الموعظة الحسنة

هوية الكتاب

الموعظة الحسنة

الخطيب

الشَيخ عَلي حَيدَر المؤيَّد

الصوره

منشورات

موسسه الأهلي للمطبوعات

بيروت - لبنان

ص: 1

اشارة

الموعِظَهُ الحَسَنَة

ص: 2

جميع الحقوق محفوظة ومسجلة

الطبعة الأولى

1417 ه- - 1997م

مؤسسة الأعلَمي للمطبُوعات

PUBLISHED BY

بيروت - شارع المطار . قرب كلية الهَندسَة Al Alami Library

ملك الاعلي . ص.ب : 7120

الهاتف : 833447 - 833453

BEIRUT - LEBANON

P.O. BOX 7120

ص: 3

الموعَظَهُ الحَسَنَة

المخطئت

الشَّیخُ عَلَى حَيدر الوند

منشورات

مؤسسة الأعلمي للمطبوعات

بيروت - لبنان

ص . ب 7120

ص: 4

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 5

الأهتَداءُ

الصوره

ص: 6

المُقَدَمة

الإنسان كائن متطوّر،لا نعهد على هذه البسيطة كائناً يشارك الإنسان فی هذه الصفة الفريدة .

فالحيوان - مثلاً - يولد بغرائز معينة تظل تتحكم في سلوكه منذ أن يولد ،وإلى أن يموت ،دون أن تكون هناك فسحة للتطور في حياته.

لذا لم تختلف حياة الحيوان منذ ملايين السنوات وحتى هذا اليوم . بينما الإنسان يسير في حركة مستمرة نحو التطور والتكامل .. ولا يمضي يوم إلاّ ويخطو الإنسان فيه خطوة جديدة في هذه المسيرة الدائبة. فلو قارنّا حياة الإنسان منذ عشرة آلاف عام بحياته هذا اليوم لاستطعنا أن نلمس حجم والنقلة الهائلة التي خطاها الإنسان في هذه الحياة . و(التطور) يعتمد - بشكل رئيسي - على (تكاثر الخبرات) . . وتداول المعلومات من جيل لآخر. فلولا هذه الخبرات لظل الإنسان في حياة بدائية بسيطة . . ولم يستطع أن يحقق هذه الإنجازات الهائلة.

فالإنسان - كفرد - يمرّ كل يوم بتجربة جديدة .. وفي هذه التجارب (علم مستحدث) كما يشير إلى ذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام .. فيختزن هذه التجارب ...ويبني عليها حياته المستقبلية . . ويحاول الإستفادة من أخطاء الماضين كي لا يقع فيها لبناء مستقبله الأفضل،

ص: 7

ويحاول الإستفادة من إنجازاته الماضية لتكريسها وتعميقها في المستقبل .والإنسان - كمجتمع - يحتفظ بتجاربه المختلفة - الحلوة منها والمرّة -ويوجه حياته المستقبلية على ضوء تلك التجارب .

وكل جيل جديد يستفيد من تجارب الأجيال الماضية.. ليبدأ من حيث انتهى الآخرون .. ولو بدأ كل جيل من حيث بدأ الآخرون . . إذن لما كان للحضارة المعاصرة وجود. .

ومن هنا.. يكون من الضروري الإستفادة من خبرات الآخرين . .لكي يسعد الإنسان في حياته ، ويمضي بخطى واثقة إلى الأمام .

والرسول الأعظم محمد بن عبد الله صلّی الله وآله وسلم و لا يمثل أعظم نابغة من نوابغ الإنسانية فحسب ، إذ عدّه مؤلف مسيحي أول شخص في قائمة «المئة الأوائل» الذين فاقوا البشرية جمعاء في نبوغهم وتأثيرهم في الحياة الإنسانية .. بل إنه يمثل فوق ذلك .. كلمة السماء الأخيرة . .والسبب المتصل بين الله والإنسان . . وخاتم وخاتم النبيين .. وكفاه ذلك عظمة وشموخاً .

ومن هنا : يكون للكلمة التي تفوه بها الرسول الكريم صلّی الله علیه وآله من الأهمية العظمى .. ما لا يكون لغيرها .. في بناء الحياة السعيدة . . وتأمين سلامة الإنسان في دنياه وآخرته . .

ومن هنا : يكون من الضروري أن نصغي، لا بأسماعنا فقط، بل بكل وجودنا .. إلى كلمة الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم.. لنستلهم منها أعظم المواعظ الحسنة التي تنفعنا في دنيانا وآخرتنا .

دور الموعظة الحسنة: لا يخفى ما للموعظة والإرشاد من التأثير الكبير في حياة الأفراد والمجتمعات فبالموعظة الحسنة: تغرس بذور الخير والصلاح في النفوس.

ص: 8

وبها : تحيى الهمم.

وبها : تندفع مسيرة البشرية قدماً إلى الأمام . .

ومن هنا يقول الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ }(1)

وفي وصية أمير المؤمنين علیه السلام الا لابنه الإمام الحسن علیه السلام: (أحي قلبك بالموعظة) (2)

وعن أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً قال : (المواعظ حياة القلوب) (3)

وعنه السلام أنه قال : (بالمواعظ حياة القلوب) (4)

بل إن الله عزّ وجلّ عبر عن القرآن الكريم بالموعظة : {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ ُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} (5)

وقال تعالى : {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} (6)

وهذا الكتاب الذي يمثل بين يديك - أيها القارىء الكريم يمثل مجموعة من الخطب التي تشرفت بإلقائها في ليالي شهر رمضان المبارك من عام 1415 ه- في الكويت. وهي تتناول بالشرح والبحث ثلاثين وصية وموعظة صدرت من شفتي خاتم النبيّين الرسول الأعظم محمد بن عبد الله صلّی الله علیه وآله وسلم.. والمخاطب فيها وإن كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام إلاّ أنها تعم البشرية جمعاء منذ ذلك اليوم .. وإلى آخر يوم فيه إنسان على وجه هذه البسيطة.

ص: 9


1- سورة النحل ؛ الآية : 125 .
2- البحار : ج 77 ص219.
3- غرر الحكم : ص 65 رقم 2041
4- غرر الحكم : ص 116 رقم 118
5- سورة النور ؛ الآية: 34 .
6- سورة آل عمران ؛ الآية : 138 .

وقد سبق هذا الكتاب ، كتاب آخر احتوى ثلاثين أُخرى من من وصايا و مواعظ النبي الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم وقد سمّي ب- (نبّي ووصيّ ووصايا) . . نسأل الله تعالى أن ينفعنا - وجميع المؤمنين - بهذه المواعظ والوصايا التي ترسم لنا طريق السعادة والفلاح في هذه الدنيا، وفي الآخرة . ونسأل المولى القدير أن يجعل هذا الكتاب خطوة في بناء حياة جديدة . . ملؤها الخير والسعادة والسلام .

ولا يفوتني هنا أن أطلب من أساتذتي ومن زملائي في مجال المنبر الحسيني - أيدهم الله تعالى - أن يهتموا بتدوين ما يلقون من الخطب والمواعظ . . حتى تتحول الكلمة المسموعة إلى كلمة مقروءة . . وتبقى على مدى العصور بإذن الله سبحانه مصداقاً لقول الله تعالى:

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ توتی اکلها کل حین باذن ربها} (1)

وفي الختام : أتقدم بالشكر الجزيل إلى أساتذتي الذين لهم علي حق التربية والإرشاد.. وحيث لا تفي هذه الكلمات بأداء ما لهم علي من الحقوق العظيمة، أتضرع إلى المولى القدير أن يشكر لهم جهودهم ويجزيهم خير جزاء المحسنين .

كما أتقدم بالشكر الجزيل إلى الذين آزروني في إخراج هذا الكتاب وأخص بالذكر أخي العزيز الأستاذ (فاضل الصفار)فشكر الله سعي الجميع وأجزل مثوبتهم وبلّغهم مناهم والله الموفق وهو المستعان.

الكويت

1415 ه- - 1995م

المؤلف

ص: 10


1- سورة إبراهيم؛ الآيتان : 24 - 25 .

1- الصَيامُ فَلسفَتُهُ وَاحْتَكامُهُ

اشارة

ص: 11

ص: 12

قال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم ) لعلي (علیه السلام): «يا علي، صوم الفطر حرام، وصوم يوم الأضحى حرام وصوم الوصال حرام، وصوم الصمت حرام،وصوم نذر المعصية حرام، وصوم الدهر حرام» (1)

الشريعة الإسلامية:

بعث الله تعالى الأنبياء بالتشريع لهداية الناس إلى الطريق المستقيم ولو تركهم بدون تشريع لتحكمت الأهواء والشهوات في صناعة الحياة الإنسانية وسيقت نحو الفساد، ومن هنا كانت الحاجة إلى الشرائع . والشريعة في اللغة الماء الذي يرده الشاربون ولكن نُقل هذا اللفظ إلى الطريقة المستقيمة التي يستفيد منها المتمسكون بها هداية وتوفيقاً والمناسبة بين المعنيين أن كلاً منهما يشفي الغلّة فالماء يشفي غليل العطشان والشريعة غليل الروح . .

في كل واقعة حكم:

واعلم أن الغاية من الشريعة وأحكامها هي إيصال الإنسان وهدايته إلى كماله والفوز بالدنيا والآخرة. فلكل واقعة من الوقائع الدنيوية، مع ما يرتبط

ص: 13


1- مدينة البلاغة : ج 1 ص 419 .

بها من أفعال الله سبحانه وتعالى فيها حكم؛ وهذا الحكم تابع للمصلحة والمفسدة الواقعيتين كما كما يعبر الأصوليون أي أن الله سبحانه وتعالى عندما فرض الصَّلاة أو الصوم أو الحج وأوجبها فذلك المصلحة، وحرّم الخمر والزنا لمفسدة فيها فما هي المصلحة والمفسدة ؟ .

أما المصلحة: فهي جلب المنفعة ودفع المضرّة في حدود المحافظة على الغاية من التشريع المتمثّلة في حفظ الدين والنفس والمال والنسل والعقل ورفع الضرر ومكارم الأخلاق، قال الله تعالى:

{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } (1)

أي أن الله سبحانه وتعالى أرسل نبيه صلّی الله علیه وآله وسلم الا ليرحم به الناس والرحمة هنا تعمّ المؤمن والكافر فإن رضي الكافر بما جاء به النبي صلّی الله علیه وآله وسلم فهو لمنفعته .

ومبنى الشيعة أن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها سواء علمنا بالمصلحة أم لم نعلم بها فهناك أحكام شرعية نعلم المصلحة من وجوبها كالصَّلاة وعلّتها كما جاء عن الإمام الرضا علیه السلام:

«علة الصَّلاة أنها إقرار بالربوبية الله عزّ وجلّ وخلع الأنداد وقيام بين يدي الجبار جلّ جلاله بالذّل والمسكنة والخضوع والاعتراف، والطلب للإقالة من سالف الذنوب، ووضع الوجه على الأرض كل يوم خمس مرات إعظاماً الله عزّ وجلّ وأن يكون ذاكراً غير ناس ولا بطر، ويكون خاشعاً متذللاً راغباً طالباً للزيادة في الدين والدنيا مع ما فيه من الإنزجار والمداومة على ذكر الله عزّ وجلّ بالليل والنهار لئلا ينسى العبد سيده ومدبّره وخالقه فيبطر ويطغى ويكون في ذكره لربه وقيامه بين يديه زاجراً له من المعاصي ومانعاً من

ص: 14


1- سورة الأنبياء ؛ الآية : 107 .

أنواع الفساد» (1).

وهكذا علّة الصوم ربما نعلم بعض مصلحته من المساواة بين الفقير والغني وغيرها وهكذا الحج والزكاة وقد ذكرت حكم بعضها في كتاب علل الشرائع للشيخ الصدوق (ره) الذي بذل جهداً كبيراً لبيان الأحكام وحفظ تراث أهل البيت علیه السلام.

وهناك بعض المصالح قد لا نعلمها وإنما نتصور لها حكمة لا علة والفرق بينهما أن العلة يدور الحكم مدارها وجوداً وعدماً أي إذا انتفت العلة انتفى الحكم وإذا وجدت العلة وجد الحكم إذ استفاد بعض العلماء من بعض الأدلة أن الخمر حرام لأنه مسكر مثلاً فنعرف أن علّة تحريم الخمر هو الإسكار فيه فيقول : الخمر حرام لأنه مسكر . فالإسكار هو علّة منصوصة للحرمة بالأدلة الخاصة : من هنا فإن حرمة شرب الخمر مثلاً معلولة بالإسكار وتدور مع وجود الإسكار وعدمه وجوداً وعدماً . وأما الحكمة فلا يدور الحكم مدارها وجوداً وعدماً؛ مثلاً عدة النساء بعد وفاة زوجها لماذا؟ إذا كان الغرض عدم خلط المياه والأنساب فلماذا الغائب زوجها عنها فترة طويلة وتوفي أو طلقها أو بلغت اليأس تعتد منه؟ فهنا انتفت العلة، جماعة من الفقهاء قالوا إنها للحكمة أو التعبد الشرعي الصرف فهو أمر اعتباري، وجماعة قالوا لاحترام زوجها وربط المجتمع بالمشاعر المعنوية حتى بعد الموت .

إذ يبدو أن حكمة اختلاط المياه ليست هي التي يدور الحكم بوجوب العدة مدارها وجوداً وعدماً وإنما هي حكمة أي في غالب الأفراد وقد تختلف.

ص: 15


1- علل الشرائع : ص 317

في الحرمة مضرّة بالغة:

هذا من جانب المصلحة أما المفسدة فماذا تعني؟

المفسدة تعني المضرّة البالغة ولذا جاءت المحرمات التي حرّمها الإسلام ومنع من ارتكابها منعاً باتاً لأن فيها المضرّة الدنيوية والأخروية وما

كان يدور في جانب المصلحة يدور هنا إذ إن بعض المحرمات ربما نعلم علّةتحريمها وربما نعرف حكمة تحريمها كالقمار مثلاً يوجب خسران المال، والخمرة توجب الأمراض والغناء يوجب ضعف الأعصاب، والزنا يوجب اختلاط الأنساب . . وقد ذكر بعضها القرآن الحكيم كما في قوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه} .(1)

وبعضها ذكر عن طريق المعصوم علیهما السلام ويمكن مراجعة كتاب علل الشرائع للشيخ الصدوق (ره) لمعرفته والبعض الآخر ربما لم نعرف علّته وإنما قد نتصور له حكمة أو مضرة محتملة وسواء علمنا بمضرته الواقعية أو لم نعلم وكذا الأمر في المصلحة؛ فعلينا التعبد بالأوامر والنواهي الإلهية والعمل بالواجبات والإبتعاد عن المحرمات لأن القرآن أو الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم أو أهل البيت علیهم السلام قد نصّوا عليها والنصوص الشرعية ترى الواقع وإن كنا نحن لا نراه .

ومن هنا جاءت وصية رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم الأمير المؤمنين علیه السلام في حرمة بعض أقسام الصيام .. فلنتأمل فيها علّنا نتوصل إلى العلة أو الحكمة من تحريمها :

والأقسام هي :

1 - صوم عيد الفطر ، 2 - صوم عيد الأضحى ، 3 - صوم الوصال ،

ص: 16


1- سورة المائدة؛ الآية: 9

4 - صوم الصمت ، 5 - صوم نذر المعصية ، 6 - صوم الدهر

الصوم لغة واصطلاحاً:

مسائل عن الصوم لا بأس بالتطرق إليها :

الصوم في اللغة هو الإمساك ومنه يُقال للصمت صوم لأنه إمساك عن الكلام، كما في قوله تعالى :

{قالت إني نذرت للرّحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً} (1)

قال ابن دريد كل شيء سكنت حركته فقد صام صوماً

وقال النابغة :

خيلُ صيامُ وخيلُ غير صائمة *** تحت العجاج وأُخرى تملك اللجما

فالخيل إذا وقفت عن المشي يُقال إنها صائمة.

وصامت الريح أي ركدت وصامت الشمس إذا استوت في منتصف النهار ، وصام النهار أيضاً بمقدار، قال امرؤ القيس :

فدعها وسلٍّ الهم عنك بجسرة***ذمول إذا صام النهار وهجّرا

والصوم في الإصطلاح الشرعي : الإمساك عن مفطرات الصوم من أذان الفجر إلى المغرب امتثالاً لأمر الله تعالى . قال تعالى :

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ *أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2)

ص: 17


1- سورة مريم ؛ الآية : 26 .
2- سورة البقرة ؛ الآيتان : 183 - 184 .

حكمة وجوب الصوم:

الأحكام الشرعية تنقسم إلى عبادات ومعاملات، والصوم من العبادات. والأحكام الفقهية بصورة عامة تتناول حياة الفرد والمجتمع والدولة. فالعبادات الغرض منها التقرب إلى الله تعالى كالصَّلاة والصوم والحج والزكاة.. وهي علاقة العبد وربه، ولها جوانب أُخرى، منها فردية لترويض النفس على الطاعة واحتمال المشاق فوق ما فيها من شكر للنعمة، ومنها اجتماعية لتقوية أواصر المحبة والتساوي كما في صلاة الجماعة والصوم والحج.. والإيثار كما في الزكاة والخمس.. أما المعاملات فالغرض منها تنظيم شؤون المجتمع الإنساني كالعلاقات الدولية في الحرب والسلم وتنظيم الشؤون المالية والاقتصادية والسياسية للأمة، وقد ألبس الفقه الإسلامي كل واقعة فيه ثوب التشريع كما قلنا إن الله في كل واقعة حكم ..

ومن هنا كان الصيام فرضاً له جانب اجتماعي وآخر فردي؛ أما الاجتماعي فلأنّ الله تعالى فرضه ليتساوى في هذا الزمن المخصوص - وهو شهر رمضان - الغني والفقير وليحصل التقارب بين طبقات المجتمع. سأل هشام بن الحكم أبا عبد الله الصادق علیه السلام عن علة الصيام فقال :

«إنما فرض الصيام ليستوي به الغني والفقير وذلك الغني لم يكن ليجد مسّ الجوع فيرحم الفقير فأراد الله سبحانه أن يذيق الغني مسِّ الجوع ليرق على الضعيف ويرحم الجائع»(1)

وأما الجانب الفردي، فإنه رياضة للنفس وقمع لشهواتها وتعليمها الصبر. .

ص: 18


1- مجمع البيان: المجلد الأول ص 490 .

بعض أحكام الصوم:

من أحكام الصوم الإمساك عن المفطرات من الفجر إلى المغرب امتثالاً لأمر الله تعالى مع النية، ومفطّرات الصوم عشرة كما جاء في الرسائل العملية لمراجع الدين :

الأكل والشرب، والجماع، والاستمناء، وافتراء الكذب على الله تعالى وعلى النبي والأئمة علیهم السلام ، وإيصال الغبار إلى الحلق، ورمس تمام الرأس في الماء، والبقاء على الجنابة إلى أذان الصبح والاحتقان بالمائع وتعمّد القيء .

أما فضل الصيام فقد حدّده رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم بقوله :

«ما من مؤمن يصوم شهر رمضان احتساباً إلا أوجب الله له خصال : يذيب الحرام في جسده، ويقرب من رحمته، ويكون قد كفّر خطيئة أبيه، ويخفف الله عنكم سكرات الموت، وأمان من الجوع والعطش يوم القيامة، ويعطيه الله براءة من النار، ويطعمه الله من ثمرات الجنة» (1)

ولا نريد التفصيل هنا في مسائل الصيام ومتعلقاته وإنما ما يهمنا هو أن نعرف أن الصيام واجب مفروض من الله تعالى لا ينبغي تركه وفيه مصالح واقعية تنفع الإنسان في الدنيا وفي الآخرة .

صوم الفطر والأضحى حرام:

هنا سؤال يقول: لماذا ورد في وصية الرسول صلّی الله علیه وآله وسلم الأمير المؤمنين علیهه السلام بأن صوم عيد الفطر وعيد الأضحى حرام؟ .يبدو أن العيد يوم منفعة وفائدة والفائدة هنا لا تعود على النفس وحدها بأن يفرح الصائم مثلاً بالإفطار فقط وإنما الفائدة اجتماعية أيضاً فاعتبر هذا

ص: 19


1- روضة الواعظين : ج 2 ص 340 .

اليوم يوم تزاور بين الأهل والأقرباء والأصدقاء والجيران. .وهذا التزاور يخلق روحاً ودية وتآلفاً بين الناس ولعل هذا الجو العاطفي يساعد على نبذ الكثير من العداوات والمشاحنات بين الأقرباء وكذلك الأصدقاء وكثير من الناس تصالحوا من خلال هذا الجو النفسي اللطيف والإسلام ينهى عن التخاصم والشحناء ومقاطعة الإخوان ويمكن أن يكتسب الفرد من خلال العيد أصدقاء خيّرين وعادات إسلامية واجتماعية صحيحة وما شابه . . أما لو صام الفرد في هذا اليوم فربما سيمنعه الصوم من اقتحام هذه الأجواء كونها تكون عامرة بالطعام وما شابه أو أن الصائم يحتاج إلى الخلوة والمناجاة وتحاشي الكلام الكثير الذي ربما يتنافى مع كمال الصوم وبالتالي سيفقد المنفعة الاجتماعية أو الترابط الروحي بين أبناء المجتمع، وكما أشرنا سابقاً، إن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد فلذا أمر سبحانه وتعالى بحرمة صيام الفطر الأول من شوال والأضحى العاشر من ذي الحجة لما فيه من خسائر اجتماعية ومعنوية .

ومن الواضح أن الشريعة الغرّاء أولت العلاقات الاجتماعية والإنسانية اهتماماً بالغاً لما فيها من علاقة وثيقة بسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة. وقد أكدت الآيات الشريفة والروايات على الاجتماع وتبادل المنفعة .

قال تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ }(1)

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } (2)

وقال تعالى : { أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا

ص: 20


1- سورة المؤمنون؛ الآية : 52 .
2- سورة الحجرات ؛ الآية : 13 .

تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} (1)

ولعل من النقاط المهمة والرئيسية التي يحصل عليها المجتمع الإسلامي من خلال ترابطه وتآلفه هو قيام الدين والوقوف أمام الأعداء والمؤامرات الغربية، وكلما تألف المجتمع الإسلامي أكثر يكون مرور المؤامرات صعباً عليه وهذا ما يغيظ الكفار بالطبع .. ولذا قال الإمام أمير

المؤمنين علیه السلام: «إيّاكم والفرقة فإن الشاذ عن أهل الحق للشيطان كما أن الشاذ من الغنم للذئب»(2)وقال علیهم السلام أيضاً : «من نكد الدنيا تنغيص الإجتماع بالفرقة والسرور بالغصّة»(3)

وعلى أي حال فلعل مما تقدم من فوائد الإفطار في العيد وفوات العديد من المصالح الاجتماعية والفردية على الأفراد في صوم ذلك اليوم أو الأسباب، نهى الإسلام عن صوم العيدين بعد أن ثبت أن الأحكام لغيرها من تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها.

صوم الوصال حرام:

صوم الوصال محرم في الشريعة وهو صوم يوم وليلة إلى السحر أو صوم يومين بلا إفطار قصد الصوم بذلك والظاهر أنّ وجه التحريم بسبب العسر والآلام الشديدة على البدن أو الجسم نتيجة الوصال . نعم الصوم أو الجوع يولد آثاراً صحية جيدة على الجسم إذ بالإضافة إلى كون الصوم يقوّي ملكة الصبر عند الإنسان فإنه يزيل كثيراً من آلام المعدة أو أعضاء الجهاز الهضمي التي تكون على مدار السنة في حالة استنفار قصوى للعمل على

ص: 21


1- سورة الشورى؛ الآية: 13 .
2- تصنيف غرر الحكم : ص 466 ط الأولى.
3- تصنيف غرر الحكم : ص 466 ط الأولى.

الهضم وتجهيز الجسم بما يفيده من الغذاء وإخراج الفضلات إلى الأمعاء وإفراز أنزيمات خاصة في المعدة لإنجاح العملية وتوفير المناعة في الجسم من الضعف والمرض. فكما يحتاج الإنسان إلى راحة سنوية من عمله ليبتدىء نشاطه من جديد، فكذلك الجهاز الهضمي إذ أعطاه الله تعالى الفرصة المناسبة في شهر رمضان ليكون في راحة من العمل المتواصل خلال هذا الشهر. وقد جاء في قوله تعالى :

{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } (1)

ولكنه منع من الوصال في الإمساك عن الأكل والشرب لئلا يعسر على المسلم المتابعة في إتمام الشهر المبارك. أو من الناحية العلمية لو استمر الصيام ليوم وليلة أو يومين لنتج عنه ضعف في الجهاز الهضمي أو في مناعة الجسم (وكل شيء تجاوز عن حدّه انقلب إلى ضده) كما أثبت العلم الحديث ذلك، هذا مضافاً إلى أن صوم الوصال ربما نقض الحكمة من الصوم وذلك لأن من أسباب تشريع الصيام هو تحصيل صحة البدن وجلاء النفس، أما صوم الوصال فهو يهدم البدن وشتّان ما بين الصحة والهدم . .

وقد ورد في الآية الكريمة قوله تعالى:

{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} .(2)

ص: 22


1- سورة البقرة ؛ الآية : 185
2- سورة البقرة ؛ الآية : 187 .

ومن الملاحظ أن الآية الشريفة لا تعني أن صوم الوصال كان واجباً وإنما كان الصائم يحرم عليه الأكل في شهر رمضان بعد النوم قبل الإفطار وكان مقاربة النساء حراماً بالليل والنهار في شهر رمضان. وفي أسباب نزول الآية الكريمة ورد أن رجلاً من أصحاب الرسول يُقال له مطعم بن جبير وهو شيخ ضعيف وكان صائماً فأبطأت عليه أهله بالطعام فنام قبل أن يفطر فلما انتبه قال لأهله قد حرم عليّ الأكل في هذه الليلة فلما أصبح حضر حفر الخندق فأغمي عليه فرآه رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم فرقّ له. وكان قوم من الشباب ينكحون بالليل سراً في شهر رمضان فأنزل الله تعالى هذه الآية، فأحلّ النكاح بالليل في شهر رمضان والأكل بعد النوم إلى طلوع الفجر (1) تسهيلاً على العباد

إذن جعل الله تعالى النكاح جائزاً في ليالي شهر رمضان والأكل حتى مع النوم قبل الإفطار لأنه يريد اليسر بالعباد ولا يريد بهم العسر.{َ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} .(2)

{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ }(3)

فمن باب التسهيل ولئلّا يتخذه بعض الناس الذين يتصورون أنهم يقدرون على صوم ،الوصال لوجود مناعة كافية في أجسامهم تتحمل ذلك، أو لأسباب أخرى كبدعة، أو يفرضونه بحجج موضوعة فيتعسر ذلك على الكثيرين بل يتعطل الكثير من أعمال الناس نتيجة الإعياء، قطع الله تعالى ورسوله صلّی علی علیه وآله وسلم الطريق أمام المبتدعين بالنص الواضح في حرمته وقد ورد في الروايات الشريفة النهي عن صوم الوصال منها عن حسان بن مختار قال : قلت لأبي عبد الله الصادق علیه السلام ما الوصال في الصيام؟ قال : فقال إن

ص: 23


1- راجع تفسیر مجمع البيان : ج 1 ص 503 البقرة .
2- سورة البقرة ؛ الآية : 185 .
3- سورة الحج ؛ الآية : 78 .

رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم قال : لا وصال في صيام . (1)

صوم الصمت حرام:

ومن أقسام الصوم المحرم أيضاً صوم الصمت، وذلك بأن ينوي في صومه السكوت عن الكلام في تمام النهار أو بعضه ويعتبر الصمت جزءاً من الصيام . أما لو صمت الإنسان في نهار شهر رمضان بدون القصد والنية فلا بأس بذلك والصمت معناه السكوت عن الكلام وهو بحد ذاته لا بأس به ولكن قيمته تختلف حسب الوجوه والاعتبارات فالصمت عند الخير خسارة أما عند الشر فهو ربح وسعادة؛ ومثال الأول لو سبّب الصمت ضياع حق إنسان آخر متوقف على شهادة الصامت بأنه رأى الحادثة أو أقرّ المجرم أمامه فالصمت هنا أضاع حقاً من حقوق الآخرين ولذا يصبح مذموماً هنا وأحياناً يصبح حراماً أيضاً .

ومثال الثاني لو كان الإنسان جالساً في مجلس واغتيب فيه الناس أو ما شابه الغيبة من الرذائل الكلامية أو العملية فلعل في الصمت هنا فوزاً ونجاحاً. فالأفضل أن لا يصام صوم الصمت مع القصد والنية بذلك لأنه محرّم. وأما لو أراد الصائم الصمت بدون نية فهو ممدوح إلاّ إذا استوجب الكلام إعادة حق مغصوب أو أمر بمعروف ونهي عن منكر وما شابه ذلك. وقد جاء في مدح الصمت روايات منها قول رسول الله صلّی علی علیه وآله وسلم:

«ألا أخبركم بأيسر العبادة وأهونها على البدن: الصمت وحسن الخلق»(2)

وقال صلّی الله علیه وآله وسلم أيضاً :

«رحم الله عبداً تكلّم خيراً فغنم، أو سكت عن عن سوء فسلم »(3)

ص: 24


1- وسائل الشيعة : ج 7 ص398 باب 4 ح 8 .
2- جامع السعادات : ج 2 ص 345 .
3- جامع السعادات : ج 2 ص 345 .

وقيل لعيسى بن مريم علیها السلام:

«دلّنا على عمل ندخل به الجنة . قال: لا تنطقوا أبداً . قالوا: لا نستطيع ذلك . قال: فلا تنطقوا إلاّ بخير» (1) وقال الإمام الصّادق علیه السلام:

«الصمت كنز وافر، وزين الحليم، وستر الجاهل».(2)

وقد نقل أن أربعة من أذكياء الملوك تلاقوا في وقت فاجتمعوا على ذم الكلام ومدح الصمت .فقال أحدهم : أنا أندم على ما قلت ولا أندم على ما لم أقل . وقال الآخر: إني إذا تكلمت بالكلمة ملكتني ولم أملكها، وإذا لم أتكلم بها ملكتها ولم تملكني. وقال الثالث : عجبت للمتكلم إن رجعت عليه كلمته ،ضرّته، وإن لم ترجع لم تنفعه وقال الرابع: أنا على رد ما لم أقل أقدر مني على رد ما قلت.

وعلى هذا يتبيّن أن تحريم صوم الصمت له حكم وفوائد منها:

- إنه بالصمت أحياناً تضيع بعض الحقوق أو تترك بعض الواجبات الشرعية كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو يستغل الصمت من قبل الظالمين فلا يجد الظالم من يقف أمام ظلمه وجوره واستبداده فيطغى ويتجبر . وهنا يحرم على الإنسان الصمت إذ إن صمته يسبب ضياع حقوق الناس أو يعد إعانة للظالم في ظلمه .

2 - أداء التكاليف الإلهية التي تتطلب الكلام كالصَّلاة وأداء الشهادة الحقّة ونصرة المظلوم .. فإذا صمت الإنسان كيف يؤدي تكاليفه المتوقفة

على الكلام وعدم الصمت .

قال الإمام الصَّادق علیه السلام:

ص: 25


1- جامع السعادات : ج 2 ص 345 .
2- جامع السعادات: ج 2 ص 345 .

«يجب للمؤمن على المؤمن أن يناصحه».(1)

وكذلك إرشاد الجاهل وبث الوعي بين أفراد المجتمع للوقوف أمام مؤامرات الأعداء . .

فلو صمت الإنسان بنية الصوم لفقد المنافع المذكورة . فيسبب المضرة البالغة للمجتمع، في حين أن الصوم جاء بفوائد فردية تعود على النفس وفوائد اجتماعية ربما تكون أهم من الفردية وبصوم الصمت ستفوت على المجتمع المسلم هذه الفوائد.

صوم نذر المعصية حرام:

ومن أقسام الصوم الحرام صوم نذر المعصية، بأن ينذر الصوم إذا تمكن من فعل الحرام كأن يكون شرب الخمر أو الزنا بامرأة . . أو ترك واجب كترك الصَّلاة أو ترك نصرة المظلوم . .

ومن الواضح أن حكمة حرمة هذا الصيام قد تنشأ من التناقض :

إذ إن الصيام كما قلنا من العبادات والعبادة لا بد فيها من قصد القربة إلى الله تعالى والعبادة ينبغي أن تكون مقربة من الله تعالى وغير مبعدة عنه، أما الحرام فإنه معصية ولا يتقرب إلى الله تعالى به فكيف يتعلق الواجب المقرب إلى الله تعالى - بواسطة النذر الواجب - بفعل مبغوض عند الله سبحانه وتعالى وحرام فهذا مما لا يعقل ولا يقرّه شرع .

مثلاً : الغيبة من الأمور مور المحرمة شرعاً . ومحرّم يعني مبغوض من قبل الله تعالى مبعد عنه سبحانه فإذا نذر إنسان أن يغتاب الناس وقلنا إن هذا النذر ينعقد في ذمته فإن هنا يحصل تناقض بيّن، كيف ؟

ص: 26


1- وسائل الشيعة : ج 11 ص 594 باب 35 ح 1 .

الغيبة من جهة أنها معصية مبغوضة له سبحانه ومبعدة عنه سبحانه لأنها محرّمة، ومن جهة تعلق النذر بها صارت واجبة أي محبوبة الله سبحانه ومقربة له سبحانه فكيف يعقل أن يكون العمل الواحد - وهو الغيبة - طاعة ومعصية ومقرباً ومبعداً عن الله سبحانه في آن واحد ؟

وهكذا الأمر إذا نذر الإنسان شرب الخمر فإنه يجري فيه نفس الكلام . إذن الأعمال لا يمكن التقرب بها إلى الله تعالى إلاّ إذا كانت محبوبة عند الله تعالى، وإذا كانت مبغوضة فلا يمكن التقرب بها إلى الله تعالى ولعل من هنا كان سبب حرمة صوم نذر المعصية وقد جاء في الأخبار عن الإمام السجاد علیه السلام :

«صوم نذر المعصية حرام» .(1)

ماذا يعني صوم نذر المعصية ؟

يعني أن الإنسان ينذر بأنه لو تحقق له فعل المعصية الفلانية فإنه يصوم لله قبالها .

مثلاً يقول : إذا تحقق لي الزنا بمرأة محرّمة فإني أنذر أن أصوم الله صوماً ..

أو يقول : إذا تحققت لي المعاملة الربوية الفلانية فإني أصوم الله نذراً وهکذا.

يقول الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم: إن هكذا صوم حرام ولا يعقل أن يكون مقرباً لله سبحانه أو يعد طاعة له سبحانه .

صوم الدهر حرام:

ومن أقسام الصوم المحرم أيضاً صوم الدهر أي تمام العمر، والظاهر

ص: 27


1- وسائل الشيعة : ج 7 ص 391 باب 6 ح 1.

أن ما جاء من أسباب منع صوم العيدين فهو يأتي هنا لأنه تفويت للمنافع الاجتماعية . لأن كثرة الصوم ليست محرّمة، بل حثت الشريعة عليها كالصيام من كل شهر ثلاثة أيام أو أكثر وبعض الأيام يستحب فيها الصيام كيوم الخميس من كل أسبوع وما شابه ولكن صوم الدهر محرم إمّا :

1 - لاشتماله على صيام العيدين وقد تقدم سبب منعه .

2 - أو لنقض الغرض إذ تقدم أيضاً بيانه لأن بعض الناس لا يستطيع بدنه تحمل هكذا عمل شاق ودين الله دين اليسر لا العسر.

3 - أو قد يشتمل على مضرّة للجسم ولصحته ويكون الإضرار هنامتعمداً .

و من الواضح أنه لا يجوز إلقاء النفس في الضرر والتهلكة أو غيرمن الأسباب، ومع ذلك فالنص الذي ورد عن الرسول صلّی الله علیه وآله وسلم يجعلنا وإن لم نصل إلى السبب من حرمته نقول إنّ فيه المفسدة لثبوت القاعدة الكلية عندنا من أن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد الواقعة في متعلقاتها . وقد جاء عن الإمام السجاد علیهم السلام:

«صوم الدهر حرام ».(1)

والخلاصة :

فإن الفرائض والأحكام الشرعية التي وردت من قبل الله سبحانه أو الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم ولا أو الأئمة علیه السلام الواجبات منها والمحرمات سواء علمنا بدوافعها ومصالحها أو مضارها أم لم نعلم ينبغي العمل بها والالتزام بشرائطها لأنها جاءت عن لسان الشارع الحكيم الذي لا ينطق عن الهوى. . هذا هو مقتضى التعبد والعبودية للمولى عزّ وجلّ.

ص: 28


1- وسائل الشيعة : ج 7 ص 392 باب 7 ح 2 .

وأما التي لم ينص عليها الشارع وإنما جاءت بتصورات البشر وتشريعاتهم فهي بدعة محرمة حرام وضعها على الناس وحرام أيضاً العمل بها حتى لو كانت تشبه بعض الفرائض والأحكام الواجبة عندنا كصوم الوصال وصلاة النوافل والمستحب جماعة وغيرها .

ص: 29

ص: 30

2- بَيْنَ المَقاييس المادّية والمَعنَويّة

اشارة

ص: 31

ص: 32

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) لعلي (علیه السلام ) :

«يا علي: لا فقر أشدّ من الجهل ولا مال أعود من العقل، ولا وحدة أوحش من العُجب ولا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكف عن محارم الله تعالى، ولا حسب كحسن الخلق ولا عبادة مثل التفكر»(1)

كيف تقاس الأشياء:

في هذه الوصية مفاهيم عديدة لا بأس بتوضيحها.

إن المفاهيم قد تُقاس بمقاييس مادية ،ظاهرية، وقد تُقاس بمقاييس معنوية .

فلكل شيء مقياس والمقاييس قسمان لأن الأشياء أيضاً قسمان : مادية ومعنوية

1 - أما المقياس المادي فمرتبط بالأوليات المدركة بالحواس ولا يخرج عن حدود الجسم والجسماني مثل ما يحفظه الإنسان في خاطره وما

ص: 33


1- تحف العقول : ص13.

يظهره من الفعل ورد الفعل عند المسموعات والمنظورات والمشمومات والمذوقات والملموسات .

والمقياس المادي يتغير بحسب الإمكانات والمعارف فالفقير المادي مثلاً وإن كان يرى الكرم فضيلة ولكنه لا يتمكن من الضيافة أو إعانة المحتاج لعدم توفر أسباب الكرم من مال أو ثروة .

أو الذي يريد تعليم أولاده أو تزويجهم مبكراً ولكنه لا يعرف طريقة ذلك أو أسلوبه فيتركهم بدون تعليم أو لا يمتلك مالاً لتزويجهم فيتركهم بدون زواج وإن كان يعرف فضائل التعليم أو الزواج المبكر للأبناء.

2 - أما المقياس المعنوي فهو مرتبط بالأمور غير العينية أو المدركة حسّاً ولهذا المقياس لحاظات عديدة يتعلق بها :كالاعتبارات مثل جعل الورقة الكذائية ديناراً يعادل كذا مبلغ ،وهذا ما يجري في المعاملات والحق

والحدود والأحوال الشخصية .. وهي قابلة للتطور بحسب تطور الاعتبار .وكالانتزاعيات وهذه ليست بيد المعتبر وإنما هي حقائق لها واقع منتزع من أمر حقيقي مثل زوجية عدد الأربعة والفرق بين الاعتبار والانتزاع أن الاعتبار بيد المعتبر ويتطلب التواضع ومراعاة المصلحة العامة أما الانتزاع فهو حقيقة اخف من الاعتبار وليس أمره بيد أحد. وكلا الأمرين - الاعتبار والانتزاع - له آثار في الخارج ومنها جواز الزواج بأربعة نساء في الشريعة الإسلامية فهذا الاعتبار يجعل كل النساء ذات زوج بينما اعتبار عدم الجواز إلاّ بواحدة يجعل كثيراً من النساء عوانس وأرامل . فالمشهور هو أن عدد النساء في العالم أكثر من الرجال بنسبة الثلث أو أكثر .

ومن المقاييس المعنوية الحقائق التي تحيط بالشخص كالمبدأ والمعاد والتوحيد والنبوة والإمامة فإنها حقائق ليست اعتبارية ولا انتزاعية وإنما هي تحيط بالفرد أو المجتمع فتكون مقياساً للإعتقاد بنوع من الأفكار والأقوال والأعمال والسيرة .

ص: 34

فالأعمال إذا كان أثرها مطابقاً للحقائق الثلاث (الاعتبار - الانتزاع -العقائد) فهي تحصيل للواقع وإذا كان العكس فهو وهم أو زيف.

والنتيجة أن مقياس المادة مرتبط بالإمكانات المادية والجسمية أما المعنوي فهو مرتبط بالفكر وهو الذي يحيط الإنسان بالواقعية أو عدمها بل هو الذي يحرّك المادة إلى الواجهة الصحيحة إن استخدمت وفق الاعتبار أو الانتزاع أو الحقائق المطابقة للآثار، فالمركز هو الباطن أو المعنويات ومنها ينبع الإشعاع والنور إلى الحواس أو أعضاء الجسم .

وقد أشارت الآيات والروايات إلى ذلك ومنها قوله تعالى:

{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } .(1)

وقوله تعالى:

{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} (2)

ومعنى ذلك أن الله تعالى تفضّل عليكم بالحواس الصحيحة التي هي طرق إلى العلم بالمدركات وتفضّل عليكم بالقلوب التي تفقهون بها الأشياء وهي محل المعارف . (3)

وما جاء في الروايات عن الإمام الصّادق علیهم السلام قال:

«سمعته يقول لرجل : إعلم يا فلان أن منزلة القلب من الجسد بمنزلة الإمام من الناس الواجب الطاعة عليهم، ألا ترى أن جميع جوارح الجسد شُرَط للقلب وتراجمة له مؤدية عنه : الأذنان والعينان والأنف واليدان والرجلان والفرج فإن القلب إذا همّ بالنظر فتح الرجل عينيه، وإذا همّ

ص: 35


1- سورة النحل؛ الآية : 78 .
2- سورة المؤمنون؛ الآية: 78
3- راجع مجمع البيان: ج 3 ص 377 .

بالاستماع حرّك أذنيه وفتح مسامعه فسمع، وإذا هم القلب بالشمّ استنشق بأنفه فأدّى تلك الرائحة إلى القلب وإذا هم بالنطق تكلّم اللسان ، وإذا همّ بالحركة سعت الرجلان، وإذا همّ بالشهوة تحرّك الذكر، فهذه كلها مؤدية عن القلب بالتحريك، وكذا ينبغي للإمام أن يُطاع الأمر منه» (1)

وفي حديث طويل للإمام زين العابدين علیه السلام يقول فيه :

«ألا إن للعبد أربع أعين : عينان يبصر بهما أمر دينه ودنياه، وعينان يبصر بهما أمر آخرته، فإذا أراد الله بعبد خيراً فتح له العينين اللّتين في قلبه فأبصر بهما الغيب وأمر آخرته، وإذا أراد به غير ذلك ترك القلب بما فيه» . (2)

ولذا فإن القلب محلّه الباطن وهو المشرف على أعمال الجسد فإذا صلح الباطن كانت أعمال الجسد صالحة وإذا فسد الباطن فسد الظاهر أيضاً ومن هنا شدّد الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم في الحديث الذي افتتحنا به الكلام على المفاهيم الباطنة والمقاييس المعنوية لغرض إيصال الإنسان إلى أعلى مراتب الكمال فيبصر بها أمر دينه ودنياه وآخرته ولذا علينا أن نتابع مفردات الحديث الشريف للتعرّف على هذه المفاهيم وأيّهما أشدّ ،واقعية، المادية أم المعنوية ؟ قياساً إلى ما قدّمناه من الصفات المادية والمعنوية بحسب ما يتسع له المجال .

الفقر أشد الرذائل:

ما هو الفقر ؟ وما هو الجهل ؟ وما هي النسبة بينهما ؟

أما الفقر فله عدة معانٍ : الأول : مرة نقول الفقر هو مقابل الغنى الوجودي المطلق فالفقر هنا يشمل جميع الممكنات لأنها محتاجة إلى الخالق تعالى وهو الغني المطلق لأنه واجب بذاته ويعطي الوجود لغيره.

ص: 36


1- البحار : ج 58 ص 249 باب 46 ح 2 .
2- البحار : ج 58 ص 250 باب 46 ح 3 ط بیروت .

قال تعالى : { وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } .(1)

إذن المعنى الأول عام يشمل جميع الممكنات وهو فقد ما يحتاج إليه في وجوده واستمراره . .

الثاني : ومرة نقول الفقر المادي مقابل الغنى المالي فهو هنا خصّ بالمال فكل من فقد المال لأجل الزواج أو المسكن أو الملبس فهو فقير

مادّياً.

الثالث : ومرّة نقول الفقر المعنوي مقابل العلم أو المعرفة وهذا الفقر خصّ بالمعنويات ويسمى جهلاً .

الرابع : وهناك فقر آخر ليس في مقابل الغنى بل هو مع الغنى فقر وهو القناعة وعدمها فعدم القناعة فقر وإن كان صاحبها (الورداً) والقناعة غنى وإن كان صاحبها ترابياً .

والظاهر أن الحديث لا يقصد القسم الأول من الفقر بل يريد أن يقارن بين الفقر الثاني والثالث وأيهما الفقر الحقيقي في قوله صلّی الله علیه وآله وسلم:

«لا فقر أشد من الجهل»

هو المعنى الثاني والثالث فالجهل من معاني الفقر ولكنه أشد وطأة على النفس من الفقر المادي إذ إنه يقعدها عن الكمال والغايات المعنوية فالجاهل لا يعرف بناء نفسه ولا أسرته ولا تربية أطفاله ولا يعرف كيف يعاشر مجتمعه ولا يفهم معنى العبادة والحياة.

أما الفقر المادي فربما لا يقعد الإنسان عن تحصيل الكمالات والغايات المعنوية لأن الغايات غير مقرونة بالمال دائماً وإن كانت الحاجة إلى المال كوسيلة للمعاش وتحصيل المعارف ماسة . ولو أقعد الفقر المادي الإنسان عن غايته فهو مذموم ولو تتبعنا الروايات الشريفة لرأينا قسماً منها يذم الفقر :

ص: 37


1- سورة آل عمران ؛ الآية : 97 .

قال الإمام الصادق علیه السلام :

«كاد الفقر أن يكون كفراً» . (1)

وقال أمير المؤمنين علیه السلام : «الفقر الموت الأكبر»(2)

ولر أينا قسماً آخر يمدح الفقر. يقول الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم:

«الفقر فخري» (3)

وقال أمير المؤمنين علیه السلام :

«الفقر مخزون عند الله بمنزلة الشهادة يؤتيه من يشاء» (4)

فكيف يمكن تصوّر ذلك؟ وفي معرض الجواب على ذلك يمكن تصور الأمر هكذا : إن الفقر المادي الممدوح إذا كان مع الرضا والقناعة والصبر والصدق أو العفاف والكفاف لأن الفقير الراضي أو الصابر .. الذي لم يجد قوتاً قد يتعفف نتيجة علمه بأنه في دار امتحان وبلاء وهذا الامتحان وسيلة لتحقيق الكمال والغرض الأخروي فهو وإن كان قد فقد المال ولكن لم يفقد عفّته ولا كماله كما كان الأنبياء والأئمة عليهم الصَّلاة والسَّلام والصالحون من الناس لا يفرق عندهم الحال سواء كانوا فقراء أم أغنياء ؟ بل واصلوا طريقهم طريق الله تعالى .

أما الفقر المادي الذي لم يستعفف صاحبه من الناس ولم يتسم بالقناعة والرضا . .فهو الفقر المذموم وهذا ناتج من الجهل بأحوال الدنيا وأنها وسيلة وليست غرضاً أو غاية كما أنّه يجهل بناء دينه ونفسه وأسرته والتعايش مع المجتمع فتتجمع في ذاته صفة الفقر المادي (عدم المال) والفقر المعنوي (الجهل) وهذا المعنى قد ذمته الأحاديث الشريفة.

ص: 38


1- البحار : ج 9 ص29 باب 94 ح 26 ط بیروت .
2- نهج البلاغة : حكم 163 .
3- البحار : ج 69 ص 49 باب 94 ح 58 ط بیروت
4- نفس المصدر السابق : ص48.

كما أن الجهل بصورة عامة سواء كان الإنسان فقيراً أو غنياً فهو مذموم ومن هنا فإن المعنى الثالث - الفقر المعنوي - من أشد الرذائل والمعنى الثاني - أي الفقر المادي - إذا كان مصحوباً بالجهل وعدم العفة فهو أيضاً من أشد الرذائل . أما إذا كان مصحوباً بالرضا والصبر والقناعة فهو ممدوح ومن الفضائل .

الوحدة والعجب:

بعد آخر بين الظاهر والباطن أو بين المادي والمعنوي يبينه الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم بقوله :

«لاوحدة أوحش من العجب» .

ص: 39

إذ إن الوحدة أن يعيش الإنسان معزولاً عن الآخرين وله صور :

الأولى: الوحدة المادية : أن يعتزل الناس بجسمه كمن يجلس في بيته أو في كهف وما شابه .. معتزلاً عن الآخرين.

الثانية : الوحدة المعنوية : أن يعتزل الناس بفكره لا بجسمه .

علاج الفقر في كمال العقل:

كما أن المعنى الأول للفقر وهو الاحتياج إلى الخالق تعالى من أشرف الفضائل التكوينية للإنسان لاحتياجه إلى الغني المطلق والقادر على كل شيء العليم الرحيم . .

وإذا عرف السبب من ذم الفقر فعلاجه يصبح بسيطاً وذلك بالتعلّم وإزالة الجهل عن النفس مع الاعتقاد بالحق وذلك باتخاذ المعرفة من منبعها

و هو الكتاب والسنّة المطهرة لأهل البيت علیه السلام.

وفي رواية عن أبي عبد الله الصادق علیه السلام قال :

[ الفقر الموت الأحمر ، فقال أحد أصحاب الإمام عليه السلام :

الفقر من الدينار والدرهم ؟

فقال : لا ولكن من الدين ] .(1)

فالفقر من الدين أي فقر النفس - الجهل - إذن أشد من الفقر المادي «لا فقر أشد من الجهل» هذا من ناحية الاحتياج. . وقد أردف الرسول الاعظم صلّی الله علیه وآله وسلم كلامه من ناحية أخرى وهي الكسب وعدم الكسب وعدم الاحتياج للمال بقوله صلّی الله علیه وآله وسلم

«لا مال أعود من العقل» وهذا نوع بلاغة الكلام وحكمة عظيمة إذ ما جاء من معنى هناك يأتي هنا من الطرف الآخر في الجانب التصاعدي ؛

ص: 40


1- الكافي : ج 2 ص 266 باب بدون عنوان ح 2 ط 3 .

فالإنسان الذي يكسب المال دون تنمية العقل واستخدامه في الموقع الصحيح الدين - مذموم. وأما لو نمّى عقله فقد استعان على نفسه وعلى أسرته ومجتمعه ودينه وهذا هو الطرف الممدوح وهو أعود من المال الذي قد يصبح أحياناً وبالاً على صاحبه لو لم يستخدمه في طريق رضا الله تعالى . .

قال رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم:

«لكل شيء آلة وعدّة ، وآلة المؤمن وعدّته العقل ، ولكل شيء مطيّة ومطية المرء العقل، ولكل شيء غاية وغاية العبادة العقل، ولكل قوم راع وراعي العابدين العقل ، ولكل تاجر بضاعة وبضاعة المجتهدين العقل ،ولكل خراب عمارة وعمارة الآخرة العقل ، ولكل سفر فسطاط يلجئون إليه وفسطاط المسلمين «العقل» .(1)

وقال الإمام أمير المؤمنين علیه السلام :

«لا غنى أكبر من العقل» (2)

وقال الإمام الكاظم عليه السلام :

من أراد الغنى بلا مال وراحة القلب من الحسد والسلامة في الدين فليتضرع إلى الله في مسألته بأن يكمل عقله» .(3)

الوحدة المادية بين المدح والذم:

أما الوحدة المادية وهو اعتزال الناس بالجسم فأيضاً منه ما هو ممدوح ومنه ما هو مذموم وبيانه :

إن الإسلام يولي الأهداف والغايات عناية كبيرة ويربط مصير بأهدافها. فكل تصرف يحقق الهدف الصحيح ،ممدوح، فإذا كانت العزلة عن الناس لغرض الإبتعاد عن المعاصي والنهي عن المنكر والتوجه إلى الله تعالى، فقد جاءت لغاية شريفة ونبيلة فهي إذن ممدوحة . .

أما لو كان التصرف لا يحقق الهدف فهو مذموم إذ لو كانت العزلة بالجسم عن الناس تبعد الإنسان عن تعلّم المعارف الدينية الفاضلة والتحلّي بالأخلاق الحسنة والألفة وثواب صلاة الجماعة .. فهذه العزلة تبعد الإنسان عن هدفه فهي مذمومة .وما ورد من الأحاديث الشريفة في مدح العزلة كان ناظراً إلى الهدف .

قال رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم: «العزلة عبادة» (4)

وقال أمير المؤمنين علیه السلام : «سلامة الدين في عزلة الناس»(5)

وقال الإمام الصّادق علیه السلام: «فسد الزمان وتغيّر الإخوان ، وصار

ص: 41


1- البحار : ج 1 ص 95 باب 1 ح 34 .
2- البحار : ج 75 ص 111 باب 19 ح 6 .
3- الكافي : ج 1 ص 18 كتاب العقل والجهل ح 12 ط 3 .
4- البحار : ج 74 ص 183 باب 7 ح 28 ط بیروت .
5- تصنيف غرر الحكم : ص 319 ط الأولى .

الإنفراد أسكن للفؤاد »(1)

وأما فوائد العزلة فهي الفراغ للعبادة والذكر ، والاستئناس بمناجاة الله تعالى ، والتخلّص من المعاصي التي تأتي من المخالطة السلبية كالغيبة والرياء وسائر آفات اللسان أو من شرّ الناس وإيذائهم والخلاص من الفتن والخصومات والوقوع في شراك الظلمة والفسقة وما شابه من الأمور التي قد يواجهها الإنسان بمعاشرته للناس. .

هذا من جانب واما الأخبار الواردة في المخالطة وتفضيلها على العزلة پفمنها قول رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم.

«خير المؤمنين من كان مألفة للمؤمنين ، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف » . (2)

وقول الإمام أمير المؤمنين علیه السلام :

«خالطوا الناس مخالطة إن متّم معها بكوا عليكم، وإن عشتم حنّوا إليكم» .(3)

وفوائد المخالطة عديدة منها كسب الأخلاق الفاضلة واستماع المواعظ والنصائح وتعلّم أصول الدين وأحكامه وتعليمها الناس ونيل الثواب بحضور صلاة الجماعة والجمعة والعيدين والجنازة وعيادة المرضى وزيارة أهل البيت علیه السلام وحضور المجالس الحسينية وأداء الشعائر وزيارة الإخوان وقضاء حوائج المحتاجین ورفع الظلم عن المظلومين إلى غيرها من الفوائد الظاهرة للناس من الاجتماع الصحيح أي مجتمع الفضيلة..

وكما قلنا إن الملاك هو الهدف فإذا كانت العزلة تحقق الهدف فهي ممدوحة وإذا كانت لا تحققه فهي مذمومة وهكذا في المخالطة ولا تنافي إذن

ص: 42


1- البحار : ج 47 ص 60 باب 26 ح 116 ط بيروت.
2- البحار : ج 72 ص 265 باب 67 ح 9 .
3- نهج البلاغة : حكم 10 .

فی الأخبار والروايات هذا ما يخص الوحدة المادية

الوحدة المعنوية سلباً وإيجاباً:

والصورة الثانية هي أن يعجب الإنسان برأيه ويتخلى عن آراء الآخرين حيث يستعظم رأيه لأجل ما يرى له من صفة كمال ومن الواضح أن الذي يعجب بنفسه يستكبر على الناس فيكرهونه ولا يحبونه ويتحاشون الكلام معه فلا يأخذون منه شيئاً ولا يعطونه شيئاً فيعيش في عزلته، بينما الإنسان مفطور على الاجتماع والحاجة إلى الناس. لكن المعجب بنفسه يعيش وحيداً نفسياً وفكرياً لأنه يشذ عن الآخرين ولذا يبقى في ظلمة والإنسان الذي يعيش في ظلام يستوحش ما حوله وإذا ما نزلت به نازلة أو مشكلة تخلّى الناس عنه لأنهم لا يرونه إذ إن الظلام يحجبه عن أنظار الناس ولذا فهو يعيش في خوف دائم وقلق مستمر.

وفي رواية قال رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم :

«بينما موسیٰ علیه السلام جالساً إذ أقبل عليه إبليس وعليه برنس ذو ألوان . . فقال له موسى ! فما هذا البرنس؟

قال : به أختطف قلوب بني آدم فقال موسى علیه السلام : فأخبرني بالذنب الذي إذا أذنبه ابن آدم استحوذت عليه؟ قال : إذا أعجبته نفسه، واستكثر عمله، وصغر في عينه ذنبه». (1)

ومن كتاب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام للأشتر لما ولاه مصر قال :

«إياك والإعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها وحبّ الإطراء، فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه ليمحق ما يكون من إحسان

المحسن» .(2)

ص: 43


1- البحار : ج 69 ص 312 باب 117 ح 8 .
2- نهج البلاغة : كتاب 53

ومن أقوال أمير المؤمنين علیه السلام في العجب :

«العجب حمق».(1)

و «العجب رأس الجهل» .(2)

و «إعجاب الرجل بنفسه برهان نقصه و عنوان ضعف عقله» .(3)

وقال علیه السلام أيضاً : «العجب هلاك».(4)

وقال علیه السلام أيضاً : «الإعجاب يمنع الإزدياد».(5)

والأخبار والقصص في هذا المجال كثيرة لا يتّسع المجال لذكرها، وأما علاج العجب فقد ذكرت الأخبار أنه :

«إذا زاد عجبك بما أنت فيه من سلطانك فحدثت لك أبهة أو مخيلة، فانظر إلى عظم ملك الله وقدرته مما لا تقدر عليه من نفسك، فإن ذلك يلين من جناحك ويكفّ من غربك، ويفيء إليك بما عزب عنك من عقلك » . (6)

قال الإمام الباقر علیه السلام :

«سدّ سبيل العجب بمعرفة النفس» 3.(7)

فمعرفة الله تعالى وعظمته وملكه ومعرفة الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم وعظمته ومنزلة أهل البيت علیه السلام عند الله تعالى ومعرفة النفس هي العلاج الناجح للخروج من الوحشة أو من ظلمة العجب إلى النور . . .

ص: 44


1- تصنيف غرر الحكم : ص 308 و 309 .
2- تصنيف غرر الحكم : ص 308 و 309 .
3- تصنيف غرر الحكم : ص 308 و 309 .
4- البحار : ج 69 ص 315 باب 117 ح 17
5- نهج البلاغة : حكم 167
6- تصنيف غرر الحكم : ص 308 ط 1 .
7- البحار : ج 75 ص 164 باب 22 ح 1 .

الكمال في العقل المدبّر:

وأردف الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم وصيته بعد هذا الكلام بقوله «لا عقل كالتدبير» لأن الناس جميعهم في أصل الخلقة يمتلكون العقل فالناس متساوون من حيث امتلاكهم للعقول ولكنهم متفاوتون في استخدام العقل. فالعقل قياساً إلى المادة لا فرق فيه بين شخص وآخر، وأما بقياس المعنويات أو الباطن فهناك تفاوت في الاستخدام، فالإنسان الذي يبغي الكمال والوصول إلى الحقائق والمعارف لا بد له من التدبير وهو الاعتبار بالتجارب التي يخزنها العقل ومعرفة الحق من الباطل والكفّ عن القبائح والمعاصي ونيل الحسنات وتقدير أُمور المعاش والاهتمام بإصلاح المعاد قال الإمام أمير المؤمنين علیه السلام :

«أفضل العقل الاعتبار».(1)

وقال علیه السلام: «حسن العقل جمال الظواهر والبواطن» .(2)

وقال علیه السلام أيضاً: «أفضل الناس عقلاً أحسنهم تقديراً لمعاشه، وأشدّهم اهتماماً بإصلاح معاده» .(3)

وأما الذي لا يستخدم عقله ويجني فوائده المعنوية فهو فاقد للكمالات المذكورة وخاسر بقياس المعنويات ولذا عبّر الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم ب- «لا عقل كالتدبير» لأن التدبّر يعطي نتائج العقل وثمراته مباشرة أما الذي لا يتدبّر فهو لا يصل إلى الهدف الأكمل في معاشه أو معاده فهو عاقل بحساب المادة فقط أما الثاني فهو عاقل بحساب الماديات والمعنويات .

ص: 45


1- تصنيف غرر الحكم : ص 52 ط الأولى .
2- نفس المصدر
3- نفس المصدر

الورع صلاح الدنيا والدين:

وفي وصية الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم قوله أيضاً :

و لا ورع كالكف عن محارم الله تعالی ».

فما هو الورع ؟

الورع له معنيان :

الأول : وهو الإجتناب عن أكل مال الحرام والتنزّه عن ذلك طلباً وأخذاً واستعمالاً وهو من رذائل القوة الشهوية . (1)

الثاني : وهو كف النفس عن مطلق المعاصي ومنعها عمّا لا ينبغي وهو من رذائل القوة الشهوية والغضبية معاً. وعلى هذا يكون المعنى الأول أخصّ من الثاني والثاني أعمّ من الأول والمعنى الأول ظاهري والثاني يشمل الظاهر والباطن إذ إن الكف عن مطلق المعاصي يشمل جميع النواهي من الأحكام الإلهية سواء منها الظاهري كشرب الخمر أو الباطني كالعجب ...

والظاهر أن مراد الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم في وصيته : إن الإنسان الذي لا يكف نفسه عن المعاصي والذنوب في الخفاء أو مطلق المعاصي فإن ورعه الظاهري أو كف نفسه عن أكل مال الحرام فقط ليس بورع كامل لأنه لا يكون له رادع لباطنه أو رادع معنوي كبير . أما الورع عن مطلق المعاصي فهو رادع وكف ظاهري أيضاً .

وفي حديث المعراج : «يا أحمد عليك بالورع فإن الورع رأس الدين ووسط الدين وآخر الدين ...إن الورع كالشّنوف بين الحليّ والخبز بين الطعام ، إن الورع رأس الإيمان وعماد الدين إن الورع مثله كمثل السفينة

ص: 46


1- راجع جامع السعادات : ج 2 ص 175

كما أن في البحر لا ينجو إلاّ من كان فيها كذلك لا ينجو الزاهدون إلاّ بالورع» .(1)

وإن من ثمار الورع صلاح النفس وصلاح الدين وبالتالي صلاح المجتمع والفوز بالسعادة الدنيوية والأخروية. أما الدنيوية فالمجتمع الذي يسوده الورع هو مجتمع الفضيلة فيتمكن الإنسان من استغلال أوقاته في الطاعات والفضائل الأخلاقية .. وأما الأخ وأما الأخروية فواضح لأن من يدخل الامتحان وهو مستعد له فلا شك أن نهايته النجاح فكيف من استعدّ للآخرة بالشكل المطلوب ليقف يوم القيامة أمام محكمة العدل

الإلهي.

قال الإمام أمير المؤمنين علیه السلام : «ثمرة الورع صلاح النفس والدين .(2)

وقال علیه السلام أيضاً : «مع الورع يثمر العمل ».(3)

وفي رواية :

«إن رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم خطبنا ذات یوم فقال :

أيها الناس إنه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيّامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي وساعاته أفضل الساعات هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله وجعلتم فيه من أهل كرامة الله أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب ..

قال أمير المؤمنين علیه السلام : فقمت فقلت :

يا رسول الله ! ما أفضل الأعمال في هذا الشهر؟

ص: 47


1- البحار : ج 74 ص 26 باب 2 ح 6 ط بیروت.
2- تصنيف غرر الحكم : ص 271 و275ط الأولى .
3- تصنيف غرر الحكم : ص 271 و275ط الأولى .

فقال : يا أبا الحسن أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله عزّ وجلّ . . .(1)

وقال الإمام الصادق علیه السلام :

«لا ورع أنفع من تجنب محارم الله عزّ وجلّ والكف عن أذى المؤمنين واغتيابهم» . (2)

التفكر من أعظم العبادات:

ومن وصية الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم : «لا عبادة مثل التفكر».

البعض من الناس قد يرى العبادة في أداء الصَّلاة والصيام والحج ..وما شابه فقط من دون تفكر في عواقبها وعللها وثمرات التعبّد بها ولعلّه يؤدي حركات أو أقوالاً منثورة مفروضة عليه ،وهي وإن كانت واجبة لكنها في الظاهر عبادة يُجزى بها الإنسان خيراً - إن شاء الله تعالى - ولكن هذه العبادة الخالية من التفكر ظاهرية وسطحية وقد تنعدم عند المصائب والبلايا، فلا نجد العبد واقفاً بدون تفكّر فحسب بل قد ينهزم ويترك العبادة. كذلك في المواطن التي ينبغي فيها أن تظهر العبادة ،أثرها نراه لا يظهر بسبب سطحيتها مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر أو الصوم الذي فيه مواساة للضعفاء فأنت تجد الكثير يصلّي ويصوم ولكن لا يحقق غرض التعبّد بهما .

هذا قسم من التفكر، والقسم الآخر التفكر في ذات العبادة وفوائدها وآثارها وتطبيقها في الخارج، وتفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة إنه يحقق لك غاية العبادة في ساعة واحدة لأنه يختصر المسافة إذ بالعبادة تدلل أنك تعتقد بالخالق وتحصل بعد مدّة آثار العبادة ومنافعها المعنوية والنفسية

ص: 48


1- البحار : ج 93 ص 356 باب 46 ح 25ط بیروت
2- البحار : ج 66 ص 400 باب 38 ح 93 ط بیروت

والمادية، أما بالتفكّر فتحصل عليها بساعة وهذا اغتنام للعمر وتكثير للمنافع . .

والتفكر سير الباطن من المبادىء إلى المقاصد والمبادىء هي آيات الآفاق والأنفس، والمقصد هو الوصول إلى معرفة موجدها ومبدعها والعلم بالقدرة الإلهية وعظمته الباهرة الباهرة .. قال تعالى :

{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ }. (1)

وقال تعالى :{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} .(2)

وقال تعالى :{وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وفِي انفسکم افلا تبصرون}(3)

وقال رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم:

«فكرة ساعة خير من عبادة سنة» (4)

وقال الإمام الصادق عليه السلام :

«كان أكثر عبادة أبي ذر رحمة الله عليه التفكّر والاعتبار » .(5)

وقال الإمام أمير المؤمنين علیه السلام :

«نبّه بالتفكر قلبك، وجاف عن الليل جنبك، واتق الله ربك» . (6)

وهناك أحاديث كثيرة تدعو إلى التفكر حيث إنه يرشد إلى العبادة

ص: 49


1- سورة الروم ؛ الآية : 8 .
2- سورة العنكبوت ؛ الآية : 25
3- سورة الذاريات ؛ الآيتان : 20 و 21
4- البحار : ج 68 ص 326 باب 80 ح 20 ط بیروت
5- البحار : ج 68 ص 326 باب 80 ح 20 ط بیروت
6- الكافي : ج 2 ص 54 باب التفكر ح 1 ط 3

الصحيحة فالعابد الذي يؤدي عمله قد لا يصل إلى معرفة بواطن الأمور التي يعرفها العابد المتفكر في بواطن الأمور ومقاصدها . والثاني يصل إلى الهدف والكمال الصحيح دون تزعزع في طريقه فالتفكر مبعث كل خير من العبادة ولا يقع معه العابد في المزالق ولا يسقط عند الابتلاء والامتحان

مصير الإنسان رهين التفكّر:

إن الدنيا دار امتحان وابتلاء وفي الامتحان يكرم المرء أو يهان. ومن تفكّر في عواقب أموره يصل إلى درجة النجاح، ولذا فإن التفكر يحسن مصير الإنسان وعاقبته ويمكن أن نأخذ عبرة على ذلك من قصّة الحر بن يزيد الرياحي رضوان الله تعالى عليه : قال الشيخ المفيد رحمه الله : فلما رأى الحر بن يزيد أن القوم قد صمموا على قتال الحسين علیه السلام قال لعمر بن سعد :

أي عمر ! أمقاتل أنت هذا الرجل ؟

قال : أي والله قتالاً شديداً أيسره أن تسقط الرؤوس، وتطيح الأيدي قال : أفما لكم فيما عرضه عليكم رضى ؟

قال عمر بن سعد : أما لو كان الأمر إليّ لفعلت، ولكن أميرك قد أبى ، فأقبل الحرّ حتى وقف من الناس موقفاً ومعه رجل من قومه يُقال له قرة بن قيس فقال له : يا قرّة هل سقيت فرسك اليوم ؟ قال : لا ، قال : فما تريد أن تسقيه؟ قال قرّة : فظننت والله أنه يريد أن يتنحّى ولا يشهد القتال فكره أن أراه حين يصنع ذلك. فقلت له : لم أسقه وأنا منطلق فأسقيه، فاعتزل ذلك المكان الذي كان فيه فوالله لو أنه أطلعني على الذي يريد لخرجت معه إلى الحسين - وقد كذب قرّة في كلامه لأنه رأى الحر بعد ذلك يقاتل مع الإمام الحسين علیه السلام ولم يتنحّ عن موقفه - فأخذ يدنو من الحسين قليلاً قليلاً، فقال له مهاجر بن أوس : ما تريد يا ابن يزيد ؟ أتريد أن تحمل؟

ص: 50

فلم يجبه فأخذه مثل الأفكل وهي الرعدة، فقال له المهاجر : إن أمرك لمريب، والله ما رأيت منك في موقف قط مثل هذا، ولو قيل لي : من أشجع أهل الكوفة؟ لما عدوتك، فما هذا الذي أرى فيك؟ فقال له الحر : إني والله أخيّر نفسي بين الجنة والنار، فوالله لا أختار على الجنة شيئاً ولو قطعت وأحرقت .

وهذه عاقبة التفكر ثم ضرب فرسه فلحق الحسين علیه السلام فقال له : جعلت فداك يابن رسول الله أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع، وسايرتك في الطريق، وجعجعت بك في هذا المكان وما ظننت أنّ القوم يردّون عليك ما عرضته عليهم ولا يبلغون منك هذه المنزلة والله لو علمت أنهم ينتهون بك إلى ما أرى ما ركبت مثل الذي ركبت وأنا تائب إلى الله ممّا صنعت، فترى لي من ذلك توبة ؟

فقال له الحسين علیه السلام : نعم يتوب الله عليك فانزل .

فقال : أنا لك فارساً خير منّي راجلاً أقاتلهم على فرسي ساعة وإلى النزول ما يصير آخر أمری فقال له الحسين علیه السلام : فاصنع يرحمك الله ما بدا لك» .(1)

ثم إن الحر لم يزل يقاتل حتى قتل رحمه الله فاحتمله أصحاب الحسين علیه السلام حتى وضعوه بين يدي الحسين علیه السلام و به رمق فجعل يمسح وجهه ويقول:

«أنت الحرّ كما سمّتك أُمك، وأنت الحرّ في الدنيا، وأنت الحرّ في الآخرة» .(2)

وقيل إن علي بن الحسين علیه السلام، رثاه بهذه الأبيات :

لنعم الحرُّ حرُّ بني رياح*** صبور عند مختلف الرماح

ص: 51


1- البحار : ج 45 ص 10 و 11 باب 37 ط بیروت.
2- البحار : ج 45 ص 14 باب 37 ط بیروت .

ونعم الحرّ إذ نادى حسيناً ***فجاد بنفسه عند الصياح

فيا ربي أضفه في جنان*** وزوّجه مع الحور الملاح

نعم هذه عاقبة التفكّر : خير الدنيا وخير الآخرة ؛ أما خير الدنيا فوقوفه بين يدي الإمام الحسين علیه السلام سيد شباب أهل الجنة واستشهاده بين يديه والإمام علیه السلام يمسح على وجهه ويذكر فيه كلمات ستبقى خالدة إلى الأبد وأما الآخرة فالفوز بالجنة . .

فالحديث الشريف أجرى مقارنة بين الظواهر والبواطن في الأمور وفق مقياس المادة أو المعنويات، ومن الواضح أن الماديات لو قيست بالمعنويات والظاهر بالبواطن لرجحت كفة الباطن على الظاهر والمعنويات على الماديات ومن هنا قاس الفقر مع الجهل والوحدة والعجب والعقل والتدبير والورع والكف عن محارم الله تعالى . . .

ومن هنا فإن الحديث يعد دعوة إلى الجميع للتمسك بمقاييس الباطن لدى التقييم والعمل بغية الوصول إلى حقائق الأمور وفق المقياس المعنوي الصحيح أولاً .

وبغية التمسك بجذور الأمور وأصولها قبل قشورها ومظاهرها .

ص: 52

3- الدُّنيا وَسيلَة أَم هَدَف

اشارة

ص: 53

ص: 54

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) لعلي (علیه السلام):

«يا علي .. أوحى الله تبارك وتعالى إلى الدنيا :اخدمي من خدمني وأتعبى من خدمك» .(1)

الدنيا مرحلة انتقالية:

من الغريب حقاً أن ينصهر الإنسان في حب الدنيا فلا شغل شاغل له إلا الدنيا ويضحى وكأن الدنيا جزء من قواه وكيانه الذي لا يمكنه أن يستغني عنه فيعيشها بروحه ومشاعره وأحاسيسه وأفكاره بما لا يبقي جانباً من جوانبه الإنسانية إلاّ وقد ملأه حب الدنيا، وحينئذٍ تكون كل موازينه وتصرفاته والمعادلات التي يؤمن بها ولا يتعامل بغيرها دنيوية وعادة الأمور الدنيوية لها بريق يخطف أبصار الذين غرتهم الدنيا وخدعوا بها. وهم بالمقابل لا يدركون أن هذا البريق له عمر وينتهي في لحظة ما .

يقول الإمام أمير المؤمنين : «ضلال العقل يُبعد من الرشاد ويُفسد المعاد . (2)

لا شك أن الدنيا ونعمها جميلة وجذابة تستهوي الإنسان ولكن العاقل هو الذي يأخذها ويسخّرها لخدمته وغير العاقل يسخّر نفسه لخدمة دنياه .

ص: 55


1- مدينة البلاغة : ج 1 ص141. (
2- تصنيف غرر الحكم : الآمدي ص 55 ح 513 .

يقول أمير المؤمنين : «الدنيا دار ممر لا دار مقر والناس فيها رجلان: رجل باع فيها نفسه فأوبقها ورجل ابتاع نفسه فأعتقها » .(1)

فإن الله عزّ وجلّ قد سخّر الدنيا وما فيها للإنسان لكي يسخرها من أجل الوصول إلى أهدافه السامية. يقول الشاعر :

لو كان يهدى إلى الإنسان قيمته*** لكان يهدى لك الدنيا وما فيها

وهذا هو المنهج الصحيح لأن الغاية من خلق الإنسان هو وصوله إلى كماله ومن ثم البقاء والخلود في الجنة وهذا نوع كمال آخر ومن أجل وصوله إلى ذلك فقد سخّر الله له العديد من مخلوقاته في الحياة الدنيا فكانت الدنيا وما فيها مرحلة عبور وانتقال ولم تكن غاية ومحطة بقاء ولذلك فإن جميع في الدنيا موسوم بالفناء والاضمحلال كما يقول الشاعر :

ألا كل شيء ما سوى الله باطل*** وكل نعيم لا محالة زائل

والإنسان الواعي يدرك هذا بقليل من التأمل والتدبر ولكن عندما يغيب الفكر والوعي يبدأ هدف الإنسان بالتلاشي في داخله فينظر إلى الأمور الدنيوية وكأنها أهداف لا بد من الوصول إليها وينظر إلى الدنيا وكأنها محطته الأخيرة. نعم يمكن أن يعتقد الإنسان بالآخرة ولكن هذا الاعتقاد غير واضح في سلوكه بل إنه يعيش الفكرة على طرفي نقيض فيلاحظ إحاطة الأشياء به و استغراقه بها ولا ينقطع عن التفكير بها والركض وراءها لأنه يشخصها باعتبارها هدفاً له بعد أن فقد هدفه الرئيسي .

ولذلك نلاحظ أن القرآن الكريم عندما يعرض الحياة الدنيا يستعرضها وكأنها مراحل انتقالية لا يجب التمسك بها فالقرآن يسمها بسمات تدل على ضعتها وتسافلها .

{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي

ص: 56


1- النهج : ح 133 ص 163 نسخة المعجم.

الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَاد}. (1)

وجاء في تفسير (2) الآية أن اللعب هو عمل منظوم لغرض خيالي كلعب الأطفال . واللعب هو عكس الجدية والعمل المثمر. فيصف الدنيا وكأنها لعب ينتهي في لحظة ما عكس العمل الجدي المثمر فإنه يتمتع بالاستمرارية والعطاء .

ثم يقول تعالى : لهو واللهو ،ما يشغل المرء عما يهمه. فيصفها باللهو لأنها تصرف الإنسان عما يهمه إلى ما لا يهمه فيفقد هدفه العظيم وينصرف إلى قضايا وأمور تنتهي في الدنيا ولا ثمرة لها في الآخرة هذا إذا لم تضر في الدنيا .

عن الشيخ البهائي (ره) إن الخصال الخمس المذكورة في الآية (لعب - لهو - زينة - تفاخر - تكاثر) مرتبة بحسب سني عمر الإنسان ومراحل حياته فيتولع أولاً باللعب وهو طفل أو مراهق ثم إذا بلغ واشتد عظمه تعلق باللهو والملاهي ثم إذا بلغ أشده اشتغل بالزينة من الملابس الفاخرة والمنازل العالية ثم يبدأ بالتفاخر وإذا شاب سعى في تكثير المال والولد .(3)

ثم بعد أن يعرض لنا القرآن حقيقة الدنيا يريد أن يقرب المعنى الواقعي لها إلى نفوسنا فيقول تعالى :

{كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ... وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ }.(4)

فهو مثل لزينة الحياة الدنيا التي يغتر الإنسان بها فهي في بهجتها وزخارفها كمثل مطر أعجب الزراع لأنه يسبب عذوبة وخصوبة التربة ونمو

ص: 57


1- سورة الحديد ؛ الآية : 20 .
2- الميزان : ج 19 ص 164 ط بیروت .
3- نقلاً عن الميزان : ج 19 ص 164 بتصرف.
4- سورة الحديد ؛ الآية : 20 .

النبات ثم يتحرك هذا النبات إلى أن يكون يابساً مصفراً لا فائدة منه.(1)

والدنيا وأهلها هكذا أيضاً فلا ينبغي أن ننظر إلى الدنيا وكأنها محور ترتكز حوله قلوبنا وأفكارنا بل لا بد أن تكون الدنيا وما فيها أمراً مساعداً لكي ترتكز قلوبنا وأفكارنا إلى محور آخر وهو الآخرة وحب الله عزّ وجلّ .

يقول الإمام عليه السلام : «لو كانت الدنيا عند الله محمودة لاختص بها أولياءه لكنه صرف قلوبهم عنها ومحا عنهم منها المطامع ».(2)

ويقول : «إن كنتم تحبون الله فأخرجوا من قلوبكم حب الدنيا» .(3)

فالإمام يؤكد على أن يكون المحور لدى الإنسان هو حب الله وتكون الدنيا أمراً ثانوياً .

حب الدنيا:

إن الله سبحانه لا يجمع في قلب حبين فإما حب الدنيا وإما حب {َمَا جَعَلَ اللَّهُ لرجل من قلبین في جوفه }(4) لأن حب الإيمان والآخرة غير حب الدنيا والملذات فالحبان على طرفي نقيض . نعم يمكن التوفيق بينهما عندما يجعل الإنسان الأمور الدنيوية مسخرة من أجل الإيمان لاالعكس.

وكلما ازداد حب الدنيا في قلب الإنسان كلما ابتعد رويداً رويداً عن حب الله عزّ وجلّ لأن الدنيا كمثل السراب.

«من سعى في طلب السراب طال تعبه وكثر عطشه» (5)

فأحياناً يتصور الإنسان أنه عندما يحصل على هذا المقدار من الدنيا فإنه حينئذ سوف ينصرف منها إلى الله عزّ وجلّ ولكن كلا فإنه سوف يتابع ويركض

ص: 58


1- راجع تفسير الميزان : ج 19 ص 164 لمزيد من التفصيل.
2- تصنيف غرر الحكم : ص 143ح2576 وص 141 ح2510 .
3- تصنيف غرر الحكم : ص 143ح2576 وص 141 ح2510 .
4- سورة الأحزاب ؛ الآية : 4 .
5- . تصنیف غرر الحكم : ص 136 ح2375.

وراء الأمر الثاني ومن بعده يركض وراء الثالث وهكذا يركض ويركض حتى يموت وعندها يلتفت إلى أنه خرج من الدنيا صفر اليدين.

فإذا جمع الإنسان (1000) دينار مثلاً فإنه يسعى نحو إضافة صفر آخر إلى هذا الرقم وهكذا كل يوم يفكر في زيادة الأصفار إلى الرقم حتى إذا أدركه الموت تركها جميعاً وانصرف خاسر العمر .

عبر من الدنيا:

يحكى أن أحد الأغنياء كان يمتلك أراضي زراعية كثيرة وواسعة جداً فقال ذات يوم لأحد الفقراء من المزارعين : اركض حول هذا المكان وبقدر ما ركضت وقطعت المسافات تكون تلك الأراضي لك فجعل الرجل الفقير يركض ويركض من الصبح إلى الظهر فأصابه التعب والإرهاق فأخذ قسطاً من الراحة ثم عاود الركض طمعاً منه في الحصول على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي إلى أن شارف الليل فوقع ميتاً ولم يحصل على شبر واحد من هذه الأراضي. وهذه نتيجة كل إنسان يسعى وراء الدنيا للدنيا فقط ويترك الآخرة، فحب الدنيا يجذب الإنسان .يقول أمير المؤمنين علیه السلام: «الناس في الدنيا عاملان عامل في الدنيا للدنيا قد شغلته دنياه عن آخرته يخشى على من يخلّف الفقر ويأمنه على نفسه فيفني عمره في منفعة غيره . . » (1)(1)

ويقول علیه السلام: «طالب الدنيا تفوته الآخرة ويدركه الموت حتى يأخذه بغتة ولا يدرك من الدنيا إلاّ ما قسم له»(2) (2)

ويحصل حجاب غليظ بينه وبين ربه عزّ وجلّ: {«كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى

ص: 59


1- تصنيف غرر الحكم : ص 140ح2469 .
2- تصنيف غرر الحكم: ص140ح 2486 .

قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} .(1)

أي أن الذنوب التي اكتسبوها حالت بينهم وبين أن يدركوا الحق والحقيقة والأهداف فتصوروا أن الدنيا هدفهم وفيها خلودهم «ولا يجتمع

الفناء والبقاء ولا تجتمع الآخرة والدنيا». (2)

ولعل من هنا تتحول العبادات إلى طقوس شكلية فاقدة للروح والتأثير فتصبح الصلاة مجرد حركات وبعض أذكار وكذا الصوم مجرد جوع وعطش ... فالتأثير الروحي للعبادة يضمحل ولا تكون حاجزة له عن المنكرات والذنوب لأنها فقدت معناها في داخل الإنسان الدنيوي وأصبحت روحه مع قلبه وفكره مشغولة بالدنيا ولوازمها ومن أجل ذلك كان« حب الدنيا رأس كل خطيئة» .(3)

لأن ولاء الإيمان تلاشى والأثر الروحي للعبادة اختفى فلا مانع يمنع الإنسان من الإتيان بالمنكرات والذنوب فهو يرتكب أنواع المعاصي والذنوب من أجل الحصول على حفنة من التراب أو لذة شهوية تنتهي بدقائق معدودة. ثم تزول كافة الشهوات والملذات وتبقى تبعاتها السيئة تلاحق الإنسان وتنعكس عليه في الدنيا .

بين الدنيا والآخرة:

في اليوم السابع من شهر محرم الحرام أرسل الحسين عليه السلام عمرو بن قرظة الأنصاري إلى ابن سعد بطلب الاجتماع معه ليلاً بين المعسكرين فخرج كل منهما في عشرين فارساً فقال الحسين : يا ابن سعد أتقاتلني أما تتقي الله الذي إليه معادك ؟ فأنا ابن من قد علمت ألا تكون معي وتدع هؤلاء فإنه

ص: 60


1- سورة المطففين ؛ الآية : 14 .
2- تصنيف غرر الحكم : ص 141 ح 2506
3- الكافي : ج 2 باب حب الدنيا ح 1 ص238.

أقرب إلى الله تعالى ؟ قال عمر : أخاف أن تهدم داري قال الحسين : أنا أبنيها لك . فقال : أخاف أن تؤخذ ضيعتي قال علیه السلام: أنا أخلف عليك خيراً منها من مالي بالحجاز ويروى أنه قال لعمر : أعطيك (البغيبغة) وكانت عظيمة فيها نخل وزرع كثير دفع معاوية فيها ألف ألف دينار فلم يبعها منه فقال ابن سعد: إن لي بالكوفة عيالاً وأخاف عليهم من ابن زياد القتل . هنا نلاحظ سيطرة حب الدنيا على قلب ابن سعد حتى صار كل فكره ومنطقه المال والضياع والبيت والعيال ... حتى بلغ من حبه للدنيا أن يقود جيشاً لمحاربة سيد شباب أهل الجنة وابن رسول الله وحجة الله على الخلق . ولما يئس الحسين منه قام وهو يقول : ما لك ذبحك الله على فراشك عاجلاً ولا غفر لك يوم حشرك فوالله إني لأرجو أن لا تأكل من بر العراق إلا يسيراً قال ابن سعد مستهزئاً: في الشعير كفاية. وأول ما شهده ابن سعد من غضب الله عليه هو ذهاب ولاية الري فلم يحصل على شيء منها ومن ثم ذُبح على فراشه قتيلاً . (1)

فهذا نموذج من الذين جانبوا الآخرة وركنوا إلى الدنيا ووثقوا بهااعتقاداً منهم أنها خالدة لهم وأن أعمارهم متطاولة فيفعلون ما يشاؤون وهم

لا يعلمون أن المعاصي والذنوب التي يرتكبونها كافية لإهلاكهم في الدنيا، وتعذبهم في الآخرة العذاب الخالد . فابن سعد عندما اجتمع بالحسين وكأنه اجتماع بين الدنيا والآخرة كان يمثل الدنيا بكل ألوانها والحسين كان يمثل الآخرة بكل معناها .

كيف تخدمنا الدنيا:

وقد ورد في الحديث أيضاً عن رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم: «إن الله جل جلاله أوحى إلى الدنيا أن أتعبي من خدمك واخدمي من رفضك» .(2)

ص: 61


1- راجع مقتل الحسين علیه السلام : ص 205 - 206 لزيادة في التفصيل.
2- سفينة البحار : ج 3 ص 125 ط إيران .

لأنه لا ينبغي للإنسان المؤمن أن يغيب عنه التوحيد الأفعالي بل عليه أن يستشعر آثاره دائماً إذ لا مؤثر في الوجود إلا الله .فالله عزّ وجل هو الذي وضع الأسباب في الدنيا وهو قادر على تبديلها بأسباب أخرى أو تذليلها أو تعطيلها عن القيام بدورها . فأولياء الله والمؤمنون الذين يخدمون الله والذين جانبوا الدنيا وترفعوا عنها وركنوا إلى الله عزّ وجلّ وعاشوا فكرة الإيمان بكل روحهم وجوارحهم وفكرهم هؤلاء تخدمهم الدنيا وذلك بأن يسخر الله لهم الأسباب ويذللها لهم ويسهل أمورهم ولا يحجب دعاءهم .فهم في غنى عن الدوار حول الأمور الدنيوية بل إنهم اكتفوا بالله فكان الله كفايتهم.

{وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} .(1)

فمثلاً نرى أن الله قد عطل قانون النار في الإحراق من أجل خليله النبي ابراهیم علیه السلام .وإنه تعالى قد عطل قانون الماء في الإغراق فكان عيسى علیه السلام يمشي عليه وهكذا هلم جرا.

أما الذين توجهوا إلى الدنيا فحسب واهتموا بها فهؤلاء تتبعهم الدنيا ثم لا يحصلون على شيء منها إلا ما قسم الله لهم . فهؤلاء لأنهم ابتعدوا عن الله عزّ وجلّ وقعوا في ظلمات الدنيا والمادة فجهلوا الأسباب والمسببات وما عادوا يعلمون ماذا يفعلون فترى خطواتهم مضطربة غير منظمة تارة يركضون من هنا وراء أمر وتارة يركضون من هناك وراء أمر آخر وهكذا إلى أن يفاجئهم الموت بعد شقاء وعناء وتعب.

جاء في الحديث «يا موسى إن عبادي الصالحين زهدوا في الدنيا بقدر علمهم وسائر الخلق رغبوا فيها بقدر جهلهم وما من أحد عظمها فقرت عيناه فيها ولم يحقرها أحد إلاّ انتفع بها» .(2)

ص: 62


1- سورة آل عمران الآية : 173 .
2- الكافي : ج 2 باب حب الدنيا ح 9 .

موقفان من الذا:

الإنسان المستغرق في حب الدنيا لطالما يعيش المعاصي والذنوب لأن تفکیره دائماً في حدود (الأنا) والمصلحة الشخصية والمنافع الفردية التي تعود عليه بالنفع فهو مثلاً عندما يفكر في الحصول على أمر ما تراه يجاهد ويسعى من أجله لأنه يسد شيئاً من شهواته وملذاته ويشبع رغبته ولذا فهو يتحرك في إطار الذات منها وإليها حسب. أما الإنسان الذي يقتل في سبيل الله فلو تأملنا حركته لرأيناه قد تجرد من حدود (الأنا) بل إنه يعيش فكرة التجرد والروح والتسامي، إنه يرى حياته من أجل الآخرين ويرى مصلحتهم ومنافعهم قبل مصالحه بل إنه يعيش الآلام بدلهم فنراه يتحمل أشد أنواع العذاب والجراح إلى أن يقتل فتزهق روحه من أجل أن يسعد الآخرين ويعيشوا حياتهم الطبيعية. فالشهيد هو ذلك الإنسان الذي يعيش في آفاق مكانية أوسع ليشمل قلبه كل المظلومين والمضطهدين فيرى في قتله نجاة لهم ويعيش آفاق زمانية رحبة ومتطاولة ليشمل المستقبل. وعكسه الإنسان المحب للدنيا فهو يعيش الأفق النفسي الداخلي لذاته فقط ولا يخرج منه أبداً . وهو الفرق الذي صنع من قطرات دم سيد الشهداء مساجد يذكر فيها اسم الله ومن قبره مناراً تحبو إليه الملايين من كل بقاع العالم لتقتبس منه نوراً ومنهجاً ومن سيرته أسوة حسنة، بينما يزيد وعمر بن سعد وغيرهما .. لم نسمع يوماً أن أحداً تأسى بهما أو انتفع بشيء من سيرتهما السيئة .

فزيد بن عليه السلام يُقال إن ما تبقى من جسده الشريف أوصال مقطعة صغيرة ولكنه مع ذلك علم ويذكره التاريخ الإسلامي بكل إجلال وإعظام ولكن الحجاج مثلاً مع سطوته وبطشه أنظر كيف يذكره التاريخ : يقول السيوطي :(1):

ص: 63


1- تاريخ الخلفاء للسيوطي : ص 220 ط إيران.

«ولو لم يكن من مساوىء عبد الملك إلاّ الحجاج وتوليته إياه على المسلمين وعلى الصحابة يهينهم ويذلهم قتلاً وضرباً وشتماً وحبساً وقد قتل من الصحابة وأكابر التابعين ما لا يُحصى فضلاً عن غيرهم وختم عنق أنس وغيره من الصحابة ختماً يريد بذلك ذلهم فلا رحمه الله ولا عفا عنه» على الرغم من تعصب السيوطي للمذهب السني . قال الأصمعي : قال عبد الملك بن مروان للحجاج : إنه ليس أحد إلاّ وهو يعرف عيبه فعب نفسك . فقال الحجاج : اعفني يا أمير المؤمنين، فأبى عليه فقال : أنا لجوج حقود حسود . فقال عبد الملك : ما في الشيطان أقبح مما ذكرت . (1).

وعلى العموم فهناك رؤيتان للأمور فمرة ينظر الإنسان نظرة معنوية في الحياة ويخط منهجه على أساسها ومرة ينظر نظرة مادية ويرسم منهجه وفقاً لها فالإنسان الذي يهتم بالمعنويات والأمور التي تضفي على الروح رفعة وشموخاً يرى حقارة الدنيا وتسافلها أمثال الذين ينذرون أنفسهم في سبيل الله عزّ وجلّ وفي سبيل الإنسانية .

والقسم الثاني يرى العكس فإنه يرى الدنيا جنة وهدفاً فنراه يقتل نفسه من أجلها .

يُحكى أن رجلاً غنياً قال لأحد الفقراء : لماذا لا تعمل أكثر . فقال الفقير ولماذا ؟ قال : لكي تحصل على الثروة والمال . فقال الفقير : وماذا أصنع به ؟ قال الغني فيكون لك دار كبيرة فيها كل ما تريد وتكون سعيداً فيها فأجابه الفقير : أنا الآن غني بفقري وأشعر بالسعادة فلماذا أتعب نفسي على سعادة لا أعلم أأحصل عليها أم لا .

فالشهيد يعيش بروحه وأعماله تتحول إلى فيوضات تصب منها الرحمة، والإنسان العاصي يعيش ببدنه وأعماله تتحول إلى لعنات وعذابات تصب فوق رأسه .

ص: 64


1- سمط النجوم العوالي : ج 3 ص 181 ط مصر .

الدنيا لا تسع الإنسان:

قال تعالى :{ «وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} .(1)

نزلت الآية في كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية وذلك أنهم تخلفوا عن رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم ولم يخرجوا معه في غزوة تبوك ولم يكن لهم عذر وإنما تثاقلوا عن الخروج فعندما رجع الرسول الأكرم من الحرب ندموا على عدم خروجهم فتقدموا إليه معتذرين فلم يكلمهم الرسول وأمر المسلمين بعدم مكالمتهم أو الإختلاط بهم فهجرهم الناس جميعاً حتى الصبيان ثم جاءت نساؤهم إلى رسول الله فقلن يا رسول الله هل نعتزلهم ؟ فقال : لا ولكن لا يقربوكن. فضاقت عليهم الأرض .

{حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} .(2)

أي أن الأرض برحبها ضاقت عليهم بل {وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ} .(3)

حتى أنفسهم لم تعد لتسعهم فقرروا أن يتفرقوا ويتوجهوا إلى الله بالتوبة فبقوا خمسين يوماً متوجهين الله عزّ وجلّ حتى تاب الله عليهم. (4).

هذه القصة تعطي الإنسان درساً بليغاً وهو أن الدنيا على وسعتها قد تقصر عن احتضان الإنسان واستيعابه فالإنسان الذي غرس حب الدنيا في قلبه لا يظنَنَّ أنه بهذا الغرس سوف تستمر حياته. بل إن الحياة تزدهر بفضل الإيمان بالله . فحب الدنيا دائماً يربك العلاقات الاجتماعية لأن المنافع الشخصية ستكون مقدمة على كافة القضايا المعنوية الأُخرى . وحب الله ينظم العلاقات الاجتماعية ويقوي أواصر الإرتباط . ولذلك عندما انشد هؤلاء الثلاثة إلى الأرض واختاروا الدنيا على الآخرة لم تسعهم الأرض أبداً. لأن

ص: 65


1- سورة التوبة ؛ الآية : 118 .
2- سورة التوبة ؛ الآية : 118 .
3- سورة التوبة ؛ الآية : 118 .
4- راجع البحار : ج 21 ص 204 وما بعدها باب غزوة تبوك ط بيروت .

اختيارهم للدنيا قطع كل الأواصر الروحية التي هي أساس العلاقات الاجتماعية لا سيما علاقة الأمة بالقيادة الربانية المتمثلة بالرسول

الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم.

التوازن العام:

إن الإعتدال في كافة الأمور من علامات التعقل والوعي، فالإعتدال في الأطعمة والأشربة يضمن سلامة الإنسان والاعتدال في الأمور الجنسية يضمن للإنسان توازنه واتزانه ولذلك جاء في الشرع المقدس أن الرجل لا يجوز له أن يترك مجامعة الزوجة أكثر من أربعة أشهر، لكي لا تتعرض المرأة للإنزلاق وفي نفس الوقت، إن الإكثار من المجامعة بشكل غير عقلائي وغير منظم فيه سلبيات مادية جسدية ومعنويه . وكذا الاعتدال في العطاء والإنفاق حتى إن القرآن الكريم يقول مشيراً إلى هذا الجانب :

{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} .(1)

فالإنسان عندما ينفق يجب أن لا ينفق بالشكل الذي يصبح معه فقيراً خالي اليدين من المال ولا أن يمسك بأمواله ويبخل بها ويمنع عنها. وهكذا الإعتدال في كل شيء. وكذلك التوجه إلى الدنيا والآخرة لا بد فيه من الاعتدال والتوازن؛ فالتوجه إلى الآخرة ليس معناه أن يترك الإنسان الدنيا ويلتجىء إلى الوحدة والخلوة وعدم الاستفادة من نعم الله في الدنيا. والتوجه إلى الدنيا ليس معناه أن يتعلق قلبه في الدنيا كاملاً فينسى الله ويذوب الإيمان بين طيات ملذاتها. بل إن الدنيا وضعت وجعلت لكي تكون منطلقاً إلى الله عزّ وجلّ.

ص: 66


1- سورة الإسراء ؛ الآية: 29 .

«إن الدنيا ماضية بكم على سنن وأنتم والآخرة في قرن».(1)

فهي وكل ما فيها بمثابة علة وسبب لغاية أخرى ونضرب مثالاً لتوضيح المعنى : مثلاً لو قيل لأحد المسابقين عليك الوصول إلى الهدف الكذائي بواسطة هذه السيارة فإذا فزت في السباق تكون السيارة لك . هنا ستكون السيارة سبباً موصلاً إلى الهدف ولولاها لعله لا يصل ولا يحصل على السيارة . فبدأ السباق وانطلق الآخرون بينما ظل هذا الشخص مندهشاً بالسيارة وجمالها وهو يدور حولها ويرمي بنظراته عليها متعجباً برونقها . فلا هو استخدمها ليصل إلى هدفه ولا هو حصل عليها بالنتيجة . فحال الدنيا كهذه فهي سبب إذا أخذها الإنسان بهذا القيد وبهذا العنوان ليصل إلى كماله وربه فسوف يحصل على الآخرة والدنيا معاً، وإذا تعلق بها وترك أمر الآخرة فلا الدنيا بباقية له ولا الآخرة مضمونة لأن حال الدنيا أنها محددة بالزمان والمكان وكلاهما متغيران غير ثابتين إذن حال الدنيا التغير وعدم الاستقرار أو البقاء لأحد فلا بد أن يكون هناك اعتدال بين التوجه إلى الدنيا والتوجه إلى الله عزّ وجلّ أي بين الأسباب وبين الهدف إذ إن الوصول إلى الهدف بلا واسطة وسبب أمر محال والتعلق بالأسباب مع عدم وضوح الهدف أمر لا نتيجة منه لأن الأسباب سوف تنتهي في وقت ما .

عن الإمام الصّادق علیه السلام : «أبعد ما يكون العبد من الله عزّ وجلّ إذا لم يهمه إلا ّبطنه وفرجه» .(2)

إن البطن والفرج من الأسباب التي جهز بها الإنسان ليستخدمها في الدنيا في طريق الهداية والإيمان ولكن عندما يغلب حب الدنيا على قلب الإنسان تتحول الأسباب إلى أهداف فيضل الإنسان عن طريقه .

فعلى الإنسان أن يجعل حب الله والتوجه له بالعبادة والقلب والفكر

ص: 67


1- تصنيف غرر الحكم : ص 134 ح 2320 .
2- الكافي : ج 2 ، كتاب الإيمان والكفر : باب حب الدنيا ص 241 ح 14 .

و . . .هدفاً أمامه في كل حين ويسعى أيضاً في طلب الدنيا وما يحتاجه منها من مأكل ومشرب ومركب ومسكن و ... و ولكن بدون أن يكون هناك خلط بین الأمرين فلا یصبح الهدف أمراً ثانوياً وتصير الوسائل أهدافاً. بل عليه أن يلاحظ نفسه في كل عمل ويعرضه على الهدف الرئيسي ويرى مدى تطابق عمله مع هدفه . فلا يصبح الإنسان راهباً أو متصوفاً ولا يكون إنساناً عاصياً خارجاً عن حدود التشريع، فلا إفراط ولا تفريط لأن كلا الطرفين ليسا من الدين في شيء، فلا الرهبنة والتصوف من الدين ولا العصيان منه . بل هناك حدود ومفاهيم ومبادىء أنزلها الله تعالى وقال تمسكوا بها لأن فيها النجاة والحياة. وبنفس الوقت جعل الدنيا كمرحلة غير ثابتة ليعيش فيها الإنسان شيئاً من العمر ومن حقه أن يستمتع بالملذات التي أحلها الله عزّ وجلّ. وليس المطلوب منه أن يترك الدنيا وملذاتها المحللة من أجل الدين والآخرة بل إنه لولا هذه لما وصل إلى تلك. فلولا الطعام لما استطاع الإنسان القيام لعبادة الله ولولا البيوت والسكن لما حافظ الإنسان على نفسه وهكذا . . . ولذلك يقول أمير المؤمنين عليه السلام :

«ينبغي لمن أيقن ببقاء الآخرة ودوامها أن يعمل لها» .(1)

فعلى الإنسان أن يعمل ويهيىء الأسباب الداعية إلى حفظه وسلامته وسلامة عائلته وأن يرتب عمله الذي يرتزق منه أو يقتني الحاجيات التي لا بد منها وبنفس الوقت يهيىء الأسباب التي تضمن سلامته في الآخرة ونجاته من النار وهو التمسك بدين الله والعمل بما أمر به.

الدنيا متجر أولياء الله:

الناس عادة ينظرون إلى الدنيا من زاوية (حب الدنيا رأس كل خطيئة) هذا صحيح وواقعي إذا تعلق القلب بحب الدنيا .ولكن إذا حافظ الإنسان

ص: 68


1- تصنيف غرر الحكم : ص 157ح 29869 .

على توازنه ولم يفرط في حبه للدنيا أتكون مذمومة ؟

يقول أمير المؤمنين علیه السلام عنها إنها مزرعة الآخرة أي أن أولياء الله من خلال وجودهم في الدنيا يعملون ويجاهدون ويقدمون الأعمال والجهود من أجل الحصول على رضا الله ومن أجل تكوين رصيد ضخم من الحسنات التي تثقل ميزانهم في الآخرة فلولا الدنيا لما وجدت لهم فرصة للعمل والعبادة. والحديث يضرب لنا أروع تمثيل فالأعمال الخيرية التي يفعلها المؤمنون في الدنيا هي بمثابة زرع تظهر ثمرته في الآخرة عند الحساب فضلاً عن ثمار الدنيا التي يحصدونها .

يقول أمير المؤمنين علیه السلام : «فتزوّدوا في الدنيا من الدنيا ما تحرزون به أنفسكم غداً . . . » (1).

فهو علیه السلام يؤكد أن التزود إلى الآخرة يكون من الدنيا وفي الدنيا لأنها محل العمل والامتحان والآخرة محل الحساب، وحري بالإنسان أن یسرع ويسعى من أجل العمل والتزود من الدنيا للآخرة لأنها زائلة متغيرة ولأن الموت قاطع للعمل {وما تدري نفس بأي أرض تموت }.(2).

«فكأن ما هو كائن من الدنيا عن قليل لم يكن وكأن ما هو كائن من الآخرة عما قليل لم يزل».(3)

فالإمام دائماً يؤكد على هذا الجانب لكي لا يغيب عن فكر الإنسان أبداً وهو أن الدنيا من صفاتها الفناء والتحول. ولكن مع ذلك فهو في بعض كلماته الشريفة يمجد الدنيا ويمدحها لأنها مهد للعمل الصالح كما هي مهد للعمل الطالح وهي موطن أولياء الله وأنبيائه ومهبط وحيه، يقول أمير المؤمنين علیه السلام :

ص: 69


1- النهج : من خطبة له في المبادرة إلى صالح الأعمال خ 64 ص 23 نسخة المعجم
2- سورة لقمان ؛ الآية : 34 .
3- النهج : من خطبة له في المبادرة إلى صالح الأعمال خ 64 ص 45 .

«إن الدنيا دار صدق لمن صدقها ودار عافية لمن فهم عنها ودار غنى لمن تزود منها ودار موعظة لمن اتعظ بها مسجد أحباء الله ومصلى ملائكة الله وومهبط وحی الله ومتجر أولياء الله اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا فيها الجنة ... فذمها رجال غداة الندامة وحمدها آخرون يوم القيامة ذكرتهم

الدنيا فتذكروا» . (1).

فالدنيا هي التي خرج منها رجال إلهيّون عظماء قادوا البشرية إلى الكمال والخير فالرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم و كان قد عاش في الدنيا وكذا أهل البيت علیه السلام كلهم ولكن لم تستهوهم الدنيا فتصرفهم عن هدفهم بل أخذوا منها ما أعانهم على الطاعة والعبادة وصحبة الأخيار وصناعة الرجال. فالدنيا هي التي عاش فيها الحسين عليه السلام ويزيد ولهذا هي دار موعظة فالمسألة ليست بالمسميات بأن هذه دنيا إذا هي مذمومة وهذه آخرة إذاً ممدوحة بل المسألة هي السلوك والعمل واختبار الإنسان هو الذي يحدد هذه تلك ، قال تعالى :

{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ }(2).

الدنيا المذمومة:

من خلال ما مرّ يتضح أن ذم الدنيا أو مدحها ليس من حيث إنها دنيا وإنما من حيث إنها دار بلاء وامتحان وفتنة فالإنسان يعرض فيها لامتحان الله عزّ وجلّ فإذا نجح وصبر كانت الدنيا بالنسبة له ممدوحة لأنه من خلالها يصل إلى الجنة فهي طريق السعادة . وإذا فشل في الامتحان وسقط وانحرف عن الطريق المستقيم كانت دنياه مذمومة لأنها فترة اكتسب فيها السيئات والمعاصي ثم في الختام تكون النار مثواه ولكن عادة الدنيا أنها محفوفة

ص: 70


1- النهج : ح 131 ص 162 و 163 نسخة المعجم .
2- . سورة المدثر ؛ الآية : 38 .

بالمكاره والمخاطر والإبتلاءات وإلى جانبها الزخارف التي لو التفت إليها الإنسان لانزلق ولذلك كانت المذمومية من صفاتها الشائعة وإلاّ فالدنيا بحدّ ذاتها ممدوحة ولذلك اختارها الله ميراثاً لأوليائه وخلفائه .

{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} .(1)

وهي حكومة العدل الإلهية حكومة الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف أرواحنا له الفدا . ولكنها تكون مذمومة عندما يترك الدين ويُضيّع من أجلها، عندما يغلب حب الدنيا على حب الله وعندما تصبح الدنيا الهم الأكبر والهدف الأسمى، والشغل الشاغل للمرء دوماً؛ حينئذ تكون دنيا حقيرة و مذمومة وهي المعنية في كلمات الأئمة في ذم الدنيا .

عن الصّادق علیه السلام : «من أصبح وأمسى والدنيا أكبر همه جعل الله تعالى الفقر بين عينيه وشتت أمره ولم ينل من الدنيا إلا ما قسم الله له . . » .(2)

إن تفضيل الدنيا على الدين سلوك له نتائج وخيمة وأضرار فظيعة ضمن قانون السببية.

يقول أمير المؤمنين علیه السلام: «لا يترك الناس شيئاً من أمر دينهم لاستصلاح دنياهم إلاّ فتح الله عليهم ما هو أضر منه ».(3)

أما في الأمور العامة التي تضر بالمجتمع فالأمر واضح من خلال حدوث الكوارث الطبيعية أو انتشار أمراض غير متوقعة وغير ذلك .

ص: 71


1- سورة القصص ؛ الآية : 5 .
2- الكافي : ج 2 ك الإيمان والكفر ب حب الدنيا ص 241 ح 15 .
3- النهج : ح 106 ص 160 نسخة المعجم.

الحرمان من نعمة الولاية:

يحكى أن رجلاً كان محباً للدنيا والمال ولكنه ظاهراً من أهل الخير فحينما حضرته الوفاة جاء أحد الأشخاص ليلقنه الشهادتين فطلب منه أن يشهد بالربوبية فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ثم لقنه الشهادة الثانية فقالها وأشهد أن محمداً رسول الله ثم لقنه الشهادة الثالثة فلم يجب وكلما كررها عليه كلما امتنع وحارت الناس في أمره إلى أن غاب عنه الوعي وبعد فترة أفاق من غيبوبته واستوى جالساً كأن شيئاً لم يكن به عندها سأله الملقن : لماذا لم تتشهد الشهادة الثالثة وهي ولاية علي بن أبي طالب؟ فقال : بينما أنا بين الحياة والموت كنت أسمع منك ما تقول ولكن كلما أردت أن أتكلم كان يعرض أمامي شيطان وهو يحمل صرتي التي فيها أموالي وبعض الأشياء الثمينة وكان يقول لي : إذا تشهدت بالولاية فإني سأحرق هذه الصرة فكان قلبي يتعلق بها كلما أردت الكلام وكان لساني لا ينطلق لأنني كنت في فكر الصرة فأعرضت نفسي عن أمر الولاية لهذا لم أستطع أن أتشهد وإني تائب إلى الله من عملي هذا .

أنظر كيف أن حب الدنيا يكون حاجزاً ومانعاً من الحق وإذا قوي واشتد حُرِمَ الإنسان حتى من الاعتراف بالنبوة - والعياذ بالله - وبعض القضايا العقائدية التي يتوقف مصير الإنسان عليها .هذه هي الدنيا المذمومة وهذا واقعها السيّىء، هذه هي الطريقة المنحرفة من السير في الحياة الدنيا .

نموذجان :

الشيخ مرتضى الأنصاري (قده) من الرجال الإلهيين الذين زهدوا في هذه الحياة الدنيا ووطنوا أنفسهم على خدمة الدين (كان نموذجاً في التقى وكثرة الصَّلاة والصَّلات والعلم أصولاً وفروعاً والعمل وحسن الأخلاق ذلك عيش الفقراء المعدمين متهالكاً في إنفاق كل ما يجلب إليه

ص: 72

على المحاويج من المؤمنين في السر خصوصاً غير مريد للظهور والمباهاة إلى أن انتهت إليه رئاسة الدين العامة في شرق الأرض وغربها وصارت كتبه و دراستها محور أهل العلم إلى يومنا هذا وكانت قد عرضت عليه أموال من الهند كبيرة جداً فأبى أن يقبلها وهي أموال عظيمة).(1)

إن تجار بغداد جمعوا مبلغاً كبيراً من أموالهم وخصصوه للشيخ الأنصاري .. سلموا المبلغ لأحدهم وأرسلوه إلى النجف، وطلبوا منه أن يقول للشيخ : هذا المبلغ ليس من الحقوق الشرعية ، (الخمس، الزكاة )حتى تستشكل بالاحتفاظ به لنفسك إنه من أصل أموالنا، ونحن نهبه لك لتوسّع على نفسك لأنك في سن الشيخوخة، ووضعك الاقتصادي كما نعلم .

ورغم إصرارهم لم يقبل الشيخ المبلغ وقال : أليس هي خسارة كبرى لي ؟

إني بعد أن أمضيت عمري فقيراً أجعل نفسي الآن غنياً، وأمحو اسمي من طومار الفقراء وسجلهم، فأحرم نفسي في يوم الجزاء من ثوابهم .(2).وبلغ من التواضع ما يعجز الوصف عنه فكان في مقامه الشامخ ومنزلته العظيمة يدعو تلامذته بین الآونة والأُخرى لحضور درس الأخلاق عند أحد طلابه وكان يجلس حاله حال بقية الطلبة مستمعاً غير متكبر .

فهذا عالم من علمائنا الأعاظم. وهناك عالم من علماء بني إسرائيل وهو بلعم بن باعوراء الذي كان يلقي دروس التوحيد على الناس وكان الشخصية الثالثة بعد النبي موسى وأخيه هارون علیه السلام . هذا الشخص جلس يوماً وهو يفكر في أمره ومنزلته وأنه صاحب مقام وجهود واليه يعود الفضل في نجاة بني إسرائيل وبدأ الشيطان يدخل إليه من باب إعجابه بنفسه إلى أن

ص: 73


1- أعيان الشيعة : ج 10 ص 118 .
2- نجفیات : ص 89 نقلاً من سيماء الصالحين ص 336.

قارن نفسه بموسى بل ظن واعتقد أنه أفضل منه . وفي اليوم التالي قام كعادته ليلقي دروس الحكمة والتوحيد وعندما استوى جالساً وقد أخذه العجب والكبر كلما أراد أن يتكلم لم يجد شيئاً في ذاكرته وكلما حاول أن يطرح أمراً رأى نفسه خالياً من أي علم والقرآن الكريم يصف حاله في أروع صورة: يقول تعالى :{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا . . . }.(1)

وقيل عن أبي الحسن الرضا علیه السلام إنه أعطي بلعم بن باعوراء الاسم الأعظم، وكان يدعو به فيستجاب له، فمال إلى فرعون، فلما مرّ فرعون في طلب موسى وأصحابه قال فرعون البلعم : فادع الله على موسى وأصحابه ليحبسه علينا ،فركب حمارته ليمرّ في طلب موسى علیه السلام فامتنعت عليه حمارته فأقبل يضربها فأنطقها الله (عزّ وجلّ) فقالت : ويلك على ماذا تضربني ؟ أتريد أن أجيء معك لتدعو على نبي الله وقوم مؤمنين ؟ فلم يزل يضربها حتى قتلها وانسلخ الاسمُ من لسانه وهو قوله تعالى : {فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} .(2)

فالله عزّ وجلّ يصف حالة انتكاسة بلعم وعجبه بنفسه بالخلود والإلتصاق بالأرض لأن هذا النمط من التفكير وهو العجب أو التكبر على الآخرين لا سيما على أولياء الله من صفات أهل الدنيا والمحبين لها وإن لم يصرحوا بذلك علناً .

فالشيخ الأنصاري - رحمة الله عليه - مثال للتواضع والزهد وأسوة للعاملين للإسلام. وبلعم عبرة لمن أحب الدنيا وانصهر في قاعها العميق.

ص: 74


1- سورة الأعراف ؛ الآيتان : 175 - 176 .
2- سفينة البحار : ج 1 ص 382 ط إيران الجديدة.

4- مَسَاوِى َحْظُ مِن شَخصيَّةِ الأَنسَان

اشارة

ص: 75

ص: 76

قال رسول الله صلی الله عليه وآله لعلي عليه السلام

«يا علي: لاتمزح فيذهب بهاؤك، ولا تکذب فيذهب نورک، وإياک وخصلتين: الضجر والکسل، فإنک إن ضجرت لم تصبر علی حق وإن کسلت لم تؤدّ حقاً»(1)

الحديث الشريف يتناول بعض الأبعاد التي ينبغي تواجدها في شخصية الفرد المسلم لأجل بلوغ أهدافه السامية وسنأتي علی بيان كل واحدة من الخصال المنهي عنها بعد مقدمة.

المقدمات الناجحة:

مما لا شك فيه أن كل عمل يتوقف نجاحه أو فشله على مقدماته فإذا كانت المقدمات صحيحة وتامّة فالنتيجة النجاح. وإذا كانت المقدمات فاشلة فالنتيجة هي كذلك .. وحتى عمل الجوارح في بدن الإنسان لها مقدمات فكل عمل عضلي أو حسّي مسبوق بالإيعازات العضلية أو الحسّية، وهكذا في التكوينات أيضاً فإذا أردت أن تصنع كرسياً فلا بدّ لك من تهيئة مقدماته

ص: 77


1- کلمة الرسول الأعظم صلی الله عليه وآله: ص153.

كالخشب وأدوات الصنع كالمطرقة والمسامير وما شابه حتى تصل لإنجاز ما أردته وبدون ذلك لا يمكنك الوصول إلى غرضك أصلاً بل إن المناطقة في التكوينيات يقولون «النتيجة تتبع أخسّ المقدمات» وهذا يعني أن أضعف المقدمات التي اعتمدت عليها تؤثر على النتيجة وفي مثالنا السابق في صناعة الكرسي لو كانت مقدماتك أغلبها تامّة والبعض الآخر ليس بتام فإن النتيجة تكون أيضاً ليست تامة أو ضعيفة وإن كانت أغلب المقدمات تامة ...

وأما فى الاعتباريات فالنتيجة أيضاً تابعة للمقدمات فالصلاة مثلاً لا تصحّ بدون طهارة فالطهارة مقدمة لصحة الصلاة والأعمال العبادية الأخرى كالصيام والحج والزكاة .. فإنها أيضاً مسبوقة بالنية والإرادة وما شابه من المقدمات العبادية وغيرها، قال رسول الله صلّی علی علیه وآله وسلم: «مفتاح الصَّلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم، ولا يقبل الله صلاة بغير طهور ». (1)

وكذلك ذهابك إلى أيّ مكان فإنه يتطلب منك نية الذهاب والاستعداد والحركة حتى تصل إلى ذلك المكان وخلاف ذلك لا يمكنك الذهاب إليه ...

فتهيئة المقدمات شرط أساس للوصول إلى النتيجة والهدف كما أن الهدف يتوقف نجاحه وفشله على نوعية المقدمات فإذا كانت المقدمات نبيلة وسليمة وضمن حدود الشرع والمعقول فإن الهدف ونتيجة عملك يقترنان بهذه الصفة أيضاً .

وإذا كانت الوسيلة أو المقدمات بعكس ذلك فالهدف تابع لها وإن كان الهدف نبيلاً كمساعدة الفقراء أو بناء مؤسسة علمية أو خيرية .. فإذا سرق شخص مالاً أو ربحه من القمار لأجل مساعدة الفقراء فالهدف وإن كان نبيلاً ولكن مقدماته ووسيلته سيئة ويرفضها الشرع والعقلاء .. فتكون النتيجة أيضاً غير نبيلة وإن اصطبغت بصبغة خير وقد ورد في الحديث :

ص: 78


1- البحار : ج 77 ص 236 باب 29 ح 9 ط بیروت.

«لا طاعة لأحد في معصية الله إنما الطاعة في المعروف».(1)

وجاء في المثل : «الغاية لا تبرر الوسيلة ».

إذن كلما كانت المقدمات صالحة وشريفة فالغاية تكون تابعة لها أيضاً ولذا فإن النجاح سواء على مستوى الفرد أو الجماعة يتطلب تهيئة المقدمات الصحيحة ..

ولا شك أن كل فرد يريد بناء شخصيته وإعطاءها مكانة مرموقة في المجتمع يحتاج إلى تهيئة المستلزمات لذلك من مقدمات وأسباب..

ولذا يتوجّه الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم بوصيته إلى أمير المؤمنين علیه السلام بصيغة النهي عن خصال ومقدمات تقود الإنسان المؤمن والمسؤول إلى نتائج وخيمة . وهذه الخصال التي نهى عنها الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم هي :

1 - المزاح .

2 - الكذب .

3 - الضجر .

4 - الكسل .

وسنتناولها واحدة واحدة بالترتيب لنتعرف إلى سبب النهي عنها ومجانبتها :

المزاح بين الذم والمدح:

إن المزاح من الظواهر المتفشية في أغلب المجتمعات سابقاً وحديثاً ويكون بإلقاء بعض الكلمات التي تؤدي إلى الضحك أو التبسم، أو بأداء فعل يقصد منه الضحك . . وقيل : إنه سمّي مزاحاً لأنه زاح عن الحق .(2).

ص: 79


1- نهج الفصاحة : ح 2502 ،ص 523 ،
2- تنبيه الخواطر : ج 1 ص 120 باب المزاح ط 2 .

ومنه ما هو مذموم ومنه ما هو ممدوح.

1 -أما المذموم منه فالذي خرج عن القواعد الشرعية وبلغ حد الإفراط والإكثار منه أي ،المزاح مع كل أحد وبلا حدود وضوابط..

وينتج المزاح المذموم عادة إما عن خفة في النفس فيكون من رذائل القوة الغضبية، أو ميل النفس وشهوتها إليه، أو تطييب خاطر بعض أهل الدنيا طمعاً في المال وما شابه فيكون من رذائل القوة الشهوية .

وأما السبب في كون المزاح مذموماً فمنها ما جاء في الأخبار من النهي عنه لكونه يذهب بالعقل ويستدرجه إلى الهوى ويفقد الإنسان قيمته وبهاءه وبالتالي يفقد قيمته الاجتماعية ..

ورد في الأخبار عن رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم :

«المزاح استدراج من الشيطان، واختلاج الهوى».(1)

وورد عن أمير المؤمنين علیهم السلام :

«ما مزح امرؤ مزحة إلاّ ومجّ معها من عقله مجّة». (2)

وفي بعض الأخبار جاء :

خرج أعرابي بالليل، فإذا بجارية جميلة فراودها، فقالت : أما لك زاجر من عقلك إذا لم يكن لك واعظ من دينك، فقال : والله ما يرانا إلاّ الكواكب، فقالت له : يا هذا وأين مكوكبها ؟ فأخجله كلامها فقال لها :

إنما كنت مازحاً فقالت :

فإياك وإياك المزاح فإنه يجري*** عليك الطفل والرجل النذلا

ص: 80


1- المستطرف في كل فن مستظرف : ج 2 ص 503 .
2- نهج البلاغة : حكم 450 .

ويذهب ماء الوجه بعد بهائه*** ويورث بعد العز صاحبه ذلا (1)

2 - المزاح الممدوح :

وهو المزاح الذي لا يخرج عن الحدود الشرعية بشرائطه الخاصة من أنه لا يتضمن إيذاءً للآخرين ولا كذباً ولا باطلاً ونحو ذلك من شرائط وهذا يوجب انبساط الخاطر وطيبة القلب والخلاص من العبوسة التي تُعد من الصفات السيئة جداً وإدخال السرور في قلوب المؤمنين الذي هو من الأعمال الفاضلة.

يقول الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم :

«إني لا أمزح ولا أقول إلاّ حقّاً». (2)

وجاء في الخبر أن يحيى علیه السلام لقي عيسى علیه السلام وعيسى متبسم، فقال يحيى علیه السلام :

ما لي أراك لاهياً كأنك آمن ! .

فقال علیه السلام: ما لي أراك عابساً كأنك آيس؟

فقالا : لا تبرح حتى ينزل علينا الوحي، فأوحى الله إليهما : أحبّكما إليّ الطلقُ البسام، أحسنكما ظناً بي .(3)

مزاح النبي (صلّی الله علیه وآله ):

وقد ورد في الأخبار قصص عديدة عن مزاح النبي ومنها : 1 - إن رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم جاءته امرأة فقالت : يا رسول الله احملني على

ص: 81


1- المستطرف في كل فن مستظرف : ج 2 ص 503 .
2- البحار : ج 16 ص 298 باب 10 ح 2 .
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 6 ص 232 ط 2 .

بعير، فقال رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم : احملوها على ابن بعير: فقالت ما أصنع به وما يحملني يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم : هل يجيء بعير إلاّ ابن بعير .(1)؟

2 - أتت عجوز من الأنصار إلى رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم، فسألته أن يدعو الله تعالى لها بالجنة فقال : إن الجنة لا تدخلها العجزُ . فصاحت، فتبسم الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلم، فقال :

{إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً *فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا }.(2)

أي أنّ أهل الجنّة هم من الأبكار وهي حينذاك ليست بعجوز (3).

3 - أتى رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وقال له :

احملني يا رسول الله على بعير فقال : إنا حاملوك إن شاء الله تعالى على ولد الناقة، فجعل يقول : يا رسول الله ، وما أصنع بولد الناقة ؟ وهل يستطيع أن يحملني وهو يتبسم ويقول : لا أحملك إلاّ عليه، حتى قال له أخيراً : وهل يلد الإبل إلا النّوق . (4).

هذه بعض القصص التي وردت في الأخبار عن مزاح الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم وكلها تدلل على انبساط رسول الله وأريحته مع الناس و لطافته صلّی علی علیه وآله وسلم ..

فلماذا إذن ينهى الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم في وصيت المؤمنين علیهم السلام عن المزاح بقوله : «لا تمزح فيذهب بهاؤك»؟ لا یرید الرسول المزاح الممدوح وإنما المزاح المذموم ، المزاح الكثير ومع كل أحد

ص: 82


1- سبل الهدى والرشاد
2- سورة الواقعة ؛ الآيتان : 35 و 36 .
3- راجع في ذلك البحار : ج 16 ص 294 باب ذكر مزاح الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم عن كتاب المناقب .
4- حلية الأبرار : ج 1 ص 312 ط إيران .

وبلا حدود وضوابط، لأنه يصبح مقدمة لفقدان شخصية الفرد وبالتالي فقدان قيمته في المجتمع فكيف يمكن أن نتصور ذلك؟ إن المزاح الكثير مقدمة لأمور سيئة عديدة منها :

1 - يسقط مهابة الفرد ووقاره في نظر المجتمع . .

وجاء في الشعر المنسوب للإمام الرضا عليه السلام :

«من مازح الناسَ استخفوا به*** وكان مذموماً على مزحته» .(1)

2 - التباغض والضغينة لدى المتأذين من هذا المزاح . .

3 - ربما يجرّ المزاح إلى الهزل والاستهزاء بالآخرين وهذا منهي عنه بقوله تعالى :{ ولا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم} .(2)

4 - يبعث على تفكك المجتمع لظهور العداوات واللهو واللعب . .

ه - يستدرج الإنسان إلى الفساد الخلقي كالكذب والغيبة. . و إیذاء الآخرين وهذه فضلاً عن حرمتها الشرعية تعد من رذائل الأخلاق .

ولا شك أن كل فرد يبغي الكمال والحصول على نتيجة مرضية في حياته أمام الله تعالى وبناء مجتمعه بواسطة بناء شخصيته والمزاح الكثير المذموم لا يبني شخصية الفرد ولا المجتمع ولا يوصله إلى كماله ويزيله عن الحق. ومن الواضح أن الكمال لا يمكن أن يبلغ بمقدمات باطلة كما عبرنا عن ذلك في بداية البحث بأن الغاية لا تبرر الوسيلة . .

فالمزاح المطلوب فيه حدّ الإعتدال مع عدم الكذب ولعل من هنا أعقب رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم نهيه عن المزاح بالنهي أيضاً عن الكذب فقال صلّی الله علیه وآله وسلم العلي :

«لا تكذب فيذهب نورك» .

ص: 83


1- جواهر الأدب : : ج 2 ص432.
2- سورة الحجرات ؛ الآية : 11 .

موقف الإسلام من الكذب:

الكذب هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه سواء طابق الاعتقاد أم لا .. على قول مشهور عند المناطقة والأدباء .

والكذب من أعظم المعاصي وأعظم أشكاله وأشنعها الكذب على الله وعلى رسوله وعلى الأئمة (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) .

وقد نهت الشريعة الإسلامية عن الكذب لأنه مصدر الآثام والشرور وداعية إلى الفضيحة والسقوط وتوعّدت الكاذب بالعقاب الأليم.

قال تعالى :

{وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} .(1)

وقال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} .(2)

وقال تعالى : {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}(3)

وفي الأخبار جاء عن الإمام الباقر علیه السلام :

«كان علي بن الحسين صلوات الله عليهما يقول لولده :

«إتقوا الكذب الصغير منه والكبير في كل جد وهزل، فإن الرجل إذا كذب في الصغير اجترى على الكبير، أما علمتم أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال : ما يزال العبد يصدق حتى يكتبه الله صديقاً وما يزال العبد يكذب حتى يكتبه الله كذّاباً» (4)

ص: 84


1- سورة النحل ؛ الآية : 62 .
2- سورة الزمر ؛ الآية : 3 .
3- .سورة الجاثية ؛ الآية : 7 .
4- أصول الكافي : ج 2 ص 338 باب الكذب ح 2 .

وقال الإمام الباقر علیه السلام أيضاً :

«إن الكذب هو خراب الإيمان».§ُصول الكافي : ج 2 ص 339 باب الكذب ح 4

صور من الكذب:

كما أن للكذب صوراً عديدة نهت عنها الشريعة الإسلامية منها شهادة الزور واليمين الكاذبة .. يقول تعالى :

{وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ } .(1)

وقول رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم:

«إياكم واليمين الفاجرة، فإنها تدع الديار من أهلها بلاقع ».(2)

ومن العادات السيئة التي يلحقها بعض الفقهاء بالكذب خلف الوعد قال تعالى :

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا}. (3).

لأن الذي يخلف وعده يعني أنه كذب على صاحبه بعهده. ومن الصور أيضاً تلفيق الأكاذيب الساخرة والرواية على الناس والسخرية منهم، ولذا قال الإمام الصادق علیهم السلام :

ص: 85


1- سورة الحج ؛ الآية : 30 .
2- البحار : ج 101 ص 209 باب 125 ح 17 .
3- سورة مريم ؛ الآية : 54 .

«من روى على مؤمن رواية، يريد بها شينه، وهدم مروته ليسقط في أعين الناس، أخرجه الله تعالى من ولايته إلى ولاية الشيطان، فلا يقبله

الشيطان» .(1)

وآثار هذه الصور على شخصية الفرد والمجتمع وخيمة جداً لأنها تذهب بالحق وتجعل مكانه الباطل وهو مما يعيق الإنسان عن الوصول إلى هدفه هذا فضلاً عن أثرها الوضعي المذكور فيما تقدم من الأدلة كالبلاء وولاية الشيطان والفقر .. وما شابه من النتائج الوخيمة ولذا جاء في وصيةالرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم:

«لا تكذب فيذهب نورك »

الكذب يذهب بنور المؤمن:

ما علاقة الكذب بالنور ؟

إن الكذب من الرذائل التي لا يقربها المؤمن أبداً وإذا كذب الإنسان فهو ليس بمؤمن أو كامل الإيمان فبينهم تباعد دائماً .عن عبد الله بن جراد أنه سأل النبي صلّى الله عليه وآله سلم ، فقال : يا نبي الله (صلى الله عليك) هل يزني المؤمن؟ قال : قد يكون ذلك ، فقال : يا نبي الله (صلى الله عليك) هل يكذب المؤمن قال : لا ، ثم أتبعها رسول الله صلّى الله عليه وآله سلم فقال هذه الكلمة : «إنما يفتري الكذب على الله الذين لا يؤمنون». (2)

وفي رواية عن الأصبغ بن نباتة قال : «قال علي علیه السلام: لا يجد عبد حقيقة الإيمان حتى يدع الكذب جدّه وهزله» .(3).

فالمؤمن إذن بعيد عن الكذب ولو كذب فقد إيمانه ومن هنا نعرف أن

ص: 86


1- أُصول الكافي : ج 2 ص 358 باب الرواية على المؤمن ح 1 .
2- تنبيه الخواطر : ج ص 122 باب الكذب ط 2 .
3- البحار : ج 69 ص 262 باب 114 ح 41 ط بيروت .

قول رسول الله صلّى الله عليه وآله سلم ربط الكذب بالنور فأي نور هذا؟ لعله أراد أحد احتمالين :

الأول : إن للمؤمن نوراً وإشراقاً وضوء معنوياً باطنياً وصفاء قلبياً فإذا كذب فَقَدَ هذا النور والإشراق وعاش في ظلام القلب وفقد صفاءه الباطني فلم يعد باطنه أو قلبه يبصر الطريق هذا من الناحية الشخصية ...

الثاني : ولعل المراد أن للمؤمن نوراً اجتماعياً وبه يستدلّ الأفراد على الحق وأتباعه فإذا كذب أضلّ الناس وفقد نوره الاجتماعي ولم يكن قدوة

للمؤمنين .إذن الواضح أن الناس تتبع من هو صادق وحسن وجميل الباطن والظاهر ولذا ورد في الأحاديث الشريفة أن الكذب يذهب ببهاء المؤمن والبهاء هو الحسن والجمال لأن الناظر إليه يأنس .(1)

ومنها عن أبي عبد الله الصّادق علیه السلام قال : +

«قال عيسى بن مريم صلوات الله عليه : من كثر كذبه ذهب بهاؤه».(2)

وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله سلم:

«كثرة المزاح تذهب بماء الوجه وكثرة الضحك تمحو الإيمان، وكثرة الكذب تذهب بالبهاء».(3)

ولذا فإن الكذب مقدمة لذهاب شخصية الفرد والحصول على نتائج سلبية تعيق الإنسان عن الوصول إلى أهدافه وغاياته وقد قيل :

لا يكذب المرء إلا من مهانته*** أو عادة السوء أو من قلة قلة الورع

فعلى الإنسان اجتنابه لأنه محرّم شرعاً أولاً ، وثانياً يفقد الإنسان نوره

ص: 87


1- راجع معجم مقاييس اللغة : ج 1 ص 307 باب الياء والهاء .
2- البحار : ج 69ص 250 باب114ح16.
3- المصدر نفسه : ص 259 ح 22

الباطني وصفاءه أو نوره الاجتماعي ولا يعود يرغب إليه أحد لفقدان حسنه وجماله الظاهري والباطني .

مسوّغات الكذب:

ولا يخفى أن هناك صور من الكذب أجازته الشريعة أو الفقهاء وذلك لضرورة منها :

الإصلاح بين الناس ، أو مخادعة الأعداء في الحروب، وقد ورد في ذلك نصوص عديدة شرعية أجازت الكذب في هذه الموارد .

عن عيسى بن حسّان قال : سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول :

«كل كذب مسؤول عنه صاحبه يوماً إلا كذباً في ثلاثة : رجل كائد في حربه فهو موضوع عنه، أو رجل أصلح بين اثنين يلقى هذا بغير ما يلقى به هذا، يريد بذلك الإصلاح ما بينهما، أو رجل وعد أهله شيئاً وهو لا يريد أن يتم لهم ».(1)

أو لمصلحة هامة لا تتحقق إلاّ بالكذب كإنقاذ المسلم وتخليصه من القتل أو الأسر من يد الكفار أو لإنقاذ المسلم من السلطة الظالمة أو صيانة عرض أو حفظ مال محترم ..والجواز هنا من باب تعارض المصلحة بالمفسدة مصلحة إنقاذ المسلم ومفسدة الكذب وقد قدّمت الأدلة هنا باب المصلحة وفق القيود السالفة على المفسدة فجوزت الكذب في هذه الموارد وإلا فإنه غير جائز إلاً بالعرض لمصلحة أهم منه .

وأيضاً قال رسول الله صلّى الله عليه وآله سلم: «يا علي إياك وخصلتين :

الضجر والكسل، فإنك إن ضجرت لم تصبر على حق، وإن كسلت لم تؤدّ حقاً»

ص: 88


1- أُصول الكافي : ج 2 ص 342 باب الكذب ح 18 .

الضجر يؤدي إلى الفشل:

والضجر لغة يُقال ضجر من الشيء ضجراً من باب تعب فهو ضجر : اغتمّ وقلق منه .(1)

والضجر من الأُمور التي توقّف الإنسان في وسط العمل وتمنعه من الوصول إلى غايته وقد يترك العمل نهائياً أو لا يؤديه بالصورة المطلوبة لتكون النتيجة تامة ومستحكمة لأن الغايات متوقفة على مقدماتها كما ذكرنا، ومن هنا كانت الأعمال الناجحة مقرونة بالصبر والنفس الطويل لأن الضجر يقتل الاستمرارية إما ظاهراً بتوقف العمل وإعلان الفشل أو باطناً أداء الأعمال بتعب نفسي وتململ مما لا يساعد على أداء العمل بإتقان نتيجة لضيق الصدر أو الجزع أو الملل وهذه السمات من أكبر عوامل الفشل. ثم إن الجزع وهو من نتائج ضعف النفس وصغرها وإطلاق دواعي الهوى، يكون في الحقيقة إنكاراً لقضاء الله تعالى وكرهاً لحكمه لذا قال الإمام الصادق علیه السلام:

«الصبر يظهر ما في بواطن العباد من النور والصفاء، والجزع يظهر ما في بواطنهم من الظلمة والوحشة» .(2)

وضيق الصدر يلقي بالإنسان إلى أدون المراتب لتحكم الغضب عليه وهو مفتاح الشر كما أنه لا ينجح في أي عمل إنساني أو اجتماعي والحال أن العمل الديني أو الدنيوي يحتاج إلى صبر وسعة صدر لأداء الواجبات والحقوق الاجتماعية فالصبر والاستمرارية مطلوبان في كل عمل للوصول

إلى الغاية وهما الأرضية الأشد تأثيراً على أداء الأعمال لذا يقول تعالى :

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}.(3)

ص: 89


1- مجمع البحرين : البحرين : ج 3 ص 371 باب ما أوله الضاد .
2- البحار : ج 71 ح 44 .
3- سورة البقرة ؛ الآية : 153 .

فبدأ بالصبر قبل الصَّلاة، ثم جعل نفسه مع الصابرين دون المصلين . .

وعمل الأنبياء جميعهم في أداء رسالاتهم كان مقروناً بالصبر والاستمرارية مع تحمل الأذى الكبير فلم يجزعوا ولم يضق صدرهم ..فوصلوا بذلك إلى نتيجة مرضية عند الله تعالى وعند البشر وكانوا مناراً وقدوة يقتدى بهم، وهكذا كان الأئمة المعصومون علیه السلام، يقول الإمام أمير المؤمنين علیه السلام :

اصبر على مضض الأولاج في السحر وفي الروح إلى الطاعات في البكر

لا تَضْجَرَن ولا يعجزك مطلبها*** فالنُّجح يتلف بَيْنَ الْعَجز والضَّجر

إني رأيت وفي الأيام تجربة*** للصبر عاقبة محمودة الأثر

وقلّ من جدّ في أمر يؤمله ***واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر

صاحب الجواهر وصاحب الحدائق:

وقد اتسم علماؤنا الأعاظم بعدة مزايا وخصوصيات تفوّقوا بها على غيرهم من أبرزها الجدّ والصبر وعدم الجزع فوصلوا إلى غاياتهم وأدوا ما عليهم بحق أذكر منهم الشيخ محمد حسن النجفي (ره) الذي ألّف كتاب جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام وسمّي بصاحب الجواهر والشيخ يوسف بن أحمد البحراني (ره) الذي ألف كتاب الحدائق الناظرة وسمّي بصاحب الحدائق

وقصة صاحب الجواهر كما ذكروا في أحواله أنه كان له ولد كبير يعوله فمات الولد في قصة طويلة وبرغم حزنه عليه كان يكتب الجواهر حتى قيل إن النسخة المخطوطة بيد الشيخ كانت آثار الدموع عليها وهذا يعني أنه لم ينقطع عن الكتابة حتى في أحلك الظروف وأصعبها .. فمع أنه فقد ولده أولاً بل وفقد من كان المعيل له ثانياً إلاّ أنه مع ذلك لم يجزع ولم يبدُ عليه فقدان

ص: 90

الصبر بل صبر وتحمل المصيبة واستمر في كتابته وهو يمشي خلف جنازة ولده ويحضر تجهيزه ودفنه ..

أما الشيخ يوسف البحراني فلم يجعل للظروف الصعبة والمخاطر آنذاك طريقاً للتغلب عليه حيث خرج من بلاده هرباً من الخوارج الذين قتلوا وسلبوا ونهبوا بلاده وتوجّه إلى إيران ولكن الدهر أيضاً لم يمهله حتى تعرضت البلدة التي هو فيها إلى إغارة جيش طاغية شيراز - نعيم دان خان - سنة 1163 ه- وتعرضت البلدة للقتل والسلب واضطر إلى الفرار بالبساتين وهناك أيضاً رغم ظروف الخوف والقلق ما ترك الكتابة وما تضجّر وجلس يكتب كتابه المشهور (الحدائق الناظرة) وقد ذكر في كتابه : إني أكتب هذه الأسطر وأنا لا أعلم بأني أبقى لحظات أُخرى وأنا مهددبالقتل. (1).

وهذا هو ديدن العلماء الفطاحل الذين خلّدهم التاريخ من أمثال المحقق الطوسي والعلامة الحلي وفخر المحققين والمجدد الشيرازي وغيرهم (رحمة الله عليهم) بنوا غاياتهم على أسس سليمة ومقدمات ناجحة فكان أداءهم للحق مع الصبر ونشر المذهب الحق وحصيلة كبيرة من المؤلفات والنور الاجتماعي والبهاء . .

يقول الشاعر :

إذا كنت تهوى القوم فاسلك طريقهم فما وصلوا إلاّ بقطع العلائقِ

وما حُملَ الهندي (2) وهو حديدةٌ ***على الكتف إلا بعد دق المطارقٍ

الكسل يؤخر المجتمع:

والكسل أيضاً من الصفات التي تقود الإنسان إلى الفشل في بناء شخصيته ثم تقود إلى تأخر المجتمع وابتعاده عن ركب الأمم المتقدمة وذلك

ص: 91


1- راجع في ذلك كتاب أصحاب الإجماع : ص 219 بتصرف .
2- الهندي : اسم من أسماء السيف .

لأن الأهداف لا تنال إلاّ بالجد والسعي والعمل بنشاط دائم ولذلك نرى الأمم المتقدمة وصلت إلى مبتغاها في التقدم والحضارة ولم يأتِ ذلك من التواني أو عبطاً وإنما ابتني على الجد والنشاط وهذه سنّة أقرها الله سبحانه وتعالى بقوله :

{كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا }. (1).

فمن سعى وجدّ نال مراده وإن كان كافراً. يذكر أن المانيا الغربية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وفشلها وتدميرها سعى أبناؤها إلى إعادة ما دمّرته الحرب خلال مدّة قصيرة إذ كان العامل الذي يفرض عليه ثماني ساعات من العمل يومياً يعمل اثنتي عشرة ساعة فيضيف أربع ساعات تبرعاً منه لإعمار البلاد حتى تم إعمارها وبناؤها . .

تجربة اليابان:

ومن الأمثلة الواضحة والماثلة للعيان هي تجربة اليابان ومنافستها في الوقت الحاضر لأغلب الدول الأوروبية وامريكا من الناحية الاقتصادية والتكنولوجية والعمرانية وما شابه لا بل تفوّقها عليها بعد أن تعرضت اليابان لقنبلتين ذريتين من امريكا قتلت وجرحت وشوّهت العديد من أبنائها كالقنبلة الذرية التي رماها الأمريكيون على مدينة هيروشيما اليابانية في 6 آب 1945 وخلّفت وراءها حوالي (80,000 قتیل و (75,000) جريح والقنبلة الثانية رماها الأمريكيون على مدينة ناكازاكي اليابانية في 9 آب 1945 وخلّفت وراءها حوالي (40,000) قتيل . فمع أن اليابان خرجت من الحرب العالمية الثانية بخسائر بشرية ومادية لكنها لم تتوقف وبفضل نشاط أبنائها وهمتهم استعادت عمرانها واكتسحت العالم لتقفز إلى الواجهة وصارت

ص: 92


1- سورة الإسراء ؛ الآية : 20 .

مضرباً للأمثال في الجدّ والعمل وتصل نسبة المتعلمين فيها إلى 99٪ . .

ومن هنا يدعو الإسلام إلى الهمة والنشاط في العمل .

قال الإمام أمير المؤمنين علیه السلام :

«من رقى درجات الهمم عظمته الأمم» . (1).

ولكننا نرى أن أغلب المسلمين اليوم كسالى فلذا قد تأخروا عن ركب التقدم لأن الكسل يجعل الإنسان ملولاً مرهقاً يخلد إلى الراحة دائماً . .ومن الواضح أن الخلود إلى الراحة فضلاً عن تأخيره للإنسان فإنه يقوده في بعض الأحيان إلى ارتكاب المحرمات أو نكران الحقوق أو الهروب من الأدوار الشخصية والاجتماعية فمثلاً إذا كان المطلوب من الإنسان طلب العلم فهو لا يطلبه أو خدمة المجتمع أو الأبوين أو أداء حق الزوجة والأولاد أو صلة الأرحام فهو لا يقوم بذلك كسلاً. وقد ذمّت الأحاديث الشريفة هذه الصفة الرديئة.

قال أمير المؤمنين علیه السلام :

«إياكم والكسل، فإنه من كسل لم يؤد حق الله عزّ وجلّ».(2).

وقوله علیه السلام أيضاً :

»من دام کسله خاب أمله».(3).

وقوله علیه السلام: «آفة النجح الكسل» . (4).

فعلى الإنسان الذي يريد بلوغ هدفه وغايته سواء كان لبناء نفسه أو بناء مجتمعه أو الغاية الكبرى وهو الفوز بالآخرة أن يجعل سيره في عمله بنشاط دون كسل وتوان وإلا فإن الكسل مقدمة للفشل وليس للنجاح . .

ص: 93


1- تصنيف غرر الحكم : ص 448 ط 1 .
2- البحار : ج 70 ص159باب 127 ح4 .
3- تصنيف غرر الحكم : ص 463 ط الأُولى .
4- تصنيف غرر الحكم : ص 463 ط الأُولى .

والخلاصة. . .

إن المزاح الكثير والكذب والضجر والكسل من الصفات الرديئة التي تحط من شخصية الإنسان وتسمه برذائل الأخلاق التي تعود نتائجها عليه

بالتأخر والفشل .

فعلى الإنسان المؤمن أن يبتعد عن هذه الصفات في طريق بناء شخصيته وخدمة مجتمعه ليكون له نور يمشي به في الناس فيعيش السعادة ويقود الآخرين نحو السعادة .

ص: 94

5- الغيبة في أحكامها وآثارها

اشارة

ص: 95

ص: 96

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) لعلي (علیه السلام):

يا علي، من اغتيب عنده أخوه المسلم ، واستطاع نصره فلم ينصره خذله الله تعالى في الدُّنيا والآخرة» .(1)

سؤال وجواب عن الغيبة:

في بداية الحديث نسأل :

ما معنى الغيبة وما حدودها وما يرتبط بها وما العلاج الناجح لها ؟ أما معنى الغيبة فهي ذكر الإنسان حال غيبته بما يكره نسبته إليه مما يعد نقصاناً في العرف بقصد الإنتقاص والذم والقيد الأخير «بقصد الانتقاص والذم» لإخراج من ذكر نقصاً في أخيه المسلم للطبيب مثلاً حتى يحصل على علاجه دون أن يشعر بذلك صاحب النقص كأن يكون أعمى أو أعرج .. وما شابه بناء على بعض الآراء.

وهناك معنى آخر للغيبة أعم من الأول وهو :

التنبيه على ما يكره نسبته إليه مما يعد نقصاناً في العرف كأن يكون

ص: 97


1- مدينة البلاغة : ج 1 ص 423 .

النقص في بدنه أو في أخلاقه أو في أقواله أو في أفعاله المتعلقة بدينه أو دنياه، أو كان في ثوبه أو داره أو دابته .. مع قصد الانتقاص والذم ومورد العموم هنا لاشتمال التنبيه على اللسان والإشارة والحكاية وغيرها وهو أتم من المعنى الأول لعدم قصر الغيبة على اللسان ففي رواية عن عائشة قالت : «دخلت علينا امرأة فلما ولّت أومأت بيدي أنها قصيرة، فقال صلی علی علیه وآله وسلم اغتبتها».(1)

وهناك قيد في صفة الغيبة إذ إن الذكر أو التنبيه على أمر ما في شخص آخر إذا كان مما هو ليس بمذموم عند الله تعالى فهو من الغيبة، أما إذا كان مذموماً عند الله وأردت إظهار الحق من الباطل فهو ليس بغيبة؛ وخير مثال على ذلك لو كان بعض أفراد الحكومة أو الدولة أو الحركة يحكمون الناس بالباطل وظاهرهم خلاف ذلك إذ هم يتظاهرون بالتدين والإنسانية وما شابه وكنت على علم بما يحدثونه من جور وظلم فهنا يتوجب إظهار الحق وهو ليس من الغيبة بشيء بل هو من الواجبات في فضح الظالم ويعتبر الظالم ويعتبر انتصاراً للمظلوم فقد روي عن الإمام الصادق علیه السلام :

«صفة الغيبة أن تذكر أحداً بما ليس هو عند الله بعيب ويذم ما يحمده أهل العلم فيه وأما الخوض في ذكر الغائب بما هو عند الله مذموم وصاحبه فيه ملوم فليس بغيبة وإن كره صاحبه إذا سمع به وكنت أنت معافى عنه وخالياً منه، وتكون وتكون في ذلك مبيناً للحق من الباطل ببيان الله ورسوله، ولكن على شرط ألا يكون للقائل بذلك مراد غير بيان الحق والباطل في دين الله عزّ وجلّ، وأما إذا أراد به نقص المذكور بغير ذلك المعنى، فهو مأخوذ بفساد مراده وإن كان صواباً » . (2). وسيأتي الكلام في الموارد التي تجوز فيها الغيبة. .

ص: 98


1- تنبيه الخواطر ( مجموعة ورام ): ج 1 ص 118 باب الغيبة.
2- جامع السعادات : ج 2 ص 294 .

أضواء على حرمة الغيبة:

ثم إن الغيبة حرام بالإجماع بل هو من الكبائر الموبقة ونص على حرمتها القرآن الكريم والسنة المطهرة، أما القرآن فقد جاء في قوله تعالى . {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ}.(1).

وفي سبب نزول الآية الكريمة جاء في تفسير مجمع البيان أنها «نزلت في رجلين من أصحاب رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم اغتابا رفيقهما وهو سلمان بعثاه إلى رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم ليأتي لهما بطعام فبعثه إلى أسامة بن زيد وكان خازن رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم على رحله، فقال ما عندي شيء فعاد إليهما فقالا بخل أسامة وقالا السلمان لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها ثم انطلقا يتحسسان عند أسامة ما أمر لهما به رسول الله فقال لهما رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم : ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما قالا: يا رسول الله ما تناولنا يومنا هذا لحماً، قال: ظللتم تأكلون لحم سلمان وأسامة فنزلت الآية ..».(2).

وفي معنى الآية جاء فيه أيضاً :

«الغيبة ذكر العيب بظهر الغيب على وجه تمنع الحكمة منه. وفي الحديث إذا ذكرت الرجل بما فيه مما يكرهه الله فقد اغتبته وإذا ذكرته بما ليس فيه فقد بهتّه. وعن جابر قال : قال رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم إياكم والغيبة فإن الغيبة أشدّ من الزنا ثم قال : إن الرجل يزني ثم يتوب فيتوب الله عليه وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه ثم ضرب سبحانه للغيبة مثلاً فقال : (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً) وتأويله إن ذكرك بالسوء من لم يحضرك بمنزلة أن تأكل لحمه وهو ميت لا يحس بذلك بذلك. عن الزجاج : ولما قيل لهم أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً قالوا : لا، فقيل

ص: 99


1- سورة الحجرات ؛ الآية : 12 .
2- تفسير مجمع البيان : المجلد الخامس ص 203 .

(فكرهتموه) أي فكما كرهتم ذلك فاجتنبوا ذكره بالسوء غائباً . . ».(1) .

أما ما ورد في السنة الشريفة من حرمة الغيبة فهو كثير نقتطف منه هذه الروايات :

قال رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم:«كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه».(2) .

وقال الإمام الصادق علیه السلام :

من روى على مؤمن رواية يريد بها شينه وهدم مروته ليسقط الناس أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان، فلا يقبله الشيطان» . (3).

وأوحى الله تعالى إلى النبي موسى عليه السلام :

«من مات تائباً من الغيبة فهو آخر من يدخل الجنة، ومن مات مصراً عليها فهو أول من يدخل النار» .(4)

أما العقل فهو أيضاً في جانب النص القرآني والسنة والاجتماع إذ إنه يرى في التعاون والتكامل الاجتماعي جوانب إيجابية عديدة وينفر من المنغصات لهذا الإجتماع حيث إن الغيبة تفقد الإنسان شخصيته ومقدرته عند الآخرين ولنوضح ذلك بمثال :

لو كان هناك إنسان فاضل وله مكانة اجتماعية مرموقة وتأثير إيجابي فكراً وعملاً على أسرته ومجتمعه ويأتي شخص ما وينسب إلى هذا الشخص تهماً وأكاذيب باطلة ويدسّها بأساليب متنوعة بين الناس فمما لا شك فيه أن المجتمع سيبتعد عنه وعن أفكاره والمجتمع الذي يبتعد عن هذه الشخصية سيخسر أيضاً الآخر قدرة فكرية وعملية من بين أوساطه كل ذلك بسبب

ص: 100


1- المصدر نفسه : ص 205 و 206 .
2- تنبيه الخواطر (مجموعة ورام) : ج 1 ص 115 باب الغيبة.
3- البحار : ج 72 ص 254 باب 66 ح 36 .
4- تنبيه الخواطر : ج 1 ص 116 باب الغيبة .

الغيبة فهل العقل يساند القدرة الفكرية أم التخلف ؟

فإذا ساند التخلف فيخرج عن كونه عقلاً إلى وهم أو جهل مركب.

ويقولون« إن السلف كانوا لا يرون العبادة في الصوم والصلاة بل في الكفّ عن أعراض الناس لأنه كان عندهم أفضل الأعمال ويرون خلافه صفة المنافقين ويعتقدون أن الوصول إلى المراتب العالية في الجنة يتوقف على ترك الغيبة»(1)

من هنا تحدث الغيبة:

هناك عوامل عديدة تساعد على ارتكاب الغيبة وقد ذكر أهل المعقول أسباباً عديدة بالإضافة إلى الغضب والحقد والحسد منها :

(السخرية والاستهزاء) : وهي من رذائل القوة الغضبية كما يقول علماء الأخلاق إذ يقوم الفرد بمحاكاة أقوال الناس أو أفعالهم أو صفاتهم أو خلقهم قولاً وفعلاً أو إيماءاً وإشارة على وجه يُضحِك منه الآخرين، وباعثه العداوة أو التكبر واستصغار المستهزأ به عادة ومنها :

(اللعب والهزل) : وهو من رذائل القوة الشهوية فيذكر غيره بما يضحك الناس على سبيل المحاكاة والتعجب لتمضية الوقت بالضحك نتيجة عطله وفراغه وما شابه ومن هنا اختلف هذا السبب عن الأول إذ إن الأول باعثه العداوة أو التكبر عادة أما الثاني فباعثه الشهوة عادة . ومنها :

(إرادة الإفتخار والمباهاة ): ومنشأ هذا العامل من التكبر أو الحسد في أغلب الأحيان إذ يشعر بأنه أفضل من الآخرين فيبدأ بانتقاصهم وذكر عيوبهم حتى يشعر الناس بأنه ليس فيه هذا العيب وما شابه. مثلاً التاجر الفلاني إذا ذكر أمامه أحد التجار فيقول : إنه لا يعلم شيئاً ويريد بذلك أن يرفع نفسه وينتقص من الآخر . . ومنها :

ص: 101


1- جامع السعادات : ج 2 ص 305 .

(إشراك الآخرين في القبائح المنسوبة إليه ): فإذا كان شخص يتصف بشيء قبيح فتراه يحاول إشراك الآخرين بهذه القبائح دون أن يرفع نفسه عنها ومنشأ ذلك - عادة - صغر النفس وخبثها . ومنها :

(المجاملة في الصحبة) : إذ إن بعض الأفراد لا يريد أن يفقد بعض الأصدقاء فيحب مرافقتهم والتحدث معهم دائماً وإذا لم يجد حديثاً ما يبدأ بذكر عيوب الناس ومساوئهم ظناً منه أنه مجاملة في الصحبة، أو موافقة لأصحابه فإنهم إذا كانوا مشغولين بذكر الأعراض فيرى أنه لو أنكر أو قطع المجلس استثقلوه ونفروا عنه فلذا يبدأ يساعدهم ويرى ذلك من حسن المعاشرة . .

(ومنها) : أن يستشعر من رجل أنه سيذكر مساوئه، أو يقبح حاله عند محتشم أو يشهد عليه بشهادة، فيبادره قبل ذلك بإظهار عداوته، أو تقبيح حاله، ليسقط أثر كلامه وشهادته.

جوانب أخرى من الغيبة:

وقد ذكروا أيضاً للغيبة بواعث أُخرى منها الرحمة والتعجب والغضب لله تعالى فإذا ترحم شخص على آخر معلول وذكر اسمه فهو غيبة أو يتعجب من صدور المنكر الخفي من إنسان ما عند جماعة أو يغضب منه وإن كان غضبه الله تعالى وأظهره للغير بحجة إظهار المنكر وقد روي :

«إن رجلاً مرّ على قوم في عصر النبي صلّی الله علیه وآله وسلم فلما جاوزهم قال رجل منهم : إني أبغض هذا الرجل الله فقال القوم : والله لبئس ما قلت! وإنا نخبره بذلك، فأخبروه به فأتى الرجل رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم وحكى له ما قال، وسأله أن يدعوه فدعاه وسأله عما قال في حقه، فقال: نعم! قد قلت ذلك. فقال رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم : ولم تبغضه ؟ فقال : أنا جاره وأنا به خبير، والله ما رأيته يُصلّي صلاة قط إلاّ هذه المكتوبة !فقال : يا رسول الله، فاسأله

ص: 102

هل رآني أخّرتها عن وقتها أو أسأت الوضوء لها والركوع والسجود؟

فسأله، فقال : لا ! فقال : والله ما رأيته يصوم شهراً قط إلاّ هذا الشهر الذي يصومه كل بر وفاجر ! قال : فاسأله يا رسول الله هل رآني أفطرت فيه أو نقصت من حقه شيئاً ؟

فسأله فقال : لا ! فقال : والله ما رأيته يعطي سائلاً قط ولا مسكيناً، ولا رأيته ينفق من ماله شيئاً في سبيل الخير إلاّ هذه الزكاة التي يؤديها البر والفاجر ! قال : فاسأله هل رآني نقصت منها شيئاً أو ماكست فيها طالبها الذي يسألها؟ فسأله، فقال : لا !

فقال رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم للرجل : قم، فلعله منك» .(1).

وقد جمع ما ذكرناه من أسباب الغيبة قول الإمام الصّادق علیه السلام :

«وأصل الغيبة تتنوع بعشرة أنواع :

شفاء غيظ ومساعدة قوم وتهمة وتصديق خبر بلا كشفه وسوء ظن وحسد وسخرية وتعجب وتبرم وتزين فإذا أردت السلامة فاذكر الخالق لا المخلوق فيصير لك مكان الغيبة عبرة ومكان الإثم ثواب».(2) .

علاج الغيبة:

أما علاج الغيبة فهو على نحوين :

الأول: أن يعلم الإنسان أن الغيبة تعرضه لسخط الله تعالى لأنها من المحرمات المغلظة بالأدلة الأربعة .

وأيضاً : إن الغيبة تأكل حسنات المغتاب وتزيد من حسنات الذي وقعت عليه الغيبة .

ص: 103


1- جامع السعادات : ج 2 ص 301 .
2- البحار : ج 72 ص 257 باب 66 ح 48 ط بيروت .

قيل للحسن البصري إن فلاناً اغتابك فأهدى إليه طبقاً من رطب، فأتاه الرجل وقال له : اغتبتك فأهديت إليّ، فقال الحسن : أهديت إلي حسناتك فأردت أن أكافئك

هذا بالإضافة إلى العقاب الأخروي فإن في الغيبة مفاسد دنيوية لأنها منشأ العداوات وقد يصل الأمر إلى الضرب أو الإيذاء بل القتل أحياناً .

الثاني : وهو يرتبط بأسباب الغيبة فإن علاج العلة بقطع سببها وقد عرفت الأسباب وهي التي حصرها الإمام الصادق عليه السلام بعشرة أنواع وعلى المبتلى بها أن يتجنبها ولو على شكل مراحل وفي هذا البحث لا نستطيع تفصيلها وذكر علاجها فنكتفي بمعرفة السبب وإزالته بتجنبه. وعلى سبيل المثال على الإنسان الابتعاد عن الغضب والحسد والمباهاة والاستهزاء ...فإنها مضافاً إلى أنها من الرذائل ومساوىء الأخلاق تعدّ من بواعث الغيبة وسبب انحلال الأواصر النفسية والاجتماعية في المجتمع .

المستمع أحد المغتابين:

ومن الثابت في الأدلة أن المستمع للغيبة هو أيضاً مغتاب وكما يحرم على المغتاب ذكر الغيبة كذلك يحرم على السامع استماعها وتأتي عليه الأحكام السابقة التي قدمناها وينبغي للمستمع أن يبادر للدفاع عن الذي اغتيب عنده والحد من الغيبة، لذا ذكر الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم في وصيته الأمير المؤمنين عليه السلام التي ابتدأنا بها بحثنا عن المستمع للغيبة فلو ترك نصرة أخيه خذله الله تعالى في الدنيا والآخرة فالمستمع للغيبة دون ردها أو إنكارها أو القيام من مجلسها يصبح تحت مطرقتين الأولى : وقوعه في الحرام . الثانية : ترك نصرة أخيه المسلم .

أما أولاً : فإنه ارتكب الحرمة كما ارتكبها المتكلم قال الله تعالى :

ص: 104

{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا}.(1).

وقد روى العياشي بإسناده عن علي بن موسى الرضا علیه السلام في تفسير هذه الآية قال :

«إذا سمعت الرجل يجحد الحق ويكذب به ويقع في أهله فقم من عنده ولا تقاعده» .(2)

وقد روي : «إنه صلّی الله علیه وآله وسلم لما رجم رجلاً في الزنا، قال رجل لآخر : هذا قعص كما يقعص الكلب . فأمر النبي صلّی علی علیه وآله وسلم لهما بجيفة، فقال: انهشا من هذه الجيفة . فقالا : يا رسول الله، ننهش جيفة! فقال : ما أصبتما من أخيكما أنتن من هذه» .(3)

فجمع بينهما الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم في النهش من الجيفة مع أن أحدهما كان قائلاً والآخر مستمعاً.

وقال الإمام أمير المؤمنين علیه السلام :

«السامع للغيبة أحد المغتابين» (4)

ومما أنشد من الشعر في هذا المعنى :

سمعك صن عن سماع القبيح كصون اللسان عن النطق به

فإنك عند سماع القبيح ***شريك لقائله فانتبه

وكم أزعج الحرص من طالب فوافى المنية في مطلبه

ص: 105


1- سورة النساء ؛ الآية : 140 .
2- مجمع البیان:ج2 ص195.
3- تنبيه الخواطر : ج 1 ص 116 باب الغيبة .
4- البحار ج 72 ص 226 باب 66 ح 1 .

نصرة المظلوم:

أما ثانياً : فإن المستمع للغيبة لا يخلو من أمرين، إما أن ينصر أخاه المسلم بالدفاع عن عرضه وذلك بعدة طرق منها :

1 - أن ينهى المتكلم عما اقترفه بحق الغائب بلسانه إن لم يخف ضرراً .

2 - أو ينكر الفاحشة بقلبه ويفارق ذلك المجلس إن خاف الضرر. وكلتا الصورتين تعدّان نصرة للمظلوم فكيف ذلك؟

إن الظالم له معنيان مرة بالمعنى الأعم وهو ما يقابل العدل وكلامنا ليس فيه وإن كان من الرذائل .

ومرّة بالمعنى الأخص وهو ما يرادف الإضرار والإيذاء للغير فيتناول هذا المعنى القتل والضرب والشتم والقذف والغيبة وأخذ المال قهراً ونهباً وغصباً وسرقة وغير ذلك من الأقوال والأفعال المؤذية ...قال تعالى :

{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}. (1)

وقال رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم:

«من آذى مؤمناً فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله».(2)

فالإيذاء وأخذ عرض الناس وإهانتهم حرام وهو نوع ظلم ويجب هنا على السامع أن ينصر أخاه المؤمن المظلوم . قال رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم:

«انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، إن يك ظالماً فاردده عن ظلمه، وإن

ص: 106


1- سورة الأحزاب ؛ الآية : 58 .
2- نهج الفصاحة : ص 618 ح 3037 .

يك مظلوماً فانصره».(1)

وأما إذا لم ينصر أخاه بأن يسكت ولا يرد عنه وهو قادر على ذلك أو خاف الضرر ولكنه لم ينكر الغيبة في قلبه أو قال اسكت وقلبه يشتهي

ذلك . فقد وقع في المحذورين وهي حرمة الغيبة وحرمة سماعها وترك نصرة المظلوم وهذا نوع ظلم وخذلان لأخيه المؤمن .

قال الإمام الصادق عليه السلام :

«كان علي علیه السلام يقول : العامل بالظلم والمعين عليه والراضي به شركاء ثلاثة» . (2)

وقال علیه السلام: «من عذر ظالماً يظلمه سلّط الله عليه من يظلمه، وإن دعا لم يستجب له ولم يأجره الله على ظلامته» .(3) .

والله تعالى ينصر من نصر المظلوم لأنه مقتضى الحكمة والعدل الإلهي ويخذل الخاذل . قال الإمام الصادق علیه السلام :

«من اغتيب عنده أخوه المؤمن فنصره وأعانه، نصره الله في الدنيا والآخرة، ومن لم ينصره ولم يدفع عنه - وهو يقدر - خذله الله وحقّره في

الدنيا والآخرة» .(4).

يقول الإمام زين العابدين علیه السلام (اللَّهُمَّ إني أعتذر إليك من مظلوم ظلم بحضرتي فلم أنصره).(5) .

ص: 107


1- نهج الفصاحة : ص 112 ح 561 .
2- البحار : ج 72 ص 312 باب 79 ح 16 .
3- المصدر نفسه : ص 332 ح 68 .
4- المصدر نفسه : ص 262 باب 66 ح 69 .
5- الصحيفة السجادية الجامعة : ص 187 رقم 100 ط إيران .

طريق التوبة من الغيبة:

الغيبة إذن هي نوع اعتداء على الناس ومعصية يشترك فيها طرفان المتكلم والسامع ولكل واحد منهما طريق للخلاص من الجريمة :

أولاً : المتكلم وتترتب عليه عدة أمور منها :

1 - التوبة والندم إلى الله تعالى . . .

2- أن يطلب الإقالة من الشخص الذي اغتابه إذا كان حيّاً يمكن الوصول إليه، فإذا أقاله فبها ونعمت وإن لم يُقله فينبغي عليه الاستغفار بعد التوبة لكي تزداد حسناته مقابل السيئة التي عملها .

3 - إذا كان الشخص الذي اغتابه ميتاً أو لم يمكن الوصول إليه فينبغي بعد التوبة أن يكثر الاستغفار والدعاء ليحسب ذلك في حسناته ويقابل بها السيئة .

4 - وإن كان الشخص الذي اغتيب حياً ويمكن الوصول إليه ولم تبلغه الغيبة وخاف الفتنة أو العداوة فليكثر الاستغفار بعد التوبة وإن لم يخف الفتنة والعداوة وبلغته الغيبة فليعتذر منه مبالغاً في التودد إليه حتى يحصل على الإقالة . .

هذا ما يناسب المتكلم.

ثانياً : المستمع وتترتب عليه الأمور الأربعة المذكورة سلفاً مع إضافة أمر آخر وهو وجوب نصرة المظلوم كما مرّ بيانه .

متى تجوز الغيبة ؟:

من الواضح أن هناك موارد خاصة يجوز للإنسان أن يغتاب فيها وذلك حسب قانون المصلحة والأهم والمهم ونحو ذلك من القواعد الشرعية التي تجوز لنا ذلك وقد ذكر الفقهاء عدة من هذه الموارد في المكاسب المحرمة

ص: 108

من الفقه ونظراً لأهميتها ننقل عبارات الشيخ الأعظم في المكاسب مع توضيحها بالتسلسل الذي ذكره . .

قال في موارد جواز الغيبة أموراً هي :

إذا فرض أن هناك مصلحة راجعة للمغتاب أو شخص ثالث ودلّ العقل والشرع على كونها أعظم من مصلحة احترام المؤمن وحرمة غيبته، وجب كون الحكم على طبق أقوى المصلحتين .. وعلى هذا فموارد الاستثناء لا تنحصر في عدد إلاّ في موضعين تجوز فيهما الغيبة من دون مصلحة : أحدهما ما إذا كان المغتاب متجاهراً بالفسق وبحدود الفسق المتجاهر به وقد ورد في الأخبار قوله علیه السلام في رواية هارون بن الجهم :

«إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له ولا غيبة» .(1) .

ثانيهما : تظلم المظلوم وإظهار ما فعل به الظالم لقوله تعالى :{وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} .(2).

وقوله تعالى : {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلاّ من ظلم} .(3).

وفي قول رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم: «الصاحب الحق مقال» .(4).

ولكن الظاهر أن الأدلة في الموضعين المذكورين لا تنهض بجواز الإغتياب والأحوط جعل الموضعين من باب تعارض المصلحتين، مصلحة حرمة المؤمن ومصلحة عدم حرمة المتجاهر بالفسق والظالم.(5)

ص: 109


1- البحار :ج 72 ص ص 253 باب 66 ح 32 .
2- سورة الشورى ؛ الآيتان : 41 و 42 .
3- سورة النساء ؛ الآية : 148
4- البحار : ج 72 ص 231 باب 66 ط بيروت
5- للمزيد راجع إيصال الطالب إلى المكاسب : القسم الثالث من المكاسب .

موارد الجواز لمزاحمة الغرض الأهم:

وقد ذكروا صوراً لجواز الغيبة لغرض صحيح أقوى من مصلحة احترام المغتاب وهي :

1 - نصح المستشير فإن النصيحة واجبة للمستشير وإن خيانته قد تكون أقوى مفسدة من الوقوع في المغتاب. وكذلك النصح من غير استشارة فإن أراد التزوج من امرأة وأنت تعلم بقبائحها التي توجب وقوع الرجل من أجلها في الغيبة والفساد فلا ريب أن التنبيه على بعضها وإن أوجب الوقيعة فيها أولى من ترك نصح المؤمن وفي الرواية :

إن فاطمة بنت قيس استشارت النبي صلّی الله علیه وآله وسلم في أن تصير زوجة معاوية، أو أبي الجهم، فقال صلّی الله علیه وآله وسلم لها : أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو الجهم فلا يضع عصاه على عاتقه ،كناية عن كثرة طروقته، انكحي أسامة .

فإنه صلّی الله علیه وآله وسلم قد ذكر عيب الرجلين لأنها استشارته وأما النصيحة من غير استشارة فقد وردت أخبار كثيرة في وجوبها منها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :

«لينصح الرجل منكم أخاه كنصيحته لنفسه».(1) .

وقال الإمام الصادق علیه السلام : «يجب للمؤمن على المؤمن النصيحة في المشهد والمغيب ».(2) .

2 - الإستفتاء بأن يقول للمفتي ظلمني فلان في حقي فكيف طريقي في الخلاص ولكن بشرط أن يكون الاستفتاء موقوفاً على ذكر الظالم بالخصوص وإلاّ فلا يجوز ويمكن الإستدلال عليه بحكاية هند زوجة أبي سفيان

ص: 110


1- وسائل الشيعة : ج 11 ص 595 باب 35 ح 4 .
2- المصدر نفسه : ح 2 .

واشتكائها إلى رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم وقولها إن أبا سفيان رجل شحيح - أي بخيل - لا يعطيني ما يكفيني ،وولدي فأجاز لها الرسول صلّی الله علیه وآله وسلم أن تأخذ من ماله باب استيفاء الحق ولم يردع صلّی الله علیه وآله وسلم هنداً عن غيبة أبي سفيان لأنها كانت مستفتية .

3 - قصد ردع المغتاب عن المنكر الذي يفعله فإنه أولى من ستر المنكر عليه وهو - في الحقيقة - إحسان في حقه مضافاً إلى عموم المنكر

أدلة النهي عن منکر.

4 - ردع المبتدع الذي يضلّ الناس وذلك بإسقاط اعتباره في المجتمع حتى لا يستمع أحد إلى كلامه .

قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : إّذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم وأكثروا من سبهم والقول فيهم والوقيعة، وباهتوهم كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام ويحذرهم الناس ولا يتعلمون من بدعهم، يكتب الله لكم بذلك الحسنات، ويرفع لكم به الدرجات في الآخرة» .(1) .

5 - جرح الشهود ببيان ما فيهم من النواقص الموجبة لرد شهادتهم وذلك لإجماع الفقهاء على جوازه ولأن مصلحة عدم الحكم بشهادة الفسّاق أولى من الستر على الفاسق .

6 - دفع الضرر عن المغتاب فيما إذا كان الضرر الذي سيصل إليه أعظم من ضرر الغيبة ،أي نفي علاقتك بإنسان صديق لك أمام السلطان الجائر وذمّه لئلا يتضرر بعلاقتك له كما ورد في ذم الإمام الصّادق غلیه السلام لزرارة في قوله :

«إنما أعيبك دفاعاً مني عنك»

والرواية طويلة اكتفينا باليسير منها. ويلحق بذلك الغيبة للتقية على

ص: 111


1- المصدر نفسه : ص 508 باب 39 ح 1 .

نفس المتكلم أو ماله أو عرضه أو عن ثالث فإن الضرورات تبيح المحظورات - أي المحرمات - .

7- ذكر الشخص بعيبه الذي صار بمنزلة الصفة المميزة التي يعرف بها كالأعمش والأعرج والأشتر والأحول ونحوها بشرط أن لا يكره ذلك صاحبها ولا يقصد من ذكرها الانتقاص منه أيضاً .

8 - ردّ من ادعى نسباً ليس له لمصلحة حفظ الأنساب كمن يدعي فلاناً ولده أو والده أو قريبه لأنه يتوقف عليها الإرث والقصاص والحقوق الشرعية والخمس والزكاة والنكاح . . وهي أولى من مراعاة حرمة المغتاب ولذلك المسلمون ما يزالون يطعنون في معاوية وزياد «لعنة الله عليهما »حيث ألحقه معاوية به ويؤيده أيضاً تشريع اللعان لنفي الولد.

وقد ذكر الفقهاء موارد أُخرى لجواز الغيبة لا حاجة إلى ذكرها هنا بعدما عرفت أن الضابط في الجواز هو وجود مصلحة غالبة على مفسدة هتك حرمة المؤمن .(1).

ومن كل هذه الموارد التي ذكرها الشيخ الأعظم الأنصاري (قده) تعرف حكمة الإسلام ودقته في التشريع إذ لا يبيح الشيء المحظور شرعاً إلا لمصلحة أهم وإلاّ فإن الأصل الأولي هو حرمة الغيبة.

كيف ننصر المظلوم:

وفي غير هذه الموارد المستثناة يكون المغتاب مظلوماً ويتوجب عندها على المستمع نصرته وذلك بطرق منها :

أولاً : الدفاع عن المظلوم وتوضيح الأمور للذي قام بمعصية الغيبة . .

ص: 112


1- للمزيد من الإطلاع راجع كتاب إيصال الطالب إلى المكاسب : القسم الثالث من المكاسب المحرمة من ص 74 إلى ص 114 فيما استثني من الغيبة .

ثانياً : النهي عن ذلك إما مباشرة أو بذكر مساوىء الغيبة ومضارها والتذكير بيوم القيامة والحساب وما شابه من الوعد والوعيد لمرتكب الغيبة

ثالثاً : أو يحاول تغيير مجرى الحديث في أثناء الابتداء بالغيبة لئلّا يسترسل الشخص في اغتيابه أو يجد عوناً على ذلك .

رابعاً : وإذا لم تنفع الطرق الثلاث الأولى أو خاف الضرر بحيث لا يستطيع رد هذا المنكر فعليه القيام من ذلك المجلس والإنكار بالقلب

خامساً : مقاطعة المجلس وعدم الاشتراك فيه ومحاولة تنبيه أصحاب المجلس بأن المقاطعة جاءت بناءاً على ارتكاب الغيبة أو ظلم الناس بغير

حق. وقد نقل في أحوال السيد مهدي بحر العلوم (قده) : إنه في أيام صباه كان يرتاد أحد المجالس وإذا به خرج يوماً من ذلك المجلس وهو يبكي فانتبه الحاضرون إليه وقاموا إليه وقالوا : ما بك وممّ تبكي؟ .

قال : كيف أجلس في مجلس يعصى الله فيه بالغيبة؟

وقد وردت روايات عديدة تحت على نصرة المغتاب المظلوم ومنها : قال رسول الله صلّی علی علیه وآله وسلم في خطبة له :

«من رد عن أخيه غيبة سمعها في مجلس رد الله عنه ألف باب من الشرّ في الدنيا والآخرة» .(1).

وقال صلّی الله علیه وآله وسلم:

«من رد عن عرض أخيه المسلم كتب له الجنة البتّة» .(2)

ص: 113


1- وسائل الشيعة : ج 8 ص 607 باب 156 ح 5 .
2- البحار : ج 72 ص 254 باب 66 ح 35.

مضار الغيبة وفوائد ردعها:

بالإضافة إلى ما تقدم من حرمة الغيبة والإستماع لها وأضرارها الأخروية على النفس فإن للغيبة مضاراً اجتماعية تتعدى نطاق الفرد الذي تكلم بها أو المستمع لها فلو دققنا النظر لمعرفة المصلحة الواقعية لتحريم الغيبة قد نتوصل إلى بعضها ولعل من أهمها أنها تحطم الوحدة والتآلف والمحبة بين أفراد المجتمع الواحد. وإذا لم نقف أمام هذه الظاهرة المحرمة فإنها ستفكّك أواصر المحبة الكائنة بين أبناء المجتمع وتهدم ترابطه وذلك بزرع عدم الثقة بين الإخوان وتحطيم شخصيات مثالية لها الأثر البالغ على سير الاجتماع نحو الأفضل وعزله عن قيادة المجتمع، واستغلال المتآمرين والمستعمرين لهذه الفجوة والنفوذ إلى داخل أوساط المجتمع بصور مبرقعة وملتوية لفرض أفكارها المسمومة بحجة إنقاذه من التسافل والسقوط، وإذا تمكنوا من ذلك نهبوا قدرات الشعب وثرواته وصادروا حرياته وفرضوا القيود، وزيّفوا المبادىء وخربوا أفكار الناس الصحيحة ليبقوا تابعين غير مستقلين وخصوصاً مع قلّة وعي بعض أبناء المجتمع وضعف إيمان البعض الآخر ولعلك تجد وبسبب الغيبة وتفشيها بين الناس يتحول فيها السيد إلى عبد والعبد إلى سيد وهكذا وفي انحراف كبير عن المعادلات الصحيحة في الحياة الشخصية والاجتماعية معاً .

وإذا عرفت المضار الدنيوية والأخروية البالغة الأثر من جرّاء تفشي الغيبة في المجتمع فعلى أبناء المجتمع الإسلامي الكبير أن يقفوا أمام هذه الظاهرة كما يقفون أمام كل المعاصي والسلبيات لحفظ قيمهم ومبادئهم الإسلامية وخلق مجتمع رسالي متعاون ومستقر لا تهجم عليه اللوابس ولا تمرر عليه المؤامرات ليغدو في مصاف المجتمعات المثالية التي أرادها الله تعالى من خلق الإنسان وإرسال الأنبياء والرسل والأوصياء علیه السلام وذلك يتم بعدة أُمور منها :

ص: 114

1 - التفكر في أهوال يوم القيامة وعاقبة الأمور وسخط الله تعالى من المعصية . .

2 - الوعي والتعرف على خصوصيات المعاصي ومفاسدها الواقعية وذلك يتم بالتدبر في آيات القرآن الحكيم وروايات أهل البيت علیهم السلام ووصاياهم وأخبارهم والإقتداء بسيرتهم علیه السلام .

3 - اتباع المرجعية الجامعة للشرائط والارتباط بها مادياً ومعنوياً لقيادة المجتمع في زمن الغيبة نحو الأفضل وقبول الأعمال كذلك عند الله تعالى وهذه المسألة من المسائل المهمة في عصرنا الحاضر نظراً لما يعمل الإستعمار جاداً للفصل بين الناس والعلماء لأنها نقطة القوة الوثيقة في المجتمع الإسلامي المؤمن اليوم فالعالم حلقة الوصل بين الإنسان وخالقه تعالى بواسطة تعاليم الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم وأهل بيته علیهم السلام وهو أيضاً النائب العام لمولانا صاحب العصر والزمان الذي هو الإمام المنصوب من قبل الله سبحانه لحفظ الشرع والدين.

ومن هنا كانت وصية الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم والوصية أمير المؤمنين علیه السلام :

«يا علي من اغتيب عنده أخوه المسلم واستطاع نصره فلم ينصره الله تعالى في الدنيا والآخرة» . (1).

وخذلان الله سبحانه لا يعني أن الله سبحانه يخذل العبد بل هذا من باب التعبير المجازي والذي يسميه علماء الأدب مجاز المقابلة مثل { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ َ }. (2)والمراد منه أن الله سبحانه يعكس عليهم أعمالهم في المكر والخذلان .ومن مصاديق الخذلان في الدنيا التشتت والتباعد ونشر العداوات، وخذلان الآخرة العقاب والفضيحة والنار .

ص: 115


1- مدينة البلاغة : ج 1 ص 423 .
2- سورة الأنفال ؛ الآية : 30 .

ومن كل ما تقدم نعرف خطورة مرض الغيبة إذا انتشر في المجتمع والآثار السلبية التي تترتب عليه في الدنيا والآخرة فينبغي الإلتفات إلى هذا المرض والوقوف أمامه بكل ما أوتينا من قدرة .

ص: 116

6- مِنْ سَمَات احِبَاءِ اللَّهِ

اشارة

ص: 117

ص: 118

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) لعلي (علیه السلام) :

«يا علي، كن شجاعاً فإن الله يحب الشجاع، وكن سخياً فإن الله يحب السخي، وكن غيوراً فإن الله الغیور، يا علي وإن إنسان سألك حاجة ليس لها بأهل فكن أنت أهلاً لها» .(1) .

حبّ الله تعالی:

في هذا الحدیث ذکر الرسول الاعظم صلّی الله علیه وآله بعض الصفات الحسنة التي یحبها الله تعالی في الانسان ففي الحدیث ان اللّه سبحانه یحب الشجاع ویحب السخي ویحب الغیور فما معنی حب الله تعالی لعبده؟.

معنی حب الله تعالی یختلف عن حبنا نحن البشر إذ إن حبّنا صفة تطرا علینا فتنفعل النفس بها وتبتهج أو تفرح فتمیل نحو المحبوب وهذا الانفعال من صفات المادة التي تقبل طرو الحوادث علیها.

أما حب الله تعالی فلا یکون کذلک لانه لیس محلا للحوادث کالفرح والحزن والابتهاج والسخط...ونحوها لان ماثبت قدمه یمتنع أن یکون محلا للحوادث والانفعالات کلها من لوازم الجسم أو الجسماني والله تعالی

ص: 119


1- المحاسن والأضداد : ص 113.

منزّه عنهما حقیقة بسیطة..کما أن الاتصاف بهذه الحوادثوالعوارض دلیل علی العجز والنقص وهذه الامور کلها مخلوغة له تعالی فیمتنع اتصاف الخالق بها..

وما ورد من وصفه تعالی بشی ء من الرضا أو الحب..في الکتاب أو السنة کما في قوله تعالی:

{ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ }(1)

و قوله تعالی:{وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ }(2)

و قوله تعالی:{ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ }(3)

ونحو ذلک فمووّلة بأن المراد منها الغایة أی غایة الرضا أو الغضب أو الحب...دون مبادیها فغایة الرضا هو الثواب وغایة الغضب هوالعقاب وغایة الحب هو النعمه واذا قیل :خذ الغایات واترک المبادی(4)

والحاصل أن حب الانسان المیل الی الموافق الملاءم وهو حادثومن صفات المادة.

أما حب الله تعالی فبإظهار أثره.

صور من القرآن والروایات:

و قدجاء في القرآن والروایات اشارات الی حب الله تعالی لعبده قال تعالی :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ

ص: 120


1- سوره المایده :الایه :119.
2- سورة الفتح: الایة:6
3- سورة المائده :الایة:54.
4- .للمزید راجع حق الیقین لشبر:ج1ص37.

وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ }(1)

ولا یفوتني هنا أن أذکر نکتة مهمة في معنی هذه الایة الشریفة اذا اختلفت الاقوال فیمن وصف بهذه الاوصاف ونشیر هنا الی المروي منها عن أبی جعفر وأبی عبدالله علیهم السلام :

«قیل هم أمیر المومنین علیه السلام وأصحابه حین قاتل من قاتله من الناکثین والقاسطین والمارقین ..ویوید هذا القول ان النبي صلی الله علیه وآله وصفه بهذه الصفات المذکورة في الایة فقال فیه -وقدندبه لفتح خیبر بعد ان رد عنهاحامل الرایة الیه مرة بعد اخری وهو یجبّن الناس ویجبونه -لاعظین الرایة غدا رجلا یحب الله ورسوله ویحبه الله ورسوله کرّارا غیر فرّارلا یرجع حتی یغتح الله علی یده ثم اعطاها ایاه فاما اوصف باللین علی اهل الایمان واشدّه علی الکفار والجهاد في سبیل الله مع انه لایخاف فیه لومة لایم فمما لایمکن أحدا دفع علیّ عن استحقاق ذلک لما ظهر من شدته علی اهل الشرک والکفر ونکایه فیهم ومقاماته المشهورة فی تشیید الملّة ونصرة الدین والرافة بالمومنین ..»(2)

ومن الایآت أیضا قوله تعالی:{والله یحب المحسنین}(3)

وفي الحدیث القدسی قال رسول الله صلی الله علیه وآله حاکیا عن الله تعالی :

«ما تحبّب الیّ عبدي بشيء احب الی مما افترضه علیه وانه لیتجبب الیّ بالنافلة حتی احبه فاذا احببته کنت سمعه یسمع به وبصره به ولسانه الذي یسمع به وبصره الذی یبصر به ولسانه الذي یبصر به ولسانه الذي ینطق به »ا(4)

وذلک لان الاشتغال بالنوافل والمستحبات یکون سببا لصفاء الباطن

ص: 121


1- سورة المائده :الایة54.
2- تفسیر مجمع البیان :ج3ص322تفسیر سورة مائده.
3- سورةالمائده :الایة:93.
4- البحار :ج67ص22 باب 43ح21.

و ارتفاع الحجب و الغطاء عن القلب فیحصل علی درجة القرب من الله تعالی وهذه الدرجة بدورها لا توجب تغیّرا وتجددا في صفات الله تعالی اذ التغیّر علیه سبحانه وتعالی محال لان صفات الله تعالی عین ذاته ذاته کاملة اذلیة فتکون صفاته التي هي عین ذاته ازلیة لا تقبل التغییر وانما التغییر یرد علی العبد المتقرب من الله تعالی لانه سیحصل علی اعلی مراتب المکال والعلم ویحیط بحقایق الامور لارتفاع الحجب وصفاءباطنه.

ومن الاحدیث الشریفة قال رسول الله صلی الله علیه وآله :

«اذ احب الله عبدا ابتلاء فان صبر اجتباه وان رضي اصطفا»(1)

وعنه أیضا صلی الله علیه وآله قال :

«من أکثر ذکر الله أحبه الله »(2)

علامات المحبوب:

وقد ذكروا علامات للإنسان المحبوب عند الله تعالى بالإضافة إلى ما ذكره الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم في الحديث الشريف الذي ابتدأنا به البحث ومما ذكروه :

«أن يكون الإنسان محباً لله تعالى مؤثراً إياه على غيره من المحاب وأن يرى من بواطن أموره وظواهرها أنه - تعالى - يهيّىء له أسباب السعادة فيها، يرشده إلى ما فيه خيره ويصده عن المعاصي بأسباب يعلم حصولها منه - سبحانه - وأنه - تعالى - يتولى أمره ظاهره وباطنه وسره وجهره، فيكون هو المشير عليه والمدبّر لأمره والمزيّن لأخلاقه ،والمستعمل لجوارحه، والمسدد لظاهره وباطنه ،والجاعل لهمومه هماً واحداً، والمبغض للدنيا في قلبه، والموحش له من غيره، والمؤنس له بلذة المناجاة في خلواته،

ص: 122


1- جامع السعادات : ج3ص180.
2- جامع السعادات : ج3ص180

والكاشف له عن الحجب بينه وبين معرفته» .(1) .

ومن علامات حب الله تعالى لعبده ما ورد في حديث رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم في وصيته لأمير المؤمنين علیه السلام وهي :

1 - الشجاعة .

2 - السخاء

3 - الغيرة .

4 - قضاء حاجة من ليس لها بأهل.

ولنتعرف معاً على هذه الصفات الحسنة وماهيتها لتكون لنا طريقاً ومناراً للوصول إلى أعلى مراتب الكمال وهي القرب من الله تعالى . .

أولاً :

الشجاعة بين التهور والجبن:

ما معنى الشجاعة ؟

هي حالة وسطى بين التهور والجبن لأنها من الفضائل والفضائل تمتاز بأنها حالة وسطى بين رذيلتين بمعنى حالة متوسطة بين الإفراط والتفريط وسأضرب لك مثالاً :

الإنسان الذي يلقي بنفسه في المهالك دون تفكير أو تأمل كأن يلقي نفسه من بناء شاهق ليقول أنا شجاع أو يلقي نفسه في غمرات الحروب والنيران بلا مجوز شرعي أو عقلي وما شابه .. فهو متهور بل هو مجنون لأنه يفقد القوة العقلية ويطيع هواه ويخوض في ما يمنعه العقل والشرع من المهالك والمخاوف، قال تعالى :

ص: 123


1- جامع السعادات : ج 3 ص 182 .

{ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}. (1).

وفي الآية دلالة على تحريم الإقدام على ما يخاف منه على النفس .(2) .

وأما الطرف الآخر وهو التفريط مقابل الإفراط أي أن يجبن الإنسان عن كل شيء بأن يعيش ذليلاً ويقل ثباته على الأمور ويمكن الظالم من ويحب الراحة والكسل وغيرهما من الأمور المنقصة لقيمة الإنسان فهو يخاف كل شيء في حين أن الخوف يجب أن يكون من الله تعالى والمعاد ومن الخوض في المعاصي والذنوب التي نهى عنها الخالق تعالى . .

وقد ورد في الشريعة ذم الجبن عن أبي عبد الله عن أبيه علیه السلام قال :

«لا يؤمن رجل فيه الشح والحسد والجبن، ولا يكون المؤمن جباناً ولا حريصاً ولا شحيحاً» .(3)

وإذا تبيّن هذا فالحالة الوسطى بين التهور والجبن هي الشجاعة وهي من أشرف الملكات النفسية ومن صفات الكمال التي ينشدها العقلاء ولا مانع شرعي فيها إذ حثت الآيات والروايات على الشجاعة، قال تعالى :

{ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ}. (4).

وقال الإمام الباقر علیه السلام: «المؤمن أصلب من الجبل، إذ الجبل يستقل منه والمؤمن لا يستقل من دينه شي ».(5).

وتمثلت الشجاعة في رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم والإمام أمير المؤمنين علیه السلام بحيث صارت مضرباً للأمثال ففي رواية عن أمير المؤمنين علیه السلام ، قال :

ص: 124


1- سورة البقرة ؛ الآية : 195 .
2- راجع تفسیر مجمع البيان : المجلد الأول ص 516 سورة البقرة .
3- البحار : ج 72 ص 301 باب 75 ح 1 .
4- سورة الفتح ؛ الآية : 29 .
5- الكافي : ج 2 ص 241 باب المؤمن وعلاماته ح 37

«كنّا إذا احمّر البأس ولقي القوم اتقينا برسول الله فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه » .(1) .

وفي رواية أُخرى عن أنس قال :

«كان رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم أشجع الناس ، وأحسن الناس، وأجود الناس، قال : لقد فزع أهل المدينة ليلة فانطلق الناس قبل الصوت قال: فتلقّاهم رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم وقد سبقهم، وهو يقول :

لم تراعوا وهو على فرس لأبي طلحة وفي عنقه السيف . . ».(2) .

ولعل من أفضل الشواهد على شجاعة الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم هو قيامه بالدعوة الإسلامية في وسط مجتمع يعبد إلهاً غير إله الرسول يعتقد عبادته التي قوي تمرّس صناديد العرب وأبطالهم بها، هذا المجتمع الذي طالما امتاز ويمتاز بالبلاغة والفصاحة .. ويقف الرسول صلّی الله علیه وآله وسلم متحدياً كل هذه الصعاب مع ابن عمه أمير المؤمنين علیه السلام و من ورائهم خديجة سلام الله عليها وعمه أبو طالب علیه السلام بكل صلابة وشجاعة ليقول كلمته ولينشر رسالة الله تعالى حتى بلغ الإسلام ذروته وساد العالم بأفكاره ومبادئه الإنسانية السامية. وفي دعوة الرسول صلّی الله علیه وآله وسلم مواقف بطولية وشجاعة كبيرة يشهد لها التأريخ وهي عبر وقصص تدور على كل لسان وأصبحت من البديهيات عند المسلمين اليوم فلا حاجة لإعادتها. وإنما نعرّج على ذكر البطولة والشجاعة التي تمثلت في تلميذ الرسول في تلميذ الرسول صلّی علی علیه وآله وسلم ومن تربى بحجره وهو أمير المؤمنين علیه السلام فقد تواترت الأخبار في وصف شجاعته إذ وقف مضحياً بنفسه وبكل ما يملك من أجل الحفاظ على الإسلام وعلى حياة الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم. وهل هناك فرد لم يسمع بأفعال الإمام علیه السلام في غزوة خيبر وما فعله بمرحب أشجع اليهود وقلعه باب خيبر الذي كان يفتحه أربعون رجلاً

ص: 125


1- مكارم الأخلاق : ص 18 ط 6 .
2- مكارم الأخلاق : ص 19 ط 6

من ضخامته وقصة مبارزته لعمر بن ود العامري في معركة الأحزاب ولم يترك غزوة أو واقعة أو حدثاً من بداية نشر الإسلام إلى وفاته إلاّ وترك لشجاعته فيها أثراً وقصة بطولية تنتقل على كل لسان حتى نزل جبرائيل علیه السلام من عند الله تعالى ليضع الإمام في منزلته الكريمة بقوله :

«لا سيف إلاّ ذو الفقار*** ولا فتى إلاّ عليّ ». (1)

ولم يخل مجلس أو منبر أو حديث على مر الأيام من ذكر شجاعة أمير المؤمنين علیه السلام :

قال الشيخ المفيد (قدس الله روحه في كتاب الفصول .(2):

مما يشهد بشجاعة أمير المؤمنين عليه السلام وعظيم بلائه في الجهاد ونكايته في الأعداء، من النظم الذي يشهد بصحته النثر في النقل قول أسد بن أبي أياس بن رهم بن عبد بن عدي يحرض مشركي قريش على أمير المؤمنين علیه السلام :

في كل مجمع غاية أخزاكم*** جذع أبرّ على المذاكي القرّح

لله دركم ألمّا تنكروا ***قد ينكر الحرّ الكريم ويستحي

هذا ابن فاطمة الذي أفناكم*** ذبحاً ويمشي بيننا لم يذبح

أعطوه خرجاً واتقوا بضربته*** فعل الذليل وبيعة لم تربح

أين الكهول وأين كل دعامة ***في المعضلات وأين زين الأبطح

أفناهم قعصاً وضرباً تعتري ***بالسيف يعمل حدّه لم يصفح

ومما يشهد لذلك قول أُخت عمرو بن عبد ود وقد رأته قتيلاً، فقالت :

من قتله ؟ فقيل لها علي بن أبي طالب علیه السلام فقالت : كفو كريم، ثم

ص: 126


1- حلية الأبرار : ج 2 ص 337 ط إيران .
2- نقلاً عن البحار : ج 41 ص 83 وص 97 باب 106 بيروت .

أنشأت تقول :

لو كان قاتل عمره قاتله*** لكنت أبكي عليه آخر الأبد

لكن قاتل عمرو لا يعاب به*** من كان يُدعى قديماً بيضة البلد

ثانياً :

السخاء بين الإسراف والبخل:

ما معنى السخاء ؟

وهو أيضاً من الفضائل النفسية المهمة وحالة وسطى بين الإفراط والتفريط كما في الشجاعة ولكن الطرفين هنا يختلفان عن طرفي الشجاعة - التهور والجبن - وإنما السخاء حالة وسطى بين الإسراف والبخل قال تعالى :

{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ}.(1).

وقال تعالى :

{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}.(2) .

وفي تفسير الآية :

«أي وكان إنفاقهم بين الإسراف والإقتار لا إسرافاً يدخلون به في حد التبذير ولا تضييقاً يصيرون به في حد المانع لما ،يجب، وهذا هو المحمود . والقوام من العيش ما أقامك وأغناك وقيل القوام بالفتح هو العدل والإستقامة وبالكسر ما يقوم به الأمر ويستقر ؛ عن تغلب وقال أبو عبد الله علیه السلام القوام هو الوسط وقال علیه السلام أربعة لا يستجاب لهم دعوة :رجل فاتح فاه جالس في بيته فيقول يا رب ارزقني فيقول له ألم آمرك بالطلب، ورجل كانت له امرأة يدعو عليها يقول يا رب أرحني منها فيقول ألم أجعل أمرها بيدك،

ص: 127


1- سورة الإسراء ؛ الآية : 29 .
2- سورة الفرقان ؛ الآية : 67 .

ورجل كان له مال فأفسده فيقول يا رب ارزقني فيقول ألم آمرك بالاقتصاد، ورجل كان له مال فأدانه بغير بينة فيقول ألم آمرك بالشهادة» . (1)

فينبغي للعاقل الذي ينشد حب الله تعالى والسعادة والكمال أن ينتخب الطريق الأوسط في ثروته أو أمواله إذ لا يبخل مذموماً ولا يسرف بدون تفكر فيكون سفيهاً أو لا يجد ما يعيل به أهله وأولاده وهم لهم الحق في ذلك، نعم الحالة الوسطى وهي الإنفاق بما يتناوله الواجب واللائق بحسب الشرع والمروّة والعادة، فالواجب الشرعي مثل الزكاة والخمس والإنفاق على أهله وأبنائه بقدر احتياجهم مع طيبة النفس عند الإنفاق لا متكلفاً في ذلك .وأما المروة والعادة فهما بحسب الأحوال والأشخاص فالغني يستقبح منه ما لا يستقبح من الفقير عند المعاملة مع الناس وهكذا في صورته الاجتماعية من مظهر ومسكن بالشكل الذي لا يخرج معه معه إلى إيذاء الآخرين . فلو كان الغني في مجتمع كلهم فقراء لا يجدون لقمة العيش فهنا لا ينبغي إظهار ذلك لتسببه في إيذاء الآخرين أما لو كان في مجتمع متوسط حيث الفقير لا ينام بدون أكل ويجد الملبس وما شابه من احتياجات الحياة، فعليه إظهار النعمة مع مراعاة المواساة والإنفاق في سبيل الآخرين والواجب الشرعي الذي تقدم ؛ هذا بحسب الأحوال أما بحسب الأشخاص فالعادة أن ينفق على الأهل والأقارب والجار والسائل والمحروم واليتيم ومن ثم البعيد. فالسخي هو الذي يتبارى في الواجب الشرعي أو ما تقتضيه العادة كما فصلنا ذلك. ومن بلغ مرتبة أعلى بالسخاء فهو الإيثار وليس هنا محل ذكره .ولم يترك رسول الله صلّی الله علیه وسلم صفة حميدة أو فضيلة إلاّ وسطّر فيها آثاراً خالدة ومنها السخاء إذ جاء :

«من كتاب النبوة عن ابن عباس عن النبي صلّی الله علیه وسلم قال : أنا أديب الله وعلي أديبي أمرني ربي بالسخاء والبر ونهاني عن البخل والجفاء وما شيء أبغض إلى الله عزّ وجلّ من البخل وسوء الخلق وإنه ليفسد العمل كما يفسد

ص: 128


1- تفسیر مجمع البيان : المجلد 4 ص 280 تفسير سورة الفرقان.

الخل العسل» .(1).

حاشا رسول الله صلّی الله علیه وسلم أن يكون بخيلاً وهو الذي علّم الناس أن يكونوا أسخياء ولم يأمر بشيء أو أمر به إلاّ وقد كان هو السبّاق إلى ذلك. جابر بن عبد الله قال : «لم يكن يُسأل رسول الله صلّی الله علیه وسلم شيئاً قط فيقول : لا» .(2)

وأديب الرسول صلّی الله علیه وسلم كان المثال الرائع في ذلك أيضاً إذ ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام : «أعتق ألف نسمة من كلّ يده وجماعة لا يحصون كثرة وقال له رجل- ورأى عنده وسق نوى - ما هذا يا أبا الحسن ؟ قال : مائة ألف نخل إن شاء الله، فغرسه فلم يغادر منه نواة واحدة، فهو من أوقافه، ووقف مالاً بخيبر وبوادي القرى، ووقف مال أبي نيزر والبغيبغة وأرباحاً وأرينة ورغد ورزيناً ورياحاً على المؤمنين، وأمر بذلك أكثر ولد فاطمة من ذوي الأمانة والصلاح، وأخرج مائة عين بينبع وجعلها للحجيج، وهو باق إلى يومنا هذا، وحفر آباراً في طريق مكة والكوفة، وفي مسجد الفتح في المدينة وعند مقابل قبر حمزة، وفي الميقات وفي الكوفة وجامع البصرة وفي عبّادان وغير ذلك» .(3)

هؤلاء هم قدوتنا في الشجاعة والسخاء والفضائل الكريمة والقدوة لمن يريد الوصول إلى الكمال والسعادة ومحبة الله تعالى. ولعل الظاهر من إطلاق الحديث الوارد عن رسول الله صلّی الله علیه وسلم في وصيته لأمير المؤمنين والذي هو محور كلامنا في هذا البحث أن الحب الإلهي يتعدى المؤمن ليطال كل صاحب فضيلة من سخاء وشجاعة وعدل حتى لو كان غير مؤمن ؛ ولعل من هنا أيضاً ورد بشأن جماعة لم يكونوا من المؤمنين ولكن الله لم يعذبهم ومنهم

ص: 129


1- مكارم الأخلاق : ص 17 ط 6 .
2- نفس المصدر : ص 18 .
3- البحار : ج 41 ص 33 باب 102 ح 3 ط بیروت .

ما ورد في شأن أنوشيروان العادل وحاتم الطائي المعروف بالسخاء أنهما لا يحرقان بالنار والأخير كان مضرب الأمثال في الجود والكرم والسخاء، وقد ذكر عن حاتم الطائي أنّ ولده عدي يعادي النبي صلّی الله علیه وآله وسلم، فبعث النبي صلّی الله علیه وآله وسلم علياً إلى طي، فهرب عدي بأهله وولده ولحق بالشام، وخلّف أُخته سنانة فأسرتها خيل رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلما أتي بها إلى النبي صلّی الله علیه وآله وسلم و قالت :

يا محمد هلك الوالد، وغاب الرافد، فإن رأيت أن تخلّي عني، ولا تشمت بي أحياء العرب فإن أبي كان سيد قومه؛ يفك العاني، ويقتل الجاني، ويحفظ الجار، ويحمي الذمار، ويفرج عن المكروب، ويطعم الطعام ويفشي السلام ويحمل الكلّ ويعين على نوائب الدهر، وما أتاه أحد في حاجة فردّه خائباً، أنا بنت حاتم الطائي، قال لها النبي صلّی الله علیه وآله وسلم:

يا جارية هذه صفات المؤمنين حقاً، لو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه، خلّوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق . وقال فيها : ارحموا عزيزاً ذل وغنياً افتقر، وعالماً ضاع بين جهال. فأطلقها ومنّ عليها، فاستأذنته في الدعاء له، فأذن لها، وقال لأصحابه اسمعوا وعوا، فقالت : أصاب الله ببرّك مواقعه، ولا جعل لك إلى لئيم حاجة ولا سلب نعمة عن كريم قوم وجعلك سبباً في ردّها عليه. فلما أطلقها صلّی الله علیه وآله وسلم رجعت إلى قومها، فأتت أخاها عدياً وهو بدومة الجندل ، فقالت :له يا أخي ائت هذا الرجل قبل أن تعلقك حبائله، فإني قد رأيت هدياً ورأياً سيغلب أهل الغلبة رأيت خصالاً تعجبني رأيته يحب الفقير، ويفك الأسير، ويرحم الصغير ويعرف قدر الكبير، وما رأيت أجود ولا أكرم منه صلّی الله علیه وآله وسلم. وإني أرى أن تلحق به، فإن يك نبياً فللسابق فضله، وإن يك ملكاً فلن يذل في عز اليمن. فقدم عدي إلى النبي صلّی الله علیه وآله وسلم فألقى له وسادة محشوة ليفاً، وجلس النبي صلّی الله علیه وآله وسلم علی الأرض، فأسلم عدي بن حاتم وأسلمت أخته سنانة بنت حاتم المتقدم ذكرها، وكانت من أجود نساء العرب».(1)

ص: 130


1- المستطرف في كل فن مستظرف : ج 1 ص 367

وفي قصة طويلة أخرى كان الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم قد بعث أمير المؤمنين علیه السلام إلى ثلاثة نفر كانوا يريدون قتل النبي صلّی الله علیه وآله وسلم فذهب إليهم الإمام أمير المؤمنين علیه السلام وقتل أحدهم وأسر اثنين منهم وجلبهم إلی النبي صلّی الله علیه وآله وسلم فأحدهم أبى أن يتشهد الشهادتين فأمر الرسول صلّى الله عليه وسلم بضرب عنقه والثاني قال : الحقني بصاحبي، فهبط جبرائيل علیه السلام فقال : يا محمد إن ربك يقرؤك السلام ويقول : لا تقتله فإنه حسن الخلق سخي في قومه. (1).وكذلك إن الناس لما وصفوا حاتماً بالسخاء والجود ومكارم الأخلاق أحبته القلوب حباً فطرياً من دون النظر إلى صورته المحسوسة فكل من حکی عنه خصلة خير أو صفة كمال غلب على القلوب حبه . .

لأن القلوب بفطرتها ميالة إلى حب الخصال الخيرة والصفات الحميدة .

ثالثاً :

الغيرة بين الإفراط والتفريط:

ما معنى الغيرة؟

والغيرة هي الاخری کسائر الفضائل متوسطه بین الافراط والتفریط وطرفاها سوء الظن ،واللامباة ولها صور ومصاديق عديدة منها المحافظة على شؤون ومتعلقات الحياة سواء كانت نفسية أو بدنية كالدين والعرض والأولاد والأموال، فاللازم المدافعة عنها والمحافظة عليها. وبالغيرة كمال الرجولة والفاقد لها غير معدود من الرجال الكاملين لأنها من نتائج الشجاعة وقوة النفس والحاجة إلى الغيرة تنشأ من طبيعة الإنسان المجبولة على الاجتماع والحاجة إلى الغير للتكامل وواضح أن في الاجتماع تجاذباً وتدافعاً، فلا بد للإنسان من صفة دافعة تحفظ كيانه وتدافع عن متعلقاته كالعرض والأموال وعشيرته ومجتمعه حتى لا تقع نهباً في أيدي الطامعين. وجانب الإفراط

ص: 131


1- راجع البحار : ج 41 ص 74 و 75 باب 106 ح 4 .

فيها أن يسيء الإنسان الظن بكل ما حواليه من عرض أو ولد أو عشيرة بحي يخرج عن الحدود المعقولة للغيرة إلى الريبة وعدم الثقة الذي ينفّر منه أهله وأصحابه. وجانب التفريط بترك الأمور والمتعلقات السابقة بلا مبالاة ولا حفظ فيضيع منه كل شيء .

وهكذا حال المجتمع الذي يفقد هذه الصفة فإنه عرضة للنهب والسرقة والاحتيالات والتحلل واللامبالاة ؛ والإسلام حرص كل الحرص على الدين والأعراض والأموال وحفز الإنسان نحو الغيرة والاهتمام بأموره والحرص عليها بالطرق المتوازنة الشرعية وذلك للحفاظ على كرامته أولاً ثم للحفاظ على المجتمع الإسلامي من كل نهب أو احتيال أو تحلّل ثانياً . .

فعلى الإنسان المسلم أن يراعي جوانب الغيرة على عرضه من زوجة أو ام أو أُخت ونحوها وكذا الدين والمال والعشيرة والمجتمع حتى يحبه الله سبحانه ويقربه إليه .

مصاديق الغيرة :

والسؤال هو كيف يحصن الإنسان أموره؟

والجواب أن السبل لذلك عديدة سنذكر منها مقدار ما يتّسع له البحث بشكل نقاط :

1 - غيرة المرء على عرضه:

وذلك يتم بتحصين عرضه عن الرذائل وهي صفة فاضلة إذا لم تتعدّ حدودها، فتقتضي الغيرة من الزوج أن يكون ذا هيبة أمام زوجته وشخصية قوية ويوفر لها حاجياتها الضرورية ويتعامل معها بأخلاق حسنة، ولا يسيء الظن بها فيسرف في الغيرة ويحولها من غيرة إلى حساسية لا داعي لها ويعيش في أوهام خيالية بعيدة عن الواقع وينجر إلى طرف الإفراط وتكون النتيجة الحقد والجفاء وهدر كرامة الزوجة .

ص: 132

قال رسول الله صلّی الله علیه آله سلم:

«من الغيرة غيرة يبغضها الله ورسوله وهي غيرة الرجل على أهله من غير ريبة» .(1)

ولا ينبغي أيضاً التفريط بحيث يترك المرأة بدون عناية أو لا يعاشرها بالمعروف ولا يوجهها ويقصّر في النصيحة لها ولا يعتني بشخصيته أمامها فتنجرّ إلى هواها مما قد يؤدي إلى تبرّجها وربما تتجاوز حدّ الكمال وتظهر زينتها لغير من أحل الله لها وإلى مخالطة الأجانب وما شابه فإن المسؤولية الكبرى في هكذا حالة تقع على الزوج .

قال رسول الله صلّی الله علیه آله سلم:

«إن الله تعالى سائل كل راع عما استرعاه أحفظ ذلك أم ضيّعه، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته ».(2)

وما السفور والتبرج الذي نشاهده اليوم إلاّ سبب من أسباب التفريط في الغيرة على العرض .

. .ومن دواعي المحافظة على استقامة المرأة تعليمها القرآن الحكيم والأحاديث الشريفة والأخلاق الفاضلة والأحكام الشرعية سواء في بيتها الأول الذي نشأت فيه، وتقع المسؤولية هنا على الوالدين، أو في بيت الزوج الذي يحاول أن يجعل شغلها الشاغل معرفة الأحكام وتدبيرها لمنزلها والمحافظة على عفّتها بعدم تبرّجها أو اختلاطها بالرجال في الأسواق وما شابه من المحافل المريبة، وأن يشعرها بأن نجاحها في الحياة وقيمتها بقيمة زوجها فإذا ما وقفت خلفه وساعدته وهيأت له الجو المناسب له بحيث يجد ما يريحه في المنزل فإن ذلك سينعكس على عمله ونشاطه في خارج المنزل، ويحقق بالتالي سعادة الزوجين ونشوء أسرة فاضلة وسعيدة وهذا سوف ينعكس بدوره

ص: 133


1- جامع السعادات : ج 1 ص 269 .
2- نهج الفصاحة : ص 142 ح 702 .

على تربية الأطفال ونشوئهم في جو عائلي هادىء فيستقيم الجيل الناشيء في فكره وعمله .. ولذا فإن صلاح العائلة صلاح للفرد في خارج منزله أيضاً وصلاح للمجتمع أيضاً فكراً وعملاً.

2- غيرة المرء على مجتمعة:

ولغيرة الفرد على مجتمعه وأمته مظاهر منها اهتمامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ المرء مكلف بالمحافظة على الدين والأخلاق وسط مجتمعه، وينبغي أن لا يدع مجالاً لانتشار البدع وشبه الجاحدين، والتحلل الأخلاقي الفاسد فيه، ويسعى إلى ترويج الأحكام الإسلامية والأخلاق الفاضلة ويبيّن الحلال والحرام ويقضي حوائج الناس ويدفع الظلم عن المظلومين وما شابه كما كان رسول الله صلّی الله علیه آله سلم والأئمة الطاهرون غلیه السلام وفي رواية ذكر الكوفيون أن سعيد بن قيس الهمداني رأى الإمام أمير المؤمنين علیه السلام يوماً في شدة الحر في فناء حائط، فقال: يا أمير المؤمنين بهذه الساعة ! قال: «ما خرجت إلاّ لأعين مظلوماً أو أغيث ملهوفاً »

وهذه الرواية تعلمنا أن نكون مهتمين بشؤون الناس رافعين لحوائجهم و مشاكلهم إذ ليس من الغيرة بمكان أن يعيش الإنسان الراحة والرفاه وإلى جانبه الناس يئنّون من الأزمات والمشاكل وليس من الغيرة الكاملة أيضاً أن يصون الإنسان عرضه ولا يصون أعراض الناس أو يحرص على بيته ولا يحرص على وطنه وهكذا .

إذن لو تمسكنا بالأمر بالمعروف فدفعنا الناس نحو الخير والفضيلة وبدورنا عملنا بهما، وفي نفس الوقت نهينا أهل الشر عن شرهم وأهل السوء عن سيئاتهم واجتنبنا نحن مساوئهم لتمكّنا أن نساهم في رفع مشاكل المجتمع ونحرره من المفاسد خاصة إذا حرص كل واحد منّا على الدين والعرض والوطن كما يحرص على دينه وعرضه وبيته .

ص: 134

3- غيرة المرء على وطنه:

وذلك يتم بالدفاع عن الوطن من كيد الاستعمار ومؤامراته فيحاول بث التوعية بين أبناء الوطن وفضح أساليب الاستعمار وخدعه وترسيخ المبادىء الأخلاقية السامية لردع الهجمات اللا أخلاقية من ميوعة وسفور وتماثل جنسي وما شابه من الأمور التي يتبناها الاستعمار ويفرضها على الشعوب للسيطرة عليها، وإذا اقتضى الأمر بذل النفس في سبيل الحفاظ على تراب الوطن لو داهمه المعتدي لأن الوطن كالبيت مقدس محترم في الإسلام كما أن حب الوطن والحنين إليه من الإيمان ومما يدل على الحنين إلى الوطن جاء في رواية :

إن إبان بن سعيد قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال :

يا إبان كيف تركت أهل مكة ؟ فقال : تركتهم وقد جيدوا وتركت الإذخر وقد أعذق وتركت الثمام وقد خاص، فاغرورقت عينا رسول لله صلّى الله عليه وسلم.(1) .

وهذا ما يدل على الغيرة نحو الوطن وحبّ تماسكه والحنين إليه . .

نقد اللاغيرة:

وإذا عرفت بعض مصاديق الغيرة المهمة وأهميتها في المجتمع فعليك التمسك بصورتها المتوازنة والمتوسطة ولا تنبهر بما تراه من حضارات زائفة وتقاليد بالية يحاول الغرب بها سلب عقول الناس وتبديل مبادئهم السامية، فإن ما تراه في الغرب هو الرذيلة بعينها إذ اتخذت جانب التفريط في الغيرة فلا رادع للزنا واللواط ولا كيان للأسرة بل لا كيان خاص بالفرد الغربي إذ هو

ص: 135


1- تنبيه الخواطر : ج 1 ص 46 باب الشوق وفي معنى الإذخر فهو نبات معروف عريض الأوراق طيب الرائحة وأعذق النخلة قطع ،سعفها، والثمام هو نبت يكون خوصه طالعة

يعيش حالة فراغ قاتم لابتعاده عن المعنويات والفضائل وتمسّكه بالماديات والرذائل فليحافظ الفرد المسلم على مبادئه الإسلامية لأنها توفر له الجانب المعنوي والمادي معاً وتحفظ له كيانه الخاص وكيان الأسرة والمجتمع والوطن وتسير به إلى الغاية النبيلة والنعمة الإلهية .

وقد ورد عن الإمام الصّادق علیه السلام :

«إن الله تعالى غيور ويحب كل غيور، ومن غيرته حرّم الفواحش ظاهرها وباطنها».(1)

أرقام من الإعلام العالمي:

وبهذه المناسبة أنقل لك بعض الإحصاءات عن اللاغيرة الغربية التي وردت في بعض الصحف .

في مقال نشرته إحدى المجلات تحت عنوان (المرأة في الجاهلية الثانية) يتحدث فيه عن وضع المرأة في الغرب وحالة اللاغيرة الحاكمة على تصرفاتها، تقول في ضمن كلماتها :

إن التجاوزات على النساء موجودة هذه الأيام في كل مكان وفي كل دولة وتزداد نسبة هذه الإعتداءات أكثر فأكثر في أيام الركود الاقتصادي الذي تمر به دول العالم، تقول بعض الإستفتاءات بأن نسبة النساء العاملات اللواتي تعرضن للتجاوزات تتراوح بين 20 الی 70 بالمائة في الدول الأوروبية المختلفة. وإن نسبة كبيرة من النساء، تخاف وترفض أن تعلن للسلطات الرسمية مثل هذا الإعتداء . . .

والغريب في الأمر أن كثيراً من الرجال لا يعتبرون ممارساتهم اللا أخلاقية تجاوزاً أو اعتداءاً يستحق الذكر

. (2)

ص: 136


1- فروع الكافي : ج 5 ص 536 باب الغيرة ح 1
2- مجلة العالم : العدد 493 سنة 1993 م 1414 ه- . صفحة 63

وفي ندوة دولية عقدتها منظمة اليونيسف عن الطفولة ألقت محامية امريكية رئيسة صندوق الدفاع عن الأطفال كلمة مهمة حول الأطفال ومشاكلهم وما يعانونه من فقدان الاهتمام وانعدام المسؤولية والغيرة من الأبوين والمجتمع ومما ذكرته :

إن 12 مليون طفل يعتبرون الفئة الأكثر فقراً بين الناس وإن 700 ألف طفل هم ضحايا سوء ضحايا سوء المعاملة .

وإن الأطفال الذين يجدون أنفسهم في الشوارع كل سنة بفعل الزنا وغيره هم أكثر من مليون .

إلى جانب هذا نقلت خبراً عن طفلة تعد أغنى طفلة في العالم تحت عنوان ( طفولة مأساوية) بعد أن فقدت والدتها أهملها والدها بدلاً من أن يفعل العكس وانشغل عنها بحفلاته ورحلاته . .

تملك الطفلة 500 مليون دولار لم يرعها والدها وإنما ترعى من قبل المربيات والوصيفات وتنتقل بين البيوت في دول عدة بين سويسرا والمانيا وفرنسا والسويد إلى آخره .(1)

والأخبار عن ذلك كثيرة والكل منا يعرف كيف يعيش المجتمع الغربي بالإنحلال وفقدان الحنان والمحبة والغيرة الاجتماعية.

أنظر .. كم يؤكد الإسلام على احترام البنت والزوجة والغيرة عليهن ولكن المجتمع الغربي يعمل العكس ومع الأسف نجد بعض شبابنا يتأثر بهذه الثقافة المنحلة ويحاول أن يطبق ما نبذوه هم .

رابعاً :

قضاء حاجة من ليس لها بأهل:

الصفة الرابعة التي ذكرها الرسول الأعظم صلّى الله عليه وسلم في وصيته لأمير

ص: 137


1- مجلة العالم : العدد 274 سنة 1989 م 1409 ه- . صفحة 62 - 63

المؤمنين علیه السلام هي قضاء حاجة من ليس لها بأهل فما معنى ذلك ؟

المسألة عميقة وطويلة ولها مصاديق عديدة ولكن سأقوم بتوضيح بعض مصاديقها بمقدار ما يتسع له الوقت. .

أحياناً نواجه أناساً ليسوا أهلاً للفضيلة . تجد بعضهم غنياً متمكناً وقد أنعم الله عليه بالعديد من النعم ثم يأتيه محتاج قريب أو صديق وهو يعرف بحاله وينظر حاجته وربما يسأله ولكن مع ذلك يتركه يتلوى بألم الحاجة وألم السؤال من دون أن يقضيها له . .

وتجد بعضهم الآخر قوياً قادراً يستضعف عنده أحد إخوانه وهو قادر على نصرته والذب عنه ولكنه لا يفعل هؤلاء أناس ليسوا أهلاً للفضيلة وغالباً يغفلون عن تقلبات الأيام وتبدل الأحوال فغالباً ما يعرض الله سبحانه أمثال هؤلاء للنكسات ليؤدبهم ويعلمهم ويجعلهم يعتبرون من الحياة ويقدرون النعم قدرها .. والرسول الأعظم صلّى الله عليه وسلم في كلامه (وإن إنسان سألك حاجة ليس لها بأهل فكن أنت أهلاً لها) يرسم لنا منهجاً في التعامل مع الناس ويدفعنا للفضيلة أكثر وأكثر .. فيقول : إذا انقلبت الدنيا بغني أو قوي أو غير ذلك وتبدلت حالته وانقلب دهره وجاءك يستغيثك أو يطلب منك العون فلا تعامله بالمثل، إنه بالأمس لم يكن أهلاً للفضيلة وقضاء الحوائج التي هي من أكبر النعم على العباد ولكن لا ينبغي لك أن تكون مثله بل أنت كن أهلاً لها واتسم بالفضيلة والتعامل الحسن .. وعلى أي حال فإن ما ورد في الحديث الشريف من سمات وفضائل تدفع الإنسان إلى القرب من الله سبحانه ونيل الزلفة لديه لأن من يتسم بالشجاعة والسخاء والغيرة وقضاء الحوائج، حتى لمن لا يستحقون، فهو من السمحين وأهل الكمال وهي سمات تدلل على توازن واعتدال في السلوك يحبه الله سبحانه ومن الواضح أن الله سبحانه لو أحب عبداً وفّقه لمراضيه فكيف إذا أحب المجتمع ككل فإنه بلا شك سيقوده نحو رقيّه وتقدمه وكماله.

ص: 138

7- الأنسانُ رهنينُ اللسان

اشارة

ص: 139

ص: 140

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) لعلي (علیه السلام ) : «يا علي حرّم الله الجنّة على كل فاحش بذيء ، لا يبالي ما قال ولا ما قيل له».(1)

السنخية أو المجانسة:

السنخية أو المجانسة من قوانين الله سبحانه وتعالى التي تحكم الكون والحكماء يرون أنه يربط العلل بالمعاليل وإلا لصدر كل شيء عن كل شيء كما يقولون فالنار مثلاً لها سنخية مع الحرارة لا تنفك عنها ولذا فهي تعطي الحرارة دائماً ولا تعطي البرودة بعكس الثلج الذي له سنخية هو أيضاً مع البرودة ولا يعطي يوماً الحرارة .. وهذا القانون من جهة ضروري ومن جهة أخرى مستحيل فهو ضروري بين النار والحرارة والثلج والبرودة . . ومستحيل بين الخالق والمخلوق بل بين جميع العلل المختارة ومعلولاتها فالولد لا يولد مما يباينه كلياً وإنما يولد من الأب الذي يسانخه ويجانسه في الجوهر والحقيقة إذاً فكل مادّة بإمكانها أن تلد أية مادة أخرى أو تولد منها إذ إن السنخية الجوهرية المادية سائدة في المادة مهما كانت، ومن المحال أن تنبثق اللامادة من المادة أو المادة من اللامادة انبثاقاً ولادياً من جوهر الذات لأن فاقد الشيء لا يلد ولا يولد منه . وهذا الكلام ثابت ومتقرر في العلل المادية

ص: 141


1- كلمة الرسول الأعظم صلّى الله عليه وسلم: ص 153 .

ومعاليلها على ضوء كافة الفلسفات من مذاهبها العقلية والتجريبية. . مذاهبها العقلية والتجريبية . . وإذا لم يثبتوها للزم من عدم السنخية صدور كل شيء عن كل شيء والنار ستعطي بدل الحرارة برودة أو حجراً أو شجراً . . كما أن العكس صحيح ولكننا لا نرى ذلك في الخارج لوجود السنخية والمجانسة بین العلة والمعلول

العقول العشرة:

أما في العلّة الحقيقية لخلق العالم والمؤثر الأول لها وهو الواجب تعالى فلا تجري هذه القاعدة بينه تعالى وبين مخلوقاته لأن الأزلي البسيط وهو الخالق تعالى لا يكون مسانخاً مع المادّي المركب وهو المخلوق وإلاّ أصبحت حادثة لمعلولها أو يصح المعلول أزلياً أو يضطر إلى القول بوحدة حقيقة الوجود ومن هنا ذهب بعض الفلاسفة إلى القول بجريان قاعدة السنخية بين الواجب تعالى والممكن وبناءاً على هذه القاعدة قالوا بأن الواحد لا يصدر منه إلا الواحد إذ إنّ الله تعالى مجرد وبسيط فلا يصدر منه إلاّ المسانخ له أو المجانس وهو المجرد فأصدر العقل الأول وهذا العقل فيه جهتان :

1 - جهة وجوب من ناحية ،الوجود، 2 - جهة ضعف من ناحية الماهية وبالوجود صدر عن العقل الأول العقل الثاني وعن جهة ماهيّته صدر الفلك الثاني وهكذا إلى الفلك التاسع والعقل الثاني أصدر العقل الثالث وهكذا إلى العقل العاشر الذي صدر منه جميع الممكنات في هذا العالم ويسمونه أيضاً بالعقل الفعّال وهذه النظرية أيضاً معروفة (بالعقول العشرة) عند الحكماء والمتكلمين

بين الخالق والمخلوق:

لكن هذه القاعدة التي يعتمدها بعض الفلاسفة الإلهيين والتي ابتدعها الفهلويون منهم باطلة عند المتكلمين باعتبار أن قاعدة الواحد لا يصدر منه إلا الواحد خارجة تخصصاً عن الواجب تعالى ومن ثم لا تجري بين الخالق

ص: 142

والمخلوق أو بين العلة الحقيقية لهذا العالم لأنّ العلل على قسمين :

1- علّة مجبورة أي ليس لها اختيار في إصدار المعلول مطلقاً .

2 - علّة مختارة أي لها اختيار وإرادة في الإصدار والتصرف في شؤون المعلولات

فبالنسبة لعلية النار للحرارة النار علّة مجبورة على إصدار الحرارة والوالد علّة مجبورة لإصدار الولد؛ أي ليس بمعقول في وقت من الأوقات أن تكون النار متقررة وموجودة في الخارج وليس فيها حرارة، فمتى ما تحققت النار يجب تحقق الحرارة ؛ فقاعدة الواحد لا يصدر منه إلاّ الواحد أو السنخية أو المجانسة صحيحة وممكنة في هذه العلة. أما نار إبراهيم علیه السلام التي أُلقيَ فيها وإعطاءها البرودة فكان ذلك بأمر الله تعالى إما مباشرة أو لإعدام أحد أسباب صدور الحرارة من النار كوجود المانع أو عدم المقتضي وهي من الأمور التي تحتاجها العلّة غير الحقيقية حتى تؤثر كالمقتضي في النار وعدم المانع . .وقد جاء في قوله تعالى إشارة إلى إمكان انفكاك الحرارة عن النار

{قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}.(1)

إذ تحولت نار إبراهيم من حارة إلى باردة بدلاً من إصدار الحرارة. وذكر في كون النار برداً على إبراهيم علیه السلام وجوه : أحدها : إن الله سبحانه أحدث فيها برداً بدلاً من شدة الحرارة التي فيها فلم تؤذ. وثانيها : إن الله سبحانه حال بينها وبينه فلم تصل إليه. وثالثها إن الإحراق إنما يحصل بالاعتمادات التي في النار صعداً فيجوز أن يذهب سبحانه تلك الإعتمادات .(2) . وعلى الجملة فقد علمنا أن الله سبحانه منع النار من إحراقه وقد ذكر الفخر الرازي في تفسيره الكبير أيضاً هذه المسألة وأشار إلى ثلاثة أقوال : أحدها : إن الله تعالى أزال عنها ما فيها من الحر والإحراق وأبقى ما

ص: 143


1- سورة الأنبياء ؛ الآية : 69
2- مجمع البيان : المجلد الرابع ص 55

فيها من الإضاءة والإشراق والله على كل شيء قدير . وثانيها : إن الله تعالى خلق في جسم إبراهيم كيفية مانعة من وصول أذى النار إليه كما يفعل بخزنة جهنم في الآخرة .. وثالثها : إنه سبحانه خلق بينه وبين النار حائلاً يمنع وصول أثر النار إليه . قال المحققون والأول أولى لأن ظاهر قوله {يا نار كوني برداً }أن نفس النار صارت باردة حتى سلم إبراهيم علیهم السلام من تأثيرها .(1).

الإرادة مصدر الكون:

أما في العلة المختارة كالواجب تعالى فهذه القاعدة - السنخية - لا تجري لأن الله تعالى ذاته خارجة عن قضية العليّة والمعلولية التي تحكم المخلوقات، وإنما يصدر الأشياء بإرادته تعالى التي تتعلق بالكثير كما تتعلق بالواحد فإذا أراد الله سبحانه وتعالى الآن أن يخلق الإنسان يخلقه وإذا لم يرد لم يخلقه وغداً إذا أراد خلق الحيوان يستطيع ذلك وإذا لم يرد لا يخلقه، وهكذا بالنسبة لسائر المخلوقات .. إذن القضية لا علاقة لها بالذات الإلهية حتى يلزم منّا القول بالسنخية بين الخالق والمخلوق والواحد لا يُصدر إلا الواحد وإذا صدر من الله تعالى أكثر من واحد صار مركباً، هذا الكلام لا يأتي هنا لأن المخلوقات الإلهية لها علاقة بإرادة الله تعالى وليس بذاته فإذا صدر منه الكثير لا يستلزم التركيب لأن الإرادة من صفات الفعل وليس من صفات الذات وقد فصّل المتكلمون وبعض مراجعنا المعاصرين الكلام في هذه القاعدة وعدم جريانها في العلل المختارة وقد ذكروا لها ردوداً عديدة ومتينة، قال الخواجة نصير الدين الطوسي (قده) في تجريد الإعتقاد : «وأدلة وجوده مدخولة كقولهم الواحد لا يصدر عنه أمران ولا سبق لمشروط باللاحق في تأثيره أو وجوده وإلاّ لما انتفت صلاحية التأثير عنه لأن المؤثر ههنا مختار ».(2)

ص: 144


1- التفسير الكبير المجلد (11) ص 189 ج 22 ط 3 بیروت.
2- كشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد : ص 185 الفصل الرابع في الجواهر =

وقال العلامة الحلي (ره) في شرح قول التجريد : «إنّ أكثر الفلاسفة ذهبوا إلى أن المعلول الأول هو العقل الأول وهو موجود مجرد عن الأجسام والمواد في ذاته وتأثيره معاً، ثم إن ذلك العقل يصدر عنه عقل وفلك لتكثره باعتبار كثرة جهاته الحاصلة ذاته فاعله. ثم يصدر من العقل الثاني عقل ثالث وفلك ثان وهكذا إلى أن ينتهي إلى العقل الأخير وهو المُسمى بالعقل الفعّال وإلى الفلك الآخر التاسع وهو فلك القمر واستدلوا على إثبات الجواهر المجردة التي هي العقول بوجوه» .(1)

وقد ذكر أوجهاً خمسة لإثبات العقول ثم ردّها العلامة (ره) جميعاً وأثبت بطلان قاعدة العقول العشرة فلتراجع في محلّها. (2)

وقد جاء في القول السديد في شرح التجريد وجوه أخر لإبطال نظرية الفلاسفة القائلة بأن الواحد لا يصدر منه إلاّ الواحد في العلّة المختارة أي بين الخالق والمخلوق وكان فيما ذكره« إن الواحد الذي لا يصدر منه إلاّ الواحد إنما هو في العلّة بالجبر كالنار لا بالاختيار كالباري تعالى، فإن الفاعل بالاختيار إنما يوجد بالإرادة على وفق المصلحة، ولا يحتاج إلى السنخية .(3).

وعلى أي حال فإذا ثبتت قاعدة السنخية في غير الواجب تعالى فإنها تجري على سائر المخلوقات فيما بينها ومنها الجنة والنار والإنسان والحيوان والشجر والحجر وما شابه من المخلوقات .. ولذا جاء في حديث الرسول الأعظم صلّی الله علیه وسلم : «يا علي حرّم الله الجنة على كلّ فاحش بذيء . . » فالجنة مكان طاهر لا تناسب إلاّ الطاهرين بحسب المجانسة والسنخية بينهما وأما غير الطاهر فلا محل له في الجنة لأنها لا تتجانس معه .

ص: 145


1- المصدر نفسه : ص 186.
2- المصدر نفسه
3- القول السديد في شرح التجريد : ص 166 .

القرب والبعد من الجنة:

إن الفحش من الأعمال القبيحة التي تلوّث الإنسان وتجعله بعيداً عن الجنة لأن الجنة مكان طاهر لا يتجانس مع غير الطاهر. وللفحش معان نذكرها كما في مجمع البحرين لنرى بأيّ معنى منهنّ يمكن تفسير حديث الرسول الأعظم صلّی الله علیه وسلم به:

أولاً : الفحش بمعنى الزنا : قوله تعالى:{ وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} .(1)

ثانياً : المعاصي والقبائح : قال تعالى {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ}.(2) أراد بها الزنا والسرقة وكل كبيرة إلاّ اللمم وهو الرجل الذي يلم بالذنب فيستغفر منه .وقال تعالى : {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}.(3)وأراد منها المعاصي والقبائح ما ظهر منها وما بطن . وعن الإمام الباقر علیه السلام «ما ظهر هو الزنا وما بطن هو المحالة» . (4)وعن العبد الصالح وقد سئل عن ذلك فقال: «إن القرآن له ظهر وبطن، فجميع ما حرم الله في القرآن هو الظاهر والباطن من ذلك أئمة الجور، وجمیع ما أحل الله في الكتاب هو الظاهر والباطن من ذلك أئمة الحق» . (5).

ثالثاً: كل مستقبح من الفعل والقول : في الفعل يُقال للبخل فحش وكل سوء جاوز حدّه فهو فحش قال تعالى {وَيَأْمُرُكُمْ بالفحشاء }.(6)وفي

ص: 146


1- سورة النساء؛ الآية: 15 .
2- سورة النجم ؛ الآية : 32 .
3- سورة الأعراف ؛ الآية : 33.
4- مجمع البحرين : ج 4 ص 147 (فحش).
5- تفسير البرهان : المجلد الثاني ص13.
6- سورة البقرة ؛ الآية : 268 وأوّلها : {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ...} .

الخبر «إياكم والفحش فإن الله عزّ وجلّ لا يحب الفاحش المتفحش» .(1) الفاحش ذو الفحش في كلامه وفعاله والمتفحش من يتكلّمه ويتعمده.

رابعاً : الفُحش بمعنى الزيادة والكثرة .وفي الحديث الشريف عن الإمام الصادق علیه السلام«إذا التفت في صلاة مكتوبة من غير فراغ فأعد الصَّلاة إذا كان الإلتفات فاحشاً» .(2) أي كثيراً. ومن جملة هذه المعاني المذكورة في الفحش يبدو أن الظاهر من حديث الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم من الفاحش هو المعنى الثالث أي كل سوء جاوز حدّه الفاحش في كلامه وفعاله بقرينة إضافته إلى البذيء، وذيل الحديث الشريف «لا يُبالي ما قال ولا ما قيل له»

سقوط الإنسان:

جاء في معنى البذيء {في الحديث «إنّ الله حرّم الجنّة على كل فاحش بذيء» .(3) والبذيء على وزن فعيل : السفيه من قولهم «بذا على القوم يبذو بذاء» بالفتح والمد سفه عليهم وأفحش في منطقه، وإن كان صادقاً فيه، ولعلهما في الحديث واحد مفسر بالآخر . . .وفي الخبر : «البذاء من الجفاء» يعني الفحش من القول ](4)

ولذا يبدو من المعنى المنقول أنّ البذيّ هو من الفحش في القول والكلام ولذا ينبغي على الإنسان أن يطهر لسانه من الكلام البذي ليتجانس مع طهارة الجنة من ناحية ومن ناحية أخرى فإن اللّسان قد يقود الإنسان إلى الكثير من الآثام والموبقات التي تسوقه إلى النار لأنّ النار تتجانس الآثام .. وفي الحديث الشريف «وهل يُكبّ الناس في النار على

ص: 147


1- البحار : ج 76 ص 110 باب 83 حدیث - 1 -
2- فروع الكافي ج 3 ص 365 باب ما يقطع الصَّلاة حديث - 10 - .
3- تحف العقول: ص 31 ط الخامسة .
4- مجمع البحرين : المجلد الأول ص 48 باب بذا .

وجوههم إلأّ حصاد ألسنتهم» .(1)

دور اللّسان:

لسان الإنسان عجيب في آثاره غريب في أفعاله لأنه قد يفعل الأفعال المتضادة والمتباينة إذ هو في نفس الوقت الذی یعد من أكبر النعم الإلهية على الإنسان في أفعاله وآثاره الخيرة . . يمكن أن يكون من المصائب على الإنسان أيضاً في بعض الحالات. إذ باللسان والنطق يميز الكافر من المؤمن، وبه يرتكب المعاصي كالغيبة والنميمة والبذاءة وما شابه وبه يعمل الطاعات من تسبيح وإصلاح بين الناس وصلاة وما شابه وقد يعمل به الفواحش والكفر ونحوها . . قال رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم : «لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه».(2) فمن استطاع منكم أن يلقى الله سبحانه نقي الراحة من دماء المسلمين وأموالهم سليم اللسان من أعراضهم فليفعل . وقال أمير المؤمنين عليه السلام« واجعلوا اللسان واحداً، وليخزن الرجل لسانه، فإن هذا اللسان جموح بصاحبه والله ما أرى عبداً يتقي تقوى تنفعه حتى يخزن لسانه وإن لسان المؤمن من وراء قلبه وإن قلب المنافق من وراء لسانه لأن المؤمن إذا أراد أن يتكلم بكلام تدبره في نفسه فإن كان خيراً أبداه وإن كان شراً واراه وإن المنافق يتكلم بما أتى على لسانه لا يدري ماذا له وماذا عليه». (3).

واللسان هذا العضو البسيط تميز أيضاً عن باقي الأعضاء الحسية في الإنسان إذ إنّ كل عضو له وظيفة واحدة إلاّ اللسان. فالعين للبصر والأذن للسمع، والأنف للشم والأنامل أشد جوانب الجلد إحساساً باللمس أما اللسان فقد شاء له تعالى أن يكون آلة للذوق وآلة للمضغ والبلع، وآلة

ص: 148


1- الترغيب والترهيب : ج 3 ص 528 .
2- نهج الفصاحة : ص 528 حديث 2542 .
3- نهج البلاغة : خطبة 176 ص 253 صبحي الصالح .

للحس واللمس وآلة للتكلم .

ومن عوارض اللسان أنه ترجمان الضمير وآلة المنطق والبيان وإن كان عضواً بسيطاً مركباً من اللحم والدم والأعصاب والشرايين والأوردة كباقي الأعضاء إلا أنه سر الحياة الصحيحة حتى عبّروا عنه بنصف الإنسان كما فی قول زهير بن أبي سلمى :

لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ***فلم يبق إلاّ صورة اللحم والدم

لذا فإن الضمير يوحي إلى اللسان ما يشاء والإرادة تحركه، فينطق بمكنونات الضمير . .

بين النجاة والهلاك:

إن خطر اللسان عظيم ولا نجاة من خطره إلاّ بالصمت وقد حثت الروايات الشريفة على الصمت، قال رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم : «من صمت نجا».(1)

وقال :«الصمت حكم وقليل فاعله» . (2)كما أن في الصمت راحة الجسم والحواس والأمان من اللوم والإثم وقد قيل في هذا المعنى :

جراحات السنان لها التئام ***ولا يلتام ما جرح اللسان

أو التكلّم، ولكن بذكر الله تعالى وبعمل الطاعات والمنفعة للناس والإصلاح وفي أعمال الخير والبر. . لأن اللسان من نعم الله تعالى علينا لذلك يجب علينا أن نعطيه حقه بأن نصونه من مبتذل القول وبذيء الكَلِم، وأن نجنبه الآفات التي تعود علينا بالضرر والخسارة وأن نعوّده على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونشر العلوم النافعة وإصلاح ذات البين . لذا فإن العجيب في اللسان أنه صغير حجمه ولكنه كبير الخطر والضرر وقد

ص: 149


1- نهج الفصاحة : ص581 حدیث 2816.
2- المصدر نفسه : ص 397 حدیث 1879 .

استخدم الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم والأئمة المطهرون علیه السلام هذا اللسان خير استخدام لعلمهم بفضله و دوره وقد أوصلوا به صوت الحق والرسالة الإسلامية إلى بلاد واسعة . . بل إنهم كانوا مؤدبين في الكلام حتى مع ذي الكلام البذيء وهذا أحد الأسباب التي جعلت البشرية تحبّهم وتواليهم وتقتدي بهم و . .وقصص التأريخ والروايات تنقل لنا عظيم صنعهم وحسن أخلاقهم وتأدبهم في الكلام ..

خُلقُ عظيم:

في رواية عن أنس قال : كنا مع النبي صلّی الله علیه وآله وسلم وعليه برد غليظ الحاشية، فجذبه أعرابي بردائه جذبة شديدة، حتى أثرت حاشية البرد في صفحة عاتقه ، ثم قال : يا محمد إحمل لي على بعيريّ هذين من مال الله الذي عندك، فإنك لا تحمل لي من مالك، ولا مال أبيك . فسكت النبي صلّی الله علیه وآله وسلم ثم قال : ويقاد منك يا أعرابي ما فعلت بي؟! قال : لا . قال : لم؟ قال : لأنك لا تكافيء بالسيئة السيئة. فضحك النبي صلّی الله علیه وآله وسلم، ثم أمر أن يحمل له على بعير شعيراً، وعلى الآخر تمرا .(1).

لم يقابل الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم هذا الأعرابي بالكلام البذيء حاشا له ذلك وإنما ذكّره بالأخلاق والآداب بكلمة لطيفة وصغيرة بقوله : (ويقاد منك يا أعرابي) ولم يقل له إنك فعلت السوء بجذبك الرداء حتى أثرت حاشيته في عاتق النبي صلّی الله علیه وآله وسلم بما يستحق عليه القصاص.

أحبّ خلق الله:

وقد ورث الأئمة (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) هذا الأدب الوافر في الكلام من رسول الله صلّى الله عليه و آله وسلم وكانت لكل إمام علیه السلام منقبة وأدب

ص: 150


1- سفينة البحار : ج 1 ص 412 مادة خلق .

رفيع في الكلام مع الصديق والعدو، نكتفي هنا بذكر ما يتسع له المجال ونبتدىء بالإمام الحسن علیه السلام. روى المبرّد وابن عائشة أن شامياً رآه راكباً فجعل يلعنه والحسن لا يردُّ فلمّا فرغ أقبل الحسن علیه السلام فسلّم عليه وضحك فقال : أيها الشيخ أظنك غريباً، ولعلك شبّهت فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك ولو استر شدتنا أرشدناك ولو استحملتنا أحملناك وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسوناك، وإن كنت محتاجاً أغنيناك، وإن كنت طريداً آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حرّكت رحلك إلينا، وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك، لأنّ لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً ومالاً كثيراً. فلما سمع الرجل كلامه بكى ثم قال : أشهد أنّك خليفة الله في أرضه ،الله أعلم حيث يجعل رسالته وكنت أنت أبغض خلق الله إليّ والآن أنت أحبّ خلق الله إليّ وحوّل رحله إليه، وكان ضيفه إلى أن ارتحل، وصار معتقداً لمحبّتهم .(1) . .

والكاظمين الغيظ:

وفي رواية عن أبي محمد الحسن بن محمد العلوي بإسناده قال : وقف على علي بن الحسين علیه السلام رجل من أهل بيته فأسمعه وشتمه، فلم يكلّمه فلما انصرف قال لجلسائه : قد سمعتم ما قال هذا الرجل وأنا أحب أن تبلغوا إليه حتى تسمعوا مني ردي عليه قالوا نفعل فأخذ نعليه ومشى وهو

معي يقول : { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}- الآية فعلموا أنه لا يقول شيئاً قال : فأتى منزل الرجل وصرخ به فخرج الرجل متوثباً للشر، فقال علي بن الحسين علیه السلام : يا أخي إن كنت قد قلت ما فيّ فأستغفر الله منه وإن كنت قلت ما ليس فيّ فيغفر الله لك، قال : فقبل الرجل بين عينيه وقال : بل قلت فيك ما ليس فيك، وأنا أحق به .(2) .. هذه الشواهد غيضُ من فيض في أدبهم

ص: 151


1- البحار : ج 43 ص 344 باب 16 حديث 16 ط بیروت.
2- أعلام الورى : ص 261 فضائل الإمام علي بن الحسين علیه السلام ط 3 .

وحسن أخلاقهم وابتعادهم عن الكلام البذيء وطهارة لسانهم كما هم معدن الطهارة في الأبدان والمولد طهّرهم الله تعالى وخلقهم من طينة الجنة والجنة طاهرة تتجانس مع الطاهرين. وفي رواية عن الإمام الصادق علیه السلام قال : «خُلقنا من عليين وخلق أرواحنا من فوق ذلك وخلق أرواح شيعتنا من عليين وخلق أجسادهم من دون ذلك فمن أجل تلك القرابة بيننا وبينهم قلوبهم تحنّ إلينا» .(1)

هدية العلماء:

وقد سار علماؤنا الأعلام على سيرة أهل البيت الطاهرة (سلام الله عليهم أجمعين) في حسن معاشرتهم للناس والتعامل معهم بأخلاق فاضلة والتكلم بالكلام المؤدب واللطيف وابتعدوا عن الكلام الفاحش البذيء مع الناس بل حتى مع أعدائهم. . السيد أبو الحسن الأصفهاني (قدس سره) الذي كان المرجع الأعلى للشيعة في النصف الثاني من القرن الرابع عشر الهجري، كان يتمتع بمواصفات عديدة نادرة كالعلمية والأخلاق وحسن الإدارة والأدب الرفيع . . ينقل في أحواله أنه كان في النجف الأشرف شاعر يهجو السيد أبو الحسن الأصفهاني بقصيدة كتبها وكان يلقيها بين أبناء المجتمع آنذاك وفي المحافل .. وفي يوم من الأيام ذهب السيد أبو الحسن الأصفهاني إلى زيارة هذا الشاعر وعند وصوله إلى بيته طرق الباب وعندما فتح الشاعر الباب ورأى السيد واقفاً أمامه اضطرب وخجل كثيراً، عندها قال السيد أتسمح لنا بالدخول فأذن له الشاعر في الدخول فلما جلس عنده، قال له السيد أحبّ أن أسمع قصيدتك التي قلتها في حقي!!

فامتنع الشاعر من تلبية الطلب وأصرّ السيد عليه حتى قرأها الشاعر له ثم أخذ السيد القصيدة من الشاعر بعد استئذانه وقدم له هدية، ولما امتنع الشاعر من أخذها قال له السيد اعتاد العرب على تقديم جائزة لمن قال شعراً

ص: 152


1- بصائر الدرجات : ص 40 باب 10 حدیث 1 .

وهذه جائزتك فأخذها الشاعر خجلاً ولم يعد إلى ذلك، بل انعكس الأمر إذ قام هذا الشاعر بإلقاء قصيدة يمدح فيها السيد وصار يحبه . وفي زمن الخواجة نصير الدين الطوسي (ره) كتب له شخص مكتوباً مشتملاً على فحش وسباب كثير وكان من عباراته (يا كلب ابن الكلب )فكتب في جوابه له بكل لين ورأفة أما قولك يا كذا فليس بصحيح لأن الكلب من ذوات الأربع وهو نابح طويل الأظفار ناطق ضاحك فهذه الفصول والخواص غير تلك الفصول والخواص، إلى آخر ما أطال في نقض ما اشتمل عليه المكتوب من غير

انزعاج ولا ذكر كلمة قبيحة .(1)

التعبيرات القرآنية:

القرآن الكريم معجزة الإسلام وهو كلام الله تعالى أنزله على الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم وتحدى به فصحاء العرب وطاولهم في المعارضة ولكنهم انهزموا أمام تحديه وعجز السابقون واللاحقون عن تقليده .. لأنه ليس من كلام البشر ..ولقد كان هذا الإعجاز خليقاً أن يثير في حياة المسلمين مباحث على جانب عظيم من الأهمية ومنها التعبيرات القرآنية اللطيفة والمؤدبة كما يحمل القرآن في طياته البلاغة العظيمة وأسلوبه الفذ في التصوير والتعبير بالإضافة إلى احتوائه على الأحكام والعقائد والأخلاق والقصص والمواعظ والحكم والتعليم وضرب الأمثال .. وإذا أراد الله تعالى أن يُعبّر عن الغاية من المعاشرة الزوجية رمز إلى ذلك بألفاظ لطيفة ك- «الحرث» في قوله تعالى {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} .(2)

ويكمل وصف تلك العلاقة بين الزوجين - بما فيها من مخالطة وملابسة - بأنها لباس كل منهما للآخر {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ

ص: 153


1- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد ص 6 موجز من حياة المصنف (قده) .
2- سورة البقرة ؛ الآية : 223 .

لَهُنَّ } . . (1)ومن الإيحاء اللطيف الذي يعلمنا أدب التعبير قوله تعالى{أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ}.(2) وقوله تعالى : {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}.(3)

وكذلك قوله تعالى :

{فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا} .(4)

وفي مسألة أخرى مثل التخلص من الفضلات الزائدة في جسم الإنسان يعبّر عنها القرآن الحكيم بلفظ مؤدب وتعبير لطيف فيقول في ذلك :

{ وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} .(5)

والغائط أصله المطمئن من الأرض يُقال غائط وغيطان وكانوا يتبرزون هناك ليغيبوا عن عيون الناس ثم كثر ذلك حتى قالوا للحدث غائط وكنوا بالتغوط عن الحدث في الغائط . .

وقال مؤرج الغائط قرارة من الأرض تحفها آكام تسترها والفعل منه غاط يغوط مثل عاد يعود . (6)

والرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم كان إذا أراد الموعظة والتبليغ والإشارة إلى أفعال الناس يعبّر بتعابير مؤدبة ولطيفة .

ومنها قوله صلّی الله علیه وآله وسلم:

«ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا»

ص: 154


1- سورة البقرة ؛ الآية : 187 .
2- سورة النساء ؛ الآية : 43 .
3- سورة البقرة ؛ الآية : 187 .
4- سورة الأعراف ؛ الآية : 189 .
5- سورة النساء ؛ الآية : 43 ، وسورة المائدة ؛ الآية : 6 .
6- مجمع البيان : المجلد الثاني ص 51

ولم يكن يواجه أولئك الأقوام بتشهيرهم وسبّهم أو بالكلام البذيء . .

ما قال وما قيل:

وقد جاءت تعبيرات القرآن الحكيم وتعبيرات الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم الليل والأئمة المطهرين والعلماء الأتقياء مؤدبة وبعيدة عن الفحش والتعبيرات هذه كانت مؤدى الكلام لتجانسهم مع الطهارة وهم بالتالي من سنخ الجنة الطاهرة أمّا من لا يُبالي بقوله وكلامه فهو بعيد عن الجنة لأنه لا يتجانس معها إذ قال الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم : «حرّم الله الجنة على كل فاحش بذي لا يُبالي ما قال ولا ما قيل له». (1).

وبعد أن بيّنا أن معنى الفحش هو تجاوز الحدود في الكلام فالفاحش لا يُبالي بما قال من كلام سيء فتحرم الجنة عليه لدناسته وعدم طهارته والجنة لا تتجانس مع غير الطاهر فإن الفحش في الكلام ينقص أيضاً من اعتبار المتكلم وقيمته الإجتماعية لصفاته ومساوئه العديدة التي لا يقبلها المجتمع المتديّن كوصفه بالمغتاب والنمام والكذاب والبذيء والفاحش وما شابه فيبتعد الناس عنه إما للنهي الوارد في الشريعة عن هذه الصفات السيئة أو لأنها مصدر المشاكل والسلبيات الإجتماعية .. ومقابل ذلك فإن الذي لا يُبالي بما قال لا يُبالي بما قيل له أو عنه من مساوىء. وعادة هذه الصفات لا تجد محلاً لها إلاّ فيمن يتقبلها وتصدر عنه لأنه هيّن النفس وضعيف الشخصية لا يتأثر بذلك لأنه لا يحترم الناس ويجترىء عليهم بشتى الأساليب فكما استعملها ضدهم يستعملونها ضدّه وهو لا يبالي كما قال الشاعر :

من يهن يسهل الهوان عليه ***ما لجرح بميت إيلام

فإن الميت لا يحس ولا يشعر لانفصال روحه عن جسده وكلّ ما تحدثه من جرح في جسمه فهو لا يشعر به وهكذا الفاحش أو الذي لا يُبالي بما قال

ص: 155


1- كلمة الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم: ص153.

من كلام بذيء فإنّه يعتبر كالميت معنوياً لا يهمّه من قال فيه سوءاً أو أدانه بتصرفاته لانعدامه من الإحساس وطهارة الضمير ولفقدان شخصيته الإجتماعية بين الناس وانجراره وراء مساوىء اللسان التي تبعده عن الله سبحانه حرّم الله تعالى الجنة عليه بسبب : 1 - عدم تجانسه الجنة لكونه دنّس نفسه بالخبائث والجنة طاهرة لا تقبل غير الطاهر . 2 - ارتكاب المعاصي والآثام التي نهى الله عنها كالغيبة والنميمة . 3 - فقدان شخصيته الاجتماعية والمعنوية ومن فقد شخصيته بين الناس انحطت إنسانيته ومنزلته

في الآخرة أيضاً .

ص: 156

8- النَّفَاضُلُ بَيْنَ الكَم والكَيفٍ

اشارة

ص: 157

ص: 158

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) لعلي (علیه السلام) :

«يا علي : ركعتان يصليهما العالم ، أفضل من ألف ركعة يصليها العابد» . (1)

توضيح في معنى العبادة:

العبادات من أسمى ما جعله الإسلام وسيلة للقرب من الله تعالى والإرتقاء المعنوي للإنسان وإذا قُرنت العبادة بالعلم والمعرفة بالمعبود والعبادة وحقيقة العابد فإنها تعد من أرقى أنواع العبادة . وبعكسه إذا لم تحظ العبادة بالعلم والمعرفة فإنها تكون في الحد الأدنى منها؛ ومن هنا صارت عبادة العلماء حتى لو كانت قليلة أفضل وأعلى من عبادة العبّاد غير العلماء الذين يقيمون الليل والنهار بالعبادة وذلك لأن العبادة تقوم بقصد القربة من الله تعالى. . في قبال الأعمال التوصلية التي لا تحتاج إلى قصد القربة كإعطاء النفقة للزوجة وتطهير الملابس من النجاسات ونحو ذلك . . فإن هذه إذا لم نقصد فيها القربة تصح وإذا قصدنا فيها القربة تحظى بالثواب مضافاً إلى الصحة كما يقول الفقهاء والأصوليون .

أما العبادة فيجب فيها قصد القربة بحيث إذا عبد الإنسان ربه في صلاته

ص: 159


1- كلمة الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم:ص 162 .

أو صيامه أو حجه وجاء بالعمل ولكن من دون أن يقصد القربة منه تعالى فإن عبادته باطلة وأما إذا قصد القربة فتصح عبادته ويحصل على آثارها الوصفية الخاصة كما يعبر علماء الأصول ومن الواضح . . أن إتيان العمل العبادي كالصَّلاة مثلاً قصد القربة يقتضي معرفة المتقرب به وبشرائطه وأجزائه حتى يقبل لأن من شرائط صحة العبادة أن تكون تامة الأجزاء والشرائط حتى تقبل وإلاّ فإن العبادة بدون هذه السمات لا تقع صحيحة ولا يترتب أثرها الوضعي الخاص عليها، ولعل من هنا صارت صلاة العالم حتى لو كانت ركعتين أفضل من ألف ركعة يصليها العابد .

أما العابد غير العالم الذي ربما يجهل هذه الأجزاء والشرائط فتقع عبادته غير صحيحة فلا يترتب عليها أثرها الوضعي الكامل .

فللعلم والجهل أثر كبير على صحة العبادات ومقاماتها المعنوية و مقبوليتها عند الله تعالى. ولذا ورد في الحديث عن أمير المؤمنين علیه السلام : «كم من صائم ليس له من صيامه إلاّ الظمأ وكم من قائم ليس له من قيامه إلاّ العناء، حبذا نوم الأكياس وإفطارهم» .(1).

لأن الصوم الذي لا يقترن بآثاره الوصفية ومقاماته المعنوية لا يعد صوماً تامّاً .

وقال رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم : «رب تال القرآن والقرآن يلعنه» .(2)

لأن الذي يتلو القرآن ينبغي أن يهتدي ويتّعظ والذي لا يهتدي ولا يتعظ تصبح قراءته للقرآن لعنة عليه .

وقال الإمام الصادق علیهم السلام: «من زار الحسين علیهم السلام عارفاً بحقه كتب

ص: 160


1- البحار : ج 93 ص 294 باب 36 ح 22 ط بیروت .
2- البحار : ج 89 ص 184 ط بیروت .

الله له ثواب ألف حجة مقبولة . .» .(1)

فالمعرفة بمقام الإمام علیهم السلام وحقوقه على العباد من أهم الأسباب لقبول الزيارة وإذا قبلت الزيارة يحظى العبد بشفاعة الإمام علیهم السلام في الآخرة فضلاً عن العناية في الدنيا والذي يشفع له الإمام في الآخرة يدخل الجنة . .كل ذلك لمقام العلم والمعرفة وأثرهما في مستوى العبادات ومقاماتها .

ولعل من هنا قالوا إن العبادة قد تلحظ بلحاظين :

الأول : أن نلحظ العبادة بما هي هي وكم لها من الفضل والثواب بغض النظر عن العابد ومستواه .

الثاني : أن نلحظ العبادة والعابد معاً وما لهما من الفضل والثواب .

والذي يدخل في دائرة اهتمام الإسلام واعتباره هو القسم الثاني من اللحاظ ولذا يشترط الإخلاص في العمل وتمامية الأجزاء والشرائط وقصد القربة ونحوها في العبادات . .ومن الواضح أن هذا يتوفر في العالم والعارف بمعناه الأكمل والأتم ، أما العابد غير العالم فربما يفتقد هذه الاعتبارات فتقل أهمية عبادته حتى لو كانت كثيرة ولذا فإن صلاة العالم كيفاً أفضل من الكم الهائل في صلاة العابد . .

(ركعتان يصليهما العالم أفضل من ألف ركعة يصليها العابد) .(2)

العبودية الشاملة:

للعبادة وجهان : باطن وظاهر الوجه الباطن هو العبودية والوجه الظاهرهو التنسُّك .

أما العبودية فمعناها أن يقرّ الإنسان بالكبرياء والجبروت لقوة أعلى، ثم

ص: 161


1- البحار : ج 97 ص 257 ط بیروت .
2- نفس المصدر.

يطيعها ويسلم لها قياده والله تعالى هو القوة الأعلى في هذا الكون والعزة جميعاً له كما في قوله تعالى :

{إن القوة الله جميعاً} .(1)وقال تعالى : {فإن العزة الله جميعاً}. (2)

ولو نظرنا إلى الكون نظرة شاملة من أصغر ذرة في الأرض إلى أكبر جرم في السماء لا نراه إلاّ وهو مسخّر بنظام رائع وتام لا قبل له بالحراك من قبل نفسه وإنما هو خاضع لقانون إلهي إذا خالفه فسد وفني. وهذا القانون الذي يحكم كل شيء في السماوات والأرض من إنسان وحيوان وشجر . .هو قانون الخلق والتكوين الذي لا ينفك عن هذه الموجودات، وهذا القانون هو بيد حاكم قوي وعزيز هو الله تعالى فعبودية الإنسان إذن الإستسلام للفطرة أو بمعنى أنها امتزجت بطبيعة الإنسان سواء أراد ذلك أم لم يرده وهي التي تدفعه للبحث عن الإله من داخل نفسه وتصف الإله بإيحاءاتها اللطيفة. أي أنها تقول للإنسان إن إلهك هو من قد خلقك وهو القادر عليك والغالب على أمرك وهو الرزاق الذي يستحق الحمد والثناء لحسنه وجماله وعلوّه وهذه النعم التي تتنعم بها كلها من الله تعالى .

العبادة بقدر المعرفة:

وهي لا تكتمل إلاّ بأمرين :

1 - معرفة المعبود (الإيمان) .

2 - الطاعة (الإمتثال لأوامره) .

أما الأول فهو معرفة الإنسان بمعبوده وهو الله تعالى وهذه المعرفة تكون خالصة لا تشوبها أدنى شائبة من الشرك أو الكفر .. ولا يخاف سوى الله تعالى، ولا يطمع إلاّ في نعمه ولا يتوكل إلاّ عليه وقد ورد في الحديث

ص: 162


1- سورة البقرة ؛ الآية : 165 .
2- سورة النساء ؛ الآية : 139 .

الشريف «أول العلم معرفة الجبار، وآخره تفويض الأمر إليه»

وأما الثاني فهو إظهار العمل والطاعة للمعبود وتتفاوت الطاعة أو العبادات بقدر المعرفة ،فلا تكتمل العبادة من صلاة أو صوم أو تسبيح . . من دون معرفة . ومن هنا جاء قول الإمام أمير المؤمنين علیه السلام:

«لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً» .

لأنه علیهم السلام بلغ درجة من الإيمان وهي المعرفة بالخالق والمخلوق إلى حد اليقين وكل أفعاله وأعماله جاءت خالصة لله تعالى . .

لذا فإن كل عمل أو فعل دنيوي أو ديني إذا كان يأتي به الإنسان المؤمن امتثالاً لأمر الله تعالى وشريعته فهو عبادة حتى بيعه وشراءه في السوق ومعاشرته لأهل بيته. . وإن كانت هذه الأعمال من أدنى مراتب العبادة ولكنها إذا ابتنيت على المعرفة بالخالق تعالى وظهرت امتثالاً وطاعة له كانت من أجزاء العبادة وعملاً صالحاً. أي أن المطلوب من العبادة هو الأثر والفائدة المرجوّة منها أيضاً وليس إنجاز أفعال خاصة وحركات خاصة وما شابه فقط .

ومن هنا يظهر أن الإسلام ناظر إلى النوع أو الكيف أو الأثر من العبادة وليس للعمل وحده ولو كان ناظراً إلى العمل وحده لما احتاج الإنسان إلى العبودية أو معرفة المعبود وإنما كان يكتفي بإنجاز العمل أو إظهاره دون معرفة أو علم بالأثر والفائدة منه ولذا ورد في الأحاديث الشريفة :

عن الإمام أمير المؤمنين علیه السلام:

«سكّنوا في أنفسكم معرفة ما تعبدون حتى ينفعكم ما تحركون من الجوارح بعبادة من تعرفون».(1)

وقال علیه السلام أيضاً :

ص: 163


1- البحار : ج 75 ص 63 باب 16 ح 151 .

«لا خير في عبادة ليس منها تفقّه» .(1)

وعلى أساس ذلك فإن العبادة لا تلاحظ في حد ذاتها عند الإمتثال بل يلاحظ العابد أيضاً فإذا كان العابد ( عالماً) فله ثواب عظيم بعكس ما لو كان جاهلاً .

نجاة العالم وسقوط العابد:

ذكر في أحوال أحد عباد بني إسرائيل عن ابن عباس قال :

إنه كان في بني إسرائيل عابد اسمه (برصيصا ) عَبدَ الله زماناً من الدهر حتى كان يؤتى بالمجانين يداويهم ويعوذهم فيبرؤون على يده. وإنه أتي بامرأة في شرف قد جنت وكان لها إخوة فأتوه بها فكانت عنده فلم يزل به الشيطان يزين له حتى وقع عليها فحملت فلما استبان حملها قتلها ودفنها فلما فعل ذلك ذهب الشيطان حتى لقي أحد إخوتها فأخبره بالذي فعل الراهب وأنه دفنها في مكان كذا ثم أتى بقية إخوتها رجلاً رجلاً فذكر ذلك له فجعل الرجل يلقى أخاه فيقول والله لقد أتاني آت فذكر لي شيئاً يكبر عليَّ ذكره فذكر بعضهم لبعض حتى بلغ ذلك ملكهم فسار الملك والناس فاستنزلوه فأقرّ لهم بالذي فعل فأمر به فصلب فلما رفع على خشبته تمثل له الشيطان فقال أنا الذي ألقيتك في هذا فهل أنت مطيعي فيما أقول لك أخلصك مما أنت فيه قال : نعم ، قال : اسجد لي سجدة واحدة فقال : كيف أسجد لك وأنا على هذه الحالة . فقال : أكتفي منك بالإيماء، فأوحى له بالسجود فكفر بالله وقتل الرجل فهو قوله تعالى :

{كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ} .(2)

ص: 164


1- المصدر نفسه : ص 41 .
2- تفسیر مجمع البيان : المجلد الخامس ص 265 الحشر 16 .

ولعل الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم أراد من الأفضلية في وصيته الأمير المؤمنين علیه السلام:« يا علي ركعتان يصليهما العالم أفضل من ألف ركعة يصليها العابد »أن عاقبة العالم إلى خير وعمله البدني يكون مع اليقين والمعرفة في الأغلب ويخرج من الفتنة بعلمه ولا يمكن أن يتغلب عليه الشيطان في الغالب. أما الجاهل فإن عبادته بدون علم أو معرفة ولذا فإنه إذا عصفت به الفتن لا يمكنه الخروج منها ولذا جاء عن الإمام أمير المؤمنين علیه السلام :

«ركعتان من عالم خير من سبعين ركعة من جاهل لأن العالم تأتيه الفتنة فيخرج منها بعلمه وتأتي الجاهل فتنسفه نسفاً» .(1) .

يونس بين العالم والعابد:

ومن الروايات التي تدل على فضل العالم على العابد هذه الرواية عن جميل قال : قال لي أبو عبد الله علیه السلام :

ما ردّ الله العذاب إلاّ عن قوم يونس، وكان يونس يدعوهم إلى الإسلام فيأبون ذلك، فهم أن يدعو عليهم وكان فيهم رجلان : عابد وعالم، وكان اسم أحدهما مليخا، والآخر اسمه روبيل، فكان العابد يشير على يونس بالدعاء عليهم، وكان العالم ينهاه ويقول : لا تدع عليهم فإن الله يستجيب لك، ولا يحب هلاك عباده ،فقبل قول العابد ولم يقبل من العالم فدعا عليهم ،فأوحى الله إليه : يأتيهم العذاب في سنة كذا وكذا، وفي شهر كذا وكذا، وفي يوم كذا وكذا، فلما قرب الوقت خرج يونس من بينهم مع العابد، وبقي العالم فيها ،فلما كان في ذلك اليوم نزل العذاب، فقال العالم لهم : يا قوم افزعوا إلى الله فلعله يرحمكم ويرد العذاب عنكم، فقالوا : كيف نصنع؟ قال : اجتمعوا واخرجوا إلى المفازة وفرقوا بين النساء والأولاد ،وبين الإبل

ص: 165


1- سفينة البحار : ج 2 ص 115 باب العين بعده الباء

وأولادها، وبين البقر ،وأولادها وبين الغنم وأولادها، ثم أبكوا وادعوا، فذهبوا وفعلوا ذلك وضجوا وبكوا فرحمهم الله وصرف عنهم العذاب . . ».(1).

ولا غرابة في أن يحظى العلماء بتلك الخصائص الجليلة، والأفضلية في أعمالهم وإن قلّت فهم ورثة الأنبياء وحماة الدين وحفظة آثار أهل البيت علیه السلام وتراثهم الخالد يحملون للناس عبر القرون مبادىء الشريعة الإسلامية وأحكامها وآدابها فتهتدي الأجيال بأنوار علمهم وتتنور بتوجيههم الهادف، ومن الطبيعي أن هذه المزايا لا ينالها إلاّ العلماء المخلصون والعاملون لحفظ الشريعة والمتحلون بالآداب الإسلامية والأخلاق الكريمة .

عن أبي عبد الله الصادق علیه السلام قال : قال رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم :

«من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً به، وإنه يستغفر لطالب العلم من في السماء ومن في الارض حتى الحوت في البحر. وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر. وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ولكن ورثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر ».(2) .

تقييم العالم والعابد:

وقد ورد في بعض الأحاديث الشريفة أن نوم العالم أفضل من عبادة العابد.

ص: 166


1- البحار : ج 14 ص 380 باب قصص يونس علیه السلام 2ح راجع تمام الحديث.
2- الكافي : ج 1 ص 34 باب ثواب العالم والمتعلم ح 1 ط 3 .

قال رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم :«يا علي نوم العالم أفضل من ألف ركعة يصلّيها العابد . . (1). » ولعل تفضيل نوم العالم على عبادة العابد جاء من وجوه :

1 - إن العالم ينام وتعاليمه وأفكاره تعمل مع الناس يهتدون بها ويستفيدون منها .

2 - نوم العالم لأجل رفع تعبه وحفظ جسده مراعاة للحديث الشريف :

«إن لجسدك عليك حقاً ».(2). ويحفظ الجسد لحفظ القوى فيتمكن العالم أن يخدم أكثر وينير أكثر فنوم العالم فيه منفعة للناس وسهر العابد فيه منفعة نفسه .

3- وربما جاء تفضيل النوم على العبادة من جهة الثواب والفضل وذلك لأن العالم إذا أفاد الناس وهداهم إلى الطريق الصحيح يدعوهم للدعاء له والاستغفار فهو نائم في فراشه والناس يدعون له ويطلبون له من الله الثواب بينما العابد ساهر بالعبادة ويحصل ثواب عبادته فقط .

4 - وربما الرواية ناظرة إلى جهة الإتقان وضبط العمل. .

لأن العالم وإن كانت صلاته أقل في بعض الأحيان «ركعتان» أو أكثر أو أقل بينما قد يصلّي العابد يومه وليله . إلاّ أن الفرق أن العالم عندما يصلّي يؤدي صلاته كاملة تامة متقنة بينما العابد ربما لعدم علمه يصلّي كثيراً ولكن صلاته ناقصة من حيث الضبط والإتقان. ومن الواضح أن فضل الصَّلاة المتقنة أعلى بكثير من الصلوات غير المتقنة .

ولعل هناك وجوهاً أُخرى في المقام نرجئها لمحلها .

ومما تقدم من روايات وأحاديث شريفة عن فضل العالم على العابد

ص: 167


1- البحار : ج 2 ص 22 باب 8 ح 66 ط بيروت .
2- البحار : ج 67 ص 128 باب 51 ح 14 .

جزء من تأكيد الإسلام على طلب العلم والحثّ على التفقه في الدين ولذا ورد أن أفضل الأعمال في أشرف ليلة من ليالي السنة وهي ليلة القدر، هو طلب العلم، مع العلم بأن كتب الأدعية ذكرت أعمالاً كثيرة وفرائض في تلك الليلة ولكنها تشير إلى أن طلب العلم في تلك الليلة من أفضل الأعمال . وقد قال شيخنا الصدوق (رحمة الله عليه )فيما أملى على المشايخ في مجلس واحد من مذهب الإمامية في خصوص أعمال ليالي القدر الخاصة :

ومن أحيى هاتين الليلتين بمذاكرة العلم فهو أفضل» .(1)

وعموماً فإن فضيلة العلم والعلماء على العبّاد تنبع من أمور منها :

العلم كمال:

إن العلم كمال في حد ذاته لأن العلم فضيلة في ذاته فالله تعالى قد وصف نفسه بالعلم و به شرّف الملائكة والأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام وبتعبير آخر إن معرفة الشيء بمعرفة ثمرته وثمرة العلم تتبين من خلال هذا التقسيم :

إن الأشياء المرغوب فيها تنقسم إلى ما يُطلب لذاته وإلى ما يُطلب لغيره وإلى ما يطلب لذاته ولغيره ؛ فما يطلب لذاته هو الكمال الخاص وما يطلب لغيره هو المال وما يطلب لذاته ولغيره هو العلم، فما يطلب لذاته أفضل مما يطلب لغيره حيث إن المال ليس إلاّ نقوداً ورقية لا منفعة ذاتية من وراءها وإنما هي لقضاء الحاجة وإذا لم يحتج الإنسان للمال سقطت منفعتها، أما الذاتية فهي مطلوبة لذاتها لمنفعتها الأخروية ، وأما ما يُطلب لذاته ولغيره فهو أفضل مما يُطلب لذاته لأن العلم لذيذ في ذاته ووسيلة إلى دار الآخرة وسعادتها والقرب من الله تعالى .

ص: 168


1- مفاتيح الجنان : أعمال ليلة القدر الخاصة .

قال الإمام أمير المؤمنين علیه السلام:

«رأس الفضائل العلم، غاية الفضائل العلم» .(1)

إذن فالعلم كمال بحد ذاته ووسيلة إلى الآخرة والكامل أرقى وأسمى من غير الكامل . .

أشرف المعقولات:

قال أهل المعقول :

إن المعقولات تنقسم إلى موجودة ومعدومة ، والعقول السليمة تشهد بأن الموجود أشرف من المعدوم، بل لا شرف للمعدوم أصلاً ، ثم الموجود ينقسم إلى جماد ونام والنامي أشرف من الجماد ثم النامي ينقسم إلى حسّاس وغير حساس والحساس أشرف من غيره، ثم الحساس ينقسم إلى عاقل وغير عاقل ولا شك أن العاقل أشرف من غير العاقل ثم إن العاقل ينقسم إلى عالم وجاهل ولا شبهة في أنّ العالم أشرف من الجاهل ، فتبين بذلك أن العالم أشرف المعقولات والموجودات ولذا فإن العالم في ثبات من أمره بعكس الجاهل حيث تزلزله أدنى شبهة .

عن الأصبغ بن نباتة قال : قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام : «تعلموا العلم فإن تعلّمه حسنة . . .بالعلم يُطاع الله ويُعبد، وبالعلم يُعرف الله ويُوحّد، وبالعلم توصل الأرحام والعلم امام العقل، والعقل ،تابعه يلهمه السعداء، ويحرمه الأشقياء».(2)

سبب خلق العالم :

ورد في القرآن الحكيم آيات شريفة تبين أن غاية خلق العالم العلوي

ص: 169


1- تصنيف غرر الحكم : ص 41 ط الأولى
2- البحار : ج 1 ص 166 باب 1 ح 7 .

والسفلي هو العلم كما جاء في قوله تعالى :

{وهو الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهنّ يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما} .(1)

فالعلم لأنه الغاية يسبق خلق السماوات والأرض لأن الغاية أول الفكر آخر العمل كما يعبر أهل المعقول وقال سبحانه وتعالى في أول سورة أنزلها على نبيه صلّی الله علیه وآله وسلم :

{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* .. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } .(2)

وكذلك حصر الخشية ومعرفة مقام الخالق تعالى والخوف منه بالعلماء بقوله تعالى :

{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}.(3)

وهناك آيات عديدة أُخرى تذكر فضل العلم والحكمة والعقل على غيرها، وإن أفضل العلوم هو علم التوحيد العلم بالمعبود والإقرار به وذلك بالتفكر فى أحوال مخلوقاته وصفاتها . .

العالم مع المجتمع والعابد مع نفسه:

ومن أوجه تفضيل العالم على العابد هو أن العالم ينقذ الأمة من الضلالات والشبهات والأمواج الإلحادية .. أما العابد فإنه ينقذ نفسه فقط بعبادته إذا ناله التوفيق وربما هو الآخر تاه في الضلال، فالعالم نور وهداية للبشر وأما العابد فلا يتعدى حدود ذاته وشخصه عادة ولذا ورد في الحديث الشريف عن الإمام الباقر علیه السلام :

ص: 170


1- سورة الطلاق ؛ الآية : 12 .
2- سورة العلق ؛ الآيات : 1 - 5 .
3- سورة فاطر ؛ الآية : 28 .

«العالم كمن معه شمعة تضيء للناس، فكل من أبصر شمعته دعا له بخير، كذلك العالم مع شمعة تزيل ظلمة الجهل والحيرة . . » . (1).

وقال الإمام الكاظم علیهم السلام :

«فقيه واحد ينقذ يتيماً من أيتامنا المنقطعين عنّا وعن مشاهدتنا بتعليم ما هو محتاج إليه أشدّ على إبليس من ألف عابد، لأن العابد همه ذات نفسه فقط، وهذا - يقصد العالم - همّه مع ذات نفسه ذات عباد الله وإمائه لينقذهم من يد إبليس ومردته، فذلك هو أفضل عند الله من ألف ألف عابد، وألف ألف عابدة» .(2)

ولعل المراد من قول الإمام الكاظم علیه السلام ينقذ يتيماً من أيتامنا المنقطعين عنّا هم المحبون والشيعة الذين يوالون أهل البيت علیهم السلام الذين لاحقتهم السلطات الظالمة ومنعتهم من الوصول إلى أئمتهم عليهم الصَّلاة والسلام للتعلم منهم .

وقال الإمام الصادق علیه السلام :

«إذا كان يوم القيامة بعث الله عزّ وجلّ العالم والعابد فإذا وقفا بين يدي الله عزّ وجلّ قيل للعابد : إنطلق إلى الجنة وقيل للعالم : قف تشفع للناس بحسن تأديبك لهم».(3)

فالأمة التي تسير خلف علمائها العاملين المخلصين فإنها تتقدم وتنجو من الضلالة والشبهات كما يعمل الشيعة الإمامية في ذلك فإنهم يقلّدون في أعمالهم العبادية الفقهاء الجامعين للشرائط ويتبعون تعاليمهم ومناهجهم التي اكتسبوها من القرآن الحكيم وأقوال المعصومين علیهما السلام فمن اتبع علماءه نجى

وتقدم ومن لم يتبعهم ضلّ وتخلّف عن ركب الحضارة وفقد السعادة . .

ص: 171


1- البحار : ج 2 ص 4 باب 8 ح 7 ط بیروت.
2- نفس المصدر : حديث 9 .
3- البحار : ج 2 ص 16 باب 8 ح 36 .

موقف العالم مع المجتمع:

ومن الشواهد الجليّة في هدي الأمّة إلى الطريق المستقيم والنجاة من أغلال المستعمرين هو قيادةالعلماء لثورة العشرين في العراق وعلى رأسهم مرجع الأمة الشيخ الشيخ محمد تقي الشيرازي (رحمة الله عليه) وبفضل توجيهاته وآرائه السديدة للعلماء ورجال الفكر ورؤساء الأحزاب والعشائر وأبنائها استطاع أبناء الأمة حينذاك الوقوف صفاً واحداً بوجه أكبر مستعمر آنذاك وأكبر قوة في العدّة والعدد واستطاعوا طرده من سيادة العراق وإنّ تمتع العراق بفترة القيادة الحكيمة للعلماء عاش في ظل الحرية والأخوة والأمة الواحدة وبفقدان هذه القيادة استطاع الغرب أن يحلّ ثانية ليجثو على صدر العراق بطرق ملتوية .

وليس هذا العمل الوحيد لعلمائنا فلقد كان لهم المواقف العديدة والحسّاسة أمام أصحاب الشبهات والعقائد الفاسدة والتيارات الثقافية المعادية التي تجتاح بلادنا الإسلامية وبفضل العلماء استطاع الناس تمييزهم والوقوف أمام هذا المد وأمام هذه التيارات الدخيلة على المبادىء الإسلامية . .

وإذا علمت وجوه الأفضلية تعرف وجه أفضلية العالم على العابد وكيف أن ركعتين يصليهما العالم تحسبان أفضل من ألف ركعة بصلّيها العابد لأن المقصود النوع والكيف لا الكم لما يتولد من فائدة وأثر عظيم للعالم في قيادة المجتمع وتوجيه أبنائه .

ص: 172

9-مَقَاييس النَّفَاصِل بَيْنَ النَّاسِ

اشارة

ص: 173

ص: 174

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) لعلي (علیه السلام) :

«يا علي ثلاث من لقي الله بهنّ فهو من أفضل الناس: من أتى الله بما افترض الله عليه فهو من أعبد الناس ومن ورع عن محارم الله فهو من أورع الناس، ومن قنع بما رزقه الله فهو من أغنى الناس» .(1). (2)

سؤال وجواب :

سؤال يلح على ذهن الإنسان كثيراً وينتظر الإجابة يقول ما هي مقاييس الأفضلية بين الناس؟ وللإجابة على هذا السؤال نحتاج إلى بيان مقدمة : إن المعرفة أحياناً تتم بواسطة معرفة الأشياء ذاتها وأحياناً بواسطة آثارها . فأكثر الأشياء في هذا الكون المادية والمعنوية لها مقاييس وطرق للمعرفة والتمييز . فمثلاً معرفة الأشياء المادية تتم عادة بواسطة مقدمات بسيطة لأن المادة تقع تحت سلطة حواسنا . والحواس البشرية هي الأدوات القريبة التي بها يدرك الإنسان ذوات الأشياء المادية أو آثارها فبالذوق مثلاً نعرف أن هذا أطيب من

ص: 175


1- الخصال:ج1ص 125.
2- مضى نظير لهذا الحديث الشريف في كتابنا نبي ووصي ووصايا ص 451 وقد ذكرنا هذا الحديث هنا لوجود بعض التفاوت بينه وبين الحديث المشار إليه كما أننا تناولناه بالشرح من زاوية تختلف عما شرحنا به الحديث السابق فتأمل .

ذاك فالطعام الجيد من الرديء يمكن بواسطة الذوق أن نميزه . .وبالشم نعرف أن هذه الرائحة أذكى من تلك الرائحة فرائحة الزهور أذكى من رائحة السمك وذلك التفضيل تمّ بواسطة الشم. . وبالعين نعرف أن هذه اللوحة أجمل من تلك اللوحة . وباللمس نستطيع أن نميز الناعم من الخشن ..وهكذا باقي الحواس الظاهرية .. أما معرفة الأشياء المعنوية فهي تختلف عن المادية بل هي اشد صعوبة لدى الدرك والتمييز إذ إنها لا تحس بالحواس الظاهرة وبالتالي لا نستطيع أن ندركها جيداً إلاً بالدقة والتعمق في صفاتها وآثارها شأن كل ما هو بعيد عن الحس فمثلاً درك حقيقة الملائكة أو الجن من الامورالمعقدة المتعذرة أو المستصعبة على الكثير منا .. مع أنها حقائق موجودة يدرك البعض منا ممن قد وصل إلى بعض المقامات المعنوية الرفيعة آثارها مثلاً . وهكذا فإنّ الأعمال التي ترتبط بعالم المعنويات والملكات النفسانية كالعبادة والتقوى والورع والقناعة ونحو ذلك قد لا نتوصل نحن إلى درك حقائقها إلا أننا قد نتوصل إليها من خلال آثارها ومظاهرها .. فربما نتعرف على بعض جوانب التعبد والعبادة من خلال آثارها ومظاهرها من الإنقطاع إلى الله والخشوع واطمئنان القلب ونحو ذلك {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } .(1)وكذلك نتعرف على بعض حقيقة الورع من خلال آثاره وهكذا القناعه.. ومن الواضح أن المعنويات كالماديات تتفاضل فيما بينها فبعض الأعمال أفضل من بعض قال تعالى : {وأمر قومك بأخذوا بأحسنها }. (2)ولكن ما هي مقاييس الأفضلية فيها؟ في الأمور المعنوية لا يمكن أن نحدد أو نميز بأنفسنا أو بحواسنا أن هذا العمل أفضل من العمل الفلاني ما لم نرجع إلى أهل الغيب أنفسهم لأن المعنويات من شؤون الغيب فيجب أن نعرف ما هو ملاك الأفضلية في نظر الغيب - فمثلاً إذا كان هناك نفران في المسجد يصليان لا يمكننا معرفة أيهما أفضل صلاة أو أيهما صلاته مقبولة أو أن الصلاة أفضل من الصيام أو الصدقة أفضل من برّ الوالدين، وهكذا فنحن لا

ص: 176


1- سورة الرعد ؛ الآية : 28
2- سورة الأعراف ؛ الآية : 145

نعرف ملاكات التفاضل عند الله سبحانه ولكن في نفس الوقت لم يبقنا الله سبحانه في أمرنا نعمل على غير بصيرة ..كلا ...وإنما وضّح لنا بعض ملاكاته ومقاييس التفاضل عنده من خلال القرآن أو السنة الشريفة من هنا يجب علينا دائماً أن نرجع إلى الرسول الأعظم صلّی الله علیه آله وسلم والأئمّة المطهرين علیه السلام المعرفة مقاييس الأفضلية بين الأعمال وأي الأعمال أفضل من بعض مثلاً : مقياس التفاضل بين البشر ..ما هو ؟ في النظر القاصر والرؤية السطحية التي جاءت بها الأنظمة المادية للإنسان قالوا : القوم أو اللغة أو العنصر وغيرها من المقاييس التي ترتبط بظاهر الإنسان وجسمه ولكن عند الله هذه الميزة ليست صحيحة بل مرفوضة وإنما ميزان أفضلية الإنسان على غيره بمعنوياته ..بقلبه وروحه حيث يقول {اِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} .(1) وفي الحديث الذي ابتدأنا به بحثنا إشارة إلى بعض ملاكات الأفضلية في الأعمال.

ملاك العبادة:

كثير من الناس يتصور أنّ أعبد الناس من يأتي بالنوافل والمستحبات والصدقات والزيارات بحسب ظاهرها أو بكثرة العبادة يكون ملاك الأفضلية، وهذا التفضيل ليس مقياساً صحيحاً دائماً لوجود ظواهر عديدة غير طبيعية تصدر من بعض العبّاد أحياناً بعيدة عن روح التدين والطاعة ولعلّ من هنا ذكر الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله سلم في حديثه مقياساً للعبادة إذ قال (من أتى الله بما افترض الله عليه فهو من أعبد الناس) أي أن العابد والمتقرب إلى الله تعالى بالصلاة والصوم والحج وما شابه ينبغي أن ينسجم ويتوافق باطنه مع ظاهره أي أن المؤمن من آمنت جوارحه وجوانحه. وإن العبادات في الغالب طريق لتحقيق هذا الهدف( إيمان الجوارح والجوانح) فالأعبد بين الناس ليس كثير العبادة بلا إيمان الجوارح والجوانح لأنّ جوارحه وجوانحه لم تؤمن بل

ص: 177


1- سورة الحجرات ؛ الآية : 13 .

الأعبد هو الذي تطيع جوانحه وجوارحه أوامر ربه ويكون على الوجه الذي يريده الله سبحانه منه ولذا فإن العبادة خضوع وتذلل للخالق تعالى وإيمان الجوارح والجوانح ولها مستلزمات عديدة بالإضافة إلى الخضوع منها شكر الله والتوكل عليه ودعاؤه وحسن المعاشرة مع الناس وما شابه من الآداب التي تظهر على الجوارح نتيجة الخضوع والتذلل وظهور آثاره على الجوارح، عندها يمكن التمييز بين الأعبد من الناس .. أما لو جعلنا كثرة الصلوات هي المقياس فسوف لن يتميز الصالح من الطالح وقد ينتشر الظلم بين الناس بصفة أُخرى محسنة له ويتيه على الناس الأمر ..

العبادة والعمل:

ينقل في أحوال أحد الملوك أنه تعهد بقراءة زيارة عاشوراء أربعين يوماً، وأن لا يتكلم في أثناء القراءة . ففي يوم من تلك الأيام الأربعين ألقى شرطة الملك القبض على أحد أعداء الملك.. وفي آخر يوم لقراءة الزيارة جاءوا به إلى الملك وكان الملك حينها يقرأ الزيارة، فتحيّر الملك في أمره . . فإذا هو تكلّم أبطل قراءة أربعين يوماً، فأشار بيده إلى رقبته بأن اذبحوه . . فأخذت الشرطة الرجل وذبحته والملك يقرأ الزيارة وفي ذلك يقول الشاعر:

ابتلينا بزعيم ذكر الله وسبّح ***فهو كالجزار فينا يذكر الله ويذبح

ولا شكّ أن قراءة الزيارة كانت طاعة الله تعالى وعبادة ولكن الملاك ليس قراءتها وإنما ظهور آثار الزيارة على عمل الملك والتذلل لله تعالى بواسطة الحكم بين الناس بالعدل والقسط لأنها من صفات الله تعالى ولكن صحيح أنَّ صاحبنا كان يقوم بعمل مستحب جداً عند الشارع المقدس إلاّ أن آثار هذا العمل لم تنعكس على جوارحه وجوانحه حتى إنه وهو يؤدي العمل المستحب ارتكب فعلاً يعتبر من أشد المحرمات وهو قتل الإنسان البريء ..وهذا ما تدعو إليه سائر العبادات .

ص: 178

الشكر على قدر النعمة:

من آثار العبادة هو شكر الله تعالى في ظهور نعمة الله تعالى على اللسان ثناءً واعترافاً وعلى قلبه شهوداً ومحبة وعلى جوارحه انقياداً وطاعة .. وهذه نادرة طريفة يذكرها التأريخ لنا :

إن السلطان (سنجر السلجوقي)مرّ في طريق وهو في موكب سلطنته وكان في الطريق درويش من أهل الفقر فسلّم على السلطان فلم يرد عليه التحية بلسانه بل حرّك رأسه بدل الجواب . فقال الدرويش أيها الملك إنّ الابتداء بالتحية مستحب وجوابها واجب، وأنا قد أديت المستحب فلِمَ لا تؤدي الواجب. فأمسك السلطان بعنان مركبه وأخذ يعتذر من الدرويش بأنه كان مشغولاً بالشكر فغفل عن رد التحية . فقال الدرويش للسلطان لمن كنت تشكر . فقال : لله الذي هو المنعم على الإطلاق وما نعمة إلاّ وهي منه، ولا عطاء إلاً من قبله. فقال الدرويش : بأي نوع كنت تشكره، فقال : بكلمة( الحمد لله رب العالمين) فإنّ فيها شكر سائر النعم . . فقال الدرويش : أيها السلطان ما أجهلك بطريق الشكر الواجب عليك، إن ما وجب عليك من هذا الأمر هو مقدار ما أفاض عليك المنعم وأردف عليك عطاياه غير المتناهية من اقتدار أيامك وسعة زمانك فليس الواجب عليك قول الحمد لله فإن الشكرمن السلطان إنما يقع موقع القبول ويستزاد به النعمة إذا وقع منه على كلّ نعمة عنده بما يناسبها .فالتمس السلطان منه أن يعلمه ذلك، فقال له : شكر سلطان هو العدل والإحسان مع عامة العباد وشكر سعة ملكه عدم الطمع فی أملاك رعيته وشكر ارتفاع عرشه وإقباله الإلتفات إلى المنخفضين في تراب الفاقة والمذلة وشكر نعمة التأمر أداء حق المأمورين، وشكر الخزائن العامرة التصدق على أهل الإستحقاق والإدرار عليهم بالمقررات، وشكر نعمة القوة والقدرة النظر إلى العجزة والضعفاء بنظر الرأفة والرحمة ، وشكر نعمة الصحة شفاء المعلولين بعلة الظلم بقانون العدالة، وشكر نعمة كثرة الجند والعسكر منعهم عن إيذاء المسلمين والتعرض لأمتعتهم، وشكر نعمة

ص: 179

القصور العالية والأبنية المشيّدة منع الخدم والحشم عن النزول في منازل الرعية وإعفائهم من المزاحمة فيها، وخلاصة شكر السلطان أن ينظر إلى المحق بعين الرضا ويقدم راحة الرعية على راحة نفسه ..ومن خلال ذلك نعرف أن الأفضلية بين هذا السلطان وذاك ليس بكثرة العبادة أو بكثرة الشكر لفظاً بقول (الحمد لله رب العالمين) وحدها وإنما الأفضلية في أداء حق الشكر الله تعالى بظهور آثار ذلك على تصرفات العابد أو الشاكر..

العبادة بين التوكل والمشورة:

و من آثار العبادة التوكّل على الله تعالى وتفويض الأمر إليه تعالى وهو مقیاس آخر للأفضلية إذ إن من يعبد الله تعالى ويتوكل عليه أعبد ممن يتوكّل على المخلوق ويرجو من عبادته الله أن ينال فضل ذلك من المخلوق نفسه لا الله وقوله تعالى : {َإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}.(1)، {يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } .(2)قد يكون إشارة إلى ذلك. أما من يتوكل على غير الله تعالى فلا ينال إلاّ الشقاء والتعب من العبادة وهنا نقطة مهمة وهي أن المتوكل على الله تعالى في أُموره لا يعني أن يجلس في بيته أو في السوق ويقول أنا متوكل على الله تعالى وكفى وإنما يجب عليه تهيئة مقدمات المتوكل من إبداء همّة في العمل، ونشاط وسعي من أجل اكتساب النتائج . والآية الكريمة {وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله المتوكلين}.(3) تدل على أن المشاورة والتصميم على العمل يسبق التوكل ثم يعزم على الطريق الذي استشار فيه.. فهو يصمم بعد أن يستشير ثم يبدأ بالعمل متوكلاً على الله تعالى . وكان الرسول الأعظم صلّی الله علیه وسلم يستشير أصحابه ومن الشواهد على ذلك ما جاء في بعض المصادر أنه صلّی الله علیه وسلم جمع أصحابه

ص: 180


1- سورة هود؛ الآية : 123 .
2- سورة الطلاق ؛ الآية : 3 .
3- سورة آل عمران ؛ الآية : 159

بعد يوم الأحزاب يستشيرهم في ما يصنع باليهود الذين خانوه ونكثوا عهده معهم؟ وقد أخرجهم من معاقلهم فلما مثلوا بين يديه قال : أين السعود؟ فجاءه سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وسعد بن أبي وقاص واستشارهم في الناكثين .(1) .

الإخلاص في النية:

كما أن للإخلاص دوراً مهماً في مقاييس الأفضلية فالتقرب بالعبادة الله تعالى بإخلاص يختلف عن صورة التقرب برياء أو تصنّع لمخلوق وما شابه . وإن كان الإخلاص مرتبطاً بالنية والنية موقعها القلب فلا يمكن لنا التمييز هنا ولكن يوم القيامة سيكون الفصل إذ تبلى فيه السرائر {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ }. (2)ويقول الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله سلم: «أول من يسأل يوم القيامة ثلاثة : رجل آتاه الله العلم فيقول الله له : ما صنعت فيما علمت؟ فيقول : يا رب كنت أقوم به آناء الليل وأطراف النهار . فيقول الله تعالى : كذبت وتقول الملائكة : كذبت، بل أردت أن يُقال فلان عالم، ألا فقد قيل ذلك. ورجل آتاه الله مالاً، فيقول الله تعالى له : لقد أنعمت عليك فماذا صنعت؟ فيقول : يا رب كنت أتصدق به آناء الليل وأطراف النهار. فيقول الله : كذبت، وتقول الملائكة : كذبت بل أردت أن يُقال فلان جواد، ألا فقد قيل ذلك.

والثالث رجل جاهد في سبيل الله فقتل، فيقول الله له : لقد جاهدت ليقال فلان شُجاع، ألا فقد قيل ذلك. ثم قال الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله سلم أولئك أول خلق تسعر بهم جهنم يوم القيامة» .(3)

فالنية الخالصة والصادقة مع الله سبحانه هي الأصل في قبول الأعمال عند الله تعالى والأعمال الصالحة والمبرات والإحسان وطلب العلم والجهاد بلا نيّة خالصة هذه كلها أعمال صحيحة وتعبّر عن نفس طيبة إلاّ أنها ليست

ص: 181


1- شرح رسالة الحقوق : ج 2 ص 342
2- سورة الطارق ؛ الآية : 9
3- شرح رسالة الحقوق : ج 1 64

الأفضل وإنما الأفضلية في خلوص النية لوجه الله تعالى قال تعالى : {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}.(1)

الورع نظام العبادة:

فالعبادة المعنوية لا يمكن بيان الأفضلية فيها بالحس وإنما بآثارها وأهدافها فكذلك الورع كما ورد في الحديث الشريف عن رسول الله صلّی الله علیه وآله سلم:«ومن ورع عن محارم الله فهو من أورع الناس »فمن هو أورع الناس؟ هل هو الذي يجتنب عن طعام السوق أو الجبن الأجنبي أو اللحوم المستوردة فقط ؟ الورع له مظاهر عديدة منها ورع في البيع وورع في الشراء وورع في الرهن والإجارة وورع في المأكل والمشرب وورع في الكلام وورع في التعامل مع الزوجة والأولاد وورع في اللباس والمنزل وورع في الحركة والسكون ...وبالجملة حفظ الحواس من لامسة وباصرة وسامعة وذائقة.. عن كل انحراف وزيغ وإثم وعصيان، فمن ورع عن ذلك كلّه كان الأورع بين الناس وفي الحديث القدسي قال تعالى : «إبن آدم اجتنب ما حرّمت عليك تكن من أورع الناس» . (2).

وليس من تجنب أو استحرم نوعاً من الأكل ولم يستحرم أو يتورع عن محارم الله تعالى الأخرى هو الأورع إذ للورع صور ومظاهر يوضحها لنا الإمام الصادق عليه السلام بقوله : «إغلق أبواب جوارحك عمّا يرجع ضرره إلى قلبك، ويذهب بوجاهتك عند الله، وتعقَّب الحسرة والندامة يوم القيامة ، والحياء عمّا اجترحت من السيئات والمتورع يحتاج إلى ثلاثة أصول : الصفح عن عثرات الخلق أجمع، وترك خوضه فيهم، واستواء المدح والذم . وأصل الورع دوام المحاسبة ،وصدق المقاولة ،وصفاء المعاملة، والخروج من كل شبهة، ورفض كل ريبة ،ومفارقة جميع ما لا يعنيه وترك فتح أبواب

ص: 182


1- سورة المائدة الآية : 27
2- الكافي : ج 2 ص 77 باب الورع حدیث 7

لا يدري كيف يغلقها، ولا يجالس من يشكل عليه الواضح، ولا يصاحب مستخفي الدين ،ولا يعارض من العلم ما لا يحتمل قلبه، ولا يتفهمه من قائل، ويقطع من يقطعه عن الله».(1) وعن زيد بن علي عن أبيه علیه السلام قال : «الورع العبادة فإذا انقطع الورع ذهبت الديانة كما أنه إذا انقطع السّلك اتبعه النظام».(2)

الورع أساس التشيع:

من الصفات التي يتميّز بها محبّو أهل البيت علیه السلام عن غيرهم هو الورع عن محارم الله تعالى والمحبّ والموالي ليس بالكلام وإنما هو تصديق وثبات على النهج القويم الذي سار عليه الأئمة الطاهرون (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين )ولذلك دعت الروايات الشريفة الواردة عنهم علیهم السلام إلى التورع وأن يكون الشيعة زيناً لهم لا شيئاً عليهم ومن لم يكن ورعاً فهو ليس من الشيعة الكمّلين ومن لم يكن بأفعاله أورع الناس فهو ليس من شيعة أهل البيت علیه السلام. وفي الحديث الشريف عن علي بن أبي زياد عن أبيه قال : كنت عند أبي عبد الله علیه السلام فدخل عيسى بن عبد الله القمي فرحب به وقرّب مجلسه ثم قال : يا عيسى بن عبد الله ليس منّا ولا كرامة من كان في مصر فيه مائة ألف أو يزيدون وكان في ذلك المصر أحد أورع منه ».(3) أبي أسامة قال : سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول : عليك بتقوى الله، والورع والإجتهاد وصدق الحديث وأداء الأمانة وحسن الخلق وحسن الجوار، وكونوا دعاة إلى أنفسكم بغير ألسنتكم وكونوا زيناً ولا تكونوا شيئاً» .(4)

وقال الإمام الصادق علیهم السلام : «إنّا لا نعد الرجل مؤمناً حتى يكون

ص: 183


1- البحار : ج 67 ص 308 باب 57 حديث 35 .
2- سفينة البحار : ج 2 2 ص 643 مادة ورع
3- الكافي : ج 2 ص 78 باب الورع حدیث 10
4- البحار : ج 67 ص 299 باب 57 حدیث 9 .

لجميع أمرنا متبعاً ومريداً ألا وإنّ من اتباع أمرنا وإرادته الورع ، فتزينوا به يرحمكم الله وكيدوا أعداءنا به ينعشكم الله» .(1)

وعلى هذا فإن التشيع الكامل مقارن للورع كما أن العبادة الكاملة تقترن بالورع عن محارم الله تعالى. وفي رواية أن الإمام أمير المؤمنين علیه السلام سأل رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم عن أفضل الأعمال في شهر رمضان، فأجابه الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم : «الورع عن محارم الله عزّ وجلّ» . (2).

وفي وصية للإمام الصادق علیه السلام لأحد أصحابه قال : «أوصيك بتقوى الله والورع والاجتهاد واعلم أنه لا ينفع اجتهاد لا ورع فيه».(3) .

الورع عند نهر بلخ:

عن هارون بن رئاب، قال : كان لي أخ جارودی،(4) ، فدخلت على أبي عبد الله علیه السلام فقال لي : ما فعل أخوك الجارودي؟ قلت : صالح، مرضيّ عند القاضي وعند الجيران في الحالات كلّها غير أنه لا يقرّ بولايتكم، فقال : ما يمنعه من ذلك ؟ قلت يزعم أنه يتورع ، قال : فأين كان ورعه ليلة نهر بلخ فقلت لأخي حين قدمت عليه : ثكلتك أمك دخلت على أبي عبد الله علیه السلام فسألني عنك، فأخبرته أنك مرضي عند الجيران وعند القاضي في الحالات كلها غير أنّه لا يقرّ بولايتكم فقال : ما يمنعه من ذلك؟ قلت :يزعم أنه يتورع فقال : أين كان ورعه ليلة نهر بلخ ؟ قال : أخبرك أبو عبد الله بهذا ؟ قلت : نعم ، قال : أشهد أنه حجة رب العالمين، قلت : أخبرني عن قصتك؟ قال : نعم، أقبلت من وراء نهر البلخ، فصحبني رجل

ص: 184


1- البحار:ج67ص302باب57حدیث12
2- البحار : ج93 ص 358 باب 46 حديث 25
3- الكافي ج 2ص 76 باب الورع حديث 1
4- الجارودية : أتباع ابي الجارود زياد بن المنذر الهمداني الأعمى، وقد لعنه الصادق علیه السلام وقال فيه : إنه أعمى القلب وأعمى البصر .

معه وصيفة فارهة الجمال فلما كنا على النهر قال لي : إمّا أن تقتبس لنا ناراً فأحفظ عليك وإما أن أقتبس ناراً فتحفظ عليَّ، فقلت: إذهب واقتبس وأحفظ عليك، فلمّا ذهب قمت إلى الوصيفة وكان مني إليها ما كان والله ما أفشت ولا أفشيت لأحد ولم يعلم بذلك إلاّ الله . فخرجت من السنة الثانية وهو معي فأدخلته على أبي عبد الله علیه السلام فذكرت الحديث فما خرج من عنده حتى قال بإمامته ..(1) ..

القناعة حقيقة الغنى:

وللغنى أيضاً مقياس معنوي لا نحسه بالحواس الظاهرة وليس الغنى بالمال والثروة كما عبّر الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم بقوله «ومن قنع بما رزقه الله فهو من أغنى الناس» فمقياس الغنى أو الأفضلية هو القناعة لأن الغنى يتبع من داخل النفس لا من الأشياء الخارجية .. وإنما صار القانع من أغنى الناس، لأن حقيقة الغنى هي : غنى النفس، والقانع راض ومكتف بما رزقه الله تعالى لا يحتاج ولا يسأل سوى الله تعالى. وأهمية القناعة تظهر عندما يتحرر الإنسان من عبودية المادة، واسترقاق الحرص والطمع وعنائهما المرهق. فالتمسك بالمادة ذلُّ بعكس القناعة التي تزرع في الإنسان العزة والكرامة والإباء والعفّة والترفع عن صغائر الأمور واستدرار عطف اللئام، وبالعزّة والكرامة والعفّة يكون الإنسان غنياً ولا يحتاج الآخرين أما الثروة فلا تعطي للإنسان الأفضلية على الآخرين سوى بالمال وليس بالمحاسن المعنوية، والمال قابل للزيادة والنقيصة بل والزوال لذلك جاء في الحديث الشريف «لا كنز أغنى من القناعة» .(2) إذ إن الكنز لو كان مادياً لفني ونفد .

ولكن هذا الكنز الذي لا يفنى هو الكنز المعنوي أي القناعة في كل

ص: 185


1- البحار : ج 47 ص 156 باب 27 حديث 220 ومنتهى الآمال ج 2 ص 226 نقلاً عن الخرائج ج 2 ص 617 .
2- نهج البلاغة : حكم 371 .

شيء وثمنه تحصيل المقامات الباطنية الرفيعة التي لا نهاية لها بعكس المادة التي مهما بلغت من كثرة فهي إلى زوال : يقول أبو فراس الحمداني في القناعة :

إن الغني هو الغني بنفسه ***ولو أنه عار المناكب حافِ

ماكل ما فوق البسيطة كافياً ***فإذا قنعت فكل شيء كافِ

فاقد القناعة جائع:

وأما لو أردنا بالغنى غنى المال والثروة وجعلنا الثروة مقياساً للأفضلية، فإن ذلك يلزم أن يكون الفقير هو الغني لأن الغني المادي (غير القنوع) كلما حصل على ثروة لا يشبع والذي لا يشبع هو المصداق الحقيقي للفقير فلا يزال يطلب المزيد لأن الفقر قد تمكّن من قلبه وأخذه الحرص وإن كانت ثروته هائلة وتنوء بالعصبة أولي القوة .والإسلام يذم الحريص أيضاً وفي الحديث الشريف «منهومان لا يشبعان : منهوم علم ومنهوم مال» .(1) وفي رواية : شكى رجل إلى أبي عبد الله الصادق علیه السلام أنه يطلب فيصيب ولا يقنع وتنازعه نفسه إلى ما هو أكثر منه ، وقال : علمني شيئاً أنتفع به فقال أبو عبد الله الصَّادق علیه السلام إن كان ما يكفيك يغنيك فأدنى ما فيها يغنيك، وإن كان ما يكفيك لا يغنيك، فكل ما فيها لا يغنيك» .(2) وقيل لمّا مات جالينوس وجد في جيبه رقعة مكتوب فيها : ما أكلته مقتصداً فلجسمك، وما تصدقت به فلروحك وما خلّفته فلغيرك، والمحسن حيّ وإن نُقل إلى دار البلى، والمسيء ميت وإن بقي في دار الدنيا، والقناعة تستر الخلّة، والتدبير يكثر القليل، وليس لابن آدم أنفع من التوكل على الله سبحانه . (3).

ص: 186


1- البحار : ج 1 ص 168 باب 1 حدیث 15 ط بیروت
2- الوافي ج 3 ص 79 نقلاًّ عن الكافي .
3- كشكول البهائي : ص 371 طبعة إيران .

الغنيّ الخاسر:

ولعلّ هناك من لم يقتنع بما أشرنا إليه وظل متمسكاً بكثرة المال والثروة واعتبرها هي مقياس الأفضلية دون القناعة ونحن لا نريد هنا أن يكون الناس فقراء كلا .. وإنما نحث على طلب المعاش وتحصيل الأموال لغرض جعلها واسطة للفوز بالمعاد وأيضاً نريد من الأموال والثروة الزيادة تحصيناً لمجتمعنا بالاكتفاء الذاتي والتخلص من الحاجة إلى الآخرين لكي لا يستغلّونا بها فالمال عندنا واسطة للمعاد والاستقلال الاقتصادي والسياسي والاجتماعي عن المستعمرين وعلى أيّ حال .. فإن الذي يرى الأفضلية للثروة لا للقناعة فلينظر إلى قارون وأمواله إذ كان رجلاً من بني إسرائيل آتاه الله بسطة في الرزق وأدرّ عليه أخلاف الثراء حتى إن مفاتيح خزائنه كانت تنوء بالعصبة أولي القوة، فكان مرموقاً من قومه بعين الغبطة، وكل من رآه في زينته وأبهته يتمنى أن يرزق مثل ما رزقه من الحظ في الدنيا ويستعظمون ذلك أيما استعظام ! أما أولو البصائر من قوم قارون فكانوا يعظونه ويبذلون له النصح ويحذرونه عاقبة ما هو عليه من الخيلاء والزهو ويشيرون عليه بالإبتعاد عن سوء مجاورة نعمة الله بالإفساد في الأرض ويحضونه على أن يبتغي فيما آتاه الله الدار الآخرة ولا ينسى نصيبه من الدنيا بأن يظهر عليه أثر نعمة الله بالإحسان إلى الفقراء من عباد الله ويترك طرق الإفساد في الأرض .. ولكنّه أعطاهم أذناً صماء ولم يصغ إلى نصائحهم .. فكانت عاقبة طغيانه وانصرافه عن شكر الله على نعمته أن أزال الله تعالى عنه النعمة وأذاقه وبال أمره فخسف به وبداره الأرض ولم يجد له ناصراً أو معيناً كما جاء في قوله تعالى :{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ *وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ . .فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ

ص: 187

الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ}.(1) .

هذه عاقبة من لا يقنع بما آتاه الله تعالى ولا يشكر نعمته ولا يبتغ منها الدار الآخرة ولا يحسن إلى الناس فهل قارون بماله كان من أفضل الناس؟ كلا وقد أخزاه الله تعالى وخسف به الأرض

الخليل بن أحمد الفراهيدي:

جاء في سفينة البحار : قال النضر بن شميل إن الخليل بن أحمد الفراهيدي يقاسي الضير بين أخصاص البصرة وأصحابه يقتسمون الرغائب بعلمه في النواحي. وذكروا أنّ سليمان بن علي العباسي وجّه إليه من الأهواز لتأديب ولده فأخرج الخليل إلى رسول سليمان خبزاً يابساً وقال : كُلِّ فما عندي غيره وما دمت أجده فلا حاجة لي إلى سليمان فقال الرسول : فما أبلغه ؟ فقال :

أبلغ سليمان أني عنه في سعة ***وفي غنّى غير أني لست ذا مال

والفقر في النفس لا في المال فاعرفه*** ومثل ذاك الغنى في النفس لا المال

فالرزق عن قدر لا العجز ينقصه*** ولا يزيدك فيه حول محتال .

وقد ذكر الشيخ عباس القمي (ره) في سفينة البحار أن الخليل في قناعته التي حكيت عنه كان مقتدياً بأبي ذر الغفاري (ره).(2).

قناعة أبي ذر الغفاري (رحمه الله):

أما عن قناعة أبي ذر الغفاري فقد نقل أنه أرسل عثمان بن عفان مع عبد له كيساً من الدراهم إلى أبي ذر وقال له : إن قبل هذا فأنت حُرّ ، فأتى الغلام بالكيس إلى أبي ذر وألح عليه في قبوله، فلم يقبل ، فقال له : اقبله فإن فيه

ص: 188


1- سورة القصص ؛ الآيات : 76 - 80 .
2- سفينة البحار : ج 1 ص 426 مادة خلل .

عتقي، فقال نعم ولكن فيه رقّي.(1).

وكتب المنصور العباسي إلى أبي عبد الله الصادق علیهما السلام : لِمَ لا تغشانا كما يغشانا الناس ؟ فأجابه : ليس لنا من الدنيا ما نخافك عليه، ولا عندك من الآخرة ما نرجوك له ولا أنت في نعمة فنهنيك بها، ولا في نقمة فنعزيك بها. فكتب المنصور : تصحبنا لتنصحنا، فقال أبو عبد الله علیه السلام : «من يطلب الدنيا لا ينصحك ومن يطلب الآخرة لا يصحبك» .(2) .

وبذلك يكون الرسول الأعظم ال قد حدّد لنا مقياس الأفضلية في بعض الأمور المعنوية التي لم نحسها بجوارحنا ولا يمكن لنا أحياناً تمييزها إلا بالرجوع إلى الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم والأئمة المطهرين (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين). وقد توضّح لنا من خلال الحديث النبوي بأن أعبد الناس من أتى بما افترض الله تعالى عليه من أعمال وظهرت آثار عبادته على تصرفاته ومعاشرته للناس وأن أورع الناس من تورّع عن محارم الله تعالى وأن أغنى الناس من قنع بما رزقه الله وأن الغنى ليس بالمال وحده وإنما الغنى غنى النفس حتى لو كان الإنسان فقيراً . . .

ص: 189


1- المصدر نفسه : ص 483
2- أخلاق أهل البيت : ص 51 نقلاً عن كشكول البهائي

ص: 190

10- الخُلُقُ البيئيُ مَصَدَرة لٍلذُنُوبٍ

اشارة

ص: 191

ص: 192

قال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم ) لعلي (علیه السلام) :

«يا علي، لكل ذنب توبة، إلا سوء الخلق فإن صاحبه كلما خرج من ذنب دخل في ذنب آخر» . (1)

الأخلاق .. سلباً وإيجاباً:

إنّ سوء الخلق يعد من أكبر الأمراض النفسية التي لها آثارها السلبية الكثيرة على حياة الفرد الدنيوية والأخروية ويعبر عنه علماء الأخلاق بأنه انحراف نفساني يسبب انقباض الإنسان وغلظته وشراسته نقيض حسن الخلق . .

ومن هنا كان لسوء الخلق آثار سيئة ونتائج خطيرة تنعكس على صاحب الخلق السيّىء وتحط من كرامته أولاً، وربما تضاعفت نتائجه السلبية فيكون حينذاك سبباً لمختلف المآسي والأزمات الجسمية والنفسية والمادية، ولذا فإن سوء الخلق مفتاح للذنوب والذنوب تحط من قيمة الإنسان الا الأُخروية فضلاً عن قيمته الدنيوية، إذ إنّ صاحب الخلق السيّىء يقع في مطبات عديدة في سير حياته من منزله إلى عمله إلى مجتمعه لانحرافه النفسي عن الآداب والفضائل الأخلاقية التي وضعتها الشريعة الإسلامية أو الإجتماع الإنساني

ص: 193


1- كلمة الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم: ص 153 .

اللائق من تسامح ولين الجانب والعفو ومن هنا جاء قوله تعالى لرسوله الكريم صلّی الله علیه وآله وسلم:

{فبما رحمة لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك} .(1) .

وفي معنى فظاً جاء أي جافياً سيّىء الخلق .(2) . والله تعالى بخطابه هذا يكشف عن حقيقة اجتماعية مهمة خلاصتها :

إن الناس يميلون إلى من كان ليّن الجانب وصاحب أخلاق حسنة وما شابه من فضائل نفسية رفيعة ويتفرّقون عن كل إنسان عبوس وسيّىء الخلق . .والرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم لم يكن سيّىء الخلق وإنما كان صاحب خلق عظيم وأديب الله تعالى وبعث ليتمم مكارم الأخلاق ولكن آيات القرآن الحكيم تخاطب الرسول صلّی علی علیه وآله وسلم وتريد من ذلك تعليمنا نحن من باب «إياك أعني

واسمعي يا جارة »والمحصل من الآية الشريفة :

إن الإنسان إذا كان خلقه سيئاً فالناس يتفرّقون عنه وبذلك يفقد راحته الشخصية من جهة ويحطم حياته الاجتماعية مع الآخرين وبالتالي لا يصل إلى سموه وأهدافه في الحياة الدنيا فضلاً عن الآخرة. وذلك لأن الآخرة. وذلك لأن سيّىء الأخلاق يجره سوء خلقه إلى الكثير من المعاصي والذنوب بما يحط من درجاته في الآخرة وينفر عن الناس فلكل إنسان في هذه الحياة أواصر وعلاقات اجتماعية كالعشرة مع الزوجة والأولاد في البيت أو مع أمه وأبيه وإخوته في المنزل أو مع أقاربه أو مع أصدقائه أو مجتمعه في الدائرة أو المعمل أو المدرسة وما شابه. ففي كل جانب من جوانب الحياة المذكورة لا بد للإنسان من العشرة والتعامل مع الآخرين فإذا كان سيّىء الأخلاق فإن سوء خلقه يجعله فظاً غليظاً

فيمجه الآخرون وينفرون منه .

ص: 194


1- سورة آل عمران ؛ الآية : 159
2- مجمع البيان : المجلد الأول ص 527 آل عمران .

سوء الخلق حرب مع الزوجة:

إذ يدخل صاحب الخلق السيّىء إلى البيت فيتنازع مع زوجته لأدنى مشكلة ويعاملها بسوء وأحياناً يضربها وقد يحدث فيها عاهة مستديمة وهذا خلاف الشرع إذ يقول تعالى :

وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}.(1)

وقد ذكر الفقهاء للعشرة بالمعروف مراتب منها :

1 - التعامل معها بما أمر الله أداء حقوقها كالنفقة وحسن العشرة وحمايتها والإجمال في القول والفعل .

2 - أن لا يضرّ بها ولا يسيء القول فيها ويكون منبسط الوجه معها. .

- أن يتصنّع لها كما تتصنع له في التحبيب والتجميل ويشاطرها - أفراحها وأحزانها ..

كما يرى بعض الفقهاء أيضاً أن العشرة بالمعروف من الواجبات الشرعية وإن اختلفوا في مراتبها،« إن العشرة بالمعروف مع الزوجة (في الجملة) واجبة» .(2)

هذا من ناحية الزوج والكلام - طبعاً - يجري من طرف الزوجة أيضاً مع زوجها في وجوب العشرة بالمعروف بل إن «جهاد المرأة حسن التبعل»(3). وذلك بأن تبادله الشعور بالمسؤولية وتطيعه ولا تخرج عن أمره وتداريه مداراة حسنة وتبذل نفسها له وتحافظ على بيتها وعفّتها . .

ص: 195


1- سورة النساء ؛ الآية : 19 .
2- راجع موسوعة الفقه : الواجبات ج 92 ص 191 - بتصرف
3- مستدرك الوسائل : ج 14 ص 247 باب 62 ح 5 .

وأما صاحب الخلق السيّىء فإنه لا يستطيع حسن العشرة والتعامل مع زوجته بما يوجبه الشرع والتعامل الإنساني عادة لانحرافه النفساني ومرضه الأخلاقي وسيطرة القوة الغضبية عليه فتأتي تصرفاته لامسؤولة عادة وشعواء فتنفر منه زوجته فضلاً عن اكتساب الإثم أو الذنب لما أخلّ بأحد الواجبات أو ارتكب بعض المحرمات - كالإيذاء للآخرين - . وعلى فرض أنه تاب وندم على فعله مع زوجته فقد يقع في مشكلة أخرى لو لم يحسن خلقه وهي :

سوء الخلق حرب مع الأبناء:

وقد يتنازع سيّىء الأخلاق مع ابنه فيضربه والضرب - خارج حدود التأديب - محرم وفيه الديّة على تفصيل مذكور في الفقه وقد ذكر ذلك أكثر

الفقهاء .

«لا إشكال في حرمة ضرب المسلم والكافر المحترم لذمّة أو نحوها .. ذلك ضرب اليتيم وضرب الزوجة وضرب الأولاد» .(1) .

بل إن الإسلام ليس فقط حرّم ضرب الأولاد وإيذاءهم وإنما أمرنا باحترامهم ومحبتهم والرفق بهم .

قال رسول الله صلّی علی علیه وآله وسلم:

«أحبّوا الصبيان وارحموهم».(2).

وجاء رجل إلى النبي صلّی الله علیه وآله وسلم. فقال :

«ما قبّلت صبيّاً قط، فلمّا ولّى قال رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم:

هذا رجل عندي أنه من أهل النار» . (3)

ص: 196


1- راجع موسوعة الفقة : المحرمات ج 93 ص 234.
2- البحار : ج 101 ص 92 باب 105 ح 14 ط بیروت .
3- فروع الكافي : ج 6 ص 50 باب بر الأولاد ح 7 .

ولكن ستيء الخلق في الكثير من الأحيان لا يتمكن أن يعمل بأحكام الإسلام بسبب غلظته وسوء خلقه الناشيء من الغضب وسيطرته عليه ولعل المشكلة الأكبر من ذلك أن صاحب الخلق السيّىء يواجه في حياته أحياناً مشاكل ويرتكب ذنوباً يعدّها الإسلام من الكبائر أو من الذنوب التي يرتبط بها مصير الإنسان وعاقبته ارتباطاً كبيراً .

إن الذي نمى على سوء الأخلاق والتعامل الإجتماعي الفظ لا يفترق عنده الأمر عادة بين أقرب الناس إليه أو غيرهم في الغالب إذ يكون صاحب سلوك واحد وطبيعة واحدة مع والديه أو زوجته وأولاده أو أصدقائه وزملائه وغيرهم، الأمر الذي يوقعه في أزمات ومشاكل كبيرة في الدنيا كما يوقعه في معاص كبيرة فمثلاً : قد تحصل له مشكلة قد تحصل له مشكلة مع والديه فينهرهما أو يغضب منهما أو يقاطعهما والقرآن يقول :

{وإمّا يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً}.(1) .

فالله سبحانه لا يرضى من الولد أن يقول لوالديه كلمة «أُف» وهي كلمة تذمّر بسيطة فكيف بالقطيعة أو المسبّة أو - لا سمح الله - الضرب ؟ .

عن الإمام الصادق عليه السلام :

[في قوله تعالى : {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ . . } : إن أضجراك فلا تقل لهما أف، ولا تنهرهما إن ضرباك ]. (2).

وعن الإمام الصّادق علیه السلام أيضاً :

ص: 197


1- سورة الإسراء ؛ الآية : 24 .
2- البحار : ج 71 ص 40 باب 2 ح 3 .

«أدنى العقوق (أف) ، ولو علم الله عزّ وجلّ شيئاً أهون منه لنهى عنه» . (1).

بل إن عقوق الوالدين أحياناً يسبب للإنسان المعصية الدائمة حتى لا يعود ينفع معها أي عمل صالح حتى لو قام ليله وصام نهاره وتصدّق

بجميع ماله .

قال رسول الله صلّی لله علیه وآله وسلم:

«يُقال للعاق إعمل ما شئت فإني لا أغفر لك».(2)

إذن عقوق الوالدين محرّم بنص الكتاب والسنة وإجماع العلماء على ذلک.

عاقبة سوء الخلق:

وهنا ننقل قصة سعد بن معاذ صاحب رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم وكان من أصحابه المهمين لنتعرف أكثر على عاقبة سوء الأخلاق وخاصة مع الأهل .

عن الإمام الصادق السلام علیه السلام قال :

«أتي رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم فقيل له : إن سعد بن معاذ قد مات فقام رسول الله وقام أصحابه ،فحمل، فأمر بغسل سعد وهو قائم على عضادة الباب فلما أن حُنّط وكُفّن وحُمل على سريره ،تبعه رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم بلا حذاء ولا رداء، ثم كان يأخذ يمنة السرير مرّة ويسرة السرير مرّة حتى انتهى به إلى القبر فنزل رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم حتى لحّده وسوّى عليه اللبن، وجعل يقول : ناولني حجراً، ناولني تراباً رطباً، يسدُّ به ما بين اللبن. فلما أن فرغ وحثا التراب عليه وسوّى قبره، قال رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم : اني لأعلم أنه سيیبلی ويصل إليه البلى ولكن الله عز وجل يحب عبداً إذا عمل عملاً فأحكمه ، فلمّا

ص: 198


1- أُصول الكافي : ج 2 ص 348 باب العقوق ح 1 ط 3 .
2- البحار : ج 71 ص 80 باب 2 ح 82 .

أن سوّى التربة عليه، قالت أم سعد من جانب : هنيئاً لك الجنة .

فقال رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم: يا أم سعد مه ! لا تجزمي على ربك فإن سعداً قد أصابته ضمّة .

قال فرجع رسول الله صلّی علی علیه وآله وسلم ورجع الناس فقالوا : يا رسول الله لقد رأيناك صنعت على سعد ما لم تصنعه على أحد إنك تبعت جنازته بلا رداء ولا حذاء !

فقال صلّی الله علیه وآله وسلم: إن الملائكة كانت بلا حذاء ولا رداء فتأسّيت بها، قالوا : وكيف تأخذ يمنة السرير مرّة ويسرة السرير مرّة، قال : كانت يدي في يد جبرائيل آخذ حيث ما أخذ، فقالوا : أمرت بغسله وصلّيت على جنازته، ولحّدته، ثم قلت : إن سعداً أصابته ضمّة .

فقال صلّی الله علیه وآله وسلم الله : نعم إنه كان في خُلقه مع أهله سوء».(1).

إذن لم تشفع أعمال سعد مع رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم وجهاده وطاعاته أمام سوء أهله فليكن في ذلك العبرة الكافية لسيّىء الخلق

قطيعة الرحم:

ومن المعاصي التي قد يرتكبها سيّىء الأخلاق قطيعة الرحم وذلك لأنه قد تحدث له مشكلة مع أرحامه وأقاربه فيقطع الصلة معهم وقطع الرحم منهيّ عنه، قال تعالى :

{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } .(2).

وقال رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم:

ص: 199


1- البحار : ج 70 ص 298 باب 135 ح 11 ط بیروت
2- سورة محمد صلّی الله علیه وآله وسلم، الآية : 22 .

ثلاثة لا يدخلون الجنة : مدمن خمر ، ومؤمن سحر، وقاطع رحم رحم» .(1) .

وقال الإمام أمير المؤمنين علیهم السلام :

«أقبح المعاصي قطيعة الرحم والعقوق» .(2) .

ومن الواضح أن لقطيعة الرحم آثاراً وضعية سيئة عديدة ذكرتها الأخبار منها :

1- تقصير الأعمار .

2 - الإقتار في الرزق .

3- تنزّل البلاء وذلك بمحق الديار وهلاكها .

4 - الخسران المبين في الدين والدنيا .

فستيء الخلق ربما يقطع صلته بأرحامه وأحياناً لمشكلة بسيطة بسبب انحرافه النفسي ولكن تترتب عليه الآثار الوضعية السيئة لقطع الرحم بالإضافة إلى تفرّق الأقارب عنه . فضلاً عن العصيان، قال رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم:

«أبغض الأعمال إلى الله الشرك بالله ثم قطيعة الرحم ثم الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف» .(3).

وقال صلّی الله علیه وآله وسلم أيضاً :

«قال تعالى : أنا الرّحمن وهذه الرحم شققت لها إسماً من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته» .(4).

بينما إذا تخلّى عن هذه الخصلة السيئة فإنه بحسن أخلاقه يصل أرحامه فمن جهة يعد مطيعاً الله سبحانه بصلة أرحامه الواجبة، ومن جهة أخرى

ص: 200


1- البحار : ج 71 ص 90 باب 3 ح 9
2- تصنيف غرر الحكم : ص 406 ط الأولى .
3- جامع السعادات : ج 2 ص 265 .
4- المصدر نفسه .

يحصل على المنافع الوضعية لصلة الأرحام .

قال الإمام الباقر علیه السلام :

«صلة الأرحام : تزكّي الأعمال، وتنمّي الأموال، وتدفع البلوى، وتيسّر الحساب، وتنسىء في الأجل» . (1).

هدم العلاقة مع المجتمع:

ثم إن صاحب الخلق السيّىء عادة يعيش في عزلة عن أصدقائه وأبناء مجتمعه إذ لا تبقي له فظاظته صديقاً فيهجره الناس ويهجر الناس والمجتمع فلا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر وإذا كان مشتركاً في مشروع خيري أو مؤسسة أو هيئة وما شابه من الخدمات الإجتماعية فإنه يفسد العمل لسوء خلقه ونزاعاته ويجرّ الويلات على مشروعه وأيضاً يفسد عمله المعاشي فالناس لا يتعاملون مع من ينهرهم أو يؤذيهم بل ينجذبون إلى المعاملة الحسنة والأخلاق ولتوضيح ذلك اذكر لك هذه القصّة :

كتب أسوت ماردن في كتابه (تهذيب النفس) يقول :

أعرف مديراً لأحد المطاعم أصبح ثرياً، وحصل على صيت طيّب بسبب سيرته الأخلاقية الحسنة في محلّه حتى إني علمت أن المسافرين والسيّاح يطوون طريقاً طويلاً حتى يصلوا إلى مطعمه، حيث يجدون أنفسهم في محله وكأنهم يعيشون في بيئتهم ومحيطهم الخاص. فحينما يصل الزبائن إلى محلّه يستقبلون بفرح وسرور لا يرونه في سائر المطاعم بل لا يرون هنا ما كانوا يجدونه من التكلّف المتعب البارد. فالعمال في هذا المطعم يحاولون ما أمكن أن يرتبطوا مع الزبائن بروابط المودّة والصداقة لا كرابطة المشتري والعامل . .

وواضح أن هذه الصفة لا تختص بأحد دون آخر بل كل واحد منا يحب

ص: 201


1- الوافي : ج 3 ص 94 عن الكافي .

هكذا مطعم ويفضل الأكل عنده كما يحب التاجر حسن الأخلاق وكذا الطبيب والمهندس وكل إنسان يحترم نفسه عمله يجب أن يتحلى بحسن الأخلاق ليحبّه الناس لأن حسن الأخلاق من أهم ما يجتذب الإنسان ويشده إلى غيره بالود والمحبة ولولاه لتنافر الناس بعضهم عن بعض ولتحكمت العداوة وصارت حياتهم بؤساً وشقاء .

وفي الحديث الشريف عن الإمام أمير المؤمنين علیهم السلام.

«ولو كنّا لا نرجو جنّة ولا نخشى ناراً، ولا ثواباً ولا عقاباً، لكان ينبغي لنا أن نطلب مكارم الأخلاق، فإنها مما تدل على سبيل النجاح». (1).

ومن خلال ما تقدم يتضح لنا أن صاحب الخلق السيىء يقع في مشاكل عديدة من جرّاء مرضه النفسي وسيطرة الحالة الغضبية على تصرفاته فيقع في محذورات عديدة فضلاً عن تفرّق أهله وأصدقائه ومجتمعه عنه .

لذا جاء في الحديث الشريف عن رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم الذي افتتحنا به بحثنا هذا أن لكل ذنب توبة والله تعالى يحب الإنسان الذي يرتكب الذنب ثم يتوب عنه بعد أن يتفكر في أحوال يوم القيامة والثواب والعقاب ويحاول أن يتجنب الذنوب لمعرفته بعواقبها فيستغفر ربه ولا يكون في غفلة أمره. أما صاحب الخلق السيّىء الذي لم يحسّن من خلقه فإنه كلّما تاب وقع في ذنب آخر فهو مرة يتوب عن سوء تصرفه مع زوجته ثم يقع في محذور آخر وهو ضرب ولده أو قطع رحمه أو تركه الأمر بالمعروف فهو لم يستفد من أسباب التوبة التي جعلها الله تعالى لارتباط العبد به دائماً وإنما انحرافه النفسي يجرّه إلى الذنب وإن تاب منه مع عدم التفكّر في أحوال نفسه فهو واقع في مشكلة أُخرى . ومن هنا جاء قول الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم «الا سوء الخلق فإن صاحبه كلّما خرج من ذنب دخل في ذنب آخر». وهذا لا يعني عدم قبول توبته أبداً لأن

ص: 202


1- المستدرك : ج 2 ص 283 .

الله سبحانه : {لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ }.(1).

وقال تعالى : {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} .(2)

وإنما الحديث يشير إلى جهة التسلسل في الوقوع في الذنوب بسبب سوء الخلق فجاء لغرض معالجة النفس وتطييبها من المساوىء وعلاج النفس يقتضي المجاهدة والإقتداء بسيرة الرسول الأعظم وأهل بيته المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .

تهذيب النفس وتأديبها:

ولكن السؤال هو : كيف يكون الإنسان حسن الأخلاق ؟

وقبل الإجابة التامة نقول : إن الإنسان مكوّن من بدن وروح وظاهر وباطن ولكل منهما مظاهر وآثار في المرض والسلامة فأمراض البدن ظاهرية

كالحمى والاعتلالات الجسمية ونحوها وقد تكفّل بعلاجها «علم الطب»..

أما الروح فاعتلالها باطني أي نفسي ولكن لهذه الإعتلالات الخفية مظاهر وآثار من مظاهرها الرذائل الخلقية وسوء التعامل مع الناس والذي يتكفّل بعلاج الباطن هو «علم الأخلاق» .

فسوء الخلق هو وصف للنفس الباطنة يوجب فسادها وانقباضها وتغيّرها مع الناس وإيذاءهم بل ويوجب بطلان الأعمال الصالحة أيضاً كما

ذكر علماء الأخلاق.

قال الإمام الصّادق علیهم السلام : «إن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخلّ العسل» .(3).

ص: 203


1- سورة النساء ؛ الآية : 48 .
2- سورة الزمر ؛ الآية : 53 .
3- الكافي : ج 2 ص 321 باب سوء الخلق ح 1 .

ومن هنا قال علماء الأخلاق أيضاً إن الإنسان من ناحية الجسم يشابه الحيوانات وبالجسم يقيم لمدة من الزمان في هذا العالم الحسيّ ويزول . . أما من ناحية الروح فهو يشابه المجردات والملائكة والمجرّد باقٍ لا يفنى فإذا ما تغلّب على قواه الجسدية والشهوية وهذّب نفسه صار في مصاف المجردات وعندها تتغلب الروح على البدن ويتخلّص من متعلقات الجسم وزوال الكدورات المادية وتظهر فيه آثار الروحانيات من العلم بحقائق الأشياء والأنس بالله تعالى والحب له والتحلّي بفضائل الصفات. فصاحب الخلق السيّىء إذا التفت إلى هذا الأمر أي عرف موضوع دائه أو شخص الداء وهو يكمن في الروح فعليه أن يقبل عليها ويتخلّى أولاً عن رذائل الأخلاق ويتحلّى بالفضائل منها وما يسمى بجهاد النفس (بالتهذيب والتأديب)

ومن الواضح أن لتهذيب النفس وتأديبها أساليب وطرقاً نشير إلى بعضها بمقدار ما يسمح به البحث فنقول :

التربية والتهذيب:

1 - الالتزام بالعبادات والقيام بها بقلب خاشع وحضور دائم يسبب تهذيب النفس وسموها الأخلاقي والمعنوي وذلك لأن لكل عمل عبادي فوائد نفسية واجتماعية وأخلاقية فمثلاً المصلي لا ينفصل في عمله عن ذكر الآخرة والتوحيد إذا أتى بشرائط الصلاة بل وأيضاً فإن الصَّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، هذا بشكل شخصي أما بشكل جماعي فإن صلاة الجماعة تسبب زيادة التقارب الأخوي والتعارف ثم التعاطف . .وكذلك في الصيام صبر وتحمل ومواساة وفي الحج تعارف وفضائل وتبادل منفعة إلى آخر العبادات ولا مجال هنا لذكر فضائلها وفوائدها جميعاً. والإنسان إذا التزم بأعماله العبادية وجاء بها بشرائطها الشرعية الخاصة التي ذكرها الفقهاء في الكتب الفقهية فإنه سوف يحصل على نتائجها الإيجابية ويتمتع بفوائدها وفضائلها النفسية والمعنوية هو أولاً ثم مجتمعه ثانياً .

ص: 204

التدبر في القرآن:

2 - قراءة القرآن والتدبّر في آياته. فإن في القرآن أحكاماً وأخلاقاً و قصصاً وعبراً لا يمكن تحصيلها من أي كتاب آخر فمن أراد الشفاء الرذائل فعليه بتعلم القرآن .

قال الإمام أمير المؤمنين علیهم السلام:

«تعلّموا كتاب الله تبارك وتعالى فإنه أحسن الحديث وأبلغ الموعظة، وتفقهوا فيه فإنه ربيع القلوب ،واستشفوا بنوره فإنه شفاء لما في الصدور، وأحسنوا تلاوته فإنه أحسن القصص . . ». (1).

رفع المعنويات :

3 - الأدعية والأذكار :

إن من أفضل الأعمال وألذها بل وأسهلها أيضاً أحياناً التي تدرّ على صاحبها بالخيرات والفضائل والسعادة احيانا وترتفع به معنوياً أكثر وأكثر : الدعاء. وعادة لو سأل الإنسان حاجته من شخص متمكن لاحتاج إلى ذكر ألفاظ معيّنة وما شابه لقضاء حاجته وبالتالي يحصل على شيء مادي بسيط، فكيف بالذي يسأل الله تعالى حاجته وهو الرحيم الكريم الذي لا يصل إلى رحمته وكرمه شيء .

ومن وصايا الإمام أمير المؤمنين علیه السلام لابنه الحسن علیه السلام :

«واعلم أن الذي بيده خزائن ملكوت الدنيا والآخرة قد أذن لدعائك ، وتكفّل لإجابتك وأمرك أن تسأله فيعطيك وهو رحيم كريم لم يجعل بينك وبينه من يحجبك عنه، ولم يلجئك إلى من يشفع لك إليه .. ثم جعل في

ص: 205


1- البحار : ج 74 ص 290 باب 14 ح 2 290 باب 14 ح 2 ط بیروت .

يدك مفاتيح خزائنه بما أذن فيه من مسألته ، فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب خزائنه . . » .(1) .

والإمام السجادعلیه السلام وضع صحيفة كاملة لنا في الدعاء ومن أراد فضائل الأخلاق فليغترف من منهل أهل البيت علیه السلام الذين ما تركوا لحظة في حياتهم إلاّ وكانت لهم فيها مناجاة مع الله تعالى وذكر الله تعالى.

ومن دعاء الإمام السجاد علیه السلام في مكارم الأخلاق :

«اللَّهُمَّ َصلّی الله محمد وآله واكفني ما يشغلني الاهتمام به واستعملني بما تسألني غداً عنه واستفرغ أيامي فيما خلقتني له وأغنني وأوسع عليّ في رزقك ولا تفتنّي بالنظر وأعزّني ولا تبتلني بالكبر وعبّدني لك ولا تفسد عبادتي بالعجب وأجر للناس على يديّ الخير ولا تمحقه بالمنّ وهب لي معالي الأخلاق واعصمني من الفخر . . ». (2).

صحبة الأخيار:

4 - ومن العوامل الأخرى المهمة صحبة الأخيار والأصدقاء الفاضلين لاكتساب الصفات الحسنة ومجانبة قرناء السوء والابتعاد عن مواطنهم، فإن للرفيق الأثر البالغ في عكس سلوكياته على الآخرين، فإن كان صالحاً فقد عكس صفات الخير وإن كان سيئاً فإنه يلطّخ نفوس رفاقه بالشر وسوء الأخلاق وأنتم تقرأون في مساء كل جمعة آخر النهار دعاء السمات الذي يقول فيه :

«واكفني مؤنة قرين السوء».(3).

أي التعوّذ من هؤلاء الأصحاب. وهذا ما أكدته الأحاديث الشريفة

ص: 206


1- البحار : ج 74 ص 204 باب 8 ح 204 باب 8 ح 1 ط بیروت
2- الصحيفة السجادية : دعاء مكارم الأخلاق .
3- مفاتيح الجنان : دعاء السمات.

والتجارب الواقعية ومن الأحاديث الشريفة :

قال الإمام أمير المؤمنين علیه السلام:«ينبغي للعاقل أن يكثر من صحبة العلماء والأبرار » . (1).

صاحب أخا ثقة تحظى بصحبته ***فالطبع مكتسب من كل مصحوب

کالريح آخذة مما تمر به*** نتناً من النتن أو طيباً من الطيب

وعنه علیه السلام أيضاً : «من حسن الاختيار مقارنة الأخيار، ومفارقة الأشرار ».(2).

و «عاشر أهل الفضل تسعد وتنبل» .(3).

إن أخاك الصدق من يسعى معك*** ومن يضر نفسه لينفعك

ومن إذا ريب الزمان صدعك*** شتت فيك شمله ليجمعك.(4).

ومن التجارب الواقعية على اكتساب الصفات من خلال القرناء :

يذكر أن هناك قرية في «هوليود بالولايات المتحدة الأمريكية» مخصّصة لإخراج أفلام«الكاوبوي» التي تمتلىء بمظاهر الإجرام والقتل والسرقة فأصبح أهالي تلك القرية المقربون لهم مجموعة قتلة وسرّاق وزناة لماذا؟ إما لأن المساوىء حينما تنتشر تفقد قبحها في أذهان الناس فيتصرفون وفقها، أو لأن نفس الإنسان تتأثر بالمحيط الخارجي وتنعكس عليها صفاته وهذا ما أراده الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله سلم من التنبيه عليه لصاحب الخلق السيىء بأن يعالج مرضه النفسي، وإن لم يعمل على تبديله فإنه وإن تاب يبقى يحمل المساوىء في تصرفاته مع معاشرته لأهل بيته . .

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ***فكل قرينٍ بالمقارن يقتدي

ص: 207


1- تصنيف غرر الحكم : ص 429 و 430 ط الأولى .
2- تصنيف غرر الحكم : ص 429 و 430 ط الأولى .
3- تصنيف غرر الحكم : ص 429 و 430 ط الأولى .
4- المستطرف : ج 1 ص 266 .

الإقتداء بالعلماء:

5 - مطالعة سیر الأخيار والنابغين للتعرف على عواقب الأمور وعمل الخير، بأن يلقّن نفسه ذلك في كل صغيرة وكبيرة .. وذلك بالتمعّن والتدبر في سيرة الرسول الأعظم وأهل بيته صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين والأخيار من أصحابه كعمّار بن ياسر وأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي والمقداد . . وكذلك سير العلماء الأعلام والتعرف على النقاط المشرقة في علاقاتهم الروحية وأعمالهم ومواقفهم وحسن معاشرتهم للناس الداعية إلى التلبس بالصفات الحسنة ومعالجة النفس من أشرارها وتعبّىء الإنسان علماً وبعد نظر في عواقب الأمور ونتائج الاختبار والعمل وفقها .

وأصحاب الرسول الأعظم صلّی الله علیه وسلم أو الأئمة علیه السلام المخلصون وعلماؤنا الأعلام قد تعلّموا من الرسول وأهل بيته صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين بعد النظر وحسن المعاشرة وعمل الخير والنظر في عواقب الأمور ولذلك عندما يدخل ضرار بن ضمرة على معاوية بعد وفاة أمير المؤمنين علیه السلام، قال معاوية لضرار صف لي علياً، فقال : اعفني من ذلك ، فقال معاوية أقسمت عليك لتصفنه لي، فقال ضرار : إن كان لا بد من ذلك فإنه كان والله بعيد المدى شديد القوى يقول فصلاً ويحكم عدلاً يتفجّر العلم من جوانبه وتنطق الحكمة من لسانه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل ووحشته، وكان غزير الدمعة طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما خشن ومن الطعام ما جشب وكان فينا كأحدنا يجيبنا إن سألناه، ويأتينا إذا دعوناه، ونحن والله مع قربنا منه وقربه منّا لا نكاد نكلّمه هيبة له، يعظّم أهل الدين ويحب المساكين لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله وأشهد بالله يا معاوية لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه قابضاً على لحيته الشريفة يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين وهو يقول إليك عني يا دنيا غرّي غيري، إليّ

ص: 208

تعرضت أم إليّ تشوقت هيهات هيهات فإنّي قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير، وخطرك كبير، وعيشك حقير ثم قال علیه اسلام آه آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق ثم بكى ضرار وبكى معاوية وقال رحم الله أبا الحسن كان والله كذلك .(1) .

الأسوة الحسنة:

قال تعالى :

{ولقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله والیوم الآخر}. (2).

والأسوة يعني القدوة من الإقتداء بسيرة أو فعل أو قول والإقتداء بأخلاق الرسول صلّی الله علیه وآله سلم النجاة من عذاب الآخرة وسير في طريق الكمال ونيل رضا الله تعالى ومن كان يريد النجاة من رذائل الأخلاق باتصافه بفضائلها عليه أن يتعرف على أخلاق الرسول الأعظم وأهل بيته المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وعلى حسن معاشرتهم للأهل والأصحاب وحتى الأعداء والإقتداء بسيرتهم لأنها من طرق علاج النفس ومداواتها من مساوئها. فقد وصف الله تعالى نبيه بالخلق العظيم {إِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ }. (3).

وهو الذي أقرّ على نفسه بأنه متمم الأخلاق، قال صلّی علی علیه وسلم :

«إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» .(4).

وهنا ننقل جملة من أحواله وخلقه صلّی علی علیه وسلم لنتأسی به صلّی الله علیه وسلم ونتجنب مساوىء الأخلاق .

ص: 209


1- راجع المجالس السنية : المجلس 183 ص104
2- سورة الأحزاب ؛ الآية : 21
3- سورة القلم ؛ الآية : 4
4- مجمع البيان : المجلد 5 ص500سورة القلم .

عن الإمام أمير المؤمنين علیه السلام قال :

«ما صافح رسول الله صلّی الله علیه وسلم أحداً قط فنزع يده من يده حتى يكون الرجل هو الذي ينزع يده .

وما فاوضه أحد قط في حاجة أو حديث فانصرف حتى يكون الرجل هو الذي ينصرف .

وما نازعه أحد الحديث فيسكت حتى يكون هو الذي يسكت .

وما رُئي مقدماً رجله بين يدي جليس له قط .

ولا خُيّر بين أمرين إلاّ أخذ بأشدهما، وما انتصر لنفسه منمظلمة حتى ينتهك محارم الله فيكون حينئذ غضبه الله تبارك وتعالى .

وما أكل متكئاً قط حتى فارق الدنيا .

وما سئل شيئاً قط فقال : لا ، وما ردّ سائل حاجة قط إلاّ بها أو بميسور من القول، وكان أخف الناس صلاة في تمام ، وكان أقصر الناس خطبة وأقلّهم هذراً.

وكان يُعرف بالريح الطيب إذا أقبل وكان إذا أكل مع القوم كان أول من يبدأ وآخر من يرفع يده وكان إذا أكل أكل مما يليه، فإذا كان الرطب والتمر جالت يده. (1)، وإذا شرب شرب ثلاثة أنفاس وكان يمص الماء مصّاً ولا يعبّه عبّاً، وكان يمينه لطعامه وشرابه وأخذه وإعطائه ، فكان لا يأخذ إلاّ ،بيمينه ولا يعطي إلاّ بيمينه، وكان شماله لما سوى ذلك من بدنه ،وكان يحب التيمّن في كل أُموره ... وكان يقول :

إن خياركم أحسنكم أخلاقاً، وكان لا يذم ذوّاقاً ولا يمدحه، ولا يتنازع أصحابه الحديث عنده وكان المحدّث عنه يقول : لم أر بعيني مثله قبله ولا بعده صلّی الله علیه واله وسلم» (2)

ص: 210


1- أي أخذ من كل جانب.
2- .مكارم الأخلاق : ص 23 ط 6 .

في مدرسة الرسول (صلّی الله علیه وآله ):

ولقد امتاز الرسول الأعظم صلّی الله علیه واله وسلم بحسن العشرة مع زوجاته وأهل بيته وأصحابه بل حتى مع أعدائه ومن الشواهد على ذلك :

قالت عائشة ما كان أحد أحسن خلقاً من رسول الله صلّی الله علیه واله وسلم ما دعاه أحد من أصحابه ولا أهل بيته إلاّ قال لبيك .(1)

ومما يشهد له بالفضل والعفو واللين ومحاسن الأخلاق المواقف التي وقفها الرسول الأعظم صلّی الله علیه واله وسلم من قريش وساداتها الذين لم يتركوا جهداً أو فعلاً أو قولاً في سبيل إيذاء النبي صلّی الله علیه واله وسلم وأصحابه، وعندما فتح مكة ودخلها نتصراً لم يرد الكيل بالكيل وإنما عفى عن القوم الظالمين وسطّر أروع العبر للأجيال القادمة ويومها دخل صناديد قريش الكعبة وهم يظنون أن السيف لا يرفع عنهم، فأتى رسول الله صلّی الله علیه واله وسلم البيت الحرام البيت الحرام وأخذ بعضادتي الباب وقال :

«لا إله إلا الله أنجز وعده ،ونصر عبده ،وغلب الأحزاب وحده ».

ثم قال : «ما تظنون؟ وما أنتم قائلون؟» فقال سهيل بن عمرو : نقول خيراً، ونظن خيراً، أخ كريم وابن عم، فقال رسول الله صلّی الله علیه واله وسلم:

«فإني أقول لكم كما قال أخي يوسف : لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ... ».

ثم قال قولته المشهورة : «فاذهبوا فأنتم الطلقاء» فخرج القوم كأنما أنشروا من القبور، ودخلوا في الإسلام . (2).

وهذه الأخلاق الرائعة الفاضلة في التعامل مع العدو والصديق كانت من

ص: 211


1- كحل البصر في سيرة سيد البشر صلّی الله علیه واله وسلم :ص94.
2- راجع البحار : ج 21 ص 132 باب فتح مكة ط بيروت .

أسباب انتشار الإسلام ورفع رايته على أنحاء المعمورة حيث بدأ أهل الأديان الأخرى يدخلون في دين الله لما رأوه من أخلاق النبي صلّی الله علیه واله وآله سلم الربانية .

نموذج آخر :

عن أمير المؤمنين علیهم السلام قال : إن يهودياً كان له على رسول الله صلّی الله علیه واله وسلم دنانير فتقاضاه، فقال له : يا يهودي ما عندي ما أعطيك . فقال : فإني لا أفارقك يا محمد حتى تقضيني، فقال : إذاً أجلس معك، فجلس معه حتى صلى في ذلك الموضع الظهر والعصر والمغرب والعشاء والآخرة والغداة، وكان أصحاب رسول الله صلّی الله علیه واله وسلم يتهدّدونه ويتواعدونه، فنظر رسول الله صلّی الله علیه واله وسلم إليهم فقال : ما الذي تصنعون به؟ فقالوا يا رسول الله يهودي يحبسك ؟ فقال صلّی الله علیه واله وسلم: لم يبعثني ربي عزّ وجلّ بأن أظلم معاهداً ولا غيره، فلما علا النهار قال اليهودي : أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً ورسوله، وشطر مالي في سبيل الله .. . » (1)

فمن كان يريد أن يحسّن خلقه فليتمعّن فيما نقلناه من جملة أحواله وأخلاقه فهي من أفضل المكارم وأزينها وهذا ما حكم به العقل أيضاً لما فيها من صلاح ونجاح في الحياة ومن يريد التيقن أكثر فعليه بالتجربة فكلا الطريقين قد صارا واضحين - الخلق الحسن والسيّىء - بما قدمناه من بيان سابق وتذكّر أحوال الموصوفين بسوء الخلق فهم بعيدون عن الله تعالى وعن رحمته والناس يبغضونهم ويشمئزون منهم وأعمالهم في النتيجة فاشلة والله تعالى يأبى لهذا الإنسان قبول توبته .

قال رسول الله صلّی الله علیه واله وسلم:

«أبى الله لصاحب الخلق السيّىء بالتوبة فقيل : يا رسول الله وكيف

ص: 212


1- البحار : ج 16 ص 216 باب 9 ح 5 ط بیروت .

ذلك؟ قال : لأنه إذا تاب من ذنب وقع في أعظم من الذنب الذي تاب منه» . (1).

وأما صاحب الخلق الحسن فعكس ذلك فهو محبوب عند الله تعالى وعند الناس وتوبته أيضاً مقبولة ..ولا يفوتنا هنا أن نذكر أهل البيت علیهم السلام فهم امتداد طبيعي لأخلاق الرسول الأعظم صلّی الله علیه واله وسلم والمنهل العذب لمن أراد الفضائل ومكارم الأخلاق والعلاج الشافي للقلوب وخصوصاً وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلميذه الأكبر أمير المؤمنين علیه السلام.

قال الإمام الباقر علیه السلام :« إن علياً علیه السلام صاحب رجلاً ذمّياً، فقال له الذمّي : أين تريد يا عبد الله ؟

قال : أُريد الكوفة، فلما عدل الطريق بالذمّي عدل معه علي، فقال له الذمي : أليس زعمت تريد الكوفة ؟

قال : بلى، فقال له الذمّي : فقد تركت الطريق، فقال : قد علمت، فقال له : فلم عدلت معي وقد علمت ذلك ؟

فقال له علي علیه السلام : هذا من تمام حسن الصحبة أن يشيّع الرجل صاحبه هنيئة إذا فارقه وكذلك أمرنا نبينا فقال له : هكذا قال ؟

قال : نعم ، فقال له الذمّي : لا جرم إنما تبعه من تبعه لأفعاله الكريمة، وأنا أشهدك أنّي على دينك، فرجع الذمّي مع علي علیه السلام فلما عرفه أسلم». (2).

ص: 213


1- البحار : ج 70 ص 299 باب سوء الخلق ح12
2- البحار : ج 41 ص 53 باب 104 ح 5 ط بیروت .

ص: 214

11-الصدقَةُوَدَورُهَا في مَصيرٍ الأنسانٍ

اشارة

ص: 215

ص: 216

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) لعلي (علیه السلام) :

يا علي الصدقة ترد القضاء الذي قد أُبرم إبراماً» .(1).

مفاهيم الصدقة:

للصدقة تعريف وأحكام ذكرها الفقهاء في الكتب الفقهية ومن جملة أحكامها بالمعنى الأعم أنها : عقد يفتقر إلى إيجاب وقبول وإقباض بإذن

المتصدق . .ومن أحكامها نيّة القربة إلى الله تعالى ولا تصح بدون القربة وزكاة الأموال وزكاة الفطرة محرّمة على بني هاشم إلاّ صدقة الهاشمي على الهاشمي أو صدقة غيره عند الاضطرار أو المستحب من الصدقات كالنذر فإنها غير محرّمة على بني هاشم لأن من علل تحريم الصدقة على بني هاشم أنهم اختصّوا بالخمس .

وصدقة السر أفضل من الجهر إلاّ أن يتّهم الشخص بتركها فيظهرها دفعاً للتهمة .(2)

وللصدقة أيضاً مصداق ظاهر معروف وهو أن يعطي الإنسان للفقير درهماً مثلاً. . وهناك مصاديق أُخرى للصدقة ربما تكون أهم من الأولى وأقوى أثراً وهي كل معروف يعمله الإنسان صدقة وهذا ما يستفاد من

ص: 217


1- كلمة الرسول الأعظم صلّی الله علیه واله وسلم: ص 162 .
2- راجع شرح اللمعة الدمشقية : كتاب العطية وكذلك شرائع الإسلام . 217

الأحاديث الشريفة إذ إن الصدقة أوسع وتشمل كل معروف ولعله بمعنى كل خير يفاض من قبل الفرد على الاخرين وقد ورد عن رسول الله صلّی الله علیه واله وسلم:

«کل معروف صدقة والدال على الخير كفاعله والله يحب إغاثة اللهفان» .(1).

وعنه صلّی علی علیه واله وسلم أيضاً : «إن على كل مسلم في كل صدقة .

قيل : من يطيق ذلك ؟

قال صلّی علی علیه واله وسلم: إماطتك الأذى عن الطريق صدقة وإرشادك الرجل إلى الطريق صدقة، وعيادتك المريض صدقة وأمرك بالمعروف صدقة، ونهيك عن المنكر صدقة، وردّك السلام صدقة» .(2) .

وقد وردت صور عديدة للصدقة بمفهومها الواسع في الأحاديث الشريفة نذكر بعضها .

نماذج للصدقة:

المصاديق التي تدخل تحت مفهوم الصدقة الواسع والتي تعني كل معروف وعمل خير فيه نفع للآخرين عديدة وقد استقينا بعضها من الأحاديث الشريفة الواردة عن رسول الله صلّی الله علیه واله وسلم والأئمة المعصومين علیهم السلام :

1 - النهي عن المنكر صدقة : فكل منكر مثل شرب الخمر أو الزنا وما شابه من المحرمات يرتكبه أحد أقربائك أو أصدقائك أو من تتمكن من التأثير عليه وعرفت بأن فعله منكر ونهيت عنه بإظهار مساوئه أو مفاسده الدنيوية والأخروية لفاعل المنكر فهو عمل بالمعروف ويحسب لك صدقة تثاب عليها

قال رسول الله صلّی الله علیه واله وسلم: ونهيك عن المنكر صدقة» .(3) .

ص: 218


1- سفينة البحار : ج 2 ص 24 باب الصاد بعده الدال
2- البحار : ج 72 ص 50 باب 41 ح 4 ط بیروت .
3- البحار : ج 72 ص 50 باب 41 ح 4 ط بیروت .

2 - رد السلام صدقة : التحية في الإسلام هي« السلام عليكم» ورد التحية أيضاً صدقة لأنها مقابلة الود بالود وتزيد من أواصر المحبة في المجتمع وتدعو بهذه الكلمة إلى السلام والوئام بالإضافة إلى الثواب الذي تحصل عليه من ردّ السلام قال تعالى :

{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}.(1).

وقال الإمام الصادق علیهم السلام:

«السلام تحية لملّتنا وأمان لذمتنا».(2) .

3 - إماطة الأذى عن الطريق صدقة : الإنسان عندما يسير في طريق ما ويجد أمامه حجراً أو زجاجة مكسورة أو قشور الفواكه وما شابه عليه إماطتها عن الطريق لئلا تسبب إيذاء الآخرين قد يأتي شخص ضرير أو شيخ مسن أو طفل أو ماش غير منتبه ويتضرر بهذا الحجر أو الزجاجة فرفعك هذه الأشياء عن الطريق أيضاً صدقة وفعل خير وعلى الإنسان دائماً الانتباه لحركاته في الطريق وأن لا يلقي في وسطه ما يؤذي الناس

قال رسول الله صلّی الله علیه واله وسلم: «إماطتك الأذى عن الطريق صدقة» .(3).

4 - إرشادك الرجل إلى الطريق صدقة : فلو كان هناك شخص ضرير فمن المعروف الأخذ بيده إلى ضالته، ولو كان هناك شخص ضال فمن المعروف أيضاً إرشاده إلى جهته وهكذا في مساعدة الأطفال في عبورهم من جانب الطريق إلى الجانب الآخر فكل ذلك من المعروف .قال رسول الله صلّی الله علیه واله وسلم: «وإرشادك الرجل إلى الطريق صدقة» .(4) .

ص: 219


1- سورة النساء ؛ الآية : 86 .
2- البحار : ج 73 ص 12 باب 97 ح 46 ط بيروت .
3- البحار : ج 72 ص 50 باب 41 ح 4 .
4- البحار : ج 72 ص 50 باب 41 ح 4 .

5 - عيادتك المريض صدقة : زيارة المريض وعيادته من الأعمال التي تزيد في الروابط الاجتماعية وتقلل من معاناة المريض .

قال الإمام الصادق علیهم السلام : «من عاد مريضاً شيّعه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يرجع إلى منزله» .(1).

6 - تعليم الناس وإسداء النصيحة لهم صدقة :

قال رسول الله صلّی الله علیه واله وسلم: «تصدقوا على أخيكم بعلم يرشده ورأي يسدّده» .(2).

7- الإصلاح بين الناس صدقة : من الأمور المهمة في المجتمع أن يصلح الإنسان بين أصدقائه وإخوانه إذا تباعدوا وأن يقرّب بينهم مهما استطاع لأن في الإصلاح خير وفائدة عظيمة الأثر للمجتمع وفي التباعد الفرقة والتشتت .

قال رسول الله صلّی الله علیه واله وسلم: «صدقة يحبّها الله إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا، وتقريب بينهم إذا تباعدوا» .(3) .

8 - الكلمة الطيبة صدقة : الكلمة لها أثر واضح في قلوب الناس كما لها الأثر الواضح في تغيير الأفكار والإتجاهات وما شابه، فتكلمك مع الناس بكلام ليّن وطيّب مريح هو خير وصدقة تحسب لك .

قال رسول الله صلّی الله علیه واله وسلم: «الكلمة الطيبة صدقة وكل خطوة تخطوها إلى الصَّلاة صدقة ».(4).

وهناك أيضاً صور أخرى عديدة منها طلب الرزق الحلال للأهل صدقة

ص: 220


1- وسائل الشيعة : ج 2 ص 634 باب 10 ح 2 ط بیروت .
2- تنبيه الخواطر : ص 316 .
3- البحار : ج 73 ص 44 باب 101ح4 ط بیروت .
4- البحار : ج 80 ص 369 باب 30 ح 30 ط بیروت .

وغيرة المرء على عرضه صدقة وإعطاء الفقير مبلغاً من المال أو حاجة يتستر بها على نفسه وخدمة الناس و . . . صدقة، وأفضل الصدقة صدقة اللسان.

قال رسول الله صلّی الله علیه واله وسلم: «أفضل الصدقة صدقة اللسان تحقن به الدماء، وتدفع به الكريهة وتجرّ المنفعة إلى أخيك المسلم» .(1).

ولو تأملنا في هذه الأعمال جميعها نراها تنطبق على الإنسان المؤمن الذي صدّق بالله تعالى واليوم الآخر وكأن الكلمة مأخوذة من التصديق أو من صدق بالله تعالى واليوم الآخر وبعكس من لا يؤمن بالله تعالى واليوم الآخر فإنه لا محرّك له إلى هذه الأعمال - عادة - وإن صدرت منه فإنها تصدر لمصلحة شخصية لا ينظر من ورائها القرب إلى الله تعالى أو مصلحة الآخرين. وللصدقة فوائد أخرى مهمة ترتبط بحياة الإنسان ومصيره ففي بعض الأخبار أن الصدقة ترد القضاء أو النجاة من سوء القضاء، كما قال رسول الله صلّی الله علیه واله وسلم في وصيته للإمام أمير المؤمنين علیه السلام :

الصدقة ترد القضاء الذي أبرم إبراماً»

فما هو القضاء الذي تردّه الصدقة؟

معاني القضاء والقدر:

القضاء والقدر يطلق في القرآن الحكيم والسنة واللغة على معان عديدة فالقضاء يعني :

1 - القضاء بمعنى الخلق والإتمام كقوله تعالى : {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ}. (2)أي خلقهن وأتمّهنّ .

2 - القضاء بمعنى الحكم والإيجاب كقوله تعالى : {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا

ص: 221


1- البحار : ج 72 ص 373 باب 82 ح 24 ط بیروت
2- سورة فصّلت ؛ الآية : 12 .

تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}.(1) أي أوجب وألزم .

3 - القضاء بمعنى الإعلام والإخبار كقوله تعالى : {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ} (2) (2)أي أعلمناهم وأخبرناهم .

وأما القدر فقد جاء بمعان عديدة أيضاً منها :

1 - القدر بمعنى الخلق كقوله تعالى :{وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} .(3) .

2 - القدر بمعنى الكتابة والإخبار كقول الشاعر :

واعلم بأن ذا الجلال قد قدّر*** في الصحف الأولى التي كان سطر

3- القدر بمعنى البيان كما في قوله تعالى : {إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ}.(4)أي بيّنا وأخبرنا بذلك.

4 - القدر بمعنى وضع الأشياء في مواضعها من غير زيادة فيها ولا نقصان كما في قوله تعالى :

{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا}. (5).

وإذا عرفت ما تقدم من معاني القضاء والقدر فأفعال العباد جميعها واقعة بقضاء الله وقدره فبأي معنى من المعاني المتقدمة واقعة ؟

إذا قلنا إن أفعال العباد واقعة بالمعنى الأول وهو خلق الفعل فهو غير صحيح من وجوه :

الأول : إن الوجدان يكذّب ذلك .. لأن الإنسان هو الذي يفعل ولا يفعل .

ص: 222


1- سورة الإسراء ؛ الآية : 23 .
2- سورة الإسراء ؛ الآية : 4 .
3- سورة فصّلت ؛ الآية : 10 .
4- سورة النمل ؛ الآية : 57 .
5- سورة الرعد ؛ الآية : 17 .

الثاني : يلزم من خلق الفعل أن نكون مجبورين على المعصية لأن الله تعالى أراد لعياذ بالله - وسقط العقاب عن المعصية والثواب على الطاعة إذ إن شارب الخمر أو الزاني. .لم يرتكب هذا العمل بإرادته وإنما هو مجبور عليها والمصلي والصائم وفاعل الخير. . مجبور على الفعل وليس بإرادته فيسقط عن العاصي العقاب وعن الطائع الثواب . .

وإذا قلنا بالمعنى الثاني - أي الوجوب والإلزام - فإنه لا یصح الا في الأحكام الواجبة، كالصَّلاة والصوم. . وفي المحرمات والمكروهات والمستحبات والمباحات لا يصح هذا المعنى لأنها أيضاً أحكام والعبد مكلّف بفعلها على نحو الترك أو الإيجاد .

فلم يبق إلاّ المعنى الثالث وهو البيان والإعلام والكتابة أي إنّ الله تعالى كتب أفعال العباد في اللوح المحفوظ وبينها وأعلمها للملائكة وعلى هذا المعنى الأخير ينطبق وجوب الرضا بالقضاء والقدر الإلهي .

قال المحقق الخواجه نصير الدين الطوسي في التجريد : «والقضاء والقدر إن أريد بهما خلق الفعل لزم المحال أو الإلزام صح في الواجب خاصة أو الإعلام صح مطلقاً» .(1).

القضاء والقدر .. عند أمير المؤمنين (علیه السلام ):

ولقد بيّن الإمام أمير المؤمنين علیه السلام القضاء والقدر وشرحهما شرحاً وافياً «في حديث الأصبغ بن نباتة لمّا انصرف من صفين فإنه قام إليه شيخ فقال : أخبرنا يا أمير المؤمنين عن مسيرنا إلى الشام أكان بقضاء الله تعالى وقدره . فقال أمير المؤمنين علیه السلام :

ص: 223


1- للمزيد راجع كشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد : ص 341 المسألة الثامنة، وراجع حق اليقين في معرفة أصول الدين ج 1 ص 60 .

والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما وطأنا موطئاً ولا هبطنا وادياً ولا علونا تلعة إلاّ بقضائه وقدره.

فقال له الشيخ : عند الله أحتسب عنائي ما أرى لي من الأجر شيئاً، فقال له الإمام أمير المؤمنين علیه السلام:

مه - يعني إصبر - أيها الشيخ بل عظّم الله أجركم في مسيركم وأنتم سائرون وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليها مضطرين .

فقال الشيخ : كيف والقضاء والقدر ساقنا .

فقال علیه السلام : ويحك لعلك ظننت قضاءاً لازماً وقدراً حتماً، لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والوعد والوعيد والأمر والنهي ولم تأتِ لائمة الله لمذنب ولا محمدة لمحسن ولم يكن المحسن أولى بالمدح من المسيء ولا المسيء أولى بالذم من المحسن تلك مقالة عبدة الأوثان وجنود الشيطان وشهود الزور وأهل العمى عن الصواب وهم قدرية هذه الأمة ومجوسها

إن الله تعالى أمر تخييراً ونهى تحذيراً وكلّف يسيراً، لم يعص مغلوباً ولم يطع مكرهاً، ولم يرسل الرسل عبثاً ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار .

فقال الشيخ : وما القضاء والقدر اللذان ما سرنا إلاّ بهما .

فقال الإمام علیه السلام : هو الأمر من الله تعالى والحكم وتلا قوله تعالى : {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ و}.(1).

فنهض الشيخ مسروراً وهو يقول :

«أنت الإمام الذي نرجو بطاعته*** يوم النشور من الرّحمن رضوانا

ص: 224


1- سورة الإسراء ؛ الآية : 23 .

أوضحت من ديننا ما كان ملتبساً ***جزاك ربك عنا منه إحسانا».(1)

فإذا عرفت القضاء والقدر وهو أمر الله تعالى وحكمه فكيف تردّ الصدقة هذا القضاء والقدر وقد أبرم إبراماً؟

يمحو الله ما يشاء ويثبت:

في معرض الإجابة على هذا السؤال نحتاج إلى بيان أمر مهم وهوأن القضاء والقدر نوعان منه ما هو محتوم ومنه ما هو غير محتوم وبتعبير آخر إن هناك أجل وتقدير لحياته محتوم ومقطوع به لا خلاص منه كما في قوله تعالى :

{فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}.(2).

وأجل أو تقدير معلّق منوط ببعض الأعمال فإن عملها ارتفع عنه هذا المصير وإلاّ فإن القضاء متوجه إليه آخذ به .

قال تعالى :{ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ *يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } .(3).

ومن الأعمال الصدقة وصلة الرحم وعمل المعروف .. وكل ذلك الكلام ورد في الآيات القرآنية وأخبار الأئمة المعصومين علیه السلام وقد جاء عن السيد عبد الله شبر في كتابه حق اليقين :

«قد ورد في الآيات القرآنية والأخبار المعصومية أن الله تعالى لوحين أثبت فيهما ما يحدث من الكائنات أحدهما اللوح المحفوظ الذي لا تغيير فيه أصلاً وهو مطابق لعلمه تعالى والآخر لوح المحو والإثبات فيثبت فيه شيئاً ثم

ص: 225


1- الكافي : ج 1 ص 155 باب الجبر والقدر ح 1 ط 3 بتصرف .
2- سورة الأعراف ؛ الآية : 34 ، وسورة النحل ؛ الآية : 61 .
3- سورة الرعد ؛ الآيتان : 38 و 39 .

يمحوه لحكم كثيرة ولا تخفى على أولي الألباب مثلاً يكتب فيه أن عُمْر زيد خمسون سنة ومعناه أن مقتضى الحكمة أن يكون عمره كذا إذا لم يفعل ما يقتضي طوله أو قصره فإذا وصل الرحم - أو تصدق - مثلاً يمحو الخمسين ويكتب مكانه ستين وإذا قطعها يكتب مكانه أربعين وفي اللوح المحفوظ أنه يصل وعمره ستون كما أن الطبيب الحاذق إذا اطلع على مزاج شخص يحكم بأن عمره بحسب هذا المزاج ستين سنة فإذا شرب سماً ومات أو قتله إنسان فنقص من ذلك أو استعمل دواء قوى مزاجه فزاد عليه لم يخالف قول الطبيب والتغيير الواقع في هذا اللوح سمي بالبداء . . ».(1) .

ولعل الحكمة من وجود اللوح الثاني أو البداء هو دفع الناس إلى الأعمال الحسنة وصلاح أمورهم وابتعاد الناس عن الأعمال السيئة لتأثيرها السيىء عليهم فيكون العمل الصالح والإندفاع نحو الخيرات غاية الإنسان .

ومن الآيات الدالة على الأجل المحتوم وغير المحتوم قوله تعالى : {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ }.(2).

فمرة عبّر عن القضاء والقدر بالأجل من دون أي قيد إضافي وأُخرى عبّر عنه بالأجل المسمى أي الأجل المعين فإن الأجل المسمى هو الأجل المحتوم أو المقطوع المذكور في اللوح المحفوظ الذي لا يطلع عليه أحد إلاّ الله تعالى ولا يقبل التغيير والتبديل كما ورد في الأحاديث الشريفة : (عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله الصادق علیه السلام في قوله تعالى { ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ } قال :

الأجل الذي غير مسمى موقوف يقدّم منه ما شاء ويؤخّر منه ما يشاء، وأما الأجل المسمى فهو الذي ينزل مما يريد أن يكون من ليلة القدر إلى مثلها

ص: 226


1- حق اليقين في معرفة أصول الدين : ج 1 ص 78 .
2- سورة الأنعام ؛ الآية : 2 .

من قابل، وذلك قول الله {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ }.(1).

( وعن حمران قال : سألت أبا عبد الله علیه السلام عن قول الله تعالى : { ثُمَّ قضی أجل مسمی عمده}قال : فقال : هما أجلان : أجل موقوف يصنع الله ما يشاء، وأجل محتوم). (2).

فالأجل المسمى عند الله تعالى هو الأجل المحتوم والذي يسمّى في ليلة القدر من كل سنة .

والأجل الآخر هو الموقوف أو غير المسمى يتقدم ويتأخر حسب أعمال الإنسان وتصرفاته تجاه نفسه أو تجاه الآخرين فمثلاً قطع الرحم أو عدم الدعاء أو عدم التصدّق قد يقدم في أجل الإنسان بينما صلة الرحم أو الدعاء أو التصدّق قد تؤدي إلى تأخير أجله .. وفي قصة النبي يونس علیه السلام وقومه بعد أن نزل عليهم العذاب بدعاء يونس علیه السلام - وكان أجلاً غير محتوم فرفع عنهم بعد أن أشار عليهم عالم عابد من بينهم بالدعاء والتضرع إلى الله تعالى بعدما كان الفزع قريباً منهم - دلالة على ذلك .

لقمة بلقمة:

وهناك شواهد عديدة على الأجل غير المحتوم نذكر منها :

في تاريخ ابن النجار عن وهب بن منبّه قال :

«بينما امرأة من بني إسرائيل على ساحل البحر تغسل ثيابها وصبي لها يلعب بين يديها إذ جاء سائل فأعطته لقمة من رغيف كان معها فما كان بأسرع من أن جاء ذئب فالتقم الصبي فجعلت تعدو خلفه وهي تقول يا ذئب ابني يا ذئب ابني !!

ص: 227


1- البحار : ج 4 ص 116 باب 3 ح 44 .
2- المصدر نفسه : ح 46 .

فبعث الله ملكاً انتزع الصبي من فم الذئب ورمى به إليها وقال لقمة بلقمة» . (1).

الإشارة بالتصدق :

وعن الإمام الباقر السلام علیه السلام قال :

«عبد الله عابد ثمانين سنة ثم أشرف على امرأة فوقعت في نفسه فنزل إليها فراودها عن نفسها فطاوعته فلما قضى منها حاجته طرقه ملك الموت فاعتقل لسانه فمرّ سائل فأشار إليه أن خذ رغيفاً كان في كسائه فأحبط الله عمل ثمانين سنة بتلك الزنية وغفر الله له بذلك الرغيف» .(2)

ولذا فإن الإشارة إلى أخذ الرغيف أو إلى فعل الخير قد تكون سبباً للمغفرة والرحمة ورفع الأجل غير المحتوم .

أبرم إبراماً :

وقول الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم في وصيته لأمير المؤمنين علیه السلام «الصدقة ترد القضاء الذي قد أُبرم إبراماً» فلعل مراد الرسول الأعظم صلّی علی علیه وآله وسلم من أبرم إبراماً أي قرر قراراً واستحكمت حلقاته وتوفرت فيه المقتضيات 99٪ مثلاً ولكن لم يصل إلى درجة الأجل الحتمي الذي هو 100٪ مثل الناس الذين عاشوا تحت الأنقاض أياماً بسبب ( زلزلة) أو عاصفة شديدة أو طوفان الماء فإن هؤلاء المقتضي لموتهم كان 80٪ أو %90٪ أو 100% ولكن دفع ذلك عنهم مع استحكام حلقاته بسبب من الأسباب كصلة الرحم أو الدعاء أو الصدقة أو معروف كان قد أسداه الإنسان في يوم من الأيام لأحد إخوانه، وقال الشاعر :

ص: 228


1- سفينة البحار : ج 2 ص 23 باب الصاد بعده الدال .
2- نفس المصدر : ص 24

ولربّ نازلة يضيق بها الفتى ***ضرعاً وعند الله فيها المخرج

ضاقت فلما استحكمت حلقاتها ***فرجت وكان يظنّها لا تفرج

النجاة من المأزق:

ورد عن الإمام الصادق علیه السلام أنه كان في سفر، وكان معه في القافلة تجار ،ومعهم بضائع، وعلموا أنّ أمامهم في الطريق لصوص، فخافوا وأخذوا يتداولون مع الإمام عليه السلام في كيفية النجاة من المأزق

فرأى أحدهم أن يدفن البضائع .

فقال علیه السلام : ربما لا تهتدون إليها بعد ذلك .

وقال آخر : ندّعي أنها لك يا أبا عبد الله !!

فقال علیهم السلام : ربما يكون ذلك أدعى لسلبها .

فقالوا : أجل ما نصنع بها ؟.

فأشار عليهم الإمام علیم السلام أن يودعوها عند الله جلّ جلاله على أن يتصدقوا بنسبة منها، ففعلوا ذلك، ومرّوا باللصوص فلم يتعرضوا لهم.(1).

الصدقة الجارية:

ومن الأبعاد المهمة لفرض الصدقة هي إيجاد علائق اجتماعية من تكفّل بعض أبناء المجتمع المتمكنين في بناء المستشفيات الخيرية ودور الأيتام والعجزة وإنشاء المؤسسات العلمية والدينية والمطابع ودور النشر لغرض نشر العلم بين أوساط الفقراء وكما أن الدواء وإيواء اليتامى إنقاذ لجسد الإنسان فإن في دعم المؤسسات إنقاذاً لروح الإنسان وإغناء لها بالعلم

ص: 229


1- راجع البحار : ج 93 ص 120 باب 14 ح 23 .

وإبعاداً لها عن الجهل ولو انتشرت هكذا أعمال خيرية في المجتمع لحققنا مسألة مهمة دعى لها الإسلام، وفرض من أجلها الزكاة والخمس وهي التكافل الاجتماعي، بل إن الإسلام لا يلاحظ الفرد المسلم وحده في العطية والفائدة بل حتى أهل الذمة لهم الحق في العناية والتصدّق

مرّ شيخ مكفوف كبير يسأل فقال أمير المؤمنين علیه السلام : ما هذا ؟ فقالوا : يا أمير المؤمنين إنه نصراني، فقال أمير المؤمنين : استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه؟ أنفقوا عليه من بيت المال ، فأجرى عليه راتباً من خزانة الدولة .(1) .

ولا شك أن في إرساء المشاريع الخيرية صدقة جارية تستفيد منها الأجيال القادمة وهذا العمل يبقى أثره الوضعي حتى بعد وفاة الإنسان .

عن بريد العجلي قال : «سمعت أبا جعفر علیه السلام يقول :

إن بقاء المسلمين وبقاء الإسلام أن تصير الأموال عند من يعرف فيها الحق ويصنع فيها المعروف».(2) .

وجاء عن رسول الله صلّی علی علیه وآله وسلم .

«خمسة في قبورهم وثوابهم يجري إلى ديوانهم :

من غرس نخلاً، ومن حفر بئراً، ومن بنى الله مسجداً، ومن كتب مصحفاً، ومن خلف ابناً صالحاً».(3) .

والفوائد التي تعود على الفرد المتصدّق أيضاً عديدة نذكر هنا بعضها بمراجعة بعض الأحاديث الشريفة :

ص: 230


1- التوجيه الديني : ص 81 ط بیروت .
2- مستدرك الوسائل : ج 12 ص 339 باب 1 ح 1 .
3- مستدرك الوسائل : ج 12 ص 230 باب 15 ح 5 .

قال رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم:

«تصدقوا ولو بتمرة فإنها تسدّ من الجائع وتطفي الخطيئة كما يطفي الماء النار» . (1).

وقال صلّی الله علیه وآله وسلم : «صدقة السر تطفي غضب الرب عزّ وجلّ» . (2).

وقال الإمام الباقرعلیه السلام :

«البرّ والصدقة ينفيان الفقر ويزيدان في العمر، ويدفعان عن صاحبهما سبعين ميتة سوء» .(3).

وقال الإمام الصادق علیه السلام :

«داووا مرضاكم بالصدقة . . » . (4).

وقال الإمام الباقر علیه السلام : «تصدّق بشيء عند البكور فإن البلاء لا يتخطى الصدقة» (ه) (5).

وبناءاً على ما تقدم من معاني الصدقة وشموليتها لكل معروف وبيان القضاء والقدر وأن التقدير الإلهي يقبل التغيير والتبديل في الأجل غير المحتوم نعرف مدى ارتباط الدعاء أو الصدقة أو الإحسان أو صلة الرحم في تغییر قسم كبير من مقدراتنا وأن هذا التغيير أيضاً يكون من قضاء الله تعالى فإنه هو الذي قدّر لنا أنا إذا أقبلنا إليه ودعوناه، وتقدمنا إليه بعمل صالح أو صدقة غيّر لنا مقدراتنا وبدل لنا مصائرنا فالفائدة الأولى من الصدقة والعمل الصالح تعود على أنفسنا شخصياً برد القضاء السيّىء والفائدة الثانية تعود على الجميع وعلى المجتمع بالذات من العمل الصالح نفسه وذلك بفعل المعروف .

ص: 231


1- جامع السعادات : ج 2 ص 149 .
2- البحار : ج 93 ص 130 باب 14 ح 55.
3- البحار : ج 93 صر 119 باب 14 ح 17 .
4- البحار : ج9ص118باب 14 ح13.
5- البحار : ج 93 ص 129 باب 14 ح 53.

و تبديل مصير المجتمع ككل إلى الأحسن بعد أن يغيّر الناس ما بأنفسهم من سوء إلى عمل صالح.

قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}.(1) فإن ما نراه من الظلم وكثرة الأموات بل موت الفجأة والحروب الطاحنة فهي من جرّاء عملنا الطالح بل إن الأعمال الفاسدة والسيئة تقدّم أجل الإنسان كما مرّ ذكره . .

ص: 232


1- سورة الرعد ؛ الآية : 11 .

12-أَهلُ اليفينٍ سماتُ ومَعالٍمُ

اشارة

ص: 233

ص: 234

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) لعلى (علیه السلام ) :

«يا علي إن من اليقين ألا ترضي أحداً بسخط الله، ولا تحمد أحداً على ما آتاك الله، ولا تذم أحداً على ما لم یُؤتك الله، فإن الرزق لا يجرّه حرص حريص ولا يصرفه كراهة كاره إن الله بحكمته وفضله جعل الرّوْحَ والفَرَحَ في اليقين والرضى، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط ». (1)

اليقين والإيمان:

اليقين مرتبة رفيعة من مراتب الإيمان وإذا وصل الإنسان إلى هذه المرتبة علم واستيقن حقائق الأمور وأن كلّ شيء مرتبط بالله تعالى، وأن الله الأول والآخر والظاهر والباطن عن الوشّاء عن ابي الحسن علیه السلام قال : سمعته يقول : الإيمان فوق الإسلام بدرجة والتقوى فوق الإيمان بدرجة، واليقين فوق التقوى بدرجة وما قسّم في الناس شيء أقل من اليقين».(2).

وعن أبي جعفرعلیه السلام قال : «بينا رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم في بعض أسفاره إذ

ص: 235


1- تحف العقول : ص 13 .
2- أصول الكافي : ج 2 ص 51 باب فضل الإيمان حديث 2 .

لقيه ركب فقالوا السلام عليك يا رسول الله ، فقال : ما أنتم؟ فقالوا : نحن مؤمنون یا رسول الله قال فما حقيقة إيمانكم؟ قالوا الرضا بقضاء الله والتفويض إلى الله والتسليم لأمر الله فقال رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم علماء حكماء كادوا أن يكونوا من الحكمة أنبياء، فإن كنتم صادقين فلا تبنوا ما لا تسكنون ولا تجمعوا ما لا تأكلون واتقوا الله الذي إليه ترجعون» .(1)ومن ملامح وصول صفة اليقين إلى القلب ما ذكره الرسول الأعظم صلّی علی علیه وآله وسلم في حديثه الشريف :

1 - أن لا ترضي أحداً بسخط الله تعالى . . .

2 - ولا تحمد أحداً على ما آتاك الله تعالى . . .

3 - ولا تذم أحداً على ما لم يؤتك الله تعالى. . .

وسنشير إلى بعض هذه الملامح بحسب ما يسمح به المجال

الرضا بالقضاء . . من اليقين:

من الأعمال التي يختص بها المؤمن الذي وصل إلى درجة اليقين أن يعلم أن كل الأمور بيد الله تعالى ويرضى بقضاء الله تعالى ويصبر في الشدائد لغرض نيل رضا الله تعالى ويكون الهدف من جميع أعماله الجارحية والجانحية رضا الباري عزّ وجلّ عن هشام بن سالم قال : «سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول : إن العمل الدائم القليل على اليقين أفضل عند الله من العمل الكثير على غير يقين» .(2).

كما أن حدّ اليقين أن لا تخاف مع الله شيئاً وأن تتيقَّن أن الضار النافع هوالله تعالى، ولذا فإنّ المؤمن الذي تيقن بحقيقة الأمور لا يبيع دينه من أجل أن يرضى عنه فلان أو فلان فهو لا يضرّه في طلب رضا الله تعالیٰ سخط الناس لعلمه بأن الطاعة وقبول الأعمال من الله تعالى .

ص: 236


1- أُصول الكافي : ج 2 ص 53 باب حقيقة الإيمان واليقين حديث 1 .
2- المصدر نفسه ص 57 باب فضل اليقين حديث 3 .

ولذلك أسقط التأريخ أغلب الشخصيات التي كانت تتظاهر بالإسلام وكانت أعمالهم ذنوباً واحياناً جرائم لأجل إرضاء أهوائهم ومصالحهم أو إرضاء السلطان. وفي الحديث الشريف : «من طلب رضا الناس بسخط الله جعل الله حامده ذاماً» . (1)وقال رسول الله صلّی علی علیه وآله وسلم: «من أرضى سلطاناً بسخط الله خرج من دين الله».(2).

وجدان معذب:

جاء في كتاب عيون أخبار الرضا أن حميد بن قحطبة الطائي الطوسي قال : طلبني الرشيد في بعض الليل وقال لي فيما قال : خذ هذا السيف، وامتثل ما يأمرك به الخادم، فجاء الخادم إلى دار مغلقة، ففتحها وإذا فيها ثلاثة بيوت وبئر ففتح البيت الأول ، وأخرج منه عشرين نفساً عليهم الشعور والذوائب، وفيهم الشيوخ والكهول والشبان وهم مقيدون بالسلاسل والأغلال وقال لي : يقول لك أمير المؤمنين اقتل هؤلاء، وكانوا كلهم من ولد علي وفاطمة فقتلتهم الواحد بعد الواحد والخادم يرمي بأجسامهم ورؤوسهم في البئر ، ثم فتح البيت الثاني، وإذا فيه أيضاً عشرون من نسل علي وفاطمة، وكان مصيرهم كمصير الذين كانوا في البيت الأول، ثم فتح البيت الثالث، وإذا فيه عشرون فألحقتهم بمن مضى وبقي منهم شيخ، وهو الأخير ، فقال : تباً لك يا ميشوم أي عذر لك يوم القيامة عند جدنا رسول الله .. فارتعشت يدي وارتعدت فرائصي، فنظر إلي الخادم مغضباً، وهددني فقتلت الشيخ ورمى به في البئر فإذا كان فعلي هذا وقتلت ستين نفساً من ولد رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم فما ينفعني صومي وصلاتي وأنا لا أشك أني مخلّد في النار (3) ولذا فإن من يخاف السلطان أو أعوانه ولا يخاف الله تعالى

ص: 237


1- أُصول الكافي ج 2 ص 372 باب من أطاع المخلوق. . . حدیث 1 .
2- المصدر نفسه : ص 273 حدیث 5 .
3- عيون أخبار الرضا : ج 1 ص 90 باب 9 حدیث 1 - بتصرف - ط. النجف

تكون أعماله في إرضاء الآخرين وتقرباً لهم وبذلك يكون قد ارتكب المعصية وسخط الله تعالى عليه فيبقى وجدانه يعذّبه لما ارتكب من أعمال مشينة تبعده عن رضا الناس في الدنيا ورضا الله في الآخرة .

لا أدخل جهنم لصديقي:

ينقل عن المرجع الديني الكبير المرحوم السيد آقا حسين القمي (قده) قوله : «أذهب لأجل صديقي إلى كل مكان حتى إلى باب جهنم .. ولكن لا أدخل لأجله جهنم» فلا يضر الإنسان المتيقن كلام الناس وتقربهم إذا كان العمل في غير رضا الله تعالى ولا يحسب أنّه سيكون مذموماً من قبل الناس ولا يستوحش ذلك، فإن مع رضا الله تعالى واليقين بالعمل السعادة والنجاة من المواقف الصعبة بفضل العناية الإلهية. وفي الحديث القدسي قال رسول صلّی الله علیه وآله وسلم: قال الله تبارك وتعالى : لو لم يكن في الأرض إلاّ مؤمن واحد لاستغنيت به عن جميع خلقي ولجعلت له من إيمانه أنساً لا يحتاج إلى أحد» .(1) وعن عبد الواحد المختار الأنصاري قال : «قال أبو جعفر السلام علیه السلام : يا عبد الواحد ما يضر رجلاً - إذا كان على ذا الرأي .(2)- ما قال الناس له ولو قالوا : مجنون، وما يضرّه ولو كان على رأس جبل يعبد الله حتى يجيئه الموت» . (3).

تخصيص الحمد بالله:

أن لا تحمد أحداً على ما آتاك الله : من آثار علامات بلوغ اليقين في

ص: 238


1- الكافي : ج 2 ص 245 باب الرضا بموهبة الإيمان حديث 2 .
2- ويقصد التشيع .
3- المصدر نفسه حدیث 1 .

الإيمان هو أن يكون مقصود الإنسان من الحمد هو الله تعالى وأن كل ما يملك من الله .

قال الحكيم السبزواري في منظومته :

أزمة الأمور طرّاً بيده ***والكل مستمدّة من مدده

فالله تعالى هو الذي يفيض على عباده بالنعم والأرزاق وكل ما في الوجود مستمد وجوده وبقاءه من وجود الله تعالى فالشكر والحمد يكون للأصل وهو الخالق تعالى .. ونحن نقرأ في صلاتنا يومياً سورة الفاتحة وفيها قوله تعالى : {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .(1) فالحمد لله وحده.. فالحمد لله وحده .. واللام في اسم الجلالة للإختصاص أي أن طبيعة الحمد مختصّة بالله سبحانه وتعالى لا يستحق الحمد أحد غيره وربما يؤيده الحديث المروي عن النبي صلّی الله وآله وسلم جاء فيه : «فإذا قال {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } قال الله جلّ جلاله : حمدني عبدي وعلم أنّ النعم التي له من عندي وأنّ البلايا التي دفعت عنه فبتطوّلي أشهدكم أني أضيف له إلى نعم الدنيا نعم الآخرة وأدفع عنه بلايا الآخرة كما دفعت عنه بلايا الدنيا ».(2) ويرى بعض الأعلام أن اللام للاستغراق بمعنى أن كل حمد فهو الله سبحانه طولاً وعرضاً فكل نعمة وصلتك من الله مباشرة أو من الناس مرجعها إلى الله سبحانه وكل خير وصلك أيضاً مرجعه إلى الله سبحانه . . ولذا فإن كل حمد وشكر على كل نعمة وخير ينالك فهو الله سبحانه وراجع إليه تبارك وتعالى، (لأن أزمة الأمور طراً بيده والكل مستمدة من مدده) قال سبحانه : {ًألا إلى الله ترجع الأمور}.(3)وحمد الله تعالى يكون باحترام النعم والطاعة الله تعالى في ما أمر به والإبتعاد عن نواهيه انقياداً وشكراً لنعمته تعالى .. كما أنك لو حمدت شخصاً لمعروف تفضّل به عليك فإنما هو حمد الله تعالى لأن الشخص الذي أسدى المعروف لك مسخّر بأمر

ص: 239


1- سورة الفاتحة ؛ الآية : 2 .
2- البحار : ج 89 ص 226 باب 29 حدیث 3 .
3- سورة الشورى ؛ الآية : 53 .

الله تعالى وهو جندي من جنود الله المجنّدة لخدمتك فليس هو ولي النعمة عليك، بل الله تعالى ولي النعمة والقصد من حمدك وشكرك لصاحب المعروف شكر الله تعالى وفي الحديث الشريف« من لم يشكر المنعم من المخلوقين لم يشكر الله عزّ وجلّ».(1) .

لا تذم أحداً:

أن لا تذم أحداً على ما لم يؤتك الله تعالى : ومن آثار اليقين عند المؤمن الصبر والتحمّل للمشاق والصعوبات التي تنجم من تمسكه بعقيدته ومبدئه وهو «إن الدنيا سجن المؤمن ».(2).

فالإنسان إذا لم يقصّر في سلوك أسباب الغنى وتوفير مقدمات الكسب الوفير ويجد نفسه غير متنعم كما يتنعم الآخرون بالرفاه والجاه والمال فلا ينبغي له أن يذم أحداً على ذلك .. فإذا لم يكن عندك المال مثلاً لا تذم والديك أو إخوانك أو أصدقاءك لأنك لم تؤت من المال مثل الغني فالأمر ليس بيد هؤلاء وإنما بيد الله تعالى وإن لم تكن مقصراً في طلبك المعاش وتوفير وسائل الغنى ولكن الله تعالى لم يشأ أن يعطيك الثروة لأجل اختبارك في هذه الدنيا ومدى تحملك للمصاعب حيث إن حقيقة الإيمان واليقين تظهر خلال التحمل والرضا بقضاء الله تعالى فلا ينبغي أن يسوءك الامتحان وفي الحديث الشريف (إن موسى علیه السلام قال : يا ربّ دلني على عمل إذا أنا عملته نلت به رضاك؟ فأوحى الله إليه : يا ابن عمران إنّ رضاي في كرهك ولن تطيق ذلك .. فخر موسى علیه السلام ساجداً باكياً فقال : يا ربّ خصصتني بالكلام، ولم تكلّم بشراً قبلي، ولم تدلني على عمل أنال به رضاك؟ فأوحى الله إليه : إن رضاي في رضاك بقضائي) .(3) فعلى الإنسان أن يسلك أسباب

ص: 240


1- البحار:ج68ص44باب 61حدیث 47.
2- البحار : ج 70 ص 91 باب 122 حدیث 67 .
3- البحار : ج 79 ص 134 باب 61 حديث 17 .

الرزق الحلال فإن أعطاه الله رَضي وإن لم يعطه لحكمة ومصلحة الله يعلمها أيضاً رضي ..

الإرتباط الوثيق بالخالق:

ولذا فإن المؤمن الذي بلغ حقيقة الإيمان وتيقّن من عمله وأن الأمور كلها بيد الله تعالى فإنه لا يرضي أحداً بسخط الله تعالى ولا يحمد أحداً على ما آتاه الله تعالى ولا يذم أحداً على ما لم يؤته الله تعالى، فهو مرتبط في كل شيء بخالقه تعالى وهذا الإرتباط الوثيق بالخالق وابتناء الأعمال جميعها على الإخلاص والطاعة لله والإبتعاد عن المعاصي قد يجعل المؤمن في وحشة وفقدان لمزايا دنيوية عديدة نتيجة عدم الحرص على الدنيا والتفكير بما بعدها، ومع ذلک تری المؤمن فرحاً . ومستأنساً بقرب الله تعالى لأنه بعيد عن المعاصي. وكما أن الحرص لا يجر الرزق وإنما الرزق بيد الله تعالى هو الذي يدبر الأمور ويقسّم الأرزاق وفي الدعاء «يا من حيث ما دعي أجاب يا طهور يا شكور يا عفو يا غفور يا نور النور يا مدبّر الأمور». (1)وكذلك لا يصرف هذا الرزق كراهة الإنسان الساخط الذي ابتعد عنه المؤمن ولو أن الناس فرّوا من رزقهم كما يفرّون من الموت لأدركهم الرزق كما يدركهم الموت. ولذلك فإن كل شيء هو بيد الله تعالى ومن الله وإلى الله، فليكن توجهك فقط نحو الله تعالى ولا تعتمد على المخلوق بالأساس إلاّ في حدود المنفعة والحاجة التي لا ترتبط بسخط الخالق تعالى وفي ذلك النجاة وراحة البال والضمير والإطمئنان للفوز برضا الله تعالى. وهناك شواهد عديدة تبيّن مدى الفائدة والمنفعة من الإعتماد على الخالق والنجاة من عواقب الأُمور نذكر منها :

ص: 241


1- مفاتيح الجنان ، من دعاء المشلول .

:

لا ملجأ .. إلاّ .. الله:

قيل إن ملكاً تمرّض بمرض عضال، وبعد أن عدّة أطباء وصفوا له علاجاً غريباً وهو أن يأكل قلب شاب صغير .. فأمر الملك حاشيته بالبحث عن شاب وشراء ،قلبه فوجدت الحاشية عائلة فقيرة تعيش في ذلك البلد فساوموا العائلة على شراء ولدها مقابل ذبحه وتقديم قلبه إلى الملك ليشتفي لبّه . . فقبلت العائلة هذا العرض مقابل مبلغ من المال فلما أحضروا الشاب ،لذبحه حوّل وجهه نحو السماء وضحك فتنبه الملك لتلك الحالة فسأله سبب ضحكه ؟ فأجاب الشاب : إني كنت أفكر في أنه إذا آذاني أحد أذهب إلى والدتي فتدافع عنّي وإذا لم تقدر أذهب إلى والدي . وإذا لم يتمكنا من الدفاع عني كنت سأذهب إلى الملك للدفاع عني ولكني أضحك اليوم على نفسي لأني أجد والدي قد باعوني إلى الملك، ورضيا أن يُراق دمي بما نالاه من حطام الدنيا والملك يريد ذبحي ليبرىء نفسه من علتها إذن لم يبقَ لي هناك ملجأ إلا الله الذي لا ملجأ سواه وأنشد :

إلى الله أشكو منك ما قد ينوبني ***وأنت رجائي في الخطوب وموئلي

فرق له قلب الملك واغرورقت عيناه بالدموع وقال : يا الله إن الأولى بي أن أهلك بعلتي على أن أُريق دم مثل هذا الغلام البريء وضمه إليه وقبّله بين عينيه ونفحه بهدية نفيسة وأطلق سراحه. فقيل إنه لم يمض أسبوع على ذلك الملك حتى من الله عليه بالشفاء .

وفي هذه القصة خير عظة وعبرة تدلل على أن الإنسان يجب أن يجعل جلّ تفكيره في الإلتجاء إلى الله تعالى عند المصاعب والمشاكل فلا قدرة تفوق قدرته . . وما يتصوره الإنسان من قدرة يملكها البشر على العطاء والمنع فهي أيضاً منه سبحانه قال تعالى : {قل من رب السَّموات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً قل هل يستوي

ص: 242

الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا الله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهّار }. (1)

وقال الشاعر :

وما ثمّ إلا الله في كل حالة ***فلا تتكل يوماً على غير لطفه

فكم حالة تأتي ويكرهها الفتى*** وخيرته فيها على رغم انفه

اذكرني عند ربك :

عن أبي عبد الله الصادق علیه السلام قال :

لما أمر الملك فحبس يوسف في السجن ألهمه الله علم تأويل الرؤيا، فكان يعبر لأهل السجن رؤياهم، وإن فتيين أدخلا معه السجن يوم حبسه، فلمّا باتا أصبحا فقالا له : إنّا رأينا رؤية فعبّرها ،لنا فقال : وما رأيتما؟ فقال أحدهما :{ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ } .(2) وقال الآخر : رأيت أني أسقي الملك خمراً، ففسّر لهما رؤياهما على ما في الكتاب، ثم قال للذي ظنّ أنه ناج منهما : اذكرني عند ربّك ، قال : ولم يفزع يوسف في حاله إلى الله فيدعوه فلذلك قال الله : {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ}. (3)

قال : فأوحى الله إلى يوسف في ساعته تلك : يا يوسف من أراك الرؤيا التي رأيتها؟ قال : أنت يا ربي قال فمن وجّه السيارة إليك؟ قال : ، أنت يا ربي، قال : فمن علّمك الدعاء الذي دعوت به حتى جعل لك من الجبّ مخرجاً؟ قال : أنت يا ربي، قال : فمن أنطق لسان الصبي بعذرك؟ قال : أنت يا ربي، قال : فمن صرف عنك كيد امرأة العزيز والنسوة؟ قال : أنت يا ربي قال فمن ألهمك تأويل الرؤيا؟ قال : أنت يا ربّي ، قال : فكيف

ص: 243


1- سورة الرعد ؛ الآية : 16
2- سورة يوسف ؛ الآية : 36
3- سورة يوسف ؛ الآية : 42 .

استغثت بغيري ولم تستغث بي وتسألني أن أخرجك من السجن واستغثت وأمّلت عبداً من عبادي ليذكرك إلى مخلوق من خلقي في قبضتي، ولم تفزع إليّ ؟ البث في السجن بذنبك بضع سنين بإرسالك عبداً إلى عبد .

قال ابن أبي عمير : قال ابن أبي حمزة : فمكث في السجن عشرين سنة. (1).

وفي رواية أخرى قال : فبكى يوسف عند ذلك حتى بكى لبكائه الحيطان فتأذى ببكائه أهل السجن فصالحهم على أن يبكي يوماً ويسكت يوماً فكان في اليوم الذي يسكت أسوء حالاً.(2) .

الإستعانة بالعباد:

ذكر الطبرسي (ره) في الإستعانة بالعباد كلاماً نلخصه : إن الإستعانة بالعباد في دفع المضار والتخلّص من المكاره جائز غير منكر ولا قبيح بل ربما يجب ذلك وكان نبينا صلّی علی علیه وآله سلم يستعين فيما ينوبه بالمهاجرين والأنصار وغيرهم ولو كان قبيحاً لم يفعله فلو صَحَّتْ هذه الروايات فإنما عوتب يوسف علیه السلام في ترك عادته الجميلة في الصبر والتوكل على الله سبحانه في كل أموره دون غيره وقتاً ما ابتلاء وتشديداً وإنما كان يكون قبيحاً لو ترك التوكل على الله سبحانه واقتصر على غيره وفي هذا ترغيب في الإعتصام بالله تعالى والإستعانة به دون غيره عند نزول الشدائد وإن جاز أن يستعان بغیره . (3).

ص: 244


1- البحار : ج 12 ص 301 - 302 باب قصص يعقوب ويوسف علیه السلام حدیث 100 .
2- مجمع البيان : المجلد الثالث ص 235 .
3- مجمع البيان : المجلد الثالث ص 235 .

بين إبراهيم (علیه السلام) ويوسف (علیه السلام):

قال أبو عبد الله الصَّادق علیه السلام : لما أجلس إبراهيم في المنجنيقوأرادوا أن يرموا به في يرموا به في النار أتاه جبرائيل عليه السلام فقال : السلام عليك يا إبراهيم ورحمة الله وبركاته ألك حاجة ؟ فقال : أما إليك فلا . فلّما طرحوه دعا الله فقال : يا الله يا واحد يا أحد يا صمد يا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد فحسرت النار عنه وإنه لمحتب ومعه جبرائيل وهما يتحدثان في روضة خضراء . (1).

وإذا عرفت اعتماد النبي إبراهيم علیه السلام على الله تعالى في أحلك المواقف نعود إلى كلام يوسف علیه السلام:{ اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ}.(2) وقد ذكر الفخر الرازي في تفسيره الكبير : قال يوسف علیه السلام لا لذلك الرجل الذي حكم بأنه يخرج من الحبس ويرجع إلى خدمة الملك {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} أي عند الملك والمعنى اذكر عنده أنه مظلوم من جهة إخوته لما أخرجوه وباعوه، ثم إنه مظلوم في هذه الواقعة التي لأجلها حبس، فهذا هو المراد من الذكر .ثم قال تعالى : {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ}وفيه قولان : القول الأول : إنه راجع إلى يوسف والمعنى أن الشيطان أنسى يوسف أن يذكر ربّه، وعلى هذا القول ففيه وجهان : أحدهما : أن تمسّكه بغير الله مستدرك عليه، وتقريره من وجوه : الأول : إن مصلحته كانت في أن لا يرجع في تلك الواقعة إلى أحد من المخلوقين وأن لا يعرض حاجته على أحد سوى الله، وأن يقتدي بجده إبراهيم علیه السلام حين سأله جبريل : هل من حاجة، فقال أما إليك فلا ، فلما رجع يوسف إلى المخلوق لا جرم وصف الله ذلك بأن الشيطان أنساه ذلك التفويض، وذلك التوحيد ودعاه إلى عرض الحاجة إلى المخلوقين، ثم لما وصفه بذلك ذكر أنه بقي لذلك السبب في السجن بضع سنين، والمعنى أنه لما عدل عن الإنقطاع إلى ربه إلى هذا المخلوق عوقب بأن لبث في

ص: 245


1- البحار :ج 12 ص 24 باب قصص إبراهيم علیه السلام ط بيروت .
2- سورة يوسف ؛ الآية : 42 .

السجن بضع سنين، وحاصل الأمر أن رجوع يوسف إلى المخلوق صار سبباً لأمرين : أحدهما : إنه صار سبباً لاستيلاء الشيطان عليه حتى أنساه ذكر ربّه . الثاني : أنه صار سبباً لبقاء المحنة عليه مدة طويلة . الوجه الثاني : إن يوسف علیه السلام قال في إبطال عبادة الأوثان {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} .(1)ثم إنه ههنا أثبت رباً غيره حيث قال {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ}ومعاذ الله أن يُقال إنه حكم عليه بكونه إلهاً بل حكم عليه بالربوبية كما يُقال : رب الدار ورب الثوب على أن إطلاق لفظ الرب عليه بحسب الظاهر يناقض تفي الأرباب. الوجه الثالث : إنه قال في تلك الآية ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء وذلك نفي للشرك على الإطلاق، وتفويض الأمور بالكلية إلى الله تعالى فههنا الرجوع إلى غير الله تعالى كالمناقض لذلك التوحيد واعلم أن الإستعانة بالناس في دفع الظلم جائز في الشريعة إلا أنّ حسنات الأبرار سيئات المقربين فهذا وإن كان جائزاً لعامة الخلق إلاّ أن الأولى بالصديقين أن يقطعوا نظرهم عن الأسباب بالكلية وأن لا يشتغلوا إلاّ بمسبَّب الأسباب الوجه الرابع : في تأويل الآية أن يُقال : هب أنه تمسّك بغير الله وطلب من ذلك الساقي أن يشرح حاله عند ذلك الملك، إلاّ أنه كان من الواجب عليه أن لا يخلي ذلك الكلام من ذكر الله مثل أن يقول إن شاء الله أو قدر الله فلما أخلاه من هذا الذكر وقع هذا الاستدراك . القول الثاني : أن يُقال إن قوله { فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ}راجع إلى الناجي والمعنى : أن الشيطان أنسى ذلك الفتى أن يذكر يوسف للملك حتى طال الأمر {ِفَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} بهذا السبب ومن الناس من قال القول الأول أولى لما روي عنه علیه السلام قال «رحم يوسف لو لم يقل اذكرني عند ربك ما لبث في السجن» وعن قتادة أن يوسف علیه السلام عوقب بسبب رجوعه إلى غير الله .. وقال الفخر الرازي والذي جربته من أول عمري إلى آخره أنّ الإنسان كلما عوّل في أمر من

ص: 246


1- سورة يوسف ؛ الآية : 39 .

الأمور على غير الله صار ذلك سبباً إلى البلاء والمحنة والشدة والرزية، وإذا عوّل العبد على الله ولم يرجع إلى أحد من الخلق حصل ذلك المطلوب على أحسن الوجوه . (1). .

وفي تفسير الميزان للسيد الطباطبائي (ره) علل طلب يوسف علیه السلام من السجين أن يذكره عند ربّه بقوله : والإخلاص لله لا يستوجب ترك التوسل بالأسباب فإن ذلك من أعظم الجهل لكونه طمعاً فيما لا مطمع فيه بل إنما يوجب ترك الثقة بها والاعتماد عليها وليس في قوله {اذكرني عند ربك} ما يشعر بذلك البتة .(2) .

بيان توضيحي : :

ومن خلال هذا المختصر في نقل الأقوال يبدو أن الظاهر أن الإستعانة بالله تعالى في كل الأمور هي الأصل ويؤيده الحديث الشريف الذي ابتدأنا بحثنا به« إن من اليقين ألاّ ترضي أحداً بسخط الله ، ولا تحمد أحداً على ما آتاك الله، ولا تذم أحداً على ما لم يؤتك الله» . (3). . .وغيره مما نقلناه من مؤيدات والظاهر أيضاً أن الإستعانة بالمخلوق من« أبى الله أن يجري الأشياء إلا بأسباب ، فجعل لكل شيء سببا » . (4).

فالإستعانة بالمخلوق لأجل غاية شريفة وهي نيل رضا الله تعالى لا بأس بها . . لأن الناس فطروا على الحاجة إلى بعض{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} .(5) قال رجل بحضرة الإمام زين العابدين علیه السلام: (اللهم أغنني عن

ص: 247


1- راجع التفسير الكبير للفخر الرازي : المجلد التاسع ج 18 ص 145-144ط 3.
2- تفسير الميزان : ج 11 ص 181 .
3- تحف العقول: ص 6 ط الخامسة .
4- الكافي : ج 1ص 183 باب معرفة الإمام حديث 7 .
5- سورة الحج ؛ الآية : 40 .

خلقك فقال : ليس هكذا إنما الناس بالناس ، ولكن قل اللهم أغنني عن شِرار خلقك . . ).(1).

وبتعبير آخر إن الأسباب وسيلة للوصول إلى الغاية ولكن مع ملاحظة أن الأسباب يجب أن تكون نبيلة كما يجب أن تكون الغاية نبيلة أيضاً إذ لا يمكن أن ينال الإنسان رضا الله تعالى بواسطة المعصية والذنب، بل إن الوسيلة يجب أن تكون أيضاً طاعة . إذن لا غنى للإنسان عن الأسباب لنيل الحاجات إلاّ أن أصحاب اليقين هم الذين يعرفون بل ويؤمنون أن الله سبحانه بيده كل الأمور .. أسبابها ومسبباتها فإن كان في طريق قضاء حاجته أحد يعلم أن الله هو الذي سخره له لقضاء حاجته لا أن الذي يقضي حوائجك يقضيها بقدرته وبقوته بل كل شيء بحول الله وقوته تبارك وتعالى وهذا النوع من الإيمان يعد من مظاهر اليقين. لأن من حقائق اليقين أن ترتبط كلياً بالخالق تعالى ومن هنا نعرف أن الله سبحانه هو المؤثر في الوجود إذ لا مؤثر في الوجود سوى الله - كما يعبر الحكماء - ولكن تأثير الله سبحانه مرّة يتم مباشرة ومرّة بالواسطة كتبادل المنفعة والبيع والشراء والتجارة بين الناس وما شابه .. ولعل النبي يوسف علیهم السلام أراد من السجين ذكره عند ربه من أجل الوصول إلى غايته النبيلة التي لا تضرّ بنبوته سواء كان في الوسيلة أم كان في الغاية .. بمعنى أنه علیه السلام سلك الطريق الطبيعي لنيل الحاجة بعد الاستناد والاعتماد على الله سبحانه مسبب الأسباب والمؤثر فيها .

فضل اليقين:

وفضل اليقين يظهر على المؤمن من خلال رضاه بما قسمه الله تعالى له من الأرزاق والنعم أو ما أصابه من الإبتلاءات والشدائد وما شابه والذي يرضى بما قسمه الله له يكون في راحة من الهم والسخط كما عبر رسول الله صلّی الله علیه وآله سلم بقوله : «فإن الرزق لا يجرّه حرص حريص ولا يصرفه كراهة كاره ،

ص: 248


1- شرح رسالة الحقوق : ج 1 ص 13 المقدمة .

إنّ الله بحكمته وفضله جعل الرّوح والفرح في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط .(1) كما أن صاحب اليقين لا يهتم أيضاً لما في أيدي الناس لشدة إيمانه. وفي رواية عن أبي عبد الله عليه السلام قال : «من صحة يقين المرء المسلم أن لا يرضي الناس بسخط الله ولا يلومهم على ما لم يؤته الله، فإن الرزق لا يسوقه حرص حريص ولا يردّه كراهية كاره، ولو أن أحدكم فرّ من رزقه كما يفرّ من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت، ثم قال : إن الله بعدله وقسطه جعل الرّوح والراحة في اليقين والرضا وجعل الهمّ والحزن في الشك والسخط ».(2).

ولذا فإن صاحب اليقين يسعى وراء تهيئة الأسباب والمقدمات التي يحقق بها غاياته وبعدها لا يغتمّ إذا لم يثمر عمله لعلمه بأن الله تعالى عادل و حكيم فإذا أعطاه لمصلحة وإذا منعه لمصلحة أيضاً لذا يسعى دائماً عاملاً مثابراً ويلقي حصول النتائج على الله تعالى ومن هنا لا يحرص ولا يبخل بشيء ولا يتأثر من كراهة الناس لعمله فيكون مطمئناً ومرتاحاً في هذا المجال. ولقد كان الإمام أمير المؤمنين علیه السلام مظهراً جلياً لهذا اليقين فهو لم يغتم يوماً لرزقه ولم يحرص على ذلك بل كان يؤثر الآخرين على نفسه وعلى عياله وإنما كان جلّ همه وغمّه هو انتشار الإسلام وصحة أعمال الناس وانقاذهم من الويل والعذاب برشدهم ونصيحتهم سواء في أقواله أو أفعاله ومن أفعاله اليقينية : إنّ أمير المؤمنين صلوات الله عليه جلس إلى حائط مائل يقضي بين الناس فقال بعضهم : لا تقعد تحت هذا الحائط، فإنه معور - ذو أو ذو شق وخلل يخاف منه - فقال أمير المؤمنين صلوات الله عليه : حرس امرءاً أجله . فلما قام سقط الحائط : قال أبو عبد الله الصادق عليه السلام :

وكان أمير المؤمنين علیه السلام ممّا يفعل هذا وأشباهه، وهذا اليقين .(3)

ص: 249


1- تحف العقول: ص 6 ط 5 .
2- الكافي : ج 2 ص 57 باب فضل اليقين حديث 2 .
3- الكافي : ج 2 ص 58 باب فضل اليقين حديث 5 .

النَفس المطمئنة:

ولذا فإن الذي يصل إلى مرحلة اليقين التام والإستعانة بالخالق تعالى في جميع أموره تكون نفسه مطمئنة ومرتاحة وفرحة في الدنيا والآخرة قال تعالى : {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي }. (1)وصاحب النفس المطمئنة لا يسخط ولا يتألم ولا يثور ولا ينفعل فلا يكون مهموماً أو حزيناً في حياته لفقدان صفقة تجارية أو ما شابه من المنافع الدنيوية، ولا يحرص كل الحرص على طلب الرزق وإنما يعلم بيقين ثابت أن الله تعالى مقدّر له رزقه وقدره بتقدير ثابت وهذا التقدير لا تصرفه كراهة الكاره أو نصب الكمائن والاحتيالات ضدّه وما شابه فلذا يعيش سعيداً في حياته كما ينال الدرجات العالية في الآخرة .

ص: 250


1- سورة الفجر ؛ الآيات : 27 - 30 .

13- البكاءُ بَيْنَ الدَوَافعَ والأهداف

اشارة

ص: 251

ص: 252

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) لعلي (علیه السلام) :

«يا علي طوبى لصورة نظر الله إليها تبكي على ذنب لم يطلّع على ذلك الذنب أحد غير الله» .(1)

أسرار الإنسان:

كل إنسان له أسرار يحتفظ بها لنفسه منها ما هو مفرح وذو فائدة ومنها ما هو محزن وذو نتائج وخيمة هذه الأسرار لا يُطلع عليها أحداً .. وإذا كتمها وشدد في كتمانه ربما لا يتمكن أي أحد من اكتشافها والإطلاع عليها . . إلا الله سبحانه فإنه {ُيَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى}.(2).

فالسر هو ما أخفيته في نفسك وأخفى ما خطر ببالك ثم أُنسيته .(3) .وما هذه الأسرار التي لا ينبغي للإنسان الإفصاح عنها والبوح بها للآخرين ؟ هي الذنوب فإن الله سبحانه ستار العيوب ويحب الساترين أيضاً والله سبحانه جعل للأشياء أسباباً ومظاهر فكل شيء له سبب وله مظهر أيضاً مثلاً النار سبب للإحراق ومظهرها الحرارة والدخان والشمس سبب لطلوع

ص: 253


1- تحف العقول: ص 15.
2- سورة طه ؛ الآية : 7 .
3- وهذا المعنى مروي عن الإمامين الباقر والصادق علیهما السلام : راجع مجمع البيان المجلد الرابع ص 3 .

النهار ومظهرها النور هذا في الأمور الكونية المادية وفي المعنويات فإن التوبة والاستغفار سبب لغفران الذنوب والبكاء ندماً على الذنب مظهر لغفران الذنب والله سبحانه يحب العبد الخشوع الذي تهمل عيناه ندماً على ذنوبه ولهذا ينظر الله سبحانه إلى صورة العبد الذي يبكي على ذنبه الذي أخفاه عن كل أحد ولم يطلع عليه سوى الله سبحانه. . ويجازيه بطوبى التي هي من أفضل أشجار الجنة .

قال تعالى : { طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} .(1).

إن طوبى شجرة في الجنة أصلها في دار النبي صلّی الله علیه وآله وسلم وفي دار كل مؤمن منها غصن .(2) . .

ومن الواضح :

إن الله سبحانه ينظر إلى صورة العبد الباكي على ذنبه الذي أخفاه عن الناس لأن الندم والبكاء على هذا الذنب يكون خالياً من الرياء مما يجعل التوبة والندم خالصين الله سبحانه ولذا فإن الله سبحانه يتقبل من المخلصين .

وأما إذا بكى الإنسان من ذنوبه التي اطلع عليها الناس فربما لا يكون بكاؤه منها ناشئاً عن الإخلاص والتوبة الحقيقية .

إذن .. البكاء من خشية الله سبحانه ندماً على الذنوب من المظاهر التي یحب أن يراها الله سبحانه على العبد . . ومن هنا رأينا من المناسب أن نتحدث عن البكاء وأبعاده وفوائده الشخصية والاجتماعية بمقدار ما يسمح به الوقت . .

ص: 254


1- سورة الرعد ؛ الآية : 29 .
2- راجع مجمع البيان المجلد الثالث ص 291 وفي معنى طوبى معانٍ عشرة وما ذكرناه هو المروي عن الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم والأئمة علیه السلام .

أسباب البكاء:

البكاء حالة تظهر على الإنسان عادة نتيجة سببين أحدهما مادي والآخر معنوي . .

أما المادي : فهو البكاء نتيجة التناقض الحاصل عند أهل المعاصي بين نزاهة الفطرة وصيحة الضمير الحر اللذين يدعوانه إلى الخير أبداً وبين سلوكه الخارجي وما يرتكبه من ذنوب ومعاص تلوث الفطرة وتقمع صوت الضمير .

إن النفس عندما تقتحم المعاصي والرذائل تفقد الرادع عن ارتكاب الذنوب فتقوم بظلم الناس وسلب حقوقهم والإعتداء عليهم والغش في المعاملات والكذب وما شابه من المرديات. . لذا فإنها تصاب بالعقد النفسية لأن الذنب أو المعصية لا ينسجم مع فطرة الإنسان التي تشير إليه إشارات لطيفة إلى فعل الخير .. فيعيش تناقضاً داخلياً بينه وبين فطرته، وهذا التناقض يخلق عقداً وتنافراً داخل النفس فلذا تكون هذه النفس مريضة لا تستلذ بالحياة وتكون مصدراً لكل شر وإجرام وإذا عادت هذه النفس إلى فطرتها وأرادت التخلص من هذه العقد تصطدم بالذنوب التي ارتكبتها ونتيجة هذا التصارع تتولد حالة البكاء المادي إذ تنفجر دموع الإنسان ويحترق قلبه ليقضي على العقد النفسية ويغسل حالة الشر ويخلق حالة سلام ووئام وتوافق بين الإنسان وذاته .

التائب عتيق الله:

جاء في تفسير الصافي : إن أحد الشبان جاء إلى رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم يبكي بكاء الثكلى على ولدها فقال له رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم : ما يبكيك يا شاب؟ قال : كيف لا أبكي وقد ارتكبت ذنوباً إن أخذني الله عزّ وجلّ ببعضها أدخلني نار جهنم، ولا أراني ! سيأخذني بها ولا يغفر لي أبداً !! وكلما ذكر الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم للشاب ذنباً قال الشاب : إن ذنبي أعظم منه ، فقال الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم : ويحك ألا تخبرني بذنب واحد من ذنوبك ؟

ص: 255

قال : بلى أخبرك أني كنت أنبش القبور سبع سنين أخرج الأموات وأنزع الأكفان فماتت جارية من بعض بنات الأنصار وعندما دفنت ذهبت إلى قبرها و نبشته وجرّدتها من أكفانها ثم جامعتها وتركتها عارية مكانها .. فقال الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم: تنحّ عني يا فاسق . فذهب الشاب فأتى المدينة وتزود منها ثم أتى بعض جبالها فتعبد فيها ولبس مسحاً وغسل يديه جميعاً إلى عنقه ونادى يا رب هذا عبدك بهلول بين يديك مغلول، يا رب أنت الذي تعرفني، وزلّ مني ما تعلم سيدي يا رب إني أصبحت من النادمين وأتيت نبيك تائباً فطردني وزادني خوفاً فأسألك باسمك وجلالك وعظمة سلطانك أن لا تخيب رجائي، سيدي ولا تبطل دعائي ولا تؤيسني من رحمتك . ولم يزل هكذا أربعين ليلة حتى تاب الله عليه ولمّا جاءه رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم وأصحابه ليبلغوه ، فإذا هم بالشاب قائم بين صخرتين مغلولة يداه إلى عنقه، وقد اسودّ وجهه وتساقطت أشفار عينيه من البكاء، فدنا رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم منه فأطلق يديه عنقه ونفض التراب عن رأسه وقال يا بهلول أبشر فإنك عتيق الله من النار .(1).

بكاء الخشية:

أما البعد المعنوي : وهو بكاء الخشية .

إن معرفة الإنسان بأحوال الدنيا والآخرة وبهول يوم القيامة والعلاقة مع الخالق تعالى تبعث النفس على الخشية والبكاء طلباً للقرب والزلفى لديه سبحانه وليس من الضروري هنا أن يكون الإنسان مذنباً إذ إن الأنبياء والأئمة المعصومين علیه السلام قد اشتركوا في هذا البكاء لمعرفتهم بمقام الخالق تعالى وما عنده من النعيم والدرجات العلى وقد حقت آيات القرآن الكريم والروايات على البكاء وذلك لأمور منها :

ص: 256


1- تفسير الصافي : ج 1 ص 353 ط الأعلمي سورة آل عمران ؛ الآية : 136 -

أولاً : تكوين علاقة بين الإنسان وخالقه تعالى، إذ بالبكاء يتقرب الإنسان إلى ربه حينما يبكي محبّة وشوقاً إليه وإلى طاعته وخشوعاً له، قال

تعالى : {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } .(1) .

وقال تعالى : {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا}. (2).

وفي الحديث الشريف أوصى الله تعالى نبيه موسى علیه السلام:

«يا موسى أبلغ قومك أنه ما يتقرب إليّ المتقربون بمثل البكاء من خشيتي» .(3).

فالبكاء سبب لتوثيق العلاقة بين الإنسان وربّه وإذا وثقت العلاقة يعيش الإنسان في لذة الطاعة ويسلّم الله تعالى أمره ويقف أمام الإبتلاءات والإمتحانات الإلهية صبوراً وجلوداً ولا يرهق في الحياة . .

التسليم لأمر الله تعالى:

جاء في المرويات : إن موسى علیه السلام سأل الله تعالى أن يدله على أعبد أهل الأرض فأرشده الله أن يذهب إلى ساحل بحر فيرى هناك أعبدهم . فجاء موسى علیه السلام ومعه جبرائيل علیه السلام فلم يجد أحد إلاّ رجلاً هو أبرص وأجذم ومقعد .

فقال موسى الجبرائيل علیه السلام أين ذلك الرجل ؟

قال : هو هذا يا نبي الله .

ص: 257


1- سورة الإسراء ؛ الآية : 109 .
2- سورة مريم ؛ الآية : 58 .
3- البحار : ج 90 ص 332 باب 19 ح 17 ط بیروت .

فقال موسى علیه السلام: كنت أحب أن أراه صوّاماً قواماً

فقال جبرائیل علیه السلام: انظر إني مأمور بأخذ كريمتيه - أي عينيه - فانظر ماذا يقول ؟

يقول : فأشار جبرائيل علیه السلام إلى عينيه فسالتا على خدّيه فأخذ الرجل يقول : يا ربي متعتني بهما حيث شئت، وسلبتني إيّاهما حيث شئت، وأبقيت لي فيك طول الأمل يا بار ويا وصول .

فتعجب موسى علیه السلام وأقبل إليه ، قال : يا عبد الله أنا رجل مجاب الدعوة إن شئت دعوت الله لشفائك .

فقال : لا ، إنّ ما يختاره لي ربّي أحب لي مما تختاره لي نفسي .

فقال له موسى علیه السلام : سمعتك تقول يا بار و یا وصول .

قال : نعم إنّ ربي هو البار بي وهو الذي يصلني حيث ليس في هذه القرية غيري يعبده .

فالخشوع والمعرفة بالخالق تعالى جعلت هذا الإنسان يسلّم أمره إلى الله تعالى والبكاء من الأمور والحالات التي تقوّي الخشوع عند الإنسان وتنميه وذلك لانكسار النفس وتذلّلها أمام عزّة الجبار سبحانه وتعالى

الأمن يوم القيامة:

ثانياً : إن البكاء يعطي الإنسان الأمن يوم القيامة وهو اليوم الذي تقف فيه الخلائق أمام خالقها للحساب صفّاً صفّاً وفي الحديث الشريف عن الإمام الباقر علیه السلام قال :

«كل عين باكية يوم القيامة غير ثلاث :

ص: 258

»

عين سهرت في سبيل الله وعين فاضت من خشية الله، وعین غضّت عن محارم الله ». (1).

«وقال موسى علیه السلام: يا إلهي فما جزاء من دمعت عينه من خشيتك ؟

قال تعالى : يا موسى أقي وجهه من حرّ النار ، وآمنه يوم الفزع الأكبر ».(2).

ولربما قطرة من دمع جرت خشية الله تعالى وخوفاً من يوم الحساب تطفىء على قلتها بحاراً من نار . .

ولربما يكون بكاء العبد في أمة أو مدينة سبباً لرحمة تلك الأمة بفضل بكائه . .

قال الإمام الباقرعلیه السلام : «ما من شيء إلاّ وله وزن أو ثواب إلاّ الدموع، فإن القطرة تطفىء البحار من النار فإن اغرورقت عيناه بمائها حرّم الله سائر جسده على النار، وإن سالت الدموع على خديه لم يرهق وجهه قتر ولا ذلة، ولو أن عبداً بكى في أمة لرحمها الله» . (3).

وفي حديث آخر عنه علیه السلام أيضاً : «.. وإن الباكي ليبكي من خشية الله في أمة فيرحم الله تلك الأمة ببكاء ذلك المؤمن فيها». (4).وأقرب ما يكون العبد إلى الخشية من الله تعالى وهو ساجد يبكي، قال الإمام الصادق علیه السلام :

«إن أبي كان يقول : أقرب ما يكون العبد من الرب وهو ساجد يبكي» .(5) .

ص: 259


1- البحار : ج 7 ص 195 باب 8 ح 62 ط بیروت .
2- روضة الواعظين : ج 2 ص 451 مجلس في ذكر الحزن والبكاء .
3- البحار : ج 90ص 335 باب 19 ح 28 ط بیروت .
4- المصدر السابق : ح 29 .
5- المصدر السابق : ص 334 ح 25 .

أراقد أنت أم رامق:

عن حبّة العرني قال بينا أنا ونوف نائمين في رحبة القصر إذ نحن بامیر: المؤمنين علیه السلام في بقية من الليل واضعاً يده على الحائط شبيه الواله وهو يقول {«إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ .. }إلى آخر الآية قال ثم جعل يقرأ هذه الآيات ويمر شبه الطائر عقله . فقال لي أراقد أنت يا حبّة أم رامق ؟ قال قلت رامق هذا أنت تعمل هذا العمل فكيف نحن . قال : فأرخى عينيه ثم بكى ثم قال لي يا حبّة ولنا بين يديه موقفاً لا يخفى عليه شيء من أعمالنا يا حبّة إن الله أقرب إلي وإليك من حبل الوريد يا حبّة إنه لا يحجبني ولا إياك عن الله شيء .

قال ثم قال أراقد أنت يا نوف قال : لا يا أمير المؤمنين ما أنا براقد وقد أطلت بكائي هذه الليلة .

فقال يا نوف إن طال بكاؤك في هذه الليلة مخافة من الله تعالى قرّت عيناك غداً بين يدي الله عزّ وجلّ .

یا نوف إنه ليس من قطرة قطرت من عين رجل من خشية الله إلاّ أطفأت بحاراً من النيران إنه ليس من رجل أعظم منزلة عند الله تعالى من رجل بكى من خشية الله تعالى وأحبّ في الله وأبغض في الله .

يا نوف إنه من أحبّ في الله لم يستأثر على محبته، ومن أبغض في الله لم ينل ببغضه خيراً عند ذلك استكملتم حقائق الإيمان . . ».(1).

بكاء المواساة:

ثالثاً : البكاء يساعد على توثيق العلاقة بين الإنسان ومجتمعه وذلك بمشاركة الأصدقاء والأصحاب أحزانهم ومواساتهم، فإن الذي يهمّه أمر

ص: 260


1- سفينة البحار : ج 1 ص 95 باب بكى .

الناس هو ذلك الذي يبكي لآلامهم ومصائبهم، وبما أن الناس تنجذب نحو من يواسيهم في محنهم ويشاركهم أفراحهم ومصائبهم لذا تتولد علائق وثيقة بين أبناء المجتمع وتؤدي إلى تماسكه وترابطه المتين، وقد ارتبط رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم بأصحابه ارتباطاً وثيقاً وواساهم في كل أمورهم حتى المحزنة منها لاستشهاد حمزة علیه السلام في معركة «أحد» ولاستشهاد جعفر الطيار علیه السلام وغيرهم من الأصحاب ليوثق العلائق الودّية بين أصحابه ومن خلال هذا العمل استطاع الإسلام أن يقف راسخاً بمبادئه الحقّة وينتشر انتشاراً واسعاً لما فيه من أواصر عظيمة وجليلة يتمناها أبناء البشر في مسيرة حياتهم، وبكى الإمام أمير المؤمنين علیه السلام لمظلومية أبي ذر الغفاري حين جرى عليه ما جرى من عثمان . (1)وبكى الله على المقداد حين شكى إليه جوع أهله .(2) .

وبكى أمير المؤمنين علیه السلام حينما استأذنه عمّار بن ياسر للقتال فی صفين ولما استشهد عمّار جعل أمير المؤمنين علیه السلام رأس عمّار على فخذه ثم بكى وأنشأ يقول :

ألا أيها الموت الذي ليس تاركي*** أرحني فقد أفنيت كل خليل

أراك بصيراً بالذين أحبهم*** كأنك تنحو نحوهم بدليل (3)

وبكت الزهراء علیه السلام على رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم حتى طلب منها أهل المدينة الكف عن البكاء فكانت تخرج إلى المقابر مقابر الشهداء فتبكي حتى تقضي حاجتها ثم تنصرف .

وبكی الامام علي بن الحسين علیه السلام علی مصرع الإمام الحسين علیه السلام عشرين سنة أو أربعين سنة .

ص: 261


1- البحار : ج 22 ص 397 باب 12 راجع تمام الحديث.
2- سفينة البحار : ج 1 ص 96 باب بكى .
3- البحار : ج 33 ص 19 باب 13 ط بیروت.

وبكى جميع الأئمة على مصاب الحسين علیهم السلام وعلى أصحابه المخلصين وسيأتي ذكر بعضها لاحقاً .

حتى مولانا صاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه بکی جده الحسين ولا زال يبكي حتى يحكم الله له بالظهور فيأخذ بثأر المولى سيد

الشهداء .قال في الزيارة الناحية : (فلأندبنك صباحاً ومساءاً ولأبكين لك بدل الدموع دماً . . . ).(1) .

ومن هنا أفتى بعض فقهائنا العظام أن من المستحبات الشرعية أن الإنسان إذا رأى جنازة تحمل في الطريق أن يجلس ويبكي عليها وإن كان لا يعرف صاحبها . .وذلك لتأكيد الترابط والتماسك الروحي بين المجتمع . . وترسيخاً لشعور المواساة .

إزالة العقد النفسية:

رابعاً : الأمر الذي يوجده البكاء أيضاً هو تصحيح العلاقة بين الإنسان و نفسه وذلك لأن في البكاء كما قلنا فائدة معنوية وهي رفع العقد النفسية بعد تطهير القلب من المعاصي .

قال الإمام أمير المؤمنين علیه السلام :

«البكاء من خشية الله ينير القلب ويعصم من معاودة الذنب» . (2).

وأيضاً البكاء دواء لجسد الإنسان كما في الحديث عن الإمام الصادق علیه الاسلام للمفضل :

«واعرف يا مفضل ما للأطفال في البكاء من المنفعة. واعلم أن في

ص: 262


1- زيارة الناحية المقدسة .
2- تصنيف غرر الحكم : ص 192 ط الأولى .

أدمغة الأطفال رطوبة، إن بقيت فيها أحدثت عليهم أحداثاً جليلة وعللاً عظيمة من ذهاب البصر وغيره والبكاء يسيل تلك الرطوبة من رؤوسهم

فيعقبهم ذلك الصحة في أبدانهم والسلامة في أبصارهم».(1).

وقال رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم:«من علامات الشقاء جمود العين وقسوة القلب» .(2) .

وهذه بعض الفوائد التي يوجدها البكاء المعنوي في تكوين علاقة مع الخالق تعالى والخشية منه وتوثيق العلاقة مع المجتمع وإزالة العقد النفسية فإنها معان كبيرة تشمل جميع مفردات حياة الإنسان ولو فهمها الناس وعرفوا قدرها لسعوا دائماً إلى فعل الخير وعمل الفضيلة للفوز بالكمال والسعادة . .

مظاهر وعلامات :

تلك كانت فوائد البكاء ودوافعه وأيضاً للبكاء مظاهر وعلامات عدة منها :

العاطفة:

1 - البكاء مظهر للعاطفة :

وبيان ذلك أن العاطفة حالة نفسانية لا يمكن مشاهدتها أو الإحساس بها إلاّ من خلال المظاهر الحسّية كالخشية والشفقة والرحمة والشجاعة. . وتتميز العاطفة بميزتين :

أ - يتأثر القلب بها وتحصل له تغيرات أثناء بروز الحالة العاطفية يصفها العلماء «تدرك ولا توصف» وهو ما يسمى في علم الطب «بالإنقباض القلبي» أو ما نسميه بالانفعالات نتيجة عروض حالات محزنة أو مخيفة أو محببة على

ص: 263


1- توحيد المفضل : ص 16 ط بيروت.
2- البحار : ج 67 ص 52 باب 44 ح 11.

النفس فيتأثر بها القلب وينفعل مع التفاوت في الظهور بحسب الزمان والمكان والأفراد إذ إن البعض تجذبه المناظر الخلّابة بسرعة ويظهر أثر ارتياحه واضحاً والبعض الآخر يتأثر بنسبة أقل . .

ب - الميزة الثانية سريان أثر العاطفة إلى الآخرين كما لو سمع إنسان بأخبار مفرحة عن أحبائه فيتأثر بذلك ويفرح لهم وكذلك لو سمع بأخبار محزنه فإنّه يغتم بذلك وهذه الحالة كثيراً ما يتأثر بها الجنود في مواقع القتال وساحات الحرب فإذا ما أصاب الرعب جمعاً منهم انتقل سريعاً إلى الآخرين وعلى العكس فإنّ الأشعار الحماسية وإشاعة أخبار النصر بينهم تثبتهم في مواقعهم. .

فالذي يبكي إذن يتبين أن عنده حالة نفسية تأثر بها وعبّر عنها بالبكاء وأن ذلك الإنسان يمتلك العاطفة والعاطفة ممدوحة بالإسلام بحدود الرابطة بين الإنسان وربه وأهله وأصحابه ومجتمعه لا من أجل فوات مصلحة دنيوية .. كما أن جمود العين علامة على قسوة القلب وقد ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين علیه السلام :

«ما جفت الدموع إلاّ لقسوة القلوب وما قست القلوب إلاّ لكثرة الذنوب».(1) .

فيبدو أن البكاء مظهر لرقة القلوب وعدم البكاء مظهر لقسوتها فالإسلام مدح البكاء بما هو مظهر للتخلّص من الذنوب ورقّة القلوب وذم جمود العين بما هو مظهر لعدم رقتها وقسوتها . .

قسوة القلب:

من الذين قست قلوبهم لكثرة ذنوبهم ولم يعرفوا مكاناً للعاطفة : المنصور العباسي. لقد سلبت الرحمة من قلبه فلا يعرف لها فيه موضعاً،

ص: 264


1- البحار : ج 70 ص 354 باب 137 ح 60 .

وكان يقف أمام المشاهد المحزنة موقف رجل لا تؤلمه مناظر البؤس أو تزعجه مواقف الشقاء .يمرّ موكبه عندما أراد الحج بابنة عبد الله بن الحسن علیه السلام وكان أبوها تحت أسره وقد حمل مع من حمل من العلويين فأرادت استعطافه والرفق بحال أبيها فأنشأت تقول :

إرحم كبيراً سنّه متهدم ***في السجن بين سلاسل وقيود

وارحم صغار بني يزيد إنهم ***يتموا لفقدك لا لفقد يزيد

إن جدت بالرحم القريبة بيننا ***ماجدّنا من جدّكم ببعيد

فكان جواب المنصور :

أذكر تنيه - ثم أمر به، فأحدر في المطبق - أي هدّم سقف السجن عليه - وكان آخر العهد به - أي مات - ». (1).

وهناك الكثير من أمثال هؤلاء الطواغيت من حكام بني أمية وبني العباس قست قلوبهم فلم تعرف الرحمة نتيجة المعاصي والذنوب واللهو

وشرب الخمور . .

المظلومية:

2 - البكاء مظهر للمظلومية :

والبكاء علامة المظلومية وشعارها الصامت وهو أفضل وسيلة أيضاً لتحريك عواطف الناس سواءاً كان التحريك لأجل الحق أو للباطل . وقد استخدمه أعداء أهل البيت علیه السلام في إثارة عواطف الناس البسطاء وتأليبهم للباطل فقد استخدم طلحة والزبير وعائشة البكاء لتأليب الناس على أمير المؤمنين . فقد جاء في كتب التاريخ :

عن ابن أبي مليكة قال :

ص: 265


1- الإمام الصادق علیه السلام والمذاهب الأربعة : ج 1 ص 43 .

خرج الزبير وطلحة فضلاً ثم خرجت عائشة فتبعها أُمهات المؤمنين إلى (ذات عرق) فلم يُر يوم كان أكثر باكياً على الإسلام أو باكياً له من

ذلك اليوم .كان يسمى (يوم النحيب) .(1) .. وكان بفضل إثارتهم للعواطف بالبكاء أن زاد عدد جيشهم من الألف إلى ثلاثة آلاف . .وهكذا فعل معاوية، قال نصر : فلما نزل علي النخيلة متوجهاً إلى الشام وبلغ معاوية خبره وهو يومئذ بدمشق قد ألبس منبر دمشق قميص عثمان مختضباً بالدم وحول المنبر سبعون ألف شيخ يبكون حوله، فخطبهم وحتّهم على القتال فأعطوه الطاعة وانقادوا له وجمع إليه أطرافه واستعدّ للقاء على علیه السلامة .(2) .

فللبكاء إذن الأثر المهم في الإعلام لإثارته العواطف فهو سلاح ذو حدّين فقد يستعمله المغرضون لأغراضهم الباطلة وقد يستخدم لنصرة الحق كما هو بكاء الزهراء سلام الله عليها بعد رحيل أبيها صلّی الله علیه وآله وسلم لبيان مظلومية أمير المؤمنين عليه السلام. .

بكاء الإمام السجاد (علیه السلام):

وبكى الإمام السجادعلیه السلام لمدة طويلة لبيان مظلومية الإمام الحسين علیه السلام وأهل بيته وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم .

قال الإمام الصّادق علیه السلام :

«بكي علي بن الحسين علیهم السلام عشرين سنة وما وضع بين يديه طعام إلاًّ بكى حتى قال له مولى له: جعلت فداك يا ابن رسول الله إني أخاف أن تكون من الهالكين قال : إنما أشكو بنّي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون إني لم أذكر مصرع بني فاطمة إلاّ خنقتني العبرة .

ص: 266


1- البحار : ج 32 ص 145 .
2- البحار : المجلد 32 ص 416 باب بغي معاوية ط بيروت .

وفي رواية : أما آن لحزنك أن ينقضي؟ فقال له :

«ويحك إن يعقوب النبي علیه السلام كان له اثنا عشر إبناً فغيّب الله واحداً منهم، فابيضت عيناه من كثرة بكائه عليه، واحدودب ظهره من الغم، وكان ابنه حيّاً في الدنيا، وأنا نظرت إلى أبي وأخي ، وعمّي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي فكيف ينقضي حزني؟». (1).

البكاء على الحسين (علیه السلام):

أما مسألة البكاء على الإمام الحسين علیه السلام الي فقد جاءت بياناً وإعلاماً المظلومية كاملة ولكن من أجل إحقاق الحق فلم تكن ثورة الحسين علیه السلام لأجل منصب أو مصلحة شخصية أو ما شابه وإنما كانت ثورة لتصحيح المسار ولإنقاذ البشر من الضلال إلى الحق وإرساء دعائم الحرية بل هي أمر إلهي .. والبكاء عليها فيه الثواب العظيم وغفران الذنوب فقد روى أبو حمزة الثمالي عن الإمام الصادق علیه السلام أنه قال :

«إن البكاء والجزع مكروه للعبد في كل ما جزع ما خلا البكاء والجزع على الحسين بن علي علیه السلام فإنه فيه مأجور» .(2) .

فبكاؤنا على الإمام الحسين علیه السلام من أجل عقد رابطة عاطفية وروحية، ونفسية بيننا وبين الإمام الحسين علیه السلام أو بين مبادىء الإمام علیه السلام لأن في قضية الإمام الحسين جانبين من العاطفة :

1 - جانب المأساة .

2 - وجانب الحقوق الضائعة .

لذا يقول الإمام الحسين علیه السلام: «أنا قتيل العبرة» .(3) .

ص: 267


1- البحار : ج 46 ص 108 باب 6 ح 1 ط بیروت.
2- البحار : ج44 ص291باب 34 ح32.
3- المصدر نفسه : ص 280 ح 12 .

وهذه الدمعة المسكوبة لها قيمة كبيرة روحياً وعاطفياً لأنها تأتي نتيجة انشداد بين الباكين وبين الحق المضيع والإنزجار عن الباطل فهي مرتبطة دائماً بقضية مبدئية وقضية دينية لأجل بيان مظلومية كاملة تعرّض لها الإسلام وتعرّض لها الإمام الحسين علیهم السلام مع أهل بيته وأصحابه رضوان الله عليهم في فاجعة تاريخية لم يشهد لها التاريخ مثيلاً قتل فيها ابن بنت رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وأبناؤه وأصحابه رضوان الله عليهم ومثل بأجسادهم وقتل فيها أطفال ونساء عطاش غرباء . .وحملت رؤوسهم على الرماح وسبيت نساؤهم .. كل ذلك ليس من أجل مصالحهم وإنما من أجل أُمتهم وعقيدتهم ومن حقّهم علينا أن نحزن عليهم ونجزع بالبكاء لنرتبط بهم ونردّ لهم الجميل ومن هنا جاءت كلمات مولاتنا العقيلة زينب الكبرى ليزيد بن معاوية وهي سبيّة :

«كد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا ولا يدحض عنك ،عارها، وهل رأيك إلاّ فند وأيامك إلا عدد وجمعك إلاّ بدد». (1).

والتاريخ حفظ لها هذه الكلمات وسطّرها لصحة ما جاء فيها إذ إن الواقعة الحسينية تعيش في قلوب الناس وذكراها لا تنمحي من صدورهم وأصحابها مخلّدون مبدءاً وعقيدة وجسداً وها هي المقامات الشريفة لهم شامخة وتحيط بها الناس من كل جانب وتصرف الأموال وتبذل النفوس من أجل التبرك بها أما أعداؤهم الذين اتخذوا عواطف الناس والبكاء من أجل مصالحهم فهم إلى بدد فأين طلحة؟ وأين الزبير ؟ وأين معاوية لعنة الله عليه ؟ وأين يزيد لعنة الله عليه؟ وأين عمر بن سعد لعنة الله عليه ؟ .. لم يذكرهم التاريخ الاّ باللعن والسخرية فهذا هو الباطل دائماً إلى زوال وإن كانت له قوة فهي آنية سر رعان ما تنكشف للناس.. وتضمحل .

ص: 268


1- المجالس السنية : ج 1 ص 147 المجلس 85 .

إقامة المجالس الحسينية:

«روي أنه لما أخبر النبي صلّی الله علیه وآله وسلم ابنته فاطمة بقتل ولدها الحسين وما يجري عليه من المحن بكت فاطمة بكاءً شديداً، وقالت : يا أبت متى يكون ذلك ؟ قال : في زمان خال منّي ومنك ومن عليّ، فاشتدّ بكاؤها وقالت : يا أبت فمن يبكي عليه ؟ ومن يلتزم بإقامة العزاء له ؟

فقال النبي : يا فاطمة إن نساء أُمتي يبكون على نساء أهل بيتي، ورجالهم يبكون على رجال أهل بيتي ويجدّدون العزاء جيلاً بعد جيل، في كل سنة فإذا كان القيامة تشفعين أنت للنساء وأنا أشفع للرجال وكل من بكى منهم على مصاب الحسين أخذنا بيده وأدخلناه الجنّة .

يا فاطمة ! كل عين باكية يوم القيامة، إلاّ عين بكت على مصاب الحسين فإنها ضاحكة مستبشرة بنعيم الجنة» .(1).

فيا لها من بشرى لمن يعظم شعائر الله تعالى ويقيم العزاء يبكي أو يتباكى على الإمام المظلوم فقد بكته الملائكة والأنبياء والأئمة علیهم السلام .

«عن أبي عمارة المنشد عن أبي عبد الله علیهم السلام قال : قال لي : يا أبا عمارة أنشدني في الحسين بن علي، قال : فأنشدته فبكى ثم أنشدته فبكى قال : فوالله ما زلت أنشده ويبكي حتى سمعت البكاء من الدار . . . » .(2)

وقال الإمام الرضا علیه السلام :

«.. إن يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذل عزيزنا بأرض کرب وبلاء، أورثتنا الكرب والبلاء إلى يوم الإنقضاء، فعلى مثل الحسين فليبك الباكون فإن البكاء عليه يحط الذنوب العظام» . (3).

ص: 269


1- البحار : ج 44 ص 293 باب 34 ح 37 .
2- نفس المصدر : ص282.
3- نفس المصدر : 284.

وبكاء الأئمة علیهم السلام وبكاء المحبين لهم ولمصيبة الحسين علیهم السلام هو مظهر من مظاهر إنكار الباطل واتباع الحق والسير على نهج أهل الحق والولاية سلام الله عليهم أجمعين ولا ريب ولا شك أن هذا البكاء يعدّ إعلاماً للمظلومية الحقّة وانتصاراً لها . .

فطوبى لمن بكت عيناه من خشية الله تعالى وجزعاً لمصاب الحسين علیه السلام وطوبى لمن بكى على ذنب اقترفه ولم يعلم به أحد سوى الله تعالى فإن هذه الصورة ينظر لها سبحانه وتعالى بكل رحمة.

ص: 270

14- ترية المقدسات مِنْ سُمُوا النَفَسِ

اشارة

ص: 271

ص: 272

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) لعلي (علیه السلام ) :

«يا علي، لا تحلف بالله كاذباً ولا صادقاً من غير ضرورة ولا تجعل الله عُرضةً ليمينك فإن الله لا يرحم ولا يَرْعى من حَلَفَ باسمه كاذباً» . (1).

أكبر وأجل من أن يوصف :

الله عزّ وجلّ أكبر وأجل من أن يوصف أو تحيط به الكلمات القاصرة { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ }.(2) فلا توجد حقيقة في الوجود أشرف منه تبارك وتعالى . وهو تعالى المفيض على هذا العالم وجوده وكل لوازم هذا الوجود. ولذلك جعل آياته التي أودعها في هذا العالم أثراً يدل عليه سبحانه وتعالى. ومع كثرة الآيات الدالة عليه إلاّ أن الإنسان تبقى معرفته بالله تعالى قليلة . يقول رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم : (ما عبدناك حق عبادتك وما عرفناك حق معرفتك).(3)، لأن الإنسان محدود وهو سبحانه لامحدود والمحدود يستحيل عليه أن يحيط باللامحدود فلا تدركه الأبصار والأوهام وهو الذي لو قطع فيضه لحظة هذا العالم لانعدم وانمحى فبواسطة فيضه المتواصل وعنايته الدائمة كان هذا

ص: 273


1- كلمة الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم : 152.
2- سورة الشورى ؛ الآية : 11 .
3- البحار : ج 71 ص 23.

العالم واستمر وفي الدعاء الشريف ( يا دائم الفضل على البرية يا باسط اليدين بالعطية يا صاحب المواهب السنيّة) .(1) .

والإنسان مهما يكن لا يستطيع أن يدرك حقيقة شرف هذا الوجود المقدس لأنه جاهل بذاته المقدسة ولكنه يتعرف على الله من خلال أسمائه وصفاته، ولكن مراتب هذه المعرفة متفاوتة من شخص إلى آخر فمعرفة الأنبياء والأوصياء الله غير معرفة الإنسان العادي لله عزّ وجلّ .

يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام :

«علمني رسول الله ألف باب من العلم فانفتح لي من كل باب ألف باب» . (2).

ولا يوجد إنسان أعلى معرفة بالله تعالى من رسولنا الأعظم ولكن مع هذه المعرفة يقول الرسول (ما عرفناك حق معرفتك ) . فإذا كان الأمر كذلك فالأولى بالإنسان أن يُراعي إيمانه بهذه الحقيقة المقدسة وأن لا يذكره في الأُمور التافهة والقضايا الدنيوية الجانبية. بل عليه أن يديم ذكره تعالى في القلب واللسان وأن يؤمن بالله إيماناً صادقاً خالصاً .لا أن تغيب عن باله مسألة القداسة اللامتناهية التي يتصف بها الله تعالى . لأنها عندما تغيب عن بال الإنسان ويغفل عنها ويتمسك بالماديات وزخارف الدنيا يكون إيمانه آنذاك ركيكاً وسطحياً تقلبه الأحداث والأهواء. وأحياناً ينغمس في الصفات اللا أخلاقية البعيدة عن روح الإيمان أمثال الحسد والغضب والعصبية وسوء الخلق ففي بعض الأخبار :

«إن الحسد ليأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب» .(3) .

ص: 274


1- راجع مفاتيح الجنان أعمال ليلة الجمعة.
2- كشف الغمة : ج 1 فضائل أمير المؤمنين ص132 ط بیروت.
3- الكافي : ج 2 الإيمان والكفر باب الحسدح 1 .

«من تعصب أو تعصب له فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه» . (1).

إذ كلما ابتعد الإنسان عن الله سبحانه كلما انغمس في هذه الصفات الرديئة أكثر .

الكذب مفتاح كل سوء:

لا شك أن الإنسان هو الذي يوفر أسباب سعادته أو شقاوته باختياره، والكذب من أسباب الشقاء لأنه من الذنوب الشديدة المبغوضة عند الله عزّ وجلّ، لأنه من جهة مخالف للإيمان الصحيح ومعبر عن النظرة الضيقة التي يحملها الإنسان الكاذب عن قداسة الله وجلالته فلا يُبالي في الكذب وإن كان هادماً أو مخالفاً للإيمان لأنه ليس لديه وضوح في معنى الإيمان بالله وصفات هذا الإيمان. ومن جهة أُخرى فإن الكذب يربك العلاقات الاجتماعية ويقطع أواصر الأخوة لأنه خداع ولا أحد يرضى بأن يخدع وقد جاء في الأخبار :

«إن الكذب هو خراب الإيمان». (2).

وعندما يهدم إيمان المرء لا يبقى حاجز يردعه عن إيذاء الناس .

والعلاقات الاجتماعية من الأمور ور التي اهتم بها الشارع كثيراً {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} .(3).

«إنما المؤمنون إخوة بنو أب وأم وإذا ضرب على رجل منهم عرق سهر له الآخرون» .(4).

وغيرها من الآيات والأحاديث التي تعكس اهتمام الشريعة في الحفاظ

ص: 275


1- نفس المصدر : باب العصبية ح1.
2- الكافي : ج 2 الإيمان والكفر باب الكذب ح 4 .
3- سورة الحجرات ؛ الآية : 10 .
4- الكافي : ج 2 الإيمان والكفر باب أخوة المؤمنين ح 1 ص 165.

على الأسرة الاجتماعية الواحدة وعدم التفريط بها أو تصدعها من خلال بعض الصفات اللا أخلاقية التي يتصف بها البعض، ولا شك أن الكذب الصفات القبيحة والعقل يستهجن كل قبيح لأنه مخالف للفطرة الإنسانية التي تدعو إلى الحسن والكمال والكذب منقصة فادحة أيضاً في كمال الإنسان ولذلك أكدت الشريعة المقدسة على حرمته لأن أحكام الشريعة كلها تصب في إيصال الإنسان إلى الكمال والخير والسعادة في الدارين وبما أن الكذب يعرقل الكمال لذلك جعلته من الأمور الأشد قبحاً إضافة إلى قبحه الذاتي . فمثلاً إن الكذب على الله ورسوله والأئمة الطاهرين عليهم الصَّلاة والسَّلام في شهر رمضان يعدّه الفقهاء مفطراً ومبطلاً للصيام لماذا ؟ ربما لأن شهر رمضان من الأشهر الروحية قد جعله الله سبحانه موسماً للترقي المعنوي وطريقاً لترويض النفس وتدريبها على ترك الميل إلى الشهوات ،وبالتالي فالصيام في شهر رمضان له خصوصية وهي أن الإنسان يتعبّأ إيماناً وكمالاً من خلال البرامج الروحية التي جعلت في هذا الشهر المبارك ولذلك قال رسول الله :

«إعمل بفرائض الله تكن أتقى الناس» .(1).

أي بإخلاص تام. ومعلوم أن التقوى حصن حصين ولكن يأتي الكذب ليهدم ذلك أي أنه عائق ومانع من الكمال ومن جهة فإن الكذب على الله ورسوله أو الأئمة الطاهرين يكون خارقاً لحرمة الألوهية ومقام النبوة والإمامة ومن يكون عمله هكذا فصيامه غير صحيح ولذلك حكمت الشريعة ببطلان صيامه . أي أن شهر رمضان أريد منه أن يكون مدرسة لتهذيب الإنسان وتنزيهه من كل رذيلة أي من كل منقصة فادحة في كماله فإذا كان الأكل والشرب في شهر رمضان قادحاً ومبطلاً للصيام فإن الكذب على الله ورسوله والأئمة أيضاً قادح في الصيام ومبطل له لماذا؟ لأنه منقصة لكمال الإنسان إذ الكمال في الصدق وحفظ كيانات الآخرين وعدم استغابتهم وتسقيطهم. بل إننا نرى الإسلام يهتم بجانب الروح أكثر من الجانب الجسدي. جاء في الحديث :

ص: 276


1- الكافي : ج 2 الإيمان والكفر باب أداء الفرائض ح 4 .

«كم من صائم ليس له من صيامه إلاّ الجوع والعطش ». (1).

وعن مولاتنا الزهراء سلام الله عليها قالت :« ما يصنع الصائم بصيامه إذا لم يصن لسانه وسمعه وبصره وجوارحه».(2).

من مفاسد الكذب:

لقد اتفق العقل والنقل على قباحة الكذب وأنه من المعاصي الكبيرة كما دلت الأخبار على ذلك أيضاً .

فعن الإمام الصادق «الكذب على الله وعلى رسوله صلّی الله علیه وآله وسلم من الكبائر» .(3) .

وفي الكذب مفاسد دنيوية وأخرى أخروية وعلى كل منهما تتفرع مفاسد كثيرة، فمن الأولى أن الإنسان إذا كذب ثم افتضح أمره فإنه يسقط من أعين الناس وينهدم مقامه الاجتماعي وتزول شخصيته ويذهب بهاؤه ولا يستطيع أن يجبر ذلك لاسيما إذا اشتهر بالكذب فيعيش طيلة عمره مبغوضاً من قبل الناس ولا يحظى بثقتهم ويحرم من معاملتهم وربما يمنع من خيرهم ولذلك حرمت الشريعة الكذب وكرهته حتى في مواطن الهزل لأنه ربما ربما يصبح مقدمة للتعوّد عليه في الجد أيضاً .

قال أمير المؤمنين علیه السلام : «لا يجد عبد طعم الإيمان حتى يترك الكذب هزله وجده» .(4) .

بل إن بعض الفقهاء أفتى بحرمته أيضاً : «إذا نسب الصائم عمداً كذبة

ص: 277


1- البحار : ج 93 باب آداب الصائم ح 24 .
2- نفس المصدر : ح 25 .
3- الكافي : ج 2 الإيمان والكفر باب الكذب ح 5 .
4- الكافي : ج 2 الإيمان والكفر باب الكذب ح 11 .

إلى الله أو الأنبياء أو الأئمة الطاهرين لفظاً أو كتابة أو إشارة وما شابه بطل صومه وإن تاب فوراً».(1).

وكما أفتى بحرمته صاحب الوسائل في باب تحريم الكذب في الصغير والكبير والجد والهزل عدا ما استثنی .(2).

وعن الإمام الباقر علیه السلام قال : كان علي بن الحسين صلوات الله عليهما يقول لولده :

«اتقوا الكذب الصغير منه والكبير في كل جد وهزل فإن الرجل إذا كذب في الصغير اجترى على الكبير أما علمتم أن رسول الله صلِى الله عليه وآله سلم قال : ما يزال العبد يصدق حتى يكتبه الله صديقاً وما يزال العبد يكذب حتى يكتبه الله كاذباً ». (3).

ومن تبعات الكذب أن يصبح الإنسان الكاذب ذا لسانين ووجهين لأنه يقول للناس شيئاً ويفعل أمراً غيره وهكذا دواليك وقد قال مولانا الإمام

الصادق علیه السلام :

«من لقي المسلمين بوجهين ولسانين جاء يوم القيامة وله لسانان من نار».(4).

وقطعاً فإن هذه الصفة من أقبح الصفات التي يستهجنها العرف الاجتماعي لأنها أشبه بالنفاق ويقول مولانا أمير المؤمنين علیه السلام: «شر الأخلاق الكذب والنفاق ».(5) .

ص: 278


1- راجع المسائل الإسلامية : كتاب الصوم مسأله 1604 .
2- وسائل الشيعة : ج 8 باب 140 باب تحريم الكذب في الصغير و . . .
3- الكافي : ج 2 كتاب الإيمان والكفر باب الكذب ح 2 ص 253 .
4- نفس المصدر : باب ذي اللسانين ح 1 ص 257.
5- غرر الحكم ص 218 ح 4373.

فكما أن النفاق يخرج الإنسان عن ربقة الإيمان فلعل الكذب يكون مثله إذا استمر الإنسان عليه ولذلك يقول علیه السلام: «لا مروءة لكذوب» . (1).

والكذوب هو كثير الكذب والمروءة هي فضيلة الترفع والاحتشام عن مواقعة القبيح وبما أن الكذوب ليست لديه هذه الفضيلة فهو كثير الوقوع في القبائح، قال الشاعر :

ودع الكذوب فلا يكن لك صاحبا***إن الكذوب لبئس خِلاً يُصحب

وقال آخر :

لا يكذب المرء إلاّ من مهانته*** أو فعله السوء أو من قلة الأدب

لبعض جيفة كلب خير رائحةً ***من كذبة المرء في جد وفي لعب

تبعات الكذب في الآخرة:

جاء عن الإمام الباقر علیه السلام: إن الله عزّ وجلّ جعل للشر أقفالاً وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب والكذب شر من الشراب» (2) (2).

كما أن للكذب نتائج وخيمة في الدنيا كذلك الحال في آخرة الإنسان وموقفه يوم القيامة. فمن التبعات التي يتركها الكذب في عنق الإنسان نذكر ما يلي :

1 - خراب الإيمان : «إن الكذب هو خراب الإيمان» .(3)ومن خرب إيمانه ساءت عاقبته وساء موقعه في الآخرة .

2- الكذاب مبارز الله : عن الإمام الصادق عليه السلام قال : «من حلف

ص: 279


1- مائة كلمة لأمير المؤمنين : للبحراني ص 104 ك 12 ط إيران
2- الكافي : ج 2 كتاب الإيمان والكفر باب الكذب ح 3 .
3- المصدر نفسه : ح 4 .

على يمين وهو يعلم أنه كاذب فقد بارز الله عزّ وجلّ».(1)وفي حديث آخر مضمونه ما آمن بالله من حلف به كاذباً .

3- الحرمان من الهداية : قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ }(2).

4 - الكذاب فاسق عند الله : قال تعالى يصف الكذاب بأنه فاسق{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}.(3)ولذلك نجد الكذب من الكبائر لتبعاته السيئة في الدنيا والآخرة .

دع الكذب :

قال رجل للنبي صلّی الله علیه وآله وسلم : أنا أستسر بخلال أربع : الزنا - والسرقة -وشرب الخمر - والكذب ، فأيتهن شئت تركت لك يا رسول الله ؟ قال : دع الكذب. فلما تولّى هم بالزنا فقال : يسألني - أي رسول الله صلّى الله عليه وآله سلم - فإن جحدت نقضت ما جعلت له وإن أقررت حددت أو رجمت ثم همّ بالسرقة ثم في شرب الخمر ففكر في مثل ذلك فرجع إليه فقال : قد أخذت عليَّ السبيل قد تركتهن أجمع.(4) .

فضيحة الكذب:

يحكى أن السلطان (حسين ميرزاى بايقرا) الذي كان ملكاً في خُراسان أرسل الأمير حسين أبي وردي رسولاً عنه إلى السلطان يعقوب ميرزا ملك العراق وآذربيجان يومئذ وأرسل معه هدايا كثيرة وعدة كتب منها كتاب

ص: 280


1- عقاب الأعمال : ص 271 ح 1 وح 10 ط الأعلمي .
2- سورة الزمر ؛ الآية : 5 .
3- سورة الحجرات ؛ الآية : 6 .
4- ربيع الأبرار : الأبرار : ج 3 ص 639 ط إيران .

(كليات جامي)المشهور الذي كان جديداً ومرغوباً في ذلك الوقت إلا أن صاحب المكتبة أعطاه سهواً بدل كليات جامي كتاب (الفتوحات المكية )ولم يتأكد الأمير حسين فأخذ الكتاب معه ودخل مع مجموع الهدايا على السلطان يعقوب فأحسن السلطان استقباله وسؤال حاله وقال له : لقد عانيت الكثير لطول المسافة فقال له الأمير حسين : كان كان معي في الطريق رفيقاً يؤنسني ويدفع الملل عني وهو كتاب كليات جامي الذي أُرسل لك هدية . فأمر السلطان وهو في شدة الاشتياق للكتاب بالإتيان به فأرسل الأمير حسين من يحضره فلما جاؤوا به فإذا هو الفتوحات المكية وليس كليات جامي وافتضح الأمير حسين في كذبه حين قال بأني كنت مأنوساً بمطالعة الكتاب في الطريق فقال له السلطان : أما تستحي من مثل هذا الكذب فخجل الأمير حسين ولم يحر جواباً وخرج من البلاط خجلاً وعاد بلا توقف إلى خُراسان وقال عن ذلك : وددت حين افتضح أمري وانكشف كذبي لو مت في مكاني ذلك ولم يكن ما كان.

فلا بد أن يأتي ذلك اليوم الذي ينكشف الكذّاب أمام الآخرين وتظهر حقيقته لأن الله لا يدعه هكذا يخدع عباده ، فضلاً عن أنه سوف يفتضح غداً على رؤوس الأشهاد .

اليمين الكاذبة:

قال رسول الله صلّی الله علیه وآله سلم: يا علي لا تحلف بالله كاذباً . .وهو المسمى ب-« اليمين الكاذبة» أو اليمين الغموس وهو من الذنوب الكبيرة وله آثار سيئة جداً نذكر منها ما جاء عن الإمام الباقر علیه السلام قال :

في كتاب علي علیه السلام: ثلاث خصال لا يموت صاحبهن أبداً حتى يرى وبالهن : البغي وقطيعة الرحم واليمين الكاذبة يبارز الله بها، وإن أعجل الطاعة ثواباً لصلة الرحم وإن القوم ليكونون فجاراً فيتواصلون فتنمى أموالهم ويثرون وإن اليمين الكاذبة وقطيعة الرحم لتذران الديار بلاقع من أهلها وتنقل

ص: 281

الرحم وإن نقل الرحم انقطاع النسل .(1) .

وهناك أخبار تقول إن الله سبحانه لا يرحم من حلف به كذباً كما جاء في حديث الرسول صلّی الله علیه وآله سلم والأئمة الأطهار علیه السلام ولكن ما معنى رحمة الله هل هي الصفة الإنفعالية التي تحصل في نفوسنا أم لا ؟ إذ إن الرحمة أو الفرح أو الحزن ... صفات حادثة تحصل في نفوسنا بسبب تأثرنا بالوقائع الخارجية ومن مقولة الانفعال أو الكيف النفساني كما يرى الحكماء. فهل هذا الأمر يكون في ذاته المقدسة أم لا ؟ أي أننا عندما نقول إن الله يرحم أو لا يرحم هل أنه يتأثر وينفعل بالواقع الخارجي أم لا ؟

نقول إن معنى رحمة الله أو أنه تعالى لا يفيض رحمته على صاحب اليمين الكاذبة مثلاً معناه أنه تعالى لا يفيض أثر رحمته فمعنى الرحمة هو آثار الخير التي يتفضل الله بها على الصالحين من عباده . فالله تعالى لا يتأثر بأي شيء لأنه ليس جسماً مادياً لكي يتصف بما يتصف به الجسم المادي وبما أنه ليس جسماً فهو خارج عن حدود هذا الوجود المحدود بل إن ذاته تعالى غير محدودة ولا متناهية . فعندما نقول إن الله يغضب أو يفرح وغيرها هذه من الصفات معناها أن الله سبحانه يظهر أثر الغضب والفرح على العباد لا أنه تعالى له مزاج أو نفس كنفوسنا فتتأثر بالأشياء والآثار مخلوقات من قبله تعالى لتدل عليه. وهذا معنى العبارة التي يذكرها العلماء (خذ الغايات واترك المبادىء) أي على الإنسان أن ينظر إلى الآثار ولا ينظر إلى مبادىء الصفة كما تحصل هي فينا وإنما تطلق هذه الصفات النفسانية مثل الرحمة والغضب لتدل على آثارها لا على انفعال الذات سبحانه وتعالى .

وعلى هذا فيكون معنى قول الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله سلم: (فإن الله لا يرحم . . ) أي لا ينشر آثار الخير والسعادة ويظهر آيات رحمته على الإنسان الذي يحلف بالله كاذباً فيحرم من الرزق وأسباب السعادة في الدنيا والآخرة .

ص: 282


1- الكافي : ج 2 كتاب الإيمان والكفر ح 4 باب قطيعة الرحم .

عن الصّادق علیه السلام: إن الذنب يحرم العبد الرزق» .(1).

لماذا القسم ؟:

المعنويات كلما قويت في الإنسان أي كلما ارتفع فيه الجانب المعنوي وتحلّى بالصفات الكمالية، كلما قويت شخصيته وزادت ثقته بنفسه، لأن الكمالات ترفع من مستوى الإيمان والإيمان يعني القرب من الله وهذا القرب هو الذي يلهم المؤمن قوة وثباتاً وثقة بالنفس فلذلك نرى أمثال هؤلاء لا يحتاجون للقسم ولا يتعرضون لمقام الرب تبارك وتعالى المقدس ولا المقامات الأئمة علیه السلام لأنهم ملازمون للصدق ويرون فيه كفاية في الإثبات،هذا من جهة ومن جهة أخرى إن الإيمان العميق يزيد قداسة الله عزّ وجلّ وجلالته في قلبه، وكذلك قداسة الرسول والأئمة، فلا يقسم بهذه المقدسات من أجل أمور دنيوية تافهة أمام مقام الله سبحانه والأئمة مهما عظمت .

أما الإنسان ضعيف الإيمان ضعيف الشخصية فهو يشعر بهذا النقص والفجوة في أعماقه فيحاول أن يدعم كلامه بالقسم أو يعطي لكلامه قدسية بالحلف أو يحاول أن يكسب قناعة الآخرين بالقسم أو بالعكس. فهو يكذب ولكن بالحلف يحاول أن يغطي على كذبه وهو من أقبح الأمور ولعل هذا الذي أشار إليه الرسول الأعظم في حديثه (فإن الله لا يرحم ولا يرعى من حلف باسمه كاذباً) .

القسم بالله :

من خلال أحاديث أهل البيت علیه السلام وسيرتهم الجهادية نرى أنهم لم يحلفوا بالله إلاّ في الأمور العظيمة جداً والتي تشكل خطراً على الرسالة أو بعض القضايا السياسية أو العقائدية المهمة في نظر الإسلام أما أُمور الدنيا

ص: 283


1- الكافي : ج 2 الإيمان والكفر باب الذنوب ح 11 .

المادية فلا يقرنونها بالحلف. فمثلاً أمير المؤمنين علیه السلام أراد أن يبين للمسلمين عامة أن خلافة أبي بكر كانت غصبية وكانت مفتاحاً للفتن والإنشقاقات نراه في هذا المورد يقسم بالله لكي يدعم كلامه أكثر ويرفع أي شك في أذهان المسلمين فيقول (أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحا ينحدر عني السيل ولا يرقى إلي الطير فسدلت دونها ثوباً وطويت عنها كشحاً . . ).(1) .

ثم بعد أن ذكر أن خلافة الأول كانت غصبية وخالية من كل لون شرعي يبيّن أنه حتى أعماله وتصرفاته كانت غير مطابقة للشريعة فيقول علیه السلام (فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته لشد ما تشطرا ضرعيها) .(2) .

فالعبارة الأخيرة تبيّن سياسة الأول والثاني واتفاقهما على سلب هذا الأمر عن أمير المؤمنين والتلاعب بأموال المسلمين( لشد ما تشطرا ضرعيها )ثم يبين الأسوأ من هذا وذاك بقوله (ومال الآخر لصهره مع هن وهن إلى أن قام ثالث القوم . . وقام معه بنو أبيه يخضمون .(3) مال خضمة الإبل نبتة الربيع . . ). (4).

فهذه من الأمور العظام وهي حاكمية رجال تسلطوا باسم الإسلام فأراد الإمام أن يبيّن عدم شرعيتهم فافتتح كلامه الشريف بالقسم . وهكذا الأمر في الموارد الخطيرة التي تكون مائزاً بين الحق والباطل نرى أئمتنا علیه السلام يقسمون بالله وإلاّ ففي الأمور الجزئية والجانبية لا يتعرضون لمقام الله عزّ وجلّ أبداً. فمثلاً عندما أشير على أمير المؤمنين بعدم قتال طلحة والزبير وعدم رصد الجيش قبالهم نرى أن الإمام يفتتح كلامه بقوله (والله لا أكون

ص: 284


1- نهج البلاغة : صبحي الصالح خ 3 الشقشقية نسخة المعجم .
2- الخضم : أكل الشيء الرطب .
3- نفس المصدر .
4- نفس المصدر .

كالضبع تنام على طول اللدم .(1)حتى يصل إليها طالبها ويختلها راصدها ولكني أضرب بالمقبل إلى الحق المدبر عنه . . ).(2)وهنا نلاحظ قضية مهمة جداً لذلك أقسم الإمام بالله سبحانه لأنه كان خليفة المسلمين وصاحب الشرعية بلا منازع مطلقاً وإذا ترك قتال طلحة والزبير مع نكثهما البيعة يعني في ذلك إعطاء الشرعية لهما ولتحركهما العسكري مما يثير الفتن والاحتمالات والشكوك والأقاويل وغيرها من الأمور التي تمزق وحدة المسلمين. هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا يريد أن يكون فريسة سهلة لطلحة والزبير اللذين يمثلان الباطل ليتلاعبا بأمور المسلمين كما فعلها الأوائل قبله. ومن جهة ثالثة إن أمير المؤمنين دائماً وأبداً مع الحق ( علي مع الحق والحق مع علي).(3) فهيهات أن يفتح مجالاً لدخول الباطل إلى دولته فهو دائم الدفاع عن الحق ودولة الحق ولذا يقول (أضرب بالمقبل إلى الحق المدبر عنه) .

فالقسم بالله العظيم ليس أمراً سهلاً تلوكه الألسن في كل آن بل هو من عظائم الأمور و الأمور وأجلها فعلى المؤمن أن ينتبه إلى ذلك ولا يجعل الله عرضة لأيمانه في كل أمر تعالى الله عن ذلك .

القسم في مجتمعاتنا:

وكذا الحال في مجتمعاتنا فالكثير من الناس يحلف بالرسول أو أحد الأئمة علیه السلام أي أمر حتى على الدينار أو على كيلو من الطعام أو ثوباً ما وهكذا . .يجب علينا أن نفهم مقام أهل البيت علیهم السلام الشامخ وأن لا نتعرض إلى هذه الأسماء المقدسة وهذه الوجودات القدسية ونقسم بها على

ص: 285


1- اللدم : صوت العصا تضرب بها الأرض فمع شدة الصوت إلاّ أنّ الضبع يبقى نائماً .
2- راجع النهج من كلام له عندما أشير عليه بعدم رصد القتال لطلحة والزبير ص 7نسخة المعجم .
3- كشف الغمة : ج 1 ص 143 .

أدنى شيء ولذلك جاء في الروايات وفتاوى الفقهاء أن الحلف بالأئمة والرسول كذباً يفطر الصائم كما أن الحلف بالله كذباً يفطر الصائم. فأهل البيت بفضلهم ومن أجلهم بل هم العلة الغائية وراء خلق هذا الوجود فإن الله اشتق من أنوارهم القدسية - بعد أن خلقها - هذا العالم ودان لهم العالم كله بما فيه .(1).

عن النبي النبي صلّی الله علیه وآله سلم قال : إن الله خلقني وخلق علياً وفاطمة والحسن والحسين قبل أن يخلق آدم حين لا سماء مبنية ولا أرض مدحية ولا ظلمة ولا نور ولا شمس ولا قمر ولا نار فقال العباس : فكيف كان بدء خلقكم يا رسول الله ؟ فقال : يا عم لما أراد الله أن يخلقنا تكلم بكلمة فخلق منها نوراً ثم تكلم بكلمة أخرى فخلق منها روحاً ثم خلط النور بالروح فخلقني وخلق علياً وفاطمة والحسن والحسين فكنا نسبحه حين لا تسبيح ونقدسه حين تقديس فلما أراد الله تعالى أن ينشيء خلقه فتق نوري فخلق منه العرش فالعرش من نوري ونوري من نور الله ونوري أفضل من العرش ثم فتق نور أخي علي فخلق منه الملائكة فالملائكة من نور علي ونور علي من نور الله وعلي أفضل من الملائكة ثم فتق نور ابنتي فاطمة فخلق منه السماوات والأرض فالسماوات والأرض من نور ابنتي فاطمة ونور ابنتي فاطمة من نور الله وابنتي فاطمة أفضل من السماوات والأرض ثم فتق نور ولدي الحسن وخلق منه الشمس والقمر فالشمس والقمر من نور ولدي الحسن ونور الحسن من نور الله والحسن أفضل من الشمس والقمر ثم فتق نور ولدي الحسين فخلق منه الجنة والحور والعين فالجنة والحور العين من نور ولدي الحسين ونور ولدي الحسين من نور الله وولدي الحسين أفضل من الجنة والحور العين .(2).

كفى بهذا الحديث بياناً لمقام أهل البيت علیهم السلام فعلى الذين يلوكون

ص: 286


1- راجع كتاب بصائر الدرجات للتفصيل في بيان مقام أهل البيت علیهم السلام.
2- البحار : ج 54 باب حدوث العالم ص 193 ح 139 .

أسماءهم المقدسة على أدنى الأمور أن ينتهوا وينتبهوا إلى هذا المقام الشامخ

مع أي حرمة يتعاملون ***نحب عليهم أن يتعاملوا ؟

الإمام السجاد أسوة:

جاء في الرواية المشهورة عن الإمام الباقر علیهم السلام : إن أباه الإمام السجاد علیهم السلام كانت عنده امرأة من الخوارج فقال له مولى له : يابن رسول الله إن عندك امرأة تتبرأ من جدك فقضى لأبي أنه طلقها فادعت عليه صداقها فجاءت به إلى أمير المدينة تستعديه عليه فقالت : لي عليه صداقي أربعمائة دينار، فقال الوالي ألك بيّنة ؟ فقالت لا ولكن خذ يمينه فقال والي المدينة : يا علي إما أن تحلف وإما أن تعطيها فقال لي : يا بني قُم فأعطها أربعمائة دينار فقلت : يا أبه جعلت فداك ألست محقاً ؟ فقال : بلى يا بنيّ ولكني أجللت الله أن أحلف به يمين صدق .(1).

فكان من حق الإمام أن يحلف بالله لكي يثبت الحق لنفسه ويبين بطلان قول المرأة ولكنه اعتبر الحلف بالله العظيم من أجل أربعمائة دينار أمراً تافهاً فليس الأمر بتلك الأهمية لكي يقسم بالله فليس هو أمراً سياسياً خطيراً ولا مطلباً عقائدياً مهماً ولا هو أمر متعلق بعظائم الأمور فلذلك لم يحلف الإمام علیه السلام .

وكذا الحال بنا عندما نُجلّ ونقدس ساحة أئمتنا علیهم السام ولا نجعل هذه الوجودات الشريفة عرضة لكلامنا وقضايانا الجانبية، فإننا كلما قرنّا أسماءهم علیهم السلام بأمورنا الدنيوية نكون قد قلّلنا من قداستهم في قلوبنا، بل علينا أن ندعم كلامنا بالمنطق السليم والصدق فلا نحتاج إلى أن نحلف بالله أو بالرسول والأئمة وإن فاتنا بعض المنافع أحياناً. علينا أن نتأسى بأئمتنا فلا

ص: 287


1- البحار : ج 104 ص 281 ح 16 باب 6 .

نقسم إلاّ في القضايا المهمة المرتبطة بالمعنويات والمصالح النوعية وإحقاق الحقوق

أما في إثبات القضايا الشخصية فإذا كان بالإمكان أن لا يحلف الإنسان فعدم حلفه يكون من الكواشف عن كمالاته ورفعه شخصيته كما أن عدم الحلف يزيد من قداسة وجلالة وعظمة الله في قلب الإنسان كما يزيد من آداب المجتمع عموماً ويدفعه نحو تقديس مقدساته بالصورة الأفضل مما يضفي عليه قوة في الإيمان وكمالاً في الصفات وبالتالي يقترب الإنسان عبر هذه الروحانية من الله عزّ وجل ، مما يجعله في محل رحمته سبحانه . أما إذا حلف كاذباً فهذا أولى بالبعد عن ساحة الرحمة الإلهية والحرمان من العناية الإلهية ورعاية الأئمة الطاهرين عليهم الصَّلاة والسَّلام .

ص: 288

15- الأباء والأبناء بَيْنَ الْحُقُوق والواجبات

اشارة

ص: 289

ص: 290

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) لعلي (علیه السلام) :

«يا علي يلزم الوالدين من عقوق ولدهما ما يلزم الولد لهما من عقوقهما ».(1) .

قانون الحقوق:

الحقوق من أهم ما تمتاز به الشريعة الإسلامية لسعادة الحياة الشخصية والاجتماعية ومن هنا نجد أن نظام الحقوق يحكم على كل جوانب الحياة في الإسلام .. فللّه تعالى حقٌّ على المخلوق بأن يعبده وحده عرفاناً بالجميل {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} . (2).

وفي رسالة الحقوق للإمام زين العابدين علیه السلام :

«فأمّا حقّ الله الأكبر عليك فأن تعبده لا تشرك به شيئاً . .» .(3).

كذلك إن لنفس الإنسان على الإنسان حقاً فلا يضارها ولا يتلفها والإنسان يمتلك أعضاء وحواساً تساعده على أداء الأعمال والتمتع والحركة . .ومن حقّ هذه الأعضاء أن كلاّ منها موضعه ومنها طاعة

ص: 291


1- كلمة الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلّم : ص 165.
2- سورة الذاريات ؛ الآية : 56 .
3- البحار : ج 71 ص 3 باب جوامع الحقوق حديث 1 ط بيروت .

الله تعالى ولا يستخدمها في غير محلّها . .

«وحقّ نفسك عليك أن تستعملها بطاعة الله عزّ وجلّ فتؤدي إلى لسانك حقّه وإلى سمعك حقّه، وإلى بصرك حقّه، وإلى يدك حقّها، وإلى رجلك حقّها، وإلى بطنك حقّه، وإلى فرجك حقّه، وتستعين بالله على ذلك» .(1).

كذلك إنّ للصَّلاة التي تؤديها يومياً خمس مرّات حقاً وللحج حقّاً وللصوم حقاً ..

وهذه الأعمال العبادية ذات طرفين وحقوقها متبادلة، هذا في الجوانب الشخصية وأما في حياة الإنسان الإجتماعية فكذلك هناك حقوق متبادلة، فللزوج حقوق على الزوجة وللزوجة أيضاً حقوق على الزوج قال تعالى :

{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}. (2)وقال الإمام عليهم السلام :

«. . . وإن كان حقّك عليها أوجب فإنّ لها عليك أن ترحمها لأنها أسيرك، وتطعمها وتكسوها فإذا جهلت عفوت عنها » . (3).

فكل شيء في هذا الوجود وضعت الشريعة الإسلامية له حقوقاً متبادلة قائمة على أساس الحق والإنصاف والمصلحة . .

حق الآباء مسؤولية الأبناء:

ومن ضمن الحقوق المتبادلة حق الآباء على الأبناء وحق الأبناء على الآباء .. وأما حق الآباء فمن قوله تعالى : {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا }.(4).

ص: 292


1- المصدر نفسه .
2- سورة البقرة ؛ الآية : 228 .
3- البحار ج71 ص 5 باب جوامع الحقوق حديث 1 .
4- سورة الإسراء ؛ الآية : 23 .

وقوله تعالى : {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } (1).

ويصوّر لنا الإمام زين العابدين لا هذا الحق بقوله :

وأما حق أبيك فأن تعلم أنه أصلك وأنه لولاه لم تكن فمهما رأيت في نفسك ما يعجبك فاعلم أنّ أباك أصل النعمة عليك فيه، فاحمد الله واشكره على قدر ذلك ولا قوة إلا بالله»(2).

وحق الآباء ناشىء في الغالب مما يبذلانه من تعب وإرهاق لتربية الأبناء ويضحيان بالغالي والنفيس لأجل نشوئهم ونموهم وما يلاقيه الآباء من مصاعب ومشاكل لأجل أبنائهم ولولا الآباء لما وجد الأبناء .. كل هذه العوامل فرضت على الأبناء تحمل مسؤولياتهم تجاه الآباء من الإحسان إليهم ومعاشرتهم بالمعروف واحترامهم والتكلم معهم بالكلام الحسن واتباع أوامرهم إلاّ فيما يغضب الخالق تعالى إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وقد تواترت الأحاديث الشريفة في حقوق الآباء وأفضلية الأعمال برضا الوالدين، وأنّ الجنّة مرهونة برضاهما عكس عقوق الوالدين ففيه الخسارة الدنيوية والأخروية . .

والخلاصة ينبغي على الأبناء تجاه آبائهم أُمور منها :

1 - الحب : وهو عاطفة فطرية أودعها الله تعالى في قلوب الأبناء منذ الصغر حتى إذا بلغ الابن تحولت محبته لوالديه شفقة فيعمل لسعادتهم كما كانوا هم يعملون لسعادته . .

2 - الشكر : وهو أقل الأثمان مقابل عطاء الوالدين من جسدهما وراحتهما لتربية أبنائهما وللشكر مظاهر منها العطف والصبر في إنجاز الأعمال وتحمّل الأعباء الموكولة إلى الأولاد عند بلوغ الأبوين سنّ العجز

ص: 293


1- سورة النساء ؛ الآية : 36 .
2- البحار : ج 71 ص 6 باب جوامع الحقوق حديث 1 .

وتخفيف أعباء الحياة عنهما قال تعالى :

{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا}. (1).

3- الطاعة : وهي دليل الإخلاص والحب والطاعة للوالدين لها مظاهر منها الالتزام بنصائحهما ومنها تنفيذ رغبتهما والوقوف عند أوامرهما إذا لم تكن في معصية الله .

4 - الإحترام : والاحترام يظهر أيضاً من خلال رعاية الأدب اتجاههما - وعدم معاملتهما معاملة الند وإنما معاملة الصغير للكبير. .

5 - النفقة : إذا كان الآباء مصداقاً لوجوب النفقة وذلك بتهيئة اللوازم المطلوبة لهما من ملبس أو مأكل أو مبيت وما شابه . . وقد ذكر الفقهاء أن للآباء على الأبناء وجوب النفقة في شرائط خاصّة .

العقوق خسارة مُرة:

في رواية أنّ شيخاً كبيراً جاء بابنه إلى رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم والشيخ يبكي ويقول يا رسول الله إبني هذا غذوته صغيراً، وربيته طفلاً عزيزاً، وأعنته بمالي كثيراً، حتى إذا اشتد أزره وقوي ظهره وكثر ماله، وفنيت قوتي وذهب مالي عليه وصرت من الضعف إلى ما ترى قعد فلا يواسيني بالقوت الممسك الرمقي

فقال رسول الله صلّی الله علیه وسلم للشاب ماذا تقول؟ قال : يا رسول الله لا فضل معي عن قوتي وقوت عيالي . فقال رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم للوالد ما تقول ؟ فقال يا رسول الله إن له أنابير حنطة وشعير وتمر وزبيب، وبدر الدراهم والدنانير وهو غني . فقال رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم للابن ما تقول ؟ قال الابن : يا رسول الله ما لي شيء مما قال . قال رسول الله صلّی الله علیه وسلم: إتق الله يا فتى وأحسن إلى والدك . المحسن إليك .

ص: 294


1- سورة الأحقاف ؛ الآية : 15 .

قال : لا شيء لي . قال رسول الله : فنحن نعطيه عنك في هذا الشهر، فأعطه أنت فيما بعده، وقال لأسامة أعط الشيخ مائة درهم نفقة لشهره لنفسه ولعياله، ففعل فلما كان رأس الشهر جاء الشيخ والغلام ،وقال الغلام لا شيء لي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم : لك مال كثير، ولكنك اليوم تنسى وأنت فقير وتصير أفقر من أبيك هذا لا شيء لك .

فانصرف الشاب فإذا جيران أنابيره قد اجتمعوا عليه يقولون حوّل هذه الأنابير عنّا ،فجاء إلى أنابيره وإذا الحنطة والشعير والتمر والزبيب قد نتن جميعه وفسد وهلك، وأخذوه بتحويل ذلك عن جوارهم، واكترى أُجراء بأموال كثيرة فحولوه وأخرجوه بعيداً عن المدينة، ثم ذهب يخرج إليهم كراء من أكياسه التي فيها دراهمه ودنانيره فإذا هي قد طمست و مسخت حجارة، وأخذ الحمالون يطالبون بالأجرة، فباع ما كان له من كسوة وفرش ودار، وأعطاهم الكراء، وخرج من ذلك كلّه صفراً، ثم بقي فقيراً مقتراً لا يهتدي إلى قوت يومه ،فسقم لذلك جسده ،وضني، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله سلم: يا أيها العاقون للآباء والأمهات اعتبروا واعلموا أنه كما طمس في الدنيا على أمواله، فكذلك جعل بدل ما كان أعدّ له في الجنّة من الدرجات معداً له في النار من الدركات .(1)

وهذا هو ثمن عقوق الوالدين خسارة الدنيا بما فيها من ملذات ونعم وخسارة الآخرة . .

حق الأبناء على الآباء:

هذه كانت إشارة سريعة لحقوق الآباء وما يلزم من عقوق الولد لوالديه وكما أنّ للآباء حقوقاً على الأبناء فإنّ للأبناء حقوقاً على آبائهم فإذا لم يلتزموا بها يكونوا عاقّين أيضاً كما جاء في حديث الرسول الأعظم صلّى الله عليه وسلم :

ص: 295


1- البحار : ج 17 ص 269 ح 6 باب 2 .

«يا علي يلزم الوالدين عقوق ولدهما ما يلزم الولد لهما من عقوقهما » .(1).

والعقوق أصلها العقّ وهو الشقّ والقطع فيقال : عقّ الولد أباه يعقّه عقوقاً من باب قعد إذا آذاه وعصاه وترك الإحسان إليه وهو البرّ به .(2) . .

لذا فإنّ العقوق هو القطع أو الشق سواء من الولد تجاه والديه أو من الوالدين تجاه الولد لأن كلا الطرفين عليهما واجبات كما لهما حقوق. وقد ذكرنا واجب الولد تجاه والديه وسنذكر واجبات الآباء تجاه الأبناء فإذا قطع الولد هذه الواجبات الملقاة عليه تجاه والديه صار عاقاً وإذا قطع الوالدان واجباتهما تجاه الولد صارا عاقّين أيضاً .

ونتيجة العقوق أيضاً ستكون خسارة الدنيا والآخرة لأن الحقوق الإسلامية متبادلة وذات طرفين فإذا لم يفعل الأبناء ما يلزمهم به الإسلام عليهم من حقوق تجاه الآباء يكونوا (عاقين) كذلك إذا لم يفعل الآباء ما يلزمهم به الإسلام من حقوق تجاه الأبناء يكونوا (عاقين). .

وفي رسالة الحقوق للإمام زين العابدين علیه السلام يصوّر لنا الإمام حق الأبناء على الوالدين هكذا :

«وأما حق ولدك فأن تعلم أنّه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشرّه، وأنك مسؤول عما وليته به من حسن الأدب والدلالة على ربّه عزّ وجلّ، والمعونة له على طاعته ،فاعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه» .(3).

فالإحسان للأبناء فيه الثواب والإساءة إليهم فيه العقاب ويعتبر من العقوق . .

ص: 296


1- تقدم مصدره .
2- راجع مجمع البحرين ج 5 ص 215 مادة عقق .
3- البحار : ج 71 ص 6 باب جوامع الحقوق حديث 1 .

فالأولاد أمانة وضعها الله تعالى بيد الآباء وهم مسؤولون عنها بحسن التربية وهذه المسؤولية تتعدّى مسألة الاحترام والكد على العيال إلى مسؤولية أكبر وهي الحفاظ على المجتمع الإسلامي ككل وتماسكه وصلاحه بنشوء الأبناء في ظلّ تربية صالحة وحسنة تعطي ثمارها عاجلاً وآجلاً في بناء المجتمع وتطوّره وأفضليته وهذه المسؤولية من أكبر الواجبات الملقاة على عائق الآباء والتي يفرضها الإسلام والنظام الاجتماعي . .

إختيار الاسم الحسن:

1- من الحقوق المفروضة على الآباء تجاه الأبناء أن يحسّن الأب اسم ولده . .

وأحسن الأسماء ما يشعر بالعبودية مثل عبد الله وعبد الرّحمن وعبد الرحيم وعبد العظيم وأسماء الأنبياء كموسى وإبراهيم ومحمدصلّى الله عليه وسلم وأسماء الأوصياء كعلي والحسن والحسين والباقر والصادق .. عایهم السلام هذا بالنسبة للذكور أما بالنسبة للإناث فمثل فاطمة والراضية والمرضية والبتول والزهراء . . وهذه الأسماء المنقولة سمّاها الله تعالى لفاطمة الزهراء (سلام الله عليها )لأسباب ومناسبات حقيقية تحمل في طياتها المناسبة بين الاسم والمسمّى والإيحاء الإيجابي لدى الناس، قال الإمام الصّادق علیه السلام : «لفاطمة تسعة أسماء عند الله عزّ وجلّ : فاطمة والصديقة والمباركة والطاهرة والزكية والراضية والمرضيّة والمحدّثة والزهراء . . ». (1).

وتختلف أسماء البشر على مرّ الأجيال والعصور وعلى اختلاف لغاتها . . فقد توجد هناك مناسبة بين الاسم والمسمّى وقد لا توجد، وقد يكون للاسم معنى في اللغة وقد يكون مخترعاً لا معنى لغوياً له، وقد يكون الاسم له تأثير على الشخص وقد لا يكون أمّا أولياء الله تعالى فقد جمعوا

ص: 297


1- البحار : ج 43 ص 10 باب 2 حدیث 1 ط بیروت .

في أسمائهم المعاني الحقيقية والصفات الحسنة فقد اختار الله تعالى لنبيه يحيى علیه السلام هذا الاسم قبل أن تنعقد نطفته في رحم أمه { فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا * يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا }.(1).

ولذا فإن أسماء الأنبياء والأوصياء جاءت بإيحاء إيجابي وذات تأثير حسن على الإنسان ولذا فمن الجفاء لمن أعطاه الله تعالى عدة أولاد أن لا يسمّي أحدهم (محمد) وقد ورد عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من ولد له أربعة أولاد ولم يسمّ أحدهم باسمي فقد جفاني» .(2) .

وهناك روايات عديدة في هذا المجال منها : عن سليمان الجعفري قال سمعت أبا الحسن يقول :« لا يدخل الفقر بيتاً فيه اسم محمد أو أحمد أوعلي أو الحسن أو الحسين أو جعفر أو طالب أو عبد الله أو فاطمة النساء » .(3) .وقال علیه السلام : استحسنوا أسماءكم فإنكم تدعون بها يوم القيامة قم يا فلان بن فلان إلى نورك أو قم يا فلان بن فلان فلا نور لك .(4) . .

وعن العياشي عن ربيع بن عبد الله قال : «قيل لأبي عبد الله علیه السلام جعلت فداك إنّا نسمي بأسمائكم وأسماء آبائكم فينفعنا ذلك، فقال : أي والله وهل الدين إلاّ الحب والبغض قال الله تعالى : { إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ }.(5). (6).

وعن رسول الله صلّى الله عليه وآله سلم قال : «من حق الولد على والده ثلاثة :

ص: 298


1- سورة مريم ؛ الآيات : 5 - 7 .
2- وسائل الشيعة : ج 15 ص 126 باب 24 حديث 2 .
3- وسائل الشيعة : ج 15 ص 129 باب 26 حديث 1 .
4- المصدر نفسه : ص 123 باب 22 حدیث 2 .
5- سورة آل عمران الآية : 31 .
6- تفسير نور الثقلين : ج 1 ص 89 حديث 94 .

أن يحسّن اسمه، ويعلّمه الكتابة، ويزوجه إذا بلغ».(1).

تأثير الاسم على المسمى:

للإسم (تأثير إيحائي) لأنه يرتبط بذات الشخص ويقيم معه علاقة دائمية ويعرف به بين الناس، فإن كان حسناً كان تأثيره حسناً على الشخص لتداول معناه في ذهن الشخص يومياً فيحاول جاهداً أن يكون اسماً على مسمّى . والعكس بالعكس . وفي مدى تأثير الاسم على الشخص : ينقل أنّه كان هناك رجل كثير الكذب وفي ذات يوم التقى بعالم فاضل عن اسمه؟ فأجابه الرجل : صادق !! فقال له العالم إذاً كن صادقاً ولا تكذب أبداً في حياتك . . فأثر كلام العالم في الرجل وصمّم وقتها على أن لا يكذب أبداً .

وهناك أناس استثمروا فرصة الخير والصلاح فكانوا من أولياء الله تعالى وخلّدهم التاريخ لموقفهم البطولي كما في قصّة الحر بن يزيد الرياحي وموقفه البطولي يوم عاشوراء على أرض كربلاء ووقوفه بجانب الإمام الحسين علیه السلام وجانب الحق وعندما وقع مضرجاً بدمائه في أرض المعركة أتى إليه الإمام الحسين علیهم السلام فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول أنت الحر كما سمّتك أُمك حرّ في الدنيا والآخرة، وروي أنه أتاه الحسين علیهم السلام ودمه يشخب فقال بخ بخ لك يا حر أنت حر كما سميت في الدنيا والآخرة . (2). فالعوامل المؤثرة في سعادة الإنسان كثيرة : الوالدان الأسرة، البيئة، التربية، ومنها التسمية .

الإمام أمير المؤمنين علیه السلام عندما يبرز في يوم خيبر أمام مرحب الخيبري يقول في رجزه :

ص: 299


1- مكارم الأخلاق : ص 220 ط 6 بيروت .
2- المجالس السنية : ج 1 ص 98 ط إيران .

أنا الذي سمتني أمي حيدره*** ضرغام آجام وليث قسوره

كما أنّ العكس صحيح إذ إنّ هناك من الأشرار الذين يذكرهم التاريخ كانت أسماؤهم توحي أيضاً بالشرّ والظلم مثال : شداد، أبو لهب، يزيد،

شبث بن ربعي .

تغيير الأسماء:

وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم من دأبه أن يغير الأسماء القبيحة إلى أسماء حسنة، وقد ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق علیهم السلام عن آبائه علیهم السلام :

«إنّ رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم كان يغير الأسماء القبيحة من الرجال والبلدان» . (1).

التربية الحسنة

2 - ومن حقوق الأبناء على الآباء حسن التربية وقد وضع الإمام الصادق علیهم السلام منهجاً عملياً للتربية حيث جعل فترة نمو الأبناء في أحضان الآباء ثلاث مراحل، ولكل مرحلة أسلوبها الخاص حيث قال علیهم اسلام:

«دع ابنك يلعب سبع سنين ويؤدب سبعاً، وألزمه نفسك سبع سنين ،فإن فلح وإلا فلا خير فيه».(2)

التربية الفطرية:

وتتلخص هذه المراحل على النحو التالي :

ص: 300


1- وسائل الشيعة : ج 15 ص 124 باب 22 حديث 6 .
2- مكارم الأخلاق : ص 222 ط السادسة .

أولاً - التربية الفطرية :

وتختص هذه الفترة بالسنين السبع الأولى إذ يعامل الأب ابنه برفق ورحمة وعطف وحنان ويملأ ذهن ابنه بحب أهله ومجتمعه ودينه. . ويهيّى له تغذية صالحة لينمو ويقوى جسمه وينشأ صحيحاً، ويحاول الأب أن يبرمج الطفل في هذه المرحلة على حبّ الآخرين وترك الأنانية وحبّ أهله ومجتمعه وأمته كما يمرّنه على أداء بعض العبادات كالصَّلاة والصوم، وفي الحديث الشريف :

«علّموا صبيانكم الصَّلاة وخذوهم بها إذا بلغوا الحلم ».(1).

ومن هنا أفتى فقهاؤنا الأعاظم باستحباب تعليم الأولاد ذلك . .كما يفضّل أيضاً استصحابهم عند زيارة مراقد أهل البيت علیهم السلام وربطهم روحياً بأصحاب هذه المراقد .. وإبعادهم عن وإبعادهم عن الأماكن المشبوهة والمحرمة لأنّ الطفل في هذه المرحلة يرسم صوراً في ذهنه حيّة عن الأماكن التي يرتادها والده ويكوّن معها علاقة عاطفية تظهر عليه إذا بلغ وفهم الحياة. . ومن الأمور التي ينبغي مراعاتها في هذا الدور أيضاً أن تترك الطفل الصغير يمارس تجاربه الشخصية بنفسه ويتعامل مع الأشياء معتمداً على نفسه .. لتبتني شخصيته بناء قوياً محكماً وذلك لأن الطفل الصغير إذا نمى على ممارسة تجاربه بنفسه فإنه سوف ينشأ :

واثق النفس .

ذكي الفهم .

قوي الإرادة..

وتزداد معارفه يوماً فيوماً بالتجارب .

كما سوف يكتشف بعض الغوامض والقوانين ويتعرف على الأسرار بنفسه مما يزيده اطمئناناً وقوة في الشخصية لذا فالحديث الشريف يقول

ص: 301


1- تصنيف غرر الحكم : ص 175 ط الأولى .

(اتركه سبعاً) ليجرب الأمور بنفسه. . ولكن ينبغي على الوالدين أن يشرفا على الولد لكي لا يرتكب أخطاء فظيعة تؤدي به إلى المرض أو الخطر لقلة تجربته وضعف درکه .

فالإمام علیه السلام يقول (اتركه سبعاً) لا يقصد منه اتركه مطلقاً بلا إشراف ومتابعة بل يريد علیه السلام أن تتركه يكتشف الأمور بنفسه مع متابعة وإشراف من الآباء .. كل ذلك لتكبر روحه وتقوى شخصيته مما يكون له دور كبير على مستقبله .. وقد اعترف علم النفس الإجتماعي أخيراً بدور التجارب الشخصية في الصغر على مستقبل الإنسان واعترف بهذه الحقيقة التي قالها الامام علیه السلام قبل قرون طويلة .

التربية العلمية:

ثانياً - التربية العلمية :

وإذا انتهت المرحلة الفطرية التي يترك فيها الطفل مع تجاربه الخاصة تبتدىء المرحلة الثانية وهي التي توجب على الأب تعليم ابنه وتثقيفه وإلحاقه بمدرسة علمية مع متابعته إضافة إلى تفهيمه جوانب الحياة وما يترتب عليه من واجبات وأعمال مرتبطة بحياته وفي هذه الفترة يكون بلوغ بعض الأولاد فيترتب عليه التكليف الذي سنّته الشريعة الإسلامية من صلاة وصوم . .فينبغي على الآباء إذن في هذه المرحلة تعليم الأبناء العبادات المفروضة عليهم بعد أن كانت في المرحلة السابقة تمرينية ومستحبة، عن أبي عبد الله علیه السلام قال :

«إنّا نأمر صبياننا بالصَّلاة إذا كانوا بني خمس سنين فمروا صبيانكم بالصَّلاة إذا كانوا بني سبع سنين ونحن نأمر صبياننا بالصوم إذا كانوا بني سبع سنين بما أطاقوا من صيام اليوم فإن كان إلى نصف النهار أو أكثر من ذلك أو أقل فإذا غلبهم العطش والغرث أفطروا حتى يتعودوا الصوم ويطيقوه فمروا صبيانكم إذا كانوا أبناء تسع سنين بما أطاقوا من صيام فإذا غلبهم

ص: 302

العطش أفطروا . (1)

والظاهر أن أغلب الإناث يبلغن في سن التاسعة على المشهور فيجب عليهنّ إكمال الصيام إلى الليل وهكذا يدخلن في المرحلة الثانية بوجوب أداء العبادات .

ومن المظاهر المهمّة التي يجب تعليمها الأبناء في هذه المرحلة تلاوة القرآن الحكيم والتدبّر في آياته والأحاديث الشريفة المروية عن أهل البيت علیهم السلام وفي الحديث وفي الحديث : «علموا صبيانكم من علمنا ما ينفعهم الله به» .(2).

وعن رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم قال :

«أدّبوا أولادكم على ثلاث خصال: حبّ نبيكم، وحب أهل بيته. وقراءة القرآن ».(3) .

ولذا فإنّ الأب الذي يعلّم ابنه الحديث يؤدّبه على الإرتباط الوثيق بأهل البيت علیه السلام وحبّ منابع هذا العلم والعروة الوثقى التي ينجو من يتمسك بهم. . ولا شك أنّ هذه المرحلة أشد خطورة على مستقبل الإنسان ومستقبل الأمة الإسلامية إذ تتضمن وعي الفرد ونضجه فلو استطاع الآباء استغلال هذه المرحلة استغلالاً حسناً لهيئوا أجيالاً صالحة تأخذ بزمام المجتمع إلى شاطىء الأمان والسعادة الدنيوية والأخروية . .أما لو حصل العكس وأهمل الآباء واجباتهم تجاه الأبناء وتعليمهم فهم لا يكونون فقط عاقين لأبنائهم وإنما يكونون مقصرين بحق الأمة الإسلامية والدين وبحق أنفسهم. .

ص: 303


1- فروع الكافي : ج 3 ص 409 وج 4 ص 124 - جمعنا بين الحديثين لأنهما واحد فراجع - .
2- وسائل الشيعة : ج 15 ص 197 باب 84 حديث 5 .
3- كنز العمال : خطبة 45409 .

وهناك مظاهر أُخرى دعا الإسلام لها في مرحلة التعليم لتقوية أبناء المجتمع الإسلامي والحفاظ على المبادىء الإسلامية والوطن. .ومنها السباحة والرماية. قال رسول الله صلى الله عليه وآله سلم : «علّموا أولادكم السباحة والرماية » .(1) فالسباحة تساعد على نمو العضلات وتربية الجسم تربية صحية، والرماية تستخدم للدفاع عن بلاد الإسلام عند تعرضها لهجمات الأعداء كما أنّ في التعليم صيانة الأمة عن الهجمات الفكرية المعادية للإسلام وما أحوجنا اليوم إليها وخصوصاً ما يتعلق بالعقائد والأخلاق ومبادىء الشريعة من الإيمان بالأخوة والحرية والشورى والاكتفاء الذاتي على صعيد الحياة الشخصية والاجتماعية والسياسية لأنّ هذه المبادىء هي التي تسوق الإنسان والمجتمع والأمة إلى الحياة الهادئة المطمئنة بالسلام. .

التربية العملية:

ثالثاً - التربية العملية :

فإذا قطع الأبناء هاتين المرحلتين استعدّوا للتطبيق العملي والخروج إلى عالم الإنتاج ومزج العلم بالعمل ومن هنا تبتدىء تحسب عليهم خطواتهم وتصرفاتهم بالمنظور الشرعي والاجتماعي. . وعادةً هذه المرحلة تعطي ثمارها حسب ما قبلها من المرحلتين فإذا كانت البذرة خيراً أعطت خيراً وإذا كانت سوء أعطت سوء ووبالاً على المجتمع . فعلى الآباء الاهتمام بهذه المراحل جيداً لأنّ الولد يبرمج برمجة دقيقة على ضوء تربيته كما يبرمج العقل الآلي مثلاً وسيبقى رهين هذه التربية طيلة عمره .. أمّا لو أهمل الآباء أبناءهم ولم يبرمجوهم ويربوهم تربية صالحة فسوف يكونون بذلك مثاراً للتعب والشقاق وفي الحديث الشريف : «جرأة الولد على والده في صغره تدعو إلى العقوق في كبره » .(2).

ص: 304


1- وسائل الشيعة : ج 12 ص 247 باب 105 حدیث 13 .
2- تحف العقول : ص 63.

ومن هنا تهتم الأمم بالشباب اهتماماً بالغاً لما لهم من الدور الكبير والخطر في البناء والهدم .. فإذا نشأوا على البناء كانوا بناة في المستقبل وإذا تركوا ونشأوا نشأة هدامة كانوا هدامين في المستقبل المستقبل .. ولهذا ينبغي ولهذا ينبغي أن نعطي للشباب أدواراً جيدة في الحياة مع الرعاية والإشراف لأنهم بناة المستقبل قبل أن يحتويهم الأعداء فيوظفوا طاقاتهم لخدمتهم ويحرموا الأمة منهم .

الشباب عند رسول الله (صلّی الله علیه وآله ):

ولقد اهتمّ الإسلام اهتماماً كبيراً بالشباب وكان رسول الله صلی الله علیه وآله سلم يوليهم رعاية خاصّة ويوصي الآباء برعايتهم ويشجّع الشباب على تعلّم السبق والرماية . .

وقد عمدصلّی الله علیه وآله سلم إلى توليتهم المسؤولية كما قام بعد فتح مكّة بتنصيب عتاب بن أسيد أميراً على مكّة وكان شاباً حدث السن ابن ثماني عشرة سنة.(1). .

ثم إنّه صلّی الله علیه وسلم عقد الإمرة للشاب أسامة بن زيد على الجيش الذي بعثه إلى بلاد الروم قبل وفاته صلّی الله علیه وآله سلم وكان تحت إمرة أسامة قدامى المهاجرين والأنصار ومنهم أبو بكر وعمر بن الخطاب . .(2) .. كل ذلك جاء ثمرةً لجهود الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله سلم مع الشباب والنشء الصغير لكي يتسلموا مهامهم ومسؤولية نشر الإسلام والحفاظ عليه ولذا كان يوصي صلّی الله علیه وآله وسلم دائماً بالشباب بقوله : «وأوصيكم بالشباب خيراً» .(3)

وفي رسالة الإمام أمير المؤمنين علیه السلام لابنه الحسن علیه السلام قال :

«... وإنما قلب الحدث كالأرض الخالية ما أُلقي فيها من شيء إلاّ

ص: 305


1- راجع البحار : ج 21 ص 122 باب فتح مكّة ط بيروت .
2- راجع البحار : ج 22 ص 466 باب وصيته صلّی الله علیه وآله سلم عند قرب وفاته ط بیروت.
3- کتاب قریش : ص 1 .

قبلته فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك». (1).

الزواج سُنّة اجتماعية:

3 - أن يزوجه إذا بلغ :

ومن الحقوق المهمة أيضاً على الآباء أن يزوجوا أبناءهم إذا بلغوا وهذه المرحلة تعتبر مكملة للأدوار السابقة لأن الإنسان إنما تكتمل شخصيته بالزواج ذكراً كان أم أنثى .. ومن هنا ورد في الأخبار عن رسول الله صلّى الله عليه وآله سلم :

«من تزوج فقد أحرز نصف دینه فلیتق الله في النصف الباقی ».(2) وقال صلّی الله علیه وآله وسلم : النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس منّي ».(3). وقال علیه السلام : «خيار أُمتي المتأهلون وشرار أمتي العزاب» . (4). وذلك لأن الزواج وتكوين الأسرة ضمانة أساسية للأبناء ضدّ الانحراف والفساد .. وبالزواج استقرار لنزوة الشهوة عند الشباب ورادع للشيطان، بينما العزوبة تجعل الشباب عرضة لمزالق الشيطان والانجراف وراء مضلّات الفتن . .ومن هنا أكّد الإسلام على الزواج وجعله من المستحبات المؤكّدة كما أفتى بذلك فقهاؤنا الأعاظم :

قال الشهيد الأول (ره) في اللمعة الدمشقية : النكاح مستحب مؤكد وفضله مشهور محقق » .(5) . وقال الشهيد الثاني (ره) في شرح اللمعة : «النكاح مستحب مؤكّد لمن

ص: 306


1- نهج البلاغة : رسالة 31 .
2- البحار : ج 100 ص 219 وص 220 و 221 باب 58 حدیث 14 و 23 و 32 .
3- المصدر السابق .
4- المصدر السابق .
5- شرح اللمعة الدمشقية : كتاب النكاح الفصل الأول .

يمكنه فعله ولا يخاف بتركه الوقوع في محرم وإلاّ وجب قال الله تعالى:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} .(1) . . وأقل مراتب الأمر الإستحباب ».(2) في كتاب العروة الوثقى :

«النكاح مستحب في حدّ نفسه بالإجماع والكتاب والسنة المستفيضة بل المتواترة . . ».(3)

وإذا خيف من ترك الزواج الوقوع في الحرام والفساد يجب عندها الزواج في كتاب المسائل الإسلامية : «من خاف الوقوع في الحرام لتركه الزواج يجب عليه أن يتزوج» . (4). بينما نجد أن بعض الأسر اليوم تتعلل في عدم تزويج أبنائها بأعذار لا يعترف بها الإسلام مثل قلّة المال أو أزمة السكن أو إكمال الدراسة ونحو ذلك وكأنهم يتصورون أن الزواج يعيق التقدم والرفاه في الحياة بينما العكس هو الصحيح فالرزق تكفّل به سبحانه وتعالى : { إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}.(5)

بل إنّ الزواج سبب للرزق وموجب لسعته ففي خبر إسحاق بن عمّار قلت لأبي عبد الله علیه السلام الحديث الذي يرويه الناس حق أن رجلاً أتى النبي صلّى الله عليه وسلم فشكى إليه الحاجة فأمره بالتزويج حتى أمره ثلاث مرّات قال أبو عبد الله علیه السلام النعم هو حق ثم قال : الرزق مع النساء والعيال.(6) . .

وكما أن الزواج لا يعيق الدراسة والتقدم فقد أثبتت الدراسات النفسية أن السكن النفسي والاطمئنان الروحي من أكبر عوامل التقدم في كافة مجالات الحياة .. ومن الواضح أن الزواج أفضل سكن نفسي للإنسان ذكراً

ص: 307


1- سورة النساء ؛ الآية : 3 .
2- المصدر السابق .
3- العروة الوثقى : ج 2 ص 107 كتاب النكاح .
4- المسائل الإسلامية : مسائل النكاح المتفرقة 596.
5- سورة النور ؛ الآية : 32 .
6- العروة الوثقى : كتاب النكاح ص107.

أو أُنثى لذا وصفه القرآن الحكيم بالسكن في قوله تعالى : {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا }.(1).

وبذلك يكون من أفضل عوامل التقدم مضافاً إلى أن التجارب العملية للمتزوجين ونجاحهم في ميادين الحياة وتفوقهم تدل على صحة ذلك . .

الزواج المبكّر .. نداء الإسلام:

إن الإبكار في التزويج عملية صحية في المجتمع تساعد على تفرّغ الإنسان لعمله واستقراره النفسي وإزالة الظواهر السيئة والمحرّمة كالزنا والفواحش وما شابه نتيجة الكبت وأهواء الشهوة وتغرير الشيطان ومن تزوّج في حداثة سنّه تخلّص ثلثا دينه من الشيطان : «ما من شاب تزوّج في حداثة سنّه إلاّ عجّ شيطانه : يا ويله، يا ويله ! عصم منّي ثلثي دينه، فليتق الله العبد في الثلث الباقي» .(2) .

وإنّ امرأة سألت أبا جعفر علیه السلام فقالت : أصلحك الله إنّي متبتلة فقال لها : وما التبتل عندك ؟ قالت لا أريد التزويج أبداً، قال : ولٍم ؟ قالت : ألتمس في ذلك الفضل، فقال : انصرفي فلو كان في ذلك فضل لكانت فاطمة علیه السلام أحقّ به منك إنّه ليس أحد يسبقها إلى الفضل.(3). .

فالفضل في التزويج والنكاح وعلى الآباء الإبكار في ذلك حتى يتفرغ الأبناء لمستقبلهم ومستقبل أمتهم .

هذه بعض الحقوق المفروضة على الآباء تجاه أبنائهم ذكرناها على سبيل الاختصار وإلاب فإنّ في هذه الحقوق معانٍ عميقة وتأثيرات جانبية أُخرى لو أردنا ذكرها لطال بنا المقام كالإعداد البدني والعقلي والروحي للأبناء وهنا

ص: 308


1- سورة الروم ؛ الآية : 21 .
2- البحار : ج 100 ص 221 وص 219 باب 57 حدیث 34 و 13 .
3- المصدر السابق .

رأينا أن نذكر بعض الشواهد لتعليم الآباء أبناءهم ودور هذا التعليم في بناء مستقبل الأولاد

الصاحب بن عباد :

وهو إسماعيل بن عبّاد صحب ابن العميد في وزارته وتولاها بعده لفخر الدولة بن بويه ولقّب بالصاحب الكافي وصاحب الفواضل والمكارم والآداب

وقد جمع بين الشعر والكتابة وقد فاق فيهما أقرانه . .

ولد سنة 326 ه- في ذي القعدة باصطخر فارس وقيل بالطالقان، وتولى وزارة مؤيد الدولة بن ركن الدولة بن بويه الديلمي بعد أبي الفتح علي ثم تولى وزارة فخر الدولة، وكان معظماً عنده نافذ الأمر وتوفي سنة 385 ه- في 24 صفر ليلة الجمعة بالري. (1).. ومن صفاته أنه كان في صغر سنّه إذا أراد المضي إلى المسجد ليقرأ تعطيه والدته ديناراً لكل يوم ودرهماً وتقول له تصدّق بهذا على أوّل فقير تلقاه فكان هذا دأبه في شبابه إلى أن كبر وقد استمرّ الصاحب بن عبّاد على هذه الصفة التي علّمتها إيّاه أُمّه إلى كبره، ولم تثنه مكانته العلمية والاجتماعية عن هذه العادة الحسنة. . وقد حكي عنه (ره) :

إنه بعث إليه بعض الملوك يسأله القدوم عليه، فقال له في الجواب : أحتاج إلى ستين جملاً أنقل عليها كتب اللغة التي عندي . .

وكان من الشيعة الأجلّاء وقد اهتم كثيراً بترويج مذهب أهل البيت علیه السلام خير ترويج ونقل الأحاديث الواردة عنهم علیه السلام وكان من شعره :

لو شقّ عن قلبي ترى وسطه ***سطرين قد خطّا بلا كاتب

العدل والتوحيد في جانب ***وحبّ أهل البيت في جانب

ص: 309


1- راجع دائرة المعارف : ج 4 ص 313 ومجمع البحرين ج 2 ص 98مادة صحب .

جاء رجل أموي وافداً إلى الصاحب بن عباد، وقد كتب له في رقعة أبياتاً هي :

أيا صاحب الدنيا ويا مالك الأرض*** أتاك كريم الناس في الطول والعرضٍ

له نسب من آل حرب مؤثلُ ***مرائره لا تستميل إلى النقض

فزوّده بالجدوى و دثره بالعطا*** لتقضي حقّ الدين والشرف المحض

فلمّا وصلت إليه تأمّلها الصاحب (ره) وكتب في جوابها على نفس القافية والوزن :

أنا رجل يرمونني الناس بالرفض*** فلا عاش حربي لدي على خفض

ذروني وآل المصطفى خيرة الورى ***فإنّ لهم حبي كما لكم بغضي

ولو أن عضواً مال عن آل أحمد*** لشاهدت بعضي قد تبرأ من بعضي .(1)

التربية والقدوة الصالحة:

السيد الميرزا مهدي الشيرازي: من مشاهير الفقهاء المجتهدين ومراجع التقليد في زمانه مزج العلم الإلهي بالعمل الصالح فأعطى من نفسه صورة مشرّفة كما يجب أن يكون عليه عالم الدين أن يكون عليه عالم الدين حقاً، وصار مبتغى من يطوي سبيل الرشاد والهداية ليكون القدوة الصالحة لغيره من الناس .. تربّى وكبر في بيت علم وفضيلة قد تبوّأ أفراده المكانة المرموقة في علوم الدين والشريعة وكانوا رموزاً حقيقيين للدين وحماة الشرعه المبين .

ولد في مدينة كربلاء سنة 1304 ه- ، وقد فقد أباه في طفولته فعني بنشأته وتربيته دينياً وجعل الإسلام متجذراً في عمق ذاته شقيقه المرحوم السيد عبد الله الحسيني الشيرازي الشهير بالتوسلي (2)" . . وكانت والدة السيد الميرزا

ص: 310


1- روضات الجنات : ج 2 ص 27 .
2- . أُسرة المجدد الشيرازي : ص 260

مهدي (ره) أيضاً من عائلة المجدد الشيرازي (قده) وقد أثّرت هذه العوامل الأثر الواضح على نبوغ السيد وبلوغه هذه المرتبة الرفيعة من الأخلاق والعلم والعمل الصالح وقد دأبت والدة الميرزا عندما كان صغيراً على إيقاظه آخر الليل لأداء صلاة الليل فكانت تعطيه شيئاً من الأكل حتى يبقى يقظاً ومنتبهاً يشاهد والدته وهي تصلّي نافلة الليل وقد تمكّن الميرزا على أثر هذه التربية الصالحة والمحيط الطاهر من الفلاح والنجاح .

إذ إن التربية الصالحة تعطي ثمارها في كل جيل وعلى مدى العصور ولهذا الأثر دخل كبير للآباء فيه . .ومن هنا ألزم الإسلام الآباء فروضاً

ومن ومستحبات تجاه الأبناء ذكرناها بشكل مختصر وجعل العقوق على الوالدين كما جعله على الأبناء ليساهم كلا الطرفين في التأثير الصالح على الأجيال . .

ص: 311

ص: 312

16- الزّنا في السُنَنٍ الكونٍيَّة

اشارة

ص: 313

ص: 314

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) لعلي (علیه السلام ) :

«يا علي، في الزنا ستُّ خصال: ثلاث منها في الدنيا وثلاث في الآخرة، فأما التي في الدنيا فيذهب بالبهاء ويعجل الفناء ويقطع الرزق، وأما التي في الآخرة فسوء الحساب وسخط الرَّحمٰن والخلود في النار » .(1)

نظام الكون:

في الحديث الشريف موضوع مهم سنتعرض له بعد بيان مقدمة : هناك مظهران في الوجود الكوني يدللان على الدقة والنظام لا يمكن

تجاوزهما :

الأول : السنن الإلهية التي تحيط بكل شيء .

الثاني : انقسام الوجود إلى عالمين : الغيب والشهادة.

والمقصود من عالم الغيب العالم الذي غاب عن الحسّ البشري في قبال عالم الشهادة الذي يقع حيطة حواس الإنسان ومشاهداته. إن العالم الكوني كله قائم على نظام العلية العامّ وهو قانون حاكم مطّرد لا يشذ عنه أي

ص: 315


1- الخصال : ج 1 ص 321 .

مخلوق من الخلية إلى المجرّات الكونية وهذا القانون موافق للعقل وحكم العقلاء حيث لا يوجد شيء بدون علة أو سبب ولكن استغراق الإنسان بالماديات وأنسه بها وانصباب بحوثه العلمية في هذا الجانب أكثر جعله يلاحظ الأسباب والعلل الماديّة المشهودة فقط ويجهل الأسباب الغيبية _الجانب الغيبي في الأشياء - أو يغفل عنها فقانون العلية إذن قانون فيه أسباب مادّية وأسباب غيبية - كل منها يؤثر في عالم الشهود - والشرائع السماوية تأتي عادة لتعلم الإنسان هذه القوانين لأن طبيعة سيره في الحياة ستكون بواسطتها فإذا علم بها وأخذ بالأسباب فإنه يصل إلى هدفه وإذا جهل الأمر تخلّف وتقهقر إلى الوراء. مثلاً المعروف أنَّ الصدقة تدفع البلاء وتجلب الرزق هذا الأمر بحدّ ذاته قانون فالصدقة علّة تامة أو معدة لدفع البلاء والصحة معلول لها .

فمثلاً لو أنَّ الله كان قد كتب في قدره أنّ فلاناً بسبب إسرافه وعدم انتظامه في الأكل سوف يُصاب بالمرض الكذائي ولكنه لو تصدّق بصدقة فإن الله سوف يبعد المرض عنه وفي علم الله أن فلاناً سيتصدق فيكتب عليه الصحة والسلامة . وفعلاً يقوم ذلك الإنسان بدفع الصدقة فيصرف الله عنه المرض الخطير إذ إنّ المقدر ضمن قانون العلية أن فلاناً يجب أن يصاب بالمرض ولكن يأتي قانون وعلّة أخرى تصرف عنه المرض وكل ذلك يجري بعلم الله عزّ وجلّ فنلاحظ أن تأثير الصدقة في الإنسان أمر غيبي مجرّد أو أنها تزيد الرزق فهو أيضاً علّة غيبية لا يستطيع أن يطّلع عليها الإنسان بواسطة حواسه المادية والدين يعلم الناس إضافة إلى العلل المادية الغيبية ونتائج كل علّة : والفرق بين العلل المادية والغيبية أن الماديّة يمكن أن يتدخل فيها الإنسان ويهيئها مثل إنزاله للمطر وتغيير صورة الأشياء في الجملة ولكن لا يستطيع ذلك في العلل الغيبية، إذن فهناك معادلات في عالم الشهود ندركها وهناك معادلات في عالم الغيب تحكم وتؤثر في عالم الشهود لا ندرك أسرارها بقدر ما يكشف الدين لنا شيئاً عنها. فالإنسان يدرك أن قرض الدواء هذا علاج للمرض ضمن حدود معلوماته المادية الطبيعية المكشوفة ولكنه

ص: 316

يجهل سرالعلّة في أن تربة الحسين علیه السلام علاج لكل الأمراض . فكما أن الله عزّ وجلّ جعل في قرص الدواء عناصر كيميائية تؤثر على الجراثيم المسببة للمرض، كذلك جعل التربة الحسينية الشريفة عناصر غيبية أيضاً مؤثرة . أو إن الزواج في وقت وجود القمر في برج العقرب يكون مكروها . (1)لماذا ؟ ونحن نعلم أن ما من شيء جعله الله مكروهاً أو حراماً إلاّ وفيه أضرار على الإنسان. سأل المفضل الإمام الصادق علیه السلام عن علّة تحريم الخمر فقال الإمام : حرّم الله الخمر لفعلها وفسادها لأن مدمن الخمر تورثه الإرتعاش وتذهب بنوره وتهدم مروءته وتحمله على أن يجترىء على ارتكاب المحارم وسفك الدماء وركوب الزنا ولا يؤمن إذا سكر أن يثب على حرمة وهو لا يعقل ذلك . (2). ويُقال إن قصي بن كلاب أوصى بنيه فقال : يا بني إياكم وشرب الخمر فإنها إن أصلحت الأبدان أفسدت الأذهان .(3). إذن فكل قانون محاط بهذين الأمرين : نتائج مادية ملحوظة ونتائج غيبية غير مدركة ولكن يمكن مشاهدة آثارها. فإننا لا نعرف لماذا كانت صلة الرحم مؤثرة في ازدياد العمر ولكننا نلاحظ أثر هذا القانون فنحكم بصحته فضلاً عن أن الدين هو الذي قرر هذه القوانين وجعلها في اختيار الإنسان إن شاء أخذ بها فيحصل على النتائج الطيبة وإن شاء تركها ولم يعمل بها فلا يحصل إلاّ على الأضرار.

ومسألة الأضرار نفس مسألة المنافع فهي أيضاً خاضعة لنظام العلية فلو ترك الإنسان صلة رحمه أو ترك إعطاء الصدقات فإنه لا يحصل إلاّ على بعض البلاءات ؛ فكما أن القانون قد جعل الله في التزامه نتائج ففي تركه أيضاً تبعات إلاّ أن تلك إيجابية وهذه سلبية . فالدعاء سبب لردّ القضاء الإلهي مثلاً ولكن

ص: 317


1- اللمعة الدمشقية : كتاب النكاح ج 5 ص 89 لقول الإمام الصادق علیه السلام : «من تزوج والقمر في العقرب لم يرَ الحسنى» عن الوسائل ج 14 ص80باب 54حدیث 1
2- البحار : ج 76 باب حرمة شرب الخمر وعلتها ص 133 ح 21 ط بیروت .
3- نفس المصدر : ص 125 ح 1 .

في تركه فربما لا يرد القضاء الإلهي وإنما قد ينزل على الإنسان ونزوله يكون باختيار الإنسان يقول تعالى {« أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}.(1) .

قوانين حاكمة:

علمنا أن الوجود كلّه عبارة عن قوانين وما من شيء فيه إلاّ وهو خاضع لقانون ما والمخلوقات كلها تؤثر بعضها في البعض الآخر عبر هذه السنن والقوانين وتأثيراتها في بعضها البعض فيه فائدة إما بالأصالة أو بالتبع .والسير ضمن هذا المنهاج الإلهي المحدد يقود الإنسان إلى الخير والصلاح، والعكس هو الصحيح أي أن مخالفة القوانين الكونية والتشريعية تنتهي بالإنسان إلى نتائج سيئة تضر به ولعلها تختم حياته بالموت؛ فمثلاً إن الله عزّ وجلّ قد جعل الزواج الشرعي هو الطريقة المثلى لضمان الإنسان من الإنزلاق واستمرار نسل البشرية فهذا إن صحّ التعبير قانون تشريعي أو سنة تشريعية . ولذلك جاء التأكيد على أمر الزواج حتى صار من المستحبات المؤكدة قال رسول الله صلّی الله علیه وآله سلم : «من كان يحب كان يحب أن يتّبع سنتي فإن من سنّتي التزويج ».(2)

لأن الأسرة هي النواة الأولى لتكوين المجتمع فإذا صلحت صلح المجتمع. أما إذا اختار الإنسان طريقاً آخر غير الزواج الشرعي لتفريغ شهوته الجنسية أي أنّه بذلك سار عكس السُنّة الإلهية مثل قوم لوط حين اكتفى الرجال بالرجال والنساء بالنساء وهذا العمل له مردودات سيئة عليهم لأنه فعل بالاتجاه المعاكس لطبيعة القانون مثل قانون الجاذبية الذي يجذب الأشياء ويسقطها نحو الأرض فإذا حاول أحد الأشخاص أن يطير في الهواء بدون وسائل الطيران فإنه بحكم القانون الكوني يسقط . كذلك الحال فيمن يخالف السنة التشريعية ولكن الفارق أن السنة التشريعية لها أمد وتبعاتها تكون بعد

ص: 318


1- سورة البقرة ؛ الآية : 186
2- وسائل الشيعة : ج 14 كتاب النكاح ح 6 ص 3 - 4 .

فترة زمانية طويلة نسبياً عادة عكس القوانين الكونية التي تكون تبعاتها ونتائجها آنيّة. فقوم لم تمروا في سيرهم المنحرف هذا حتى انتهوا إلى مرحلة تبدل المفاهيم في أذهانهم فكانوا يتصورون الإستقامة والطهارة أمراً مشيناً {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } .(1)واستمرّوا في غيهم وانحرافهم الأخلاقي حتى مسخ الله عزّ وجلّ وجوههم {ِفَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ }.(2) جاء في تفسير الآية : إن الله مسخ عيونهم وجعلها بسائر الوجه حتى عُميت عيونهم وشوهت خلقتهم. (3) ثم جاء عذاب الموت النهائي قال تعالى{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجّيل منضود مسومة عند ربك وما هي عن الظالمين ببعيد }.(4) فهذه نتيجة السير بصورة معاكسة للقوانين الإلهية وطالما كان الله يأمرهم بالكف عن هذا العمل لما فيه من أضرار عظيمة تضر بالمجتمع.

فمن أضرار اللواط الصحيّة أنّه ينقل جميع الأمراض الزهرية (السيلان - القرحة اللينة - الورم الأربي - السفلس ..) وكذلك ينقل مرضي الجرب والقمل. أما الأضرار النفسية فهي أنه يتولد شعور في صميم فؤاد الإنسان بأنه ليس رجلاً وينقلب الشعور به إلى شذوذ خلقي فيصاب بأمراض نفسية .(5) وأيضاً هناك أضرار اجتماعية تصيب الأسرة أولاً وتنعكس على المجتمع ثانياً منها عدم ميل المعتاد على اللواط إلى زوجته مما يؤدي إلى انزلاقها واختيارها طريق الزنا أو الطلاق أو اضطرابات أسرية تنعكس أضرارها على الأطفال وغيرها من المصائب التي تصيب الفرد والمجتمع ولهذه الحكمة حرّم الله عزّ وجلّ اللواط . وعلى الرغم من أنه فعل مخالف للفطرة الإنسانية

ص: 319


1- سورة الأعراف ؛ الآية : 82 .
2- سورة القمر ؛ الآية : 37 .
3- تقريب القرآن إلى الأذهان : ج 9 ص 76.
4- سورة هود ؛ الآيتان : 82 - 83 .
5- راجع كتاب مع الطب في القرآن الكريم : ص 177 - 178 لزيادة التفصيل.

وأن الكثير من العلماء الغربيين قدروا أضراره ولكننا مع ذلك نجد أن بعض الدول الغربيّة تقره وتبيحه وتجعل له قراراً وقانوناً وعقداً حاله حال الزواج

الطبيعي . ! !

الزنا السبيل السيء:

لقد ذكر الرسول الأكرم صلّی الله علیه وآله وسلم في حديثه الشريف بعض مضار ومفاسد الزنا ونتائجه السيئة باعتباره ظاهرة لا تتوافق مع النظام الأصلح للبشرية وباعتباره علة ينتج عنها ما يضر بالإنسان فمن أجل ذلك حرّمه الله {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا} .

(1)فالله يصفه بالسبيل السيىء أي الطريق الذي تكون نتائجه سيئة ومضرة وجاء رسول الله ليبين بعض هذه المضار فقال «يذهب بالبهاء ويعجل الفناء ويقطع الرزق »هذه التي في الدنيا . فأما الأُولى أي أنه يذهب البهاء لأن الزاني معتد على الأعراض وأحياناً يعتدي على أعراض طاهرة فيغتصبها ويدنسها وهذا الأمر بحد ذاته مما يرفضه العقلاء فضلاً عن الدين وعن حرمته الشرعية ولذلك نجدهم اليوم في بلاد الغرب لو كشفوا لرئيس الدولة مثلاً عن علاقات مشبوهة مثل الزنا فإنه يكون بالنسبة إليهم أمراً معيباً ولعله يسقطه من الحكم ولذلك فإنهم يفعلون هذه الفواحش في خفية وسر في الغالب. فلو كان الزنا أمراً موافقاً للعقل لما عمله الزناة في خفية وخوف. ولذلك فبما أنه فعل مخالف للذوق العقلائي والطبيعة الاجتماعية للإنسان فإن مرتكبه تذهب من شخصيته إشراقات الرجولة والهيبة والإتزان والمرأة الزانية تصبح مجردة من الحياء والعفّة. إذ إن أكثر ما يعكس شخصية المرأة عند الناس وبها تكون المرأة كاملة هي صفة العفّة، والزنا يذهب بعفة المرأة الزانية ورجولة وبهاء الرجل الزاني فيصبحا مبغوضين في الوسط الاجتماعي فضلاً عن مبغوضية الله لهما .

ص: 320


1- سورة الإسراء ؛ الآية : 32 .

من أضرار الزنا:

ثم إن هناك أضراراً كثيرة للزنا فضلاً عن خروج الإنسان على حدود الله والإنسانية وتعديه عليها ومنها :

1 - إختلاط الأنساب وما يتفرع عنها من مشاكل الميراث التي تؤدي إلى اضطرابات اجتماعية .

2 - تفكك الروابط الأسرية والعلاقات الزوجية من جراء انصراف الرجل والمرأة عن البيت وتربية الأطفال مما يؤدي إلى انحلال الجيل الناشيء .

3 - الزانية مرتع خصب للميكروبات والجراثيم وهي وسيلة نقل لهذه المصائب من شخص إلى آخر. وبالتالي تنتقل هذه الأمراض إلى أزواجهنّ فتصبح هناك أسر كاملة مصابة بالأمراض ولعلها تؤثر على الأجنّة فتشوّه الخلقة . هذه وغيرها من الأضرار التي تنعكس على المجتمع، أما التي تضر الشخص نفسه فقد ذكر أصحاب الإختصاص بعض هذه الأمراض نذكر منها :

1 - السيلان عند الرجال والنساء . 2 - الزهري الذي يكون آخر مراحله الشلل العام في الإنسان ، 3 - القرح اللين . 4 - الورم الحُبيبي الأربي وغيرها .(1) . ومن أبرز الأمراض وأخطرها مرض الأيدز الذي أخذ يغزو العالم بسبب حالات الانحراف الجنسي ومنه (الزنا) وهذا المرض من العوامل القوية التي تقتل الإنسان ولا علاج لها إلى الآن وهذه الظاهرة تفسر قول الرسول الأعظم (يُعجل الفناء). إذا نظرنا إلى مسألة الأمراض وتأثيراتها على الإنسان ، فإننا ننظر إلى الأسباب الظاهرية المادية أما من ناحية الغيب والأسباب الغيبية التي جعلها الله جزءً من نظام هذا العالم ، فلعل للزنا أسباباً روحية غيبية تؤثر على روح الإنسان وعمره ولكننا نجهلها. ولعل الذلّة

ص: 321


1- راجع كتاب الإعجاز الطبي في القرآن : ص 123 وما بعدها وكتاب مع الطب في القرآن الكريم ص 167 وما بعدها لزيادة التفصيل .

الشهوية التي يعيشها معتاد الزنا هي التي تقتله لأنها تدفعه إلى ممارسة الزنا بكثرة مما يؤدي إلى ارتفاع المضاعفات وكثرة الأمراض التي تؤدي به إلى الموت فضلاً عن عن ذهاب الحالة المعنوية عنه. يقول أمير المؤمنين علیه السلام (عبد الشهوة أذل من عبد الرق) . (1)أو أن مسألة انتشار الزنا لها مسببات غيبية سلبية تؤثر على العالم الشهودي كما جاء في الرواية الشريفة «إذا فشا الزنا ظهرت الزلزلة . . ».(2) وهذا ليس أمراً غريباً أو بعيداً بل إن الترابط بين عالم الغيب وعالم الشهود وثيق. ومن أضرار الزنا أيضاً انحباس البركات وذهاب الرزق فعن الإمام الصادق علیه السلام« الذنوب التي تغير النعم البغي والذنوب التي تورث الندم القتل والتي تنزل النقم الظلم والتي تهتك الستور شرب الخمر والتي تحبس الرزق الزنا . . . » .(3) وهكذا الأمر في بقية الذنوب فكل ذنب له أثره السيّىء الذي ينعكس على الإنسان فيؤثر على سيره ومصيره وخاتمته

النتائج المرّة للزنا:

لما كان الزواج الشرعي هو الطريقة المثلى في المحافظة على البشرية ، كان التأكيد عليه من القرآن والسنة قال تعالى : {خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا }.(4) ونتائج الزواج نتائج إيجابية لأنه موافق للسنن والقوانين الإلهية . أما الزنا فلأنه خلاف القوانين والسنن الطبيعية فإن نتائجه دائماً تكون سلبية كما هو الحال في ابن الزنا فغالبية أولاد الزنا هم الذين يتصدرون قائمة المجرمين والطواغيت والشريرين كقتل الأنبياء والأولياء والمؤمنين كما هو الحال في زياد ابن أبيه المعروف عند المسلمين أنه كان

ص: 322


1- مائة كلمة لأمير المؤمنين علیه السلام : البحراني - الشرح الأول لعبد الوهاب ص 41 ح 51 .
2- الوسائل : ج 6 ك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص 514 ح 5 ط بیروت
3- الوسائل : ج 6 ك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص 513 ح 3 ط بیروت
4- سورة الروم ؛ الآية : 21 .

ولد زنا يقول الحسن بن يسار البصري : إن في معاوية لثلاث مهلكات موبقات : غضب هذه الأمة أمرها وفيهم بقايا من أصحاب رسول الله وولى ابنه يزيد - لعنه الله - سكيراً خميراً يلبس الحرير ويضرب بالطنبور وادعى زياداً - زياد ابن أبيه - وولاه العراق وقد قال رسول الله «الولد للفراش وللعاهر الحجر» وقتل حجراً - حجر بن عدي - وأصحاب حجر ويلٌ له من حجر وأصحاب حجر.(1) وقد لاقت الأمة الإسلامية ما لاقت من زياد ابن أبيه لا سيما منطقة العراق لأنه كان والياً عليها وأمره - في أنه ابن زنا - معروف حتى إن أبا سفيان كان يخشى أن ينسبه إلى نفسه مع العلم أنه هو الذي زنا بسمية فولدت زياداً .(2) إلى أن تجرأ معاوية وادعا أنه أخاه ونسبه إليه والأنكى من ذلك أن زياد بن أبيه أيضاً مارس نفس الفعل فزنا بمرجانة الأمة الفاجرة فولدت له الشرير عبيد الله بن زياد الذي لطخ يده بدم سيد الشهداء علیه السلام ودم ميثم التمار وباقي الدماء الزاكية. ولهذا فإن العقيلة زينب سلام الله عليها كانت قد أهانته في مجلسه وأغضبته بقولها «ثلكتك أمك يابن مرجانة ... »كما أهانت يزيد عندما نسبته إلى جدته هند آكلة الأكباد «وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء ونبت لحمه من دماء الشهداء» .(3) وكانت خاتمة ابن زیاد بعد أن مارس كل الفواحش والمنكرات وإذلال آل علي بعد مقتل سيد الشهداء الحسين بن علي علیه السلام، أن قتله إبراهيم بن الأشتر واحتزّ رأسه وبعثه إلى المختار وهو يتغدى فقال : الحمد لله رب العالمين : وضع رأس الحسين بن علي بين يدي ابن زياد لعنه الله وهو يتغدى وأتيت برأس ابن زياد وأنا أتغدى فلما فرغ من الغداء قام فوطاً وجه ابن زياد بنعله ثم رمى بها إلى مولى له فقال له اغسلها فإني وضعتها على وجه نجس كافر . ثم بعث المختار برأسه إلى علي بن الحسين علیه السلام فأدخل عليه وهو يتغدى فقال الإمام : دخلتُ على ابن زياد وهو يتغدى ورأس أبي بين يديه فقلت اللَّهُمَّ لا تمتني

ص: 323


1- ربیع الأبراء : ج 2 ص 486 .
2- سفينة البحار : ج 1 ص 580 في ترجمة زياد بن أبيه.
3- المصدر نفسه .

حتى تريني رأس ابن زياد وأنا أتغدى فالحمد لله الذي أجاب دعوتي.(1) فغالبية أولاد الزنا يعانون من عقد نفسية داخلية يشعرون بسببها بالنقص والذلة والحقارة وابتعاد الناس عنهم ولذلك يحاولون أن يجذبوا الناس حولهم محاولة منهم لسد الشعور النفسي بالنقص والحقارة فيتشبثون بكل الطرق من أجل اكتساب الناس حتى ولو بالقتل والإرهاب . وهناك قسم آخر منهم وهم الذين يرون في إذلال الناس وقتلهم إشباعاً لرغبتهم وارتياحاً لهم بعد أن شاهدوا ابتعاد الناس عنهم أمثال اللعين ابن زياد وأبيه زياد ابن أبيه .

موقف القضاء من الزنا:

مضافاً إلى التبعات السيئة التي يورثها الزنا وهي الأمراض المعدية التي تقود الزاني إلى الموت والسقوط الاجتماعي والتفكك الأسري ومشاكله وغيرها فإن الإسلام يحكم على الزاني والزانية بالجلد وروي عن الإمام الصادق علیه السلام قال : جلد الزاني من أشد الجلد . (2)وفي رواية أخرى : وحد الزاني والزانية أغلظ ما يكون من الحد وأشد ما يكون من الضرب .(3). وهناك أربع عقوبات في فاحشة الزنا ذكرها بعض الفقهاء وهي إما القتل أو الرجم أو الجلد أو التغريب وتفاصيلها بما يلي :

إذا زنى الإنسان المكلف بامرأة محرّمة عليه أو زنا بأمه أو بنته فإن عقابه القتل ولا يختلف إذا كان الزاني شيخاً أو محصناً شاباً . أما الرجم فهو لمن كان محصناً قد زنى ببالغة عاقلة فإن كان شيخاً جلد ثم رجم وإن كان شاباً جلد وكذلك لو زنا بغير البالغة. ومن الفقهاء من جمع الحد والجلد بالنسبة لمن زنى بالبالغة العاقلة . (4)أما الإنسان غير المحصن أي غير المتزوج

ص: 324


1- سفينة البحار : ص 580 ج 1 في ترجمة زياد بن أبيه .
2- مستدرك الوسائل : ج 3 ص 223 الباب 9 ح 1 .
3- المصدر نفسه : : ح5 .
4- شرائع الإسلام : ج 4 كتاب الحدود ص142.

فإنه لو زنى يجلد مائة جلدة ويحلق شعر رأسه ويغرّب عن بلدته والمرأة فقط تجلد.(1) وطبعاً هذه العقوبات إنما تترتب على الزناة حسب شرائط شرعية خاصة ذكرها الفقهاء في كتبهم الفقهية ولكل عقوبة شرائط وخصوصيات وإنما ذكرنا المسألة بشكل عام .

الزنا في ميزان القيامة :

وأما عقوبة الزناة في الآخرة فقد ذكر القرآن الكريم والسنة الشريفة ذلك وهو من : أشد العقوبات قال تعالى :{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا }.(2)وفي تفسير منهج الصادقين أن (أثاماً) اسم لوادِ في جهنم يعذب فيه أهل الزنا وجاء في الحديث القدسي : قال الله عزّ وجلّ : لا أنيل رحمتي من تعرض للأيمان الكاذبة ولا أدني مني يوم القيامة من كان زانيا .(3) . جاء في حديث الإسراء والمعراج عن النبي صلی الله علیه وسلم قال : لما أسري بي مررتُ بنسوان معلقات بثديهن فقلت من هؤلاء يا جبرائيل ؟ فقال : هؤلاء اللواتي يورثن أموال أزواجهن أولاد غيرهم.(4). وأيضاً في عقاب المرأة الزانية قال أمير المؤمنين علیه السلام : ألا أخبركم بأكبر الزنا ؟ قال : هي امرأه توطىء فراش زوجها فتأتي بولد من غيره فتلزمه زوجها فتلك التي لا يكلمها الله ولا ينظر إليها يوم القيامة ولا يزكيها ولها عذاب أليم .

الآثار الوضعية في الزنا :

للأعمال الحسنة والسيئة آثار وضعية نتيجة ذلك العمل وجاء في قوله

ص: 325


1- راجع الفقه : ج 87 كتاب الحدود والتعزيرات لزيادة التفصيل .
2- سورة الفرقان ؛ الآيتان : 68 - 69 .
3- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال : ص 261 - 262 ح 2 ط إيران .
4- البحار : ج 76 باب الزنا ص 19 ح 6 .

تعالى :{ فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يرهُ }.(1)

قالآثار الوضعية لعمل المنكر الزنا، أنه يترك على الأولاد صفات أهل الشقاء والمنكر تجرهم إلى القبائح .

عن الإمام الصَّادق علیه السلام قال : علامات ولد الزنا ثلاث : المحضر والحنين إلى الزنا وبغضنا أهل البيت .(2) ولو تأملنا حياة ابن زياد مثلاً

لوجدنا هذه العلامات كلها متجسدة فيه فكان محضره سيّئاً حيث يسب فيه أمير المؤمنين علیه السلام ويشرب الخمر علناً وغير ذلك من المنكرات أما بغض أهل البيت فواضح جداً. ومن علامات ابن الزنا الأُخرى في الجملة هي عدم قبوله ولاية أمير المؤمنين علیه السلام حيث يقول أمير المؤمنين : لا يحبني ثلاثة : ولد زنا ومنافق ورجل حملت به أمه في بعض حيضها. (3)وكذلك قد قالها من قبل رسول الله صلّی الله علیه وآله سلم : «والله لا يبغضه - الإمام علي - ويعاديه إلاّ كافر أو منافق أو ولد زنية .(4) حيث يكون الزنا واثره وتبعاته حاجزاً يحجزالقلب عن الإيمان وقبول الولاية المقدسة - والعياذ بالله - . عن أبي بكر قال : رأيت رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم خيم خيمة وهو متكىء على قوس وفي الخيمة علي وفاطمة والحسن والحسين فقال : معشر المسلمين إنا سلم لمن سالم أهل الخيمة، وحرب لمن حاربهم وولي لمن والاهم، ولايحبهم إلاّ سعيد الجد طيب المولد، ولا يبغضهم إلاّ شقي الجد رديء الولادة . (5).وهذه الأبيات للناصر لدين الله :

ص: 326


1- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال : ص 312 ح 6 . والآيتان هما 7 و 8 من سورة الزلزلة
2- البحار : ج 76 ص 19 ح 3 باب الزنا
3- البحار : ج 39 باب حبه إيمان وبغضه كفر ذیل حدیث 33 ص 264ط بیروت.
4- المصدر نفسه .
5- الرياض النضرة : ج 5 ص 189 .

قسماً بمكة والحطيم وزمزم*** والراقصات .(1) ومشيهن إلى منى

بغض الوصي علامة مكتوبة ***تبدو على جبهات أولاد الزنا

من لم يوالي في البرية حيدراً ***سيّان عند الله صلى أم زنى.(2)

ولصفي الدين الحلي :

أمير المؤمنين آراك لما ***ذكرتك عند ذي حسب صغا لي

وإن كررت ذكرك عند نغل*** تكدر عيشه وبغى قتالي

فصرت إذا شككت بأصل مرء*** ذكرتك بالجميل من المقال

فليس يطيق سمع ثناك إلاّ ***كريم الأصل محمود الفعالِ

فها أنا قد عرفت بك البرايا ***وأنت مِحَكُ أولاد الحلالِ

مدرسة أصحاب الرقيم:

عن جابر الجعفي يرفعه قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم : خرج ثلاثة نفر يسبحون في الأرض، فبينما هم يعبدون الله في كهف في قلة جبل حتى بدت صخرة من أعلى الجبل حتى التقمت باب الكهف، فقال بعضهم لبعض :عباد الله والله ما ينجيكم مما وقعتم إلاّ أن تصدقوا الله، فهلم ما عملتم الله خالصاً، فإنما أسلمتم بالذنوب، فقال أحدهم : اللَّهُمَّ إن كنت تعلم أني طلبت امرأة لحسنها وجمالها فأعطيت فيها مالاً ضخماً، حتى إذا قدرت عليها وجلست منها مجلس الرجل من المرأة وذكرت النار فقمت عنها فرقاً منك، اللَّهُمَّ فارفع عنا هذه الصخرة، فانصدعت حتى نظروا إلى الصدع ثم قال الآخر : اللَّهُمَّ إن كنت تعلم أني استأجرت قوماً يحرثون كل رجل منهم بنصف درهم، فلما فرغوا أعطيتهم أجورهم ، فقال أحدهم : قد عملت عمل

ص: 327


1- الراقصات : الجمال والنياق
2- الكنى والألقاب : ج 3 ص 235 .

اثنين والله لا آخذ إلاّ درهماً واحداً وترك ماله عندي فبذرت بذلك النصف الدرهم في الأرض فأخرج الله من ذلك رزقاً، وجاء صاحب النصف الدرهم فأراده فدفعت إليه ثمن عشرة آلاف فإن كنت تعلم أنما فعلته مخافة منك فادفع عنا هذه الصخرة قال : فانفرجت عنهم حتى نظر بعضهم إلى بعض، ثم إن الآخر قال : اللَّهُمَّ إن كنت تعلم أن أبي وأمي كانا نائمين فأتيتهما بقعب .(1)من لبن فخفت إن أضعه أن تمج فيه هامة وكرهت أن أوقظهما من نومهما، فيشق ذلك عليهما فلم أزل كذلك حتى استيقظا وشربا، اللهم فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فارفع عنا هذه الصخرة، فانفرجت لهم حتى سهل لهم طريقهم، ثم قال النبي صلّی الله علیه وآله وسلم : من صدق الله نجا .(2)من خلال القصة هذه نلاحظ أن الإنسان كلما ابتعد عن الذنوب والمعاصي من أجل الله كلما ازدادت مرتبة إيمانه وكماله وبالتالي تزداد درجة قربه من الله فيكون دعاؤه مستجاباً لأن الذنوب والأخلاق السيئة وارتكاب الموبقات هي التي تحول بين الإنسان وبين ربه فيحجب دعاؤه لاسيما الزنا لأنه من أقوى الأشياء لإشباع الشهوات غير المنتظمة في الإنسان والشهوة الجنسية من أقوى الشهوات لديه ولذلك فكلما كان الذنب كبيراً وابتعد عنه الإنسان كلما ازداد كمالاً وقرباً من الله عزّ وجلّ ولذلك حينما دعى الشخص الثالث في المغارة فتح الله عليهم وفرّج عنهم لعلو مرتبته ومنزلته، وصبرهم على ما أصابهم ثم إيقانهم أنّ المخرج الوحيد هو التوجه إلى الله والتوسل إليه بأعمالهم الصالحة. لقد جاء في الشعر المنسوب إلى الإمام علي عليه السلام :

الصبر مفتاح ما يرجى*** وکل خیر به یكون

فاصبر وإن طالت الليالي*** فربما طاوع الحرون

وربما نيل باصطبار*** ما قيل هيهات ما يكون (3)

ص: 328


1- العقب : القدح الضخم الغليظ .
2- تفسير نور الثقلين : ج 3 ص 249 ط إيران نقلاً عن المحاسن البرقي .
3- ديوان الإمام علي علیه السلام : ص 126 .

كلمة الختام :

إن وصايا الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله سلم وأحاديثه التربوية الشريفة كل واحد منها يعبر عن صفة كمالية لو عمل بها الإنسان لحصل على الكمالات المقربة الله وإذا تأملنا في الحديث الشريف «يا علي في الزنا ست خصال . . . »

نرى أن الرسول صلّی الله علیه وآله سلم دائماً . يحرص على أن يرسم للإنسان كلا الطريقين الدنيا والآخرة ويمزج بينهما بالصورة التي يخرج الإنسان معها فائزاً في نهاية الأمر .

فمثلاً الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله سلم يقول « . . . أما التي في الدنيا فيذهب البهاء ويعجل الفناء ويقطع الرزق» حيث إن الأولى مرتبطة بشخصية الإنسان التي يتعامل بها مع المجتمع فالبهاء والهيبة والرزانة والإتزان كلها صفات يتقوم الإنسان بها في الوسط الاجتماعي وبفقدها يفقد الشخصية . وأما الثانية «يعجل الفناء» وهو العمر الذي بواسطته يعيش الإنسان فإذا كانت هناك فرص رائعة تنتظره فسوف لن يحصل عليها لأنّ الزنا يكون قاطعاً للعمر فيفقد الفرص الجميلة، والثالثة «يقطع الرزق» وهو الاقتصاد الذي هو عصب الحياة والمادة الرئيسية لاستمرار الإنسان. وهكذا نلمس في كلمات الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله سلم المفاهيم عميقة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة .

ص: 329

ص: 330

17- الهَدَايَةُ مَسؤولٍيَة المُجتَمَع

اشارة

ص: 331

ص: 332

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) لعلي (علیه السلام ) :

«يا علي، لا تقاتل أحداً حتى تدعوه إلى الإسلام وأيم الله لئن يهدي الله على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس ولك ولاؤه» .(1)

الهداية :

الهداية رعاية من قبل الله عزّ وجلّ لمخلوقاته فيرشدها إلى الطريق الملائم لطبعها والمنهج المرسوم لها في هذا الكون { رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}. (2)أي هدى المخلوقات إلى طريقها في الحياة كيف تبقى وتعيش، فقد هدى الله الأشياء إلى طرقها الفطرية الطبيعية (3)(3) التي بها تتكامل وتصل إلى أهدافها . ذكر العلماء للهداية معنيين :

أولاً ، إراءة الطريق : فإن إراءة الطريق الموصل إلى الهدف من معاني الهداية فقد جاء في الرواية (العَالِمْ كمّن معه شمعة تضيء للناس فكل من أبصر بشمعته دعا له بخير كذلك العالم معه شمعة يزيل بها ظلمة الجهل والحيرة فكل من أضاءت له فخرج بها من حيرة أو نجى بها من جهل فهو من

ص: 333


1- سفينة البحار : ج 8 ص 637 ط جديدة.
2- سورة طه ؛ الآية : 50 .
3- تفسیر تقريب القرآن : ج 6 ص 106.

عتقائه من النار . . . ) (1) فالعالم يُري الناس طريقهم القويم الذي إن سلكوه وصلوا إلى مرامهم فهذا نوع هداية يهدي الناس من خلال كشف الطريق لهم وإيضاح ما يكتنفه من شبهات أو غموض .

ثانياً ، الإيصال إلى المطلوب : هناك هداية توصل الإنسان إلى الجنة إن تمسك بها وفرقها عن الهداية الأولى . إن الأولى عملها الإيضاح لأنها تكشف الطريق للإنسان فقط أما الثانية فإنها توصله إلى الخاتمة الحسنة . مثل القرآن والرسول والإمام وسيأتي الكلام عن كل واحدة لاحقاً

كيف يحصل الإنسان على الهداية:

هذا العالم خاضع لنظام العلية العام أي لا يوجد شيء بدون علة أو سبب فالعلية هي المهيمنة على مظاهر هذا العالم بكلا شقيه المادي والمعنوي . فكل الظواهر الطبيعية لا تكون اعتباطاً فالمطر مثلاً لولا التكاثف في الطبقات العليا من الجو وانخفاض درجات الحرارة هناك لما تحقق فهذه العوامل علة للمطر والأخير معلول لها (مع بعض التسامح) وكذا الحال بالنسبة للمعنويات مثل صلة الرحم علة لزيادة العمر أو صلاة الليل علة لكثرة الرزق وغيرها . .(2). . والهداية الأُخرى هي خرى لا تكون إلاّ من وراء علة أي أنها معلولة لسبب وهذا السبب يحققه الإنسان فإذا حقق المقدمات الموجبة للهداية حصل على الهداية وإلاّ فلا . ومن هنا ندرك السبب في عدم حصول الكفار على الهداية التي ينجون بها لأنهم لا يحققون أسبابها وإلاّ فإن الله عزّ وجلّ رحمن قد نشر رحمته العامة على كل مخلوقاته ولكن بعض الناس يقوم بأمور تحجب قلبه عن الاستمتاع بهداية الله تعالى كما لو وضعت جسماً داخل

ص: 334


1- منية المريد : ص 33 .
2- التعبير بالعلة هنا مسامحي والمراد العلة المعدة أو المقتضي . .فصلة الرحم إما معد لزيادة العمر أو مقتضي وهو إنما يؤثر أثره إذا انعدم المانع وهكذا .. وإنما سمّيناها علة مراعاة لبعض الأذهان .

صندوق من الحديد وسكبت عليه الماء فالجسم لا يبتل أبداً ولا يتأثر بالماء لا لأن الماء غير موجود بل لأن الجسم محجوب عن الماء، فكذلك الإنسان عندما لا يعمل ولا يحقق مقدمات الهداية فإنه لن يهتدي لأنه يمتنع حصول المعلول بلا علة فمثلاً عندما يقول تعالى مخاطباً حبيبه محمداً صلّی الله علیه وآله وسلّم والي {وإنك لتهدي إلى صراط مستقیم } (1)فالرسول هادي إلى صراط مستقيم ولكن لمن تمسك به واتبعه وخطى خطواته وسار في أثره. بينما الذي يعرض عن اتباع الرسول صلّی الله علیه وسلم ولا يؤمن به فهذا باختياره أعرض عن الهداية لا لأن الرسول صلّی الله علیه وآله سلّم غير هاد بل الإنسان أحياناً لا ينقاد إلى الهدى من بؤسه وشقائه أي أن اتباع الرسول والاقتداء به من أسباب الهداية وإذا لم يقتد الإنسان صلّی الله علیه وآله سلّم لم يهتدِ إلى سبيل ولعل في قوله تعالى{ إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب} (2)إشارة إلى ذلك إذ علق الهداية على من اتصف أو حقق الإنابة والتوجه إليه فصار التوجه والإنابة من أسباب الهداية يقول أمير المؤمنين علیه السلام (هدى الله أحسن الهدى ) (3) وهكذا الأمر بالنسبة للإعراض عن الله سبحانه فإنه من أسباب ضلال الإنسان وضياعه{ فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم}.(4).

أنواع الهداية:

ذكر المفسرون وعلماء الكلام أن للهداية قسمين :

أولاً الهداية التكوينية : والمراد منها تجهيز كل مخلوق بالأجهزة التي بها يصل إلى الغاية من خلقه والنكتة الرئيسية في المخلوقات التي تهتدي تكويناً أنها فاقدة للإرادة والشعور والقصد والإختيار فمثلاً النبات زُود بأمور

ص: 335


1- سورة الشورى ؛ الآية : 52 .
2- سورة الرعد ؛ الآية : 27 .
3- تصنيف غرر الحكم : ص 94 ح 1661 ط الأولى .
4- سورة الصف ؛ الآية : 5 .

تهديه إلى كماله وغايته وهو مجبور عليها والقمر والشمس وباقي المجرات الأُخرى ففي حركتها المنتظمة لا اختيار لها .فهذه الهداية موجودة في حاق ذات الشيء بما جعل الله من الأجهزة والإلهامات التكوينية التي توصل هذه المخلوقات إلى غاياتها المنشودة قال تعالى :{ وأوحى ربك إلى النخل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللاً يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس }(1)وأحياناً تطلق الهداية التكوينية فتشمل كل المخلوقات حتى الإنسان فالعقل الموهوب له والمرشد له عبارة عن هداية مودعة في ذاته بدون اختياره بل كل إنسان لديه عقل فهو من قبيل الإلهام أو الهداية المودعة في النحل لا باختيارها ولكن الإنسان مختار في استخدام عقله إن شاء فكّر وإن شاء لم يفكر أما النحل أو القمر أو الشمس أو النبات فلا اختيار لها في أجهزتها أو إلهاماتها .{مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ }(2) فعدم الاختلاط خارج عن إرادة الماء بل هو أمر تكويني .

ثانياً الهداية التشريعية : وهي مختصة بالموجود العاقل المدرك وصاحب الإختيار وتُفاض عليه بواسطة خارجية كالأنبياء والرسل والكتب السماوية إلى آخره : {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } .(3).

{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ }(4) ولا يوجد موجود عاقل مدرك مختار إلاّ وقد أفاض الله عليه الهداية التشريعية بهذه الوسائط { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا }(5) ولعل هناك هداية أُخرى وهي الهداية الخاصة

ص: 336


1- سورة النحل ؛ الآيتان : 68 - 69 .
2- سورة الرّحمن ؛ الآيتان : 19 - 20 .
3- سورة الشورى ؛ الآية : 52 .
4- سورة الإسراء ؛ الآية : 9 .
5- سورة الإسراء ؛ الآية : 15 .

لمن استفاد من الهدايتين السابقتين ، وهم الأناس الذين توجهوا إلى ربهم منقطعين إليه ومتوجهين إليه في كل أمورهم وهم أصحاب الإيمان الخالص والقلوب الطاهرة وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا القسم من الهداية فقال تعالى{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى}(1) وقال تعالى : {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ } (2) وقال {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ }(3)

أصحاب الكهف:

قال تعالى {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا .. إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السَّموات والأرض لن ندعو من دونه إلها }.(4).

عن الإمام الصَّادق علیه السلام : إن أصحاب الكهف والرقيم كانوا في زمن ملك جبّار عاتٍ وكان يدعو أهل مملكته إلى عبادة الأصنام فمن لم يجبه قتله وكان هؤلاء قوماً مؤمنين يعبدون الله عزّ وجلّ ووكل الملك بباب المدينة حرساً ولم يدع أحداً يخرج حتى يسجد للأصنام وخرج هؤلاء بعد الصبر وذلك أنهم مرّوا براع في طريقهم فدعوه إلى أمرهم فلم يجبهم وكان مع الراعي كلب فأجابهم الكلب وخرج معهم . . فلما أمسوا دخلوا ذلك الكهف والكلب معهم فألقى الله عليهم النعاس كما قال تبارك وتعالى :{فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} (5) فناموا حتى أهلك الله ذلك الملك وأهل مملكته وذهب ذلك الزمان وجاء زمان آخر وقوم آخرون ثم انتبهوا. . (6). .

ص: 337


1- سورة محمد ؛ الآية : 17 .
2- سورة الشورى ؛ الآية : 13 .
3- سورة العنكبوت ؛ الآية : 69 .
4- سورة الكهف ؛ الآية : 8 .
5- سورة الكهف ؛ الآية : 11 .
6- البحار : ج 14 كتاب النبوة قصة أصحاب الكهف ص 423 - 424 ط بيروت بتصرف .

وبعد أن عرف الناس بأمرهم طلبوا من الله أن يبقيهم في الكهف فكتب الله عليهم الموت في الكهف وجاء الناس فلم يستطيعوا أن يدخلوا الكهف لأن الله عزّ وجلّ قد أضاع بابه على الناس فبنوا عليهم بنياناً اتخذوه مسجداً من خلال القصة القرآنية يخبرنا الله عزّ وجلّ عن المقام الرفيع الذي وصل إليه هؤلاء الفتية وإيمانهم العميق بالله بحيث إنهم قاوموا جبروت طاغوت عصرهم ولم يشركوا بالله شيئاً فكانوا محط عناية الله وهدايته لذلك ومن أجل إيمانهم وإخلاصهم زادهم الله هدى إلى هداهم {وزدناهم هدىّ} (1) وجعلهم آية للعالمين وهذه هي الهداية الخاصة التي تحيط بأولياء الله المخلصين .

العقل يهدي:

وهب الله سبحانه العقل للإنسان ليميز به الصحيح من الخطأ والقبيح من الحسن ،وهكذا، ومن هنا كان الأحرى بالإنسان العاقل أن يتبع ما يملي عليه عقله لأن العقل مفطور على حب الخير والحق ولذلك يقول أمير المؤمنين علیه السلام (كفاك من عقلك ما أبان لك رُشدك من غیک) (2)من هنا ندرك أهمية العقل والتأكيد عليه من قبل القرآن والسنة والدعوة إلى التفكر وتشغيل العقل في حياة الإنسان يقول مولانا أمير المؤمنين علیه السلام (ضلال العقل أشد ضلّة) (3)أي أن الإنسان إذا فسد تفكيره وانحرف عن جادة الصواب وأضاع الحق في التفكير ومال إلى الانحرافات الفكرية فإن ذلك من اشد الضلالات لأن العقل سوف يعطل ويلغى دوره فلا يميز بين الحق والباطل وبين النور والظلام وعندها يفقد الإنسان أقرب الطرق إلى الهداية . . يقول أمير المؤمنين علیه السلام (الضلال النفوس بين دواعي الشهوة والغضب).(4).

ص: 338


1- سورة الكهف ؛ الآية : 13 .
2- تصنيف غرر الحكم : ص 94 ح1655 ط الأولى .
3- تصنيف غرر الحكم : ح 1669 ص 94.
4- تصنيف غرر الحكم : ح 1682 ص95.

القرآن يهدي:

(القرآن) أفضل الهدايتين) (1) القرآن هو الرسالة السماوية الخالدة والهدية الإلهية للبشر باعتباره الكتاب الذي يخاطب الإنسان ويدعوه إلى الخير والحق ويعلمه كيفية سلوك الطريق الأقوم ويذكره بربه وبنفسه وبالنعم ويوعظه ویزجره ويوعده و و . . .ومن خلال ذلك كله یرسم خط الهداية له ويشخّص مسار الحق ويهديه إليه(من اتخذ قول الله دليلاً هدي إلى التي هي أقوم) (2)ولا غرابة في أن يكون القرآن هادياً للإنسان لأنه كلام الله عزّ وجلّ والله أراد بحكمته أن يصل الإنسان إلى الخير في الدنيا والآخرة فجعل كلامه دليلاً وبياناً لطريق الخير لأن طريق الخير هو الإيمان والإيمان هداية وجنّة الله من عند الله عزّ وجلّ والقرآن الكريم هادٍ إلى الإيمان{هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ } (3) ويصفه تعالى بالنور {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا } (4)وطبيعة النور أن يكشف ويظهر غيره كما الحكماء كما أن القرآن يكشف للقلوب ويهديها إلى الحق والإيمان ويربطها بالله عزّ وجلّ {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سُبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط اط مستقيم }(5) وليس هذا فحسب بل إن هداية القرآن مهيمنة على كل أنواع الهداية التي كانت تفاض من قبل الكتب الأخرى{ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ . . . }(6) وأحياناً يصفه الله بأنه كتاب مبارك ومُبين ورحمة وبصائر وموعظة كل ذلك ليدلل على هدايته للإنسان وإخراجه من الظلمات إلى النور {كتاب أنزلناه إليك لتخرج

ص: 339


1- المصدر نفسه: ح 1971 ص 111.
2- تصنيف غرر الحكم: ح 1974 ص111.
3- سورة النساء ؛ الآية : 38 .
4- سورة النساء؛ الآية: 174 .
5- سورة المائدة؛ الآيتان: 15 - 16 .
6- سورة المائدة ؛ الآية : 48 .

النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } . (1).

الرسول يهدي:

قال تعالى : { أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور} (2) فالآية الكريمة تؤكد أن الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلّم سبب لإخراج الناس من الظلمات والضلال إلى الهدى والنور ومن أجل ذلك دعى الله سبحانه الناس للتمسك دائماً والأخذ بأقواله واعتماد أفعاله {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (3) وذلك لأن أقواله وأفعاله كلها آيات تعني الإنسان في طريق الهداية والكمال ومن الواضح أن النبي الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلّم يمتاز بروحانية عظيمة بسبب قربه الشديد وهذا القرب يضفي على النبي كمالاً روحانياً وقداسة تظهر آثارها على شخص الرسول صلّی الله علیه وآله وسلّم فتكون كل حركاته وسكناته معبرة عن تلك الروح كانت السامية التي من ربها { قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } (4)وبهذه النورانية يخرج النبي الناس من الضلال إلى الهدى .

كلمة الزهراء (علیهاالسلام) .. في الهداية النبوية:

من أروع الصور التي تحكي هداية الرسول وانقاذ الناس من الضلال إلى الهدى هي كلمات مولاتنا الزهراء (صلوات الله عليها) حيث تقول في خطبتها (وكنتم على شفا حفرة من النار مذقة الشارب ،(5)، ونهزة الطامع (6)، وقبسة العجلان ،(7)، وموطىء الأقدام تشربون

ص: 340


1- سورة إبراهيم؛ الآية: 1 .
2- سورة إبراهيم ؛ الآية : 5 .
3- سورة الأحزاب ؛ الآية : 21 .
4- سورة النجم ؛ الآية : 9 .
5- شربة من اللبن : أي بيان لشدّة اقتراب سقوطهم في المتاهات .
6- النهزة : الفرصة .
7- قبسة العجلان : شعلة من النار يأخذها الرجل العاجل .

الطرق ،(1)، وتقتاتون القد والورق ،(2)، أذلة خاسئين تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم فأنقذكم الله تعالى بمحمد صلّی الله علیه وآله وسلم بعد اللتيا والتي وبعد أن مني ببهم الرجال ، (3)، وذوبان العرب ومردة أهل الكتاب كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ، (4)، وتقول أيضاً عليه السلام (فرأى - أي النبي صلّی الله علیه وآله وسلم - الأمم فرقاً في أديانها عُكفاً على نيرانها عابدة لأوثانها منكرة الله مع عرفانها فأنار الله بمحمد صلّی الله علیه وآله وسلّم ظلمها وكشف عن القلوب بهمها وجلى عن الأبصار غممها وقام في الناس بالهداية وانقذهم من الغواية وبصرهم من العماية وهداهم إلى الدين القويم ودعاهم إلى الصراط المستقيم ) ،(5) ، حيث تعرض مولاتناصلّی الله علیه وآله وسلم أوضاع العرب قبل البعثة وحالهم المتخلف من الناحية الدينية والعقائدية وكذلك من الناحية الاجتماعية إذ كانوا عبارة عن قبائل متناحرة تسلب الواحدة الأُخرى وتتفشّى فيهم ظاهرة القتل والإعتداء وتعرض أيضاً حالهم المتردي من ناحية الأكل والشرب ثم تشرح كيف أن النبي هداهم وأجلى عن قلوبهم كل الرواسب الجاهلية وأزال عن عقولهم الشبهات والانحرافات والخرافات .. الخ ثم أوضح لهم الطريق ودعاهم إلى الإيمان وأبان لهم طريق الهداية وهو الصراط المستقيم المتمثل بالإسلام. فهذه الكلمات الشريفة تحكي لنا عن هداية النبي صلی الله علیه وسلم للناس جميعاً. ولكن هناك هداية أخرى يقوم بها الرسول يقول تعالى : {رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ...} (6)فالآية في صدد هداية المهتدين { لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا }فان المومن مهما وصل فانه

ص: 341


1- الطرق : الماء الذي تبول فيه الإبل.
2- أي تأكلون القد : وهو الجلد واللحم المجفف في الشمس.
3- البهم : الشجاع الذي لا يهتدى من أين يؤتى .
4- فاطمة من المهد إلى اللحد، ص 413 وما بعدها .
5- المصدر نفسه : ص 382 - 380 .
6- سورة الطلاق ؛ الآية : 11 .

يحمل في داخله حجباً هذه الحجب لا تجعله يقترب من الله أكثر بل إنها تبقي الفواصل بين العبد وربه ولذا يسميها البعض حجب الظلمات لأن الإنسان في أدنى مرتبة إذا شعر بأن هناك فاصل بينه وبين ربه فهي ظلمة فيأتي الرسول ليزيل هذه الحجب عن القلوب فكان هؤلاء من أهل الجنة قطعاً بفضل هداية الرسول لهم وفي الدنيا حيث يخبر الرسول بذلك كما كان يخبر عن عمّار أو المقداد . . (يا علي إن الجنة تشتاق إليك وإلى عمّار وسلمان وأبي ذر والمقداد) . (1).

الأئمة الهداة:

لا يخفى أن الأئمة ( عليهم الصَّلاة والسَّلام) هداة للناس لأنهم ورثة الرسول وأوصياؤه وحملة علمه والمؤدون عنه والحافظون الشرعه وهم حجج الله على الخلق ودائماً حجة الله هداية للناس ولذلك يقول أمير المؤمنين في إحدى خطبه (بنا اهتديتم في الظلمات وتسنمتم (2) ذروة العلياء وبنا افجرتم عن السرار (3) . .) (4) فالأئمة علیه السلام هم الموضحون للناس طرق معاشهم . ومعادهم ومعلمون الناس الأصول والأخلاق والآداب ومبينون أحكام الدين وحدود الله عزّ وجلّ فكيف لا يكونون هداة إلى الحق أو مخرجين الناس من ظلمات الانحراف إلى الطريق السوي. إذ لا يخفى أن في زمن الأئمة لا سيما من بعد الإمام السجاد علیه السلام ظهرت العقائد المنحرفة والخرافات وتدخلت السياسة في إيجاد بعض الكتل الدينية التي تعمل ضد الإسلام وتنشر عقائد تثير الشك في إمامة الأئمة وإبعاد الناس عنهم وإثارة المغالطات الكلامية وغيرها فكان الأئمة الحصن الحصين للدفاع عن مقام الإمامة أولاً لأن في

ص: 342


1- البحار : ج 22 باب فضائل سلمان وأبي ذر والمقداد وعمار ص 341ح5 ط بیروت.
2- تسنم: ركب سنامها .
3- افجرتم عن السرار: كناية عن الظلام.
4- نهج البلاغة: الصالح خ 4 ص 51 ط إيران .

حفظه حفظاً لمقام النبوة ومقام الإسلام فكانوا بالعلم والتقوى والورع يثبتون دعواتهم الصادقة وكلماتهم الشريفة التي يهتدي بها الناس. فمثلاً انتشر مذهب الإلحاد أيام العباسيين بسبب دخول الفلسفات اليونانية فتأثر بها بعض البسطاء فكانوا يثيرونها بين الناس إذ دخل أحدهم على الإمام الرضا عليه السلام وسأله عن الله عزّ وجلّ كيف هو وأين هو ؟ فقال: ويلك إنّ الذي ذهبت إليه غلط هو أين الأين وكان ولا أين هو كيّف الكيف وكان ولا كيف فلا يعرف بكيفوفة ولا بأينونة ولا بحاسة ولا يُقاس بشيء قال الرجل فإذن إنه لا شيء إذا لم يدرك بحاسة من الحواس فقال أبو الحسن علیه السلام ويلك لما عجزت حواسك عن إدراكه أنكرت ربوبيته ونحن إذا عجزت حواسنا عن إدراكه أيقنّا أنه ربنا وأنه شيء بخلاف الأشياء قال الرجل فأخبرني متى كان؟ قال أبو الحسن علیه السلام أخبرني متى لم يكن فأخبرك متى كان قال الرجل فما الدليل عليه؟ قال أبو الحسن علیه السلام : إني لما نظرت إلى جسدي فلم يمكني فيه زيادة ولا نقصان في العرض والطول ودفع المكاره عنه وجرّ المنفعة إليه علمت أن لهذا البنيان بانياً فأقررت مع ما أرى من دوران الفلك بقدرته وإنشاء السحاب .. قال الرجل فلم احتَجَب فقال أبو الحسن علیه السلام : إن الحجاب عن الخلق لكثرة ذنوبهم فأما هو فلا تخفى عليه خافية في آناء الليل والنهار قال : فلم لا تدركه حاسة البصر ؟ قال : للفرق بينه وبين خلقه الذين تدركهم حاسة الإبصار منهم ومن غيرهم ثم هو أجَلّ من أن يدركه البصر أو يحيط به أو يضبطه عقل . . الخبر (1) وهكذا كان الأئمة بالمرصاد لكل الحركات الضالة بل كانوا يعملون على صناعة رجال علماء أقوياء ينشرون مذهب الحق في آفاق الأرض أمثال المفضل ومؤمن الطاق وهشام بن الحكم وجابر الجعفي وغيرهم ممن يذب عن حريم الإسلام .

ص: 343


1- لمزيد من التفصيل راجع بحار الأنوار : ج 3 كتاب التوحيد ص 36 - 37 ح 12 طبعة بيروت .

الإنسان يهدي:

الإنسان المبلغ - عالماً كان أو خطيباً أو كاتباً أو غير ذلك - هو الآخر مصدر من مصادر الهداية في هذا العالم إذ لا يخفى دوره العظيم في إنقاذ الناس من ظلمات الجهل لأنه يعلمهم الأحكام ويغذيهم بالأخلاق ويعلمهم طرق التحلي بالصفات الرفيعة وكيفية التعامل مع الناس بالصبر والمداراة والضبط والاحترام . . وكل ذلك يقودهم إلى جادة الهدى. لأن الناس عادة أعداء لما جهلوا فإذا عرفوا الحقائق صاروا مسالمين (الجهل أصل كل شر ) (1) فأحياناً يهتدي الإنسان بكلمة يسمعها من المبلغ أو الداعي إلى الهدى. إذن لا بد من التبليغ أولاً لأنه يوضح ويرفع الرواسب والمغالطات من أذهان الناس. لذلك قال النبي : (لا تقاتل أحداً حتى تدعوه . . ) (2)واعتبر الدعوة إلى التوحيد من أفضل الأعمال ولذلك يركز الإسلام على الدعوة الصادقة {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } (3) إذ إن من فوائد الدعوة إنقاذ الناس ولذلك نرى أن الرسول وأمير المؤمنين والإمام الحسين علیه السلام يبدئون حروبهم أبداً ما لم يبدأ المقابل الحرب بل كانوا يوجهون كلماتهم الهادية إلى العدو لإنقاذه فالتبليغ حركة إنقاذية يقوم بها الإسلام عبر رجالاته ولذا يوحي بها الرسول صلّی الله علیه وسلم و لأمير المؤمنين علیهم السلام . بل إننا نراه يبعث مصعب بن عمير إلى المدينة المنورة قبل أن يهاجر إليها كمبلغ ليعلم الناس هناك أحكام الإسلام .(4) .

خير لك مما طلعت عليه الشمس :

بما أن التبليغ هداية وسط المجتمعات فهو لا يختص بفرد دون الآخر

ص: 344


1- تصنيف غرر الحكم : ص 73 ح 1096 .
2- سفينة البحار : ج 2 ص 700 .
3- سورة النحل ؛ الآية : 125 .
4- راجع سيرة المصطفى : للحسني ص 230 .

لأن الهداية مسؤولية عامة لإنقاذ بني البشر من العقائد المنحرفة. يحكى أن سيداً عالماً من النجف ذهب إلى (عُمان) للإرشاد والتبليغ وكانت الحال هناك لا تساعد على أن يظهر بصفته العلمية وأنه من علماء الإمامية الاثني عشرية فعمل كاتباً يكتب لهم الرسائل ويعقد لهم عقود الزواج والعقود الأخرى وكان يطرح أفكار المذهب الحق من خلال عمله هذا رويداً رويداً وبأسلوب منطقي مقبول حيث لا يثير أحداً وبذلك استطاع أن ينشر مذهب أهل البيت علیهم السلام هناك. فما قام به هذا السيد من عمل خير له مما طلعت عليه الشمس لأنه يعتبر من الأعمال الفاضلة فهداية العباد وإنقاذ الناس من الجهل وإرشادهم إلى النور هو هدف الرسالات كلها وهو عمل الأنبياء والمرسلين ولذلك كان من أفضل الأعمال وأشرفها .

الكلمة الهادية:

بشر الحافي كان يشتغل بالملاهي والمناهي ففي ذات يوم مرَّ مولانا الإمام الكاظم علیهم السلام على باب دار بشر فسمع منها الغناء واللهو ورأى على الباب جارية فقال لها : أيتها الجارية مولاك حرّ أم عبد ؟ فقالت : حر! فقال لها : صدقت لو كان مولاك عبداً لعمل بمقتضى العبودية وخاف الله تعالى فذهبت الجارية إلى داخل الدار وأخبرت بشر بذلك فأثر فيه الكلام وكان سبب هدايته وخرج حافياً إلى خارج الدار وجعل يركض خلف الإمام حتى وصل إليه فوقع على قدميه وتاب على يده وأناب وبقي حافياً طول عمره وليس هذا فحسب بل صار من علماء الشيعة ومن رواة حديث الأئمة علیهم السلام وصارت له حكم ومواعظ يعلمها الناس ويهديهم بها إلى طريق الحق ومنهج الصدق (1)فكلمة واحدة نورانية تخرج من قلب مخلص بالإيمان كافية لأن تهدي الكثير لا فقط إنساناً واحداً وقد قال رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلّم (ما أخلص عبد الله عزّ وجلّ أربعين صباحاً إلاّ جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه) .(2)

ص: 345


1- راجع أعيان الشيعة ؛ الطبعة الجديدة ج 3 ص 578 لزيادة التفصيل.
2- البحار : ج 67 باب الإخلاص ص 242 - 243 ج 10 / بيروت .

وَلَكَ ولاؤه :

الأمر المهم الذي يذكره الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله سلّم مسألة الولاء وهي من المسائل المهمة والحساسة لأن الإنسان يتحرك على أساس ولائه فبقدر ما يكون الولاء جيداً نرى الإنسان أكثر فعالية وبالعكس نرى بعضهم بسبب تشتت ولاءاتهم وتمزق قلوبهم لا يتسمون بالهمم العالية .والولاء تعبير آخر للإخلاص فالإسلام دائماً يؤكد على العناصر المخلصة لأنها أكثر فعالية في انتشار الإسلام والدفاع عن الإسلام والمسلمين لتنامي الشعور بالمسؤولية في ذواتهم وكأن الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلّم يريد أن يقول في عبارة (ولك ولاؤه) أي استمرار للفكرة بواسطة الموالين المخلصين لأن المبلغ عندما يكسب الناس ویر شدهم إلى طريق الحق ويوضح لهم الصحيح من الخطأ فإن الناس عادة سوف يستمرون في سيرهم معه ويستمدون منه الروح المعنوية والأفكار الصحيحة والطرق السليمة في الفكر والعمل وهذا يعني أنهم أصبحوا موالين ومخلصين فحتى لو فارقهم المبلغ الإسلامي فإنهم سوف يعيشون الفكرة ذاتها وهي الفكرة الإيمانية لأن معنى الولاء الحقيقي لا لذات الشخص بل لما يحمل من أفكار ومبادىء مقدسة ولهذا سوف يكون ولاء الناس لهدفك وأفكارك فينفعون في تحقق الهدف النهائي ولن نجد شاهداً في المقام أفضل من ولاء أمير المؤمنين للنبي (صلوات الله عليهما )وولاء أصحاب الحسين للحسين علیهم السلام إنها صورة مشرقة من حق الإنسانية أن تعتز وتفتخر وتتأسى بها، إنها صور للكمال المتحرك على الأرض وصور لرجال إلهيين لبسوا الأرواح على الأبدان وتقدموا إلى ميدان الموت من أجل حياة الإسلام .

مسؤولية الجميع:

المسلمون كلهم مسؤولون عن تقدم الإسلام، ولا يتصور الناس أن مسألة التبليغ من مختصات العالم الديني، بل كل فرد مسلم يستطيع أن يُبلغ

ص: 346

للإسلام ومن خلال عمله أو نشاطه اليومي ولذلك نحن نقرأ في سير الأمم الماضية عندما كانت تتخلى عن دينها وأحكامه كان العذاب ينزل على الجميع لا على العلماء فقط بل أحياناً ينجي الله العلماء والصالحين إذا كانوا قائمين بأدوارهم من الهداية والإرشاد فالمسؤولية ملقاة على كل واحد منا لا على طبقة معينة فالتاجر يستطيع أن يبلغ للإسلام من خلال اتصاله بالغير والسائق كذلك والفلاح والنجار والموظف . . يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر في داخل الكيان الإسلامي. إذ كلما استطعنا أن نصلح الجبهة الداخلية. نستطيع أن ننقل الإسلام إلى الشعوب الأخرى غير الإسلامية. وكلما قوي هذا الشعور في الأفراد كلما ازدهر الإسلام وكلما انعدم الشعور بالمسؤولية وأصبح كل واحد يلقيها على الآخر فإن بوادر الغضب الإلهي حينئذ ستكون واضحة من خلال غلاء الأسعار أو تسلط حكام جائرين أو حدوث كوارث طبيعية غير مرتقبة وإلى آخره من علامات الغضب الإلهي - والعياذ بالله - قال تعالى : {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }.(1)

ص: 347


1- سورة الأنفال ؛ الآية : 25 .

ص: 348

18- الأَيْمَانُ بَين الحٍسٍ وَالعَقل

اشارة

ص: 349

ص: 350

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) لعلي (علیه السلام) :

«يا علي أعجب الناس إيماناً وأعظمهم يقيناً قوم يكونون في آخر الزمان لم يلحقوا النبي وحجب عنهم الحجة فآمنوا بسواد على بياض» (1) (1)

الإيمان بين القلب والعقل:

الإيمان من أكبر النعم الإلهية على الإنسان وله فيه المنّة علينا سبحانه .

{ قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ أن هداكم للإيمان وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ } .(2) .

له المنّة علينا سبحانه في الإيمان وفي تحبيبه إلينا وتزيينه في قلوبنا لنهتدي إليه فطرياً وروحياً .والإيمان مراتب كما يذكر علماء الكلام من مراتبه رسوخ الاعتقاد في القلب وبعده يأتي اليقين وهو من أشرف المراتب، لأنه يصبغ روح الإنسان وعقله وضميره بحب الله والاعتقاد به سبحانه حتى يصبح الإنسان وكأنه يرى ما يعتقد به ولذا جاء في الرواية أن حد اليقين ألاّ تخاف

ص: 351


1- كلمة الرسول الأعظم : ص 161 .
2- سورة الحجرات ؛ الآية : 17 .

مع الله شيئاً (1)(1) أي استشعار عظمة وقدرة الله عزّ وجلّ والعيش وسط هذا الشعور الإطمئناني وأيضاً قيل فيه (والراحة في اليقين). (2).

ولأن الإيمان من الحقائق المشككة - كما - يعبر المناطقة - التي لها مراتب ومستويات يتفاوت الناس في إيمانهم فمنهم من يعبد الله على حرف ومنهم من يعبد الله على يقين ومن هنا قسم البعض الإيمان إلى :

1 - الإيمان القلبي . 2 - الإيمان العقلي . أو قل الإيمان العملي والإيمان النظري وكثيرون هم أصحاب الإيمان العقلي أو النظري فهم يعيشون الإيمان فكرة عقلية عقائدية ولكن عندما نلاحظ سلوكهم ترى شتان بین ما يعملون وما يعتقدون وهذا كاشف عن عدم نزول العقائد إلى القلب والفؤاد أو أن فكرة الإيمان تعيش في أذهانهم بصورة سطحية حتى إذا جاءتها الرياح والعواصف الثقافية والفكرية المعادية تنهزم عند الإنسان أو بالأحرى يتخلى عنها بكل بساطة . أما أصحاب الإيمان العملي فليسوا كذلك لأن الإيمان تجذر في قلوبهم وعاش في أعماقهم حتى إنهم لا يفكرون في الأمور إلاّ من زاوية الإيمان ولا يحكمون على الأمور إلاّ بمقايستها بالإيمان أيضاً وجاء في الرواية المشهورة (ما عرض عليّ عمل إلاّ ورأيت الله معه وقبله وبعده) وهذا هو منهج أهل البيت علیهم السلام فأئمتنا الهداة عُرفوا بسلوكهم من خلال سلوكهم الرباني الكامل توصل الناس إلى علومهم ومقاماتهم السامية .

ومن هذا المنطلق نرى أن القرآن الكريم دائماً يذكر العمل مع الإيمان فهو على الدوام يكرر :

{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}(3)

ومن هذا يتقرر أن الإيمان العملي هو المنهج الصحيح والمطلوب أما

ص: 352


1- الكافي : ج 2 كتاب الإيمان والكفر باب اليقين ص 47 - ح 1 .
2- المصدر نفسه : : ح 2 .
3- .سورة النساء ؛ الآية: 57 .

الإيمان العقلي فغير كاف ومن هنا قسم الفقهاء الإيمان إلى عقيدي وعملي في مقابل الكفر الذي قسموه إلى كفر عقيدي وعملي ولكل واحد منها ذكروا أحكاماً خاصة.

حقيقة الإيمان:

يحكى أن رسول الله كان في بعض أسفاره إذ لقيه ركب فقالوا : السلام عليك يا رسول الله فقال : ما أنتم؟ فقالوا : نحن مؤمنون يا رسول الله. قال : فما حقيقة إيمانكم؟ قالوا : الرضا بقضاء الله والتفويض إلى الله والتسليم لأمر الله فقال رسول الله : علماء حكماء كادوا أن يكونوا من الحكمة أنبياء فإن كنتم صادقين فلا تبنوا ما لا تسكنون ولا تجمعوا ما لا تأكلون واتقوا الله الذي إليه ترجعون (1) .

نلاحظ أن الرسول بعد أن استعلم منهم الإيمان النظري أكد لهم الإيمان العملي أي أن لا يأتوا بأعمال مناقضة للإيمان والاعتقاد.

كيف يحصل الإيمان :

قلنا سابقاً إن الإيمان صفة مشككة تختلف من شخص إلى آخر فيمكن أن يؤمن أحد الأشخاص لمجرد كلمة أو موقف أخلاقي أو استدلال عقلي أو وجداني ورب شخص لا يؤمن حتى لو حصلت له ألف حجة وبرهان. ذلك لأن هناك عوامل وأسباب تؤثر على قلب الإنسان وعلى نمط تفكيره فتجعل القلب قاسياً وتغلق أمامه آفاق الفكر فلا ينطلق الإنسان الإنطلاقة الواعية والصحيحة المناسبة للعقل. ومن هذه المؤثرات الاستغراق في الأفكار الإلحادية والأخلاق المنحرفة والمصالح الشخصية وحب الدنيا وغيرها . .ولكن القرآن الكريم جعل للإيمان طريقين ليكون مطابقاً لمستويات الناس

ص: 353


1- الكافي : ج 2 كتاب الإيمان والكفر باب حقيقة الإيمان ص 44 ح 1 .

ومراتبهم .. والطريقان هما :

1 - الطريق الحسي .

2 - الطريق العقلي .

فالذي يحتاج إلى المشاهدات المحسوسة جاء له بالآيات الحسيَّة الملموسة والذي يريد مستوى أعلى من الحس جاءه بالبرهان العقلي .قال تعالى : {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيّن لهم أنه الحق وأنه على كل شيء قدير} .(1) .

قال علماء الكلام إن هذه الآية حوت على الدليلين الحسي والعقلي معاً لأن الله تعالى يدل الناس عليه ويهديهم إليه سبحانه بواسطة الآيات الكونية والظواهر المادية كالشمس والقمر والنجوم والمطر والجبال وكل ما يدل على أنه مخلوق من لدن حكيم قدير هذه الآيات يسميها

القرآن (الآيات الآفاقية) وبواسطة الآيات الأنفسية التي يعيشها الإنسان في نفسه ووجدانه إذ كل عاقل بصير إذا التفت إلى نفسه وقواه وأنه كائن حي مفكر متحرك يدرك أن هذه القوى والقدرات المودعة في نفسه ليست منه بل إنه اكتسبها من جهة أخرى وعقله هو الذي يدله على ذلك الغير وهو الله سبحانه وتعالى. فالله عزّ وجلّ دائماً يعرض مسألة التوحيد وإثبات الصانع وكأنها أُمور فطرية قد فطر الإنسان على معرفتها ولكن عندما تغلق الذنوب قلب الإنسان وتحجبه عن عالم المعرفة والحق ، عندها يحتاج إلى إيقاظ وومضة لكي يعود إلى الصراط المستقيم .

ولذلك نرى أن الله سبحانه يستنكر على الذين يقولون بعدم وجود الله أو الإشراك به .

يقول تعالى : {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (2)؟ .

ص: 354


1- سورة فصلت ؛ الآية : 53 .
2- سورة إبراهيم ؛ الآية : 10 .

القرآن يعرضها وكأنها من المسلمات فلماذا يحاول الإنسان أن يتكبرعلى فطرته التي تشير إلى التوحيد ولماذا يستعلي على الله ؟

وهكذا يحاول القرآن دائماً أن يعرض الأدلة الواضحة التي يخاطب بها الفطرة والوجدان وهو أقرب الطرق لإرجاع الإنسان إلى عالم التوحيد .ومن أهم الآيات الحسية التي استعملها الأنبياء لهداية الناس إلى الله سبحانه (المعجزة) وأكثر الناس آمنوا بواسطة هذا الطريق لأنه لا يدع مجالاً للشك والريب

معنى المعجزة:

والمعجزة هي خرق العادات بثبوت ما ليس بمعتاد أو نفي ما هو معتاد وحتى تكون المعجزة دالة على صحة دعوى النبي يجب أن تكون مطابقة للدعوى أي أن يأتي النبي بأمر غير مألوف ولم يعتد الناس عليه مثل شق القمر أو أن ينفي عنهم أمراً اعتادوا عليه كما هو الحال عندما أبطل النبي موسى السحر لأنه كان معتاداً عندهم ثم لا بد من المطابقة بين دعوى النبي ومعجزته فالنبي عيسى كان يقول لهم إني أبرىء الأعمى فلكي يكون صادقاً لا بد أن تطابق معجزته دعواه فيبرأ الأعمى لا كما فعل مسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة فجاءوا إليه بصبي كلما يخرج شعر رأسه يأخذ بالسقوط فمسح مسيلمة على رأسه فأصابه الصلع إلى آخر حياته وقيل له إن بئراً فيه ماء قليل فهل لك أن تفعل شيئاً ليكثر ماؤه فتفل فيه فغار الماء وجفّ البئر .

معجزة انشقاق القمر :

ومعجزة انشقاق القمر التي كانت على يد نبينا الأعظم صلّی الله علیه وسلم في مكة المكرمة. ومن الأدلة الثابتة حول معجزة انشقاق القمر هو القرآن حيث يذكرها فيقول تعالى :

ص: 355

{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ }(1) .

وهناك أدلة من السنة المطهرة حول الحادثة وهي مما تسالم عليه المسلمون كافة.ولو تأملنا المعجزة رأينا أولاً أنها كانت خارقة للعادة وأمراً ليس بمعتاد وما يعجز عنه الجميع ثم إنها كانت مطابقة لما طلبوا هم من الرسول فوعدهم الرسول بذلك وفعلاً قد انشق القمر ولكن استكبارا منهم (قالوا سحر مستمر) أي سحر صحيح (2). وبعدها جرت معجزات عديدة على يد النبي صلّی الله علیه وآله سلّم منها تكلم الحصى وتحول الشجرة (3) من مكان إلى آخر، ومن معجزاته المهمة المعراج وأهم منها القرآن الكريم وسيأتي الكلام عنه مفصلاً ولم يبعث الله نبياً إلاّ ومعه معجزة ليدل على سفارته واتصاله بالسماء وأنه رسول الله والقرآن يذكر الكثير من معجزات الأنبياء أمثال إبراهيم وعيسى وموسى وغيرهم من خوارق العادات كل ذلك ليقود الناس الذين لا يؤمنون إلاّ بواسطة الحس والمشاهدات العينية إلى الإيمان فتكون له الحجة البالغة عليهم يوم القيامة .

الطريق العقلي:

والعقل السليم أيضاً جعله الله سبحانه حجة على الإنسان فيه يميز الحق من الباطل والهدى من الضلال والله سبحانه إنما يعاقب ويثيب على العقل . جاء في الحديث :

لما خلق الله العقل استنطقه ثم قال له : أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر ثم قال : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحب إليّ منك ولا أكملتك إلاّ

ص: 356


1- سورة القمر ؛ الآيتان : 1 - 2 .
2- راجع البحار : ج 17 باب المعجزات ص 347 وما بعدها ط بيروت .
3- سيرة المصطفى : للحسني ص 157 ط 3 بيروت .

فيمن أحب أما إني إياك آمر وإياك أعاقب وإياك أثيب (1).

وعن الإمام الصادق علیهم السلام قال :

العقل ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان (2).

إذاً فالعقل هو أساس الإنسان وبه يفترق عن الحيوان - مضافاً إلى الاختيار - .

والعقل يقود الإنسان إلى الإيمان بواسطة أحد برهانین :

1 - البرهان الآني، 2 - البرهان اللمّي ويُطلق عليهما أيضاً الدليل الآني والدليل اللمي .

أما الأول : وهو الإنتقال من وجود المعلول إلى وجود العلة أو معرفة المعلول إلى معرفة العلة.أضرب مثالين لتوضيح المطلب :

أ - إيماننا بوجود الكهرباء في السلك المعدني مع أننا لم نر الكهرباء وإنما رأينا آثارها كاشتغال الضوء مثلاً، فالكهرباء تسمى علة ولكننا حكمنا بوجودها من خلال المعلول وهو الضوء .

ب - إذا دخلت في غرفة ووجدتها دافئة ولكنك لم تجد مصدر الدفء الذي هو النار في المدفئة ولكن بمجرد إحساسك بالدفء تقطع بوجود النار مصدر الدفء مع أنك قد لا تراه بعينك إما لوجود مانع بينك وبينها أو كانت قد وضعت في زاوية من الغرفة ولكنك لا تراها إذن من وجود الدفء تعرف وجود علته وهو النار والأمثلة على ذلك كثيرة . .

وقد استعمل بعض الحكماء البرهان الآني أيضاً لإثبات وجود الله سبحانه والإيمان به تبارك وتعالى بهذا البيان (مع التسامح في بعض تعابيره

لتوضيحه) .

ص: 357


1- الكافي : ج 1 كتاب العقل والجهل ح 1 ص 8 .
2- الكافي : ج 1 كتاب العقل والجهل ح 3 ص 8 .

البرهان الآنيّ في إثبات الصانع:

قالوا إن الوجود حقيقة واقعية لا يمكن إنكارها وبواسطة البرهان الآني نريد أن نصل إلى الإيمان بوجود الله من خلال الوجود ، فنقول إن الموجودات كلها لا تخرج عن ثلاث احتمالات إما أنها واجبة الوجود أو أنها ممكنة الوجود أو ممتنعة الوجود؛ أما الاحتمال الثالث فهو مرفوض لأننا قلنا إن الوجود حقيقة واقعية والممتنع الوجود يعني أنه معدوم والمعدوم لا واقعية له .

ومعنى ممكن الوجود أنه بحاجة إلى علة أو موجد أما واجب الوجود فهو ما لا يحتاج إلى علة موجدة. وهنا بقي لدينا احتمالان إما أن نقول إن الوجود والموجودات كلها ممكنة الوجود وهذا القول يقودنا إلى التسلسل وهو باطل أي أننا سنظل نبحث عن العلة الموجودة والنهائية لهذا العالم وإذا لم نصل يكون الأمر مخالفاً للعقل والواقع، فبطل هذا الفرض . وإما أن نقول إنها كلها واجبة الوجود وهذا الفرض يوصلنا إلى الدور وهو أن يكون المخلوق أ قد خلق ب وب قد خلق ج والأخير خلق أ فيكون الوجود أو الموجود الواحد خالق ومخلوق في آن واحد وهو واضح البطلان .

يبقى هناك احتمال رابع وهو أن نقول إن الموجودات بعضها واجب وبعضها ممكن ونحن نريد أن نثبت أن الواجب واحد وهو الذي خلق الوجود وأبدعه وبث فيه المخلوقات - إن صح التعبير - وهنا يمكن أن نقول إن هذا البعض عبارة عن اثنين وإذا استطعنا أن نبطل الإثنينية في الوجوب يكون من باب أولى بطلان الأكثرية فيثبت الواحد الخالق وللإستدلال نقول : لو كان الهين واجبين وتحققت إرادتهما معاً على أنّ الإله أ أراد تقويم يوم القيامة والإله ب أراد تأخيره لاجتمع المتنافيان وهو باطل وإن لم تتحقق إرادتهما معاً لظهر عجزهما وهو باطل على الإله وإن تحققت إرادة احدهما فهو ترجيح بلا مرجح وثبوت عجز الإله الآخر والعجز ممتنع على الإله وهو باطل أيضاً

ص: 358

ثم لو فرضنا أنهما اثنين للزم أن تكون هناك نقطة تشابه ونقطة تمايز بينهما وإلا لِمَ صارا إثنين فإذا كانت جهة الاشتراك بينهما الوجود فما هي جهة الافتراق ؟ إذا قلنا العدم فالقول باطل إذ لا تمايز في العدم وإذا قلنا الزمان فإنه من مختصات المادة والإله مجرد عنها وإذا قلنا المكان كذلك الإله مجرد عن المكان لأنه ليس بمادة وإذا لم نثبت جهة افتراق إذا هو واحد وليس اثنين وبذلك ثبت لهذا العالم خالقاً واحداً حكيماً ونلاحظ أننا وصلنا إلى هذه الحقيقة من خلال المعلول وهو الوجود وهذا هو البرهان الآني. وقد ذكره ابن سينا في كتاب الإشارات (1).

البرهان اللمي:

وهو عكس البرهان الآني أي أننا من خلال العلة نستدل على وجود المعلول وأيضاً أضرب مثالين لبيان الأمر :

أ - عندما نلاحظ ناراً في غرفة بعيدة، فإننا نحكم بوجود الدفء في الغرفة لأن الحرارة لا تنفك عن النار. والنار علة للحرارة التي يمكن تسميتها

ب- (المعلول) .

ب - أو عندما نرى الشمس نتوصل إلى أن النهار قد طلع وإن كنا في مكان لا نراه لأن الشمس علة لطلوع النهار وبعض الحكماء استدلوا بهذا البرهان على لزوم إرسال الأنبياء والإيمان بهم قالوا - مع التسامح في التعبير - إن الله عزّ وجلّ من صفاته الحكمة والعدالة ومن خلال ذلك نستدل أنه أرسل أنبياء ورسلاً إلى خلقه لأنه مقتضى الحكمة الإلهية لأن الإنسان بمفرده قاصر عن البلوغ إلى كماله بعجزه ومحدوديته ولذا كان على الله سبحانه بمقتضى الحكمة إنقاذه وسوقه نحو الكمال لأنه لم يخلقه سدىّ وبذلك نقول إن إرسال الأنبياء واجب عقلاً على الله عزّ وجلّ. نلاحظ في الاستدلال أننا

ص: 359


1- راجع كتاب معالم التوحيد في القرآن : للسبحاني ص 176 لزيادة في التفصيل .

انطلقنا من العلة إلى المعلول وهو المسمى بالبرهان اللمي. وتنضوي تحت هذين البرهانين براهين عديدة كل منها يوصل الإنسان إلى حقيقة الإيمان بالله ورسوله وكتبه وملائكته .

دور العقل في الإيمان:

من الواضح أن الطريق الحسي - مثل المعجزات - ينحصر دوره عادة بالمعاصرين للأنبياء والرسل لأنه يتوقف على الحس أما الذين يأتون بعد فترات الرسل فإن طريقتهم عادة هي البراهين العقيلة الآنية واللمية ولعل من هنا قال الرسول الأكرم صلّی الله علیه وآله وسلّم (فآمنوا بسواد على بياض) .والظاهر أن هذا النوع من الإيمان يكون أعلى رتبة في القوة والرسوخ من الإيمان الحسي لأن العقل أقوى في الدرك والاعتقاد من الحواس وأرقى في المعرفة. ولأن العقل من أشرف مخلوقات الله إذ لم يخلق الله خلقاً أشرف منه فالإيمان الذي يكون عن طريقه أشرف من الإيمان الذي يكون عن طريق الحس والمشاهدة ولعل لهذا السبب قال رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلّم(أعظمهم يقيناً). وقد تواترت الروايات عن أئمة الهدى سلام الله عليهم في فضل العقل ومنزلته ودوره في حياة الإنسان .

فعن الإمام الصادق علیهم السلام قال:

«من كان عاقلاً كان له دين ومن كان له دين دخل الجنة »(1).

وعن الإمام الكاظم علیه السلام قال:

«إن الله تبارك وتعالى بشر أهل العقل والفهم في كتابه فقال{ فبشر عباد الذين يستمعون الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ}» (2).

ص: 360


1- الكافي : ج 1 كتاب العقل والجهل ص 9ح 6 .
2- المصدر نفسه : ح 12 ص 10 . والآية هي 20 من سورة الزمر .

وعنه أيضاً قال : «إن العقل مع العلم فقال {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ }(1) .

كيف آمنا بالرسول (صلّی الله علیه وآله):

إن إيماننا بالرسول الأعظم مبتن على أمرين الأول هو الطريق العقلي والثاني هو الطريق النقلي .

أما الأول فهو متفرع عن موضوع الخاتمية حيث لا يمكن أن تختم الرسائل والشرائع السماوية بالنبي عيسى علیه السلام لعدة أسباب :

1 - إن رسالته لم تكن متكاملة بحيث تسدّ كل متطلبات العصور إلى يومنا هذا بل إنها كانت لمرحلة خاصة من الدهر .

2 - إن المسيحية قد حُرّفت ولم يبق منها إلاّ الرسم فلا يمكن أن يحتجّ الله سبحانه على العباد في اليوم الآخر بشريعة محرّفة . ومن ثم يعاقبهم على انحرافهم ومسألة تحريف الإنجيل معروفة وواضحة فكما حرف اليهود التوراة بعد أن سيطرت الدولة الرومانية عليهم وسبتهم وبطشت بهم رأى الكهنة أن المهادنة السلطة الحاكمة أسلم وأنجى لهم بعد أن يئسوا من التخلص منهم فعمل الكهان بدافع منهم وتأثير من السلطة الرومانية على تحريف التوراة وقتل الأنبياء إلى أن بعث الله النبي عيسى ليجدد للناس معالم الدين ومعارف التوحيد فكان يدعوهم إلى التوحيد الصحيح والإيمان العملي والتواضع للناس لأن اليهود عندما حرفوا التوراة جعلوا أنفسهم شعب الله المختار وأضفوا عليه شيئاً من القدسية فصار عقيدة عندهم فلما جاء عيسى أراد أن يهدم هذه العقائد التي ما أنزل الله بها من سلطان وكان يحثهم على الأخلاق والفضيلة والرجوع إلى الشريعة وعدم مهادنة الظلمة و ... فلم یطيعوا النبي عيسى فعملوا على قتله وصلبه ولكن الله رفعه إليه في قصة

ص: 361


1- المصدر نفسه : ح 12 ص 11 . والآية هي 43 من سورة العنكبوت.

مفصلة .

الطريق النقلي:

1 - إن الإنجيل غير المحرف يبشر بنبوة الرسول محمد صلّی الله علیه وآله وسلّم وذلك من خلال اليهود الذين كان يلتقون بالنبي أيام صباه أو شبابه أو حتى بعد البعثة أمثال بحيرا الراهب والقرآن يذكر هذه الحقيقة .

{وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل أنا رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} (1).

2 - ما نقل في الكتب المختلفة وبلغ حدد التواتر حول معجزاته مما يثبت لنا بشكل قطعي نبوته «والتواتر هي قضايا تسكن إليها النفس سكوناً يزول معه الشك ويحصل الجزم القاطع وذلك بواسطة أخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب ويمتنع اتفاق خطئهم في فهم الحادثة»(2) فمثلاً لو أخبرنا شخص بوجود دولة النمسا ثم جاء آخر وقال كنت في النمسا ثم جاء شخص آخر لا يعرف الأخيرين وقال مررت بدولة النمسا وهكذا إلى عدد ضخم أو لا بأس به فهؤلاء لم يتفقوا على الكذب لأن كلاً منهم ليس له مصلحة في الكذب وليست هناك نقاط التقاء بينهم لكي نقول إنهم تواطئوا على الكذب. فهذا ما يسمى بالتواتر - باختصار - وهو عبارة عن ازدياد احتمالات اليقين والصدق ومقابلها تضاؤل احتمالات الكذب فالمسلمون على اختلاف مذاهبهم وأماكنهم ولغاتهم كلهم يعترفون بمعجزة شق القمر ومعجزة ازدياد الأكل في حادثة الدار عندما جمع النبي عشيرته ودعاهم إلى الإسلام. وكلهم يعترفون بمعجزة الإسراء والمعراج و . و . . فهذا التواتر يزيل كل الشكوك ويثبت مكانها اليقين بنبوة الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلّم.

ص: 362


1- سورة الصف ؛ الآية : 6 .
2- المنطق للمظفر : ج 3 ص 319 .

3 - القرآن الكريم باعتباره معجزة خالدة فهو يثبت ضمن آياته أن محمداً رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلّم وهو من أعظم الأدلة النقلية على نبوة نبينا الكريم. ولكن يمكن أن يُعترض علينا بالقول : مَن يقول إن القرآن من الله لعله من صناعة الرسول أو ممن أعانه عليه؟ أي يجب علينا الآن أن نثبت أن القرآن قد صدر من عند الله عزّ وجلّ. فإذا ثبت ذلك ثبت كل ما يخبر به القرآن من نبوة الأنبياء والحوادث التاريخية والحقائق العلمية والقضايا العقائدية وغير ذلك .

مصدر القرآن:

1 - إن النبي كما في بعض الأخبار كان رجلاً أمياً قبل البعثة ولا يعقل أن الإنسان الأمي يأتي بكتاب عالمي يحوي معارف رفيعة وعقائد متكاملة. فإلى اليوم لم نسمع أن إنساناً لا يعرف يقرأ ويكتب قد ألّف كتاباً في علم النفس التحليلي مثلاً فالعقل يستغرب هذا المعنى. وإذا كان النبي أُمياً قبل البعثة فلا يعقل أنه هو الذي ألّف القرآن الكريم. إذن لا بد أنه قد صدر من جهة أخرى لها من الإطلاع على خفايا وطيات النفس الإنسانية وتعالج أدق المسائل العقائدية وتتنبأ بحوادث مستقبلية ولا يمكن تصور هذا المعنى إلاّ في الله عزّ وجلّ .

2 - إن الني دائماً كان ينسب القرآن إلى الله عزّ وجلّ ولم ينسبه إلى نفسه أبداً. والذي يكتب مثل هذا الكتاب يكون الأليق به أن ينسبه إلى نفسه لتظهر شخصيته ومكانته الرفيعة. ولكننا نجد الرسول صلّی الله علیه وآله وسلّم يعمل عكس هذا .

3 - ولا يمكن تصور شخصية أخرى قد أعانت النبي في كتابة القرآن إذ إن عظماء الشعر والبلاغة كانوا معروفين وكلهم عجزوا عن الإتيان بآية واحدة من مثله . ثم إن سلوك الرسول محمد قبل البعثة كان يمتاز بالنزاهة والنظافة الروحية الطاهرة والأخلاق الفاضلة فيستبعد أنه يعمل على خداع الناس فلو أراد ذلك لفعله قبل ذلك. لا سيما أن الدعوة إلى الإسلام قد جلبت له

ص: 363

المتاعب والمصائب والخسائر حتى قال (ما أوذي أحد ما أُوذيت في الله)(1) .

ولو أراد خداعهم - والعياذ بالله - لجاءهم بأمور يكسب بها ودّهم وحبهم لينال ما يطمح إليه .

4 - القرآن باعتباره معجزاً قد تحدى الناس كلهم على أن يأتوا ولو بآية واحدة أو ينقضوا آية واحدة فقد بلغت بلاغة القرآن الكريم ما عجزت عنه عقول الفحول في العربية وعظماء الشعر وعمالقة البلاغة.

قال الشاعر :

جميع الكُتب يدرك من تلاها*** فتوراً أو ملالاً أو سأمه

سوا هذا الكتاب فإن فيه ***بدائع لا تُمل إلى القيامه

القرآن يتحدى:

يذكر أن لبيد بن ربيعة الشاعر العربي الكبير الشهير ببلاغة منطقه وفصاحة لسانه ورصانة شعره عندما سمع أن النبي صلّی الله علیهو آله وسلّم يتحدى الناس بكلامه قال بعض الأبيات رداً على ما سمع وعلقها على باب الكعبة. وكان التعليق على باب الكعبة امتيازاً لم تدركه إلا فئة قليلة من كبار شعراء العرب . وحين رأى أحد المسلمين هذا أخذته العزة فكتب بعض آيات الكتاب الكريم وعلّقها إلى جوار أبيات لبيد ومرّ لبيد بباب الكعبة في اليوم التالي ولم يكن قد أسلم بعد فأذهلته الآيات القرآنية حتى إنه صرخ من فوره قائلاً : والله ما هذا بقول بشر وأنا من المسلمين . وكان عمر بن الخطاب قد طلب منه أيام خلافته أن ينشده شعراً فقال لبيد : ما كنت لأقول شعراً بعد إذ علمني الله سورة البقرة وآل عمران (2) .

ص: 364


1- نهج الفصاحة : ص 543 ح 2626 .
2- الإسلام يتحدى : ص 124 و 125 ط بیروت .

القرآن يستقطب القلوب:

ويحكى أن الطفيل بن عمرو السدوسي قدم مكة ورسول الله بها وكان الطفيل رجلاً شريفاً شاعراً معروفاً فخافت قريش أن يتأثر بدعوة الرسول صلّی الله علیه وآله وسلّم ويرجع إلى قومه داعياً إليها فمشى إليه جماعة من قريش فحذروه من سحر بيان النبي الذي يفرق بين المرء وأهله - كما يزعمون - وأظهروا خوفهم عليه وقالوا له : إننا نرى من الخير لك ولقومك أن لا تكلم هذا الرجل ولا تسمع أحاديثه وكان لهذا التحذير ردود فعل في نفس الطفيل مما دفعه إلى الاستماع إلى النبي صلّی الله علیه وآله وسلم فقال في نفسه :

واكل أُمي والله إني لرجل لبيب شاعر لا يخفى عليّ الحسن من القبيح فما يمنعني أن أسمع من أن أسمع من هذا الرجل ما يقول فإن كان حسناً قبلته وإن كان قبيحاً تركته. فمكث حتى انصرف رسول الله إلى بيته فاتبعه حتى إذا دخل بيته دخل عليه فقال : يا محمد إن قومك قد قالوا لي كذا وكذا فوالله ما برحوا يخوفونني أمرك حتى سددت أذني بكرسف (1) لئلا أسمع قولك . ثم أبى الله إلاّ أن يسمعني قولك فتلا عليه النبي شيئاً من القرآن القرآن وهو صامت لا يتكلم وبمجرد أن انتهى النبي أعلن إسلامه ثم قال : ما سمعت قولاً قط أحسن منه ولا أمراً أعدل منه .

فرجع إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام فاستجاب له فريق (2) .

هذه القصص تبيّن لنا أن القرآن كتاب إلهي محض وأنه ليس من صنع البشر ولهذه الخاصية فإن الكفار قد عجزوا وأظهروا يأسهم من تحديه أو إبطال شيء منه فلذلك دُحروا وانهزموا أمام القرآن .

ص: 365


1- سيرة المصطفى : ص 191 و 192 - سيرة ابن هشام ج 1 ص 382 .
2- الكرسف : القطن .

القرآن المعجزة:

يحكى عن هشام بن الحكم قال : اجتمع ابن أبي العوجاء وأبو شاكر الديصاني الزنديق وعبد الملك البصري وابن المقفع عند بيت الله الحرام يستهزئون بالحاج ويطعنون بالقرآن فقال ابن أبي العوجاء : تعالوا ننقض كل واحد منّا ربع القرآن وميعادنا من قابل - أي السنة المقبلة - في هذا الموضع نجتمع فيه وقد نقضنا القرآن كله فإن في نقض القرآن إبطال للإسلام وفي عكسه إثبات لما نحن فيه . فلما كان من السنة المقبلة اجتمعوا عند بيت الله الحرام فقال ابن أبي العوجاء أما أنا فمفكّر منذ افترقنا في هذه الآية {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا }(1) فما أقدر أن أضم إليها في فصاحتها وجميع معانيها شيئاً فشغلتني هذه الآية عمّا سواها .

وقال عبد الملك : أنا منذ فارقتكم كنت أفكر في هذه الآية {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} (2) ولم أقدر على الإتيان بمثلها.

وقال أبو شاكر : وأنا مفكر في الآية {ولو كان فيهما آلهة إلاّ الله الفسدتا }(3) فلم أقدر على الإتيان بمثلها وقال ابن المقفع : يا قوم إن هذا القرآن ليس من جنس كلام البشر . أنا منذ فارقتكم مفكر في هذه الآية {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } (4) لم أبلغ غاية المعرفة بها ولم أقدر على الإتيان بمثلها . فبينا هم في ذلك مرّ بهم الإمام الصادق علي فقال علیهم السلام فقال:

ص: 366


1- سورة يوسف ؛ الآية : 80 .
2- سورة الحج ؛ الآية : 73 .
3- سورة الأنبياء ؛ الآية : 22 .
4- سورة هود ؛ الآية : 44 .

{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا }(1).

فنظر القوم بعضهم إلى بعض وقالوا : لئن كان للإسلام حقيقة لما انتهى أمر وصيّة محمد إلاّ إلى جعفر بن محمد والله ما رأيناه قط إلاّ هبناه واقشعرت جلودنا لهيبته ثم تفرقوا مقرين بالعجز (2) .

فنحن من خلال هذه الأمور والطرق آمنا بالرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلّم وأوصيائه الهداة علیه السلام وقد جاءت روايات كثيرة في مدح الإيمان الذي يكون في آخر الزمان أي عن طريق الاستدلال العقلي والتصديق بالتواتر الخبري .

فضل القرآن:

من خلال ما مرّ يتبيّن أن للقرآن دوراً عظيماً في حياة الإنسان المسلم فهو ملهم الإيمان عندما يتدبر الإنسان آياته ومدلولاتها الروحية وهو شفاء للقلوب التي أصابتها كدورة الذنوب فمرضت فكان القرآن شفاءاً لها ونوراً من الجهل وحياة بعد موت .

يقول أمير المؤمنين في فضل القرآن {نور لمن استضاء به وشاهد لمن خاصم به}(3).

ودليلاً على التوحيد ودالاً على الرسل وبرهاناً قوياً للربوبية ونبوة الرسول محمد صلّی الله علیه وآله وسلّم. فالقرآن كتاب هداية يزرع في قلوب الناس الإيمان بالله من خلال ترغيبه وترهيبه ومن خلال عرضه لصفات الحق سبحانه كالرحمة والرأفة والستر والتجاوز وقبول التوبة ومحو السيئات ورفع الحسنات. ومن خلال تحريضه على العمل الصالح والقول الحسن والأخلاق

ص: 367


1- سورة الإسراء ؛ الآية : 88 .
2- البحار : ج 17 باب إعجاز أم المعجزات القرآن ح19 ط بيروت .
3- تصنيف غرر الحكم : ص 110 ح 1967 .

الرفيعة وغيرها من المطالب التي تصب في محور الإيمان والهداية ولذلك يؤكد الأمير علیهم السلام هذا المورد بقوله :

«اتبعوا النور الذي لا يطفأ والوجه الذي لا يبلى» (1).

وجذب الإنسان من الواقع السيّىء إلى حب الله والعيش في ظل الإيمان ولذلك جاء التأكيد على قراءة القرآن والاستمرار في قراءته وعدم تركها والفضل في قراءته لأن الإنسان كلما استمر في قراءة القرآن كلما فتحت أمامه أبواب الهداية والعلم والقرب من الله ولقد جاءت الروايات مستفيضة في الدعوة إلى ذلك .

فعن أمير المؤمنين علیه السلام قال:

«لقاح الإيمان تلاوة القرآن»(2) .

ويقول : «من أنس بتلاوة القرآن لم توحشه مفارقة الإخوان»(3) .

وهناك روايات تحكي لنا الأثر الخارجي الملموس لآيات القرآن فقد جاء في الرواية الشريفة:

«من قدّم {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }بينه وبين جبار منعه الله عزّ وجلّ منه يقرأها من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله فإذا فعل ذلك رزقه الله عزّ وجلّ خيره ومنعه من شره» (4) .

وغير ذلك من فضائل القرآن المادية والروحية فضلاً عن دوره في الآخرة ويوم الحساب .

فقد جاء عن أمير المؤمنين علیهم السلام في أن القرآن شفيع يوم القيامة، بقول في وصف القرآن :

شافع مشفع وقائل مصدق (5).

ص: 368


1- تصنيف غرر الحكم : ص 111ح1972.
2- تصنيف غرر الحكم: ص 112 ح 1992.
3- تصنيف غرر الحكم: ص 112 ح 1993 .
4- الكافي : ج 2 باب فضل القرآن ص 621 ح 8 .
5- تصنيف غرر الحكم : 111 ح 1982 .

19- الدُّعَاءُ صٍلَة بَينَ العَبد وَرَبٍّهٍ

اشارة

ص: 369

ص: 370

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) لعلي (علیه السلام):

«يا علي : لا يقبل الله دعاء قلب ساءٍ » (1)

كلمة موجزة :

للإنسان ظاهر وباطن أو قلب وقالب . والظاهر ما يظهر للآخرين بالحس من أعضاء البدن والباطن ما بطن أو خفي عن الآخرين كالعقل والقلب فإنهما لا يعرفان إلاّ بآثارهما إذ إن القلب يعطي الإيعازات والأوامر إلى أعضاء البدن فتقوم بأعمالها ومن آثار هذا العمل يستدل على وجوده وكما أن الأعمال الصالحة أو الطالحة مرهونة بنية القلب لأنه متبعها والقلب يعتبر الرئيس على البدن الذي لصلاحه أثر شامل على أعمال الإنسان ولفساده ضرر کامل . . .فإذا صلح صلح الجسد وإذا فسد فسد الجسد حيث قال رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم : «في الإنسان مضغة إذا هي سلمت وصحت سلم بها سائر الجسد، وإذا سقمت سقم لها سائر الجسد وفسد وهي القلب »(2) .

فالإقبال على الشيء يكون بالقلب لأنّه هو المصدر الرئيسي للحركات وبه تتعلق النيّات خيرها وشرّها . .

ص: 371


1- مدينة البلاغة : ج 1 ص 418 .
2- روضة الواعظين : ج 2 ص 413 مجلس في ذكر معرفة القلب .

القلب لا القالب:

كما أنَّ للدين مظهراً وجوهراً، فمظهر الدين هو الصَّلاة والصيام والحج وغيرها من العبادات وجوهر الدين هو اتصال الإنسان بالله تعالى فكما أنّ الأمير على البدن هو القلب فإن الأساس في الدين هو القربة إلى الله تعالى والإتصال به «فالصَّلاة معراج المؤمن» و «قربان كل تقي» (1)فظاهر الصَّلاة هو القراءة والركوع والسجود ولكنها تعرج بالإنسان إلى الله تعالى فهل العروج لهذه الحركات أم لجوهرها وهي النية والقربة الله تعالى ؟ مما لا شك فيه أنّ النية والقربة الله تعالى هي التي تتحكم بكمال الصَّلاة وتماميتها وظهور آثارها أو بفسادها وعدم ظهور آثارها كما أنّ الصيام الإمتناع عن الأكل والشرب من طلوع الفجر إلى المغرب ولكنَّ جوهر الصيام هو التقوى وهو المطلوب منه إذ بدونه لا غاية تحصل منه . . .إذن من أهداف العبادات هو حالة الإتصال الغيبي بالله سبحانه وتعالى وهو من الأمور الباطنية فهو مرتبط في القلب الباطن وإذا اقترنا فقد تحقق الكمال المطلوب من العبادة وإذا لم يقترنا لم يتحقق الكمال المطلوب من العبادة لأن العمدة عند الله تعالى هو القلب لا القالب والباطن لا الظاهر . وقد جاء في الحديث الشريف : «إنّ الله تبارك وتعالى لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم »(2) فالله تعالى لا ينظر إلى الصور لأنها آلات متحركة بإيعازات من القلب وإنما ينظر إلى مصدر الإيعازات وهو القلب ولا ينظر إلى الأموال لأنها من فضله وبركاته وإنما ينظر إلى ما يعمله الإنسان بالنعم التي أنعمها عليه ومن هنا فإنَّ الله تعالى ينظر إلى حقائق الأشياء وجوهرها وإلى الآثار وهي أعمال الإنسان لا ما يملكه أو صورته . . قال تعالى : { إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ

ص: 372


1- البحار : ج 10ص99 باب 7حدیث 1.
2- البحار : ج 74 ص 88 باب 4 حديث 1 ط بیروت .

مسؤولاً} (1) وقال تعالى : {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ }(2) أي ما نقوي به قلبك ونطيّب به نفسك ونزيدك به ثباتاً وقال تعالى : {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ } (3) أي تشرف على القلوب فيبلغها ألمها . . فالأساس إذن هو القلب ثواباً وعقاباً طبعاً هذا لا يعني أن الظاهر لا أثر ولا فضل له كلا . . بل إن ظاهر الإنسان وخارجه أيضاً مطلوب وينبغي للإنسان أن يهتم به وله فيه الثواب والعقاب ولكن ينبغي أن يكون اهتمامه بالباطن أكثر وذلك لأنه إذا صلح الباطن صلح الظاهر وليس العكس . قال تعالى : {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ }(4) جاء في بعض التفاسير : «وإنما خصّ القلب بالسلامة لأنه إذا سلم القلب سلم سائر الجوارح من الفساد حيث إن الفساد بالجارحة لا يكون إلاّ عن قصد بالقلب الفاسد وروي عن الصادق علیه السلام أنه قال هو القلب الذي سلم من حب الدنيا ويؤيده قول النبي صلّی الله علیه وآله وسلّم حب الدنيا رأس كل خطيئة» (5) .

مقياس القبول:

قد يكون عملان متشابهان في الظواهر لكنّ الذي يُميّزهما ويحدد صلاحيتهما هو القلب أو النيّة فقد تصدّق الإمام أمير المؤمنين علیه السلام بخاتمه الشريف وهو راكع في المسجد فنزلت فيه الآية المباركة : {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (6) عن ابن عباس قال : أقبل عبد الله بن سلام ومعه نفر من قومه ممن قد آمنوا بالنبي صلّی الله علیه وسلم فقالوا يا رسول الله إن منازلنا بعيدة وليس لنا مجلس ولا متحدّث

ص: 373


1- سورة الإسراء ؛ الآية : 36 .
2- سورة هود ؛ الآية : 120 .
3- سورة الهمزة ؛ الآيتان : 6 - 7 .
4- سورة الشعراء ؛ الآيتان : 88 - 89 .
5- مجمع البيان : المجلد الرابع ص 194 الشعراء .
6- سورة المائدة ؛ الآية : 55 .

دون هذا المجلس وإنّ قومنا لما رأونا آمنا بالله ورسوله وصدقناه رفضونا وآلوا على نفوسهم أن لا يجالسونا ولا يناكحونا ولا يكلٍّمونا فشق ذلك علينا، فقال لهم النبي صلّی الله علیه وآله وسلّم {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} الآية، ثم إن النبي خرج إلى المسجد والناس بين قائم وراكع فبصر بسائل فقال النبي هل أعطاك أحد شيئاً نعم خاتم من فضة فقال النبي صلّی الله علیه وسلم من أعطاك؟ قال ذلك القائم وأومى بيده إلى علي فقال النبي صلّی الله علیه وآله وسلّم على أي حال أعطاك؟ قال أعطاني وهو راكع فكبّر النبي ثم قرأ {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } فأنشأ حسّان بن ثابت يقول في ذلك :

أبا حسن تفديك نفسي ومهجتي*** وكلّ بطيء في الهدى ومسارع

أيذهب مدحيك المحبّر ضائعاً ***وما المدح في جنب الإله بضائع

فأنت الذي أعطيت إذ كنت راكعا***ً زكاة فدتك النفس يا خير راكع

فأنزل فيك الله خير ولاية*** وثبتها مثنى كِتاب الشرائع (1)

وهناك من كان يصلي في الظاهر ولكن نزلت فيه الآية المباركة {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى} (2) وفي سبب نزول الآية المباركة ورد : «إن رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلّم دعا إلى بيعة علي علیهم السلام يوم غدير خُم فلما بلغ الناس وأخبرهم في علي ما أراد الله أن يخبرهم به رجع الناس فاتكى معاوية على المغيرة بن شعبة وأبي موسى الأشعري ثمّ أقبل يتمطى نحو أهله ويقول : والله لا نفي لعلي بالولايةِ أبداً ولا نصدّق محمداً صلّی الله علیه وآله وسلّم مقالته فيه} (3)وهنا يظهر أثر القلب . . إذ نصب أمير المؤمنين علیهم السلام ولياً على الناس وأعلن هذا التنصيب في القرآن بالآية الشريفة {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ

ص: 374


1- مجمع البيان : المجلد الثاني ص 211.
2- سورة القيامة ؛ الآيات : 31 - 33 .
3- البرهان في تفسير القرآن : المجلد الرابع ص 409 .

وَهُمْ رَاكِعُونَ } (1)بينما ذمَّ الآخر وذكر أوصافه بأنه{فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى } والله تعالى أعلم بما في القلوب والنيّات فوضع كل واحد منهما موضعه. ابنا آدم :

وكما ورد في قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } (2) ولهذه الآية الشريفة قصة تنقلها كتب التاريخ والسير عن أهل البيت علیهم السلام ومضمونها أن الله تعالى أمر آدم عليهم السلام أن يضع مواريث النبوة والعلم عند هابيل ويعلمه بذلك، ويعلّمه ما أمر الله تعالى به وما نهى عنه، فلما فعل ذلك وعلم قابيل بما جرى اعترض على أبيه فقال له : ألست أنا الأكبر من هابيل وأنا الأحق بهذا الأمر والأحرى أن تقدمني على أخي هابيل؟ فقال له : يا بنيّ إن الأمر لم يكن بيدي وإنه بيد الله وإن الله تعالى هو الذي خصّه بما فعلت ولم أفعله عن أمري بل ذلك بأمر ربي فإن لم تصدقني فقر با قرباناً فأيكما تقبَّل الله تعالى قربانه فهو أولى بالفضل وإعطاء مواريث النبوة .

وكان علامة قبول القربان في ذلك العهد هو أن تنزل عليه النار من السماء فتحرقه وإذا لم يُتقبل من قبل الله تعالى فلا تنزل عليه نار ولا يحترق . وكان قابيل صاحب زرع فقرب قمحاً ردياً، وكان هابيل صاحب غنم فقرب كبشاً سميناً فنزلت النار من السماء وأكلت قربان هابيل وأحرقته ولم تنزل على قربان قابيل ولم تقربه فغضب قابيل غضباً شديداً وأتاه إبليس اللعين ووسوس له وقال له : لو آتاكما ذرية وأولاداً وكثر نسلكما فلا بد أن يفتخر أولاد هابيل على أولادك بقبول قربان أبيهم هابيل وعدم قبول قربانك أنت، وبأن الله تعالى قد خص هابيل بمواريث النبوة دونك، وهذا أمر يسبب الألم والذل لأولادك،

ص: 375


1- سورة المائدة ؛ الآية : 55 .
2- سورة المائدة ؛ الآية : 27 .

ولئن قتلته قطعت نسله وأرحت أولادك من هذه المصائب وتحمُّل هذه الشدائد ولم يجد أبوك من يخصه بالمواريث سواك فتفوز بفضلها. فسوَّلت له نفسه قتل أخيه فقتله (1) .

روي عن أبي جعفر الباقر علیهم السلام وغيره من المفسرين وكان سبب قبول قربان أحدهما دون الآخر أن قابيل لم يكن زاكي القلب وقرب بشرّ ماله وأخسه وقرب هابيل بخير ماله وأشرفه وأضمر الرضا بحكم الله تعالى(2) .

فالعمدة إذن في الإقبال إلى الله تعالى هو النية وما عقده القلب .

التقرّب إلى الله تعالى:

الدعاء من أبرز الأعمال التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بباطن الإنسان ويظهر فيها أثر القلب وسلامته قال تعالى : {«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ }(3)وفيما وعظ الله تعالى به عيسى علیه السلام «يا عيسى أذل لي قلبك وأكثر ذكري في الخلوات واعلم أن سروري أن تبصبص إليّ وكن في ذلك حياً ولا تكن ميتا» (4)وحياً بمعنى حاضر القلب والميت الساهي والغافل قلباً. فبالدعاء يقبل الإنسان على الله تعالى في طلب الحاجة لأن الله تعالى هو الغني وكل ما سواه محتاج فالمحتاج لا يذهب إلى المحتاج وإنما يذهب إلى الغني لأنّه وحده يستطيع إنفاذ حاجته ومن أراد قضاء حاجته لا بد له من حضور القلب والتوجه بنية صالحة لأن الله تعالى ينظر إلى جوهر الإنسان، ولو أردنا أن نوضح الأمر أكثر فإن صاحب الحاجة إذا ذهب إلى شخص غني يملك أموالاً أو جاهاً أو سلطة وما شابه تراه يهيّىء لهذا اللقاء أموراً عديدة تفرض إتمام

ص: 376


1- الأنبياء حياتهم وقصصهم : ص 49.
2- مجمع البيان المجلد الثاني ص 183 المائدة .
3- سورة الأنفال ؛ الآية : 2 .
4- عدة الداعي : ص 30 الطبعة الأولى .

طلبه منها تهيئة كلمات خلّابة ويتأدب بآداب لطيفة وأحياناً يتخضع وما شابه من الوسائل التي توصله إلى مراده. فإذا كان الإنسان المحتاج يذهب إلى آخر محتاج مثله ويهیىء له تلك المقدمات فحري به لو طلبها من الخالق تعالى وهو المنبع الأصلي للنعم أن يتأدب بآداب حسنة، ويتواضع ويتخضَّع الله تعالى برفع يديه إلى الأعلى أو يطلبها وهو ساجد يبكي ولا يغفل قلبه عند الإقبال على الله تعالى لأنّه مطّلع على ما في صدره وكلّ ذلك وسيلة للتقرب إلى الله تعالى . إذن ليس المراد من الدعاء مجرّد طلب الحاجات من الله تعالى باللسان فحسب بل المراد به حقیقته من حضور القلب وصفاء النيّة والتأدب بآداب اللقاء كما في العبادات ولذا ورد أن (الدعاء مخ العبادة)(1) بل إن (الدعاء هو العبادة) (2) كما جاء في قوله تعالى : {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (3) وقد جاء في التفسير عن معنى الآية الكريمة :

«. . . وقيل معناه وحدوني واعبدوني أثيبكم عن ابن عباس ويدل عليه قول النبي صلّی الله علیه وآله وسلّم الدعاء هو العبادة ولما عبّر عن العبادة بالدعاء جعل الإثابة استجابة ليتجانس اللفظ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} ودعائي {سيدخلون جهنَّم داخرين} أي صاغرين ذليلين وفي الآية دلالة على عظم قدر الدعاء عند الله تعالى وعلى فضل الإنقطاع إليه. وقد روى معاوية بن عمّار قال قلت لأبي عبد الله علیه السلام جعلني الله فداك ما تقول في رجلين دخلا المسجد جميعاً كان أحدهما أكثر صلاة والآخر دعاء فأيهما أفضل .قال كل حسن قلت قد علمت ولكن أيهما أفضل قال أكثرهما دعاء أما تسمع قول الله تعالى {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} إلى آخر الآية وقال هي العبادة الكبرى . وروى زرارة عن أبي جعفرعلیهم السلام في هذه الآية قال هو الدعاء وأفضل العبادة

ص: 377


1- البحار : ج 90 ص 302 باب 16 ح 39 .
2- مجمع البيان : المجلد الرابع ص 529.
3- سورة غافر ؛ الآية : 60 .

الدعاء . . » (1) فإذا كان الدعاء هو العبادة والعبادة يتطلّب منها قصد الطاعة والتقرّب إلى الله تعالى ونيل الأجر منه وكل ذلك عقد في القلب فيتطلب من الإنسان الذي يدعو حضور القلب وأن لا يكون ساهياً أو غافلاً لأنّه حاضر بين يدي الخالق تعالى .

الدعاء من أفضل العبادات:

والدعاء هو مخ العبادة لأنه أصلها وخالصها لما فيه من مناجاة الله تعالى والتقرب إليه ولما فيه من قطع الأمل عن غير الله تعالى وهذا روح العبادة كما أن الغرض من العبادة هو الثواب عليها والمطلوب من الدعاء أيضاً الثواب .وهنا من المناسب أن أشير إلى نقطتين في معنى كون

الدعاء أفضل من العبادة:

1 - إن الدعاء صار أفضل من العبادة لأنه عبادة في نفسه تعبّد الله عباده به لما فيه من إظهار الخشوع والإفتقار إليه وهو أمر مطلوب الله عزّ وجلّ قال تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(2)كما أنّ العبادة تذلل وخشوع الله تعالى .

2 - المقصود من كون الدعاء أفضل من العبادة أي أفضل من العبادة المستحبّة كالنوافل لا العبادة الواجبة المفروضة من قبل الله تعالى وذلك لأن المستحب لا يفضل على الواجب تكليفاً كالصلاة المفروضة والصوم والحج ونحوها

المعرفة أساس الدعاء:

إذن الإقبال على الله تعالى بالدعاء يتطلب من الإنسان أموراً تساعد على

ص: 378


1- مجمع البيان: المجلد الرابع ص 529 غافر .
2- سورة الذاريات ؛ الآية : 56 .

إجابة الدعاء حسب الإرادة والتقدير الإلهي :

أولاً : معرفة الله تعالى بوصفه رباً خالقاً لجميع الموجودات متصرفاً في جميع الكائنات متصفاً بصفات الكمال فلو لم تحصل هذه المعرفة لا يمكن أن يوجه إليه الدعاء لأنّ الدعاء لا يوجه إلى مجهول ومن أراد معرفة الله تعالى فليعرف نفسه وفي الحديث الشريف : «من عرف نفسه عرف ربّه» (1)وفي معنى ذلك ورد في الخبر أن أصحاب الإمام علیه السلام سألوه : أليس الله يقول : يا عبادي ادعوني أستجب لكم قال : صدق الله العظيم بلى هو قائلٌ ذلك. قالوا فما بالنا ندعوه ليل نهار فلا يستجيب لنا؟ قال لأنكم تدعون من لا تعرفون! قالوا وكيف نعرفه ؟ قال : إعرفوا نفوسكم تعرفوه ثمّ ادعوه يستجب لكم. قالوا: وكيف نعرف نفوسنا . قال : فكروا في أعينكم كيف تبصر؟ وفي آذانكم كيف تسمع ؟ ثمّ في قلوبكم كيف تفكر؟ فإذا عرفتم ذلك شعرتم بعظمة الله في نفوسكم فدعوتموه فاستجاب لكم» (2).

فهم الداعي:

ثانياً : أن يفهم الإنسان ما يقول في دعائه ولا يردده بدون فهم وهذا الأمر يتطلب ترك العجلة فيه والإسرار به وتسمية الحاجة فقد ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق علیه السلام قال : «إن الله تبارك وتعالى يعلم ما يريد العبد إذا دعاه، ولكن يحبّ أن يبث إليه الحوائج فإذا دعوت فسمٍّ حاجتك وما من شيء أحب إلى الله من أن يسأل»(3)وأن يفهم الإنسان الوسائط التي تساعده على قبول الدعاء ومنها تعميم الدعاء بذكر حاجات أهله وإخوانه قبل حاجته والخشوع والبكاء أو التباكي والاعتراف بالذنب ورفع اليدين به والدعاء بما كان متضمناً للاسم الأعظم والمدحة الله تعالى والثناء عليه تعالى

ص: 379


1- تصنيف غرر الحكم : ص 232 ط الأولى.
2- شرح رسالة الحقوق : ج 1 ص 89 ط 2 قُم.
3- البحار : ج 90 ص 312 باب 17 حدیث 17 .

وأيسر ذلك قراءة سورة التوحيد وتلاوة الأسماء الحسنى وأن يختم دعاءه بالصلاة على محمد وآل محمد وقول ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله وأن يمسح بیده وجهه وصدره . . وقد ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق علیه السلام قال : «إياكم أن يسأل أحدٌ منكم ربّه شيئاً من حوائج الدنيا والآخرة حتى يبدأ بالثناء على الله تعالى والمدحة له ، والصَّلاة على النبي وآله، ثم الاعتراف بالذنب ثم المسألة»(1) .

وقال الإمام الرضا علیه السلام :

«دعوة العبد سراً دعوة واحده تعدل سبعين دعوة علانية »(2).

قادرُ على كل شيء :

ثالثاً : أن يعرف الإنسان الذي يدعو ربه أن الله قادر على كل شيء وأن كل الأمور بيده وهو النافع والضار الذي يملك العطاء والنجدة فلا يصح توجيه الدعاء إلى غيره تعالى ولا يستحق العبادة أحد سواه لأنه وحده القادر على إجابة طلب العبد .

{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ } (3). وقال الإمام الصادق علیه السلام:

«إذا أراد أحدكم أن لا يسأل ربّه شيئاً إلاّ أعطاه فلييأس من الناس كلهم ، ولا يكون له رجاء إلاّ من عند الله ، فإذا علم الله ذلك من قلبه لم يسأله شيئاً إلاّ أعطاه» (4)وهذا الأمر يلزم العبد الداعي أن يظهر التذلل والتزام الطاعة لما افترضه الله تعالى والعمل على ما يقربه من المولى تعالى بالبرّ

ص: 380


1- المصدر السابق : ص 312 .
2- المصدر السابق : ص 323 .
3- سورة محمدصلّی الله علیه وآله سلّم ؛ الآية : 19 .
4- البحار : ج 90 ص 314 باب 17 حدیث 19 .

والإحسان وكل ما يفيد المجتمع إذ إن الشعور بالضعف والحاجة والفقر إلى الله سبحانه وتعالى ينمّي حالة الدعاء في المجتمع ويزيل حالة التكبّر والتعالي على الآخرين فالكل محتاج إلى الخالق تعالى وضعيف مهما بلغ به الأمر من امتلاك مال وأولاد أو سلطة أو جاه وهذا الشعور لو تنامى في مجتمعاتنا لبلغت به التقدم وتنامت معه حالة المواساة وقضاء حوائج المحتاجين تقرباً إلى الله تعالى وما شابه من بناء المؤسسات الخيرية والمستشفيات ودور العجزة فإنها من الأعمال التي تقرّب الإنسان إلى خالقه وتزيده نعمة وتزيل حالات الضعف والفقر في المجتمع . .

الإنقطاع إلى الله:

رابعاً : أن تحدث لدى الإنسان الداعي حالة «الإنقطاع» إلى الله تعالى بأن يرى نفسه مضطراً كحالة الغريق أو المشرف على الموت وفيما وعظ الله تعالی به عیسی علیه السلام :

«يا عيسى ادعني دعاء الحزين الغريق الذي ليس له مغيث، يا عيسى سلني ولا تسأل غيري فيحسن منك الدعاء، ومنّي الإجابة، ولا تدعني الاّ متضرعاً إليّ وهمّك هماً واحداً فإنك متى تدعني كذلك أجبتك»(1) .

الأمل والرجاء في الدعاء:

خامساً : ينبغي أن ندعو الله تعالى وكلنا أمل بأنه يجيب دعوتنا وذلك يحتاج إلى سعة صدر ورفع الهمم فالدعاء يجعل الإنسان لا یحصر نفسه

ضمن حدود ضيّقة وأطر محددة فجوهر الإنسان وحقيقته واسعة بل انطوى فيها العالم الأكبر كما نسب إلى مولانا أمير المؤمنين علیه السلام :

أتزعم أنك جرم صغير*** وفيك انطوى العالم الأكبر

ص: 381


1- عدّة الداعي : ص 97 .

لذا فإن حقيقة الإنسان واسعة تنطوي على عالم كبير والدعاء يسلّط الضوء على هذه الحقيقة أمام الإنسان فهو بقدر تطلّعه ورجائه من الله تعالى يحسُّ ويعرف مدى كبره وهذه العلاقة تشبه علاقة المطر بالأرض، فالمطر الذي ينزل من السماء هو للناس جميعاً ولكن كل إنسان يستفيد من هذا المطر بقدر أرضه، فالذي يملك هكتاراً والذي يملك عشرة هكتارات من الأرض يستفيد بقدرها وهكذا بالنسبة لمن يملك مائة هكتار أو أكثر . . .ورحمة الله تعالى واسعة ولكن الإنسان يستفيد منها بقدر سعة نفسه وسعة صدره - إن صح التعبير - كالمطر والأرض ولا مباحثة في الأمثال. فإذا كانت نفسك واسعة وتطلعك كبيراً فإنّ رحمة الله تعالى واسعة قال تعالى : { فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}(1) وقال تعالى : { فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ}(2)مع ملاحظة توفر الشرائط للدعاء والإستجابة إذن على الداعي أن يدعو بهمّة ويرى حاجته مقضية من قبل الله تعالى .

قال رسول الله صلّی الله علیه وآله : «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة»(3) وعن أبي عبد الله الصَّادق قال : «إذا دعوت فظنَّ حاجتك بالباب »(4)

وفي رواية أخرى : «فأقبل بقلبك فظنّ حاجتك بالباب»(5) فإذا توفرت هذه الشرائط وأمثالها كان الدعاء أقرب إلى الإجابة لأنّك وفّرت في نفسك آداب اللقاء بالله تعالى وأخلصت النيّة ولم يكن قلبك غافلاً لقائه ففي المقابل الله تعالى يعطيك بقدر حضورك القلبي واستعدادك للقائه

عماد الدولة البويهي :

ينقل أنّ عماد الدولة - وكان في القرن الرابع الهجري - دخل إلى مدينة

ص: 382


1- سورة البقرة ؛ الآية : 64 .
2- سورة الأنعام ؛ الآية : 147.
3- البحار : ج 90 ص 305 باب 17 حدیث 1 .
4- البحار : ج 90 ص 305 باب 17 حدیث 1 .
5- البحار : ج 90 ص 305 باب 17 حدیث 1 .

شيراز مع (12) ألف جندي وهو لا يملك شيئاً من المال والحاكم الذي لا يملك المال يكون على شك الإضمحلال والسقوط. كان الوقت شتاءاً والجنود لا يملكون شيئاً من الملابس وقد تأخر إعطاؤهم المعاش فاجتمع إليه الجنود يطالبونه بالمعاش وملابس للشتاء مضافاً إلى ذلك أن الأعداء كانوا له بالمرصاد خارج مدينة شيراز فضاق على عماد الدولة البويهي الأمر فتحيّر في أمره فإذا لم يهیّىء الملابس الشتوية لجيشه سوف يخسر قوته وينهزم من موقعه ففكر أن يتوجه إلى الله تعالى فوقف في صلاة الليل بخشوع وبعد الصَّلاة بكى بكاءاً كثيراً وانقطع إلى الله سبحانه وتعالى ثم طلب من تعالى حاجته، وبينما هو في تلك الحالة نظر إلى السقف وإذا بثعبان خرج من ثقب الحائط ودخل في ثقب آخر. فقال لحراسه أخرجوا الثعبان من السقف فلما أرادوا ذلك وجدوا في الثقب كنزاً كبيراً من الذهب والفضة. .

فقال عماد الدولة : أرسلوا وراء رئيس الخياطين ليخيط ملابس للجيش بهذه الأموال التي عثروا عليها، وكان من حسن الصدف أن ذلك الحاكم السابق الذي فرّ من يد عماد الدولة قد أمّن عند الخياط (12) صندوقاً من المال. فظن الخياط أنّ عماد الدولة قد عرف بأمر الأموال والصناديق فخاف كثيراً، ولمّا أحضروه أمام عماد الدولة أمره وجميع الخياطين في شيراز وخلال اسبوع أن يخيطوا (12) ألف بدلة شتائية للجند، فظنّ رئيس الخياطين أن عماد الدولة يقول له عندك كذا وكذا من الصناديق التي تركها الحاكم الفار . فقال رئيس الخياطين : والله لم يكن عندي إلاّ (12) صندوقاً من مال الحاكم الفار وهو يرتعد خوفاً . .

فطلبها عماد الدولة وهذا هو المورد الثاني لتحصيل المال . . .

وكان هذا من بركات صلاة الليل والإنقطاع إلى الله تعالى بالدعاء مع حضور القلب والخشوع والبكاء . . لذا فإنّ الإخلاص الصادق والقلب الطاهر يساعد على استجابة الدعاء وفي الحديث الشريف عن الإمام الصَّادق علیهم السلام قال : «صاحب النية الصادقة صاحب القلب السليم لأنّ سلامة

ص: 383

القلب من هواجس المحذورات بتخليص النيّة الله في الأمور كلها » (1).

وأما القلوب الغافلة أو اللاهية فلا ينظر الله تعالى إليها وبالتالي لا يستجاب دعاؤها لأنّ الله تعالى ينظر إلى القلوب فمن حضر قلبه وأقبل على الله تعالى بنيات خالصة يستجاب دعاؤه. قال الإمام أمير المؤمنين علیه السلام :

«إن الله تبارك وتعالى أوصى إلى عيسى بن مريم عليه السلام قل للملأ من بني إسرائيل : لا تدخلوا بيتاً من بيوتي إلاّ بقلوب طاهرة، وأبصار خاشعة وأكفّ نقية، وقل لهم إني غير مستجيب لأحدٍ منكم دعوة ولأحد من خلقي قبلهُ مظلمة» (2).

آثار الدعاء:

إن الدعاء الذي يستجمع الشرائط المتقدمة له آثار وضعية ومعنوية كبيرة على العبد مضافاً إلى قضاء حوائجه منها :

1 - إنه تنزل الرحمة الإلهية الواسعة على العبد .

2 - يدفع البلاء وهو دواء لكل داء .

3 - يستنزل الرزق ويدفع الفقر .

4 - يرد القضاء المبرم ويطيل العمر .

5 - وهو سلاح ينجي من الأعداء

وقد جاءت في ذلك أحاديث عديدة منها : قال الإمام أمير المؤمنين علیه السلام «الدعاء يرد القضاء المبرم فاتخذوه عدّة» (3).

وقال رسول الله صلّی الله علیه وآله «ألا أدلكم على سلاح ينجيكم من عدوّكم أو

ص: 384


1- البحار : ج 67 ص 210 باب 53 حدیث 32 .
2- البحار : ج 90 ص 319 باب 17 حدیث 27
3- المصدر السابق : ص 289 باب 16 حديث 5 .

يدرُ رزقكم؟ قالوا نعم قال : تدعون بالليل والنهار، فإنّ سلاح المؤمن الدعاء» (1).

وقال الإمام الصادق علیه السلام: «من لم يسأل الله من فضله افتقر ».(2)

وقال رسول الله صلّی الله علیه وآله : «إنّ الحذر لا ينجي من القدر، ولكن ينجي من القدر الدعاء، فتقدموا في الدعاء قبل أن ينزل بكم البلاء إنّ الله يدفع بالدعاء ما نزل من البلاء وما لم ينزل »(3)وقال أمير المؤمنين علیه السلام:

«الدعاء مفتاح الرحمة ومصباح الظلمة» (4) .

ص: 385


1- البحار : ج 90 ص 291 باب 16 حديث 14 .
2- المصدر نفسه : 294 حدیث 23 .
3- البحار : ج 90 ص 300 باب 16 حديث 37 .
4- البحار : ج 90 ص 300 باب 16 حديث 37 .

ص: 386

20- عُيُونُ يُحٍبُها الله سُبحانَهُ

اشارة

ص: 387

ص: 388

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) لعلي (علیه السلام) :

«يا علي: كل عين باكية يوم القيامة إلاّ ثلاثة أعين :عين سهرت في سبيل الله وعين غضّت عن محارم الله، وعين فاضت من خشية الله» (1)

الآخرة رهن العمل:

يوم القيامة يوم إزاحة الحجب عن أعين الناس ليروا نتائج أعمالهم التي عملوها في الدنيا والنتيجة تكون إما النجاح أو الفشل، لأن الحياة الدنيا كقاعة الدرس يدخلها الطالب ليحصّل العلوم منها ومن ثمّ يعرض للإختبار والإمتحان فيسأل عمّا حصّله من العلوم وبعد ذلك ينتظر الطالب بشوق ولهفة نتيجة سعيه في التحصيل، ويوم ظهور النتائج يتميز الناجح عن الفاشل، فالناجح يبدو عليه السرور والفرح لأنه بذل وسعه وسهر ليله واستغنى عن الأمور الجانبية التي قد تلهيه عن هدفه . .وقد يحترق قلبه في الفحص والبحث وعندما يحصل على النتيجة الجيدة تتفتح أساريره ويفرح لعدم ذهاب جهده هباءاً بالإضافة إلى ما حصّله من العلم من لذات وفوائد معنوية. . أما الفاشل فإنّه لم يتعب نفسه وشغلته التوافه عن التحصيل ويوم ظهور

ص: 389


1- تحف العقول : ص 15 .

النتائج تراه مغموماً مهموماً وقد يبكي لافتضاحه أمام الناس أو يشعر بالخيبة أمام نفسه التي تلومه على ما فرّط في أيام دراسته واهتمامه بالتوافه من الأمور لذا فهو أمام طريقين إمّا أن يحصّل ما فاته ويبذل جهده لبلوغ هدفه أو ينسحب من المجال العلمي إلى مجال آخر غير علمي. .

وإذا كان هذا مستطاعاً في الدنيا، فإنّ هذا التدارك متعذّر في الآخرة . .

سائق وشهيد:

إن الدنيا قاعة امتحان كبيرة ولكنّ الفاشل عند ظهور النتائج لم ينقطع عن العمل لأن الدنيا دار عمل . . أما يوم القيامة فلا يمكنه تدارك الأمر هناك لأن الآخرة دار الحساب والجزاء لا العمل، إذ ما تبذره في الدنيا تحصّله وتجنيه في الآخرة، وعندما يرى الإنسان الفاشل ضآلة ما قدمه لحياته الحقيقية وهي الآخرة ة عندها يقول { يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}(1) وهذا التمني لا يفيد وقتها فقد جاءته الرسل والأنبياء لتنذره من هذا اليوم العصيب وتحثّه على العمل والزرع ولكنّه لم يستفد منها وتركها وراء ظهره، وعندما يجيء یوم القيامة ويجد أمامه ما وعده الرسل والأنبياء حقّاً وهو لم يقدّم شيئاً لهذا اليوم يندم ويبكي على نفسه بعدما كانت مغمورة بالفرح والسرور في الدنيا لغفلتها ولهوها وقسوة قلبه من جرّاء تراكم الذنوب على القلب، وفي الآية الكريمة قال تعالى :

{وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} (2) .

ومعنى الآية كما في مجمع البيان :

ص: 390


1- سورة الفجر ؛ الآية : 24 .
2- سورة ق ؛ الآيتان : 21 - 22 .

«أي وتجيء كل نفس من المكلفين في يوم الوعيد ومعها سائق من الملائكة يسوقها أي يحثّها على السير إلى الحساب وشهيد من الملائكة يشهد عليها بما يعلم من حالها وشاهده منها وكتبه عليها فلا يجد إلى الهرب ولا إلى الجحود سبيلاً، وقيل السائق من الملائكة والشهيد الجوارح تشهد عليها عن الضحاك {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ }أي يُقال له لقد كنت في سهو ونسيان { مِنْ هَذَا }اليوم في الدنيا والغفلة ذهاب المعنى عن النفس {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} الذي كان في الدنيا يغشى قلبك وسمعك وبصرك حتى ظهر لك الأمر وإنما تظهر الأمور في الآخرة بما يخلق الله تعالى من العلوم الضرورية فيهم فيصير بمنزلة كشف الغطاء لما يرى وإنما يُراد به جميع المكلفين برّهم وفاجرهم لأنّ معارف الجميع ضرورية {فبصرك اليوم حديد} أي فعينك اليوم حادّة النظر لا يدخل عليها شك ولا شبهة وقيل معناه فعلمك بما كنت فيه من أحوال الدنيا نافذ ولا يراد به بعد العين كما يُقال فلان بصير بالنحو والفقه . . » (1).

الوجوه في القيامة:

وهناك من زرع وبذر الخير وعمل صالحاً وأدّى ما عليه من تكاليف وبذل جهده ووسعه من أجل الوصول إلى الكمال والقرب من الله تعالى وقد يسهر الليالي ويترك ملذات الدنيا، ويحترق قلبه خشوعاً وذلّة الله تعالى ويوم ظهور النتائج تراه فرحاً ومسروراً بنتيجته وأنه حصد ما بذر وجنى ما بذل من أجله جلّ وقته، وفي الآية الكريمة :

{فإذا جاءت الصافّة * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ *وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لكل امرىء منهم شأن يغنيه *وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ *ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ } (2).

ص: 391


1- مجمع البيان : المجلد الخامس ص 219.
2- سورة عبس ؛ الآيات : 33 - 39 .

وفرحها هذا بما أعدّ لها من جنّات وثواب جزاءاً لعملها الصالح.

ومقابل هذا السرور للناجح كان هناك الفاشل الذي لم يقدم شيئاً لآخرته ويصفهم الله تعالى :

{ووجوه عليها غبرة * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ *أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)} (1) .

أي عليها سواد وكآبة وعيونهم باكية مما اقترفوه .

عيون فرحة :

هنالك عيون لا تبكي في ذلك اليوم بل فرحة مسرورة وضاحكة مستبشرة منها ما ذكره الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلّم في حديثه الشريف «عین سهرت في سبی الله وعین غضّت عن محارم اللهوعین فاضت من خشیة الله»(2)

لنتعرف على بعض مضامين هذا الحديث الشريف بحسب ما يسمح به المجال . .

عين سهرت في سبيل الله

أولاً - عين سهرت في سبيل اللَه :

هناك أوقات يسهر الإنسان فيها ويظل يقظاً إلى ساعات متأخرة من الليل فأغلب الناس نيام وهذه العين التي سهرت وطردت النوم عنها تروم بذلك وجه الله تعالى ورحمته وثوابه يوم القيامة .

ولكن ليس كل من أسهر عينه وظلّ يقظاً إلى الصباح هو من المحصّلين للثواب والنجاح في يوم القيامة، وإنما هنالك موارد خاصة يجمعها القربة إلى الله تعالى وفي سبيله ومنها :

ص: 392


1- سورة عبس ؛ الآيات : 40 42 .
2- تقدم مصدره.

طالب العلم:

1 - العلم والتفقه : من الأمور المهمّة التي حث عليها الإسلام هو طلب العلم والتفقّه في الدين بل أوجبها في حال عدم كفاية طالبيه .. قال

رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلّم :

طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة» (1) ومن أشرف العلوم معرفة أصول الدين والعبادات والأخلاق لأنها مرتبطة بالتعبد للخالق تعالى

والقرب منه .

ولا يهمل الإسلام العلوم الأخرى بل يحثّ عليها ويدعو إلى معرفتها وتعلمها لأنها فضل وخصوصاً ما يحتاج المجتمع الإسلامي إليه من الطب والهندسة والفيزياء والكيمياء وما شابه لأجل اكتفائه الذاتي وتطوره، ولا شك أنّ هذه العلوم سواء الدينية أو الإنسانية تحتاج إلى جهد وسعي حثيث لإتقانها والإستفادة منها وبالتالي نشرها وتعليمها للناس وما دام الهدف هو إخراج الناس من الجهل إلى العلم ومن الظلمات إلى النور وهدايتهم إلى الخالق تعالى .. ولأجل هذه الأهداف السامية صارت العين التي تستنفد طاقتها في سبيل تحصيل العلم ومدارسته من أجل هذه الأهداف الشريفة عيناً قريرة يوم القيامة . .

وقد امتاز علماؤنا الأعاظم على طول التاريخ بهذه السمة الرفيعة إذ يسهرون الليالي الطوال من أجل العلم الذي به ينيرون الطريق للناس .

شريف العلماء :

وقد جاء في ترجمة حياة الشيخ محمد شريف بن حسن علي المازندراني المعروف بشريف العلماء الحائري (قده) الذي كان مسكنه في

ص: 393


1- البحار : ج 1 ص 177 باب 1 حديث 54 ط بیروت .

كربلاء وتوفي في كربلاء أيضاً سنة 1245 ه- ودفن في داره في الجهة الجنوبية لصحن الإمام الحسين علیه السلام وقبره مزار معروف ومشهور هناك. وينقل أنه كان المدرس الأول في كربلاء ومتكلماً فيلسوفاً بارعاً بأصول المتأخرين وكان يحضر مجلس درسه ألف رجل أو يزيد بين عالم وفاضل، وقد ذكر العلامة الأميني في ترجمته له :

وفضيلة كل من تأخر من القواعد الأصولية مأخوذة عنه وصرف عمره الشريف في تربية الطلاب وكان له مجلسان في الدرس أحدهما للمنتهين والآخر للمبتدئين، ويدرّس في أيّام التعطيل لجمع آخر من الطالبين وفي شهر رمضان يدرّس في الليل ويشتغل بالتدريس إلى نصف الليل وبعده بالزيارة والعبادة . . ونسب إليه أنّه لم يطفأ مصباح حجرته 7 سنوات مما يدل على جهده وسهره في طلب العلم (1). .

المتهجدون في الليل:

2 - العبادة : من الموارد التي يسهر الإنسان فيها في سبيل القربة إلى الله تعالى هي العبادة وذكر الله تعالى ومناجاته والخشوع والبكاء وأداء الصَّلاة وكان من دعاء الإمام زين العابدين علیه السلام في يوم عرفة :

«واعمر ليلي بإيقاظي فيه لعبادتك، وتفرّدي بالتهجّد لك وتجرّدي بسكوني إليك، وإنزال حوائجي بك»(2).

ومن الطبيعي أن سكون الليل وعزلته يعطيان للإنسان حالة خشوع وارتباط بالخالق تعالى أكثر وكأنّ الظلام يستر الإنسان العابد عن أنظار الاخرين بقيامه وقعوده وسجوده وبكائه .

ص: 394


1- راجع معارف الرجال : ج 2 ص 298 وتراث كربلاء : ص 267 ، وأعيان الشيعة : ج 7 ص 338 .
2- الصحيفة السجادية : دعاء 47 .

وفي الحديث الشريف «السهر روضة المشتاقين» (1).

وهنالك ليال خاصة ركزت عليها الأحاديث الشريفة في إحيائها والسهر فيها . .

قال رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلّم : «ومن أحيى ليلة العيد وليلة النصف من شعبان لم يمت قلبه يوم تموت القلوب»(2) .

وكان الإمام أمير المؤمنين علیه السلام لا ينام ثلاث ليال :

«ليلة ثلاث وعشرين من شهر رمضان وليلة الفطر، وليلة النصف من شعبان، وفيها تقسم الأرزاق والآجال وما يكون في السنة» (3).

وسهر العيون في العبادة يتطلب أيضاً أن يكون الإنسان على يقين وعلم في العمل العبادي والهدف هو القربة لله تعالى وإلاّ فإنّ السهران ليله على شك ومؤملاً غير الله تعالى فإنّه لا ينال غير التعب والضرر . . سمع أمير المؤمنين علیه السلام رجلاً من الحرورية يتهجّد ويقرأ ، فقال : «نوم على يقين خير من صلاة في شك» (4).

المرابطون في الثغور:

3 - المرابطة : إذا تعرضت البلاد الإسلامية وكيانها لخطر حقيقي من قبل الأعداء والكفّار يستلزم الأمر من أبنائها الدفاع عنها والجهاد في سبيل الله فيتطلب الأمر أن يسهر بعض المسلمين ليلهم للحفاظ على البلاد الإسلامية ولا يتركوا مجالاً للأعداء لاقتحام هذه الثغور لأن الأعداء عادةً يستغلون هذه الأوقات المظلمة للمداهمة والهجوم . . قال تعالى :

ص: 395


1- تصنيف غرر الحكم : ص 319 ط الأولى .
2- البحار : ج 94 ص 86 باب 57 حديث 6 ط بيروت.
3- المصدر نفسه : ص 88 حدیث 15 .
4- نهج البلاغة : حكم 97 .

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} (1).

وعن الإمام الصَّادق علیه السلام قال : «الرباط ثلاثة أيام وأكثره أربعون يوماً، فإذا كان ذلك فهو جهاد»(2) .ولعلّ من مصاديق المرابطة أيضاً هو السهر في سبيل إنقاذ المسلمين من أزماتهم وحلّ مشكلاتهم والوقوف بوجه التيارات الفكرية المعادية والإعلام المضاد الذي ما فتىء لحظة من نهار أو ليل إلاّ وهو يعمل لأجل شقّ وحدة المسلمين وتصدير أفكاره المسمومة إلى أوساط المجتمع الإسلامي فعند تزاحم هذه الأمور وتكالبها على المجتمع الإسلامي يقف العلماء والمفكرون والمخلصون للإسلام بوجه هذه التيارات لردّها وتوعية الناس وإرساء دعائم الحق ومبادىء الإسلام الحنيف في المجتمع وهذا العمل يفقدهم الراحة الجسدية ويتطلب منهم العمل ليلاً ونهاراً لأجل تمتين العلاقات الإجتماعية والفكرية والسياسية في المجتمع الإسلامي وفي الحديث الشريف :

«أسهروا عيونكم وضمّروا بطونكم وخذوا من أجسادكم تجودوا بها على أنفسكم» (3)و (طوبى لعين هجرت في طاعة الله غمضها »(4) .

إذن فإنّ العين من حقّها الراحة والليل جعل لسكنها وراحتها ولكن السهر في سبيل الله تعالى ومن أجل المجتمع الإسلامي فالهدف يستحق ذلك التعب وهذا التعب يستحق عليه الثواب يوم القيامة لذلك ترى هذه العيون الساهرة فرحة يوم القيامة مسرورة بعطاء الله قريرة برحمته لأنها صرفت طاقتها في سبيله سبحانه. .

ص: 396


1- سورة آل عمران ؛ الآية : 2 .
2- وسائل الشيعة : ج 11ص 19 باب 6 حديث 1 .
3- تصنيف غرر الحكم : ص 319 ط الأولى 319 .
4- تصنيف غرر الحكم : ص 319 ط الأولى 319 .

ثانياً -

عين غضت عن محارم الله تعالى:

الحرام هو ما نهت الشريعة الإسلامية عنه بالنهي المولوي كما یعبر عنه علماء الأصول . . ويحصل الحرام بأعمال دنيئة ورذيلة فردية أو اجتماعية من سرقة الناس أو ظلمهم أو الإعتداء على أعراضهم و . . وعادة الأعمال المحرمة تكون حلوة المذاق وبهيجة المنظر لأنّ الشيطان يزينها في قلوب الناس ولكنها كالحية ليّن مسّها قاتل سمّها وسرعان ما هذه اللذة والنشوة ولا يبقى سوى العقاب والألم ويفسد الإنسان دنياه وآخرته بها وفي الحديث «العيون مصائد الشيطان» (1).

وأمام كل هذه المحرمات المغرية يقف الإنسان المؤمن صلباً لا ينجر إليها ويغضّ طرفه أو يغمض عينيه عنها ولا يتقرب إليها لأن العين من الجوارح التي ترى الأمور وتزيّنها للنفس فإذا ما أطاعتها النفس في مرادها السيّىء تكون العين أحد الأسباب التي جرّت النفس إلى هذا التصرف الرذيل . .

ومن وصايا الإمام الصادق علیه السلام للعبد الله بن جندب :

«يا ابن جندب إنّ عيسى بن مريم علیهما السلام قال لأصحابه : . . إيّاكم والنظرة فإنها تزرع في القلب الشهوة وكفى بها لصاحبها فتنة، طوبى لمن جعل بصره في قلبه ولم يجعل بعده في عينه» (2).

وأما إذا أغمضت العين أمام الرذائل ولم تزينها للنفس فإنّها تجرّها إلى الفضيلة ومن هنا ورد في بعض الأحاديث الشريفة اللعن لمن ينظر إلى بعض المحرمات منها صحيحة حماد قال : دخل رجل من البصريين على أبي الحسن الأول علیه السلام فقال له : جعلت فداك إني أقعد مع قوم يلعبون بالشطرنج ولست ألعب بها ولكن أنظر ؟ .

ص: 397


1- تصنيف غرر الحكم : ص 260 ط الأُولى .
2- البحار : ج 75 ص 283 - 284 باب 24 حديث 1 ط بیروت .

فقال علیه السلام : ما لك ولمجلس لا ينظر الله إلى أهله (1) .

فهذا النظر قد يستلزم الحرمة والإنجرار إلى المعصية لذا نهت الشريعة عنه وهناك نظر في الأصل محرم بالأدلة الشرعية كما أفتى بذلك بعض فقهائنا المعاصرين .

كما نصّت الشريعة على حرمة النظر إلى عورة الغير والنظر إلى الأجنبية وحرمة النظر بريبة وتلذذ إلى غير الزوجة ونحوها سواء من الرجل إلى المرأة أو من المرأة إلى الرجل أو من كل جنس إلى نفس جنسه (2).

قال تعالى : {قل للمؤمنين أن يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إنّ الله خبير بما يصنعون }(3).

وفي الحديث الشريف عن الإمام الصادق علیهم السلام قال :

«وفرض الله على البصر أن لا ينظر إلى ما حرم الله عليه، بأن يعرض عما نهى الله عنه مما لا يحل له وهو عمله وهو من الإيمان فقال تبارك وتعالى : {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} فنهاهم أن ينظروا إلى عوراتهم وأن ينظر المرء إلى فرج أخيه ويحفظ فرجه أن ينظر إليه وقال : {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ ان یغضضن من أبصارهم ویحفظوا فروجهن} من أن تنظر إحداهنّ إلى فرج أختها وتحفظ فرجها من أن تنظر إليها وقال كل شيء في القرآن من حفظ الفرج فهو من الزنا إلاّ هذه الآية فإنها من النظر» (4).ومقابل هذا النظر نظر يستلزم الفضيلة والثواب دعت إليه الأحاديث الشريفة ومنها قول رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلّم :

«النظر إلى العالم عبادة، والنظر إلى الإمام المقسط عبادة، والنظر إلى

ص: 398


1- الوسائل : ج 12 ص 238 باب 102 حدیث 1 .
2- راجع موسوعة الفقه : المحرمات ج 93 ص 368 ط بيروت .
3- سورة النور ؛ الآية : 30 .
4- تفسير البرهان للبحراني : ج 3 ص 130 حدیث 2 .

الوالدين برأفة ورحمة عبادة، والنظر إلى الأخ تودّه في الله عزّ وجلّ عبادة» (1)(1) .

وفي حديث آخر :

«النظر في المصحف عبادة وفي البحر عبادة» (2).

كل ذلك لما يجر هذا النظر صاحبه إلى الفضيلة وذكر الله سبحانه . .

حرمة النظر إلى الأجنبية:

ومن أظهر المصاديق التي يجب غض النظر عن رؤيتها هي المرأة الأجنبية وهي كل امرأة ليست بمحرم للإنسان أي لم تكن أُمّه أو أخته أو ابنته وأم زوجته وغيرهن من اللواتي يحرم عليه الزواج منهن. . وحرمة النظر للأجنبية بالنسبة إلى غير الوجه والكفين .. والأفضل عدم النظر إلى الوجه والكفين أيضاً احتياطاً. . إلاّ في موارد منها إذا أراد الزواج من امرأة وتقدم لخطبتها فيجوز النظر لوجهها ومعاصمها - بالشرائط الشرعية التي ذكرها الفقهاء .

قال الإمام الصّادق علیه السلام : «لا بأس بأن ينظر إلى وجهها ومعاصمها إذا أراد أن يتزوجها» (3).

ولا شك في أنّ الشريعة أرادت من غضّ البصر وحرمة النظر إلى الأجنبية الحفاظ على المجتمع من التفسخ والميوعة وحفظ القلب من سهام إبليس وفي الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال : «النظر سهم مسموم من سهام إبليس فمن تركها خوفاً من الله أعطاه الله إيماناً يجد حلاوته في قلبه»(4).

ص: 399


1- البحار : ج 71 ص 73 باب 2 حدیث 59 .
2- راجع البحار : ج 10 ص 368 باب 20 حديث 10 - بتصرف - .
3- فروع الكافي : ج 5 ص 365 باب النظر لمن أراد التزويج حديث 2 .
4- البحار : ج 101 ص 38 باب 91 حديث 34 .

وهناك قصص عديدة للغاضين أبصارهم عن محارم الله تعالى ووجدوا حلاوة ذلك الإيمان في قلوبهم . . ويصفهم الله تعالى بالعباد المخلصين .

بين يوسف (علیه السلام) وزليخا:

كانت منّة الله تعالى على يوسف علیه السلام بالجمال الرائع مكمناً لمحنته وإظهار مقاماته السامية ومن تلك المحن أن امرأة العزيز ( زليخا) نظرت إلى يوسف وما هو عليه من الخُلق السوي والجمال المفرط فأشعل ذلك في نفسها جذوة الحب . .

وصار ذلك يزداد بتكرر رؤيتها له إلى أن غلبها الحب على حيائها، فأخذت تداعب يوسف علیهم السلام وهو يعرض عنها لعاملين يكفي كل واحد منهما لعزوفه عما تريد :

أولهما : إيمانه بالله تعالى وامتثاله أوامره بالتزام الطهارة من الأرجاس الخلقية تلك الطهارة التي وجد عليها أباه وجده وجد أبيه . .

ثانيهما : أنّ بعلها سيده الذي حدب عليه، وأكرم مثواه، ومكّن له في بيته وجعله المتصرف في أمواله وخدمه ووثق به ثقة ليس لها حد، فلا ينبغي أن يقابل نعمته بالكفران . .

وبعد أن هاج بزليخا الغرام واعتزمت على شفاء ما في نفسها من الصبابة صارحته القول، ودعته إلى نفسها دعوة لا هوادة معها .

واحتاطت للأمر، وأعدت له ،وغلقت الأبواب وقالت ليوسف علیهم السلام { هَيْتَ لَكَ } فأبى وقال {إنه }أي بعلها { رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } (1).

وفي هذا الموقف العنيف شاب في ريعان شبابه وغضارة الفتوة تدعوه

ص: 400


1- سورة يوسف ؛ الآية : 23 .

سيدته الجميلة إلى نفسها فيغلبه دينه ويعصمه. ثم يولي وجهه شطر الباب يطلب النجاة من شيطان غوايتها ، وهي تجاذبه ثوبه وهو يعصي حتى تمزق خلفه (1) . .

قال تعالى : {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ }(2) .

فبالإضافة إلى فوز يوسف علیهم السلام بالآخرة وسروره فلقد أنعم الله تعالى على يوسف علیهم السلام بمقامات سامية ومنحه الملك والعلم كما في قوله تعالى :

{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ *وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } (3).

وقال تعالى : {ربّ قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت وليبي {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } (4).

موسى (علیه السلام ) وابنتا شعیب (علیه السلام):

في قصّة موسى علیهم السلام وهروبه من فرعون مصر إلى مدين ورد إلى بئر

ص: 401


1- راجع قصص الأنبياء : ص 123 .
2- سورة يوسف ؛ الآيتان : 23 و 24 .
3- سورة يوسف ؛ الآيات : 54 - 56
4- سورة يوسف ؛ الآية : 101 .

ووجد عنده أناساً يسقون وكانت هناك امرأتان تذودان لا يمكنهما السقي، فسقى لهما موسى علیه السلام وذهب ليستريح في ظل نخلة لأنه كان متعباً وجائعاً وهناك دعا ربّه بالفرج فجاءت إحدى البنتين تدعوه ليراه أبوها ويجزيه عن عمله هذا، ولما جاء موسى إلى الشيخ وكلّمه وطمأنه قالت احدى بنات شعيب علیهم السلام وهي التي دعت موسى :

يا أبت استأجره لرعي ماشيتنا ليكفينا مؤونة هذا العمل إنّ خير من استأجرت القوي الأمين .

ويذكر أصحاب التفاسير أنّ أباها سألها عن أمانته وقوته من أين علمتهما ؟

فقالت : أما قوته فما رأيت منه حين سقى لنا، لم أر رجلاً قط أقوى في السقي منه

وأما أمانته فإنه نظر حين أقبلت إليه وشخصت له فلما علم أنّي امرأة صوّب رأسه فلم يرفعه ولم ينظر إليّ حتى بلغته رسالتك .

ثم قال : إمشي خلفي وانعتي لي الطريق ولم يفعل ذلك إلاّ وهو أمين (1).

قال تعالى : {قالت إحداهما يا أبت استأجره إنّ خير من استأجرت القوي الأمين} (2).

وقد تزوج بابنة شعيب علیه السلام {قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشراً فمن عندك وما أريد أن أشقّ عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين}(3) .

ومن ثم كلّمه الله تعالى من شاطيء الواد الأيمن في البقعة المباركة

ص: 402


1- راجع مجمع البيان : المجلد الرابع ص 247.
2- سورة القصص ؛ الآية : 26 .
3- سورة القصص ؛ الآية : 26 .

عندما سار بأهله بعدما انقضى الأجل وبعثه إلى فرعون وقومه ومكنه في الأرض {فلمّا قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور ناراً قال لأهله امكثوا إني آنست ناراً لعلّي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلّكم تصطلون * فلما أتاها نودي من شاطيء الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله ربّ العالمين }(1).

وهذا هو ثمن الإخلاص لله سبحانه والصبر على طاعته والغض عن محارمه .

ثالثاً -

عين فاضت من خشية الله تعالى:

وهناك عين لا تبكي يوم القيامة هي العين التي بكت في الدنيا من خشية الله تعالى وابتعدت عن المعاصي والذنوب لتذكرها أهوال يوم القيامة ووقوفها بين يدي الله سبحانه وتعالى . . والبكاء نابع من رقّة القلب ودليل الإخلاص في العمل .. أما جمود العين فنابع من قساوة القلب وتراكم الكدورات عليه والآثام والتمسك بالدنيا وملذاتها دون النظر إلى عواقب الأمور وأهوال يوم القيامة . .

وقد جاء في الحديث الشريف عن الإمام الصَّادق علیهم السلام :

«إذا اقشعر جلدك ودمعت عيناك ووجل قلبك فدونك دونك فقد قصد قصدك »(2) .

أي إذا ظهرت عليك تلك العلامات فعليك بطلب الحاجات والاهتمام في الدعاء للمهمات فقد أقبل الله عليك بالرحمة وتوجه نحوك للإجابة . .

وفيما أوصى الله تعالی به موسی علیه السلام :

ص: 403


1- سورة القصص ؛ الآيتان : 29 - 30 .
2- عدة الداعي : ص 167 ط الأولى.

«يا موسى لا تطوّل في الدنيا أملك فيقسو قلبك، وقاسي القلب مني بعيد» (1).

وفي البكاء من خشية الله تعالیٰ خصوصیات وفضائل منها قرب صاحبهامن الله تعالى ومحبة الله تعالى له وعدم دخوله النار وإغاثة الله له وعدم بكائه يوم القيامة وإجابة الدعاء .. وهذه الخصوصيات قد لا تكون في غيره من أصناف الطاعات وقد روي أن بين الجنة والنار عقبة لا يجوزها إلاّ البكائون من خشية الله تعالى(2) .

بكاء أمير المؤمنين (علیه السلام):

عن هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير قال :

كنا جلوساً في مجلس في مسجد رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلّم فتذاكرنا أعمال أهل بدر وبيعة الرضوان ، فقال أبو الدرداء : يا قوم ألا أخبركم بأقل القوم مالاً وأكثرهم ورعاً وأشدّهم اجتهاداً في العبادة ؟

قالوا : من؟ قال : أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیهم السلام ، قال : فوالله إن كان في جماعة أهل المجلس إلاّ معرض عنه بوجهه ثم انتدب له رجل من الأنصار فقال له : يا عويمر لقد تكلمت بكلمة ما وافقك عليها أحد منذ أتيت بها ، فقال أبو الدرداء :

يا قوم إنّي قائل ما رأيت وليقل كلّ قوم منكم ما رأوا ، شهدت علي بن أبي طالب بشويحطات النجّار، وقد اعتزل عن مواليه، واختفى ممن يليه واستتر بمغيلات النخل، فافتقدته وبعد عليّ مكانه فقلت : لحق بمنزله، فإذا أنا بصوت حزين ونغمة شجيّ وهو يقول :

«إلهي كم من موبقة حلمت عن مقابلتها بنقمتك، وكم من جريرة تكرّمت عن كشفها بكرمك، إلهي إن طال في عصيانك عمري وعظم في

ص: 404


1- المصدر نفسه .
2- المصدر نفسه : ص 169.

الصحف ذنبي فما أنا بمؤمّل غير غفرانك، ولا أنا براج غير رضوانك». فشغلني الصوت واقتفيت الأثر، فإذا هو عليّ بن أبي طالب علیه السلام بعينه فاستترت له وأخملت الحركة، فركع ركعات في جوف الليل الغابر، ثم فرغ إلى الدعاء والبكاء والبت والشكوى ،فكان مما به الله ناجاه أن قال : «إلهي أفكّر في عفوك فتهون عليّ خطيئتي، ثم أذكر العظيم من أخذك فتعظم عليّ بليتي» ثم قال :

«آه إن أنا قرأت في الصحف سيّئة أنا ناسيها وأنت محصيها، فتقول: خذوه، فيا له من مأخوذ لا تنجيه عشيرته ولا تنفعه قبيلته، يرحمه الملأ إذا

أذن فيه بالنداء» ثم قال :

«آه من نار تنضج الأكباد والكلى، آه من نار نزّاعة للشوى، آه من غمرة من ملهبات لظى ».

قال : ثم أنعم في البكاء فلم أسمع له حسّاً ولا حركة، فقلت : غلب عليه النوم لطول السهر، أوقظه لصلاة الفجر.

قال أبو الدرداء : فأتيته فإذا هو كالخشبة الملقاة، فحرّكته فلم يتحرك، وزويته فلم ينزو ، فقلت : «إنّا لله وإنّا إليه راجعون» مات والله علي بن أبي طالب، قال : فأتيت منزله مبادراً أنعاه إليهم، فقالت فاطمة (سلام الله عليها):

يا أبا الدرداء ما كان من شأنه ومن قصته؟ فأخبرتها الخبر، فقالت : هي والله يا أبا الدرداء الغشية التي تأخذه من خشية الله (1) . . .

وهذه العين التي بكت حتى غشي عليها من خشية الله تعالى هي التي لا تبكي يوم القيامة وتجوز الصراط إلى الجنّة بل وتشفع لمحبيها بإذن الله تعالى .

ص: 405


1- البحار : ج 41 ص 11 باب 101 حدیث 1 ط بیروت .

مناجاة الإمام زين العابدين (علیه السلام):

روي عن يوسف بن أسباط عن أبيه ، قال :

دخلت مسجد الكوفة ، فإذا شاب يناجي ربّه وهو يقول في سجوده : «سجد وجهي متعفّراً في التراب لخالقي وحقّ له» فقمت إليه فإذا هو

علي بن الحسين علیهم السلام فلما انفجر الفجر، نهضت إليه فقلت له :

يا ابن رسول الله تعذّب نفسك وقد فضّلك الله بما فضّلك؟

فبكى ثم قال : حدثني عمرو بن عثمان، عن أسامة بن زيد قال :

قال رسول الله صلّی الله علیه واله وسلّم : كل عين باكية يوم القيامة إلاّ أربعة أعين : عين بكت من خشية الله، وعين فقئت في سبيل الله، وعين غضّت عن محارم الله ، وعين باتت ساهرة ساجدة يباهي بها الله الملائكة ويقول انظروا إلى عبدي روحه عندي وجسده في طاعتي، قد جافى بدنه عن المضاجع، يدعوني خوفاً من عذابي وطمعاً في رحمتي اشهدوا أني قد غفرت له(1) .

والعين التي سهرت ساجدة الله سبحانه وتعالى هي من مصاديق العين التي سهرت في سبيل الله تعالى بالعبادة وذكرناها سابقاً . .

ومن هنا يتبيّن أن العين إذا سهرت في سبيل الله تعالى ولم تنظر إلى محارم الله تعالى وفاضت بالبكاء من خشية الله تعالى . . فقد اختصّها الله تعالى بالإجابة والرحمة وهي تأتي يوم القيامة فرحة مسرورة قريرة بعد أن أتعبت نفسها في الدنيا وبذرت بذور الخير هنا وحصدته في يوم القيامة . .

ص: 406


1- البحار : ج 46 ص 99 باب 5 حديث 88 ط بیروت.

21- الوَصيَّةُ ضَرُورَهُ شَرعيّةُ وَاجتماعٍيَّةُ

اشارة

ص: 407

ص: 408

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) لعلي (علیه السلام):

«يا علي : من لم يحسن وصيةً عند موته ، كان نقصاً في مُرُوَتِهِ ، ولم يملك الشفاعة» (1).

الوصية في ظلال القرآن:

الوصية من الأمور التي شرعها الإسلام بنصّ القرآن الحكيم كما في قوله تعالى : {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} (2). ومعنى ذلك كما جاء في بعض التفاسير :

«ثم بيّن سبحانه شريعة أخرى وهي الوصية فقال {كتب عليكم} أي فرض عليكم { إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} أي أسباب الموت من مرض ونحوه من الهرم ولم يرو إذا عاين البأس وملك الموت لأن تلك الحالة تشغله الوصية وقيل فرض عليكم الوصية في حال الصحة أن تقولوا إذا حضرنا الموت فافعلوا كذا {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا }أي مالاً واختلف في المقدار الذي يجب الوصية عنده فقال الزهري في القليل والكثير مما يقع عليه اسم المال وقال إبراهيم النخعي من ألف درهم إلى خمسمائة وقال ابن عباس إلى ثمانمائة

ص: 409


1- كلمة الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلّم:ص151.
2- سورة البقرة ؛ الآية : 180 .

در هم وروي عن علي علیهم السلام أنه دخل على مولى له في مرضه وله سبعمائة أو ستمائة درهم فقال ألاً أوصي فقال لا إن الله سبحانه قال إن ترك خيراً وليس لك كثير مال وهذا هو المأخوذ به عندنا لأن قوله حجة {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}أي الوصية لوالديه وقرابته {بالمعروف }أي بالشيء الذي يعرف أهل التمييز أنه لا جور فيه ولا حيف ويحتمل أن يرجع ذلك إلى قدر ما يوصي لأن من يملك المال الكثير إذا أوصى بدرهم فلم يوص بالمعروف ويحتمل أن يرجع إلى الموصى لهم فكأنه أمر بالطريقة الجميلة في الوصية فليس من المعروف أن يوصي للغني ويترك الفقير ويوصي للقريب ويترك الأقرب منه ويجب حمله على كلا الوجهين {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ } أي حقاً واجباً على من آثر التقوى وهذا تأكيد في الوجوب . . .

وقد روى أصحابنا عن أبي جعفر علیهم السلام أنه سئل هل تجوز الوصية للوارث فقال نعم وتلا هذه الآية وروى السكوني عن أبي عبد الله أبيه

عن علي عليه السلام قال من لم يوص عند موته لذوي قرابته ممّن لا يرث فقد ختم عمله بمعصية ومما يؤيّد ما ذكرناه ما روي عن النبي صلّی الله علیه وآله وسلّم أنه قال من مات بغير وصية مات ميتة جاهلية وعنه علیهم السلام أنه قال من لم يحسن وصيته عند موته كان نقصاً في مروءته وعقله وروي عن أبي جعفر عن أبي عبد الله علية السلام أنه قال ما ينبغي لامرىء مسلم أن يبيت إلاّ ووصيته تحت رأسه(1) .

الوصية الواجبة :

أما الواجب من الوصية فهو قضاء الفوائت من العبادات وأداء حقوق الناس الواجبة كالديون والودائع والأمانات وقد ذكر صاحب العروة الوثقى السيد محمد كاظم اليزدي (ره) في أحكام الأموات مسائل عديدة منها : (يجب عند ظهور إمارات الموت أداء حقوق الناس الواجبة ورد الودائع والأمانات التي عنده إمكان الوصية بها ومع عدمه مع الاستحكام على وجه لا يعتريها الخلل بعد موته) . ومنها (إذا كان عليه الواجبات التي لا تقبل النيابة حال الحياة كالصلاة والصوم والحج ونحوها وجب الوصية بها إذا كان له مال بل مطلقاً إذا احتمل وجود متبرع وفيما على الولي كالصَّلاة والصوم التي فاتته لعذر يجب إعلامه أو الوصية باستئجارها أيضاً(2) «الذي يشاهد في نفسه علائم الموت وفي ذمته صلوات فائتة فائت يجب أن يوصي بأن يستأجروا لقضائها من أمواله بل إذا لم يكن عنده مال ولكن يحتمل أن يتبرع بأدائها أحد دون الأجرة وجبت الوصية بها أيضاً وإذا وجب قضاء تلك الفوائت حسب الشروط على ولده الأكبر يجب أن يعلمه بذلك، أو يوصي بأدائها عنه» (3).ولا شك أن أداء الواجبات كقضاء الصَّلاة الفائتة أو الصوم من قبل نفس الإنسان في حياته، مقدم على قضائها بعد وفاته وسيأتي بيان ذلك وهناك أيضاً مأثورات وأذكار يفضّل ذكرها في كتابة الوصية نذكرها هنا لغرض تعلّمها وبثها بين الناس .

هكذا تكون الوصية :

عن أبي عبد الله جعفر بن محمد علیه السلام عن آبائه قال :« قال رسول

ص: 410


1- تفسير مجمع البيان: المجلد الأول ص 482 .
2- راجع العروة الوثقى : أحكام الأموات.
3- المسائل الإسلامية : ص 672 مسألة 3025 .

الله صلّی الله علیه وآله وسلّم: من لم يحسن الوصية عند موته كان نقصاً في عقله ومروّته، قالوا : يا رسول الله وكيف الوصية؟ قال : إذا حضرته الوفاة واجتمع الناس إليه قال : اللَّهُمَّ فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة الرّحمن الرّحيم إني أعهد إليك أني أشهد أن لا إله إلاّ أنت وحدك لا شريك لك ، وأن محمداً عبدك ورسولك وأن الحساب حق، وأن الجنة حق، وما وعد الله فيها من النعيم ومن المأكل والمشرب والنكاح حق، وأن النار حق، وأن الإيمان حق، وأن الدين كما وصفت وأن الإسلام كما شرعت، وأنّ القول كما أنزلت وأنك أنت الله الحق المبين وإني أعهد إليك في دار الدنيا أني رضيت بك رباً وبالإسلام ديناً ومحمدصلّی الله علیه وآله وسلم نبياً وبعلي علیهم السلام إماماً وبالقرآن كتاباً، وأن أهل بيت نبيك عليه وعليهم السَّلام أئمتي، اللَّهُمَّ أنت ثقتي عند شدتي ورجائي عند كربتي وعدتي عند الأمور التي تنزل بي وأنت ولیّي في نعمتي، وإلهي وإله آبائي، صَلِّ على محمد وآله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً وأنس في قبري وحشتي واجعل لي عندك عهداً عهداً يوم ألقاك منشوراً. فهذا عهد الميت يوم يوصي بحاجته والوصية حق على كل مسلم.

قال أبو عبد الله علیه السلام: «وتصديق هذا في سورة مريم قول الله تبارك وتعالى :

{لا يملكون الشفاعة إلاّ من اتخذ عند الرّحمن عهدا} (1) وهذا هو له. العهد» (2). وفي مجمع البيان قال «فهذا عهد الميت والوصية حق على كل مسلم وحق عليه أن يحفظ هذه الوصية ويعلمها» وقال أمير المؤمنين علي علیهم السلام علمنيها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقال علّمنيها جبرائيل علیهم السلام (3)وبالإضافة إلى كون الوصية حق على كل مسلم فإن من لم يحسن الوصية كان ذلك نقصاً في مروته ولم يملك الشفاعة يوم القيامة كما جاء في الحديث عن الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلّم:

ص: 411


1- سورة مريم ؛ الآية : 87 .
2- البحار : ج100ص193باب54حدیث 1 ط بیروت.
3- مجمع البيان : المجلد الثالث ص531.

«يا علي : من لم يحسن وصيةً عند موته كان نقصاً في مروته، ولم يملك الشفاعة » (1).

الملكية الاعتبارية:

ولذا فإن الوصية بالمال للوالدين أو الأقربين تعني قطع العلاقة بین الموصي وأمواله كما أن الموت قطع لعلاقة الإنسان بالحياة الدنيا ولا يبقى له منها سوى عمله الصالح ولذا فإن علاقة الإنسان بالدنيا إنما هي علاقة عمل وامتحان وابتلاء كما أن علاقة الإنسان بالأموال والثروات علاقة غير حقيقية وإنما هي علاقة اعتبارية لا رصيد لها من الواقع . . وقد عبّر بعض الأعلام

ص: 412


1- كلمة الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلّم ص151.

عن الملكية الاعتبارية بقوله : فالملكية الاعتبارية مثل ملكيتك لدارك التي تسكن فيها وأموالك المودعة في البنك باسمك وعقاراتك المتناثرة هنا وهناك. فلا توجد هناك أية علاقة حقيقية بينك وبين ما تملكه، إذاً ليس ما تملكه قائماً بك، وليس وجوده تبعاً لوجودك، بل هو مستقل في وجوده عنك، قائم بغيرك، وإنما (الاعتبار) هو الذي منحك هذا العنوان (عنوان الملكية )وهو بذاته يستطيع أن يسلبك هذا العنوان .

فحدوث العنوان الاعتباري منوط بالاعتبار وبقاؤه منوط ببقاء الإعتبار . . ومتى ما سلب المعتبر اعتباره زال العنوان الإعتباري وقد يختلف الاعتبار بحسب اختلاف المعتبرين، فقد يجعل قانون ما عنوانه (الملكية) الحركة الميت مرتبطاً بأقربائه بينما يجعل قانون آخر ذلك مرتبطاً بالدولة الحاكمة (1). وبموت الإنسان إذن تنقطع علاقته بأمواله وثرواته ليرثه أبناؤه وأهله ولكن الدين تفضّل على الإنسان فأعطاه إمكانية صرف الثلث من ممتلكاته التي ستنتهي صلته بها بعد موته في موارد الخيرات والبر والتفضّل على الفقراء وقضاء ما فاته من الواجبات وهذا التفضّل من الشريعة هو تفضّل على المؤمنين لأن المؤمن عادة يفضل الأعمال الإيمانية والخيرية فيضع الثلث في موضعه اللائق ولأجل مصلحة المجتمع الإسلامي . .لذا فإن من المستحب للإنسان المؤمن أن يوصي بثلث أمواله في مجال الصدقات الجارية لأن الإرث في أموال المالك يذهب إلى أرحامه وأما الوصية فقد تذهب إلى أبعد من الأرحام في الصدقات الجارية وقد أعطاها الإسلام أهمية بالغة واحترم إرادة المالك بالنسبة إلى ما يملكه في حياته لأجل إدامة الخيرات والمبرّات ومنافعها لسد حوائج الفقراء والمساكين وقضاء الحوائج وغير ذلك من وجوه الخير .

ص: 413


1- التدبّر في القرآن : ج 1 ص 228 .

الوصية من المروءة:

المروءة : اسم جامع لسائر الفضائل والمحاسن كالعدل في الإمرة، والعفو مع القدرة، والمواساة في العشرة وإكرام الضيف، وغضّ الطرف، وغضّ الصوت والقصد في المشي، وحفظ الود، وجود مع قلّة، وتعفّف عن المسئلة .. فكلّ فضيلة يمكن أن تقع تحت اسم المروءة وتعتبر المروءة جمال الرجل كما أنّ ميزة الرجل في عقله وقد جاء عن الإمام أمير المؤمنين علیهم السلام في المروءة قوله : «أول المروءة طاعة الله وآخرها التنزه عن الدنيا» (1).

وعنه أيضاً علیه السلام : «أول المروءة طلاقة الوجه وآخرها التودد إلى الناس»(2) .

وعنه أيضاً علیه السلام: «أول المروءة البشر وآخرها استدامة البرّ» (3).

ولذا فإن الوصية بالمنفعة والبر من قبل صاحب الثروة لأجل الفقراء والمساكين من المروءة كما أن بناء المستشفيات ودور العجزة وملاجيء الأيتام يعتبر من المروءة وإنشاء المؤسسات العلمية والمدارس الدينية ونشر الكتب الإسلامية من المروءة لأنها جميعها من الفضائل والمحاسن ووجوه البر ومن مروءة الرجل الوصية في هذه الأُمور .

ص: 414


1- غرر الحكم : ط الأولى
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.

الوصية تشد المجتمع:

من الأمور المهمة والتي منحها الإسلام الأهمية الكبيرة إزالة الفوارق الطبقية والمساواة وحسن العِشرة بين الناس والوصية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمجتمع إذ إن صاحب الثروة كما قلنا آنفاً علاقته اعتبارية بثروته وتنتهي بموته ولا يأخذ الميت معه شيئاً من المال إذ إن في ذلك العالم {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ } (1)فهي إما أن تذهب لورثته من أولاده أو زوجاته أو آبائه أو أقربائه فيما إذا لم يوص أو يوصي بها من غير أن يكون مريضاً أو سفيهاً أو مجنوناً فإذا أوصى بها هنا تظهر أهمية الوصية في المجتمع إذ إنّ الإنسان المؤمن يصرفها في موارد الخير والإحسان ويساهم في بناء المؤسسات والمشاريع ومن هنا جاء في الحديث الشريف «من أفضل الدين المروّة، ولا خير في دين ليس له مروّة»(2) .

وكما أن الوصية جاءت لتصرف في وجوه البر والإحسان وهي من الدين ولكنها قد تفقد أهميتها لو ترك الموصي أهله وعياله بدون مال ولذا حثّت الروايات الشريفة على العدل في الوصية وهذا ما يدخل أيضاً في تحسين الوصية فإن من يترك عيالاً بلا مأوى من أجل نيل فضيلة ما يعتبر أيضاً نقصاً في مروّته وكما جاء في الحديث الشريف عن الإمام الصادق علیه السلام عن أبيه علیهم السلام قال : «من عدل في وصيته كان بمنزلة من تصدّق بها في حياته،ومن جار في وصيته لقي الله يوم القيامة وهو عنه معرض (3) .وبهذا الإسناد قال : إن رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلّم بلغه أن رجلاً من الأنصار توفي وله صبية صغار وليس لهم مبيت ليلة تركهم يتكففون الناس وقد كان له ستة من الرقيق ليس له غيرهم وإنه أعتقهم عند موته فقال لقومه ما صنعتم به؟

ص: 415


1- سورة الشعراء ؛ الآية : 88 .
2- غرر الحكم : ص 258 ط الأولى .
3- البحار : ج 100 ص 197 باب 54 حدیث 17 .

قال : دفنّاه، فقال : أما إني لو علمته ما تركتكم تدفنونه مع أهل الإسلام ترك ولده صغاراً يتكففون الناس« (1) .

بين الوصية والشفاعة:

إن من لم يحسن وصيته في فعل الخيرات والمبرات فإنه لم يملك الشفاعة فما المراد من الشفاعة ؟

قال الراغب في المفردات :

«والشفاعة الإنضمام إلى آخر ناصراً له وسائلاً عنه وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو أعلى حرمة ومرتبة إلى من هو أدنى. ومنه الشفاعة في يوم القيامة قال تعالى : {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} (2) و {لا تنفع الشفاعة إلاّ الشفاعة إلا «ٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ } (3)... و {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا } (4)أي من انضم إلى غيره وعاونه وصار شفيعاً له أو شفيعاً في فعل الخير والشر فعاونه وقوّاه وشاركه في نفعه وضرّه وقيل الشفاعة لههنا أن يُشرع الإنسان للآخر طريق خير أو طريق شر فيقتدي به فصار كأنه شفع له وذلك كما قال علیهم السلام (من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها ومن سنّ سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها) . . . » (5)

إذن للشفاعة معنيين : أحدهما الإنضمام إلى آخر ناصراً له وهي الشفاعة في يوم القيامة ومن الأعلى مرتبة إلى الأدنى. وثانيهما المعاونة على فعل الخير أو فعل الشر . . .

ص: 416


1- البحار ج 100 ص 1 ص 197 باب 54 حدیث 19 .
2- سورة مريم ؛ الآية : 87 .
3- سورة طه ؛ الآية : 109 .
4- سورة النساء ؛ الآية : 85 .
5- مفردات ألفاظ القرآن : ص 270 شفع .

الشفاعة في القيامة:

لا خلاف عندنا في ثبوت الشفاعة لسيد المرسلين في أُمته بل في سائر الأمم الماضين بل ذلك من ضروريات الدين قال الله تعالى {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} (1) وقال الصدوق في العقائد اعتقادنا في الشفاعة أنها لمن ارتضى دينه من أهل الكبائر والضمائر فأما التائبون من الذنوب فغير محتاجين إلى الشفاعة وقال النبي صلّی الله علیه وآله وسلّم من لم يؤمن بشفاعتي فلا أناله الله شفاعتي وقال صلّی الله علیه وآله وسلّم لا شفيع أنجح من التوبة والشفاعة للأنبياء والأوصياء والمؤمنين والملائكة وفي المؤمنين من يشفع في مثل ربيعة ومضر وأقل المؤمنين شفاعة من يشفع في ثلاثين إنساناً والشفاعة لا تكون لأهل الشك والشرك ولا لأهل الكفر والجحود بل تكون للمؤمنين من أهل التوحيد انتهى .

وفي الخصال من طرق المخالفين عن أنس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله سلّم لكل نبي دعوة قد دعا بها - وقد سئل سؤالاً - وقد أخبأت دعوتي لشفاعتي لأمتي يوم القيامة. وعن الإمام الصادق علیه السلام عن آبائه عنه صلّی الله علیه وآله وسلّم قال ثلاثة يشفعون إلى الله عزّ وجلّ فيشفّعون الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء الشهداء . . وقال الطبرسي (ره) في المجمع وهي - يعني الشفاعة - ثابتة عندنا للنبي ولأصحابه المنتجبين والأئمة من أهل بيته الطاهرين ولصالح المؤمنين وينجي الله تعالى بشفاعتهم كثيراً من الخاطئين. ويؤيده الخبر الذي تلقته الأمة بالقبول وهو قوله صلّی الله علیه وآله وسلّم ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمتي (2) . .

الوصية بين الحُسنين:

إذن فإن الشفاعة يوم القيامة موجودة لمن ارتضى الله تعالى له أن يشفع

ص: 417


1- سورة الإسراء ؛ الآية : 79 .
2- للمزيد راجع حق اليقين في معرفة أصول الدين : ج 2 ص 134 - 140 .

في غيره كالأنبياء والأئمة المطهرين والعلماء والشهداء .. فلعلّ مراد الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله سلّم بأن من يحسن الوصية كان من المؤمنين أو العلماء الذين يعرفون أهمية الوصية في المجتمع ويوصون بأموالهم في سبيل الخير والبر والإحسان وكما أن الشفاعة على وجهين : أحدهما أن يشفع للغير وثانيهما الشفاعة أن يستدعي الشفاعه من غيره لنفسه وإذا لم نقل بشفاعة المحسن في الوصية لغيره لا بد وأنّه ينال الشفاعة لنفسه من الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله سلم أو الأئمة المطهرين (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).

وإذا احتملنا المعنى الثاني للشفاعة وهو المعاونة على الفعل خيراً أو شراً فإن من يحسن الوصية ملك الشفاعة أي المعاونة على فعل الخير في صرف ثروته وأمواله في سبيل الخير والبر ومساعدة الفقراء والمحتاجين مع ملاحظة سد احتياج عياله وأهله من الثروة .. ولو لم يحسن الوصية فإنه لم يملك فعل الخير وإنما انتخب غير طريق الشفاعة كما أن من يأمر بذلك في وصيته فإنه لم يملك الشفاعة في يوم القيامة أيضاً أي أنه فاقد للكمالين معاً . .

كن وصيَّ نفسك :

على كل تقدير فإن الوصية بالخيرات والمبرات والإحسان ومساعدة الفقراء والمحتاجين مع سدّ احتياج الأهل والعيال من الفضائل والمروّة وكما أنّ على الإنسان أن يؤدي الواجبات والحقوق المترتبة عليه في حياته هو بنفسه قبل دنو أجله كذلك عليه أن يضع الواجبات والحقوق نصب عينه دائماً فلا يتماهل في أداء ما فاته من الصلوات وسائر العبادات جرّاء الغفلة في زمن ما وعليه أن يؤديها بنفسه في حياته وكما أن من الأفضل أن يعمل بالمندوبات أي المستحبات في حياته لا أن يكلها إلى غيره بعد وفاته كأداء النوافل اليومية وزيارة قبور الأئمة المطهرين (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) وقراءة القرآن الحكيم :

ص: 418

قال الإمام أمير المؤمنين علیه السلام: (يا ابن آدم كن وصيّ نفسك واعمل في مالك ما تؤثر أن يعمل فيه من بعدك)(1).

العمل طبق الوصية:

أشرنا إلى أن الوصية فيها واجب وفيها مستحب فالواجب كأداء الديون وقضاء العبادات الفائتة. . . مراعاة لحقوق الناس وحقوق الله تعالى وهذا باب رحمة فتحه الإسلام للإنسان لكي يُعوض ما فاته في دار الدنيا بعد أن يسعى سعيه لأدائها بنفسه أثناء حياته ليكون وصي نفسه كما تقدم آنفاً ..

يقدم الواجب على المستحب :

وفي حال قبول الوصية تجب على الوصي إلاّ إذا تراجع عنها في أثناء حياة الموصي أما بعد موته فلا يجوز تراجعه عنها كما أن الوصي إذا كان ابن الموصي فهناك خلاف بین العلماء فيها والمشهور عدم وجوبها على الإبن وظاهر قول البعض الوجوب وقد حملها البعض الآخر على الاستحباب (2)ويشترط في الوصي البلوغ والعقل والإسلام على وجه والحرية والعدالة حال الإيصاء من الأقارب أو المعروفين والحاكم الشرعي وصي من لا له (3)لذا وصي فهي واجبة التنفيذ على الموصى له لأداء حقوق الناس وحقوق الله تعالى ولا يبدل منها شيئاً وفي قوله تعالى : {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(4) أي بدل الوصية وغيرَّها . . عن علي بن فرقد صاحب السابري قال : أوصى إليَّ رجل بتركته وأمرني أن يحجّ بها عنه

ص: 419


1- نهج البلاغة : حكم 254.
2- الفقه : ج 61 كتاب الوصية ص 414 .
3- راجع اللمعة الدمشقية : ج 5 كتاب الوصايا
4- سورة البقرة ؛ الآية : 181

فنظرت في ذلك فإذا شيء يسير لا يكون للحج سألت أبا حنيفة وغيره فقالوا تصدّق، فلمّا حججت لقيت عبد الله بن الحسن في الطواف فقلت له ذلك ، فقال لي : هذا جعفر بن محمد في الحجر فاسأله قال فدخلت الحجر فإذا أبو عبد الله علیه السلام تحت الميزاب مقبل بوجهه على البيت يدعو. ثم التفت فرآني فقال : ما حاجتك، فقلت : جعلت فداك إني رجل من أهل الكوفة من مواليكم فقال : دع ذا عنك ما حاجتك، قال : قلت رجل مات وأوصى بتركته إلي وأمرني أن أحجّ بها عنه فنظرت في ذلك فوجدته يسيراً لا يكون للحج فسألت من قبلنا فقالوا لي : تصدّق به فقال لي : ما صنعت؟ فقلت : تصدقت به قال : ضمنت الاّ أن لا يكون يبلغ أن يحج به من مكة فإن كان يبلغ أن يحج به من مكة فأنت ضامن وإن لم يكن يبلغ ذلك فليس عليك ضمان (1) .

الوصية بين النبوة والإمامة:

هناك وصية أُخرى في الإسلام تعد من مقومات الإيمان والعقيدة وهي غير الوصية المعهودة التي تقدم الكلام عنها فقد أوصى الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلّم إلى أمير المؤمنين عليه السلام باستخلافه فنصبه مضافاً إلى إنجاز وعده وقضاء دينه فجمع صلّی الله علیه وآله وسلّم له علیه السلام بين الوصية الفقهية والوصية بالمقام ومن بعد أمير المؤمنين علیه السلام ولداه الحسن والحسين علیهما السلام ومن بعدهما أولاد الحسين علیهم السلام إلى القائم المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) ولنا في ذلك أدلة عقلية ونقلية يحتاج استقصاؤها إلى مجلدات عديدة. وقد ألف علماؤنا الأعاظم المتقدمون منهم والمتأخرون (رضوان الله تعالى عليهم) في ذلك كُتباً مبسوطة ومختصرة مشتملة على الأدلة العقلية والنقلية وأنهى ذلك بعض علمائنا إلى الفي دليل ألف من العقل وألف من النقل (2) . ونكتفي هنا

ص: 420


1- البحار : ج 100 ص208باب 2 حدیث 31 .
2- كتاب الألفين.

بذكر آية شريفة وبعض الأخبار قال تعالى : {شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه إن الله يهدي إليه من ينيب} (1). وفي معنى الآية جاء عن عبد الرّحمن بن أبي نجران قال : كتب أبو الحسن الرضا عليه السلام وسأله أقرءنيها قال علي بن الحسين علیهم السلام إن محمداً صلّی الله علیه وآله وسلم كان أمين الله في أرضه، فلما قبض محمد صلّی الله علیه وآله وسلّم كنا أهل البيت ورثته فنحن أمناء الله في أرضه إلى قوله : ونحن الذين شرع الله لنا دينه، فقال في كتابه : {شرع لكم} يا آل محمد{ من الدين ما وصى به نوحاً} قد وصينا بما وصى به نوحاً {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } يا محمد {وما وصينا به إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى} فقد علمنا وبلغنا ما علمنا واستودعنا علمهم ونحن ورثة الأنبياء ونحن ورثة أولي العزم من الرسل {أن أقيموا الدين }يا آل محمد {ولا تتفرقوا فيه} وكونوا على جماعة {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ } من أشرك بولاية علي علیه السلام { مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} من ولاية علي {إن الله} يا محمد {َيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} من يجيبك إلى ولاية علي عليه السلام(2) . . وقد وردت أحاديث كثيرة جداً في مصادرنا عن الوصية بل هي متواترة معنى حتى عند العامة، منها ما رواه العلامة الحلي (ره) في نهج الحق عن مسند ابن حنبل عن سلمان (ره) أنه قال يا رسول الله ومن وصيك قال يا سلمان من كان وصي أخي موسى قال يوشع بن نون قال فإن وصيي ووارثي يقضي ديني وينجز موعدي علي بن أبي طالب (3).

وما رواه العلامة الحلي (ره) أيضاً عن كتاب ابن المغازلي الشافعي بإسناده عن رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلّم أنه قال : «لكل نبي وصي ووارث وإن وصيي ووارثي علي بن أبي طالب (4).

ص: 421


1- سورة الشورى ؛ الآية : 13 .
2- تفسير نور الثقلين : ج 4 ص 562 حديث 32 .
3- نهج الحق وكشف الصدق ص 214 ط الأولى إيران .
4- نهج الحق وكشف الصدق ص 214 ط الأولى إيران .

ومن الواضح أن تنصيب الإمام أمير المؤمنين علیه السلام وصياً لرسول الله صلّی الله علیه وآله وسلّم من قبل الله تعالى كان من الواجبات العقلية حسب مقتضى اللطف الإلهي بالعباد كما قرره علماؤنا الأعلام في الكتب الكلامية بما لا مجال لشرحه هنا، كما أنه كان من الواجبات على الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم من باب اللطف أيضاً امتثالاً لأمر الله تعالى الوارد في قوله تعالى :

{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }(1) حيث جعل كل خدمات رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلّم وتبليغه وإرشاده الناس في كفّة وتنصيب الخليفة والإمام وإظهار الولاية والخلافة في كفّة . ..

روى العياشي في تفسيره . . عن ابن عباس وجابر بن عبد الله قالا :

أمر الله محمداً صلّی الله علیه وآله وسلم أن ينصب عليا علیهم السلام للناس فيخبرهم بولايته . . فقام بولايته يوم غدير خم . . والمعنى إن تركت تبليغ ما أنزل إليك وكتمته كنت كأنك لم تبلغ شيئاً من رسالات ربّك (2) . .

ولذا فإن ولاية مولانا أمير المؤمنين علیهم السلام وقبول وصايته والعمل بمقتضاها من التولي والتبري وهو من أهم الواجبات عقلاً وشرعاً على الناس وإذا لم يقبلوا بذلك صاروا من العاصين الذين لم يقبلوا بتمام الإسلام ولم يعملوا بمقتضى الإيمان الكامل .

روي عن سلمان الفارسيّ رضي الله عنه قال : كنّا عند رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلّم إذ جاء أعرابيّ من بني عامر فوقف وسلّم فقال : يا رسول الله جاء منك رسول يدعونا إلى الإسلام فأسلمنا ، ثمّ إلى الصَّلاة والصيام والجهاد فرأيناه حسناً ثمّ نهيتنا عن الزنا والسرقة والغيبة والمنكر فانتهينا فقال لنا رسولك : علينا أن نحبّ صهرك عليّ بن أبي طالب علیهم السلام ، فما السر في ذلك وما نراه عبادة !

ص: 422


1- سورة المائدة ؛ الآية : 67 .
2- مجمع البيان : المجلد الثاني ص223.

قال رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلّم : لخمس خصال : أوّلها أنّي كنت يوم بدر جالساً بعد أن غزونا إذ هبط جبرائيل علیهم السلام وقال : إنّ الله يقرئك السَّلام ويقول : باهيت اليوم بعلي ملائكتي وهو يجول بين الصفوف ويقول : الله أكبر، والملائكة تكبّر معه وعزّتي وجلالي لا ألهم حبّه إلا حبّه إلا من أُحبّه، ولا ألهم بغضه إلاّ من أبغضه .

والثانية : أنّي كنت يوم أحد جالساً وقد فرغنا من جهاز عمّي حمزة إذ أتاني جبرائیل علیهم السلام وقال : يا محمد إنّ الله يقول : فرضت الصَّلاة ووضعتها عن المريض، وفرضت الصوم ووضعته المريض والمسافر، وفرضت الحجّ ووضعته عن المقلّ المدقع (1)، وفرضت الزكاة ووضعتها عمّن لا يملك النّصاب، وجعلت حبّ عليّ بن أبي طالب ليس فيه رخصة .

الثالثة أنّه ما أنزل الله كتاباً ولا خلق خَلْقاً إلاّ جعل له سيّداً، فالقرآن سيّد الكتب المنزلة، وجبرائيل سيّد الملائكة - أو قال : إسرافيل - وأنا سيّد الأنبياء وعلي سيّد الأوصياء ولكلّ أمر سيِّد، وحبّي وحبّ علي سيّد ما تقرّب به المتقرّبون من طاعة ربّهم .

الرابعة أنّ الله تعالى ألقى في روعي أنّ حبّه شجرة طوبى الّتي غرسها الله تعالی بیده .

الخامسة أنّ جبرائيل علیهم السلام قال : إذا كان يوم القيامة نصب لك منبر عن يمين العرش والنبيّون كلّهم عن يسار العرش وبين يديه، ونصب العليّ عليه السلام كرسيّ إلى جانبك إكراماً له فمن هذه خصائصه يجب عليكم أن تحبّوه، فقال الأعرابي : سمعاً وطاعة(2) .

ص: 423


1- المقل : الفقير المدقع : الملصق بالتراب والذليل والهارب والمهزول ولعل المراد هنا المعنى الرابع وهو المريض .
2- البحار : ج 27 ص 128 ح 119 .

ص: 424

22- الأَنانِيَةُفي اَبعادٍهَا الدينية والاجتماعيَة

اشارة

ص: 425

ص: 426

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) لعلي (علیه السلام) :

«يا علي ما كرهته لنفسك فاكرهه لغيرك وما أحببته لنفسك فأحببه لأخيك» (1)

الأخلاق الفاضلة معراج الإنسان:

الصفات الأخلاقية الحميدة تسكن في قلب كل إنسان طلبها، وجاهد شهواته وميوله ورغباته حتى تصير ملكات في نفسه يتصف بها وتظهر آثارها على السلوك الإنساني. .

وهي تعرف من خلال آثارها الحسنة والله عزّ وجلّ جعل في الإنسان قوة لقبول تلك الصفات واستعدادات لطلبها والتحلي بها، وطرقاً للحصول عليها لأن الإنسان إنما تظهر حقيقته الواقعية الإنسانية بهذه الصفات لأنها الفارق والشاخص بين الإنسان العالم والجاهل، وبين الإنسان في مراحل کماله العليا والإنسان المتسافل الذي لا يبرح عن الإلتصاق بالأرض، والأخلاق الفاضلة تجعل الإنسان يعرج ويتسامى ويرتفع مع الروح فيعيش الآفاق الرحبة لذلك نرى الإنسان الخلوق لديه سعة في صدره بحيث يستوعب الناس بأخلاقه .

ص: 427


1- كلمة الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلّم :ص167.

لأنه يرى حقيقته الإنسانية في أصل وجودها فقيرة من كل جهاتها فلا يبقى مجال لأن يترك الناس ويبتعد عنهم أو يتكبر عليهم بل إنه يحتك بهم لأجل التكامل لاسيما مع العلماء والمفكرين وأهل الخير والصلاح. .ومن جهة أخرى يرى في داخله اندفاعاً ذاتياً من قبل الملكات الصالحة تدفعه إلى فعل الخير للآخرين وإيصال برّه إلى بقية الناس.

ومن الواضح أنه كلما انتشرت هذه الصفات بين أفراد المجتمع امتاز ذلك المجتمع بأمرين :

1 - ارتباطه الوثيق بالله عزّ وجلّ لأن الله هو المثل الأعلى للمجتمعات المتدينة، ووجود مقدس كامل خالٍ من كل عيب ونقص يتصف بصفات غير متناهية من قبيل الرحمة والرأفة والرازقية . . فيعمل الإنسان جاهداً من أجل أن يتحلّى بهذه الصفات الحميدة بالقدر المستطاع ومهما سعى الإنسان في هذا الطريق إلاّ أن صفاته ستكون متناهية بالنتيجة .

ومن أجل ذلك كان الإنسان في حركة دائمة نحو مثله الأعلى يسأله الفيض والكمال والتوفيق والنجاة . .

قال تعالى :{وله المثل الأعلى في السموات والأرض}(1).

2 - خلو المجتمع - في الجملة - من مظاهر الرذيلة والفساد والانحراف والأمراض النفسية من قبيل الكبر والحرص والظلم ، لأنه عندما تشاع الصفات الحميدة في نفوس الأفراد ينعكس أثر ذلك على سلوكهم العام في علاقاتهم وتعاملهم مع الحياة .

ومن أجل ذلك كانت الأخلاق من المبادىء الرئيسية في الإسلام فنراه صلّی الله علیه وآله وسلّم يفتتح رسالته الشريفة بقوله : «بُعٍثت لأُتمَّم مكارم الأخلاق» (2).

ص: 428


1- سورة الروم ؛ الآية : 27 .
2- تحف العقول: ص 8.

لأن في تمامية مكارم الأخلاق استقامة الإنسان وفي استقامته نجاته وهذا هو هدف الدين في مختلف الحقب الزمانية . .

فكان الأنبياء علیه السلام يجسدون الصفات عملياً في سلوكهم وعملهم اليومي لكي يعلّموا الإنسان الأخلاق. ولا شك أن أبرزهم وأفضلهم هو رسولنا العظيم صلّی الله علیه وآله وسلّم حتى أطلقت عليه الناس قبل البعثة لقب( الصادق الأمين) . ووصف خلقه القرآن الكريم بالعظمة بقوله عزّ وجلّ : {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ }(1).

صورتان متقابلتان :

إنّ لبعض الناس نفوساً منشرحة منفتحة في تفكيرها وفي إحساسها تعبر حدودها لتصل إلى الآخرين وتعيش آلامهم ومعاناتهم وأفراحهم .

فهؤلاء الأشخاص قد خرجوا من تقوقع الذات وانطوائها على نفسها إلى الفضاء الاجتماعي الرحب ليكونوا معيناً للناس وقد أكد أهل البيت (عليهم الصَّلاة والسَّلام) هذا المعنى وغرسوه في النفوس كثيراً فقالوا : «خير الناس من انتفع به الناس» (2). و «من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم . . . »(3)كذلك الروايات التي تشيد بمحبة الناس ومواساتهم وإيثارهم أو تشيد بدفع الصدقة وإقراض المؤمن أو الإنفاق أو مطلق العمل الصالح الذي ينتفع منه منه الآخرون . كل ذلك دلالة على الدعوة للعيش بآفاق واسعة تشمل الآخرين وقد جعل الإسلام طرقاً لذلك أبرزها مثلاً صلاة الجماعة والحج وعيادة المريض وتشييع الجنازة وغيرها . . وكلها تدعو الإنسان لأن يتصل بالناس فيتفاعل معهم

ص: 429


1- سورة القلم ؛ الآية : 4 .
2- نهج الفصاحة : ص315.
3- الكافي : ج 2 ص 164 حديث 5 ط بيروت.

فينفعهم أو ينفعونه.

وهناك نوع آخر من الناس وهم الذين لا يعيشون إلاّ في آفاقهم الذاتية ولا يفكرون إلاّ في نفوسهم ومصالحهم، أي أنه لا يخرج في تفكيره وسلوكه عن حدود ذاته ومنافعه بل يتمحور دائماً حول ذاته فلا هو ينفع الناس ولا الناس ينفعونه لأنه لا يحتك بهم ولا يعلمون ما يريده فيقدمونه له، وإلى ذلك دعى الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلّم في وصيته لمولانا أمير المؤمنين علیهم السلام تعليماً لنا لأن نتفتح وأن نشرح صدورنا لكي نعيش مع الآخرين آلامهم وأفراحهم «ما كرهته لنفسك فاكرهه لغيرك»(1) وقال الإمام أمير المؤمنين علیه السلام :

«أنصف الناس من نفسك وأهلك وخاصتك ومن لک فیه هوى واعدل في العدو والصديق »(2) وقال علیه السلام أيضاً : «الإنصاف من النفس كالعدل في الإمرة» (3) .

حب الذات غريزة نفسية:

توجد في أعماق كل إنسان مجموعة من الدوافع والغرائز الفطرية تنشأ مع تكونه وتبرز وتظهر آثارها كلما ترعرع وتفاعل الإنسان مع بيئته . . .والغريزة لغوياً اسم مشتق من غرز ومثاله : غرز الشجرة في الأرض أو غرز المسمار في الباب. وأما اصطلاحا فهي القوة الكامنة في الكائن الحي تدفعه إلى أنواع مختلفة من السلوك بل هي المحرك الأول لكل سلوك باتفاق جميع علماء النفس (4)

إذن هي القوة الراسخة في النفس والمتلاحمة معها بقوة بحيث لا يمكن

ص: 430


1- كلمة الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلّم :ص76.
2- تصنيف غرر الحكم : ص 394 ط الأولى
3- تصنيف غرر الحكم : ص 394 ط الأولى.
4- مبادىء علم النفس : ص 119 .

أن نتصور إنساناً بدون غرائز .ومثالها غريزة الطعام والجنس والنوم وحب الاستطلاع وغريزة حب الذات التي هي مدار البحث .

إنّ حب الذات غريزة متجذرة في نفس الإنسان لا يمكن إنكارها أو التنكر لها وهي كباقي الغرائز الفطرية تعبر عن حاجات معينة للإنسان وتقوم بدور إيجابي في حياته فالباري عزّ وجلّ خلق كل غريزة وقوة في الإنسان لهدف معين تؤديه .. لكننا كثيراً ما نلاحظ انحرافات في مسار الإنسان ليس منشأها الغرائز بل الإرادة التي تحدد مسار الغرائز والعقل الذي لديه قدرة على التحكم بها .

فقد يستخدم الإنسان هذه القدرة ويسخرها لإشباع رغباته عن طريق هذه الغريزة بشكل سيّىء مما يضر بنفسه ومجتمعه، فيستعمر الآخرين ويستثمر جهودهم ويعتدي على ممتلكاتهم وحقوقهم. فإطلاق العنان لهذه الغريزة في غاية الخطورة لما يترتب عليه من إفرازات سلبية تفتك بالمرء ومجتمعه ومن أبرز مظاهرها الأنانية التي تصيب الإنسان نتيجة إطلاق العنان لغريزة حب الذات ..

أو نستطيع أن نسميه عبادة الهوى والذات الذي يسبب الكثير من الأمراض السيئة كالتعصب والتكبر والرياء والغرور . .ولهذا المرض درجات أو مراتب قد تتفاوت في الشدّة والضعف من شخص إلى آخر وهنا تكمن أهمية معالجة هذا المرض الخطير على الإنسان وعلى المجتمع .

مثل سام في الإيثار:

يحكى أنّ رجلاً يضرب به المثل في الجود والكرم والإيثار وهو «كعب بن مامة بن عمر بن ثعلبة الأيادي» خرج مع قافلة تريد إحدى المدن البعيدة عن بلدهم وكان ذلك في حر الصيف فضلوا الطريق فلقيهم في أثناء الطريق رجل من بني النمر بن قاسط فصحبهم، فشحّ ماؤهم فكانوا يقتسمون الماء بينهم بحصص معينة وذلك أن يطرح في القدح حصاة ثم يصب فيه من

ص: 431

الماء بقدر ما يغمر الحصاة فيشرب كل واحد منهم قدر ما يشرب الآخر .

ولما نزلوا للشرب ودار القدح بينهم حتى انتهى إلى كعب، رأى أن الذي صحبهم أثناء الطريق قد أخذ يُحد النظر إليه، فآثره على نفسه وقال للساقي : اسقِ أخاك النمري . فشرب نصيب كعب من الماء ذلك اليوم ثم نزلوا من الغد منزلهم الآخر فاقتسموا ماءهم كما فعلوا بالمرات الأولى، فنظر إليه النمري كنظرة أمس، وقال كعب كقوله بالأمس إسق أخاك النمري، ثم ارتحل القوم وأما كعب فقد وقع إلى الأرض من شدة العطش والضعف، فالتفت إليه أقرانه وقالوا : يا كعب ارتحل فلم يكن له قوة للنهوض، وكانوا قد قربوا من الماء فقالوا له : رِدْ يا كعبُ، إنك وارد، فعجز عن الجواب. ولما أيسوا منه خيَّموا عليه بثوب يمنعه من السبع أن يأكله وتركوه مكانه وذهبوا إلى الماء وشربوا وارتووا ثم أخذوا الماء إلى كعب فلما وصلوا إليه وجدوه ميتا (1) .

وهكذا ضرب بفعله هذا المثل الأعلى للإيثار على النفس وحب الغير كحبه لنفسه وأكثر كمالاً للإيمان الذي ينبغي أن يكون عليه المؤمن بالنسبة للآخرين من المؤمنين . .

مراتب الأنانية:

للأنانية ثلاث مراتب :

المرتبة الأولى : التمحور حول الذات .

إنّ التمحور حول الذات يعني أمرين الأول أن ينهمك الإنسان في تحصيل لذّاته فحسب فيسخّر كل طاقاته وإمكاناته لأجل ذلك ويرفض أن يعطي ولو جزءاً بسيطاً من هذه الطاقات والإمكانات لخدمة الآخرين من أبناء

ص: 432


1- قصص العرب : ص 155 نقلاً عن بلوغ الأرب ج 1 ص 81 .

المجتمع، فيعيش في دائرة مغلقة (دائرة الأنا) يعمل ليعيش ويعيش ليعمل فقط فيصدق عليه قول أمير المؤمنين علیه السلام :

«كالبهيمة المربوطة همها علفها أو المرسلة شغلها تقممها تكترش من أعلافها وتلهو عما يراد بها» (1) .والثاني : تحول ذات الإنسان الأنانية إلى قيمة عليا يقيس بها كل شيء وينظر من خلالها إلى كل شيء على خلاف الإنسان السوي حينما تعرض عليه فكرة يعرضها على العقل والمبدأ لاكتشاف صحتها أو خطئها .

أما الإنسان الأناني فإنّه يخضع الأفكار والرؤى التي تعرض عليه إلى مقاييس المصلحة الشخصية والربح والخسارة وهو مستعد لأن يدوس كل القيم تحت قدميه إذا تعارضت مع مصالحه الشخصية .

والأمر الخطير في تقديس الذات هو تحول الذات إلى إله يعبد كما في الآية الكريمة {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} (2) .أو ما جاء في قول الشاعر :

جربت ألف عبادة وعبادة***فرأيت أفضلها عبادة ذاتي

فهكذا تصبح الشهوات والهوى إلهاً مقدساً لديه مفترض الطاعة فالحق ما وافق هواه والباطل ما ،خالفه ويعزو الله سبحانه وتعالى سبب مخالفة الكثير من المشركين للأنبياء ورفضهم للرسالات الإلهية إلى هذا المرض كما في قوله تعالى :

{ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ }(3) .

ص: 433


1- نهج البلاغة : كتاب 45 ص 418 الصالح .
2- سورة الفرقان ؛ الآية : 43 .
3- سورة البقرة ؛ الآية : 87 .

مظاهر الأنانية :

المرتبة الثانية : ظهور الأخلاق والصفات الأنانية .

إنّ الأنانية مرضٌ عضال يتفاقم ويزداد في شخصية الإنسان الأناني ويفرز صفات سلبية كما ذكرنا آنفاً ومن أهم هذه الصفات :

1 - التعصب : فالإنسان الأناني الذي يتمحور حول ذاته يصاب تلقائياً بمرض التعصب للرأي أو الجماعة مهما كان هذا الرأي خاطئاً أو كانت جماعته تسير على الخطأ وهذا ما نلمسه في أفراد يعيشون في مجتمعنا لا يتنازلون عن آرائهم الخاطئة ويعتبرونها هي الصحيحة والمفيدة وما عداها باطلاً . .

وهؤلاء الأشخاص ينطبق عليهم المثل العربي القائل «عنزة ولو طارت »وهو مثل يطلق على الإنسان المتعصب وقصة هذا المثل هو أنّ اثنين من الأعراب كانا يمشيان في الصحراء فبدا لهما جسم أسود على مسافة بعيدة عنهما فقال أحدهما : هذا طائر كبير، وقال الثاني : لا إنه عنز، فانتظرا لكي يقترب الجسم ويعرفا حقيقته وبعد لحظات اقترب منهما قليلاً ثم بدأ يطير في الهواء بجناحيه، فالتفت الأول وقال : ألم أقل لك إنّه طير كبير، فقال صاحبه مصراً إنه عنز، فقال له : ألا تراه يطير في الجو بجناحيه فقال : أبداً والله «عنزة ولو طارت ».

وهذه الحالة تؤدي إلى الشرك أحياناً حيث يقول الإمام الصادق علیه السلام عندما سئل عن أدنى ما يكون الإنسان به مشركاً، قال :

«من ابتدع رأياً فأحبّ عليه أو أبغض عليه» (1).

وتوجب دخول النار كما في قول الإمام الصَّادق علیه السلام أيضاً :

ص: 434


1- الكافي : ج 2 ص 397 حدیث 2 ط 3 .

«من تعصب عصّبه الله بعصابة من نار» (1).

والعصبية بهذه الصورة هي صفة من صفات الجاهلية المعروفة وذلك بنصّ القرآن الحكيم الذي عبّر عنها ب- «الحمية» وذلك في قوله تعالى :{اذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ } (2).

وهي صفة مرفوضة في الإسلام بل عمل على رفعها من نفوس الناس وجعل محلها المقياس الصحيح لهذه الحالة بأن يتعصب المرء لمكارم الأخلاق والصفات الحميدة ومحاسن الأمور فقد قال الإمام أمير المؤمنين علیه السلام في خطبته المعروفة بالقاصعة :

«... فليكن تعصبكم لمكارم الخصال ومحامد الأفعال، ومحاسن الأمور، التي تفاعلت فيها المجداء والنجداء . .» (3).

ويجعل الإيمان والتقوى أساساً في نفسه وقد جاء في خطبة الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلِّم فتح مكة :

«. . إنّ الله تبارك وتعالى قد أذهب عنكم بالإسلام نخوة الجاهلية، ألا وإنّ خيركم عند الله وأكرمكم عليه اليوم أتقاكم وأطوعكم له»(4).

2 - التكبر : ومعناه رؤية الإنسان نفسه أفضل وأعلى من الآخرين بسبب النظرة التي ينظرها الأناني لنفسه وصفة التكبر من الصفات المذمومة بشدّة في القرآن الكريم يقول عزّ وجل :

{ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ}(5) وقوله عزّ وجلّ :

ص: 435


1- البحار : ج 70 باب 133 ص 291 حدیث 18 ط بیروت.
2- سورة الفتح ؛ الآية : 26 .
3- نهج البلاغة : خطبة 192 ص 295 الصالح .
4- البحار : ج 70 باب 133 ص 293 حديث 24 ط بیروت .
5- سورة الزمر ؛ الآية : 60 .

{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} (1).

ويقول الإمام أمير المؤمنين علیه السلام حول هذه الصفة المذمومة :

«إياك والكبر فإنه أعظم الذنوب وألأم العيوب وهو حلية إبليس» (2)

ويقول الإمام الباقر علیهم السلام : «ما دخل قلب امرىء شيء من الكبر إلاّ نقص من عقله مثل ما دخله من ذلك، قلّ ذلك أو كثر » (3).

وصفة التكبر هي ذاتها التي كانت السبب في إخراج إبليس من الجنّة بقوله :

{اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا } (4) وفي آية أخرى : { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}(5)وإبليس كان عالماً لكنّه سقط في المعصية في لحظة تكبّر حيث ورد في الحديث الشريف عن رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلّم:

«لن يدخل الجنّة عبد في قلبه مثقال حبّة من خردل من كبر»(6).

وهناك صفتان أخريان أيضاً هما الرياء والغرور، ناشئتان من الأنانية وحب الذات لا مجال لتفصيلهما . . .

العمل ضد الآخرين:

المرتبة الثالثة : معاداة الآخرين والعمل ضدّهم .

إنّ مرض الأنانية في مراحله الأولى يكون الشخص الأناني فيها مهتماً بمصالحه فقط ولا يهتم بمصالح المجتمع، ومن ثم يبدأ ظهور الصفات

ص: 436


1- سورة الأعراف ؛ الآية : 146 .
2- تصنيف غرر الحكم : ص 309 ط الأولى .
3- البحار : ج 75 باب 22 ص 186 حديث 16 ط بیروت.
4- سورة الإسراء ؛ الآية : 61 .
5- سورة الأعراف ؛ الآية : 12 .
6- البحار : ج 70 باب 130 ص 234 حديث 37 ط بیروت .

الأنانية كالتعصب والتكبر وحب الظهور والغرور ومن ثمّ ينتقل من هذا النطاق الضيق إلى نطاق أوسع منه فيتصور أنّ الآخرين هم السبب في منعه من الوصول إلى ملذاته وسعادته .. ويرى إشباع رغباته وبروزه لا يكون إلاّ عن طريق سحق الآخرين ويبني لنفسه وجوداً قائماً على أنقاض الآخرين فيبدأ المسير في الحياة كالبلدوزر تجرف وتسحق كل من يقف في طريقها وذلك بتضخيم سلبيات الآخرين الذين هم أعلى منه مقدرة وعلماً ومنزلة ويعتبر هذه السلبية أو تلك نقصاً وضعفاً في شخصية المقابل ويبرز هو كشخص عظيم وذا مكانة في المجتمع يفتش عن سلبيات الآخرين الأقدر منه عملاً وتفكراً ويكون من الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا كما في قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (1).

ولا يلتفت إلى عيوبه حيث يقول رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلّم:

«لا تتبعوا عورات المؤمنين فإنه من تتبع عورات المؤمنين تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في جوف بيته»(2).

فلا يجني من فعله هذا سوى التعب والفشل بل أكثر من ذلك الفضيحة بين الناس التي وعده الله بها . .

ويحسد الآخرين ويتمنى زوال النعم عنهم وسقوطهم من مكانتهم الرفيعة حيث يقول أمير المؤمنين علیه السلام :

«الحاسد لا يشفيه إلاّ زوال النعمة» (3).

وهذا النوع من الأمراض يؤثر في نفس حامله أكثر مما يؤثر في المقابل حيث يقول الإمام الصادق علیه السلام :

ص: 437


1- سورة النور ؛ الآية : 19 .
2- البحار : ج 72 باب 65 ص214 حدیث 10 ط بیروت.
3- تصنيف غرر الحكم : ص 301 ط الأولى .

«إنّ الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب»(1) (1).

ومن الواضح أنّ هذا المرض غير حالة الغبطة وهي تمني ما هو موجود عند الغير دون تمني زوالها عنه فهي مباحة ومحمودة في الشريعة الإسلامية لما لها من آثار إيجابية على الإنسان والمجتمع . .

وقفة مع أناني حسود:

ينقل التأريخ أن الحجاج استدعى رجلين أحدهما أناني حسود والآخر بخيل وقال لهما :

ليطلب كل منكما طلبه فإني أعطيه ما طلب واعطي صاحبه ضعف طلبته فلو أنّ أحدكم طلب (1000) دينار أعطي صاحبه (2000) دينار فليبدأ أحدكما بالطلب فدبّ التردد في نفسيهما إلى أن تقدم الأناني وقال : أطلب أن تفقأ عيني اليسرى، فقال الحجاج لماذا ؟ فردّ الأناني الحسود لكي تعطي صاحبي ضعف ما تعطيني فتفقاً عينيه .

فقال الحجاج : ما رأيت طلبة إلاّ هذه الطلبة، لماذا لم تطلب مالاً أو منصباً حتى تستفيد منه فقال الأناني : والله أن تفقأ عيني أهون عليَّ من أن أرى صاحبي يأخذ ضعفين وأنا آخذ نصف ما أخذ .

والأناني في هذه المرتبة يضع العراقيل في طريق الآخرين ليمنع تقدمهم بعد أن يفشل في تضخيم السلبيات للنيل منهم، وهذا ما له صور وأشكال متعددة . .

يقول رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم في هذا الخصوص :

ما عهد إلي جبرائيل علیه السلام في شيء ما عهد إليّ في معاداة الرجال»(2) .

ص: 438


1- الكافي : ج 2 ص 306 باب الحسد حدیث 2 .
2- الكافي : ج 2 ص 302 حدیث 11 ط 3 .

وتزداد هذه الحالة خطورة حينما تنتشر في أوساط ينبغي لها أن تثبت حكم الإسلام حيث إنّ الأناني يريد أن يحتكر العمل فقط له ولا نصيب للآخرين لذلك يدخل معهم في صراعات من شأنها إضعاف جبهتهم أمام جبهة الباطل . .

الأنانية في منظار الدين:

إن حالة الأنانية لها مساوىء تعود على نفس حاملها وعلى المجتمع الذي يعيش فيه حيث إن الأنانيين لا يفكرون إلاّ في أنفسهم ويتناسون الآخرين والهدف الذي خلقوا لأجله في هذه الدنيا، فهم يظلمون أنفسهم ويظلمون مجتمعهم بتعديهم على حقوق الآخرين والتشهير بهم .. كذلك يعرقلون سير المجتمع بآرائهم الفاسدة التي تكون مبنية على أساس المصالح مما يؤدي إلى إحداث ثغرات فيه وهذا ظلم لأفراد المجتمع . .

كما تقتصر نظرتهم هذه على الحياة الفانية وينسون الحياة الخالدة التي تنتظرهم وما قدموا من عمل في هذه الدنيا .. فإنّ النظرة إلى العيش في هذه الدنيا فقط تجعل الإنسان يعمل ويخزن الأموال دون أن يفكر في إعطاء الحقوق الشرعية التي فرضت على بني البشر من خمس وزكاة . . وهذه بدورها لها تأثير كبير على المجتمع الإسلامي وقوته ...

كذلك تجعله يتخلّى عن الجانب الآخر من حياته وهي الحياة المعنوية التي هي جزء من كيانه إذا ما فقده يفقد إنسانيته ويصبح كسائر المخلوقات الحيوانية .

من هنا جاءت الآيات والروايات لتصب في مجرى واحد هو التجرد عن حبّ الذات (الأنانية) من خلال التفكر في الحياة الآخرة والعمل لها ويستنكر عليهم القرآن الحكيم ذلك بقوله :{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا

ص: 439

وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ } (1)ويطلب منه أن يستخدم مفهوم حب الذات مفهوماً شاملاً يسير به نحو التقدم والتخلص من الأخطار والمشاكل والتوازن بين الحياتين وهذا مصداقه الدعاء الوارد في القرآن الحكيم :

{ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (2) ويحث على التضحية والعطاء وخدمة الآخرين والجهاد والإيثار برفضه التقاعس عن الجهاد بقوله تعالى : {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ}(3)فالإنسان لا يستطيع أن يدخل في أعماق النفس الإنسانية ويعرف احتياجها .

لذلك لا بد له له أن يتبع القوانين التي تكون مقياس أفعاله وتصرفاته ، وميزاناً توزن به الأمور وقد أرشدتنا الروايات الواردة عن أهل البيت علیه السلام حيث جاء في كلام لأمير المؤمنين علیه السلام لابنه الحسن علیه السلام :

«يا بني إجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تُحبُّ لنفسك واكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تُحب أن تُظلم، وأحسن كما تُحبُ أن يُحسن إليك واستقبح من نفسك ما تستقبحُ من غيرك وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك (4).

ويعني ذلك أن يعرض الإنسان العمل على نفسه ويرى هل يرتضي أن يكون هو الشخص الذي يقع عليه ذلك العمل .. مثلاً أنت لا تحب أن يغتابك الناس فهذا يجعلك لا تغتاب الناس وتحبّ أن لا تهان فلا تهين الناس . .

وقد روي أن شاباً جاء إلى رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم فقال : إنّي أحبّ الزنا،

ص: 440


1- سورة المؤمنون ؛ الآية : 115 .
2- سورة البقرة ؛ الآية : 201
3- سورة التوبة ؛ الآية : 39 .
4- نهج البلاغة : وصية 31 ص 397 الصالح 397 .

فقال له الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلم : أتحبّ أن يفعل ذلك بأمّك، قال الشاب : لا ، قال صلّی الله علیه وآله وسلم : أتحب أن يفعل بأختك ، قال : لا ، فقال صلّی الله علیه وآله وسلم : إذا لا تزن . . فخرج الشاب وليس شيء أبغض عنده من الزنا . .

مع أنه دخل ولم يكن شيء أحبّ إليه من الزنا. وهكذا إذا قاس الإنسان كل عمل على نفسه وجعلها ميزاناً فسوف لا يفعل الأعمال القبيحة وينفتح على المجتمع بتجرده عن التمحور حول ذاته واقتلاع هذا المرض من داخل النفس الإنسانية وهذا بداية لتغيير ما بداخل النفس وبذلك يتغير الفرد والمجتمع، قال تعالى :

{ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ }(1)

إنّ أهل البيت علیهم السلام وتعاملهم مع الحياة خير نموذج لنا فنحن نقرأ في القصص التي وردت عنهم من الإيثار والتجرد عن الذات الشيء الكثير، وهذا القرآن يحدثنا في سورة الدهر (الإنسان) التي وردت في حق إيثارهم :

{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا }(2) وقصّة هذه الآيات الكريمة تحكي إيثارهم الغير على الذات بأعلى مرتبة وأفضل صورة وكما نقلنا مراراً معناها وسبب نزول الآية الشريفة . .

الجمع بين الحاجة المادية والمعنوية:

إنّ الصفات المحمودة ما هي إلاّ ملكات تترسخ في نفس حاملها بالممارسة والمداومة عليها لينفتح بها على مجتمعه ناشراً فيه الفضيلة ومساهماً في بنائه إلى أن يصل به إلى الرقي بتخلصه من حالة الأنانية النابعة من التمحور حول الذات، فالإنسان لا بدّ له من أن يحب ذاته ليجلب لها

ص: 441


1- سورة الرعد ؛ الآية : 11 .
2- سورة الإنسان ؛ الآيات : 7 - 9 .

المنافع والسعادة وهذا أمر طبيعي والإسلام لا يريده أن يضرّ بنفسه أو يبغض ذاته بل إنّ تعاليمه تحذّره من تعريض نفسه للهلاك وذلك في قوله تعالى :

{ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ }(1).

وتحمله مسؤولية الدفاع عن ذاته والإهتمام بها قبل كل شيء {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (2)

لكنّ هذا يكون وفق ضوابط ولا يكون عشوائياً فلو كان عشوائياً فإنّه يعزّز حالة الأنانية المرضية وعبادة الذات التي تنطوي على مساوىء كبيرة قد بيّناها في طيّات البحث وهذا يعني اهتمام الإنسان بجانب واحد فقط وهو المادي والغفلة عن الجانب المعنوي حيث هذان الجانبان داخلان في تكوين الإنسان . . وفقد الجانب المعنوي منهما يؤدي إلى تجرد الإنسان من إنسانيته ويصبح كالبهيمة بتعبير أمير المؤمنين علیه السلام في خطبته القاصعة «همّها علفها» وهنا لا بد من الرجوع إلى الضوابط وهي حالة التوازن بين الجانبين وهو معنى الدعاء الوارد في القرآن الحكيم الآنف الذكر .

{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً }(3)وهي إشارة إلى حالة الجمع بين الحاجة المادية والمعنوية . .

فالإنسان الأناني يتوهم خطاً أنه يستطيع أن يكون له جو خاص وينشغل في جلب الملذات لذاته، بينما هو يعيش كجزء من مجتمع يتأثر به ويؤثر فيه ويتأثر برأيه العام السائد فيه فمثلاً من الناحية الدينية والأخلاقية لو فكر الفرد أن يصلح ذاته فقط ديناً وأخلاقاً ولا شأن له بالآخرين فهل يسلم من تأثيرات المجتمع إذا تفشى فيه الفساد واللاتدين؟ بالطبع كلا، فإن الفساد سوف يدخل داره ويؤثر على عياله بل عليه أيضاً، ويصل إلى حالة لا يستطيع معها ممارسة

ص: 442


1- سورة البقرة ؛ الآية : 195 .
2- سورة المائدة ؛ الآية : 105 .
3- سورة البقرة ؛ الآية : 201 .

التدين وسط مجتمعه فإنه يمنعه من ذلك وهذا أحد معاني حديث أمير المؤمنين علیه السلام في وصيته للحسن والحسين علیهما السلام :

«لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولّى عليكم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم» (1).

كما هو مضمون وصية رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلّم :

«ما كرهته لنفسك فاكرهه لغيرك وما أحببته لنفسك فأحببه لأخيك » (2) .

ص: 443


1- نهج البلاغة : كتاب 47 ص 422 الصالح .
2- تقدم مصدره .

ص: 444

23- تَجنبَبَ لُوماء النَّاسٍ

اشارة

ص: 445

ص: 446

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) لعلي (علیه السلام ) :

«يا علي: لأن أُدخل يدي في فم التنّين إلى المرفق أحبُّ إليَّ من أن أسأل من لم يكن ثم كان» (1).

مفردات لغوية :

يتضمن الحديث الشريف موضوعات عميقة سنتعرض لها بمقدار ما يتسع له البحث .

قوله صلّی الله علیه وآله وسلّم «لأن أدخل يدي» :

اليد تطلق في اللغة على عدّة معان :

منها الجارحة ،والنعمة والقوة والمِلْك، وتحقيق إضافة الفعل .

أما الجارحة : وهي اليد المحسوسة عند جميع البشر وهي من أعضاء الإنسان المهمة التي يؤدي بها أعماله ووظائفه . قال تعالى :

{أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا . . } (2)

ص: 447


1- مدينة البلاغة : ج 1 ص 424 .
2- سورة الأعراف ؛ الآية : 195

وأما النعمة : فهي كما لو قلت لفلان عندي يد أشكرها أي نعمة أشكرها وهنا قد استعيرت - أي استعمل اللفظ لغير معناه مع وجود قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي - قال تعالى :

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ . .} (1) .

ويد الله سبحانه أي نعمته لاستحالة أن يكون له يد جارحة .

وأما القوة فنحو قوله تعالى :

{ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ } (2).

أي ذوي القوى والعقول أو يُقال لفلان يد على كذا أي قوة على كذا فعل أو ما لي بكذا يد أي ما لي قوة على كذا فعل . .

وأما الملك : فكقوله تعالى :

{ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } (3).

أي يملك عقدة النكاح أو بحوزته ومثل هذه الأرض في يد فلان أي في ملکه . .

وأما إضافة الفعل : نحو قوله تعالى :

{ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (4)

أي لما تولّيت خلقه تخصيصاً لآدم وتشريفاً له بهذا وإن كانت جميع المخلوقات هو أيضاً خالقها لا غيره . .

ص: 448


1- سورة المائدة ؛ الآية : 64 .
2- سورة ص ؛ الآية : 45 .
3- سورة البقرة ؛ الآية : 237 .
4- سورة ص ؛ الآية : 75 .

وهناك معان عديدة أخرى لا مجال لذكرها (1).

والظاهر أن المراد من اليد في الحديث هي اليد الجارحة - أي المعنى الحقيقي - بقرينة قوله إلى المرفق وإن كانت القرينة تُنصَب علامة على المجاز ولكن استعمالها هنا لتخصيص اليد بالجارحة حتى تخرج عن الإطلاق الذي يحتمل فيه الوجوه المذكورة. .

وأما التنين - كسكين - فهو الحيّة العظيمة، وقيل إنه شرّ من الكوسج ، في فمه أنياب مثل أسنّة الرماح، أحمر العينين برّاق طويل كالنخلة، واسع الفم والجوف، يبلع كثيراً من الحيوانات وإذا تبيّن هذا فإن إدخال اليد في فم هذا الحيوان المفترس عملية خطيرة وفيها ألم ولكنها أحب عند الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلّم من سؤال من لم يكن ثم كان فأيّ نوع من السؤال الذي ينهى عنه الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلّم ومن أي جهة ؟

ولكي يتضح لنا الجواب بشكل أدق لا بد من بيان مقدمة :

السوال في طلب العلم

إن السؤال منه ما هو ممدوح ومنه ما هو مذموم، أما الممدوح فهو طلب العلم، قال تعالى :

{فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}(2).

والمروي في أغلب التفاسير أن أهل الذكر هم أهل البيت علیهم السلام ، فقد روي عن الإمام أمير المؤمنين والباقر علیهما السلام : «نحن أهل الذكر» (3).

ص: 449


1- للمزيد راجع مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني كلمة (يد) وتفسير مجمع البيان للطبرسي (ره) المجلد 2ص 336 المائدة.
2- سورة النحل ؛ الآية : 43 ، وسورة الأنبياء ؛ الآية : 7 .
3- مجمع البيان : المجلد 3 ص 64 الأنبياء .

ولا سيّما والآية الشريفة هنا دفعتنا للسؤال من أهله في سبيل المعرفة وواضح أن طلب العلم والمعرفة ممدوح إذا كان من مصدريه الأساسيين، القرآن الكريم وأهل البيت علیهم السلام .

وقد جاء في حديث الثقلين :

«إني قد تركت فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي وأحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض»(1) .

فتوجب على الناس أن يطلبوا العلم ويتفقهوا فيه .

وفي حديث عن الصَّادق علیه السلام يقول :

«ليت السياط على رؤوس أصحابي حتى يتفقهوا في الحلال والحرام »(2) .

وقد بلغت الأحاديث الشريفة والروايات الحاثّة على السؤال في طلب العلم حداً كبيراً إذ أفردت كُتب الحديث له باباً طويلاً كما في الكافي والبحار وغيرهما لما في العلم من الأهمية البالغة على تقدم المجتمعات وسعادتها .

ولأن العلم خزائن وأسرار لا يتمكن الإنسان من التوصل إليها واكتشافها إلاّ بالبحث والتحقيق والسؤال فلا بد إذن من السؤال والسؤال هنا فضيلة ممدوحة وسبيل إلى الرقي والكمال .

قال رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلّم:

«العلم خزائن ومفاتيحه السؤال فاسئلوا رحمكم الله فإنه يؤجر أربعة : السائل ،والمتكلم ، والمستمع، والمحبّ لهم» (3).

ص: 450


1- البحار : ج 23 ص 106 باب 7 ح 7 ط بیروت .
2- البحار : ج 1 ص 213 باب 6 ح 12 ط بیروت.
3- البحار : ج 74 ص 144 باب 7 ح 39 ط بیروت .

والإمام أمير المؤمنين علیه السلام يقول : «سلوني قبل أن تفقدوني فلأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض» (1).

وقال علیه السلام أيضاً :

«القلوب أقفال ومفاتيحها السؤال »(2).

الذل في طلب الحاجة:

هذا من جانب واما سوال المذموم فهو سوال الحاجة من غیر الخالق نعالی والتکدی من الناس.

قال تعالی { لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا }(3).

والالحاف یعني الالحال في المسالة وفي سبب نزول الایة ومهناها قال الامام الباقر علیه السلام :

انها نزلت في کل سریّه یبعثها رسول الله صلی الله علیه و آله فحث الله الناس علیهم یقوله تعالی:

{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ }(4)

وفي معنی الایة الکریمة:

«ان الله تعالی یحب ان یری اثر نعمه علی عبده ویکره البوس والتباوس ویحب الحلیم المتعفف من عباده ویبغض الفاحش البذي السائل الملحف.

ص: 451


1- نهج البلاغة : الخطبة 189 .
2- تصنيف غرر الحكم : ص 60 ط الأُولى .
3- سورةالبقرة: الایة: 273
4- سورةالبقرة: الایة: 273

وعنه علیه السلام قال: ان الله کره لکم ثلاثا: قیل وقال وکثرة وسوال واضاعة المال ونهی عن عقوق الامهات وواد البنات وعن منع وهات.

وقال علیه السلام: الایدی ثلاث فیدالله العلیا وید المعطي التي تلیه وید السائل السفلی الی یوم القیامة ومن سال وله یغنیه جاء ت مسالته یوم القیامة کدوحا ائ خموشا او خُدوشا في وجهه»(1)

و قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم :

« السوال یضعف لسان المتکلم ویکسر قلب الشجاع البطل ویوقف الحرّ العزیز موقف العبد الذلیل ئیذهب بهاء الوجه ویمحق الرزق» (2)

السؤال المذموم:

قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : لأن أدخل يدي في فم التنين إلى المرفق أحبّ إليّ من أن أسأل من لم يكن ثم كان» (3) .

ص: 452


1- محمع البیان: المجلد الاول ص667البقره.
2- مدینة البلاغة:ج1ص424.
3- مدينة البلاغة : ج 1 ص 424

والظاهر أن السؤال هنا يقصد به السؤال المذموم، وكأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يريد أن يشبّه حالة السائل كمن يدخل أكثر يده في فم التنين والذي ربما يبتلعه وينهي حياته، فإن السؤال أيضاً يبتلع شخصية السائل أحياناً ويعرضه لموت عزته وكرامته، بل إن هذا أسوء حالاً عند رسول الله وأكثر مبغوضية من أن يبتلعه التنين لأن التنين يبتلع الإنسان شخصاً أما السؤال فيبتلع شخصية الإنسان .

وهنا سؤال : ماذا يعني قوله صلّى الله عليه وسلم «من لم يكن ثم كان »؟

والجواب : إننا نستظهر منه أحد احتمالين هما :

1 - من لم يكن ثم كان هو المخلوق لأنه لم يكن ثم كان

2 - أو الأفراد الذين لم تكن لهم شخصية وكانوا معدمين ثم صاروا بعد ذلك من أهل المكنة والإستطاعة وهم لؤماء .

والفرق بين الاحتمالين هو أن الأول يلاحظ الإنسان من جهة وجوده وعدمه في أصل الخلق والتكوين إذ إنه ما كان موجوداً ثم أوجده الله سبحانه . بينما الثاني يلحظ الإنسان من جهة حالاته المادية أو الاجتماعية بأنه ما كان له شأن ثم حصله . .

ولتوضيح الفكرة أكثر سأفصل المسألة .

لم يكن ثم كان :

أما الاحتمال الأول : فإن المخلوق لم يكن ثم كان لأنه ممكن الوجود والممكن هو المسبوق بالغير الذي هو الواجب بعكس الواجب فإنه كان منذ الأزل قديم أبدي سرمدي ليس مسبوقاً بعلّة .

ذكر السيد عبد الله شبر في كتابه حق اليقين بعض خصوصيات الواجب تعالى فقال : إنه تعالى قديم أزلي أبدي سرمدي ليس مسبوقاً بعلة ولا يعتريه

ص: 453

عدم بل هو الأول بلا أول يكون قبله والآخر بلا آخر يكون بعده ولم يسبق له حال حالاً فيكون أولاً قبل أن يكون آخراً ويكون ظاهراً قبل أن يكون باطناً . قال تعالى : {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } (1) .

والدليل على ذلك مضافاً إلى النقل الصحيح أنه لو جاز عليه ذلك لاحتاج إلى مؤثر في إيجاده وإعدامه فيكون ذلك المؤثر أولى بأن يكون هو الواجب ولأنه لو لم يكن كذلك لم يكن وجوده واجباً ولا أزلياً فيكون محتاجاً تعالى الله عن ذلك بل هو الغني بذاته عمّا سواه ولأن الشيء لا يقتضي عدم نفسه وإلاّ لما تحقق بل هو قيوم دائم لا يُقال له متى ولا يضرب له أمد ،بحتّى ولهذا لمّا سُئل الإمام الباقر علیهم السلام عن الله تعالى متى كان؟ فقال : متى لم يكن؟ حتى أخبرك متى كان !!

وعن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام :

«إنما يُقال متى كان؟ لما لم يكن ،فأما ما كان فلا يُقال متى كان ،كان قبل القبل بلا قبل ،وبعد البعد بلا بعد »(2).

وإذا ثبتت أزليته وسرمديته وقدمه فالقديم هو الذي يتقدم على الكل أي ليس مسبوقاً بعلّة أو عدم أو شيء «هو الأول قبل كل شيء»(3)فيكون غنياً عن الكل .. أما المخلوق فيجب عليه أن يسأل الخالق تعالى لأنه الغني بذاته، وأن يتوجه إليه في طلبه وحاجته لا أن يسأل المخلوق الذي هو الآخر فقير معدم بالنسبة إلى الخالق وطبعاً هنا ينبغي أن نعرف أن هذا الحديث لا يريد أن يُجلس الإنسان عن السعي ويقعده عن التعامل مع الناس والأخذ والعطاء مع الآخرين في قضاء الحوائج وإنجاز الأدوار كلا .. لأن من الواضح أن الحياة البشرية قائمة بالتعامل الاجتماعي والتعاطف والتكافل والأخذ والعطاء

ص: 454


1- سورة الواقعة ؛ الآية : 60 .
2- حق اليقين في معرفة أصول الدين : ج 1 ص 29 .
3- التوحيد للصدوق (ره) : ص 314 باب 47 ح 2 .

بين الناس، وإنما يريد الحديث الشريف أن يلفت الإنسان إلى أن الذي يملك الحاجات كلها وبيده أزمتها هو واحد في هذا الكون وهو الله سبحانه فهو الغني المطلق ولا غنيّ سواه وهو الرازق ولا رازق سواه وفي الدعاء الإمام زين العابدين علیه السلام :

«يا من يملك حوائج السائلين ويعلم ضمير الصامتين، لكل مسألة منك سمع حاضر وجواب عتيد، اللَّهُمَّ ومواعيدك الصادقة وأياديك الفاضلة ورحمتك الواسعة فأسألك أن تصلي على محمد وآل محمد وأن تقضي حوائجي للدنيا والآخرة إنك على كل شيء قدير »(1).

ولكن الله سبحانه وتعالى لا ينزل رزقه إلى الإنسان مباشرة وبالمعجزات الغيبية كما لا يخلقه من أول الأمر بالمعجزات الغيبية وإنما جعل الله سبحانه لكل شيء سبباً وأراد من الإنسان أن يسلك سبل الأسباب والطرق الطبيعية لتدبير أموره. فالله سبحانه هو الخالق للإنسان ولكن عن طريق التزاوج الشريف بين الوالدين فالزواج طريق طبيعي وسبب إلهي من أسباب الخلق .

كما أن الله سبحانه هو الرازق ولكن عن طريق السعي والعمل والجد الكسب والتجارة أو غيرها من الأعمال الإنسانية الشريفة، وهكذا في

قضاء الحوائج . . قال تعالى :

{ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ }(2) .

وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:

«من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه الله» (3) .

ص: 455


1- مفاتيح الجنان : من أعمال وأدعية شهر رجب . ص 189 ط الأعلمي .
2- سورة المائدة ؛ الآية : 2 .
3- البحار : ج 70 ص 174 باب 129 ح 14 ط بیروت .

وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «اطلبوا المعروف والفضل من رحماء أُمتي تعيشوا في أكنافهم» (1)

إذ لا يمكن للإنسان أن يستغني عن الآخرين في إدارة شؤون الحياة إلاً أنه إذا اضطر إلى سؤال أحد حاجة عليه أن يعرف ويلتفت إلى أن الناس جعلهم الله سبحانه من الأسباب الطبيعية لقضاء الحوائج .. ولهذا فهو عندما أحد حاجة عند اضطراره يطلبها من الله أولاً بواسطة فلان أو فلان. وليس يطلبها من فلان ،وحده، لأن طلب الحاجة من الله طلب من أهلها وسؤال من الغني الكريم وهذا لا بأس به أما إذا طلبها من الناس لا فهذا هو السؤال المذموم الذي يبغضه رسول الله صلّى الله عليه وآله سلم.

كان الأطباء القدامى يكتبون على الوصفات المرضية( هو الشافي) لكي يلفتوا المريض إلى أن الشفاء الحقيقي والطبيب الحقيقي هو الله سبحانه ولكن الطبيب من أسبابه الطبيعية ولذا ورد في قوله تعالى :

{وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ *وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ }(2) .

وفي الحديث الشريف :

«أبى الله أن يجري الأشياء إلاّ بأسباب ، فجعل لكل شيء سبباً . .(3) .

قادر على كل شيء:

إن نادر شاه لما قدم العراق زائراً مرقد الإمام أمير المؤمنين علیه السلام في النجف الأشرف وزار العلماء في بيوتهم، كان ممن زاره «السيد هاشم الحطّاب »وكان من علماء النجف الأشرف، ومع علمه الجم وتقاه كان يمتهن بيع الحطب ليتقوت به - تحرّجاً من الحقوق الشرعية المعدّة لطلبة العلم

ص: 456


1- البحار : ج 93 ص 160 باب 16 ح 38 ط بیروت .
2- سورة الشعراء ؛ الآيتان : 80 و 81 .
3- الكافي : ج 1 ص 183ط3.

وأهله - وكان السيد متواضعاً وزاهداً بحيث كان فراشه الحصير فقط . .

فقال له السلطان عندما زاره : أنا نادر شاه ألا يوجد عندك أمر أو حاجة تأمرني بها لأنجزها لك، وأنا بذلك فخور . .

فأجابه السيد : نعم احبس عني البعوض فإنه لا يدعني أنام في الليل .

فقال له الملك : سلني مالاً ينفعك، فإني أقدر على ذلك .

فقال له السيد : إني أسأل المال ممن يقدر على كل شيء. .

عندها قام السلطان ولم يأخذ منه السيد شيئاً (1).

والعبرة من ذلك أن السيد «هاشم الحطاب »قد أوصله علمه إلى أن سؤال من لم يكن ثم كان «المخلوق» بأي درجة من الغنى كان لا يمكن أن يصل إلى الغنى المطلق فهو قد هيّأ الأسباب لمعيشته ومن ثم يرجو نيل ما يبغيه من الخالق تعالى لا المخلوق لأن الرزق بيد الله لا بيد السلاطين والإنسان العارف يسأل الله رزقه وقضاء حاجاته ولا يسألها من الناس .

موعظة بالغة:

روي عن الإمام الصَّادق علیه السلام أنه قال :

«كان رسول الله صلّى الله عليه وآله سلّم في بيت أم سلمة في ليلتها، ففقدته من الفراش، فقامت تطلبه في جوانب البيت حتى انتهت إليه وهو في جانب من البيت قائم رافع يديه يبكي وهو يقول :

اللَّهُمَّ لا تنزع مني صالح ما أعطيتني أبداً، اللَّهُم لا تشمت بي عدواً ولا حاسداً أبداً، اللَّهُمَّ ولا تردّني في سوء استنقذتني منه أبداً، اللَّهُمَ ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً .

ص: 457


1- معارف الرجال : ج 3 ص 251 .

قال : فانصرفت أم سلمة تبكي حتى انصرف رسول الله صلّى الله عليه وآله سلّم لبكائها فقال لها :

ما يبكيك يا أم سلمة ؟ فقالت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ولِمَ لا أبكي وأنت بالمكان الذي أنت به من الله، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، تسأله أن لا يشمت بك عدواً أبداً، وأن لا يردك في سوء استنقذك منه أبداً، وأن لا ينزع منك صالحاً أعطاك أبداً، وأن لا يكلك إلى نفسك طرفة عين أبداً ؟

فقال : يا أُم سلمة وما يؤمنني ؟ .

وإنما وكل الله يونس بن متى إلى نفسه طرفة عين وكان منه ما كان»(1) .

إنّ الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يغفل عن التوكل على الله ولو بطرفة العين التي قد لا تسجّل سوى لحظات قصيرة من الزمن ففي ذلك العبرة لمن يتوكل على المخلوق .

قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: يقول الله عزّ وجلّ :

«ما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني إلاّ قطعت أسباب السماوات والأرض من دونه، فإن سألني لم أعطه، وإن دعاني لم أجبه، وما من مخلوق يعتصم بي دون خلقي إلاّ ضمّنت السماوات والأرض برزقه، فإن سألني أعطيته، وإن دعاني أجبته، وإن استغفر لي غفرت له»(2) .

فالله تعالى هو المقتدر وقدرته لا تدرك ولا يمكن من أن نحدد قدرة الله بمقدار وهو الغني الذي يمدّ كل محتاج ولا يمكن تحدّيد ما يعطيه .

ص: 458


1- البحار : ج 16 ص 217 و 218 باب مكارم أخلاق الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم: ح 6 ط بيروت .
2- البحار : ج 68 ص 143 باب 63 ح 40 ط بيروت .

قال الإمام أمير المؤمنين علیه السلام :

«كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو، فإن موسى بن عمران علیهم السلام خرج يقتبس لأهله ناراً فكلّمه الله عزّ وجلّ فرجع نبياً، وخرجت ملكة سبأ فأسلمت مع سليمان علیه السلام ، وخرج سحرة فرعون يطلبون العزّة لفرعون فرجعوا مؤمنين» (1).

وقال الإمام الحسين علیه السلام :

إذا ما عضّك الدهر ***فلا تجنح إلى خلق

ولا تسأل سوى الله ***تعالى قاسم الرزق

فلو عشت وطوّفت ***من الغرب إلى الشرق

لما صادفت من يقد***ر أن يسعد أو يشقي (2)

إذن هذا الاحتمال لا یرید أن يعزل الإنسان عن المجتمع ويبعده عن الآخرين كلا ..

وإنما يريد أن يعلّم الإنسان أن المؤثر الحقيقي والمدبر الحقيقي للأمور في الكون هو الله سبحانه وما سواه فإن كان تدبيره في طول تدبير الله ومن أسبابه فإذا سلكه الإنسان والتجأ إليه فلا بأس به وأما إذا اعتبر تدبير الناس وقضاء حوائجهم بمعزل عن الله سبحانه فهذا هو السؤال المذموم المبغوض .

صور ومواقف من اللؤم واللؤماء:

وفد عروة بن أذينة على هشام بن عبد الملك، فشكا إليه خلته، فقال ألست القائل :

لقد علمت وما الإسراف من خلقي ***أنَّ الذي هو رزقي سوف يأتيني

ص: 459


1- نفس المصدر : ص 134 .
2- الفصول المهمة : ص 180.

أسعى إليه فيعييني تطلبه *** ولو قعدت أتاني لا يعنيني

وقد جئت من الحجاز إلى الشام في طلب الرزق فقال عروة : لقد وعظت فأبلغت وذكرتني ما أنسانيه الدهر وخرج من عنده فركب ناقته وكر إلى الحجاز راجعاً فلما كان الليل نام هشام على فراشه فذكر عروة، وقال رجل من قريش قال حكمة ووفد علي فجبهته ورددته خائباً، فلما أصبح وجه إليه بألفي دينار .فقرع عليه الرسول باب داره بالمدينة، وأعطاه المال. فقال له عروة أبلغ الخليفة مني السلام وقل له : كيف رأيت قولي سعيت، فأكديت، فرجعت خائباً، فأتاني رزقي في منزلي (1) .

أما الاحتمال الثاني في قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم : «من لم يكن ثم كان »فهو طلب الحاجة من لؤماء الناس الذين ما كانوا في يوم من الأيام من أهل الشأن والمكانة ثم صاروا .

واللؤم : هو أن يحرص الإنسان على الدنيا ويبخل فيها على الآخرين وبتعبير أدق إن للؤم ركنين :

الأول : هو الحرص على الدنيا : إذ يعتبر الدنيا مبدأه وغايته ولأجلها يعمل ولا تهمّه الفضيلة أو الكمال، فتراه يلهث وراء المال أو الجاه أو المنصب لأجل نفسه ودنياه لا لأجل آخرته أو كماله وهكذا شخص لا يعرف للفضيلة مكاناً .

الثاني : البخل : وهو الإمساك حيث ينبغي البذل، قال تعالى في ذم البخل :

{«الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}(2) .

ص: 460


1- حديقة الأفراح لإزاحة التراح : ص 78 .
2- سورة النساء ؛ الآية : 36 .

وإذا جمع الإنسان هذين الركنين فهو لتيم .

قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام :

من جمع له مع الحرص على الدنيا البخل بها، فقد استمسك بعمودي اللؤم (1) .

وقال الإمام الحسن عليه السلام في تفسير اللوم .

«إحراز المرء نفسه، وإسلامه عرسه» (2).

والأخبار التي جاءت لذم هذه الصفة الرذيلة كثيرة منها : عن الإمام أمير المؤمنين علیه السلام :

«اللؤم مضاد لسائر الفضائل، وجامع لجميع الرذائل»(3) .

«اللؤم قبيح فلا تجعله لبسك» (4).

«اللؤم أُس الشر»(5).

وفي رواية «وقع بين سلمان الفارسي رحمة الله عليه وبين رجل خصومة، فقال الرجل : من أنت؟ وما أنت؟! فقال سلمان : أما أوّلي وأوّلك فنطفة قذرة، وأما آخري وآخرك فجيفة منتنة، فإذا كان القيامة ونصبت الموازين فمن ثقلت موازينه فهو الكريم ومن خفت موازينه فهو

اللئيم»(6).

وعن خصائص اللئيم قال أمير المؤمنين علیه السلام:

ص: 461


1- تصنيف غرر الحكم : ص 261 ط 1 .
2- تحف العقول : ص 163 .
3- تصنيف غرر الحكم : ص 260 ط 1 .
4- تصنيف غرر الحكم : ص 260 ط 1 .
5- تصنيف غرر الحكم : ص 260 ط 1 .
6- من لا يحضره الفقيه : ج 4 ص 289 .

«اللئيم إذا بلغ فوق مقداره تنكرت أحواله» (1).

و «اللئيم إذا قدر أفحش، وإذا وعد أخلف»(2).

و «كلما ارتفعت رتبة اللئيم نقص الناس عنده والكريم ضد ذلك» (3).

و «يستدل على اللئيم بسوء الفعل وقبح الخلق وذميم البخل »(4).

وإذا عرفت اللئيم وخصائصه فهل يبقى لك ميل إلى الحاجة إليه .

وجاء في دعاء سنانة بنت حاتم الطائي إلى رسول الله علیه السلام «ولا جعل لك إلى لئيم حاجة»(5).

وهنا قصدت البخيل الذي حرص على الدنيا بعدما كان فقيراً لأن بعض الفقراء عندما يستغني يبقى فقره ملازماً له ليس فقره المالي.. لا .. لأنه صار غنياً وإنما فقير النفس فيبقى طبع النفس يحاكي تصرفاته وبعكسه غني النفس فإنه حتى لو افتقر يبقى طبعه الكريم وسنانة أرادت التذكير بدعائها للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بأننا كرام وأغنياء النفس، وكل من كان كذلك فعله في الدنيا فضائل ومكارم، ولهذا أكرمها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأكرم أخاها عدي بن حاتم الطائي وكما أن حاتم الطائي كان مشهوراً بكرمه ولم يلحق بالإسلام ولكنه لامتلاكه هذه الصفة الفاضلة لا يعذب بالنار يوم القيامة كما مرّ ذكره في أبحاثنا السابقة وجاء في كلام مشهور :

«الفقير لا يفارقه فقره أربعين عاماً حتى وإن استغنى - والمقصود فقر النفس - والغني لا يفارقه غناه أربعين عاماً ولو افتقر - والمقصود غنى

النفس -».

وعلى هذا فإن الاحتمال الثاني أخصّ من الأول لأن الأول كان الطلب والسؤال المذموم يشمل جميع المخلوقات وأما الثاني فيقتصر على

ص: 462


1- تصنيف غرر الحكم : ص 260 ط 1 .
2- تصنيف غرر الحكم : ص 260 ط 1 .
3- تصنيف غرر الحكم : ص 260 ط 1 .
4- تصنيف غرر الحكم : ص 260 ط 1 .
5- المستطرف في كل فن مستظرف : ج 1 ص 368 .

اللؤماء فهم بما عرفت من خصائصهم .

وإنما صارت مسألة اللثيم أبغض لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من أن يدخل يده إلى المرفق في فم التنين لأن اللئيم لا يراعي للناس عزّة ولا كرامة ولؤمه يدفعه لأن يذل الناس ويبتلع وجاهتهم واحترامهم لأنه هو الآخر لا شخصية ولا وجاهة له . قال رجل لابنه :

«إياك أن تريق ماء وجهك عند من لا ماء في وجهه»(1).

وأوحى الله تعالى إلى موسى علیه السلام:

«لأن تدخل يدك في فم التنين إلى المرفق خير لك من أن تبسطها إلى غني قد نشأ في الفقر » (2) .

فهناك أفراد عاشوا الفقر مثلاً فأصبحت نفوسهم لئيمة وعندما استغنوا أصبحوا لؤماء بخلاً لا يسألهم أحد شيئاً إلاّ وأدركتهم طبيعتهم اللئيمة فردّوه ومنعوه وأحرقوا شخصيته. ولذا ينبغي على العاقل الموزون الذي يحترم نفسه أن لا يسأل لئيماً حاجة، وفي الحديث عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام :

«فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها » (3) .

وقال الإمام أمير المؤمنين لابنه الحسن علیه السلام :

«يا بني إذا نزل بك كلب الزمان وقحط الدهر فعليك بذوي الأصول الثابتة والفروع النابتة هن أهل الرحمة والإيثار والشفقة فإنهم أقضى للحاجات وأمضى لدفع الملمّات . . . » (4).

ولهذا على الإنسان التوجه إلى الله تعالى في طلب الحاجة مع تهيئة

ص: 463


1- المستطرف في كل فن مستظرف : ج 2 ص 115 .
2- نفس المصدر .
3- البحار : ج 73 ص 62 باب 107 باب 107 ح 2 ط بیروت.
4- البحار : ج 93 ص 160 باب 16 ح 38 ط بیروت .

الأسباب بأن لا يكسل أو يعتزل كل شيء ويقول إن الله تعالى قدّر لي رزقي ! نعم الله تعالى قدّر كل شيء ولكنه يريدك أن تعمل وتتعاون مع الآخرين وتتعايش معهم لتكسب الفضائل وتجعلها وسيلة لهدفك الأجل وهو الكمال ..

وإذا غدر بك الزمان واحتجت مع عملك بالأسباب فيمكن لك أن تطلب يد المساعدة من أهلها ولا تطلبها من اللؤماء واعلم أنك بطلبك حاجتك من الناس تطلبها من الله تعالى وليكن هذا في نيتك وقلبك دائماً لأن كل ما عند الناس فهو من عند الله تعالى «الغني المطلق»، ولا تردّن سائلاً فبقدر إمكانك على العطاء أعط ولا تخف فقراً أو عوزاً لأنك مهما أنفقت في الخير فلا يصل إلى عطاء ربك وإن أعطيت في الخير فإنه لا ينقص من أموالك شيء أو من حملك بل قد امتلأت بأفضل منها خيراً دائماً وجنة عرضها السماوات والأرض .. أعدت للمتقين .

ص: 464

24- الطَّرْقُ إلى مُعَايَشَة ناجٍحَة

اشارة

ص: 465

ص: 466

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) لعلي (علیه السلام ) :

«يا علي : ألا أنبئك بشر الناس؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: من لا يغفر الذنب، ولا يقيل العثرة، ألا أنبئك بشر من ذلك ؟ قلت: بلى يا رسول الله قال من لا يؤمن شرّه ولا يرجى خيره ».(1)

الإحتياج إلى الخالق:

إنّ الله تعالى خلق الكائنات محتاجة في أصل وجودها وفي ديمومة بقائها إليه تعالى إذ كل مخلوق ممكن وكل ممكن بحاجة إلى العلة في حدوثه وفي بقائه كما يعبر الحكماء والمتكلمون وهذه الحاجة في الكائنات من لطيف حكمة الله تعالى إذ جعلها محتاجة إليه في أصل وجودها وفي بقائها من جهة، ومن جهة أخرى فقد جعل سبحانه الكائنات يحتاج بعضها البعض في إدارة أوضاعها وتنظيم حياتها وجعل الإنسان أكثر حاجة من غيره لأن بعض الحيوانات أو النباتات قد تكون مستقلة بنفسها وتعيش حياة انفرادية بينما الإنسان لا يتمكن أن يعيش بمعزل عن الآخرين وذلك لأن تركيبة الإنسان النفسية والبدنية وقدراته الخاصة لا تتمكن أن تستوعب كل جوانب

ص: 467


1- تحف العقول : ص 18 .

الحياة وتجعله مستغنياً عن الآخرين في إدارة شؤونه وتنظيم حياته إذ إن الإنسان وشؤونه النفسية واحتياجاته الروحية والمادية من الأمور المعقدة الصعبة التي تفرض عليه أن يعيش مع الآخرين ويتفاعل معهم الآخرين ويتفاعل معهم أخذاً وعطاء .. فمثلاً حاجة الإنسان النفسية إلى الكمال وتهذيب الأخلاق وتنمية المواهب الفكرية والعقلية هذه لا يمكن للإنسان أن يستغني فيها عن الآخرين ويكتفي لإشباعها بقدراته الذاتية بلا معلم ومرشد ومربّ .. (ألا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه) (1)وقال تعالى : {و لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } (2)كما أن احتياجاته المادية من التغذية واللباس والسكن والوظيفة لا يتمكن الإنسان من أن يلبيها بمفرده بلا تكافل مع الآخرين وتوزيع في الأدوار والمسؤوليات. أما حياة الحيوان ونظراً لبساطتها وسهولة نظمها فلا تتطلب كل هذا التعقيد في العلاقات والروابط والوظائف. من هنا قد يتمكن الحيوان في بعض الحالات والظروف من أن يعيش منفرداً أشباهه أما الإنسان . . فلا . لأنه كما يحتاج بطبيعته إلى الآخرين في إشباع حاجاته الروحية والمادية معاً كذلك هو بحاجة إلى دفع وحشته وعزلته بالإجتماع والترابط والتعايش . .من هنا قالوا الإنسان اجتماعي بالطبع.

الترابط والتدابر:

وحيث خلق الإنسان اجتماعياً بالطبع لا لحاجته الجسدية فقط وإنما لحاجته النفسية أيضاً فالإنسان يستأنس بوجود الإنسان إلى جانبه ويستوحش لفقده ويتولد من هذا الإستئناس ترابط اجتماعي تقوّيه المحبة والاحترام والخدمة ونحو ذلك .ويقابله التدابر إذا ما تصرّف الإنسان مع الآخرين بالصفات السلبية والتنازع وما شابه. وينشأ الترابط بين الناس من أُمور عديدة :

ص: 468


1- البحار : ج 40 ص 340 باب 98 حدیث 27 ط بیروت .
2- سورة الأحزاب ؛ الآية : 21 .

1 - وحدة الهدف فيجتمعون للوصول إليه بدون أن يكون للمجتمعين لون واحد وهذا يسمى بالترابط الهدفي .

2 - وقد يكون الترابط من أجل وحدة اللون التابعة لوحدة الثقافة في الأخلاق والآداب والدين والمراسيم وهذا ما يسمى بالترابط الاجتماعي .

3 - وقد يكون الترابط بسبب التوالد والتناسل والعلاقات الأسرية وهو ما يسمى بالترابط الأسري .

كما أن التدابر والانفصال قد ينشأ من أُمور عديدة منها : - اختلاف الهدف الناشيء من اختلاف الفكر والثقافة أو الدين ونحو ذلك . ففي الوقت الذي ترى أن صاحب الهدف فرداً كان أو جماعة يسعى وراء هدفه ويبذل من أجله الغالي والنفيس، يرى الآخرون أن هذا ليس هدفاً أو هو ليس المصداق الأتم للهدف أو ما يسمى بالهدف الجذري أو العميق . . لذا كما يعمل الأول هدفه يعمل الآخرون لأجل ما يرونه هدفاً بعكس الأول.. وهذا ما يولّد الانفصال بين الفردين أو الجماعتين وهذا الانفصال والسعي لتحقيق الأهداف مرة يكون إيجابياً ومرة يكون سلبيّاً .

أولاً : فإذا كانت الجماعتان تسعى كلّ منهما وراء أهدافها بلا أن تعرقل مسيرة الجماعة المقابلة بل كل يسعى وراء هدفه ولا يُوقع الآخرين في الضرر أو الضيق ونحو ذلك فهذا انفصال إيجابي وعملهما من أجل أهدافهما يسمى (استباق) والقرآن الكريم أشار إلى هذا المعنى بقوله تعالى : {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} (1)لأن كلاً منهما يستبق الآخر لنيل الهدف والوصول إلى طموحه .

ثانياً : أما إذا كان السعي والعمل مقروناً بالمنافسة الشديدة { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} (2)من أجل تقوية الجماعة الخاصة وتقدمها على

ص: 469


1- سورة البقرة ؛ الآية : 148 .
2- سورة المطففين ؛ الآية : 26 .

الآخرين واكتساح ميدان العمل ولكن مع المنطقية والاعتدال يصطلح عليه في علم السياسة والاجتماع باسم (الرقابة) كرقابة التجار والأحزاب السياسية في البلدان الحرة وأصحاب الحرف والعلوم ونحو ذلك .

ثالثاً : وقد يكون الثاني باضافة كون الرقابة بالعداء والبغضاء وهو ما يسمى(بالمحاربة) كما في المقاتلات والحروب (1) ومن الواضح أن الأول والثاني صحيحان أما الثالث فمرفوض في منطق الإسلام .

والخير والشر يتولدان عادة من علاقات الإنسان بأقرانه، والخير يتولد من العلاقات الاجتماعية التي أمرت بها الشريعة الإسلامية وأما الشر فيتولد العلاقات التي نهت عنها الشريعة الإسلامية وأحياناً يكون الخير نسبيّاً يختلف بالوجوه والاعتبارات فيكون بالقياس إلى أمر خير وإلى آخر شر ومثال ذلك جاء في الآيات القرآنية والأحاديث المروية عن النبي وأئمة الهدى علیه السلام.

من هو الأكثر شراً:

إذن للإنسان علاقتان بفضل كونه اجتماعياً علاقته بالناس وعلاقة الناس به ومن خلال هذه العلاقة الثنائية إمّا أن يكون الإنسان فاضلاً ومتشرعاً ويلتزم بحقوق الآخرين والناس أيضاً يقابلونه بنفس الأمر فيكون أثر هذه العلاقة الخير، وإما أن يعامله الناس أحياناً بالسوء والإعتداء على حقّه دون أن يعتدي عليهم بالسوء فهؤلاء هم من أشرار الناس كما يعبّر الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلّم عن ذلك .. وإما أن لا يأمن من شرّه هو بالذات باقي الناس ولا يرجى منه الخير فهو أشد شراً بل شرّ الناس لأن في الحالة الأولى الإساءة إليه وحده ويمكن الإغضاء عن الإساءة وإشاعة روح الفضيلة في الآخرين وفي الحالة الثانية تتعلق الإساءة بالكثيرين .. فالأولى أقل سوءاً والثانية

ص: 470


1- راجع كتاب الفقه الاجتماع : ج 1 ص 39 ط بیروت .

تكون أكثر سوءاً ولذا يعتبر الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلّم هذا الإنسان الذي لا يؤمن شرّه ولا يرجى خيره أكثر شرّاً .. إذن لكون الإنسان اجتماعياً بالطبع ولا يمكنه أن يعيش بمعزل عن الآخرين يلزم عليه أن يراعي بعض الأمور لدى علاقاته بالناس منها :

لذة العفو ولذة المحبة:

إن الإنسان ومن خلال احتكاكه بالمجتمع ومعايشته للناس تصدر منه ذنوب وعثرات يرتكبها الناس بحقه أو هو يرتكبها بحق الآخرين وإذا لم يكن عفواً سموحاً لا يبقى له صديق أو حميم بل يعيش دائماً في عناء وتعب ومشقة نتيجة تأذيه من قبل الآخرين بما يسبب له الانعزال وانفصال روابطه الاجتماعية ابتداءً من الزوجة والأولاد إلى الأرحام ثم الأصدقاء وهكذا .ومن الواضح أن الإنسان الذي لا يعفو ولا يصفح يعيش وحيداً غير ممدوح ولا محبوب وهذا ألمه أشد على نفسه من ألم الصبر والتسامح . . بل إن العفو السموح يعيش لذتين لذة العفو ولذة المحبة والإرتباط الاجتماعي أما الذي لا يغض عن الذنوب ودائماً يتوقع من الآخرين أن يكونوا معصومين في علاقاتهم وروابطهم معه فإن معه فإن هذا يعيش ألمين ألم العزلة وألم الغضب .

قال الشاعر :

ولست بمستبق أخاً لا تلمه ***على شعث أي الرجال المهذب

وقال مولانا الإمام أمير المؤمنين علیه السلام:

«الصفح أن يعفو الرجل عما يجنى عليه ويحلم عما يغيظه» (1) .

وعنه أيضاً علیه السلام : «من عفى عن الجرائم فقد أخذ بجوامع الفضل» (2).

ص: 471


1- تصنيف غرر الحكم : ص 245ط الأولى .
2- تصنيف غرر الحكم : ص 245ط الأولى .

وعنه أيضاً علیه السلام : «معالجة الذنوب بالغفران من أخلاق الكرام »(1) .

وعنه أيضاً علیه السلام :

«شرُّ الناس من لا يعفو عن الزلّة ولا يستر العورة» (2) .

القدوة الطاهرة:

كان الأئمة الطاهرون علیهم السلام يتغافلون عن إساءة الناس لهم ويغضون عن سيئاتهم وهم خير قدوة لنا في هذا جاء رجل إلى علي بن الحسين علیهم السلام فقال له : إن فلاناً قد وقع فيك وآذاك ، قال : فانطلق بنا إليه، فانطلق معه وهو يرى أنه سينتصر لنفسه، فلما أتاه قال له :يا هذا إن كان ما قلت في حقاً فالله تعالى يغفره لي، وإن كان ما قلت في باطلاً فالله يغفر لك(3) . .ولا شك بأن ما ذكره الرجل في الإمام علیه السلام كان باطلاً ولكن الإمام يسأل الله تعالى أن يغفر له ذنبه وهي أشدّ تأثيراً من النهي والزجر أو الصدام لأنّ في هذا التصرّف العداوة والبغضاء وفي الإقالة المحبة والترابط . . واستطال رجلٌ على علي بن الحسین علیهم السلام فتغافل عنه، فقال له الرجل : إياك أعني؟ فقال له عليّ بن الحسين وعنك أغضي (4) . لأن في الإغضاء عن زلات الآخرين تربية الام ومصلحة اجتماعية كبيرة ولهذا السبب أيضاً ثبت الدين ودعائمه إذ استخدم الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلّم سياسة العفو والإغضاء عن المجرمين والمنافقين والمتآمرين بل حتى من آذاه وقتل عمّه وأهل بيته وشرده من دياره ليقول لهم كلمته المشهورة عند فتح مكة «اذهبوا فأنتم الطلقاء» (5).

وكذلك عفى صلّی الله علیه وآله وسلّم عن الهبار بن الأسود الذي روّع زينب ابنته صلّی الله علیه وآله وسلّم

ص: 472


1- تصنيف غرر الحكم : ص 245 ط الأُولى .
2- تصنيف غرر الحكم : ص 245 ط الأُولى .
3- كشف الغمة : ج 2 ص 287 ط بيروت .
4- المصدر نفسه : ص 313.
5- الوسائل : ج 11 ص 119 الباب 72 ح 1 .

فألقت ما في بطنها وماتت بعد مرض فأباح رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلّم دمه ثم إنه لما عرف أن الرسول يعفو جاء إليه واعتذر من سوء فعله وقال : كنا يا نبي الله على شرك فهدانا الله تعالى بك وأنقذنا من الهلكة فاصفح عن جهلي وعما كان يبلغك عني فإني مقر بسوء فعلي معترف بذنبي فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم : قد عفوت عنك وقد أحسن الله إليك حيث هداك إلى الإسلام والإسلام يجبّ ما قبله . وكذلك عفى عن وحشي قاتل عمه حمزة (رضوان الله عليه) فإنه أنه أسلم وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم بعد أن أمِنَ جانبه فقال له النبي أو حشي؟ قال : نعم قال : أخبرني كيف قتلت عمي؟ فأخبره فبكى صلى الله عليه وآله وسلّم ثم عفى عنه وعفوه عن المشرك (غورث) في قصّة مفصلة مذكورة في البحار (1) ، فسياسة العفو واللين التي استخدمها النبي هي التي ركزت دعائم الإسلام وجذبت العدو والصديق يقول تعالى {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ َ} (2) وقال تعالى {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ }(3) فالسماح وسعة الصدر والاحتواء واللين كلها اتصف بها النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلّم و فاستطاع بهذه الصفات الكريمة تجميع الناس حوله ولولا روح السماحة

واللين والقبول لانفضوا من حوله بل إنه صلى الله عليه وآله وسلّم كان يمتاز بقلب يستقطب الناس ويجذبهم نحوه بنورانيته الشريفة وقدسيته الرفيعة .

السلام في ظل الإسلام:

إن من أسرار عظمة الإسلام وانتشاره بين الناس كدين ونظام عالمي خالد رغم المواجهات الصعبة التي يفعلها أعداؤه ضده، هو مبدأ العفو والإغضاء حتى مع أعدائه قال سبحانه وتعالى : {إدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ولا يلقاها إلاّ الذين صبروا ولا يلقاها

ص: 473


1- البحار : ج 20 ص 179 باب 15 حديث 6 .
2- سورة آل عمران ؛ الآية : 159 .
3- سورة آل عمران ؛ الآية : 159 .

إلاّ ذو حظ عظيم} (1)وقال الإمام زين العابدين علیه السلام : (اللّهُمَّ سددني لأن اعارض من غشني بالنصح، وأجزي من هجرني بالبرّ، وأثيب من حرمني بالبذل، وأكافي من قطعني بالصلة وأخالف من اغتابني إلى حسن الذكر، وأشكر الحسنة وأغضي عن السيئة» (2)، وأما قوله سبحانه وتعالى أشداء على الكفار رحماء بينهم (3)فذلك حيث قصوى حالات الإضطرار كالعملية الجراحية الخطرة حيث لا يقدم عليها الطبيب إلاّ في الحالات القصوى ولذا كان الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم والأئمة علیهم السلام يخففون دائماً أسباب العداء ويقلصونها فتراهم يعطون الماء لمن حاربهم ويوجهون لهم كلمات التذكير بمكانتهم وآثار خروجهم على إمام زمانهم ويمهلون العدو ولا يبدأون القتال إلاّ إذا بدأه الأعداء بعدما ألقوا الحجّة عليهم وبيّنوا طريق الهدى والنجاح وإذا كان لا بد من القتال فهو لحالة الإضطرار القصوى وإذا كانت هذه أفعال أئمتنا الأعداء، الرحمة والعفو والإغضاء فهم أشد رحمة وإغضاءاً مع مجتمعهم ورعاياهم.

موقفُ كريم :

ومن سياسة العفو التي اتبعها الإمام أمير المؤمنين علیه السلام أنّه عفى عن عائشة بعد أن انتصر على أهل الجمل وبعثها من البصرة إلى المدينة معززة مكرمة وقد جاء عن المسعودي في مروج الذهب «وخرجت عائشة من البصرة، وقد بعث معها علي أخاها عبد الرحمن بن أبي بكر وثلاثين رجلاً وعشرين امرأة من ذوات الدين من عبد القيس وهمدان وغيرهما، ألبسهنّ العمائم وقلّدهنّ السيوف، وقال لهنّ لا تعلمن عائشة أنكن نسوة وتلثمن كأنكن رجال وكن اللاتي تلين خدمتها وحملها فلما أتت المدينة قيل لها :

ص: 474


1- سورة فصلت ؛ الآية : 34 .
2- الصحيفة السجادية من دعاء مكارم الأخلاق : ص 109 .
3- سورة الفتح ؛ الآية : 29 .

كيف رأيت مسيرك؟ قالت : كنت بخير والله لقد أعطى علي بن أبي طالب فأكثر، ولكنه بعث معي رجالاً أنكرتهم فعرفها النسوة أمرهن، فسجدت وقالت : ما ازددت والله يا ابن أبي طالب إلا كرماً . . »(1) وفي كتاب الإمام أمير المؤمنين علیه السلام إلى أهل الأمصار يقصّ فيه ما جرى بينه وبين أهل صفين «وكان بدء أمرنا أن التقينا والقوم من أهل الشام، والظاهر أن ربنا واحد ونبينا واحد ودعوتنا في الإسلام واحدة ولا نستزيدهم في الإيمان بالله والتصديق برسوله، ولا يستزيدوننا الأمر ،واحد، إلاّ ما اختلفنا فيه من دم عثمان ونحن منه براء. فقلنا تعالوا نداوي ما لا يدرك اليوم بإطفاء النائرة، وتسكين العامة حتى يشتد الأمر ويستجمع ، فنقوى على وضع الحق مواضعه، فقالوا بل نداويه بالمكابرة فأبوا حتى جنحت الحرب وركدت، ووقدت نيرانها وحمست فلما ضرستنا وإياهم، ووضعت مخالبها فينا وفيهم أجابوا عند ذلك إلى الذي دعوناهم إليه، فأجبناهم إلى ما دعوا وسارعناهم إلى ما طلبوا حتى استبانت عليهم الحجة، وانقطعت منهم المعذرة» (2) ولذا فإن من لا يغفر الذنب ولا يقيل العثرة فهو من شر الناس لما فيه من أثر واضح على التباعد الاجتماعي .

الإساءة إلى الآخرين:

هناك بعض الأفراد أكثر شراً من الذين لا يغفرون ذنوب الآخرين ولا يقيلونهم عثراتهم وهؤلاء هم الذين يسيئون إلى الآخرين فلا يؤمن شرّهم ولا يرجى منهم الخير يسعون إلى الخراب والدمار والإصلاح والبر بعيد عنهم . .فيغتابون الناس بما ليس فيهم وينسبون لهم صفات سيئة لتهديم منزلتهم الاجتماعية ويثيرون متاعب كثيرة للأحبة والأصدقاء ويفرقون بين المرء وخليله ويتعاملون أحياناً بخشونة في الكلام والفحش في العبارات ويؤثرون

ص: 475


1- مروج الذهب : ج 2 ص 370 .
2- نهج البلاغة : ص 448 الصالح .

أحياناً على جهلاء الناس في سير سلوكهم وقد تنشأ من خلال هذه الخصلة عصابات إجرامية تسلب المجتمع الراحة والأمان.. وقد حارب الإسلام هذه الخصلة بالأخوة الإسلامية وأفهم الإنسان أن الحياة ليست له وحده، وأنها لا تصلح به وحده، وليتذكر أن هناك أناساً مثله ينبغي أن يعاملهم معاملة حسنة ويعاشرهم بالمعروف ويوصل إليهم منه الخير والبر والإحسان «خيركم من يرجى خيره ويؤمن شرّه وشرّكم من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره» (1) حثّت الشريعة الإسلامية الإنسان على دفع المضرّة عن الآخرين ومشاركتهم آلامهم والحزن لمصائبهم ومشاركتهم أفراحهم وجعلت الثواب على ذلك . ولذلك كانت الشعائر الحسينية ومجالس التعزية والمصائب وإقامة الفاتحة على الأموات والمشاركة في الأعراس والمواليد وإقامة الولائم لأجل تمتين العلاقات الاجتماعية واشتراك العواطف في هذا الأمر سبب لتقويتها وبالتالي تكون آثارها كبيرة لأن الاختلاط والمشاركة الجماعية تؤدي إلى ارتفاع الخلافات وتأمين حوائج المحتاجين وإرساء المشاريع الخيرية لتحسس آلام الآخرين حتى يكون المجتمع الإسلامي جسداً واحداً وفي الحديث الشريف «المؤمن أخو المؤمن كالجسد الواحد إن اشتكى شيئاً منه وجد ألم ذلك في سائر جسده . . . » (2).

وفي حديث آخر قال رسول الله علیه السلام : «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يشتمه من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرّج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة » (3).

ص: 476


1- نهج الفصاحة : ص 319 حديث 1526 .
2- الكافي : ج 2 ص 166 باب أُخوة المؤمنين حديث 4 .
3- مستدرك الوسائل : ج 12 ص 415 باب 29 حدیث 7

من علائم الأخوة:

ومن علائم الأخوة الإسلامية أن تحب النفع لأخيك وأن تدفع عنه الأضرار والشر، كما تبتهج للنفع الذي يصل إليك وكما لا تحب أن يضرك أحد إذن لا تضر الآخرين .

روي عن الإمام الصادق علیه السلام قال الرفاعة بن موسى : يا رفاعة ما آمن بالله ولا بمحمد ولا بعلي (عليهما وآلهما السَّلام) من إذا أتاه أخوه المؤمن في حاجة لم يضحك في وجهه فإن كانت حاجته عنده سارع إلى قضائها وإن لم یکن من عنده تكلف عنده تكلف من عند غيره حتى يقضيها له، فإذا كان بخلاف ما وصفته فلا ولاية بيننا وبينه (1).

وعن الرضا علیهم السلام: ومن قضى لمؤمن حاجته كان أفضل من صيامه واعتكافه في المسجد الحرام(2) .

كان النجاشيُّ وهو رجل من الدهاقين عاملاً على الأهواز وفارس فقال بعض أهل عمله لأبي عبد الله علیه السلام إنَّ في ديوان النجاشي عليَّ خراجاً، وهو مؤمن يدين بطاعتك، فإن رأيت أن تكتب إليه كتاباً؟ قال : فكتب إليه أبو عبد الله : (بٍسم الله الرّحمن الرّحيم سُرَّ أخاك، يسرّك الله)، قال : فلمّا ورد الكتاب عليه دخل عليه وهو في مجلسه فلمّا خلا ناوله الكتاب وقال : هذا كتاب أبي عبد الله علیهم السلام فقبّله ووضعه على عينيه، وقال له : ما حاجتك؟ قال : خراج عليَّ في ديوانك فقال له : وكم هو ؟ قال : عشرة آلاف درهم فدعا كاتبه وأمره بأدائها عنه ، ثم أخرجه منها وأمر أن يثبتها له لقابل، ثمَّ قال له : سررتك؟ فقال : نعم جعلت فداك ثمَّ أمر بركب وجارية وغلام، وأمر له بتخت ثياب في كل ذلك يقول : هل سررتك؟ فيقول : نعم جعلت فداك، فكلّما قال : نعم زاده حتى فرغ، ثم قال له : إحمل فرش هذا البيت

ص: 477


1- سفينة البحار : ج 2 ص 488 ط جديد .
2- سفينة البحار : ج 2 ص 488 ط جديد .

الذي كنتُ جالساً فيه حين دفعت إليَّ كتاب مولاي الذي ناولتني فيه، وارفع إليّ حوائجك قال : ففعل وخرج الرجل فصار إلى أبي عبد الله علیه السلام بعد ذلك، فحدَّثه بالحديث على جهته فجعل يسرُّ بما فعل، فقال الرجل : يا ابن رسول الله كأنّه قد سرَّك ما فعل بي ؟ فقال : إي والله لقد سرَّ الله ورسوله (1).

هذه المواقف الشريفة تصور لنا أهمية الخير وفعله في الشريعة الإسلامية لأجل زيادة علائق الأخوة .. وتقديره العالي لضروب الخدمات العامة التي يحتاجها المجتمع لإرساء أركانه وصيانة بنيانه فإن جوهر الإسلام الأخوة بتمام معانيها وأبعادها .

المرء كثير بإخوانه:

إن حاجة الإنسان لإكمال نواقصه والوصول إلى كماله تضعه أمام أعباء كثيرة وجسيمة، والإنسان وحده أضعف من أن يقف طويلاً تجاه الشدائد بل قد ينتهي ويزول ولكنه قد يكون في غنى عن الجهد العظيم لو أنّ إخوانه هرعوا لنجدته وظاهروه في نجاح مقاصده وفي الحديث الشريف (المرء كثير بأخيه) (2).

ومن حق الأخوة أن يشعر المسلم بأن إخوانه له في السراء والضراء وأن قوته لا تتحرك في الحياة وحدها وكما يشعر بذلك نحو نفسه لا بد له من أن يقف مع الآخرين هو أيضاً بهذا الشعور وهذه الروحية متجنباً الشر ولا يرجى منه إلاّ الخير :

وما المرءُ إلاّ بإخوانه ***كما يقبض الكفّ بالمعصم

ولا خير في الكف مقطوعة ***ولا خير في الساعد الأجذم

ص: 478


1- البحار : ج 47 ص 370 ح 89 .
2- البحار : ج 75 ص 251 باب 23 حدیث 99 .

ولذا فإنّ قوى المؤمنين لو تآزرت وانشدّ بعضها إلى البعض لا يمكن لأي قوة معادية أن تهذب أو يخترقها .

قال رسول الله علیه السلام «المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً» (1)وأخوة الدين تفرض على المسلمين التناصر وفعل الخيرات لإحقاق الحق وإبطال الباطل وردع المعتدي وإجارة المهضوم وقضاء حاجة المحتاج، فلا يجوز ترك مسلم يكافح في الحياة وحده دون أن نمد له يد المساعدة المادية أو المعنوية على الأقل، فيكون شرّه مأموناً إذا لم يتوصل إلى طريقة يساعد بها الآخرين . .أما إذا فعلنا العكس وكان شرّنا هو الواصل والخير والمساعدة لا يُرجيان منّا لإخواننا وهان الأمر على الآخرين وصرنا أفراداً متشتتين وكل ينقص الآخر ولا يدافع عنه وقد يرى البعض الظلم بعينه دون أن يحرك ساكناً أو يتخاذل في الأمر ومن الواضح أن هذه الحالة لو سرت في المجتمع والعياذ بالله فسوف تنزل علينا اللعنة كما في قول رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلّم «لا يقفنّ أحدكم موقفاً يضرب فيه رجل ظلماً فإن اللعنة تنزل على من حضره حين لم يدفعوا عنه»(2) وكذلك وصفه الرسول الأعظم علیه السلام في حديثه الذي افتتحنا به بحثنا بأنه أشرّ من شرار الناس .

المجتمع الإسلامي:

وهناك بعض الناس لا يهمّه أمر الأخوة الإسلامية وفعل الخير تراه يؤذي الناس بسوء أخلاقه وتصرفاته المشينة ولذا ترى الناس يخافون منه ويبتعدون عنه لأنه سيّىء الأخلاق ولسانه بذيء ويغتاب ولا يعاشر بالمعروف وإنما أغلب حياته خشونة وفظاظة والبعض الآخر لا ينتخب طريقة العنف لإخافة الناس وإنّما تراه بعيداً عن الناس إذ لا يرجى منه الخير ولا يتوسط في أمور الخير ولا يجيب السائل ولا يساهم في الإحسان والمبرات سواء كانت

ص: 479


1- نهج الفصاحة : ص 628 حدیث 3103
2- شرح رسالة الحقوق : ج 1 ص 632 .

المساهمة مادية أو معنوية .. وهكذا أناس يكونون أشد شرّاً من الذي لا يغض طرفه عن الذنب الصادر من أخيه أو لا يقيله عثرته لأنه يساهم في خراب المجتمع الإسلامي وتفتت الأواصر والعداوة بدل الأخوّة وبذلك يستطيع الأعداء النفوذ إلى المجتمع الإسلامي ودس أفكارهم الباطلة وسطه وهناك يكمن الشر العظيم على المجتمع الإسلامي .. بالإضافة إلى انتشار حالة الأنانية والشقاء بين الناس . أما لو انعكست الصورة وتوفّق جميع الأبناء إلى عمل الخير وتمتين أواصر الأخوة والعيش بسلام فإن المجتمع سيتماسك ويكون كالجسد الواحد لا يمكن للأعداء اختراقه . . في الوقت الذي يعيش الجميع فيه آمنين مطمئنين على حياتهم وأوضاعهم أمام نوائب الدهر كما عاشت المدينة (يثرب) قبل أربعة عشر قرناً هذا الاطمئنان والأمان بفضل تماسك المسلمين وتوادّهم وإخلاصهم العمل الله تعالى، وكما ارتفعت حالة العداء بين القبائل القاطنة في المدينة والوافدة إليها وحصل التآخي بين المهاجرين والأنصار وتصالحت قبيلتا الأوس والخزرج بظل الإسلام وكذلك الإيثار عن سماحة والمساواة بين الأنساب والأجناس وتبادل الاحترام والحب كلّ ذلك ساعد على انتشار الإسلام العظيم إلى جمیع أنحاء العالم بمبادئه الإلهية العظيمة.

ص: 480

25- الأعتدالُ في أعمال الدُّنيا و الآخٍرَة

اشارة

ص: 481

ص: 482

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) لعلي (علیه السلام) :

«يا علي: لا ينبغي للعاقل أن يكون ظاعناً إلا في ثلاث: مَرَمّةٍ لمعاش، أو تزود لمَعَاد، أو لذةٍ في غير محرّم (1).

أعمال العقلاء وغاياتها:

في الحديث الشريف بيان لبعض الأمور التي ترتكز عليها أعمال العقلاء : أن يكون ظاعناً أي سائراً في ثلاثة أمور وهي مرمّة لمعاش أو تزود لمعاد أو لذةٍ في غير محرم، وعلى الرغم من قصر الحديث لفظاً فإنه قد جمع الغاية من الخلق من المبدأ إلى المعاد فجميع المخلوقات في هذه الحياة تعمل من أجل بقائها فأي نوع من العمل يختار العاقل؟ ولماذا يعمل؟ أي هي الغاية من عمله ؟ أما نوع العمل فقد حدّده الرسول الأعظم صلّی الله علیه وسلم لوصيّه بثلاثة أمور :

1 - ما يدخل في توفير المعاش .

2 - ما يدخل في التزود للمعاد (الآخرة)

3 - ما يدخل في العون على سلامة الدنيا والآخرة معاً (لذة في غير محرم)، وسيأتي الكلام عن هذه الثلاثة في بيان الحديث الشريف بعد بيان مقدمة :

ص: 483


1- كلمة الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلّم ص158.

ما هي الغاية من العمل للمعاش والمعاد وحفظ النوع؟

الحكماء قسموا الغايات إلى أقسام عديدة منها ما يرتبط بالخالق تعالى كغاية الغايات والغاية الأوليّة وغاية الإيجاد والغاية بالذات وغيرها .. ومنها ما يرتبط بالمخلوقات كالغاية البسيطة مثل الشبع في الأكل والغاية المركبة كالتجمل وإزالة الأوساخ وما شابه كلبس اللباس النظيف وهناك الغاية الشوقية والغاية الشهوية والغاية الغضبية والغاية العقلية . .

والحكماء ينسبون الغاية إلى كل موجود في هذه الدنيا ، قال الحاج السبزواري (ره) :

وكل شيء غاية مستتبع ***حتى فواعل هي الطبائع

إذ مقتضى الحكمة والعناية***إيصال كل ممكن لغاية (1)

وفي معنى ذلك في شرح المنظومة جاء :

«كل فاعل - حتى الفاعل بالطبع - يستتبع غاية ومقصداً، فالإنسان الذي يريد بسيره غاية هي ملاقاة الصديق أو قوة العضلات أو ما أشبه والحجر الهابط يستتبع الوصول إلى الأرض، وهكذا. وإليه أشار بقوله : (وكل شيء) في فعله (غاية) مفعول مقدم (مستتبع) أي يستتبع ويطلب غاية من الغايات (حتى فواعل هي الطبايع) أي الطبائع التي تفعل الفعل بطبعها - كهبوط الحجر إلى الأرض - إنما يستتبع غاية ومقصداً »(2).

أما قوله :

ومقتضى الحكمة والعناية ***إيصال كل ممكن لغاية

فإن الله تعالى حكيم كما ثبت في علم الكلام، أي أنه تعالى يفعل لغاية

ص: 484


1- شرح المنظومة : ج 2 . الحكمة القسم الثاني غرر رقم 47 ص 419 .
2- راجع شرح المنظومة : ص 311 فصل في الغاية .

و هدف ويضع الأشياء في محلّها على الوجه الأكمل لمعرفته بها والدليل على ذلك الخلق بما فيهم الإنسان والحيوان والنبات والأفلاك والجماد فكل مخلوق قد جهز بما يحتاجه في حياته بشكل دقيق وجليل يشير إلى حكمة الصانع وهذه آيات تُحسسنا بحكمة الخالق وعظمته وقدرته وعلمه قال تعالى :

{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ »(1)

وقال الإمام الرضا الا في دعائه :

«سبحان من خلق الخلق بقدرته وأتقن ما خلق بحكمته ووضع كل شيء منه موضعه بعلمه سبحان من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وليس كمثله شيء وهو السميع البصير »(2) .

الهداية في كل شيء :

فخذ على سبيل المثال النمل واهتداءها إلى ادخار قوتها وجمعها وتعاونها على النقل كتعاون الناس على العمل وعمدها إلى الحب لكيلا ينبت ويفسد عليها وإن أصابته نداوة أخرجته ونشرته حتى يجف، فكيف بنا لو تأملنا في أنفسنا وفي الأفلاك وما شابه من المخلوقات العجيبة ؟ !!

قال العلامة الحلي (ره) في شرح التجريد :

«وجوب الوجود يقتضي وصف الله تعالى بالحكمة لأن الحكمة قد يعنى بها معرفة الأشياء وقد يراد بها صدور الشيء على الوجه الأكمل ولا عرفان أكمل من عرفانه تعالى فهو حكيم بالمعنى الأول وأيضاً فإن أفعاله تعالى في غاية الإحكام والإتقان ونهاية الكمال فهو حكيم بالمعنى الثاني »(3).

ص: 485


1- سورة فصلت ؛ الآية : 53 .
2- حق اليقين في معرفة أصول الدين : ج 1 ص 25 .
3- كشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد : ص 326.

فالحكمة الإلهية عبارة عن خلق الأشياء على النحو الأكمل وسيرها نحو الغايات والكمالات اللائقة بها .

قال تعالى على لسان موسى علیهم السلام مخاطباً فرعون :

{قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } (1)

وفي معنى ذلك جاء في بعض التفاسير :

والهداية إراءة الشيء الطريق الموصل إلى مطلوبه، أو إيصاله إلى مطلوبه .. وقد أطلق الهداية من حيث المهدي والمهدى إليه، ولم يسبق في الكلام إلاّ الشيء الذي أعطى خلقه فالظاهر أن المراد هداية كل شيء المذكور قبلاً - إلى مطلوبه ومطلوبه هو الغاية التي يرتبط بها وجوده وينتهي إليها والمطلوب هو مطلوبه من جهة خلقه الذي أعطيه ومعنى هدايته له إليها تسییره نحوها كل ذلك بمناسة البعض للبعض .

فيؤول المعنى إلى إلقائه الرابطة بين كل شيء بما جهز به في وجوده من القوى والآلات وبين آثاره التي تنتهي به إلى غاية وجوده فالجنين من الإنسان مثلاً وهو نطفة مصورة بصورته مجهز في نفسه بقوى وأعضاء تتناسب في الأفعال والآثار ما ينتهي به إلى الإنسان الكامل في نفسه وبدنه فقد أعطيت النطفة الإنسانية بما لها من الاستعداد خلقها الذي يخصّها وهو الوجود الخاص بالإنسان ثم هديت وسيّرت بما جهزت به من القوى والأعضاء نحو مطلوبها وهو غاية الوجود الإنساني والكمال الأخير الذي يختص به هذا النوع . . »(2) .

ص: 486


1- سورة طه ؛ الآيتان : 49 - 50 .
2- تفسير الميزان : ج 14ص 166 و 167 سورة طه .

الإنسان والغاية:

إذن أفعال الله تعالى لها غاية وهدف أما أفعال الممكنات فهل لها غاية وبالأخص الإنسان؟ ففي موقع الجواب نتكلم عن الأخص وهو البشر لأنه الأكمل وإن كانت المخلوقات كلها كالحيوانات والنباتات والجمادات لها غاية وكمال فكمال الحيوان مثلاً في التغذي عليه والاستفادة من جلده أو صوفه والنبات في تحسين وتلطيف الهواء والاستفادة من موادّه وهكذا القمر والشمس والليل والنهار والجبل فهم مسخّرون بأمر الله تعالى لخدمة الإنسان .

قال تعالى : {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * «وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ . . * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ .. * هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ . . } (1).

فأفعال البشر يمكن أن تتصور على قسمين :

1 - قسم منها صحيح وهي الأعمال المعقولة التي تعطي نتائج حسنة ومفيدة وتوصلنا إلى الكمال اللائق.

2 - وقسم منها باطل كالشهوة المحرمة والغضب وكذلك العبث أو الذي لا نتيجة له أي أنه لا يؤثر في الإيصال إلى الكمال اللائق أو السعادة الحقيقية كالتخيّل والشوق - بناءً على رأي بعض الحكماء بأن كلا النوعين لهما غاية وهدف حتى العبث - لأن التخيّل أو الشوق أو لعب الطفل إنما هو مبتدأ لعلّة نعم لعب الطفل يعتبر لهواً بالنسبة إلى المبدأ الفكري الذي هو منتف فيه وأما بالنسبة للعلة فله غاية فيظهر أن لكل شيء غاية قال الشيخ الرئيس أبو علي ابن سينا : «قول من يقول إن العبث فعل من غير غاية البتة

ص: 487


1- راجع سورة النحل من الآية 5 إلى 18 .

هو قول كاذب، وقول القائل أيضاً إن العبث فعل من غير غاية البتة هي خير أو مظنونة خيراً هو قول كاذب . أما الأول فإن الفعل إنما يكون بلا غاية إذا لم تكن له غاية بالقياس إلى ما هو مبدأ حركته لا بالقياس إلى ما ليس مبدأ حركته وإلى أي شيء اتفق .. وأما الثاني فلأن لانبعاث هذا الشوق علة لا محالة» (1) .

إذن أعمالنا بكلا قسميها نحن البشر لها غاية فمرة توصلنا إلى الكمال اللائق لو كانت من القسم الأول وهي السعادة الحقيقية والفوز بالدارين ومرّة تكون من القسم الثاني فلا توصلنا إلى الكمال اللائق أو السعادة الحقيقية فهو وإن فقد الغاية العقلائية والكمال والحكمة ولكنه كان يهدف إلى غاية تتناسب وشوقه أو إدراكه الخيالي .

ولنوضح ذلك بمثال :

لو أراد شخص أن يصنع كرسياً وهيّأ كل المقدمات اللازمة لذلك ومن ثم صنعه فهو أمام حالتين إما أن ينتفع من ذلك الكرسي بالجلوس عليه أو بيعه أو أنه صنعه ورماه بدون أن ينتفع منه، ففي الحالة الأولى يسمى حكيماً -أي له هدف وغاية كما قلنا - لأن الحكيم لا بد أن يكون في عمله :

1 - غرض وغاية .

2 - اختيار الهدف - الغرض - بناءاً على الأصلح والأرجح في الفائدة .

3 - لأجل الوصول إلى النتيجة يختار أفضل الوسائل والطرق أو أقصرها .

وكل نقطة من هذه الثلاث لها تعليل فنقول لصانع الكرسي مثلاً :

لماذا صنعت الكرسي ؟ يقول للهدف الفلاني كأن أجلس عليه ثم لماذا فضّلت الخشب؟ الجواب لأجل المزية الفلانية كالخفّة والنوعية ثم لماذا

ص: 488


1- إلهيات الشفاء : للشيخ الرئيس ج 1 ص 451 و 452 .

استخدمت المطرقة مثلاً ؟ الجواب لأجل أنها الوسيلة الناجحة في هذا العمل وهكذا . .

أما غير الحكيم فإنه قد يفقد ذلك كلّه أو بعضه بناءً على رأي الحكماء أن لكل شيء غرضاً. فلذلك يعتبر الحكيم من أصحاب القسم الأول من الغايات أي الغايات العقلية والمنطقية وهي أشرف الغايات وأما القسم الثاني من الغايات فيدخل ضمن الغايات الشهوية أو الوهمية.

وإلى الغاية العقلية التي هي أشرف الغايات أشار الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلّم في وصيته لأمير المؤمنين علیهم السلام : لا ينبغي للعاقل أن يكون ظاعناً إلاّ في ثلاث :

1 - إصلاح أُمور المعاش : بقوله «مرمّة لمعاش» .

2 - إصلاح أمور المعاد بقوله : «أو تزود لمعاد» .

3 - اللذّة المحلّلة : بقوله «أو لذة في غير محرّم ».

ولنتطرق الآن إلى الأعمال الثلاثة المختصّة بالعقلاء وأصحاب الغايات النبيلة والشريفة :

أولاً :

إصلاح أمور المعاش:

وقد عبر عن ذلك رسول الله صلی الله علیه وآله وسلّم ب- «مرمة لمعاش» فلماذا قال الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلّم مرمّة دون غيرها؟ في اللغة : رمّ رمّاً ومرمة البناء أو الأمر أصلحه(1)، ولذا عبر الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلّم بمّرمة لأن المعاش هو الذي يحتاج إلى ترميم دائماً إما بتطويره من الحسن إلى الأحسن وهذا يتصور في الإنسان الذي توفرت لديه أُمور المعاش كما لو نشأ في أسرة غنية تستطيع تكفّله بما يحتاج، فعلى العاقل هنا

ص: 489


1- المنجد في اللغة : صفحة 278 .

أن يكون ظاعناً نحو الأحسن حتى يعود بالفائدة على نفسه وعلى أبناء المجتمع فالنماء المالي وسط المجتمع الإسلامي مهم جداً لإقامة المشاريع الخيرية وتطوّر المؤسسات الثقافية والاجتماعية . . ، والفائدة التي تعود على نفس الفرد في بناء شخصيته ومكانته واكتسابه الفضائل بتطوره نحو الأحسن، أما لو لم يرمم أمور معاشه وبقي على حاله الذي توارثه عن أسرته وما شابه فإنه يهدّم نفسه ومجتمعه لأنه في حالة فقدان .

الدين . . . وطلب الدنيا:

وهكذا لو نشأ في أسرة متوسطة الحال أو ضعيفتها، عليه أن يكون ظاعناً في إصلاح أمور معاشه دائماً لأن تدافع الناس في أُمور الدنيا ومشاكل الحياة تفسد أحياناً وضعه المعاشي فنرى الإنسان يعمل يومياً لأجل تحصيل المعاش له ولعياله ولكنه معرّض أحياناً للمرض وأحياناً يبتلى فيختلّ وضعه بسبب المعوقات الخارجة عن إرادته فتسبب ضعف مستوى معاشه ولهذا ينبغي أن يصلح من وضعه دائماً بحسن التدبير والتنظيم في أمور حياته بحيث لا يخرج عن الغاية العقلائية . .

لأن المعاش وسيلة عقلائية للوصول إلى الحياة الأفضل والكمال الأتم .

فمالك السيّارة يصلح سيّارته ويلاحظها دائماً لأجل الوصول إلى مقصده وهكذا من قصد الآخرة فعليه إصلاح أمر دنياه وعيشه لتساعده على الوصول إلى مقصده قال رجل لأبي عبد الله علیه السلام : والله إنّا لنطلب الدنيا ونحب أن نؤتاها فقال: تحب أن تصنع بها ماذا ؟ قال : أعود بها على نفسي وعيالي وأصل بها وأتصدق بها، وأحج وأعتمر، فقال علیه السلام :

«ليس هذا طلب الدنيا هذا طلب الآخرة» (1).

ص: 490


1- فروع الكافي : ج 5 ص 72 باب الإستعانة بالدنيا على الآخرة : ح 10.

وعن أبي عبد الله الصادق علیه السلام أيضاً أنه قال :

«الكمال كل الكمال في ثلاثة وذكر في الثلاثة التقدير في المعيشة»(1)بهذا تكون الدنيا وطلب المعاش كمالاً يبغيه الحكيم في فعله لأجل الحصول على الآخرة أو كونه وسيلة وقنطرة يعبر منها والإستفادة من ثمراتها للفوز بالآخرة .

نموذج من الواقع :

مثلاً طالب العلم يحتاج لبلوغه مراتب عالية في تحصيله العلمي أو استمراره على التحصيل إلى توفير بعض المتطلبات كشراء الكتب وبعض متطلبات العيش كنفقة الزوجة والسكن والأولاد بحيث لا يخرج عن كونه وسيلة لذلك أي بقدر ما يصلح معاشه فإذا ما تعدّى ذلك فإنه يكون قد خرج عن الحد العقلائي ودخل في الغايات التي أوضحناها سابقاً والمنافية للحكمة . وهكذا التاجر فإنه بعد أن يصلح أمور معاشه يتوجّب عليه صرف ما زاد عن حاجته بعد إخراج الخمس والزكاة من الواجبات في الأمور الخيرية كبناء المدارس والمعاهد الدينية وإنشاء المؤسسات الخيرية والعلمية وما شابه ليكون بذلك قد عمّر دينه ودنياه .

قال تعالى : {الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم} (2).

وفي الحديث الشريف عن أمير المؤمنين علیه السلام قال :

«ومن بسط يده بالمعروف إذا وجده يخلف الله له ما أنفق في دنياه، ويضاعف له في آخرته» (3).

ص: 491


1- فروع الكافي : ج 5 ص 87 باب تقدير المعيشة : ح 2 .
2- سورة البقرة ؛ الآية : 274 .
3- الكافي : ج 2 ص 154 ط 3 .

التجارة مع الله تعالى:

والحقيقة هي كذلك في الواقع فلو تتبعنا أصحاب القدرة المالية الصحيحة والشرعية لوجدنا الأغلب يزداد بقدر ما أنفقه في سبيل مرضاة الله تعالى وفي الآخرة أيضاً له ضعف ما عمله في دنياه فالأجدر بنا أن تكون غاياتنا لأجل تلك الأضعاف لا لأجل أقل الأثمان في سبيل تعمير دنيا زائلة وهي عند أمير المؤمنين علیه السلام أهون من عفطة عنز أو عرق خنزير كما في قوله :

«ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز» (1).

قال تعالى : «ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله، فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه،{هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } (2) .

فمن أراد أن تكون غايته لأجل المنفعة والخير فمن الضروري أن يختار الطريق الأرجح والأصلح لذلك وهو إصلاح المعاش لا البخل والاحتكار وما شابه من الغايات الشهوية والوهمية فإن البخيل يتوهم بأنه قد بنى له قصراً أو دنيا ثرية وإنما هو يبني لغيره وهو ميت لا محالة وهناك - في الآخرة - الفوز والسعادة الحقيقية والربح العظيم فمن يريد الربح فليتاجر مع الله تعالى وليس مع شيء زائل منقض . . .

قال رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلّم:

«يا علي ما أحد من الأولين والآخرين إلاّ وهو يتمنى يوم القيامة أنه لم يعط من الدنيا إلاّ قوتاً»(3).

ص: 492


1- نهج البلاغة : خطبة 3 ( الشقشقية) ص 50 صبحي الصالح .
2- سورة محمد صلّی الله علیه وآله وسلّم، الآية : 38 .
3- البحار : ج 74 ص 54 باب 3 ط بیروت

وقال الشاعر :

أماويّ إن يصبح صداي بقفرة ***من الأرض لا ماء لديّ ولا خمر

ترى أنّ ما أنفقت لم يك ضائري*** وإنّ يدي مما بخلت به صفر

أماويّ ما يغني الشراء عن الفتى ***إذا حشرجت يوماً وضاق به الصدر (1)

وقال آخر :

ألا يا جامع المال حريصاً ***على الدنيا ألم تخف السؤالا

أتجمعها وتكسبها حراماً*** وتتركها لوارثها حلالا

فيسعد من جمعت له وتشقى ***ألا أقبح بذاك المال مالا (2)

ثانياً :

التزوّد للمعاد:

والهدف الآخر عند العقلاء من عملهم هو «التزود للمعاد» . قال تعالى :

{كل نفس ذائقة الموت وإلينا ترجعون }(3)

قال الطبرسي (ره) في تفسيره : «أي كل نفس أحياها الله بحياة خلقها فيها ذائقة مرارة الموت بأيّ أرض كان فلا تقيموا بدار الشرك خوفاً من الموت ثم إلينا ترجعون بعد الموت فنجازيكم بأعمالكم» (4).

والعودة بعد الموت إلى الحساب في يوم القيامة تسمّى بالمعاد والمعاد من أصول الدين الإسلامي التي على الإنسان الاجتهاد للإعتقاد بها .

ص: 493


1- تنبيه الخواطر (مجموعة ورام) : ج 2 ص 301 .
2- روضة الواعظين : ج 2 ص 430.
3- سورة العنكبوت ؛ الآية : 57 .
4- تفسیر مجمع البيان : مجلد 4 ص455.

قال رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلّم :

«. . فليتزود العبد من دنياه لآخرته ومن حياته لموته، ومن شبابه لهرمه فإن الدنيا خلقت لكم وأنتم خلقتم للآخرة» (1).فالدنيا إذن هي المحطة الأولى وما بعدها هو الهدف فالعاقل الذي يريد الوصول إلى هدفه بأمان لا بد له من التزود من هذه المحطة ليفوز بالسعادة الحقيقية وهي النجاة يوم القيامة. . ومن أهوال يوم القيامة وأبسط مثال على ذلك لو أن شخصاً أراد السفر إلى مدينةٍ ما أو مقصد ما سواء كان قريباً أو بعيداً فعليه تهيئة اللوازم لذلك فإذا كان يريد الذهاب بسيارته مثلاً فتراه يملأها من الوقود اللازم ويضع لوازم الإحتياط للطوارىء المستحدثة في صندوق سيارته تحسباً لكل حدث وأملاً في الوصول إلى الهدف بسلامة أو وصوله لغرضه هذا في أبسط الأمور الحياتية . فمن أراد الوصول إلى الغاية الأشرف والأنبل كيف يكون تزوده لها؟ فالدنيا قنطرة العبور إلى الآخرة وهي المحطة التي من عبرها ولم يتزود منها فقد حصل على الندامة والخسران وفي الآخرة حساب ولا عمل حتى يمكنه تدارك ما فاته قال تعالى :

{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ *لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ *وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } (2).

هذه عاقبة الأعمال يوم يحشر الناس أمام الخالق تعالى فكيف نتزود من هذه المحطة للنجاة في يوم المحشر ؟

قال الإمام أمير المؤمنين علیه السلام :

ص: 494


1- تنبيه الخواطر : ص 106 .
2- سورة المؤمنون ؛ الآيات : 99 - 103 .

«لا يدرك أحد رفعة الآخرة إلاّ بإخلاص العمل وتقصير الأمل ولزوم التقوى»(1)

وسبق أن قلنا إن الحكيم لا بد أن يكون في عمله ثلاثة أمور:

1 - الغرض والغاية وفي هذا المجال غرض الحكيم وغايته الفوز بالآخرة .

2 - اختيار الهدف بناءاً على الأصلح والأرجح وفي هذا الجانب على الحكيم أن يسير في طريق مرضاة الله بأرجح الطرق ومنها :

أ- أن تكون جلّ أعماله خالصة لله تعالى فكراً وعملاً .

ب - التقوى وحسن المعاملة مع الناس.

ج- - الاعتقاد الراسخ بأصول الدين والعمل بفروعه باتباع أوامر الله تعالى والانتهاء عن نواهيه .

د - خدمة الناس وقضاء حوائجهم.

ه- - الهمة والنشاط في العمل وترك الكسل وغيره من الأمور المعيقة عن التقدم .

و - مجانبة الهوى والشهوات الباطلة .

ز - إعانة المظلومين والوقوف بوجه الظالمين .

وغير ذلك مما هو مذكور في الكتب الأخلاقية .

3- لأجل الوصول إلى النتيجة يختار أقصر الطرق وأفضلها مثلاً إذا أراد شخصان تسلق جبل ما فكان أحدهما يحمل معه ما يحتاجه لهذه الرحلة فقط وعرف كيف يتسلق والآخر يحمل معه أثقالاً لا فائدة منها بل قد تعيقه من كثرتها ويسير في طرق متعرجة فالنتيجة تكون مع الأول إذ يصل إلى هدفه

ص: 495


1- تصنيف غرر الحكم : ص 155 ط الأولى .

بسلام والعاقبة تكون لصالحه والثاني قد يصل بعد عناء ومشقة وقد لا يصل أبداً ولهذا يشير الإمام أمير المؤمنين علیه السلام في خطبته أوائل خلافته الظاهرية :

«بادروا أمر العامة وخاصة أحدكم وهو الموت فإن الناس أمامكم، وإن الساعة تحدوكم من خلفكم .تخففوا تلحقوا، فإنما ينتظر بأوّلكم

آخر کم» (1)(1).

فمن اختار طريق الزهد والإخلاص والقناعة فإنه بالغ غرضه لا محالة ومن تخفف عن الذنوب وعن الشهوات والكسل ومساوىء الصفات فقد لحق وفاز .

موعظة بالغة :

روي عن الإمام الصادق علیه السلام أنه قال لبعض تلامذته :

أي شيء تعلّمت منی ؟ قال له : يا مولاي ثمان مسائل .

قال له علیه السلام ، قصّها عليّ لأعرفها، قال :

الأُولى قال : رأيتُ كل محبوب يفارق عند الموت حبيبه فصرفت همي إلى ما لا يفارقني بل يؤنسني في وحدتي وهو فعل الخير، فقال: احسنت والله .

الثانية قال : رأيت قوماً يفخرون بالحسب وآخرين بالمال والولد وإذا ذلك لا فخر ورأيت الفخر العظيم في قوله تعالى :{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ }(2)(2) فاجتهدت أن أكون عنده كريماً، قال : أحسنت والله .

الثالثة قال : رأيت لهو الناس وطربهم وسمعت قوله تعالى : {«وَأَمَّا مَنْ

ص: 496


1- نهج البلاغة : خطبة 167 .
2- سورة الحجرات ؛ الآية : 13 .

خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى} (1) فاجتهدت في صرف الهوى عن نفسي حتى استقرت على طاعة الله تعالى قال أحسنت والله .

الرابعة قال : رأيت كل من وجد شيئاً يكرم عنده اجتهد في حفظه وسمعت قوله سبحانه{من الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له وله أجر كريم } (2)فأحببت المضاعفة ولم أر أحفظ مما يكون عنده فكلما وجدت شيئاً يكرم عندي وجّهت به إليه ليكون لي ذخراً إلى وقت حاجتي إليه، قال : أحسنت والله .

الخامسة قال : رأيت حسد الناس بعضهم لبعض في الرزق وسمعت قوله تعالى :{نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا . . }(3)فما . حسدت أحداً ولا أسفت على ما فاتني، قال : أحسنت والله .

السادسة قال : رأيت عداوة بعضهم لبعض في دار الدنيا والحزازات التي في صدورهم وسمعت قول الله تعالى :

{إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً }(4) فاشتغلت بعداوة الشيطان عن عداوة غيره، قال : أحسنت والله.

السابعة قال : رأيت كدح الناس واجتهادهم في طلب الرزق وسمعت قوله تعالى :{وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين }(5) فعلمت أن وعده وقوله صدق فسكنت إلى وعده ورضيت بقوله واشتغلت بما له عليّ عمّا لي عنده قال : أحسنت والله .

ص: 497


1- سورة النازعات ؛ الآية : 40 .
2- سورة البقرة ؛ الآية : 245 .
3- سورة الزخرف ؛ الآية : 32
4- سورة فاطر ؛ الآية : 6 .
5- سورة الذاريات ؛ الآية : 56 .

الثامنة قال : رأيت قوماً يتكلون على صحة أبدانهم وقوماً على كثرة أموالهم وقوماً على خلق مثلهم وسمعت قوله تعالى : {َمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}(1) فاتكلت على الله وزال اتكالي على غيره فقال له : والله إن التوراة والإنجيل والزبور والفرقان وسائر الكتب ترجع إلى هذه الثمان مسائل» (2).

ثالثاً :

اللذة في غير محرم:

الأمر الثالث الذي على العاقل أن يسير نحوه هو اللذة المحللة، إذ إن طلب المعاش لغرض الفوز في المعاد يتطلب سعياً وجهداً في الحياة الدنيا وقد ركب الله تعالى الإنسان من روح و بدن أما الروح فغذاؤها الدعاء والذكر والتنزّه عن كل معصية .. وأما البدن فيحتاج إلى الأكل والشرب لحفظ البدن من التلف واللباس لحفظ العورة والأموال لحفظ الشرف والجاه والنكاح لحفظ النوع والنسل عن الإنقراض كما أن الإنسان يحتاج إلى أمور أخرى کالسفر إلى الزيارة أو التبادل التجاري وما شابه من العلاقات الاجتماعية التي لا ينفصل عنها الإنسان . . ولذا يرد هنا سؤال :

هل تحصيل اللذة له موازين أم لا ؟ والجواب أن اللذة لها موازين إذ ليست هي الغاية والهدف للإنسان وإنما هي وسيلة كما أن فعل الخير وسيلة للفضائل فاللذة وسيلة لتحصيل الكمال ويشترط فيها التوازن والاعتدال إذ لو أفرط الإنسان في تحصيلها فقد انتخب غاية خسيسة ودنيئة إلا اللذة المعنوية التحصيل العلم لا إفراط فيها، قال رسول الله صلّی الله علیه وآله سلم :

«منهومان لا يشبعان : طالب علم، وطالب دنيا، فأما طالب العلم

ص: 498


1- سورة الطلاق ؛ الآية : 3 .
2- تنبيه الخواطر (مجموعة ورّام) : ج 1 ص 303 و 304 .

فيزداد رضى الرحمن، وأما طالب الدنيا فيتمادى في الطغيان»(1) .

أما لو أفرط في اللذة الشهوية كالشره في الأكل والشرب والنكاح أو اللذة في القدرة كتحصيل المنصب أو الجاه عن طريق الظلم فهي غاية دنيئة، أو لو كان في جانب التفريط إذا لم يحافظ على قوام بدنه أو نسله . .فلا يتمكن من تحصيل المعاش للفوز بالمعاد وبتعبير آخر إن الإسلام شرعة حكيمة تراعي حالة التوازن عند الإنسان لإيصاله إلى هدفه وكماله وتتجلى الحكمة في :

1 - إشباع حاجة الإنسان التكوينية إلى الكمال الروحي. فإذا منع الأول ظلم حقه وهو خلاف الحكمة وقد دفع الإسلام الإنسان إلى إشباع حاجاته الدنيوية، قال تعالى :

{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا }(2) .

وفي رسالة الحقوق للإمام السجاد علیه السلام قال :

«. . . فأكبر حقوق الله تعالى عليك ما أوجب عليك لنفسه حقّه الذي هو أصل الحقوق ثم ما أوجب الله عزّ وجلّ عليك لنفسك من قرنك إلى قدمك على اختلاف جوارحك . . . » (3).

فالدنيا إذا وازن فيها الإنسان واتبع فيها نهج السماء تكون عوناً على الآخرة وكذلك إذا التفت إلى الأول فقط في تحصيل لذات الدنيا وترك الآخرة والكمال فهو ظالم لنفسه لأنه أوقع نفسه عرضةً لعقوبة الله تعالى وفقد الغاية قال تعالى :{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } (4).

ص: 499


1- البحار : ج 1 ص ج 1 ص 182 باب 1 ح 75 ط بیروت .
2- سورة القصص ؛ الآية : 77 .
3- البحار : ج 71 ص 2 باب 1 ح 1
4- سوره طه:الایه :124.

ومعنى ذلك أن يقتّر الله عليه الرزق في الدنيا بقسميه المادي والمعنوي عقوبة له على إعراضه عن ذكر الله وفي الآخرة خسران أيضاً ويحشر أعمى (1) .

ولذا ينبغي على الإنسان أن يوازن بين حاجته البدنية وغايته الأخروية وكما أن الاعتدال والتوازن مطلوب في اللذة الشهوية والغضبية فإن الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلّم أوصانا بأن تكون اللذة من غير محرّم أي أن طلب المال لتوفير المعاش يكون من الحلال ومن طرقه الشرعية ولقمة العيش أيضاً تكون حلالاً مال الحرام والتزاوج بالطريق الشرعي والحصول على المنصب بالكفاءة والحكم بالعدل وما شابه .. وكل ذلك يصب في حفظ المجتمع واستقامته فلا ربا ولا إبخاس لحقوق الآخرين، ولا زنا واختلاط الأنساب والمواريث، ولا ظلم أو ديكتاتورية حاكمة على الناس . فإن الاستخدام العقلائي لحاجة البدن الضرورية عن طريق الحلال يخلق مجتمعاً هادفاً يرفل بالعز والخيرات وتكون أعماله العبادية منسجمة مع أسبابها وعلل فرضها بتنزيه النفوس وتطييب القلوب مضافاً إلى صحة البدن وبقائه .

قال رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلّم: «لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب فإن القلب يموت كالزرع إذا كثر عليه الماء»(2).

وكذلك التوازن والاعتدال في أمور البدن والروح يسمو بالإنسان وربما يجعله من أهل الكشف والكرامة وعلى حد تعبير بعض علماء الأخلاق:

إن الإنسان إذا وصل إلى حالة الاعتدال والتوازن في المزاج يصل إلى مقام الولاية ويصبح ولياً من أولياء الله سبحانه، وهكذا كان علماؤنا الأعاظم كالشيخ أحمد بن فهد الحلي والمقدس الأردبيلي المعروفين بالكرامات وغيرهما . . .

ص: 500


1- راجع مجمع البيان : مجلد 4 مجلد 4 ص 55 طه .
2- تنبيه الخواطر : ج 1 ص 46.

المقدس الأردبيلي (ره) :

المولى أحمد بن محمد الأردبيلي والمعروف بالمقدس الأردبيلي كان مثالاً للإنسان الكامل السائر في الأمور الثلاثة المتقدم ذكرها ومن أحواله أنه كان يقاسم ما عنده الفقراء في عام الغلاء ويبقي لنفسه سهماً واحداً منها، وقد اتفق أنه فعل ذلك في بعض السنين الغالية فغضبت زوجته وقالت : تركت أولادنا في مثل هذه السنة يتكففون الناس، فتركها ومضى إلى مسجد الكوفة للإعتكاف، فلما كان اليوم الثاني جاء رجل بدواب محمّلة الحنطة الطيبة الصافية والطحين الجيد الناعم فقال :

هذا بعثه لكم صاحب المنزل وهو معتكف في مسجد الكوفة . فلما أن جاء المولى من الإعتكاف أخبرته الزوجة بأن الطعام الذي بعثه مع الأعرابي كان طعاماً حسناً، فحمد الله تعالى ولم يكن له خير منه (1) .

وذكر التنكباني في كتابه قصص العلماء :

إن الأردبيلي (قدس سره) أدلى دلوه في البئر لنزح الماء فأخرجه مملوءاً من الذهب ،والدنانير فأرجعه قائلاً : إن أحمد یرید الماء ولا يريد الذهب والدنانير (2).

هكذا كان متوازن النفس معتدل السلوك تجاه الدينار والدرهم الذي أغرى الملايين وسار بهم إلى الهاوية .

نهاية المطاف :

وبعد أن اتضحت لنا الأمور الثلاثة التي ينبغي للعاقل السير لتحصيلها

ص: 501


1- روضات الجنات : ج 1 ص 81
2- نقلاً عن أصحاب الإجماع : ص 155

فلماذا قال الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلّم «لا ينبغي للعاقل أن يكون ظاعناً إلاّ . . . .» ولماذا ظاعناً ؟

الذي يبدو لنا أنه يصوّر الدنيا كسير الظعن (القافلة) والقافلة عندما تسير لها مبدأ ولها منتهى ويتخللها الطريق من المبدأ إلى المقصد وحياتنا الدنيوية بالفعل هكذا إذ تبتدىء من الولادة وتنتهي بالموت وبينهما العمر فينبغي نصلح أعمارنا ونعيش حياتنا بالطريقة العقلائية لنصل إلى المقصد بسلام وإلاّ فإن الخلل فيها يسبب الخسران والندامة . .

ص: 502

26- الأنستَانُ بَيْنَ فَنَاءِ الجَسَدٍ وَبَقَاء الرُوّحٍ

اشارة

ص: 503

ص: 504

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) لعلي (علیه السلام) :

«يا علي، إذا مات العبد قال الناس ما خلّف؟ وقالت الملائكة ما قدّم» (1)

الروح والبدن:

عندما خلق الله سبحانه الإنسان منحه بعدين : 1 - البدن، 2 - الروح

أما البدن فهو فان وينتهي بالموت بعد أن يعيش في الدنيا سنين معدودة كما في قوله تعالى : {كل من عليها فان * ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام} (2) أنشد الإمام الهادي علیه السلام في مجلس المتوكل العباسي :

أين الوجوه التي كانت منعّمة***من دونها تضرب الأستار والكلل

فأفصح القبر عنهم حين سائلهم***تلك الوجوه عليها الدود يقتتل

قد طالما أكلوا دهراً وقد شربوا***وأصبحوا اليوم بعد الأكل قد أكلوا

وأما الروح فهي باقية لرفعتها عن الجسد وبقائها بعد فناء البدن قال

ص: 505


1- كلمة الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلّم : ص156.
2- سورة الرحمن ؛ الآيتان : 26 - 27 .

الإمام أمير المؤمنين علیه السلام «إنما خلقتم للبقاء لا للفناء»(1) ومعنى ذلك أن الإنسان باقٍ وليس فانياً ومن الواضح أن البقاء من ناحية الروح .

أما الذي يفنى فهو البدن . . ولكن الكلام يقع في أمرين :

أولاً : إننا لو ربطنا الباقي (أي الروح) بالفاني (أي البدن) لبقيت الروح ولم يبق للإنسان حصيلة وعمل صالح وذلك لأن الروح تتعلق بالفضائل والأخلاق وتسمو بالإنسان إلى درجة الملائكة المقدسة . . بينما البدن يرتبط بالماديات كالبيت والسيارة ونحو ذلك وبهذه العلاقة الجسمية يعيش لفترة قصيرة .. فإذا عاش بجسمه والتذ بما يرتبط به البدن دون أن يعيش بروحه وينتقل بها إلى كمالاته فإنه لا شك بفناء البدن لم يبق له بعد الموت شيء سوى روحه الخاوية التي تعلقت ببدنه ولم تنل كمالها . . في العلم والمعرفة والفضائل.

إشباع الروح والبدن:

ومع أن المال والحاجات البدنية تفنى لكن الإسلام لم ينه عنها ولكن جعل الحاجة المرتبطة بالبدن خادمة لكمال الروح ولم يرد من الإنسان أن يعيش فقط بروحه وإنمائها بالفضائل دون الحاجات الجسدية من مأكل و مشرب ونكاح ومعاشرة الناس وتحصيل المعاش بل جعل هذه الحاجات في خدمة الإنسان للوصول إلى السعادة ولقد اختلف الحكماء في هذا الأمر فمنهم من ذهب إلى ناحية الروح فقط دون البدن لنيل السعادة ومنهم من جمع بین الأمرين كما عليه حكماء الإسلام وأما السعادة فعند الأقدمين من الحکما راجعة إلى النفوس فقط، وقالوا ليس للبدن فيها حظ، فحصروها في الأخلاق الفاضلة واحتجوا على ذلك بأن حقيقة الإنسان هي النفس الناطقة والبدن آلة لها فلا يكون ما يعد كمالاً له سعادة للإنسان. وعند المتأخرين منهم كأرسطو

ص: 506


1- تصنيف غرر الحكم : ص 133 ط الأولى .

ومن تابعه راجعة إلى الشخص حيث التركيب سواء تعلقت بنفسه أو بدنه، لأن كل ما يلائم جزءاً من شخص معين فهو سعادة جزئية بالنسبة إليه، مع أنه يتعسر صدور الأفعال الجميلة بدون اليسار، وكثرة الأعوان والأنصار، والبخت المسعود، وغير ذلك مما لا يرجع إلى النفس، ولذا قسموا السعادة إلى ما يتعلق بالبدن من حيث هو كالصحة واعتدال المزاج، وإلى ما يتوصل به إلى إفشاء العوارف ومثله مما يوجب استحقاق المدح كالمال وكثرة الأعوان وإلى ما يوجب حسن الحديث وشيوع المحمدة، وإلى ما يتعلق بإنجاح المقاصد والأغراض على مقتضى الأمل. وإلى ما يرجع إلى النفس الحكمة والأخلاق المرضية .. وكمال السعادة لا يحصل إلاّ بما تعلق بالبدن والنفس وبقدر النقصان فيها تنقص، وقالوا فوق ذلك سعادة محضة لا تدانيها سعادة، وهو ما يفيض الله سبحانه على بعض عباده من المواهب العالية والإشراقات العلمية والإبتهاجات العقلية بدون سبب ظاهر، وأما المعلم الأول أرسطو وأتباعه فقالوا إن السعادة العظمى تحصل للنفس مع تعلقها بالبدن ،أيضاً لبداهة حصولها لمن استجمع الفضائل بأسرها، واشتغل بتكميل غيره وما أقبح أن يُقال مثله ناقص وإذا مات يصير تاماً ،فالسعادة لها مراتب، ويحصل للنفس الترقي في مدارجها بالمجاهدة إلى أن تصل إلى أقصاها وحينئذ يحصل تمامها وإن كان قبل المفارقة وتكون باقية بعدها أيضاً. أما المتأخرون عن الطائفتين من حكماء الإسلام فقالوا : إن السعادة في الأحياء لا تتم إلاّ باجتماع ما يتعلق بالروح والبدن، وأدناها أن تغلب السعادة البدنية على النفسية بالفعل، إلا أن الشوق إلى الثانية، والحرص على اكتسابها يكون أغلب وأقصاها أن تكون الفعلية والشوق كلاهما في الثانية أكثر، إلاّ أنه قد يقع الالتفات إلى هذا العالم وتنظيم أُموره بالعرض (1). . ولذا فإن هناك علاقة بين الروح والبدن ناشئة من ابتغاء السعادة التي لا تتم إلاّ بالفضائل وتكميل النواقص وهذا لا يحصل إلاّ من التعاون بين

ص: 507


1- جامع السعادات : ج 1 ص 36 الباب الأول ط 3 .

الروح والبدن إذ المنافع لخدمة الروح وابتغاء الأعمال الصالحة التي ستبقى مع الروح بعد فناء البدن لأن المال يفنى، وكذلك ما شابهه من الأجسام والماديات ولا يبقى إلاّ الروح وإذا لم يعمل البدن لأجل الفضيلة وتكميل الروح وإملائها بالصالحات فإن الروح ستأتي يوم القيامة وهي خاوية {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا *فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وقد خاب من دشاها} (1)، و {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا } (2).

الباقيات الصالحات:

ثانياً : أما لو ربطنا الباقي (أي الروح) بالباقي (أي العمل الصالح) من طاعة الله والأخلاق الفاضلة وحسن المعاشرة ومساعدة الناس. .فإن هذه الأعمال ستبقى لنا كما في قوله تعالى : {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا }(3)وقد جاء في تفسير الآية الكريمة «وهي الطاعات الله تعالى وجميع الحسنات لأن ثوابها يبقى أبداً .. {خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} أي أفضل ثواباً وأصدق أملاً من المال والبنين وسائر زهرات الدنيا فإن من الآمال كواذب وهذا أمل لا يكذب لأن من عمل الطاعة وجد ما يأمله عليها من الثواب. . وفي كتاب ابن عقدة أن أبا عبد الله علیهم السلام قال للحصين بن عبد الرّحمن يا حصين لا تستصغر مودتنا فإنها من الباقيات الصالحات قال يا ابن رسول الله ما أستصغرها ولكن أحمد الله عليها . وإنما سميت الطاعات صالحات لأنها أصلح الأعمال للمكلف من حيث أمر بها ووعد الثواب عليها وتوعد بالعقاب على تركها . . . » (4) .

ص: 508


1- سورة الشمس ؛ الآيات : 7 - 10 .
2- سورة آل عمران ؛ الآية : 30 .
3- سورة الكهف ؛ الآية : 46 .
4- مجمع البيان : المجلد الرابع ص473.

لكن بعض الناس لقصر نظرهم وتعلّقهم بالدنيا ينظرون إلى الفاني من مال وثروة وجاه وأولاد ويتعلقون بها لذلك نجدهم عندما يموت الإنسان يقولون ما خلّف؟ ولا يقولون ما قدّم؟ إذ إنّ الحياة الأخرى هي الحياة الباقية ولأجلها خلقنا ونعمل في هذه الدنيا لأجل الفوز بتلك الحياة الأبدية .. أما الملائكة فقد تجردت عن المادة وعوالقها فهي تنظر إلى أبعد من هذه الحياة ولهذا تقول ما قدّم ولذلك كان أئمتنا علیهم السلام يعملون ونظرهم إلى أبعد من الدنيا ويقدّمون لحياتهم الآخرة ولم يجمعوا من حطام الدنيا شيئاً وأحياناً ينتقلون إلى عالم الجنان وهم مديونون لأنهم يتسابقون مع الدنيا لأجل أن لا يفوتهم يوم أو ساعة دون عمل صالح أو موعظة أو منفعة اجتماعية وقد قال الإمام أمير المؤمنين علیه السلام : «ما من يوم يمرّ على ابن آدم إلاّ قال له : أنا يوم جديد وأنا عليكم شهيد فقل فيّ خيراً واعمل فيّ خيراً أشهد لك به يوم القيامة، فإنك لن تراني بعده أبداً»(1).

ما هي حقيقة الموت:

هل الموت هو الفناء والعدم أم تحوّل وانتقال من عالم لآخر ؟ هذا السؤال كثيراً ما يجول بخاطر الناس ونحن المسلمين نؤمن بالمعاد والعودة يوم القيامة لغرض الحساب والجزاء فعندنا الموت حق كما أنّ القرآن الحكيم والسنة الشريفة قد وضحت لنا حقيقة الموت وقد عبّر القرآن الكريم عن الموت (بالتوفّي) وهو مأخوذ من الوفاء، فعندما يحصل أحد على شيء بتمامه وكماله دون أي نقص يعني أنه يستوفيه والعرب يقولون : (توفيت المال أي أنني حصلت على المال تماماً بدون نقص أي استوفيته . . وقد ورد هذا التعبير في آيات كريمة عديدة منها قوله تعالى : {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }(2).

ص: 509


1- جامع الأخبار : ص 233.
2- سورة النحل ؛ الآية : 32 .

وقوله تعالى : {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا . . } (1)ونستنبط من ذلک أن الموت يعني الإنتقال والتحول من هذا العالم إلى عالم آخر وليس فناء أو عدماً . .

الموت باب وكل الناس داخله ***يا ليت شعري بعد الموت ما الدارُ

الدار دار نعيم إن عملت بما ***يرضي الإله فإن خالفت فالنار

ولذا فإن الأصالة في الإسلام للروح مع ملاحظة كون المادة تدخل في خدمة الروح وتعد وسيلة للوصول إلى التكامل والفوز بالآخرة ولذا جاء في الحديث الشريف (نِعمَ العون على تقوى الله الغِنى)(2) وإن إنكار الروح في الحقيقة هو من اختراع الغرب المادي إذ تمسك بالمادة وعوالقها ووصلت به الأمور إلى الفساد والإنحلال بفعل إنكاره للروح وما يرتبط بها من أخلاق ومحاسن ولمّا أنكروا الروح أنكروا معها المعاد والبعث للحساب وجرّ عليهم هذا التفكير الويلات والعذاب في الآخرة - ومن خطبة لأمير المؤمنين علیه السلام أنه قال : «فلو أن أحداً يجد إلى البقاء سلّماً أو لدفع الموت سبيلاً لكان ذلك سليمان بن داود علیه السلام الذي سُخّر له ملك الجن والإنس مع النبوة، وعظيم

الزلفة، فلمّا استوفى طعمته واستكمل ،مدته رمته قسيّ الفناء بنبال الموت وأصبحت الديار منه خالية والمساكن معطلة، وورثها قوم آخرون» (3)وجاء في الديوان المنسوب للإمام علي علیهم السلام.

رأيت الدهر مختلفاً يدورُ*** فلا حزن يدوم ولا سرور

وقد بنت الملوك به قصوراً ***فلم تبق الملوك ولا القصور (4)

ص: 510


1- سورة الزمر ؛ الآية : 42 .
2- وسائل الشيعة : ج 2 ص 16 باب 6 حديث 1 .
3- نهج البلاغة : خطبة 182 .
4- ديوان الإمام علي علیه السلام : ص 67.

الموت والحياة والابتلاء:

ولذا فإن الموت حق والحياة الدنيا جاءت لغرض الامتحان ونيل الجزاء في الآخرة قال تعالى :{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ }(1)وقد جاء في تفسير الآية الكريمة : الحياة كون الشيء بحيث يشعر ،ويريد، والموت عدم ذلك، لكن الموت على ما يظهر من تعليم القرآن انتقال نشأة الحياة إلى نشأة أُخرى كما تقدّم استفادة ذلك من قوله تعالى :

{نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ - إلى قوله - فيما لا يعلمون } (2)فلا مانع من تعلّق الخلق بالموت كالحياة .. على أنه لو أخذ عدمياً كما عند العرف فهو عدم ملكة الحياة وله حظّ من الوجود يصحّ تعلّق الخلق به كالعمى من البصر والظلمة من النور. وقوله : {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } غاية خلقه تعالى الموت والحياة والبلاء والامتحان والمراد أنّ خلقكم هذا النوع من الخلق وهو أنكم تحيون ثم تموتون خلق مقدميُ امتحانيُ يمتاز به منكم من هو أحسن عملاً من غيره ومن المعلوم أنّ الامتحان والتمييز لا يكون إلاّ لأمر ما يستقبلكم بعد ذلك وهو جزاء كلّ بحسب عمله . . »(3) ومن وصايا الإمام أمير المؤمنين لابنه الحسن علیه السلام :

«إعلم يا بني أنك إنما خلقت للآخرة لا للدنيا، وللموت لا للحياة وأنك في منزل قلعة ودار بلغة وطريق إلى الآخرة، وأنك طريد الموت الذي لا ينجو منه هاربه ،ولا يفوته طالبه ،ولا بد أنّه مدركه، فكن منه على حذر أن يدركك على حالٍ سيئة قد كنت تحدث نفسك منها بالتوبة فيحول بينك وبين ذلك، فإذا أنت قد أهلكت نفسك (4)

ص: 511


1- سورة الملك ؛ الآية : 3 .
2- سورة الواقعة ؛ الآية : 61 .
3- الميزان في تفسير القرآن : ج 19 ص 349 .
4- نهج البلاغة : كتاب 31 .

مع الحیاة موت:

روى الصدوق (ره) بإسناده عن قيس بن عاصم قال : وفدت مع جماعة من بني تميم إلى النبي صلّی الله علیه وآله وسلّم فدخلت وعنده الصلصال بن الدلهمس فقلت : يا رسول الله عظنا موعظة ننتفع بها فإنا قوم نعبر (نعمر) في البرية .

فقال رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلّم: يا قيس إن : يا قيس إن مع العز ذلاً، وإن مع الحياة موتاً الدنيا آخرة، وإن لكل شيء حسيباً، وعلى كل شيء رقيباً، وإن لكل حسنة ثواباً، ولكل سيئة عقاباً، ولكل أجل كتاباً .وإنه لا بد لك يا قيس من قرين يدفن معك وهو حي وتدفن معه وأنت ميت فإن كان كريماً أكرمك وإن كان لئيماً أسلمك ، ثم لا يحشر إلاّ معك ولا تبعث إلاّ معه ،ولا تسأل إلاً فلا تجعله إلاً عنه صالحاً فإنه إن صلح أنست به وإن فسد لا تستوحش إلاّ منه وهو فعلك.

فقال : يا نبي الله أحب أن يكون هذا الكلام في أبيات من الشعر نفخر به على من يلينا من العرب وندخره فأمر النبي صلّی الله علیه وآله وسلّم من يأتيه بحسان قال : فأقبلت أفكر فيما أشبه هذه العظة من الشعر فاستتب لي القول قبل مجيء حسان فقلت : يا رسول الله قد حضرتني أبيات أحسبها توافق ما تريد فقلت :

تخير خليطاً من فعالك إنّما ***قرين الفتى في القبر ما كان يفعلُ

ولا بُدَّ بعد الموت من أن تعدّه*** ليوم يُنادى المرء فيه فيقبلُ

فإن كنت مشغولاً بشيء فلا تكن*** بغير الذي يرضى به الله تشغلُ

فلن يصحب الإنسان من بعد موته ***ومن قبله إلا الذي كان يعملُ

ألا إنّما الإنسان ضيف لأهله ***يُقيم قليلاً بينهم ثمّ يرحل (1)

ص: 512


1- أمالي الصدوق : ص 12 المجلس الأول ح 4 .

فائدة الموت:

وكما أن للموت أثراً ومصيبة على الأهل والأحبة والأقرباء كذلك له فائدة اجتماعية أيضاً وفي ذلك قال الإمام الصادق ال : إن قوماً أتوا نبياً لهم فقالوا ادع لنا ربك يرفع عنا الموت، فدعا لهم فرفع الله تبارك وتعالى عنهم الموت، وكثروا حتى ضاقت بهم المنازل وكثر النسل وكان الرجل يصيح فيحتاج أن يطعم أباه وأمه وجده وجد جده ويوضيهم ويتعاهدهم فشغلوا عن طلب المعاش فأتوه فقالوا : سل ربك أن يردّنا إلى آجالنا التي كنا عليها، فسأل ربه عزّ وجلّ فردّهم إلى آجالهم»(1) فلا بد إذن من ملاقاة الموت والنشور إلى ملاقاة الله تعالى يوم الحساب ولا يقف معنا إلا العمل الصالح وهو النجاة والفوز وهناك شواهد لطيفة على بقاء العمل الصالح نذكرها باختصار

شراء بيت في الجنة:

روى القطب الراوندي وابن شهر آشوب عن هشام بن الحكم أنه قال : كان رجل من ملوك أهل الجبل يأتي الصادق الا في حجّة كل سنة فينزله أبو عبد الله علیه السلام في دار من دوره في المدينة وطال حجه ونزوله (في بيت الإمام لحُبّه الشديد له) فأعطى أبا عبد الله علیه السلام عشرة آلاف درهم ليشتري له داراً (في المدينة حتى لا يزاحم الإمام بكثرة مجيئه والبقاء)، وخرج إلى الحج فلمّا انصرف (من الحج أتى إلى الإمام) قال : جعلت فداك اشتريت لي الدار؟ قال : نعم، وأتى بصك فيه : «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذا ما اشترى جعفر بن محمد لفلان ابن فلان الجبلي له دار في الفردوس حدّها الأول رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلّم والحد الثاني أمير المؤمنين علي علیه السلام والحد الثالث الحسن بن علي علیه السلام والحد الرابع الحسين بن علي علیه السلام فلما قرأ الرجل

ص: 513


1- البحار : ج 6 ص 116 باب 1 حدیث 1 ط بیروت.

ذلك قال : قد رضيت جعلني الله فداك، قال : فقال أبو عبد الله علیه السلام : إني أخذت ذلك المال ففرقته في ولد الحسن والحسين وأرجو أن يتقبل الله ذلك ويثيبك به الجنة . قال : فانصرف الرجل إلى منزله وكان الصك معه ثم اعتلّ علّة الموت فلما حضرته الوفاة جمَع أهله وحلّفهم أن يجعلوا الصك معه ففعلوا ذلك فلما أصبح القوم غدوا إلى قبره فوجدوا الصك على ظهر القبر مكتوب عليه :

(وفى لي والله جعفر بن محمد بما قال)(1) .

العمل الخالد:

ومن الذين نالوا درجةً رفيعة، معتمد الدولة الحاج فرهاد ميرزا بن ولي العهد العباسي ميرزا ابن فتحعلي شاه القاجار وقد قام ببناء الكاظمية سنة 1298 ه- وذهّب مناراته وكان فاضلاً كاملاً أديباً مؤرخاً جامعاً للفنون وله كتاب اسمه (القمقام الزخّار )باللغة الفارسية في مقتل الإمام الحسين علیهم السلام وجملة من أحوال الإمام الحسين علیهم السلام من الولادة إلى الشهادة .. وله آثار خيريّة عديدة ولمّا توفي سنة 1305 ه- في إيران حمل إلى الكاظمية ودفن في حجرة يمين الداخل إلى الصحن الشريف وهناك باب معروفة باسمه ومقبرته مشهورة بمقبرة الفرهادية (2) فاستطاع فرهاد ميرزا من خلال منصبه أن يذخر له عملاً صالحاً ويقدمه لآخرته ليكون له شافعاً القيامة ويخدم مذهب أهل البيت علیهم السلام ولا يحاول كباقي السلاطين والأمراء استغلال مناصبهم ومواقعهم لأجل مصالحهم الدنيوية وأغراضهم الشخصية وخلّفوا وراءهم ثروات طائلة وقصوراً وحشماً وتمتعوا باللهو واللعب

ص: 514


1- منتهى الأمال : ج 2 ص 202 والمناقب ج 4 ص 233 ، ونحوه في الخرائج : ج 1 ص 303 ، وفي المناقب والخرائج (وفى ولي الله جعفر بن محمد)
2- راجع الذريعة إلى تصانيف الشيعة : ج 17 ص 171 ودائرة المعارف الإسلامية ج 23 ص 220 .

وأوغلوا في سفك دماء الناس وظلمهم وسلب حقوقهم ونصبوا العداوة لأهل البيت علیه السلام حتى إذا ما حضرتهم الوفاة وأيقنوا بالخسارة انتبهوا وندموا وأنّى ينفع الندم بعد أن خربوا آخرتهم ولم يقدموا شيئاً إلاّ السوء والندامة بينما فرهاد ميرزا وبفضل أعماله الصالحة والخيرية نال مرتبة عظيمة عند أهل البيت علیهم السلام بحيث نال مجاورة الإمامين الكاظم والجواد علیهم السلام ونجى من عذاب القبر لأن مجاورة الأئمة تدفع عن الإنسان عذاب القبور وقدم لحياته الأخرى عملاً كبيراً وبناءً شامخاً يرتاده المؤمنون ليل نهار للتقرب إلى الله تعالى بالوسيلة ويستغفرون لبانيه ويطلبون له الشفاعة وفي ذلك فوز عظيم . ونُقل أن أبناء العائلة المالكة القاجارية في إيران اجتمعوا يوماً فتذاكروا الحديث عن ثرواتهم وأموالهم المنقولة وغير المنقولة من عقار وذهب وجواهر وغيرها، فكل واحد منهم ذكر ما يمتلك حتى جاء دور فرهاد میرزا فسكت ولم يذكر شيئاً من ثرواته فقيل له ما ذكرت عن ثروتك شيئاً قال : أنا لا أملك شيئاً من المال ولكن عندي في بنك الإمام الحسين عليه االسلام كتاب القمقام وفي بنك الإمام موسى بن جعفر والإمام الجواد عليهم االسلام الصحن الذي بنيته ولا أملك غير هذا .

وصدق فرهاد ميرزا في كلامه فقد انقرضت الدولة القاجارية ولم يبق أحد ولم يبقَ لهم أثر تاريخي يذكر ولكن بقي الكتاب وصحن

الإمامين علیهم السلام .

وقد أجاد الشاعر حين قال :

أنت للمال إذا أمسكته ***وإذا أنفقته فالمال لك

من كلام المحتضرين:

وهناك أناس لم يقدّموا لآخرتهم شيئاً وقد خلّفوا وراءهم تيجاناً وأموالاً ولكنها لم تنفعهم ولذا كانوا يتفوهون بالأسف عند الاحتضار وساعة الندم

ص: 515

نذكر هنا شيئاً من كلامهم أثناء الإحتضار :

*لما حضرت معاوية الوفاة قال : أقعدوني فأقعد فجلس فقال : الآن تذكّر ربك يا معاوية بعد الهرم والإنحطاط ألا كان هذا وغصن الشباب نضر

ریّان .

*ولما حضر عبد الملك بن مروان الوفاة نظر إلى غسّال بجانب دمشق يلوي ثوباً بيده ثم يضرب به المغسلة فقال عبد الملك : والله ليتني كنت غسّالاً لأكل كسب يدي يوماً بيوم ولم ألِ من أمر الناس شيئاً فبلغ ذلك أبا حازم فقال : الحمد لله الذي جعلهم إذا حضرهم الوفاة يتمنون ما نحن فيه .

*وحكي عن هارون الرشيد أنه انتقى أكفانه عند الموت بيده وكان ينظر إلى قبره ويقول : (ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانیه ).

*وفرش المأمون رماداً واضطجع عليه وكان يقول : (يا من لا يزول ملكه إرحم من زال ملكه ).

*وكان المعتصم يقول عند موته : (لو علمت أن عمري هكذا قصير ما فعلت ما فعلت) .

*وكان المنتصر يضطرب على فراشه عند موته فقيل له : (لا بأس عليك فقال : ليس إلاّ هذا لقد ذهبت الدنيا والآخرة) .

*وقال عمرو بن العاص في الوفاة وقد نظر إلى صناديق في بيته فيها ماله : (من يأخذها بما فيها وليتني كنت أبرأ) وليكن لنا من هذا الكلام عبرة قبل أن تفوتنا الفرصة ولا نجد أمامنا شيئاً من العمل الصالح نتمسك به إلاّ المال والجاه والثروة والتي ستفنى وتزول في الدنيا ولا تحضر معنا في يوم الحساب .

ص: 516

التمسك بأهل البيت (علیه السلام):

ومن الأعمال الصالحة التي تنقذنا عند الإحتضار وفي القبر ويوم الحساب التمسك بأهل البيت علیهم السلام وولايتهم ونشر فضائلهم والإقتداء بأفعالهم وهناك شواهد عديدة لحضور الأئمة علیهم السلام شيعتهم عند المحتضر وفي القبر ويوم الحساب.

قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلّم «حبي وحب أهل بيتي نافع في سبعة مواطن أهوالهن عظيمة : عند الوفاة وفي القبر وعند النشور وعند الكتاب وعند الحساب وعند الميزان وعند الصراط » (1) .

ونذكر هنا قصة السيد الحميري : قال الحسين بن عون : دخلت على السيد ابن محمد الحميري عائداً في علته التي مات فيها فبدت في وجهه نكتة سوداء مثل النقطة من المداد، ثم لم تزل تزيد وتنمى حتى طبقت وجهه بسوادها فاغتم لذلك من حضره من الشيعة وظهر من الناصبة سرور وشماتة فلم يلبث بذلك إلاّ قليلاً حتى بدت في ذلك المكان من وجهه لمعة بيضاء فلم تزل تزيد أيضاً وتنمى حتى أسفر وجهه وأشرق وافتر السيد ضاحكاً مستبشراً فقال :

كذب الزاعمون أن علياً ***لن ينجي محبه من هنات

قد وربّي دخلت جنة عدن*** وعفا لي الإله عن سيئاتي

فأبشروا اليوم أولياء علي ***وتولوا الوصي حتى الممات

ثم من بعده تولوا بنيه ***واحداً بعد واحد بالصفات

ثم أتبع قوله هذا «أشهد أن لا إله إلا الله حقاً حقاً وأشهد أن محمداً رسول الله حقاً حقاً وأشهد أن علياً أمير المؤمنين حقاً حقاً، أشهد أن لا إله

ص: 517


1- درر الأخبار فيما يتعلق بحال الإحتضار : ج 1 ص 217 - 218 .

إلاَّ الله» ثم أغمض عينيه لنفسه فكأنما كانت روحه ذبالة طفيت أو حصاة سقطت (1).

حكمة الموت:

وقد تبيّن مما تقدم أنّ الموت ملاق الإنسان لا محالة ولا شكّ في ذلك والإنسان العاقل هو الذي يفكر فيما يقوم به من أعمال قياساً إلى صلاحها وبقائها ذخيرة ليوم الحساب، أما الإنسان غير العاقل فهو الذي غلبته قواه الشهوية والغضبية حتى إنه لا يفكر إلاّ في ما خلّف من أموال وبنين وثروات ومناصب بينما العاقل يتجرّد عن الشهوات والخبائث ويترفع عن الماديات حتى يرقى في بعض الأحيان إلى مصاف الملائكة والصالحين. . ولذلك يكون جلّ اهتمام العقلاء والفاضلين بما قدموا لا بما خلفوا حتى يرحلوا عن الدنيا بميزان ثقيل {والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك المفلحون} (2). .

أما الإنسان المادي فحينما يرى المحتضر أو يسمع بموت فلان يقول ما خلّف وراءه ولا يقول ما قدّم لحياته لأن تفكيره منحصر في المادة وعند موته يظهر ندمه على تفكيره الضيق وحياته التي أفناها في الهوامش .

وقد صوّر لنا القرآن الكريم حالة أصحاب النظرة الضيقة المحدودة بهوامش الحياة وتوافه الأمور في الآخرة فيقول سبحانه:

{كلاً بل لا تكرمون اليتيم ولا تحاضّون على طعام المسكين وتأكلون التراث أكلاً لمّاً وتحبّون المال حبّاً جماً كلاً إذا دكت الأرض دكاً دكاً . . وجاء ربّك والملك صفاً صفاً وجيء يومئذ بجهنم ..«يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ

ص: 518


1- الخصال : ج 2 ص 360
2- سورة الأعراف ؛ الآية : 8 .

الذكرى يقول يا ليتني قدمت لحياتي .. فيومئذ لا يعذّب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد} (1) .

وأما أهل المعرفة .. الذين ينظرون إلى الدنيا بمنظار عميق يترفع عن التوافه . . ويشغلهم ما يقدمونه لآخرتهم فيخاطبهم سبحانه ساعة الموت بخطاب الأمان والسلام والرضا فيقول سبحانه :

{يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي} (2).

ص: 519


1- سورة الفجر ؛ الآيات : 17 - 26 .
2- سورة الفجر ؛ الآيات : 27 - 30 .

ص: 520

27- الأنسَانُ بَينَ السَعادَةَ والشَّقَاء

اشارة

ص: 521

ص: 522

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) لعلي (علیه السلام) :

«يا علي ، أربع خصال من الشقاء جمود العين وقساوة القلب وبُعد الأمل وحب البقاء» (1)

السعادة مع الهدایة دائما:

السعادة من المفاهيم الحيوية التي رافقت الإنسان وترافقه إلى خاتمة المطاف لأن السعادة خير ونفع والعقلاء قالوا بوجوب تحصيل المنافع والخير فضلاً عن عن أنها تعيش في وجدان وفكر كل إنسان، بل إنها هدف الإنسان النهائي وليست الجنة إلاّ معنى تامّ ومتكامل للسعادة كما يقول بعض الحكماء والإنسان في هذه الحياة إنما يرهق نفسه ويتعبها من أجل تحصيل السعادة والعيش في هناء ولعله يعرض نفسه للخطر أو الموت من أجل ذلك فلا يخفى أنها هدف الجميع والكل يتحرك نحو إيجاد مقدمات السعادة ولكن الرؤى تختلف من فرد إلى فرد ومن من فرد إلى فرد ومن فئة إلى أخرى على مستوى المقدمات الموصلة إلى السعادة .. فالبعض يتصور أن الظلم والاستعلاء مثلاً من المقدمات الموصلة إلى السعادة والبعض يرى أن العزلة والانقطاع عن الناس موصل للسعادة بينما القرآن يرى أن مجانبة الطاغوت والإيمان بالله بالعبودية الحقيقية الخالصة مقدمة جيدة لإيصال الإنسان إلى السعادة الخالدة{ فمن

ص: 523


1- الخصال : ج 1 ص 243 .

يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور . . }(1) فالنور تعبير عن الهداية ولا يخفى أن السعادة مع الهداية دائماً والشقاء مع الضلال. وكذلك اختلفت الإنسانية في حقيقة السعادة وأين تكمن؟ فالبعض يرى مطلق السعادة في المال والبعض يراها في الجاه وآخر يراها في سلامة البدن أو كثرة الأولاد ... والقرآن يرى أن السعادة والقرآن يرى أن السعادة هي استكمال الفكر والعقيدة الصحيحتين - سيأتي الكلام في ذلك مفصلاً - وإنما الأموال والأولاد والجاه وغير ذلك كلها أعراض قابلة للزوال والتغيير والحال أن الإنسان يبحث عن السعادة الأبدية .. بل إن القرآن يعد الأولاد أحياناً (عذاباً) في حين أننا نعدها نعمة هنيئة قال تعالى :

{وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا . .} (2) ولأجل بيان معنى ذلك :

سعادة الروح وسعادة الجسم:

هناك سعادة للروح وسعادة للجسم، الأولى سعادة معنوية والأُخرى مادية والإنسان عندما يبتعد عن ربه وينحني نحو الأرض ويلتصق بها ويتعلق قلبه بالدنيا عندها لا يرى إلاّ السعادة المادية ويتصورها هي السعادة الحقيقية ويترك الجانب الثاني وهو سعادة الروح فيتوجه بشكل كلي نحو اقتناء الأمور المادية لأنه يرى السعادة من خلال ما فيها من مال وسلطة وجاه وأولاد ومراكب ومساكن وغيرها - وإذا نال كل واحدة منها سعى إلى الأُخرى لينالها فير كض وراء الأمر الآخر .

«فما دام لم ينل ما يريده كان أمنية وحسرة وإذا ناله وجده غير ما كان

ص: 524


1- سورة البقرة ؛ الآيتان: 256 - 257 .
2- سورة التوبة ؛ الآية : 85

يريده لما يرى فيه من النواقص ويجد معه من الآلام وخذلان الأسباب التي ركن إليها ولم يتعلق قلبه بأمر فوقها فيه طمأنينة القلب والسلوة من كل فائتة فكان أيضاً حسرة فلا يزال فيما وجده متألماً به معرضاً عنه طالباً لما هو خير منه لعله يشفي غليل صدره» (1)أما الإسلام فيرى أن الإنسان متكون من مادة وروح ولكل واحد منهما سعادة فإن سعادة الروح مثلاً في العلم والمعرفة والوعي وشدة الإدراك وانفتاح على عالم الغيب . .وسعادة الجسم في النعم المادية ما لم تكن مزاحمة لذكر الله وشاغلة عن حبّه عزّ وجلّ فإذا تعلق الإنسان بالأولاد أو المال أو الزوجة تعلقاً تاماً وأحبّها حباً عظيماً حينئذ ستكون هذه الأمور عذاباً له في الدنيا والآخرة .. أما في الدنيا فلأنّ نعم الدنيا محفوفة بالمكاره والألم وأما في الآخرة فلأنها شغلته عن ذكر الله عزّ وجلّ فلم يقدم شيئاً لآخرته ومن هنا وصفها القرآن بالعذاب وبالجملة فإن السعادة تكمن في طريق الله عزّ وجلّ والشقاء يكمن في طريق الدنيا المحض .

أضواء على الحياة السعيدة:

قلنا سلفاً إن السعادة الحقيقية هي استكمال الفكر الإنساني والاعتقاد الحق ومن ثم تطابق واندماج الفكر مع العقيدة والفكر يتكامل بالعلم والوعي والاتجاه المنطقي السليم يقول أهل الحكمة إنما العقيدة تتكامل وتكون حقة بالإيمان بخالق الكون والمعاد إليه وما بين البداية والنهاية هناك مجموعة من العقائد الضرورية كالنبوة والإمامة والعدل وما يتفرع عن المعاد وهو الجنة والنار وما يتفرع عن العدل وهو الحكمة والحقوق والواجبات وما يتفرع عن الأخير كالسلوك. فكلما استطاع الإنسان أن يُفعّل هذه العقائد في حياته مستخدماً التفكير الصحيح ومستعيناً بسلوك وسيرة النبي والإمام علیهم السلام يكون قد دخل عالم السعادة من أوسع أبوابه إذ إن السعادة تكمل في تفاعل العقيدة الحياة وإنزال المفاهيم الشريفة إلى أرض الواقع لتتحول إلى سلوك عملي

ص: 525


1- الميزان في تفسير القرآن : ج 3 ص 8 ط إيران .

منتظم ورتيب يضمن للإنسان سلامته في الدنيا ونجاته في الآخرة وهذا المعنى التام للسعادة قال أمير المؤمنين علیه السلام «السعيد من أخلص الطاعة » (1)، «إنما السعيد من خاف العقاب فأمن ورجا الثواب فأحسن واشتاق إلى الجنة فأدلج » (2) إذ كلما استطعنا أن نتفاعل مع التوحيد بأرواحنا ونتحسس آثاره ونعيش مع إشعاعاته الروحية النورانية نكون قد ارتفعنا عن مستوى الطين وقبضته المحكمة إلى عالم المعنويات فإذا كانت هناك سعادة فهي غير متناهية .. إذن العقيدة الإسلامية هي النظرة المركزية لهذا الكون كله .. فكلما تفاعلت أفكارنا وأرواحنا وقلوبنا مع هذه النظرة الواسعة كلما انعكس ذلك على أرواحنا فنعيش حينها السعادة الروحية من الداخل والسعادة الدنيوية من خلال انتظام السلوك وحسنه . إذن حقيقة السعادة هي التحرر من قبضات المادة ولكن ليس كل تحرر وإنما التحرر القائم على أساس العقيدة الحقة والعكس بالعكس إذ كلما اضطربت العقائد داخل نفس الإنسان وكان بعضها باطلاً وهبط عن مستوى الفكر السليم وتعلق قلب الإنسان بهذه الماديات كان إلى الشقاء أقرب .. لأنه يهيىء مقدمات الشقاء وقد مرّ الكلام على أن أُمور الدنيا بما فيها النعم محفوفة بالمكاره والشقاء حتى يحصل عليها الإنسان فكيف الحال إذا كان همه الدنيا وحب البقاء فيها . عن الإمام الصَّادق علیه السلام قال : من أصبح وأمسى والدنيا أكبر همه جعل الله الفقر بين عينيه وشتت أمره ولم ينل من الدنيا إلاّ ما قُسم له ومن أصبح وأمسى والآخرة أكبر همه جعل الله الغنى في قلبه وجمع له أمره (3).

الدنيا بين المؤمن والكافر:

الدنيا في واقعها شقاء وإنما السعادة التامة في الجنة لا محالة ولكن هناك نسبة من السعادة في هذه الدنيا التي تكلمنا عنها فيما مضى . . أما الشقاء

ص: 526


1- تصنيف غرر الحكم : ص 167 ط 1 .
2- تصنيف غرر الحكم : ص 167 ط 1 .
3- الكافي : ج 2 ك الإيمان والكفر ب حب الدنيا : ح 15 .

فهو الغالب على مظاهر هذه الدنيا فإن الأعمال القبيحة نتائجها شقاء والأعمال الصالحة نتائجها خير ولكن تطبيقها فيه تعب ومشقة ولذلك كل فعل في الخارج محاط بمشقة قال تعالى :

{ووطه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} (1)فالنبي كان يتعب نفسه في العبادة فسمي ذلك التعب شقاءاً لأنه على غير طبع النفس البشرية المائلة إلى الدعة والراحة ولذلك يقول أمير المؤمنين : (ما أصف من دار أولها عناء وأخرها فناء في حلالها حساب وفي حرامها عقاب . .} (2)فالدنيا كلها شقاء ولذلك جاء في الحديث (الدنيا سجن المؤمن .. وجنة الكافر) (3)فلأنّ المؤمن في شقاء دائم فيها من ناحية فعل الخير وترك المعاصي فكلاهما يحتاجان إلى تعب فتكون الدنيا بالنسبة إليه سجن يشقى فيه وأما الكافر فلأنه لا آخرة لديه ويتصور أن الدنيا خالدة ويتخيل أن بعض السعادة التي يحصل عليها أو بعض الملذات والرغبات إنما هي مطلق السعادة فتكون الدنيا بالنسبة له جنة .

أسباب الشقاء:

والسؤال هو ما هي أسباب الشقاء وكيف يشقى الإنسان؟ لقد ذكر الرسول الأكرم صلّی الله علیه وسلم بعض الأسباب الداعية للشقاء في هذه الحياة الدنيا منها (جمود العين) أي عدم البكاء لأن البكاء مرآة عاكسة لطراوة القلب ورحمته وأنه من القلوب اللينة المؤمنة وعكسه أي عدم البكاء يدلل على قساوة القلب . والبكاء أنواع حسب الداعي إليه فهناك بكاء من الخوف وبكاء الفرح وبكاء الحزن والشوق فمثال الأول هو بكاء الخلائق خوفاً من الله يوم القيامة عن رسول الله صلّی الله علیه وسلم (كل عين باكية يوم القيامة إلاّ ثلاث: عين بكت من

ص: 527


1- سورة طه ؛ الآيتان: 1 - 2 .
2- نهج البلاغة : 82 من كلام له في وصف الدنيا نسخة المعجم .
3- البحار : ج 70 ص 91 باب 122 ح 67 .

خشية الله وعين غضت عن محارم الله وعين باتت ساهرة في سبيل الله) (1)ولا شك في أن البكاء من خشية الله من الرتب الإيمانية العالية جداً بل إنه دليل على العناية والرحمة الإلهية يقول الإمام الحسين علیه السلام : (بكاء العيون وخشية القلوب من رحمة الله ) (2)والبكاء من خشية الله خاتمته الجنة والسعادة ... لماذا؟ لأنه سوف يعكس أثاراً روحيةً تنظم سلوك الإنسان وتبعده عن المعاصي والقبائح وتقربه من الله أكثر (البكاء من خشية الله ينير القلب ويعصم عن معاودة الذنب) (3) ومما يُنقل عن الإمام الحسين علیهم السلام أنه قال : ما دخلت على أبي قط إلا وجدته باكيا (4) ومما أوحى الله تعالى لداود علیه السلام : ادعني بهذا الاسم «يا حبيب البكائين »ولقد كان الإمام السجاد ومولاتنا الزهراء صلوات الله عليهما من البكائين الخمسة (آدم ويعقوب ويوسف وفاطمة وزين العابدين )(5)فالزهراء بكت على أبيها رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلّم حتى ضج أهل المدينة من بكائها فبنى لها الإمام علي علیه السلام مكاناً خاصاً تبكي فيه كل يوم وهو بيت الأحزان (6)أما الإمام السجاد فبكى على أبيه سيد الشهداء علیه السلام عشرين أو أربعين سنة وما وضع بين يديه طعام إلاّ بكى وكان يقول (إني ما أذكر مصرع بني فاطمة إلاّ خنقتني لذلك العبرة ) (7).

العواطف الصادقة:

وكذلك فإن البكاء فرحاً يدلل على العواطف الصادقة التي تتفاعل مع الأحداث كما في الحزن قال تعالى : {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى

ص: 528


1- الحكم الزاهرة : ص 252 ح 1383 .
2- المصدر نفسه : ح1385.
3- المصدر نفسه : ح 1390 .
4- منتهى الآمال : ج 1 ص 268 .
5- المصدر نفسه .
6- المصدر السابق
7- المصدر نفسه .

أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } (1).

جاء في تفسير الآية الكريمة : إن النجاشي ملك الحبشة أرسل ثلاثين رجلاً من خيار أصحابه إلى رسول الله فلما أتوا رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلّم دخلوا عليه فقرأ عليهم سورة ياسين فبكوا حين سمعوا القرآن وعرفوا أنه الحق فأنزل الله فيهم الآية وقيل إن جعفر بن أبي طالب عندما قرأ على النجاشي ومن حوله من الرهبان والقساوسة سورة مريم بكوا بكاءاً كثيراً فأنزل الله على رسوله هذه الآية في صفتهم (2)فهؤلاء بكوا فرحاً واستهلالاً بظهور النبي الخاتم صلوات الله عليه وآله .. وعدم البكاء يكون عكس ذلك تماماً أي صاحبه يكون قاسي القلب مضطرب العواطف فاقد الإحساس والرحمة كما هو الحال في يزيد بن معاوية فلا هو يبكي من خشية الله ولا يبكي حزناً على آل الرسول ولا يبكي خوفاً من عذاب الآخرة جراء ما صنعه بذرية رسول الله فلا غرابة في أن يكون قاسي القلب ومن أصحاب الجحيم .

البكاء مادياً ومعنوياً:

فضلاً عن فوائد البكاء المادية والمعنوية كما ذكرنا، فقد ثبت علمياً أن البكاء نافع لغسل العيون وإخراج ما بها من أجسام غريبة تؤثر عليها وغيرها من الفوائد العلمية المذكورة في محلها. وأما الفوائد المعنوية فمثلاً بواسطة البكاء استمرت ثورة الحسين علیه السلام وظلّت خالدة. فإن السلطة الظالمة كانت قد منعت الإمام السجاد وسيدتنا زينب علیه السلام من التحدث مع الناس أو عرض تفاصيل واقعة الطف بل إن السلطة منعت ذكر الحسين على أساس أنه خارجي فبدأ الإمام السجاد علیهم السلام بالبكاء على أبيه ليشعر الأمة الإسلامية بأن هناك حدثاً جليلاً يدعوه للبكاء عشرين عاماً أو أربعين وفي كل أوقاته حتى مع

ص: 529


1- سورة المائدة ؛ الآية : 83 .
2- الميزان : ج 6 ص 89 - 90 ط إيران .

الأكل وعندما يسأل الناس عن سبب البكاء كان الإمام يطرح مظلومية الحسين وظلم يزيد و و . . إلى أن وصلت تفاصيل ثورة الإمام الحسين إلى أيدينا ومنذ ذلك الحين إلى اليوم فإن الأمّة تتفاعل مع قضية الحسين عبر البكاء عليه ولهذا تقيم له المآتم وتنصب له العزاء وهي بذلك تستحق خير الأجر والثواب .

القلوب القاسية . . ميتة:

إنّ قساوة القلب هي السبب الثاني الذي يذكره الرسول الأعظم صلّی الله علیه وسلم في حديثه عن أسباب الشقاء وقد قال صلّی الله علیه وآله وسلّم في حديث آخر «يا أبا ذر إن الله تبارك وتعالى لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم . . » (1) (1)إذا صلح القلب صلح عمل الإنسان في الغالب كما تصلح نيته أيضاً وإذا فسد القلب بأن يكون أعمى أو قاسياً أو مريضاً فإن عمل الإنسان يفسد كذلك. والله سبحانه ينظر إلى القلوب قبل الأعمال لأن الأعمال متفرعة عن القلب وعدم البكاء أي جمود العين أيضاً فرع عن قساوة القلب فالقلوب ثلاثة أنواع :

الأول - القلوب المريضة : وهي التي تتعطل وتتوقف عن الحق أحياناً .

الثاني - القلوب القاسية : (الميتة) تتوقف وتبتعد عن الحق ولا يوجد فيها أي نور .

الثالث - القلوب السليمة

ودائماً القلوب القاسية تكون خاتمتها سيئة لأنها كالحجر أو أشد قسوة فلا تتقبل النور والخير . أما عوامل قسوة القلب فهي كما يذكرها القرآن الكريم :

ص: 530


1- الحكم الزاهرة : ص 246 ح 1323 .

الأول : التكذيب بآيات الله {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ } (1) .

الثاني : الإعراض عن ذكر الله {ومن أعرض من ذكري فإن له معيشة ضنكا}(2) .

الثالث : الإستكبار على الله{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا }(3).

مع القلوب القاسية :

ولا يخفى أن القرآن ذكر الأسباب المعنوية وهناك أسباب مادية توجب قساوة القلب فمثلاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم : (قسوة القلب من الشبع) (4) فالتخمة تغلق كل منافذ الروح وذلك لتصاعد الهوى ولا انسجام بين الهوى والروح ولذلك في حديث آخر يقول : ( أحيوا قلوبكم بقلّة الضحك والشبع وطهروها بالجوع تصفو وترق) (5) والجوع عبارة عن كبت الهوى أو عدم طاعة الميول والذي ينسجم مع الروح. ولو حاولنا تطبيق هذه الأسباب على الجبابرة لرأيناها تنعكس على تصرفاتهم فمثلاً يزيد بن معاوية وهو القائل :

لعبت هاشم بالملك فلا ***خبر جاء ولا وحي نزل

فقوله عبارة عن التكذيب بكل آيات الله التي أنزلها على رسوله الكريم القرآنية والكونية وغيرها . أما الصفة الثانية وهي الإعراض عن ذكر الله، ففي يزيد يقول الواقدي : والله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نُرمى بالحجارة

ص: 531


1- سورة الأنعام ؛ الآية : 39 .
2- سورة طه ؛ الآية : 124
3- سورة لقمان ؛ الآية : 7 .
4- الحكم الزاهرة : ص 245 ح 1328 .
5- المصدر نفسه ح 1326 .

من السماء إنه رجل ينكح أمهات الأولاد والبنات والأخوات ويشرب الخمر الصَّلاة (1) فضلاً عن أوامره برمي الكعبة المقدسة بالمنجنيق فاحترقت من شرارته أستار الكعبة وسقفها وقرنا الكبش الذي فدى الله به إسماعيل وكانا في السقف (2)فأين هذا من ذكر الله بل هو سعي لمحو ذكر الله في الأرض أما الصفة الثالثة فهي واضحة الانطباق على يزيد بلا تكلّف، كما في الأولى والثانية وهي استكباره على الله عزّ وجلّ فإنه قتل الحسين ولي الله وحجته على خلقه فالذي هذا فعله ألا يكون مستعلياً ومستكبراً على الله ؟ وتركه الصَّلاة الواجبة ألا يكون استكباراً على الله ؟ وليس هذا فحسب بل ارتكابه أبشع الوقائع بعد واقعة الطف وهي واقعة الحرة عندما خرج أهل المدينة ضد يزيد فأرسل إليهم جيشاً كثيفاً وأمرهم بقتالهم فقتل فيها خلق من الصحابة ونهبت المدينة وافتض فيها ألف عذراء (3)وغيرها من الوقائع البشعة التي تدلل على استكباره وقساوة قلبه ولو لم يكن شيء منه إلاّ قتل الإمام الحسين علیه السلام الكفى في قساوة قلبه وخروجه عن الدين فهذه بعض نتائج قساوة القلب والقرآن يخبرنا أن القاسية قلوبهم يتحركون مع ما يلقي الشيطان إليهم من إيحاءات وفتن فكيف لا يكونون أشقياء ويذوقون مرارة الشقاء في الدارين قال تعالى : {ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم} (4) وجاء في الحديث القدسي «في التوراة مكتوب يابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى ولا أكلك إلى طلبك وعلي أن أسد فاقتك وأملاً قلبك خوفاً مني، وإن لا تفرغ لعبادتي أملأ قلبك شُغلاً بالدنيا ثم لا أسد فاقتك وأكلك إلى طلبك » (5) أي يبقى الإنسان في شقاء في هذه الدنيا إن ابتعد عن طريق الله عز وجلّ ولجأ إلى طريق الدنيا وزخارفها

ص: 532


1- تاريخ الخلفاء للسيوطي : ص 209 .
2- المصدر نفسه .
3- المصدر نفسه.
4- سورة الحج ؛ الآية : 53 .
5- الكافي : ج 2 ك الإيمان والكفر ب العبادة ح 1 .

الأمل بين السلب والإيجاب:

الأمل من الأمور الضرورية للإنسان المتطلع والأمل هو المحرك للإنسان في كثير من الأحيان فبمقدار ما يحمل الإنسان من آمال يسعى نحو تحقيقها . إذن الأمل أمر لا بد منه لكي لا يقع الإنسان في اليأس قال الشاعر الطغرائي :

أعلل النفس بالآمال أرقبها ***ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل

ولكن هناك أمل لا فائدة من ورائه بل ومن وارئه شقاء ونصب وتعب من ناحية .. ومن ناحية أخرى فإن هذا الأمل مرفوض من قبل الشريعة وكذلك العقل .. فما هذا الأمل؟ هو الاعتقاد بدوام الحياة وأن في الوقت متسعاً وأن عمره طويل فهو امتداد للرجاء وظن للبقاء فهذا النوع من الأمل هو المذموم في الأحاديث والروايات لأنه يجعل الإنسان في غفلة عن هدفه الأعلى وتراخ في الوصول إلى الغايات المطلوبة منه بل يبعثه على نسيان الآخرة التي هي خاتمته لا محالة وإهمال ذكر الله وأداء الحقوق والعمل بالواجبات مثله كمثل المسافر في رحلة طويلة الأمد بلا عدة وزاد والطريق مليء بالمخاطر وهو غافل عن كل ذلك بل همه السير فقط بلا هدف. فحينما يعترضه خطر من تلك الأخطار يشعر بالتعاسة والندم والتقصير والتفريط فيهلك دون أن يكمل المسير ودون أن يصل إلى الهدف. وعادة هذا الأمل الخاطىء ملازم للهوى . إذ بسببه يتكون ويتولد هذا الأمل في الإنسان. وإلاّ لو كان الإنسان يقظاً ونظره إلى هدفه الأسمى ينظم كل سلوكه وتحركاته من أجله لما وقع في طول الأمل بل إنه دائب الحركة نحو مقصده . وأما إذا تحرك الهوى فيه وجذبته الرغبات والميول عندها يضمحل الهدف في ذهنه وقلبه وينشغل في إشباع هواه وحتى لو تذكر هدفه فهو يقول إن في الوقت سعة. .ولذلك يقول مولانا أمير المؤمنين علیه السلام (أيها الناس إن أخوف ما

ص: 533

أخاف عليكم اثنان : اتباع الهوى وطول الأمل فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق وأما طول الأمل فينسي الآخرة ألا وإن الدنيا قد ولت حَذَاءَ (1) ...فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا . ..)(2) فالإنسان لا يجب أن تغيب عن باله فكرة السفر وأنه في سفر ورحلة يلزمه الوقت المحدد والزاد المعين والعدة اللازمة.. لكي يصل إلى مقصده بسلام فبعد الأمل أو طول الأمل من أسباب الشقاء في هذه الدنيا لأن صاحبه يظل يعدو وراء الرغبات اللامحدودة والتي لا تشبع منها النفس ولا تمل .

حب البقاء من الشقاء:

وهو السبب الأخير الذي ختم به الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلّم حديثه الشريف وهو ناشيء من الإعراض عن الآخرة والتوجه للدنيا فقط والرغبة إليها . وكل من توجه إلى الدنيا المادية تكون تصوراته ونظراته محدودة وضيقة ولذلك فإن تصوراته تكون دائماً خاطئة فهو يتصور مثلاً أن ملذات الدنيا لا مثيل لها وأنها من أعظم الملذات وأن زخارف الدنيا لا شبيه لها وأنّ نساء الدنيا أجمل من نساء الجنة .. الخ ولذلك فهو يتوجّه إلى هذه اللذائذ ويحاول أن يحصل على أكبر قدر منها حتى تصير هذه الأمور أهدافه العليا في الحياة وينسى الآخرة، والجنّة والنار وكل شيء بسبب حبه لهذه الأمور وبسبب غلبة الهوى عليه فالهوى يسقط الإنسان في مرحلتين :

الأولى : الغفلة بحيث يغفل الإنسان المنصرف إلى الدنيا عن أنه بهذا الانصراف والانقطاع إلى الدنيا قد خرّب آخرته ثم إن الغفلة عن ذكر الله الذي هو (الهدف الأسمى) والمثل الأعلى عبارة عن مرحلة لتفريغ كل الشحنات الروحية والفطرية .

ص: 534


1- الحذاء : السريعة .
2- نهج البلاغة : 42 نسخة المعجم .

موقف شجاع :

روي أن عدي بن حاتم الطائي وهو من أصحاب أمير المؤمنين علیه السلام دخل على معاوية بعد استشهاد الإمام علیهم السلام فقال له معاوية : يا عدي أين الطرفات - يعني بنيه طريفاً وطارفاً وطُرفة - قال : قُتلوا يوم صفين بين يدي علي بن أبي طالب علیهم السلام فقال : ما أنصفك ابن أبي طالب إذ قدم بنيك وأخر بنيه . قال : بل ما أنصفت أنا علياً إذ قتل وبقيت هنا نرى أن معاوية يحاول أن يدغدغ الهوى وحب الأولاد والدنيا ظاناً أنه بذلك يغير من حب عدي للإمام علي - فقال معاوية : أما إنه قد بقي قطرة من دم عثمان ما يمحوها إلاّ دم شريف من أشراف اليمن - وهنا مرة أخرى يثير معاوية حب الدنيا ليحرك الهوى لعله يجد من عدي التماساً أو تنازلاً عن ولائه ولكن أنظر ماذا أجابه ؟ - فقال عدي : والله إن قلوبنا التي أبغضناك بها لفي صدورنا وإن أسيافنا التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا ولئن أدنيت لنا من الغدر فتراً لندنين إليك من الشر شبراً وإن حز الحلقوم وحشرجة الحيزوم لأهون علينا من أن نسمع المساءة في علي علیهم السلام . فسلّم السيف يا معاوية لباعث السيف فقال معاوية (ولم ير المصلحة في إظهار الغضب) هذه كلمات حكم فاكتبوها(1) .

كلمة أخيرة :

لا شك أن كلمات الرسول الأعظم في غاية الأهمية لأنها تنبه الإنسان أن لا ينشدّ كثيراً إلى هذه الدنيا لأنها زائلة غير خالدة ولأن التعلق بها يدعوه إلى الإعراض عن الآخرة فيزداد حبه للدنيا وإذا ازداد حبه تصور أنه باق فيها ثم يتولد من هذا الحب طول الأمل الذي يجعل الإنسان في غفلة وإعراض

ص: 535


1- منتهى الآمال : ج 1 ص 398 .

عن الواجبات ومن ثم يقسو قلب الإنسان وتجمد عينه ولا يتعاطف ولا يتفاعل مع آلامه وآلامها بل يفكر بنفسه ومصالحه فقط وهذا هو الشقاء

العظيم

يا من بدنیاه اشتغل*** قد غره طول الأمل

الموت يأتي بغتةً*** والقبر صندوق العمل

ص: 536

28- المُجْتَمَعُ في مُثَلَّتٍ الدَّمَار

اشارة

ص: 537

ص: 538

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) لعلي (علیه السلام) :

«يا علي : أنهاك عن ثلاث خصال: الحسد والحرص والكبر » (1).

الأمم بأخلاقها:

لا شك أن الأخلاق تميز المجتمعات الفاضلة عن غيرها لأن القيم الأخلاقية هي المادة الخصبة لبناء الحضارة وبناء الأفراد معاً. إذ المجتمع إنما

يقاس ويقيم بما يملك من قيم وصفات حسنة رفيعة. وبالعكس فبمقدار ما يفقد المجتمع من قيمه وصفاته الحسنة يكون حينئذ أقرب إلى الرذائل لأن أخلاق الإنسان وقيمه الحضارية لا تتحجم ولا تتقيد بالإطار الجغرافي أو التأريخي بل إنها تبحث عن قلوب طاهرة تتحلى بها ونفوس مشرقة تتجلّى بها. وكل مجتمع لا يتحلى بالفضائل فهو مجتمع بعيد عن السعادة يعيش الاضطراب والقلق الدائمين بعكس المجتمع الخلوق .

إذ إن الأخلاق الفاضلة تدعو إلى التقدم والبناء وإشاعة الروح المعنوية التي تسود الأفراد وبالتالي يكون المجتمع ذا طابع إنساني خير تحيط به روح الإيمان والتقوى والخير والإخلاص وهي بمجموعها عوامل وأسباب يصل

ص: 539


1- كلمة الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلّم :ص160.

الإنسان والمجتمع من خلالها إلى الكمال ومن ثم إلى الجنة

عن رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلّم قال :

«أكثر ما تلج به أُمتي الجنّة تقوى الله وحسن الخُلق»(1) .

أما التخلي عن الأخلاق الفاضلة فيكون سبباً - عادة - لأن يقع الإنسان في الذنوب، والذنوب تترك خلفها تبعات وآثاراً وضعية كما يعبر عنها علماء الأصول فضلاً عن العقاب الأخروي، فكلما ازدادت اتسعت الخطورة على المجتمع، لأن الأخير إنما يتكون من الأفراد وإذا غرق الأفراد في الرذائل والمعاصي والذنوب معناه بداية اضمحلال المجتمع وانحلاله وتفسخه .

{فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ }(2)

أي عندما تتراكم الذنوب وتصبح المعاصي متفشية في المجتمع عندها تكون سبباً وعلة تامة لفناء المجتمع فالظلم يضخم عدد المحرومين والحسد يذهب النعم والتكبر يعيق العلاقات وهكذا إلى أن ينزل غضب الله وبلاؤه على المجتمع فيهلكه ويستبدل قوماً آخرين .

فساد الدين والدنيا:

ومن أشد الصفات خطورة على المجتمع والفرد:(الحسد والحرص والكبر) إذ إن الحسد هو تمني زوال النعم من أيدي الآخرين وعادة الحسد يؤدي إلى الكراهية وعدم الإنسجام بين الأفراد مما يولد القلق الاجتماعي واضطراب العلاقات الاجتماعية .

وأما الحرص فهو يدعو إلى حب الذات فقط وربما يكبر هذا الحب ليصل إلى أخطر مراحله وهو الاعتراض على الله عزّ وجلّ لماذا كتب عليّ

ص: 540


1- الكافي : ج 2 كتاب الإيمان والكفر ، باب حسن الخلق، ص 82 ح 6 .
2- سورة الأنعام ؛ الآية : 6 .

الموت الآن؟ لماذا أخذ مني ولدي؟ لماذا . . . - والعياذ بالله - .

والكبر لا يقل فساداً وخطورة عن الأولين فهو أيضاً يفتت الوحدة الاجتماعية إذ إنه حالة نفسية تجعل المرء يترفع ويتعالى على الآخرين ولا يختلط بالناس لاعتقاده بعلو منزلته وتصوره مقاماً خاصاً لنفسه .

يقول علماء الأخلاق إن الكبر متفرع عن العجب وهو الإعجاب بالذات وتضخم الأنا في الأعماق، لأجل ذلك دعا الرسول الأكرم صلّی الله علیه وآله وسلّم إلى مجانبة هذه الصفات الثلاث لأنها بالنتيجة تؤدي إلى فساد دين الإنسان وفساد دنياه ولا يخفى أن الحسد غير الغبطة إذ إن الأخيرة هي تمني النعمة التي عند الغير من دون تمني زوالها عن الغير خلافاً للحسد ولذا يعدها البعض من الفضائل الرفيعة أما الحسد فعكسها. وللحسد مراتب مختلفة تختلف في حال المحسود وحال الحاسد، أما الأول فمثلاً أن يحسد شخصاً له مواهب عقلية أو خصال حميدة أو مما يتمتع به من أعمال صالحة أو غير ذلك كما ذكر القرآن في قوله تعالى :

{«َمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } (1) .

وجاء في الروايات أن المحسودين هم أهل البيت علیهما السلام فقد جاء في الخبر عن أبي الصباح قال : سألت أبا عبد الله الصادق علیه السلام عن قول الله عزّ وجلّ {أَمْ يَحْسُدُونَ . . }فقال :

«يا أبا الصباح نحن والله الناس المحسودون » (2).

فالحسد مرض وبيل إذا تفشى فإنه يهدد المجتمع بأسره لأنّ له تبعات ومخلفات مضرة جداً مثل الكراهية والبغض وزوال النعم والإعراض عن شكر الله فضلاً عن أنه يكون سبباً للخلافات الاجتماعية كما هو الحال في قصة أولاد آدم علیه السلام عندما حسد قابيل هابيل على ما أنعم الله عليه وهو أن الله

ص: 541


1- سورة النساء ؛ الآية : 54 .
2- الكافي : ج 1 كتاب الحجة ص 186.

تعالى أمر آدم علیه السلام أن يضع مواريث النبوة والعلم عند هابيل، فغضب قابيل من ذلك فحسد أخاه، فسولت له نفسه قتل أخيه فقتله

الحسد .. وأسبابه:

ولعل أحداً يسأل لماذا الحسد؟ لماذا يتمنى الإنسان زوال نعمة الغير وما الفائدة التي يحصل عليها جراء عمله هذا ؟ وهل هناك أسباب إذا وجدت كان الإنسان بموجبها حسوداً ؟

ذكر علماء الأخلاق أن للحسد أسباباً منها العجب، بأن يعجب المرء بنفسه فلا يرى للآخرين أي مقام ، يتصور أن جميع الكمالات والنعم لا بد أن تكون له وهو الوحيد الذي يستحقها، أما الآخرون فلا مجال لهم ولا دور لديهم .

فتراه يحسد كل إنسان صاحب جاه أو نعيم أو ولي من أولياء الله . وذكروا أيضاً أسباباً أُخرى كالخوف وخبث الطينة وغيرها. ويرى البعض أن سبب الحسد هو رؤية ذل النفس وضعف إرادتها وتسافلها فإن الإحساس بالقصور والذل النفسي يدعو الإنسان أن يحسد كل امرىء . فإننا لم نسمع يوماً أن أحد الأولياء أو أحد العلماء الأتقياء حسد إنساناً آخر على نعمة أو جاه بل دائماً يكون الحسد من لدن أناس يمتازون بالفقر الروحي، ولذلك يقول أمير المؤمنين عليهم السلام في بيان هذا المورد :

«الحاسد مغتاظ على من لا ذنب له » (1).

لأنه يشعر دائماً أنه في درجة أسفل من الآخرين فيحسدهم من هذا المنطلق أحياناً .

ص: 542


1- مائة كلمة لأمير المؤمنين : للبحراني ص 42 ح 52 .

قال الشاعر .

أيا حاسداً لي على نعمتي ***أتدري على من أسأت الأدب

اسات على الله في حكمه ***لأنك لم ترض لي ما وهب

فأخزاك ربي بأن زادني*** وسدّ عليك وجوه الطلب (1)

الحرص . . دوافعه ونتائجه:

الحرص يمكن أن نحكم عليه أنه من الصفات الرذيلة عندما يكبر ويتضخم في قلب الإنسان ويتعلق بكل شيء، ولكن الحرص في أصله أمر حسن أي إذا حافظ الإنسان على التوازن العام لا إفراط ولا تفريط، فإن الدفاع عن الدين والوطن والعرض والمؤمنين ناشيء عن عدة أسباب منها شعوره بالحرص على الدين و على الدين و ... فهنا يكون الحرص أمراً حسناً وجيداً كما الحال في صفة الغضب فهو تارة يكون صفة حسنة عندما يغضب المرء الله عزّ وجلّ فيدافع عن الدين والمسلمين وتارة يكون صفة قبيحة عندما يكون هناك تفريط في جانبه حيث يغضب المرء لأي أمر ثم لا يرى شيئاً إلاّ نفسه ومصالحه وعزته فينسى الله والدين ولذا قال رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلّم.

(الغصب يفسد الإيمان كما يفسد الخل العسل)(2) .

والحرص من الصفات المتأصلة في الإنسان وله مراتب ودرجات في الشدة والضعف وأشد مراتبه وأعظمها وهي المهلكة عندما يحرص الإنسان على الدنيا، فالإنسان ابن هذا التراب وهذا الماء فحب الدنيا مغروس في قلبه منذ ولادته وكلما تقدم الإنسان في العمر ازداد حبه للدنيا وحرص على عمره وعلى كل الأمور المادية الدنيوية .

ص: 543


1- المستطرف : ج 1 ص 459 .
2- الكافي : ج 2 كتاب الإيمان والكفر ، الغضب ج 1 ص 302 .

عن الإمام الصادق علیه السلام قال :

«من كثر اشتباكه بالدنيا كان أشد لحسرته عند فراقها» (1).

وهذه المرحلة من أشد مراحل تسافل الإنسان لأنه سوف يرى الموت قاطعاً لملذّاته فيكره الموت ولعله يعترض على الله ويكره حكمه هذا وقد يؤدي به الأمر إلى الكفر والخروج عن ولاية الله عزّ وجلّ - والعياذ بالله - هذه نتائج الحرص على الصعيد الفردي فكيف الحال إذا أصبح المجتمع أو أكثر أفراده يحملون هذه الرذيلة، ولذلك نهى الرسول الأعظم صلّی الله علیه وسلم عن تبعاته الخطيرة التي تهدد مستقبل ومصير المجتمعات والأفراد وقد قال أمير المؤمنين علیهم السلام في ذم الحرص : «لا اجتناب من محرم مع حرص »(2) .

نقل أنه كان طفلان أحدهما كان يأكل الخبز مع العسل، والثاني كان يأكل الخبر الخالي فالذي لم يكن له عسل كان ينظر إلى عسل ذاك وهو يطمع به وكان تارةً يطلب منه العسل، فقال الطفل صاحب العسل أعطيك بشرط أن تكون كلباً تمشي على يديك ورجليك، فطمعه وحرصه جره إلى أن يصنع نفسه مثل الكلب، فقبل أن يكون كلباً وجعل يمشي على أربع والطفل صاحب العسل يضع أصبعه في العسل ثم يضعه في فم الطفل الذي كان يمثل الكلب . فكل إنسان له طمع بالآخرين يكون مثل الذليل وإذا كان الطفل قنوعاً كان مثل الطفل الآخر (3) .

فإن الحرص هو شدة الطمع ولذا نرى الحريص لا يجتنب عن الوقوع في الحرام - في بعض الأحيان - وأهونه إذلال نفسه عند السؤال الذي هو من أسباب الإذلال فقد جاء عن الرسول صلّی الله علیه وسلم، قال :

ص: 544


1- الكافي : ج 2 كتاب الإيمان والكفار باب الحرص ص 241 ح 16 .
2- مائة كلمة لأمير المؤمنين علیه السلام : للبحراني شرح عبد الوهاب ص 16 ح 18 .
3- عنوان الكلام : ص 63.

«قال الله تعالى : قد نابذني من أذل عبدي المؤمن» (1).

فكيف بالذي يذل نفسه وقلنا إن أعظم تبعاته حب الدنيا والحرص عليها الذي هو مصدر الذنوب كلها فقد جاء في الأخبار أن «رأس كل خطيئة حب الدنيا » (2).

من الشعر المنسوب للإمام علي علیهم السلام :

دع الحرص على الدنيا ***وفي العيش فلا تطمع

ولا تجمع من المالِ ***فلا تدري لمن تجمع

ولا تدري أفي أرض*** ك أم في غيرها تُصرَع

فإنَّ الرزق مقسوم*** وسوء الظن لا ينفع

فقير كل ذي حرص ***غني كل من يقنع (3)

ومن روائع أهل البيت هذه الرواية التي تمثل لنا حال الحريص عن الإمام الباقر علیه السلام، قال :

«مثل الحريص على الدنيا مثل دودة القز كلما ازدادت من القز على نفسها لفاً كان أبعد لها من الخروج حتى تموت غماً» (4) .

يفني البخيل بجمع المال مدته ***وللحوادث والأيام ما يدع

كدودة القز ما تبنيه يهدمها ***وغيرها بالذي تبنيه ينتفع

فعلى الإنسان أن لا يكون أسير رغباته وشهواته بل أن يكون حراً كما خلقه الله عزّ وجلّ كما هو الحال مع عمر بن سعد لعنه الله فمن شدة حرصه على الإمارة وملك الري وتغلغل حب الدنيا في قلبه نراه يقدم على محاربة

ص: 545


1- الوسائل : ج 8 ص 592 باب العشرة ح 6 .
2- الكافي : ج 2 باب حب الدنيا والحرص عليها ص 238 ح 1 .
3- ديوان الإمام علي علیه السلام .
4- الكافي : ج 2 باب حب الدنيا والحرص عليها ص 238 و 239 ح 7 .

وقتل سيد شباب أهل الجنة وإمام زمانه وهو يعلم ذلك كله جيداً فقد وضع نفسه أسيرة للحرص والطمع وحب الدنيا وما أعظم قول الإمام الحسين علیه السلام حينها عندما خاطب جيش الكفر فقال لهم :

«إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحراراً في دنياكم»(1).

متكلم من عالم البرزخ:

ينقل أن عيسى بن مريم علیها السلام مرّ على قرية قد مات أهلها وطيرها ودوابّها فقال :

أما إنهم لم يموتوا إلاّ بسخطة ولو ماتوا متفرقين لتدافنوا، فقال الحواريون : يا روح الله وكلمته أدع الله أن يحييهم لنا فيخبرونا ما كانت أعمالهم فنجتنبها فدعا عيسى ربه فنودي من الجو أن : نادهم فقام عيسى بالليل على شرف من الأرض فقال : يا أهل هذه القرية فأجابه منهم مجيب : لبيك يا روح الله ،وكلمته فقال : ويحكم ما كانت أعمالكم ؟ قال : عبادة الطاغوت وحب الدنيا مع خوف قليل وأمل بعيد وغفلة في لهو ولعب فقال : كيف كان حبكم للدنيا ؟ قال : كحب الصبي لأمه إذا أقبلت علينا فرحنا وسررنا وإذا أدبرت عنّا بكينا وحزنا قال : كيف كانت عبادتكم للطاغوت؟ قال : الطاعة لأهل المعاصي . قال : كيف كان عاقبة أمركم؟ قال: بتنا ليلة في عافية وأصبحنا في الهاوية فقال : وما هي الهاوية؟ قال : سٍجّين، قال: وما سجين؟ قال : جبال من جمرٍ توقد علينا إلى يوم القيامة، قال : فما قلتم وما قيل لكم؟ قال : قلنا ردنا إلى الدنيا فنزهد فيها قيل لنا كذبتم قال : ويحك كيف لم يكلمني غيرك من بينهم؟ قال: يا روح الله إنهم ملجمون بلجام من نار بأيدي ملائكة غلاظ شداد وإني كنت فيهم ولم أكن منهم. فلما نزل

ص: 546


1- مقتل الحسين علیه السلام : للمقرم ص 275 .

العذاب عمني معهم فأنا معلق بشعرة على شفير جهنم لا أدري أكبكب فيها أم أنجو منها فالتفت عيسى إلى الحواريين فقال : يا أولياء الله أكل الخبز اليابس بالملح الجريش والنوم على المزابل خير كثير مع عافية الدنيا والآخرة(1) وكفى عبرة للإنسان أنه يخرج من هذه الدنيا وليس معه شيء سوى عمله وإيمانه .

الكبر أدنى الإلحاد:

فهو شعور نفسي بموجبه يتعالى الإنسان على الآخرين وهو من أخطر الصفات الرذيلة التي تهدد مستقبل الإنسان وفي بعض الأخبار أنه أدنى الإلحاد .

عن الإمام الصادق سُئل عن أدنى الإلحاد ؟ فقال : إن الكبر أدناه (2) ربما لأنه يقود الإنسان لأن يتكبر على الله عزّ وجلّ - والعياذ بالله - حيث يتوهم صاحبه بأن عنده صفات لا توجد عند الآخرين فيراهم أدنى منه درجة وهكذا إلى أن يكبر هذا الشعور فيبدأ بالتكبر عليهم والترفع عنهم والإبتعاد والخروج من أجوائهم مما يربك ويولد الكراهية في صفوف المجتمع. ومن جهة أخرى قد يكون التكبر ناشئاً من حقارة النفس وتسافلها أي لكونها فاقدة للصفات الكمالية وليس عندها سوى الصفات البهيمية ضمن شعور صاحبها بالنقص الذي يعشعش في أعماقه حيث يشعر أن الآخرين أفضل منه في كل شيء فيبدأ بتصنّع التعالي والترفع عنهم رفعاً للإحساس النفسي بالذل والحقارة .

يقول الإمام الصادق علیه السلام :

ص: 547


1- الكافي : ج 2 كتاب الإيمان والكفر باب حب الدنيا والحرص عليها ص 240ح 11 .
2- الكافي : ج 2 كتاب الإيمان والكفر باب الكبر ص 233 ح 1 .

«ما من رجل تكبر أو تجبر إلاّ لذلة وجدها في نفسه»(1).

وهذه الرواية تبين لنا كيف ينشأ الكبر من الشعور بالذلة والحقارة، وفي حياتنا العامة نشاهد الكثيرين من هؤلاء إذ ترى البعض لا يملك من القدرات والمؤهلات ما يدعوه إلى الترفع ولكن مع ذلك يتكبر على الناس ويتعالى عليهم، بل إنه يتكبر حتى على العلماء والمفكرين فلا يسمع منهم ولا يجتمع معهم ولا يجالسهم .

يروى أن رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلّم مرّ في بعض طرق المدينة وكان في الطريق امرأة سوداء تلقط السرقين (2)فقيل لها : تنحي عن طريق رسول الله فقالت : إن الطريق لمعرض أي أنه عريض فهمَّ بها بعض أصحاب رسول الله . فقال رسول الله : دعوها فإنها جبارة (3) .

فمثل هذه النماذج كانت ولا تزال وستبقى في صفوف المجتمعات لا تخلف وراءها سوى المتاعب والمشاكل واضطراب العلاقات والأواصر الإنسانية. وفي الواقع أن المتكبر بهذا البيان هو ذلك الإنسان الذي يعيش عادة - إنحصاراً وضيقاً وتحجماً في فكره وانحطاطاً في شخصيته فيحاول أن يرفع هذا الانحطاط والشعور بالهزيمة النفسية بوضع هالة حول نفسه ولعله يستعين ببعض الأشخاص الذين يعيشون الأزمات النفسية مثله ليجعلهم حوله ظاناً أنه بذلك سيرفع من ضعته وذلته .

سمات المتكبر:

ص: 548


1- الكافي : ج 2 كتاب الإيمان والكفر باب الكبر ص 236ح 17.
2- السرقين : كلمة فارسية الأصل وتعني الزبل والزبالة نقلاً عن المنجد في اللغة ص 330.وتعني أيضاً مدفوع الحيوانات نقلاً عن كتاب (فرهنگ جامع) فارسي ويصطلح عليه باللغة العراقية الدارجة (سرجين) .
3- الكافي : ج 2 كتاب الإيمان والكفر باب الكبر : ص 233 و 234 ح 2 .

وقد وضع أهل البيت علیهما السلام العلامات البارزة لمعرفة المتكبر وأهمها العلامات التي لها مساس بالحياة العامة للمجتمع، فعن محمد بن عمر بن يزيد عن أبيه قال : قلت لأبي عبد الله علیهم السلام إنني آكل الطعام الطيب وأشم الريح الطيبة وأركب الدابة الفارهة ويتبعني الغلام فترى في هذا شيئاً من التجبر فلا أفعله؟

فأطرق أبو عبد الله ثم قال : إنما الجبار الملعون من غمص الناس وجهل الحق .

قال عمر : فقلت أما الحق فلا أجهله والغمص لا أدري ما هو ؟ قال :

من حَقَّر الناس وتجبر عليهم فذلك الجبار (1).

فهنا الإمام يعطي علامتين للمتكبر الأولى جهل الحق والثانية التجبر على الناس؛ أما الأولى فإنها تكون سبباً لظهور الباطل والانحرافات وأنواع الضلالة وأما الثانية فإنها تمنع من تفاعل الناس معه وتفاعله معهم مما يؤدي إلى حرمان كلا الطرفين وظهور حالات التنافر والاشمئزاز والكره. وعادة الإنسان المتكبر لا ينصاع إلى الحق والكلمة الطيبة أو السلوك المهذب إما لتوهّمه وتصوره أنه أفضل من الآخرين، كما هو الحال مع بعض مشركي قريش عندما كان الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلّم يدعوهم إلى الإسلام فكانوا يقولون {.. لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} (2). إذ كان عروة بن مسعود يرى أنه أفضل من الرسول وأنّ لديه لياقات النبوة فلماذا لا ينزل عليه القرآن ؟ وكما هو الحال مع إبليس لعنه الله حينما أمره الله أن يسجد لآدم فأبى وقال {أنا خير منه} (3)(3). وإما أن المتكبر لا ينصاع إلى الحق لوجود عقدة نفسية وشعور بالنقص في أعماقه فلا يسمع من أي أحد كما هو

ص: 549


1- الكافي : ج 2 كتاب الإيمان والكفر باب الكبر : ص 235 ح 13 .
2- سورة الزخرف ؛ الآية : 31
3- سورة الأعراف ؛ الآية : 12 .

الحال في المرأة السوداء التي اعترضت طريق الرسول، وإما لوجود مصالح ومنافع ومكانة فيخاف الإنسان أن تذهب من يده كما هو الحال مع کفار قريش عندما دعاهم الرسول الأعظم إلى الإسلام والإيمان فأبوا واستكبروا، بل إنهم حاربوه وحاولوا قتله خوفاً وحرصاً على مصالحهم ومكانتهم الاجتماعية وإلاّ فإنهم كانوا يدركون ويعرفون صدق الدعوة وواقعية الرسالة ولكن أبوا استكباراً منهم وتعالياً .

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} (1).

وأحياناً كانت قريش من شدة تكبرها وتعاليها على الرسالة المحمدية تُطالب الرسول العظيم بأمور مستحيلة وممتنعة {وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عنواً كبيراً} (2).

فالآية تصفهم بالإستكبار أي أنهم بدلاً من أن يقولوا كلمة الكفر علناً أو يعلنوا تعاليهم على الرسالة فقد كانوا يطالبون الرسول بأمور مستحيلة لا تتحقق لكي يضعوه في موقف حرج .

فأحياناً يكون التكبر سبباً لعدم الإيمان كما هو حال قريش .

{ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ}(3).

وهؤلاء بعملهم هذا وبما يحملون من نفسية ضيقة سوف لن يوفقوا للإيمان أبداً لأنهم غير قادرين على استقبال الفيض الإلهي والهداية الإلهية .

{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } (4).

ص: 550


1- سورة الفرقان ؛ الآية : 60 .
2- سورة الفرقان ؛ الآية : 21 .
3- سورة النحل ؛ الآية : 22 .
4- سورة الأعراف ؛ الآية : 146 .

أما الخاتمة الأخروية للمتكبرين فهي كما يخبرنا عنها القرآن :

{ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}(1).

{فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} (2)

أما خاتمتهم في الدنيا فمثلهم كمثل رجل يقف على جبل يرى الناس صغاراً والناس تراه صغيراً فيحرم من المنافع التي بأيدي الناس وخاتمته الحرمان والذل والحط من قدره في أعينهم وهنا يمكن القول إن للكبر مراتب :

1 - التكبر على الله تعالى وعدم الاعتبار بآياته .

2 - التكبر على الأنبياء والاستهزاء بهم .

3 - التكبر على عباد الله . وكلها قبيحة بل من أشد القبائح .

بين أهل البيت (علیه السلام) والظالمين:

إن ما كان يتمتع به أهل البيت علیهم السلام من كمالات ومكانة اجتماعية مرموقة وفضل قد صرّح القرآن والسنة به كان سبباً لأن يكونوا عرضة لحقد السلاطين. ومن جهة أخرى كان حرص السلاطين على الملك وحسدهم لأهل البيت وتكبرهم وتجبرهم على الأمةمن الأُمور التي تدفعهم للفتك بالأئمة وقتلهم، لأن خلفاء بني أمية وبني العباس كانوا يتسمون بعدم كفاءتهم لإدارة الدولة بعد أن أغرقوا أنفسهم بالملذات وزخارف الدنيا وأهملوا مصلحة الناس ومتطلباتهم فكانت الأمة لا سيما الواعين منها يلتفون حول أئمة أهل البيت علیهما السلام لأنهم كانوا قد صبوا بالغ اهتمامهم في المحافظة على الدين ووحدة المسلمين وهدايتهم إلى الطريق المستقيم وتقويتهم روحياً هذه

ص: 551


1- سورة غافر ؛ الآية : 60
2- سورة النحل ؛ الآية : 29 .

الأمور وغيرها كانت تجعل العدو والصديق محباً لأهل البيت علیهما السلام وبذلك كان الأئمة يحتلون قلوب الناس ويؤثرون على سيرهم فكان خلفاء الجور يعملون كل ما بوسعهم لإضعاف وتحجيم الدائرة التي يتحرك فيها الأئمة علیه السلام حسداً وحرصاً على عروشهم مع علمهم أن آل محمد علیه السلام هم أولى منهم بهذه المناصب الحساسة .

من واقع الظلمة:

يروى أن المأمون قال: حججت مع هارون في أحد الأعوام فلما صار إلى المدينة تقدم إلى حجابه وقال : لا يدخلن علي رجل من أهل المدينة ومكة من أبناء المهاجرين والأنصار وبني هاشم وسائر بطون قريش إلاّ نسب نفسه (وهنا نلحظ روح العنصرية التي كان يتسم بها هارون في سياسته مع الناس) . فكان الرجل إذا أراد أن يدخل عليه يقول : أنا فلان ابن فلان حتى ينتهي إلى جده من هاشم أو قريش وغيرها فيدخل ويصله هارون بخمسة آلاف وما دونها إلى مائتي دينار على قدر شرفه وهجرة آبائه. فبينما أنا ذات يوم واقف إذ دخل الفضل بن الربيع فقال : يا أمير المؤمنين على الباب رجل زعم أنه موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب علیه السلام فأقبل علينا ونحن قيام على رأسه والأمين والمؤتمن وسائر القواد وقال احفظوا على أنفسكم ثم قال لأذنه ائذن له ولا ينزل إلا على بساطي فأنا كذلك إذ دخل شيخ قد أنهكته العبادة كأنه شن بال قد كلم السجود وجهه وأنفه فلما رأى هارون رمى بنفسه عن حمار كان يركبه فصاح هارون : لا والله إلا على بساطي فمنعه الحجاب من الترجل ونظرنا إليه بأجمعنا بالإجلال والإعظام فما زال يسير على حماره حتى سار إلى البساط والحجاب والقواد محدقون به فنزل وقام إليه هارون واستقبله إلى آخر البساط وقبل وجهه ورأسه وأخذ بيده حتى جره في صدر المجلس وأجلسه معه وجعل يحدثه ويقبل عليه ويسأل عن أحواله ولما قام قام هارون لقيامه وودّعه

ص: 552

ثم أقبل علي وعلى الأمين والمؤتمن وقال : يا عبد الله ويا محمد ويا إبراهيم سيروا بين يدي عمكم وسيدكم وخذوا بركابه وسوّوا عليه ثيابه، فاستغرب المأمون من أبيه هذا الصنيع وسأله بعد أن انفرد به عن سبب هذا التقدير والإجلال؟ فقال له : يا بني إنه صاحب الحق - أي بالخلافة - فقال المأمون : إذا كنت تعلم ذلك فرد عليه حقه فقال : إنه الملك والله لو نازعتني فيه لأخذت الذي فيه عيناك (1) .

فهم كانوا يعرفون حق المعرفة مقام الأئمة ودورهم ومكانتهم الواقعية عند الله وعند الناس ولكن مع ذلك كانوا يمارسون ضدهم كل أنواع المحاربة والتعذيب والقتل لأنه حريص على الملك .. الملك الذي يستعد الأب لأن يقتل ويذبح ابنه من أجله. وأي ملك هذا ؟

بين الظلمات والنور:

روي أن السماك دخل على هارون يوماً فاستسقى فأتي بكوزه فلما أخذه قال : على رسلك يا أمير المؤمنين لو منعت هذه الشربة بكم كنت تشتريها؟ قال : بنصف ملكي قال : اشرب هناك الله تعالى فلما شربها قال : أسألك لو منعت خروجها من بدنك بماذا كنت تشتري خروجها قال : بجميع ملكي قال : إن ملكاً قيمته شربة ماء وبوله لجدير أن لا ينافس فيه (2). ولكن السلاطين عادة يغفلون عن هذه الحقيقة فينسون أو يتناسون ذلك فيحسدون ويتكبرون ويحرصون حتى يحين يومهم فيسقطون ولا أحد يحزن لرحيلهم ولا أحد يفرح بقيامهم . قال الشاعر :

خليفة مات لم يحزن له أحد ***وآخر قام لم يفرح به أحد

قسمات الملوك الحسد والكبر والحرص وتبعاتها وخيمة ليست عليهم

ص: 553


1- سيرة الأئمة الإثني عشر : ج 2 ص 331 .
2- تاريخ الخلفاء للسيوطي : ص 293 ط إيران .

فقط بل على مواطنيهم ومجتمعاتهم فعندما ينهى النبي صلّی الله علیه وآله وسلّم عنها عنها فكأنه ينهى عن أسباب وعلل تهلك المجتمع وتدمر ملوكه وجماهيره لأنها تفتك بالإنسان إذ ليس لها حد أبداً بل على العكس إنها مع تقدم الإنسان في العمر وإذا لم يعمل على مجاهدتها تزداد رسوخاً في القلب ولذا جاء في الأخبار :

«وإياكم واستشعار الطمع فإنه يشوب القلب بشدة الحرص ويختم على القلب بطابع حب الدنيا وهو مفتاح كل معصية»(1) .

فقد عرفت خطر هذه الصفات وما تخلفه من تبعات ومن أجل ذلك يوصي لقمان الحكيم ابنه بمجانبة هذه الرذائل والقرآن الحكيم يذكر لنا وصايا لقمان لحرصه على الإنسان وتقويمه وتهذيبه، قال تعالى :{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } (2).

فالتعالي والكبرياء والعزة كلها لله عزّ وجلّ فقط ولا يحق للإنسان الضعيف أن ينازع الله رداءه ومكانته .

فعن الإمام الباقرعلیه السلام :

«العز رداء الله والكبر إزاره فمن تناول شيئاً منه أكبه الله في جهنم» (3).

كتب الإمام الصادق علیه السلام إلى جماعة من شيعته : «إياكم والعظمة والكبر فإن الكبر رداء الله فمن نازع رداء الله قصمه الله وأذله القيامة» (4)يوم قال تعالى : {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا }(5) (5).

ص: 554


1- البحار : ج 69 ص 199 باب جوامع مساوي الأخلاق
2- سورة لقمان ؛ الآية : 18
3- الكافي : ج 2 كتاب الإيمان والكفر باب الكبر : ص 234 ح 3 .
4- شجرة طوبى : ج 2 ص 190 ط لبنان
5- سورة القصص ؛ الآية : 83

وكان ديدن السلاطين والملوك الكبر والظهور بمظهر الإنسان الخالد بل والآلهة فلشدة حبهم للدنيا وحرصهم على الملك ينسون الموت وكأنه لا

يعرف طريقاً إليهم فيتعالون على العلماء ولربما يستمتعون بقتلهم ويفرحون بموتهم لأنهم لا يسعهم أن يستمعوا إلى موعظة أو كلمة حق، ولهذا كانت الحرب سجالاً بين سلاطين بني أمية وبني العباس وبين أئمة الهدى من آل محمد صلّی الله علیه وآله وسلّم فالأئمة كانوا يعملون على زرع القيم الفاضلة في الناس وتذكيرهم بالآخرة دوماً وإيقاظهم بعد السبات لكي يعيشوا فكرة الإيمان دائماً فيكون المجتمع أقرب إلى التقوى. بينما يعمل السلاطين الطغاة ولا زالوا على زرع القيم الفاسدة والأخلاق الذميمة وزرع الروح الانهزامية والخوف من بطش السلطان وإشاعة الرعب والإرهاب وبذلك يكون المجتمع قد وصل إلى حالة من الفساد التي تدمره في نهاية المطاف ولذلك كانت هناك صراعات بين هذين التيارين فالأول يدعو إلى الأخلاق الفاضلة التي تلهم المجتمع نوراً ويقيناً وتزيده معرفة ووعياً وسعادة والثاني يعمل على العكس مضافاً إلى سياسة التجهيل لكيلا تطلع الجماهير على مساوىء الدولة والسلطان فتسقطهما . فكانت معركة النور مع الظلام والحق مع الباطل والفضائل مع الرذائل وما تزال هذه المعارك إلى يومك هذا في كل مكان من العالم، بل وفي كيان الفرد الواحد أيضاً - كما يعبر علماء الأخلاق - فالقلب يدعوه إلى الخير والفضيلة والهوى يدعوه إلى الملذات التي وراءها الرذائل والخيبة

نزوات وشهوات:

لقد شهد ويشهد التاريخ حوادث راح ضحيتها الآلاف بل الملايين إن لم نبالغ في الأمر، وكان سبب هذه الحوادث مجموعة نزوات وشهوات بشرية متأثرة بسجايا وصفات ذميمة تعشعش في أعماق الحكام وأهل السلطة فمثلاً موقف البعض بعد رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلّم لماذا قفز بعض الأشخاص إلى منصة

ص: 555

الحكم مع وجود الخليفة الشرعي الحرص منهم على الإسلام والمسلمين؟ فالرسول أحرص منهم في هذا المورد وقد نصب وصيّه بعد أن بايعه الناس في حجة الوداع في موقع غدير خُم (1). فضلاً عن مزايا مولانا أمير المؤمنين الشخصية ومقاماته المعنوية السامية عند الله تعالى . فنحن لا نجد تفسيراً هنا إلاّ أن نقول إن الصفات والسجايا الواقعية التي كبتت لسنوات عديدة قد ظهرت وما عادت تبصر بعد أن رأت أن الفرصة مناسبة . فموقف بعض الأشخاص الذين اجتمعوا في المكان المعهود لم يكن موقفاً آنياً بل هو انعكاس لجوهر وحقائق هؤلاء الأشخاص فمثلاً «البعض» من شدة تعلقه في الملك ورغبته في الحصول على منصب وسعيه المتواصل في إخراج آل محمد صلّی الله علیه وسلم عن دائرة الخلافة مع علمه المسبق بأولوية الإمام المعصوم علیهم السلام ولكن من خلال تصرفاته في ذلك المكان ينكشف للمسلمين وجهه الحقيقي «فالبعض» هو الذي حَكَمَ بيعة فلان وأذل المخالفين فيها فكسر سيف الزبير لما جرده ودفع في صدر المقداد ووطىء في المكان سعد بن عبادة وقال اقتلوا سعداً قتل الله سعداً وحطم أنف الحباب بن المنذر الذي قال : أنا جذيلها المحكك ... ثم توعد من لجأ إلى دار فاطمة علیها السلام من الهاشميين لإعلان صوتهم لهم وغيرها من الأعمال (2).

فهذه حقائق هؤلاء الذين حاولوا أن يظهروا أنفسهم على أنهم مطيعون للرسول الأكرم ولكن كما يُقال «غلب الطبع على التطبع»، فطاعة الرسول في حياته وبعد موته واجبة على الجميع وكان الرسول سلفاً قد قال :

«من كنت مولاه فهذا علي مولاه» (3).

ص: 556


1- راجع الغدير عن تفصيل الحدث .
2- نهج البلاغة للحديدي : ج 1 ص 174 ط بیروت .
3- معائي الأخبار للصدوق : 65 ، وصحيح الترمذي ج 2 ص 298 ، ومستدرك الصحيحين للحاكم : ج 3 ص 109 ، وكنز العمال : ج 1 ص 48 ، 48، وفي الدر المنثور للسيوطي في ذيل تفسير قوله تعالى : {النبي أولي بالمؤمنين من أنفسهم} سورة الأحزاب .

«أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي»(1)

إذن فعلى أي أساس يعقد بعض الأشخاص اجتماعاً سريعاً وينحى الإمام الشرعي عن منصبه ؟

هذا العمل ليس وليد موقف سياسي فحسب بل هو ظهور واقعي لحب الدنيا وطلب الملك والرئاسة والحرص عليه وإلاّ فالرسول كان قد حلّ المسألة السياسية سلفاً بتنصيب علي علیه السلام وترك هذا الانحراف الأخلاقي انقساماً وانشقاقاً فى الأمة الإسلامية إلى يومك هذا .

من هو المسؤول :

وأول الضحايا قوم مالك بن نويرة الذي امتنع عن دفع الزكاة فلاقى من ذلك القتل حيث قتله خالد بن الوليد وقصته مشهورة

روي أن وفداً من بني تميم جاء إلى الرسول صلّی الله علیه وسلم ومنهم مالك بن نويرة فقال يا رسول الله علمني الإيمان فقال رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلّم: تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأني رسول الله وتصلّي الخمس وتصوم شهر رمضان وتؤدي الزكاة وتحج البيت وتوالي وصيي من بعدي وأشار إلى علي علیه السلام بيده ولا تسفك دماً ولا تسرق ... حتى عد عليه شرائع الإسلام فقال : يا رسول الله أعد عليَّ فإني رجل نساء فأعاد عليه فعقدها بيده وقام وهو يجر إزاره وهو يقول تعلمت الإيمان ورب الكعبة فلما بعد عن رسول صلّی الله علیه وآله وسلّم قال : من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا الرجل فلما توفي رسول الله رجع بنو تميم إلى المدينة ومعهم مالك بن نويرة فخرج لينظر من قام مقام رسول الله فدخل يوم الجمعة وأخو تيم على المنبر

ص: 557


1- معاني الأخبار للصدوق : ص 74 ، وأسد الغابة لابن الأثير : ج 4 ص 26 ، وحلية الأولياء لأبي نعيم : ج 7 ص 195 ، ومسند ابن حنبل : ج 1 ص 182، وتاريخ بغداد:ج11 ص432 وطبقات ابن سعد : ج 3 القسم الأول ص 15 .

يخطب الناس فنظر إليه وقال ما فعل وصي رسول الله الذي أمرني بموالاته قالوا يا أعرابي الأمر يحدث بعد الأمر الآخر قال تالله ما حدث شيء وإنكم لخنتم الله ورسوله ثم تقدم إليه وقال من أرقاك هذا المنبر ووصي رسول الله صلّی الله علیه وسلم جالس فقال أخو تيم أخرجوا الأعرابي البوّال على عقبيه من مسجد رسول الله فقام إليه قنفذ وخالد بن الوليد فلم يزالا يكزان عنقه حتى أخرجاه استتم الأمر وجه خالد بن الوليد وقال له قد علمت ما قال على رؤوس الأشهاد لست آمن أن يفتق علينا فتقاً لا يلأم فاقتله فحين أتاه خالد ركب جواده وكان فارساً يعد بألف فارس فخاف خالد منه فأمنه فأعطاه المواثيق ثم غدر به بعد أن ألقى سلاحه فقتله وعرس بامرأته في ليلته (1).

فتنة كبرى:

ثم كانت معركة الجمل والفتنة الكبرى إذ قادت المعركة زوجة الرسول الأعظم مع شديد الأسف ضد أمير المؤمنين علیه السلام إمام زمانها على الرغم من أن الرسول كان قد حذّرها بقوله :

«والله لا تذهب الليالي والأيام حتى تتنابح كلاب ماء بالعراق يقال له الحوأب امرأة من نسائي في فئة باغية »(2) .

قال ابن قتيبة : لما انتهوا إلى ماء الحوأب في بعض الطريق ومعهم عائشة نبحتها كلاب الحوأب فقالت لمحمد بن طلحة : أي ماء هذا؟ قال : هذا ماء الحوأب، فقالت : ما أراني إلا راجعة قال : ولم؟ قالت : سمعت رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلّم يقول لنسائه : كأني بإحداكن قد نبحتها كلاب الحوأب وإياك أن تكوني أنت يا حميراء، فقال لها محمد بن طلحة : تقدمي رحمك ودعي هذا القول، وأتى عبد الله بن الزبير فحلف لها بالله خلفتيه أول الليل، وأتاها ببينة زور من الأعراب فشهدوا بذلك فزعموا أنها أول شهادة

ص: 558


1- سفينة البحار : ج 2 ص 551 .
2- البحار : ج 32 ص 150 .

زور شهد بها في الإسلام) (1).

ورغم كل ذلك فقد حاربت الأمير مع علمها القاطع بأنها تحارب الحق ولكن حسداً منها لأمير المؤمنين أو لحاجة أخرى - انظر هذه تبعات الحسد - و طمعاً في الملك فراح ضحية هذه الحرب ما يقارب السبعين ألف قتيل كما في بعض الروايات وكذلك الحال في معركة صفين التي راح ضحيتها حوالي التسعين ألف قتيل حسب الروايات وفقد الإسلام رجالاً كانوا من مجاهدي المسلمين وكبارهم مثل عمّار بن ياسر الذي كان الرسول قد قال فيه (عمّار على الحق . . . ) (2)وقال (تقتل عمّاراً الفئة الباغية)(3)فقتله جيش معاوية في معركة صفين وأيضاً كان السبب الرئيسي للحرب هو تعالي معاوية على الإمام علي وعدم الاستجابة لأوامره باعتباره خليفة المسلمين فكان يتكبر على أمير المؤمنين وأيضاً حبه وانغماسه في الدنيا والملك وحرصه الشديد على الملذات والكرسي وبغضه الشديد لأمير المؤمنين .

الشعوب هم الضحايا:

وأما الضحايا في عصورنا المتأخرة فحدث ولا حرج فهتلر كان يحمل مجموعة من مساوىء الأخلاق والصفات الذميمة التي كانت تحركه نحو الشعوب وسحقها فقد كان الحرص عنده قد وصل إلى أعلى مستوياته فكان كلما فتح أرضاً واستغلّها سعى إلى الأخرى ثم إلى الأُخرى وهكذا إلى أن أشعل فتيل الحروب التي راح ضحيتها بنو الإنسان ورملت النساء ويتمت آلاف من الأطفال. وكذا الحال مع نابليون والاستعمار الفرنسي الذي راح ضحيته في الجزائر فقط ما يقارب مليون شهيد فسمي بلد المليون شهيد عدا عن ترميل النساء وتيتيم الأطفال ودمار الحياة الطبيعية وانهاك الروحية الفعالة

ص: 559


1- الإمامة والسياسة : ص 55 .
2- البحار : ج 22 باب فضائل سلمان وأبي ذر وعمّار : ص 326 ح 30 .
3- كنز العمال : ج 7 ص 73 .

وتدمير الثراث والثقافة هناك. ولقد دمرت الحرب العالمية الأولى نصف- حضارة وحياة أوروبا وآسيا وافريقيا لتأتي الحرب العالمية الثانية فتكمل ما تبقى وزادت عليها بأن استخدمت اميركا السلاح الذري ضد اليابان وأحرقت مدينتين يابانيتين بقنبلتين ذريتين - هيروشيما وناكازاكي - وحولتهما إلى رماد خلال ثوان ولا زال اليابانيون يعانون من ويلاتها وقد قدروا عدد ضحايا الحرب الثانية بحوالي (60) مليون قتيل فضلاً عن الجرحى والمعوقين والأزمات النفسية والاقتصادية التي تعد من الآثار السلبية غير المباشرة للحروب

ولو تأملنا اليوم في سياسة الاستعمار في العالم لرأينا أكثر مخططاته وسعيه الدائب لتحطيم الشعوب ونهب خيراتها ناشئة من هذه الدوافع الثلاثة التي ابتدأنا بها البحث الحسد . .والتكبر ... والحرص . .

وعن الإمام الصادق علیه السلام في ذم الحرص :

من تعلق قلبه بالدنيا تعلق قلبه بثلاث خصال همّ لا يفنى، وأمل لا يدرك، ورجاء لا ينال (1) .

ص: 560


1- الكافي : ج 2 ، كتاب الإيمان والكفر باب الحرص : ص 241 ح 17

29- أَضَوَاءُ عَلَى زَكاةٍ المال والنفس

اشارة

ص: 561

ص: 562

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) لعلي (علیه السلام) :

«يا علي تارك الزكاة يسأل الله الرجعة إلى الدنيا وذلك قول الله عزّ وجلّ{ حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب أرجعون} (1)» (2).

الغفلة طريق الإنهيار:

الغفلة من أشد الأمراض النفسية التي تسوّد مصير الإنسان في الدنيا والآخرة لأن خاتمة الإنسان وآخرته مرتبطة بعمله في الدنيا ومقدار ونوعية هذا العمل إذ هو المحدد لنوع العذاب أو النعيم ومدته كذلك {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} (3)ومن المعلوم أن الإنسان في هذه الحياة في حركة دائبة وكما يعتبر القرآن (كدح) فهو في كدح مستمر حتى يصل في نهاية المطاف إلى ربه وهذا الكدح إن كان الله عزّ وجلّ فهو ملاقٍ الله مسروراً وإن كان كدحاً للدنيا فقط فهو يلاقي الله وقد غضب الله عليه{ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ } (4) والسبب في

ص: 563


1- سورة المؤمنون ؛ الآية : 99 .
2- كلمة الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلّم:ص162.
3- سورة الزلزال ؛ الآيتان : 7 - 8
4- سورة الإنشقاق ؛ الآية : 6 .

أن يتوجه الإنسان نحو الدنيا ويترك مقدمات الآخرة هو غفلته عن المستقبل . فيستغرق بما هو فيه من لهو أو عمل دنيوي ويغفل عن أنه معرض للموت ومن ورائه حساب ومن ورائه عذاب . .ويحسب أنه لو تعلق بالدنيا فسوف يحصل بذلك على سلطان الأسباب الكونية يستخدمها ويستذل بها كل ما يتمناه من لذائذ الحياة ويظن أنها باقية له وهو باق لها حتى إذا تعلق بها وغفل عن مقام الرب تبارك وتعالى وأعرض عن الآخرة بالجملة ظهرت له الحقيقة وبان له بأنه كيان ضعيف لا يقدر على دفع أبسط المخاطر عن نفسه فكيف بالموت؟ قال تعالى{ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ } (1)وعادة الإنسان الغافل أنه يغفل بسبب تمكن الدنيا من قلبه وسيطرة هذا التعلق الدنيوي على كيانه فلا يبقى هناك مجال لكي يُشغل بذكر الآخرة والتأمل في الأعمال، بل على العكس يكون هناك إعراض تام عن الآخرة لأن الإنسان إذا تذكر شيئاً أو خطر على باله أمر فإن تصور ذلك الأمر يكون موجوداً في ذهنه أيضاً للملازمة أما إذا غفل عن شيء وأعرض عنه فإنه لا يخطر تصور ذلك الشيء المغفول عنه في ذهنه أبداً ولذلك تراه يعرض عنه بل حتى لو ذكر به ونبّه عليه فإنه يعرض لعدم وجود منطقة فراغ في روحه لكي يتصل من خلالها بالآخرة ولذلك يقول تعالى : {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ } (2)فهم يسمعون القول ومع ذلك يعرضون عنه لتعلقهم القلبي والروحي والجسدي بالدنيا وانجذابهم إليها ولهذا كانت الغفلة أحد الأسباب الداعية إلى عدم قيام الإنسان بواجباته الشرعية وانشغاله في اللهو والغرور .

يحكى أن هارون العباسي عندما بنى أحد القصور في بغداد جاء الشعراء والمداحون لتقديم التهنئة له وكان ممن جاء إليه الشاعر أبو العتاهية فطلب هارون منه أن ينشده شعراً فقال أبو العتاهية :

ص: 564


1- سورة الأنبياء؛ الآية: 1 .
2- سورة الأنبياء ؛ الآيتان : 1 - 2 .

عش ما بدا لك سالماً*** في ظل شاهقة القصور

فقال هارون: أحسنت .

ثم قال أبو العتاهية :

يهدى إليك بما اشتهيت ***من الرواح إلى البكور

فإذا النفوس ترقرقت ***في ظل حشرجة الصدورِ

فهناك تعلم موقناً ***ما كنت إلا في غرورِ

فلما سمع هارون ذلك بكى على غفلته وفرحه بالقصور وإعراضه عن آخرته .

وكلما تعلق الإنسان بالدنيا وانشغل بالملذات زاده ذلك إعراضاً عن هدفه الحقيقي ومصيره النهائي .. وذلك لأن الغفلة وتعلق القلب بالماديات يجعلانه يعرض عن واجباته الشرعية لأنه يشعر أن الصَّلاة تأخذ وقتاً من أوقات ملذاته وأن الزكاة تسلب من أمواله جزءاً فيعتقد بأنه قد خسر من فرص تمتعه. . أو أن الخمس فقدان لأتعابه وجهوده التي يجمع بها الأموال ثم يعطيها للغير فيشعر أن ذلك مصادرة لأمواله وأتعابه لذلك نرى أن بعض الناس يعرض عن الخمس والزكاة لأن الإنسان يحب المال أكثر من أي شيء.. ولذلك جعل الله الخمس مثلاً امتحاناً للناس واختباراً

لإيمانهم .

تكليف صعب :

لماذا ذكر الرسول الأعظم علیه السلام في حديثه الزكاة ؟ ولماذا كانت الزكاة والخمس من أثقل التكاليف على الإنسان ؟ لأن الإنسان في هذه الدنيا أكثر ما يتعلق قلبه بالمال حتى إن علقته بالمال تفوق شهوة الملك عند البعض ويقول البعض إن المال مأخوذ من الميل لكونه مما يميل إليه القلب قال تعالى :

ص: 565

{وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّاً}(1){وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } (2)ولذلك قدم القرآن المال على الأولاد والأهل لعلمه تعالى بأن الإنسان أشد ما يرغب إلى المال{إ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا } (3) {اَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ }(4){الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ} (5)..الخ ولأن المال أوضح مصاديق الربح والمنفعة ولذلك نرى المولى سبحانه وتعالى عندما يخاطب الإنسان أحياناً يخاطبه بهذه اللغة { هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } (6) أو بالوصف كما في قوله {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مرضاة اللّه} (7)فيظهر من ذلك أن الإنسان شديد الحب والتعلق بالأموال والتجارة فيرغب في جمعها بل يعرض نفسه للمخاطر من أجل الحصول عليها ولعله أحياناً يسلك بعض الوسائل اللاشرعية من أجل الحصول على المال فهو يشعر أن المال يمنحه القوة والمنعة والسيطرة واقتناء كل ما يرغب فيه .. وبالجملة فالإنسان يرى في المال السبب القوي لصناعة السعادة له في الحياة فيحرص عليه كثيراً ولذلك كانت الزكاة أو الخمس أو مطلق الإنفاق للغير من أثقل الأمور على الإنسان وأشدها صعوبة عليه لأنه يشعر أن جزءاً من سعادته سوف يذهب إلى الغير لذلك يعرض البعض عن دفع الزكاة أو الخمس ولو كان على حساب مصيره الأخروي، لأنه يجهل مدى السعادة الأُخروية لكنه من شدة تعلقه بالمال والدنيا ينقطع عن كل شيء إلا المال ولذا يمتنع البعض عن إعطاء الحقوق الشرعية التي في ذمته من خمس وزكاة ولكن ينبغي أن نعلم أن عدم إعطاء الحقوق الشرعية لأهلها

ص: 566


1- سورة الفجر ؛ الآية : 20 .
2- سورة العاديات ؛ الآية : 8 .
3- سورة آل عمران ؛ الآية : 10 .
4- سورة الأنفال ؛ الآية : 28.
5- سورة الكهف ؛ الآية : 46 .
6- سورة الصف ؛ الآية : 10.
7- سورة البقرة ؛ الآية : 207 .

ملازم لحب الدنيا الذي يعد المال من أظهر مصاديقه .

من هو المالك الحقيقي ؟ :

روي ان بهلول شوهد ذات مرة في المقابر وهو يخاطب الأموات قائلاً : أي كذبة أي كذبة !

فقيل له : هل تجدَّد جنونك يا بهلول ؟ قال : كلا إنهم كانوا يفتخرون ويقولون لنا قصور ولنا بساتين ومراكب وأموال وأولاد وقوة وسلطة . . .وأراهم اليوم وليس عندهم شيء .. إنهم كانوا كاذبين حيث كانوا يدعون ما لم يكن لهم فأموال الإنسان في حقيقتها ليست له وإنما هي الله عزّ وجلّ فلا يتعلق الإنسان بالأموال بدرجة الحب والعشق لأنها مثلما جاءته سوف تذهب عنه ولن تخلد له ولا هو خالد لها بقول مولانا أمير المؤمنين علیه السلام «فإن الذي في يدك من الدنيا قد كان له أهل قبلك وهو صائر إلى أهل بعدك» (1)وقال الشاعر :

وما المال والأهلون إلاّ ودائع*** ولا بد يوماً أن تُرد الودائع

الزكاة في البعد اللغوي والفقهي:

جاء في اللغة أن معنى الزكاة مأخوذ من زكا أي النمو الحاصل عن بركة الله تعالى ويعتبر ذلك بالأمور الدنيوية والأخروية يُقال زكا الزرع ويزكو إذا حصل منه نمو وبركة وقوله {ْأَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا}(2)إشارة إلى ما يكون حلالاً لا يُستوخم عقباه .. ومنه الزكاة لما ومنه الزكاة لما يخرج الإنسان من حق الله تعالى إلى الفقراء وتسميته بذلك لما يكون فيها من رجاء البركة أو لتزكية النفس أي تنميتها بالخيرات والبركات أو لهما جميعاً فإن الخيرين موجودان

ص: 567


1- نهج البلاغة : ح 416 من كلام له لابنه الإمام الحسن علیه السلام
2- سورة الكهف ؛ الآية : 19

فيها (1) وكذا الحال في الخمس لأن لفظة الزكاة تشمل الخمس أيضاً فيكون الخمس هو الآخر سبباً من أسباب تنمية الروح وتهذيب القلب وطهارة النفس وأيضاً سبباً للبركة الحاصلة في الأموال لأن الزكاة والخمس كأمانة بيد العبد وكأنها أموال للغير في أموال العبد فيجب عليه أن يردها إلى أصحابها وهم المستحقين فالخمس مثلاً أن يدفع إلى آل محمد صلّی الله علیه وآله وسلّم وهم ذوو القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل وعندما يكون الإنسان ممتثلاً لأمر الله بأن يدفع الخمس الذي عليه يكون بذلك أقرب إلى التقوى لأنه استطاع أن يتجاوز رغباته وتعلقه بالمال فعن أحد الصادقين علیه السلام : قد فرض الله في الخمس نصيباً لآل محمد صلّی الله علیه وآله وسلّم فأبى (فلان) أن يعطيهم نصيبهم حسدا وعداوة وقد قال الله { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }(2)(3) وعلى هذا فيكون المعنى اللغوي للزكاة هو النمو والبركة والإصطلاحي هو إخراج مقدار محدود من الأموال ودفعها إلى مستحقيها وفق شرائط خاصة ذكرها الفقهاء في الكتب الفقهية .

الزكاة تعاون على البر والتقوى:

لعل الحكمة من وجوب الزكاة والخمس هي مصلحة اجتماعية عامة تخدم المجتمع الإسلامي ككل فعندما يدفع الإنسان قسماً من أمواله إلى الحاكم الشرعي والأخير بدوره سوف يصرفها إما في بناء المؤسسات الاجتماعية والدينية . . أو توزيعها على الفقراء من المؤمنين فإن هذا العمل بحد ذاته عبارة عن تحول المال إلى فائدة يستفيد منها الكثير من أفراد مة بعد أن كانت أوراقاً نقدية مثلاً في جيب أحد الأشخاص ولذا قال الإمام أبو الحسن علیه السلام : (إنما وضعت الزكاة قوتاً للفقراء وتوفيراً لأموالهم)(4)

ص: 568


1- مفردات الراغب : مادة زكا ص 218 .
2- سورة المائدة ؛ الآية : 45
3- البحار : ج 93 ك الخمس ص 188 ح 16 ط بيروت
4- الحكم الزاهرة عن النبي وعترته الطاهرة : ص 157 ح815.

ومن جهة أخرى فإن خروج هذه الأموال بالفائدة على المجتمع سوف يوفر بمرور الزمن الاكتفاء الذاتي للأمة ككل كما للأفراد، فعندما يصرف الحاكم الشرعي بعض الأموال في بناء مؤسسة تجارية أو ثقافية أو ما شابه فإن عمله هذا خير وبر ينعكس بالفائدة على الأفراد فيكون ذلك المجتمع مصداقاً للآية الكريمة { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}(1)ومن جهة ثالثة فإن الحقوق الشرعية أحد أسباب قوة الحوزات الدينية واستقلالها وبالتالي استمرار المذهب الحق، فبواسطة المال تكون الديمومة للمؤسسات الإسلامية وللحوزات العلمية التي تدرس علوم أهل البيت علیهما السلام وتقوم بإرسال المبلغين وبنشر الكتب وغيرها .. لا سيما في عصرنا الحاضر لأن لأن سلاح الأعداء هوالمال وهناك فوائد عظيمة تعود بالنفع على المجتمع من الحقوق الشرعية لا مجال لذكرها هنا ولكن بعبارة نقول إن المجتمع الذي يهتم بدفع حقوقه الشرعية من الأموال كما يهتم حاكمه بصرفها في مصارفها الشرعية الخاصة أيضاً يُعد مجتمعاً قوياً وغنياً .

الزكاة ضد الطغيان والاستكبار:

ومن الحكمة أن الله عزّ وجلّ جعل الزكاة لأن كثرة المال تورث الطغيان والاستكبار في الإنسان وذلك قوله تعالى : {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ } (2).

والبغي هو الظلم ومعنى الآية : إنه لو وسع الله الرزق على عباده فأشبع الجميع لظلموا في الأرض - وذلك أن من طبع سعة المال الأشر والبطر والاستكبار والطغيان كما هو واضح وملحوظ - ولكنه سبحانه ينزل ما يشاء من الرزق بقدر الحكمة والمصلحة إنه بعباده خبير بصير فيعلم ما يستحقه كل

ص: 569


1- سورة المائدة ؛ الآية : 2 .
2- سورة الشورى ؛ الآية : 27 .

عبد وما يصلحه من غنى أو فقر فيؤتيه ذلك (1) . ومعلوم أن الظلم مخالف لاختيار الإنسان فإذا استشرى في المجتمع بسبب الأموال مثلاً تحول ذاك المجتمع إلى نصفين طبقة مستأثرة وطبقة محرومة وعندها تبدأ النزاعات وأحياناً المعارك الدامية فعن الإمام الصادق قال : إن الله عزّ وجلّ أوحى إلى نبي من أنبيائه في مملكة جبار من الجبارين أن ائت هذا الجبار فقل له : إنني لم أستعملك على سفك الدماء واتخاذ الأموال وإنما استعملتك لتكف عني أصوات المظلومين فإني لم أدع ظلامتهم وإن كانوا كفارا (2). لا يخفى أن الإسلام لا يرفض الغنى والثروة بل يشجع عليهما وإنما يدعو لأن تكون الأموال المجموعة قد جاءت عن طريق شرعي مطابق لأحكام الإسلام أي من الحلال .ويرفض حالة الغنى التي تتكون من أموال الحرام والمجموعة بطرق غير شرعية كالغصب والسرقة والمكر .. وعلاوة على ذلك فإن الإسلام يرفض حالة الفقر ويعتبرها منقصة ولكن بنفس الوقت يطلب من الفقير أن يحافظ على دينه وشرفه واتزانه ولا يذلّ نفسه من أجل المال وبنفس الوقت يدعو الغني لأن ينتظم في صرف أمواله وأن لا يسرف وأن يراعي الفقراء ولا يتكبر على الناس فالإسلام يريد التوازن والاعتدال في كل شيء وبالجملة فالإسلام يرى في المال الحلال القوة والخير والكمال.. وعكس ذلك في الفقر يقول أمير المؤمنين علیهم السلام « الغنى في الغربة وطن والفقر في الوطن غربة» ( (3)ويقول عن الفقر (الفقر الموت الأكبر) (4)(الفقر منقصة للدين مدهشة للعقل داعية للمقت) (5)ومن أجل تنظيم الأمر يقول علیه السلام : ( إن الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء فما جاع فقير إلاّ بما متع به

ص: 570


1- الميزان : ج 18 ص 56 ط بيروت.
2- الكافي : ج 2 ك الإيمان والكفر ب الظلم ح 14 ط قُم .
3- نهج البلاغة : حكمة 56 ص 155 نسخة المعجم .
4- المصدر : حكمة 163 ص166.
5- المصدر : حكمة 319 ص 179 .

غني والله تعالى سائلهم عن ذلك) (1).

الزكاة بين الدنيا والآخرة:

وقد يرد سؤال يقول : ما هو الربط بين الزكاة أو الخمس أو مطلق الحقوق وبين رجعة الإنسان بعد الموت بحيث يطلب من الله أن يرجعه إلى الدنيا كما ذكر ذلك الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلّم ؟

أولاً : الشيء الرئيسي في الآخرة هو عمل الإنسان ومن جملته التكليف الذي كان في عنقه فإذا كان الخمس مثلاً واجباً شرعياً وقد امتنع الإنسان عن أدائه مع قدرته عليه أي أنه توانى وفرّط في واجبه سوف يشعر بالندم والحسرة يوم القيامة على ما فرّط فيه من الواجبات ولشدة العذاب وطول مدته يطلب من الله أن يرجعه لكي يكمل ويؤدي واجباته أي أنه يريد بذلك أن يكون عمله متكاملاً لكي يحصل على رضا الله عزّ وجلّ ولكن هيهات . . إنه مجرد طلب وتمن لا تحقق لهما أبداً لأنه كانت لديه الفرص الكافية والوقت الكثير لكي يؤدي ما عليه من الواجبات .

ثانياً : إن مانع الخمس والزكاة يتمنى الرجعة ويطلب ذلك من الله وذلك لأنه يمكن أن يتجاوز الله سبحانه عن التقصير في الصَّلاة أو الصوم أو الحج لأنها عبارة عن علاقة بين العبد وربه وما دامت مختصة بالله فقط فيمكن أن يرحمه الله ولو كان مقصراً لأن رحمة الله سبقت غضبه وفي الدعاء (يا من سبقت رحمته غضبه) وقد قال علماء الكلام إن الله سبحانه يجب بوعده أن یفي الثواب والرحمة ولا يجب أن يفي بوعيده في العقاب والغضب. أما الزكاة فلأنها متعلقة بالغير وكذا الخمس فهو متعلق بالغير وهم آل الرسول فيجب أن يرضى المقابل ثم يرضى الله لرضاه والزكاة التي مصرفها لثمانية أصناف يجب أن يرضوا كلهم لكي يرضى الله . فإذا لم يرضَ أُولئك

ص: 571


1- المصدر : حكمة 328 ص 179 .

لم يرضَ الله عن مانع الزكاة أو الخمس ولذلك نراه يطلب الرجعة إلى الدنيا لكي يؤدي الحقوق إلى أهلها ولكن إنها كلمة هو قائلها لأنه كان في الدنيا وهي دار امتحان وبلاء وإذا انتهت فلا مجال لكي يُمتحن العبد مرّة أُخرى بل الآخرة دار حساب بلا عمل وامتحان فإذا خرج من الدنيا فاشلاً فلا يبقى مجال لتعديل هذا الفشل .

ثالثاً : إن الإنسان بعد الموت ينظر بعين البصيرة لا البصر فيتوصل إلى معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه ويدرك جواهر الأمور إذ بصره حينئذ حديد قال تعالى : {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}(1) .

وإذا بدأ ينظر إلى الأمور بنظرة أعمق مجردة عن المادة وزبارجها عندئذٍ يدرك أن المال الذي كان يحرص عليه في الدنيا ويتهالك عليه ويصرف جُل وقته ويفني عمره من أجله . . بل ويرهق نفسه من أجل جمعه وتكثيره . . .

هذا المال الذي كان يتصوره في الدنيا قوة لا تفنى وقدرة لا تزول وبه تتقوم شخصيته وينال تفوقه ويحقق رفعته وسموه فكان يمنعه من الآخرين ولا يصرفه لخدمة الناس وترويج الدين ويمنع حقوقه ولا يعطي خمسه ولا زكاته، هذا المال يتوصل إلى أنه هباء منثور لا قيمة له أبداً ذهبت لذته وبقيت تبعته ومسؤوليته. فإذا كان قانون الدنيا المال والثروة والغنى عند البعض فإن قانون الآخرة هو الإيمان والعلم والتقوى والقلب السليم ولهذا يحترق ذلك الإنسان أسفاً ويندم على ما قدّم وأخر .. فيتمنى الرجوع إلى دار الدنيا لكي يعطي المال قيمته الحقيقية ويتعامل معه معاملة العارفين وأهل البصائر، الذين يتخذون المال طريقاً للآخرة فيصرفونه في مساعدة الفقراء والمحتاجين وينفقونه في سبيل الله لتأسيس المشاريع ونشر الفكر الديني وخدمة أهل البيت علیهما السلام ، ويعطي حقوقه الشرعية .. فيسأل الله سبحانه الرجعة ولكن فإن هيهات ..فان الدنيا كانت دار العمل وقد ذهبت مرحلتها والآخرة دار الحساب وقد حل وقتها فيحاسب على ما قدم وأخر في حياته .

ص: 572


1- سورة ق ؛ الآية : 22 .

الزكاة الظاهرة والباطنة:

لقد اهتم الشارع المقدس بالزكاة كثيراً ومن دلائل اهتمامه بها أنه تعالى الصَّلاة في كثير من الآيات {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ والذين

هم عن اللغو معرضون وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ } (1){ وإن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصَّلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم}(2) وكذلك جاء عن إمامنا الباقر علیه السلام قال : ( بني الإسلام على خمس على الصَّلاة والزكاة والصوم والحج والولاية ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية) (3)، وللزكاة معنيان :

الأول : الزكاة بالمعنى الأخص أي المتعلقة بالأنعام الثلاثة الإبل والبقر والغنم والغلات الأربع الحنطة والشعير والتمر والزبيب والنقدين الذهب والفضة أي إذا بلغ عدد الإبل حداً تكون الزكاة واجبة في هذا العدد، ويسمى ذلك الحد (نصاباً) . فمثلاً إذا بلغت الإبل خمساً فزكاتها شاة واحدة وإذا بلغت عشراً ففيها شاتان وبالجملة فإن في الإبل اثني عشر نصاباً ولا يخفى أن البقر والغنم والجاموس والمعز كل ذلك مشمول بالزكاة (4)(4) وأما الغلات فقد ذُكرت ت مقدار الزكاة فيها بأوزان معينة في كتب الفقه وأما النقدان فيشترط أن يصلا إلى حد النصاب ونصاب الذهب أن يصل عشرين ديناراً ذهبياً فزكاة هذا النصاب الأول هو ربع عُشره وكلما زاد أربع دنانير فوق العشرين فتجب الزكاة هذه الأربعة الأخيرة إذا كانت زكاة العشرين قد خرجت وهكذا .. أما نصاب الفضة فبأن تبلغ مائتي درهم وفيها خمسة دراهم ثم كلما زادت أربعين درهماً ففيها درهم واحد على خلاف وتفصيل بين الفقهاء فيها. ولا يخفى أن

ص: 573


1- سورة المؤمنون ؛ الآيات : 2 - 4 .
2- سورة البقرة ؛ الآية : 277 .
3- الكافي : ج 2 ك الإيمان والكفر، ب دعائم الإسلام ح 1 .
4- راجع كتب الفقه أمثال شرائع الإسلام واللمعة والجواهر وغيرها .

لكل واحد من هذه الثلاث (الإبل والنقدين والغلات) شروطاً خاصة إذا توفرت كانت الزكاة واجبة وإلاّ فلا وليس هنا مجال ذكرها .

ثانياً : الزكاة بالمعنى الأعم وهي تشمل الزكاة والخمس أيضاً بل كافة الحقوق الواجبة ولعل المراد من إطلاق لفظة الزكاة في القرآن والسنة أو في كتب الفقه هو المعنى الأعم كما هو اطلاقها في الزيارة (وأشهد أنك قد أقمت الصَّلاة وآتيت الزكاة وأمرت بالمعروف ...) (1)فالمراد بالزكاة هنا المعنى الأعم لكل الحقوق الواجبة .

كما أن هناك روايات عن أئمة الهدى سلام الله عليهم أن الزكاة في كل شيء فعن المفضل بن عمر قال : كنت عند أبي عبد الله علیهم السلام فسأله رجل في كم تجب الزكاة في المال؟ فقال له : الزكاة الظاهرة أم الباطنة تريد؟ قال أريدهما جميعاً فقال : أما الظاهرة ففي كل ألف خمسة وعشرون درهماً وأما الباطنة فلا تستأثر على أخيك بما هو أحوج إليه منك(2) وفي قوله هذا دلالة على أن الزكاة بمعناها الأعم لا تختص بالأموال بل تشمل كل شيء لأن الزكاة بمعنى النمو ونمو كل شيء بحسبه فزكاة المال بدفع حقوقه وزكاة العلم نشره وزكاة الجاه بذله في سبيل خدمة الناس وزكاة الإيمان والأخوة هو الإيثار والوفاء وبذل الخدمة لهم وهكذا . .

الزكاة حصن للمال والنفس:

عن الإمام الكاظم علیهم السلام قال : (حصنوا أموالكم بالزكاة) (3)وكذلك بنفس العبارة عن الإمام الصادق علیهم السلام فكما أن العلم يزكو بالإنفاق أي يزداد ويكثر كذلك الأموال تكثر بركتها ويزداد خيرها وعددها بالإنفاق لاسيما أداء الحقوق كالخمس والزكاة لذلك كانت الزكاة حصناً يضمن الأموال من التلف

ص: 574


1- زيارة وارث .
2- معاني الأخبار : ص 150 باب معنى الزكاة الظاهرة والباطنة.
3- الحكم الزاهرة عن النبي وعترته الطاهرة: ص 157 ح 816 .

والنقص يقول أمير المؤمنين علیهم السلام ( بركة المال في أداء الزكاة)(1) فالزكاة سبب لجلب البركة والرزق وأيضاً الزكاة من أبرز الواجبات الإسلامية ومما امتاز به الإسلام بل هي علامة شاخصة للمؤمن الحقيقي ولذلك يصفها الرسول الأكرم صلّی الله علیه وآله وسلم بقوله (الزكاة قنطرة الإسلام) (2) فكأن من لا يخرجها لا قنطرة له للإسلام ولذلك جاءت الروايات بهذا المعنى فعن الصادق علیهم السلام أنه قال : (من منع قيراطاً من الزكاة فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً) (3) فبان من ذلك أن الزكاة حصن يتحصن بها الإنسان هو وأمواله ولهذا يقول الإمام الباقر علیهم السلام (الزكاة تذهب الذنوب ) (4) وإذا ذهبت الذنوب عن الإنسان فإنه من الآمنين هذه بعض فوائد الزكاة .

الزكاة. لمن؟:

قد يتصور أن الزكاة أمر فرضي يفرضه الإسلام على الأشخاص فالمال مال الشخص فلماذا يفرض الإسلام حق (الزكاة) عليه وتحت أي عنوان يكون ذلك ؟

أولاً : نقول إن الشريعة عندما وضعت الزكاة أولاً من باب أن الأموال والأملاك كلها الله عزّ وجلّ في حقيقتها وملكية الإنسان اعتبارية أمام ملكية الله عزّ وجلّ الحقيقية ثم إن الشريعة تقرر أن ما في الطبيعة كلها للمجتمع ككل {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } (5)فعندما تفرد شخص في ملكية أرض واسعة النطاق يأتي الإسلام ليأخذ منه سهماً واحداً وهو الزكاة باعتباره سهماً يعود إلى أصله ثم إن الإسلام لا يفرضها على جميع الماليات بل على أُمور

ص: 575


1- المصدر نفسه : ص 158 ح 818 .
2- الحكم الزاهرة : ص 158 ح 819
3- المصدر نفسه : ح 823 .
4- الكافي : ج 2 ك الإيمان والكفر ، ب دعائم الإسلام ح 5 .
5- سورة البقرة ؛ الآية : 29

من شأنها أن يشترك الجميع فيها وهي الأرض والحيوانات وبعض المعادن .

ثانياً : إن الإسلام عندما أوجب الزكاة إنما أوجبها لأنها مدعاة إلى حفظ المجتمع وتوازنه العام وإلغاء الحرمان وذلك بتقريب الأفراد بعضهم من بعض من الناحية المالية .

ثالثاً : الإسلام لم يؤثر الزكاة لطبقة خاصة كالأنبياء أو الأوصياء بل جعلها في ثمانية أقسام: (الفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب أي العبيد والغارمين أي الذين علتهم الديون وابن السبيل وفي سبيل الله) أي سهم واحد الله عزّ وجلّ ونفعه ليس الله وإنما يعود بالنفع على المجتمع أيضاً ومن خلال ذلك تبين أن الإسلام إنما أوجب الزكاة ليعود النفع للناس أنفسهم وبالمقابل فقد حذر الإسلام مانع الزكاة وأنذره بالعذاب الأليم لأنه بمثابة الظالم أو الغاصب لحقوق المجتمع والحارم لأناس كثيرين من أن ينتفعوا بهذه الأموال .

مانع الزكاة في الميزان:

وفي مفتتح الحديث أشار الرسول الأكرم صلّی الله علیه وسلم إلى ذلك (تارك الزكاة يسأل الله الرجعة إلى الدنيا وذلك قول الله عزّ وجلّ حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون) (1) وهناك روايات كثيرة توعد مانع الزكاة بالعذاب الأخروي والأضرار الجسيمة نذكر منها

1 - عدم قبول الأعمال من مانع الزكاة أي أن أعماله معلقة على الزكاة فعن الإمام أمير المؤمنين علیه السلام : (لا يقبل الله الصَّلاة ممن منع الزكاة)(2)

2 - المال غير المزكّى ملعون أي بعيد عن بركة الله فيه يقول رسول

ص: 576


1- تقدم مصدره .
2- الحكم الزاهرة : ص 159 ح 828 .

الله صلّی الله علیه وآله وسلّم: (ملعون ملعون مال لا يزكى)(1) .

3 - قال رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلّم: مانع الزكاة في النار(2)وعن الباقر علیه السلام قال : ما من عبد منع من زكاة ماله شيئاً إلاّ جعل الله ذلك ثعباناً من نار مطوقاً في عنقه ينهش من لحمه حتى يفرغ من الحساب وهو قول الله عزّ وجلّ :

{سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ }يعني ما بخلوا به من الزكاة (3) .

4 - وبطبيعة الحال فإن كل مال إن لم يذهب إلى الحق فهو إلى الباطل أسرع فمانع الزكاة تكون أغلب أمواله ذاهبة إلى مواضع الباطل والحرام يقول الإمام علیه السلام : من منع : من منع حقاً الله عزّ وجلّ أنفق في باطل مثليه (4).

تقييم المصير:

ينبغي للإنسان الصالح أن ينظر إلى مصيره الأخروي أكثر من نظره إلى الدنيا ويومه الذي يعيشه بل عليه أن يجعل ذكر النار والعذاب على باله ولا يغيب عنه لأن كل إنسان عندما تغيب عن باله الآخرة ينغمس في زخارف الدنيا، لذلك كان بعض الصالحين يضع أعمالاً تذكرة بالآخرة بل تربطه بعالم الآخرة . ينقل عن المرجع الكبير الورع السيد الميرزا مهدي الشيرازي (قدس سره )أنه عندما كان في سامراء يدرس كان يخرج إلى المقابر وكان قد حفر قبراً له فينام فيه ثم يقرأ قوله تعالى : {ربّ ارجعون قائلها لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ }(5) فكان يقوم ويقول لنفسه يا مهدي قم واعمل فيما تركت وكذلك الكثير من أمثال هؤلاء الصالحين وكذلك فإن القرآن يذكر الإنسان دائماً بعالم الآخرة {ولتنظر

ص: 577


1- المصدر نفسه : ح 829 .
2- المصدر نفسه : 830.
3- المصدر نفسه : ح 820 .
4- المصدر نفسه : ح 811 .
5- سورة المؤمنون ؛ الآيتان : 99 - 100 .

كل نفس ما قدمت لغد} (1) لكي يثير داخل الإنسان الاستفهام الدائم في حياته فيجعله بالنتيجة يقدم المقدمات والأسباب التي تنجيه من العذاب الأليم من قبيل القيام بالواجبات كالصَّلاة والصيام والزكاة وترك المنكرات والقبائح . . أما إنزال الأمر عن عاتقيه والالتصاق بالأرض والإنغماس في الطين فسوف يضطره غداً أن ينادي ..« ربّ ارجعون لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا...كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ...}.

ص: 578


1- سورة الحشر ؛ الآية : 18 .

30- عِندَمَا يَكُونَ اللهُ هَدَفا

اشارة

ص: 579

ص: 580

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) لعلي (علیه السلام) :

«يا علي ثلاثة من حلل الله ، رجل زار أخاه المؤمن في الله فهو زَورُ الله، وحقٌّ على الله أن يُكرم مزَورَهُ، ويعطيه ما سأل، ورجلٌ صلّى ثم عَقَّب إلى الصلاة فهو ضيف الله، وحق على الله أن يُكرم ضيفه، والحاج والمعتمر فهما وفد الله، وحَقَّ على الله أن يُكرم وفده» (1)المؤثر في كل شيء :

عندما يكون الله عزّ وجلّ هو الهدف في تحرك الإنسان تكون النتائج طيبة دائماً لماذا؟ لأنه ثبت بالوجدان والبرهان معاً أنه لا مؤثر في الوجود سوى الله تعالى باعتباره العلة التامة المؤثرة في جميع الممكنات - إن صحّ التعبير - وهذا هو معنى التوحيد الأفعالي كما يعبر أهل الحكمة . .

فالوجود بما فيه خاضع لقاهرية الله عزّ وجلّ. وذات الله لامتناهية ولازم ذلك العالم عدم تناهي صفاته الحسنى وكمالاته التي يفيض منها على هذا العالم.

ص: 581


1- تحف العقول: ص 14 .

إذاً بواسطة الفيض اللا منقطع من الله إلى الإنسان كان هذا الإنسان وتحلّى بالكمالات .

وعندها كلما تمسكنا بالله أفاض علينا كمالاً غير محصور لعدم محدودية كمالاته .. فكلما انفتح الإنسان على عالم الغيب وقوي يقينه بالله كلما ازداد تجرداً وصار محلاً قابلاً للفيض والرحمة الإلهية، وكلما انغمس الإنسان في الماديات وابتعد عن الله تعالى حجب نفسه بحجب مادية تمنعه من الرحمة الأكبر .

إذن عندما يكون مركز تحركنا في القضايا الشخصية والاجتماعية هوالله عزّ وجلّ ويكون هو سبحانه أساس منطلقنا في الحب والبغض للآخرين. . عندها سيكون هذا التحرك وهذه العواطف منظّمة ورتيبة لخلوها من المصالح الشخصية التي تربك العلاقات الاجتماعية عادةً .

وإذا تجرّد الإنسان من ذاته وتنازل عن مصالحه وخالف ميوله وشهواته وجعل محوره في التعامل مع الناس هو الله عزّ وجلّ فإنه حينئذ لا يصطدم بأحد لعدم وجود أغراض خاصة يسعى لتحصيلها من الغير .

فيكون محبوباً عند الناس وذا مكانة اجتماعية عالية لأنه فوق منطق المادة والمصلحة فكيف لا يهابه الناس ويحترمونه ويقدسونه . وهذا هو سلوك الأنبياء والأوصياء (صلوات الله وسلامه عليهم) ولذلك لم نسمع يوماً أنّ أحد الأنبياء أو الأوصياء اصطدم مع أحد لقطعة أرض أو حفنة من المال أو أمر آخر .

ولم نسمع أنّ أحدهم علیه السلام كره شخصاً لأنه منعه شيئاً من مصالحه بل دائماً تحركهم ونظرهم إلى الله عزّ وجلّ . .

وكانوا يعملون ليربّوا الناس على هذا المنطق وهذا السلوك كي يترفعوا عن المادة ويتجهوا إلى الله أكثر فأكثر فإنّ من نتائج التوجه والإنابة إلى الله تعالى ، حل جميع المشاكل الاجتماعية ففي حب الله تتساقط المصالح

ص: 582

الدنيوية وبذلك تسعد الحياة

ولذلك نرى - نحن المسلمين - أن أساس المشاكل الاقتصادية والاجتماعية هو الإنسان في عدم توجهه الله والإبتعاد عن مناهجه وأحكامه

سبحانه .

لا الوقت ولا الآلة ولا التضخم السكاني ولا . . . فاذا استطاعت المجتمعات أن ترتب علاقاتها مع خالقها عزّ وجلّ فإنه سبحانه يفيض عليهم بالبركات والخير والسداد، والعكس بالعكس قال سبحانه وتعالى :

{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} (1).

وقال تعالى : {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}(2).

وقد جاء في تفسير قوله تعالى : {«وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي ... }: «بأن الإنسان إذا لم يتبع أوامر الله التي ذكره بها وسميت الأوامر ذكراً لما أودع في فطرة الإنسان من أصولها وجذورها فإنّ له في الدنيا معيشة ضنكاً أي ضيقة وذلك لأن أوامر الله سبحانه أكثر ملائمة للحياة فالإعراض عنها يوجب ضيق العيش مادياً وروحياً ولذا نرى الكفار حتى في أوج مادّيتهم الظاهرية في أضنك الحالات الروحية وأضيق المجالات النفسية »(3).

موقف علي (علیه السلام) في خيبر:

ولذلك لا يمكننا أن نفسّر بعض الأمور الخارقة للعادة إلاّ بهذا النوع من التفسير فمثلاً ما روي عن مولانا أمير المؤمنين عليهم السلام لدى فتح خيبر عندما قال رسول الله صلّی الله علیه وسلم : «الأعطين الراية غداً رجلاً كرّاراً غير فرّار يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ولا يرجع حتى يفتح الله على يده»(4).

فأعطى النبي صلّی الله علیه وسلم الراية الأمير المؤمنين علیهم السلام فأخذها وخرج مهرولاً حتى وصل إلى حصن (قموص) فخرج مرحب أقوى رجل فيهم متبختراً من الحصن كعادته مرتجزاً :

ص: 583


1- سورة طه ؛ الآية : 124 .
2- سورة البقرة ؛ الآية : 152 .
3- تقريب القرآن إلى الأذهان : ج 6 ص 145 ط بيروت.
4- منتهى الآمال : ص 160 ط إيران .

قد علمت خيبر أني مرحب*** شاكي السلاح بطل مجرب

فأقبل أمير المؤمنين علیه السلام قائلاً :

أنا الذي سمتني أُمّي حيدره*** ضرغام آجام وليث قسوره

وأراد مرحب أن يضرب علياً فسبقه وضربه ضربة بذي الفقار على رأسه فهلك في الحال ثم قتل علیهم السلام بعده ربيع بن أبي الحقيق وهو من صناديد اليهود وقتل أيضاً عنتر الخيبري من أبطال اليهود المعروف بالشجاعة والقساوة وكذلك قتل مُرّة وياسر وأمثالهما من أبطال اليهود وهرب اليهود إلى حصن قموص وأغلقوا بابه فجاء أمير المؤمنين علیه السلام إلى باب القلعة شاهراً سيفه وأخذ ذلك الباب الهائل وهزّه وأخرجه من مكانه فاهتز الحصن هزّة شديدة وسقطت صفية بنت حيي بن أخطب من على سريرها وأصاب وجهها جرح. فأخذ الباب وجعله درعاً وحارب القوم به فانهزم اليهود في جحورهم ثم جعل علیهم السلام الباب قنطرة على الخندق ووقف هو على شرف الخندق فعبر جيش المسلمين عليه ثم أخذه ورماه إلى أربعين ذراعاً فجاء أربعون رجلاً ليحركوه من مكانه فلم يقدروا (1)!!

يقول ابن أبي الحديد في عينيته :

(ياقالع الباب الذي عن هزّها ***عجزت أكف أربعون وأربع)

فهذه القوة التي قلع بها باب خيبر قطعاً قوة غيبية يتحلّى بها أمير المؤمنين علیهم السلام لما وصل إليه من مقام عالي الرتبة وفي الفناء في حبّ الله .

وعلى حد قول المحدث الشيخ عباس القمي (ره) :

«إن أمير المؤمنين علیه السلام لم يكن في صدد إظهار معجزة أو خرق العادة في هذه الغزوات والحروب بل هذه الشجاعة والقوة كانت ملازمة

ص: 584


1- منتهى الآمال : ج 1 ص 160 - 161 ط إيران .

لوجوده الشريف غير منفكّة عنه» (1).

وقد عبّر عليهم السلام عن هذه القوة الغيبية في فتح خيبر فقال :

«والله ما قلعت باب خیبر ودكدكت حصن يهود بقوة جسمانية بل بقوّة إلهية »(2)(2) .فالإيمان الذي وصل إليه أمير المؤمنين هو الذي جعله صفياً الله واختاره الله عزّ وجلّ لأمره وجعله وصياً وحافظاً لسر رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلّم .

وكما يعبر الرسول الأكرم صلّی الله علیه وآله وسلّم عن إيمان علي علیه السلام بقوله في معركة الخندق عندما برز الإمام أمير المؤمنين علیه السلام لعمرو بن ود العامري، فقال صلّی الله علیه وآله وسلِّم :

«برز الإيمان كلّه للشرك كلّه»(3).

فعبّر عن إيمان أمير المؤمنين علیه السلام بوجه كلي أي أنّ إيمانه علیه السلام يعادل إيمان جميع المسلمين فهذا هو أثر الإخلاص والنظر الدائم لله عزّ وجلّ في كل تحرك أو قول.

وقد قال رسول الله علیه السلام : «ود المؤمن للمؤمن في الله من أعظم شعب الإيمان ألا ومن أحب في الله وأبغض في الله وأعطى في الله ومنع في الله فهو من أصفياء الله» (4).

ورسول الله الله صلّی الله علیه وآله وسلّم وأمير المؤمنين علیه السلام والأئمة الهداة علیه السلام من أبرز مصاديق هذا الكلام فكيف لا يكونون أصفياء الله تبارك وتعالى؟

ص: 585


1- المصدر نفسه : ص 300.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 20 ص 316 ح 626 .
3- البحار : ج 20 ص 273 باب غزوة الأحزاب حديث 27 ط بيروت .
4- الكافي : ج 2 ص 125 باب الحب في الله . . حديث 3 ط 3 .

الإيمان حقيقة وسلوك:

عندما يترفع الإنسان عن الماديات التي تخلده إلى الأرض، ويرتفع بروحه إلى آفاق رحمانية رحبة فإنه سوف يتخلص من أطر المادة ولغتها وكل

مظاهرها .

ص: 586

فإنه سيعيش الإيمان حقيقة وسلوكاً، والإسلام يؤكد على هذا النوع من الإيمان لا الإيمان النظري المجرد من العمل .

الإيمان مع العمل هو حالة الوعي التي يستلهمها الإنسان من تساميه عن المادة، ولذلك يُقال عادةً إنّ فلاناً قد وفّق لهذا العمل ووفّق لهذا الأمر وذاك .

ومعنى التوفيق هو اقتراب الإنسان من ربّه فيحصل على تسديد منه وتأييد وعناية .

وهكذا الإنسان كلما كان نظره منصباً نحو الله عز وجل قبل عمله ومنطقه فإنّ الله لا يحرمه من العناية والنظرة الراحمة له بل سوف يكون بصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به ويده التي يبطش بها. .

وهو معنى كمال الإيمان جاء عن الإمام الصادق علیهم السلام :

«من أحبّ الله وأبغض الله وأعطى الله فهو ممن كمل إيمانه»(1) .

مع الوحدة الإسلامية:

يؤكد الإسلام دائماً على مظهر الوحدة والإنسجام لأنها داعية للتآلف والوئام ونبذ الفرقة الداعية إلى البغض والكراهية بين الأفراد . فلذلك يؤكد الإسلام على صلاة الجماعة وجعلها من المستحبات المؤكدة، لأنها أحد مظاهر الوحدة . .

فعن الإمام الرضا علیهم السلام قال :

«فضل الجماعة على الفرد بكل ركعة ألفا ركعة . . » (2) .

ولذلك نرى خطابات القرآن الحكيم بلغة الجمع في هذا المورد قال تعالى مخاطباً مريم علیه السلام :{وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ}(3)وقال تعالى : وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (4) وقال تعالى : {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (5).

والمقصود من الآيات الشريفة هو الحضور مع الجماعة (6) .

وكذلك يؤكد على عيادة المريض والاهتمام به والسؤال عن حاله ومساعدته، فعيادة المريض أيضاً من مظاهر وحدة القلوب وتآلفها. وكذلك أكّد على زيارة المؤمن لأخيه المؤمن بغض النظر عن وجود سبب أو داع للزيارة .

بل أكّد على الزيارة الخالصة لوجه الله تعالى.

فإذا كان حب الله هو الجامع لهما فإنّ ذلك من أرفع الدرجات وأقوى

ص: 587


1- الكافي : ج 2 ص 124 باب الحب في الله حديث 1 ط 3 .
2- البحار : ج 85 ص 4 كتاب الصلاة حديث 4 ط بيروت .
3- سورة آل عمران ؛ الآية : 43 .
4- سورة الأعراف ؛ الآية : 29 .
5- سورة البقرة ؛ الآية : 43.
6- تفسير مجمع البيان : المجلد الرابع 411.

أواصر الإرتباط ومن أعظم عرى الإيمان لأن الجامع لهما حب الله وهو أمر غير متحول ولا زائل بخلاف ما لو كانت الزيارة لأجل مصلحة أو عمل ما أو للحصول على شيء فبمجرد انتهائه وانقضاء الحاجة أو المصلحة نرى أنّ العلاقة أيضاً تنتهي معها .

لأن أساس العلاقة زائل فإذا تعلّق القلب به ثم زال ذلك الأمر زال الحب معه أيضاً وبذلك تنهدم العلاقات .. ومن أجل هذا دعى الإسلام إلى أن تكون جميع العلاقات قائمة على أساس الحب في الله لكي تستمر العلاقات الاجتماعية جميلة ومتواترة وتسودها المعنويات لا المصالح

المادية .

وهو أيضاً سيكون من مظاهر الوحدة التي يهدف إليها الإسلام دائماً ولذلك يقول رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلّم:

«ثلاثة من حلل الله رجلٌ زار أخاه المؤمن في الله فهو زور الله وحق على الله أن يكرم زوره ويعطيه ما سأل . . »(1) .

حيث يشبّه زيارة المؤمن لأخيه المؤمن في الله كأنها زيارة الله عزّ وجلّ ..

وذلك لأنّ ما كان الله سبحانه يكون الله معه تبارك وتعالى، وليس الأمر منحصراً في الزيارات وحدها بل كل تحرك وسلوك يطلب الإسلام أن يكون الله تعالى وفي الله . .

وقفة مع سورة الدهر :

سورة الدهر تعكس لنا صورة الإنسان عندما يسمو فيكون أشرف من الملائكة. .

ص: 588


1- تقدّم مصدره

قال تعالى :{إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا *يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا *وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} (1)

نزلت هذه السورة حينما تصدقت مولاتنا الزهراء وأمير المؤمنين والحسن والحسين في القصّة المشهورة وهي أن الإمام الحسن والإمام

علي الام الحسين قد مرضا فنذر أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء (سلام الله عليهما إن برئا ممّا بهما أن يصوموا ثلاثة أيام فشفيا، وما معهم شيء فاستقرض أمير المؤمنين علیه السلام من شمعون الخيبري اليهودي ثلاثة أصوع من شعیر فطحنت مولاتنا فاطمة علیها السلام صاعاً واختبزت خمسة أقراص على عددهم فوضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل فقال : السلام عليكم أهل بيت محمد صلّی الله علیه وآله وسلّم مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلاّ الماء وأصبحوا صياماً فلمّا أمسوا جاءهم يتيم فآثروه وفي الثالثة وقف عليهم أسير ففعلوا مثل ذلك .

فلمّا أصبحوا أخذ علي بيد الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلّم فلمّا أبصرهم وهم يرتعشون من شدة الجوع قال : ما أشد ما يسوؤني ما أرى بكم وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة علیها السلام في محرابها قد التصقت بطنها بظهرها وغارت عيناها فساءه ذلك فنزل جبرائیل علیه السلام وقال : خذها يا محمد صلّی الله علیه وآله وسلّم هناك الله في أهل بيتك فأقرأه سورة الدهر (2).

هذه صورة مشرقة تفتخر بها الإنسانية لأنها تعتبر من كمال الإنسان .

ص: 589


1- سورة الإنسان ؛ الآيات : 5 - 9 .
2- فاطمة الزهراء من المهد إلى اللحد ص 242 نقلاً من البحار.

نعم إن هذا الكمال الذي وصل إليه أهل البيت علیه السلام لن يصل إليه أحد غيرهم .

الكمال الإيماني بالسعي والجهاد:

فعلى الإنسان أن يتأسى بأهل البيت علیه السلام ويتبع خطواتهم في تحركه وسلوكه لكي يكون إيمانه وعمله متطابقاً ولكي يكون عمله من أجل الله فيقترب حينئذ من أصفياء الله وأحبائه .

ولعلّ أبرز مصداق لهذا الكلام هو سلمان المحمدي (رض) الذي سعى جاهداً لأن يكون في أثر خطى أهل البيت علیه السلام وقد وصل سلمان (رض) إلى درجة من اليقين والكمال حتى تمكن أن يصل إلى علم البلايا والمنايا فهذا بفضل اتباع أئمة الهدى من آل محمد صلّی الله علیه وآله وسلّم ويكفيه قول النبي صلّی الله علیه وآله وسلّم .

(سلمان منا أهل البيت) وفي هذا المضمار قال الشيخ صالح التميمي :

قيل لي هل مدحت سلمان يوماً ***قلت مدح النبي يغنيه عنا

هل يفيد المديح من قال فيه*** سيد المرسلين سلمان منا

وقال الآخر :

أيا سلمان يا من حاز فخراً ***وعم الناس إحساناً ومنّا

ونال بخدمة المختار طه ***وعترته الأكارم ما تمنى

لقد فقت الورى شرفاً وفخراً ***بقول المصطفى سلمان منا

صور من حياة سلمان (رض) :

قال الإمام الباقر علیه السلام : جلس جماعة من أصحاب رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلّم ينتسبون ويفتخرون وفيهم سلمان فقال عمر : ما نسبك يا سلمان وما أصلك ؟ فقال : أنا سلمان بن عبد الله كنت ضالاً فهداني الله بمحمد، وكنت

ص: 590

عائلاً فأغناني الله بمحمد وكنت مملوكاً فأعتقني الله بمحمد، فهذا حسبي ونسبي يا عمر .

ثم خرج رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم فذكر له سلمان ما قال عمر وما أجابه، فقال رسول الله : (يا معشر قريش إن حَسَب المرء دينه ومروءته خُلقه، وأصله عقله، قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}(1) .

ثم أقبل على سلمان فقال له : «إنّه ليس لأحد من هؤلاء عليك فضل إلاّ بتقوى الله عزّ وجلّ، فمن كنت أتقى منه فأنت أفضل منه» (2)

وعن الصادق عن أبيه عن جده علیهم السلام قال : «وقع بين سلمان الفارسي رضي الله عنه، وبين رجل كلام ،وخصومة فقال له الرجل : من أنت يا سلمان ؟ فقال سلمان : أما أولي وأولك فنطفة قذرة وأمّا آخري وآخرك فجيفة منتنة، فإذا كان يوم القيامة ووضعت الموازين، فمن ثقل ميزانه فهو الكريم ومن خفّ ميزانه فهو اللئيم» (3).

عن أبي بصير قال : سمعت الصَّادق جعفر بن محمّد علیهم السلام يحدّث عن أبيه عن آبائه علیه السلام قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوماً لأصحابه : أيكم يصوم الدهر؟ فقال سلمان رحمة الله عليه : أنا يا رسول الله فقال رسول الله : فأيكم يحيي الليل ؟ قال سلمان : أنا يا رسول الله ، قال : فأيكم يختم القرآن في كلّ يوم ؟ فقال سلمان : أنا يا رسول الله، فغضب بعض أصحابه، فقال : يا رسول الله ، إنّ سلمان رجل من الفرس يريد أن يفتخر علينا معاشر قريش قلت : أيّكم يصوم الدهر ؟ فقال أنا، وهو أكثر أيّامه يأكل، وقلت : أيّكم يحيي الليل؟ فقال : أنا، وهو أكثر ليلته نائم وقلت : أيّكم يختم القرآن في كلّ يوم ؟ فقال : أنا وهو أكثر نهاره صامت، فقال النبي صلّی الله علیه وآله وسلّم:مه یا فلان

ص: 591


1- سورة الحجرات ؛ الآية : 13 .
2- البحار : ج 70 ص 289 حدیث 23 .
3- البحار : ج 22 ص 355 حدیث 1 باب 11

أنّى لك بمثل لقمان الحكيم، سله فإنّه ينبّئك، فقال الرجل لسلمان : يا أبا عبد الله أليس زعمت أنك تصوم الدهر ؟ فقال : نعم، فقال : رأيتك في أكثر نهارك تأكل، فقال : ليس حيث تذهب إنّي أصوم الثلاثة في الشهر، وقال الله عزّ وجلّ :{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } (1) وأصل شعبان بشهر ،رمضان، فذلك صوم الدهر ، فقال : أليس زعمت أنك تحيي الليل؟ فقال : نعم فقال : أنت أكثر ليلتك نائم، فقال : ليس حيث تذهب، ولكنّي سمعت حبيبي رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم يقول : من بات على طهر فكأنما أحيى الليل كله فأنا أبيت على طهر، فقال : أليس زعمت أنّك تختم القرآن في كلّ يوم؟ قال: نعم، قال : فأنت أكثر أيّامك صامت، فقال : ليس حيث تذهب، ولكنّي سمعت حبيبي رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلّم يقول لعلي يقول لعليّ عليه السلام : [ يا أبا الحسن مثلك في أُمتي مثل قل هو الله أحد، فمن قرأها مرّة قرأ ثلث القرآن، ومن قرأها مرّتين فقد قرأ ثلثي القرآن، ومن قرأها ثلاثاً فقد ختم القرآن، فمن أحبّك بلسانه فقد كمل له ثلث الإيمان ومن أحبّك بلسانه وقلبه فقد كمل له ثلثا الإيمان ومن أحبّك بلسانه وقلبه ونصرك بيده فقد استكمل الإيمان، والذي بعثني بالحق يا علي لو أحبّك أهل الأرض كمحبّة أهل السماء لك لما عذب أحد بالنار] وأنا أقرأ قل هو الله أحد في كلّ يوم ثلاث مرّات، فقام وكأنّه قد أُلقم حجر (2) .

الصَّلاة ضيافة الله:

لماذا قال رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلّم في حديثه الشريف : ورجل صلّى ثم عقّب إلى الصَّلاة فهو ضيف الله . . » ؟(3) ؟

ولماذا كان المصلّي ضيف الله ؟ لا سيما الذي يصل الصلاة بالصَّلاة

ص: 592


1- سورة الأنعام ؛ الآية : 160 .
2- البحار : ج 22 ص 317 .
3- تقدم مصدره .

الأخرى عبر الأذكار والأدعية والاستغفار وغيره والتي عبّر عنها رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم ب- (عقب) أي التعقيبات؟ ذلك لأنّ الصَّلاة هي البرنامج الروحي للإنسان الذي يبقى ملازماً له حتى الموت فدائماً يعيش الإنسان روحانية الصَّلاة ويحصل على ألطاف غيبية وعناية ربانية وبركات روحية ومادية منها .فالصلاة تعبىء الإنسان بالمعنويات التي يحتاجها أبداً وتوثق علاقته بربه ولذلك قيل إن الصَّلاة علاقة العبد بربه وأقرب طريق للوصول إلى الله عزّ وجلّ، قال الإمام الصّادق علیهم السلام :

«هذه الصلوات الخمس المفروضات من أقامهنّ وحافظ على مواقيتهن لقي الله يوم القيامة وله عنده عهد يدخله به الجنّة» (1) .

والتعقيب بعد الصَّلاة هو الرابط الروحي الآخر مع الله عزّ وجلّ . . .

وهو الذي لا يجعل الإنسان مغموساً في الأمور الجانبية بعيداً عن ذكر الله عزّ وجلّ لذلك فالتعقيب منبه دائم للإنسان ليجعله مشدوداً نحو الله تعالى :

وللتعقيب من الفضل ما لا يذكر ولا يحصى . . .

ولا سيما التعقيب المتصل بالصَّلاة فعن أمير المؤمنين علیهم السلام :

«من صلّى فجلس في مصلاه إلى طلوع الشمس كان له ستراً من النار»(2).

وعن الإمام الصادق علیه السلام قال :

«التعقيب أبلغ في طلب الرزق من الضرب في البلاد»(3).

ص: 593


1- البحار : ج 80 ص 17 باب الحث على المحافظة على الصلوات حديث 28 ط بيروت .
2- البحار : ج 82 ص 315 باب فضل التعقيب ط بيروت
3- المصدر نفسه .

فالذكر المتواصل يجلي القلوب ويذهب بكدورتها وظلمتها ويجعلها تنشرح وتنفتح للإيمان وكان هذا من دأب الأئمة علیهم السلام . . .

شذرات من عبادة الإمام الكاظم (علیه السلام):

فعن أحمد بن عبد الله القروي عن أبيه قال :

دخلت على الفضل بن الربيع وهو جالس على سطح فقال لي : أدن فدنوت حتى حاذيته قال لي : أشرف إلى البيت في الدار، فأشرفت فقال : ما ترى في البيت ؟

قلت ثوباً مطروحاً فقال : أنظر ،حسناً، فنظرت بتأمل فتيقنت، فقلت رجل ساجد .

فقال لي : تعرفه ؟ قلت : لا .

قال : هذا ،مولاك قلت : ومن مولاي فقال : تتجاهل عليّ ؟

فقلت : ما أتجاهل ولكّني لا أعرف لي مولى . . .

فقال : هذا أبو الحسن موسى بن جعفرعلیهم السلام إني أتفقده الليل والنهار فلم أجده في وقت من الأوقات إلا على الحالة التي أخبرك بها .إنّه يصلّي الفجر فيعقب ساعة في دبر صلاته إلى أن تطلع الشمس ثم يسجد سجدة فلا يزال ساجداً حتى تزول الشمس وقد وكل من يترصد الزوال فلست أدري متى يقول الغلام قد زالت الشمس إذ يثب فيبتدىء بالصَّلاة من غير أن يجدد وضوء فأعلم أنه لم ينم في سجوده ولا أغفى فلا يزال كذلك إلى أن يفرغ من صلاة العصر، فإذا صلّى العصر سجد سجدة فلا يزال ساجداً إلى أن تغيب الشمس فإذا غابت الشمس وثب من سجدته فصلّى المغرب من غير أن يحدث حدثاً ولا يزال في صلاته وتعقيبه إلى أن يصلّي العتمة فإذا صلّى العتمة أفطر على شويء يؤتى به ثم يجدد الوضوء ثم يسجد ثم يرفع

ص: 594

رأسه فينام نومة خفيفة ثم يقوم فيجدد الوضوء ثم يقوم فلا يزال يصلّي في جوف الليل حتى يطلع الفجر فلست أدري متى يقول الغلام إن الفجر قد طلع إذ قد وثب هو لصلاة الفجر فهذا دأبه منذ حول إليَّ .

فقلت : اتق الله ولا تحدثن في أمره حدثاً يكون منه زوال النعمة . . » (1)

فأئمتنا علیهم السلام الرواد هذا الطريق لأنه طريق ضيافة الله عزّ وجلّ كما عبّر عنه الرسول الأكرم صلّی الله علیه وآله وسلم لأن الإنسان عندما يبقى في محرابه أو مصلاه منتظراً الصَّلاة وكأنه في بيت الله عزّ وجلّ ينتظر فيضه وكرمه فحقّ على الله أن يكون ضيفه ويعطيه ما سأله . .قال أمير المؤمنين علیهم السلام :

«المنتظر وقت الصَّلاة بعد الصَّلاة من زوار الله عزّ وجلّ وحق على الله تعالى أن يكرم زائره وأن يعطيه ما سأل»(2) .ولقد دعى القرآن الحكيم إلى المواظبة على التعقيب فقال تعالى :

{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ** وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ }(3) .

قال العلامة المجلسي (قده) في البحار : إن المعنى إذا فرغت من الصَّلاة المكتوبة فانصب في الدعاء و (إليه فارغب) في المسئلة وهو المروي عن الصادقين علیه السلام .

وفي مجمع البيان قال الإمام الصادق علیه السلام هو في الدعاء في دبر الصَّلاة وأنت جالس واستدل بالفاء (فانصب) على الإشتغال به بغير فصل (4) .

ص: 595


1- البحار : ج 82 ص 317 - 318 باب فضل التعقيب حديث 1
2- المصدر نفسه : ص 318 ح 2
3- سورة الإنشراح ؛ الآيتان : 7 - 8 .
4- راجع البحار : ج 82 ص 313 - 314 لزيادة التفصيل

وجاء في تفسير الصافي عن الصَّادق علیه السلام قال : فإذا فرغت فانصب علمك وأعلن وصيّك فأعلمهم فضله علانية فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه وذلك حيث أعلم بموته ونعيت إليه نفسه (1) . .

ولقد جرت العادة في أن الذين يوفدون على الملوك أو على غيرهم من أصحاب الجود يُجلّون ويكرمون فالوجيه الكريم يُجلّ الوافدين إليه ويكرمهم ويجلسهم في أفضل مجلس ويطعمهم من أفضل الأطعمة وهذا الأمر مشهور سيما عند العرب .. فكيف الحال عندما يكون الإنسان موفداً على الله عزّ وجلّ صاحب النعم اللامتناهية والرحمة الواسعة والعطاء غير النافد.

رؤي أبو نواس في المنام بعد موته، فقيل له ما فعل الله بك ؟

فقال : غفر لي وتجاوز عني لبيتين قلتهما قبل موتي وهما :

من أنا عند الله حتى إذا*** أذنبت لا يغفر لي ذنبي

العفو يرجى من بني آدم ***فكيف لا أرجوه من ربي (2)

الجمع بين الصلاتين:

لعلّه يرد سؤال حول التعقيب بعد الصَّلاة المتصل بالصَّلاة الأُخرى حيث يوحي أن هناك فصلاً واسعاً بين الصلوات؟ والحال أننا نجمع بين الصلاتين.. فالسؤال هو كيف يمكن أن نستدل على صحة الجمع بين الصلوات وهناك أخبار ربما يستظهر منها الفصل بين الصلوات كما هي أخبار التعقيب مثلاً ؟

نقول إن من المقرر أن فعل الرسول صلّی الله علیه وآله وسلم وقوله وتقريره حجة علينا والرسول الأكرم صلّی الله علیه وآله وسلّم كان قد جمع بين الصلوات من غير اضطرار بل في

ص: 596


1- تفسير الصافي : ج 2 ص 830 ط إيران .
2- الكنى والألقاب : ج 1 ص 170.

حالات الاختيار ففعله هذا يجوز لنا الجمع لأن فعله حجة كما هو مقرر عند جميع المسلمين وقد وردت أخبار كثيرة على أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قد جمع بين الصلاتين فمثلاً :

عن ابن عباس قال صلّى رسول الله صلّى الله علیه وسلّم الظهر والعصر جميعاً والمغرب والعشاء جميعاً من غير خوف ولا سفر (1). . .

وكذا عن معاذ قال : خرجنا مع رسول الله صلّى الله علیه وآله وسلّم في غزوة تبوك فكان يصلّي الظهر والعصر جميعاً والمغرب والعشاء جميعا (2). وغيرها من الأخبار الكثيرة التي تدل على جواز الجمع بين الصلاتين وأنه مشروع والحكمة فيه هي التوسعة على الأمة وعدم إحراجها بسبب التفريق ؛ فعن الإمام الصادق علیه السلام قال :

«إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم صلّى الظهر والعصر في مكان واحد من غير علّة ولا سفر فقال له عمر : أحدث في الصلاة شيء؟ قال صلّى الله علیه وآله وسلّم: لا ولكن أردت أن أوسع على أُمتي (3).

وهناك أدلة كثيرة تدل على الجواز . . ويمكن للإنسان أن يؤخر صلاته لأجل التعقيب ومن هنا أفتى فقهاؤنا بصحة كلا الوجهين :

«فيستحب التفريق بين الصلاتين المشتركتين في الوقت كالظهرين والعشائين . . » (4).

وكذلك أفتى فقهاؤنا باستحباب الجمع بين الصلاتين كما فعل ذلك رسول الله صلّى الله علیه وآله وسلم.

ص: 597


1- الإمام الصادق علیهم السلام والمذاهب الأربعة : ج 6 ص 359 ط بیروت.
2- المصدر نفسه .
3- المصدر نفسه .
4- العروة الوثقى : ج 1 ص 183 باب مواقيت اصَّلاة .

الحاج والمعتمر وقد الله:

لقد ذكر الرسول الأكرم صلّى الله علیه وآله وسلّم في حديثه «الحاج والمعتمر فهما وفد الله وحق على الله أن يكرم وفده» (1)والحج من أبرز مظاهر التعلق بالله والحب فيه والاقتراب منه، وكذلك الحج مظهر عظيم من مظاهر الوحدة الإسلامية وأيضاً من أعظم العبادات التي تقرب الإنسان كثيراً من ربّه عزّ وجلّ ، وحقاً هو من أبرز مصاديق الضيافة . .

فالحاج يفد إلى بيت الله الحرام الكعبة المقدسة من أماكن بعيدة ونائية ويؤدي تلك العبادات الشريفة التي ترفع من معنوياته وتزيد إيمانه. ولذلك حقاً يكون مصداقاً واضحاً للضيافة .. وحق على الله أن يكرم ضيوفه الحجاج بمزيد من العناية والنظرة الراحمة واستجابة الدعوات وغفران الذنوب. . فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم قال : «النظر إلى الكعبة حباً لها يهدم الخطايا هدماً » (2) .وعن الإمام الصَّادق علیه السلام قال : «من نظر إلى الكعبة لم يزل تكتب له حسنة وتمحى عنه سيئة حتى يصرف ببصره عنها»(3)فكيف بالذي يقوم بواجبات الحج من صلاة وطواف ونحر وغيرها .. مع الدعاء والتضرع والتوسل ، كيف لا يكون تحت عناية الله وفي أمان الله فإنّ ذلك مقتضى ضيافة الله لعبده والمتوسل به ... وهيهات أن يرد الله من تعبأ وتهيأ وتحمل المشاق والسفر والعناء من أجل لقاء الله . . .

فهيهات أن يعرض الله عزّ وجلّ عنه وقد روي عن الإمام الباقر علیه السلام

هذا الدعاء في يوم العيد :

ص: 598


1- تقدم مصدره .
2- وسائل الشيعة : ج 9 ص 365 باب 29 ح 9 .
3- المصدر نفسه : ص 364 ح 6 .

«اللَّهُمَّ من تهيأ في هذا اليوم أو تعبأ أو أعد أو استعد لوفادة إلى مخلوق رجاء رفده ونوافله وفواضله وعطاياه فإنّ إليك يا سيدي تهيئتي وإعدادي واستعدادي رجاء رفدك وجوائزك ونوافلك وفواضلك وفضائلك وعطاياك . . » (1) .

وعن الإمام موسى بن جعفرعلیهم السلام قال : كان أبي إذا استقبل الميزاب (يعني أمام الكعبة) قال : «اللَّهُمَّ أعتق رقبتي من النار وأوسع عليّ من رزقك الحلال وادرأ عني شر فسقة الجنة والإنس وأدخلني الجنة برحمتك»(2)ولأن الحج دائماً يكون الله وفي الله فهو من الطرق القريبة جداً التي يسلكها العبد للوصول إلى ربه . .

وكذلك الصَّلاة وكل عمل يكون خالصاً لوجه الله تعالى . .

فالمؤمن الذي يجعل الله نصب عينيه ويجعله هدفه الذي إليه يسعى وإلى رضاه يكدح فإنّ الله سبحانه سوف يكرمه ويُجلّه ويكسبه حلله الإلهية المفعمة بالرحمة والخير والبركة . . .

وهذا آخر ما أردنا إيراده في هذا الكتاب والله الموفق نحو الصواب .

والحمد لله رب العالمين وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين .

ص: 599


1- مفاتيح الجنان : ص 245.
2- الحاج في الحرمين - للمؤلف : ص 231 ط الثانية الكويت.

ص: 600

المصَادِر الکتاب

1 - القرآن الكريم .

2 - أسد الغابة ، ابن الأثير .

3 - الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة .

4 - أسرة المجدد ، نوري الدين الشاهرودي .

5 - أعيان الشيعة ، السيد محسن الأمين العاملي.

6 - أخلاق أهل البيت ، السيد مهدي الصدر .

7- الإعجاز الطبي في القرآن .

8- الألفين ، العلامة الحلي .

9 - الأنبياء حياتهم وقصصهم ، عبد الصاحب الحسني العاملي .

10 - الإسلام يتحدى .

11 - أصحاب الإجماع ، إبراهيم المشكيني .

12 - إلهيات الشفاء ، الشيخ الرئيس .

13 - أعلام الورى ، أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي.

14 - الإمام الصَّادق والمذاهب الأربعة ، أسد حيدر

15 - إيصال الطالب إلى المكاسب ، آية الله الشيرازي .

16 - أمالي ، الشيخ الصدوق .

17 - بحار الأنوار ، العلامة المجلسي .

ص: 601

18 - بصائر الدرجات ، لمحمد بن الحسن الصفار .

19 - تاريخ الخلفاء ، السيوطي.

20 - تاريخ بغداد ، الخطيب البغدادي .

21 - التدبر في القرآن ، السيد محمد رضا الشيرازي.

22 - تراث كربلاء ، السيد سلمان آل طعمة.

23 - الترغيب والترهيب .

24 - تحف العقول ، ابن شعبة .

25 - تفسير مجمع البيان ، الطبرسي .

26 - تفسير الكبير ، فخر الرازي .

27 - تفسير الصافي ، فيض الكاشاني.

28 - تفسير البرهان ، البحراني .

29 - تفسير نور الثقلين ، الحويزي .

30 - تفسير منهج الصادقين ، ملا فتح الله الكاشاني .

31 - تفسير الميزان ، العلامة الطباطبائي .

32 - تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان ، آية الله الشيرازي .

33 - تفسير الدر المنثور ، السيوطي.

34 - تنبيه الخواطر وتنزيه النواظر (مجموعة (ورام ، أبو الحسين ورام بن أبي فراس .

35 - تصنيف غرر الحكم ، الآمدي .

36 - توحيد المفضل ، مفضل بن عمر .

37 - التوحيد ، الشيخ الصدوق .

38 - التوجيه الديني ، السيد حسن الشيرازي .

ص: 602

39 - ثواب الأعمال وعقاب الأعمال ، الشيخ الصدوق .

40 - جامع السعادات ، الشيخ النراقي .

41 - جامع الأخبار ، محمد بن محمد السبزواري .

42 - جواهر الأدب .

43 - الحق اليقين في معرفة أصول الدين ، السيد عبد الله شبر.

44 - الحكم الزاهرة عن النبي وعترته الطاهرة، علي رضا الصابري .

45 - الحاج في الحرمين ، علي حيدر المؤيد.

46 - حلية الأبرار ، السيد هاشم البحراني .

47 - حلية الأولياء ، أبو نعيم الأصفهاني .

48 - الخصال ، الشيخ الصدوق .

49 - الخرائج والجرائح ، قطب الدين الراوندي .

50 - درر الأخبار فيما يتعلق بحال الاحتضار ، الشيخ محمد رضا الطبسي .

51 - دائرة المعارف الإسلامية .

52 - ديوان الإمام علي السلام.

53 - الذريعة إلى تصانيف الشيعة، آقا بزرك الطهرانی.

54 - ربيع الأبرار ونصوص الأخبار ، الزمخشري.

55 - روضات الجنات ، الميرزا محمد باقر الخوانساري .

56 - روضة الواعظين ، الفتال النيشابوري .

57 - الرياض النضرة ، المحب الطبري .

58 - سفينة البحار ، المحدث القمي .

59 - سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد ، محمد الصالحي الشامي .

60 - سيرة المصطفى ، هاشم معروف الحسني .

ص: 603

61 - سيرة الأئمة الاثني عشر ، هاشم معروف الحسني .

62 - سمط النجوم العوالي ، عبد الملك العصامي المكي .

63 - شرائع الإسلام ، المحقق الحلي .

64 - شرح اللمعة الدمشقية ، الشهيد الثاني.

65 - شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد المعتزلي .

66 - شرح المنظومة ، آية الله الشيرازي .

67 - شرح رسالة الحقوق ، السيد حسن القبانجي .

68 - شجرة طوبى ، الشيخ مهدي المازندراني .

69 - صحيح الترمذي .

70 - طبقات ابن سعد .

71 - عدة الداعي ، الشيخ أحمد بن فهد الحلي.

72 - علل الشرائع ، الشيخ الصدوق .

73 - عيون أخبار الرضا ، الشيخ الصدوق.

74 - العروة الوثقى ، الطباطبائي اليزدي .

75 - عنوان الكلام ، آخوند فشاركي.

76 - الغدير ، الشيخ عبد الحسين الأميني.

77 - الفقه، آية الله الشيرازي .

78 - الفصول المهمة ، ابن الصباغ المالكي .

79 - فاطمة من المهد إلى اللحد، السيد محمد كاظم القزويني .

80 - قصص الأنبياء ، عبد الوهاب النجار .

81 - قصص العرب ، لثلاثة من المؤلفين

82 - القول السديد في شرح التجريد ، آي.ة الله الشيرازي .

ص: 604

83 - كحل البصر في سيرة سيد البشر ، المحدث القمي .

84 - الكافي ، محمد بن يعقوب الكليني .

85 - كشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد ، العلامة الحلي .

86 - كشف الغمة ، بهاء الدين الأربلي .

87 - کشکول ، الشيخ البهائي .

88 - كنز العمال ، المتقي الهندي .

89 - كلمة الرسول الأعظم ، السيد حسن الشيرازي .

90 - من لا يحضره الفقيه ، الشيخ الصدوق .

91 - مستدرك الوسائل ، العلامة النوري

92 - المناقب ، ابن شهر آشوب

93 - معاني الأخبار ، الشيخ الصدوق .

94 - مستدرك الصحيحين ، الحاكم .

95 - مسند ابن حنبل .

96 - مجمع البحرين ، الطريحي .

97 - مكارم الأخلاق ، الشيخ الطبرسي -

98 - مفردات ألفاظ القرآن الراغب الأصفهاني.

99 - المحاسن والأضداد ، الجاحظ .

100 - المستطرف في كل فن مستظرف ، الأبشيهي .

101 - معارف الرجال ، الشيخ حرز الدين .

102 - مفاتيح الجنان ، المحدث القمي .

103 - معجم ألفاظ القرآن الكريم ألفاظ القرآن الكريم ، فؤاد عبد الباقي .

104 - مقاييس اللغة ، أبو الحسين القزويني الرازي .

ص: 605

105 - المجالس السنية ، السيد محسن الأمين العاملي.

106 - مدينة البلاغة ، الشيخ موسى الزنجاني .

107 - مائة كلمة لأمير المؤمنين ، البحراني .

108 - مقتل الحسين علیهم السلام ، السيد عبد الرزاق المقرم .

109 - معالم التوحيد في القرآن ، الشيخ جعفر السبحاني.

110 - المنطق ، الشيخ محمد رضا المظفر .

111 - منية المريد ، الشهيد الثاني.

112 - مع الطب في القرآن الكريم .

113 - المسائل الإسلامية ، آية الله الشيرازي .

114 - منتهى الآمال ، المحدث القمي .

115 - مبادىء علم النفس ، الدكتور مختار .

116 - المنجد في اللغة .

117 - مجلة العالم .

118 - مروج الذهب ، المسعودي .

119 - نهج البلاغة ، السيد الرضي .

120 - نهج الفصاحة ، أسد الله الشوشتري الأنصاري . -

121 - نهج الحق وكشف الصدق ، العلامة الحلي .

122 - نجفيات ، علي محمد علي دخيل .

123 - وسائل الشيعة ، الحر العاملي .

124 - الوافي .

ص: 606

الفهرس

الإهداء ...5

المقدمة ...7

1 - الصيام في فلسفته وأحكامه

الشريعة الإسلامية...13

في كل واقعة حكم ...13

في الحرمة مضرة بالغة ...16

الصوم لغة واصطلاحاً ...17

حكمة وجوب الصوم ...18

بعض أحكام الصوم ...19

صوم الفطر والأضحى حرام ...19

صوم الوصال حرام ...21

صوم الصمت حرام ...24

صوم نذر المعصية حرام ...26

صوم الدهر حرام ...27

2 - بين المقاييس المادية والمعنوية

كيف تقاس الأشياء ...33

الفقر أشد الرذائل ...36

علاج الفقر في كمال العقل ...39

ص: 607

الوحدة والعجب ...40

الوحدة المادية بين المدح والذم ...41

الوحدة المعنوية سلباً وإيجاباً ...43

الكمال في العقل المدبر ...45

الورع صلاح الدنيا والدين ...46

التفكر من أعظم العبادات ...48

مصير الإنسان رهين التفكر ...50

3 - الدنيا بين الوسيلة والهدف

الدنيا مرحلة انتقالية ...55

حب الدنيا ...58

عبر من الدنيا ...59

بين الدنيا والآخرة ...60

كيف تخدمنا الدنيا ...61

موقفان من الدنيا ...63

الدنيا لا تسع الإنسان ...65

التوازن العام ...66

الدنيا متجر أولياء الله ...68

الدنيا المذمومة ...70

الحرمان من نعمة الولاية ...72

4 - مساوىء تحط من شخصية الإنسان

المقدمات الناجحة ...77

المزاح بين الذم والمدح...79

مزاح النبي والله ...81

موقف الإسلام من الكذب ...84

ص: 608

صور من الكذب ...85

الكذب يذهب بنور المؤمن ...86

مسوغات الكذب ...88

الضجر يؤدي إلى الفشل ...89

صاحب الجواهر وصاحب الحدائق ...90

الكسل يؤخر المجتمع...91

تجربة اليابان ...92

ه - الغيبة في أحكامها وآثارها

سؤال وجواب عن الغيبة ...97

أضواء على حرمة الغيبة ...99

من هنا تحدث الغيبة ...101

جوانب أخرى من الغيبة...102

علاج الغيبة ...103

المستمع أحد المغتابين ...104

نصرة المظلوم ...106

طريق التوبة من الغيبة ...108

متى تجوز الغيبة ...108

موارد الجواز لمزاحمة الغرض الأهم ...110

كيف ننصر المظلوم ...112

مضار الغيبة وفوائد ردعها ...114

6 - من سمات أحباء الله

حب الله تعالى ...119

علامات المحبوب ...122

الشجاعة بين التهور والجبن ...123

ص: 609

السخاء بين الإسراف والبخل ...127

الغيرة بين الإفراط والتفريط ...131

غيرة المرء على عرضه ...132

غيرة المرء على مجتمعه ...134

غيرة المرء على وطنه ...135

نقد اللاغيرة ...135

أرقام من الإعلام العالمي ...136

قضاء حاجة من ليس لها بأهل... 136

7 - الإنسان رهين اللسان

السنخية أو المجانسة ...141

العقول العشرة ...142

بین الخالق والمخلوق ...142

الإرادة مصدر الكون ...144

القرب والبعد من الجنة ...146

سقوط الإنسان ...147

دور اللسان ...148

بین النجاة والهلاك ...149

خلق عظيم...150

أحب خلق الله ...150

والكاظمين الغيظ ...151

هدية العلماء ...152

التعبيرات القرآنية ...153

ما قال وما قيل ...155

ص: 610

8- التفاضل بين الكم والكيف

توضيح في معنى العبادة ...159

العبودية الشاملة ...161

العبادة بقدر المعرفة ...162

نجاة العالم وسقوط العابد ...164

يونس بين العالم والعابد...165

تقييم العالم والعابد ...166

العلم كمال ...168

أشرف المعقولات وسبب خلق العالم ...169

العالم مع المجتمع والعابد مع نفسه...170

موقف العالم مع المجتمع ...172

9 - مقاييس التفاضل بين الناس

ملاك العبادة ...177

العبادة والعمل ...178

الشكر على قدر النعمة ...179

العبادة بين التوكل والمشورة ...180

الإخلاص في النية ...181

الورع نظام العبادة ...182

الورع أساس التشيع ...183

الورع عند نهر بلخ ...184

القناعة حقيقة الغنى ...185

فاقد القناعة جائع الغني ...186

الغنی الخاسر ...187

الخليل بن أحمد الفراهيدي ...188

قناعة أبي ذر الغفاري ...188

ص: 611

10 - سوء الخلق مصدر الذنوب

الأخلاق سلباً وإيجاباً ...193

سوء الخلق حرب مع الزوجة ...165

سوء الخلق حرب مع الأبناء ...196

عاقبة سوء الخلق ...198

قطيعة الرحم ...199

هدم العلاقة مع المجتمع ...201

تهذيب النفس وتأديبها ...203

التربية والتهذيب ...204

التدبر في القرآن ...205

صحبة الأخيار ...206

الاقتداء بالعلماء ...208

الأسوة الحسنة ...209

في مدرسة الرسول ...211

11 - دور الصدقات في مصير الإنسان

مفاهيم الصدقة ...217

نماذج للصدقة ...218

معاني القضاء والقدر ...221

القضاء والقدر عند أمير المؤمنين علیهم السلام ...223

يمحو الله ما يشاء ويثبت ...225

لقمة بلقمة ...227

الإشارة بالتصدق ...228

النجاة من المأزق ...229

الصدقة الجارية ...229

ص: 612

12 - أهل اليقين سمات ومعالم

اليقين والإيمان... 235

الرضا بالقضاء من اليقين ...236

وجدان معذب ...237

لا أدخل جهنم لصديقي...238

تخصيص الحمد بالله...238

لا تذم أحداً ...240

الإرتباط الوثيق بالخالق ...241

لا ملجأ إلا الله ...242

الإستعانة بالعباد ...244

بین ابراهیم علیهم السلام ويوسف علیه السلام ...245

فضل اليقين ...248

النفس المطمئة ...250

13 - البكاء أسبابه وفوائده ومظاهره

أسرار الإنسان ...253

أسباب البكاء ...255

التائب عتيق الله ...255

بكاء الخشية ...256

التسليم لأمر الله تعالى ...257

الأمن يوم القيامة ...258

أراقد أنت أم رامق ...260

بكاء المواساة ...260

إزالة العقد النفسية ...262

العاطفة ... ...263

ص: 613

قسوة القلب ...264

المظلومية ...265

بكاء الإمام السجاد السلام ...266

البكاء على الحسين ...267

إقامة المجالس الحسينية ...269

14 - تنزيه المقدسات من سمو النفس

الكذب مفتاح كل سوء ...275

من مفاسد الكذب ...277

من تبعات الكذب في الآخرة ...279

فضيحة الكذب ...280

اليمين الكاذبة ...281

لماذا القسم ...283

القسم في مجتمعاتنا...285

الامام السجاد أسوة ...287

15 - الآباء والأبناء بين الحقوق والواجبات

قانون الحقوق ...291

حق الآباء مسؤولية الأبناء ...292

العقوق خسارة مُرة ...294

حق الأبناء على الآباء ...295

اختيار الإسم الحسن تأثير الإسمی...299

تاثیر الاسما...300

التربية الحسنة والفطرية ... ...300

التربية العلمية ...302

ص: 614

التربية العملية ...304

الشباب عند رسول الله(صلی الله علیه و آله وسلم) ...305

الزواج سنة اجتماعية ...306

الزواج المبكر نداء الإسلام ...

التربية والقدوة الصالحة ...308

16 - الزنا في السنن الكونية

نظام الكون ...315

قوانين حاكمة ...318

الزنا السبيل السيء ...320

من أضرار الزنا ...321

النتائج المرة للزنا ...322

موقف القضاء من الزنا ...324

الزنا في ميزان القيامة ...325

الآثار الوضعية في الزنا...325

مدرسة أصحاب الرقيم ...327

17 - الهداية مسؤولية الجميع

كيف يحصل الإنسان على الهداية ...334

أنواع الهداية أصحاب الكهف ...337

العقل يهدي ...338

القرآن يهدي ...339

الرسول(صلی الله علیه و آله وسلم) يهدي ...340

كلمة الزهراء علهم السلام في الهداية النبوية ...340

الائمة الهداة ...342

ص: 615

الإنسان يهدي ...344

الكلمة الهادية ...345...

مسؤولية الجميع ...346

18 - الايمان بين الحس والعقل

الايمان بين القلب والعقل ...350

حقيقة الايمان ... ... ...352

معنى المعجزة ...354

الطريق العقلي ...355

البرهان الآني في اثبات الصانع ...357

البرهان اللمي ...358

دور العقل في الإيمان ...359

كيف آمنا بالرسول صلی الله علیه وسلم ...360

الطريق النقلي ...361

مصدر القرآن ...362

القرآن يتحدى ...363

القرآن يستقطب القلوب ...364

القرآن المعجزة ...365

فضل القرآن ...366

19 - الدعاء صلة بين العبد وربه

القلب لا القالب ...372

مقياس القبول ... ... ...373

التقرب الى الله تعالى ...376

الدعاء من أفضل العبادات ...378

المعرفة أساس الدعاء ...378

ص: 616

فهم الداعي ...379

الانقطاع الى الله ...381

الأمل والرجاء في الدعاء ...381

آثار الدعاء ...384

2 - عيون يحبها الله

الآخرة رهن العمل ...389

سائق وشهيد ...390

الوجوه في القيامة ...391

عين سهرت في سبيل الله ...392

طالب العلم ...393

المتهجدون في الليل ...394

المرابطون في الثغور ...395

عين غضت عن محارم الله ...397

حرمة النظر إلى الأجنبية ...399

بین يونس علیه السلام وزليخا ...400

موسى علیه السلام وابنتا شعيب ...401

عين فاضت من خشية الله ...403

بكاء الامام أمير المؤمنين علیه السلام ...404

مناجاة الامام زين العابدين علیه السلام ...410

21 - الوصية ضرورة شرعية واجتماعية

الوصية في ظلال القرآن ...409

الملكية الإعتبارية ...410

الوصية الواجبة ...412

الوصية من المرؤة ...414

ص: 617

الوصية تشد المجتمع ...415

بين الوصية والشفاعة ...416

الشفاعة في القيامة ...417

الوصية بين الحسنين ...417

العمل طبق الوصية ...419

الوصية بين النبوة والامامة ...420

22 - الأنانية في أبعادها الدينية والاجتماعية

الأخلاق الفاضلة معراج الإنسان...427

حب الذات غريزة نفسية ...430

مثل سام في الإيثار...431

مراتب الأنانية ...432

العمل ضد الآخرين ...436

وقفة مع أناني حسود ...438

الأنانية في منظار الدين ...439

الجمع بين الحاجة المادية والمعنوية ...441

23 - تجنب لؤماء الناس

السؤال في طلب العلم ...449

الذل في طلب الحاجة ...451

السؤال المذموم ...452

قادر على كل شيء ...456

عظة بالغة ...457

صور ومواقف من اللؤم واللؤماء ...459

24 - الطريق الى معايشة ناجحة

الاحتياج الى الخالق ...467

ص: 618

الترابط والتدابر ...468

من هو الأكثر شراً ... ...470

لذة العفو ولذة المحبة ...471

القدوة الطاهرة ...472

السلام في ظل الإسلام...473

الإساءة إلى الآخرين...475

من علائم الأخوة الأخوة ... ...477

المرء كثير بإخوانه ...478

المجتمع الإسلامي ...479

25 - الإعتدال في أعمال الدنيا والآخرة

أعمال العقلاء وغاياتها ...483

الإنسان والغاية ...487

إصلاح أمور المعاش ...489

الدين وطلب الدنيا ... ... ...490

التجارة مع الله تعالى ...492

التزود للمعاد ...493

اللذة في غير محرم ...498

26 - الانسان بين فناء الجسد وبقاء الروح

الروح والبدن ...505

اشباع الروح والبدن ...506

الباقيات الصالحات ...508

ما هي حقيقة الموت ...509

الموت والحياة والابتلاء ...511

مع الحياة موت ...512

ص: 619

فائدة الموت ...513

شراء بيت في الجنة ...513

العمل الخالد ...514

من كلام المحتضرين ...515

التمسك بأهل البيت عليه السلام...517

حكمة الموت ...518

27 - الانسان بين السعادة والشقاء

السعادة مع الهداية دائماً ...523

سعادة الروح وسعادة الجسم ...524

أضواء على الحياة السعيدة ...525

الدنيا بين المؤمن والكافر ...526

أسباب الشقاء ...527

العواطف الصادقة ...528

البكاء مادياً ومعنوياً ...529

القلوب القاسية ميتة ...530

الأمل بين السلب والإيجاب ...533

حب البقاء من الشقاء ...534

28 - المجتمع في مثلث الدمار

الأمم بأخلاقها ...539

فساد الدين والدنيا ...540

الحسد وأسبابه ...542

الحرص دوافعه ونتائجه ...543

متكلم من عالم البرزخ ...546

الكبر أدنى الإلحاد ...547

ص: 620

سمات المتكبر ...548

بين أهل البيت والظالمين...551

من واقع الظلمة ...552

بين الظلمات والنور ...553

نزوات وشهوات ...555

فتنة كبرى ...558

الشعوب هم الضحايا ...559

29 - أضواء على زكاة المال وزكاة النفس

الغفلة طريق الإنهيار ...563

الزكاة في البعد اللغوي والفقهي...567

الزكاة تعاون على البر والتقوى ...568

الزكاة ضد الطغيان والاستكبار ...569

الزكاة بين الدنيا والآخرة ...571

الزكاة الظاهرة والباطنة ...573

الزكاة حصن للمال والنفس ...574

الزكاة لمن...575

مانع الزكاة في الميزان ...576

تقييم المصير...577

30 - عندما يكون الله هدفاً

الإيمان حقيقة وسلوك...583

موقف علي السلام في خيبر...584

مع الوحدة الإسلامية ...587

الكمال الإيماني بالسعي والجهاد...590

الصلاة ضيافة الله ...592

ص: 621

شذرات من عبادة الإمام الكاظم علیه السلام ...594

الجمع بين الصلاتين ...596

الحاج والمعتمر وفد الله ...598

مصادر الكتاب ...601

الفهرس ...607

ص: 622

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.