقد أحصى ! التاريخ انهم في فترة خاصة استعبدوا بمثل ذلك الطريق مأتى مليون انسان کمافی کتاب (تشریح جثة الاستعمار) و غيره ، والعقلية الغربية الاستعمارية ( و التي تبعتها الشرقية الشيوعية) في الاستعمار و هضم حقوق الشعوب، هي نفس تلك العقلية الاستعبادية ،القديمة لبست ثوب العصر، والحقيقة هى الحقيقة وان كانت الان ظهرت في صورة ابشع .

حرية العمل

(2) كما ان كل انسان حر في عمله ، فلا يحق لاحد ان يجبر احداً على عمل نعم يمكن استثناء صورة عن ذلك، وهي ما اذا كان انسان قادراً على عمل يتناسب وشأنه، لكنه لا يعمل ويجعل نفسه وعائلته كلا على الناس، فانه لا يبعد أن يكون للدولة حق الاجبار ، لان تركه يتسول افسادله ، والدولة الاسلامية مكلفة برعاية المصالح، وهذا منها بالاضافة الى انه تضييع لعائلته.

وقد ورد: (لعن الله من ضيع من يعول)- فيما اذا كانت له عائلة ومن باب الاجبار على العمل ، لاجل رزق نفسه ورزق عائلته الاجبار على العمل ، لاجل أداء دينه، فيما اذا كان قادراً على العمل الذى يتناسب وشأنه، كما افتى بعض الفقهاء بذلك ، واذا لم يقدر الشخص على العمل ، وعلى اداء دينه بالعمل ، كان على بيت

ص: 456

المال رزقه ، وأداء دينه كما ورد في الاحاديث ، وفصلنا الكلام حول ذلك في (كتاب الزكاة )من الفقه .

حرية خصوصيات العمل

(3) و كذلك كل انسان حر في خصوصيات العمل ، من ساعاته ، و کمیته وكيفيته ، و زمانه و مکانه ، وغير ذلك ، لان:( الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم ).

نعم للانسان ان يسلب هذه الحرية عن نفسه بالمعاهدة والمعاملة ، فان كون حق السلب له، نوع من الحرية ، كما اذا آجر نفسه عشرة أيام ليعمل لزيد عمل كذا بشرط كونه مؤطراً بالاطار الاسلامي من الشروط والخصوصيات، اذ لا يحق للانسان المعاملة خارج هذا الاطار، ولذا قال الفقهاء. (الناس مسلطون على انفسهم، وأموالهم لاعلى احكامهم ) .

في التساوي بين الافراد

(4) وهل التساوي بين أفراد الانسان الابيض والاسود، والعربي والعجمي، وما أشبه ذلك، نوع من الحرية، كماقال بذلك بعض السياسيين، أو انه داخل في باب آخر ؟ احتمالان، وان كانت النتيجة انه لاحق في منطق الاسلام في اى نوع من التمييز الذي لا يرجع الى الكفاءات (والدين من الكفاءات، أو كما ذكرناه سابقاً) فلاحق للدولة ان تجعل بعض مؤسساتها أو ما أشبه ذلك خاصاً بالابيض دون الاسود أو لغة كذا دون لغة كذا، وهكذا كما كان القانون الامريكي و بعض البلاد الاستعمارية الاخر ، يوجب التمييز العنصرى ، فان ذلك خلاف موازين العقل والشرع، فان التمايز في منطق الشرع للمتعارف لا للتناكر .

ص: 457

قال سبحانه : « و جعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ، ان اكرمكم عند الله اتقاكم»(1).

و قال صلى الله عليه و آله وسلم : ( الناس سواسية كاسنان المشط ) الى غير ذلك .

اما المؤسسات الخاصة كفندق لزيد، ومطعم لعمرو فهل يحق له التمييز ؟ الظاهر ان له ذلك بمقتضى تسلط الناس على أموالهم لكن بشرط ان لا يكون تمييزه اهانة لكرامة الانسان مثلا يحق له ان يجعل مطعمه خاصاً بالرجال، أو فندقه خاصاً بأهل بلد كذا ، اما اذا كان اهانة كما اذا تباني اصحاب الفنادق على عدم السماح للسود بدخولها، لم يكن لهم حق في ذلك، واللازم على الدولة كسر هذا التباني ، لانه اهانة ولاحق للانسان في اهانة غيره .

حرية الدين

(الثاني) حرية الدين، كما قال سبحانه: «لااكراه في الدين»(2) وفي هذا الامر صور وفروع:

(أ) لا يجبر انسان ان يبدل دينه الى الاسلام، سواء كان أهل كتاب، اجماعاً او غير اهل ،كتاب على الاظهر بدليل اطلاق الاية المتقدمة ، والرسول صلى الله عليه و آله وسلم لم يجبر احداً من المشركين على الاسلام، كما في اسارى بدر وأهل مكة، واهل الطائف وغيرهم وعمله صلى الله عليه و آله وسلم حجة الا اذا ثبت انه لامر ثانوى ، كقاعدة الاهم والمهم ، ونحوها، وحيث لم يثبت ذلك في المقام ، فمقتضى القاعدة المستفادة من( الا ليطاع ، واسوة) وغيرهما ان الحكم أولى، يلزم اتباعه صلى الله علیه و آله وسلم فيه كمالم يؤثر عن على عليه السلام انه اجبر كافراً غير كتابي على الاسلام، مع وضوح كثرة الوثنيين في زمانه عليه السلام

ص: 458


1- سورة الحجرات /14
2- سورة البقرة /258

تحت حكمه.

(ب) كما لا يجبر انسان ان يبقى على دينه ، اذا اراد ان يبدل دينه الى دين آخر غير الاسلام، مثلا اراد الوثنى ان يتنصر ، او المجوسي ان يتهود او ما اشبه ذلك، اذلادليل على الجبر ، فالاصل ،عدمه ومن بدل دينه فاقتلوه منصرف الى المسلم يريد تبديل دينه واذكان الاصل عدم الاجبار فلا فرق بين تبديل الدين الى الاسوء او الاحسن او المساوىء، فالاول كتهود النصرانى و الثانى عكسه والثالث كانتقال عباد الشمس، الى عباد القمر.

نعم ، مقتضى القاعدة انه اذا غير احدهم دينه الى دين ثان اجريت عليه احكام الدين الجديد لقاعدة الزموهم بما التزموا به ، وغيره مما ذكرناه في الفقه : كتاب القضاء وغيره لانه كلما تحقق الموضوع تبعه تبعه الحكم .

(ج) لا يحق لمسلم ان يبدل دينه ، نصاً واجماعاً وقد ذكرنا حكم المرتد، في كتاب الحدود والتعزيرات) وانه لماذا لايسمح الاسلام للارتداد؟ وان ما قرره مما يؤيده العقل ايضاً، كما ان له شبيهاً في سائر بلاد العالم سواء الديمقراطية منها أو غيرها .

وقد ذكرنا هناك الفرق بين الرجل والمرأة في العقاب اذا بدلا دينهما ، والفرق بين المعاند والشاك المشتبه حقيقة ، كما انه ذكرنا هناك انه اذا تاب المرتد قبلت توبته ، وان كان الارتداد عن فطرة، كما ان أحكام الارتداد لاتترتب على ما اذا كان الارتداد جماهيرياً بأن حدثت فتنة، ارتد فيها جماعات كبيرة وانما الاحكام تترتب على الارتدادات الفردية .

(د) الكفار الذين يعيشون في بلاد الاسلام ، لهم الحرية في ابراز عقيدتهم بدون ان يدعوا المسلمين اليها ، كما ان لهم الحرية في اجراء مراسيم عباداتهم ولا يتعرض مسلم لهم بسوء، ولهم ان يعملوا حسب شريعتهم في عقدهم ونكاحهم

ص: 459

وارثهم وعباداتهم ، بشرط ان لا يظهروا بالمناكير الاسلامية ، ولهم الحرية في موارد نزاعاتهم ان يرجعوا الى قاضي المسلمين والى قاضيهم، وادا رجعوا الى قاضي المسلمين حق للقاضي ان يقضى بحكم الكفار، او بحكم المسلمين أولا يقضى بينهم ، وانما يردهم الى قضاتهم ، ولا يحق للدولة التدخل في شئونهم التى لا تضر المسلمين ، ولا تنافى مصلحة البلاد .

ويأخذ المسلمون منهم المال ، المسمى بالجزية ، كما يأخذون من سائر المسلمين المال المسمى بالخمس والزكاة ، أما هم فليس عليهم خمس ولازكاة والجزية يجب ان تكون غير مجحفة بهم، واخذ المال منهم انما هو في قبال حماية الدولة لهم وفى قبال القيام بمصالحهم ، واعطاء فقيرهم واذا فعل الكفار المنكرات في دينهم لم تمنعهم الدولة فليس واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الا بالنسبة الى المسلمين .. وللدولة الاسلامية ان تساعدهم فيما ليس بحرام عند المسلمين كما ان الدولة تساعد المسلمين كذلك .. وللمدولة الحق في بر الكفار والاحسان اليهم ، على ما قال سبحانه : «لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ »(1).

وقد ذكرنا مدارك هذه الاحكام في كتاب (القضاء) و (الجهاد) و (الزكاة) و (الاقتصاد) وغيرها من الكتب الفقهية ، وسيأتي بعض الكلام في الاقليات ، ايضاً فى مسألة آتية انشاء الله تعالى.

حرية البيان والقلم

(الثالث) حرية البيان والطبع ، وفى هذه المسألة امور :

(أ) فى الادلة التي اقيمت على لزوم هذه الحرية عقلا وشرعاً .

ص: 460


1- سورة الممتحنة / 8 .

(ب) في حدود هذه الحرية، وانه هل يجوز ترويج العقائد السياسية ونحوها الضارة ، وفى مطاردة الدولة للبيان والطبع وحدودها فنقول :

(1) أما الادلة التي اقيمت على لزوم هذه الحرية ، فهى الادلة الاربعة ، مثل الكتاب العزيز ، حيث قال سبحانه :« يضع عنهم اصرهم والاغلال التي كانت عليهم»(1) واجماع علماء المسلمين واطلاق السنة فى الحرية ، كقوله عليه السلام (وقد جعلك الله حراً).

أما العقل فقد استدل به لها بوجوه :

(1) لولم يكن البيان والطبع حراً، لم تطلع الحكومة على مواضع النقص فيها ، كما لم تطلع على احتياجات المجتمع، مع لزوم رفع الحكومة لمواضع النقص، واعطائها الاحتياجات، فاللازم على الافراد ان يكونوا أحراراً في كل ما يقولون ، وفى كل ما يكتبون، بحيث لا يخافون من مطاردة السلطة لهم، وحينذاك يقولون ويكتبون فتطلع الحكومة على الحاجات والنقائص، وفي الحديث : (خير الاخوان من اهدى الي عيوبي) .

(2) اذا لم يكن البيان والطبع حراً ، لم يتربى الناس تربية سياسية ، لان التربية السياسية انما تتولد من المناقشة وبيان الفضائل والرذائل ، والحسن

والقبيح فينظر الناس الى الاقوال المتضاربة والاراء المختلفة، ويختاروا الحسن ويتركوا القبيح ، هذا بالاضافة الى ان حرية البيان والطبع توجب كون الناس في متن السياسة لا الانزواء السياسي ، فانه كما يقال : (الحرب دولاب التقدم) كذلك المنازعات السياسية دولاب التقدم والايؤل الامر الى اطاعة الناس للامور السياسية، بدون ابداء الرأى ورفض السيء ، وقبول الحسن .

(3) اذالم يكن البيان والطبع حراً، بان صار الكبت والارهاب حول ذلك، أوجب الانفجار ، اذ الناس جبلوا على مقاومة الكبت ، كما جبلوا على التحقيق والتعمق في الامور الممنوعة ، وفي المثل :( الضغط يوجب الانفجار) كما ان

ص: 461


1- سورة الاعراف / 157

الكفاءات تظهر في جو الاصطكاك ، لان الغالب كون الانسان يسمو بنفسه عن النقد ، وفي الحديث : (من أصلح فاسده أرغم حاسده )

(4) عدم حرية البيان والطبع يؤدي الى ديكتاتورية الحكام اذ المعارضة والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، هي التي تقف دون سير الحاكم في طريقه - الذي تميله عليه أهوائه وشهواته ، وحتى اذا كان عادلا في نفسه، اذ كل حزب بما لديهم فرحون ، وفي الحديث : (لن تقدس امة لا يؤخذ من قويها حق ضعيفها غير متتع) .

حدود حرية البيان القلم

(ب) أما حدود هذه الحرية؟ فاللازم ان تحد بمالا يوجب ضرراً على الغير، ولا كذباً ، سواء كان الغير فرداً ، او مجتمعاً لانها حينئذ تعد (تجاوزاً) وليست حرية، ويكون حالها حال حرية القتل والسرقة وانتهاك الاعراض، ولو اختلف المبين والطابع مع الدولة فى ان ما أبداه في حدود المستثنى منه أو المستثنى كما قد يتفق كثيراً كان المرجع الهيئة المنصفة القضائية، التي تضقى هل ان ما قاله أو كتبه داخل في نقد الاخلاق والدين نقداً خارجاً عن أساليب البحث والتحقيق، ونشراً للصور القبيحة، وتحريكا للافراد بارتكابهم الجناية والاعمال اللاانسانية أولا ؟ وفى المثل : (الاحرية لاعداء الحرية) .

ومما ذكرناه تبين الجواب عن اشكالات القائلين بلزوم اعطاء البيان والطبع كل حرية ، بدون اي قيد أو شرط مستدلين بامور :

أولا : لانه اذا قيدت الحرية ، لم يطلع المجتمع عن حقائق نافعة، تنفعه فان عدم اطلاعهم موجب لحرمانهم عن كثير من النضج والتقدم ورفع النقائص.

وثانياً : اذا قيدت الحرية بقيدما ، لزم فسح المجال امام قوة الشرطة، المنع

ص: 462

عن الاشياء النافعة ايضاً لان الشرطة لا يميزون بين المستثنى والمستثنى منه في كثير من الاحيان ، فيمنعون النافع بزعم انه ضار.

وثالثاً : لاخط فاصل بين النافع والضار، ولا قاعدة تحدد الامرين، فان النافع عند انسان ضارعند آخر ، وبالعكس فتقييد الحرية يوجب كبت الحرية.

وجه الجواب : ان النافع والضار امران عرفيان، كسائر المواضيع العرفية ولو وقع لبس في مصداق ، كان المرجع الهيئة القضائية المنصفة . وعليه فلا يوجب الاستثناء فسح المجال امام قوة الشرطة للكبت ، كما لا يوجب حرمان الناس من الحقائق... والاستدلالات المذكورة ، مثل ان يقال : يجب ترك الناس وشأنهم فى ان يفعلوا مايشائون من غير تحديد بعدم العمل الضار ، استناداً الى الاشكالات الثلاثة على التحديد ، فاذا لم يسلم المستشكل حرية العمل المطلق من غير نظر الى المصلحة والمضرة، يقال له : كيف لم تقبل الحرية المطلقة فى العمل ، وقبلت الحرية المطلقة فى البيان والطبع مع ان الاشكالات الثلاثة مشتركة الوردفى العمل والقول والطبع؟ وحاصل جوابنا عن الاشكالات بالحل أولا ، وبالنقص ثانياً ومما تقدم ظهر انه لاحق شرعاً ولا عرفاً، في اطلاق حريات الذين يهدفون الى تقويض النظام الصحيح ولا الذين يهدفون الى تقويض النظام اى نظام كان بدون ان يكون هناك احتمال عقلائي ، لان يخلف نظام أحسن مكان النظام السابق فانه من رفع الفاسد بالأفسد ، ولذا فاللازم عدم السماح للشيوعيين بابداء آرائهم بياناً أو طباعة ، ونحن نسأل أمثال هؤلاء هل الحرية حق أوليست بحق؟ فان قالوا : انها حق ، قلنا : فلماذا تدعون الى الديكتاتورية (ديكتاتورية بروليتاريا؟) وان قالوا : انها ليست بحق ، قلنا : فلماذا تطالبوننا باعطائكم الحرية ؟ .

ص: 463

كتب الضلال

وقد ظهر بما تقدم انه لاحق للدولة في مطاردة كتب مختلف العقائد والمبادىء اذا لم تكن تلك الكتب ضارة ، بان كانت محل متناول العلماء الذين لا يخشى خداعهم، فان الكتاب الضار مثله مثل الدواء الضار ، فكما انه لايجوز للدولة السماح بتناول الطفل له لانه محل خطر استعماله والتضرر به، بينما يجوز للدولة السماح بتناول الدكاترة الناضجين له ، لانه يؤمن عاقبته ، كذلك بالنسبة الى الكتب الضالة المنحرفة ، كما ذكر ذلك الفقهاء ، في مسألة (كتب الضلال )..

ولیس معنی ما ذكرناه ان الدولة تمنع عن طبع الكتب الابعد الرقابة، فانه تحديد للحرية بلامبرر، مثله مثل دولة تمنع التجول فى الشوارع والاسواق ليلا بحجة المنع عن السرقة وذلك لان الاصل الحرية ، الاماخرج بالدليل .

بل معناه ان الدولة لها حق المصادرة اذا طبع شيء ضار بالعامة ، مما يعد كتاب الضلال كما ان للدولة معاقبة السارق، اذا ظهرت سرقته ...

بقى شيء ، وهوان للدولة حق منع المطبوعات الضارة في حالة الحرب، مما يوجب تضعيف الجيش او كشف اسراره للعدو، او ما اشبه ذلك ، لانه داخل فى المستثنى على ما تقدم نعم لا بدوان تثبت الدولة لدي الهيئة المنصفة القضائية ان المطبوعات المذكورة داخلة فى الضارة والاففى بعض الاحيان تكون المطبوعات الناقدة المدولة - في حال الحرب - لاجل التبصير بمواقع الخطاء والصواب اذ الديكتاتورية في حال الحرب نفس الديكتاتورية في حال السلم فكما ان الديكتاتور فى حال السلم اذا سكت عنه تصرف سيئاً كذلك الديكتاتور في حال الحرب فاللازم ملاحظة الهيئة المنصفة القضائية ان المطبوعات التي هي مورد التنازع بين الدولة وبين أصحاب تلك المطبوعات، هل انها ضارة بالقضية أو انها

ص: 464

صدامام الديكتاتورية .

فان من المعلوم ان الديكتاتورية في حال الحرب قد تضر الامة أضعاف الديكتاتورية في حال السلم كما ان ديكتاتورية (هتلر) أسقطت المانيا الى الحال و ديكتاتورية ناصر قسمت اليمن وألقت بمصر فى احضان اسرائيل وديكتاتورية قاسم شطرت العراق الى الشمال والجنوب وألقته فى احضان الانكليز بواسطة عملائه البعث.

حرية التجمعات

(الرابع) حرية التجمعات والاجتماعات، ويدخل في هذا الاصل، كل اجتماع وتجمع سواء كان وقتياً ، بعقد مجلس وتداول رأى او غير وقتي كالشركات ، والنقابات والجمعيات والهيئات وما اشبه ذلك، حيث ان العصر الحاضر عصر أمثال هذه الاجتماعات .

(1) فان الصناعة وضعت في يد الانسان امتدادات كبيرة وهذه الامتدادات حيث لا يتمكن الفرد من الاستفادة منها ، في حال كونه فرداً اضطر الافراد الى التجمع للاستفادة من هذه الامتدادات، سواء فى المواصلات ، أو المعامل او الاسلحة أو اجهزة الاعلام ، اوغير ذلك

(2) و كذلك حيث تجمعت قدرات كبيرة ، امثال القدرة الرأسمالية، والقدرة الشيوعية وهذه القدرات الكبيرة تضطهد الافراد اضطر المضطهدون- بالفتح -الى انضمام بعضهم الى بعض ليكونوا قدرة في قبال تلك القدرات حتى يحدوا من نشاط القدرة المناوئة( فان القدرة لاتروضها الا القدرة)

والحاصل :ان التجمع ، اما لجلب النفع أو لدفع الضرر ، وفي الحديث

ص: 465

(يد الله مع الجماعة) وشعار الديكتاتوريين (قو نفسك حتى احترمك) وقد تقدم في بعض المسائل السابقة مباحث حول القدرة وان القدرة تحتاج الى الترويض والا كانت كالنيران المحرقة والمياه المغرقة .

وهنا بحوث :

( أ ) لاحق للدولة في منع التجمع ، سواء كان تجمعاً وقتياً في مجلس احتفال ، أو عزاء، أو تبادل رأي ، أو تجمعاً استمرارياً ، مثل عقد الجمعيات ، والنقابات ، والهيئات ، وما أشبه ذلك ، وذلك لما تقدم ، من اصالة حرية الانسان .

نعم، اذا اثبتت الدولة لدي القضاء، أو الهيئة المنصفة انها ضارة ، حق لها المنع كما يحق لها المنع عن كل عمل ضار ، ولو كان القائم به فرداً ، ومنه ظهر انه لاحق المدولة فى حل الجمعيات لانه تصرف في حريات افرادها وكذلك في المنع عن المدارس وسائر المؤسسات الاهلية ، لانه تصرف في شئون الافراد وحرياتهم .

ومنه يظهر وجه بطلان تأميم المدارس والمصارف والمعامل ، وما أشبه ذلك ، وقد ذكرنا بعض الكلام في ذلك في (الفقه : الاقتصاد ).

فى كسر الاضرابات

(ب) لاحق للدولة في كسر الاضراب عن العمل الا اذا كان خلاف الوفاء بالعقد ، أما المستثنى منه ، فلان للانسان حرية ان يعمل أولا يعمل حسب قاعدة : (الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم ) وقد تقدم في بعض المسائل السابقة ، حكم ترك العمل وانه جائز الا في صور خاصة المحنا اليها هناك وأما المستثنى فاذا استأجرت الدولة الشرعية اورئيس العمل، اجراء، بدون اكراه

ص: 466

ولا اجحاف ، لم يحق لهم الاضراب عن العمل ... والاضرابات التي تتفق في الحال الحاضر لا يخرج عن احد عاملين :

(1) عامل ظلم رئيس الاعمال للعمال فيضرب العمال ، لاجل تقاضي حقوقهم المشروعة، فان كل مؤسسة صناعية ، أو زراعية، أو دولية، لها طرفان أو اطراف فاذا لم توزع الثمار بين الكل بالعدل كان للمهضوم حق الاضراب للوصول الى حقه .

مثلا : فى المعامل يجب ان يقسم الربح بين (المعمل : لانه عمل متراكم له بقدر استهلاكه، وبقدر ربحه ) وبين ( صاحب رأس المال ) وبين

(المدير ) وبين (العمال) كل بقدر جهده الفكرى والجسدى ، وحيث ان الغالب في الحكومات الرأسمالية ظلم الرأسمالي للعمال ، كان لهم حق الاضراب حتى يصلوا الى حقهم (ومقصودنا بالحكومات الرأسمالية ما كان رأس المال اخذاً بالزمام، سواء كان الرأسمالي التجار ، كما في امريكا ، أو كان الرأسمالي الحكومة كما في روسيا الشيوعية )...

وكذلك الحكم بالنسبة الى الدولة والموظفين ، حيث يجب عليها ان تعطيهم بقدر حقهم الجسدى والفكرى ... وهكذا بالنسبة الى صاحب الارض والفلاحين وقد ذكرنا في كتاب (الفقه : الاقتصاد) صحة ملك الارض واستيجار الفلاحين للزرع فيها ، عقلا وشرعاً .

(2) عامل ارادة الشيوعيين ونحوهم فوضى العمال حتى يفرضوا ارادتهم فان من أساليب وصول روسيا الشيوعية، وسائر البلاد الشرقية الاستعمارية الى فرض ارادتها على الحكومات الضعيفة انها تكون نواة الشيوعية في المعامل والاراضى والدوائر وما أشبه ، ثم لما تريد تلك الحكومة الاستعمارية مغانم من تلك الحكومة الضعيفة تحرك الشيوعية المحلية لضرب مصالح الحكومة

ص: 467

الضعيفة، حتى تضطر الى قبول شروط الحكومة المستعمرة ... وأحياناً تكون الشيوعية المحلية ، وليدة بريطانيا وامريكا وما أشبه( فتشرب هذه الحكومات الغربية حسواً في ارتغاء ).

وعلى أي حال، يكون هذا الاضراب ظلماً، بحتاً، ظلماً في الاضراب ، وظلماً في الهدف من الاضراب (وهو شروط الاستعمار الواقف وراء الاضراب) ...ومثل هذا الاضراب ، يكون تخريباً ، لاحقاً للعمال والفلاحين ومن اليهم، ولذا لم تكن من الحرية في شيء .

حرية المظاهرات

(ج) لاحق للدولة في منع المظاهرات ، وتوقيفها ، حيث ان المظاهرات نوع من التجمع للاحتجاج على بخس حق العمال والفلاحين ، ومن اليهم ، لكن يأتى هذا الكلام المتقدم في الاضراب، من حيث المستثنى منه ، والمستثنى لان كلا الامرين من باب واحد...

ولا يخفى ان المظاهرات والاضراب ، وان أو جبت توقف العمل الموجب للخسائر ، الا ان توقف العمل لو كان حقاً ، كان حقهما مقدماً ، لاتهما من مظاهر الحرية ، التي تقدم انها من الحق الطبيعي للانسان.

والدولة لها الحق في ان تتدخل في عمل العمال ، وربطه بالمعمل ورأس المال والمدير :

(1) فتعين حق كل من الاربعة ، بحيث لا يكون اجحاف من جانب لجانب آخر ، بان يوزع الربح بينهم بالعدل .

(2) وتقرر القوانين في الاطار الاسلامي ، لرفع الاختلاف بين الاطراف.

(3) وتقرر العقوبات للمتخلف ، في اطار الحدود الاسلامية ، أما ان تكون المدولة فوق ذلك ، فالاصل العدم، لانه مناف للحرية، أو خارج عن المقررات

ص: 468

الاسلامية .

حرية الاضراب عن الطعام

(د) ويمكن ان يلحق بهذا الباب ، حق الاضراب عن الطعام ، فان ذلك جائز شرعاً ، وتقتضيه الحرية الاسلامية، فيما اذالم يكن الاضراب موجباً للموت أو شل قوة أو عضو ، أما المستثنى منه فللاصل، وأما المستثنى فلحرمة اهلاك الانسان نفسه ، وضرره على نفسه ضرراً بالغاً .

قال سبحانه: «ولا تقتلوا أنفسكم» (1)

وقال تعالى : «ولا تلقوا بايديكم الى التهلكة » (2).

وقال صلى الله عليه و آله وسلم :( لاضرر و لاضرار في الاسلام )الى غيرها من الآيات والروايات المذكورة في محلها.

نعم، اذا توقف حق على ذلك، بأن كان الامر من باب الاهم والمهم، وعلم الموضوع قطعاً يمكن احتمال جوازه ، كما يجوز الذهاب الى العدومع انه يعلم انه يقتله اذا توقف نصرة الاسلام على ذلك ، وكما يجوز قتل المسلم اذا تترس به الكفار ، بل ربما قيل ان اقدام الائمة عليهم الصلاة والسلام على شرب السم مع انهم كانوا يعلمون انه كان من باب الاهم والمهم، مثلا : الامام الرضا عليه السلام كان يعلم انه لو لم يشرب السم قتله المأمون بالسيف ، ومن المعلوم ان الموت بالسيف فضيع جداً، ودونه ان يموت عليه السلام بالسم، بل ربما كان اتهمه بتهمة او جبت تحطيم شخصية الامام عليه السلام وهل يستبعد المؤامرة لتحطيم شخصية الامام عليه السلام بمثل مؤامرة قارون ضد موسى عليه السلام، في قصة اتهامه عليه السلام ، وللكلام موضع آخر .

وكيف كان ، فاذا كان للانسان حرية الاضراب عن الطعام، فلاحق للسلطة

ص: 469


1- سورة النساء / 34 .
2- سورة البقرة /192 .

في كسر اضرابه قسراً سواء بواسطة ايجاره الماء والطعام ، أو بواسطة ربطه بالابر المغذية أو غير ذلك ، وان حدث خلاف بينه وبين السلطة في انه حق أم لا ؟ كان مقتضى القاعدة الرجوع الى الهيئة المنصفة القضائية، فان حكمت المضرب ترك وشأنه، وان حكمت السلطة ، كان لها حق الايجارو نحوه .

ولابأس بالالماع ، الى ما نقصده من( الهئية المنصفة القضائية) وان كان تفصيل الكلام حول ذلك خارجاً عن بحثنا الان في السياسة ، فنقول : ان الامور التي يقع فيها النزاع بين السلطة، وبين الافراد او الجماعات، قد تتعلق بالموضوعات وقد تتعلق بالاحكام ، ومن الواضح ان الموضوعات تشخيصها من شأن العرف كما ان الاحكام شأنها مرتبط بالفقهاء والقضاة ، وحيث ان الغالب في مثل نزاعات السلطة، والأفراد أو الجماعات، احتياجها الى توضيح الامرين اى الموضوع والحكم - معاً - كان اللازم تشكيل جماعة من العرف الخبير والقاضي البصير ليد قفوا في الأمر ، ويضعوا الحلول الشرعية للمنزاع .

حرية أنواع الاكتساب

(الخامس) حرية انواع الاكتساب والمعاملة ، سواء كان الكسب بالعمل الجسدى أو العمل الفكري (كالادارة) أو العمل المهنى (كالطبابة) أو كان الكسب بحيازة المباحات من غير فرق بين البيع والشراء والاجارة والمضاربة والمزارعة والمساقاة ، وغير ذلك ، بشرط ان لا يكون اجحافاً ، وان يكون المكسب حلالا وان لايكون ضرراً ( على ما فصلناه في كتاب الفقه : الاقتصاد).

نعم ، اللازم امران :

(1) ان لا يكون التعامل خارجاً عن الموازين الاسلامية المذكورة في الفقه (و بمطالعة الفقه يظهران المسائل الفقهية كلها مبنية على الادلة العقلية بالاضافة

ص: 470

الى وجود الأدلة الشرعية لها ) .

(2) ان يعطى الانسان الحق المقرر في الشريعة للدولة الاسلامية المشروعة واذا لم تكن دولة اسلامية مشروعة اعطى الحق لنواب الامام عليه السلام ، وذلك لان الدولة اذا لم تكن مشروعة ، فالواجب تقويضها لامساعدتها ، واذا كانت مشروعة فالواجب ابقائها وتأييدها ، وليس المال الذي تأخذه الدولة المشروعة الا اتباعاً لرأى الاكثرية فى الاخذ بالاضافة الى مشروعية الاخذ بعنوان الخمس أو الزكاة أو ما أشبه ، من الحقوق المالية المذكورة في الشريعة .

ولذا لا يحق للدولة المنع عن أى لون من ألوان الاكتساب المشروع تجارة داخلية كانت أو خارجية، لانه قوف أمام الحرية، وقد عرفت تطابق العقل والشرع على حرمة سلب الناس حرياتهم .

ومنه يعلم ، عدم حق الدولة ، في مصادرة أموال الناس ، سواء الاموال المنقولة . أو الاموال غير المنقولة ، كما لاحق للدولة في وضع اليد على المنابع العامة الطبيعية كالبحار والمعادن، أو غير الطبيعية كالمعامل الكبار( على ما هو اسلوب الاقتصاد الاشتراكي) بل للدولة أمران :

(1) الرقابة لئلا يفوت انسان الفرصة على انسان آخر، كان يستولي على الغابة مثلا بحيث يمنع الاخرين من الانتفاع بها، لان مقتضى الجمع بين (خلق لكم) و (من سبق) ان لكل أحد حق السبق في اطار (لكم) وقد ذكرنا تفصيل ذلك في كتاب (الفقه : الاقتصاد) .

(2) الرقابة لئلا يجحف انسان بحق انسان آخر ، مثلا : اللازم ان يكون انتاج المعمل بين العامل والمدير وصاحب المعمل، وصاحب رأس المال بالعدل لا الاجحاف ، كما تقدم الالماع الى ذلك .

ص: 471

الحريات فى الظروف الاستثنائية

نعم يحق للدولة :

(1) سلب مالكية الأفراد.

(2) أو توقيف نوع خاص من التصرف.

(3) وجعل العقوبات الرادعة لمن تصرف ذلك النوع فى موارد خاصة :

(1) مثلا : اذا احتاجت المدينة الى شوارع أو حدائق ،مما بدونها تتفشى الأمراض، أو يكون العسر والحرج العام ، حق للدولة المشروعة ، سلب مالكية أصحاب الدور والاراضي ونحوها، الواقعة في طريق الشارع ونحوه ، وأنما يحق للدولة ذلك، لاهمية المشروعات المذكورة ، بالنسبة ، الى دليل المالكية فان في المقام تعارضاً بين دليل : ( الناس مسلطون ) وبين دليل : ( لا ضرر ولا حرج) .

وحيث أهمية الثاني: يقدم على الأول ، لكن اللازم في هذا الحال اعطاء الدولة القيمة العادلة لارباب تلك الدور ونحوها، لانه مقتضى الجمع بين الحقين كما ذكروا مثل ذلك، في الاخذ من أموال الناس في حال المخمصة ، واذاكان في مسير الشارع وقف عام أو خاص ، اعطت الدولة بقدر بدله، ليؤسس مثل ذلك الوقف في مكان آخر.

القاعدة : (الوقوف حسب ما وقفها أهلها) بعد ضمها الى( قاعدة ارتكاز اذهان الواقفين) كما ذكرها الفقهاء في كتاب الوقف ، والمع اليه الشيخ المرتضى (رحمۀ الله علیه)فی كتاب المكاسب .

وحيث ان سلب مالكية الأفراد، ضرورة، والضرورات تقدر بقدرها ، لا يحق للدولة، سلب القدر الزائد من المحتاج اليه كان تستملك بقية العرصة - كما

ص: 472

اعتادت الحكومات الجائرة استملاك بقية العرصة فالباقي من القدر المحتاج اليه، لرب الارض ونحوها انشاء باعها للدولة، وان شاء تصرف فيه كما يشاء، بقاعدة (الناس مسلطون).

(2) ومما تقدم ظهر، وجه حق الدولة المشروعة في توقيف نوع خاص من تصرف المالك، وذلك لتقديم الاهم على المهم ، كما اذا وقفت الدولة بناء المعامل، أو المقصب، أو جعل المقبرة في طرف من المدينة، لاجل كون ذلك ضرراً على الناس، أو عسراً وحرجاً عليهم، فلمالك الارض ان يتصرف في أرضه كيف يشاء لكن لا يحق له ان يتصرف التصرف الذي منعته الدولة ... وحقيقة ذلك انه اسقاط حرية أقل لحريات أكثر ، فهو ممارسة الحرية، وليس منعاً عن الحرية .

يبقى الكلام في انه اذا منعت الدولة نوعاً خاصاً من التصرف ، سبب و المنع نقصان قيمة الشيء الممنوع التصرف فيه، فهل الدولة مكلفة بدفع التفاوت من بيت المال، أم لا؟ احتمالان فاذا كانت الارض قبل منع نصب المعمل فيها تسوى ألفاً وبعد المنع ثمانمأة ، فهل الدولة مكلفة بأعطاء المأتين ؟ احتمالان من انه اضرار من الدولة، فاللازم تداركه ومن ان الدولة لم توجه الضرر المذكور بل لم يكن لصاحب الأرض هذا الحق واقعاً، حيث ان المالك لا يحق له اضرار الآخرين، وانما الدولة نبهت المالك على ذلك ، ونفذت المنع الشرعي الذي كان موجهاً الى المالك واقعاً، والثاني أقرب، وان كان في بعض مصاديق المسألة نوع من التأمل.

ثم لا فرق في المسألتين السابقتين (1-2) بين ان يكون الاهم المقدم على المهم معيناً أو مردداً ، والمردد كما اذا دار امر الشارع المزمع فتحه ، بين ان يفتح في ملك زيد، أو في ملك عمرو ، فانه اذا جاز فتحه، كان المدولة ترجيح ايهما شائت، ولا يحق لاحدهما المنع بان يحتج بانه لا يتعين ان يكون الفتح ، في داره

ص: 473

وكذا فيما اذا كان أمر منع نصب المعامل مردداً بين منعه في شمال المدينة أو جنوبها، فاختارت الدولة المنع عن النصب في الجنوب مثلا.

(3) أما لماذا يكون للدولة حق كل عقوبة رادعة؟ فلانه للجمع بين( دليل ولاية الفقيه الجامع للشرائط المنتخب من قبل الاكثرية ) و بين دليل الوقوف امام المنكر (دفع المنكر) فالتعزير الذى هو العقاب الأولي للمحرمات، حسب ما ذكروا في باب الحدود اذا لم يكن رادعاً لم تصل الدولة الى هدفها .

وقد فرض وجوب وصول الدولة، حيث ان الهدف من المصالح العامة التي وضعت الدولة لرعايتها فعدم وضع العقاب الرادع تضييع لحق الناس ، وقدورد ( لعن الله من ضيع من يعول) ومن باب المثال نقول انه اذا كانت سرعة سير السيارات في الشارع الفلانى، تورث الاصطدام كثير أو لم يكن منع الدولة السواق وتعزير المسرع منتجاً ، فهل تترك الدولة الامر ، مما يسبب تلف الارواح والنفوس أو تجعل العقاب الرادع مثل السجن والغرامة وما أشبه؟ لاشك ان مقتضى الادلة الثاني، وقد ذكرنا طرفاً من الكلام في ذلك ، في كتاب ( الحدود والتعزيرات ) وكتاب (الحكم في الاسلام) وغيرهما .

سائر الحريات

(السادس) حرية سائر شئون الانسان:

(1) مثل نكاحه ،وطلاقه، وفي نفس الوقت نكاحها وطلاقها ، اذ النكاح لا يكون الابرضاية الزوجين والطلاق وان كان بيد الرجل فقط، الا ان لها ان تجعل شرطاً لنفسها حال النكاح ان تكون وكيلا عن الرجل في طلاق نفسها، بشرط خاص مثل ان يسيء معاملتها أو لا يقوم بواجب نفقتها أو امورها الجنسية، اوما اشبه ذلك من الشروط التي ليست مخالفة للكتاب والسنة، ولا لمقتضى العقد على

ص: 474

التفصيل الذى ذكروه في باب الشروط.

(2) ومثل بنائه كيف شاء.

(3) ودراسته.

(4) و سفره و اقامته

(5) وزراعته وصناعته الى غير ذلك من الحريات .

نعم، للدولة التدخل في الحد من بعض الحريات ، اذا كانت هناك أحكام أهم من تلك الحرية ولكن بعنوان حكم ثانوي وله حينئذ مفعوله مادام قانون الاهم والمهم . حاله حال قانون الاضطرار الذى له مفعوله ، مادام موضوع الاضطرار باقياً .

مثلا : اذا كان فتح حدود بلاد الاسلام في وجه بضاعة الاجنبى ، يوجب غزو الاجانب بلاد الاسلام يبضائعهم ، مما يوجب الاستعمار الاقتصادي ، بما ينطوى ذلك على المخاطر، من توقف عجلة الاقتصاد الاسلامي ، انتشار البطالة و تأخر بلاد الاسلام حق للدولة الاسلامية المنع عن استيراد البضائع الاجنبية ، الابشروط وقيود ،ثقيلة، مما يوجب ارتداع التجار عن استيرادها، او المنع عن الاستيراد مطلقاً .

ثم انه كما لا يحق الاكراه المباشر بالتدخل في شئون الانسان لمنع حرياته كان يكره صاحب المعمل العامل على العمل ، سواء على أصل العمل أو على بعض خصوصيات العمل، كذلك لا يحق الاكراه الاجوائى ، بأن ء انسان او جماعة أو دولة الاجواء بحيث يضطر الانسان أن يعمل عملا أو بكيفية مامثل ما يتضمن اضراراً او اجحافاً، اوما اشبه ذلك ، كما اذا اتحد اصحاب البضائع ان لايعطوا لحمالي الميناء اكثر من اجرة كذا مما كان اجحافاً بحقهم، أو اتحد الحمالون على قيمة اجحافية في عملهم لاصحاب البضائع ، الى غير ذلك ، نه لا

ص: 475

ايضاً اكراد، فإن اطلاق المنع عن الاكراه كما يشمل الاكراهات الفردية، يشمل الاكراهات الاجوائية ومن قبيل ذلك ، مالو اتحد التجار الكبار ، على تنزيل البضاعة بحيث أوجب ذلك لتعطيل بائعى الفرد عن العمل ، حيث لا ينفعهم المبيع كذلك لتضررهم .

مثلا : انهم يشترون كل وحدة بعشرة ويبيعونها باحدى عشرة ، فاذا خفض التجار البضاعة الى ثمانية ، لم يتمكن هؤلاء من العمل ، حيث ان ربح الثمانية لا يكفى ادارة شئونهم ، وقد ذكرنا طرفاً من الكلام في ذلك في كتاب ( الفقه : الاقتصاد ) .

(6) وكذلك حقه في ان يتكلم أولا يتكلم ، أو يحضر أولا يحضر ، في موارد الشهادات ، اذالم يكن دليل شرعي يوجب الحضور ، أو الشهادة ، كما وردفي مثل : (ولا يأب الشهداء اذا ما دعوا) (1)على التفصيل المذكور في كتاب الشهادات ويدخل في هذاالباب عدم الحق للدولة في أخذ الاقرار عن الناس بالجبر .

كما اعتادت الحكومات الغربية و الشرقية ، في الحال الحاضر حيث ذلك ، يعذبون الناس في السجون والمحاكم، لاجل ان يعترف بما يعلمه، أو بما يريدون منه، فانه خلاف الحرية وكرامة الانسان وقدمنعه الاسلام أشد المنع، كما ذكرناه فى كتاب (القضاء) و(الحدود) وغيرهما...

نعم ، للحاكم تكرار الاستنطاق ، فيما اذا اشتبه في صدق الشخص، حتى يظهر صدقه أو كذبه ، كما فعله داود وعلي عليهما السلام ، في قصص مشهورة ، وهذا التكرار في الاستنطاق وان كان منافياً للحرية ، الا انه لابدمنه من باب الاهم والمهم ...

ومنه يعلم ، انه لولم يستعد للتكرار حق للدولة حبسه ، حتى يستبين الامر ومن هذا القبيل ، اذا كان يعلم بشيء لابد للدولة كشفه ، لكنه يأبى من البوح به

ص: 476


1- سورة البقرة / 283

كما اذا كان شريكا جرم هرب احدهما ووقع الاخر في قبضة العدالة ولم يستعد المجرم المقبوض عليه من اعطاء اسم صديقه ، كان للدولة سجنه الى ان يعترف .

ويلحق بهذا الباب حق اطراف النزاع، سواء كان أحد الاطراف الدولة ، أولا ، في جعل المحامين لانفسهم، عند المنازعات ، وذلك لاطلاق دليل الحرية وقد جعل علي عليه السلام وكيلا لنفسه في نزاع كما ذكر في الكتب الفقهية... وكذلك لا يحق للدولة دخول مساكن الناس لالقاء القبض على المتهمين، فانه خرق لحرياتهم ، الااذا أمر القاضي بذلك ، وانما يحق المقاضي ان يأمر بذلك لقاعدة الاهم والمهم ، وبيانه ان حفظ الحريات الفرية يقتضى ان يكون كل انسان قادراً من ان يعمل اعماله بكل حرية - على ما تقدم - و شرط تمكن كل فرد من من الاستفادة من حرياته وجود الامن لانه لولا الامن وقع المجتمع، في معرض مهاجمة اللصوص والمختطفين والقتلة والسراق، وما أشبه.

وفى مثل هذا الجو لاأثر المحريات، وحيث يجب على الدولة مراعاة المصالح العامة ، والتي من اهمها حفظ اجواء الامن وكان لازم ذلك توقيف المشتبه بهم والمجرمين الذين ثبت جرمهم، كان لابدان يكون للقاضى حق اعطاء الشرطة اجازة اقتحام المساكن ، وتوقيف الافراد وجلبهم واستجوابهم وعقاب المتخلف الى غير ذلك مما ذكرناه في كتاب : (الحدود و التعزيرات) .

ويؤيد ذلك استمرار السيرة منذزمان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الى يومنا هذا على ذلك ، مما لسنا بصدد تفصيله الان .

تأطير القوانين بمقتضى الحرية

بقى شيء : وهو ان الحكومة الصحيحة ، لما كانت جامعة بين ارادة الله ،

ص: 477

وارادة الانسان ، فالمعنى الذي ذكرناه في بعض المسائل السابقة اى.

(1) ان تكون القوانين اسلامية .

(2) ان يكون الرئيس مرضياً لله سبحانه .

(3) ان يكون الرئيس مرضياً لاكثرية الامة .

(4) ان توضع القوانين بسبب نواب الامة : في اطار الاسلام ، ورضاية الامة ... كان اللازم ان تنطلق القوتان التأطيرية: (التشريعية) و

(التنفيذية) من الحرية الانسانية التي هي الأصل في كل انسان على ما تقدم - فلا تؤطر القوانين الاسلامية بالاطر الكابتة للحرية بل اللازم ان يراعي فى التأطير امران:

(أ) الاسلام .

(ب) العقد الاجتماعي المنواب في المجلس الذين هم وكلاء الامة (والوكالة عقد) وللقوة التنفيذية وكلاء الامة مباشرة، أو بواسطة نواب المجلس ، على اختلاف كيفية انتخاب رئيس الجمهورية ، مباشرة من الامة، أو بسبب النواب. فاللازم ان يكون التأطير للقوانين الاسلامية ، حسب مصلحة الامة لانهم لم يوكلوا الوكلاء وكالة تشمل العمل خلاف مصلحتهم ، ومن الواضح ان حفظ حريات الامة من أهم مصالحهم التي يجب على وكلائهم (في التشريعية والتنفيذية) ملاحظتها والانطلاق منها ، فكل قانون خلاف الاسلام، أو خلاف مصلحة الامة( في تضييق حرياتها) باطل مردود :

(الاول) لانه ليس باسلامي.

(الثاني) لانه تصرف فى شئون الموكل بدون رضاه .

اسباب الخضوع للسلطة

وهذا البحث ذكرناه لربطه بمبحثنا الذي هو حرية الفرد وتوضيحه يتوقف

ص: 478

على وجه لزوم اطاعة الناس للحكومة ، هل هو من جهة ( الدين ) او ( الحق الطبيعي : اى لان قوانين الحكومة مأخوذة ، من القوانين الطبيعية، فكلما كان القانون الاجتماعي أوفق بالقانون الطبيعي كانت النتائج أحسن ) أو (العقد الاجتماعي : اى انه نوع تعامل بين الحكومة والافراد ، كالتعامل بين الوكيل والموكل ) أو ( لان قوانين الدولة أحسن اطار لتنمية الحريات والملكات في الافراد و تشغيل الطاقات الكامنة في النوع ، لنفع الانسان )؟

فقد اختلفت اراء السياسيين فى ذلك على الوجوه الاربعة المذكورة وتفصيل الكلام في الاقوال المذكورة بقدر ما يتحمله هذا الكتاب، انه لما

هو لم يكن (أمر الحكومة ) بمجرد انه (أمر الحكومة ) واجب الاطاعة ، اذ ليس ذلك آخر الحلقة ، لا بد وان ينتهي الى ما يكون آخر الحلقة، ليقتنع الناس بلزوم الاطاعة، وآخر الحلقة هو اللذة والالم ( فان الانسان ميال الى اللذة ويفر من الالم سواء كانا جسديين أو روحيين وبذلك ظهر انه ليس آخر الحلقة (الضار والنفع) كما ربما توهم اذ يبقى مجال السؤال بعد اثبات كونه ضرراً أو نفعاً : بانه لماذا أجلب النفع وادفع الضرر ؟

وما ذكرناه من ان آخر المطاف اللذة والالم ، انما هو مع الغض ، عن مرتبة أرقى من ذلك ممن لا يطلب دفع الالم واستجلاب اللذة ، وانما يفعل للحسن ويترك للقبح ، كما قال علي (عليه السلام) :(وجدتك أهلا للعبادة) ومن نافلة القول ان قوله عليه السلام لا ينافي قوله سبحانه : «رغباً ورهباً »(1)اذ ليس في الاية رغباً فى جنته، ورهباً من ناره فيمكن ان يكون المراد ، رغباً في رضاه ورهباً من عدم لطفه، وهذا يساوى معنى وجدتك أهلا للعبادة).

وكيف كان، حيث لا يصلح (أمر الحكومة )بنفسه مصدراً للطاعة ، انقسم . السياسيون الى أربع طوائف :

ص: 479


1- سورة الانبياء / 91 .

(الأول) المتدينون ، حيث قالوا ان أمر الحكومة واجب الاطاعة من جهة امر الدين به ، ومن الواضح ان الدين اصوله مبنية على العقل ، وفروعه مبنية على وجوب شكر المنعم ، ولذا كان لزوم اطاعة الحكومة ، مبنياً على العقل -وهذا هو الذي نر الذي نرجحه نحن اذ ماعدا ذلك لا يصلح ان يكون مصدراً .

(الثاني) القائلون بالحق الطبيعي ، قالوا : ان الكون له طبيعة خاصة في سيره، وكل مخالف لتلك الطبيعة، لابد وان يرتطم بما يوجب هلاكه والقوانين الوضعية - التي تنفذها الحكومة - هي ماطابق تلك القوانين الكونية ، فاطاعة الحكومة انما هي لاجل عدم الارتطام بالقوانين الكونية، مثلا: الطبيعة تقتضى ان يتهيأ الجسم لافراغ المني. اذا وصل العمر الى السادسة عشرة، فاذا وضع القانون على طبق ذلك وتزوج الانسان ، سعد واستراح ، واذا لم يوضع القانون على طبق ذلك، أو لم يطبق الانسان القانون، فهو أما ان يسلك سبيل الانحراف، وفي ذلك الأمراض الزهرية والعقد النفسية ، وأما ان لا يباشر أصلا ، وفيه الأمراض التي تتولد من الرواسب المنوية .

وهذا وان كان صحيحاً ، الا انه لا يغنى عن الدين ، اذ الدين وضع أحكامه على المصلحة والمفسدة ، كما قرر في الكتب الأصولية ، فالذي يكشف عن القانون الطبيعي انما هو الدين ... اذ واضع الكون (وهو الله) هو الذي يعلم قوانين الكون ، وعليه فالقائل بهذا القول ، وان اصاب في الكبرى (القوانين الوضعية يجب ان تطابق القوانينالطبيعية )الا انه اخطأ في الصغرى (الذي يطابق القوانين الطبيعية هو ما يضعه الناس من عند أنفسهم) .

(الثالث) القائلون بالعقد الاجتماعي، وهؤلاء يقولون بأن وجوب الطاعة الحكومة ، انما هو لاجل القرار الذي عقده الجانبان (الحكومة والامة) في قيام الأولى بمصالح الثانية في قبال قيام الثانية باطاعة الأولى، فالاطاعة وفاء بالمعاملة

ص: 480

التي جرت بين الطرفين ...

أقول : هذا انما يتم اذا لم نقل نحن بالموازين الدينية، والالزم ان يكون هذا القول في الاطار الديني، اذ كل عقد خارج عن الموازين الدينية فهو باطل لا يجب الوفاء به، أما الاشكالات الاخر التي أوردوها على هذا القول فغير تامة.

(الرابع) : ان قوانين الدولة أحسن اطار لتنمية الحريات، وتشغيل الطاقات ولذا يطيعها الناس ، وهذا يتم اذا كانت القوانين صحيحة ، وصحة القوانين لاتكون الا اذا كانت مستندة الى الله سبحانه وكان التطبيق بيد المجتهد العادل، والافاي دليل على كون القانون كذلك .

ص: 481

مسألة : 45 الدستور بين السلب والايجاب

اشارة

الدستور اصطلاح في العصر الحاضر الموجز الاطارات التي تعمل الدولة بمقتضاها في مختلف الامور المرتبطة بالشئون الداخلية والخارجية، وقد استدلوا لاحتياج الدول اليه بامور :

(1) ان الدولة اذا تبدلت ، احتاج الشعب الى ان يفهم علاقته بالسياسة الجديدة، فلابد لهما بالتوافق بينهما من وضع كليات القوانين بصورة موجزة ، حتى يعرف الجميع حقوقهم وواجباتهم ، كما جعلت ايران عند حر كة المشروطة، والهند وباكستان ،والسيلان بعد استقلالهم عند انتهاء الحرب العالمية ، وجملة اخرى من البلاد مثل هذا الثمانون ، ومثال ذلك ، مالو أخذ جماعة من الناس وكلاء المتصرف فى اموالهم ، احتاج الموكلون والوكلاء الى جعل صوابط الموكالة المذكورة، تعين الحق والواجب لكلا الجانبين .

(2) أن أغلب البلاد ، فيها جماعات وأحزاب واديان وقوميات ولغات فاللازم ان يعين الدستور العام الذي يكون لكل تلك الفئات ، في امورهم

النقنينية، والتنفيذية والقضائية والمالية وغيرها وبذلك تكون امة واحدة، أو

ص: 482

شعباً واحداً في دولة واحدة ولا يقع بينهم الشجار و الخصام، بدون وضوح الاطار العام للمدولة، مما يكون مرجعاً لجميعهم .

(3) حيث ان الغالب ان البلاد الوسيعة المترامية الاطراف، لا تتمكن فيها الدولة من اعطاء حقوق الافراد النائية عن العاصمة ، ممن يسكنون الارياف والقرى الحدودية ، وذلك يوجب ضعف علاقتهم بالدولة وانفصالهم أحياناً المؤامرات تجد محلا خصباً في مثل أولئك وخصوصاً الغالب ان الدول المتجاروة مختلفون في امور ، مما يسبب ان يتآمر أحدهم ضد الأخر ، كان الدستور كصمام أمان لاطمينان الكل بوحدة نظر الحكومة اليهم جميعاً، واعطاء حقوقهم كاعطائها لحقوق من فى المدن والقرى القريبة من العاصمة .

(4) ان الدستور ، يوجب توحيد البلدان المتحدة ، حيث انه يكون للجميع قانون واحد يرجعون اليه، فالدول الاعضاء، يعرفون حقوقهم وواجباتهم والكل خاضع للقانون ، لان الكل اشترك في وضعه بالاكثرية .

أقول : ان تم ما ذكروه مبرراً لتدوين الدستور ، في البلاد غير الاسلامية فقد يناقش في ذلك بانه لا تتم هذه الامور مبرراً للتدوين في البلاد الاسلامية باعتباره أصلا سياسياً واساسياً ثابتاً، اذ تلك الاسباب غير موجودة في البلاد الاسلامية :

(1) فالدولة الاسلامية انشئت منذ أربعة عشر قرناً ، أسسها رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) في المدينة المنورة (كما سيأتي فى بعض المسائل الاتية ، كيفيته تأسيس الرسول (صلى الله عليه و آله وسلم) لها)

(2) والبلد الاسلامي مشتمل على اكثرية مسلمة كلهم خاضعون للاسلام اصولا وفروعاً ، ولاخلاف، والاحزاب والمنظمات السياسية ، قابلون بالاسلام بحكم انهم مسلمون - وانما يختلفون فى الاجتهادات وكيفية التطبيقات ، اما

ص: 483

الاقليات غير الاسلامية، فهم يعملون في امورهم الخاصة حسب موازينهم ، و في امورهم العامة حسب موازيز الدولة ، المقررة للذميين .

(3) واعطاء الحقوق للافراد لا يتبع الدستور سلباً وايجاباً ، سواء كانوا في اطراف البلاد، أو في قلب العاصمة ، فان القانون الاسلامي وضع بالعدالة كما ان المطبق له يجب ان يكون عادلا ، وفيه لاظلم ، فاين مكان الدستور من الشريعة أو التنفيذ.

(4) ومنه يعلم النقد على الأمر الرابع .

(5) فاذا فرضنا عدم وجود حكومة واحدة اسلامية لكل بلاد الاسلام ، و انها كانت دولا ، فلانفع لدستور مدون في التوحيد وعدمه.

ولتوضيح الأمر في عدم احتياج البلاد الاسلامية الى الدستور نقول: هل الدستور، موجز عن الادلة الاربعة (الكتاب والسنة و الاجماع والعقل)أم لا؟ فان كان موجزاً عنها ، فما الفائدة في ندوينه، بل تدوينه ربما يضر لانه يصرف المرجعية المكتاب والسنة الى نفسه لدى الاختلاف ، حيث نراهم يرجعون الى الدستور ، لا الى المصدر الحجة شرعاً وعقلا .. و ان كان مخالفاً لها ، كان مرفوضاً .

لا يقال : انما يدون الدستور - وهو موجز عن الادلة الاربعة - ليكون مرجعاً عند الاختلاف ؟

فانه يقال : كيف صار الموجز مرجعاً ، ولم يكن المفصل مرجعاً ، بينما الرجوع الى المفصل ، يحل الاختلاف، لتقبل الكل له بخلاف الموجز .

ان قيل : فى المفصل تختلف الاجتهادات ؟

قلنا : فى الموجز كذلك ايضاً .

ان قلت : فما هو الحل ؟ .

ص: 484

قلت : واضحات الكتاب والسنة ، لا اختلاف فيها، والامور المجملة سواء في الحكم ، أو فى التطبيق (مثل كيف نطبق قانون الخمس والزكاة في الحال الحاضر ليقوم بواجبات الدولة المالية ؟ ) يرجع بشأنها الى رأي اكثرية الفقهاء المراجع للمسلمين ، فان كان عشرة فقهاء في أربعة مدن هم مراجع التقليد واختلف مجلس الامة في الحكم، أو فى الموضوع ، رجع(فقهاء الشورى في مجلس الامة) الى اولئك الفقهاء المراجع، فى استجلاء الامر فما استقر عليه رأي الاكثرية ، من المراجع طبق في البلاد .

لا يقال : كيف يؤخذ برأي اكثرية الفقهاء ، ويترك الاخرون ؟ .

قلنا : (أولا) يقال : كيف يؤخذ برأى أكثرية فقهاء الشورى) في مجلس الامة لدى الاختلاف في المجلس ؟ مع ان الرجوع الى الفقهاء السراجع أولى لانهم مورد تقليد الجماهير ، وأعتماد الجماهير عليهم اولا بالذات .

و (ثانياً) اطلاق دليل الشورى يحكم بذلك.

و(ثالثاً) الاولوية في المقام من اختلاف القاضى والمراجع: في الاجتهاد فيما كان المراجع المخاصم مجتهداً ، اوفى التقليد فيما كان المراجع المخاصم مقلداً وقد اشتهر بينهم لزوم الرجوع الى القاضي ، وان فصله حجة على المتنازعين وان تخالفا اجتهاداً . . .

تمعات الميقة وعلى اي حال فتدوين موجز عن الكتاب والسنة ، ان لم يكثر المشكلة لا تحلها ، بل ولا تقلل منها ، ولما ذكرناه من ان الجماهير المسلمة ، لا ينظرون نظر الاحترام الا الى الكتاب والسنة والاجماع والعقل، وجدنا في ايران المشروطة كان المسلمون أول من أدار واظهرهم على الدستور ، وكذلك حدث في كل بلد اسلامي ، جعل له (وثيقة) أو (قانون) أو غير ذلك من الاصطلاحات.

ولا يستغرب من قولنا عدم الاحتياج الى الدستور ؟ فبريطانيا ، عاشت

ص: 485

منذ تسعمأة سنة بدون ان يكون لها دستور مدون ، مع انه ليس لهم مرجع كالكتاب والسنة ، مما يقبله كل الامة . . . ويؤيد عدم احتياج البلاد الإسلامية الى الدستور ان الناس لا يمكن جمعهم باسم هذا القانون ، وانما يمكن جمع المسلمين ، باسم الكتاب والسنة .

وقد جمع العلماء المسلمين فى ايران ، باسم الكتاب والسنة ، فى حربهم مع روسيا قبل قرن ونصف ، وفى حربهم مع بريطانيا في قصة التنباك . وفى حربهم مع الاستبداد الداخلى ، والاستعمار الخارجي في قصة المشروطة ، و في حربهم مع الشيوعية فى آذربايجان ، وفي حربهم مع الاستعمار وعملائه في قصة تأميم النفط، وفي حربهم مع امريكا في العصر الحاضر ، حيث انبثقت الجمهورية الاسلامية وكذلك جمع شعب العراق العلماء باسم الكتاب والسنة في حربهم مع بريطانيا قبل ستين سنة ، والان يجمع العلماء الشعب العراقي بنفس ذلك الاسم ، لحربهم مع بريطانيا واسرائيل وامريكا ، الذين استعمروا ،العراق، في قفاز البعث . . .وهكذا حدث الأمر في كل بلاد الاسلام فى حربهم الاستعمار الخارجي ، والاستبداد الداخلي، هذا ولكن الامرحول الاحتياج أو عدم الاحتياج الى الدستور بحاجة الى تأمل اكثر والله العالم .

تقسيمات الدستور

ثم ان علماء السياسة ، قسموا الدساتير ، الى أقسام :

( أ ) القانون المشكل تغييره ، والقانون السهل تغييره :

( فالاول ) هو ما لا يغير الا بصعوبة ، مثل قانون اتحاد افريقيا الجنوبية ، حيث ان تغييره يحتاج الى تصديق اغلبية ثلثى أعضاء المجلسين ، وقانون الهند ، حيث صرح بانه لا يمكن تغيير قوانين الولايات الهندية، الا اذا وافق

ص: 486

على ذلك أكثرية أعضاء المقننة لكافة الولايات، وقانون استراليا حيث ان قانونها لا يغير الا اذا وافق على ذلك اكثرية أربع ولايات من ولاياته الست، في استفتاء شعبي عام .

(الثاني) هو ما يسهل تغييره كما اذا وافق أكثرية المجلس على التغيير فيكون حال تغيير الدستور ، حال جعل وحذف سائر القوانين العادية وهذه الحالة موجودة في انكلترا ، فانه و ان لم يدون فيها دستور الا ان مجموعة من الاعراف والتقاليد وما أشبه لها حال الدستور ، فاذا اريد تتميم أو تغيير بعضها كان للمجلس ذلك بأكثرية الاراء

وفي الاسلام حيث قد عرفت ، عدم الاحتياج الى الدستور ، يكون تغيير الحكم (حيث يختلف احياناً اجتهاد (المجتهدين حسب رأى الفقهاء المراجع المشرفين على الدولة بكافة أجهزتها، أما تغيير التأطير للقوانين الاسلامية ، بما تلائم العصر ، كما مثلنا له فيما تقدم، فيكفي فيه رأى اكثرية المجلس مع تصويب أكثر (شورى الفقهاء) المتواجدين في المجلس .

نعم اذا كان تغيير التأطير من الأهمية بمكان لزم الرجوع فيه الى الفقهاء المراجع قال (عليه السلام) : (اما الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها الى رواة أحاديثنا) وانما جعلنا تغيير الحكم من اختصاصات المراجع، لان المفروض تقليد أكثرية الامة لهم ، فلا شأن للمجلس وشورى فقهائه في التغيير بدون مراجعتهم .

(ب) الدستور لدولة واحدة، والدستور لدولة متحدة ، فالاول كالدولة الواحدة والثاني كالدول المتعددة التي أتحدت فيها بينما (لكن لم تصبح دولة واحدة) فالقسم الاول له دستور واحد، أما القسم الثاني فله قسمان من الدستور:

ص: 487

(1) قسم يشترك فيه الجميع (2) وقسم يختص بكل دولة دولة من تلك الدول الدستور بكله واحد فى الجميع حتى تتشكل من الجميع دولة واحدة، ولا لكل دولة دستور خاص بها، من غير قوانين مشتركة بين الجميع حتى تكون دولا ... مثلا : الخارجية والمالية والدفاع مشتركة بين الكل اما الداخلية والقضاء وما اشبه فلكل دولة قانونها الخاص بها ، وربما حدث التناقض بين الدول المذكورة في قوانينها ، مثلا : بعض الدول تبيح بيع الافيون ، بينما دولة اخرى تحرم ذلك أشد التحريم كما هو الحال في الولايات المتحدة الامريكية.

أما في الاسلام فقد عرفت فيما تقدم ان اللازم ان يكون لجميع المسلمين حكومة واحدة ويكون كلها بلداً اسلامياً واحداً، أما اذا فرض عدم امكان ذلك فدخلت البلاد في اتحاد في اللازم ان يتحد قانون الجميع، لان الاسلام لا يتغير قانونه بتغيير المناطق .

نعم، يمكن ان يكون المشرف الاعلى على هذه الدولة العضو عدة من الفقهاء، بينما المشرف الاعلى على دولة اخرى من دول الاعضاء، عدة آخرين ويختلفون في بعض الفتاوى وحسب اختلافهم تختلف قوانين هذه الدولة من تلك، كما ان اختلاف الفتوى بين مجتهدين يوجب اختلاف عمل مقلديهم .

(ج) ربما يقسم بعض السياسيين القانون الدستور الى :

(1) الدستور الجمهورى .

(2) والدستور البرلماني .

فالاول : ما اذا كانت القوة التنفيذية بموازاة القوة التشريعية، فكما تعين الامة نوابها، كذلك تعين رئيس الجمهورية، كما فى الجمهورية الاسلامية فى ايران و كما في الولايات المتحدة الامريكية .

ص: 488

والثانى : كما اذا كانت القوة التنفيذية تابعة للقوة التشريعية بان تعين الامة نوابها ، والنواب ينصبون القوة التنفيذية، كما في بريطانيا ، وبعض البلاد الاخر ...

وقد ذكرنا في ما تقدم ان كلا ما تقدم ان كلا من القسمين لامانع منه فى الدولة الاسلامية وان كان الاقرب الى الشورى ، والرقابة الشعبية المستفادة من قانون الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، القسم الاول .

التناقض بين القوانين

(د) قد سبق في بعض المسائل السابقة الالماع الى ان القوانين المتداولة في البلاد الديمقراطية على أربعة أقسام ،

( 1 ) الدستور

(2) القوانين العادية التي يقررها مجلس الامة ...

( 3 ) القوانين التي تضعها السلطة التنفيذية فى مجال صلاحية القوة التنفيذية .

(4) القوانين التي تضعها السلطة القضائية فى مجال صلاحية القوة القضائية. وعليه فربما يقع التضاد بين الدستور وبين قانون أحد من المقننين الثلاثة الاخرين، كما قد يقع التضاد بين قوانين المجلس و بين قوانين التنفيذية و القضائية ، أو يقع التضاد بين قوانين التنفيذية وقوانين القضائية.

وقد اختلفت الاقوال في كيفية علاج هذه المتضادات... لكن الاقرب الى المنطق ، ان يقدم الدستور على كل الثلاثة الآخر عند تضادهما ، وان يقدم قانون المجلس على قوانين القضائية والتنفيذية، لان الدستور هو الاصل بالنسبة الى الثلاثة ، كما ان قانون المجلس أصل بالنسبة الى التنفيذية والقضائية، أما

ص: 489

مع تعارض التنفيذية والقضائية فاللازم جعل الحكم الدستور، فان فقد، فالحكم قانون المجلس، فان فقد فالمرجع هو السلطة القضائية العليا في الدولة ، لانها المرجع في مثل هذه الأمور .

اما في الاسلام، فالمرجع الاصل هم الفقهاء المراجع، لان اللازم الرجوع اليهم في الحوادث الواقعة ، والكلام حول شئون الدساتير وغيرها طويل نكتفى منه بهذا القدر، والله سبحانه العالم .

طرق الحيلولة دون طغيان الحكومة

ثم ان القانون لا يكفى بنفسه ضماناً لاجرائه وان كان في غاية النزاه والاستقامة بل الحكومة هى التي تضمن الاجراء ، ومن طبيعة الحكومة الفساد ، حيث انها قدرة كبيرة ، والقدرة تطغى ،« ان الانسان ليطغى ان رآه استغنى»(1) فان الانسان يأخذه الغرور اذا رأى نفسه غنياً ، مهما كان نزيهاً قبل وصوله الى الحكم ، الا في الانبياء والائمة والقليل من الناس جداً ... ولا مخلص من الفساد الطارىء على الحكومة ، الا بضبطها ضبطاً دقيقاً بكل شدة ، وقد ذكر علماء السياسة ان الضبط يكون بأمور .

(الاول) كثرة وقوة المسؤلين الدينيين، حيث انهم غالباً خارج الحكم، وفي نفس الوقت متنفذون في الناس ، تخافهم الدولة ، ويقفون صداً دون فسادها وكلما كثر عدد هؤلاء وزاد نفوذهم ، كان ضبطهم للدولة اكثر.

(الثاني) اخذ التدابير اللازمة لضبط الدولة ، من جهة القوانين المتضمنة لعزل واخراج العاتي من افرادها

(الثالث) جعل المشاورين النزيهيين والأقوياء لافراد الدولة المقتدرين منهم كرئيس الجمهورية ، والوزراء ومن اليهم .

ص: 490


1- سورة العلق / 7 و 8

(الرابع) في الموارد اللازمة تعرض امورهم على العامة ، ليكونوا رقباء على الدولة ، فتخاف الدولة الرأى العام .

(الخامس) تكوين وتنظيم وتوسعة المؤسسات المهنية ، حتى يدافع كل صنف عن افراده بواسطة المؤسسة المرتبطة به ، ولا شك ان الحكومة مجبورة على اتباع هؤلاء ، حيث ان الافراد الذين يشكلون المؤسسة المهنية، لهم خبرة وتجربة ومعرفة بالمشاكل وحلولها ، والناس لذلك ملتفون حولهم ، وحيث ان الدولة تخاف على سمعة نفسها اذا ارادت مخالفتهم تضطر الى الاخذ برأيهم .

وذلك يحد من ديكتاتورية الدولة ، لخشيتها من الرأى العام الملتف حول المؤسسات المذكورة ..

اما لدى اختلاف الدولة والمؤسسات المهنية، فالمرجع القوة القضائية.

(السادس) تكثير الجرائد والمجلات النزيهة ، حيث ان الحكومة تخاف نقدها ، لعلمها بتأثيرها على الرأى العام ، و ذلك يوجب ضبط القوى الثلاث عن الانحراف ، وقد كان نابليون الديكتاتور المشهور يقول : (ترهبني اربع صحف اكثر مما ترهبني مأة الف بندقية) لكن اللازم في المطبوعات امران :

(1)ان تكون بايدي نزيهة واعية ، لوضوح ان غير مثل هذه الايدى لاتدرك مواقع الضعف والخطاء في الدولة، ولعل ضرها يكون اقرب من نفعها.

(2) ان تكون الصحف مهتمة بالحقائق ، في قوالب ملائمة، فالاهانة والهتك والتهريج والكذب ، وما اشبه ، لاتفيد في المقصود المذكور من ايقاف الدولة عند حدها .

(السابع) الوقوف بكل شدة دون بقاء غير النزيهين ، في اى من السلطات الثلاث ، فان البقاء يورث الغرور والتمادى في الغي

(الثامن) تكثير الاجتماعات ، حيث ان الاجتماع محل تبادل الرأى وتداول

ص: 491

المشورة ، وفيها تظهر مساوىء الدولة ، مما يجعلها الرأى العام ، آلة للضغط على الدولة المنحرفة ، ولذا تمنع الدول احياناً الاجتماعات ، وتكره الدول مراكز الاجتماع حيث تعرف انها محل النقد وكشف سوءاتها ، امثال المساجد والحسينيات والمدارس، وتتخذ الدول حيطة ايام شهر رمضان والمحرم ونحوهما -حيث انها مراسم الاجتماع ..

(التاسع) الاهتمام لصحة الاقتصاد العام ، اذ انحراف الاقتصاد ، سواء كان بسبب الاثرياء كما في الرأسمالية ، او بسبب الحكومة كما في الشيوعية (حيث كلتاهما تسلط فئة خاصة على جهود الناس واتعابهم) يوجب امرين :

(1) اشتغال الناس بلقمة عيشهم عن نقد الحكومة وابداء معايبها .

(2) تسلط القلة على كل مقاليد البلاد ، بسبب ما بيدها من الثروة ، حتى ان النقد يكون كصيحة في واد والرأى العام لا يهيىء حتى يضعط على الدولة .

(العاشر) توسعة وتعميق الثقافة الحيوية ، حيث ان الجهل يمنع معرفة الناس بمواضع العيب في الدولة ، وكلما توسعت الثقافة وتعمقت ، ازداد الرأى العام خبروية، وبازدياد خبرويته، لا تتمكن الدولة من اعمال الديكتاتورية والفساد .

ص: 492

مسألة : 46 ضرورة تشكيل الحكومة الاسلاميه

اشارة

نذكر في هذه المسألة بعض الامور المرتبطة بالحكومة الاسلامية ، وان كنا قد ذكرنا بعض الامور المرتبطة بهذه الشئون في كتاب (الحكم في الاسلام) والمعنا الى بعضها الآخر في مسائل آنفة في هذا الكتاب فنقول : يجب ارساء الحكومة الاسلامية ، وجوباً عينياً ضرورياً ويدل على ذلك.

الرسول قدوة

(أ) كونه من باب الاسوة الواجبة اذ اللازم العمل على طبق اعمال الرسول صلى الله عليه و آله وسلم .

قال سبحانه : «لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة ، لمن كان يرجو الله واليوم الاخر»(1) والآية تدل على الوجوب كما لا يخفى ، الى غير ذلك من ادلة وجوب الاسوة .

وقد قال على عليه السلام (فليتأس متأس بنبيه والافلا يأمنن الهلكة) والرسول صلى الله عليه و آله وسلم قد ارسى الحكم في المدينة المنورة ، بعد ان اشتغل في

ص: 493


1- سورة الاحزاب / 22 .

مكة المكرمة طيلة ثلاث عشرة سنة ، بتربية الرجال الذين يمكن الاعتماد عليهم في ارساء ذلك ، فقد كون صلى الله عليه و آله وسلم في المدينة المنورة الجيش وجبی المال ، وجعل موازين القضاء ، وبين القوانين المرتبطة بادارة البلاد ،وبعث السفراء والرسل اى انه صلى الله عليه و آله وسلم جعل السلطات الثلاث وان لم تكن منفصلة بعضها عن بعض .

وفي القرآن الحكيم ، والسنة المطهرة آيات وروايات بشأن الحكم ، قال سبحانه : «فاحكم بينهم بما انزل الله » .(1)

وقال سبحانه : «و ان احكم بينهم بما انزل الله ، ولا تتبع اهوائهم» (2).

وقال سبحانه : «فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى»

وقال سبحانه : «ومن لم يحكم بما انزل الله فاولئك هم الفاسقون ».(3)

وفي آية اخرى وثالثة « ...هم الظالمون»(4) «... هم الكافرون».

وقال سبحانه :«انا انزلنا اليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما اراك الله»(5).

وقال سبحانه : « فلاوربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في انفسهم حرجاً مما قضيت و يسلموا تسليما»(6) الى غيرها من الايات المبارکات ،بل و آیات اخر مرتبطة بالحكم ، مثل :« وان هذا صراطى مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم».

وقال سبحانه : واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا» .

وقال سبحانه : « ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم »

وقال سبحانه : «ان الذين فرقوا دينهم وكان شيعاً لست منهم في شيء» .

وقال سبحانه : «ولتكن منكم امة يدعون الى الخير و يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر واولئك هم المفلحون» .

وقال سبحانه : «انما المؤمنون اخوة فاصلحوا بين اخويكم»

ص: 494


1- سورة المائدة /53 .
2- سورة المائدة / 55
3- سورة المائدة /52
4- سورة المائدة / 50
5- سورة النساء / 105 .
6- سورة النساء / 65

ومن الواضح ان الوحدة لا يمكن توفرها الاتحت ظل الحكومة الاسلامية كما ان الدعوة الى الخير والأمر والنهى والاخوة لا يمكن ايجادها اصلا او کمالا الا بالحكومة الاسلامية .

الائمة والعلماء قدوة

(ب) وقدعين الرسول صلى الله عليه و آله و سلم من بعده الخلفاء بالنص باسمائهم تارة ، وبالاجمال اخرى كقوله صلى الله عليه و آله وسلم

( الخلفاء بعدی اثنی عشر ) .

وقوله (صلى الله عليه و آله وسلم)( الائمة من قريش )(1)وبالعموم ثالثة، كقوله صلى الله عليه و آله وسلم( اللهم ارحم ،خلفائى قيل يارسول الله : ومن خلفائك؟ قال الذين يأتون من بعدى ويروون حديثي وسنتى ) (2).

ومن الواضح ان نصب الخلفاء يكون دليلا على ارساء الحكم والدولة ، وقدقام الائمة عليهم الصلاة والسلام بعده صلى الله عليه و آله وسلم بدور الحكم اما مباشرة، حيث امكن ذلك كما فعله على عليه السلام والحسنان عند تمكنهم و اما تسبيباً ، كالثورات التي اقاموها عليهم السلام بسبب اولادهم و مواليهم و اقربائهم . فقد كانوا عليهم السلام يقودون الثورات ضد الامويين و العباسيين من وراء الستار بعد ان كانوا يربون الثائرين في بيوتهم وحجورهم ، ثم كانوا يمدونهم بالدعاء ، وينعونهم بعد مقتلهم ويدفعون الاموال الى من بقى منهم و يلعنون ،قتلتهم، وانما لم يكن الأمام هو الذى يقوم بالثورة الظاهرة ، لاجل تكميل المسيرة الفكرية ، عقيدة وشريعة (على ما فصلنا ذلك في كتاب الفقه : الاقتصاد)و اخيراً كان يظهر امر هم عليهم السلام في معارضة السلطة ، والعمل لاجتثاثها و لذا كان الجائرون ، يلقون عليهم القبض وينهبون اموالهم ويحرقون دورهم ويسجنونهم

ص: 495


1- سورة آل عمران / 99
2- سورة الانفال / 49

وأخيراً يقتلونهم والافهل السلطات الجائرة تفعل مثل ذلك بغير المعارضين لها المقوضين لدولها ؟

ولذا نجد عصور الائمة عليهم الصلاة و السلام مليئة بالثورات الشعبية التي كان يتزعمها اولاد الائمة واقربائهم وتلاميذهم واتباعهم، ففي عهد الامام السجاد عليه السلام ثار التوابون وحكم المختار وثارت اهل المدينة ، وفي عهد الامام الباقر (عليه السلام )قام بالثورة اخو الامام زيد بن على بن الحسين( عليهما السلام) وبعد مقتله ثار ولده يحيى بن زيد وفي عهد الامام الصادق (عليه السلام) حدثت ثورة عبد الله بن معاوية بن جعفر بن ابی طالب (عليهم السلام) وبعده تفجرت ثورة محمد بن عبد الله ذى النفس الزكية من احفاد الامام الحسن (عليه السلام) وكذلك ثار اخوه ابراهيم بن عبد الله .

وفي عهد الامام الكاظم (عليه السلام) ثار الحسين بن علي شهيد فخ بجمع كبير من بني هاشم، وثار يحيى وادريس، وفي عهد الامام الرضا عليه السلام ثار أخو الامام (عليه السلام) زيد ، وثار محمد بن ابراهيم ابو السرايا ، ومحمد الديباج ابن الامام الصادق (عليه السلام) ، وابراهيم بن الامام الكاظم (عليه السلام) وفي عهد الامام الجواد (عليه السلام) ظهرت ثورة عبد الرحمان بن احمدمن ابناء عم الامام الجواد (عليه السلام )ومحمد بن القاسم من احفاد الامام امير المؤمنين (عليه السلام) الى غيرها مما يجدها الطالب ، في كافة التواريخ المعنية بهذا الشأن .

واظهار بعض الأئمة عليهم الصلاة والسلام ، ما ينافي بعض الثورات المذكورة، كان اظهاراً من باب التقية الايجابية ، كما كانوا احيانا يظهرون التبرى عن اخص اصحابهم، مما هو مذكور في علم الرجال، ولذا كانوا يقولون لمن تبروا عنه - في خفاء - ان مثلهم مثل السفينة ، حيث خرقها العالم حفظاً لها ، فيما كان (ورائهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً)(1).

ص: 496


1- سورة الكهف / 79

وقد اثرت تلك الثورات وما رافقها من تهجم الائمة عليهم الصلاة والسلام على الحكام اموراً .

(1) تهييج الرأي العام ضد تلك الحكومات الجائرة، ولذا قامت ثورات أخر ضدهم .

(2) اسقاط بعضهم كما اسقطوا الأمويين ومحوهم عن الوجود .

(3) اسقاط شرعيتهم ، واظهار انهم غصاب ديكتاريون لا يمتون الى الاسلام بصلة - والتي بسببها انقذوا الامة من الضلال -.

(4) الحد من ديكتاتوريتهم ، وانقاذ المستضعفين من براثنهم ، وجعلهم يرتعدون من الرأى العام الاسلامي .

(5) واخيراً اسست حكومات في عرض حكوماتهم مما ذهبت بشوكتهم، امثال حكومة المختار و طباطبافي الكوفة، زهاء عام المأتين من الهجرة، وحكومة الادارسة فى عهد الامام الصادق (عليه السلام )في المغرب ... الى غير ذلك .

وبعد الائمة عليهم الصلاة والسلام ، قام العلماء الذين هم خلفاء الرسول( صلى الله عليه و آله وسلم )- حسب الحديث المتقدم - بنفس الدور ، فحاربوا السلطات الجائرة، واسسوا الحكومات قدر الامكان واوقفوا الطغاة الى حدما، و تعرضوا للطرد والسجن والقتل والحرق لانفسهم و لمكتباتهم والى غير ذلك، وتمكنوا كثيراً ما من تسديد بعض الحكومات ولو بقدر.

كما لا يخفى ذلك لمن راجع تواريخ الناصر ، والرضى، والمرتضى، والمفيد، والطوسى ، ونصير الدين، وابناء طاووس ، والشهيدين، والعلامة، وابن فهد ، والمجلسيين والبهائي، والكر كى والشيرازيين وكاشف الغطاء، والمجاهد، والاخوند ،والخالصي والشفتى والسيدنور الدين صاحب التفسير، والقمى، والاصفهاني ، والحبوبي ، وشرف الدين وغيرهم ، قدس الله اسرارهم ، ممن

ص: 497

ذكرت احوالهم فى جملة من التواريخ (ومن الجدير ان يتصدى لجنة من العلماء الواعين ، لكتابة تفاصيل هذه الأمور ، ولعلها تبلغ مجلدات ضخام ، والله المستعان).

تطبيق جميع قوانين الاسلام متوقف على اقامة الدولة الاسلامية

(ج) وقوانين الاسلام ، شاملة لقوانين الحكم ، ولو لم يرد الاسلام الحكم لم يكن وجه لجعل هذه القوانين :

(1) مثل قوانين الحرب المذكورة فى كتاب الجهاد المنقسم (1) الى الجهاد الابتدائى ، فى سبيل انقاذ الناس من الخرافة وانقاذهم من المستكبرين الذين يظلمونهم ، كما قال سبحانه :« ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين».(1)

وقال سبحانه : «واعدو الهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم»(2).

وقال سبحانه : «يا ايها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا »(3)والرباط الكون فى الثغر الاسلامى لمراقبة تحرك العدو (2) والى الجهاد الدفاعي.(3) والى الجهاد مع البغاة، وفى كلمات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والائمة الطاهرين عليهم الصلاة والسلام ، ثروة كبيرة ، من هذا الجانب ، وقد ذكرنا جملة من الروايات والاحكام فى كتاب (الفقه : الجهاد) .

(2) وقوانين الاموال ، من الخمس ، والزكاة ، والخراج ، والجزية ، و من الواضح ان الخراج والجزية من شئون الدولة، اما الخمس والزكاة، فاحكامهما المتعددة تدل على انهما ايضاً من شئون الدولة، مثل كون الخمس على ارض الذمي التي اشتراها من المسلم .

اذ من الواضح ان الذمي لا يعتقد بالخمس، فكيف يدفعه بدون القوة، ومثل

ص: 498


1- سورة النساء / 78
2- سورة الانفال / 63
3- سورة آل عمران / 200.

ارسال الجباة لاجل جمع الزكواة ، ومثل كون الامام الزائد له والمعوز عليه ومثل احكام بيت المال ، وما ذكرناه في الخراج والجزية لايحتاج الى بيان ، وقد ذكرنا طرفاً من الكلام في الامور المالية الاسلامية ، في كتاب ( الفقه : الاقتصاد) .

(3) والاحكام المرتبطة بالمرافعات والحدود والقصاص والديات ، فان القضاء والشهادات ، ومعاقبة المجرمين حداً و قصاصاً ودية ، من شئون الدولة اذ بعض هذه الأمور، وان كان بالامكان اجرائه ، بدون الدولة، الا ان المجموع من حيث المجموع لا يمكن ان يقوم به الا الدولة ، بحيث لولاجعل الدولة ،كان تشريع هذا المجموع من دون فائدة .

(4) هذا بالاضافة الى الاحكام المتفرقة فى مختلف الابواب ، مثل اذا حضر الوالي جنازة فهو احق بها ، وصلاة الجمعة من شأن الامام والخلفاء ابتزوا هذا المنصب - كما في دعاء الامام السجاد (عليه السلام) - واحكام الحج المرتبطة بالامام الى غير ذلك.

وفى الحديث ( حلال محمد (صلى الله عليه و آله وسلم) حلال الى يوم القيامة وحرام محمد (صلى الله عليه و آله وسلم )حرام الى يوم القيامة) .

ثلاثة خيارات

(د) الامر لا يخلو اما من قيام الناس بدون الحكومة ، او مع حكومة جائرة او مع حكومة عادلة ، وحيث يبطل الاولان يتعين الثالث .

اما بطلان الاول : فواضح ، وان زعم ماركس انه يأتي يوم يعيش الناس فيه بدون حكومة ، لان الاختلاف بين الطبقات يزول، حيث يتساوي تقسيم المال فلاحاجة الى الحكومة ، لكن يرد على هذا الكلام .

ص: 499

اولا : ان الاقتصاد ليس البناء التحتى لكل شيء - كما زعم - حتى اذا زال الاختلاف تزول كل الابنية الأخرى التي جعلها فوقية .

وثانياً : ان الناس بحاجة الى ادارة شئونهم ، والادارة العامة هي الحكومة كما تقدم في بعض المسائل السابقة .

وثالثاً : ان الاختلاف والظلم موجودان ولايمكن رفع الاختلاف والظلم الا بالحكومة ، ولذا رد آراء ماركس حتى المفكرون من الشيوعين الذين جائوا من بعده . .

واما بطلان الثاني: فلان الله سبحانه نهى عن الجور ، وامر بالعدل وحرض على ازالة العدوان ، فكيف يقر الظلم ، ولا يأمر باقامة حكومة عادلة ؟ واذاً . . . لم يبق الا الثالث : وهذا بالاضافة الى انه عقلي ، قد اشير اليه في الايات والروايات مثل قوله سبحانه : «انما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون »(1)حيث ان ولاية سائر الائمة والعلماء امتداد لولاية من ذكر في الاية الكريمة ، ومعنى الولاية هو الولاية هو حقه في التصرف في شئونهم ، فان مقتضى الناس مسلطون على اموالهم وانفسهم ، انه لا حق لاحد لاحد في التصرف في امورهم ، والآية تدل على استثناء تصرف الولى فلا يقال ان الحكم مستلزم للمتصرف والناس مسلطون ، يمنع كل تصرف ..

وقال سبحانه «اطيعوا الله واطيعوا الرسول و اولي الامر منكم» (2)وأولى الامر هم خلفاء الرسول (صلى الله عليه و آله وسلم) - سواء عينهم بالاسم ، او بالصفة الكلية - كما تقدم في (اللهم ارحم خلفائي) .

وقال على(عليه السلام) في نهج البلاغة : (اما والذي فلق الحبة ، وبرء النسمة لولا حضور الحاضر ، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما اخذ الله على العلماء ان لايقاروا على كظة ظالم ولا سعب ،مظلوم، لالقيت حبلها على غاربها، ولسقيت

ص: 500


1- سورة المائدة / 61 .
2- سورة النساء / 63 .

آخرها بكأس (اولها فالله سبحانه اخذ على العلماء تولى الحكم، لان الامام كان في صدد وجه تقبله للامارة ، بعد عثمان.

وقال عليه السلام : (لابد للناس من أمير برأو فاجر يعمل في امرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر ، ويبلغ الله فيها الاجل ، ويجمع به الفيء ، ويقاتل به العدو وتأمن به السبل وتؤخذ به الضعيف من القوى)فان في اثر النظم والاستقرار المؤمن يعمل لدنياه وآخرته ، والكافر يتمتع لدنياه.

كما قال سبحانه : «يأكلون كما تأكل الانعام ، والنار مثوى لهم»(1) وكل تحت حكمه ، يصل الى اجله المقرر الطبيعى فلافوضى حتى يحترم القتل الناس قبل آجالهم الطبيعية ، وبواسطة الحاكم يجمع المال لاجل المصالح ، ويقاتل به المعتدون ، ولا ينتشر قطاع الطرق حتى لا يتمكن الناس من السفر ، ولا يأكل القوى الضعيف . .

ولذا قال الامام عليه السلام : ( فاجر) ولم يقل ( ظالم) اذ الظالم تجب ازالته ، اما الفاجر الذي هو عاص في نفسه ، لكنه يراعى النظام، فيترتب عليه ما ذكره عليه السلام من الفوائد وان لم يكن جاكماً شرعياً .

وروى الفضل بن شاذان ، عن الرضا عليه السلام انه قال :( انا لا نجد فرقة من الفرق ولاملة من الملل بقوا وعاشوا ، الا بقيم ورئيس لما لابد لهم منه في امر الدين والدنيا ، فلم يجز في حكمة الحكيم ان يترك الخلق لما يعلم انه لابد لهم منه ولا قوام لهم الا به فيقاتلون به عدوهم ويقسمون به فيئهم ويقيمون به جمعهم وجماعتهم ويمنع ظالمهم من مظلومهم )...

وقال الصادق عليه السلام: (اتقوا الحكومة ، فان الحكومة انما هي للامام العالم بالقضاء العادل في المسلمين) فان الظاهر منه ان العادل العالم جعل حاكماً من قبل الله سبحانه

ص: 501


1- سورة محمد / 14 .

وفي حديث القداح ان الامام الصادق (عليه السلام) ، قال : قال رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) :( ان العلماء ورثة الأنبياء ، ان الانبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ، ولكن ورثوا العلم فمن اخذ منه اخذ بحفظ وافر ) بناءاً على ان الوارث يقوم مقام المورث ، فكما كان الانبياء حكاماً ، يكون العلماء كذلك. رروى السكوني عن الصادق(عليه السلام)، قال : قال رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) : (الفقهاء امناء الرسل مالم يدخلوا في الدنيا ، قيل يا رسول الله وها دخولهم في الدنيا ؟ قال (صلى الله عليه و آله وسلم) : اتباع السلطان فاذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم واطلاق الامانة يشمل الحكم ...

وفي خبر عمر بن حنظلة ، عن الصادق (عليه السلام) ينظر الى من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف احكامنا ، فليرضوا به حكماً ، فاني قد جعلته عليكم حاكماً ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه ، فانما بحكم الله استخف وعلينا رد ، والراد علينا الراد على الله وهو حد الشرك بالله) فانه يشمل الحكم اما بالمناط او بالاطلاق، والحديث موجود في كتب المشايخ الثلاثة .

وقال علي عليه السلام : كما في نهج البلاغة ايها الناس ان احق الناس بهذا الامر ، اقومهم عليه ، واعلمهم بامر الله فان شغب شاغب استعتب ، وان ابی قوتل .

وفي خبر رواه تحف العقول . عن الامام الحسين (عليه السلام) -سيأتي نقله بتمامه انشاء الله تعالى - قال (عليه السلام) (ذلك : بان مجارى الأمور و الاحكام على ايدى العلماء بالله الامناء على حلاله وحرامه).

وروى الكافي عن الباقر (عليه السلام) قال : قال رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) : لاتصلح الامامة الا لرجل فيه ثلاث خصال ، ورع يحجزه عن

ص: 502

معاصی الله ، وحلم يملك به غضبه ، وحسن الولاية على من يلى ، حتى يكون لهم كالاب الرحيم .

وروي ابن الحديد ، عن الامام الحسن (عليه السلام) انه قال : انما الخليفة من سار بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه و آله وسلم.

وفي نهج البلاغة قال على (عليه السلام) : ان احق الناس بهذا الامر اقومهم عليه .

وعن روضة الواعظين ان الامام الحسين (عليه السلام) قال : (فلعمرى ما الامام الا الحاكم بالكتاب القائم بالقسط ، الدائن بدين الله الحابس نفسه على ذات الله) .

وعن كامل ابن اثیرانه روى عن الامام على (عليه السلام) انه قال: (ايها الناس ان هذا امركم ليس لاحد فيه حق الا من امرتم وانه ليس لي دونكم الامفاتيح مالكم معى) .

ويؤيد ذلك ان خازن عثمان لما القى المفاتيح امام عثمان ، قال : ما حاصله انه خازن مال المسلمين لاخازن الخليفة .

ص: 503

مسألة : 47 من هو الحاكم الاسلامي ؟

اشارة

الحاكم الاسلامي هو الذي يجمع بين شرطين:

(الاول) كونه مرضياً لله سبحانه تعالى

(الثاني) كونه منتخباً من قبل اكثرية الامة.

اما الشرط الاول : فان الولاية لله سبحانه، عقلا وشرعاً، فلا يحق لاحدتولي الامر بدون رضاه سبحانه اما عقلا فلان الله سبحانه خالق الخلق ومالك الملك و كمالا يجوز -عقلاان يتصرف احد في ملك احد الابرضاه، كذلك لا يجوز التصرف في ملك الله ،الابرضاه واما شرعاً، فلورود الايات والروايات بلزوم ان يكون من يلى الامور مرضيأله سبحانه ، مثل آية انما وليكم(1) ، وآية «اطيعو الله و اطيعوا الرسول و اولی الامر منكم»(2)، وغيرهما مما تقدم . ومثل الروايات المتقدمة .

واما الشرط الثاني: فلقوله سبحانه: «امرهم شوری» (3)وقوله تعالى: «وشاورهم في الامر» (4)فان اطلاق الايتين يعطى انه بدون الشورى لايصح الحكم ، الا فيما خرج، مثل حكم الرسول وحكم الامام ، وحكم من عيناه نصاً، مثل تعيين الرسول (صلى الله عليه و آله وسلم) اسيداً على مكة، وتعيين على عليه السلام مالكاً لمصر فانه

ص: 504


1- سورة المائدة/ 61 .
2- سورة النساء / 63 .
3- سورة الشورى/37
4- سورة آل عمران / 154 .

لامجال للشورى مع النص في الموضوعات ، كما لامجال للشورى مع النص في الاحكام.

وحيث انه لا حكم الاورد به کتاب اوسنة ( كما ورد بذلك النصوص و قد ذكرنا بعضها في مسألة آنفة) يبقى مجال الشورى في الموضوعات ، فمادل على ان الشورى فيه ليس على سبيل الوجوب.

نقول : بعدم وجوب الشورى فيه، والافظاهر الآية الوجوب، ولذا نقول : بوجوب الشورى في الحكم ، وقد ذكرنا في كتاب ( الفقه : الحكم في الاسلام ادلة الشورى فى الحكم الواردة في الكتاب والسنة.

وعلى هذا يكون هناك انتخابات للناس :

(الاول) انتخابهم للفقيه العادل الجامع للشرائط، كما سيأتي بيان الشرائط حتى يكون هو الذى يتولى عامة الأمور ، وهذا ما يسمى (بولاية الفقيه فاذا كان هناك جماعة من الفقهاء العدول ، اختار المسلمون اما احدهم رئيساً اعلى للدولة ويحق لهم ان يختاروا جماعة منهم ليكونوا رؤساء الدولة بالاستشارة فيما بينهم وهذا الثاني اقرب الى روح الاسلام، حيث ان الاسلام استشارى، كما انه اقرب الى الاتقان .

وقد قال صلى الله عليه و آله وسلم: (رحم الله امرءاً عمل عملا فاتقنه) وهؤلاء الفقهاء هم الذين يقررون السياسة العليا للدولة ، بالاستشارة فيما بينهم ، اما بأن يجعل بعضهم رئيساً ، و البقية مشاورون ، و اما بان تنفذ الأمور بالهيئة الجماعية .

( الثاني) انتخابهم لنواب الامة ، الذين يكونون بدورهم تحت اشراف الفقهاء اى تكون (ولاية الفقيه) المشرفة الأعلى على النواب وعلى غيرهم، وبعد ذلك ان شائت الامة انتخبت رئيس الجمهورية، وبالتشاور بين الثلاثة ، يكون

ص: 505

انتخاب الوزراء ( السلطة التنفيذية ) و ( الهيئة العليا للقضاء ) وان شائت الامة، جعلت انتخاب رئيس الجمهورية على السلطة التشريعية مع السلطة الفقهائية، ولعل انتخاب الأمة لرئيس الجمهورية اقرب الى روح التشاور ، وان كان يجعل الامر اصعب...

حكم التعارض بين المرجع وشورى الفقهاء

ولا يخفى انه بانتخاب الفقهاء ، لا يسقط الفقيه عن منصبه التقليدى، المخول اليه شرعاً ، فهو مرجع اذا قلده الناس كان في الحكم اولا واذا لم يكن في الحكم ودار الأمر عند المقلد بين طاعته اوطاعة شورى الفقهاء في مورد اختلاف نظر هما فالظاهر لزوم اتباع المقلد الشورى الفقهاء ، فهو من قبيل تردد المقلد بين رأى مجتهده ورأى القاضى فيما حدث نزاع رجعا الى القاضى حيث ذكروا لزوم أخذ رأى القاضى ، وقد فصلنا البحث فى ذلك في كتاب القضاء .

وانما نرجح اتباع المقلد لشورى الفقهاء على اتباعه لمرجعه.

أولا: للمناط في مسألة القاضى.

وثانياً : لظهور بعض الروايات في ذلك ، مثل ما في نهج البلاغة حيث قال (عليه السلام): ( وانما الشورى للمهاجرين والانصار فاذا اجتمعوا على رجل وسموه اماماً كان ذلك الله رضى، فان خرج من امرهم خارج بطعن اوبدعة ردوه الى ما خرج منه فان ابی قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين) و اختصاص الامر بالمهاجرين والانصار، دون كل المسلمين .

( 1 ) لان كل المسلمين ذلك اليوم ، كانوا راضين بما يفعله المهاجرون والانصار.

(2) و لان الاسلام كان في بدو امره ، حيث كان ايكال الامر الى كل

ص: 506

المسلمين خطراً على الدولة من جهة تربص الفرس والروم بالامة اما حمل كلامه علیه السلام على انه من باب الزام الخصم بما التزم به - لان الكتاب موجه الى معاوية - فهو خلاف الظاهر اذ اللازم حمل الكلام على البرهان الااذا لم يكن مساق له الا الجدل.

بل يمكن ان يستفاد ترجيح رأى شورى الفقهاء على رأى مرجع تقليده - في مورد الاختلاف مما يرتبط بشئون الدولة -- من العلة في قوله عليه السلام: خذ بما اشتهر بين اصحابك، ودع الشاذ النادر ، فان المجمع عليه لاريب فيه اذ المراد بالمجمع عليه الشهرة ، بقرينة الصدر ، والعلة آتية في المقام ، فهو من قبيل منصوص العلة..

وفي المقام روايات اخر يمكن ان يستفاد منها ذلك :

مثل ما رواه ابو امامة كما عن الخصال قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) يقول : ايها الناس اطيعوا ولاة امركم تدخلو اجنة ربكم.

وعن الصدوق رحمة الله عليه انه روى عن الصادق (عليه السلام) انه قال المحمدية السمحة : اقام الصلاة وايتاء الزكاة وصيام شهر رمضان وحج البيت والطاعة للامام و اداء حقوق المؤمن .

و روى ابو حمزة ، عن الباقر (عليه السلام) انه سأل عن حق الامام ؟ فقال عليه السلام: حقه عليهم ان يسمعوا له ويطيعوا ، قلت فما حقهم عليه؟ قال : يقسم بينهم بالسوية، ويعدل في الرعية.

وروى الكافي عن عبد الأعلى عن الصادق (عليه السلام) انه قال السمع والطاعة ابواب الخير ، السامع المطيع لاحجة عليه، والسامع العاصي لاحجة له، وامام المسلمين تمت حجته واحتجاجه يوم يلقى الله عز وجل.

و عن ابن ابى الحديد انه روى عن الامام امير المؤمنين (عليه السلام) انه

ص: 507

قال : اما بعد فان الله جعلكم في الحق سواء اسودكم و احمر كم ، وجعلكم من الوالي وجعل الوالي منكم بمنزلة الولد من الوالد والوالد من الولد، فحقكم عليه انصافكم ، والتعديل بينكم والكف عن فيئكم ، فاذا فعل ذلك وجبت عليكم طاعته، فيما وافق الحق ... الى غير ذلك .

وقد تقدم الالماع الى ان( ولاية الفقيه) امتداد لولاية النبي والامام عليهما السلام كامتداد ولاية النبي و الامام الى من نصبوه بالاسم ، فلا يقال ان بعض الروايات المذكورة خاصة بالامام ، فلا تشمل ما نحن فيه .

وبعدما تقدم من اشتراط ان يكون الوالي مجتهداً عادلا، لاحاجة الى ذكر انه لابد ان يعمل بقوانين الله سبحانه اذ ان اى انحراف عنها يسقط عدالته واذا سقطت لزم على المسلمين اسقاطه وسحب الثقة عنه وتبديله بالرجل الصالح وانه لاطاعة له على المسلمين ، اما عدم وجوب طاعته في المعصية ، فاوضح من ان يخفى فانه لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق.

وعن الخصال : انه روى سليم بن قيس، عن على (علیه السلام) قال : احذروا على دينكم ثلاثة الى انقال ورجلا اتاه الله سلطاناً ، فزعم ان طاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله وكذب، لانه لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق الى انقال: لاطاعة لمن عصى الله ، انما الطاعة لله ولرسوله ولولاة الأمر.

هذا بالاضافة الى ان جملة من الروايات حذرت عن اتباع العالم العاصي مما تدل على المقام بالطريق الاولى مثل ما تقدم في خبر السكوني المتقدم في المسألة السابقة : الفقهاء امناء الرسل...

ومثل ما عن محجة الكاشاني رحمة الله عليه روى عن رسول الله( صلى الله عليه و آله وسلم) قال: العلماء امناء الرسل على عباد الله عز وجل مالم يخالطوا السلطان فاذا فعلوا ذلك فقد خانوا الرسل فاحذروهم واعتزلوهم.

ص: 508

وعن خراجية الفاضل القطيفي، قال: روى عن المعصوم عليه السلام: العلماء أحباء الله ما امروا بالمعروف و نهوا عن المنكر ، ولم يميلوا في الدنيا ، ولم يختلفواابواب السلاطين، فاذا رأيتم مالوا الى الدنيا واختلفوا ابواب السلاطين فلا تحملوا عنهم العلم ولا تصلوا خلفهم ولا تعودوا مرضاهم ولا تشيعوا جنائزهم فانهم آفة الدين وفساد الاسلام يفسدون الدين كما يفسد الخل العسل .

وعن الديلمى في مسنده انه روى عن النبي( صلى الله عليه و آله و سلم) قال : اذا رأيت العالم يخالط السلطان مخالطة كثيرة، فاعلم انه لص. الى غيرها من الروايات التى تأتى جملة اخرى منها ايضاً انشاء الله ...

ولا يخفى ان (شورى فقهاء حفظة مجلس الامة) غير شورى الفقهاء المراجع الذي تقدم الكلام حوله، حيث انهم المرجع الاعلى للدولة، بلشورى الفقهاء المراجع هم الذين يعينون ( شورى الحفظة) اما مستقلا أو بالتعاون مع سائر وكلاء الامة.

ص: 509

مسألة :48 مناقشة نظرية (البيعة)

اشارة

قد ظهر مما تقدم ان الدولة الاسلامية رئيسها الاعلى هو الفقيه الجامع للشرائط ، سواء كان بصورة فردية ، أو بصورة اجتماعية - حسب اختيار الامة احد الامرين وقد ذكر بعض الكتاب الاسلاميين امكان تعيين الرئيس ب_ (البيعة) أو بسبب (أهل الحل والعقد).

واستدلوا لذلك، بان المسلمين بايعوا الرسول (صلى الله عليه و آله وسلم )وبان اهل الحل والعقد عينوا الخليفة الثالث، بل بما تقدم من كلام علي عليه السلام من كفاية اختيار المهاجرين والانصار، لكن كلا الامرين محل نظر اذ البيعة انما تكون - بعد الانتخاب - ومظهرة له ، لا انها تعين رئيس الحكومة فالمسلمون بعد ان صدقوا رسالة الرسول (صلى الله عليه و آله وسلم) بايعوه ولولم تكن البيعة كانوا مصدقين له، وكذلك كانت بيعة الخلفاء، فالبيعة كانت نوعاً من التأكيد، فالبائع يبيع نفسه وأهله وماله لله في قبال ان يعطيه الله الجنة ، كما قال سبحانه :« ان الله اشترى من المؤمنين انفسهم واموالهم بان لهم الجنة».(1)

ص: 510


1- سورة التوبة / 113 .

هذا بالاضافة الى انه لم تكن البيعة انتخاباً للرسول لانه رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم بايعوه املا ، بل كانت اظهاراً وتأكيداً، ولذا بايعوه صلى الله عليه وآله وسلم تحت الشجرة فى صلح الحديبية مع انهم كانوا قد بايعوه قبل ذلك ، وكانت علة هذه البيعة التأكيد ، وارهاب الكفار ، فالبيعة لا شأن لها ولذا اذا انتخبوا بدون البيعة ، كان لازماً ، واذا بايعوا بدون المؤهلات كانت باطلة .

نعم، من بايع كان الأمر عليه أكد فمن نكث فانها ينكث على نفسه كما إن حجة الوالى عليه تكون أقوى، حيث ان الوالى يستدل ببيعته على انه قبل وانتخب، فلا حق له في النقص ولذا استدل الامام عليه السلام على الناكثين بانهم بايعون ، ولذا كان خلفاء الجور يجبرون الناس على البيعة بالسيف حتى يستدلوا بعد ذلك الجهلة الناس بانه بويع لهم بالخلافة .

وقد قال خطيب مرتزق، في مجلس معاوية بحضور يزيد : أمير المؤمنين هذا (واشار الى معاوية) فان مات فهذا ( واشار الى يزيد) ومن ابي فهذا(واشار الى السيف) فقال له معاوية مستبشراً : اجلس فانت اخطب الخطباء ... حال ذلك حال تزييف الانتخابات في الزمن الحاضر حيث ان الدول الديكتاتورية تجبر الناس على الادلاء باصواتهم، لنفع الديكتاتور ، والظريف في الامر ان الديكتاتور يخرج فائزاً بتسع وتسعين صوتاً ، من المأة ، بينما في مايكون الانتخاب فيه شبه الحر ، لا يخرج الفائز ، الا باكثرية ضئيلة غالباً، وكيف كان فالبيعة لا شأن أساسي لها في تشكيل الحكومة

مناقشة نظرية- اهل الحل والعقد -

و اما انتخاب اهل الحل والعقد ،فدليله وهو الشورى التي اتت بالخليفة

ص: 511

الثالث غير تام فان الشورى الواردة في الكتاب والسنة معناها شورى الجميع لاشوري جماعة فبأى حق تسقط آراء الاخرون ؟..

وقد تقدم الجواب عن الاستدلال بكلام على (عليه السلام) وانه كان فيما قبلت الامة ما يفعله اهل الحل والعقد بالاضافة الى تعسر الانتخابات من جميع الامة فى ذلك الزمان كما اشار اليه على (عليه السلام) في كلمة له - كما في نهج البلاغة -( ولعمرى لئن كانت الامامة لانتعقد حتى تحضرها عامة الناس فما الى ذلك من سبيل ولكن اهلها يحكمون على من غاب عنها ثم ليس للمشاهد ان يرجع ولا للغائب ان يختار ) - هذا مع الاشكالات الاخر التي ذكروها في (قصة الشورى) وقد اشار اليها على (عليه السلام) فى قوله : (فيا لله وللشورى) فراجع شروح نهج البلاغة وشرح تجريد الاعتقاد للعلامة الحلى والمقوشجي وغيرها- مما لسنا نحن بصدده هنا - .

نعم ربما اورد على انتخاب الاكثرية ، دون اهل الحل والعقد فقط ، بان الاكثرية غالباً جاهلون بالسياسة ولذا تشترى اصواتهم، وكثيراً ما ينتخبون غير الصالح بخلاف ما اذا كان زمام الانتخاب بيد أهل الحل والعقد فانهم لدرايتهم السياسية لا يخدعون، فلا يأتي غير الصالح إلى الحكم، لكن هذا الايراد غير تام مع الغض عن ادلة الشورى الظاهرة في العموم.. وعن انه لماذا تسقط حق الجماهير في اختيار من يتولى شئونهم ؟ اذ لا نسلم جهل الاكثرية ( اذ الاكثرية ) حيث تتجمع ارائهم لهم رؤية حسنة ، ولذا يقال : (محكمة الاجتماع) وهم المرجع في ان اى الاطباء والمهندسين و .. خير من غيره واشتراء الصوت احياناً، لا يخدش حسن رأى الاكثرية ، ولا نسلم انهم ينتخبون غير الصالح ، فان انتخابهم لغير الصالح نادر .

ثم يبقى المجال ، للنقض برأى اهل الحل والعقد فهل هم لا يقعون تحت

ص: 512

الدعايات؟ ولا يراعون مصالح انفسهم؟ ولا يبيعون اصواتهم؟ وقد ذكر التاريخ اخت آراء اهل الحل والعقد بمالم يذكر مثله ، في آراء العامة .

دم اطلاق دليل الشورى ، وفي القرآن الحكيم : « ... و ينبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى»(1) وقد ذكرنا في كتاب الفقه :( الحكم في الاسلام) جملة من ادلة الشورى ، فراجع .

ص: 513


1- سورة النساء / 116 .

مسألة : 49 شروط الحاكم الاسلامى

اشارة

يشترط في الحاكم الاسلامي امور عشرة :

(أ) البلوغ، فان غير البالغ مولى عليه، فلايكون ولياً وقد ذكر في الروايات انه لا يجوز امر الغلام، ولا يخفى ان البلوغ الشرعى في الرجل اقصاه اتمامه الخامسة عشرة والدخول في السادسة عشرة اما القوانين التي تجعل البلوغ عند اكتمال الثامنة عشرة ، فهى مخالفة للعقل والشرع ولماذا التأخير الى هذا السن ، وقد اكتملت الطبيعة بدليل الامناء؟ وان اريد اكتمال العقل فلا اشكال في انه أمر تدريجي كل درجة لاحقة يكون العقل فيها انضج من الدرجة السابقة ، و(الحرية) أيضاً شرط ، بنفس الدليل السابق .

(ب) العقل ، واشتراطه لا يحتاج الى دليل وقد اطبق على اشتراطه العقل والشرع ، والسفيه والمعتوه ومن اشبه كلهم داخلون في من لاعقل له. (ج) الايمان، فانه لا يصح انتخاب غير المؤمن رئيساً، «ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا»(1)، هذا بالاضافة الى انه ربما يستدل لذلك بالاكثرية حيث ان الاكثرية الاسلامية ترغب في اختيار المؤمن ، الى غير ذلك من الإدلة التي

ص: 514


1- سورة النساء / 141

ذكرت في مواضعها ، وقد ذكرناها نحن في كتاب (الفقه: الاجتهاد والتقليد) تفصيلا ولذا لاداعى الى تكرارهاهنا سواء بالنسبة الى هذا الشرط أو الشرائط الاخر-.

(د) العلم عن استنباط من الادلة الاربعة ، اى الكتاب والسنة والاجماع والعقل ، حيث قدثبت حجية الامور المذكورة في اصول الفقه، وقد المعنا الى جملة من ادلة بعضها ، في بعض المسائل السابقة .

(ه_) العدالة التامة ، وقد قال (عليه السلام ):( من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لامر مولاه، فللعوام ان يقلدوه).

وقدروى المشايخ الثلاثة، عن الصادق (عليه السلام)، انه قال: (اتقوا الحكومة فان الحكومة انما هي للامام، العالم بالقضاء العادل في المسلمين ، لنبي أو وصي نبي ).

وروي روضة الواعظين عن الامام الحسين (عليه السلام )انه قال :( فلعمري ما الامام الا الحاكم بالكتاب القائم بالقسط والدائى بدين الله، الحابس بنفسه على ذات الله) الى غيرها وستأتى بعض الروايات الآخر ، دالة على ذلك .

(و) طهارة المولد بان لا يكون وندزنا ، بأن قدثبت شرعاً انه ولدزنا ، فانه وان لم يذنب لكنه لا يصلح لامامة المسلمين، وقد ذكرنا ادلة ذلك عقلا وشرعاً في كتاب الفقه : (الاجتهاد والتقليد) و (كتاب الشهادات) وغيرهما .

(ز) الحياة وهذا الشرط واضح بالنسبة الى قائد الامة و ان كان فيه خفاء بالنسبة الى مرجع التقليد وجه الوضوح ان الميت لا يقدر على القيادة فلا يصح ان تبقى الامة بدون المرجع الاعلى ليقودهم .

ص: 515

المرأة ... والقيادة

(ح) الذكورة، وليس اشتراط الذكورة في المرجع القائد ، تنقيصاً للمرأة واهانة لها ، بل من جهة انها خلقت غير خشنة ، فلا تكلف بالاشياء التي تحتاج الى الخشونة ، كما ان الرجل خلق خشناً ، فيكون حمل الامور الخشنة عليه ،وقد مثلنا ، لذلك فى بعض كتبنا ، بقسمى السيارة ، وقسمى المعامل ، حيث ان السيارة المصنوعة لحمل المسافر غير المصنوعة لحمل الحديد ، فعدم حمل الحديد على سيارة المسافرين ليس اهانة وتنقيصاً بالنسبة اليها ، وكذلك عدم صنع الاشياء الخشنة ، فى المعامل اللطيفة ، ليس اهانة لها وتنقيصاً لقدرها ، وانها من باب وضع كل شيء موضعه ... كما ان اقلية ارث المرأة وديتها ، انما كانت لاجل ، ان الرجل مكلف بنفقة المرأة : بنتاً وزوجة واماً واختاً ، فحيث كلف الرجل بالنفقة ، جعل حطه أكثر .

اما لماذا كلف الرجل بالنفقة ؟ فلانه القادر على الاعمال الخشنة ، دون المرأه ، ويدل على ان للمرأة شأناً غير شأن الرجل ، انا نجد في العالم الغربي و الشرقي ( حيث يقولون بانهم ساووا بين الجنسين ، وحيث ان الطريق مفتوح امام المرأة، لنيل كل ما يتمكن الرجل من نيله) انه لم تصل المرأة إلى ما وصل اليه الرجل ، من الرئاسة ، والوزارة ، والسفارة ، وقيادة الجيش ، والاختراع والاكتشاف ، وما اشبه ، ولماذا لا ان عدم وصول المرأة الى تلك المناصب والامور :

اما لان فطرة المرأة لم تخلق لمثل هذه الشئون ؟ واما لان الرجل لم يدع لها مجالا ؟ واما لان القانون جار عليها ففرق بينهما ؟ لكن المفروض ان القانون يساوى بين الجنسين ، كما ان الطريق مفتوح امام كلا الجانبين ، فليس الاقضية

ص: 516

الفطرة ، والفطرة لم تكن جائرة ، ولولا المرأة كان الخلق ناقصاً ، كما انه لولا الرجل كان كذلك« ما ترى في خلق الرحمان من تفاوت »(1)وعلى المثل السابق لو لم تكن في البلاد السيارة الكبيرة كان البلد محتاجاً اليها ، كما انه اذا لم تكن فيها السيارة لاجل المسافرين ، كان البلد محتاجاً اليها .

لا يقال : ان افراداً من النساء وصلن الى الوزارة والرئاسة والاكتشاف لانه يقال : لماذا افراد ؟ أليس لو كانت الخلقة فيهما واحدة ، كان اللازم تساويهما ، ان لم تكن المرأة أكثر أفراداً - حيث انها اكثر عدداً من الرجل..

وبهذا تبين ان المراد( بأنهن نواقص) كما فى بعض الروايات ، يراد بالنقص ، عدم كونها بقدر الرجل ، لا النقص بمعنى عدم التمام فليس مثل المرأة والرجل ، مثل الانسان الذي له يد واحدة ، والانسان الذى له يدان ، حيث ان الاول ناقص، بل حالهما حال الحمام والبازي ، حيث ان صغر جثة الأول ، وعدم تزوده بالمخلب ليس نقصاً ، بل ان الاول أعطى كيلو أمن اللحم ولم يعط المخلب ، بينما أعطى الثاني كيلوين والمخلب ، قال سبحانه «فسالت أودية بقدرها » .

نظرة الاسلام الى المرأة

وبما ذكرنا يجمع بين الروايات الواردة التي يتوهم انها في ذم المرأة والروايات الواردة في مدحها ، والجمع يكون بقرينة الآيات والروايات الاخر مثل قوله سبحانه :« ولهن مثل الذي عليهن » (2).

وقوله سبحانه : « تبارك الله أحسن الخالقين »(3) .

وقوله سبحانه : « وصور كم فأحسن صوركم». (4)

وقوله سبحانه :« ان أكرمكم عند الله أتقاكم » (5).

ص: 517


1- سورة الملك / 4 .
2- سورة البقرة / 228.
3- سورة المؤمنون/ 15 .
4- سورة غافر / 67 .
5- سورة الحجرات / 14

وقوله سبحانه : « ماترى فى خلق الرحمان من تفاوت »(1) .

وقوله سبحانه : « سلام هى حتى مطلع الفجر »(2) الى غير ذلك .

فلا نقص في حقها ، وهى مشمولة كالرجل بأن الله مدح نفسه في خلقها فتبارك الله أحسن الخالقين فى خلق هذا وهذه ، وهى مصورة بأحسن صورة، والاتقى منهما اكرم عند الله، ولا نقص في خلقها فما ترى في خلق الرحمان من تفاوت ، وهي جائت الى الدنيا سلاماً كما جاء الرجل كذلك ، ولذا نجد الى جنب الرجال العظام نساءاً عظيمات ، كآدم وحواء ، وابراهيم وهاجر ، وموسی و آسیه ، و عیسی و مریم ، ومحمد وخديجة ، وعلى وفاطمة والحسنين والزينبين ، والصادق وام حسيدة ، والهادى وحكمية ، والمهدى ونرجس ، صلوات الله عليهم اجمعين .

والروايات التي يتصور انها في ذم المرأة ليست الا لجعلها في المكان اللائق بها، فاذا قال انسان ان سيارة المسافرين، قليلة الاجهزة، لاتقدر على نقل الحديد، ليست مهيأة للسير في الصحارى الخشنة والطرق الوعرة ، افهل يعد ذلك ذماً لتلك السيارة؟ ام انها لبيان واقعها حتى لا تحمل مالاطاقة لهابه، ثم لماذا الذم؟ هل الذم لخلقة الله ؟ وهل هى خلقت نفسها حتى تذم بفعلها الاختياري، ولا اختيار لها ؟ ام الذم على شيء ليس من صنعها ؟ وهل يذم الانسان على ماليس باختياره؟ وحيث لا يرجع الدم لا الى صنع الله، ولا الى ذاتها حيث انها لم تخلق نفسها لابد،

وان يكون المراد بيان حقيقتها، حتى لا تدخل في مجال ليس من مجالها .

وهذا الوجه جار في كثير من الروايات الواردة في الابواب المختلفة، مثل الواردة مما ظاهره (ذم الغنى) أو (ذم الفقر ) أو (ذم البكاء والندبة وما اشبه على الميت) و البحث حول المرأة طويل، لم نكن بصدد التعرض له الا الماعاً ، بالمناسبة لجعلها بمعزل عن قيادة الامة .

ص: 518


1- سورة الملك / 4 .
2- سورة القدر/5 .

فقد روي الشيخ الطوسي في الخلاف عن رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) : (لا يفلح قوم ولتهم امرأة ).

وروى الخصال عن الباقر علیه السلام انه قال: (... ولا تولي المرأة القضاء، ولاتلى الامارة).

(ط) وهل يشترط ان يكون القائد الذي تختاره الامة اعلم ممن سواه ، قال به بعض الفقهاء تبعاً لما ذكر جمع من اشتراط تقليد الاعلم .

والظاهر عندنا عدم الاشتراط ، تبعاً لما ذكرناه في التقليد من عدم وجود دليل كاف على لزوم ،الاعلمية، ولذا نفي اشتراطه غير واحد من الفقهاء مطلقاً كصاحبى المسالك والجواهر وغيرهما، أو في الجملة حتى ان في المسألة عشرة أقوال أو اكثر.

وقد فصلنا ادلة الطرفين في (كتاب التقليد) شرح العروة ، وان كان لاشك ان كونه اعلم افضل واللازم ان يكون المراد بالاعلم هنا، الاعلم بامور الدين والدنيا، لان الادارة بحاجة الى كليهما .

صفات اخرى للقائد

(ى) قد ذكر في جملة من الروايات ، بعض الصفات الاخر في القائد ، أو مطلقاً مما يمكن ان ينطبق الامر على القائد والظاهر ان اغلبها على سبيل الأفضلية وان كان من الممكن وجوب بعضها.

فعن علي عليه السلام في نهج البلاغة انه قال ايها الناس ان احق الناس بهذا الامر أقومهم عليه واعلمهم بأمر الله ، فان شغب شاغب استعتب وان ابي قوتل .

وعن الاحتجاج، عن رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) انه قال ماولت

ص: 519

امة قطن رجلا وفيهم من هو اعلم منه لم يزل امر هم سفالا حتى يرجعوا الى ماتركوا.

وقال امير المؤمنين (عليه السلام) كما في نهج البلاغة: وقد علمتم انه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والاحكام وامامة المسلمين البخيل فتكون في اموالهم تهمته ولا الجاني فيقطعهم بجفائه ولا الحائف للمدول فيتخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم ، فيذهب بالحقوق ويقف به دون المقاطع، ولا المعطل المسنة فيهلك الامة.

وفي الكافي عن الامام الباقر (عليه السلام) انه قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : لا تصلح الامامة الالرجل فيه ثلاث خصال، ورع يحجزه عن معاص الله، وحلم يملك به غضبه، وحسن الولاية على من يلي حتى يكون لهم كالاب الرحيم .

وفي الآية الكريمة : «وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ »(1) .

وفي آية اخرى :«فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ »(2).

وقال سبحانه :«فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ » (3).

وقال تعالى: ««وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)»»(4).

وقال تعالى: « «وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ »(5)«وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا »(6).

وقال تعالى-: في ذم بعض المصحابة -«عبس وتولى ان جائه الاعمى»(7) الايات مما يدل على ان اللازم ان لايكون المسلم كذلك فكيف بالقائد. وروى عن الامام امير المؤمنين (عليه السلام) انه قال: ولا تقبلن في استعمال

ص: 520


1- سورة هود / 113 .
2- سورة الاعراف/ 199 .
3- سورة آل عمران/ 159 .
4- سورة القلم / 4 .
5- سورة الانعام /52
6- سورة الكهف / 28 .
7- سورة عبس / 1

عمالك وامرتك شفاعة الا شفاعة الكفائة والامانة وقال رسول الله( صلى الله عليه و آله وسلم) كما تحف العقول: انا و الله لانولى هذا العمل احداً سأله او أحداً حرص عليه ، وعن الامامة والسياسة، ان ابن عباس توسط لنصب الامام (عليه السلام) طلحة و الزبير و اليين عنه (عليه السلام) في البصرة والكوفة ، فقال: ويحك ان العراقيين بهما الرجال والاموال ، و متى تملكا رقاب الناس ، يستميلا السفيه بالطمع، ويضر با الضعيف بالبلاء، ويقويا على القوى بالسلطان، ولو كنت مستعملا احداً لضره ونفعه لاستعملت معاوية على الشام، ولولا ما ظهر لي من حرصهما على الولاية لكان لي فيهما رأي .

وفي نهج البلاغة انه قال (عليه السلام) : ان شر وزرائك من كان للاشرار قبلك وزيراً ، ومن شركك في الاثام، فلا يكونن لك بطانة.

من

اقول : فاذا كان الافضل ترك مثل هذا الوزير كان ترك جعله قائداً للامة اولى، فيما اذا كان عادلا و الالم يصح نصبه لخروجه بشرط العدالة.

ومما تقدم ظهر لزوم اطلاع القائد على مجاري الزمان، فانه داخل في جملة الاطلاقات المتقدمة، هذا بالاضافة الى روايات خاصة : مثل ماقاله الصادق (عليه السلام) لمفضل رحمة الله عليه : العالم بزمانه لاتهجم عليه اللوابس( اى ما يوجب اللبس والشبهة حتى لا يعرف كيف يصنع و يوجب ذلك سقوطه في المشكلات).

وعن الوافي عن الامام الصادق (عليه السلام) انه قال: العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق لاتزيده سرعة السير من الطريق الابعداً .

الحاكم الاسلامى والاستشارة

كما ان اللازم على الحاكم الاسلامي كثرة الاستشارة، وفي القرآن الحكيم

ص: 521

آيات حول الاستشارة ، تقدمت جملة منها ، كما تقدمت ، بعض الروايات حول ذلك .

وقد استشار الرسول (صلى الله عليه و آله وسلم) حول امور متعددة في حروبه كما استشار علي (عليه السلام) في قضايا متعددة، وعن مجمع البيان في ذيل آية «والذين اجتنبوا الطاغوت »(1)انه روى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما من أحد يشاور أحداً الا هدى الى الرشد .

وقال على (عليه السلام)، كما في نهج البلاغة : فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند اهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة ولا تظنوا بي استثقالا في حق قيل لي ، ولا التماس اعظام لنفسي ، فانه من استثقل الحق ان يقال له او العدل ان يعرض عليه كان العمل بهما عليه اثقل ، فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل.

وعن شرح نهج البلاغة ان علياً عليه السلام قال لطلحة والزبير : ولو وقع حكم ليس في كتاب الله بيانه ولا في السنة برهانه لشاورتكما .

وعن المحاسن عن الباقر (عليه السلام )انه سأل عن رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) ما الحزم؟ قال : مشاورة ذوى الرأى واتباعهم .

وفي نهج البلاغة ، قال على (علیه السلام )لاغنى كالعقل، ولا فقر كالجهل، ولا ميراث كالادب، ولا ظهير كالمشاورة، وقال عليه السلام: من استبد برأيه هلك ومن شاور الرجال شاركها في عقولها ... الى غيرها من الروايات، لكن اللازم ان تكون المشورة ، بموازينها ، اذليس كل احد يستشار ، كما ليس في الاحكام الشرعية استشارة بل الاستشارة في امرين :

(1) في الاطارات ، بعد لزوم ان يكون المحتوى الادلة الاربعة .

(2) في التطبيقات فى مجلس الشورى والهيئة التنفيذية، والقوة القضائية

ص: 522


1- سورة الزمر / 20 .

ولاحق لهم في ان يستشيروا في حكم شرعي هل يجعلوه كما قاله الشارع اولا؟ ولا في تطبيق الحكم على الموضوع المتبين انه موضوع لذلك الحكم، فان حلال محمد( صلى الله عليه و آله و سلم) و حرامه لا يتغيران الى الابد .

وقد وردت روايات بالنسبة الى المشورة بصدد ما ذكرناه ، فقد قال على عليه السلام كما في نهج البلاغة : ولا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل و يعدك الفقر ، ولاجباناً يضعفك عن الامور ولا حريصاً يزين لك الشره بالجور ، فان البخل والجبن والحرص ، غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله .

اقول : لان البخيل يسيء الظن بان الله لا يكفيه اذا احتاج، والحريص يسىء الظن بالله ، بانه لا ينزل عليه رزقه والجبان يسيء الظن بالله بانه سبحانه لا ينصره اذا اقدم في الحق ...

و روى معاوية بن وهب ، عن الصادق (عليه السلام) انه قال : استشر في امرك الذين يخشون ربهم...

وروی سلیمان بن خالد عنه (عليه السلام )انه قال: استشر العاقل من الرجال الورع فانه لا يأمر الا بالخير ...

وروى الحلبى عنه (عليه السلام) انه قال: ان المشورة لا تكون الا بحدودها ، فمن عرفها بحدودها والا كانت مضرتها على المستشير اكثر من منفعتها له .

فأولها : ان يكون الذى تشاوره عاقلا.

الثانية: ان يكون حراً متديناً .

الثالثة: ان يكون صديقاً مؤاخياً.

والرابعة : ان تطلعه على سرك فيكون علمه به كعلمك بنفسك ، ثم يسر ذلك ويكتمه، فانه اذا كان عاقلا انتفعت بمشورته واذا كان حراً متديناً اجهد نفسه في

ص: 523

النصيحة لك واذا كان صديقاً مؤاخياً كتم سرك اذا اطلعته على سرك واذا كان علمه به کعلمك به تمت المشورة وكملت النصيحة.

الزهد... ضرورة ملحة للقائد

ومن الزم الصفات في القائد ان يكون زاهداً في الدنيا بطبعه، وذلك ينفع المجتمع من ناحية انه لا يطمع في اموالهم، ولا يفرط في تكثير الزوجات لنفسه فيذرها كالمعلقة لاذات بعل ولا مطلقة، ولا يفعل الشيء الدون للوصول الى السمعة الكبيرة والرئاسة العريضة، ومن ناحية ان وقته كله مصروف في خير العبادو انهاض البلاد، بينما الراغب يصرف كثيراً من وقته في شهواته.

وقد قال سبحانه : « ولا تمدن عينيك الى ما متعنا به ازواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا »(1).

ويروى عن المسيح (عليه السلام) انه قال الدنيا داء والعالم طبيب فاذار أيتم الطبيب يجر الداء الى نفسه فاتهموه .

وقال عليه السلام الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها - ومراده (عليه السلام )عمارة راغب في مقابل عمارة مسافر .

وفي نهج البلاغة كلمات للامام عليه السلام بهذا الشأن فقد قال (عليه السلام) الأوان لكل مأموم اماماً يقتدى به ويستضى بنور علمه الاوان امامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه الاوانكم لاتقدرون على ذلك ولكن اعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد .

وقال عليه السلام: اتأمروني ان اطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه والله ما اطور به ماسمر سمير ، وما ام نجم في السماء نجماً، لو كان المال لي لسويت بينهم وان المال مال الله ، الاوان اعطاء المال في غير حقه تبذير و اسراف وهو

ص: 524


1- سورة طه/ 132

يرفع صاحبه في الدنيا، ويضعه في الاخرة ، و يكرمه في الناس ويهينه عند الله.

وقال لبعض ولاته : واني اقسم بالله صادقاً لئن بلغنى انك خنت من فيء المسلمين شيئاً صغيراً او كبيراً لاشدن عليك شدة تدعك قليل الوفر ثقيل الظهر ضئيل الامر.

و روى عنه عليه السلام انه قال : ان الله جعلنى اماماً لخلقه ، ففرض علي التقدير في نفسي ومطمعى و مشربي وملبسي كضعفاء الناس كي يقتدى الفقير بفقري ولا يطغى الغنى غناه .

و قال (عليه السلام) : ان الله فرض على ائمة العدل ان يقدروا انفسهم بضعفة الناس كي لا يتبيغ بالفقير فقره ..

وروى عن رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم )انه قال: الفقر فخرى ، وقد ذكرنا وجهه في بعض المسائل .

بقى شيء : وهو ان الحاكم الاسلامي يتساوي في القانون الاسلامي مع غيره في العبادات والمعاملات والزواج والطلاق والحدود والديات والقصاص، وغير ذلك ، حتى انه اذا قتل جنيناً ولجته الروح حق لولي الجنين ان يقتله قصاصاً، اذا كان قتله ايا عمداً، واذا كانت له منازعة حضر مع طرفه عند القاضي ، ولو كان طرفه ذمياً، فموازين القضاء تطبق عليه كما تطبق على غيره، من غير فرق .

الحاكم الاسلامى والظلامات

واللازم عليه اغاثة الملهوف وقضاء الحوائج والاستماع الى الشكاوى ورد الظلامات ، والاكثر الفساد في البلاد ، ويئس الناس من العدل و بذلك يسقط عن العدالة، وكان اللازم عزله .

وقد ورد ان علياً عليه السلام عزل قاضيه (أبا الاسود الدؤلي) فلما اتاه ،

ص: 525

قال يا أمير المؤمنين لم عزلتني وما خنت وما جنيت ؟ قال عليه السلام : لانك يعلو صوتك صوت الخصمين، كما طلب عليه السلام واليه حيث اشتكت عليه عنده عليه السلام امرأة في قصة ذات مغزى كبيرة ولم يؤخر تأخير قصة شاكية على زوجها ، الى العصر حيث تبرد الهواء، بل رافقها الى دارها في الظهيرة واصلح بينهما ... فكيف بالسكوت على الظلم ، او مساعدة الظالم با بقائه ؟ ..

وقد كتب الامام السجاد( عليه السلام) الى احد الساكتين على الظالمين الموالين له (واعلم ان ادنى ما كتمت و اخف ما احتملت ان آنست وحشة الظالم وسهلت له طريق الغى ، بدنوك منه حين دنوت و اجابتك له حين دعيت فما اخوفني ان تكون تبوء بالمك غداً مع الخونة وان تسأل عما اخدت باعانتك على ظلم الظلمة انك اخذت ما ليس ل ممن اعطاك ودنوك ممن لم يرد على احد حقاً ولم ترد باطلا حين ادناك واجبت من حاد الله أوليس بدعائه اياك حين دعاك جعلوك قطباً ادار رأيك رحى مظالمهم وجسراً يعبرون عليك الى بلاياهم وسلماً الى ضلالتهم داعياً الى غيهم سالكاً سبيلهم يدخلون بك الشك على العلماء ويقتادون بك قلوب الجهال اليهم فلم يبلغ اخص وزرائهم ولا اقوى اعوانهم الا دون ما بلغت من اصلاح فسادهم و اختلاف الخاصة والعامة اليهم فما اقل ما اعطوك في قدر ما اخذوا منك وما ايسر ما عمروا لك الى جنب ما خربوا عليك ، فانظر لنفسك فانه لا ينظر لها غيرك وحاسبها حساب رجل مسئول) ..

ونختم هذه المسألة برواية رواها صاحب تحف العقول عن الامام الحسين عليه السلام ، قال : اعتبروا ايها الناس بما وعظ الله به اوليائه عن سوء ثنائه على الاحبار، اذ يقول: «لو لا ينهاهم الربانيون والاحبار عن قولهم الاثم»(1)؟ وقبل

ص: 526


1- سورة المائدة/ 69

«لعن الذين كفروا من بني اسرائيل (الى قوله) لبئس ما كانوا يفعلون»(1)، وانما عاب الله ذلك عليهم لانهم كانوا يرون من الظلمة الذين بين اظهرهم المنكر والفساد فلا ينهونهم عن ذلك رغبة فيما كانوا ينالون منهم ورهبة مما كانوا يحذرون ، والله يقول : فلا تخشوا الناس واخشون(2) ، وقال سبحانه : «المؤمنون والمؤمنات بعضم اولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر»(3)، فبدء الله بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة منه لعلمه بانها اذا اديت واقيمت استقامت الفرائض كلها هينها وصعبها..

وذلك ان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء الى الاسلام مع رد المظالم ومخالفة الظالم ، وقسمة الفيء والغنائم واخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقها ثم انتم ايتها العصابة عصابة بالعلم مشهورة وبالخير مذكورة وبالنصيحة معروفة ، وبالله في انفس الناس مهابة ، يهابكم الشريف ويكرمكم الضعيف ويؤثر كم من لافضل لكم عليه ولا يدلكم عنده تشفعون في الحوائج اذا امتنعت من طلابها، وتمشون في الطريق بهيبة الملوك وكرامة الاكابر اليس كل ذلك انما نلتموه بما يرجى عندكم من القيام بحق الله وان كنتم عن أكثر حقه تقصرون.

فاستخففتم بحق الامة ، فاما حق الضعفاء فضيعتم ، واما حقكم بزعمكم فطلبتم فلامالا بذلتموه، ولانفساً خاطرتم بها ، للذى خلقها، ولاعشيرة عاديتموها في ذات الله ، انتم تتمنون على الله جنته ومجاورة رسله ، واماناً عن عذابه لقد خشيت عليكم ايها المتنون على الله ان تحل بكم نقمة من نقماته، لانكم بلغتم من كرامة الله منزلة فضلتم بها ومن يعرف بالله لا تكرمون ، وانتم بالله في عباده تكرمون ، وقد ترون عهود الله منقوضة، فلا تفزعون ، وانتم لبعض ذمم آبائكم تفزعون ، وذمة رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم محقورة والعمى والبكم

ص: 527


1- سورة المائدة / 83 و 84
2- سورة المائدة/ 49
3- سورة التوبة / 73

والزمن فى المدائن مهملة لاترحمون ، ولا فى منزلتكم تعملون .

ولا من عمل فيها تعنون ، وبالادهان والمصانعة عند الظلمة تأمنون كل ذلك مما امركم الله به من النهى والتناهي ، وانتم عنه غافلون، وانتم اعظم الناس مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تشعرون .

ذلك بان مجارى الامور والاحكام على ايدي العلماء بالله الامناء على حلاله وحرامه ، فانتم المسلوبون تلك المنزلة ، وما سلبتم ذلك الابتفرقكم عن الحق و اختلافكم فى السنة بعد البينة الواضحة ، ولو صبرتم على الاذى وتحملتم المؤنة في ذات الله كانت امور الله عليكم ترد وعنكم تصدر ، واليكم ترجع، ولكنكم مكنتم الظلمة من منزلتكم واسلمتم امور الله فى ايديهم ، يعملون بالشبهات ويسيرون فى الشهوات سلطهم على ذلك فراركم من الموت واعجابكم بالحياة التي مفارقتكم .

فاسلمتم الضعفاء في ايديهم ، فمن بين مستعبد مقهور ، وبين مستضعف . على معيشته مغلوب ، ينقلبون فى الملك بآرائهم، ويستشعرون الخزى باهوائهم اقتداءاً بالاشرار وجرئة على الجبار ، في كل بلد منهم على منبره خطيب يصقع فالارض لهم شاغرة وايديهم فيها مبسوطة ، والناس لهم خول لايدفعون يدلامس فمن بين جبار عنيد ، وذى سطوة على الضعفة شديد ، مطاع لا يعرف المبدء المعيد فياعجبا ومالي لا اعجب ، والارض من غاش غشوم ومتصدق ظلوم ،و عامل على المؤمنين بهم غير رحيم ، فالله الحاكم فيما فيه تنازعنا ، والقاضي بحكمه فيما شجر بيننا ، اللهم انك تعلم انه لم يكن ما كان مناتنافساً في سلطان ولا التماساً من فضول الحطام ، ولكن لنرى المعالم من دينك ونظهر الاصلاح في بلادك ويأمن المظلومون من عبادك ، ويعمل بفرائضك وسننك واحكامك، فانكم ان لم تنصرونا وتنصفونا قويت الظلمة عليكم وعملوا في اطفاء نورنبيكم وحسبنا الله وعليه توكلنا ، واليه انبنا ، واليه المصير .

ص: 528

مسألة : 50 بین قوانین الله والقوانين البشرية

اشارة

لقد وضع الاسلام قوانين لامورستة :

(1) علاقة الانسان بربه .

(2) علاقة الانسان بنفسه .

(3) علاقة الانسان بالانسان .

(4) علاقة الانسان بالحيوان .

(5) علاقة الانسان بالنبات .

(6) علاقة الانسان بسائر الامور الطبيعية المخلوقة في الكون ، وقد وضع الاسلام لهذه الامور عشرات الألوف من القوانين، مما قد جمع جملة منها ، بعض الفقهاء فكانت أكثر من ربع مليون قانون - في الفقه فقط - دون قضايا العقيدة والاخلاق والاداب وما الى ذلك ... والقوانين التي قررها الله سبحانه اصلح من القوانين التي يضعها البشر لثلاثة امور :

(أ) ان الله عالم بحقيقة الانسان وحقيقة الكون، فيعلم الصالح من القوانين

ص: 529

من فاسدها، والانسان مهما كان نزيهاً ليس بمطلع على الحقائق ، ولذا نجده تمكن من الوصول الى القمر والى اعماق البحر ، حيث عرف حقائقهما في الجملة ، بينما لم يتمكن من وضع القانون لنفسه ، بحيث يتخلص من الفقر ، والجهل والمرض ، والفوضى والرذيلة، والحرب ، وما اشبه ذلك .

(ب) ان الله سبحانه لاتملى الشهوات عليه شيئاً ، ولذا يكون قانونه في صالح الانسان بما هو انسان ، اما البشر فمهما كان نزيهاً عند نفسه، تملى عليه الشهوات والاهواء والمجتمع ما يسبب تحريف قانونه الذي يضعه ، مما لا يصلح لكل البشر ، ولذا نجد المقننين في بلاد الشيوعية يضعون القانون في نفع ديكتاتورية الحكام ، والمقننين في البلاد الرأسمالية يضعون القانون في نفع الرأسماليين، وهكذا، ومن المعلوم ان كلتا الطريقتين خطاء، فالقانون المتولد منهما يكون خطاءاً لامحالة .

(ج) ان قانون الارض لايحترم حيث ان المنفذ له هو البوليس ، ولذلك لا يسيطر الاعلى بقع خاصة من المجتمع الظاهرة للبوليس، ولذا كثرت الجرائم والمفاسد في كل الأرض ، بينما قانون الله سبحانه يحترم من الاعماق ، حيث احترام المؤمن لله وخشيته منه ، ولذا ثقل الجرائم عند المتدينين ، ان لم تنعدم رأساً، وليس كذلك غير المتدينين حيث تكثر عندهم الجرائم، وعلى هذا فاللازم اتباع قوانين السماء، مع الغض عن الثواب والعقاب في الآخرة ، فان قوانين الاله اصلح بحال البشر ، اما اذا لوحظت الاخرة والجنة والنار، فالقوانين الالهية هي المنجية فقط، بينما في اتباع سائر القوانين العقاب والنكال .

كيف يمكن اجراء قوانين الاسلام ؟

وحيث ان تبديل قوانين الشرق والغرب التي غزت بلاد الاسلام بقوانين الإسلام أمر صعب من ناحية الاستنباط ، ومن ناحية التطبيق ، لانه قد حدث

ص: 530

في الاجتماع متغيرات كثيرة كلها بحاجة الى استنباط احكامها من الادلة الاربعة . كما ان وضع قانون السماء مكان قانون الارض امريحتاج الى مزيد الدراية والخبروية لئلا تحدث الفوضى في المجتمع ، فاللازم ان يستعين مجلس الشورى الاسلامي بمآت الخبراء والفنيين، في مختلف مجالات الحياة ، وبمآت العلماء الراشدين الفاقهين للدين عن اجتهاد واستنباط، فيقسم المجلس الى لجان لجنة للشئون الاقتصادية ، ولجنة للشئون الزراعية ، ولجنة للشئون التجارية ، ولجنة للشئون العسكرية، ولجنة الشئون الثقافية ، وهكذا ...

وبمعاونة القسمين من الخبراء خبراء الدين وخبراء الدنيا، يضعون القوانين المؤطرة بالاطار الديني والملائمة للتطبيق الدنيوي، ثم يطبقون تلك القوانين على الحياة ، بمعونة السلطتين التنفيذية والقضائية ...

وبدون ذلك لا يمكن تطبيق قوانين الاسلام بيسر ، ان سلم انه ممكن ولم نقل انه مستحيل ، فان صلاحية ذلك هى من شأن المجلس والمجلس وحده لا يقدر ، الابالاسلوب لذي ذكرناه .

ص: 531

أمير المؤمنين (عليه السلام) يضع مناهج الحكم

وملحقاً بهذه المسألة - حيث قد اشرف الكتاب على الانتهاء - نذكر جملة من كلمات علي عليه السلام المذكورة في نهج البلاغة ، المرتبطة بمختلف شئون الحكم ، لتكون نبراساً للذي يريد الاهتداء بهدي الامام عليه السلام في هذا الباب.

ومن المعلوم ان قول وفعل وتقرير الامام حجة حيث انها من السنة - التي هي احد الادلة الاربعة - وحيث ان الامام قد طبق حكم الاسلام ابان مزاولته للخلافة ، والله المستعان

العدل والظلم

قال عليه السلام:

*اما والذى فلق الحبة ، وبرأ النسمة ، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء الايقاروا على كظة ظالم ،ولاسغب ،مظلوم، لالقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولا لفيتم دنياكم

ص: 532

هذه أزهد عندي من عفطة عنز !

فيما اراد رده(عليه السلام) على المسلمين من قطائع عثمان

*والله لو وجدته قد تزوج به النساء، وملك به الاماء ، لرددته فان في العدل سعة. ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه اضيق !

* ولئن امهل الظالم فلن يفوت اخذه، وهو له بالمرصاد على مجاز طريقه وبموضع الشجا من مساغ ريقه

* ولقد اصبحت الامم تخاف ظلم ،رعاتها، وأصبحت اخاف ظلم رعيتي اتأمروني ان اطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه! والله لااطور به ماسمر سمير، وما ام نجم في السماء نجماً !

* أيها الناس أعينوني على أنفسكم، وايم الله لانصفن المظلوم من ظالمه ،ولاقودن الظالم بخزامه ، حتى أورده منهل الحق وان كان كارهاً.

* فهم أسراء ايمان لم يفكهم من ربقته زيغ ولا عدول ولاونى فحنوا بطول الطاعة اعتدال ظهورهم .

* وقسمها على الضيق والسعة فعدل فيها ليبتلي من أراد بميسورها ومعسورها، وليختبر بذلك الشكر والصبر من غنيها وفقيرها .

*ووسعهم عدله، وعدلت بلساني عن مدائح الادميين .

واجزه من ابتعاثك له مقبول الشهادة مرضي ،المقالة ذا منطق عدل، وخطبة فصل ، وحكمه العدل.

فاعلم أن أفضل عباد الله عند الله امام عادل هدي وهدى، فأقام سنة معلومة، وأمات بدعة مجهولة وان السنن النيرة، لها اعلام ، وان البدع لظاهرة، لها أعلام وان شر الناس عند الله امام جائر ضل وضل به فأمات سنة مأخوذة، وأحيا بدعة

ص: 533

متروكة . واني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه و آله وسلم) يقول : « يؤتى يوم القيامة بالامام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر، فيلقى في نار جهنم فيدور فيها كما تدور الرحى، تم يرتبط في عرها» .

* واقدموا على الله ،مظلومين ولا تقدموا عليه ظالمين .

الظلم ثلاثة

* ألا وان الظلم ثلاثة : فظلم لا يغفر ، وظلم لا يترك، وظلم مغفور لايطلب فأما الظلم الذي لا يغفر فالشرك بالله، قال الله تعالى : «ان الله لا يغفر أن يشرك به» (1)وأما الظلم الذي يغفر فظلم العبد نفسه عند بعض الهنات. وأما الظلم الذي لا يترك فظلم العباد بعضهم بعضاً. القصاص هناك شديد ليس هو جرحاً بالمدى ولا ضرباً بالسياط، ولكنه ما يستصغر ذلك معه.

* فالله الله في عاجل البغي و آجل وخامة الظلم ، وسوء عاقبة الكبر ، فانها مصيدة ابليس العظمى .

*فانظروا كيف كانوا حيث كانت الاملاء مجتمعة، والاهواء مؤتلفة، والقلوب معتدلة ،والايدى مترادفة، والسيوف متناصرة، والبصائر نافذة، والعزائم واحدة. ألم يكونوا أرباباً في أقطار الارضين ، وملوكاً على رقاب العالمين ! فانظروا الى ماصاروا اليه في آخر أمورهم، حين وقعت الفرقة، وتشتت الالفة، واختلفت الكلمة والافئدة، وتشعبوا مختلفين وتفرقوا متحاربين، قد خلع الله عنهم لباس كرامته، وسلبهم غضارة نعمته، وبقي قصص أخبارهم فيكم عبراً للمعتبرين .

* فاعتبروا بحال ولد اسماعيل وبني اسحاق وبني اسرائيل عليهم السلام . فما أشد اعتدال الاحوال، وأقرب اشتباه الامثال استعدوا للمسير الى قوم حيارى عن الحق لا يبصرونه، وموزوعين بالجور لا يعدلون به جفاة عن الكتاب، نكب

ص: 534


1- سورة النساء / 52

عن الطريق .

*الذي صدق في ميعاده ، وارتفع عن ظلم عباده ، وقام بالقسط في خلقه ،وعدل عليهم في حكمه .

* وكان الجور هواهما فمضيا عليه. وقد سبق استثناؤنا عليهما - في الحكومة بالعدل والصمد للحق - سوء رأيهما، وجور حكمهما .

* فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة ، ولا تخالطوني بالمصانعة ، ولا تظنوا بي استثقالا في حق قيل لي، ولا التماس اعظام لنفسي، فانه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه، كان العمل بهما أثقل عليه. فلا تكفوا عن مقالة بحق ، أو مشورة بعدل .

* والله لان أبيت على حسك السعدان مسهداً ، أو أجر في الاغلال مصفداً أحب الي من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد. وغاصباً لشيء من الحطام، وكيف أظلم أحداً لنفس يسرع الى البلى قفولها ، ويطول في الثرى حلولها ؟ !

قصته(عليه السلام) مع عقيل

* والله لقد رأيت عقيلا وقد أملق حتى استماحني من بركم صاعاً ، ورأيت صبيانه شعث الشعور ، غبر الالوان ، من فقرهم ، كأنما سودت وجوههم بالعظلم وعاودني مؤكداً ، وكرر علي القول مردداً ، فأصغيت اليه سمعي، فظن أني أبيعه ديني، وأتبع قياده مفارقاً طريقتي ، فأحميت له حديدة ، ثم ادنيتها من جسمه ليعتبر بها ، فضج ضجيج ذي دنف من ألمها، وكاد أن يحترق من ميسمها، فقلت له : ثكلتك الثواكل .

يا یا عقیل ! أتئن من حديدة أحماها انسانهاللعبه ، وتجرنى الى نار سجرها جبارها لغضبه ! أتئن من الأذى ولا أئن من لظى ؟ ! وأعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة فى وعائها، ومعجونة شنئتها ، كأنما عجنت بريق حية أوقيتها ، فقلت : أصلة ، أم زكاة ، أم صدقة ؟ فذلك محرم علينا أهل البيت! فقال : لاذا

ص: 535

ولاذاك ، ولكنها هدية .

فقلت : هبلتك الهبول ! أعن دين الله أتيتني لتخدعني ؟ أمختبط أنت أم ذو جنة أم تهجر ؟ والله لو أعطيت الاقاليم السبعة بما تحت افلاكها ، على أن أعصي الله فى نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته ، وان دنياكم عندي لاهون من ورقة في فم جرادة تقضمها ما لعلى ولنعيم يفنى ، ولذة لاتبقى نعوذ بالله من سبات العقل ، وقبح الزلل . وبه نستعين .

ظلم الضعيف عهده (عليه السلام) لمالك

وظلم الضعيف أفحش الظلم ! .

* ولا يكبرن عليك ظلم من ظلمك ، فانه يسعى فى مضرته ونفعك وليس جزاء من سرك أن تسوءه .

* وتركا الحق وهما يبصرانه ، وكان الجورهواهما ، ولاعوجاج رأيهما وقد طبق استثناؤنا عليهما في الحكم بالعدل والعمل بالحق سوء رأيهما وجور حكمهما .

* اللهم أيما عبد من عبادك سمع مقالتنا العادلة غير الجائرة ، والمصلحة غير المفسدة في الدين والدنيا .

*من عبد الله علي أمير المؤمنين، الى القوم الذين غضبوا الله حين عصى في أرضه وذهب بحقه ، فضرب الجور سرادقه على البر والفاجر ، والمقيم والظاعن.

* اذا رجفت الراجفة ، وحقت بجلائلها القيامة ، ولحق بكل منسك أهله ،وبكل معبود عبدته ، وبكل مطاع أهل طاعته ، فلم يجز في عدله وقسطه يومئذ خرق بصر في الهواء ، ولاهمس قدم في الارض الا بحقه .

* وكونا للظالم خصماً ، وللمظلوم عوناً .

*وان البغى والزوريو تغان المرء في دينه ودنياه، ويبديان خلله عند من يعيبه.

عهده (عليه السلام) لمالك

* ثم أعلم يا مالك ، أني قد وجهتك الى بلاد قد جرت عليها دول قبلك ، من عدل وجور ، وان الناس ينظرون من أمورك في مثل ماكنت تنظر فيه من

ص: 536

أمور الولاة قبلك ، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم، وانما يستدل على الصالحين بما يجرى الله لهم على السن عباده فليكن أحب الذخائر اليك ذخيرة العمل الصالح ، فاملك هواك ، وشح بنفسك عما لا يحل لك ، فان الشح بالنفس الانصاف منها فيما أحبت أو كرهت .

* وأشعر قلبك الرحمة للرعية ، والمحبة لهم ، واللطف بهم ، ، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم ، فانهم صنفان اما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق يفرط منهم الزلل .

*أنصف الله وأنصف الناس من نفسك . ومن خاصة أهلك ،ومن لك فيه هوى من رعيتك ، فانك الا تفعل تظلم ! ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده ، ومن خاصمه الله ادحض حجته ، وكان الله حربا حتى ينزع أو يتوب .

وليس شيء ادعى الى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من اقامة على ظلم فان الله سميع دعوة المضطهدين ، وهو المظالمين بالمرصاد .

* وليكن أحب الامور اليك أوسطها في الحق ، وأعمها في العدل واجمعها لرضى الرعية ، فان سخط العامة يجحف برضى الخاصة .

* ولا حريصاً يزين لك الشره بالجور ، فان البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله

* ان شر وزرائك من كان للاشرار قبلك وزيراً ، ومن شركهم في الاثام فلا يكونن لك بطانة ، فانهم أعوان الائمة ، واخوان الظلمة ، وأنت واجد منهم خیر الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم و آثامهم ، ممن لم يعاون ظالماً على ظلمه ، ولا آثماً على اثمه .

*وان أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد .

* وعما قليل تنكشف عنك أغطية الامور، وينتصف منك للمظلوم املك حمية أنفك ، وسورة حدك .

ص: 537

* وانما أنت أحد رجلين : اما امر سخت نفسك بالبذل في الحق ، ففيم احتجابك من واجب حق تعطيه ، أو فعل كريم تسديه أو مبتلى بالمنع ، فما أسرع كف الناس عن مسألتك اذا أيسوا من بذلك ! مع أن أكثر حاجات الناس اليك مما لامؤونة فيه عليك، من شكاة مظلمة، أو طلب انصاف في معاملة.

*أما بعد ، فاني خرجت من حيي هذا : اما ظالماً، واما مظلوماً، وأما باغياً واما مبغياً عليه . واني أذكر الله من بلغه كتابي هذا لما نفر الي ، فان كنت محسناً أعانني ، وان كنت مسيئاً استعتبنى .

* فاحذر الشبهة واشتمالها على لبستها ، فان الفتنة طالما أغدفت جلابيبها ، وأعشت الابصار ظلمتها .

* وقد عرفوا العدل ورأوه ، وسمعوه ووعوه ، وعلموا ان الناس عندنا في الحق أسوة ، فهربوا الى الأثرة فبعداً لهم وسحقاً !

* انهم - والله - لم ينفروا من جور ، ولم يلحقوا بعدل للظالم من الرجال ثلاث علامات : يظلم من فوقه بالمعصية ومن دونه بالغلبة ويظاهر القوم الظلمة .

علامات الظالم

* وأفضل من ذلك كله كلمة عدل عند امام جائر ليس من العدل القضاء على الثقة بالظن.

* والعدل منها على اربع شعب : على غائص الفهم ، وغور العلم وزهرة الحكم ورساخة الحلم فمن فهم علم غور العلم ومن علم غور العلم صدر عن شرائع الحكم ، ومن حلم لم يفرط في امره وعاش في الناس حميداً .

*بئس الزاد الى المعاد . العدوان على العباد . وبالسيرة العادلة يقهر المناويء «ان الله يأمر بالعدل والاحسان»(1) العدل : الانصاف ، والاحسان : التفضل .

*يوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم .

ص: 538


1- سورة النحل / 93

* أحلفوا الظالم اذا أردتم يمينه - بأنه بريء من حول الله وقوته ، فأنه اذا حلف بها كاذباً عوجل العقوبة ، واذا حلف بالله الذي لا اله الا هو لم يعاجل

لانه قد وحد الله تعالى...

*يوم العدل على الظالم أشد من يوم الجور على المظلوم !

* وقال عليه السلام لزياد بن أبيه وقد استخلفه لعبد الله ابن العباس على فارس وأعمالها ، في كلام طويل كان بينهما : -

استعمل العدل ، واحذر العسف والحيف فان العسف يعود بالجلاء والحيف يدعو الى السيف .

*من كفارات الذنوب العظام اغاثة الملهوف، والتنفيس عن المكروب .

الحق والباطل

اليوم انطق لكم العجماء ذات البيان ! عزب رأى امرىء تخلف عني ! ما شككت في الحق مذ أريته ! لم يوجس موسى عليه السلام خيفة على نفسه بل أشفق من غلبة الجهال ودول الضلال اليوم تواقفنا على سبيل الحق والباطل.

* من وثق بماء لم يظمأ !

* ولعمري ما علي من قتال من خالف الحق ، وخابط الغي ، من أدهان ولا ایهان .

* واني والله لاظن أن هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم ، وتفرقكم عن حقكم ، و بمعصيتكم امامكم فى الحق ، وطاعتهم امامهم في الباطل ...

ص: 539

* والله يميت القلب ويجلب الهم من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم ! .

* ألا وانه من لا ينفعه الحق يضره الباطل، ولا يدرك الحق الا بالجد!

*الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له ، والقوي عندي ضعيف حتى اخذ الحق منه .

الحق والباطل مزيحان

فلو ان الباطل خلص من مزاج الحق لم يخف على المرتادين ، ولو ان الحق خلص من لبس الباطل ، انقطعت عنه ألسن المعاندين، ولكن يؤخذ من هذا ضغث، ومن هذا ضغث، فيمزجان ! فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه وينجو «الذين سبقت لهم منا الحسنى»(1).

*وايم الله ، لا بقرن الباطل حتى أخرج الحق من خاصرته !

*فعند ذلك أخذ الباطل مآخذه ، وركب الجهل مراكبه، وعظمت الطاغية وقلت الداعية، وصال الدهر صيال السبع العقور ، وهدر فنيق الباطل بعد كظوم .

* ووالله ان جئتها اني للمحق الذي يتبع وان الكتاب لمعي ما فارقته مذ صحبته فلقد كنا مع رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)عليه واله وان القتل ليدور على الاباء والابناء والاخوان والقرابات فما نزداد على كل مصيبة وشدة الا ايماناً، ومضياً على الحق.

* أحملهم من الحق على محضه ، وان تكن الأخرى ، « فلا تذهب نفسك عليهم حشرات ان الله عليم بما يصنعون»(2) .

* فلا يبصرون الحق من الباطل يتموجون فيها موجاويمرجون فيها مرجاً .

* لا يؤنسنك الا الحق ولا يوحشنك الا الباطل .

* ايها الناس من عرف من أخيه وثيقة دين وسداد طريق ، فلا يسمعن فيه اقاويل الرجال اما انه قد يرمى الرامي وتخطىء السهام ويحيل الكلام وباطل

ص: 540


1- سورة الانبياء/ 102
2- سورة فاطر / 10

ذلك يبور ، والله سميع وشهيد . أما انه ليس بين الحق والباطل الا أربع أصابع :

ثم قال الباطل : أن تقول سمعت ، والحق ان تقول رأيت ! .

* فلا تنفروا من الحق نفار الصحيح من الاجرب ، والبارىء من ذى السقم . أيها الناس، لو لم تتخاذلوا عن نصر الحق، ولم تهنوا عن توهين الباطل لم يطمع فيكم من ليس مثلكم ، ولم يقو من قوى عليكم . لكنكم تهتم متاه بني اسرائيل . ولعمرى ، ليضعفن لكم التيه من بعدى أضعافاً بما خلفتم الحق وراء ظهوركم .

الذي يستحق الحاكم

أيها الناس ان احق الناس بهذا الامر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه فان شغب شاغب استعتب ، فان أبى قوتل ولعمرى ، لئن كانت الامامة لا تنعقد حتى يحضرها عامة الناس، فما الى ذلك سبيل .

ولا يحمل هذا العلم الا أهل البصر والصبر والعلم بمواضع الحق اخذ الله بقلوبنا وقلوبكم الى الحق ، وألهمنا واياكم الصبر !

* واخرجوا الى الله بما افترض عليكم من حقه فان جماعة فيما تكرهون من الحق ، خير من فرقة فيما تحبون من الباطل وان الله سبحانه لم يعط أحداً بفرقة خيراً ممن مضى ولا ممن بقى .

* وتركا الحق وهما يبصرانه ، وكان الجور هواهما ، والاعوجاج رأيهما وقد سبق استثناؤنا عليهما فى الحكم بالعدل والعمل بالحق سوء رأيهما وجور حكمهما . والثقة في ايدينا لانفسنا ، حين خالفا سبيل الحق .

فأنه من مات منكم على فراشه وهو على معرفة حق ربه وحق رسوله وأهل بيته مات شهيداً ووقع أجره على الله .

* عباد الله أوصيكم بتقوى الله فانها حق الله عليكم، والموجبة على الله

ص: 541

حقكم، وأن تستعينوا عليها بالله .

فوالذي لا اله الا هو اني لعلى جادة الحق ، وانهم لعلى مزلة الباطل .

رحم الله رجلا رأى حقاً فأعان عليه، أو رأى جوراً فرده وكان عوناً بالحق على صاحبه .

تبادل الحق بين الحاكم والامة

اما بعد، فقد جعل الله سبحانه لى عليكم حقاً بولاية أمركم، ولكم على من الحق مثل الذى لي عليكم، فالحق أوسع الاشياء في التواصف، وأضيقها في التناصف لا يجرى لاحد الإجرى عليه ، ولا يجرى عليه الأجرى له . ولو كان لاحد ان يجرى له ولا يجرى عليه لكان ذلك خالصاً لله سبحانه دون خلقه، لقدرته على عباده، ولعدله في كل ماجرت عليه صروف قضائه، ولكنه سبحانه جعل حقه على العباد أن يطيعوه، وجعل جزائهم عليه مضاعفة الثواب تفضلا منه، وتوسعاً بما هومن المزيد أهله.

* ثم جعل سبحانه من حقوقه حقوقاً افترضها لبعض الناس على بعض فجعلها تتكافأ في وجوهها ، و يوجب بعضها بعضاً، ولا يستوجب بعضها الا ببعض و اعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية ، و حق الرعية على الوالي ، فريضة فرضها الله - سبحانه لكل على كل فجعلها نظاماً لالفتهم، وعزاً لدينهم فليست تصلح الرعية الابصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة الا باستقامة الرعية فاذا أدت الرعية الى الوالي حقه، وأدى الوالي اليها حقها عز الحق بينهم ، وقامت مناهج الدين ، وقامت مناهج الدين ، و اعتدلت معالم العدل ، وجرت على اذلالها السنن ، فصلح بذلك الزمان ، وطمع في بقاء الدولة ، ويئست مطامع الاعداء. واذا غلبت الرعية واليها، أو اجحف الوالي برعيته، اختلفت هنالك الكلمة، وظهرت معالم الجور، وكثر الادغال في الدين، وتركت محاج السنن،

ص: 542

فعمل بالهوى، وعطلت الاحكام وكثرت علل النفوس، فلا يستوحش لعظيم حق عطل ، ولا لعظيم باطل فعل ! فهنالك تذل الابرار، وتعز الاشرار، وتعظم تبعات الله سبحانه عند العباد. فعليكم بالتناصح في ذلك، وحسن التعاون عليه فليس أحد وان اشتد على رضى الله حرصه، وطال في العمل اجتهاده - ببالغ حقيقة ما الله سبحانه أهله الطاعة له.

*ولكن من واجب حقوق الله على عباده النصيحة بمبلغ جهدهم، والتعاون على اقامة الحق بينهم. وليس امرؤ وان عظمت في الحق منزلته، وتقدمت في الدين فضيلته - بفوق ان يعان على ما حمله الله من حقه . ولا امرؤ - و ان صغرته النفوس، واقتحمته العيون بدون ان يعين على ذلك اويعان عليه .

اسخف حالات الولاة

ان من حق من عظم جلال الله سبحانه في نفسه، وجل موضعه من قلبه ، ان يصغر عنده لعظم ذلك كل ماسواه، وان احق من كان كذلك لمن عظمت نعمة الله عليه، ولطف احسانه اليه، فانه لم تعظم نعمة الله لاحد الا ازداد حق الله عليه عظماً وان من اسخف حالات الولاة عند صالح الناس أن يظن بهم حب الفخر، ويوضع امرهم على الكبر ، وقد كرهت أن يكون جال فى ظنكم اني احب الاطراء، واستماع الثناء، ولست - بحمد الله كذلك ، ولو كنت احب ان يقال ذلك لتركته انحطاطاً لله سبحانه عن تناول ماهو احق به من العظمة والكبرياء .

وربما استحلى الناس الثناء بعد البلاء، فلا تثنوا على بجميل ثناء، لاخراجی نفسى الى الله سبحانه واليكم من التقية فى حقوق لم أفرغ من أدائها، وفرائض لابد من امضائها، فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة، ولا تتحفظوا منى بما تتحفظ به عند أهل البادرة ، ولا تخالطونى بالمصانعة ، ولا تظنوا بی استثقالا

ص: 543

حق قيل لي ولا التماس اعظام لنفسى فانه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرص عليه، كان العمل بهما أثقل عليه. فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل فاني لست في نفسي بفوق أن أخطيء، ولا آمن ذلك من فعلي، الا أن يكفي الله من نفسى ماهو أملك به مني ، فانما أنا وأنتم عبيد مملوكون لرب لارب غيره، يملك مناما لانملك من أنفسنا واخرجنا مما كنا فيه الى ماصلحنا عليه ، فأبدلنا بعد الضلالة بالهدى واعطانا البصيرة بعد العمى .

* واعلموا رحمكم الله انكم فى زمان القائل فيه بالحق قليل ، واللسان عن الصدق كليل، واللازم للحق ذليل .

الا ومن اكله الحق فالى الجنة ، ومن اكله الباطل فالى النار . ولا المحق كالمبطل .

قول الحق واطاعته

فاسمعوا له وأطيعوا أمره فيما طابق الحق .

* وقولا بالحق.

من تعدى الحق ضاق مذهبه .

* والزم الحق من لزمه من القريب والبعيد، وكن في ذلك صابراً محتسباً، واقعاً ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع، وابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه ، فان مغبة ذلك محمودة فان المن يبطل الاحسان والتزيد يذهب بنور الحق .

* وانه لن يغنيك عن الحق شيء أبداً ، ومن الحق عليك حفظ نفسك والاحتساب على الرعية بجهدك .

* لنا حق ، فان اعطيناه ، والا ركبنا اعجاز الابل ، وان طال السرى .

* اتقوا ظنون المؤمنين ، فان الله تعالى جعل الحق على السنتهم .

ص: 544

فمن تعمق لم ينب الى الحق ، ومن كثر نزاعه بالجهل دام عماه عن الحق. وقال عليه السلام الراضى بفعل قوم كالداخل فيه معهم . وعلى كل داخل في باطل اثمان: اثم العمل به واثم الرضى به .

* ولم ينزل الكتاب للعبادعبئاً، ولا خلق السماوات والارض وما بينهما باطلا: «ذلك ظن الذين كفروا ، فويل للذين كفروا من النار »(1)

ولكن اطفاء باطل او احياء حق .

* أما بعد، فانما أهلك من كان قبلكم أنهم منعوا الناس الحق فاشروه و أخذوهم بالباطل فاقتدوه.

وقال عليه السلام : من قضى حق من لا يقضي حقه فقد عبده .

* وقال عليه السلام : ما شككت في الحق مذ أريته .

وقال عليه السلام : من أبدى صفحته للمحق هلك «لاحكم الا لله» : كلمة حق يراد بها باطل .

* وقال عليه السلام : ان الله في كل نعمة حقاً، فمن أداه زاده منها، ومن قصر فيه خاطر بزوال نعمته .

ان أسررتم علمه ، وان أعلنتم كتبه، قد وكل بذلك حفظة كراماً، لا يسقطون حقاً ، ولا يثبتون باطلا.

قد أعدوا لكل حق باطلا ، ولكل قائم مائلا ، ولكل حي قاتلا، ولكل باب مفتاحاً ، ولكل ليل مصباحاً

أوامره لعماله( باتباع العدل في الرعية)

ولقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة ، والاخرى

ص: 545


1- سورة ص / 27

المعاهدة، فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها ورعاثها، ماتمتنع منه الا بالاسترجاع والاسترحام ثم انصرفوا وافرین مانال رجلا منهم كلم، ولا أريق لهم دم، فلو أن امراً مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً، بل كان به عندي جديراً.

* وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والاجابة حين أدعو كم، والطاعة حين آمركم .

* اتقوا الله في عباده وبلاده فانكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم .

*ثم جعل - سبحانه - من حقوقه حقوقاً افترضها لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكافأ في وجوهها، ويوجب بعضها بعضاً، ولا يستوجب بعضها الاببعض.

واعظم ما افترض - سبحانه - من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي ، فريضة فرضها الله سبحانه - لكل على كل ،

فجعلها نظاماً لالفتهم ، وعزاً لدينهم، فليست تصلح الرعية الابصلاح الولاة ولا تصلح الولاة الاباستقامة الرعية ، فاذا أدت الرعية الى الوالي حقه ، وأدى الوالي اليها حقها عز الحق بينهم وقامت مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل، وجرت على أذلالها السنن، فصلح بذلك الزمان، وطمع في بقاء الدولة، ويئست مطامع الاعداء . واذا غلبت الرعية واليها، أو أجحف الوالي برعيته، اختلفت هنالك الكلمة، وظهرت معالم الجور، وكثر الادغال في الدين، وتركت محاج السنن ، فعمل بالهوى وعطلت الاحكام وكثرت علل النفوس ، فلايستوحش لعظيم حق عطل ، ولا لعظيم باطل فعل ! فهنالك تذل الابرار ، وتعز الاشرار ، وتعظم تبعات الله سبحانه عند العباد .

*وان عملك ليس لك بطعمة ولكنه فى عنقك أمانة، وأنت مسترعى لمن فوقك . ليس لك أن تفتات فى رعية ، ولا تخاطر الا بوثيقة.

ص: 546

* وأمره الايجبههم ولا يعضههم، ولا يرغب عنهم تفضلا بالامارة عليهم، فانهم الاخوان في الدين والاعوان على استخراج الحقوق.

الوالى الزاهد

ولو شئت لاهتديت الطريق ، الى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح ، ونسائج هذا القز. ولكن هيهات أن يغلبني هواى ، ويقودني جشعي الى تخير الاطعمة ، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له فى القرص ، ولاعهدله بالشبع او ابيت مبطاناً وحولى بطون غرثي واكباد حرى او أكون كما قال القائل :

وحسبك داءاً ان تبيت ببطنة*** وحولك اكباد تحن الى القد

أأقنع من نفسى بأن يقال : هذا أمير المؤمنين، ولا اشاركهم في مكاره الدهر، او أكون اسوة لهم فى جشوبة العيش !

* أما بعد، فانك ممن استظهر به على اقامة الدين ، واقمع به نخوة الاثيم ، واسد به لهاة الثغر المخوف. فاستعن بالله على ما اهمك ، واخلط الشدة بضغث من اللين، وارفق ما كان الرفق أرفق واعتزم بالشدة حين لاتغنى عنك الا الشدة، واخفض للرعية جناحك ، وابسط لهم وجهك، والن لهم جانبك، و آس بينهم في اللحظة والنظرة والاشارة والتحية، حتى لا يطمع العظماء في حيفك، ولا ييأس الضعفاء من ، عدلك والسلام.

اما بعد فان حقاً على الوالي الايغيره على رعيته فضل ناله، ولاطول خص به، وان يزيده ماقسم الله له من نعمه دنوا من عباده، وعطفاً على اخوانه.

هذا ما امربه عبد الله علي امير المؤمنين مالك بن الحارث الاشتر في عهده اليه، حين ولاه مصر : جباية خراجها ، وجهاد عدوها ، واستصلاح أهلها ،

ص: 547

وعمارة بلادها .

أمره بتقوى الله، وايثار طاعته واتباع ما أمر به في كتابه: من فرائضه وسننه، التي لا يسعد احد الاباتباعها، ولا يشقى الامع جحودها واضاعتها، وأن ينصر الله سبحانه بقلبه ويده ولسانه ، فانه جل اسمه ، قد تكفل بنصر من نصره ، واعزاز من اعزه .

وامره ان يكسر نفسه من الشهوات ، ويزعها عند الجمحات ، فان النفس امارة بالسوء، الا مارحم الله .

ثم اعلم يامالك انى قد وجهتك الى بلاد قد جرت عليها دول قبلك ، من عدل وجور ، وان الناس ينظرون من امورك فى مثل ما كنت تنظر فيه من امور الولاة قبلك، ويقولون فيك ماكنت تقول فيهم، وانما يستدل على الصالحين بما يجرى الله لهم على ألسن عباده ، فليكن احب الذخائر اليك ذخيرة العمل الصالح، فاملك هواك ، وشح بنفسك عما لا يحل لك ، فان الشح بالنفس الانصاف منها فيما احبت او كرهت واشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم اكلهم فانهم صنفان: اما اخ لك في الدين، او نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل .

وتعرض لهم العلل ، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضي أن يعطيك الله من عفوه وصفحه فأنك فوقهم ووالي الامر عليك فوقك ، والله فوق من ولاك ! وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم . ولا تنصين نفسك لحرب الله فأنه لا يد لك بنقمته ، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته ولا تندمن على عفو ، ولا تبجحن بعقوبة، ولا تسر عن الى بادرة وجدت منها مندوحة ولا تقولن : اني مؤمر آمر فأطاع فان ذلك ادغال في القلب، ومنهكة للمدين، وتقرب من الغير...

ص: 548

أنصف الله وانصف الناس من نفسك ، ومن خاصة اهلك، ومن لك فيه هوى من رعيتك فانك الا تفعل تظلم ! ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده ، ومن خاصمه الله ادحض حجته ، وكان الله حرباً حتى ينزع أو يتوب وليس شيء ادعى الى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من اقامة على ظلم ، فان الله سميع دعوة المضطهدين، وهو للظالمين بالمرصاد .

وليكن أحب الامور اليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل، وأجمعها الرضى الرعية فان سخط العامة يجحف برضى الخاصة، وان سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة . وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء ، وأقل معونة له في البلاء ، وأكره للانصاف ، وأسأل بالالحاف وأقل شكراً عند الاعطاء، وأبطأ عذراً عند المنع، وأضعف صبراً عند ملمات الدهر من اهل الخاصة وانما عماد الدين وجماع المسلمين، والعدة للاعداء العامة من الامة ، فليكن صغوك لهم، وميلك معهم .

وليكن ابعد رعيتك منك، وأشنأهم عندك، اطلبهم لمعائب الناس ، فأنفي الناس عيوباً، الوالي احق من سترها، فلا تكشفن عما غاب عنك منها ، فأنما عليك تطهير ما ظهر لك والله يحكم على ما غاب عنك فأستر العورة ما استطعت يستر الله منك ما تحب ستره من رعيتك. اطلق عن الناس عقدة كل حقد واقطع عنك سبب كل وتر، وتغاب عن كل ما لا يضح لك، ولا تعجلن الى تصديق ساع، فان الساعي غاش ، وان تشبه بالناصحين ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فان في ذلك تزهيداً لاهل الاحسان في الاحسان، وتدريباً لاهل الاساءة على الاساءة والزم كلا منهم ما الزم نفسه . واعلم انه ليس شيء بادعى الى حسن ظن راع برعيته من احسانه اليهم وتخفيفه المؤونات عليهم وترك استكراهه اياهم على ما ليس له قبلهم فليكن منك في ذلك امر يجتمع

ص: 549

لك به حسن الظن برعيتك فان حسن الظن يقطع عنك نصباً طويلا :واناحق من حسن ظنك به لمن حسن بلاءك ،عنده وان احق من ساء ظنك به لمن ساء بلاءك عنده .

ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الامة ، واجتمعت بها الالفة ،وصلحت عليها الرعية ولا تحدثن سنة تضر بشيء من ماضي تلك السنن فيكون الاجر لمن سنها، والوزر عليك بما نقضت منها .

واما بعد ، فلا يطولن احتجابك عن رعيتك ، فان احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق، وقلة علم بالامور ، والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير ، ويعظم الصغير ، ويقبح الحسن ويحسن القبيح ويشاب الحق بالباطل وانما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الامور وليست على الحق سمات تعرف بها ضروب الصدق من الكذب وانما انت احد رجلين . اما امرؤ سخت نفسك بالبذل فى الحق ففيم احتجابك من واجب حق تعطيه أو فعل كريم تسديه ! او مبتلى بالمنع ، فما اسرع ، فما اسرع كف الناس عن مسألتك اذا أيسوا من بذلك مع ان اكثر حاجات الناس اليك مما لا مؤونة فيه عليك من شكاة مظلمة او طلب انصاف في معاملة .

ثم ان الوالي خاصة وبطانة فيهم استئثار وتطاول وقلة انصاف في معاملة فاحسم مادة اولئك بقطع اسباب تلك الاحوال ولا تقطعن لاحد من حاشيتك وحامتك قطيعة، ولا يطمعن منك فى اعتقاد عقدة، تضر بمن يليها من الناس في شرب اوعمل مشترك يحملون مؤونته على غيرهم فيكون مهنأ ذلك لهم دونك وعيبه عليك في الدنيا والاخرة .

والزم الحق من لزمه من القريب والبعيد وكن فى ذلك صابراً محتسباً واقعاً ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع ، وابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه

ص: 550

فان مغبة ذلك محمودة .

وان ظنت الرعية بك حيفاً فأصحر لهم بعذرك ، وأعدل عنك ظنونهم بأصحارك ، فان في ذلك رياضة منك لنفسك ، ورفقاً برعيتك ، واعذاراً تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق .

يقلي يا علميان اياك والدماء وسفكها بغير حلها فانه ليس شيء ادنى النقمة ولا اعظم لتبعة

ولا احرى بزوال نعمة وانقطاع مدة من سفك الدماء بغير حقها والله سبحانه مبتدىء بالحكم بين العباد ، فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة ، فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام فان ذلك مما يضعفه ويوهنه بل يزيله وينقله ولا عذر لك عند الله ولاعندى في قتل العمد لان فيه قود البدن وان ابتليت بخطأ وافرط عليك سوطك اوسيفك اويدك بالعقوبة فان فى الوكزة فما فوقها مقتلة ، فلا تطمحن بك نخوة سلطانك عن ان تؤدي الى اولياء المقتول حقهم .

واياك والاعجاب بنفسك ، والثقة بما يعجبك منها ، وحب الاطراء ، فان ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه ليمحق ما يكون من احسان المحسنين .

واياك والمن على رعيتك باحسانك ، أو التزيد فيما كان من فعلك ، أو أن تعدهم فتتبع موعدك تخلفك فان المن يبطل الاحسان ، والتزيد يذهب بنور الحق ، والخلف يوجب المقت عند الله والناس . قال الله تعالى : «كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون»(1).

واياك والعجلة بالامور قبل أوانها ، أو التسقط فيها عند امكانها، أو اللجاجة فيها اذا تنكرت ، أو الوهن عنها اذا استوضحت . فضع كل أمر موضعه ، و أوقع كل أمر موقعه .

واياك والاستئثار بما الناس فيه اسوة والتغابي عما تعنى به مما قد وضح المعيون ، فانه ماخوذ منك لغيرك. وعما قليل تنكشف عنك اغطية الامور و

ص: 551


1- سورة الصف /3

ينتصف منك للمظلوم املك حمية أنفك، وسورة حدك ، وسطوة يدك وغرب لسانك ، واحترس من كل ذلك بكف البادرة وتأخير السطوة ، حتى يسكن غضبك فتملك الاختيار : ولن تحكم ذلك من نفسك حتى تكثر همومك بذكر المعاد الى ربك .

والواجب عليك أن تتذكر ما مضى لمن تقدمك من حكومة عادلة، أوسنة فاضلة ، أو أثر عن نبينا - صلى الله عليه و آله وسلم - أو فريضة في كتاب الله فتقتدي بما شاهدت مما عملنا به فيها، وتجتهد لنفسك في اتباع ما عهدت اليك في عهدي هذا ، واستوثقت به من الحجة لنفسي عليك ، لكيلا تكون لك علة عند تسرع نفسك الى هواها .

أما بعد ، فأقم للناس الحج ، وذكرهم بأيام الله ، واجلس لهم العصرين فأفت المستفتي وعلم الجاهل ، واذكر العالم . ولا يكن لك الى الناس سفير الالسانك ، ولاحاجب الا وجهك . ولا تحجبن ذا حاجة عن لقائك بها ، فانها ان ذيدت عن أبوابك في أول وردها لم تحمد فيما بعد على قضائها .

* ما تكفونني أنفسكم ، فكيف تكفونني غير كم ؟ ان كانت الرعايا قبلي لتشكو حيف رعاتها ، فانني اليوم لاشكو حيف رعيتي ، كانني المقود وهم القادة ، أو الموزوع وهم الوزعة .

طبقات الرعية

واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها الا ببعض ، ولا غنى ببعضها عن بعض : فمنها جنود الله ، ومنها كتاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل ، و

ص: 552

منها عمال الانصاف والرفق ، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة و مسلمة الناس ، ومنها التجار وأهل الصناعات ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة ، وكل قد سمی الله له سهمه ووضع على حده فريضة في كتابه أو سنة نبيه - صلى الله عليه و آله وسلم - عهداً منه عندنا محفوظاً .

فالجنود ، باذن الله ، حصون الرعية ، وزين الولاة ، وعز الدين ، وسبل الامن ، وليس تقوم الرعية الابهم . ثم لاقوام للجنود الا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به على جهاد عدوهم ويعتمدون عليه فيما يصلحهم ويكون من وراء حاجتهم ثم لاقوام لهذين الصنفين الا بالصف الثالث من القضاة و العمال والكتاب ، لما يحكمون من المعاقد ويجمعون من المنافع ويؤتمنون عليه من خواص الامور وعوامها . ولا قوام لهم جميعاً الا بالتجار وذوي الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم ويقيمونه من أسواقهم ويكفونهم من الترفق بأيديهم ما لا يبلغه رفق غيرهم . ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم . وفى الله لكل سعة ، ولكل على الوالي حق بقدر ما يصلحه وليس يخرج الوالي من حقيقة ما الزمه الله من ذلك الا بالاهتمام والاستعانة بالله وتوطين نفسه على لزوم الحق والصبر عليه فيما خف عليه أو ثقل .

الوزراء والمشاورون

ولاتدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر ولاجباناً يضعفك عن الامور ، ولا حريصاً يزين لك الشره بالجور، فان البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله .

ان شر وزرائك من كان للاشرار قبلك وزيراً ، ومن شركهم في الاثام فلا

ص: 553

يكونن ملك بطانة ، فانهم أعوان الائمة واخوان الظلمة، وانت واحد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم ، وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم و آثامهم ممن لم يعاون ظالماً على ظلمه ، ولا آثماً على اثمه ، أولئك اخف عليك مؤونة ، واحسن لك معونة ، وأحنى عليك عطفاً ، واقل لغيرك الفاً فاتخذ أولئك خاصة لخلواتك وحفلاتك ، ثم ليكن آثرهم عندك اقولهم بمر الحق لك ، واقلهم مساعدة فيما يكون منك مما كره الله لاوليائه، واقعاً ذلك من هواك حيث وقع والصق باهل الورع والصدق ، ثم رضهم على الايطروك ولا يبجحوك بباطل لم تفعله ، فان كثرة الاطراء تحدث الزهو وتدني من العزة .

واكثر مدارسة العلماء، ومناقشة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه امر بلادك واقامة ما استقام به الناس قبلك .

ثم امور من امورك لا بدلك من مباشرتها : منها اجابة عمالك بما يعيا عنه كتابك ، ومنها اصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك بما تحرج به صدور اعوانك . وامض لكل يوم عمله ، فان لكل يوم ما فيه .

*وقال عليه السلام : من استبد برأيه هلك ، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها .

وقال عليه السلام لعبد الله بن العباس ، وقد اشار عليه في شيء لم يوافق لك ان تشير على وارى ، فان عصيتك فاطعنى .

* فلا تكفوا عن مقالة بحق، او مشورة بعدل فانى لست في نفسى بفوق ان اخطي ولا امن ذلك من فعلي الا ان يكفى الله من نفسي ما هو املك به مني ، فانما انا وانتم عبيد مملوكون لرب لارب غيره يملك منا ما لانملك من انفسنا واخرجنا مما كنا فيه الى ما صلحنا عليه فابدلنا بعد الضلالة بالهدى واعطانا البصيرة بعد العمى .

فعند ذلك يكون السلطان بمشورة النساء و امارة الصبيان، وتدبير الخصيان!

ص: 554

* ولاظهير كالمشاورة .

* ولا مظاهرة اوثق من المشاورة.

*والاستشارة عين الهداية .

* ثم الصق بذوي المروءات والاحساب ، واهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة ، ثم أهل النجدة والشحاعة ، والسماحة فانهم جماع من الكرم وشعب من العرف . ثم تفقد من امورهم ما يتفقد الوالد ان من ولدهما ، ولا يتفاقمن في نفسك شيء قويتهم به، ولا تحقرن لطفاً تعاهدتهم به وان قل، فانه داعية لهم الى بذل النصيحة لك ، وحسن الظن بك ولا تدع تفقد لطيف امورهم اتكالاعلى جسيمها ، فان لليسير من لطفك موضعاً ينتفعون به ، وللجسيم موقعاً لا يستغنون عنه .

الكتاب

ثم انظر في حال كتابك ، فول على امورك خيرهم ، واخصص رسائلك التي تدخل فيها مكائدك واسرارك بأجمعهم لوجوه صالح الاخلاق ممن لاتبطره الكرامة ، فحيشيري بها عليك في خلاف لك بحضرة ملا ، ولا تقصر به الغفلة عن ايراد مكاتبات عمالك عليك ، و اصدار جواباتها على الصواب عنك ، فيما يأخذ لك ويعطي منك ، ولا يضعف عقداً اعتقده لك ولا يعجز عن اطلاق ما عقد عليك ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور ، فان الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره اجهل . ثم لا يكن اختيارك اياهم على فراستك واستنامتك وحسن الظن منك ، فان الرجال يتعرضون لفراسات الولاة بتصنعهم وحسن خدمتهم ، وليس وراء

ص: 555

ذلك من النصيحة والامانة شيء . ولكن اختبرهم بما ول-وا للصالحين قبلك ، فاعمد لاحسنهم كان في العامة أثراً ، واعرفهم بالامانة وجهاً ، فان ذلك دليل على نصيحتك الله ولمن وليت امره واجعل لرأس كل امر من امورك رأساً منهم لا يقهره كبيرها، ولا يتشتت عليه كثيرها ومهما كان في كتابك من عيب فتغابيت عنه الزمته .

القضاة

ثم اختر الحكم بين الناس أفضل رعيتك فى نفسك، ممن لاتضيق به الامور ولا تمحكه الخصوم ، ولا يتمادى في الزلة ولا يحصر من الفيء الى الحق اذا عرفه ، ولاتشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون اقصاه ، و أوقفهم في الشبهات، و آخذهم بالحجج ، وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصم و الخصم، وأصبرهم على تكشف الامور ، وأصر مهم عند اتضاح الحكم ، ممن لايزدهيه اطراء، ولا يستمليه اغراء واولئك قليل.

ثم أكثر تعاهد قضائه وافسح له في البذل مايزيل علته، وتقل معه حاجته الى الناس . وأعطه من المنزلة لديك مالا يطمع فيه غيره من خاصتك ، ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك فانظر فى ذلك نظراً بليغاً ، فان هذا الدين قد كان أسيراً فى أيدى الاشرار ، يعمل فيه بالهوى، وتطلب به الدنيا.

فى صفة من يتصدى للحكم بين الامة وليس لذلك

ان أبغض الخلائق الى الله رجلان رجل وكله الله الى نفسه، فهو جائر عن

ص: 556

قصد السبيل، مشغوف بكلام بدعة ، ودعاء ضلالة، فهو فتنة لمن افتتن به ضال عن هدى من كان قبله مضل لمن اقتدى به فى حياته وبعد وفاته حمال خطايا غیره، رهن بخطيئته.

ورجل قمش جهلا، موضع في جهال الامة، عاد في اغباش الفتنة عم بما في عقد الهدنة ، قد سماه أشباه الناس عالماً وليس به بكر فاستكثر من جمع ماقل منه خير مما كثر ، حتى اذا ارتوى من ماء آجن ، واكتثر من غير طائل، جلس بين الناس قاضياً ضامناً لتخليص ما التبسن على غيره فان نزلت به احدی المبهمات هيألها حشواً رثاً من رأيه ، ثم قطع به ، فهو من لبس الشبهات في مثل نسج العنكبوت لايدرى أصاب أم أخطأ ، فإن أصاب خاف ان يكون قد أخطأ وان اخطأ رجا أن يكون قد أصاب جاهل خباط جهالات ، عاش ركاب عشوات لم يعض على العلم بضرس قاطع . يذرو الروايات ذرو الريح الهشيم لاملى والله - باصدار ماورد عليه ولا اهل لما قرظ به، لا يحسب العلم في شيء مما انكره ولايرى أن من وراء ما بلغ مذهباً لغيره، وان اظلم عليه أمر اكتتم به لما يعلم من جهل نفسه ، تصرخ من جور قضائه الدماء ، وتعج منه المواريث الى الله أشكوا من معشر يعيشون جهالا ، ويموتون ضلالا، ليس فيهم سلعة أبور من الكتاب أذاتلى حق تلاوته، ولاسلعة أنفق بيعاً ولا أغلي ثمناً من الكتاب اذا حرف عن مواضعه،ولاعندهم أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر!

*سع الناس بوجهك و مجلسك و حكمك ، و اياك و الغضب فانه طيرة من الشيطان . و اعلم ان ما قربك من الله يباعدك من النار، وما باعدك من الله يقربك من النار .

*ان الخصومة قحماً .

*وقال عليه السلام : ليس من العدل القضاء على الثقة بالظن .

ومطالع رقم الهالات ان بیبا

ص: 557

فی ذم التصويب في الفتيا

ترد على احدهم القضية في حكم من الاحكام فيحكم فيها برأيه ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله، ثم يجتمع القضاة بذلك عند الامام الذى استقضاهم، فيصوب آراءهم جميعاً، والههم واحد! ونبيهم واحد و كتابهم واحد ! أفأمرهم الله - سبحانه - بالاختلاف فأطاعوه ! ام نهاهم عنه فعصوه ؟

أم أنزل الله سبحانه ديناً ناقصاً فاستعان بهم على اتمامه ام كانوا شركاء له، فلهم أن يقولوا، وعليه أن يرضى ؟ ام انزل الله سبحانه ديناً تاماً فقصر الرسول (صلى الله عليه و آله وسلم) عن تبليغه وأدائه، والله سبحانه يقول: «ما فرطنا في الكتاب من شيء »(1)و فيه تبيان لكل شيء ، وذكر ان الكتاب يصدق بعضه بعضاً ، وانه لا اختلاف فيه فقال سبحانه : « و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً »(2) ؟

*وقال عليه السلام من بالغ فى الخصومة اثم ومن مصر فيها ظلم، ولا يستطيع أن يتقى الله من خاصم.

العمال

ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختباراً ، ولا تولهم محاباة وأثرة، فانهما جماع من شعب الجور والخيانة . وتوخ منهم اهل التجربة والحياء، من أهل البيوتات الصالحة، والقدم في الاسلام المتقدمة ، فانهم أكرم أخلاقاً ، و اصح

ص: 558


1- سورة الانعام / 39
2- سورة النساء / 85

اعراضاً ، واقل فى المطامع اشراقاً، وأبلغ فى عواقب الامور نظراً .

ثم اسبغ عليهم الارزاق، فان ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجة عليهم ان خالفو أمرك أو ثلموا أمانتك .ثم تفقد أعمالهم، و ابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم ، فان تعاهدك في السر لامورهم حدوة لهم على استعمال الامانة ، والرفق بالرعية ، وتحفظ من الاعوان، فان احد منهم بسط يده الى خيانة اجتمعت بها عليه عندك اخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهداً ، فبسطت عليه العقوبة في بدنه ، وأخذته بما أصاب من عمله ، ثم نصبته بمقام المذلة ، ووسمته بالخيانة ، وقلدته عار التهمة.

التجاروذوى الصناعات

ثم استوص بالتجار و ذوى الصناعات ، وأوص بهم خيراً : المقيم منهم والمضطرب بماله ، والمترفق ببدنه ، فانهم مواد المنافع و أسباب المرافق ، و جلابها من المباعد والمطارح في برك وبحرك، وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها ولا يجترؤون عليها، فانهم سلم لاتخاف بائقته، وصلح لا تخشی غائلته .

وتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك . واعلم مع ذلك ان في كثير منهم ضيقاً فاحشاً وشحاً قبيحاً واحتكاراً للمنافع وتحكماً في البياعات، وذلك باب مضرة للعامة، وعيب على الولاة. فامنع من الاحتكار، فان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مَنَع منه .

و ليكن البيع بيعاً سمحاً : بموازين عدل ، و اسعار لا تجحف بالفريقين

ص: 559

من البائع والمبتاع . فمن قارف حكرة بعد نهيك اياه فنكل به ، وعاقبه في غیر اسراف .

و يبايع المضطرون، وقد نهى رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم) عن بيع المضطرين.

* وقال (عليه السلام) من اتجر بغير فقه فقد ارتطم في الربا.

المحرومون

ثم الله الله فى الطبقة السفلى من الذين لاحيلة لهم ، من المساكين والمحتاجين وأهل البؤسى والزمني ، فان في هذه الطبقة قانعاً ،ومعتراً، واحفظ الله ما استحفظك من حقه فيهم واجعل لهم قسماً من بيت مالك، وقسماً من غلات صوافي الاسلام في و كل قد استرعيت حقه، كل بلد ، فان للاقصى منهم مثل الذى للادنى ، فلا يشغلنك عنهم بطر ، فانك لا تعذر بتضييعك التافة لاحكامك الكثير المهم .

فلاتشخص همك عنهم ولا تصعر خدك لهم ، وتفقد أمور من لا يصل اليك منهم ممن تقتحمه العيون، وتحقره الرجال، ففرغ لاولئك ثقتك من اهل الخشية والتواضع فليرفع اليك امورهم ، ثم اعمل فيهم بالاعذار الى الله يوم تلقاه، فان هؤلاء من بين الرعية احوج الى الانصاف من غيرهم ، وكل فأعذر الى الله في تأدية حقه اليه وتعهد اهل اليتم وذوى الرقة فى السن ممن لا حيلة له ، ولا ينصب للمسألة نفسه وذلك على الولاة ثقيل، والحق كله ثقيل، وقد يخففه الله على أقوام اطلبو العاقبة فصبروا انفسهم، ووثقوا بصدق موعود الله لهم.

واجعل لذوى الحاجات منك قسماً تفرغ لهم فيه شخصك ، و تجلس لهم

ص: 560

، و تقعد عنهم مجلساً عاماً فتتواضع فيه لله الذي خلقك جندك و أعوانك من احراسك وشرطك ، حتى يكلمك متكلمهم غير متتعتع ، فاني سمعت رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم )يقول فى غير موطن«لن تقدس امة لا يؤخذ الضعيف فيها حقه من القوى غير متتعتع» .

ثم احتمل الخرق منهم والعي، ونح عنهم الضيق والانف يبسط الله عليك بذلك أكناف رحمته، ويوجب لك ثواب طاعته. وأعط ما اعطيت هنيئاً، وامنع في اجمال واعذار !

* وظلم الضعيف افحش الظلم

*وان لك في هذه الصدقة نصيباً مفروضاً ، وحقاً معلوماً، وشركاء اهل مسكنة وضعفاء ذوى فاقة وانا موفوك حقك ، فوفهم حقوقهم، والاتفعل فانك من اكثر الناس خصوماً يوم القيامة ، وبؤسى لمن خصمه عند الله الفقراء والمساكين والسائلون والمدفوعون والغارمون وابن السبيل ! ومن استهان بالامانة، ورتع في الخيانة، ولم ينزه نفسه ودينه عنها، فقد أحل بنفسه الذل والخزى فى الدنيا، وهو في الاخرة اذل واخزى . و ان اعظم الخيانة خيانة الامة ، وافظع الغش غش الائمة، والسلام .

فاخفض لهم جناحك ، والن لهم جانبك، وابسط لهم وجهك و آس بينهم في اللحظة والنظرة، حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم، ولا ييأس الضعفاء من عدلك عليهم فان الله تعالى يسائلكم معشر عباده عن الصغيرة من اعمالكم والكبيرة والظاهرة والمستورة ، فان يعذب فانتم اظلم، وان يعف فهو أكرم.

* واخفض للرعية جناحك وابسط لهم وجهك، وألن لهم جانبك و آس بينهم في اللحظة والنظرة ، والاشارة والتحية حتى لا يطمع العظماء في حيفك ، ولا ييأس الضعفاء من عدلك ، والسلام .

ص: 561

* واختطفت ما قدرت عليه من اموالهم المصونة لاراملهم وايتامهم اختطاف لذئب الازل دامية المعزى الكسيرة، فحملته الى الحجاز رحيب الصدر بحمله ، غير متأثم من اخذه كانك لا ابالغيرك - حدرت الى اهلك تراثك من ابيك وأمك ، فسبحان الله اما تؤمن بالمعاد؟ اوما تخاف نقاش الحساب ايها المعدود كان عندنا من أولى الالباب ، كيف تسيغ شراباً و طعاماً ، وأنت تعلم انك تأكل حزاماً وتشرب -، وتبتاع الاماء و تنكح النساء من اموال اليتامى والمساكين والمؤمنين والمجاهدين ، الذين أفاء الله عليهم هذه الاموال، واحرز بهم هذه البلاد

* الله الله في الايتام فلا تغبوا افواههم ، ولا يضيعوا بحضرتكم .

* أما بعد يا ابن حنيف: فقد بلغنى أن رجلا من فتية أهل البصرة دعاك الى مأدبة فأسرعت اليها تستطاب لك الالوان وتنقل اليك الجفان. وماظننت أنك تجيب الى طعام قوم عائلهم مجفو، وغنيهم مدعو. فانظر الى ما تقضمه .

من هذا المقضم ، فما اشتبه عليك علمه فالفظه ، وما ايقنت بطيب وجوهه فنل منه .

بیت المال كان(عليه السلام) يكتب الى عماله على الخراج

من عبد الله علي امير المؤمنين الى أصحاب الخراج :

أما بعد فان من لم يحذر ما هو صائر اليه لم يقدم لنفسه ما يحرزها . واعلموا ان ما كلفتم به يسير ، وان ثوابه كثير ، ولولم يكن فيما نهى الله عنه من: البغي

ص: 562

والعدوان عقاب يخاف لكان في ثواب اجتنابه مالا عذر في ترك طلبه.

فانصفوا الناس من انفسكم ، واصبروا الحوائجهم ، فانكم خزان الرعية ، ووكلاء الامة ، وسفراء الائمة . ولاتحشموا أحداً عن حاجته ، ولا تحبسوه عن طلبته، ولا تبيعن للناس فى الخراج كسوة شتاء ولاصيف، ولادابة يعتملون عليها، ولا عبداً ، ولا تضر بن احداً سوطاً لمكان درهم ، ولاتمسن مال احد من الناس ، مصل ولامعاهد ، الا ان تجدوا فرساً او سلاحاً يعدى به علی اهل الاسلام ، فانه لا ينبغي للمسلم ان يدع ذلك فى ايدى اعداء الاسلام، فيكون شوكة عليه .

ولا تدخروا انفسكم نصيحة ولا الجند حسن سيرة، ولا الرعية معونة، ولا دين الله قوة، وأبلوا في سبيل الله ما استوجب عليكم، فان الله سبحانه قد اصطنع عندنا وعندكم ان نشكره بجهدنا ، وان ننصره بما بلغت قوتنا، ولا قوة الا بالله العلي العظيم.

كان(عليه السلام)يكتبها لمن يستعمله على الصدقات

انطلق على تقوى الله وحده لاشريك له ، ولاتر وعن مسلماً ولا تجتازن عليه كارهاً، ولا تأخذن منه اكثر من حق الله فى ماله ، فاذا قدمت على الحى فانزل بمائهم من غير أن تخالط ،ابياتهم، ثم امض اليهم بالسكينة والوقار، حتى تقوم بينهم فتسلم عليهم ، ولا تخدج بالتحية لهم ، ثم تقول: عباد الله، ارسلني اليكم ولي الله وخليفته ، لاخذ منكم حق الله في اموالكم ، فهل الله في أموالكم من حق فتؤدوه الى وليه .

فان قال قائل : لا ،فلا تراجعه وان انعم لك منعم فانطلق معه من غير أن تخيفه او توعده او تعسفه او ترهقه فخذ ما اعطاك من ذهب او فضة ، فان كان له ماشية أو ابل فلاتدخلها الاباذنه، فان اكثر هاله فاذا اتيتها فلا تدخل عليها دخول متسلط

ص: 563

عليه ولاعنيف به ولاتنفرن بهيمة ولا تفزعنها ولاتسون صاحبها فيها، واصدع المال صدعين ثم خيره ، فاذا اختار فلاتعرضن لما اختاره . ثم اصدع الباقي ،صدعين ثم خيره فاذا اختار فلا تعرضن لما اختاره فلاتزال كذلك حتى يبقى مافيه وفاء لحق الله في ماله فاقبض حق الله منه، فان استقالك فاقله، ثم اخلطهما ثم اصنع مثل الذي صنعت اولا حتى تأخذ حق الله في ماله .

ولا تأخذن عوداً ولا هرمة ولا مكسورة ولامهلوسة ولاذات عوار، ولا تأمنن عليها الامن تثق بدينه، رافقاً بمال المسلمين حتى يوصله الى وليهم فيقسمه بينهم، ولاتوكل بها الاناصحاً شفيقاً واميناً حفيظاً، غير معنف ولا مجحف ، ولا ملغب ولا متعب.

ثم احدر اليناما اليناما اجتمع عندك نصيره حيث امر الله به ، فاذا اخذها امينك فا وعز اليه الا يحول بين ناقة وبين فصيلها ، ولا يمصر لبنها فيضر ذلك بولدها ، ولا يجهد نهار كوباً وليعدل بين صواحباتها في ذلك وبينها، وليرفه على اللاغب، وليستأن بالنقب والطالع ، وليوردها ما تمر به من الغدر، ولا يعدل بها عن نبت الارض الى جواد الطرق وليروحها في الساعات وليمهلها عند النطاف والاعشاب حتى تأتينا باذن الله بدناً ،منقيات غير متعبات ،ولا مجهودات، لنقسمها على كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه و آله وسلم- فان ذلك أعظم لاجرك ، وأقرب لرشدك ، ان شاء الله

ص: 564

قاله(عليه السلام) لما عوتب على التسوية في العطاء

اتأمروني ان اطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه؟ والله لااطور به ماسمر ير ، وما أم نجم في السماء نجماً لو كان المال لي لسويت بينهم، فكيف وانما المال مال الله الاوان اعطاء المال في غير حقه تبذير و اسراف، وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في الآخرة، ويكرمه في الناس ويهينه عند الله .

ولم يضع امرؤ ماله فى غير حقه ولاعند غير اهله الاحرمه الله شكرهم وكان لغيره ودهم فان زلت به النعل يوماً فاحتاج الى معونتهم فشر خليل والام خدين .

*کلم به عبدالله بن زمعة وهو من شيعته، وذلك أنه قدم عليه في خلافته يطلب منه مالا .

فقال عليه السلام :

ان هذا المال ليس لي ولالك وانما هو فيء للمسلمين ، وجلب اسيافهم ، فان شركتهم في حربهم ، كان لك مثل حظهم ، والافجناة ايديهم لاتكون لغير افواههم.

*والله لان ابيت على حسك السعدان مسهداً ، أو اجر فى الاغلال مصفداً، أحب الي من ان القى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، وغاصباً لشيء من الحطام، وكيف أظلم احداً لنفس يسرع الى البلى قفولها، ويطول في الثرى حلولها ؟!

والله لقد رأيت عقيلا وقد أملق حتى استماحني من بركم صاعاً ، ورأيت صبيانه شعث الشعور غبر الالوان من فقرهم ، كأنما سودت وجوههم بالعظلم،

ص: 565

وعاودني مؤكداً، وكرر علي القول مردداً ، فأصغيت اليه سمعي، فظن اني ابيعه ديني، واتبع قياده مفارقاً طريقتي، فأحميت له حديدة، ثم ادنيتها من جسمه ليعتبر بها، فضح ضجيج ذى دنف من المها ، وكاد ان يحترق من ميسمها ، فقلت له : ثكلتك الثواكل ياعقيل اتئن من حديدة احماها انسانها للعبه ، وتجرنى الى نار سجرها جبارها لغضبه اتثن من الأذى ولا ائن من لظى ؟!

ولا ينبغي لي ان ادع الجند والمصروبيت المال وجباية الارض والقضاء بين المسلمين والنظر في حقوق المطالبين.

كتب عليه السلام الى بعض العمال

واني اقسم بالله قسماً صادقاً لئن بلغني انك خنت من فيء المسلمين شيئاً صغيراً او كبيراً، لاشدن عليك شدة تدعك قليل الوفر، ثقيل الظهر ضئيل الامر والسلام .

وصيته عليه السلام الى بعض عماله

فدع الاسراف مقتصداً ، واذكر فى اليوم غداً ، وأمسك من المال بقدر ضرورتك وقدم الفضل ليوم حاجتك . اترجو أن يعطيك الله اجر المتواضعين وانت عنده من المتكبرين او تطمع وانت متمرغ في النعيم، تمنعه الضعيف والأرملة - ان يوجب لك ثواب المتصدقين ؟ وانما المرء مجزى بما أسلف وقادم على ما قدم ، والسلام .

أمره بتقوى الله فى سرائر امره وخفيات عمله، حيث لاشهيد غيره ، ولا وكيل دونه وامره الا يعمل بشيء من طاعة الله فيما ظهر فيخالف الى غيره فيما

ص: 566

اسر ، ومن لم يختلف سره وعلانيته وفعله ومقالته ، فقد ادى الامانة، واخلص العبادة .

وأمره الا يجبههم ولا يعضههم ، ولا يرغب عنهم تفضلا بالامارة عليهم ،فانهم الاخوان في الدين ، والاعوان على استخراج الحقوق..

* وان لك في هذه الصدقة نصيباً مفروضاً ، وحقاً معلوماً وشركاء اهل مسكنة وضعفاء ذوى فاقة ، وانا موفوك حقك ، فوفهم حقوقهم ، والا تفعل فأنك من اكثر الناس خصوماً يوم القيامة وبؤسي لمن خصمه عند الله الفقراء والمساكين والسائلون والمدفوعون والغارمون وابن السبيل ومن استهان بالامانة، ورتع فى الخيانة ، ولم ينزه نفسه ودينه عنها فقد أحل بنفسه الذل والخزى في الدنيا وهو في الاخرة اذل وأخزى .

وان أعظم الخيانة خيانة الامة، وأفظع الغش غش الائمة، والسلام .

* أما بعد، فقد بلغني عنك أمر عنك أمر ، ان كنت فعلته فقد أسخطت ربك، وعضيت امامك ، وأخزيت أمانتك بلغني أنك جردت الارض فأخذت ما تحت قدميك وأكلت ماتحت يديك ، فأرفع الي حسابك ، واعلم ان حساب الله أعظم من حساب الناس والسلام .

* أما بعد، فأنى كنت أشركتك فى امانتي، وجعلتك شعارى وبطانتي ولم یکن رجل من اهلي أوثق منك فى نفسى لمواساتي وموازرتي واداء الامانة الي، فلما رأيت الزمان على ابن عمك قد كلب والعدو قد حرب وأمانة الناس قد خزيت وهذه الامة قد فنكت وشغرت قلبت لابن عمك ظهر المجن ففارقته مع المفارقين ، وخذلته مع الخاذلين ، وخنته مع الخائنين ، فلا ابن عمك آسيت ولا الامانة أديت .

وكانك لم تكن الله تريد بجهادك ، وكانك لم تكن على بينة من ربك ،

ص: 567

وكانك انما كنت تكيد هذه الامة عن دنياهم، وتنوي غرتهم عن فيئهم ، فلما أمكنتك الشدة فى خيانة الامة اسرعت الكرة ، وعاجلت الوثبة واختطفت ما قدرت عليه من أموالهم المصونة لاراملهم وأيتامهم اختطاف الذئب الازل دامية المعزى الكسيرة فحملته الى الحجاز رحيب الصدر بحمله غير متأثم من اخذه كانك- لا ابا لغيرك - حدرت الى اهلك تراثك من ابيك وامك، فسبحان الله !

اما تؤمن بالمعاد ؟ او تخاف نقاش الحساب ايها المعدود كان عندنا من اولى الالباب، كيف تسيغ شراباً وطعاماً وأنت تعلم انك تأكل حراماً وتشرب حراماً وتبتاع الاماءو تنكح النساء من أموال اليتامى والمساكين والمؤمنين والمجاهدين الذين افاء الله عليهم هذه الاموال وأحرز بهم هذه البلاد فاتق الله واردد الى هؤلاء القوم اموالهم ، فأنك ان لم تفعل ثم أمكنني الله منك لاعذرن الى الله فيك، ولاضربنك بسيمى الذي ما ضربت به احداً الا دخل النار .

ووالله لو ان الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلت ، ما كانت لهما عندي هوادة ، ولا ظفرا مني بأرادة ، حتى آخذ الحق منهما ، وازيح الباطل عن مظلمتهما، وأقسم بالله رب العالمين ما يسرنى ان ما اخذته من أموالهم حلال لي، أتركه ميراثاً لمن بعدي ، فضح رويداً ، فكأنك قد بلغت المدى، ودفنت تحت الثرى ، وعرضت عليك اعمالك بالمحل الذي ينادى الظالم فيه بالحسرة ويتمنى المضيع فيه الرجعة،« ولات حين مناص!»(1)

كتب عليه السلام الى مصقلة وهو عامله على اردشير خرة .

بلغني عنك امر ان كنت فعلته فقد اسخطت الهك ، وعصيت امامك : انك تقسم فيء المسلمين الذي حازته رماحهم وخيولهم، وأريقت عليه دمائهم

ص: 568


1- سورة ص / 38

فيمن اعتامك من أعراب قومك .

فو الذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة، لئن كان ذلك حقاً لتجدن لك علي هو اناً ولتخفن عندي ميزاناً ، فلا تستهن بحق ربك ، ولا تصلح دنياك بمحق دينك ، فتكون من الاخسرين أعمالا .

* ألا وان حق من قبلك وقبلنا من المسلمين في قسمة هذا الفيء سواء: يردون عندي عليه ، ويصدرون عنه .

*وتفقد امر الخراج بما يصلح اهله ، فان في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم ، ولاصلاح لمن سواهم الابهم ، لان الناس كلهم عيال على الخراج واهله .

وليكن نظرك في عمارة الأرض ابلغ من نظرك في استجلاب الخراج ، لان ذلك لا يدرك الا بالعمارة ، ومن طلب الخراج بغير عمارة اخرب البلاد، واهلك العباد ، ولم يستقم امره الا قليلا . فان شكوا ثقلا أو علة ، او انقطاع شرب او بالة ، او احالة ارض اغتمرها غرق ، او اجحف بها عطش ، خففت عنهم بما ترجو ان يصلح به امرهم ، ولا يثقلن عليك شيء خففت به المؤونة عنهم ، فانه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك ، وتزيين ولايتك، مع استجلابك حسن ثنائهم ، وتبجحك باستفاضة العدل فيهم ، معتمداً فضل قوتهم بماذخرت عندهم من اجمامك لهم ، والثقة منهم بماعودتهم من عدلك عليهم ورفقك بهم، فربما حدث من الأمور ما اذا عولت فيه عليهم من بعد احتملوه طيبة انفسهم به، فان العمر ان محتمل ما حملته وانما يؤتى خراب الأرض من اعواز اهلها وانما يعجز أهلهالاشراف انفس الولاة على الجمع وسوء ظنهم بالبقاء وقلة انتفاعهم بالعبر .

ص: 569

كتب عليه السلام الى قثم بن العباس ، وهو عامله على مكة

وانظر الى ما اجتمع عندك من مال الله فاصرفه الى من قبلك من ذوي العيال والمجاعة ، مصيباً به مواضع الفاقة والخلات وما فضل عن ذلك فأحمله الينا لنقسمه فيمن قبلنا .

وروي انه عليه السلام رفع اليه رجلان سرقا من مال الله احدهما عبد من مال الله ، والاخر من عروض الناس .

فقال عليه السلام : اما هذا فهو من مال الله ولا حد عليه ، مال الله اكل بعضه بعضاً ، واما الاخر فعليه الحد الشديد . فقطع يده .

وكتب عليه السلام الى عامل له

وان عملك ليس لك بطعمة ولكنه فى عنقك امانة ، وانت مسترعى لمن فوقك ليس لك أن تفتات في رعية ، ولا تخاطر الا بوثيقة وفي يديك مال من مال الله عز وجل ، وانت من خزانه حتى تسلمه الى ، ولعلي الا اكون شرولاتك لك ، والسلام .

ص: 570

مسألة : 51 حكم الاقليات في البلاد الاسلامية

قد تقدمت في بعض مسائل الكتاب الماعات الى احكام الاقليات القاطنين في بلاد الاسلام، وقد قلنا ان الاقليات غير الاسلامية محترمون نفساً ومالاوعرضاً اذا وفوا بشروط الذمة مما ذكرناها في كتاب الفقه الجهاد حيث ان الاسلام لا يتعرض لهم بسوء ويدافع عنهم ....

فالاسلام لا يجبر احداً على الدخول في الاسلام، ولذا قال سبحانه: «لا اکراه في الدين »(1).

وقال سبحانه:« فان حاجوك فقل اسلمت وجهى لله ومن اتبعن، وقل للذين اوتوا الكتاب والاميين أأسلمتم؟ فان اسلموا فقد اهتدوا، وان تولوا فانما عليك البلاغ والله بصير بالعباد»(2) فليس شأن الرسول صلى الله عليه و آله وسلم مع اهل الكتاب ومع المشركين الا الدعوة.

وقال سبحانه: «ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي احسن ».(3)

و قال تعالى : « ولا تجادلوا اهل الكتاب الا بالتي هي احسن الا الذين

ص: 571


1- سورة البقرة / 258
2- سورة آل عمران / 19 و 20.
3- سورة النحل / 177

ظلموا منهم و قولوا آمنا بالذى انزل الينا وانزل اليكم والهنا والهكم واحد ونحن له مسلمون»(1) .

وقال سبحانه: « واذا قيل لهم اتبعوا ما انزل الله قالوا بل نتبع ما الفينا عليه آبائنا اولوكان آبائهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون؟»(2) .

وعليه فهم احرار في قبول الاسلام وعدم قبوله، وان كان عدم قبولهم يؤدي بهم الى مشاكل الدنيا والاخرة ومن اعرض عن ذكرى فان له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة اعمى فاذا لم يقبلوا تركو او شأنهم، واذا كان الاسلام يحارب الحكومات الكافرة ، لاجل اعطاء الحرية للامم حيث ان حكومة الكفر، عبارة اخرى عن الاستعباد.

فان الاسلام «يضع عنهم اصرهم والاغلال التي كانت عليهم»(3) على الشروط الاسلامية ، كما امر الاسلام بمدارات الكافرين غير المحارب.

فقد قال سبحانه: «لاينها كم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين و لم يخرجوكم من دياركم ان تبروهم وتقسطوا اليهم ان الله يحب المقسطين» (4)..

و اذا قبلوا الاسلام كان لهم ما لغيرهم من المسلمين، فان المسلمين كاسنان المشط لافرق بين جديدهم ، وقديمهم ، ولغاتهم ، وأقوامهم، وانما اكرمهم عند الله اتقاهم...

وتفصيل الكلام في ذلك موكول الى الكتب الفقهية والتاريخية والتفسيرية حيث تبين الاحكام، وتبين سيرة الرسول صلى الله عليه و آله وسلم وعلي عليه السلام بالنسبة الى الاقليات .

وهذا آخر ما اردنا ايراده في هذا الكتاب واسأله سبحانه ان يتقبله بقبول حسن ويجعله مقدمة.

(1) لتطبيق حكم الاسلام على الف مليون مسلم في ظل حكومة اسلامية واحدة.

ص: 572


1- سورة العنكبوت / 46
2- سورة البقرة / 166
3- سورة الاعراف/ 157
4- سورة الممتحنة / 9 .

( 2 ) و لهداية غير المسلمين الى الاسلام انه لما يشاء قدير ، وهو الموفق المستعان .

سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد و آله الطيبين الطاهرين.

محمد بی المهدى الحسيني الشيرازى

ص: 573

الفهرست

تمهيد ...5

مسألة : العناصر الثلاثة للحكومة ...7

غنى الجماعات الصغيرة عن الحكومة....9

مسألة : 2 الحكومة والجماعة الكبيرة ...11

اختلاف المواهب والاهواء و الاستجابة ...12

1 المواهب 2 - الاهواء3 الاستجابة الجسدية والنفسية ....12-13

خطأ الماركسية ...14

وجوب تقديم الاسلام ...15

أسباب تعقد الحكومات المعاصرة ...15

1 - استيعاب الأقوام المختلفة ...15

2- تقدم العلم والصناعة ...16

3- التحول الدائم في المجتمع ...16

خطأة الحكومات المعاصرة ...17

نتائج زيادة المؤسسات ...18

ص: 574

جمود الموظفين ...20

جمود المجتمع ...21

مسألة 3: تدخل الحكومة في الشئون الشخصية ...22

تأميم التجارة ...24

خطاء استيلاء الدولة على الاعمال...26

أدلة جواز التسعير ...27

مسألة : 4 لا دكتاتورية في الاسلام...29

دكتاتورية الرأسمالية ...30

نتائج انانية الحكام...31

الشعوب تعرف المرارات ...32

مسألة:5 السياسة من صميم الاسلام ....34

ماهي السياسة ؟ ...34

تهلهل حدود السياسة ...35

اطلاقات النسبية ...36

نصوص شرعية عامة ...37

نصوص خاصة ...38

الانبياء سياسيون....39

واجب العالم الديني ....40

مسألة : 6 الاضطلاع بالسياسة واجب ...41

الدين العلمي والعملي ....43

جولة الباطل ....44

السياسة في الرأسمالية ...45

ص: 575

وفي النظرة الماركسية ...45

تقسيم الادوار المزيف ...46

تفنيد الادوار الاربعة ...48

ارتباط الحقوق بالسياسة...49

الادلة الاربعة فقط المصدر للدستور ...51

انتهاك الساسة للنظم الحقوقية ...52

على السياسى التدقيق في المجتمع...53

الارتباط بين السياسة وبين علم الاجتماع...54

تبادل الاحتياج بين العالمين...54

الارتباط بين علم النفس والسياسة....55

جوهر النفس يؤثر فى امور أربعة...56

احتياج السياسي الى التاريخ ...57

المعرفة الفقهية ....57

التاريخ والسياسة ...58

معرفة تاريخ استيعابي ...58

ترجمة التاريخ وتطبيقه ...60

مسألة: 7 السياسة علم وفن ومعرفة ...62

تركيز اسرائيل لانعدام الوعى السياسي...63

ميزان العلم الثلاث ...65

الرؤية المستقبلة ...67

انعدام الرؤية للمستقبل...68

الانقاذ من الخرافة والمشكلة...68

ص: 576

وجود هذه الميزة في السياسة...69

مسألة : 8 للسياسة ساحتان : داخلية وخارجية ...71

للداخل شعبتان ...71

للخارج شعبتان ...71

اطلاقات الدولة ...72

الدولة الاسلامية ...74

ميزان وحدة الامة ...76

مسرح الخارج ...77

عوامل النفوذ ...78

1 - عامل الدين ...78

2 - عامل القدرات ...79

3 - عامل الثقافة ...80

الامم المتحدة ...81

مسرح السياسة للحكومة ...82

توحيد السياسة للدولة الاسلامية ...84

لا ...للاحتكار التجارى ...84

مسألة : 9 النظرة الاسلامية المستوعبة ...86

تفاعل الانسان والتاريخ ...87

نسف مدرسة ماركس ...88

المدرسة الغربية الاخرى....88

الوحدة العليا : الدولة ...89

الوحدة الوسطى : الجماعات ...91

ص: 577

الوحدة القاعدة : الجماهير..93

تحطم الثورات لنقص الوعى السياسي ...94

واجب حركات التحرير ...95

نصوص الشريعة : في الرأي العام ...97

الرأى العام . . . والعاطفة العامة ...98

أنواع الانقسام ...99

يقظة العالم الاسلامي ...102

التفاعل الثلاثى ...104

مسألة : 10 بين الشخصية الانسانية وشلال التاريخ ...105

ماركس لا للسياسة ...106

نتائج الخلاف ...108

أقوال ان الثقل في الشخصية...109

سمات الشخصية ...110

السياسة الفلسفية والشهوانية ...114

مسألة : 12 موضوع علم السياسة...115

مسألة : 13 بحوث في الدولة ...119

نقد النظرية الماركسية في الدولة...121

الدولة في منظار على عليه السلام...123

مسألة : 14 بحوث في الامة ...127

تكون الامة المسلمة ...129

حكومة واحدة لكل المسلمين ...131

التقدم الاسلامي ....132

ص: 578

مسألة : 15 ظهور الامم واختفائها...135

الاديان ... والدول ...137

مسألة : 16 العناصر التي تشكل الامم ...141

كيف تتكون الامة على العنصر المادى ؟...142

التفكير السياسي الموحد ...144

مسألة : 17 الحدود الجغرافية للامة ...147

مقومات الدولة ...149

الحدود بين بلاد الاسلام وبلاد الكفر ...153

مقررات الدولة الاسلامية ...154

مسألة : 18 القدرة الانسانية وآثارها في الحقل السياسي ...157

تساؤلات حول القدرة ...159

أسباب الطاعة ...161

منبع القدرة ...162

ترويض القدرة ...165

من أخطاء الديمقراطية...167

الاقتصاد في ظل الديمقراطية....169

مناقشة فكرة (راسل) ...171

القدرة الاجتماعية ...172

العلاقة بين الفرد والجماعة...173

انواع انتماء الانسان ...176

مسألة : 19 شروط تقدم الجماعات ...178

أ- الهدوء والتوازن ...178

ص: 579

ب - الصبر في المشاكل ...179

ج - معرفة الناس ...180

د - مستويات مختلفة...181

ه_- القدرة ...182

و - الفكر المتكامل...183

ز الارادة الفولاذية ...184

ح- الانضباط ....184

ط- رفع المستحيل...185

ى - التخطيط السليم ...185

يا - اغتنام الفرص ....186

یب-التواضع ....187

يج - البحث عن النقد...188

يد - الانسان الواقعي ...189

مسألة : 20 بين الحقوق والقدرات ...190

القدرة غير المتمركزة ...193

القدرة المتمركزة ...195

الدین قسمان ...196

المال ...198

والسلاح...199

السبب الخارجي للقدرة ...199

قدرة لاحقة ...201

مسألة : 21 أقسام القدرة ...203

ص: 580

1 - السلطة ...203

2 - الشخصية...204

3- السند ...205

كيف تدوم القدرة ؟ ...206

مسألة : 22 مهمة علم السياسة تجاه القدرة...212

الامور التي هي محور علم السياسة ...215

مسألة : 23 المؤسسات السياسية...217

التفاعل بين الامة والمؤسسات السياسية ....220

مسألة : 24 الدولة اكبر المؤسسات السياسية ....222

الشخصية الحقوقية للدولة ....224

رأى الدين فى الشخصية الحقوقية ...225

وحدة المواقف بين الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم)وعلى (عليه السلام) ....226

مسألة : 25 بحوث في الدولة ...229

آثار وجود الشخصية الحقوقية...230

حجم النقدام القوة الشرائية؟...231

الشخصية الحقوقية : أمر اعتباري او متأصل ....235

الشخصية الحقوقية بين الدولة والتكتلات ...237

مسألة : 26 على الدولة تحرى الغرض الصالح...239

موقف الدولة تجاه التكتلات المفسدة ...241

ليكن الهدف في صالح الفرد والمجتمع ...244

مسألة: 27 حاكمية الدولة ...246

نقص القوانين البشرية ...248

ص: 581

حاكمية الدولة ذاتية ومطلقة...249

صلاحيات الدولة ....251

بين سيادة الدولة وسيادة الامم المتحدة...245

بين سيادة الدولة وسيادة التكتلات ...255

السيادة المتكافئة ....256

مسألة : 28 شعاع سيادة الدولة...258

ضرورة التعادل بين الكفائة والشعاع ...260

توسيع شعاع الحريات : بقدر الكفاءات ...262

الانغلاق سبب تخلف العالم الثالث ...263

القومية العربية : وسيلة للتقدم أم عامل للانحطاط ؟...265

مسألة : 29 الدولة والقوى الثلاث ...267

وحدة القوة المقننة أم تعددها ؟ ....268

التفكيك بين القوة التشريعية والقوة التنفيذية ...270

ضرورة وجود اللجان المختلفة في مجلس الامة...273

مسألة : 30 القوة التنفيذية : انواع الحكومات ...276

كيف تتوفر الحرية الحقيقية ؟ ....280

مسألة : 31 القوة القضائية ....282

القوة القضائية في الاسلام...282

كيفية نصب القضاة ...285

بين القوة القضائية والقوة التنفيذية ...286

مسألة : 32 مهمات الدولة ...289

الدولة وحقوق الانسان ...291

ص: 582

الانظمة الغربية تسحق حقوق الانسان ...292

الدولة بين العدل والاحسان ...295

توفير الرفاهية للامة ...297

الدولة وحسن التدبير ...299

الدولة ومراعاة النظام ...300

مسألة : 33 كيف نضمن استقلال القوة التشريعية ؟...302

تساؤلات في حل الدولة لمجلس الامة ...306

مسألة : 34 حدود تدخل التشريعية في القوة التنفيذية...310

مسألة : 35 بحوث في الديمقراطية ....314

الديمقراطية افضل انواع الحكم ...314

لكي لا تكون الديمقراطية عقيمة...316

الصراع بين القوة والحقيقة ...319

البيئة الصالحة ضرورة لاستمرار الديمقراطية...323

الاستشارية ضمانة تطبيق القانون ...324

الحرية بحاجة إلى ضوابط ...327

اوعية الحرية ...329

القومية ام الكفائة ؟...331

كيف يكون الحكم الهياً ؟...334

الحروب الفردية والحروب الهدفية ...337

الحروب الاسلامية كانت دفاعية ...338

الدولة وتنظيم الحياة الاقتصادية ...341

الاسلام والمشكلة الاقتصادية ...342

ص: 583

بين نص القانون وروحه...345

الترقيع في القوانين ...347

مسألة : 36 بحوث في الاحزاب ...350

كيف تتكون الاحزاب ...351

الاحزاب : والتواجد الدائم...351

نظرة على حركة المشروطة...352

أركان التكتل الحزبي ...354

الفلسفة الحزبية ...355

فروع الحزب ...355

ارتباط الحزب بالجماهير ...356

الهدف : الوصول الى السلطة...357

لكي يكون الحزب ناضجاً ...357

بين حزب الحاكم والحزب الحاكم ...360

احزاب غير سليمة ...361

اتحاد الاحزاب ...362

فوائد تعدد الاحزاب ....364

الاحزاب السياسية وبرامج الاصلاح ...365

مسألة : 37 موقف الاسلام تجاه الاحزاب ...367

الحكم لله ...368

الحزب ومقررات البرلمان ...369

الولاية للفقيه العادل ...370

التزوير الانتخابي ...370

ص: 584

لا ... لنظام الحزب الواحد ...370

موقف الاسلام من الاحزاب غير الاسلامية...373

مسألة: 38 معطيات الاحزاب السياسية ...376

1 - انتخاب الاصلح ...376

2 - تحكيم ارادة الشعب...378

4 - مدرسة السياسة التطبيقية...380

4 - تحمل المسؤلية السياسية ...380

5 - مدرسة الانضباط الفكرى والعملي ...382

6 - صنع التنافس الخلاق ...383

7 - تقديم الشعب الى الامام ...384

مسألة : 39 الحزب بين مؤيديه ومعارضيه ...386

موقف الشيوعية تجاه الاحزاب ...388

موقف الفاشية تجاه الاحزاب ...390

هل الحزب يزيد المشاكل اعضالا ؟...390

هل يضيق التحزب من آفاق الفكر؟ ...392

الحزب والوسائل اللااخلاقية ...393

هل الحزب عدو للديمقراطية ؟...394

مسألة : 40 صور التجمع واشكاله ...396

1 - التكتلات النقابية ...396

هدف تشكيل النقابات ...397

نقابات جديدة ...398

2 - القوى الضاغطة...399

ص: 585

موقف السلطة تجاه القوى الضاغطة ...400

3 - الجمعيات التعاونية ...403

جمعيات اخرى ....404

4 - التكتلات الرأسمالية...405

مسألة : 41 تقسيمات الاحزاب السياسية...407

الاحزاب الشخصية ...409

الاحزاب الوقتية والدائمية....409

ثغرتان في الكفاح الفلسطيني ...410

كيف ننقذ فلسطين ؟...412

الاحزاب الهدفية ...413

الاحزاب اليمينية واليسارية...414

الاحزاب الاسلامية والكافرة....415

من مقومات الحزب الاسلامي...415

احزاب الاقليات ...418

الدولة واحزاب الاقلية...419

الاحزاب العمالية ...421

مصائر الاحزاب العمالية ...423

قلة افراد الاحزاب الشيوعية...423

مسألة : 42 دور الاحزاب في البلاد الاسلامية...426

مسألة : 43 الحزب بين اعضائه ومناصريه ...429

التشكيلات المتدرجة للحزب ...430

المواصفات الضرورية للوحدة الحزبية....431

ص: 586

الوحدة المدنية للحزب ...434

الوحدة العامة للحزب ...435

الحزب والفكر ...436

المؤتمرات العامة للحزب ...437

اختلاف الاتجاهات الحزبية ...439

بين الحزبيين القدامى والجدد ...440

المحسوبية والمنسوبية في الحزب...440

مسألة: 44 بين الانظمة السياسية والاحزاب ...442

في النظام الحزبي الواحد...443

بطلان منطق الاحزاب الفاشستية والشيوعية...444

أضرار الحزب الواحد ...445

النظام ذو الحزبين...447

النظام ذو الاحزاب المسيطر احدها ...449

النظام ذو الاحزاب المتصارعة ...450

طريق معرفة احجام الاحزاب ...452

مسألة : 45 اصالة الحرية ...454

اقسام الحريات ...455

الحرية الجسدية، حرية العمل ...456

حرية خصوصيات العمل ...457

في التساوى بين الافراد ....457

حرية الدين ....458

حرية البيان والقلم...460

ص: 587

حدود حرية البيان والقلم..462

كتب الضلال ...464

حرية التجمعات ...465

في كسر الاضرابات...466

حرية المظاهرات 458

حرية الاضراب عن الطعام....469

حرية أنواع الاكتساب ...470

الحريات في الظروف الاستثنائية ...472

سائر الحريات...474

تأطير القوانين بمقتضى الحرية...477

اسباب الخضوع للسلطة ...477

مسألة : 46 الدستور بين السلب والايجاب ...482

تقسيمات الدستوري ماء ...486

التناقض بين القوانين ...489

طرق الحيلولة دون طغيان الحكومة ...490

مسألة : 47 ضرورة تشكيل الحكومة الاسلامية ...493

الرسول قدوة ...493

الائمة والعلماء قدوة ...495

تطبيق جميع قوانين الاسلام متوقف على اقامة الدولة الاسلامية...498

ثلاثة خيارات...499

مسألة : 48 من هو الحاكم الاسلامي ؟ ...504

حكم التعارض بين المرجع وشورى الفقهاء...506

مسألة : 49 مناقشة نظرية (البيعة ) ...510

ص: 588

مناقشة نظرية - اهل الحل والعقد-...511

مسألة : 50 شروط الحاكم الاسلامي ....514

المرأة .. والقيادة ...516

نظرة الاسلام الى المرأة ...517

صفات اخرى للقائد ...519

الحاكم الاسلامي والاستشارة ...521

الزهد ... ضرورة ملحة للقائد ...524

الحاكم الاسلامي والظلامات ...525

مسألة : 51 بين قوانين الله والقوانين البشرية ...529

كيف يمكن اجراء قوانين الاسلام؟...530

أمير المؤمنين (عليه السلام)يضع مناهج الحكم ...532

العدل والظلم ...532

فيما اراد رده(عليه السلام) على المسلمين من قطائع عثمان...533

الظلم ثلاثة ...534

قصته (عليه السلام) مع عقيل...535

ظلم الضعيف، عهده(عليه السلام) لمالك ...536

علامات الظالم ...538

الحق والباطل ...539

الحق والباطل مزيجان...540

الذي يستحق الحاكم ...541

تبادل الحق بين الحاكم والامة ...542

اسخف حالات الولاة ...543

قول الحق واطاعته ...544

ص: 589

أوامره لعماله (باتباع العدل في الرعية )...545

الوالي الزاهد ...547

طبقات الرعية ...552

الوزراء والمشاورون...553

الكتاب ...555

القضاة ...556

في صيفة من يتصدى للمحكم بين الامة وليس لذلك ...556

في ذم ذم التصويب في الفتيا ...557

العمال ...558

التجار وذوى الصناعات ...559

المحرومون ...560

بيت المال كان(عليه السلام) يكتب الى عماله على الخراج...562

كان (عليه السلام)يكتبها لمن يستعمله على الصدقات...563

قاله(عليه السلام) لما عوتب على التسوية في العطاء ...565

كتب عليه السلام الى بعض العمال ...566

وصيته عليه السلام الى بعض عماله ...566

كتب عليه السلام الى مصقلة وهو عامله على اردشير خرة ...568

كتب عليه السلام الى قثم بن العباس ، وهو عامله على مكة...570

وكتب عليه السلام الى عامل له ...570

مسألة : 52 حكم الاقليات في البلاد الاسلامية...571

الفهرست ...584

ص: 590

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.