فدك في التاريخ

هوية الكتاب

فدك في التاریخ

تأليف

محمد باقر الصدر

(حقوق الطبع محفوظة للناشر)

محمد کاظم الکتبی

السليمة الجندرية في النجف

1374 ه - 1955 م

محرر الرقمي: هادي حسام

ص: 1

فهرست الكتاب

1 - على مسرح الثورة 15 - 28

إختمار الثورة في نفس الزهراء ... 1:17 _ 7:20

عرض لظروفها المرة و مشاعرها

المتقدة ... 8:20_19:21

مستسمكات الثورة تستمدها

من الماضي الحبيب ... 1:22 _ 14:25

طريق الثورة ... 15:25 _ 11:26

النسوة اللاتي اشتركن في

المظاهرة الفاطمية ... 12:26 _17:26

ظاهرة و مردها في نفس الزهراء ... 27: 1 _ 28: 1

كلمة حول آمال الثورة و آلامها ... 2:28 _ 10:28

2 - فرك 29 - 36

فدك في أدوارها الأولى من

تاريخها الاسلامي ... 1:30 _ 2:31

فدك على عهد أمير المؤمنين 3:31 _ 15:31

تاريخ فدك جزء من التاريخ

ص: 2

السياسي العالم للحكومات

المتعاقبة و ما يدل عليه ذلك

ن مكانتها المعنوية ... 16:31 _ 6:35

القيمة المادية الفدك كما تسجله

عدة دلائل ... 7:35 _ 9:36

3 - تاريخ الدورة 37 - 103

شيء من مقومات الدراسة

التاريخية ... 1:38 _ 6:40

مثالية الدور الاسلامي الأول

لا تنافى النقد النزيه لرجالاته ... 7:40 _ 15:45

العقاد فى كتاب فاطمة و الفاطميون 45: 16 - 49: 9

نظرة في موقف الخصمين و تعليل

الموقف تعليلا عاطفيا ... 10:49 _ 19:53

الثورة في ألوانها السياسية و بعدها

كل البعد عن الدوافع المادية ... 20:53 _ 10:69

تلون السلطة بلون حزبي جديد

و مظاهر هذه الحزبية ... 11:69 _ 19:71

ظروف الحزب الحاكم و منهاجه

السياسي مع آل محمد و سائر

ص: 3

المعارضين ... 1:72_16:81

موقف الخليفة في مسألة فدك

تطبيق حرفي لذلك المنهاج بكلا

عنصريه ... 17:81_6:83

عظمة الامام و روعة موقفه

عند انتصار الحزب الحاكم ... 7:83_14:97

ظروف الامام و ما فرضته عنيه

من موقف سلبي و السر في

عدم احتجاجه بنصوص امامته

علنايوم السقيفة ... 2:88_14:97

المطالبة بفدك تحتل الصدارة في

السياسة العلوية لأنها الأسلوب

الوحيد الذي كان يلائم مزاج

الموقف الدقيق ... 15:97_16:99

مظاهر المعارضة الفاطمية ... 17:99_3:100

الحركة الفاطمية فشلت بمعنى

و نجحت بمعنى آخر ... 4:101_12:103

4- قبسات 105 - 127

العظمة النبوية فى إطارها الروحي

ص: 4

الباهر كما تصورها الزهراء

في كلمات ... 3:106_18:107

مقارنة فاطمية رائعة بين الامام

و الآخرين في المواهب العسكرية

و الاخلاص للمبدأ و التفاني في

سبيل الواجب ...1:108_15:114

الزهراء تصرح بان الحاكمين

يشكلون حزباً ذا طابع خاص ... 1:115_12:116

الصديقة تعلن أن خلافة السقيفة

فتنة وام المتن و نقد هذا

الاعلان ...13:116_6:127

5 - محكمة الكتاب 119 178

موقف الخليفة من الميراث

النبوي يزيفه الخليفة نفسه ... 10:130_10:133

تعليقات على الموقف ... 11:133_5:134

روايات الخليفة في الموضوع

و نقدها ... 6:134_7:147

ما ذا كان يدعى الخليفة؟ ... 8:147_10:152

تصفية الحساب مع الخليفة

ص: 5

في جملة إعتراضات ... 11:153_11:167

الناحية الثانية من موقف

الخليفة و نقدها ... 12:167_10:178

ص: 6

(وقعت عدة أغلاط في الكتاب تذكر اللهم منها)

صفحة سطر غلط صحيح

30 15 تألفت تألقت

30 15 فنا فی

32 32 بیانه بیانه

33 12 یطبه یطبعه

46 13 يشكو يشكون

46 13 الى على شهادة - على شهادة

75 1 خيوط خطوط

98 8 بسيفها بسيفه

101 8 بعد بعدة

112 13 طبه طبقه

128 18 ذاكر لاموال - ذكر الاموال

138 3 يعينها يعنيها

150 3 به ربه

152 7 تثقل تنقل

و جاء في ص 37 س 5 - 6: احداهما ان الصديق أجل من أن يسلبها حقها الذي تقوم به البينة. و الصحيح هكذا: احداهما ان الصديقة أرفع من أن تنالها تهمة بكذب و الأخرى أن الصديق اجل من أن يسلبها حقها الذي تثبته البينة.

ص: 7

فدك

تأليف

محمد باقر الصدر

(حقوق الطبع محفوظة للناشر)

(محمد كاظم الحاج شيخ محمد صادق الكتبي)

المطبعة الحيدرية فى النجف

1374ه- 1955م

ص: 1

فاتحة الكتاب

بسم الله الرحمن الرحیم

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ *

ص: 2

أيها القارى الكريم:

هذا ان- انتاج اغتنمت له عطلة من عطل الدراسة في جامعتنا الكريمة النجف الأشرف - و توفرت فيها على درس مشكلة من مشاكل التاريخ الاسلامي، و هي مشكلة فدك، و الخصومة التأريخية التي قامت بين الزهراء صلوات الله - و الخليفة الأول رضي الله تعالى عنه. و كانت تتبلور في ذهني استنتاجات و فكر، فسجلتها على أوراق متفرقة. حتى اذا انتهيت من مطالعة مستندات القضية و روايتها، و درس ظروفها وجدت في تلك الوريقات ما يصلح خميرة لدراسة كافية للمسألة، فهذبتها و رتبتها على فصول، اجتمع منها كتيب صغير، و كان في نيتي الاحتفاظ به كمذكر عند الحاجة، فبقى عندي سنين مذكراً و مؤرخا لحياتي الفكرية في الشهر الذي تمخض عنه، غيران حضرة الوجيه الفاضل الشيخ محمد كاظم ابن الشيخ صادق الكتبي (أيده الله) طلب مني تقديمه اليه ليتولى طبعه و قد نزلت على رغبته تقديراً لأ ياديه البيضاء على المكتبة العربية و الاسلامية و الكتاب هو ما تراه بين يديك.

{المؤلف}

ص: 3

ص: 4

على مسرح الثورة

فدو نكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله، و الزعيم محمد، و الموعد القيامة و عند الساعة نخسر المبطلون.

الزهراء

ص: 5

ص: 6

على مسرح الثورة

وقفت لا يخالجها شك فيما تقدم عليه، و لا يطفح عليها موقفها الرهيب بصبابة من خوف أو ذعر، و لا يمر على خيالها الذي كان جدياً كل الجد، تردد في تصميمها، و لا تساورها هاجسة من هواجس القلق و الارتباك، و ها هي الآن في أعلا القمة من استعدادها النيبل، و ثباتها الشجاع على خطتها الطموح، و أسلوبها الدفاعي، فقد كانت بين بابين لا يتسمان لتردد طويل، و درس عريض، فلابد لها من اختيار أحدهما و قد أختارت الطريق المتعب من الطريقين الذي يشق سلوكه على المرأة بطبيعتها الضعيفة لما يكتنفه من شدائد و مصاعب تتطلب جرأة أدبية، و ملكة بيانية مؤثرة، و قدرة على صب معاني الثورة كل ها في كلمات و براعة فنية في تصوير النقمه ونقد الأوضاع القائمة تصويراً و نقداً يجعلان في الالفاظ معنى من حياة، و حظاً من خلود، لتكون الحروف جنود الثورة الخيرة، و سندها الخالد في تاريخ العقيدة و لكنه الايمان و الاسترسال في سبيل الحق الذي يبعث في النفوس الضعيفة نقائضها، و يفجر في الطبائع المخذولة قوة لا تتعرض لضعف و لا تردد.

ص: 7

و لذا كان اختيار الثائرة لهذا الطريق مما يوافق طبعها، و يلتم مع شخصيتها المركزة على الانتصار للحق، و الاندفاع في سبيله.

و كانت حولها نسوة متعددات من حفدتها و نساء قومها كالنجوم المتناثرة يلتففن بها بغير انتظام، و هن جميعاً سواسية في هذا الاندفاع و الالتباع، و قائدتين بينهن تستعرض ما ستقدم عليه من و ثبة كريمة تهيء لها العدة و الذخيرة، و هي كلما استرسلت فى استعراضها هذا ازدادت رباطة جأش، وقوة جنان، و تضاعفت قوة الحق التي تعمل في نفسها، و اشتدت صلابة فى الحركة، و انبعاثا نجو الدفاع عن الحقوق المسلوية، و نشاطاً في الاندفاع، و بسالة في الموقف الرهيب، كأنها قد استعارت في لحظتها هذه قاب رجلها العظيم، لتواجه به ظروفها القاسية و ماحاكت لها يدالقدر استغفر الله بل ما قدر لها المقدر الحكيم من مأساة مروعة تهد الجبل و تزلزل الصعب الشامخ.

و كانت في لحظتها الرهيبة التي قامت فيها بدور الجندي المدافع شبحاً قائماً ترتسم عليه سحابة حزن عليه سحابة حزن مرير، و هي شاحبة اللون، عابسة الوجه، مفجوعة القلب، كاسفة البال منهدة العمد، ضعيفة الجانب، نفسها، و عميق فكرها المتأملة اشعاعة بهجة، مائعة الجسم، و في صميم و اثارة طمأنينة، و ليس هذا و لا ذاك استعذاباً لأمل باسم، أو سكونا إلى حلم لذيذ، أو استقبالا لنتيجة حسنة مترقبة، بل كانت الاشعاعة اشعاعة رضاً بالفكرة، و الاستبشار بالثورة، و كانت الطمأنينة ثقة بنجاح، لا هذا الذي نفيناه بل على وجه آخر، و ان في بعض الفشل الآجل ايجا با

ص: 8

لنجاح عظيم و كذلك وقع، فقد قامت أمة برمتها تقدم هذه الثورة الفائرة بل تستمد منها ثباتها و استبسالها فى هذا الثبات.

و دفعتها أفكارها فى وقفتها تلك إلى الماضي القريب يوم كانت موجات السعادة تلعب بحياتها السعيدة، و يوم كانت نفس أيها يصعد، و نسمه يهبط، و كان بيتها قطب الدولة العتيد، و دعامة المجد الراسخة

المهيمنة على الزمن الخاشع المطيع.

و لعل أفكارها هذه ساقتها إلى تصور أبيها ( صلى الله عليه و آله ) و هو يضمها إلى صدره الرحيب، و يحوطها بحنانه العبقري، و يطبع على فمها الطاهر قبلاته التي اعتادتها منه، و كانت غذاءها صباحا و مساء. ثم وصلت إلى حيث بلغت سلسلة الزمن فيواجهها الواقع العابس و اذا بالزمان غير الزمان و ها هو بيتها مشكاة النور ورمن النبوة و الاشعاعة المتألقة المحلقة بالسماء مهدد بين الفينة و الفينة . و ها هو ابن عمها الرجل الثاني في دنيا الاسلام باب علم النبوة، و وزيرها المخلص، و ئهارونها المرجى، الذي لم يكن لينفصل ببدايته الطاهرة عن بداية النبوة المباركة فهو ناصرها فى البدانة، و أملها الكبير فى النهاية، يخسر أخيراً خلافة رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) و تقوض معنوياته النورية التي شهدت لها السماء و الأرض جميعاً، و تسقط سوابقه الفذة عن الاعتبار ببعض المقاييس التي تم إصطلاحها في تلك الأحايين.

و هنا بكت بكا. شقياً ماشاء الله لها أن تبكي، و لم يكن بكا. بمعناه الذي يظهر على الأسارير، و تخيم على المظاهر، بل كان لوعة الضمير،

ص: 9

و ارتباع النفس، و انتفاضة الحسرات في أعماق القلب، و ختمت طوافها الأليم هذا بعبرتين نضتا من مقلتيها.

ثم لم تطل وقفتها، بل اندفعت كالشرارة الملتهبة و حولها صويحباتها حتى وصلت إلى ميدان الصراع، فوقفت وقفتها الخالدة، و أثارت حربها الذي استعملت فيه ما يمكن مباشرته للمرأة في الاسلام، و كادت ثورتها البكر أن تلتهم الخلافة لو لا أن عاكسها شذوذ الظرف، و تناثرت أمامها العقاب.

* * *

تلك هي الحوراء الصديقة فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) ريحانة النبوة، و مثال العصمة، و هالة النور المشعة، و بقية الرسول بين المسلمين - في طريقها إلى المسجد - و قد خسرت أبوة هي أزهى الأبوات في تاريخ الانسان و أفيضها حناناً، و أكثرها إشفاقا و أوفرها بركة.

و هذه كارثة من شأنها أن تذيق المصاب بها مرارة الموت أو أن تظهر له الموت حلواً شهياً، و أهلاً خيراً.

و هكذا كانت الزهراء حينما لحق أبوها بالرفيق الأعلى، و طارت روحه الفرد إلى جنان ربها راضية مرضية.

ثم لم تقف الحوادث المرة عند هذا الحد الرهيب، بل عرضت الزهراء الخطب آخر قد لا يقل تأثيراً في نفسها الطهور، و ايقاداً لحزنها، و اذكاء لأساها عن الفاجعة الأولى كثيراً و هو خسارة المجد الذي سجلته

ص: 10

السماء لبيت النبوة على طول التاريخ، و أعنى بهذا المجد العظيم سيادة الأمة و زعامتها الكبرى، فقد كان من تشريعات السماء أن يسوس آل محمد (صلى الله عليه و آله) أمته و شيعته، لأنهم مشتقاته و مصغراته، و إذا بالتقدير المعاكس يعرف مراكز الزعامة عن أهلها، و مناصب الحكم عن أصحابها، و يرتب لها خلفاء وأمراء من عند نفسه.

و بهذا وذاك خسرت الزهراء أقدس النبوات و الأبوات و اخلد الرئاسات و الزعامات بين عشية وضحاها، فيعثتها نفسها المطوقة بآفاق من الحزن و الأسف إلى المعركة و مجالاتها، و مباشرة الثورة و الاستمرار عليها و الحقيقة التي لا شك فيها أن أحداً ممن يوافقها على مبدئها ونهضتها لم يكن ليمكنه أن يقف موقفها، و يستبسل استبسالها في الجهاد إلا و أن يكون أكلة باردة، و طعمة رخيصة للسلطات الحاكمة التي كانت قد بلغت يومذاك أوج الضغط و الشدة، فعلى الاشارة عتاب، و على القول حساب و على الفعل عقاب، فلم يكن ليختلف عما نصطلح عليه اليوم بالاحكام العرفية، و هو أمر ضروري للسلطات يومئذ في سبيل تدعيم أساسها، و تثبيت بنيانها.

أما اذا كان القائم المدافع بنت محمد (صلى الله عليه و آله و سلم) و بضعته و صورته الناضرة، فهي محفوظة لا خوف عليها بلا شك، باعتبار هذه البنوة المقدسة. و لما المرأة في الاسلام عموما من حرمات و خصائصتمنعها و تحميها من الاذى.

ص: 11

من سكان القرية:

ارتفعت الزهراء بأجنحة من خيالها المطير إلى آفاق حياتها الماضية و دنيا أبيها العظيم التي استحالت حين لحق سيد البشر بربه إلى ذكرى في نفس الحوراء متألقة بالنور تمد الزهراء في كل حين بألوان من الشعور و العاطنة و التوجيه، و تشيع في نفسها ضروباً من البهجة و النعيم، فهي و ان كانت قد تأخرت عن أبيها في حساب الزمن أياماً أو شهوراً، و لكنها تنفصل عنه في حساب الروح و الذكرى لحظة واحدة.

و إذن ففي جنبيها معين من القوة لا ينبض، و طاقة على ثورة كاسحة لا تحمد، و أضواء من نبوة محمد (صلى الله عليه و آله) و نفس محمد تنير لها الطريق، و تهديها سواء السبيل.

و مجردت الزهراء في اللحظة التي اختمرت فيها ثورة نفسها عن دنيا الناس، و اتجهت بمشاعرها إلى تلك الذكرى الحية في نفسها لتستمد منها قبساً من نور فى موقفها العصيب: و صارت تنادي : -

إلي يا صور السعادة التي أفقت منها على شقاء لا يصطبر عليه .. ياصور إلي يا أعز روح علي، و أحبها إلي .. حدثيني و أفيضي علي من نورك الالهي . كما كنت تصنعين معي دائما ..

إلي يا أبي أناجيك ان كانت المناجاة تاذ لك، و ابتك همومي كما اعتدت أن أفعل فى كل حين، و أخبرك أن تلك الظلال الظليلة التي كانت

ص: 12

تقيني من لهيب هذه الدنيا لم يعد لي منها شيء.

قد كان بعدك أنباء و هنيئة لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب

إلي يا ذكريات الماضي العزيز حدثيني حديثك الجذاب و رددي على مسامعي كل شيء لاثيرها حرباً لا هوادة فيها على هؤلاء الذين ارتفعوا أو ارتقع الناس بهم إلى منبر أبي و مقامه، و لم يعرفوا لآل محمد ( صلى الله عليه و آله) حقوقهم، و لا لبيتهم حرمة تصونه من الاحراق و التخريب. ذكريني بمشاهد أبي و غزواته ألم يكن يقص علي ألواناً من بطولة أخيه و صهره و استبساله فى الجهاد: و تفوقه على سائر الانداد، و وقوفه إلى صف رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) في اشد الساعات، و أعنف المعارك التي فر فيها فلان و فلان و تقاصر عن افتحامها الشجعان أيصح بعد هذا أن نضع أبا بكر على منبر النبي و ننزل بعلي عما يستحق من مقام.

خبريني يا ذكريات أبي العزيز أليس أبو بكر هو الذي لم يأتمنه الوحي على تبليغ آية إلى المشركين؟ . و انتخب المهمة عليا فما ذا يكون معنى هذا إن لم يكن معناه ان عليا هو الممثل الطبيعي الاسلام الذي يجب أن تسند اليه كل مهمة لا يتيسر للنبي (صلى الله عليه و آله و سلم) مباشرتها اني لا تذكر بوضوح ذلك اليوم العصيب الذي أرجف فيه المرجفون لما استخاف أبي عليا على المدينة و خرج إلى الحرب، فوضعوا لهذا الاستخلاف ما شاؤا من تفاسير، و كان علي ثابتاً كالطود لا تزعزعه مشاغبات المشاغبين، و كنت أحاول أن يلتحق بأبي ليحدثه بحديث الناس و أخيراً لحق بالنبي (صلى الله عليه و آله و سلم) ثم رجع متهلل الوجه

ص: 13

ضاحك الأسارير. تحمله الفرحة إلى قرينته الحبيبة المزف إليها بشرى لا معنى من معاني الدنيا بل بمعنى من معاني السماء. فقص علي كيف استقبله النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) و رحب به و قال له: انت مني بمنزلة هارون من موسى إلا انه لا نبي بعدي)). و هارون موسى شريكا له في الحكم، و اما ما لامته، و معداً لخلافته، فلا بد ان يكون هارون محمد (صلى الله عليه و آله و سلم) وليا للمسلمين و خليفته فيهم من بعده

و لما وصلت إلى هذه النقطة من افكارها المتدفقة صرخت ان هذا هو الانقلاب الذي انذر الله تعالى به في كتابه إذ قال: (و ما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرُّسُلُ أَفَان مات أو قتل انقابتم على أعقابكم). فها هم الناس قد انقلبوا على اعقابهم، و استولى عليهم المنطق الجاهلي الذي تبادله الحزبان في السقيفة حين قال احدهما نحن اهل العزة و المنعة، و اولوا العدد و الكثرة، و اجابه الآخر: من ينازعنا سلطان محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) و نحن أولياؤه و عترته و سقط الكتاب و السنة في تلك المقاييس ثم اخذت تقول : -

يا مبادى. محمد (صلى الله عليه و آله و سلم) التي جرت في عروقي منذ ولدت كما يجري الدم فى العصب، ان عمر الذي هجم عليك في بيتك المحكي الذي اقامه النبي مركزاً لدعوته قد هجم على آل محمد (صلى الله عليه و آله و سلم) في دارهم و اشعل النار فيها او كاد ...

(*) ورد حديث المنزلة في صحيح البخاري و مسلم و خصائص النسائي و مستدرك الحاكم و جامع الترمذي و مروج الذهب.

ص: 14

یا روح امي العظيمة انك القيت علي درساً خالداً في حياة النضال الاسلامي بجهادك الرائع في صف سيد المرسلين (صلى الله عليه و آله و سلم) و سوف اجعل من نفسي خديجة علي في محنته القائمة.

لبيك ابيك يا أماه أني أسمع صوتك في أعماق روحي بدفعني إلى مقاومة الحاكمين.

فسوف أذهب إلى أبي بكر لأقول له لقد جئت شيئاً فرياً، فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله، و الزعيم محمد و الموعد القيامة، و لأنبه المسلمين إلى عواقب فعلتهم و المستقبل القائم الذي بنوه بأيديهم و أقول: لقد لقحت فنظرة ريثما تحلب، ثم احتلبوها طلاع العقب دماً عبيطاً، و هناك يخسر المبطلون، و يعرف التالون، غب ما أسس الأولون.

ثم اندفعت إلى ميدان العمل و فى نفسها مبادی، محمد (صلى الله عليه و آله و سلم) و روح خديجة، و بطولة علي، و اشفاق عظيم على هذه الامة من مستقبل مظلم.

* * *

طريق الثورة:

لم يكن الطريق الذي اجتازته الثائرة طويلا، لأن البيت الذي انبعث منه شرر الثورة و لهيبها هو بيت علي (علیه السلام) بالطبع الذي كان يصطلح عليه رسول الله (صلى الله عليه و آله) ببيت النبوة و هو جار المسجد

ص: 15

لا يفصل بينهما سوى جدار واحد، فلعلها دخلته من الباب المتصل به، و المؤدي اليه من دارها مباشرة، كما يمكن أن يكون مدخلها الباب العام و لا يهمنا تعيين أحد الطريقين، و إن كنت أرجح انها سلكت الباب العام لأن سياق الرواية التاريخية التي حكت لنا هذه الحركة الدفاعية يشعر بهذا فان دخولها من الباب الخاص لا يكلفها سيراً في نفس المسجد و لا اجتياز طريق بينه و بين بيتها، فمن أين المراوي أن يصف مشيها، و ينعته بأنه لا يخرم مشية رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) و هو لم يكن معها بالطبع، و، و لو تصورنا انها سارت في نفس المسجد، فلا ينتهى سيرها بالدخول على الخليفة. و انما يبتدأ بذلك، لأن من دخل المسجد صدق عليه انه دخل على من فيه، و ان سار في ساحته مع أن الراوي يجعل دخولها على أبي بكر متعقبا المشيها، و هذا و غيره يكون قرينة على ما استقر بناه.

النسوة:

و تدلنا الرواية على أن الزهراء كانت تصحب معها نسوة من قومها وحفدتها كما سبق ذكره و مرد هذه الصحبه، و ذلك الاختيار للباب العام إلى أمر واحد، و هو تنبيه الناس، و كسب التفاتهم باجتيازها في الطريق مع تلك النسوة ليجتمعوا في المسجد، و يتهافتوا حيث ينتهى بها السير بقصد التعرف على ما تريده و تعزم عليه من قول أو فعل، و بهذا تكون المحاكمة عانية تعيها اسماع عامة المسلمين في ذلك الوسط المضطرب.

ص: 16

ظاهرة:

سبق ان الرواية التأريخية جاءت تنص على أن الزهراء لم التخرم في مشيتها مشية أبيها (صلى الله عليه و آله و سلم).

و يتسع لنا المجال لفلسفة هذا التقليد الدقيق فلعله كان طبيعة قد جرت عليها في موقفها هذا بلا تكلف و لا اعتناء خاص، و ليس هذا ببعيد فانها صلوات الله عليها قد اعتادت ان تقلد أباها و تحاكيه فى سائر أفعالها و أقوالها، و يحتمل أن يكون لهذه المشابهة المتقنة وجه آخر بأن كانت الحوراء قد عمدت في موقفها يومذاك إلى تقليد أبيها في مشيه عن التفات و قصد فأحكمت التمثيل و أجادت المحاكات، فلم تكن لتخرم مشية النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) و أرادت بهذا أن تستولي على المشاعر و احساس الناس و عواطف الجمهور بهذا التقليد الباهر الذي يدفع بأفكارهم إلى سفر قصير، و تجول لذيذ في الماضي القريب حيث عهد النبوة المقدس، و الأيام الضواحك التي قضوها تحت ظلال نبيهم الأعظم (صلى الله عليه و آله و سلم) فيكون في ارهاف هذه الاحساسات و صقلها صقلاً عاطفياً ما يمهد الزهراء الشروع في مقصودها. و يوطى القلوب لتقبل دعوتها الصارخة و استجابة استنقاذها الحزين، و نجاح محاولتها اليائسة أو شبه اليائسة.

و لذا ترى ان الراوي نفسه أثرت عليه هذه الناحية أيضاً من حيث يشعر أو لا يشعر، و دفعه تأثره هذا إلى تسجيلها فيما سجل من

ص: 17

تصوير الحركة الفاطمية.

* * *

كلمة حول آمال الثورة و آلامها

صرخة باركتها الزهراء، ورعتها السماء فكانت عند اندلاعها محط الثقل الذي تركز عنده الحق المذبوح، والمحاولة اليائسة التي شاعت حولها ابتسامات أمل استحالت بعد انتهائها إلى عبوس مرير، و يأس ثابت، و استسلام فرضته حياة الناس الواقعة يومذاك.

ثورة لم تكن لتقصد بها الثائرة نتيجة لها على ما يطرد في الثورات الاخرى بقدر ما كانت تستهدف إلى تثبيت الثورة لذاتها، وتسجيلها فيما يسجله التاريخ في سطوره البارزة فكانت الثورة على هذا بنفسها تؤدي الغرض كاملاً غير منقوص، و هذاما وقع بالفعل و به نفسر الحكم بنجاحها و ان فشلت كما سنوضحه في موضع آخر من هذا الكتاب.

ص: 18

فدک

-2-

فدك

(بمعناها الحقيقي)

((بلى كانت في أيدينا فداك من كل ما أظلته السماء فشخت عليها نفوس قوم، و سخت عنها نفوس

آخرین)).

(قرين الزهراء)

أمير المؤمنين

(بمعناها الرمزي) الحد الاول (لفدك) عدن و الحد الثاني: سمرقند.

و الثالث: افريقية.

و الرابع: سيف البحر مما يلي الجزر و أرمينية.

{حفيد الزهراء }

الامام موسى بن جعفر

ص: 19

فدك

فدك: قرية فى الحجاز، بينها و بين المدينة يومان، و قيل ثلاثة و هي أرض يهودية في مطلع تأريخها المأثور، و كان يسكنها طائفة من اليهود، و لم يزالوا على ذلك حتى السنة السابعة حيث قذف الله بالرعب في قلوب أهليها فصالحوا رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) على النصف من فدك، وروي انه صالحهم عليها كلها.

و ابتدأ بذلك تاريخها الاسلامي، فكانت ملكا لرسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم، لأنها مما لم يوجف عليها بخيل و لا ركاب، ثم قدمها لا بنته الزهراء، و بقيت عندها حتى توفى أبوها (صلى الله عليه و آله و سلم) فانتزعها الخليفة الأول (رضي الله عنه) - على حد تعبير صاحب الصواعق المحرقة - و أصبحت من مصادر المالية العامة و موارد ثروة الدولة يومذاك حتى تولى عمر الخلافة، فدفع فدكا إلى ورثة رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) و بقيت فدك عند آل محمد (صلى الله عليه و آله و سلم) إلى أن تولى الخلافة عثمان بن عفان فاقطعها مروان بن الحكم على ما قيل، ثم يهمل التأريخ أمر فدك بعد عثمان فلا يصرح عنها بشيء، و لكن الشيء الثابت هو

ص: 20

أن أمير المؤمنين عليا انتزعها من مروان على تقدير كونها عنده في خلاقة عثمان بن عفان - كسائر ما تهبه بنو امية في أيام خليفتهم -

و قد ذكر بعض المدافعين عن الخليفة في مسألة فدك أن علياً لم يدفعها عن المسلمين بل اتبع فيها سيرة أبي بكر فلو كان يعلم بصواب الزهراء و صحة دعواها ما انتهج ذلك المنهج.

و لا أريد أن أفتح فى الجواب بحث التقية على مصراعيه و أوجه بها عمل أمير المؤمنين، و انما أمنع أن يكون أمير المؤمنين (علیه السلام) قد سار على طريقة الصديق، فان التأريخ لم يصرح بشيء من ذلك بل صرح أمير المؤمنين كان يرى ان قد كاً لأهل البيت. و قد سجل هذا الرأي بوضوح في رسالته إلى عثمان بن حنيف كما سيأتي.

فمن الممكن انه كان يخص ورثة الزهراء و هم أولادها و زوجها بحاصلات فدك، و ليس فى هذا التخصيص ما يوجب اشاعة الخبر لأن المال كان عنده و أهله الشرعيون هو و أولاده، كما يحتمل أنه كان ينفق غلانها في مصالح المسلمين برضى منه و من أولاده عليهم الصلاة و السلام (1) بل لعلهم أوقفوها و جعلوها من الصدقات العامة.

و لما ولى معاوية بن أبي سفيان نفسه الخلافة أمعن في السخرية

ص: 21


1- و هذا أقرب الاحتمالات، لأن الأول تنفيه رسالة أمير المؤمنين إلى عان بن حنيف إذ يقول: و سخت عنها نفوس آخرين، و الثالث يبعده قبول الفاطميين فيما بعد لفدك عند ما اعطيت اليهم في فرص متباعدة.

و أكثر من الاستخفاف بالحق المهضوم فاقطع مروان بن الحكم ثلث فدك و عمر بن عثمان ثلثها، و يزيد ابنه ثلثها الآخر، فلم يزالوا يتداولونها حتى خلصت كلها لمروان بن الحكم أيام ملكه ثم صفت لعمر بن عبد العزيز بن مروان فلما تولى هذا الأمر رد فدكاً على ولد فاطمة عليها السلام و كتب إلى و اليه على المدينة أبي بكر بن عمرو بن حزم يأمره بذلك فمكتب اليه ان فاطمة عليها السلام قد ولدت في آل عثمان و آل فلان و فلان فع لى من أرد منهم؟ فكتب اليه: أما بعد، فاني لو كتبت اليك آمرك أن تذبح بقرة اسألتني ما لونها فاذا ورد عليك كتابي هذا فاقسمها في ولد فاطمة عليها السلام من علي عليه السلام، فنقمت بنو امية ذلك على عمر بن عبد العزيز و عاتبوه فيه و قالوا له: هجنت فعل الشيخين، و قيل: انه خرج

اليه عمرو بن قيس في جماعة من أهل الكوفة فلما عاتبوه على فعله قال انكم جهلتم و علمت و نسيتم و ذكرت ان ابا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم حدثني عن أبيه عن جده ان رسول الله (صلى الله عليه و آله) قال: فاطمة بضعة مني يسخطها ما يخطني، و يرضيني ما أرضاها، و ان فدك كانت صافية على عهد أبي بكر و عمر ثم صار أمرها إلى مروان فوهبها لعبد العزيز أبي فورثتها أنا و اخوتي عنه فسألتهم أن يبيعوني حصتهم منها فمن بائع و واهب حتى استجمعت لي فرأيت أن أردها على ولد فاطمة، فقالوا له: فان أبيت إلا هذا فامسك الأصل و اقسم الغلة، ففعل.

ثم انتزعها يزيد بن عبد الملك من اولاد فاطمة فصارت في أيدي ني مروان حتى انقرضت دولتهم.

ص: 22

فلما قام أبو العباس السفاح بالأمر و تقلد الخلافة ردها على عبد الله ابن الحسن بن الحسن بن علي بن ابي طالب ثم قبضها أبو جعفر المنصور في خلافته من نبي الحسن و ردها المهدي بن المنصور على الفاطميين ثم قبضها موسى بن المهدي من أيديهم.

و لم تزل في أيدي العباسيين حتى تولى المأمون الخلافة فردها على الفاطميين سنة ( 210 ) و كتب بذلك إلى قسم بن جعفر عامله على المدينة: بعد، فان أمير المؤمنين بمكانه من دين الله و خلافة رسوله (صلى الله عليه و سلم) و القرابة به أولى من استن بسنته و سلم لمن منحه منحة و تصدق عليه بصدقة منحته و صدقه و بالله توفيق أمير المؤمنين و عصمته و اليه في العمل بما يقربه اليه رغبته، و قد كان رسول الله (صلى الله عليه و سلم) أعطى فاطمة بنت رسول الله فدك و تصدق بها عليها و كان ذلك أمر أظاهراً معروفاً لا اختلاف فيه بين آل رسول الله (صلى الله عليه و سلم) و لم تدعني منه ما هو أولى به من صدق عليه فرأى أمير المؤمنين أن يردها إلى و رثتها و يسلمها اليهم تقرباً إلى الله تعالى باقامة حقه و عدله و الى رسول الله (صلى الله عليه و سلم) بتنفيذ أمره و صدقته فأمر باثبات ذلك في دواوينه و الكتاب إلى عماله فلئن كان ينادي في كل بعد ان قبض نبيه (صلى الله عليه و سلم) ان يذكر كل من كانت له صدقة أو هبة أو عدة ذلك فيقبل قوله و تنفذ عدته إن فاطمة (رضي الله عنها لأولى بأن يصدق قولها فما جعل رسول الله (صلى الله عليه و سلم) لها و قد كتب امير المؤمنين إلى المبارك الطبري مولى أمير المؤمنين يأمره برد فدك على

ص: 23

ورثة فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه و سلم) بحدودها و جميع حقوقها المنسوبة اليها و ما فيها من الرقيق و الغلات و غير ذلك و تسليمها إلى محمد بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب و محمد بن عبد الله ابن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب لتولية أمير المؤمنين اياهما القيام بها لأهلها. فاعلم ذلك من رأي أمير المؤمنين و ما ألهمه الله من طاعته و وفقه له من التقرب اليه و إلى رسوله (صلى الله عليه و سلم) و أعلمه من قبلك و عامل محمد بن يحيى و محمد بن عبد الله بما كنت تعامل به المبارك الطبري و اعنهما على مافيه عمارتها و مصلحتها و وفور غلاتها إن شاء الله و السلام.

و لما بويع المتوكل الفاطميين و اقطعها عبد الله ابن عمر البازيار و كان فيبا احدى عشرة نخلة غرسها رسول الله (صلى الله عليه و آله) بيده الكريمة فوجه عبد الله بن عمر البازيار رجلا يقال له: بشران بن أبي أمية الثقفي إلى المدينة فصرم تلك النخيل ثم عاد ففاج . و ينتهى آخر عهد الفاطميين بفدك بخلافة المتوكل و منحه اياها عبد الله بن عمر البازبار.

هذه المسامة مختصرة بتاريخ فدك المضطرب الذي لا يستقيم على خط ولا يجمع على قاعدة، و أنما حاكت اكثره الأهواء، و صاغته الشهوات على ما اقتضته المطامع و السياسات الوقتية، و على هذا فلم يخل هذا التاريخ من اعتدال و استقامة في أحايين مختلفة، و ظروف متباعدة حيث توكل فدك إلى أهلها و اصحابها الأولي و يلاحظ ان مشكلة فدك كانت قد حازت أهمية كبرى بنطر المجتمع الاسلامي و أسياده، و لذا ترى حلها يختلف

ص: 24

باختلاف سياسة الدولة، و ترتبط باتجاه الخليفة العام نحو أهل البيت مباشرة فهو اذا استقام اتجاهه، و اعتدل رأيه، رد فدكاً على الفاطميين، و اذا لم يكن كذلك وقع انتزاع فدك في أول القائمة من أعمال ذلك الخليفة.

و يدلنا على مدى ما بلغته فدك من القيمة المعنوية في النظر الاسلامي قصيدة دعبل الخزاعي التي أنشأها حينها رد المأمون فدكاً و مطلعها:

أصبح وجه الزمان قد ضحكا برد مأمون هاشم فدكا

و قد بقيت لي كلمة بسيطة و هي ان فدكا لم تكن أرضاً صغيرة أو مزرعا متواضعاً كما يظن بعض ، بل الأمر الذي اطمئن اليه انها كانت تدر على صاحبها أموالا طائلة تشكل ثروة مهمة و ليس على بعد هذا أن أحدد الحاصل السنوي منها و إن ورد في بعض طرقنا الارتفاع به الى اعداد عالية جداً.

و يدل على مقدار القيمة المادية المدك أمور

(الأول): ما سيأتي من أن عمر منع أبا بكر من ترك فدك المزهراء لضعف المالية العامة مع احتياجها إلى التقوية لما يتهدد الموقف من حروب الردة و ثورات العصاة.

و من الجلي ان أرضاً يستعان بحاصلاتها على تعديل ميزانية الدولة، و تقوية مالياتها فى ظروف حرجة كظرف الثورات و الحروب الداخلية لابد انها ذات نتاج عظيم.

(الثاني): قول الخليفة لفاطمة في محاورة له معها حول فدك: أن هذا المال لم يكن للنبي (صلى الله عليه و سلم) و انما كان مالا من اموال

ص: 25

المسلمين يحمل النبي به الرجال و ينفقه في سبيل الله فان تحميل الرجال لا يكون إلا بمال مهم تنقوم به نفقات الجيش.

(الثالث): ما سبق من تقسيم معاوية فدكا أثلاثاً، و اعطائه لكل من يزيد و مروان و عمرو بن عثمان ثلثا، فان هذا يدل بوضوح على مدى الثروة المجتناة من تلك الأرض، فانها بلا شك ثروة عظيمة تصلح لأن توزع على أمراء ثلاثة من أصحاب الثراء العريض و الأموال الطائلة.

(الرابع): التعبير عنها بقرية كما في معجم البلدان، و تقدير بعض تخيلها بنخيل الكوفة في القرن السادس الهجرى كما في شرح النهيج لا بن أبي الحديد

ص: 26

تاریخ الثورة

-3-

تاريخ الثورة

قد كان بعدك أنباء و هنيئة لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب

أبدت رجال لنا نجوى صدورهم كما مضيت و حالت دونك الترب

صدت على مصائب كو أنها صبت على الأيام صرن لياليا

قد كنت أربع تحت ظل محمد لا أختشي ضماً و كان جماليا

و اليوم أخضع الذليل و أنتي ضيمي و أدفع ظالمي بردائيا

(الزهراء)

ص: 27

تاريخ الأربة

إذا كان التجرد عن المرتكزات و الأناة في الحكم و الحرية في التفكير شروطاً للحياة الفكرية المنتجة، و للبراعة الفنيه في كل دراسة عقلية مهما يكن نوعها، و مهما يكن موضوعها، فهي أهم الشروط الأساسية لاقامة بناء تاريخي محكم القضايا أسلافنا تر تسم فيه خطوط حياتهم التي صارت ملكا للتأريخ شخصياتهم التي عرفوها في أنفسهم أو عرفها الناس يومئذ فيهم، و يتسع لتأملات شاملة لكل موضوع من موضوعات ذلك الزمن المنصرم يتعرف بها على لونه التاريخي و الاجتماعي و وزنه في حساب الحياة العامة أو في حساب الحياة الخاصة التي يعني بها الباحث و تكون مداراً لبحثه كالحياة الدينية و الأحلافية و السياسية إلى غير ذلك من النواحي التي يأتلف منها المجتمع الانساني على شرط أن تستمد هذه التأملات كيانا

النظري من عالم الناس المنظور لا من عالم تبتدعه العواطف و المرتكزات و ينشأه التعبد و التقليد لا من خيال مجنح يرتفع بالتوافه و السفاسف إلى من تحقيق و نتائج. لا من قيود لم يستطع الذروة، و يبنى عليها ما ش- المكاتب أن يتحرر عنها ليتأمل و يفكر كما تشاء له أساليب البحث العلمي النزيه

ص: 28

و اما اذا جئنا للتاريخ لا لنسجل واقع الأمر خيراً كان أو شراً و لا لنحبس دراستنا في حدود من مناهج البحث العلمي الخالص و لا لنجمع الاحتمالات و التقديرات التي يجوز افتراضها ليسقط منها على محك البحث ما يسقط و يبقى ما يليق بالتقدير و الملاحظة، بل لنستلهم عواطفنا و موروثاتنا و نستمد من وحيها الأخاذ تاريخ أجيالنا السابقة، فليس ذلك تاريخا لأولئك الأشخاص الذين عاشوا على وجه الأرض يوماً ما و كانوا بشراً من البشر تتنازعهم ضروب شتى من الشعور و الاحساس، و تختلج في ضمائرهم ألوان مختلفة من نوازع الخير و نزعات الشر، بل هو ترجمة لأشخاص عاشوا في ذهننا و طارت بهم نفوسنا إلى الآفاق العالية من الخيال.

فاذا كنت تريد أن تكون حراً في تفكيرك، و مؤرخاً لدنيا الناس لا روائيا يستوحي من دنيا ذهنه ما يكتب، فضع عواطفك جانباً أو اذا شئت فاملأ بها شعاب نفسك فهى ملكك لا ينازعك فيها أحد: و استثن تفكيرك الذي به تعالج البحث فانه لم يعد ملكك بعد أن اضطلعت بمسئولية التاريخ و أخذت على نفسك ان تكون أمينا ليأتي البحث مستوفياً الشروطه قائماً على أسس صحيحة من التفكير و الاستنتاج

كثيرة جداً هذه الأسباب التي تحول بين نقاد التاريخ و بين حريتهم فيما ينقدون و قد اعتاد المؤرخون أو أكثر المؤرخين بتعبير أصح أن يقتصروا على ضروب معينة من هندسة الحياة التي يؤرخونها و أن يصوغوا التاريخ صياغة قد يظهر فيها الجمال الفني أحيانا حينما يتوسع الباحث في انطب عاله عن الموضوع، و لكنها صورة باهتة في أكثر الأحايين ليس

ص: 29

فيها ما في دنيا الناس التي تصورهم من معاني الحياة و شؤونها المتدفقة بألوان النشاط و الحركة و العمل و سوف تجد فيما يأتي أمثلة بمقدار ما يتسع موضوعنا من الزمن الدقيق الذي ندرسه في هذه الفصول أعني الظرف الذي تلا وفاة النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) و تقررت فيه المسألة الأساسية في تأريخ الاسلام على شكل لا يتغير، و هي نوع السلطة التي ينبغي أن تتولى أمور المسلمين.

كلنا نود أن يكون التاريخ الاسلامي في عصره الأول الزاهر طاهراً كل الطير، بريقاً مما يخالط الحياة الانسانية من مضاعفات الشر و مزالق الهوي، فقد كان عصراً مشعاً بالمثاليات الرفيعة، إذ قام على إنشائه اكبر المنشئين للعصور الانسانية في تاريخ هذا الكوكب على الاطلاق، و ارتقت فيه العقيدة الالهية إلى حيث لم ترتق اليه الفكرة الالهية في دنيا الفلسفة و العلم، فقد عكس رسول الله (صلى الله عليه و آله) روحه في روح ذلك العصر، فتأثر بها و طبع بطابعها الالهي العظيم، بل فنى الصفوة من المحمديين في هذا الطابع في يكن لهم اتجاه إلا نحو المبدع الأعظم الذي ظهرت و تألفت منه أنوار الوجود، و اليه تسير كما كان استاذهم الأكبر الذي فنا الوجود المنبسط كله بين عينيه ساعة هبوط الرسالة السماوية عليه. فلم يكن يرى شيئاً ولا يسمع صوتاً سوى الصوت الالهي المنبعث من كل صوب وحدب، و في كل جهة من جهات الوجود، و ناحية من نواحي السكون يعلن تقليده الشارة الكبرى

ان عصراً تلغى فيه قيمة الفوارق المادية على الاطلاق، و يستوي

ص: 30

فيه الحاكم و المحكوم في نظر القانون، و مجالات تنفيذه، و يجعل مدار القيمة المعنوية، و الكرامة المحترمة فيه تقوى الله التي هي تطهير روحي، و صيانة للضمير، و ارتفاع بالنفس إلى آفاق من المثالية الرفيعة، و يحرم في عرفه احترام الغني لأنه غني، و اهانة الفقير لأنه فقير، و لا يفرق فيه بين الأشخاص إلا بمقدار الطاقة الانتاجية لها ما كسبت و عليها ما اكتسبت) و يتسارع فيه إلى الجهاد لصالح النوع الانساني الذي معناه الغاء مذهب السعادة الشخصية في هذه الدنيا، و اخراجها عن حساب الاعمال

(أقول): ان العصر الذي تجتمع له كل هذه المفاخر لهو خليق بالتقديس و التبجيل و الاعجاب و التقدير، و لكن ماذا أراني دفعت إلى التوسع في أمر لم أكن أريد أن أطيل فيه؟، و ليس لي أن أفرط في جنب الموضوع الذي احاوله بالتوسع فى أمر آخر، و اسكنها الحماسة لذلك العصر هي التي دفعتني إلى ذلك، فهو بلاريب زين العصور فى الروحانية و الاستقامة انا أفهم هذا جيداً، و اوافق عليه متحمساً، و لكني لا افهم ان يمنع عن التعمق في الدرس العلمي أو التمحيص التاريخي موضوع كموضوعات الساعة التي نتكلم عنها من مراحل ذلك الزمن، او يحضر علينا ان نبدأ البحث في مسألة فدك على اساس ان احد الخصمين كان مخطئاً في موقفه بحسب موازين الشريعة و مقاييسها، أو أن نلاحظ ان قصة الخلافة و فكرة السقيفة لم تكن مرتجلة و لا وليدة يومها اذا دلنا على ذلك سير الحوادث حينذاك و طبيعة الظروف المحيطة بها.

و أكبر الظن ان كثيراً منا ذهب في تعليل مناقب ذلك العصر

ص: 31

و مآثره مذهباً جعله يعتقد ان رجالات الزمن الخالي، و بتعبير اوضح تحديداً ان ابا بكر و عمر و اضرابهما الذين هم من موجهي الحياة العامة يومئذ لا يمكن ان يتعرضوا لعقد أو محاكمة، لأنهم بناة ذلك العصر و الواضعون لحياته خطوطها الذهبية، فتاريخهم تاريخ ذلك العصر، و تجريدهم عن شيء من مناقبهم تجريد لذلك العصر عن مثاليته التي يعتقدها فيه كل مسلم.

واريد ان اترك لي كلمة مختصرة فى هذا الموضوع فيها مادة لبحث طويل، و لمحة من دراسة مهمة قد اعرض لها فى فرصة أخرى من فرص التأليف، و اكتفى الآن ان اتساءل عن نصيب هذا الرامي من الواقع صحيح ان الاسلام فى ايام الخليفتين كان. هيمنا، و الفتوحات متصلة و الحياة متدفقة بمعاني الخير، و جميع نواحيها مزدهرة بالانبعاث الروحي الشامل، و اللون القرآني المشع، و لكن هل يمكن ان نقبل ان التفسير الوحيد لهذا وجود الصديق او الفاروق على كرسي الحكم ؟ ..

و الجواب المفصل عن هذا السؤال نخرج بيانه عن حدود الموضوع و السكنا نعلم أن المسلمين في ايام الخليفتين كانوا في اوج تحمسهم لدينهم والاستبسال في سبيل عقيدتهم، حتى ان التاريخ سجل انا ان شخصاً اجاب عمر حينما صعد يوماً على المنبر و سأل الناس: لو صرفنا كم عما تعرفون إلى ما تنكرون ما كنتم صانعين؟. - إذن كنا نستقيبك فان تبت قبلناك

فقال عمر: و ان لم? - قال: نضرب عنقك الذي فيه عينك فقال عمر: الحمد لله الذي جعل في هذه الأمة من اذا اعوججنا اقام اودنا.

و تعلم ايضاً ان رجالات الحزب المعارض - واعني به اصحاب علي -

ص: 32

كانوا بالمرصاد للخلافة الحاكمة، و كان أي زال و انحراف شوه للون الحكم, حينذاك كفيلاً بأن يقلبوا الدنيا رأساً على عقب، كما قلبوها على عثمان يوم اشترى قصراً، و يوم ولى أقاربه، و يوم عدل عن السيرة النبوية المثلى، مع أن الناس فى أيام عثمان كانوا أقرب إلى الميوعة في الدين و انلاين والدعة منهم في أيام صاحبيه.

و نفهم من هذا أن الحاكمين كانوا في ظرف دقيق لا يتسع للتغبير و التبديل في أسس السياسة و نقاطها الحساسة لو أرادوا إلى ذلك سبيلا، لأنهم تحت مراقبة النظر الاسلامي العام الذي كان مخلصاً كل الاخلاص لمبادئه، و جاعلاً لنفسه حق الاشراف على الحكم و الحاكمين، و لأنهم يتعرضون لو فعلوا شيئاً من ذلك المعارضة خطرة من الحزب الذي لم يكن يزال يؤمن بأن الحكم الإسلامي لا بد أن يكون مطبوعاً بطابع محمدى خالص، و ان الشخص الوحيد الذى يستطيع أن يطلبه بهذا الطابع المقدس هو علي و ارث رسول الله و وصيه و ولي المؤمنين من بعده.

و أما الفتوحات الاسلامية فكان لها الصدارة في حوادث تلك الأ. و السكننا جميعاً نعلم أيضاً أن ذلك لا يسجل للحكومة القائمة في ايام الخليفتين بلونها المعروف مجداً في حساب التاريخ ما دام كل شأن من شؤون الحرب و معداته و أساليبه يتبيأ بعمل اشبه ما يكون بالعمل الاجماعى من الامة الذى تعبر به عن شخصيتها الكاملة: عملياً خالداً. و لا يعبر عن شخصية الحاكم الذي لم يصل اليه من لهيب الحرب شرر ، ولم يستقل فيه برأي و لم يتهيأ له إلا بأمر ليس له فيه أدنى نصيب ، فان خليفة الوقت سواء

ص: 33

أمكان وقت فتح الشام أو العراق ومصر لم يعلن بكلمة الحرب عن قوة حكومته ومقدرة شخصه على أن يأخذ لهذه الكلمة أهبتها، بل أعلن عن قوة الكلمة النبوية التي كانت وعداً قاطعاً بفتح بلاد كسرى و قيصر اهتزت له قلوب المسلمين حماسة و أملاً بل إيماناً و يقيناً، و يحدثنا التأريخ ان كثيراً ممن اعتزل الحياة العملية بعد رسول الله لم يخرج عن عزلته إلى مجالات العمل إلا حين ذكر هذا الحديث النبوي، فقد كان هو و الايمان المتركز في القلوب القوة التي هيأت للحرب كل ظروفه و كل رجاله و امكانياته، و أمر آخر هيا للمسلمين أسباب الفوز ، وأنالهم النصر في معارك الجهاد لا يتصل بحكومة الشورى عن قرب او بعد، و هو الصيت الحسن الذي نشره رسول الله للإسلام في آفاق الدنيا، و أطراف المعمورة، فلم يكن يتوجه المسلمون إلى فتح بلد من البلاد إلا كان أمامهم جيش آخر من الدعايات والترويجات لدعوتهم و مبادئهم.

و فى أمر الفتوحات شيء آخر هو الوحيد الذي كان من وظيفة الحاكمين وحدهم القيام به دون سائر المسلمين الذين هيؤا بقية الأموروهو ما يتلو الفتح من بث الروح الاسلامية، وتركيز مثاليات القرآن في البلاد المفتوحة، و تعميق الشعور الوجداني والديني في الناس الذى هو معنى وراء الشهادتين ، و لا أدرى هل يمكننا أن نسجل للخليفتين شيئاً من البراعة في هذه الناحية أو نشك في ذلك كل الشك كما صار اليه بعض الباحثين و كما يدل عليه تاريخ البلاد المفتوحة في الحياة الاسلامية .

كانت الظروف كلها تشارك الخليفتين في تكوين الحياة العسكرية

ص: 34

المنتجة التي قامت على عهدهما. و فى بناء الحياة السياسية الخاصة التى اتخذاها و لا أدرى ما ذا كان موقفهما لو قدر لها و لعلي ان يتبادلوا ظروفهم فيقف الصديق و الفاروق موقف الامام و يسود في تلك الظروف التي كانت كلها تشجع على بناء سياسة ، ومنهج لحكم جديد ، و انشاء حياة لها من ألوان الترف ، و ضروب النعيم حظ عظيم، فهل كانا يعا كسان تلك الظروف كما عاكسها أمير المؤمنين؟ . . فضرب بنفسه مثلا في الاخلاص المبدأ و النزاهة في الحكم.

و أنا لا أقصد بهذا أن أقول ان الخليفتين كانا مضطرين اضطراراً إلى سيرة رشيدة في الحكم، و استدال في السياسة و الحياة، و مرغمين على ذلك، و انما اعنى ان الظروف المحيطة بهي كانت تفرض عليهما ذلك سواء أ كانا راغبين فيه او مكرهين عليه .

كما اني لا اريد أن أجردهما عن كل أثر في التاريخ. و كيف يسعني شيء من ذلك و هما المذان كتبا يوم السفينة سطور التاريخ الاسلامي كله، و انما عنيت انهما كانا ضعيفي الأثر في بناء تاريخ ايامهما خاصة و ما

از دهرت به من حياة مكافحة وحياة فاضلة.

اكتب هذا كله و بين يدي كتاب (فاطمة و الفاطميون) للاستاذ عباس محمود العقاد: و قد جئته بشوق بالغ لأرى ما يكتب في موضوع الخصومة بين الخليفة و الزهراء و أنا على يقين من أن أيام التعبد باعمال السالفين و تصويبها على كل تقدر قد انتهت و ان الزمان الذى يتحاشى فيه عن التعمق في شيء من مسائل الفكر الانساني دينا كانت او مذهباً او تاريخاً

ص: 35

أو أي شيء آخر قد مضى مع ما مضى من تاريخ الاسلام بعد أن طال قرونا ، ولعل الخليفة الأول كان هو أول من أعلن ذلك المذهب عند ما صرخ في وجه من سأله عن مسألة الحرية الانسانية والقدر وهدده وتوعده و السكن أليس قد أراحنا الله تعالى من هذا المذهب الذي يسيء الى روح الاسلام واذن فكان لي أن أتوقع بحثاً لذيذاً يتحفنا به الاستاذ في موضوع الخصومة من شتى نواحيها ولكن الواقع كان على عكس ذلك فاذا بكلمة الكتاب حول الموضوع قصيرة و قصيرة جداً و إلى حد استبيح لنفسي أن أنقلها و أعرضها بين يديك دون أن أطيل عليك فقد قال --

و الحديث في مسألة فدك هو كذلك من الأحاديث التي لا تنتهى إلى مقطع للقول متفق عليه غير ان الصدق فيه لامراء ان الزهراء اجل من أن تطلب ما ليس لها يحق و ان الصديق أجل من أن يسلبها حقها الذي تقوم به البينة عليه، و من أسخف ما قيل انه انما منعها فدك مخافة ان ينفق علي من غلتها على الدعوة اليه فقد ولي الخلافة ابو بكر و عمر و عثمان و علي و لم يسمع ان احداً بايعهم المال أخذه منهم و لم يرد ذكر شيء من هذا في و لا في خبر يقين و ما نعلم تزكية لذمة الحكم من عهد الخليفة الأول بينة من حكمه في مسألة فدك فقد كان يكسب برضى فاطمة ويرضى الصحابة برضاها و ما أخذ من فدك شيئاً لنفسه فيها ادعاد عليه مدع و أنما هو الحرج في ذمة الحكم بلغ أقصاه بهذه القضية بين هؤلاء الخصوم الصادقين المصدقين رضوان الله عليهم أجمعين انتهى ».

و نلاحظ قبل كل شيء أن الاستاذ شاء أن يعتبر البحث في مسألة

ص: 36

فدك لوناً من ألوان النزاع التي ليس لها قرار و لا يصل الحديث فيه إلى نتيجة فاصلة ليقدم بذلك عذره عن التوفر على دراستها، و أعتقد أن فى محاكمات هذا الكتاب التي سترد عليك جواباً عن هذا، و نلاحظ أيضاً انه بعد أن جعل مسألة فدك من الأحاديث التي لا تنتهي إلى مقطع للقول متفق عليه رأى ان فيها حقيقتين لا مراء فيهما و لا جدال ( احداهما ) ان الصديق أجل من أن يسلبها حقها الذي تقوم به البينة فاذا لم يكن فى صحة موقف الخليفة و اتفاقه مع القانون جدال فقيم الجدال الذي لا قرار له و لم لا تنتهي مسألة فدك الى مقطع للقول متفق عليه.

و أنا أفهم ان للكاتب الحرية في أن يسجل رأيه في الموضوع أي موضوع كما يشاء و كما يشاء له تفكيره بعد أن يرسم للقارى، مدارك ذلك الرأي و بعد أن يدخل تقديرات المسألة كلها في الحساب ليخرج منها بتقدير. معين و لكني لا أفهم أن يقول ان المسألة. وضوع لبحث الباحثين ثم لا يأتي إلا رأي مجرد عن المدرك يحتاج إلى كثير من الشرح و التوضيح و إلى كثير من البحث و النظر فاذا كانت الزهراء أرفع من كل تهمة فما حاجتها إلى البينة؟ و هل تمنع التشريعات القضائية في الاسلام عن ان يحكم العالم استناداً إلى علمه?. و اذا كانت تمنع عن ذلك فيل معنى هذا ان يجوز في عرف الدين سلب الشيء من المالك?. هذه أسئلة و معها أسئلة أخرى أيضاً في المسألة تنطلب جواباً علمياً، و بحثاً على ضوء أساليب الاستنباط في الاسلام.

وأريد أن أكون حراً و إذن فاني استميح الأستاذ أن ألاحظ

ص: 37

ان تزكية موقف الخليفة و الصديقه. ما أمر غير ممكن، لأن الأمر في منازعتهما لو كان مقتصراً على مطالبة الزهراء بفدك و امتناع الخليفة عن تسليمها له اعدم وجود مستمسك شرعي يحكم بواسطته لها بما تدعيه و انتهاء المطالبة إلى هذا الحد لو سعنا أن نقول ان الزهراء طلبت حقها في نفس الأمر و الواقع، و أن الخليفة لما امتنع عن تسليمه لها لعدم تهيؤ المدرك الشرعي الذي تثبت به الدعوى تركت مطالبتها، لأنها عرفت انها لا تقفد كا بحسب النظام القضائي و سنن الشرع، و لكننا نعلم ان الخصومة بينهما اخذت اشكالاً مختلفة حتى بافت مبلغ الاتهام الصريح من الزهراء واقسمت على المقاطعة.

و إذن فنحن بين اثنتين: إحداهما أن نعترف بأن الزهراء قد ادعت بإحمرار ما ليس لها بحق في عرف القضاء الاسلامي و النظام الشرعي و ان كان ملكيها في واقع الأمر، و الأخرى أن ناقى المتبعة على الخليفة و يقول انه قد منعها حقها الذي كان يجب عليه أن يعطيها اياد او بحكم لهذا بذلك على فرق علمي بين التعبير بن يتضح في بعض الفصول الآنية . فتنزيه الزهراء عن أن تطلب طلباً لا ترضى به حدود الشرع و الارتفاع بالخليفه عنعها حقها الذي تسخو به عليها تلك الحدود لا يجتمعان إلا اذا توافق النقيضان.

و لنترك هذا إلى مناقشة أخرى، فقد اعتبر الاستاذ حكم الخليفة في مسألة فدك اوضح بينة و دليل على تزكيته و ثباته على الحق و عدم تعديه عن حدود الشريعة لأنه لو أعطى فد كاً لناظمة لأرضاها بذلك و ارضى

ص: 38

الصحابة برضاها، و لنفترض معه ان حدود القانون الاسلامى هي التي كانت تفرض عليه أن يحكم بأن فركاً صدقة ولكن ما ذا كان يمنعه عن أن ينزل الزهراء عن نصيبه و نصيب سائر الصحابة الذين صرح بأنهم يرضون بذلك ؟ . . أ كان هذا محرماً في عرف الدين ايضاً ؟ أو أن أمراً ما أوحى اليه بأن لا يفعل ذلك ؟. بل ما ذا كان ممنعه عن تسليم فدك الزهراء بعد أن أعطته و عداً قاطعاً بأن تصرف حاصلاتها في وجوه الخير و المصالح العامة ?!.

و أما ما استسخنه الكاتب من تعليل لحكم الخليفة فسوف نعرف في هذا الفصل ما إذا كان سيخينماً حقاً.

* * *

إذا عرفنا أن مرتكزات الناس ليست وحياً من السماء لا تقبل شكاً و لا جدالا، و أن درس مسائل السالفين ليس كفراً و لا زندقة و لا تشكيكاً في أعلام النبوة كما كانوا يقولون، فلنا ان نتساءل عما بعث الصديقة إلى البدء بمنازعتها حول فدك على ذلك الوجه العنيف الذي لم يعرف أو لم يشأ أن يعرف هيبة للسلطة المهيمنة او جلالاً للقوة المتصرفة يعتهم الحكمين من لهيبها المتصاعد، و شررها المتطاير، و بقى الحكم من اشعاعة نور مثألفة تلقى ضوءاً عليه، فتظهر للتاريخ حقيقته مجردة عن كل ستار، بل كانت بداية المنازعة و مراحلها نذير ثورة مكتسحة أو ثورة بالفعل عندما اكتملت في شكلها الأخير، و يومها الأخير، تحمل كل ما لهذا المفهوم من مقدمات و نتائج، و لا تتعرض لضعف او تردد.

ص: 39

و ما عساه ان يكون هدف السلطة الحاكمة، او بالأحرى هدف الخليفة (رضي الله عنه) نفسه فى ان يقف مع الحوراء على طرفي الخط او لم يكن يخطر بباله ان خطته هذه تفتح له بابا فى التاريخ في تعداد اولياته ثم يذكر بينها خصومة اهل البيت، فهل كان راضياً بأوليته هذه مخلصاً لها حتى يستبسل في امتناعه و موقفه السلبي بل الايجابي المعاكسن او انه كان منقاداً للقانون، و ملتزماً بحرفيته في موقته هذا كما يقولون، فلم يشأ ان يتعد حدود الله تبارك و تعالى في كثير او قليل او ان لموقنه الغريب تجاه الزهراء صلة بموقفه في السقيفة، و اعني بهذه الصلة الاتحاد في الغرض او اجتماع الغرضين على نقطة واحدة، و بالأحرى ان تقول على دائرة واحدة متسعة اتساع دولة النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) فيها آمال بواسم و. و جات من الاحلام ضحك هذا الخليفة كثيراً و سعى في سبيلها كثيراً أيضاً

اننا ندرك بوضوح، و نحن نلاحظ الظرف التاريخي الذي حف بالحركة الفاطمية ان البيت الهاشمي المفجوع بعميده الاكبر قد توفرت له كل بواعث الثورة على الاوضاع القائمة و الانبعاث نحو تغييرها و انشائها إنشاء أجديداً و ان الزهراء قد اجتمعت لها كل امكانيات الثورة و مؤهلات المعارضة التي قرر المعارضون ان تكون منازعة سلمية مهما كلف الأمر.

و اننا نحس ايضا اذا درسنا الواقع التاريخي لمشكلة فدك و منازعاتها بأنها مطبوعة بطابع تلك الثورة، و نقبين بجلاء ان هذه المنازعات كانت في واقعها و دوافعها ثورة على السياسة العليا و الوانها التي بدت للزهراء بعيدة عما تألمه من ضروب الحكم، و لم تكن حقاً منازعة في شيء من

ص: 40

من شؤون السياسة المالية، و المناهج الاقتصادية التي سارت عليها خلافة الشورى و إن بدت على هذا الشكل في بعض الأحايين.

و اذا أردنا أن نمسك بخيوط الثورة الفاطمية من أصولها أو ما يصح أن يعتبر من أصولها فعلينا أن ننظر نظرة شاملة عميقة لتبين حادثين متقاربين في تاريخ الاسلام كان احدهما صدى الآخر و انعكاساً طبيعياً له و كانا معاً يمتدان بجذورهما و خيوطها الأولى إلى حيث قد يلتقى أحدهما بالآخر أو بتعبير أصح إلى النقطة المستعدة في طبيعتها إلى ان تمتد منها خيوط الحادثين.

أحدهما الثورة الفاطمية على الخليفة الأول التي كادت أن تزعزع كيانه السياسي، و ترمي بخلافته بين مهملات التاريخ.

و الآخر موقف ينعكس فيه الأمر فتقف عائشة أم المؤمنين بنت الخليفة الموتور فى وجه علي زوج الصديقة الثائرة على ابيها.

و قد شاء القدر لكلتا الثائرتين أن تفشلا مع فارق بينهما مرده الى نصيب كل منهما من الرضا بثورتها ، و الاطمئنان الضميري الى صوابها و حظ كل منها من الانتصار في حساب الحق الذي لا التواء فيه و هو أن الزهراء فشلت بعد أن جعلت الخليفة يبكي و يقول اقيلوني بيعتي و السيدة عائشة فشلت فصارت تتمني انها لم تخرج إلى حرب و لم تشق عصا طاعة هاتان الثورتان متقاربتان في الموضوع و الأشخاص فلماذا لا تنتهيان إلى اسباب متقاربة و بواعث متشابهة.

و نحن نعلم جيداً ان سر الانقلاب الذي طرأ على السيدة عائشة

ص: 41

حين اخبارها بأن علياً ولي الخلافة يرجع إلى الأيام الأولى في حياة علي و عائشة حينما كانت المنافسة على قلب رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) بين زوجته و بضعته.

و من شأن هذه المنافسة ان تتسع في آثارها فتبث مشاعر أمختلفة من الغيظ و التنافر بين الشخصين المتنافسين و تلف بخيوطها من حولهما من الأنصار و الأصدقاء. و قد اتسمت بالفعل في احد الطرفين فكان ما كان بين السيدة عائشة و علي فلا بد أن تتسع في الطرف الآخر فتعم من كانت تعمل أم المؤمنين على حسابه في بيت النبي.

نعم ان انقلاب أم المؤمنين انما هو من وحي ذكريات تلك الأيام التي نصح فيها علي لرسول الله (صلى الله عليه و آله) بأن يطلقها في قصة الامك المعروفة.

و هذا النصح ان دل على شيء فانه يدل على انزعاجه منها و من منافستها. القرينته و على ان الصراع بين زوج الرسول و بضعته كان قد اتسع في معناه و شمل عليا و غير علي ممن كان يهتم بنتائج تلك المنافسة و اطوارها.

نعرف من هذا ان الظروف كانت توحى إلى الخليفة الأول بشعور خاص نحو الزهراء و زوج الزهراء و لا ننسى انه هو الذي تقدم لخطبتها فرده رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) ثم تقدم علي إلى ذلك فاجابه النبي إلى ما أرادو ذاك الرد و هذا القبول يولدان في الخليفة اذا كان شخصاً يشعر بما يشعر به الناس و يحس كما يحسون مشعوراً بالخيبة و الغبطة العلي - اذا احتطنا في التعبير - و بأن فاطمة كانت هي السبب في تلك

ص: 42

المنافسة بينه و بين علي التي انتهت بفوز منافسه.

و لنلاحظ أيضاً ان ان أبا بكر هو الشخص الذي يعثه رسول الله (صلى الله عليه و آله) ليقرأ سورة التوبة على الكافرين ثم ارسل وراءه و قد بلغ منتصف الطريق ليستدعيه و يعفيه من مهمته لا لشيء إلا لأن الوحي شاء ان يضع أمامه مرة اخرى منافسه في الزهراء الذي فاز بها دونه.

و لا بد انه كان يراقب ابنته في مسابقتها مع الزهراء على الأولية لدى رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) و يتأثر بعواطفها كما هو شأن الآباء مع الأبناء. و ما يدرينا لعله اعتقد في وقت من الأوقات ان فاطمة هي التي دفعت بأبيها إلى الخروج لصلاة الجماعة في المسجد يوم مهدت له أم المؤمنين كانت تعمل على حسابه في بيت النبي أن يؤم الناس ما دام النبي مريضاً ان التاريخ لا يمكننا أن نترقب منه شرح كل شيء شرحاً واضحاً جلياً غير ان الأمر الذي تجمع عليه الدلائل ان من المعقول جداً ان يقف شخص مرت به ظروف كالظروف الخاصة التي أحاطت بالخليفة من علي و فاطمة . وقفه التاريخي المعروف و ان امرأة تعاصر ما عاصرته الزهراء في أيام أبيها من منافسات حتى في شباك يصل بينها و بين ابيها حري بها أن لا تسكت إذا أراد المنافسون أن يستولوا على حقها الشرعي الذي لا ريب فيه

هذه هي الثورة الفاطمية في لونها العاطفى و هو لون من عدة ألوان أوضحها و أجلاها اللون السياسي الغالب على أساليبها و أطوارها.

ص: 43

و أنا حين أقول ذلك لا أعني بالسياسة مفهومها الرائج في أذهان الناس هذا اليوم المركز على الالتواء و الافتراء، و انما أقصد بها مفهومها الحقيقي الذي لا إلتواء فيه فالممعن في دراسة خطوات النزاع و تطوراته و الاشكال يفهم منه ما يفهم من قضية مطالبة بأرض بل يتجلى له منها مفهوم أوسع من ذلك ينطوى على غرض طموح يبعث إلى الثورة و يهدف إلى استرداد عرش مسلوب و تاج ضائع و مجد عظيم و تعديل امة انقلبت على أعقابها.

و على هذا كانت فدك معنى رمزياً يرمز إلى المعنى العظيم و لا يعنى تلك الأرض الحجازية المسلوبة. و هذه الرمزية التي اكتسبتها فدك هي التي ارتفعت بالمنازعة من مخاصمة عادية منكشة في افقها محدودة في دائرتها إلى ثورة واسعة النطاق رحيبة الأفق.

ادرس ما شئت من المستندات التاريخية الثابتة المسألة، فهل تري نزاعاً مادياً؟. أو ترى اختلافاً حول فدك بمعناها المحدود و واقعها الضيق أو ترى تسابقاً على غلات أرض مهما صمد بها المبالغون و ارتفعوا? فليست شيئاً يحسب له المتنازعان حساباً.

كلا!. بل هي الثورة على اسس الحكم و الصرخة التي أرادت فاطمة أن تقتلع بها الحجر الأساسي الذي بني عليه التاريخ بعد يوم السقيفة.

و يكفينا لاثبات ذلك أن نلقي نظرة على الخطبة التي خطبتها الزهراء في المسجد أمام الخليفة و بين يدي الجمع المحتشد من المهاجرين و الأنصار فانها دارت أكثر ما دارت حول امتداح علي و الثاء على .واقفه الخالدة

ص: 44

في الاسلام وتسجيل حق أهل البيت الذين و صفتهم بأنهم الوسيلة إلى الله فى خلقه و خاصته و محل قدسه و حجته في غيبه و ورثة انبيائه في الخلافة و الحكم و إلغات المسلمين إلى حظهم العاثر و اختيارهم المرتجل و انقلابهم على أعقابهم: و ورودهم غير شربهم، و اسنادهم الأمر إلى غير أهله، و الفتنة

التي سقطوا فيها، و الدواعي التي دعتهم إلى ترك الكتاب و مخالفته فيما يحكم به في موضوع الخلافة و الامامة.

فالمسألة إذن ليست مسألة ميراث و نحلة إلا بالمقدار الذي يتصل بموضوع السياسة العليا: و ليست مطالبة بعقار أو دار، بل هي فى نظر الزهراء مسألة اسلام و كفر، و مسألة ايمان و نفاق، و مسألة نص و شنورى

و كذلك ترى هذا النفس السياسي الرفيع في حديثها مع نساء المهاجرين و الأنصار، إذ قالت فيما قالت: أين زحزحوها عن رواسی الرسالة، و قواعد النبوة، و مهبط الروح الأمين و الطبين بأمر الدنيا و الدين أنا ذلك هو. الخسران المبين و ما الذي نقموا من أبي حسن نقموا و الله نكير سينه، و شدة و طأته، و نكال وقعته، و تنمره في ذات الله، و الله لو تكابؤا عن زمام نبذه اليه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لاعتلقه و سار اليهم سيراً سجحاً لا تكلم حشاشه، و لا يتمتع راكبه، و لأوردهم منهلا نميراً فضفاضاً تطيح فضفاضه . و لأصدرهم بطانا قد تحير بهم الرأي غير متحل بطائل إلا بغمر الناهل وردعه سورة الساغب، و لفتحت عليهم بركات من السماء و الأرض، و سيأخذهم الله بما كانوا يكسبون. ألا هلم فاستمع و ما عشت أراك الدمر عجبه و ان تعجب فقد اعجبك الحادث إلى أي لجأ استندوا

ص: 45

و بأي عروة تمسكوا، لبئس المولى و البئس العشير: و لبأس للظالمين بدلاً استبدلوا و الله الذنابى بالقوادم و العجز با الكاهل فرغماً لمعاطس قوم يحسبون انهم يحسنون صنعاً، ألا انهم هم المفسدون و لكن لا يشعرون و يحهم أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى .. فما لكم كيف تحكمون.

و لم يؤثر عن نساء النبي (صلى الله عليه و آله) انهن خاصمن أبا بكر في شيء من ميراثهن أكن أزهد من الزهراء في متاع الدنيا، و أقرب إلى ذوق أبيها في الحياة؟ أو أنهن اشتغان بمصيبة رسول الله و لم تشتغل بها بضعته؟ أو ان الظروف السياسية هي التي فرقت بينهن فاقامت من الزهراء معارضة شديدة، و منازعة خطرة دون نسوة النبي اللاتي لم تزعجهن أوضاع الحكم.

و أكبر الظن ان الصديقة كانت تجد فى شيعة قرينها، و صفوة. أصحابه الذين لم يكونوا يشكو في صدقها من يعطف شهادته إلي على شهادة علي و تكتمل بذلك البيئة عند الخليفة أفلا يفيدنا هذا ان الهدف الأعلى لفاطمة الذي كان يعرفونه جيداً ليس هو اثبات النحلة أو الميراث، بل القضاء على نتائج السقيفة و هو لا يحصل باقامة البيئة في موضوع فدك، بل بان تقوم البينة لدى الناس جميعاً على انهم ظلوا سواء السبيل وهذا ما كانت تريد أن تقدمه الحوراء في خطتها المناضلة

و انستمع إلى كلام الخليفة بعد أن انتهت الزهراء من خطبتها و خرجت من المسجد فصعد المنبر و قال: أيها الناس ما هذه الرعة إلى كل قلة لئن

ص: 46

كانت هذه الأماني في عهد رسول الله (صلى الله عليه و آله) ألا فليقل: و من شهد فليتكلم انما هو لعملة شهيده ذنبه عرب لكل فتنة كام طحال أحب اهلها اليها البغي، ألا أني لو اشاء أن أقول لقلت و لو قلت البحت اني ساكت ما تركت، ثم التفت الى الأنصار و قال: قد بلغني يا معشر الانصار مقالة سنهائكم واحق من لزم عهد رسول الله (صلى الله عليه و آله) انتم فقد جاءكم و آويتم و نصرتم، الا اني لست باسطاً بدأ و لا لساناً على من لم يستحق ذلك.

و هذا الكلام يكشف لنا عن جانب من شخصية الخليفة، و يلقى ضوءاً على منازعة الزهراء له ، و الذي يهمنا الآن ما يوضحه من أمر هذه المنازعة و انطباعات الخليفة عنها، فانه فهم حق الفهم ان احتجاج الزهراء لم يكن حول الميراث أو النحاة، و أنما كان حرباً سياسية كما نسميها اليوم و تظلما لقرينها العظيم الذي شاء الخليفة و أصحابه أن يبعدوه عن المقام الطبيعي له في دنيا الاسلام، فلم يتكلم إلا عن علي فوصفه بانه ثعالة و انه مرب الكل فتنة و انه كام طحال و ان فاطمة ذنبه التابع له، و لم يذكر عن الميراث قليلاً أو كثيراً.

و لنلاحظ ما جاءت به الرواية في صحاح السنة من أن علياً و العباس كانا يتنازعان في فدك في ايام عمر بن الخطاب فكان علي يقول ان رسول الله (صلى الله عليه و آله) جعلها في حياته الفاطمة، و كان العباس يأبى ذلك و يقول هي ملك رسول الله و انا وارثه و يتخاصمان إلى عمر فيأبى أن يحكم بينهما و يقول أنتما أعرف بشأنكما أما انا فقد سلمتها اليكما

ص: 47

فقد نفهم من هذا الحديث اذا كان ضحيحاً ان حكم الخليفة كان سياسياً موقتاً و ان موقفه كان ضرورة من ضرورات الحكم في تلك الساعة الحرجة و إلا فلما ذا أهمل عمر بن الخطاب رواية الخليفة و طرحها جانباً و سلم جانبأ و سلم فدكاً إلى العباس و علي و موقفه منهم يدل على انه سلام فدكا اليهما على اساس

انها ميراث رسول الله لا على وجه التوكيل، إذ لو كان على هذا الوجه لما صح لعلي و العباس ان يتنازعا في ان فد كا هل هي نحلة من رسول الله لفاطمة او تركة من تركاته التي يستحقها ورثته و ما اثر هذا النزاع لوفرض انها في رأي الخليفة مال المسلمين و قد و كلهما في القيام عليه و لفض عمر النزاع و عرفهما انه لا يرى فدكا مالاً موروثاً و لا من املاك فاطمة و انما اوكل أمرها اليها لينو باعنه برعايتها و تعاهدها كما ان عدم حكمه بندك العلي وحده معناه انه لم يكن و اثقاً بنحلة رسول الله (صلى الله عليه و آله) فدكا الماطمة فليس من وجه لتسليمها إلى علي و العباس إلا الارث.

و إذن ففي المسألة تقدير ان (احدهما) ان عمر كان يتهم الخليفة بوضع الحديث فى نفي الارث (و الآخر) انه تأوله و فهم منه معنى لا ينفي التوريث و اسكن لم يذكر تأويله و لم يناقش به ابا بكر حينما حدث به وسواء اصح هذا اوذاك، فالجانب السياسي في المسألة ظاهر و إلا فلماذا يتهم عمر الخليفة بوضع الحديث إذا لم يكن فى ذلك ما يتصل بسياسة الحكم يومئذ. و لما ذا يخفى تأويله و تفسيره، و هو الذي لم يتحرج عن ابداء مخالفته للنبي او الخليفة الأول فيما اعترضها من مسائل.

و اذا عرفنا ان الزهراء نازعت فى أمر الميراث بعد استيلاء الحزب

ص: 48

الحاكم عليه، لأن الناس لم يعتادوا أن يستأذنوا الخليفة في قبض مواريثهم أو فى تسليم المواريث إلى أهلها، فلم تكن فاطمة في حاجة إلى مراجعة الخليفة ولم تكن لتأخذ رأيه و هو الظالم المنتزي على الحكم في رأيها فالمطالبة بالميراث لا بد انها كانت صدى لما قام به الخليفة من تأميمه للتركة على ما نقول اليوم و الاستيلاء عليها.

(أقول): اذا عرفنا هذا و ان الزهراء لم تطالب بحقوقها قبل أن تنتزع منها: - تجلى لدينا ان ظرف المطالبة كان مشجعاً كل التشجيع للمعارضين على ان يغتنموا مسألة الميراث مادة خصبة لمقاومة الحزب الحاكم على اسلوب سلمي كانت تفرضه المصالح العليا يومئذ و اتهامه بالغصب و التلاعب بقواعد الشريعة و الاستخفاف بكرامة القانون.

* * *

و اذا أردنا أن نفهم المنازعة في اشكالها و أسبابها على ضوء الظروف المحيطة بها و تأثيرها كان لزاماً علينا أن نعرض تلك الظروف عرضاً مستعجلاً و نسجل صورة واضحة الألوان للعهد الانقلابي بالمقدار الذي يتصل بغرضنا.

و لا أعني بالانقلاب حين أصف عهد الخليفة الأول بذلك إلا مفهومه الحقيقي المنطبق على تلون السلطة الحاكمة بشكل جمهوري يتقوم بالشورى و يكتسب صلاحياته من الجماعات المنتخبة و نزعها لشكلها الأول الذي يستمد قوته و ساطته من السماء.

فقد كانت تلك اللحظة التي ضرب بها بشير بن سعد على يد الخليفة

ص: 49

نقطة التحول في تأريخ الاسلام التي وضعت حد الأفضل العهود و أعلنت عهداً آخر نترك تقريضه للتاريخ.

و قد كان ذلك في اليوم الذي حانت فيه الساعة الأخيرة في تاريخ النبوات التي قطعت أقدس أداة وصل بين السماء و الأرض و ابركها و أفيضها خيراً و نعمة و أجودها صقلاً للانسانية إذ لفظ سيد البشر نفسه الأخير و طارت روحه إلى الرفيق الأعلى فكان قاب قوسين أو أدنى فهرع الناس إلى بيت النبوة الذي كان يشرق باضوائه لتوديع العهد المحمدي السعيد و تشييع النبوة التي كانت مفتاح مجد الأمة و سر عظمتها و اجتمعوا حوله تتقاذفهم شتى الخواطر و ترتسم في افكارهم ذكريات من روعة النبوة و جلال النبي العظيم و قد خيل اليهم ان هذه السنوات العشر التي نعموا فيها برعاية خير الأنبياء و أبر الآباء كانت حلما لذيذاً تمتعوا به لحظة من زمان و أزدهرت به الانسانية برهة من حياتها وهاهم قد افاقوا على أسوأ ما يستيقظ عليه نائم.

و بينما كان المسلمون في هذه الغمرة الطاغية، و الصمت الرهيب لا ينطق منهم أحد بكلمة، و قد حد بكلمة، و قد اكتفوا في تأبين الراحل العظيم بالدموع و الحسرات و الخشوع و الذكريات يفاجئون بصوت يجلجل في الفضاء و يقطع خيط الصمت الذي لف المجتمعين و هو يعلن ان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لم يمت و لا يموت حتى يظهر دينه على الدين كله و لير جعن فليقطعن أيدي رجال و ارجلهم ممن ارجف بموته: لا اسمع رجلا يقول مات رسول الله إلا ضربته بسيفي.

ص: 50

و التفتت الأنظار إلى مصدر الصوت ليعرفوا القائل فوجدوا عمر ابن الخطاب قد وقف خطيباً بين الناس و هو يجلجل برأيه في شدة لا تقبل نزاعاً و شاعت الحياة فى الناس من جديد فتكلموا و تحدثوا في كلام عمر

و التف بعضهم حوله.

و أكبر الظن ان قوله وقع من اكثر هم موقع الاستغراب و التكذيب و حاول جماعة منهم ان يجادلوه في رأيه و لكنه بقي شديداً في قوله ثابتا عليه و الناس يتكاثرون حوله و يتكلمون في شأنه و يعجبون لحاله حتى جاء أبو بكر و كان حين توفي النبي في منزله بالسنح و التفت إلى الناس و قال من كان يعبد محمداً فانه قد مات و من كان يعبد الله فانه حي لا يموت قال الله تعالى (انك ميت و انهم ميتون) و قال (أفا إن مات أو قتل انقلبتم على اعقابكم) و لما سمع عمر ذلك اذعن و اعترف بموت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) و قال كأني ما سمعتها - يعني الآية.

و نحن لا نرى فى هذه القصة ما يراه كثير من الباحثين من أن الخليفة كان بطل ذلك الظرف العصيب و الرجل الذي تهيأت له معدات الخلافة بحكم موقفه من رأي عمر لأن المسألة ليست من الأهمية بهذا الحد و لم يحدثنا التاريخ عن شخص واحد انتصر العمر فى رأيه فإم يكن إلا رأياً شخصياً لا خطر له و لا شأن للقضاء عليه.

و قد يكون من حق البحث أن ألاحظ ان شرح الخليفة لحقيقة الحال فى خطابه الذي وجهه إلى الناس كان شرحاً باهتا في غير حد لا يبدو عليه من مشاعر المسلمين المتحرفة في ذلك اليوم شيء: بل لم يزد في بيان

ص: 51

الفاجعة الكبرى على ان قل ان من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات و قد كان الموقف يتطلب من ابي بكر اذا كان يريد أن يقدم في نفسه زعيما لتلك الساعة تأبينا للفقيد الأعظم يتفق مع العواطف المتدفقة بالذكريات و الحسرات يومئذ.

و من الذي كان يعبد سيد الموحدين حتى يقول من كان يعبد محمداً فانه قد مات و هل كان في كلام عمر معنى يدل على انه كان يعبد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) او كانت قد سرت. موجة من الارتداد و الالحاد في ذلك المجتمع المؤمن الذي كان يعتصر دموعه من ذكرياته و صبره و تماسكه من عقيدته حتى يعلن لهم ان الدين ليس محدوداً بحياة رسول الله لأنه ليس بالإله المعبود.

إذن فلم يكن لكلام أبي بكر الذي خاطب به الناس صلة بموقفهم و لا علاقة برأي عمر و لا انسجام مع عواطف المسلمين في ذلك اليوم و شؤونهم و قد سبقه به غيره ممن حاول مناقشة الفاروق كما سيأتي.

و كان يعاصر هذا الاجتماع الذي تكلمنا عنه اجتماع آخر للانصار عقدوه في سقيفة بني ساعدة برئاسة سعد بن عبادة زعيم الخزرج و دعاهم فيه إلى اعطائه الرئاسة و الخلافة فأجابوه ثم ترادوا الكلام فقالوا فان أبي المهاجرون و قالوا نحن أولياؤه و عترته فقال قوم من الانصار نقول منا أمير و منكم أمير فقال سعد فهذا اول الوهن و سمع عمر الخبر فأتى منزل رسول الله (صلى الله عليه و آله) و فيه ابو بكر فارسل اليه ان اخرج إلي فارسل اني مشغول فارسل اليه عمران اخرج فقد حدث أمر لا بد أن تحضره

ص: 52

فخرج فاعلمه الخبر فمضيا مسرعين نحوهم و معهما أبو عبيدة فتكلم أبو بكر فذكر قرب المهاجرين من رسول الله (صلى الله عليه و آله) و انهم أولياؤه و عترته، ثم قال نحن الأمراء و أنتم الوزراء لا نفتات عليكم بمشورة و لا نقضي دونكم الأمور، فقام الحباب بن المنذر بن الجموح فقال: يا معشر الأنصار املكوا عليكم أمركم فان الناس في ظلكم و لن يجترى. مجترى، على خلافكم و لا يصدر أحد إلا عن رأيكم أنتم أهل العزة و المنعة و أولوا العدد و الكثرة و ذووا البأس و النجدة و انما ينظر الناس ما تصنعون فلا تختلفوا فتفسد عليكم أموركم فان أبى هؤلاء إلا ما سمعتم فمنا أمير و منهم أمير فقال عمر هيهات لا يجتمع سيفان في غمد و الله لا ترضى العرب أن تؤمركم و نبيها من غيركم و لا تمتنع العرب أن تولى أمرها من كانت النبوة منهم من ينازعنا سلطان محمد و نحن أولياؤه و عشيرته، فقال الحباب بن منذر يا معشر الأنصار املكوا أيديكم و لا تسمعوا مقالة هذا و أصحابه فيذهبوا بنصيبكم هذا الأمر فان أبوا عليكم فاجلوهم من هذه البلاد و انتم احق بهذا الأمر منهم فانه بأسيافكم دان الناس بهذا الذين أنا جذيلها المحكك و عذية! المرجب اذا أبو شبل في عريسة الأسد و الله ان شئتم لنعيدها جذعة فقال عمر إذن يقتلك الله، قال بل اياك يقتل فقال أبو عبيدة يا معشر الأنصار انكم أول من نصر فلا تكونوا أول من بدل و غير، فقام بشير بن سعد والد النعمان بن بشير فقال: يا معشر الأنصار ألا أن محمداً من قريش و قومه أولى به وأيم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر فقال أبو بكر هذا عمر و أبو عبيدة بايعوا أيهما شئتم فقالا و الله لا نتولى هذا الأمر عليك

ص: 53

و أنت أفضل المهاجرين و خليفة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فى الصلاة و هي أفضل الدين ابسط يدك فلما بسط يده ليبايعاه سبقهما بشير بن سعد فبايعه فناداه الحباب بن المنذر يا بشير غفتك غفاق انفست على ابن عمك الامارة، فقال اسيد بن حضير رئيس الأوس لأصحابه و الله لئن لم تبايعوا ليكونن للخزرج عليكم الفضيلة ابداً، فقاموا و بايعوا أبا بكر و اقبل الناس يبايعونه من كل جانب (1).

و نلاحظ في هذه القصة ان عمره الذي سمع بقصة السقيفة و اجتماع الأنصار فيها و اخبر أبا بكر بذلك ومادمنا نعلم ان الوحي لم ينزل عليه بذلك النبأ فلا بد انه ترك البيت النبوي بعد ان جاء أبو بكر واقنعه بوفاة النبي فلماذا ترك البيت و لماذا اختص ابا بكر بنبأ السقيفة إلى كثير من هذه النقاط التي لا نجد لها تفسيراً ..قولاً أولى من أن يكون في الامر اتفاق سابق بين أبي بكر و عمر وابي عبيدة على خطة معينة في موضوع الخلافة و هذا التقدير التاريخي قد نجد له شواهد عديدة تجيز لما افتراضه.

الاول: تخصيص عمر لأبي بكر بنبأ السقيفة كما سبق و اصراره على استدعائه بعد اعتذاره بانه مشغول حتى اذا اشار إلى الغرض ولمح اليه خرج مسرعاً و ذهبا على عجل إلى السقيفة، و قد كان من الممكن أن يطلب غيره من أعلام المهاجرين بعد اعتذاره عن المجيء ، فهذا الحرص لا يمكن أن نفسره بالصداقة التي كانت بينهما، لان المسألة تكن مسألة صداقة و لم يكن أمر منازعة الانصار يتوقف على ان يجد عمر صديقاً له بل على أن

ص: 54


1- الجزء الاول من شرح النهج ص 127 - 128.

يستعين بمن يوافقه في احقية المهاجر بن أياً كان.

و لا ننسى أن نلاحظ انه أرسل رسولاً إلى ابى بكر، و لم يذهب بنفسه ليخبره بالخبر خوفاً من انتشاره في البيت و تسامع الهاشميين أو غير الهاشميين به و قد طلب من الرسول في المرة الثانية أن يخبره بحدوث أمر لا بد أن يحضره و نحن لا نرى حضور ابى بكر خاصة لازماً في ذلك الموضوع إلا إذا كانت المسألة مسألة خاصة و كان الهدف تنفيذ خطة متفق عليها سابقاً.

الثاني: موقف عمر من مسألة وفاة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) و ادعاؤه انه لم يمت و لا يستقيم في تفسيره أن نقول ان عمر ارتبك في ساعة الفاجعة و فقد صوابه و ادعى ما ادعى، لأن حياة عمر كلاما تدل على انه ليس من هذا الطراز و خصوصاً موقفه الذي وقفه في السقيفة بعد تلك القصة مباشرة، فالذي تؤثر المصيبة عليه إلى حد تفقده صوابه لا يقف بعدها بساعة يحاجج و يجادل و يقاوم و يناضل. و نحن نعلم ايضاً أن عمر لم يكن يرى ذلك الرأي الذي أعلنه في تلك الساعة الحرجة قبل ذلك بايام او بساعات حينما اشتدبر سول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) المرض و اراد ان يكتب كتاباً لا يضل الناس بعده فعارضه عمر و قال ان كتاب الله يكفينا و ان النبي يهجر أو قد غلب عليه الوجع كما في صحاح السنة فكان يؤمن بأن رسول الله يموت و ان مرضه ذاك قد يؤدي إلى.وته و إلا لاعترض عليه.

و قد جاء في تاريخ ابن كثير ان عمر بن زائدة قرأ الآية التي فراها

ص: 55

ابو بكر على عمر قبل ان يتلوها ابو بكر فلم يقتنع عمر و انما قبل كلام ابي بكر خاصة واقتنع به .

فما يكون تفسير هذا كله إذا لم يكن تفسيره ان عمر شاء ان يشيع الاضطراب بمقالته بين الناس لينصرفوا اليها و تتجه الافكار نحوها تفنيداً او تأييداً ما دام ابو بكر غائباً لئلا يتم في امر الخلافة شيء ويحدث امر لا بد ان يحضره ابو بكر - على حد تعبيره - و بعد ان اقبل ابو بكر إطمان باله و امن من تمام البيعة للبيت الهاشمي ما دام للمعارضة صوت في الميدان و انصرف إلى تلقط الاخبار حادساً بما سيقع فظفر بخبر ما كان يتوقعه

الثالث: شكل الحكومة التي تمخضت عنها السقيفة ، فقد تولى ابو بكر الخلافة و ابو عبيدة الجمال و عمر القضاء (1) و فى مصطلحنا اليوم ان الاول تولى السياسة العليا والثانى تولى السياسة الاقتصادية والثالث تولى السلطات القضائية و هي الوظائف الرئيسية في مناهج الحكم الاسلامي و تقسيم المراكز الحيوية في الحكومة الاسلامية يومئذ بهذا الاسلوب على الثلاثة الذين قاموا بدورهم المعروف في سقيفة بني ساعدة لا يأتي بالصدفة على الاكثر و لا يكون مرتجلاً.

الرابع: قول عمر حين حضرته الوفاة لو كان ابو عبيدة حياً لولیته (2).

و ليست كفاءة أبي عبيدة للخلافة هي التي أوحت إلى عمر بهذا التمنى

ص: 56


1- راجع الجزء الثاني من تاريخ ابن الاثير صفحة 161.
2- شرح النهيج ج 1 ص 64.

لأنه كان يعتقد أهلية. علي للخلافة ومع ذلك لم يشأ أن يتحمل أمر الأمة حيا و ميتا (1).

و ليست أمانة أبي عبيدة التي شهدله النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) بها - بزعم الفاروق - هي السبب في ذلك، لأن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) لم يخصه بالاطراء، بل كان في رجالات المسلمين يومئذ من ظفر باكثر من ذلك من ألوان الثناء النبوي كما نقرر ذلك صحاح السنة و الشيعة الخامس: اتهام الزهراء للحاكمين بالحزبية السياسية، كما سنرى في الفصل الآتي.

السادس: قول أمير المؤمنين - صلوات الله عليه - الفاروق (رضي الله عنه): احاب يا عمر حلب لك شطره اشدد له اليوم أمره ليرد عليك غداً (2).

و من الواضح انه يلمح إلى تفاهم بين الشخصين على المعونة المتبادلة و انفاق سابق على خطة معينة و إلا فلم يكن يوم السقيفة نفسه ليتسع انتلك المحاسبات السياسية التي تجعل لعمر شطراً من الحلب.

السابع : ما جاء في كتاب لمعاوية بن ابي سفيان إلى محمد بن أبي بكر (رضوان الله عليه) في اتهام أبيه و عمر بالاتفاق على غصب الحق العلوي و التنظيم السري لخطوط الحملة على الامام إذ قال له فيما قال: فقد كنا و أبوك فينا نعرف فضل ابن ابى طالب و حقه لازماً لنا مبروراً علينا

ص: 57


1- الانساب للبلاذري ج ه ص 16.
2- ج 2 ص ه من شرح النهج.

فلما اختار الله لنبيه (عليه الصلاة و السلام) ما عنده و أتم وعده و أظهر دعوته فابليج حجته و قبضه اليه (صلوات الله عليه) كان أبوك و فاروق أول من ابتزه حقه و خالفه على أمره على ذلك اتفقا و انسقا ثم انهما دعواه إلى بيعتها قابطأ عنها و تلكأ عليهما فهما به الهموم و أرادا به العظيم (1).

و نحن نلاحظ بوضوح عطمه طلب ابي بكر و عمر (رض) للبيعة من الامام بثم على كلمتي اتفقا و انسقا. و هو قد يشعر بان الحركة كانت منظمة بتنظيم سابق و ان الاتفاق على الظفر بالخلافة كان سابقا على الايجابيات السياسية التي قاما بها في ذلك اليوم.

و لا أريد أن أنوسع في دراسة هذه الناحية التاريخية أكثر من هذا و لكن هل لي أن ألاحظ على ضوء ذلك التقدير التاريخي ان الخليفة لم يكن زاهداً في الحكم كما صوره كثير من الباحثين بل قد نجد في نفس المداورة التي قام بها الخليفة في السقيفة دليلا على تطلعه للأمر فانه بعد ان اعلن الشروط الاساسية للخليفة شاء ان يحصر المسألة فيه فتوصل إلى ذلك بأن ردد الأمر بين صاحبيه الذين لن يتقدما عليه و كانت النتيجة الطبيعية لهذا الترديد أن يتعين وحده الأمر.

فهذا الاسراع الملحوظ من الخليفة إلى تطبيق تلك الصورة التي قدمها للخليفة الشرعي في رأيه على صاحبيه خاصة الذي لم يكن يؤدى إلا اليه كان معناه انه اراد أن يسلب الخلافة من الأنصار ويقرها في شخصه في آن واحد و لذا لم يبد تردداً أو ما يشبه التردد لما عرض الأمر عليه

ص: 58


1- مروج الذهب ج 2 ص 315.

صاحباه و عمر نفسه يشهد لأبي بكر بأنه كان مداوراً سياسياً بارعا فى يوم السقيفة في حديث طويل له يصفه فيه بأنه أحسد قريش (1).

و نجد فيما يروى عن الخليفتين فى أيام رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ما يدل على هوى سياسي فى نفسيتهما و انهما كانا يمكران في شيء على أقل تقدير فقد ورد في طرق العامة ان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قال: ان منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتات على تنزيله فقال ابو بكر انا هو يا رسول الله قال: لا، قال عمر : أنا هو يارسول الله، قال: لا و لكن خاصف النعل يعني عليا.

و المقاتلة على التأويل أنها تكون بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) و المقاتل لا بد أن يكون أمير الناس فتلهف كل من أبي بكر و عمر على أن يكون المقاتل على التأويل مع أن القتال على التمزيل كان متيسراً لهما في ايام رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) و لم يشار كافيه بنصيب قد يدل على ذلك الجانب الذي نحاول ان نستكشفه في شخصيتهما.

بل اريد ان أذهب أكثر من هذا فألاحظ ان اناساً متعددين كانوا يعملون في صالح ابي بكر و عمر (2) و في مقدمتهما عائشة و حفصة

ص: 59


1- راجع شرح النهج ج 1 ص 125.
2- و قد سئل النبي صلى الله عليه و آله عند ماهد: طائفة من قريش برجل قرشي امتحن الله قلبه للايمان يضرب رقابهم على الدين ان ذلك الرجل هل هو ابو بكر و قال لا فقيل فعمر قال لا الخ، راجع مسند أحمد ج 3 ص 33 و الرواية تهمل اسم السائل الذي توهم ان الشخص الذي و صفه النبي صلى الله عليه و آله هو أبو بكر أو عمر واذا لم يكن أبو بكر و عمر معروفين بشجاعة و بسالة في المشاهد الحربية على عهد رسول الله صلى الله عليه و آله فلا بد ان أمراً آخر دعى السائل الى ان يسئل ذينات السؤالين و البقية أتركها لك.

اللنار المرعنا باستدعا. والديهما عند ما طلب رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) حبيبه في لحظاته الأخيرة التي كانت تجمع دلائل الظروف على انها الطرف الطبيعي الموصية ولا بد انهما هما اللتان عنتهما الرواية التي تقول ان بعض نساء النبي ارسلن رسولاً الى اسامة لتأخيره عن السفر (1) فاذا علمنا هذا و علمنا أن هذا لم يكن باذن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) و الا با امره بالاسراع بالرحيل لما قدم عليه بعد ذلك و ان سفره مع من معه كان عن تحقق النتائج التي انتجها يوم السقيفة خرجت لدينا قضية مرتبة الحلقات على اسلوب طبيعي يعزز ما ذهبنا اليه من رأي.

و مذهب الشيعة فى تفسير ماقام به رسول الله (صلى الله عليه وآله من تجنيد جيش اسامة معروف وهو انه احس بأن اتفاقا ما بين جملة من انتخابه على أمر معين، و قد يجعل هذا الاتفاق منهم جبهة معارضة اعلي و نحن ان شككنا في هذا فلا نشك فى ان النبي ( صلى الله عليه و آله ) قد جعل أبا بكر وعلمياً في كفتي الميزان مراراً أمام المسلمين جميعاً ليروا بأعينهم انهما لا يستويان فى الميزان العادل و الا فهل ترى اعفاء بكر من قراءة التوبة على الكافرين بعد ان كاف بذلك أمراً طبيعياً

ص: 60


1- راجع الجزء الاول من شرح النهج ص 53.

و لماذا انتظر الوحى وصول الصديق إلى منتصف الطريق لينزل على رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) و يأمره باسترجاعه و ارسال علي القيام بالمهمة أفكان عبثاً او غفلة او امراً ثالثاً و هو ان رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) احس بأن المنافس المتحفز لمعارضة ابن عمه و وصيه هو أبو بكر فشاء و شاء له ربه تعالى ان يرسل أبا بكر ثم يرجعه بعد ان يتسامع الناس جميعاً بارساله ليرسل عليا الذي هو كنفسه ليوضح للمسلمين مدى الفرق بين الشخصين و قيمة هذا المنافس الذي لم يأتنه الله على تبليغ سورة إلى جماعة فكيف بالخلافة و السلطنة المطلقة.

اذن فنخرج من هذا العرض الذي فرض علينا الموضوع أن مختصره بنتيجتين:

الأولى: - ان الخليفة كان يفكر فى الخلافة و بيهواها و قد اقبل عليها بشغف و لهفة.

الثانية: - ان الصديق و الفاروق و أبا عبيدة كانوا يشكلون حزباً سياسياً مهماً لا نستطيع أن نضع له صورة واضحة الخطوط. و لكنا نستطيع أن نؤكد وجوده بدلائل متعددة، و لا أرى في ذلك ما ينقص من شأنهم أو يحط من مقامهم، و لا بأس عليهم أن يفكروا في أمور الخلافة و يتفقوا فيها على سياسة موحدة اذا لم يكن لرسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) نص في الموضوع و لا يبرؤهم اذا كان النص ثابتاً بعدهم عن الهوى السياسي و ارتجال فكرة الخلافة في ساعة السقيفة من المسؤولية أمام الله و في حكم الضمير

ص: 61

است الآن بصدد تحليل الموقف الذي اشتبك فيه الأنصار مع أبي بكر و عمر و أبي عبيدة و شرح ما يدل عليه من نفسية المجتمع الاسلامي و مزاجه السياسي و تطبيق قصة السقيفة على الأصول العميقة في الطبيعة العربية، فان ذلك كله خارج عن الحدود القريبة للموضوع و انما أريد أن ألاحظ أن الحزب الثلاثي الذي قدر له أن بلي الأمور يومئذ كان له معارضون على ثلاثة أقسام:

الأول: - الأنصار الذين نازعوا الخليفة و صاحبيه في سقيفة بني ساعدة و وقعت بينهم المحاورة السابقة التي انتهت بفوز قريش بسبب تركز فكرة الوراثة الدينية في الذهنية العربية و انشقاق الأنصار على انفسهم

لتمكن النزعة القلبية من نفوسهم.

الثاني: - الأمويون الذين كانوا يريدون أن يأخذوا من الحكم بنصيب و يسترجعوا شيئا من مجدهم السياسي في الجاهلية و على رأسهم أبوسفيان الثالث: - الهاشميون و اخصاؤهم كعمار و سلمان و أبي ذر و المقداد

رضوان الله عليهم و جماعات من الناس الذين كانوا يرون البيت الهاشمي الوارث الطبيعي لرسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) بحكم الفطرة و مناهج السياسة التي كانوا يألفونها.

و اشتبك أبو بكر وصاحباه في النزاع مع القسم الأول في سقيفة بني ساعدة وركزوا في ذلك الموقف دفاعهم عما زعموا من حقوق على نقطة كانت ذات و جاهة في نظر كثير من الناس فان قريشاً مادامت عشيرة رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) و خاصته فهي أولى به من سائر

ص: 62

المسلمين و أحق بخلافته و سلطانه.

و قد انتفع ابو بكر و حزبه باجتماع الأنصار في السقيفة من ناحيتين: (الاولى) ان الانصار سجلوا على أنفسهم بذلك مذهباً لا یسمح لهم بأن يقفوا بعد ذلك إلى صف علي و يخدموا قضيته بالمعنى الصحيح كما سنوضحه قريباً.

(الثانية) ان ابا بكر الذي خدمته الظروف فأقامت منه الوحيد عن حقوق المهاجرين في مجتمع الانصار لم يكن ليتهيأ له ظرف أوفق بمصالحه من ظرف السقيفة إذ خلا الموقف من اقطاب المهاجرين الذين لم يكن لتنتهي المسألة في محضر هم إلى نتيجتها التي سجلتها السقيفة في ذلك اليوم و خرج أبو بكر من السقيفة خليفة و قد باينه جمع من المسلمين الذين أخذوا بوجهة نظره في مسألة الخلافة او عزّ عليهم أن يتولاها سعد بن عبادة و لم يعبأ الحاكمون بمعارضة الامويين و تهديد أبي سفيان و ما أعلنه من كلمات الثورة بعد رجوعه من سفره الذي بعثه فيه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) اية الاموال لعلمهم بطبيعة النفس الاموية و شهوانها السياسية و المادية فكان

ل- من السهل كسب الا. و بين إلى جانب الحكم القائم كما صنع أبو بكر فأباح لنفسه أو أباح له عمر بتعبير اصح كما تدل الرواية (1) أن يدفع لابي سفيان جميع ما في يده من أموال المسلمين وز كواتهم (2) ثم جعل للأمر بين بعد

ص: 63


1- راجع شرح النهج الجزء الاول ص 130.
2- قد نستطيع ان نجيب على ضوء هذه القصة عما عرض لنا من سؤال في بداية هذا الفصل عن موقف الخليفتين لو قدر لهما أن يقفا موقف علي الذي كان يفرض عليه أن يغري كثيراً من أمثال أبي سفيان بالمال و الجاه

ذلك حظاً من العمل الحكومي في عدة من المرافق الهامة. و هكذا نجح الحزب الحاكم في نقطتين و لكن هذا النجاح جره إلى تناقض سياسي واضح لأن ظروف السقيفة كانت تدعو الحاكمين إلى أن يجعلوا للقرابة من رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) حساباً فى مسألة الخلافة و يقر و الذهب الوراثة للزعامة الدينية غير ان الحال تبدلت بعد موقف السقيمة و المعارضة اتخذت لها لوناً جديداً و واضحاً كل الوضوح يتلخص في أن قريشاً اذا كانت أولى برسول الله صلى الله عليه و آله و سلم من سائر العرب لأنه منها فبنو هاشم أحق بالامر من بقية قريش.

و هذا ما أعلنه علي حين قال: اذا احتج عليهم المهاجرون بالقرب من رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) كانت الحجة انا على المهاجرين بذلك قائمة فان فاجت كانت لنا دونهم و إلا فالانصار على دعوتهم، و اوضحه العباس

حجتهم لابي بكر في حديث له معه إذ قال له: و أما قولك نحن شجرة رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) فانكم جيرانها و نحن أغصانها.

و قد كان علي الذي تزعم معارضة الهاشميين مصدر رعب شديد في نفوس الحاكمين لأن ظروفه الخاصة كانت تمده بقوة على لونين من العمل الانجابي ضد الحكومة القائمة: -

(احدهما) ضم الاحزاب الماديه إلى جانبه كالامويين و المغيرة بن شعبة و أمثالهم ممن كانوا من بدأوا يعرضون اصواتهم للبيع و يفاوضون

ص: 64

الجهات المختلفة في اشترائها بأضخم الأثمان كما نعرف ذلك من كلمات أبي سفيان التي واجه بها خلافة السقيفة يوم وصوله إلى المدينة و حديثه علي و تحريضه له على الثورة و ميله إلى جانب الخليفة و سكوته عن المعارضة حينما تنازل له الخليفة عن أموال المسلمين التي كان قد حباها في سفره و موقف عتاب بن أسيد الذي سنشير إلى سره في هذا الفصل.

و اذن فقد كان الهوى المادي مستوليا على جماعة من الناس يومئذ و من الواضح ان عليا كان یتمکن من اشباع رغبتهم بما خلفه رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) من الخمس و غلات اراضيه فى المدينة

و فدك التي كانت ذات نتاج عظيم كما عرفنا في الفصل السابق:

و الطور الآخر من المقاومة التي كان علي مزوداً بامكانياتها ما لمخ اليه بقوله: احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة، و أعني بذلك ان المكرية العامة يومئذ التي أجمعت على تقديس أهل البيت و الاعتراف لهم بالامتياز العظيم بقربهم من رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) كانت سه نداً قويا للمعارضة.

و قد رأى الحزب الحاكم ان موقفه المادي حرج جداً لأن اطراف المملكة التي نجى منها الأموال لا تخضع للحكم الجديد إلا اذا استقرت دعائمه في العاصمة والمدينة بعد لم تخضع له خضوعاً اجماعياً.

و لئن كان أبو سفيان أو غير ابي سفيان قد باع صوته للحكومة فمن الممكن أن يفسخ المعاملة إذ اعرض عليه شخص آخر اتفاقا اكثر منها ربحاً و هذا ما كان يستطي علي أن يقوم به فى كل حين فيجب و الحلة هذه أن

ص: 65

تتنزع من علي الذي لم يكن مستعداً للمقابلة في تلك الساعة الأموال التي صارت مصدراً من مصادر الخطر على مصالح الحزب الحاكم ليضمن بقاء الأنصار على نصرتهم وعدم قدرة المعارضين على إنشاء حزب من أصحاب المطامع و الأهواء يومذاك.

و لا يجوز أن نستبعد هذا التقدير إسياسة الفئة المسيطرة مادام منطبقاً على طبيعة السياسة التي لابد من انتهاجها. و ما دمنا نعلم ان الصديق اشترى صوت الحزب الأموي بالمان فتنازل لأبي سفيان عن جميع ما كان عنده من أموال المسلمين وبالجاه ايضاً إذ ولى ابن أبي سفيان فقد جاء في تاريخه ان ابا بكر لما استخلف قال ابوسفيان ما لنا و لأبي فصيل انما هي بنو عبد مناف فقيل له انه قد ولي إبنك قال: وصلته رحم (1).

فلا غرابة في أن ينتزع من اهل البيت اموالهم المهمة ليركز بذلك حكومته أو أن يخشى من علي (علیه السلام) أن يصرف حاصلات فدك و غير فدك على الدعوة إلى نفسه.

و كيف نستغرب ذلك من رجل كالصديق و هو الذي قد اتخذ المال وسيلة من وسائل الاغراء واكتساب الأصوات حتى اتهمته بذلك معاصرة له من مؤمنات ذلك الزمان فقد ورد ان الناس لما اجتمعوا على أبي بكر قسم قسماً بين نساء المهاجر بن والأنصار فبعث إلى امرأة من بني عدي بن النجار قسمها مع زيد بن ثابت فقالت: ما هذا؟ قال: قسم قسمه ابو بكر للنساء قالت: اتراشوني عن ديني و الله لا اقبل منه شيئا

ص: 66


1- راجع تاريخ الطبري ج 3 ص 202.

فردته عليه (1).

و أنا لا ادري من اين جاء إلى الخليفة: رضي الله تعالى عنه) هذا المال ما دامت الزكوات التي جمعها الساعي قد صارت من نصيب بطنه و حدها ان لم يكن من بقية الاموال التي خلفها النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) و كان اهل البيت يطالبون بها.

و سواء اصح هذا التقدير أولا فان المعنى الذي تحاول فهمه من هذه الرواية هوان بعض معاصري الصديق احس بمانحس به على ضوء معلوماتنا التاريخية عن تلك الايام.

و لا ننس ان نلاحظ ان الظروف الاقتصادية العامة كانت تدعو إلى الارتفاع بمالية الدولة و الاهتمام باكثارها استعداداً للطوارى، المترفية فلعل هذا حدى بالحاكمين إلى انتزاع فدك كما يتبين ذلك بوضوح من حديث لعمر مع ابي بكر يمنعه فيه عن تسليم فدك إلى الزهراء و يعال ذلك بان الدولة في حاجة إلى المال لانفاقه في توطيد الحكم و تأديب العصاة و القضاء على الحركات الانفصالية التي قد يقوم بها المرتدون.

و يظهر من هذا رأي للخليفتين فى الملكية الفردية و هو ان للخليفة الحق في مصادرة اموال الناس لا نفاقها في امور المملكة و شؤون الدولة العامة بلاتعويض و لا استئذان فليس للفرد ملكية مستقرة لامواله و عقاره في حال احتياج السلطات إلى شيء منها و قد ذهب إلى هذا الراي من الخلفاء الذين انتهى اليهم الامر بعد ابي بكر و عمر فامتلا تاريخهم

ص: 67


1- شرح النهج ج1 ص 133.

بالمصادرات التي كانوا يقومون بها غير ان ابا بكر لم يطبق هذا الرأي إلا فى املاك بنت النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) خاصة

و قد تردد الحزب الحاكم في معالجة الأسلوب الثاني من المعارضة ين اثنتين:-

إحديها »: ان لا يقر للقرابة بشأن في الموضوع و معنى هذا انه ينزع عن خلافة أبي بكر ثوبها الشرعي الذي البسها اياه.

و الاخرى »: ان يناقض نفسه فيضل ثابتاً على مبادئه التي اعلنها في السقيفة و لا يرى حقا للهاشميين و لا امتيازاً لهم في مقاييس الرجال او براه لهم و اسكن فى غير ذلك الظرف الذي يكون معنى المعارضة فيه

مقابلة حكم قائم و وضع تعاقد عليه الناس.

واختارت الفئة المسيطرة ان تثبت على آرائها التي روجتها في مؤتمر الانصار و تعترض على المعارضين بأن مخالفتهم بعد بيعة الناس للخليفة ليست إلا احداثاً لفتنة المحرمة في عرف الاسلام.

و هذا هو الاسلوب الوقتى الذي اتخذه الحاكمون للقضاء على هذا الجانب من المعارضة الهاشمية و قد ساعدتهم الظروف الاسلامية الخاصة يومئذ على نجاحه كما سنوصحه.

غير اننا نحس و نحن ندرس سياسة الحاكمين بأنهم انتهجوا منذ اللحظة الاولى سياسة معينة تجاه آل محمد (صلى الله عليه و آله و سلم) للقضاء على الفكرة التي امدت الهاشميين بقوة على المعارضة كما خنق وا المعارضة نفسها و نستطيع ان نصف هذه السياسة بأنها تهدف إلى الغاء امتياز

ص: 68

البيت الهاشمي و ابعاد انصاره و المحاصين له عن المرافق الهامة في جهاز الحكومة الاسلامية يومئذ و تجريده عما له من الشأن و المقام الرفيع في الذهنية الاسلامية.

و قد يعزز هذا الرأي عدة ظواهر تاريخية:

«الأولى»: سيرة الخلفاء و أصحابه مع علي التي بلغت من الشدة ان عمر هدد يحرق بيته و إن كانت فاطمة فيه، و معنى هذا اعلان ان فاطمة و غير فاطمة من آلها ليس لهم حرمة تمنعهم عن أن يتخذ معهم نفس الطريقة التي سار عليها مع سعد بن عبادة حين أمر الناس بقتله و من صور ذلك العنف و صف الخليفة لعلي بانه مرب لكل فتنة و تشبيه له بام طحال أحب أهلها اليها البغي و قد قل عمر لعلي بكل وضوح ان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) منا و منكم.

«الثاني» ان الخليفة الأول لم يشارك شخصا من الهاشميين في شأن من شؤون الحكم المهمة و لا جعل فيهم واليا على شبر من المملكة الاسلامية الواسعة مع ان نصيب الامويين فى ذلك كان عظيما.

و أنت تفهم بوضوح ان هذا وليد سياسة متعمدة من محاورة وقعت بين عمر و ابن عباس أظهر فيها تخوفه من تولية الثاني حمص لأنه يخشى اذا صار الهاشميون ولاة على أقطار المملكة الاسلامية ان يموت و هم كذلك فيحدث في أمر الخلافة ما لا يريد (1).

ص: 69


1- راجع مروج الذهب على هامش الجزء الخامس من تاريخ ابن الاثير ص 135.

و نحن اذا عرفنا من رأي عمر ان ظفر يدت من البيوت الطامحة إلى السلطان بالولاية فى الافطار الاسلامية بهيأهم لنيل الخلافة والمركز الاعلى ولاحظنا ان الامويين ذوى الالوان السياسية الواضحة كان فيهم ولاة احتلوا الصدارة في المجالات الادارية أيام ابي بكر وعمر وأضفنا إلى ذلك أنه كان يعلم على أقل تقدير بأن الشورى انتي ابتكرها سوف تجعل من شيخ الامويين عثمان خليفة خرجنا بنتيجة مهمة وتقدير تاريخي تدل على صحته عدة من الظواهر وهو ان الخليفتين كانا يهيئان للسلطان الاموى اسبانه ومعداته وهما يعلمان حق العلم ان انشاء كيان سياسي من جديد للامويين خصوم بني هاشم القدامى معناه تقديم المنافس للهاشميين في زعيم و تطور المعارضة الفردية للبيت الهاشمي إلى معارضة بيت مستعد للنزاع و المنافسة أكمل استعداد.

و من شأن هذه المعارضة انها تطول و تتسع لأنها ليست متمثلة في شخص بل فى يدت كبير، و تستطيع ان نفهم من هذا ان سياسة الصديق و عمر هي التي وضعت الحجر الاساسي لملك بني امية حتى يضمنا بذلك المنافس لعلي وآل علي على طول الخط (1).

«الثالث» عزل الخليفة خالد بن سعيد بن العاص عن قيادة الجيش

ص: 70


1- و هذا هو السر السياسي الذي غفل عنه الباحثون في قصة الشورى و قد جاء عن عمر انه هدد الستة الذين أوكل اليهم الامر بمعاوية و تنبه ألهم بأنه سيملك الامر كما فى شرح النهج ج 1 ص 62 و هذا إن دل على على فراسته فهو على لون سياسته أدل.

الذي وجه لفتح الشام بعد أن أسندها اليه لا لشيء إلا لأن عمر نبهه إلى نزعته الهاشمية و ميله إلى آل محمد (صلى الله عليه و آله و سلم) و ذكره بموقفه تجاههم بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) (1).

و لو كنا نريد التوسع في دراسة هذه الناحية لعطعنا على هذه الشواهد قصة الشورى العمرية التي نزل فيها عمر (رضي الله تعالى عنه) بعلي (علیه السلام) إلى صف اشخاص خمسة لا يكافئون عليا فى شيء من معانيه المحمدية، و قد كان الزبير و هو أحد الخمسة برى يوم توفى رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم ان الخلافة حق شرعي اعلي فلاحظ كيف انتزع عمر هذا الرأي من عقله واعده للمنافسة بعد حين إذ جعله أحد الستة الذين فيهم علي)

و إذن فقد كانت الفئة الحاكمة تحاول ان تساوي بين بني هاشم و سائر الناس و ترتفع برسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) عن الاختصاص بهم لتنتزع بذاك الفكرة التي كانت تزود الهاشميين بطاقة على المعارضة و ائن اطمأن الحاكمون إلى ان عليا لا يثور عليهم في تلك الساعة الحرجة على الاسلام فهم لا يأمنون من انتقاضه بعد ذلك في كل حين و من الطبيعي حينئذ ان يسارعوا إلى الاجهاز على كلنا فوتيه المادية و المعنوية ما دامت الهدنة قائمة قبل ان يسبقهم إلى حرب اكول.

و من المعقول بعد هذا أن يقف الخليفة موقفه التاريخي المعروف من الزهراء في قضية فدك فهو موقف تلاقى فيه الغرضان و تركز على الخطين الاساسيين اسياسته لان الدواعي التي بعثته إلى انتزاع فدك كانت تدعموه

ص: 71


1- راجع شرح النهج ج 1 ص 135.

إلى الاستمرار على تلك الخطة ليسلب بذلك من خصمه الثروة التي كانت سلاحاً قوياً في عرف الحاكمين يومذاك و يعزز بها سلطانه و إلا فما الذي كان يمنعه عن تسليم فدك للزهراء بعد ان اعطته الوعد القاطع بأن تصرف منتوجاتها في سبيل الخير و وجوه المصلحة العامة (1) إلا أنه خاف منها أن تفسر وعدها بما يتفق مع صرفها الغلات فدك فى المجالات السياسية و ما الذي صده عن ارضاء فاطمة بالتنازل لها عن حصته و نصيب الصحابة إذا صح ان قد كا مالك للمسلمين سوى انه اراد ان يقوي بها خلافته.

و أيضاً فاننا إذا عرفنا ان الزهراء كانت سنداً قوياً لقرينها في دعوته إلى نفسه و دليلا يحتج به انصار الامام على احقيته بالامر نستوضح ان الخليفة كان موفقاً كل التوفيق في موقفه تجاه دعوى الزهراء للنحلة و جارياً على المنهاج السياسي الذي كان يفرضه عليه الظرف الدقيق اذ اغتنم الفرصة المناسبة لافهام المسلمين بصورة لبقة و على اسلوب غير مباشر بأن فاطمة امرأة من النساء و لا يصح أن تؤخذآراؤها و دعاويها دليلا في مسألة بسيطة كفدك فضلا عن موضوع كالخلافة و انها اذا كانت تطلب ارضاً ليس لها بحق فمن الممكن أن تطلب لقرينها المملكة الاسلامية كليا و ليس له فيها حق و نخرج من البحث بنتيجة و هي ان تأميم الصديق لمدك ممكن تفسيره

1- بأن الظرف الاقتصادي الخاص دعى إلى ذلك.

2- بأن أبا بكر خشي أن يصرف علي ثروة قرينة، في سبيل التوصل إلى السلطان.

ص: 72


1- راجع شرح النهج ج4 ص 80.

و ان موقفه من دعاوى الزهراء بعد ذلك و استبساله في رفضها قد يكون مرده إلى هذين السبين

1 - إلى مشاعر عاطفية كانت تنطوي عليها نفس الخليفة رضي الله عنه عرضنا الجملة من أسبابها فيما سبق.

2 - وحدة سياسية عامة بنى عليها الصديق سيرته مع الهاشميين و قد تبيناها من ظواهر الحكم يومئذ.

* * *

امل أعظم رقم قياسي ضربه أمير المؤمنين عليه الصلاة و السلام للتضحية في سبيل الاسلام و الاخلاص للمبدأ الأعلى إخلاصاً جرده عن جميع الاعتبارات الشخصية و أقام منه حقيقة سامية سمو المبدأ ما بقي للمبدأ حياة هو الرقم الذي سجله بموقفه من خلافة الشورى و قدم بذلك في نفسه مثلا أعلى للتفاني في المبدا الذي صار شیئا من طبيعته.

إن كان رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) قد تمكن من محمو خلال الوثنية فقد استطاع أن يجعل من علي بما أفاض عليه من حقائق نفسه عينا ساهرة على القضية الالهية فنامت فيه الحياة الانسانية بأهوائها و مشاعرها

و صار يحيي بحياة المبدأ و العقيدة (1).

ص: 73


1- قال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم): علي مع الحق و الحق مع علي. و لن يفترقا حتى يردا علي الحوض يوم القيامة راجع تاريخ بغداد للخطيب ج 14 ص 321 وتفسير الرازي ج 1 ص 111 و كفاية الطالب للكنجي ص 130 و المناقب لأخباب خوارزم ص 77 - و قال «ص » : اللهم ادر الحق معه حيث دار ، راجع مستدرك الحاكم ج 3 ص 125 و کنز العمال ج 6 ص 175 و جامع الترمذي ج 2 ص 213.

و إن كان للتضحية الانسانية الفاضلة كتاب فاعمال علي عنوان ذلك الكتاب المشع باضواء الخلود (1).

و ان كان لمبادىء السماء التي جاء بها محمد (صلى الله عليه و آله و سلم) تعبير عملي على وجه الأرض فعلي هو تعبيرها الحي على مدى الدهور و الأجيال

و إن كان النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) قد خلف فى أمته عليا و القرآن (2) فانما جمع بينهما ليكون القرآن تفسيراً لفظياً لمعاني علي العظيم و لتكون معاني علي انموذجاً لمثل القرآن الكريم.

و ان كان الله تعالى قد جعل عليا نفس رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم) فى آية المباهاة (3) فلأجل أن يفهم المسلمون انه امتداد طبيعي لمحمد (صلى الله عليه و آله و سلم) و شعاع متألق من روحه العظيمة.

و إن كان النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) قد خرج من مكة مهاجراً خائفاً على نفسه و خلف عليا على فراشه ليموت بدلاً عنه فمعنى ذلك

ص: 74


1- قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: الضربة على خبر من عبادة الثقلين، أو قال: المباررة علي لعمر أفضل من أعمال أمتي إلى يوم القيامة، راجع المستدرك للحاكم ج3 ص 32.
2- قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): انى تارك فيكم الثقلين أو الخليفتين ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي كتاب الله و عترتي أهل بيتي و انها لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، راجع الصواعق المحرقة ص 136.
3- راجع تفسير الرازي و أسباب النزول للواحدي.

للعظيمين خيوط حياتها و اذا كان

ان المبدأ المقدس هو الذي كان يرسم " لا بد للقضية الالهية من شخص تظهر به و آخر يموت في سبيلها فيلزم أن يبقى رجلها الأول لتحيى به أيضاً.

به و يقدم رجلها الثاني نفسه قربانا لتحي و ان كان علي هو الذي أباحت له السماء خاصة النوم في المسجد و الدخول فيه جنباً (1) فمفهوم هذا الاختصاص ان في معانيه معنى المسجد لأن المسجد ر من السماء الصامت في دنيا المادة و علي هو الرمز الالهي الحي في دنيا الروح و العقيدة.

و ان كانت السماء قد امتدحت فتوة علي وأعلنت عن رضاها عليه إذ قال المنادي: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي (2) فانها عنت بذلك ان فتوة علي وحدها هي القوة المعدة لتركيز العقيدة القرآنية على وجه الارض و انها وحدها هي الرجولة الكاملة التي لا يرتفع إلى مداها انسان و لا ترقى إلى أفقها بطولة الأبطال و اخلاص المخلصين.

و من مهزلة الأقداران هذه الفتوة التي قدسها الهاتف الالهي كانت عيباً في راي مشايخ السقيفة ونقصاً في علي يؤاخذ عليه و ينزل به عن الصديق الذي لم يمكن يمتاز عليه إلا بسنين قضاها كافراً مشركاً.

ص: 75


1- راجع مسند الامام أحمد ج4 ص 369 و مستدرك الحاكم ج 3 ص 125 و شرح النهج لابن أبي الحديد ج 2 ص 451 و تذكرة سبط ابن الجوزي و مناقب الخوارزمي و تاريخ الخلفاء للسيوطي و الصواعق لابن حجر و الخصائص للنسائي.
2- ذكر ذاك الطبري فى تاريخ، ج 3 ص 17 و ابن هشام في سيرته و ابن أبي الحديد في شرح النهج و الخوارزي في المناقب.

و أنا لا أدري كيف صار الازدواج بين الجاهلية و الاسلام في حياه شخص واحد مجداً ممتاز به عمن خلصت حياته كلها الله.

و ائن ظهرت للناس في البحوث الجديدة القوذ الطبيعية التي تجعل الأجسام الدائرة حول المحور تسير على خط معين فلقد ظهرت في علي قبل مئات السنين قوة مثلها و لكنها ليست من حقائق الفيزياء بل من قوى السماء و هي التي جعلت من علي مناعة طبيعية الاسلام حفظت له مقامه الأعلى ما دام الامام حيكو محوراً تدور عليه الحياة الاسلامية لتستمد منه روحانيتها و ثقافتها و روحها و جوهرها سواء أكان على رأس الحكم أولا.

و قد عملت هذه القوة عملها السحري فى عمر نفسه فجذبته إلى خطوطها المستقيمة مراراً حتى قال : لولا علي لهلك عمر، و ظهر تأثيرها الجبار في التفاف المسلمين حوله في اليوم الذي اسندت فيه مقدرات الخلافة إلى عامة المسلمين ذلك الالتفاف الفذ الذي يقل مثيله في تاريخ الشعوب

و نعرف من هذا ان عليا هذا ان عليا عما زته السماء به من تلك القوة كان ضرورة من ضرورات الاسلام (1) التي لابد منها و شمساً يدور عليها الملاك الإسلامي بعد النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) بحسب طبيعته التي لا يمكن

ص: 76


1- و على ضوء ما بيناه نفهم قول رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لعلي: لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي، و قبوله له عند ما تهيأ الخروج إلى غزوة تبوك: لابد من أن أقيم أو تقيم، راجع خصائص النساني ص 7 و مسند الامام أحمد ج 1 ص 336 و مناقب الخوارزمي ص 75 و ذخائر المقبى ص 87.

أن تقاوم حتى التجأ الفاروق إلى مسايرتها كما عرفت.

و يتجلى لدينا أيضاً أن الانقلاب الفجائي في السياسة الحاكمة لم يكن ممكنا يومئذ لأنه - مع كونه طفرة – يناقض تلك القوة الطبيعية المركزة في شخصية الامام فكان من الطبيعي أن تسير السياسة الحاكمة في خط منحنى حتى تبلغ النقطة التي وصل البها الحكم الأموي تفادياً من تأثير تلك القوة الساهرة على الاعتدال والانتظام كما ينحني السائق بسيارته عند ما ينحرف بها إلى نقطة معاكسة تحذراً من القوة الطبيعية التي تفرض الاعتدال في السير .. و هذا الفصل الرائع من عظمة الامام يستحق دراسة وافية مستقلة قد تقوم بها في بعض الفرص لنكشف با عن شخصية علي المعارض للحكم و الساهر على قضية الاسلام و الموفق بين حماية القوة المحاكمة من الانجراف بين معارضتها فى نفس الوقت.

و ان كانت مواقف الامام كلها رائعة، فموقفه في الخلافة بعد رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) من أكثرها روعة.

و ان كانت العقيدة الآلهمية تريد في كل زمان بطلا يفتديها بنفسه فهي تريد أيضاً بطلاً يتقبل القربان و يعزز به المبدأ، و هذا هو الذي بعث بعلي إلى فراش الموت و بالنبي (صلى الله عليه و آله و سلم) إلى مدينة النجاة يوم الهجرة الأعر كما أشرنا اليه قريباً و لم يكن ليتهيأ للامام في محنته بعد وفاة أخيه أن يقدم لها كلام البطلين لأنه لو ضحى بنفسه في سبيل توجيه الخلافة إلى مجربها الشرعي في رأيه لما بقى بعده من مسك الخيط من طرفيه و ولدا رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) طفلان لا يتهيأ لهما من

ص: 77

الأمر ما يريد

وقف علي عند مفترق طريقين كل منهما حرج و كل منهما شديد على نفسه : -

أحدهما : أن يعلن الثورة المسلحة على خلافة أبي بكر.

و الآخر: أن يسكت و فى العين قذى، و فى الحلق شجا، و لكن ماذا كان يترقب للثورة من نتائج هذا مانريد ان نتبينه على ضوء الظروف التاريخية لتلك الساعة العصيبة.

ان الحاكمين لم يكونوا ينزلون عن مراكزهم بأدنى معارضة و هم من عرفناهم حماسة و شدة في أمر الخلافة. و معنى هذا انهم سيقابلون و يسافون عن سلطانهم الجديد، و من المعقول جداً حينئذ ان يغتنم سعد بن عبادة الفرصة ليعلنها حرباً اخرى فى سبيل أهوائه السياسية لأننا نعلم انه هدد الحزب المنتصر بالثورة عند ماطلب منه البيعة و قال: لا و الله حتى أرمبكم بما في كنانتى و اخضب سنان رمحي و أضرب بسبني و أقاتلكم بأهل بيتى و من أطاعني و لو اجتمع معكم الجن و الانس ما بايعتكم. و اكبر الظن انه

ما تهيب الاقدام على الثورة و لم يجرأ على أن يكون اول ش اهر للسيف ضد الخلافة القائمة و انما اكتفى بالتهديد الشديد الذي كان بمثابة اعلان الحرب و أخذ يترقب تضعضع الأوضاع ليشهر سينه بين السيوف فكان حرياً به أن تثور حماسته و يزول تهيبه و يضعف الحزب القائم في نظره اذا رأى صوتاً قوياً يجهز بالثورة فيعيدها جذعة و بحاول اجلاء المهاجرين من المدينة بالسيف كما أعلن ذلك المتكلم عن لسانه في مجلس السقيفة

ص: 78

و لا ننسى بعد ذلك الأمويين و تكتلهم السياسي في سبيل الجاه والسلطان وما كان لهم من نفوذ في مكة في سنواتها الجاهلية الأخيرة فقد كان أبو سفيان زعيمها في مقاومة الاسلام والحكومة النبوية وكان عتاب

ابن أسيد بن ابي العاص بن أمية أميرها المطاع في تلك الساعة.

و اذا تأملنا ما جاء في تاريخ تلك الأيام (1) من أن رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) لما توفى و وصل خبره إلى مكة وعامله عليها عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية استخفى عتاب و ارتجت المدينة وكاد أهلها يرتدون فقد لا نقتنع بما يعلل به رجوعهم عن الارتداد من العقيدة و الايمان كما أني لا أو من بأن مرد ذلك التراجع إلى انهم رأوا في فوز أبي بكر فوزهم و انتصارهم على أهل المدينة كما ذهب اليه بعض الباحثين، لأن خلافة أبي بكر كانت فى اليوم الذي توفى فيه رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) و أكبر الظن ان خبر الخلافة جاءهم مع خبر الوفاة بل تعليل القضية في رأبي ان الأمير الأموى عتاب بن أسيد شاء أن يعرف اللون السياسي الذي اتخذته أسرته في تلك الساعة فاستخفى و أشاع بذلك الاضطراب حتى اذا عرف ان أبا سفيان قد رضي بعد سخط و انتهى مع الحاكمين إلى نتائج في صالح البيت الأموي ظهر مرة أخرى للناس و أعاد الأمور إلى مجاريها و عليه فالصالة السياسية بين رجالات الأمويين كانت قائمة في ذلك الحين. و هذا التقدير يفسر لنا القوة التي تكمن وراء أقوال أبي سفيان حينما كان ساخطاً على ابي بكر و أصحابه إذ قال: إني لأرى

ص: 79


1- راجع تأريخ الكامل ج 2 ص 123.

عجاجة لا يطفيها إلا الدم، و قال عن علي و العباس: أما و الذي نفسي بيده لأرفعن لهما من أعضادها، فالأمويون قد كانوا متأهبين للثورة و الانقلاب و قد عرف علي منهم ذلك بوضوح حينما عرضوا عليه أن يتزعم المعارضة و اسكنه عرف انهم ليسوا من الناس الذين يعتمد على تأييدهم و انما يريدون الوصول إلى أغراضهم عن طريقه فرفض طلبهم و كان من المنتظر حينئذ أن يشقوا عصا الطاعة اذار أوا الأحزاب المسلحة تتناحر و لم يطمئنوا إلى قدرة الحاكمين على ضمان مصالحهم و معنى انشقاقهم حينئذ اظهارهم للخروج عن الدين و فصل مكة عن الدينة.

و إذن فقد كانت الثورة العلوية في تلك الظروف إعلانا المعارضة دموية تتبعها معارضات دموية ذات أهواء شتى و كان فيها تهيئة الظرف قد يغتنمه المشاغبون ثم المنافقون.

و لم تكن ظروف المحنة تسمح لعلي بأن يرفع صوته وحده في وجه الحكم القائم بل لتناحرت ثورات شتى و تقاتلت مذاهب متعددة الأهداف و الأغراض و يضيع بذلك الكيان الاسلامي في اللحظة الحرجة التي يجب أن يأتف فيها المسلمون حول قيادة موحدة و يركزوا قواهم لصد ما كان يترقب أن تتمخض عنه الظروف الدقيقة من متن و ثورات

ان عليا الذي كان على أتم استعداد لتقديم نفسه قرباناً للمبدأ في جميع أدوار حيته منذ أن ولد في البيت الالهي و إلى أن قتل فيه قد ضحى بمقامه الطبيعي و منصبه الالهي في سبيل المصالح العليا التى جعله رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وصياً عليها و حارساً لها.

ص: 80

وفقدت بذلك الرسالة المحمدية الكبرى بعض معناها فان رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) لما أمره وبه بتبليغ دعوته والانذار برسالته جمع بني عبد المطلب و أعلن عن نبوته بقوله : ( إني و الله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به ) و عن إمامة أخيه بقوله: (إن هذا أخي و وصي و خليفتي فيكم فاسمعوا له و أطيعوا (1) و معنى ذلك أن إمامة علي تكملة طبيعية لنبوة محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) و ان الرسالة السماوية قد أعلنت عن نبوة محمد الكبير (صلی الله علیه و آله و سلم) و إمامة محمد الصغير فى وقت واحد.

إن عليا الذي رباه رسول (صلى الله عليه و آله و سلم) و ربى الاسلام معه فكانا و لديه العزيزين كان يشعر باخوته لهذا الاسلام و قد دفعه هذا الشعور إلى افتداء أخيه بكل شيء حتى انه اشترك في حروب الردة التي أعلنها المسلمون يومذاك (2) و لم يمنعه تزعم غيره لها عن القيام بالواجب المقدس، لأن أبا بكر إن كان قد ابتزه حقه ونهب ترائه فالاسلام قد رفعه إلى القمة و عرف له أخوته الصادقة و سجلها باحرف من نور على صفحات الكتاب الكريم.

و صمم الامام على ترك الثورة و لكن ماذا يفعل؟. و أي أسلوب يتخذه لموقفه؟. هل يحتج على الفئة الحاكمة بنصوص النبي (صلى الله عليه

ص: 81


1- اخرجه الیری فی تاریخه و ابن الاثیر فی الکامل و ابن ابی الحدید فی شرح نهج البلاغه.
2- راجع شرح النهج لابن أبي الحديد ج 4 ص 165.

و آله و سلم ( و كلماته التى أعلنت أن علياً هو القطب المعد لأن يدور عليه الفلك الاسلامي والزعم الذي قدمته السماء إلى أهل الأرض.

يردد هذا السؤال في نفسه كثيراً ثم وضع له الجواب الذي تعينه ظروف محنته وتلزمه به طبيعة الأوضاع القائمة فسكت عن النص إلى حين.

و نحن نقبين من الصورة المشوشة التي عرفناها عن تلك الظروف و الأوضاع أن الاعتراض بتلك النصوص المقدسة و الاحتجاج بها في ساعة ارتفع فيها المقياس الزئبقي للأفكار المحمومة و الأهواء الملتهبة التي سيطرت على الحزب الحاكم إلى الدرجة العالية كان من التقدير المعقول افتراض النتائج السيئة له لأن أكثر النصوص التي صدرت من رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) فى شأن الخلافة لم يكن قد سمعها إلا. واطنوه في المدينة من مهاجرين و أنصار فكانت تلك النصوص إذن الامانة العالية عند هذه الطائفة التي لا بد أن تصل عن طريقهم إلى سائر الناس في دنيا الاسلام. يومئذ و إلى الاجيال المتعاقبة و العصور المتتالية. و لو احتج الامام على جماعة أهل المدينة بالكلمات التي سمعوها من رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) في شأنه و أقام منها دليلا على إمامته و خلافته لكان الصدى الطبيعي لذلك أن يكذب الحزب الحاكم صديق الامة في دعواه و ينكر تلك النصوص التي نحو عن.

الشورى لونها الشرعى و تعطل منها معنى الدين .. و قد لا يجد الحق صوتاً قوياً يرتفع به في قبال ذلك الانكار لأن كثيراً من قريش وفي مقدمتهم الأمويون كانوا طامحين إلى مجد السلطان و نعيم الملك موهم يرون في تقديم الخليفة على أساس من النص النبوي تسجيلا

ص: 82

لمذهب الامامة الالهية، و متى تقررت هذه النظرية في عرف الحكم الاسلامي كان معناها حصر الخلافة في بني هاشم آل محمد الاكرمين و خروج غيرهم من المعركة خاسراً. و قد نلح هذا المون من التفكير في قول عمر لابن عباس معللاً اقصاء علي عن الأمر: ان قومكم كرهوا أن يجمعوا الكم الخلافة و النبوة (1) فقد بدلنا هذا على أن استاد الأمر إلى علي في بداية الامر كان معناه في الذهنية العامة حصر الخلافة فى الهاشميين و ليس لذلك تفسير أولى من أن المفهوم الجمهوة من الناس يومئذ من الخلافة العلوية تقرير شكل ثابت للخلافة يستمد شرعيته من نصوص السماء لا من انتخاب المنتخبين فعلي إن وجد نصيراً من علية قرش يشجعه على مقاومة الحاركمين فانه لا يجد منهم عضداً في مسألة النص إذا قم إلى الناس يحدثهم ان رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) قد سجل الخلافة لأهل بيته حين قال: إني مخاف فيكم الثقلين: كتاب الله، و عترتي أهل بيتى الخ.

و أما الانصار فقد سبقوا جميع المسلمين إلى الاستخفاف بتلك النصوص و الاستهانة بها إذ حدت بهم الشراهة إلى الحكم إلى عقد مؤتمر في سقيفة بني ساعدة ليصفقوا على يد واحد منهم فلن يجد علي فيهم إذا استدل بالصوص النبوية جنوداً للقضية العادلة وشهوداً عليها لأنهم اذا شهدوا على ذلك يسجلون على انفسهم تناقضاً فاضحاً في يوم واحد و هذا ما يأبونه على انفسهم بطبيعة الحال. و ليس فى مبايعة الأوس لأبي بكر أو قول من قال: لا نبايع

ص: 83


1- راجع تاريخ الكامل ج 3 ص 24.

الإعليا منافضة كتلك المناقضة لا من المفهوم البديهي من تشكيل مؤتمر السقيفة ان مسألة الخلافة مسألة انتخاب لا نص فليس الى للتراجع عن هذا الرأي في یوم اعلانه من سبيل.

و أما الاعتراف المهاجرين بالأمر فلا حرج فيه لأن الانصار لم يجتمعوا على رأي واحد في السقيفة و إنما كانوا يتذاكرون و يتشاورون و لذا نرى الحباب و الاستمالة بهم بن المنذر يحاول بث الحماسة في نفوس إلى رأيه بما جلجل به فى ذلك الاجتماع من كلام و هو يوضح انهم جمعوا لتأييد فكرة لم يكن يؤمن بها إلا بعضهم.

و إذن فقد كان الامام يقدر انه سوف يدفع الحزب الحاكم إلى انكار النصوص و الاستبسال فى هذا الانكار إذا جاهر بها ولا يقف الى جانبه حينئذ صف ينتصر له في دعواه لان الناس بين من قادهم الهوى السياسي إلى انكار عملي للص يسد عليهم مجال التراجع بعد ساعات و بين من برى ان فكرة النص تجعل من الخلافة و قنا على بني هاشم لا ينازعهم فيها منازع. و اذا سجلت الجماعة الحاكمة و انصارها انكاراً للنص و اكتفى الباقون بالسكوت في الاقل فمعنى هذا أن النص بفقد قيمته الواقعية و تضيع بذلك مستمسكات الامامة العلوية كلها و يؤمن العالم الاسلامي الذي كان بعيداً عن مدينة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) على انكار المنكرين لانه منطق القوة الغالب في ذلك الزمان.

و النلاحظ ناحية اخرى فان عليا لو ظفر بجماعة توافقه على دعواه و تشهد له بالنصوص النبوية المقدسة و تعارض انكار الفئة الحاكمة كان

ص: 84

معنى ذلك ان ترفض هذه الجماعة خلافة أبي بكر و تتعرض لهجوم شديد من الحاكمين ينتهي بها إلى الاشتراك في حرب مع الحزب الحاكم المتحمس لكيانه السياسي الى حد بعيد فانه لا يسكت عن هذا اللون من المعاضة الخطرة فمجاهرة علي بالنص كانت تجره الى المقابلة العملية و قد عرفناسا بقا انه لم يكن مستعداً لاعلان الثورة على الوضع القائم و الاشتراك مع السلطات المهيمنة في قتال.

و لم يكن للاحتجاج با النص اثر اوضح من ان تتخذ السياسة الحاكمة احتياطاتها و اساليبها الدقيقة لمحو تلك الاحاديث النبوية من الذهنية الاسلامية لانها تعرف حينئذ ان فيها قوة خطر على الخلافة القائمة و مادة خصبة الثورة المعارضين في كل حين.

و اني أعتقد أن عمر لو التفت إلى ما تنبه اليه الأمويون بعد أن إحتج الامام بالصوص في أيام خلافته و اشتهرت بين شيعته من خطرها لاستطع أن يقطعها من أصولها و يقوم بما لم يقدر الأمويون عليه من اطفاء نورها و كان اعتراض الامام بالنص في تلك الساعة ينبهه إلى ما نجب أن ينتهجه من أسلوب فاشفق على النصوص المقدسة أن تلعب بها السياسة و سكت عنها على مضض و استغقل بذلك خصومه حتى أن عمر (رضي الله تعالى عنه) نفسه صرح بأن علياً هو ولي كل مؤمؤمن و مؤمنة بنص النبي (1) صلى الله عليه و آله و سلم.

ص: 85


1- راجع ذخائر العقبى ص 67 و الحديث يدلنا على ان الفاروق كان يميل أحياناً الي تغيير الطريقة

ثم ألم يكن من المعقول أن يخشى الامام على كرامة حبيبه وأخيه رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) أن تنتقص وهي أغلا عنده من كل نفيس - اذا جاهر بنصوص النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) و هو لم ينس موقف الفاروق من رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) حين طلب دواة ليكتب كتابا (( لا يضل الناس بعده أبداً ، فقال عمر: ان النبي ليهجر أو قد غلب عليه الوجع، و قد اعترف فيما بعد لابن عباس ان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) كان بريد

أن يعين عليا للخلافة و قد صده عن ذلك خوفاً من الفتنة (1).

و سواء أ كان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يريد أن يحرر حق علي في الخلافة أولا فان المهم أن نتأمل موقف عمر من طلبه فهو إذا كان مستعداً لاتهام النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وجها لوجه بما ينزهه عنه نص القرآن و ضرورة الاسلام خوفا

الفتة فما الذي: عن اتهام آخر له بعد وفاته مهما تلطفنا في تقديره فلا يقل عن دعوى ان رسول الله (صلی و آله و سلم) لم يصدر عن أمر الله في موضوع. الخلافة و انما استخلف عليا وحي من وحي من عاطنته بل كان هذا أولى من تلك المعارضة لأن الفتنة التي تقوم بدعوى علي النص أشد ما كان يترقبه عمر من اضطراب فيما اذا كان النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) قد خلف نصاً تحريرياً بامامة علي يعلمه الجميع.

و إذا كان رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) قد ترك التصريح التي سار عليها الحزب في بداية الأمر مع الهاشميين غير أن الطابع السياسي الاول غلب عليه أخيراً.

ص: 86


1- راجع شرح النهج ج 2 ص 144

مخلافة علي فى ساعته الاخيرة لقول قاله عمر فمن المفهوم أن يترك الوصي الاحتجاج بالنصوص خوفا من قول قد يقوله:

و نتيجة هذا البحث ان سكوت أمير المؤمنين عن النص إلى حين كان يفرضه عليه.

1- انه لم يكن يجد فى رجالات كلمات الساعة من يطمئن إلى شهادته بذلك.

2- ان الاعتراض بالنصوص كان من الحري به أن يلفت انظار الحاكمين إلى قيمتها المادية فيستعملون شتى الأساليب لحقها.

3 - ان حتى الاعتراض بها التهيؤ للثورة بأوسع معانيها و هذا ما لم يكن يريده الامام.

4 - ان اتهام عمر للنبي (صلى الله عليه و آله و سلم) في آخر ساعاته عرف عليا بمقدار تفاني الحكمين في سبيل مراكزهم و مدى استعدادهم لتأييدها و المدافعة عنها و جعله يخف من تكرر شيء من ذلك فيما اذا أعان عن نصوص امامته ..

* * *

انتهى الامام إلى قرار حاسم، و هو ترك الثورة و عدم التسلح بالنصوص في وجه الحاكمين جهاراً و علانية إلا إذا الطمأن إلى قدرته على تجنيد الرأي العام ضد أبي بكر و صاحبيه و هذا ما أخذ يحاوله علي في محنته آنذاك فبدأ يطوف سراً على زعماء المسلمين و رجالات المدينة يعظيم و يذكرهم بيراهين الحق و آياته و إلى جانبه قرينته تعزز موقفه و تشاركه في

ص: 87

جهاده السري ولم يكن يقصد بذلك التطواف انشاء حزب يتهيأ له القتال به لأننا نعرف ان عليا كان له حزب من الانصار هتف باسمه و حاول الالتفاف حوله و أنما أراد أن يمهد بتلك المقابلات لاجماع الناس عليه.

و هنا تجي، مسألة فدك لتحتل الصدارة في السياسة العلوية الجديدة فان الدور الفاطمي الذي رسم هارون النبوة خطوطه باتقان كان متنقاً مع ذلك التطواف الليلي في فلسفته و جديراً بأن يقلب الموقف على الخليفه و ينهى خلافة الصديق كما تنتهي القصة التمثيلية لا كما يقوض حكم مركز على القوة و العدة.

و كان الدور الفاطمي يتلخص في أن تطالب الصديق بما انتزعه منها من أموال و تجعل هذه المطالبة وسيلة للمناقشة في المسألة الاساسية واعنى بها مسألة الخلافة واوهام الناس بأن اللحظة التي عدلوا فيها عن علي (علیه السلام) إلى أبي بكر كانت لحظة هوس و شذوذ و انهم بذلك أخطأوا حظهم و خالفوا کتاب رهم و وردوا غير شربهم.

و لما اختمرت الفكرة في ذهن فاطمة اندفعت لتصحح اوضاع الساعة و تمسح عن الحكم الاسلامي الذي وضعت قاعدته الاولى في السقيفة الوحل الذي تلطخ به عن طريق اتهام الخليفة الحاكم بالخيانة السافرة و العبث بكرامة القانون و اتهام نتائج المعركة الانتخابية التي خرج منها أبو بكر خليفة مخلفة الكتاب و الصواب.

و قد توفرت في المقابلة الفاطمية ناحيتان لا تتهيئآن الامام فيما لو وقف موقف قرينته.

ص: 88

احديهما: ان الزهراء أقدر منه بظروف فجيعتها الخاصة و مكانتها من ابيها على استثارة العواطف وايصال المسلمين بسلك من كهرباء الروح مابيها العظيم صلوات الله عليه و أيامه الغراء و تجنيد. شاعر هم لقضايا أهل البيت

و الاخرى: انها مهما تتخذ لمنازعتها من أشكال فلن تكتسب لون الحرب المسلحة التي تتطلب زعيما يهيمن عليها ما دامت إمرأة و ما دام هارون النبوة في بيته محتفظاً بالهدنة التي أعلنها حتى تجتمع الناس عليه و مراقبا الموقف ليتدخل فيه متى شاء متزعماً للثورة إذا بلغت حدها الأعلى أو مهدئا للفتنة إذا لم يتهيأ له الظرف الذي يريده. فالحوراء بمقاومتها إما ان تحقق انتقاضاً اجماعياً على الخليفة و اما أن لا تخرج عن دائرة الجدال و النزاع و لا تجر إلى فتنة و انشقاق.

و إذن فقد أراد الامام صلوات الله عليه أن يسمع الناس يومئذ صوته من فم الزهراء و يبقى هو بعيدا عن ميدان المعركة ينتظر اللحظة المناسبة للاستفادة منها و الفرصة التي تجعل منه رجل الموقف. و أراد أيضاً أن يقدم لأمه القرآن كالها في المقابلة الناطمية برهاناً على بطلان الخلافة القائمة. و قد تم الامام ما أراد حيث عبرت الزهراء صلوات الله عليها عن الحق العلوي تعبيراً واضحاً فيه ألوان من الجمال و النضال.

و تتلخص المعارضة الفاطمية في عدة مظاهر: -

الأول: - ارسالها لرسول ينازع أبا بكر في مسائل الميراث و يطالب بحقوقها (و هذه هي الخطوة الأولى التي انتهجتها الزهراء صلوات الله عليها تمهيداً لمباشرتها للعمل بنفسها.

ص: 89

الثاني: - مواجهتها بنفسها له في اجتماع خاص و قد أرادت بتلك المقابلة أن تشتد في طلب حقوقها من الخمس و فدك و غيرهما لتعرف مدى استعداد الخليفة للمقاومة.

و لا ضرورة في ترتيب خطوات المطالبة على أسلوب تتقدم فيه دعوى النحلة على دعوى الميراث كما ذهب إلى ذلك أصحابنا بل قد يغلب على ظني تقدم المطالبة بالارث لأن الرواية تصرح بان رسول الزهراء إنما كان يطالب بالميراث و الأقرب في شأن هذه الرسالة أن تكون أولى الخطوات كما يقضي به التدرج الطبيعي للمنازعة و أيضاً فان دعوى الارث أقرب الطريقين إلى استخلاص الحق لثبوت التوارث في التشريع الاسلامي بالضرورة فلا جناح على الزهراء في أن تطلب ابتداء ميراثها من ابيها الذي يشمل فدكا في معتقد الخليفة لعدم إطلاعه على النحلة و ليس في هذه المطالبه مناقضة لدعوى نحلة فدك إطلاقاً لأن المطالبة بالميراث لم تتجه إلى فدك خاصة و انما تعلقت بتركة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) عامة.

الثالث: - خطبتها في المسجد بعد عشرة أيام من وفاة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) كما في شرح النهج لابن ابي الحديد.

الرابع: - حديثها مع ابي بكر و عمر حينما زاراها بقصد الاعتذار منها و اعلانها غضبها عليهما و انهما اغضبا الله و رسوله (صلی الله علیه و آۀه و سلم) بذلك (1). الخامس: - خطابها الذي ألقته على نساء المهاجرين و الأنصار حين اجتماعين عندها.

ص: 90


1- راجع الامامة و السياسة و اعلام النساء.

السادس: - وصيتها بأن لا يحضر تجهيزها ودفنها أحاد من خصومها (1) و كانت هذه الوصية الاعلان الاخير من الزهراء عن نقمتها على الخلافة القائمة.

و قد فشلت الحركة الفاطمية بمعنى و نجحت بمعنى آخر.

فشلت لأنها لم تطوح بحكومة الخليفة (رضي الله عنه) في زحفها الاخير الخطير الذي قامت به في اليوم العاشر من وفاة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم).

و لا نستطيع أن نتبين الامور التي جعلت الزهراء تخسر المعركة غير ان الأمر الذي لاريب فيه ان شخصية الخليفة (رض) من أهم الاسباب التي أدت الى فشلها لانه من اصحاب المواهب السياسية و قد عالج الموقف بالباقة ملحوظة نجد لها مثلا فيها أجاب به الزهراء من كلام و وجهه إلى الانصار من خطاب بعد انتهائها من خطبتها في المسجد فبينما هو يذوب رقة في جوابه للزهراء و اذا به يطوي نفسه على نار متأججة تندام بعد خروج من المسجد. فى اكبر الظن. فيقول: ما هذه الرعة الى كل قلة انما هو ثعالة شهيده ذنبه - و قد نقلنا الخطاب كاملا فيما سبق - فان هذا الانقلاب من اللين و الهدوء الى الغضب الفائر يدلنا على مقدار ما أوتي من سيطرة على مشاعره و قدرته على مسايرة الظرف و تمثيل الدور المناسب

فاطمة في كل حين.

و نجحت معارضة الزهراء لانها جهزت الحق بقوة قاهرة و اضافت

ص: 91


1- راجع حلية الاولياء ج 2 ص 43 و مستدرك الحاكم ص 163 و أسد الغابة ج 5 ص 524.

إلى طاقته على الخلود في ميدان النضال المذهبى طاقة جديدة و قد سجلت هذا النجاح في حركتها كلها و في محاورتها مع الصديق و الفاروق عند زيارتها بصورة خاصة إذ قالت لهما: أرأيتكما إن حدثتكما حديثاً عن رسول الله (صلى عليه و آله و سلم) تعرفانه و تفعلان به فقالا نعم فقالت: نشد تكما الله ألم تسمعا عن رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) يقول: رضا فاطمة من رضاي و سخط فاطمة من سخطي فمن أحب فاطمة فقد أحبني و من فاطمة فقد أرضاني و من اسخط فاطمة فقد أسخطني (1) قلا نعم سيمناه من رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قالت: و إني أشهد الله و ملائكته انكما اسخطماني و ما أرضيتماني وائن لقيت النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) لا شكونكما عنده (2) و يصور لنا هذا الحديث مدى اهتمامها بتركيز الاعتراض على خصميها و مجاهر تهما بغضبها و نقمتها التخرج من المنازعة بنتيجة لا نريد

ص: 92


1- صحت عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) عبائر متعددة بهذا المعنى فقد جاء عنه في الصحيح انه قال الناطمة إن الله يغضب لغضبك و يرضى لرضاك و قال: فاطمة بضعة مني ير يبني ما را بها و يؤذيني ما آذاها - راجع صحيح البخاري ج 5 ص 274 و صحيح مسلم ج 4 ص 266 و مستدرك الحاكم ه ج 3 ص 154 و ذخائر العقبى ص 39 و الصواعق ص 105 و مسند أحمد ج 4 ص 328 و جامع الترمذي ج 2 ص 219 و ابن ماجه ج 1 ص 216.
2- تجد حديث غضب فاطمة على ابي بكر في صحيح البخاري ج ه ص ه و ج 6 ص 196 و صحيح مسلم ج 2 ص 72 و مسند أحمد ج 1 ص 6 و تاريخ الطبري ج 3 ص 202 و كفاية الطالب ص 226 و سنن البيهقي ج 1 ص 300.

درسها و الانتهاء فيها إلى رأي معين لأن ذلك خارج عن دائرة عنوان هذا بحث و لأننا نجل الخليفة عن أن ندخل معه في مثل هذه المناقشات و انما نسجاها لتوضيح أفكار الزهراء صلوات الله عليها و وجهة نظرها فقط فانها كانت تعتقد ان النتيجة التي حصلت عليها هي الفوز المؤكد في حساب العقيدة و الدين و أعني بها ان الصديق قد استحق غضب الله و رسوله صلى الله عليه و آله و سلم باغضابها و اذا هما بأذائها لانهما يغضبان اغضبها و يسخطان اسختها بنص الحديث النبوي الصحيح فلا يجوز أن يكون خليفة الله و رسوله و قد قال الله تبارك و تعالى: (و ما كان لكم أن تؤذوا رسول الله و لا تنكحوا أزواجه من بعده أبدا ان ذلكم كان عند الله عظيما * إن الذين يؤذون الله و رسوله لعنهم الله في الدنيا و الآخرة و أعد لهم عذاباً مبيناً * و الذين يؤذون رسول الله لهم عذاب اليم * يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم * و من يحلل عليه غضبي فقد هوى.

ص: 93

ص: 94

قبسات

قبسات

« من الكلام الفاطمي »

يوم جاءت إلى عدي و تيم

و من الوجد ما أطال بكاها

تعظ القوم في أنم خطاب

حات المصطفى به و حكاها

(الأزري)

ص: 95

فسان

تقتبس هنا عدة عبائر من خطبة الزهراء عليها السلام لنعطيها حقها من التحليل و التوضيح و ننهها كما هي في عالم الخلود و كماهي في واقعها الرائع

قالت : -

«ثم قبضه اليه قبض رأفة و اختيار و رغبة و ايثار فمحمد (صلى الله عليه و آله و سلم) عن تعب هذه الدار في راحة قد حفٌ بالملائكة الأبرار و رضوان الرب الغفار و مجاورة الملك الجبار ».

انظر إلى البليغة كيف تركت النعيم المادي كله وملذه ذات الحس حين أرادت أن تقرض فردوس أبيها و جنته الخالدة لانها رأت في معاني أبيها العظيم ما يرتفع على ذلك كله و ما قيمة المذة المادية جنينية كانت أو دنيوية في حساب محمد (صلى الله عليه و آله و سلم) الروحي الذي لم يرتفع أحد بالروح الانسانية كما ارتفع بها و لم يبلغ بها أحد سواه أوجها المحمدي) و لم يغذها مصلح عداه بالعقيدة الالهية الكاملة انتي هي غاية العقول في طير انها الفكري و الشوط الاخير للطواف الانساني حول الحقيقة

ص: 96

المقدسة الذي يستقر عنده الضمير و تطمئن اليه الروح ) (1).

فهو إذن: المربي الاكبر للروح، و القائد الفريد الذي سجات المعنويات الروحية تحت رايته انتصارها الخالد على القوى المادية في معركتهما القائمة منذ بدأ العقل حياته في وسط المادة.

و ما دام هو بطل المعركة الفاصلة بين الروحية و المادية الذي ختمت برسالته رسالات السماء فلا غرو أن يكون محور ذلك العالم الروحي الجبار و هذا ما شاءت أن تقوله الزهراء حين قالت نصف الفردوس المحمدي: فمحمد عن تعب هذه الدنيا في راحة قد حف بالملائكة الابرار فهو القطب أبداً في الدنيا و الآخرة غير انه في الاولى متعب لانه القطب الذي يجاهد ليقيم دورة الحياة الانسانية عليه على اسلوب خالد و في الاخرى مرتاح لانه المحور الذي يكبرب الحياة الملائكية بنوره فتحف به الملائكة لتقدم بين يديه آيات الحمد و الثناء.

و ما دام النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) من الطراز الأسمى فلتكن جنته على غراره ليس ملأها الترف المادي بل هي في اوضح معانيها الترف المعنوي - إن صح التعبير - و أي ترف روحي أسمى من مجاورة الملك الجبار و الظفر برضوان الرب الغفار.

هكذا و صفت الزهراء جنة أبيها في جملتين فاذا به القطب المتصل بمبدأ النور و الشمس التي تحيط بها الملائكة في دنيا النور.

ص: 97


1- نقلنا هذه الجملة عن كتابنا - العقيدة الالهية في الاسلام -.

و قالت: -

و كنتم على شفا حفرة من النار مذقة الشارب، و نهزة الطامع و قيسة العجلان و موطأ الاقدام تشربون الطرق، و تقتاتون الورق، أذلة خاسئين تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم فانقذكم الله تبارك و تعالى بمحمد (صلى الله عليه و آله و سلم) بعد الانيا و التي، و بعد أن منى بيهم الرجال و ذوبان العرب و مردة اهل الكتاب كيا أوقدوا ناراً للحرب أطفاها الله أو نجم قرن للشيطان و فغرت فاغرة من المشركين قذف أخاه في لهوانها، فلا ينكفى، حتى يطأ صحاخها بأخمصه، و يخمد لهبها بسينها مكدوداً في ذات الله مجتهداً فى أمر الله قريباً من رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) سید اولياء الله مشمراً فحصحا مجدا كادحاً و انتم في كادحاً و انتم في رفاهية من العيش و ادعون فاكهون آمنون (1)

ما أروعها من مقارنة هذه التي عقدتها الزهراء بين أسمى طراز من الكفاءة العسكرية في دنيا الاسلام يومئذ و بين رجولة مفطومة - إن صح التعبير - من ملكات البطل و مقومات العسكري الموهوب. بين بسالة هتفت بآياتها السماء و الارض و كتبت بمداد الخلود في فهرس المثاليات الانسانية و شخصية اكتفت من الجهاد المقدس بالوقوف في الخط الحربي الاخير - العريش - ويا ليتها اقتنعت بذلك عن الفرار المحرم في عرف الاسلام. في عرف التضحية، في عرف المفادات بالنفس لتوحيد الحكومة السماوية على وجه الارض.

ص: 98


1- تعنى بهذا الكلام الجماعة الحاكمة كما سنوضح ذلك في الكلام على القطعة الآتية.

و لا نعرف في تاريخ الانسانية موهبة عسكرية بارعة لها من الآثار الخيرة في حياة هذا الكوكب كالموهبة العلوية الفذة في تاريخ الابطال فان مواقف الامام في سوح الجهاد وميادين النضال كانت بحق هي الركيزة التي قامت عليها دنيا الاسلام و صنعت له تاريخه الجبار.

فعلي هو المسام الأول في اللحظة الاولى من تاريخ النبوة عند مالعلع الصوت الالهي من فم محمد (صلى الله عليه و آله و سلم) ثم هو بعد ذلك الغيور الاول و المدافع الاول الذي اسندت اليه السماء تصفية الحساب مع الانسانية الكافرة.

إن فوز الامام في هذه المقارنة يعني ان له حقاً في الخلافة من احيتين:-

(أحداها): انه الشخص العسكري الفريد بين مسلمة ذلك اليوم الذي لم يكن قد فصل فيه تماما المركز السياسي الأعلى عن المقامات العسكرية

(و الاخرى): أن جهاده الرائع تكشف عن اخلاص أروع لا يعرف الشك اليه سبيلا و جذوة مضطرمة بحرارة الايمان لا يجد الحمود اليها طريقاً. و هذه الجذوة المتقدة ابداً و ذلك الاخلاص الفياض دائماً هما الشرطان الاساسيان للزعيم الذي توكل اليه الامة حراسة معنوياتها الغالية و حماية شرفها في التاريخ.

إقرأ حياة النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) و تاريخ الجهاد النبوي فسوف ترى ان عليا هو الذي أدهش الارض و السماء بمواساته (1) و ان

ص: 99


1- أخرج الطبري في تاريخه عن ابن رافع : لما قتل علي بن -

الصديق (رض) هو الذي إلتجأ إلى مركز القيادة العليا الذي كان محاطاً بعدة من أبطال الانصار غوائل الحرب

نايته (1) حتى يطمئن بذلك. و دو الذي فر يوم أحد (2) كما فر الفاروق (3) و لم يبايع رسول الله

-أبي طالب أصحاب الألوية أبصر رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) جماعة من مشركي قريش فقال اعلي: احمل عليهم، فحمل عليهم فتفرق جمعهم و قتل عمر و بن عبد الله الجمحي، قال: ثم ابصر رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم جماعة من مشركي قريش فقال لعلي: احل عليهم، فحمل عليهم ففرق جماعتهم و قتل شيبة مالك، فقال جبرئيل: يا رسول الله إن هذا لله و اساة، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): إنه مني و أنا منه، فقال جبريل: و أنا منكما، قال: فسمعوا صوتاً:

لا سيف إلا ذو الفقار و لا فتى إلا علي

و انتأمل جواب رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) لنلاحظ كيف انه ارتفع بعلي عن مفهوم المواساة الذي يقضي بتعدد محمد و علي إلى مفهوم الوحدة و الامتزاج فقل: انه مني و أنا منه ولم يرض بأن يفصل الامام عن شخصه لانها وحدة لا تتجزأ ضربها الله مثلا أعلى تأتم بها الانسانية و يهتدي على ضوئها الابطال و المصلحون في معارج السمو و الارتقاء، و أنا لا أدري كيف حاول الصحابة أو بعض الصحابة أن ا يفككوا عرى هذه الوحدة و يضعوا بين البطلين أشخاصاً ثلاثة كان من الجدير أن لا يفصلوا بهم بين محمد و بين من هو من محمد (صلی الله علیه و آله و سلم).

ص: 100


1- راجع عيون الاثر ج 1 ص 258.
2- كما يحدثنا بذلك التاريخ الشيعي.
3- و قد اعترف هو بذلك و ذكره به رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) - راجع شرح النهج ج 3 ص 389 ، 390.

(صلى الله عليه و آله و سلم) على الموت في تلك الساعة الرهيبة التى قل فيها الناصر و تضعضعت راية السماء و بايع رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) على الشهادة ثمانية ثلاثة من المهاجرين و خمسة من الانصار لم يكن هو واحداً منهم كما صرح بذلك ارباب التاريخ (1) بل لم يرو له رواة المسلمين جميعاً قتالا في ذلك الموقف مهما يكن لونه (2).

و اذن فلما ذا وقف مع الثابتين إن كان لم يفر ؟ ألم يكن القتال واجباً ما دام المدافعون لم يبلغوا العدد المطلوب لمقابلة العدو الذي أصاب النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) بعد اصابات إضطرته إلى الصلاة جالساً.

و لعلنا نعلم جميعاً ان شخصاً اذا كان فى وسط الصراع و معترك الحرب فلن ينجو من الموت على يد عدوه إلا بالفرار أو الدفاع بالاشتراك عملياً في المعركة. و الصديق إذا لم يكن قد فعل شيئًا من هذين و قد نج-ا بلا ريب فمعنى هذا ان عدواً وقف أمام عدوه مكتف اليدين فلم يله خصمه فبل أشفق المشركون على ابي بكر و لم يشفقوا على محمد و علي و الزبير و اني دجانة و سهل بن حنيف

و ليس لدي من تفسير معقول للموقف إلا أن يكون قد وقف إلى جوار رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) و كسب بذلك موقفاً هو فى طبيعته أبعد نقاط المعركة عن الخطر لاحتفاف العدد المخلص في الجهاد يومئذ

ص: 101


1- صرح بذلك الواقدي كما في شرح النهج ج م ص 388 و المقريزي في الامتاع ص 132.
2- اعترف بذلك ابن ابي الحديد ج 3 ص 389.

برسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم). و ليس هذا ببعيد لأننا عرفنا من ذوق الصديق أنه كان يجب أن يكون إلى جانب رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فى الحرب لأن مركز النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) هو المركز المصون الذي تتوفر جميع القوى الاسلامية على حراسته و الذب عنه و خذ حياة الامام (علیه السلام) وحياة الصديق (رض) و ادرسها فهل تجد في حياة الأول خموداً في الاخلاص او ضعفاً في الاندفاع نحو التضحية أو ركوناً إلى الدعة والراحة فى ساعة الحرب المقدسة. فارجع البصر هل ترى من فطور. ثم ارجع البصر كرتين ينقاب اليك البصر خاسئاً و هو حسير. لأنه سوف يجد روعة ما بعدها روعة و استماتة في سبيل الله لا نفرة: استماتة و شخصاً لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، فيه استعداد للخلود ما خلد محمد استاذه الأكبر لأنه نفسه (صلی الله علیه و آله و سلم) (1).

ثم حدثني عن حياة الصديق (رضي الله تعالى عنه) أيام رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) فهل تجد فيها إلا تخاذلا وضعناً في الحياة المبدئية و الحياة العسكرية يظهر تارة فى التجائه إلى العريش و اخرى في فراره يوم أحد و هزيمته فى غزوة حنين (2) و تلكثه عن الواجب حينما أمره رسول الله

ص: 102


1- بنص آية المباهلة.
2- كما في السيرة الحلبية ج 3 ص 123، إذ حصر الثابتين بغيره وأما فرار الفاروق في ذلك اليوم فقد جاء ما يدل عليه في صحيح البخاري إذ روى باسناده عمن شهد يوم حنين انه قال: و انهزم المسلمون و انهزمت معهم فإذا بعمر بن الخطاب فى الناس فقلت له: ما شأن الناس؟ قال: أمر الله فإن هذا يوضح ان عمر كان بين المنهزمين.

(صلى الله عليه و آله و سلم) بالخروج تحت راية اسامة للغزو (1) و مرة اخرى في هزيمته يوم خيبر حينما بعثه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لاحتلال الوكر اليهودي على رأس جيش فرجع فاراً ثم أرسل الفاروق (رضي الله تعالى عنه (و اذا به من طراز صاحبه (2) حيث تبخرت في ذلك الموقف الرهيب حماسة عمر و بطولته الرائعة في أيام السلام التي اعتز بها الاسلام يوم اسلام كما يقولون و رجع عمر مع أصحابه بجبنهم و يجبنونه (3) فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) اني دافع الراية غداً لرجل يحبه الله و رسوله و يحب الله و رسوله لا يرجع حتى يفتح له (4) و يشع كلامه هذا بتعريض بليغ يدغدغ به مشاعر القائدين الفاشلين و اعتزاز صريح بعليه العظيم الذي يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله (5).

ص: 103


1- فقد جاء في عدة من المصادر أن عمر وابا بكر كانا فيمن جنده النبي صلى الله عليه وآله وسلم للحرب تحت راية اسامة منها في السيرة الحلبية ج 3.
2- راجع مسند أحمد ج ه ص 353 و مستدرك الحاكم ج 3 ص 37 و كنز العمال، ج 6 ص 394.
3- هذا تصوير علوي رائع للقائد الفاشل و الجنود المتخاذلين و قد اطلع كل منها على ضعف الآخر فأخذ يهول الموقف ليجد له من ذلك عذراً في الفرار.
4- صحيح البخاري ج ه ص 18 و مسند أحمد ج 5 ص 353.
5- و اكبر الظن ان الجيش الذي سار الامام على رأسه الاحتلال المستعمرة اليهودية هو الجيش الذي فرّ بالأمس و نفهم من هذا مدى تأثير القائد على جيشه و تكهرب الجيش بمشاعره فان عليا استطاع أن - يجعل من اولئك الجنود الذين كانوا يجنون الفاروق فى الحملة السابقة أبطالا فاتحين بما سكب في ارواحهم من روحه العظيمة المتدفقة بالحماس و الإخلاص.

يا خليفتي المسلمين - أو بعض المسلمين - رضي الله تعالى عنكما أهكذا كان نبيكما الذي قمنا مقامه ؟ ألم تتلقيا عنه دروسه الفذة في الجهاد و المعازة في سبيل الله؟ ألم يكن فى صحبتكما له طوال عقدين حاجز يحجز كما عن ذلك؟ ألم تستمعا إلى القرآن الذي أسندت اليكما حراسته و التوفر على نشر مثله العليا في المعمورة و هو يقول: -

و من يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله و مأواه جهنم و بئس المصير.

و قد توافقني على أن مقام الصديق و الفاروق (رض) في الاسلام يرتفع بهما عن النمرار المحرم فلا بد أنهما تأولا و وجداً عذراً في فزارها و نحن نعلم ان مجال الاجتهاد و التأويل عند الخليفة كان واسعاً حتى انه اعتذر عن خالد لما قتل مسلماً متعمداً بأنه اجتهد فأخطأ (1).

عذرتكما ان الحمام لمبغض و ان بقاء النفس للنفس محبوب

لیکره طعم الموت و الموت طالب فكيف لمذ الموت و الموت مطلوب

و ليعتذر إذا كان فيما قدمناه سبب للاعتذار و قد اضطرنا إلى ذلك الوقوف عند المقارنة العالمية و ما تستحقه من شرح و توضيح.

ص: 104


1- تاريخ ابن شحنة على هامش الكامل ج 11 ص 194.

قالت:-

«تتربصون بنا الدوائر و تتوكفون الأخبار ».

هذا الخطاب موجه إلى الحزب الحاكم لأنه هو الذي زعم ما نسبته الزهراء إلى مخاطبيها فيما يأتي من تعليل التسرع إلى اتمام البيعة بالخوف من - الفتنة. و اذن فهو اتهام صريح له بالتآمر على السلطان و اتخاذ التدابير اللازمة لهذه المؤامرة الرهيبة و وضع الخطط المحكمة لتنفيذها و تربص الفرصة للسائحة للانقضاض على السلطة و تجريد البيت الهاشمي منها.

و قد رأينا في الفصل السابق ان الاتفاق السري بين الصديق و الفاروق و ابي عبيدة (1) رضي الله عنهم مما تعززه الظواهر التاريخية.

و لا ينبغي أن تترقب دليلاً مادياً أقوى من كلام الزهراء الذي بينا إشعاعه إلى هذا المعنى بوضوح المعاصرتها لتلك الظروف العصيبة. فلا ريب انها كانت تفهم حوادث تلك الساعة فهما أخص ما يوصف به أنه أقرب إلى واقعها و اكثر إصابة له من دراسة يقوم بها النقاد بعد منآت السنين.

ص: 105


1- نعتذر إلى سيدنا أبي عبيدة عن ذكر اسمه مجرداً عن اللقب، و ليس هذا ذنبي بل ذنب الأجل الذي عجل بروحه قبل أن يصير الأمر اليه فيمنحه الناس لقيا من الالقاب، و أما لقب الامين فالارجح عندي نه لم يحصل عليه عن طريق النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» و لا عن طريق الناس و انما لقب بالامين لمناسبات حزبية خاصة ليس من تقرير الاوسمة الرسمية.

و من حق البحث أن نسجل ان الزهراء هي أول من أعلنت - ان لم يكن زوجها هو المعلن الأول .. عن التشكيلات الحزبية للجماعة الحاكمة و اتهمتها با لتآمر السياسي ثم تبعها على ذلك جملة من معاصر بها كأمير المؤمنين صلوات الله عليه و معاوية بن أبي سفيان - كما عرفنا سابقاً -.

و مادام هذا الحزب الذي تجزم بوجوده الزهراء و يشير اليه الامام و يلمح اليه معاوية هو الذى سيطر على الحكم و مقدرات الأمة و ما دامت الاسر الحاكمة بعد ذلك التي و جهت جميع مرافق الحياة العامة لخدمتها قيد طبقت أصول تلك السياسة و عناصر ذلك المنهج الحزبي الذي دوخ دنيا الاسلام فمن الطبيعي جداً أن لا نرى في التاريخ أو على الاقل التاريخ العام صورة واضحة الألوان لذلك الحزب الذي كان يجتهد أبطاله الأولون في تلوين أعمالهم باللون الشرعي الخاص الذي هو أبعد ما يكون عن الألوان السياسية و الاتفاقات السابقة.

* * *

قالت:-

(فوسمتم غير ابلكم، و أوردتم غير شربكم هذا و العهد قريب، و التكلم رحيب، و الجرح لما يندمل، و الرسول لما يقبر، ابتداراً زعمتم خوف الفتنة ألا في الفتنة سقطوا و ان جهنم لمحيطة بالكافرين.

أما لعمر الله لقد لقحت فنظرة ريثما تحلب ثم احتلبوها طلاع القعب دماً عبيطاً هنا لك يخسر المبطلون و يعرف التالون غب ما أسس الأولون ثم طيبوا عن أنفسكم نفساً و ابشروا بسيف صارم و هرج شامل و استبداد من

ص: 106

الظالمين بدع فيأ كم زهيداً وجمعكم حصيداً فيا حسرة عليكم) (1).

لئن كان الصديق و صاحباه يشكلون حزباً ذا طابع خاص فمن العبث أن ننتظر منهم تصريحاً بذلك أو نتوقع أن يعلنوا عن الخطوط الرئيسية لمنهاجهم و يبرروا بها موقفهم يوم السقيفة و مع هذا:

فلا بد من مبرر.

و لا بد من تفسير ...

فقد ظهر في ذلك الموقف تسرعهم إلى اتمام البيعة لأحدهم و تلهفهم على المقامات العليا تلهف لم يكن منتظراً بالطبع من صحابة على نمطيم لأن المفروض فيهم أنهم أناس من نوع أكمل و تقول لا تفكر إلا في صالح المبدأ و لا تعبأ إلا بالاحتفاظ له بالسيادة العليا. أما الملك الشخصي و اما اقتناص الكراسي فلا ينبغي أن يكون هو الغاية في حساب تلامذة محمد (صلى الله عليه و آله و سلم).

أحس الحاكمون بذلك و أدركوا ان موقفهم كان شاذاً على أقل تقدير فأرادوا (رضي الله عنهم) أن يرقعوا موقفهم بالأهداف السامية و الخوف على الاسلام من هبوب فتنة طاغية تجهز عليه و نسوا أن الرقعة

تفضح موضعها و ان الخيوط المقحمة في الثوب تشى بها.

و لذا دوت الزهراء بكامتها الخالدة:-

(زعمتم خوف الفتنة ألا في النتنة سقطو او ان جهنم المحيطة بالكافر بن)

ص: 107


1- وردت هذه القطعة في خطابها الثاني الذي ألقته على نساء المهاجرين و الانصار في بيتها.

نعم انها الفتنة ثم هي ام الفتن بلا ريب.

ما أروعك يا بضعة النبي حين تكشفين القناع عن الحقيقة المرة و تتنبئين لأمة أبيك بالمستقبل الرهيب الذي تلتمع في افقه سحب حمراء؟

ماذا أقول؟.. بل انبار من دم تزخر بالجماجم و هي تنعى على سلمها الصالح فعلهم و تقول: ألا انهم فى الفتنة سقطوا و ان جهنم المحيطة بالكافرين كانت العمليات السياسية يومئذ فتنة و كانت ام الفتن.

كانت فتنة في رأي الزهراء - على الأقل – لأنها خروج على الحكومة الاسلامية الشرعية القائمة في شخص علي هارون النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) و الاولى من المسلمين بأنفسهم (1).

و من مهازل القدر أن يعتذر الفاروق عن موقفه بانه خاف الفتنة و هو لا يعلم ان انتزاع الأمر ممن أراده له رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) باعتراف عمر (2)

ص: 108


1- بنص حديث الغدير الذي رواه (111) من الصحابة و (84) التابعين باحسان و (353) مؤلف من اخواننا السنة كما يظهر بمراجعة كتاب « الغدير » للعلامة الأميني. و أحب أن ألاحظ هنا ان كثيراً من القرآن لم يروه من الصحابة عدد يبلغ مبلغ الرواة الحديث الغدير م فالتشكيك فيه ينتهي بالمشكك إلى التشكيك في القرآن الكريم. و أما دلالة الحديث على خلافة على و امامته فهي أيضا ترتفع عن منهم التشكيك لوضوحها و بداهتها و تعد القرائن عليها و اتراجع في ذلك مراجعات » سيدنا سادن المذهب و حامي التشيع في دنيا الاسلام آيه الله السيد عبد الحسين شرف الدين دام ظله العالي.
2- راجع ج 3 شرح البهيج ص 114 و 105.

هو الفتنة بعينها المستوعبة لكل ما لهذا المفهوم من ألوان.

و أنا لا أدري ما منع هؤلاء الخثنين من الفتنة الذين لا معلمع لهم فى السلطان إلا بمقدار ما يتصل بصالح الاسلام أن يسألوا رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) عن خليفته أو يطلبوا منه أن يعين لهم المرجع الأعلى للحكومة الاسلامية من بعده و قد طال المرض به أياماً متعددة واعلن فيها مراراً عن قرب أجله و اجتمع به جماعة من أصحابه فسألوه عن كيفية غسله و تفصيلات تجهيزه (1) و لم يقع فى أنفسهم مطلقاً أن يسألوه عن المسألة الاساسية بل لم يخطر في بال اولئك الذين أصروا على عمر بأن يستخلف و لا يهمل الأمة وألحوا عليه في ذلك خوفاً من الفتنة (2) أن يطلبوا نظير هذا من رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فهل ترى انهم كانوا حينذاك في غفلة عن اخطار الموقف بالرغم من انذار النبي صلى الله عليه و آله و سلم بن تن كقطع الليل المظالم حتى اذا لحق سيد البشر بالرفيق الأعلى توهجت مشاعر هم بالغيرة على الدين و ملأ قلوبهم الخوف من الفتنة و الانعكاسات السيئة أو تعتقد أن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) كان قد اختار للسفينة ربانها الأفضل و لذلك لم يسأله السائلون.

دع عك هذا و اختلاق لهم ما شئت من المعاذير فان هؤلاء الغيارى على الاسلام لم يكتفوا بترك السؤال بل منعوا رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) من مقاومة الخطر المرتقب حينما أراد أن يكتب كتابا لا يضل

ص: 109


1- راجع تاريخ ابن الاثير ج 2 ص 122.
2- العقد الفرئد ج 3 ص 7.

المسلمون بعده أبداً. والفتنة خلال وإذن فلا فتنة بعد ذلك الكتاب أبداً فهل كانوا يشكون فى صدق النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) أوبرون انهم أقدر على الاحتياط للاسلام والقضاء على الشغب والهرج من نبي الاسلام و رجله الأول.

و خليق بنا أن نسأل عما عناه النبي (صلی اللله علیه و آله و سلم) بالمتن التي جاء ذكرها في مناجاته لقبور البقيع في أخريات أيامه إذ يقول: ليهنكم ما أصبحتم فيه قد أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم (1).

و لعلك تقول: انها متن المرتدين و هذا تفسير يقبل على فرض واحد و هو: ان النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) كان يتخوف لى. و نى البقيع من الارتداد فاما اذا لم يكن يخشى عليهم من ذلك كما - هو في الواقع لأنهم على الأكثر من المسلمين الصالحين و فيهم الشهداء فلما ذا يهنئهم على عدم حضور تلك الأيام و لا يستقيم في منطق صحيح أن بريد بهذه الفتن. المشاغبات الأموية التي قام بها عثمان و معاوية بعد عقود ثلاثة من ذلك التاريخ تقريباً.

و إذن فتلك النتن التي عناها النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) لا بد أن تكون فتنا حادثة بعده مباشرة و لا بد أيضاً أن تكون أكثر اتصالا يموتى البقيع لو قدرت هم الحياة من فتن الردة و المتنبئين.

و هي اذن عين الفتنة التي عنتها الزهراء بقولها: ألا في الفتنة سقطوا و ان جهنم لمحيطة بالكافرين.

ص: 110


1- راجع تاريخ الكامل ج 2 ص 222.

و هل من غضاضة بعد أن يصطلح عليها رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) بالفتنة ان تمنح لقب الفتنة الاولى في دنيا الاسلام.

و قد كانت العمليات السياسية يومئذ فتنة من ناحية أخرى لأنها فرضت خلافة على أمة لم يقتنع بها إلا القليل من لمشاهم سوقتها الذين ليس الحق في تقرير مصير الحكم في عرف الاسلام ولا في لغة القوانين الدستورية جميعا.

تلك هي خلافة الصديق (رضي الله تعالى عنه) عند ما خرج من السقيفة «و عمر يبرول بين يديه و قد نبر حتى از بد شد قاه» و جماعته تحوطه «و هم متزرون بالأزر الصنعانيه لا يمرون باحد إلا خبطوه و قدموه

فيمدوا يده فمسحوها على يد ابي بكر يبايعه شاء ذلك أو أبى (1)»

و معنى هذا ان الحاكمين زفوا إلى المسلمين خلافة لم تباركها السماء و لا رضى بها المسلمون و ان الصديق لم يستمد سلطاته من نص نبوي بالضرورة - و لم ينعقد الاجماع عليه ما دام سعد لم يبايع إلى أن مات الخليفة و ما دام الهاشميون لم يبايعوا إلى ستة أشهر من خلافته - كما في صحيح البخاري -.

قالوا: أن اهل الحل و العقد قد بايعوه و كفى.

و لكن ألايحتاج هذا المفهوم إلى توضيح و إلى مرجع رجع اليه في ذلك؟ فمن هو الذي اعتبر مبايعي ابي بكر أهل الحل و العقد و اعطاهم الصلاحيات الواسعة؟.

ص: 111


1- راجع شرح النهج ج 1 ص 74.

ليس هو الأمة و لا النبي الأعظم، لأننا نعلم أن أبطال السقيفة لم يأخذوا أنفسهم بمناهج الانتخاب غير المباشر و لم يستفتوا المسلمين في تعيين المنتخبين الثانويين الذين اصطلح عليهم في العرف القديم بأهل الحل و العقد

كما انه لم يؤثر عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) إعطاء هذه الصلاحيات لجماعة مخصوصة فكيف تمنح لعدد من المسلمين و يستأمنون على مقدرات الأمة بغير رضى منها في ظل نظام دستوري كنظام الحكم في الاسلام كما زعمون.

و من العجيب في العرف السياسي أن تعين الحكومة نفسها اهل الحل و العقد ثم تكتسب منهم كلتها العليا.

و اعجب من ذلك اخراج علي و العباس و سائر بني هاشم و سعد بن عبادة و الزبير و عمار و سلمان و أبي ذر والمقداد و جميع أهل الحجى و الرأي على حد تعبير ابن عباس لعمر - (1) من اهل الحل و العقد إذا صبح

ان فى الاسلام طبعة مستأثرة بالحل و العقد

و قد جرّ وضع هذه الكلمة في قاموس الحياة الاسلامية إلى تهيئة الجو لارستقراطية هي أبعد ما تكون عن روح الاسلام و واقعه المصفى من الطبقية و العنعنات. و هل كانت تلك الثروات الضخمة التي امتلأت بها اكياس

ص: 112


1- إذ قال له: اما اهل الحجى و النهى فانهم ما زالوا يعدونه - أي عليا - كاملا منذ رفع الله منار الاسلام و لكنهم يعدونه محروما مجدوداً راجع شرح النهج ج 3 ص 115.

عبد الرحمن بن عوف و طلحة واضرا بهما إلا بسبب هذا اللقب المشؤوم على الاسلام الذي لقبوا به فرأوا انهم من الطراز الرفيع الذي يستحق أن يملك الملايين و يتحكم في حقوق الناس كما يريد.

و قالوا: ان الاكثرية هي مقياس الحكومة الشرعية و المبدأ الذي لا بد أن تقوم على اساسه الخلافة.

و قد استهان القرآن الكريم بالاكثرية و لم يجعل منها في حال من الاحوال دليلا و ميزاناً صحيحاً اذ جاء فيه:

ان تطع أكثر من في الارض يضلوك عن سبيل الله ...

(و أكثرهم للحق كارهون).

(و ما يتبع أكثرهم إلا ظنا)

(و لكن أكثرهم يجلون ).

و قد روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في صحاح السنة أنه قال: بينا أنا قائم «يعني يوم القيامة على الحوض» فاذا زمرة حتى اذا عرفتهم خرج رجل من بيني و بينهم فقال: هلم، فقلت أين؟ فقال: الى النار و الله قلت: و ما شأنهم؟ قال انهم ارتدوا بعدك على ادبار هم القهقرى – الى ان قال - : فلا اراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم.

و لا يمكن أن تكون هذه الاكثرية الجهنمية التي حدث عنها رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) المصدر السلطة في الاسلام لأنها لا تنشىء بطبيعة الحال إلا خلافة مطبوعة بطابعها.

و اذا خرجنا بالأكثرية عن حدود المدنييين الذين عرفنا آنفاً

ص: 113

كزهم الجهنمية على الأغلب في الحياة الخالدة و اعتبرنا أكثرية المسلمين عموماً هي المقياس الصحيح فلا بد أن نلاحظ ان المدينة هل كانت وحدها مسكن المسلمين ليكتمل النصاب المفروض بالأكثرية المدنية أو أن أبا بكر لم يكتف بها و أنما بعث إلى المسلمين المنتشرين في أرجاء المملكة بالخبر ليأخذ آراءهم و يستشيرهم? كلا لم يحدث شيء من ذلك و انما فرض حكومته على آفاق المملكة كانها فرضاً لا يقبل مراجعة و لا جدالاً حتى أصبح التردد في الخضوع لها جريمة لا تغتفر.

و قالوا: ان الخلافة تحصل ببيعة بعض المسلمين و لا ريب أن ذلك قد حصل لأبي بكر.

و لكن هذا مما لا يقره المنطق السياسي السليم لأن البعض لا يمكن أن يتحكم فى شؤون الأمة كلها و لأن حياة الأمة لا يمكن أن تعلق على خيط ضعيف كهذا الخيط و تركن في حفظ مقدساتها و مقامها إلى حكومة. أنشأها جماعة من الصحابة لم تركهم الجماع شعبى و لا نص مقدس بل هم أناس عاديون من الصحابة. و نحن نعلم أن «منهم الذين يؤذون النبي و يقولون هو أذن * و منهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن و لنكونن من الصالحين * فلما آتاهم من فضله بخلوا به و تولوا و هم معرضون فأعقبهم نفاقاً في قلو بهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما و عدوه و مما كانوا يكذبون * » و منهم من خص الله تعالى نفسه بالاطلاع على سرائرهم و نفاقهم فقال لرسوله: (و من أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم).

ص: 114

فجماعة فيها المنافق و فيها من يؤذي رسول الله و فيها الكاذب لا يمكن أن يعتبر رأي بعضهم أياً كان ملاكا للنصب الأول في العالم الاسلامي.

و تعلية على هذه المعلومات نقول: ان خلافة الصديق لم تكن خلافة نص و لا خلافة اكثرية و لا نتيجة انتخاب مباشر و لا غير مباشر، نعم بذل فى سبيلها بعض المسلمين جهوداً رائعة و التفت حولها طائفة من الناس و انتصرت لها جماعات عديدة في المدينة و لكن هؤلاء جميعاً ليسوا إلا بعض المسامين و البعض ليس له حكم مطاع في الموضوع لأن الحكم الذي يستمد معنويته القانونية من الأمة يلزم أن يكون صاحبه ممثلا للامة بجميع عناصرها أو اكثر عناصرها هذا أولاً و أما ثانياً فلان في المسلمين نافقين لا يعلمهم إلا الله بنص القرآن الكريم و تنزيه هذا البعض المتوفر على انشاء الكيان السياسي للأمة حينئذ عن النفاق لا بد أن يكون عن طريق النص

أو الأمة.

و إذن فليسمح لنا الصديق أن نميل إلى رأي الزهراء بعض الميل أو كل الميل، لأننا لا نجد للفتنة واقعاً أوضح من تسلط رجل بلا وجه قانوني على أمة و تصرفه فى مرافقها الحيوية جميعاً كالصديق (رض) في أيام خلافته أو في الأشهر الأولى أو في الاسابيع الأولى من حكومته انتي خطبت فيها الزهراء - على أقل تقدير -.

و ما أدري هل خطرت المتسرعين المستبدين نتائج استبدادهم و استقلالهم عن العناصر التي كان من الطبيعي أن يكون لها رأي فى الموضوع لو قامت تلك العناصر بالمعارضة و استعد الهاشميون للمقاومة و قد كان تقدير

ص: 115

هذا المعنى قريباً و معقولا إلى حد بعيد فكيف لم يختلطوا له و انتهوا إلى نتيجتهم المطلوبة فى مدة قد لا تزيد على ساعة.

و لماذا نقدس الموقف اكثر مما قدسه أبطاله فقد بلغ من تقديس الفاروق له أنه أمر بقتل من عاد إلى مثل بيعة أبي بكر و كرر ذلك الموقف

و اذا أردنا أن نأخذ هذا الكلام و نفهمه على انه كلام إمام يراعي دستور الاسلام: فمعنى ذلك أنه رأى موقف ابي بكر واصحابه في السقيفة فتنة و فساداً لأن القتل لا يجوز بغير ذلك من الاسباب.

و هي بعد ذلك كله أم الفتن لانها هي التي جعلت الخلافة سلطان الله الذي يأتيه البر و الفاجر كما صرحت بذلك السيدة عائشة (رض) التي كانت بلا شك تمثل نظريات الحزب الحاكم (1).

و هي التي فتحت الأهواء و الاطماع السياسية ميدانها الواسع فتولدت الاحزاب و تناحرت السياسات و تفرق المسلمون و انقسموا شر ذهب بكيانهم الجبار و مجدهم في التاريخ.

و ماذا ظنك بهذه الامة التي أنشأت في ربع قرن المملكة الأولى في أرجاء العالم بسبب أن زعيم المعارضة للحكومة في ذلك الحين أغني عليا - لم يتخذ للمعارضة أسبابها المزعزعة لكيان الامة و وحدتها.

أقول: ماذا تقدر لها من مجد و سلطان و هيمنة على العالم لو لم تبتل بعشاق الملك المنضار بين و الامراء السكارى بنشوة السلطان و لم تكن مسرحاً للمعارك الدامية التي يغل نظيرها في التاريخ و لم يستغل حكلمها

ص: 116


1- راجع الدر المنثور ج 2 ص 19.

المشمون إمكانيات الامة كلها للذاتهم و هنائهم و يستهينون بعد ذلك بقدراتها جميعاً.

ينظر الصديق و الفاروق إلا إلى زمانها الخاص فتصورا ان في طاقتهما حماية الكيان الاسلامي و لكنهما لو تعمقا في نظرتهما كما تعمقت الزهراء و توسعاً في مطالعة الموقف لعرفا صدق الانذار الذي انذرتها به

الزهراء.

ص: 117

ص: 118

محكمة الكتاب

- 5 -

محكمة الكتاب

ان الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها و اذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ان الله نعما يعظكم به ان الله كان سميعاً بصيراً.

(القرآن الكريم)

ص: 119

محكمة بالكتاب

اذا أردنا أن ترتفع بمستوى دراستنا إلى مصاف الدراسات الدقيقة

فلا بد أن نأخذ أنفسنا بمناهج البحث العلمي في درس ناحيتين:

الناحية الأولى: موقف الخليفة تجاه ميراث الزهراء الذي كان يستند فيه إلى ما رواه عن رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) في موضوع الميراث بأساليب متعددة و صور مختلفة لتعدد مواجهات الخصمين فجاءت الأحاديث التي تنقل روايته و هي لا تتفق على تعبير واحد و لا تجمع على لفظ معين لاختلاف المشاهد التي ترويها و اختصاص كل منها بصيغة خاصة للحديث على حسب ما كان يحضر الخليفة من عبائر أو لتعدد الرويات التي رواها في المسألة

* * *

1 - و قبل كل شيء نريد أن نلاحظ مقدار تأكد الخليفة من صحة الحديث الذي رآه دالا على نفي توريث التركة النبوية و اطمئنانه إلى سماع ذلك من رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) و ثباته عليه و يمكننا

ص: 120

فهم ذلك مما تحدثنا به الروايات (1) من أن الخليفة سلم فدكاً للحوراء و كاد الأمر أن يتم لولا أن دخل عمر و قل له: ما هذا؟ فقال له: كتاب كتبته الفاطمة بميراثها من أبيها، فقال: مماذا تنفق على المسلمين و قد حاربتك العرب كما ترى ثم أخذ الكتاب فشقه، و نحن ننقل هذه الرواية في تحفظ و ان كنا نستقرب صحتها لأن كل شيء كان يشجع على عدم حكاية هذه القصة لو لم يكن لها نصيب من الواقع. و إذا صحت فهي تدل على ان أمر التسليم وقع بعد الخطبة الفاطمية الخالدة و نقل الخليفة لحديث نفي الارث عن رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) لأن حروب الردة التي أشار اليها عمر في كلامه ابتدأت بعد يوم السقيفة بعشرة أيام (2) و خطبة الزهراء قد كانت في اليوم العاشر أيضاً كما سبق (3).

2 - و قد أظهر الخليفة الندم في ساعة وفاته على عدم تسليم فدك الفاطمة (4) و قد بلغ به التأثر حيناً أن قال الناس و قد اجتمعوا حوله: افيلوني بيعتي، و ندرك من هذا ان الخليفة كان يطوي نفسه على قلق عظيم مرده إلى الشعور بنقص مادي في حكمه على فاطمة و ضعف في المدرك الذي

ص: 121


1- ذكره سبط ابن الجوزي كما فى السيرة الخلية ج 3 ص 391.
2- راجع مروج الذهب ج 2 ص 193.
3- و اهل هذا يضعف من شأن الرواية لأن الخليفة لو كان مستعداً للتراجع لأجاب الزهراء إلى ما تطلب في المسجد حينا خطبت و أسمعته من التأنيب و التقريع الشيء الكثير.
4- رواه الطبرى كما في ص 18 من سمو المعنى في سمو الذات للاستاذ الكبير الشيخ عبد الله العلائلي.

استند اليه ويثور به ضميره أحياناً فلا يجد فى مستنداته ما يهدى نفسه المضطربة و قد ضاق بهذه الحالة المربرة فطفحت نفسه في الساعة الأخيرة بكلام يندم فيه على موقفه من الزهراء تلك الساعة الحرجة التي يتمثل فيها اللانسان ما مثله على مسرح الحياة من فصول اوشك الستار أن يسدل عليها و تجتمع في ذاكرته خيوط حياته بألوانها المختلفة التي آن لها أن تنقطع فلا يبقى منها إلا التبعات.

3 - و لا ننسى أن أبا بكر أوصى أن يدفن الى جوار رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) و لا يصح ذلك إلا إذا كان قد عدل عن اعتبار روايته مدركاً قانونياً في الموضوع و استأذن ابنته فى أن يدفن فيما و رثته من أرض الحجرة - اذا كان المزوجة نصيب في الارض و كان نصيب عائشة بسع ذلك - و لو كان يرى أن تركة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) صدقة مشتركة بين المسلمين عامة للزمه الاستئذان منهم، وهب ان البالغين اجازوا ذلك فكيف بالاطفال و القاصرين ممن كانوا في ذلك الحين.

4 - و نحن نعلم أيضاً ان الخليفة لم ينتزع من نساء النبي بيوتين و مساكنهن التي كن يسكن فيها في حياة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فما عساه أن يكون سبب التفريق الذي انتج انتزاع فدك من الزهراء و تخصيص حاصلاتها للمصالح العامة و ابقاء بيوت نساء النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) لهن يتصرفن فيها كما يتصرف المالك فى ماله؟ حتى تستأذن عائشة في الدفن في حجرتها أكان الحكم بعدم التوريث مختصاً ببضعة النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» أو أن بيوت الزوجات كانت نحلة لهن فلنا أن نستفهم عما اثبت ذلك عند الخليفة

ص: 122

و لم تقم بينة عليه و لا ادعته واحدة منهن و ليست حيازتهن للبيوت في زمان رسول الله «صلى الله عليه و آله و سلم» شاهداً على ملكيتهن لها لأنها ليست حيازة استقلالية بل من شؤون حيازة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) ككل زوجة بالنسبة إلى زوجها. كما ان نسبة البيوت اليهن في الآية الكريمة - و قرن في بيوتكن - لا يدل على ذلك لأن الاضافة يكفي في صحتها ادنى ملابسة وقد نسبت إلى النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) في القرآن الكريم بعد تلك الآية مقدار قليل إذ قال الله تبارك و تعالى: يا ايها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم فاذا كان الترتيب القراني حجة لزم الأخذ بما تدل عليه هذه الآية و ورد في صحاح السنة عن رسول الله (صلی الله علیه و آله سلم) إسناد البيت اليه في قوله: ان ما بين بيتي و منبري روضة من رياض الجنة.

5 - و لنتساءل عما اذا كان الحكم بعدم توريث الأنبياء الذي ذهب اليه الخليفة مما اختزنه الوحي لخاتم المرسلين (صلى الله عليه و آله و سلم) و اقتضت المصلحة تأخيره عن وقت الحاجة و اجراءه على الصديقة دون سائر ورثة الأنبياء أو أن الرسل السابقين قد أهملوا تبليغه و تعريف خلفائهم و ورثتهم به طمعاً بالمادة الزائفة و استبقاء لها في أولادهم و آلهم أو أنهم كانوا قد انتهجوا هذا الطريق و نفذوا الحكم بعدم التوريث و مع ذلك لم يؤثر في التواريخ جميعاً أو ان السياسة السائدة يومذاك هي التي أنشأت هذا الحكم.؟

6 - و من جهة أخرى هل يمكننا أن نقبل ان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يجر على أحب الناس اليه و أقر بهم منه البلايا و الشدائد و هي التي يغضب

ص: 123

لغضبها و يسر لسرورها وينقبض لانقباضها (1) و لم يكن ليكافه دفع هذه المحن عنها أكثر من أعلامها بحقيقة الأمر لئلا تطلب ما ليس لها يحق و كأن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لذله أن ترزى ابنته ثم تتسع هذه الرزية فتكون أداة اختلاف و صخب بين المسلمين عامة و هو الذي أرسل رحمة للعالمين فقى مصراً على كتمان الخبر عنها مع الاسرار به إلى أبي بكر.

* * *

1 - لأجل أن نلقى نظرة على الحديث من الناحية المعنوية بعد الملاحظات التي أسلفناها نقسم صيغه التي جاءت في روايات الموضوع إلى قسمين:-

«الاول» ما جاء في بعضها من أن أبا بكر بكى لما كليته فاطمة ثم قال يا بنت رسول الله و الله ما ورث أبوك ديناراً و لا درهما و انه قال: ان الانبياء لا يورثون و ما ورد في حديث الخطبة من قوله: أني سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يقول: إنا معاشر الانبياء لا نورث ذهباً و لا فضة و لا أرضاً و لا عقارا و لا دارا لكنما نورث الايمان و الحكمة و العلم و السنة.

«الثاني» التعبير الذي تنقله عدة أخبار عن الخليفة و هو ما رواه عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) من أنا لا نورث ما تر کناه صدقة.

2 - و النقطة المهمة في هذا البحث هي معرفة ما اذا كانت هذه الصيغ تدل بوضوح لا يقبل تشكيكا و لا تأويلا - و هو النص في العرف العلمي - على أن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) لا نورث تركته أو ما

ص: 124


1- هذه صيغ احاديث متعددة وردت في الصحاح عن النبي.

إذا كانت تصلح للتعبير بها عن معنى آخر و إن كانت للتعبير بها عن الحكم بعدم التوريث أصلح -- و هو الظاهر في الاصطلاح - و المسألة تندير ثالث و هو أن لا يرجح المعنى الذي هو في صالح الخليفة على ما قد يؤدي

باللفظ من معان آخر - و هو المجمل.

3 - اذا لاحظنا القسم الاول من صيغ الاول من صيغ الحديث وجدنا رواياته تقبل أن تكون بيانا لعدم تشريع توريث الانبياء كما فهمه الخليفة و يمكن أن تكون كناية عن معنى لا يبعد ان يقع في نفس رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) بيانه و هو تعظيم مقام النبوة و تجليل الانبياء. و ليس من مظهر للجلالة الروحية و العظمة الالهية أجلى دلالة و أكثر مادية من الزهد في الدنيا و لذائدها الزائنة و متعها الفانية فلما ذا لا يجوز لنا افتراض ان النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) أراد أن يشير إلى ان الانبياء أناس ملائكيون و بشر من الطراز الاسمى الذي لا تشوبه الانانيات الارضية و الاهواء البشرية لأن طبيعتهم قد اشتقت من عناصر السماء - معناها الرمزي - المتدفقة بالخير لا من مواد هذا العالم الارضي فهم أبداً و دائما منابع الخير و الطالعون بالنور و المورثون الامان و الحكمة و المركزون للسلطان الالهي فى الارض و ليسوا مصادراً للثروة معناها المصطلح عليه فى عرف الناس و لا بالساعين وراء نائسها و لما ذا لا يكون قوله: انا معاشر الانبياء لا نورث ذهباً و لا فضة و لا ارضا و لا عقاراً و لا داراً كناية عن هذا المعنى لأن توريثهم لهذه الاشياء انما يكون بحيازتهم لها و تركهم اياها بعد موتهم و هم منصرفون عنها لا يحسبون لها حساباً و لا يقيمون لها و زناً ليحصلوا على شيء منها فما هو تحت اللفظ نفي التوريث

ص: 125

لعدم وجود التركة كما اذا قلنا: ان الفقراء لا يورثون لا أنهم يختصون عن سائر الناس بحكم يقضي بعدم جريان احكام الارث على تركانهم. و الهدف الاصلي من الكلام بيان جلال الانبياء. و هذا الاسلوب من البيان مما يتفق مع الاساليب النبوية الرائعة انتي تطفح بالمعاني الكبار و تزخر بأسماها فى موجاتها اللفظية القصيرة.

4 - و لكي تتفق معي على تفسير معين للحديث يلزم أن نعرف - معنى التوريث لنفهم الجملة النافية له كما يلزم . ومعنى التوريث جعل شيء ميراثاً فالمورث من يكون سبباً لانتقال المال من الميت إلى قريبه. و هذا الانتقال يتوقف على أمرين:-

«أحدهما» وجود التركة.

«و الآخر» القانون الذي يجعل اللوارث حصة من مال الميت و يحصل الاول بسبب نفس الميت و الثاني بسبب ء الذي وضع قانون الوراثة سواء أكان فرداً اسندت اليه الناس الصلاحيات التشريعية أو هيئة تقوم على ذلك أو نبيا يشرع بوحي من السماء فكل من الميت و المشرع له نصيب من ايجاد التوارث و لكن المورث الحقيقي الذي يستحق التعبير عنه بهذا اللفظ بحق هو الميت الذي أوجد مادة الارث لانه هو الذي هيأ للارث شرطه الاخير بما خلفه من ثروة و اما المشرع فليس مورثاً من ذلك الطراز لانه لم يجعل بوضعه للقانون ميراثاً معيناً بالفعل بل شرع نظاما يقضي بأن الميت اذا كان قد ملك شيئاً و خلفه بعد موته فهو لا قاربه و هذا وحده لا يكفى لايجاد مال موروث فى الخارج بل يتوقف على ان يكون

ص: 126

الميت قد اصاب شيئاً من المال و خلفه بعده.

فالواضع التشريعي نظير من يضيف عنصراً خاصاً إلى طبيعة من الطبائع فيجعلها قابلة لاحراق ما يلاقيها فاذا القيت اليها بورقة فاحترقت كنت انت الذي احرقتها لا من اضاف ذلك العنصر المحرق الى الطبيعة و القاعدة التي تعلل ذلك ان كل شيء يسند بحسب اصول التعبير إلى المؤثر الاخير فيه و على ضوء هذه القاعدة تعرف ان نسبة التوريث الى شخص تدل على انه المؤثر الاخير فى الارث و هو الموروث الذي اوجد التركة فالمفهوم من جملة ان الانبياء يورثون انهم يحصلون على الاموال و يجعلونها تركة من بعدهم و إذا نفى التوريث عنهم كان مدلول هذا النفي انهم لا يهيؤون للارث شرطه الاخير و لا يسعون وراء الاموال ليتركوها بعد وفاتهم لورثتهم، و اذن فليس معنى ان الانبياء لا يورثون عدم التوريث التشريعي و نفي الحكم بالارث لان الحكم بالارث ليس توريثاً حقيقياً بل التوريث الحقيقى تهيئة نفس التركة و هذا هو المنفى في الحديث.

و على طراز آخر من البيان ان التوريث الذي نفاه خاتم النبيين عن الانبياء ان كان هو التوريث التشريعي كان مفاد النفي الغاء قانون الارث من شرائع السماء، لان توريثهم التشريعي لا يختص بورثتهم حتى يكون المنفي توريثهم خاصة و ان كان هو التوريث الحقيقي بمعنى تهيئة الجو المناسب الارث سقطت العبارة عما أراد لها الصديق من معنى و كان معناها ان الانبياء لا تركة لهم لتورث.

5 - و في الرواية الاولى مهد الخليفة للحديث بقوله: و الله ماورث

ص: 127

ابوك ديناراً و لا درهما و هذا التعبير واضح كل الوضوح فى نفي التركة و عدم ترك رسول الله ص) شيئاً من المال فاذا صح للخليفة ان يستعمل تلك الجملة فى هذا المعنى فليصح ان تدل صيغة الحديث عليه ايضا و يكون هو المقصود منها.

6 - و اذا لاحظنا الامثلة التي ذكرت في الرواية الثانية نجد فيها ما يعزز قيمة هذا التفسير لان ذكر الذهب و الفضة و العقار و الدار - مع انها من مهمات التركة - لا يتفق مع تفسير الحديث بأن التركة لا تورث لان اللازم ذكر اتنه الاشياء لبيان عموم الحكم بعدم الارث لسائر مصاديق التركة كما اذا اذا اردنا ان نوضح عدم ارث الكافر لشيء من تركة ابيه لم نقل: ان الكافر لا يرث ذهب و لا فضة و لا داراً و انما نقول: أنه لا يرث تمرة واحدة من تركة الميت و بتعبير واضح ان الاهتمام بتوضيح عموم الحكم لكل اقسام التركة يقتضي التصريح ببعض اقسام الال الذي قد يتوهم. توهم عدم اندراجه فى التركة التي لا تورث و قولها: الانبياء لا يورثون او ان الكفار لا نصيب لهم من تركة آبائهم بدل اول ما يدل على عدم انتقال الدار و العقار و الذهب و الفضة و غيرها من نفيس التركة و مهمها فذكر هذه الامور في الحديث يرجح أن المقصود بنفي توريث الانبياء بيان زهدهم و عدم اهتمامهم بالحصول على نفائس الحياة المحدودة التي يتنافس فيها المتنافسون لأن المناسب لهذا الغرض ذاكر لاموال المهمة انتى تكون حيازتها و توريثها منافيا الزهد و المقامات الروحية العليا. و اما الاخبار عن عدم التوريث في الشريعة فاللائق به ذكر التوافه من التركة دون اقسامها

ص: 128

الواضحة المهمة.

7- و أمر آخر يشهد لما ذكرناه من التفسير و هو الجملة الثانية الايجابية في الحديث أي جملة. و لكنا نورث الايمان و الحكمة و العا و السنة فانها لا تدل على تشريع وراثة هذه الأمور بل على توفرها في الأنبياء إلى حد يؤهلهم لنشرها و اشاعتها بين الناس فقد نفهم حينئذ أن المراد بالجملة الأولى التي نفت التوريث بيان ان الأبياء لا يسعون للحصول على الذهب و العقار و نحوهما و لا يكون لهم من ذلك شيء ليرثه آلهم.

8 - و لا يجوز لنا أن نقيس عبارة الحديث المروية عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) بقوله: ان الناس لا يورثون الكافر من أقاربهم، بل يلزمنا أن نفرق بين التعبيرين لأن المشرع إذا تكلم عمن يشرع لهم أحكامهم كان الظاهر من كلامه انه باقى بذلك عليهم حكما من الأحكام. فاخبار النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) عن عدم توريث الناس للكافر من أقاربهم لا يصح تفسيره بأنه اخبار فقط بل يدل فوق هذا على ان الكافر لا يرث في شريعته و تختلف عن ذلك العبارة التي نقاها الخليفة لأن موضوع الحديث فيها هو الأنبياء لا جماعة ممن تشملهم تشريعات النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) و احكامه فليس في الأمر ما يدل على حكم وراء الاخبار عن عدم توريثهم.

9 - وليس لك أن تعترض بأن الأنبياء كثيراً ما يحوزون على شيء مما ذكر فى الحديث فيلزم على ما ذكرت من التفسير أن يكون الحديث كاذبا لأنك قد تتذكر ان الذي نفي عن الأنبياء هو التوريث خاصة و هو

ص: 129

ينطوي على معنى خاص و أعني به اسناد الارث الى المورث و هذا الاسناد يتوقف على أن يكون المورث قد سعى في سبيل الحصول على المال الذي تر كه ميراثاً بعده كما يتوقف معنى المهذب على استعمال وسائل التهذيب فاذا استطاع شخص أن يقرأ أفكار عالم من علماء الاخلاق و يهذب نفسه على هدي تلك الافكار لم يصح تسمية ذلك العالم مهذبا لأن ايجاد أي شي. سواء أكان تهذيباً أو توريثاً أو تعليما أو نحو ذلك لا يستقيم اسناده إلى شخص إلا إذا كان للشخص عمل ايجابي و تأثير ملحوظ في تحقق ذلك الشيء الموجود و الأنبياء و ان حازوا شيئاً من العقارات و الدور و لكن ذلك لم يكن بسعي منهم وراء المال كما هو شأن الناس جميعاً. و نقرر علاوة على هذا ان المقصود من الكلام ليس هو بيان ان الانبياء لا يورثون و لا يتركون مالاً بل ما يدل عليه ذلك من مقامهم و امتيازهم و ما دامت الجملة كذلك و لم يكن الهدف الحقيقي منها بيان معناها الحرفي فلا يمنع حيازة الأنبياء لبعض تلك الاموال عن صواب التفسير الذي قدمناه كما ان من كنى قديماً عن الكريم بأنه كثير الرماد لم يكن كاذباً سواء أكان فى بيت الكريم رماد او لا لأنه لم يرد نعته بهذا الوصف حقا و انما اشار به الى كرمه لأن أظهر لوازم الكرم يومذاك كثرة المطابخ الموجبة لكثرة الرماد و عدم التوريث من اوضح آثار الزهد و الورع فيجوز أن يكون رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) قد اشار إلى ورع الانبياء بقوله: ان الانبياء لا يورثون

10 - و لاجل ان تتبين معنى القسم الثاني من صبغ الحديث يلزمنا ان نميز بين معان ثلاثة -:

ص: 130

الاول : ان تركة الميت لا تورث و معنى هذا ان ما كان يملكه الى حين وفاته و تركه بعده لا ينتقل إلى اله بل يصبح صدفة حين موته.

الثاني: ان ما تصدق به الميت في حياته او اوقفه على جهات معينة لا يورث بل يبقى صدقة و وقع و الورثة انما يرثون غير الصدقات من الاموال التی كان يملكها الميت الى حين وفاته.

الثالث: ان الشخص ليس لديه أموال مملوكة له لتورث و كل ما سوف يتركه من أموال انما هو من الصدقات و الاوقاف.

و متى عرفنا الفارق بين هذه المعاني يظهر ان صيغة الحديث ليست واضحة كل الوضوح و لا غنية عن البحث و التمحيص بل فى طاقتها التعبيرية امكانيات التفسير بالمعاني الآنفة الذكر جميعاً فان النصف الثاني من الحديث و هو - ما تركناه صدقة - يجوز أن يكون مستقلاً في كيانه المعنوي مركباً من مبتدأ و خبر و يمكن ان يكون تكملة الجملة لا زورث ففي الحال الاولى يقبل الحديث التفسير بالمعنى الأول و الثالث من المعاني السابقة لان جملة - ما تركناه صدقة - قديراد بها ان التركة لا تنتقل من ملك الميت إلى اله و انما تصبح صدقة بعد موته و قد يقصد بها بيان المعنى الثالث و هو ان جميع التركة صدقة و لم يكن يملك منها البيت شيئاً ليورث كما اذا اشار الانسان الى امواله و قال: ان هذه الاموال ليست ملكالي و انما هي صدقات اتولاها و الحديث على تقدير ان تكون له وحدة معنوية يدل على المعنى الثاني اي ان الصدقات التي تصدق بها الميت في حياته لا تورث دون سائر تركته و يكون الموصول مفعولا لا مبتدأ و يتضح من الصيغة على هذا التقدير

ص: 131

نفس ما يفهم منها اذا انعكس الترتيب فيها و جاءت هكذا: - ما تركناه صدفة لا نورثه - فكما يؤتى بهذه الجملة لبيان ان الصدقات لا نورث لا أن كل أقسام التركة صدقة كذلك يصح أن يقصد نفس ذلك المعنى من صيغة الحديث بترتيبها المأثور فتكون دليلا على عدم انتقال الصدقات الى الورثة لا على عدم تشريع الارث اطلاقا و قد يكون من حق سيبويه علينا أن نشير إلى ان قواعد النحو ترفع كلمة صدقة على تقدير استقلال - ما تركناه صدقة - معنوياً و تنصبها على التقدير الآخر. و من الواضح ان الحركات الاعرابية لا تلحظ في التكلم عادة بالنسبة إلى الحرف الأخير من حروف الجملة للوقوف عليه المجوز لتسكينه.

11 - و اذن فقد وضعنا بين يدي الحديث عدة من المعاني في سبيل البحث عن مدلوله و ليس من الاسراف فى القول ان نقرر ان تفسير الحديث بما يدل على ان أموال النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) تكون صدقة بعد موته لا يرجح على المعنيين الآخرين بل قد نقبين لوناً من الرجحان للمعنى الثاني - و هو أن المتروك صدقة لا يورث - دون سائر التركة اذا تأملنا ضمير الجمع في الحديث و هو النون و هضمنا دلالته كما يجب لأن استعماله في شخصه الكريم خاصة لا يصح إلا على سبيل المجاز ثم هو بعد ذلك بعيد كل البعد تواضع رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في قوله و فعله فالظواهر تجمع على أن النون قد استعملت في جماعة و ان الحكم الذي تقرره العبارة ثابت لها و ليس مختصاً بالنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) و الأوفق باصول التعبير أن تكون هذه الجماعة جماعة المسلمين لا الأنبياء لأن الحديث مجرد عن قرينة تعين هؤلاء و لم يسبق بعهد يدل

ص: 132

عليهم و ليس لك أن تعترض بأن صيغة الحديث يجوز انها كانت مقترنة حال صدورها من النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) بقرينة أو مسبوقة بعهد يدل على ان مراده من الضمير جماعة الأنبياء لأن اللازم أن تعتبر عدم ذكر الخليفة الشيء من ذلك - مع ان الراوي لحديث لا بد له من نقل سائر ما يتصل به مما يصلح لتفسيره - دليلاً على سقوط هذا الاعتراض. و اضف إلى هذا ان اغفال ذلك لم يكن من صالحه و إذن فليكن الواقع اللفظي للحديث هو الواقع المأثور عن الخليفة بحدوده الخاصة بلا زيادة و لا نقيصة.

و المفهوم من الضمير حينئذ جماعة المسلمين لحضورهم ذاتاً عند صدور العبارة من النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) و قد جرت عادة المتكلمين على انهم اذا أوردوا الناس و ادرجوا فيها ضمير المتكلم الموضوع للجماعة أن جملة في مجتمع من يريدوا بالضمير الجماعة الحاضرة فلو أن شخصاً من العلماء اجتمع عنده جماعة من أصدقائه و اخذ يحدثهم و هو يعبر بضمير المتكلم الموضوع للجمع بلاسبق ذكر العلماء أنهم من الضمير ان المتكلم يعنى بالجماعة نفسه مع اصدقائه الحاضرين لا معشر العلماء الذين يندرج فيهم و لو أراد جماعه غير اولئك الحاضرين لم يكن مبينا بل ملغزاً. و تعلية على هذا التقدير ماذا تراه يكون هذا الحكم الذي اثبته الحديث للمسلمين - الذين قد عرفنا أن الضمير يدل عليم - هل يجوز أن يكون عبارة عن عدم توريث المسام لتركنه ? أو أن الأموال التي عند كل مسلم ليست ملكاً له و انما هي من الصدقات. كلاً. فان هذا لا يتفق مع الضروري من تشريع الاسلام لأن المسلم في عرف القرآن تملك بألوان متعددة من أسباب الملك عند الناس و يورث ما يتركه

ص: 133

من أموال بعد وصية يوصي بها أو دين، و أنت ترى معي الآن بوضوح، ان الحكم ليس إلا أن الصدقة لا تورث فان هذا أمر عام لا يختص بصدقة دون صدقة بل يطرد في سائر صدقات المسلمين. و لا غرابة في بيان الحكم بعدم توريث الصدقات في صدر زمان التشريع. مع وضوحه الآن. لأن قواعد الشريعة و أحكامها لم تكن قد تقررت و اشتهرت بين المسلمين فكان لاحتمال انفساخ الصدقات و الاوقاف بموت المالك و رجوعها إلى الورثة متسع.

و لا يضعضع قيمة هذا التفسير عدم ذكر الزهراء له و اعتراضها به على الخليفة.

اما أولاً: فلأن الموقف الحرج الذي وقفته الزهراء في ساعتها الشديدة لم يكن ليتسع لمثل تلك المناقشات الدقيقة حيث ان السلطة الحاكمة

التي كانت تريد تنفذ و بصورة حاسمة قد سيطرت على الموقف بصرامة وعزم لا يقبلان جد الا ولذا نرى الخليفة لا يزيد في جواب استدلال خصمه بانت ميراث الأنبياء على الدعوى الصارمة إذ يقول هكذا هو كما فى طبقات ابن سعد - فا يكن مصير هذه المناقشات لو قدر لها أن تساهم في الثورة بنصيب الا الرد و الفشل.

و أما ثانياً: فلأن هذه المناقشات لم تكن تتصل بهدف الزهراء و غرضها الذي كان يتلخص في القضاء على جهاز الخلافة الجديدة كابا فمن الطبيعي أن تقتصر على الاساليب التي هي أقرب إلى تحقيق ذلك الغرض فتراها مثلا في خطابها الخالد خاطبت عقول الناس و فلو بهم معاً و لكنها لم

ص: 134

تتجاوز في احتجاجها الوجوه البديهية التي كان من القريب أن يستنكر اغضاء الخليفة عنها كل احد، و نجر ذلك الاستنكار إلى معارضة حامية.

فقد نفت وجود سند الحكم الخليفة من الكتاب الكريم ثم ذكرت ما يخالفه من الآيات العامة المشرعة للتوارث بين سائر المسلمين (1) و الآيات الخاصة الدالة على توريث بعض الانبياء كيحيي و داود عليهما السلام، ثم عرضت المسألة على وجه آخر و هو: ان ما حكم به الخليفة لو كان حقا الزم أن يكون أعلم من رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) و وصيه لانهما لم يخبراها بالخبر مع انهما لو كانا على علم به الأخيراها به، و من الواضح ان الصديق لا يمكن أن يكون اعلم بحكم البركة النبوية من النبي «ص» أو علي الذي ثبتت وصايته الرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) و ذلك في قولها:

يا ابن ابي قحافة أبي كتاب الله أن ترث أباك و لا ارث ابي؟ لقد جثت شيئاً فرياً: أفعلى عمد تركنم كتاب الله و نبذتموه وراء ظهور كم؟ إذ يقول: و ورث سلمان داود، و قال فيها اقتص من خبر يحيى بن زكريا (رب هب لي من لدنك ولي يرثني و يرث من آل يعقوب) و قال (و اولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض فى كتاب الله) أخصكم الله بآية أخرج منها أبي ؟ أم هل تقولون: أهل ملتين لا يتوارثان?! أولست أنا و أبي من

ص: 135


1- من الواضحات العلمية اخيراً ان الخبر الواحد المعتبر يصلح لتخصيص الكتاب لا نه حاكم او وارد كما هو الصحيح على اصالة العموم و اصالة الاطلاق و انما احتجت الزهراء بالآيات العامة لانها لم تكن تعترف بوثافة الصديق و عدالته.

أهل ملة واحدة؟ أم انتم اعلم بخصوص القرآن و عمومه من أبي و ابن عمي؟! . (1)

و كانت أبرز الناحيتين في ثورتها الناحية العاطفية و ليس من العجيب أن تصرف الزهراء أكثر جهودها في كسب معركة القلب فانه السلطان الأول على النفس و المهد الطبيعي الذي تترعرع فيه روح الثورة.

و قد نجحت الحوراء في تلوين صورة فنية رائعة تهز المشاعر و تكهرب العواطف و تهيمن على القلوب كانت هي أفضل سلاح تتسلح به امرأة في ظروف كظروف الزهراء.

و لأجل ان نستمتع بالجمل الفني في تلك الصورة الملونة بأروع الالوان لا بأس بأن نستمع إلى الصديقة حين خاطبت الانصار بقولها: يا معشر البقية. و أعضاد الملة، و حضنة الاسلام، ما هذه الفترة عن نصرتي و الونية عن معونتي، و الغمزة في حقي: و السنة عن ظلامتي أما كان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يقول: المرء يحفظ في ولده، سرعان ما احدثتم و عجلان ما أتيتم، الآن مات رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، أمتم دينه ها ان موته لعمري خطب جليل، استوسع و هنه، و استبهم فتقه، و فقدر انقه و اظلمت الارض له، و خشعت الجبال و اكدت الآمال، اضيع بعده الحريم، و هنكت الحرمة و اذيلت المصونة و تلك نازلة اعلن بها كتاب الله قبل موته و انباً كم بها قبل وفاته فقال: (و ما محمد إلا رسول قدخلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم و من ينقلب على

ص: 136


1- نقلنا هذه القطعة على وجه الاختصار.

تقيه فان يضر الله شيئاً و سيجزي الله الشاكر بن (أيها بني قبلة المنضم تراث ابي برأى و مسمع، تبلهم الدعوة، و يشمليكم الصوت و فيكم العدة و المدد و الحكم الدار و الجنن، و انتم نخبة الله التي انتخب و خيرته التي اختار الخ ..

و اذن فلم تكن المناقشات فى تفسير الحديث و تأويله مما تهضمها السلطات الحاكمة و لا هي على علاقة بالغرض الرئيسي للناثرة من ثورتها.

و هذا يفسر لنا عدم تعرضها للنحاة في خطابها أيضاً.

1 . يجب الآن توضيح موقف الخليفة تجاه الزهراء في مسألة الميراث و تحديد رأيه فيها - بعد أن أوضحنا حظ الصيغ السابقة من وضوح المعنى و خفائه - و هو موقف لا يخلو من تعقيد اذا تعمقنا شيئا ما في درس المستندات التاريخية للقضية و مع ان المستندات كثيرة فانها مسألة محيرة أن تعرف ماذا عسى أن تكون النقطة التي اختلف فيها للتنازعان. و من الصعوبة توحيد هذه النقطة.

و الناس يرون أن مثار الخلاف بين ابي بكر و الزهراء هو مسألة توريث الأنبياء فكانت الصديقة تدعي توريثهم و الخليفة ينكر ذلك. و تقدير الموقف على هذا الشكل لا يحل المسألة حلا نهائياً و لا يفسر عدة أمور – :

(الأول): قول الخليفة الفاطمة في محاورة له معها - و قد طالبته بندك - : ان هذا الحال لم يكن للنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) و انما كان مالاً من أموال

ص: 137

المسلمين يحمل النبي به الرجال و ينفقه في سبيل الله فلا توفى رسول الله صلى الله عليه و آله وليته كما كان يليه. فإن هذا الكلام يدل بوضوح على انه كان يناقش في أمر آخر غير توريث الانبياء.

(الثاني): قوله الفاطمة في محاورة اخرى: أبوك و الله خير مني و انت و الله خير من بناتي و قد قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): لا نورث ما تركناه صدقة يعني هذه الاموال القائمة. و هذه الجملة التفسيرية التي ألحقها الخليفة بالحديث تحتاج إلى عناية فانها تفيدنا ان الخليفة كان يرى ان الحكم الذي تدل عليه عبارة الحديث مختص بالنبي (صلى الله عليه و آله و سلم) و ليس ثابتاً لتركة سائر الانبياء و لا لتركة سثر المسلمين جميعاً فحدد التركة التي لا تورث بالاموال القائمة و ذكر ان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) كان يعينها هي بالحديث. و على هذا التحديد نفهم ان المفهوم للخليفة من الحديث ليس هو عدم توريث الصدقات لان هذا الحكم عام و لا اختصاص له بالنبي (صلى الله عليه و آله و سلم) فلا يجوز ان يحدد موضوعه بالاموال القائمة بل كان اللازم حينئد أن يأتي الخليفة بجملة تطبيقية بأن يقول: ان الاموال القائمة مما ينطبق عليها الحديث.

كما يتضح لدينا ان الخليفة لم يكن يفسر الحديث بأن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) لا تورث تركته و أملاكه التي يخلفها بل تصبح صدقة بعد موته لانه لو كان يذهب هذا المذهب في فهم الحديث لجاء التفسير في كلامه على اسلوب آخر لان المقصود من موضوع الحديث حينئذ تركة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) على الاطلاق و لا يعني الاموال القائمة التي كانت تطالب بها الزهراء خاصة واعني بذلك

ص: 138

ان هذه الاموال الخاصة لو كانت قد خرجت عن ملك النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) قبل وفاته لم يكن الحكم بعدم التوريث ثابتاً لها كما ان غيرها من الاموال او حصل للنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) لما ورثها اله ايضا. فعدم توريث التركة النبوية إن ثبت فهو امتياز لكل ما يخلفه النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) من املاك سواء أكانت هذه التي خلفها او غيرها، و لا يصح ان يقال: انه عنى بالتركة الاموال القائمة التي كانت تطالب بها الزهراء.

و نظير ذلك قولك لصاحبك : إكرم كل من يزورك الليلة ثم يزوره شخصان فانك لم تعن بكلامك هذين الشخصين خاصة و انما انطبق عليهما الامر دون غيرها على سبيل الصدفة. و على اسلوب اوضح ان تفسير المركة التي لا نورث بأموال معينة - و هي الاحوال القائمة - يقضي بأن الحكم المداول عليه بالحديث مختص - عند المفسر - بهذه الاموال المحدودة.

و لا ريب ان تركة النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) لو كانت لا نورث ما اختص الحكم بالا. وال المعينة المتروكة بالفعل بل لثبت الكل مالك يتركه النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) و ان لم يكن من تلك الاموالى و أيضاً فمن حق البحث أن أتساءل عن فائدة الجملة التفسيرية و الغرض المقصود من ورائها فيما اذا كان الحكم المفهوم للخليفة من الحديث ان املاك النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) لا تورث فيل كان صدق البركة على الا. وال القائمة مشكوكاً: فأراد أن يرفع الشك لينطبق عليها الحديث و يثبت لها الحكم بعدم التوريث: و اذا صح هذا التقدير فالشك المذكور في صالح الخليفة لان المال اذا لم يتضح انه من تركة الميت لا ينتقل إلى

ص: 139

الورثة فلا يجوز أن يكون الخليفة قد حاول رفع هذا الشك و لا يمكن أن يكون قد قصد بهذا التطبيق منع الزهراء من المناقشة في انطباق الحديث على ما تطالب به من اموال لانها ما دامت قد طالبت بالاموال القائمة على وجه الأرث فهي تعترف بأنها من تركة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) و لنفترض ان الأموال القائمة قسم من التركة النبوية وليس المقصود منها مخلفات رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) جميعاً - و لعلها عبارة عن الأموال و العقارات الثابتة يحتو فدك - فهل يجوز لنا تقديران غرض الخليفة من الجملة تخصيص الأموال التي لا نورث بها؟ لا أظن ذلك، لأن أملاك النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) لا تختلف في النور ثوعدمه . و نخرج من هذه التأملات بنتيجة و هي ان المفهوم من الحديث الخليفة ان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) تملكه للاموال القائمة و اشار اليها وصف التركة فقال ما تركناه صدقة قشأنه شأن من يجمع ورثته ثم يقول لهم ان كل تركتي صدقة يحاول بذلك أن يخبرهم بانها ليست ملكاً له ايرثوها بعده لأن ذلك هو المعنى الذي يمكن أن يختص بالأموال القائمة ويحدد موضوعه بها:

(الثالث): جواب الخليفة لرسول ارسلته فاطمة ليطالب بما كان لرسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) في المدينة وفدك وما بقي من خمس خيير إذ قال له: ان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قال: لا نورث ما تركناه صدفه (انما يأكل آل محمد من هذا المال، و أني والله لا أغير شيئا من صدقات رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم). فاتنا اذا افترضنا ان معنى الحديث في رأي الخليفة عدم توريث النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)

ص: 140

لا ملاكه كان كلامه متناقضاً لأن إستدلاله بالحديث في صدر كلامه يدل حينئذ على أنه يعترف بان ما تطالب به الزهراء هو من تركة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) و املاكه التي مات عنها - ليصح انطباق الحديث عليه - و الجملة الأخيرة من كلامه و هي قوله: و اني و الله لا أغير شيئاً من صدقات رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله «صلی الله علیه و آله و سلم» تعاكس هذا المعنى لأن ما طلبت الزهراء تغييره عن أيام النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) - بزعم الخليفة - هو فدك و عقاراته في المدينة و ما بقى من خمس خيبر فابو بكر حين يقول: اني و الله لا اغير شيئا من صدقات رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يعني بها تلك الأموال التي طالبت بها الزهراء و رأى معنى مطالبتها بها تغييرها عن حالها السابقة و معنى تسميته لها صدقات رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ان من رأيه انها ليست ملكا النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) بل من صدقاته التي كان يتولاها في حياته و يوضح لنا هذا ان استدلاله بالحديث في صدر كلامه لم يكن لاثبات ان املاك النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) لا تورث و انما اراد بذلك توضيح ان الأموال القائمة ليست من أملاك النبي لأنه «صلی الله علیه و آله و سلم» ذكر انها صدقة.

2 - و نستطيع ان تقيين من بعض روايات الموضوع ان الخليفة تاقش في توريث الأنبياء لأملاكهم و لم يقصر النزاع على الناحية السابقة. فان الرواية التي تحدثنا بخطبة الزهراء واستدلال ابي بكر بما رواه عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) من حديث: انا معاشر الأنبياء لا نورث الح و اعتراض الزهراء عليه بالآيات العامة الشركة الميراث و الآيات الخاصة الدالة على توريت بعض الأنبياء تكشف عن جانب جديد من المنازعة إذ

ص: 141

ينكر أبو بكر توريث النبي (صلى الله عليه و آله و آله » لأمواله ويستند إلى الحديث في ذلك ويلح فى الانكار كما تاح فاطمة في مناقشته و التشبت بوجهة نظرها في المسألة

3- و إذن فللخليفة حديثان: -

(الأول) لا نورث ما تركياه صدقة.

(و الثاني) إنا معاشر الانبياء لا نورث ذهباً و لا فضة. و قد ادعى أمرين: -

«أحدهما » ان فد كا صدقة فلا تورث.

«و الآخر» ان النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) لأورث أملاكه و استدل بالمحمدي الاول على ان فدكا صدقة و بالحديث الثاني على ان النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) لا يورث

* * *

1 - قد لا يكون من العسير تصفية الحساب مع الخليفة بعد أن اضح. وقفه و تقررت الملاحظات التي لاحظناها في الحديثين الذين رواهما عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم). و تتلخص المؤاخذة التى آخذناه بها حتى الآن فى عدة أمور نشير اليها لنجمع نتائج ما سبق:

(الاول) ان الخليفة لم يصدق روايته في بعض الأحايين كما المعنا في مستهل هذا الفصل.

(الثاني) ان من الاسراف في الاحتمال ان تجوز اسرار رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) إلى الخليفة بحكم تركته و اخفاءه عن بضمنه و سائر ورثه و كيف اختص الخليفة دون غيره بمعرفة الحكم

ص: 142

المذكور (1) مع ان النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) لم يكن من عادته الاجتماع بابي بكر وحده إلا بأن يكون رسول الله «صلى الله عليه و آله و سلم» اخبره بالخبر في خلوة متعمدة ليبقى الامر مجهولا لدى ورثته و بضمنه و يضيف بذلك إلى آلامها من ورائه محنة جديدة.

(الثالث) ان عليا هو وصى رسول الله «صلى الله عليه و آله و سلم»

بلا ريب للحديث الدال على ذلك الذي ارتفع به رواته إلى درجة التواتر و اليقين حتى شاع في شعر أكابر الصحابة فضلا عن رواياتهم كعبد الله بن عباس و خزيمة بن ثابت الانصاري و حجر بن عدي وابي الهيثم بن التيهان وعبد الله بن ابي سفيان بن الحرث بن عبد المطلب و حسان بن ثابت و أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (2) و إذن فالوصاية من الاوسمة الاسلامية الرفيعة التي اختص بها الامام بلاريب (3).

و قد اختلف شيعة علي و شيعة ابي بكر في معنى هذه الوصاية فذهب السابقون الاولون إلى انها بمعنى النص عليه بالخلافة و تأولها الآخرون

(1) حتى قالت عائشة في كلام لها: و اختلفوا في ميراثه فما وجدنا عند أحد في ذلك علما فقال ابو بكر: سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يقول:

إنا معاشر الأنبياء لا نورث الج، راجع صواعق ابن حجر.

(2) راجع شرح النهج ج 1 ص 47 - 49 وج 3 ص 15.

(3) قال ابن ابي الحديد ج 1 ص 46: فلاريب عندنا ان عليا (علیه السلام) كان و هي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) و ان خالف فى ذلك من هو منسوب عندنا الى العناد.

ص: 143

فقالوا: ان عليا وصي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) على علمه أو شريعته أو مختصاته و لا نريد الآن الاعتراض على هؤلاء أو تأييد أوائك و أنما نتكلم على الحديث بمقدار ما يتطلبه اتصاله موضوع هذا البحث و نقرر النتيجة التي يقضي بها على كل من تلك التفاسير.

فنفترض أولاً: ان الوصاية بمعنى الخلافة ثم تتبين الصديق على هدى الحديث فاننا سوف نراه شخصاً سارقاً لا نفس المعنويات الاسلامية و متصرفاً فى مقدرات الامة بلا سلطان شرعي. و لا مجال لهذا الشخص سينئذ أن يحكم بين الناس. و لا يسعنا أن نؤمن له بحديث. و انترك هذا التفسير ما دام شديد القسوة على صاحبنا و نقول: ان عليا وصي رسول الله «صلى الله عليه و آله و سلم » على علمه و شريعته فهل يسعنا مع الاعتراف بهذه الوصاية المقدسة أن تؤمن بحديث ينكره الوصي. و ما دام هو العين الساهرة على شريعة السماء فلابد أن يؤخذ رأيه فى كل مسألة نصاً لا مناقشة فيه لانه أدرى بما أوصاه به رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) و انتمنه عليه و خذ اليك بعد ذلك الاسلوب الثالث فانه ينتهى إلى النتيجة السابقة عينها لان عليا إذا كان وصياً لرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) على تركته و مختصاته فلا معنى اسطاو الخليفة على التركة النبوية و وصي النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) عليها موجود و هو اعرف تحكمها و مصيرها الشرعي.

(الرابع) ان تأميم التركة النبوية من اوليات الخليفة في التاريخ ولم يؤثر في تواريخ الامم السابقة ذلك و لو كان قاعدة متبعة قد جرى عليها الخلفاء بالنسبة إلى تركة سائر الانبياء لاشتهر الأمر و عرفته أمم

ص: 144

الانبياء جميعاً.

كما ان انكار الخليفة لملكية رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لفدك - كما تدل عايه بعض المحاورات السابقة - كان فيه من التسرع شيء كثير لان قد كا مما لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب بل استسلام اهلها خوفا و رعباً با تفاق اعلام المؤرخين من السنة و الشيعة. و كل ارض يستسلم اهلها على هذا الاسلوب فهي للنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) خالصة. و قد اشار الله تعالى في الكتاب الكريم إلى أن فدكاً للنبي (صلى الله عليه و آله و سلم) بقوله: و ما أفاء الله على رسوله منهم فما أو جفتم عليه بخبل و لا ركاب (1) و لم يثبت تصادق النبي بها و وقفه لها.

(الخامس) ان الحديثين الذين استدل بها فى الموضوع لا يقوم منهما دليل على ما أراد، و قد خرجنا من دراستها قريباً بمعنى لكل منهما لا يتصل بمذهب الخليفة عن قرب أو بعد. و ان أبيت فلتكن المعاني الآ الذكر متكائنة و لتكن العبارة ذات تقادير متساوية. و لا يجوز حينئذ ترجيح معنى لها و الاستدلال بها عليه.

2 - هذه هي الاعتراضات التي انتهينا اليها آنها. و نضيف اليها الآن اعتراضاً سادساً بعد أن نفترض أن جملة انا معاشر الانبياء لا نورث أقرب إلى نفي الحكم بالميراث منها إلى نفي التركة الموروثة و نقدر لجملة: - لا نورث ما تركناه صدقة. من المعنى ما ينفع الخليفة و نلغى تفسيرها بأن

ص: 145


1- راجع سيرة ابن هشام ج 2 ص 239 و تاريخ الكامل ج 2 ص 85 و شرح النهج ج 4 ص 78.

الصدقة المتروكة لا تورث ثم ندرس المسألة على ضوء هذه التقادير. و هذا الاعتراض الجديد هو ان اللازم - في العرف العلمي - متى سحت هذه الفروض تأويل الخبر ولم يجز الركون إلى أوضح معانيه لأنه يقرر حينئذ عدم توريث سائر الأنبياء لتركاتهم لماجاء في بعضها من التصريح بالتعميم نحو انا معاشر الانبياء لا نورث و لما دل عليه بالنون في قوله: لا نورث ما تركناه صدقة، من تعليق الحكم على جماعة و حيث يتضح ان الحكم في الحديث عدم توريث التركة يتجلى ان المراد بالجماعة جماعة الأنبياء إذلا توجد جماعة أخرى نحتمل عدم انتقال تركاتها إلى الورثة، و قد دل صريح القرآن الكريم على توريث بعض الأنبياء إذقال الله تبارك و تعالى في كتابه السكريم مخبر عن زكريا عليه السلام: و اني خفت الموالي من وراني و كانت امرأتي عاقراً فهب لي من لدنك وليا يرثني و يرث من آل يعقوب و اجعله ربي رضياً والارث في الآية بمعنى ارث المسال لانه هو الذي ينتقل حقيقة من الموروث إلى الوارث و أما العلم و النبوة فلا ينتقلان انتقالا حقيقياً، و امتناع انتقال العلم على نظرية اتحاد العاقل و المعقول (1) واضح كل الوضوح

ص: 146


1- و تقوم الفكرة في هذه النظرية على أن الصور المعقولة - و هي عبارة عن وجود مجرد عن المادة - لاقوام لها الا بكونها معقولة فالمعقولية نفس هويتها و تجريدها عن العاقل تجريد لها عن نحو وجودها الخاص و هذا آية الوحدة الوجودية و اذن فتدرج النفس في مراتب العلم هو تدرجها في أطوار الوجود و كلما صار الوجود النفسي مصداقا فالمفهوم عتقلي جديد زاد في تكامله الجوهري و اصبح من طراز أرفع، و لا مانع مطلقا من اتحاد مفاهيم متعددة في الوجود كما يتحد الجنس و الفصل و ليس - ذلك كالوحدة الوجودية لوجودين أو الوحدة المفهومية لمفهومين فان هاتين الوحدتين مستحيلتان في حساب العقل دون ذاك الاتحاد. و التوسع لا مجال له.

و اما اذا اعترفنا بالمغايرة الوجودية بينهما فلا ريب في تجرد الصور العلمية (1) و انها قائمة بالنفس قياما صدوديا (2) بمعنى أنها معلولة للنفس و المعلول الواحد

ص: 147


1- فان الحق تجرد جميع مراتب العلم و الصور المدركة و لكن على تفاوت فى مراتب التجريد فان المدرك بالذات لا يمكن أن يكون نفس الشيء بهويته المادية فحتى المدرك بحاسة البصر له نحو من التجرد و ليس في نظرية خروج الشعاع أو الانطباع و ماثبت حول الروؤية في عالم المرايا أو بحوث الفيزياء ما يفسر الادراك البصري تفسيرا فلسفيا فلا بد من الاعتراف بتجرده فضلا عن الخيال و العقل و قد أوضحنا هذا المذهب في كتابا العقيدة الالهية فى الاسلام.
2- لا قياما حاوليا بمعنى كونها أعراضها لها و انما ذهب هذا المذهب مع الفلاسفة لحل المشكلة التي اعترضت الباحثين عند ما ارادوا ان يوفق وا بين أدلة الوجود الذهني و بين ما اشتهر من كون العلم كيفا و هي ان الصورة المنقولة اذا كانت كيفا فما نتعقله من الانسان ليس جوهر لانه كيف و لیس انسانا اذن لان كل انسان جوهر و انما هو مثال. و لما افاست جميع الحلول التي وضعت حل الشبهة من انكار الوجود الذهني و التقرير مذهب المثالية. و اختيار التعدد و كون العلم عرضا و المعلوم جوهرا. و تفسير الجوهر بانه الموجود المستقل خارجا لا ذهنا و الانقلاب: اضطر الباحثون المتأخرون إلى تقرير أن الصورة المعقولة من الجوهر جوهر لا كيف غير ان الفيلسوف الاسلامي الكبير صدر الدين الشيراري اختار في الاغارا نها دوه بحسب مامينها و كيف بالعرض. و يمكن الاعتراض - عليه بان كل ما بالعرض لابد ان ينتهي الى ما بالذات و اذن فلادان نفترض كيفما حقيقيا متحداً مع الصورة لتكون كيفما بالمرض و تنتهي الطرية حينئذ بصاحبها إلى أحد أمرين اما الالتزام بتعدد ما في النفس او الاصطدام بالمشكلات الاولى نفسها و لذا كان الافضل تقرير ان الصورة المدركة من الانسان مثلا جوهر و ليست بعرض اطلاقا و ارتباطها بالنفس ارتباط المحلول بالعلة لا العرض بموضوعه.

بحسب الذات - لا بمجرد الاتصال فقط - متقوم بعلته و مرتبط الهوية بها فيستحيل انتقاله إلى علة أخرى و لو افترضنا ان الصور المدركة أعراض و كيفيات قائمة بالمدرك قياما حلوليا فيستحيل انتقاله لاستحالة انتقال المرض من موضوع الى موضوع كما برهن عليه في الفلسفة سواء أقلنا بتجردها أو بماديتها بان اعترفنا باشتمال الصور المدركة على الخصائص العامة المادة من قابلية الانقسام و نحوها.

و اذن فالعلم يستحيل انتقاله في حكم المذاهب الفلسفية الدائرة حول الصور العالمية جميعاً.

و اذا لاحظنا النبوة وجدنا انها هي الاخرى أيضاً مما لا يجوز في عرف العقل انتقالها سواء أذهبنا في تفسيرها مذهب بعض الفلاسفة وقانا انها مرتبة من مراتب الكمال النفسي و درجة من درجات الوجود الانساني الفاضل الذي ترتفع اليه المهبة الانسانية فى ارتقاءاتها الجوهرية و تصاعد انها نحو الكمال المطلق أو أخذنا بالمعنى المفهوم للناس من الكلمة واعتبرنا النبوة منصباً إلهيا مجعولا كمنصب الملك والوزير ويكون ذلك التكامل النفسي شرطاً

ص: 148

له فالمفهوم الاول يمتنع انتقاله بالضرورة لانه نفس وجود النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) و كمالاته الذاتية و النبوة بالمعنى الآخر يستحيل انتقالها ايضاً لأنها حينئذ أمر اعتباري متشخص الاطراف و لا يعقل تبدل طرف من اطرافه إلا بتبدل نفسه و انقلابه إلى فرد آخر فنبوة زكريا مثلاً هي هذه التي اختص مها زكريا و ان يعقل ثبوتها لشخص آخر لانها لا تكون حينئذ تلك النبوة الثابتة لزكريا بل منصباً جديداً و مقاماً نبوياً حادثاً.

و النظر الأولي في المسأله يقضي بامتناع انتقال العلم و النبوة من دون حاجة إلى هذا التعمق و التوسع و اذن فالنتيجة التي يقررها العقل في شوطه الفكري النصير الذي لا يعسر على الخليفة مسايرته فيه هي ان المال وحده الذي ينتقل دون العلم و النبوة.

3 - و قد يعترض على تفسير الارث في كلام زكريا بارث المسال بأن يحيى عليه السلام لم يرث مال أبيه لاستشهاده في حياته فيلزم تفسير الكلمة بارث النبوة لأن يحيى قد حصل عليها و يكون دعاء النبي حينئذ قد استجيب. و لكن هذا الاعتراض لا يختص بتفسير دون تفسير لأن يحي عليه السلام كما انه لم يرث مال ابيه كذلك لم يخالفه فى نبوته. و ما ثبت له من النبوة لم يكن ورائيا و ليس هو مطلوب زكريا و انما سأل زكريا ربه وارثا يرته بعد موته و لذا قال: و أني خفت الموالي من ورائي. اي بعد موتي فان كلامه يدل بوضوح على أنه أراد وارثا يخالفه و لم يرد نبيا يعاصره و إلا خان خوفه من الوالي بعد وفاته باقياً، فلابد - على كل تقدير - أن نوضح الآية على اسلوب يسلم من الاعتراض و هو أن تكون جملة يرثني و يرث من

ص: 149

آل يعقوب . جوابا للدعاء بمعنى ان رزقتني ولداً يرث لا صفة ليكون زكريا قد سأل ربه وليا وارثا. فما طلبه النبي من و به محقق و هو الولد و توريثه الان أو النبوة لم يكن داخلا في جملة ما سأل به و انما كان لازماً لما رجاه في معتقد زكريا (علیه السلام).

و يختلف تقدير العبارة صفة عن تقديرها جواباً من النواحي اللفظية في الاعراب لأن الفعل اذا كان صفة فهو مرفوع و اذا كان جواباً يتعين جزمه. و قد ورد في قراءته كلا الوجهين.

و إذا لاحظنا قصة زكريا في موضعها القرآني الآخر وجدنا انه لم يسأل ربه الاذرية طيبة فقد قال تبارك و تعالى في سورة آل عمران: هلك دعا زکریا ر به قال: رب هب لي من لدنك ذرية طيبة.

و أفضل الاساليب في فهم القرآن ما كان منه مركزاً على القرآن نفسه و على هذا فنفهم من هذه الآية ان زكريا كان مقتصداً في دعائه و لم يطلب من ربه الا ذرية طيبة و قد جمع القرآن الكريم دعاء زكريا في جملة آخر واحدة تارة و جعل لكل من الذرية ووصفها دعوة مستقلة في موضع و كانت جملة هب لي من لدنك وليا طلبا الذرية و جملة و اجعله ربي رضياً دعوة بأن تكون الذرية طيبة. و اذا جمعنا هاتين الجملتين أدت نفس المعنى الذي تفيده عبارة هب لي من لدنك ذرية طيبة. و تخرج كلمة (يرثني) بعد عملية المطابقة بين الصيغتين القرآنيتين عن حدود الدعاء و لا بد حينئذ أن تكون جواباً له.

4 -- و على ذلك يتضح ان كلمه الارث في الآية الكريمة فد

ص: 150

اعطيت حقها من الاستعمال واريد بها ارث المال لا ارث النبوة لأن الشيء انما يصح أن يقع جوابا الدعاء فيما اذا كان ملازما المطلوب و متحققاً عند وجوده دائماً أو في أكثر الأحايين. و وراثة النبوة ليست ملازمة لوجود الذرية اطلاقاً بل قد لا تتفق في مئات الملايين من الاشخاص لما يلزم في هذا المقام من كفاءة فذة و كمال عظيم فلا يجوز أن توضع النبوة بجلاها الفريد جواباً لسؤال الله تعالى ذرية طيبة لأن النسبة بين الذرية الانسانية و بين الجديرين بتحمل أعباء الرسالة السماوية هي النسبة بين الآحاد و الملايين و اما وراثة المساس فيمكن أن تكون جواباً لدعاء زكريا عليه السلام لأن الولد يبقى بعد أبيه على الاكثر فوراثته للمال مما يترتب على وجوده غالباً واضف إلى ذلك ان زكريا نفسه لم يكن يرى النبوة ملازمة لذريته بل و لا ما دونها من المراتب الروحية و لذا سأل ربه بعد ذلك بأن يجعل ولده رضياً.

5 - ولنترك هذا لندرس كلية الارث في الآية على ضوء تقدير الفعل صفة لا جوابًا للدعاء. و فى رأني أن هذا التقدير لا يضطرنا إلى الخروج بنتيجة جديدة بل الارث في كلمة - يرثني - هو ارث المال في الحالين معاً بلا ريب و الذي يعين هذا المعنى للكامة على التقدير الجديد

أمران: - الأول: ان زكريا عليه السلام لو كان قد طلب من ربه ولد آوارثا النبوته لما طلب بعد ذلك أن يكون رضياً لأنه دخل في دعوته الأولى ما هو أرفع من الرضا.

الثاني: ان اغفال الارث بالمرة في قصة زكر با الواردة في سورة

ص: 151

آل عمران إن لم يدل على ان الارث خارج عن حدود الدعاء فهو في الاقل وضح ان معنى الارث في الموضع القرآني الآخر للقصة إرث المال لا ارث النبوة لان ذكر يا لو كان قد سأل ربه أمرين أحدهما أن يكون ولده طبيباً رضياً و الآخر أن يرث نبوته لما اقتصر القرآن الكريم على ذكر الوصف الاول الذي طلبه زكريا عليه السلام فانه ليس شيئا مذكوراً بالاضافة إلى النبوة، ولكي تتفق معي على هذا لاحظ نفسك فيما اذا سألك سائل بستانا و درها فاعطيته الامرين معالم أردت أن تثقل القصة لبيان تفضلك عليه فهل تحذف البستان من القصة و مخص الدرهم بالذكر. لا أراك تفعل ذلك، إلا اذا كنت كثير التواضع و رجحان البستان على الدرهم في حساب القيم المادية دون امتياز النبوة على طيب الذرية فى مواز بن المعنويات الروحية و اذن فقصة زكريا التي جاءت في سورة آل عمران . ولم يذكر فيها عن او قليل دليل على ان الارث كثير المذكر في الصورة الاخرى القصة بمعنى ارث المال لا ارث النبوة و إلا لكان من ابرز عناصر القصة التي لا يمكن اغفالها.

6 - ولاحظ بعض الباحثين فى الآية الكريمة نقطتين تفسران الأرث فيها بارث النبوة.

الأولى - قول زكر با عاطفاً على كلمة (يرثني): - و يرث من آل يعقوب - فان يحيى لا يرث أموال آل يعقوب، و انما يرث منهم النبوة و الحكمة.

الثانية - ما قدمه النبي تمهيداً لدعائه من قوله: و اني خفت الموالي

ص: 152

من ورائي. حيث ان خوفه أنما كان بسبب الاشفاق على معالم الدين و الرغبة في بقائها باستمرار النبوة لأن هذا هو اللائق بمقام الانبياء دون الحرص على الاموال و الخوف من وصولها إلى بعض الورثة.

و اعترض اصحابنا على النقطة الاولى بان ذكر يا عليه السلام لم يسأل ربه أن يرث ولده أموال آل يعقوب جميع و انما أراد أن يرث منها فلا يكون دليلا على التفسير المزعوم.

و أما النقطة الثانية فهي من القرائن على التفسير الذي اخترناه لان الخوف على الدين و العلم من ابناء العم لا معنى له لان الاسف الالمي لا يترك الناس سدى بلا حجة بالغة في عالم الدين و كلمة السماء محفوظة بالرعاية الالهية و النبوة مخصوصة أبداً بالاقلين من نوادع البشر لا يخشى عليها من السطو و النهب و اذن فما ذا كان يحسب ذكر بار به صانعا لو لم يمن عليه: أ كان يحتمل أن يكلف برسالته مواليه أعني بني عمومته مع عليم كفاءتهم للقيام بواجب الرسالة الالمية و عدم جدارتهم بهذا الشرف أو كان يرى ان الله تعالى يهمل أمر خلقه ليكون لهم الحجة عليه ليس هذا و لا ذاك مما يجوزه ني. و أنما خاف زكريا من ني أعمامه على امواله فلاب من الله ولد أرضيا يرثها. و لا جناح عليه في ذلك اذ يحتمل أن تكون رغبته في صرف أمواله عن ني عمومته بسبب أنها لو آلت اليهم لوضعوها فى غير. واضعها و انفقوها في المعادي و ألوان الفساد لما كان يلوح عليهم من علامات الشر و إمارات السوء حتى قيل انهم شرار بني اسرائيل.

و قد حاول ابن ابي الحديد أن يصور وجها لخوف زكريا من الموالي

ص: 153

على الدين من ناحيتين:

الاولى: من طريق أصول الشيعة فذكر ان دعوى امتناع مثل هذا الخوف على النبي غير مستقم على مذهب الشيعة لأمن المكلفين قد حرموا بغيبة الامام عندهم الطافا كثيرة الوصلة بالشرعيات كالدود و صلاة الجمعة و الاعياد و هم يقولون في ذلك ان اللوم على المكلفين لانهم قد حرموا الاسلف فهلا جاز أن يخاف زكريا عليه السلام من تبديل الدين و تغييره و افساد الاحكام الشرعية لانه انما يجب على الله التبليغ بالرسول إلى المكانين فاذا أفسدواهم الاديان و بدلوها لم يجب عليه أن يحفظها عليهم لانهم هم الذين حرموا انفسهم الاطف.

و لأسجل ملاحظتي على هذا الكلام ثم انتقل بك إلى الناحية الثانية فاقول: ان الخوف من انقطاع النبوة إنما يصح على اصول الشيعة إذا نشأ عن احتمال افساد الناس لدينهم على نحو لا يستحقون معه ذلك كما هو الحال الاطلاع في زمان غيبة الامام المنتظر صلوات الله عليه لا فيما اذا كان سببه على عدم لياقة جماعة خاصة للنبوة مع استحقاق الناس لها فان ارسال الرسول أو نصب من يقوم مقامه واجب في هذه الصورة على الله تعالى لما أوجه على نفسه من اللطف بعباده و اذن فقصور أبناء العمومة عن نيل المنصب الالهي لا يجوز أن ينتهي بزكريا إلى إحتمال انقطاع النبوة و انطماس معالم الدين اذا كان الناس مستحقين للالطاف الالهية. و اذا لم يكونوا جديرين بها فمن الممكن انقطاع الاتصال بين السماء و الأرض سواء أكان بن كان بنو العمومة صالحين للنبوة أو لا و سواء من الله عليه بذرية أو بقى عقما

ص: 154

و الآية الكريمة تدل على ان الباعث الى الخوف في نفس زكريا انما هو فساد الموالي لا فساد الناس.

الناحية الثانية: عن طريق تفسير الموالي بالأمراء معنى ان زكريا خاف ان بلي بعد موته أمراء و رؤساء يفسدون شيئاً من الدين فطلب من الله ولداً ينعم عليه بالنبوة و العلم ليبقى الدين محفوظا.

ولنا أن نتساءل عما إذا كان هؤلاء الرؤساء الذين اشفق على الدين منهم هم الأنبياء الذين يخلفونه أو انهم أصحاب السلطان الزمني والحكم المنفصل عن السماء. و لا خوف منهم على التقدير الأول اطلاقا لأنهم انبياء معصومون. و اما اذا كانوا ملوكا فقد يخشى منهم على الدين و لكن ينبغي أن نلاحظ أن وجود النبي حينئذ هل يمنعهم عن التلاعب في الشريعة و الاستخفاف بالدستور الالهي اولا. فان كان كافي الوقاية الشريعة وصون كرامتها فلما ذا خاف زكريا من أولئك الأمراء ما دامت الألطاف الالهية قد ضمنت للنبوة الامتداد في تاريخ الانسانية الواعية و خلود الاتصال بين الارض و السماء ما بقيت الأرض اهلا للتثقيف السماوي. و ان لم يكن وجود النبي كافيةسسسسسسس للحراسة المطلوبة فلا يرتفع الخوف من الحاكمين بوجود ولد لزكريا يرث عنه النبوة ما دام النبي قاصراً عن مقاومة القوة الحاكمة و ما دام الأمراء من الطراز المغشوش مع ان الآية تدل على ان زكريا كان يرى أن خوفه يرتفع فيما اذا من الله عليه بولد رضي پرته. و نتيجة هذا البحث ان الارث في الآية هو ارث المال بلاريب.

و إذن فبعض الأنبياء يورثون و حديث الخليفة يقضي بأن الجميع لا يورثون

ص: 155

فالآيه و الرواية متعاكستان و كل ما عارض الكتاب الكريم فهو ساقط. زكريا خاصة من سائر الأنبياء لأن حديث

و لا يجوز أن نستثني الخليفة لا يقبل هذا الاستثناء و هذا التفريق بين زكريا عليه السلام و غيره و النبوة ان اقتضت عدم التوريث فالأنبياء كلهم لا يورثون و لا نحتمل أن يكون لنبوة زكريا عليه السلام خاصية جعلته يورث دون سائر الأنبياء. و ما هو ذنب زكريا عليه السلام أو ما هو فضله الذي يسجل له هذا الامتياز. اضف الى ذلك ان تخصيص كلمة الانبياء الواردة في الحديث و الخروج بها عما تستحقه من وضع لا ضرورة له بعد أن كان الحديث قابلا للتفسير على اسلوب آخر ان لم يكن هو المفهوم الظاهر من الحديث كما أو فخذاه سابقاً فهو تفسير على كل حال فلماذا نفسر الحديث بأن تركة النبي لا تورث اضطر إلى أن نقول بأن رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) كان يعني بالأنبياء غير زكر با عليه السلام بل لنأخذ بالتفسير الآخر و نفهم من الحديث ان الأنبياء ليس لهم من نفائس الدنيا ما يورثونه و نحفظ للفظ العام حقيقته (1).

ص: 156


1- و الجملة خبرية و ليست انشائية لأن انشاء حكم على الأنبياء بعد و طانهم و انقراض ورثنهم لا معنى له و حينئذ فالتخصيص يستلزم مجازية الاستعمال، و ليس شأن صيغة الحديث شأن الجمل الانشائية التي يكشف تخسيدها عن عدم إرادة الخاص بالارادة الجدية و تقدم لذلك على سائر الدويلات و النجوزات بل في خبرية و الجملة الخبرية اذا خالفت الارادة الاستعمالية فيها الجد و الحقيقة كانت كذبا فتخصيصها يستلزم صرفها إلى المعنى المجازي و حينئذ فلا يرجع على تجوز آخر اذا دار الامر بيها الناحية الثانية: المناقشة التي قامت بين الخليفة والصديقة حول نحلة رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) اياها فدكا فقد ادعت الصديقة النحلة و شهد بذلك قرينها و أم أيمن في يقبل الخليفة دعويها ولم يكتف شاهديها و طالبها بينة كاملة و هي رجلان أو رجل و امرأتان

و نعرف مما سبق ان صيغة الحديث لو كانت صريحة في ما أراده الخليفة لها من المعاني لنا قضت القرآن الكريم و مصيرها الاهمال حينئذ و ليس في المسألة سبيل إلى اعتبار الحديث مدركا قانونياً في موضوع التوريث و لذا لم يتفطن الصديق الى جواب يدفع به اعتراض خصمه عليه بالآية الآنفة الذكر و لم يوفق واحد من أصحابه إلى الدفاع عن موقفه. و ليس ذلك إلا لانهم أحسوا بوضوح أن الحديث يناقض الآية بمعناه الذي يبرر موقف الحاكمين.

و لا يمكن أن نعتذر عن الخليفة بانه يجوز اختيار أحد النصين المتناقضين و تنفيذه كما يرنئيه جماعة من علماء الاسلام و قد اختار أن ينفذ مداول الحديث و ذلك لأن المعارض للقرآن باطل بلا ريب لأنه الحق و ها

بعد الحق إلا الضلال.

* * *

1 - و النقطة الأولى التي نؤاخذ الصديق عليها هي وقوفه. وقف الحاكم في المسألة مع أن خلافته لم تكتسب لونا شرعيا إلى ذلك الحين على أقل تقدير ولكننا لا نريد الآن أن نضع هذه المؤاخذه فيد الدرس لأن الساقيه على هذا الشغل تبعثا إلى آفاق واسعة من البحث و تضطرنا إلى

ص: 157

نسف الحجر الأساسي لدنيا السياسة في الاسلام و هي عملية لها حساب طويل

2- والملاحظة الثانية في الموضوع هي أن فدكا إذا كانت في حيازة الزهراء عليها السلام فلا حاجة لها إلى البينة وفي هذه الملاحظة أمران

أولاً: من هو الذي كانت فدك فى حيازته؟ و هل كانت في يد الزهراء حقاً؟ قد يمكن أن نفهم ذلك ن قول أمير المؤمنين في رسالته الخالدة إلى عثمان بن حنيف: بلى كانت فى أيدينا فدك من كل ما أظاته السماء فشحت عليها نفوس قوم و سخت عنها نفوس آخرين. فان المفروم من كلمة أيدينا أن فدكا كانت فى أيدي أهل البيت و قد نصت على ذلك روايات الشيعة.

و حصر ما كان في تلك الأيدي التي عناها الامام بفدك يدل على أنها كانت في حيازة علي وزوجه خاصة و يمنع عن تفسير العبارة بان فدكا كانت في يد رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) باعتبار ان حيازته حيازة أهل البيت لأننا نعلم أن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) كانت في يده أشياء أخرى غير فدك من مختصاته و أملا كه.

و ثانياً: هل الحيازة دليل على الملكية؟ و الجواب الايجابي عن هذه المسألة مما أجمع عليه المسلمون و لولا اعتبارها كذلك لاختل النظام الاجتماعي للحياة الانسانية.

و قد يعترض على دعوى ان فدكا كانت فى يد الزهراء بانها لم تحتج ذلك و لو كانت في يدها الكما ها ذلك عن دعوى النحلة و الاستدلال بآيات الميراث. و في التندات الشيعية للقضية جواب عن هذا الاعتراض

ص: 158

لأنها تنقل احتجاج أهل البيت بذلك على الخليفة غير أننا لا نريد دراسة المسألة على ضوء شيء منها

و لكن ينبغي أن نلاحظ ان فذكاً كانت أرضاً مترامية الأطراف وليس شأنها شأن التوافه من الأملاك والمختصات الصغيرة التي تتضح حيازة مالكها لها بأدنى ملاحظة . فإذا افترضنا ان فدكا كانت فى يد فاطمة يتعهدها و كيلها الذي يقوم بزراعتها فمن يجب أن يعرف ذلك من الناس خير الوكيل.

و نحن نعلم أن فدكا لم تكن قريبة من المدينة ليطلع أهلها على شؤونها يعرفوا من يتولاها فقد كانت تبعد عنها بأيام كما انها قرية يهودية و ليست في محيط إسلامي لتكون حيازة فاطمة لها معروفة بين جماعة المسلمين.

فما ذا كان عنم الزهراء عن الاعتقاد بأن الخليفة سوف يطالبها بالبينة على أن فدكيا في يدها اذا ادعت ذلك كما طالبها بالبينة على النحلة مادام - في نظرها - مسيراً في الموقف بقوة طاغية من هواه لا تجعله يعترف بشىء و كان من السهل في ذلك اليوم از تبتلع الحوت وكبل فاطمة على فدك أو أي شخص له الطلاء على حقيقة الأمر كما ابتاعت أبا سعيد الخدري فلم يرو النحاة وقد حدث بها بعد ذلك كما ورد في طرق الفريقين أو أن تقتله الجن كما قتلت سعد بن عبادة و أراحت الفاروق منه (1) أو أن يتهم بالردة لأنه امتنع عن تسليم صدقة المسلمين للخليفة كما انهم ما نعوا الزكاة

ص: 159


1- و قد جاءت الرواية مصرحة بان عمر ارسل رسولا إلى سعد ليقتله إن لم يباع فاما ابي سعد قبله الرسول راجع عقد الفريد ج 3 ص 63.

و الرافضون لتسلیمها له.

3- و لنترك هذه المناقشة النصل إلى المسألة الأساسية وهي : ان

الخليفة هل كان يعتقد بعصمة الزهراء و يؤمن بآية التطهير التي نفت الرجي عن جماعة منهم فاطمة أولا.

و نحن لا نريد أن نتوسع في الكلام على العصمة و اثباتها للصديق .. بآية التطهير لأن موسوعات الامامية فى فضائل أهل البيت تكفينا هذه المهمة و لا نشك في أن الخليفة كان على علم بذلك لأن السيدة عائشة نفسها كانت تحدث بنزول آية التطهير فى فاطمة و قرينها و ولديها (1) و قد صرححت بذلك صحاح الشيعة و السنة. و كمان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) كلما خرج إلى الفجر بعد نزول الآية عمر بديت فاطمة و يقول الصلاة يا اهل البيت انها بريد الله ايذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا، و قد استمر على هذا ستة أشهر (2).

و إذن فلما ذا طلب الخليفة بينة من فاطمة على دعواها و هل تحتاج الدعوى المعلوم صدقها إلى بينة؟.

قال المعترضون على ابي بكر: ان البينة انما تراد ليغلب في الفن صدق المدعي و العلم أقوى منها فاذا لزم الحكم للمدعي الذي تقوم البينة على دعواه يجب الحكم للمدعى الذي يعالم الحاكم بصدقه

ص: 160


1- راجع صحيح مسلم ج 2 ص 331.
2- رواه الامام أحمد في مسنده ج 3 ص 295 عن انس و أخرجه الحاكم ايضا و شهد بصحته.

و ألاحظ أن في هذا الدليل ضعفاً مادياً لأن المقارنة لم تقم فيه بين البينة و علم الحاكم بالاضافة إلى صاب الواقع و انما لوحظ مدى تأثير كل منها في نفس الحاكم و كانت النتيجة حينئذ ان العلم اقوى من البينة لأن اليقين أشد من الظن. و كان من حق المقارنة أن يلاحظ الأقرب منهما الى الحقيقة المطلوب مبدئياً الأخذ بها فى كل مخاصمة: و لا يفضل على الحاكم في هذا الطور من المقايسة على البيئة لأن الحاكم قد يخطأ كما ان البينة قد تخطأ فعها في شرع الواقع سواء كلاهما مظنة للمزال و الاشتباه.

و لكن في المسألة أمراً غفل عنه الباحثون أيضاً و هو ان ما يعلمه الخليفة من صدق الزهراء يستحيل أن لا يكون حقيقة، لأن سبب عليه يصدقها ليس من الأسباب التي قد تنتج توهماً خاطئاً وجهلاً مركباً و انما هو قرآن كريم دل على عصمة المدعية. و على ضوء هذه الخاصية التي يمتاز بها العالم بصدق الزهراء يمكننا أن نقرر أن البينة التي قد تخطأ إذا كانت دليلا شرعياً مقتضياً للحكم على طبقه فالعلم الذي لا يخلى، و هو ما كان بسبب شهادة الله تعالى بعصمة المدعي و صدقه أولى بأن يكتسب تلك الصفة في المجالات القضائية.

و على أسلوب آخر من البيان نقول: ان القرآن الكريم لو كان قذ نص على ملكية الزهراء لمدك و صدقها فى دعوى النحلة لم يكن في المسألة متسع للتشكيك لمسلم أو مساغ للتردد لمحكمة من محاكم القرآن، و من الواضح أن نصه على عصمة الزهراء في قوة النص على النحلة لأن المعصوم لا يكذب فاذا ادعى شيئاً فدعواد صائبة بلا شك و لا فرق بين النص على العصمة

ص: 161

و النص على النحلة فيما يتصل بمسألتنا سوى أن ملكية الزهراء لفدك هي المعنى الحرفي للنص الثاني و المعنى المفهوم من النص الأول عن طريق مفهومه الحرفي.

4 - و نقول من ناحية أخرى: ان أحدا من المسلمين لم يشك في صدق الزهراء و لم يتهمها بالافتراء على ابيها و انما قام النزاع بين المتنازعين في أن العلم بصواب الدعوى هل يكفي مدركاً للحكم على وفقها أولا؟ فلندع آية التطهير و نفترض ان الخليفة كان كأحد هؤلاء المسلمين و علمه بصدق الزهراء حينئذ ليس حاوياً على الامتياز الذي أشرنا اليه في النقطة السابقة بل هو علم في مصاف سائر الاعتقادات التي تحصل بأسباب هي عرضة للمخطأ و الاشتباه و لا يدل حينئذ جعل البيئة دليلا على مشاركته لها في تلك الخاصية لأنه ليس أولى منها بذلك كما عرفنا سابقاً.

و لكن الحاكم يجوز له مع ذلك - أن يحكم على وفق علمه كما يجوز له أن يستند في الحكم إلى البينة بدليل ما جاء في الكتاب السكريم مما يقرر ذلك إذ قال الله تعالى في سورة النساء: (و إذا حكم بين الناس أن تحكموا با امدل) و قال في سورة الأعراف: (ممن خلقنا أمة يهدون بالحق و به يعدلون) أي يحكمون.

و لاحق و العدل ملاحظتان: -

(احداهما) الحق و العدل في نفس الامر و الواقع.

(و الأخرى) الحق و العدل بحسب الموازين القضائية فالحكم على وفق البينة حق و اعتدال فى عرف هذه الملاحظة و ان اخطأت و يعاكسه

ص: 162

الحكم على وفق شهادة الفاسق فانه ليس حقاً و لا عدلاً و ان كان الفاسق صادقا في خبره.

و المعني بالكلمتين في الآيتين الكريمتين إن كان هو المعنى الأول للحق و العدل كانتا دالتين على صحة الحكم بالواقع من دون احتياج إلى البينة فاذا أحرز الحاكم ملكية شخص لمال صح له أن يحكم بذلك لأنه برى انه الحق الثابت في الواقع و الحقيقة العادلة فحكمه بملكية ذلك الشخص للمال مصداق في عقيدته للحكم بالحق و العدل الذي أمر به الله تعالى. و اما إذا فسرنا الكلمتين في الآيتين بالمعنى الثاني أعني ما يكون حقا و عدلا تحسب مقاييس القضاء فلا يستقيم الاستدلال بالنصين القرآنيين على شيء فى الموضوع لأنها لا يثبتان حينئذان أي قضاء يكون قضاء بالحق و على طبق النظام و اي قضاء لا يكون كذلك.

و من الواضح ان المفهوم المتبادر من الكلمتين هو المعنى الأول دون الثاني و خاصة كلمة الحق فانها متى ُوصف بها شيء فهم أن ذلك الشيء أمر ثابت في الواقع فالحكم بالحق عبارة عن الحكم بالحقيقة الثابتة. و يدل على ذلك الأسلوب الذي صيغت عليه الآية الأولى فانها تضمنت أمراً بالحكم بالعدل و واضح جدا ان تطبيق التنظيمات الاسلامية فى موارد الخصومة لا يحتاج إلى أمر شرعي لأن نفس وضعها قانونا للقضاء معناه لزوم تطبيقها فلا يكون الامر بالتزام القانون إلا تكراراً و تنبيهاً و ليس من حقيقة الامر في شي. و أما الامر بالحكم على طابق الحقائق الواقعية سواء أكان عليها دليل من بينة و شهادة أولا فهو من طبيعة الامربالصميم لانه تقرير جديد يوضح

ص: 163

أن الواقع هو ملاك القضاء الاسلامي و المحور الذي ينبغي أن يدور عليه دون أن يتقيد بالشكليات و الادلة الخاصة (1).

و اذن فالآيتان دليل على اعتبار علم الحاكم في قوانين الفضاء الاسلامية (2).

واضف إلى ذلك ان الصديق نفسه كان يكتني كثيراً بالدعوى

ص: 164


1- و اذا أردنا أن نترجم هذا المعنى إلى اللغة العامية قلنا، أن الأمر على التقدير الثاني يكون ارشادياً إذ لا ملاك للأمر المولوي في المقام حيث ان المأمور اتباعه هو بنفسه كاف للبعث و التحريك فظهور الأمر في المواوية يقضي بصرف لفظة العدل إلى المعنى الأول لجواز الأمر مولويا بانباع الواقع فيها اذا دلت عليه البينة خاصة و امكان الامر باتباعه مطلقا وأنا أعتذر عن عدم استعمال الاصطلاحات العدية الدائرة في مباحث المنطق و الفلسفة و الفقه و الأصول - الا حين اضطر إلى ذلك اضطرارا - لأني أحاول أن تكون بحوث هذا الفصل مفهومة لغير المتخصصين في تلك العلوم.
2- إن قيل: ان الحديث الوارد عن أهل البيت فيمن قضى بالحق و هو لا يعلم الحاكم باستحقاقة للعقاب يدل على عدم تكون القضاء من آثار الواقع فيدور الأمر بين صرف هذه الرواية عن ظهورها في عدم نفوذ الحكم و حمل المقاب فيها على النجري و بين صرف الكلمتين إلى المعنى الثاني قلت: لا وجه لكلا التأويلين بل الرواية المذكورة مقيدة للآيات بصورة العلم فيكون موضوع القضاء مركيا من الواقع و العلم به و يتبع آخر انه من آثار الواقع الواصل.

المجردة عن البينة فقد جاء عنه في صحيح البخاري (1) ان النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) لما مات جاء لابي بكر مال من قبل العلاء بن الحضرمي فقال: من كان له على النبي دين أو كانت قبله عدة فليأتنا قال جابر: فقلت: وعدني رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) أن يعطيني هكذا و هكذا و هكذا، فبسط يده ثلاث مرات فعد في يدي خمسماة ثم خمسمأة ثم خمسماة.

وروبي في الطبقات (2) عن ابي سعيد الخدري انه قال: سمعت منادي أبي بكر ينادي بالمدينة حين قدم عليه مال البحرين: من كانت له عدة عند رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) فليأت? فيأتيه رجال فيعطيهم فجاء أبو بشير المازني فقال: ان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قال يا ابا بشير إذا جاءنا شيء فأتنا، فاعطاه ابو بكر حفنتين أو ثلاثاً فوجدوها الما و أربعماً قدرهم.

فاذا كان الصديق لا يطالب أحداً من الصحابة بالبينة على الدين او العدة فكيف طلب من الزهراء بينة على النحلة.

و هل كان النظام القضائي يخص الزهراء وحدها بذلك أو أن الظروف السياسية الخاصة هي التي جعلت لها هذا الاختصاص؟.

و من الغريب حقاً أن تقبل دعوى صحابي لوعد النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) بمبلغ من المال و ترد دعوى بضعة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لانها لم مجد ينة على ما تدعيه.

ص: 165


1- ج 3 ص 180.
2- ج 2 ص 134.

و اذا كان العلم بصدق المدعي مجوزاً لاعطائه ما يدعيه فلا ريب أن الذي لا يتهم جابراً أو أبا بشير بالكذب يرتفع بالزهراء عن ذلك أيضاً

و إذا لم يكن إعطاء الخليفة لمدعي العدة ما طلبه على أساس الأخذ بدعواه و انما دعاه احتمال صدقه إلى اعطائه ذلك و للامام أن يعطى أي شخص المبلغ الذي يراه فلماذا لم يحتط بمثل هذا الاحتياط في مسألة فدك.

و هكذا نجز الصديق و عود رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) التي لم تقم عليها بينة. و أهمل هباته المنجزة التي ادعتها سيدة نساء العالمين و بقى السؤال عن الفارق بين الديون و العدات و بين النحاة بلا جواب مقبول.

5 - و لنستأنف مناقشتنا على اساس جديد و هو: ان الخاصتكم لا يجوز له الحكم على طبق الدعوى المصدقة لديه اذا لم يحصل المدعى على بينة تشهدله و نهمل النتيجة التي انتهينا اليها فى النقطة السابقة و نسأل على هذا التقدير.

أولاً - عما منع الصديق من التقدم بالشهادة على النحلة إذا كان عالما بصدق الحوراء سلام الله عليها اذ يضم بدلك شهادته إلى شهادة علي و تكتمل بهما البينة و يثبت الحق و اعتباره لنفسه حاكما لا يوجب سقوط شهادته لأن شهادة الحاكم معتبرة و ليست خارجة عن الدليل الشرعي الذي أقام البينة مرجعاً في موارد الخصومة.

و ثانياً - عن التفسير المقبول لاغفال الخليفة للواقع المعلوم لديه بحسب المرض. و لاجل توضيح هذه النقطة يلزمنا أن نفرق بين أمرين اختلطا على جملة الباحثين في المسألة:

(أحدهما) الحكم المدعي بما يدعيه.

ص: 166

(و الآخر) تنفيذ آثار الواقع. و اذا افترضنا ان الاول محدود بالبينة فالآخر واجب على كل تقدير لانه ليس حكما ليحدد محدوده فاذا شخص بأن بيته للآخر فساله لمالكه لم يكن هذا حكماً بملكيته له و انما هو اجراء للأحكام التي نص عليها القانون. كما ان الحاكم نفسه إذا ادعى شخص عنده ملكية بيت و كان في حيازته أو دل الاستصحاب على المحكية المدعاة فاللازم عليه و على غيره من المسلمين أن يعتبروا هذا البيت كسائر ممتلكات ذلك المدعي. و ليس معنى هذا أن الحاكم حكم بأن البيت ملك لمدعيه مستنداً إلى قاعدة اليد أو الاستصحاب و أن المسامين أخذوا أنفسهم باتباع هذا الحكم بل لو لم يكن بينهم حاكم للزمهم ذلك و ليس الاستصحاب أو اليد من موازين الحكم في الشريعة و أنما يوجبان تطبيق أحكام الواقع.

- و الفارق بين حكم الحاكم بملكية شخص المال أو فسقه و نحوها من الشؤون التي تتسع لها صلاحيات الحاكم و بين تطبيق آثار تلك الامور هو: امتياز الحكم بفصل الخصومة و نعني بهذا الامتياز ان الحاكم اذا أصدر حكما حرم نقضه على جميع المسلمين و لزم اتباعه من دون نظر إلى مدرك آخر سوى ذلك الحكم.

و أما تطبيق القاضي لآثار الملكية عملياً بلا حكم فلا يترتب عليه ذلك المعنى و لا يجب على كل مسلم متابعته و اجراء تلك الآثار كما يجربها إلا اذا حصل له العالم يبذلك كما حصل للحاكم له

و النتيجة: ان الخليفة أذا كان يعلم بملسكية الزهراء أقدك فالواجب

ص: 167

عليه أن لا يتصرف فيها بما تكرهه و لا ينتزعها منها سواء أجاز له أن يحكم على وفق علمه أولا. و لم يكن فى المسألة منكر ينازع الزهراء ليلزم طلب المين منه و استحقاقه المال اذا أقسم لأن الأموال التي كانت تطالب بها الزهراء إما أن تكون لها أو المسلمين. و قد افترضنا ان ابا بكر هو الخليفة الشرعي المسلمين يومئذ و اذن فهو وليهم المكاف لحفظ حقوقهم و أموالهم فاذا كانت الزهراء صادقة فى رأيه و لم يكن فى الناس من ينازعها فايس للخليفة أن ينتزع فدكاً منها و تحديد الحكم بالبينة خاصة إنما يحرم الحكم و لا نجيز انتزاع الملك من صاحبه.

و اذن فعدم جواز حكم الحاكم على وفق علمه لا يخفف من صعوبة الحساب و لا يخرج الخليفة ناجحاً من الامتحان.

(محمد باقر الصدر)

طبع فى المطبعة الحيدرية فى النجفي

ص: 168

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.