جنة المأوىٰ
للامام المجاهد
الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء
تحقیق
العلامة سيّد محمد علي القاضي الطباطبائي
تقدیم و ترتیب
مهدي الأنصاري القمي
مؤسّسة الشهيد الأنصاري القمي لإحياء التراث
قم المقدّسة 1420 ه. ق
سرشناسه : آل كاشف الغطاء، محمد حسین، 1877 - 1954م.
عنوان و پدیدآور : جنة المأوىٰ / محمد حسين كاشف الغطاء ؛ تحقيق محمد على القاضي الطباطبائي ؛ تقدیم و ترتيب مهدى الانصاري القمي.
مشخصات نشر : قم: دليل ما، 1387.
مشخصات ظاهری : 352 ص.
شابک : ISBN 978 - 964 - 397 - 379 - 7
وضعیت فهرست نویسی : فیپا.
یادداشت : عربی.
یادداشت : کتابنامه به صورت زیرنویس.
موضوع : شیعه - دفاعیه ها و ردیه ها.
موضوع : کلام شیعه امامیه - قرن 14.
موضوع : شیعه - عقاید.
شناسه افزوده : قاضی طباطبائی، محمد علی، 1291؟ - 1358.
شناسه افزوده : انصاری، مهدی، 1334 -
شناسه افزوده : مؤسسة الشهيد الانصاري القمي لإحياء التراث.
رده بندی کنگره : 1387 9ج7آ/ 212/5 BP
رده بندی دیویی : 297/479
شماره کتابشناسی ملی : 1201488
محرر الرقمي: محمد علي صادقي قوام آبادي
ص: 1
جنة المأوىٰ
تأليف: محمد حسین آل كاشف الغطاء
تحقیق: محمد على القاضي الطباطبائي
تقدیم و ترتیب: مهدي الانصاري القمي
منشورات دليل ما
الطبعة الاولىٰ: 1429 ه .ق - 1387 ه .ش
طبع في: 1500 نسخة
المطبعة: نگارش
السعر مُجلّداً: 4500 توماناً
ردمک: 7 - 379 - 397 - 964 - 978
العنوان: ایران، قم، شارع معلم، ساحة روح الله، رقم 65
هاتف وفكس: 7733413 - 7744988(98251)
صندوق البريد: 1153 - 37135
WWW.Dalilema.com
info@Dalilema.com
مركز التوزيع:
1) قم، شارع صفائیه، مقابل زقاق رقم 38، منشورات دليل ما، الهاتف 7737011 - 7737001
2) طهران، شارع إنقلاب، شارع فخر رازي، رقم 32 ، منشورات دليل ما، الهاتف 66464141
3) مشهد، شارع الشهداء، شمالي حديقة النادري، زقاق خوراكيان، بناية گنجينه كتاب التجارية، الطابق الأول، منشورات دليل ما، الهاتف 5 - 2237113
(4) النجف الأشرف، سوق الحويش، مقابل جامع الهندي، مكتبة الإمام الباقر العلوم علیه السلام ، الهاتف 07801553289
سرشناسه : آل كاشف الغطاء، محمد حسین، 1877 - 1954م.
عنوان و پدیدآور : جنة المأوىٰ / محمد حسين كاشف الغطاء ؛ تحقيق محمد على القاضي الطباطبائي ؛ تقدیم و ترتيب مهدى الانصاري القمي.
مشخصات نشر : قم: دليل ما، 1387.
مشخصات ظاهری : 352 ص.
شابک : ISBN 978 - 964 - 397 - 379 - 7
وضعیت فهرست نویسی : فیپا.
یادداشت : عربی.
یادداشت : کتابنامه به صورت زیرنویس.
موضوع : شیعه - دفاعیه ها و ردیه ها.
موضوع : کلام شیعه امامیه - قرن 14.
موضوع : شیعه - عقاید.
شناسه افزوده : قاضی طباطبائی، محمد علی، 1291؟ - 1358.
شناسه افزوده : انصاری، مهدی، 1334 -
شناسه افزوده : مؤسسة الشهيد الانصاري القمي لإحياء التراث.
رده بندی کنگره : 1387 9ج7آ/ 212/5 BP
رده بندی دیویی : 297/479
شماره کتابشناسی ملی : 1201488
ص: 2
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ص: 3
ص: 4
هو الشيخ محمّد الحسين بن العلامة الشيخ على بن الحجة الشيخ محمّد رضا بن الشيخ الأفقه موسى بن جعفر بن الشيخ خضر بن يحيى بن سيف الدين المالكی الجناجی النجفی .
أشهر مشاهير علماء الاسلام فی الشرق وأبعدهم صيتاً واغزرهم علماً فی العالم الاسلامی و العربی بل هو من عظماء المجتمع الانسانى وكبراء العالم البشرى ومن الشخصيات الافذاذ واكابر شيوخ الاسلام وأعاظم فقهاء الشيعة الاعلام وأحد اركان الدين المجددين وروّاد النهضة ودعاة الاصلاح ورث زعامة الدين عن آبائه الفطاحل واجتمعت فيه خصال الكمال والفضائل وقام بالاعمال الجلائل والاصلاحات الخطيرة.
ولد الامام كاشف الغطاء في سنة «1294ه-.» في النجف الأشرف وأسرته من قبيلة بنی مالك من قبائل العراق المعروفة وتعرف الآن ب- «آل على» يقيمه قسمه منهم الآن في نواحى الحلة وينتهی نسبهم الى مالك بن الحارث الأشتر النخعی رضوان الله عليه من خواص اصحاب امير المؤمنين علیه السلام .
كان فقيهاً قوى الحجة والبرهان مجتهداً في المبانى لا مقلداً في المبنى واسع
ص: 5
الاطلاع حرّاً في آرائه ونظرياته كان يتنزع كثيراً من الفروع من ذوق عربی سليم قد ارتكز على فهم نصوص الاخبار والروايات التی يتنبى عليها المذهب الجعفرى ويمتاز بالجرأة في ابداء الرأى الذى يراه قد ارتكز على الحجة وسانده العقل وكتابه تحرير المجلة وهو من أهم آثاره دليل قوى على تضلعه في الفقه وجلالة مؤلفه وعظمته في مقام الاستنباط .
لمّا بلغ العاشرة من عمره الشريف شرع بدراسة العلوم العربية ثم قرأ علوم البلاغة كالمعانی والبيان والبديع مع العبقرية الفذّة والثقافة الأدبية في بنيته التي نشأ فيها فانّ في بيته تسلسل العلماء والأدباء منذ قرنين وهو يتعلم الآداب بين أظهرهم منذ ترعرعه وشبابه ثم درس الرياضيات من الهيئة والحساب واضرابهما وبرع في الآداب براعة لا يدانيها فيها أحد وصار أستاذاً ماهراً في النظم والنثر وكفاك شاهداً كتابه «العبقات العنبرية» وأخذ بدراسة سطوح الفقه وأصوله واتّمها وهو بعد شابٌ فأخذ بالحضور عند الاساتذة الكبار في حلقات العلم وحضر دروس الطبقات العليا كالمحقق الخراسانی والسيد اليزدي والهمدانی و السيد محمّد الاصفهانی وميرزا محمّدتقی الشيرازى ومحمّد باقر الاصطهباناتی والشيخ احمد الشيرازى والعلامة على محمّد النجف آبادى وحضر في الحديث والرجال عند العلامة المحدث النورى .
اما اخلاقه وعاداته وسلوكه كانت تنطبق على أخلاق العباقرة والعظماء والنوابغ من الناس شديد التمسك بالآداب السلامية والتعاليم الدينيه خصوصاً أدب أئمة أهل البيت علیهم السلام وتعاليمهم العاليه فقد امتاز بحافظته القوّية ، وحضور البديهة، وحدّة ذهنه وتوقدّه وصفاء نفسه فلم يكن يحل حقداً وضغينة على أحد ، ويعفو عمّن أساء اليه ، ويقابل الجاهلين والمخطئين بالحلم ورحابة الصدر .
سافر عام 1329 ه-. من النجف الى مكة المكرمة لاداء فريضة الحج ومن مكة
ص: 6
توجه الى دمشق ومنها الى بيروت ومكث في ربوع سورية ومصر ثلاث سنوات وفي سفره للحج كتب رحلته التی أسماها « نهزة السفر ونزهة السمر » وفي مدة توقفه بمصر درّس الفقه مرة في الفصاحة والبلاغة أخرى في جامع الأزهر وكان يهجم على نوادى التبشير التي تنعقد كل ليلة في كنيسة من كنائس الامر يكان ومدارسهم ورد على الخطيب المبشّر والّف كتاب « التوضيح » .
وكذلك اشترك في الحركة الوطنية مع بعض أحرار سوريا وطبع في هذه السفرة كتابيه الشهيدين « الدين والاسلام » وكتاب « المراجعات الريحانية ».
وفي عام 1350 ه- سافر الى فلسطين وحضر المؤتمر الاسلامی في القدس الشريف بعد دعوات متكره من لجنة المؤتمر وأتَمَّ به في الصلاة جميع اعضاء المؤتمر وخلّفهم عدد كثير من اهالی فلسطین يناهز عددهم عشرين الف نسخة وكان ذلك ليلة المعراج 27 رجب في مسجد الأقصى وخطب خطبة تاريخية ارتجالية طويلة طبعت مستقلّة .
وفي عام 1352 ه- توجه الى ايران عن طريق كرمانشاه ورجع من طريق بصرة ومكث نحو ثمانية أشهر متجولاً في المدن داعياً الايرانيين الى التمسك بالمبادي الاسلامية وقد خطب باللغة الفارسية في مدن : كرمانشاه و همدان وطهران وقم في الصحن الفاطمي بعد أن فوّض اليه الزعيم المرجع الحائرى اليزدی صلاة الجماعة فكان يخطب بعدها وهكذا في شاهرود والمشهد المقدس واصفهان وشيراز وكازرون وبوشهر ، واهواز و عبادان واجتمع مع ملك ايران ( البهلوى ) في طهران بعد أن طلب منه ملاقاته واجتمع مرّتين متواليتين معه ونصحه وتذاكر معه في شؤون اسلامية وأمور دينيه .
وكذلك سافر الى ايران عدّه مرات للاصطياف او زيارة مرقد الامام الرضا علیه السلام او المعالجة.
ص: 7
وسافر في صيف عام 1370 ه- الى لبنان وفي جمادى الاولى 1371 ه- سافر الى كراتشی للحضور في مؤتمر الاسلامی .
اما مواقفه الاصلاحية فهى معروفة في تاريخ العراق والمسلمين :
1 -اخماد فتنة عبد الرزاق الحصان في كتابه « العروبة فی الميزان » الذي طعن فيه العلويين وشيعتهم ومجّد الأمويين ودولتهم واحداث هياج في بغداد والعتبات المقدسة وبعض مدن العراق وخاصة في النجف الأشرف .
2 -اخماد ثورة عشائر الفرات عام 1353ه-.
3 -ابطال العادات المؤذية من العراق في العشرة الاولى من شهر ربيع الاول من كل عام . عام 1353ه-.
4 -منع الشغب والمظاهرات التی حدثت في وزارة نور الدين محمود.
5 -موقفه من مؤتمر بحمدون تحت رعاية الولايات المتحدة الامر يكية وكتب فی ردّهم « المثل العليا في الاسلام لا في بحمدون».
اما مؤلفاته المطبوعة في الحكمة والكلام والاخلاق والفقه وغيرها فكثيرة :
1 -الدين والاسلام او الدعوة الاسلامية ، 2 -المراجعات الريحانية ، 3 -الآيات البينات في الردّ على الفرق الضّالة ، 4 -التوضيح فيما هو الانجيل ومن هو المسيح ، 5 -الفردوس الاعلى ، 6 - اصل الشيعة وأصولها ، 7 -الارض والتربة الحسينية ، 8 -نبذة من السياسة الحسينية، 9 -الميثاق العربي الوطني، 10 -المثل العليا في الاسلام لا في بحمدون ، 11 -المحاورة مع السفيرين ، 12 -عين الميزان ( في الجرح والتعديل ) ، 13 -نقد كتاب « ملوك العرب » للريحانى ، 14 -مختارات من شعر الأغانى ، 15 -الخطبة التاريخية في القدس ، 16 -خطبة الاتحاد والاقتصاد ، 17 -الخطب الأربع ، 18 -مبادئ الايمان ، 19 -مقتل الامام الحسين علیه السلام ، 20 -المسائل القندهارية ، 21 -حاشية على التبصرة للعلامة الحلي ،
ص: 8
22 -وجيزة الاحكام ، 23 -زاد المقلدين ، 24 -مناسك الحج ، 25 -حاشية على العروة الوثقی ، 26 -حواشی على سفينة النجاة ، 27 -تحرير المجلة ( فقه مقارن) ، 28 -حواشى على عين الحياة ، 29 -حاشية على مجمع الرسائل ، 30 -تعليقات وتراجم على ديوان السيد جعفر الحلى ، 31 -تعليقات على ديوان السيد الأعظم السيد محمّد سعيد الحبوبی ، 32 -تعليقات على الوساطة بين المتنبّی وخصومه ،
33 -تعليقات على معالم الاصابة ، 34 -تعليقات على « الكلم الجامعة والحكم النافعة » ، 35 -حاشية على كتاب الاسفار لصدر المتألهين ، 36 -حاشية على رسالة العرشية لصدر المتألهين ، 37-حاشية على رسالة الوجود لصدر المتألهين ، 38 -دائرة المعارف العليا ، 39 -حاشية على رسائل الشيخ الانصاری ، 40 -حاشية على مكاسب الشيخ الانصارى، 41 -تنقيح المقال في مباحث الالفاظ، 42 -حاشية على الكفاية للخراسانی ، 43 -رسالة في الجمع بين الاحكام الظاهرية والواقعية ، 44 -حاشية على القوانين ، 45 -رسالة في الاجتهاد والتقليد ، 46 -مغنى الغوانی عن الأغانى ، 47 -ديوان الشعر ( الشعر الحسن من شعر الحسين ) ، 48 -نزهة السمر ونهزة السفر ، 49 -ترجمة حياته مفصلاً بقلمه : ( عقود حیاتی ) ، 50 -تعاليق على أمالی السيد المرتضى علم الهدى ، 51 -تعاليق على أدب الكاتب لابن قتيبة ، 52 -تعاليق على الوجيز في تفسير القرآن العزيز ، 53 -تعاليق على نهج البلاغة ونقود على شرح الشيخ محمّد عبده ومؤاخذات عليه ، 54 -تعليقات على الفتنة الكبرى لطه حسين ، 55 -منتخبات من الشعر القديم مجموعة كبيرة ، 56 -منتخبات من الاحاديث والأخبار والتراجم وغيرها ، 57 -تعریب کتاب « الهيئة » ، 58 -تعريب كتاب « حجة السعادة في حجة الشهادة » ، 59 -تعريب وتخليص رحلة : « ناصر خسرو » الحكيم المشهور ، 60 -كتاب صحائف الابرار في وظائف الاسحار ، 61 -كتاب في استشهاد الحسين علیه السلام ، 62 -رسالة عن الاجتهاد
ص: 9
عند الشيعة ، 63 -العبقات العنبرية في الطبقات الجعفرية في تراجم علماء النجف وتاريخها الحديث ، 64 - جنّة المأوى -هذا الكتاب بين يدي القارىء العزيز . (1)
وأخيراً في صباح الجمعة 15 ذى القعدة 1373 ه- سافر الى بغداد لمعالجة التهاب الذی عاد اليه وانتابه قبل سنة ، في مستشفى الكرخ وبقى شهراً واحداً ورغب فی الخروج من المستشفى والسفر الى ايران للاستجمام فی ربوع ايران الى أن وصل الى قرية كرند ، الواقعة بين خانقين وكرمانشاهان في الاراضی الايرانية ، وبعد وصوله اليها ولم تستقر به النوىٰ ووقعت الوقعة العظمى والمصيبة الكبرى التي عمّت العالم الاسلامي ، اختطفه ريب المنون وانتقل من دار الفناء الى دار البقاء الى جوار ربه الكريم بعد ادائه لفريضة الفجر صباح يوم الاثنين 18 ذی القعدة سنة : (1373 ه-) وقد أشار الاستاذ طالب الحيدرى فی قصيدته التي ابن بها شيخنا المغفور له الى أن موت شيخنا الفقيد كان مقصوداً قال :
مات الجرىء الفذ يدفعه *** اخلاصه ليقول مندفعاً
ما مات حتف الانف أحسبهم *** قد جرّعوه من الرّدى جرعا
قتلوه ثأراً منه أو حذراً *** والله اعلم بالذی وقعا
فسلام الله عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حياً.
ص: 10
صدق الله العليُّ العظيم حيث يقول : ( ذَرْهُمْ يَأكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) . (1)
فى هذا الشهر المبارك شهر ربيع الاول الذی قد يطلق عليه شهر النور وشهر المولود المبارك لاتفاق المسلمين على أنّ أيامه نزلت الرحمة من السماء الى الارض. وأنبثق النور الالهى من الملاء الاعلى ، أشرقت الدنيا كلها بنور ربها ، وجاء عن رب العالمين سيد الانبياء والمرسلين بشيراً ونذيراً، وداعيا الى الله باذنه وسراجا منيراً ، وعلى سطح هذه الكرة حففة تزعم أنها من البشر وليست هی من البشر ، وتسمّى أنفسها بالمسلمين وما هی من المسلمين، تقيم الاحتفالات وتضع المهرجانات تكريما وتعظيما لهذا المولود المبارك الذی تقول: انه نبی الرحمة، وان الله أخرجنا به من الظلمات الى النور ، فيجب علينا اظهار الفرح والسرور واعادة تلك الذكريات العليّة الطيّبة .
ص: 11
نعم يحتفل المسلمون بعيد مولد نبيّهم الاعظم فى هذا الشهر ، ولم يكن شيء من هذه الاحتفالات فی القرون الاولى يوم كان الاسلام فی أوج عزه وبرج رفعته وعظمته ، يوم كان المسلمون يعرفون حق المعرفة معنى الاحتفال الصحيح لمولد نبيهم صلى الله علیه و آله و سلم.
الاحتفال الصحيح الذى يبتهج به النبی صلى الله علیه و آله و سلم ويسرّه هو الاخذ بتعاليمه واتّباع سنّته والعمل بقرآنه ، الاحتفال الصحيح أن يكون المسلم مسلماً حقيقة ومعنى لاصورة و لفظا ، وقد جعل سلام الله عليه للمسلم علامات كثيرة أقلها وأولها وأن يهتم المسلم بأمور المسلمين حيث قال : من لم يهتم بأمور المسلمين فليس من الاسلام بشیء وعلى ضوء هذه القاعدة يجب أن نمتحن أنفسنا ونضع فی الميزان اسلامنا ، هاهم اليهود فی كل شهر أو كل يوم ، تشنّ الغارة على قرية من قرى المسلمين فی فلسطين تقذفهم بالقنابل الجهنّمية ، وتنسفها نسفا وتذرها قاعا صفصفاً ، وتهلك تحت انقاضها ومبانيها جميع من فيها ، يضعون بالمسلمين ما لم يضعه حتى فرعون مع آبائهم بنى اسرائيل، فانه كان يذبّح أبنائهم ويستحيى نسائهم، أما بنوا اسرائيل اليوم فيذبحون بالنار والحديد الرجال والنساء والاطفال، وتتكرر هذه العملية منهم فى كل سنة عدّة مرّات وهم بين سمع المسلمين وبصرهم وبين سبع دول كل واحدة تزعم أنها مسلمة ، وهى مشغولة بنفسها لا يهمّها من امر اولئك المساكين مقدار بعوضة ، وهكذا الحال مع المسلمين فی المغرب العربی وما تعانى تونس ، ومراكش ، والجزائر من فرنسا من الشنق والحرق و الاعدام لأولئك الاحرار الكرام ، واعطف بنظرك ثانيا او ثالثا الى المحميات التسع وعدن واسمع ان كنت ذاسمع وبصر ما يصنعه الاستعمار الجبّار فی مسلمى تلك الديار من الاستيصال والدمار ، يقولون : ان عدد المسلمين أجمع على أقل تقدير [مليار و ] أربعمأة مليون ، فلو أن الربع من هؤلاء كانوا مسلمين حقّا .
ص: 12
وكان فيهم أقل علامات المسلم وهى الاهتمام بأمر اخوانهم المسلمين لانقذوهم من تلك المهالك ، ولو أن ما ينفقه المسلمون فی هذه الاحتفالات من الاموال، و ما يبذلونه فى المواليد من مصر وغيرها ليس فى مولد النبی صلى الله علیه و آله و سلم فحسب بل فی مواليد مشايخ الطرق : كالبدرى ، والاحمدى ، والدسوقى ، وأمثالهم وما يتفاخرون به من البذخ فى السرادق و الاضوية الكهربائية والمشروبات الكحولية وغيرها لو تجمع هذه الاموال وترسل الى المشرّدين من عرب فلسطين فتحفظ ما بقی من رمق حياتهم التی اصبحت رهن وطأة الزمهرير والمطر الغزير ، وتمدّهم بالسلاح والعتاد وتحفزهم الى الجهاد ، أما كان خيراً للمسلمين من تلك الاعمال التی ما كان المسلمون يعرفون شيئاً فى العصور الاولى ؟ وما تأخّر المسلمون واندحروا وذلّوا الا من العصر الذی شاعت وانتشرت فيه هذه المحدثات التی أماتت العزائم وسلبت من المسلمين كل الحميّة والغيرة ، ولو ان ما يبذله العرب بل عموم المسلمين كل ليلة على الملاهى وفى المقاهى والخمور والفجور والمقامرات يجمعونه لانقاذ فلسطين عوض أن تتسرب تلك الاموال الى جيوب الاجانب والمستعمرين فتعود وبالاعلينا وسلاحا للفتك بنا ولو أن الحكومات العربية بل الدول الاسلامية منعت رعاياها من صرف الاموال فی تلك الموبقات ، وأنفقتها فی تلك المهمّات لحازت الوزن الثقيل بين الامم وسعدت هی ورعاياها .
وأشهد بالله شهادة حق لو كان عندالمسلمين ذرّة من الغيرة والاسلام بمعناه الصحيح لما صبروا وتطامنوا لهذا الذل والصغار وتحمل الخزی والعار ، ولما أبقوا على وجه الارض مهيونيا يذكر ، نعم وما أصدق قوله علیه السلام : « ماکره قوم طعم الموت الا ذلّوا » ، و زبدة المختصر والحق المحض أن البلية ما أشعل نارها على فلسطين الا الحكومات العربية ، فهى أصل الداء ، ويجب أن يكون منها الدواء، ولكنی أخشى
ص: 13
أن تأتى هنا كلمة امير المؤمنين علیه السلام لاهل العراق عموما اولاهل الكوفة خصوصا حيث يقول لهم : « أريد أن أتداوى بكم أنتم دائى كناقش الشوكة بالشوكة و ضلعها معها » واذا لم تبادر الحكومات العربية التی يعبر عنها الصياهنة بالدعائم السبعة المنهارة تارة و بالفيران السبع أخرى ؛ و امامها (هرّ) يريد أن يبتلعها ، فاذا لم يحفزها كل هذا التحدّى الى الوثبة و تعجيل الضربة، وتمادت على المماطلة والتسويف كرامة لسواد عيون أسيادهم ذوى العيون الزرقاء ، نعم اذا تمادوا فی حبال هذا الوبال كان لزاما على الشعوب العربية أن تنهض و تشق الطريق بنفسها لتأخذ ثارها وتغسل عارها ، فاما موتة حرّ شريفة أو حياة نظيفة :
فاما حياة تبعث الشرق ناهضاً *** واما ممات وهو ما يرقب الغرب (1)
وبعد ذلك يحسن منها أن تقيم الاحتفال بالمواليد النبوية والاعياد الاسلامية ، أما فی هذه الحال فحق عليهم اقامة المآتم ، ولبس الحداد والمآتم ، ولاشك أن رسول الله صلى الله علیه و آله و سلم يطل عليكم أيها الناس من سماء عليائه ساخطا عليكم فی هذه الاحتفالات والزائفة التی ما هى الا لهو ولعب ، وتيقنوا أنكم اذا لم تتداركوا هذا السيل الجارف من البلاء فلاشك ان مصيركم جميعا الى الفناء ، ولا يبقى للعرب ذكر الا فى التاريخ الاسود لاغير ، وتصح فيكم الاية التی افتتحنا بها كلمتنا هذه : ( ذَرْهُمْ يَأكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) ، هذا هو الاحتفال الصحيح لعيد المولود النبوى صلى الله علیه و آله و سلم .
ص: 14
مولد النبی الكريم وبعثته
وانت لما ولدت أشرقت الار *** ض وضائت بنورك الافق (1)
فى أخريات القرن السادس من ميلاد المسيح علیه السلام كانت الارض ثؤرة فساد وضلالة ؛ وحمأة طيش وجهالة ؛ من بغى عدوان وعبادة أوثان وحروب طاحنة ؛ وأحقاد ملتهبة وغارات متواصلة ، ليس فى ظلمتها المتراكم بعضها على بعض بصيص من نور هدى ولا بارقة أمل فی سداد.
لاجرم أن الانسانية بروحها الطاهرة ونفسها المجردة عن سلطان الهوى والشهوات كانت تعج وتضج الى بارئها أن يبرّبها ويبرئها ويعطف عليها فيبعث لها من يبلسم (2) جراحها ، ويصف بها صلاحها ويدلّها على سعادتها الدائمة وحياتها الخالدة ؛ ويحكم فيها سلطان العدل والعقل فيصلح الفاسد من كل نواحيها ، ولا ريب أن الرّب - جل شأنه - ما خلق الانسانية ليرمى بها فی تيّار من الشقاء تتقاذف بها أمواجه ، وتترامى بها أعاصيره طول الابد ، بل خلقها للنعيم والسعادة ، وللهنا والرحمة ونعمة الخلود فی الابدية هنالك حيث الحرة (3) السوداء والجبال الجرداء والحجارة الخشناء والعرصات القاحلة والرمال الملتهبة، هناك حيث لازرع ولا ضلوع ولا شجراء ولا نضراء، هناك بين أطواد تهامة وجبال فاران وربوات حوريث وساعير ، هناك من جوامع الجبروت وصوامع الملكوت
ص: 15
وغيب الغيوب وسرّ الهوية الاحدية وأعماق الابدية وأمواج العناية الازلية ، هناك فی غسق الليالی المدلهمة وحنادس الجهل والجاهلية هناك فى الوسط الذى أماته الجهل و أعياه الهوى وسخره سلطان الشهوات واستحكمت فيه غرائز الرذيلة.
هناك انبثق بر كان (1) من النور الالهى والقبس الربوبى فبزغت أنوار شمس المحمدية صلی الله علیه و آله و سلم وهبت فى الاكوان نسمات البشرى بحامل مشعل السعادة الابدية.
ها ان محمّداً صلی الله علیه و آله و سلم (ولذكره المجد والشرف) قد وجد و ولد ونمی ونشأ يمثل روح الاخلاق الفاضلة فی ابّان صباه ، وريعان شبيبته وفی جميع أطواره وأدواره منيعا وديعا ، أمينا ورزينا ، عفيفا شريفا ، فكوراً وقوراً ، قوى الارادة عظيم الهمة ، فحل العزيمة ، دقيق الاحساس رقيق العواطف ، رحيم القلب حليم النفس ، جميل الصورة حسن السيرة ، مغناطيس النفوس محبوب القلوب ماكذب قط ولاخان و
لامان ، ولامكر ولاغدر ، ولاسجد لصنم ولا انثنى لوثن كل ذلك وما اليها من السجايا الغالية والمزايا الباهرة والمعارف السامية كانت طباعا لا تطبعا ومواهب لامكاسب ، من غير معلم و لامر شد ، ولا مربّ ولا مدرّب ، ولامدرسة ولامدرّس ، ولا مطالعة كتب ولا مراجعة صحف وكانّه قبل أن يتجاوز شعوب مكة قد عرف كل الشعوب وخبر أحوال الامم وسبر طبقات البشر . ودرس نفسیات الخلائق وقلبها بحثا وعلما فعلم ما هى ادواء البشرية وما عللها وامراضها ، وما هو دوائها وعلاجها وما هو السبيل الى رحمة تلك الانسانية المعذّبة وتخليصها من قديم شقائها ومزمن دائها .
ثم ان محمّداً (خلد الله شريعته و أعلى كلمته) عند ما بلغ أشده واستوى جدّه وشاع فی أحياء العرب اريج ذكره ، واستبحر فی الارض خليج فخره ، وبدا
ص: 16
للحاضر والبادى عظيم شأنه ورفيع شأوه ، ووقف قومه على منيع مقامه وبازخ أعلامه حتى اذا قرب من الاربعين طفق يطلب الخلوة لنفسه ويعتزل عن أبناء جنسه وصار يترهّب تلك الرهبانية الصحيحة التی لا تحجف بواجب شیء من النفس او البدن ، بل تعطى كلاً من تكميل قسطه وتوفى بحسبه شرطه ، وتستوفى حظوظها منه على مدرجة الصواب وأحسن الانتخاب والاستقامة على حد المركز والوسط والاعتدال بين الاطراف من غير ميل ولا انحراف ، وهذه اول ترشيحة الوحى وترشحة للنبوّة ، وتأهل للبعثة وتسديد من الغيب فجعل ينقطع ويتجرّد ويروح الى معلّمه الروح المجرد (1) ويقيم خارج البلد فی شعب (حراء) يتحرّى مهب نفحات العناية من بين وارداته القلبية ، ويترقب خلع التشريف والكرامة من متحف الربوبية ويطامع اسرار الملك والملكوت مما رقمه قلم الازل على صحيفة نفسه القدسية ، ويتأهب للهبة بما تفرسه حدسه وحدسته نفسه ، وتقدمت له دلائله ، وهتفت فيه بشائره ، من تشريفه بتلك المنزلة الشريفة ، وتعينه لهاتيك الوظيفة ، بعثه بتلك المصلحة العامة ، والمسألة الهامة البالغة أقصى مبالغ الصعوبة والحاجة والكلفة والمشقة ودفعه الى تقحم ذلك المأزق المتلاحم والتهجم على
ص: 17
غيوم ذلك البلاء المتراكم ، ولكن « على قدر اهل العزم تأتى العزائم » وعند العظم تصغر العظائم، فأول ما كان له من طلائع النبوة وقدامى الحى والبعثة وقوع الرؤيا الصادقة منه التی تجیء كفلق الصبح له ، (1) ثم تعقب ذلك سماع الصوت دون معاينة الشخص قائلا له غير مرة : يا محمّد انك رسول الله ، فكانت تأخذه عند ذلك من الوحشة والدهشة ، واللذة المشوبة بالعجب والانس المشتبك بالغرابة حال يقصر أبلغ يراع بليغ عن تصويرها ، ويكل لسان كل مثيل عن تمثيلها ، وكان لتلك الحال روعة تدفع لجسمه الشريف مثل الهزة و الفزة (2) ويصيبه الافكل والرعدة كدأب المبتهج المستبشر .
نعم ثم تدرّج الوحى اليه على مقتضيات الحكمة ، اذ التعاليم ثمة وان كانت اللآهية ولكن لها على قداستها وجهة بشرية ، فلاجرم ترد متدرجة حسب القوابل ومقتضيات الاساليب والعوامل ، فتجلّى له الملاك بالوحى المبين ، والكلام الصادر بألفاظه ومعانيه ، ومقاصده ومبانيه من مصدر الناحية الربوبية والمعمل الالهى والعلم غير المتناهی ، قائلاله - وهی أول سورة نزلت عليه من ذلك الكتاب المقدس والطراز الانفس - اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِی خَلَقَ ٭ خَلَقَ الْإِنْسٰانَ مِنْ عَلَقٍ ٭ اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ ٭ الَّذِی عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسٰانَ مٰا لَمْ يَعْلَمْ ) (3) فقرأها وانصرف عنه ،
ص: 18
ثم جائه بعدها بسورة الفاتحة ، ثم انقطع الوحى زمانا ولكن ارفاقا به واشفاقا عليه ، فما أحسبك الا خبيراً بأن قوى البشرية والاخلاط العنصرية وكل ما عملته او عملت فيه الطبيعة والمادة يضعف ويكلّ ويتأثر وينفعل عند هجوم مافوق الطبيعة عليها من مشاهدة تلك الارواح المقدسة، والانوار القاهرة التی هی من عالم الملكوت وصقع الجبروت ، وهذا أمر ضروری محسوس فی كيان الطبيعة وبيئة المادة وخلية العناصر ، فانك لو حبست طفلاً فی مختبأ من الارض حتى اكتملت فطرته و تم تمييزه وعقله. ثم اخرجته فجأة الى هذا العالم المحسوس فوقع بصره دفعة على شموسه المتألقة، وأجوائه المتّسعه ؛ وأشجاره المتسقة ، وأنهاره المتدفقة الى غير ذلك من غرائب الصنع وعجائب الابداع لما شككت أنه ينشق قلبه وينذهل له ، ويأخذه مثل الادوار والدهشة والانبهار والهزة والرعدة ، وتأتى الصدمة على عقله ، والصككة (1) على جسمه والضغطة على فؤاده وقلبه ، ولاشك أن عالم الغيب من عالم الشهادة على تلك النسبة بل وبأضعافها المتضاعفة فما ظنّك بهذا الجسد البشرى المؤلف من تلك المواد العنصرية السريع الانحلال والانفعال الضعيف التأليف ؛ وزد عليه الملاك من العوالم الملكوتية ، او تحل لمن له قبس من سذق (2) الهياكل الجبروتية ، كيف لا تتلاشی عناصره و تتفرق أجزائه و تثور الى الاثير دقائقه الا بماسك من يد القدرة التی لا تغلب و القوة التی لاتعجز عن شیء ولا تنكب.
ألا فبعين عناية الله جسد محمّد صلی الله علیه و آله و سلم « ألا فسلام الله على جسمه المقدس و روحه المجرد » ألا لاجرم لو عرضته عند نزول الوحى عليه تلك الهزة والفزة ولاغرولو اتقدت الحرارة الغريزة فى تامور صدره حتى يتغير لها وجهه ويضطرب
ص: 19
بدنه ، وتنتقل الرطوبات الداخلية وتترشح على سطح بشرته فيتجلله العرق ويأخذه شبه الحياء والفرق ؛ (1) ثم اذا سرّى عنه سكنت الحرارة ، وقبل الجسم الهواء اللطيف من خارج فيبرد المزاج و تأخذه مثل القشعريرة والنفضة الباردة ؛ لمباغتة البرودة للحرارة دفاعا ، فيأتى الى مرقده الشريف و يقول : زمّلونی او دثّرونی ، فتردّ عليه ثيابه ، وتجمع فوقه غطائه ليتسخّن ويستريح ويأمن ، ففى احدى ضجعاته ما أهاب به الوحى قائلا : ( يٰا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ٭ قُمْ فَأَنْذِرْ ٭ وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ ٭ وَ ثِيٰابَكَ فَطَهِّرْ ٭ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ٭ وَ لٰا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ) (2)
ص: 20
منّا يؤيد أن نبيّنا المحبوب محمّد صلی الله علیه و آله و سلم ليس بأمّى وانما يقرء ويكتب بلغات كثيرة . بينما ان الآخر يؤيد انه صلوات الله عليه أمی لايعرف من القرائة والكتابة شيئاً مذكوراً عليه .
الجواب:
ان كلّاً منكما قد وصل الى طرف من الحقيقة وأصاب جانبا من الصواب ، أما القائل ان النبی صلی الله علیه و آله و سلم كان أمّيا فقد أصاب ولكن بمعنى انه ما كان يقرأ ويكتب لا أنه لا يعرف القرائة والكتابة وكونه أميّا بهذا المعنى ، أى عدم تعاطيه للقرائة والكتابة عليه اجماع المسلمين و منصوص عليه فی القرآن الكريم بقوله تعالى : ( وَ مٰا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتٰابِ وَ لٰا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَرْتٰابَ الْمُبْطِلُونَ ) (1) ولكن لم يثبت من
ص: 21
الاجماع ولا من الكتاب انه لم يكن يعرف الكتابة والقرائة بحيث يكون فاقداً لهذا الكمال ، ومن هنا تبيّن أن الاول منكما الذی يقول انه ليس بأمی ان أراد انه يعرفها فهو مصيب ، وان أراد انه كتب وقرأ فهو مخطىء ومخالف لنص الآية المتقدمة.
والخلاصة ان النبی صلی الله علیه و آله و سلم كان حائزاً لكمال الكتابة والقرائة من حيث الملكة والقدرة لان النبی صلی الله علیه و آله و سلم يلزم أن يكون متّصفا لجميع صفات الكمالات بل يلزم ان يكون أكمل أهل زمانه ، ولاريب ان الكتابة والقرائة كمال وفقد هما نقص ، ولكن مصلحة التبليغ ورعاية الاعجاز فی محيطه وزمانه اقتضت حسب الحكمة ان لا يتعاطاهما تكميلا للمعجزة ، وهذه هى الحقيقة الناصعة .
هذا مختصر الجواب الذى سبق منا من عهد بعيد ، اما الان فعندنا جواب لعله أحق وأدق وأولى بالقبول وهو ان الكمالات والبشرية جسمانية او روحية انما هی بالنسبة الى غاياتها تكون نقصاً او كمالا ، وتوضيح ذلك ان البصر مثلا انما هو كمال النظر الى حصور الغاية التی ترتبت عليه - و هی رؤية الاشياء - و العمى نقص النظر الى عدم حصول الرؤية فيه ، فلو أن شخصا يرى الاشياء من دون حاجة الى
ص: 22
العين، فهل عدم العين نقص فيه فی حال انه يرى الاشياء أحسن ممّا يراه صاحب العين ، فالقرائة والكتابة كما لهما بالنظر الى معرفة الاشياء والاطلاع على مقاصد الغير او ابلاغ مقاصده الى الغير ، فلو ان شخصا يعرف مقاصد الناس من دون أن ينظر الى كتبهم ورسائلهم ويستطيع أن يبلغ مقاصده الى الناس من غير حاجة إلى الكتابة ، فهل هذا نقص فيه او هو كمال بل هو فوق الكمال ؟ و هذه هی صفة النبی صلی الله علیه و آله و سلم فی أمّيته ، وهذا جواب مبتكر لم يسبق اليه أحد وهو عين الحقيقة والواقع هذا .
ص: 23
ص: 24
هل القرآن أفضل من محمّد صلی الله علیه و آله و سلم أم محمّد أفضل من القرآن ، و كيف ذلك! واذا كان محمّد أفضل من القرآن فهل انّ علياً علیه السلام أفضل من القرآن ؟ وما هو الدليل على ذلك ؟
الجواب
بمقتضى الحديث المشهور والمتفق عليه عند الفريقين وهو قال النبی صلی الله علیه و آله و سلم : « انى تارك فيكم الثقلين : كتاب الله و عترتى اهل بيتی لن يفترقا حتى يردا على الحوض » ، مقتضاه تساوى القرآن والعترة ، ويؤيد ذلك أن عليا علیه السلام هو الكتاب الناطق والقرآن هو الكتاب الصامت وكل منهما محتاج الى الاخر ، فالامام يفسّر القرآن ويوضّح ما أشكل منه ، فالقرآن محتاج الى الامام و الامام محتاج الى القرآن ، لأنّه يشتمل على أحكام الله ونواميسه وشرائعه ، فكل منهما محتاج الى الاخر ، والنّبی صلی الله علیه و آله و سلم وعليّ صلوات الله عليهما نور واحد وما يجرى لاحدهما يجرى على الاخر عدا النبوة . واعلم أن السؤال عن الأفضلية عنّا هو من مقام الفضول ،
ص: 25
لا يجوز عند ذوى العقول ، ولا يسأل العبد عنها يوم القيامة ، وما كلّفنا الله سبحانه وتعالى بها ولا يعاقبنا على عدم معرفتها (1) وانما كلّفنا العبادات : الصلاة ، والصوم وغيرهما ، وهی التی يعاقبنا على الجهل بها ، وهی التی يلزمك أن تسأل عن أحكامها وفروعها فاللازم عليك ان لاتسأل عن مثل تلك الأسألة التی لا فائدة فيها ولا طائل تحتها ؛ اذا سئلت فقل لكل فضل ، وعلم الافضلية عندالله ، وهذه من أحسن النصائح ، ولم يثبت هذا من قول النبی صلی الله علیه و آله و سلم سل عن امور دينك الخ - وهذه الاسألة ليست من أمور الدين ولا من أصول الدين ولا من فروعه .
ص: 26
ورد فی الحديث عن النبی علیه السلام قال : يا على اذا فاضت نفسى(1) فتناولها بيدك
ص: 27
وامسح بها وجهك ، فالى أيّ نفس كان يشير ؟ .
الجواب
فاعلم أنه قد ورد فى الاخبار المعتبرة أن كميلاً وهو من خواص أصحاب أمير المؤمنين سلام الله عليه قال : سيدى أريد أن تعرّفنی نفسی فقال : ياكميل من أيّ نفس تسأل ؟ فقال : يا مولاى وهل هی إلّا نفس واحدة ؟ فقال ياكميل انما هی أربع : النامية النباتية ، والحسية الحيوانية والناطقة القدسية (1) والالهية الملكوتية (2) ثم ذكر له خواص كل نفس فی بيان وافى ، ولا ريب أن لكل واحدة من هذه النفوس مراتب ودرجات ، وأن النباتية والحيوانية تضمحل وتفنی بموت الانسان وانما يبقى الناطقة القدسية الموجودة فى عامة البشر ، وادناها ما يقارب نفس البهائم : ( إِنْ هُمْ إلّٰا كَالْأَنْعٰامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ) ، (3) وأعلاها روح القدس المتصلة بمبدأها الاعلى وهى أرواح الانبياء والائمة علیه السلام التی اتصلت به وما انفصلت عنه ، وتتصل بهذه الأبدان البشرية للتبليغ والهداية مدة ، ثم تنفصل عنها وهی فی جميع احوالها لاتنفكّ متعلقة بحظيرة القدس وسدرة المنتهى ، وفی دعاء الناحية المقدسة من أدعية رجب ؛ لافرق بينك وبينها الا أنهم عبادك وخلقك ، وهى العقل الاول الكلى وأول
ص: 28
ما خلق الله الذى به يثيب وبه يعاقب ، وهو الحقيقة المحمدية التی تحمل الرسالة العظمى وزعامة الانبياء الكبيرة والسيادة على كل ما خلق الله ؛ لما انفصلت من بدنه العنصری الشريف أمر خليفته أن يتحملها بأمرالله ويتوجه اليها ويمسح بها وجهه كناية عن قبولها والتبرّك بها كما يمسح الانسان وجهه بالاشياء المقدسة من القرآن او التربة ، وكان النور واحداً من بدء الخليقة وقبلها فی الازل ؛ لم يزل ينتقل فی الاصلاب الطاهرة والارحام المطهرة الى أن وصل الى عبدالمطلب فانشطر شطرين : شطر لعبد الله ، والاخر لابی طالب ، فكان الاول رسول الله والثانى أمير المؤمنين ، وبوفاة رسول الله رجع النور واحداً فی على علیه السلام كان هذا مختصر ما يمكن أن يقال فی هذا المجال ، وهنا أسرار الهية ، وحقائق عرفانية لا يتسع المقام للكشف عنها ، وفيما ذكرناه كفاية ان شاء الله تعالى.
ص: 29
ص: 30
( فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَ مَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلّٰهِ الَّذِی نَجّٰانٰا مِنَ الْقَوْمِ الظّٰالِمِينَ ٭ وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِی مُنْزَلاً مُبٰارَكاً وَ أَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ) (1) ( وَقٰالَ ارْكَبُوا فِيهٰا بِسْمِ اللهِ مَجْرٰاهٰا وَ مُرْسٰاهٰا إِنَّ رَبِّی لَغَفُورٌ رَحِيمُ ) (2) .
هذه السفينة فی الزمن الاول والعهود المتوغلة فی القدم أول مركب نجى به جميع من على وجه الارض من المؤمنين المستضعفين ، تخلّصوا من سطوة الغاشمين ، وسيطرة الظالمين ، بعد الجهود الطائلة ، واتمام الحجة من شيخ الانبياء زهاء ألف سنة ، وبعد أن عامت السفينة فی أمواج الطوفان الذی غمر هذه الكرة بأجمعها سنة كاملة ، ( قِيلَ يٰا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلٰامٍ مِنّٰا وَ بَرَكٰاتٍ عَلَيْكَ وَ عَلىٰ أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ ) (3) نعم هذه السفينة هی السفينة التى شبّه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أهل بيته بها فی الحديث المشهور بين الفريقين : أهل بيتی كسفينة نوح من ركبها نجى ، ومن تخلّف عنها هلك وهوى .
ص: 31
ومن يتدبّر حال العصور التى قبل الاسلام وما كان العالم فيه لاجزيرة العرب فقط ، بل حتى الدول العظمى فى تلك القرون من الفرس والروم ، من يتدبر ما كانت فيه تلك الامم من الجهل والجور والاستبداد يعرف طوفان البلاء الذى غمر الدنيا يوم ذاك ، ويعرف شدة الحاجة الى من ينقذ ذلك الخلق البائس من تلك الغمرات ، فبعثت العناية الازلية المنقذ الاعظم حبيبه محمّداً صلی الله علیه و آله و سلم ولكن قبل أن يتم رسالته ، وينقذ عموم البشر من ذلك الشر الذى توغل فی النفوس و استفحل من عهد قديم قضت الحكمة أن يعود الى الملكوت الاعلى الذی جاء منه ، واكمالاً للرسالة ، وابلاغا للغاية أشار الى من يتم به الغرض، وتقوم به الحجة ، فقال قبل رحلته بقليل : انی تارك فيكم الثقلين كتاب الله و عترتی أهل بيتی ، وبهذا اتجه أن يصدع الوحى بقوله تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِی ) (1) وجد نبی الرحمة عند قرب رحيله أن العالم لايزال بعد مغموراً بطوفان الجهالة : والضلالة لاتزال مستحكمة ، وأنه لابد لهذا الطوفان من سفينة تنجى من أراد النجاة ؛ فقال : أهل بيتی هم السفينة ، وفی دعاء شعبان : اللهم صل على محمّد وآله الفلك الجارية فی اللجج الغامرة ، يأمن من ركبها ويغرق من تركها . بيد ان سفينة نوح ما نجت من الطوفان ورست على الجودى الّا محمّد وآله كما أشارالى ذلك العباس بن عبدالمطلب (2) فی مقطوعة تنسب اليه يمدح ابن أخيه صلی الله علیه و آله و سلم فيقول :
من قبلها طبت فی الظلال و فی *** مستخصف حيث يخصف الورق
ص: 32
ثم هبطت البلاد لابشر *** أنت، ولا نطفة و لا علق
بل ملك تنقذ السفين و قد *** ألحم نوحا و قومه الغرق
صانع السفينة الاولى شيخ المرسلين ؛ و واضع السفينة الثانية سيد المرسلين ، السفينة الاولى خشب يجرى على الماء ، والسفينة الثانية نور هبط على الارض من السماء ، واضعها محمّد صلی الله علیه و آله و سلم وربّانها ومسيّرها أخوه وصنوه وصهره الامام الذى فی شأنه نزلت : ( إِنّٰا أَنْزَلْنٰاهُ فِی لَيْلَةٍ مُبٰارَكَةٍ إِنّٰا كُنّٰا مُنْذِرِينَ ) . (1)
ولا نستطيع فى مقامنا هذه أن نأتى على اليسير من فضائل هذا الامام العظيم فضلا عن الكثير ، ومن ذا يقدر على احصاء نجوم السماء من مناقبه من شجاعته وبلاغته وزهده وسوابقه فى الاسلام ، التی هی كلمات الله ، ( وَ لَوْ أَنَّ مٰا فِی الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلٰامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحْرِ مٰا نَفِدَتْ كَلِمٰاتُ اللهِ (2) قُلْ لَوْ كٰانَ الْبَحْرُ مِدٰاداً لِكَلِمٰاتِ رَبِّی ) . (3)
انما المناسب فی المقام هو التعرض لولادته فى هذه الليلة المباركة وانما نتعرض لشأن واحد من شؤون ولادته سلام الله عليه ، وهو ولادته فی الكعبة على أشهر الروايات (4) ، ولعل غيرها من مدسوسات النواصب الذين يريدون أن يستروا ضوء الشمس بأكفهم ، وولادته فی الكعبة طفحت بها الكتب ونظمتها الشعراء
ص: 33
حديثا وقديما و آخرهم عبد الباقى الشهير (1) فی مستهل قصيدة له :
أنت العلى الذی فوق العلى رفعا *** ببطن مكة وسط البيت قد وضعا
وهی منقبة لم يشاركه فيها أحد فی الاسلام، وقد ذكروا أن مريم علیها السلام لما جائها المخاض بعیسی علیه السلام آوت الى بيت المقدس لتضعه فيه ، فنوديت أخرجى يا مريم فهذا بيت العبادة لابيت الولادة ، وفاطمة بنت أسد لما أحسّت بالطلق وهی فی الكعبة انسدّت أبوابها ولم تقدر على الخروج حتى وضعت عليّاً سلام الله عليه. لعل فی هذه الحادثة الغريبة أسراراً ورموزاً أجلها وأجلاها أن الله سبحانه كأنه يقول : أيها الكعبة انى سأطهّرك من رجس الاوثان ، والانصاب والازلام بهذا المولود فيك ، وهكذاكان فان النّبی صلی الله علیه و آله و سلم دخلها عام الفتح و الاصنام معلّقة على جدرانها ولكل قبيلة من قبائل العرب صنم ، فأصعد عليا علیه السلام على منكبه وصار يحطّمها ويرمى بها الى الارض ؛ والنّبی صلی الله علیه و آله و سلم يقول : جٰاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبٰاطِلُ إِنَّ الْبٰاطِلَ كٰانَ زَهُوقاً ) (2) ، وقد نظم الشافعى هذه الفضيلة بأبيات تنسب له ؛ يقول فی آخرها :
ص: 34
و على واضع أقدامه *** فی محل وضع الله يده (1)
فانّ النّبی صلی الله علیه و آله و سلم كان يحدّث عن المعراج قائلا : ان الله عزّ شأنه وضع يده على كتفى حتى أحسست بردها على كبدى. وفى ولادته رمز آخر لعله أدق و أعمق : وهو أن حقيقة التوجه الى الكعبة هو التوجه الى ذلك النور المتولد فيها ، ولو أن القصد مقصور على محض التوجه الى تلك البنية وتلك البنية وتلك الاحجار لكان ايضاً نوعا من عبادة الاصنام (معاذ الله) ولكن التناسب يقضى بأن البدن وهو تراب يتوجه الى الكعبة التی هی تراب ؛ والروح التی هی جوهر مجرد تتوجه الى النور المجرد ، وكل جنس لاحق بجنسه : النور للنور ، والتراب للتراب والى بعض هذا أشار بعض شعراء الفاطميين (2) اذ يقول عن الامام :
بشر فی العين الا أنه *** من طريق العقل نور و هدى
جل أن تدركه أبصارنا *** و تعالى أن نراه جسدا
فهو فی التسبيح زلفی راكع *** سمع الله به من حمدا
ص: 35
تدرك الافكار منه جوهرا *** كاد من اجلاله أن يعبدا
فهو الكعبة و الوجه الذی *** وحّد الله به من وحّدا
وهذا السطران من الشعر إن كان فيه شیء من الغلوّ ففيه كثير من الحقيقة ، وفيه لمعات من التوحيد ، نعم نتوجه بأبدائنا فی صلواتنا الى الكعبة وبأرواحنا الى النور الذى أشرق وأضاء فيها ، نتوجه اليه فنجعله الوسيلة الى الله كما قال عز شأنه : ( اتَّقُوا اللهَ وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) ، نتوجه اليه كی يوجّهنا الخير والسداد ، فالتوجه منّا اليه والتوجيه منه لنا .
نعم كتاب الله والعترة سفن النجاة والعروة الوثقی التی لانفصام لها ولا يضلّ ولا يزل من تمسك بها ، ولكن ليس التمسك قول باللسان وثرثرة (1) بالألفاظ ، التمسك عقيدة راسخة ، وأعمال صحيحة بنيّة خالصة ، وقلب طاهر سليم ، وأخلاق فاضلة التی هی روح الدين وجوهر الاسلام والتی طفح (2) بها الكتاب والسنة ، ولكن أين نحن من مراحل هذه الفضائل والاخذ بهذه الوسائل ، أبهذا التفسّخ الاخلاقى والتفكك الاجتماعى ونبذنا الكتاب والسنة وراء ظهورنا ، نريد ان نعد أنفسنا من المسلمين، وبالعروة الوثقی متمسكين ، كلّا وكلّا لو كان لنا من الاسلام ذرواً (3) وذرة لما سقطنا هذا السقوط الشائن ولما فشلنا هذا الفشل المخزى.
امتحنت (فلسطين) بمحنة الصهيونية منذ اربعين سنة ، وما زالت تتقدم والعرب والاسلام تتأخر ، وقد اقتحمت معاركها الاولى ولم أزل منذ عشرين سنة أقرع المنابر وأقرع الاسماع بالخطب النارية : وأنشر المقالات الملتهبة فی الصحف وغيرها وأهيب بالمسلمين وأدعوهم الى الوحدة وجمع الكلمة ، وان الاسلام بنى
ص: 36
على دعامتين (كلمة التوحيد، وتوحيد الكلمة) وأصرخ الصرخات الداوية ان يصلحوا الوضع بينهم لانقاذ فلسطين الدامية وكنت من زمن بعيد أبث شجوای فی أبيات منها :
نهضت فقيل أی فتى فلما *** خبرت القوم طاب لى القعود
و انى بعد مجهدة و قومى *** كضاربة و قد برد الحديد
لنا فی الشرق أوطان ولكن *** تضيق بنا كما ضاقت لحود
نقيم بها على فقر و ذل *** و نظماً لا يساغ لنا ورود
واعيد السياسة بينات *** تكيد بها السياسة من تكيد
وعود كلها كذب و زور *** فكم والى مَ تخدعنا الوعود
اذا ما الملك شيد على خداع *** فلا يبقی الخداع و لا المشيد
اذا لم تبتن ملكا صحيحا *** فلا تغنى الجيوش و لا البنود
ومن هذه الشعلة ثلاثة أبيات ذكرتها فی مقدمة الجزء الاول من مؤلفنا (الدين والاسلام) الذی طبع فی مطبعة العرفان قبل 38 سنة و هی :
فلا طلعت على الشمس يوما *** اذا عن مجد قومی لا أذود
أموت و قد بلوت النفس جهدا *** كما تحمى عزينها الاسود
كذلك فلتكن للعرب نفس *** و الا ما الحياة و ما الوجود
نعم كنا نعتز بذكر العرب ونرتاح بالانتساب اليهم ، ثم دارت رحى الزمان فصرنا نخجل من ذكر العرب والعروبة و ما يشتق منها ، ونودّ لو كنا من الخزر والبربر ولم نكن من هذه الامة ، وانطبق علينا تماما قول القائل :
ورثنا المجد عن آباء صدق *** اسأنا فی ديارهم الصنيعا
اذ الحسب الرفيع تواكلته *** بناة السوء أوشك أن يضيعا
ص: 37
فلسطين قلب البلاد العربية تحقيقا ، تحفّ بها كالهالة ، مصر وبلاد المغرب ، وسوريا ، ولبنان ، والعراق ، والاردن ، والحجاز ، وأقطار الجزيرة ، فاذا هلك القلب فما حال بقية الاعضاء ؟ ولا شك ان الوضع اذا بقى على هذا فلنا فلسطينات أخرى فی زمن قريب (لاسمح الله) ألا يخطر على بالكم قول شاعر الفردوسى الذائع ، الفردوسى العربی حيث يقول :
حثّوا رواحلكم يا أهل أندلس *** ليس البقاء بها الا من الغلط
من جاور الشر لايأمن عواقبه *** كيف الحياة مع الحيّات فی سفط
العقد يبترّ من أطرافه و أرى *** عقد الجزيرة مبتورا من الوسط
مصيبة المسلمين عظيمة ، وأعظم منها أن المصائب من شأنها أن تنبّه الشعور ، وتعطى لأهلها دروساً وعبرة ، وتجمع الشمل وتوحد والكلمة ، أما مصيبتنا بفلسطين فما صنعت شيئا من ذلك ، وتلقاها زعماء العرب وقادتها الذين ذبحت فلسطين على مذبح مطامعهم الدنيّة وجشعهم (1) الخبيث نعم تلقوها ، برحابة صدر ، وبرودة دم وما كفاهم ذلك حتی مكنوا اليهود طابعين من البقية الباقية من أراضى فلسطين التی يسكنها الالوف من عرب المسلمين و جعلوهم عبیداليهود ، يعطون ( الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صٰاغِرُونَ ) (2) وكانت أهالی فلسطين تأمل من ملوك العرب نصرهم ، و يا ليتهم كفّوها شرّهم ولم يكونوا سما سرة (3) للمستعمرين ؛ ومنفّذين لارادتهم ، وسوف يعلمون كيف تدور الدائرة عليهم ، ( ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَ يُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) . (4)
ص: 38
نعم كل ما أصابنا انما هو من محاربتنا للدّين و نبذ القرآن ، و ترك العمل بتعاليم الاسلام ، وما أفسد هذا الشباب الخليع المستهتر الّا هذه المدارس التی جعلت الدين فيها قشراً لالب فيه ، وجسداً لاروح له . (1)
أيها المسلمون عودوا الى ما كان عليه أسلافكم تعدلكم عزّتكم، أكرموا القرآن بالعمل به کی یعید لكم كرامتكم ، أترجون صلاحا او اصلاحا من هذا الشباب الواهن المتجرففى تيّار شهواته ، وقد فسد المعلّمون والمتعلمون فانالله وانا اليه راجعون ؛ ضاع الرعيل و قائده.
اصل بليّتنا معاشر المسلمين هو الاستعمار ، وكل رزية وبلية فالاستعمار أصها وفرعها ونبعها ومطلعها ، وما جرّ علينا بلاء الاستعمار ومكّنهم من نفوسنا وأموالنا وأولادنا وأخلاقنا وتقاليدنا الا زعمائنا وقادتنا . (2)
ص: 39
وملوكنا قد أسلمونا للعدى *** لله درّ ملوكنا ما تصنع
وما أفسد الاسلام الاغصابة *** تأمّر نوکاها (1) ودام نعيمها
وأضحّت قناة الدين فی كفّ فاجر *** أقيم لاصلاح الورى و هو فاسد
و هل يستقيم الظل و العود أعوج *** يقولون بالزبيبة عود
أما قضيتنا ففی الزبيبة عمود ، (2) كل أحديراه و يشكو بثّه الى الله .
لمثل هذا يذوب القلب من أسف *** لو كان فی القلب اسلام و ایمان
أيّها المسلمون احفظوا أولادكم من هذا الشرّ المستطير والدّاء الذی يفسد دينهم ودنياهم ؛ أنشئوا لهم مدارس أهلية مثقّفة ثقافة دينية تتلائم مع روح العصر ، واستحضروا لهم معلمين من أهل الصلاح و الفضيلة ، فان أهم واجب على المدارس الاهلية او الحكومية جعل الدروس الدينية فی الدرجة الاولى من الاهمية ، وتجعل امتحانا وشهادة ولا يتسنى للاهلين انشاء المدارس الكافية للتعليم الّا بتشكيل الجمعيات الخيرية المخلصة كی تتعاون على هذه الاعمال الجليلة ، والمشاريع الحيوية ، ومن المعلوم ان الجمعيات مثل كل كائن يحتاج فی نموه وبقائه الى غذاء ، وغذائه المال ، فلا تتهاونوا فى التعاون والمساعدة كلّ حسب امكانه ومقدوره ، القليل من الكثير كثير. فتعاونوا واجتمعوا فان يدالله مع الجماعة والاجتماع خير و بركة. وآخر وصيتى ونصيحتى أقولها بدأ وعوداً ولاأخص بها المسلمين بل أقول : أيها البشر عليكم بالقرآن ففيه سلامتكم بل سعادتكم.
ولو عمل الناس به وأخذت الدول بتعاليمه لاستراحت البشرية من هذا التكالب و التحارب ، وعرف كلّ حدّه وحقّه ، القرآن القرآن اجعلوه الجامعة
ص: 40
العربية والوحدة الاسلامية ، وتجنّبوا الخلافات المذهبية ، والخصومات الطائفية ، وليعمل كل على مذهبه فی فروعه بغير جدال ولا خصومة ؛ وأقصى الآمال والأمانى ان تتوحد الحكومة والامة فتكون الحكومة كأب بارّ بالرعية ، والرعية كأبناء فى معاونة الحكومة كى يسعد الجميع ويكون العراق كما يقال عن جمهورية أفلاطون والمدينة الفاضلة للفارابی .
وأهم ما يجب على المراجع المسئولة انتخاب الموظفين المهذبين الذين لا يقطعون الصلة بين الحكومة والرعية بسوء تصرفاتهم ولا يجعلون الحكومة كذئاب مفترسة لهذا القطيع الوديع باستعمال الضغط الفظيع من الغرسة (1) والكبرياء والشره الى الرشوات وارتكاب المنكرات ، حاسبوا أنفسكم ايها الناس قبل أن تحاسبوا واجعلوا نصب أعينكم المسئولية العظمى ؛ يا ايها الناس ( وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلٰا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيٰاةُ الدُّنْيٰا وَ لٰا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ ) . (2)
ص: 41
ص: 42
قال الله سبحانه فی محكم كتابه : ( وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهٰا وَ وُضِعَ الْكِتٰابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَدٰاءِ ) (1).
نعم فی مثل هذا اليوم أو هذه الليلة أشرقت الأرض بنور ربّها وجیء بوارث النبيّين وجامع علوم الاولين والاخرين ، امام الشهداء وسيّد الصديقين ، واحتفالنا بانبثاق هذا النور الالهى فى مثل هذا اليوم ليس كاحتفال الامم بيوم ولادة ملوكها وعظمائها وسلاطينها ورجال نهضتها ، بل احتفال بالنعمة العظمى والآية الكبرى والمثل الاعلى الذى تنزلت الأحدية به من عليا ملكوتها الشامخ وجبروتها الباذخ وقدسى تجردها الى عوالم الناسوت ، وتقمص المادة لتعود المادة روحا والجسد عقلا ، والموت حياة ، نحتفل بذكرى ولادة بحر العلم الخضم الذی تدفق بنهج البلاغة وهو نبع من ينابيعه ، وشرعة من مشاريعه ، ولا جائت العصور ولا انجلت الدهور عن كتاب بعد كتاب الله العظيم أنفع ولا أجمع ولا ألمع وأنصع منه فی اقامة
ص: 43
براهين التوحيد ودلائل الصنعة ، وأسرار الخليقة ، وأنوار الحقيقة وتهذيب النفس ، وسياسة المدن ، وحكمة التشريع والعظات البليغة ؛ والحجج الدامغة ، وانارة العقول ، وطهارة النفوس ، بينا تراه يفيض بينابيع الحكمة النظرية والعملية ويرهق على توحيد الصانع ويغرق فى وصف الملائكة والمجردات بياناً ، ويمثل لك الجنة والنار عياناً كفيلسوف الۤهى ، وملاك روحى اذاً به يعطيك قوانين الحرب وسوق الجيوش وتعبئة العساكر كقائد حربی ومغامر (1) عسکری ، لاتلبث ان تجد فيه ما يبهرك من عجيب وصف الطاووس والخفاش والذرة النملة فيصفها دقيقا ويستوعب فيها من عجائب التكوين ، وغرائب التلوين ، وما أودع صانعها فيها من مزايا الفكرة ، وبدائع القدرة ، حتى يخيل لك من دقة الوصف أنه هو الذی أبدع تصويرها ؛ وقدّر مقاديرها وركّب أعضاءها ، وربط مفاصلها ، هو صانعها ومبدعها وصوّرها وقدّرها ، وشقّ سمعها وبصرها .
الامام الذى وضع الدنيا تحت قدميه ، وكانت -وهى العزيزة لغيره - احقر شیء لديه ، الامام الذی عرف حقيقتها وأعطاها حقها ، فقال : يا دنيا غرّى غيرى قد طلّقتك ثلاثا لارجعة لی فيك يا صفراء ويا بيضاء ، غرّى غيرى ، الامام الذی لولا ضرب ماضيه ما اخضر للاسلام عود ، ولاقام له عمود ، بل لولاه لما استقام الوجود ولاعرف المعبود، الامام الذى اليه تنتهى سلاسل الصوفية ، ومنه نشأت علوم العربية ، ومنه عرف حكماء الاسلام الاستدلال بالادلة العقلية ، الامام الذی قال للسائل وهو يخطب على المنبر ( عادثمنها تسعا ) (2) ثم استمر فی خطبته وهی
ص: 44
آية من آيات العلم النظرى ومعجزة من معجزات العقل البشری، وهی واحدة من آحاد وفريدة من افراد ، فماذا يقول المادح والمطرى بعد آيات القرآن ومدائح الفرقان ، فمن الحق أن يقول القائل :
ص: 45
غاية المدح فی علاك ابتداء *** لیت شعرى ما تصنع الشعراء
فصلوات الله عليك يا أمير المؤمنين وعلى المعصومين من أولادك الميامين وعلى الصالحين من شيعتك ومحبّيك .
ص: 46
سلام الله ورحمته وبركاته عليكم أيها المؤمنون الذين منّ الله عليهم بالهداية فخرجوا من الغواية الى عصمة الولاية و استمسكوا بالعروة الوثقی وحبل الله المتين.
اخوانی و أولادى حرسكم الله ، أمّدكم كلمتى هذه فی مائدة الغيب وأقدم لكم هذا الغذاء الروحى من طعام الالهام، وأملى عليكم هذا من الملاء الاعلى والروح الامين و استفتح مقالى بالآية النيرة التى تنزلت من المبدة الاسمى فی هذا اليوم الأغر السعيد :
( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِی وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلٰامَ دِيناً ) (1) ، و الاستضائة بكل واحدة من هذه المصابيح الثلاثة يستدعى البيان الكثير والشرح الوافی ، ولكن نكتفى بلمحة من الكلمة الاولى ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) أرأيتكم لوان رجلا من ذوى العقل والحجی ، منقطع النظير فی عقله وشرفه ونبله يتكفل بتربية أولادله صغار وكبار والمحافظة على ما لهم من أموال
ص: 47
وعقار ، وأشرف على الرحيل من هذه الدار الى دار القرار ، وهم بعد لم يبلغوا رشدهم الكامل ، ولايزالون فى أشد الحاجة الى من يقوم بشؤونهم ، وينهض بأعباء تربيتهم وحل مشكلاتهم ، ورفع خصوماتهم ، فلوتركهم ولينصب قيما عليهم يحسن التربية ، ويحل المشكلة ، ويدفع المعضلة ، ويرفع الخصومة ، ولانص على ولىّ فيهم ، أفلا يكون ذلك نقصاً فی مروؤته ، واخلالاً برسالته وتفريطاً فی أمانته ؟ نعم وان شريعة الاسلام المقدسة ما تركت شيئا الا وجعلت له حقه ؛ ولاعملا الا وعينت حكمه ، ولا موضوعا الا وقدرت حدّه ؛ وأودعت كل ذلك فی كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
ولكن هذا الفرقان المجيد فيه ( آيٰاتُ مُحْكَمٰاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتٰابِ وَأُخَرُ مُتَشٰابِهٰاتٌ لٰا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهٰا إِلَّا اللهُ وَ الرّٰاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ ) ؛ وهم من يستمد من ينابيع الوحى ومطالع الانوار الأزلية ، ولو أن الرسول لم يعرّف الامة بمن اختصه الله بمعرفة التنزيل والتأويل ، والمحكم والمتشابه والمجمل والمبيّن، والناسخ والمنسوخ ، لو لم ينصب للناس اماما ولم ينص على خليفة يقوم مقامه لكانت رسالته ناقصة ، والابصار الى كمالها شاخصة ؛ نعم لولا تعيين الولى على المسلمين لخان الامانة فيهم ؛ ولو ترك التعيين اليهم لزادت المحنة وعظمت بالاختلاف البلية ؛ ولو تركوا هلكوا فى أى واد سلكوا ، والشريعة التی ما تركت شيئاً الا وذكرت حكمه ، وقدرت حدّه ، وعينت حقّه حتى أرش الخدش ، وقصّ الشعر ، و تقليم الاظافر كيف يسوغ للعقول القبول بأنها قد أهملت هذا الامر العظيم ، او فوضته الى اختيار الضعفاء القاصرين مهما كانت منزلتهم فى الدين ، ومن ذلك ينفتح لك الطريق الى معرفة وجوب عصمة الامام ، و ينضتح مغزى قوله تعالى : ( يٰا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمٰا بَلَّغْتَ رِسٰالَتَهُ ) ؛ (1) يا رسول الله ان لم تبلغ النص
ص: 48
على خليفتك بعدك فكأنك ما بلغت شيئا مما أرسلت به ، يعنی اذا لم تبلغ ما أمرك الله به ، اذا لم تعيّن الامام فكل ما بلغته من الشرائع والاحكام أعدام ، ولذا لا يقبل الله عملا بدون الولاية ، وهى الدعامة التی يستقر الايمان الاعليها.
ومنذ عرف الرسول صلی الله علیه و آله و سلم أنه قد أزف (1) رحيله من الدنيا لم يجد بداً من امتثال أمره تعالى لإكمال الدين و اتمام الرسالة ؛ وأداء واجب الوظيفة ورفع المسئولية فجمع المسلمين فى غدير خم عند منصرفهم من حجة الوداع و كان الجمع ينيف او ينوف على الالوف ، فنص على عليّ علیه السلام وقال : من كنت مولاه فهذا على مولاه ، ويعنى هذا بالواضح المكشوف ان الولاية التی كانت لى من الله هی لعليّ فعلا ويقوم بها من بعدى عملا ، وبعد أن انهى النبی صلی الله علیه و آله و سلم تلك الخطبة البليغة (2) دخل المسلمون بأجمعهم على عليّ علیه السلام وسلموا عليه بامرة المؤمنين وفيهم من قال له : بخ بخ لك يا على أصبحت مولاى ومولى كل مؤمن ومؤمنة ، و نظّم شاعر الاسلام و شاعر النبی صلی الله علیه و آله و سلم حسان تلك الواقعة بصورتها الصحيحة فی أبيات مشهورة اولها:
يناديهم يوم الغدير نبيهم *** بخم و أسمع بالنبی مناديا (3)
ص: 49
وفی هذا اليوم او ذلك اليوم اتجه ان يتنزل الوحى بقوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم ؛ ولولا ذلك لكان الدّين ناقصا غير كامل و لا يرتضى هذا النقص أى عاقل ، و لا يتجه أی معنى للآية بوجه من الوجوه بدون ذلك النص والنصب.
نعم قد كمل الدين و تمت النعمة من حيث التبليغ والرسالة و اتمام الحجة ، أما من حيث التطبيق والعمل به من الامة فذاك شیء آخر لا أريدان أخوض فيه كى لا أخدش عاطفة او أمسّ كرامة طائفة ، او أثير غبار جدل وخصومة ولكنى أختم كلمتى هذه المتواضعة التی جرت على سير القلم وعفو الخاطر ، أختمها فی بيتين لشاعر أهل البيت فى الصدر الاول من الاسلام ، حيث يقول فی احدى هاشمياته المشهورة : (1)
ص: 50
ويوم الدوح دوح غديرخم *** أبان له الولاية لو أطيعا
ولكن الرجال تبايعوها *** فلم أر مثلها خطراً مبيعا
رفع الله درجاتنا أجمعين فی أعلى عليين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين و حسن اولئك رفيقا .
ص: 51
ص: 52
أنا شافعى المذهب ولكن صديق حميم لبعض الاثنى عشريين الاقحاح ، نخوض بعض الأوقات فی الخلافات المذهبية ، وقد أخبرونی أن أبابكر وعمر وعثمان وسائر العشرة المبشّرة بالجنة عندكم هم من أهل النار ، أفيمكن هذا بعد ان قال الله فی كتابه العزيز : ( وَ السّٰابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهٰاجِرِينَ وَ الْأَنْصٰارِ وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسٰانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنّٰاتٍ تَجْرِی تَحْتَهَا الْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا أَبَداً ذٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) ، (1) اليس هؤلاء هم السابقون الاولون من المهاجرين ؟ اوليس هم كذلك؟ وعمر بن الخطاب من الذين قال الله تعالى فيهم : ( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبٰايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مٰا فِی قُلُوبِهِمْ ) ، (2) وأخبرونی أنهم يلعنون أكثر الصحابة بدل أن يترحموا عليهم ، فهذا هو حقنا لسلفنا ؟ أما قسّم الله المؤمنين الى ثلاث درجات المهاجرون : والانصار والذين جائوا من بعدهم ؟ وقد وصفهم بأنهم يقولون : ( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنٰا وَلِإِخْوٰانِنَا الَّذِينَ
ص: 53
سَبَقُونٰا بِالْإِيمٰانِ وَ لٰا تَجْعَلْ فِی قُلُوبِنٰا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنٰا إِنَّكَ رَؤُفُ رَحِيمُ ) (1) ما وصفهم بأنهم يقولون ربنا العن - فلانا وفلانا - ولا تمح فی قلوبنا غلّاً .
الجواب:
اعلم أولاً وكن على يقين أن العقلاء والمهذّبين من الاثنى عشریين ليسوا بلعّانين و لا سبّابين ، وان ائمتنا اهل البيت سلام الله عليهم حرّموا علينا السّب والشتم فنحن لانسبّ الخلفاء والصحابة المرضيين الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه ، ولكن لابد لنافى الجواب أن نكشف لك الغطاء عن الحق الناصع والامر الواقع ، ونوضّح لك على وجه الاجمال والاشارة ، ولاشك أنك حرّ والحرّ تكفيه الاشارة . والحق الذی لايسعك انكاره ولاشك انك تعرفه ويلزمك أن تعترف به هو ان الصحابة الذين صحبوا النبی من المهاجرين الذين هاجروا معه والانصار الذين نصروه ليس كلّهم مرضيّين ومشمولين بقوله تعالى: ( رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ) . ولا داخلين فی اخواننا الذين سبقونا ، والقرآن الكريم يفسّر بعضه بعضا ويدلّ بعضه على بعض ، و يلزم ضمّ بعض الايات الى بعض حتى تتجلى الحقيقة ناصعة لامعة ولو كان كلّ الصحابة مرضيين قد رضی الله عنهم ورضوا عنه اذاً فأين محل قوله تعالى: ( وَ مٰا مُحَمَّدُ إِلّٰا رَسُولُ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ مٰاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلىٰ أَعْقٰابِكُمْ ) (2) وليت شعرى وما أدرى ولعلّنی أدرى من هؤلاء الذين انقلبوا على أعقابهم ؟ ومن المعلوم ان الاستفهام فى الاية انكارى ، ومعناه ومورده ان يقع عمل من شخص او أشخاص فينكره المتكلم بصورة الاستفهام ، ومعنى انكاره الاشارة الى انه عمل منكر وشیء شنيع .
ص: 54
وأزيدك ايضاحاً ودلالة ودفعا لما عرضك من الشبهة ذاك أنه كما أن القرآن يفسّر بعضه بعضا كذلك السنة النبوية والاحاديث تفسر القرآن وتوضّحه وتشرحه ، انظر صحيح البخارى الذى هو أصح كتب الحديث عند الشافعية وغير الشافعية من المذاهب الاربعة فانك تجد فيه وفى أخيه صحيح مسلم عدّة أحاديث عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم مختلفة الاساليب متّحدة المعنى ، ويأخذ بعضها بيد بعض ، منها قوله صلی الله علیه و آله و سلم انا فرطكم على الحوض ليرفعن الى رجال منكم ثم ليختلجن دونی فأقول أى رب أصحابی ، فيقال انك لاتدرى ما أحدثوا بعدك ، فيؤمر بهم الى النار ، فأقول سحقاً سحقاً لمن غيّر وبدّل بعدى ؛ ويقول فی بعضها لاصحابه : لاترجعوا بعدى كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ، ويقول فی حديث ما لفظه أو مضمونه : يؤمر بجماعة من أصحابی الى النار ، فأقول ما شأنهم؟ فيقال : انهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى . وهذا الذى امليه عليك هومن مطالعاتى ومحفوظاتی قبل خمسين سنة ولا فرصة حالا على تجديد المراجعة فراجع أنت اذا شئت حتى يتّضح لك جليا أن ليس كل الاصحاب ممن رضى الله عنهم ورضوا عنه ، وان الكثير والاكثر قد ارتدّوا بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و انقلبوا على أعقابهم بنص القرآن والاحاديث النبوية من كتبكم انتم لامن كتب الشيعة الاثنى عشرية ، واتخطّر انى أحصیت من الصحيحين البخارى ومسلم اكثر من عشرين حديثا بأسانيد متعددة وعبارات مختلفة كلّها تنص صريحا ان أكثر الاصحاب بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم غيّروا وبدّلوا ، ورجعوا الى جاهليتهم الاولى ، وارتدوا على ادبارهم وانقلبوا على أعقابهم ؛ وما رضی الله عنهم و لارضوا عنه ، واسخطوا الله و رسوله بأعمالهم راجع الصحيحين (1) تجد ذلك جلياً واضحاً.
ص: 55
ثم هب اننا أغمضنا النظر عن الكتاب والسنة وتلك الادلة الباهرة فلنرجع الى الحس والوجدان ، فانه أقوى شاهد وبرهان ، لنرجع الى الامر الواقع والقضية الراهنة ، أرأيت لو وجدت شخصين يختصمان فی أمر معين حتى تبلغ بهما الخصومة الى حد أن يستحل أحدهما قتل الاخر فهل تجد بعقلك مالا للحكم بأن الحق مع كل واحد منهما؟ اى أن الحق فی جهتين متناقضتين فى السلب و الايجاب ، كلا ، فالحق لا يتناقض والسلب والايجاب نقيضان ، والنقيضان لايجتمعان كما لايرتفعان ، أليس الخليفة عثمان من الصحابة المبرّزين و المهاجرين الاولين؟ أليس قد اجتمع على قتله أهل المدينة؟ وكلّهم او جلّهم من الصحابة بالضرورة ، ومعهم جمع من رجال الاقطار الاسلامية ، ثم قتلوه تلك القتلة الشنيعة ، وقد قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فى حديث متواتر لايحل قتل المسلم الا بواحدة من ثلاث: ردّة عن ایمان ، او زنيّة من احصان ، اوقصاص فی قتل نفس محترمة ، وأنا لا أدرى بأى واحدة من هذه الثلاث استحلوا قتل الخليفة ، ولعل أهل المدينة أعلم وأدرى .
ثم أليس طلحة و الزبير من أخصّ أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ومن المجاهدين السابقين و المهاجرين الأولين وسيف الزبير هو السيف الذی طالماكشف به الكرب من وجه رسول الله ؟ ثم ألم يخرجا على أميرالمؤمنين عليّ علیه السلام ؟ وخدعا المرأة المسكينة عايشة أم المؤمنين التى تجمّلت ثم تبغّلت ، وقد قتلا فی تلك الحرب الضروس ، وما قتلا حتى قتل بسبب بغيهما على امام زمانهما الذی بايعاه ثم نكثا بيعته بغيا عليه ، ما قتلا الا بعد أن قتل فى تلك الوقعة اكثر من عشرة آلاف قتيل تقريباً أو تحقيقاً ، وقد قال سبحانه وتعالى: ( وَ إِنْ طٰائِفَتٰانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمٰا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدٰاهُمٰا عَلَى الأُخْرىٰ فَقٰاتِلُوا الَّتِی تَبْغِی ) (1) و ما أدرى هل
ص: 56
أن طلحة و الزبير (والهفی عليهما) هل هما من الذين عناهم رسول الله بقوله : أرى جماعة من أصحابی يؤخذ بهم الى النار فأقول : رب أصحابی ، فيقال لی : ما تدرى ما أحدثوا بعدك ، انهم رجعوا القهقرى و ارتدوا بعدك .
امّا معاوية الذى تعدّونه ايضا من الصحابة و بغيه على أمير المؤمنين علیه السلام فی حرب صفين التی قتل فيها من الفريقين أكثر من عشرين ألف قتيل على ما خطر ببالی ، فلا أعدها فی عداد تلك الحوادث لأن معاوية و أباه أبا سفيان والحكم وابنه مروان ما أسلموا ولا آمنوا بالله طرفة عين لا قبل الفتح ولا بعده وانما دخلوا فی صورة الاسلام لهدم دعائم الاسلام ، وقد قتل معاوية غير من قتله من المسلمين فی صفّين خيرة الرجال من الصحابة كعمرو بن الحمق (1) وحجر بن عدى وأصحابه العشرة قتلهم صبراً وظلماً وعدوانا ، وفظايع معاوية ومحاربته لله ولرسوله ، وقتله لريحانتی رسول الله الحسن و الحسين أكثر من ان تحصى وتعد ، وهو عندكم صحابی من الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه فان كان هذا هو الاسلام فعلى الاسلام السلام ؛ والبقاء على الكفر خير من هذا الاسلام اى اسلام معاوية وأبی سفيان والحكم ومروان الوزغ ابن الوزغ كما قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وعلى كل فلا أحسب الاّ ان الحق
ص: 57
قد تجلّى لديك وسطعت شمس الحقيقة عليك والكناية أبلغ من التصريح . (1)
ويشهد الله والمسلمون انى أكره الخوض فی هذه المكربات التی تثير الدفائن ، و تنثر بذور الضغائن فى صدور طوائف المسلمين ولكن الحاحك فی طلب الجواب بعثنی الى تحرير هذه الكلمة على جرى القلم وعفو الخاطر ، وكره منّى ، وليس هذا من خطتى وخطواتى وأنا مذ خمسين سنة أدعوالى توحيد كلمة المسلمين ونبذ الشحناء والبغضاء ، والاعتصام بحبل الله المتين من الالفة وعدم الفرقة ، والاخذ بالاخوة التی عقدها القرآن بين المسلمين ، فقال تعالى : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) (2) : ويشهد لذلك مؤلفاتى كمقدمة « أصل الشيعة » الذی طبع زهاء عشر طبعات وترجم الى عدة لغات وغيرها ، ولكنی وجدتك قد أحرجتنی وهددتنی بقوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مٰا أَنْزَلْنٰا مِنَ الْبَيِّنٰاتِ وَ الْهُدىٰ ) (3) ولم أجد بداً لرفع
ص: 58
المسؤلية من الاشارة الى طرف من الواقع. ان لم يكن الحق كله فناحية من نواحيه ، ولعلها تلقى ضوئها الصاحى على سائر ضواحيه ؛ وأختم كلمتى هذه بكلمة وجيزة لجدى الاعلى الشيخ جعفر الكبير صاحب كتاب كشف الغطاء ( قده ) حيث يقول فی خاتمة كلام له: أخضر أحوال القوم بين يديك وتوجه للنظر فيها بكلتی عينيك وتفكر فی الفروع والايقاع لتعلم حال الاصول وينقطع النزاع ، لعل البصرة تبصرك وجملها ينذرك ، وصفين تصفيك ؛ وكربلا والكوفة تكفيك. واختلاف ذات البين وحصول الشقاق فی الجانبين أبين شاهد على أن الحق فی جانب واحد ، وان الحكم بحقّية الطرفين اعتقاد فاسد (انتهى) وأقول ، ( إِنَّكَ لاٰ تَهْدِی مَنْ أَحْبَبْتَ وَلٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِی مَنْ يَشٰاءُ ) (1) سبحانك ( رَبَّنٰا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنٰا وَ إِلَيْكَ أَنَبْنٰا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) . (2)
ص: 59
ص: 60
طفحت و استفاضت كتب الشيعة من صدر الاسلام والقرن الاول: مثل كتاب سليم بن قيس (1) ومن بعده الى القرن الحاد يعشر وما بعده بل والى يومنا كل كتب
ص: 61
الشيعة التی عنيت بأجوال الائمة ، وأبيهم الاية الكبرى وأمّهم الصدّيقة الزهراء صلوات الله عليهم أجمعين، وكل من ترجم لهم وألّف كتابا فيهم ، أطبقت كلمتهم تقريبا او تحقيقا فی ذكر مصائب تلك البضعة الطاهرة: انها بعد رحلة أبيها المصطفى ضرب الظالمون وجهها و لطموا خدّها ، حتى احمرّت عينها وتناثر قرطها ، و عصرت بالباب حتى كسر ضلعها ، واسقطت جنينها ، وماتت وفى عضدها كالدملج ، ثم أخذ شعراء أهل البيت سلام الله عليهم هذه القضايا والرزايا ، ونظّموها فی أشعارهم ومراثيهم وأرسلوها ارسال المسلمات: من الكميت (1) والسيد الحميری (2) ودعبل الخزاعی (3) والنميرى (4) والسلامی (5) و ديك الجن (6) ومن بعدهم ومن قبلهم الى هذا العصر ، وتوسّع أعاظم شعراء الشيعة فی القرن الثالث عشر والرابع عشر الذی نحن فيه ، كالخطى (7) والكعبی (8) والكوازين. (9)
ص: 62
وآل السيد مهدى الحلّيين (1) وغيرهم ممن يعسر تعدادهم ، ويبفوت الحصر جمعهم و آحادهم ، وكل تلك الفجائع والفضائع وان كانت فی غاية الفظاعة والشناعة ومن موجبات الوحشة والدهشة ولكن يمكن للعقل ان يجوزها وللاذهان والوجدان ان يستسيغها ، وللافكار ان تقيلها و تهضمها ، ولاسيما وان القوم قد اقترفوا فی قضية الخلافة وغصب المنصب الالهى من أهله ما يعد أعظم وأفظع .
ولكن قضية ضرب الزهراء ولطم خدّها مما لا يكاد يقبله وجدانی و يتقبله عقلى ، ويقتنع به مشاعری ، لالأن القوم يتحرجون ويتورعون من هذه الجرأة العظيمة ، بل لان السجايا العربية والتقاليد الجاهلية التی ركزتها الشريعة الاسلامية وزادتها تأييداً و تأكيداً تمنع بشدة أن تضرب المرأة أو تمد اليها يدسوء ، حتى أن فی بعض كلمات أمير المؤمنين علیه السلام ما معناه: أن الرجل كان فی الجاهلية اذا ضرب المرأة يبقی ذلك عاراً فى أعقابه ونسله .
ويدلّك على تركّز هذه الركيزة بل الغريزة فى المسلمين وأنها لم تفلت من أيديهم وان فلت منهم الاسلام: أن ابن زياد و هو من تعرّف فی الجرأة على الله و انتهاك حرماته لما فضحته الحوراء زينب علیها السلام ، وأفلجته وصيّرته أحقر من نملة ، وأقذر من قملة ، وقالت له ثكلتك أمك يا ابن مرجانة ، فاستشاط غضبا من ذكر أمه التی يعرف أنها من ذوات الاعلام، وهمّ أن يضربها ، فقال له عمرو بن حريث وهو من رؤوس الخوارج و ضروسها انها امرأة لا تؤاخذ بشیء من منطقها ، فاذا كان ابن مرجانة امتنع من ضرب العقيلة خوف العار و الشنار وكلّه عار و شنار ، و بؤرة
ص: 63
عهار مع بعد العهد من النبی صلی الله علیه و آله و سلم فكيف لايمتنع اصحاب النبی صلی الله علیه و آله و سلم مع قرب العهد به من ضرب عزيزته ، وكيف يقتحمون هذه العقبة الكؤود ولو كانوا أعتى وأعدى من عاد و ثمود . ولو فعلوا او همّوا أن يفعلوا أما كان فی المهاجرين والانصار مثل عمرو بن حريث فيمنعهم من مدّ اليد الاثيمة ، وارتكاب تلك الجريمة ، ولا يقاس هذا بما ارتكبوه و اقترفوه فی حق بعلها سلام الله عليه - من العظائم حتى قادوه كالفحل المخشوش فان الرجال قدتنال من الرجال ما لاتناله من النساء.
كيف والزهراء سلام الله عليها شابّة بنت ثمانية عشر سنة ، لم تبلغ مبالغ النساء واذا كان فی ضرب المرأة عار وشناعة فضرب الفتاة أشنع وأفظع ، ويزيدك يقينا بما أقول أنها -و لها المجد والشرف - ما ذكرت ولاأشارت الى ذلك فی شیء من خطبها (1) ومقالاتها المتضمنة لتظلمها من القوم وسوء صنيعهم معها مثل خطبتها الباهرة الطويلة التى ألقتها فی المسجد على المهاجرين والانصار ، وكلماتها مع أمير المؤمنين علیه السلام بعد رجوعها من المسجد ؛ وكانت ثائرة متأثرة أشد التأثر حتى
ص: 64
خرجت عن حدود الآداب التى لم تخرج من حظيرتها مدة عمرها ، فقالت له : یا ابن ابیطالب افترست الذئاب وافترشت التراب -الى ان قالت: هذا ابن ابى فلانة يبتزنی نحلة أبى وبلغة ابنى ، لقد أجهد فی كلامی ، والفيته الالد فی خصامی ، ولم تقل أنه او صاحبه ضربنی ، او مدّت يد الىّ وكذلك فی كلماتها مع نساء المهاجرين والانصار بعد سؤالهن كيف أصبحت يابنت رسول الله ؟ فقالت : اصبحت والله عائفة الدنيا كن ، قالية لرجالكن ، ولا اشارة فيها الى شیء من ضربة او لطمة ، وانما تشكو أعظم صدمة وهى غصب فدك واعظم منها غصب الخلافة وتقديم من أخّر الله وتأخير من قدّم الله ، وكلّ شكواها كانت تنحصر فی هذين الامرين وكذلك كلمات امير المؤمنين علیه السلام بعد دفنها ، و تهيّج أشجانه وبلابل صدره لفراقها ذلك الفراق المؤلم ، حيث توجه الى قبر النبی صلی الله علیه و آله و سلم قائلا : السلام عليك يا رسول الله عنّى وعن ابنتك النازلة فی جوارك الى آخر كلماته (1) التی ينصدع لها الصخر الاصم لو وعاها ، وليس فيها اشارة الى الضرب واللطم ولكنه الظلم الفظيع والامتهان الذريع ، ولو كان شیء من ذلك لأشار اليه سلام الله عليه ، لان الأمر يقتضى ذكره ولايقبل ستره ، ودعوى أنها أخفته عنه ساقطة بأن ضربة الوجه ولطمة العين لايمكن اخفاؤها .
وأما قضية قنفذو أن الرجل لم يصادر أمواله كما صنع مع سائر ولاته وأمرائه وقول الامام علیه السلام : انه شكر له ضربته فلا أمنع من أنه ضربها بسوطه من وراء الرداء وانما الذى استبعده او أمنعه هو لطمة الوجه وقنفذ ليس ممن يخشى العارلو ضربها من وراء الثياب او على عضدها (2) و بالجملة فانّ وجه فاطمة الزهراء هو
ص: 65
وجه الله المصون الذى لايهان و لایهون و یغشی نوره العيون ، فسلام الله عليك يا أم الائمة الاطهار ما اظلم الليل و أضاء النهار ، وجعلنا الله من شيعتك الابرار ، و حشرنا معك ومع ابيك وبنيك فی دار القرار .
ص: 66
شاع فی هذه العصور الاخيرة بين حملة الاقلام و المؤلفين فی أرض الكنانة انتاج مؤلفات تنشر بعنوان (العبقريات) أى عبقرية كبير من رجالات الصدر الاول فی الاسلام ، فهذا عبقرية الخليفة الاول ، و ذاك عبقرية الثانی وهكذا ، وفی غضون هذه المحاولات او الحالات وردتنى برقية مفصلة من جماعة من شخصيات ممن لهم مكانة فی العاصمة يندبونى فيها أحرّ ندبة الى تأليف كتاب فی عبقرية الامام (على بن ابیطالب) سلام الله عليه ؛ و يتعهدون بنشره من فوره ، فكتبت اليهم معتذراً بأنى لم أجد فی نفسى كفاية لايفاء هذا الموضوع حقه ، وما كانت القضية قضية اعتذار ومدافعة بل هی حقيقة راهنة ، وقضية مبرهنة فان الكتابة عن عبقرية شخصية بارزة كالخليفة الاول او الثانى أمر ممكن ، وموضوع قريب التناول ، ليس بينك و بينه الا أن تراجع كتب التاريخ ، وهی على طرف التمام منك فتذكر فتوحهم وخدماتهم للاسلام ، كحرب أهل الردّة ، وتنفيذ جيش أسامة ، وتجهيز الجيوش الى حروب القادسية والشام و ما الى ذلك: أما الكتابة عن شخصية كعلى بن أبی طالب علیه السلام الذی لاتعد مناقبه ، ولاتحصى فضائله بل لو أراد الكاتب مهما كان
ص: 67
ان يكتب فى كل واحدة من مزاياه و خصائصه مؤلفا ضخما لما استطاع أن يوفيها حقها ، ويستوفى جميع خصوصياتها ، انظر مثلا الى شجاعته و مواقفه فی سبيل الدعوة الى الاسلام و تضحياته العظمى وهو ابن عشرين أودونها.
أنظر كيف اشتبك مع مشاهير الفرسان ، وبارز جمهرة الابطال الذين يعد واحدهم بألف ، فغلبهم وسقاهم الحتف ، وهو يومئذ غلام لم يمارس الحروب. ولم يتمرّن على التقحم فی لهوات المنايا ؛ وقد سارت بل صارت وقائمه ؛ وفوزه الباهر فی بدر وأحد وحنين والاحزاب وما اليها ، نعم سارت مسير الامثال ولاحاجة الى ذكره ، ولكن لو أراد الكاتب مهما كان مطلعا و مضطلعا بالكتابة ، وما لکا أعنة البيان أن يستوفى خصوصيات هذه الشجاعة من صبى نشأ وتربى فی بيت أبيه شيخ البطحاء أبی طالب ، وفى حجر ابن عمه محمّد صلى الله عليه و آله و سلم ، ربيب نعمة ، وفی ظل راحة ودعة ، لم ينشأ فی الصحارى والقفار والبيداء ولم يتعلّم الفروسية وتقحم الهيجاء ، فمن اين أخذ هذه الدروس ؟ وكيف استطاع التغلب على تلك النفوس ؟ نعم لو اراد الكاتب تحليل هذه القضية المعمّاة ، واستكناه أسرارها وبواعثها وتطبيقها على مجارى العادة نكص حائراً ووقف مبهوتا ، دع عنك صفين والجمل والنهروان وهو شيخ كبير قد لهزه القتير (1) فلم يختلف حاله فی الشجاعة والبسالة بين ابان صباه وهو ابن العشرين وبينها وقد جاز عتبة الستّين ، وهكذا لو أراد ان يكتب عن بلاغته ، و معجز يراعته فى كلماته القصار ، والجمل الصغار فضلا عن خطبه الطوال كالقاصعة والاشباح والملاحم ، وخطبه فی وصف الطاووس والخفاش وأمثالها.
نعم لو أردت ان تدفع الكاتب الى ان يكتب عن بلاغة « نهج البلاغة » فقد
ص: 68
يهون عليه قلع كل واحد من أضراسه دون ان يتسلّق هذه العقبة الكؤود وهكذا كل واحدة من مزاياه و خصائصه التی اختصّ بها ، ولم يشاركه أحد فیها من الكبراء فى صدر الاسلام: مثل سبقه الى الاسلام ، وعدم سجوده لصنم، وما عبد غيرالله جل شأنه ، ولا شرب خمراً فی جاهلية ولا اسلام ، أما لو ضربت بفكرك الى زهده و عزوفه عن الدنيا جراب سويق الشعير الذى يحدثنا عنه الاحنف بن قيس (1) حين وصفه لمعاوية سويق الشعير الجاف بنخالته الذی عاش عليه طيلة حياته وهو خليفة المسلمين ، وامير المؤمنين ، والاموال تجبى اليه من خراسان الى الكوفة ؛ و هو يقول : ألاوان امامكم قد اكتفی من دنياه بطمريه ، و من طعمه بقرصيه ؛ فوالله ماكنزت من دنياكم تبراً ، ولا ادخرت من غنائمها وفرا ، ولا أعددت لبالی ثوبى طمراً . (2) فهل يستطيع المتبحّر والمتحرى أن يأتينا بشخص منذعرفت الدنيا نفسها ، و عرفها أهلها ، يحوى واحدة من هذه الصفات بتلك الخصوصيات وهذا الذی ذكرناه قطرة من بحر ولحظة من دهر ، (3) وقد قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فيه:
ص: 69
يا على ما عرف الله الّا أنا وأنت ؛ وما عَرَفَنا الّا الله .
وعلى افتنان الواصفين بوصفه *** يفنى الزمان و فيه ما لم يوصف
وان كان أعلى منه درجة او درجات ، ولكن عليٌّ علیه السلام الذات المترفعة عن أفق البشرية المتصلة بالعوالم الملكوتية فليست هی من ذوات العبقريان بل تجدها مشابهة للانبياء ، فوق المخلوق دون الخالق ، فلا يستطيع بشر أن يدركها او يأتى على خصوصيات مزاياها الا بمقدار ما يرى الناظر المتطلع الى أسمى كوكب فی وسط السماء لا يبصر منه سوى ضوئه ، ولا يعرف شيئا من حقيقته وكنهه وباقى مزاياه ، فعبقرية على بن ابى طالب علیه السلام عبقرية روحانية ربوبية لاعبقرية بشرية ، فلا يستطيع البشر أن يتطرقها ويحيط الا بالحواشی والوتوش (1) منها. فانها خارجة عن مقايس العقول ومدارك أفهام الانام ، فيا ايها الناس لاتظلموا عليا علیه السلام وهو فی الدار الأخرى كما ظلمه أسلافكم يوم كان فی هذه الدار الدنيا ، ولو لم يكن له الّا قوله: ما هلك امرء عرف قدره وقيمة كل امرء ما يحسنه ، و قوله : الظلم مودع فی النفوس: القوة تبديه و العجز يخفيه ؛ لكفى. و هذه شعاعة من انواره الساطعة وأثماره اليانعة وكلمة الختام أن علياً -وعلى ذكره آلاف التحية والسلام - فوق العبقريات ولا يقاس بمقاييس العقول .
ص: 70
امام الهدى هل أبدع الله آية *** لمعناه أسمى منك شأنا وأشمخا
كم استصرخ الاسلام يدعو فلم يجد *** لصرخته الا حسامك مصرخا
وكم شاد للتوحيد عرشا من الهدى *** وهد عروش المشركين ودوخا
وهل فاح للاصحاب نشر ولم يكن *** بديع مزاياك العبير المضمخا
ولو وجد المختار مثلك فيهم *** لما اختار أن تغدوله دونهم أخا
فمن ذا الذی قدذب عنه بسيفه *** ومن ذا الذی بالنفس من دونه سخا
لذا اختصه يوم الغدير برتبة *** ذووا الغدر فيها كيدهم قد تفسخا
بها عقد الباری على الخلق بيعة *** الى الحشر لاتزداد الا ترسخا
فأصبح مولى المؤمنين وعندها *** أتى نحوه الثانی (فحيا وبخبخا)
وسرعان ماخفوا لنقض عهدوهم *** فيالك من عهد مع الغدر أرخا
وقد تنسخ الايام فضلا لذی حجی *** وفضلك يأبى أن يزول وينسخا
فان حاولوا ان ينقصوك قلامة *** على رغمهم تزداد بالفخر فرسخا
نبوة حق عاضدتها امامة *** ولكن بوحدانية الحق أرخا
فيا (جنة الفردوس) حسبك جنة *** من الناران حط العذاب ونوخا
فأنت امام الحق ان ضلت الورى *** وأنت الرخا للخلق ان اعوزالرخا
ص: 71
ص: 72
أخبرونا عن أيام الربيع العشرة المنسوبة الى فرحة الزهراء سلام الله عليها و متى فرحت والرجل طعن فى اليوم السادس والعشرين من ذی الحجة ، ومات يوم التاسع والعشرين منه وذلك بعد وفاتها فكيف فرحت ؟
الجواب
ان المعروف عند كثير من الشيعة من قديم الزمان ان هذه الايام أيام فرح وسرور ، كما ذكر ذلك السيد ابن طاووس فى الاقبال حيث قال: وجدنا جماعة من العجم والاخوان يعظمون السرور فى هذا اليوم اى اليوم التاسع من ربيع ويذكرون انه يوم هلاك كذا ، و أشار الى الرواية الضعيفة المنسوبة الى الصدوق وقال السيّد رضوان الله عليه : لم أجد رواية يعتمد عليها تؤيد تلك الرواية ، ولكن لعل فرح الشيعة بذلك اليوم من جهة ان الامام الحسن العسكرى سلام الله عليه توفّی على أصح الروايات يوم الثامن من ربيع الاول ويكون يوم التاسع أول يوم من امامة الحجة عجل الله فرجه ، فينبغى أن يتخذه المؤمنون عيداً كما يتخذ الناس أيام
ص: 73
جلوس ملوكهم عيداً ، ثم ذكر بعض التوجيهات لاحتمال كون قتل الرجل فی ربيع وكلّها فى غاية البعد ، انتهى ما أفاده قدس سره مع شرح و توضيح منا .
وأقول ايضا ويحتمل أن يكون سبب فرحة الزهراء سلام الله عليها هو أن اليوم التاسع والعاشر من ربيع الاول هو يوم اقتران ابيها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم سید الكائنات بوالدتها البرّة الطاهرة خديجة الكبرى ولاشك ان الزهراء كانت تظهر الفرح والسرور بذلك اليوم من كل سنة افتخاراً بذلك الشرف العظيم والخير العميم ، ويكون قد بقيت عادة اظهار هذا الفرح متوارثا عند مواليها من الشيعة فی ذلك اليوم كل سنة ، ولكن على مرور السنين جهلوا السبب ثم حورة بعض الدساسين الى غير وجهه الصحيح ؛ وبقى الاسم عندهم وهو فرحة الزهراء علیه السلام والسبب مجهولاً .
وانما الفرح والسرور ان يجلس المؤمنون فی نواديهم الخاصة ويتلون القصائد والاشعار البديعة فی مدائح اهل البيت علیهم السلام وذكر مناقبهم ولو بالأصوات الحسنة التی لم تبلغ حدالغناء المحرّم وفقنا الله جميعاً للاعمال الصالحة والتجارة الرابحة فی الدارين ان شاء الله .
ص: 74
الأوّل
حدثتنا طائفة من الأخبار أن ذريّة الزهراء عليها السلام قد حرمت عليهم النار حتى لوكانوا من المخالفين ، نعم يستثنى منهم من ادّعى الإمامة لنفسه فی تفسير قوله تعالى : ( فَمِنْهُمْ ظٰالِمُ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدُ ) الاية ؟ .
الجواب
يخطر على بالى كلام (1) للامام الرضا علیه السلام مع أخيه زيد المعروف بزيد النار الذی خرج على المأمون ولما ظفر به عفى عنه و وهبه للامام علیه السلام فقال الامام لزید ما مضمونه او لفظه : أغرّك يا زيد ما بلغك أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال : ان الله حرّم فاطمة
ص: 75
وذرّيتها على النار ، فانّ ذلك مختص بذرّيتها من صلبها كالحسن والحسين وزينب سلام الله عليهم ، والادلة القطعية عقلية تؤيد ذلك وتدل عليه كالحديث المشهور : خلق الله الجنة لمن أطاعه الخ ، نعم باب العفو والشفاعة والغفران باب آخر ولايختص بأبناء فاطمة سلام الله عليها بل يعمّ جميع شيعتها ومواليها ، والجميع ابنائها بالبنوّة الروحانية -رزقنا الله شفاعتها والموافات على ولايتها .
الثانی
لقد سجّل لنا التاريخ المتواتر فی تصرّف رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وأهل بيته فی هذا العالم (أى عالم المادّة) بل وفى العوالم الاخر كعالم المثال ، وعالم الصورة ، حتى انتهت الحقيقة المحمدية الى عالم السرمد كما فی حديث الاسراء ، وكسَير أمير المؤمنين علیه السلام من المدينة الى المدائن ، وكصلاة ألف ركعة ، وكجواب الجواد علیه السلام عن ثلاثين الف مسألة فی مجلس واحد وكما أخبرتنا صوادر قدسية من الله عزوجل كقضية عزرة و عزير وأمثالها لأمثالهم ، فهل صدور هذه الكرامات منهم الّا تصرف فی الأكوان فی الأكوان كقصر الدهر ومدّه وهى ليست محالات عقلية لايجوز وقوعها ؟ فأرجو الجواب المقنع لأهل العصر الرّاقی مهد الحضارة المدنية ؟
الجواب
القضية تحتاج الى مزيد بسط وسعة ببيان لا يسع المقام منه الا الاجمال والاشارة وهو أن العوالم أربعة: اللاهوت ؛ و الجبروت ، والملكوت ، والملك والثلاثة الاولى كلّها مجردة عن المادّة والمدّة ، أما عالم الملك وهو العالم المادّى و ماتحت العرش فهو قسمان: قسم يحتاج الى مادة فقط وهو عالم الافلاك والكرات النيّرة المعلّقة فی الفضاء التی ينشىء الزمان من حركاتها فتكون المدة ؛ وقسم يحتاج الى مادة ومدّة
ص: 76
معاً وهو عالم الصنع و ما تحت فلك القمر ، وكل عالم له الهيمنة على مادونه والتصرف فيه ، فعالم الملكوت المجرد عن المادة والمدة له التصرف فی عالم الملك للابداع والايجاد من دون اعداد ولا استعداد ، ولا مادة و لا امتداد ، و بهذا المفتاح تنحل جميع المشكلات فى باب المعجزات والعروج (الجسمانی) و أضرابها ، فان العبد اذا تحقق بحقيقة الحق و تخلق بأخلاق الروحانيين غلبت عليه صفات الأرواح المجردة وصار له السلطنة على العوالم المادّية يتصرف فيها كيف شاء بمشية الله ؛ (1) فكما انه جلّ شأنه يوجد المادة من غير مدة ولا مواد ولاقوّة ولا اعداد ولا استعداد فكذلك وليّه أونبيّه ، وبالجملة فالوجودات المجردة أو العقول الفعالة (والمدبّرات أمراً) كما فى لسان الشرع تمرّ على الزمان ولايمرّ الزمان عليها و تحكم على المادة ولاتحكم المادة عليها ، والمادة التی تعلقت بها كأجسامها العنصرية الشريفة مقهورة لروحها المجردة ويجرى عليها حكم التجرد فلايعوّقها عن الاتصال بالملاء الأعلى فضلا عن الأدنى عائق ، وهذا رمز واشارة ولامجال للبسط ولكنه من طريقة الفلسفة الالهية والحكمة الروحية ، وأما من حيث الحكمة
ص: 77
الطبيعية والثقافة العصرية فبعد ان توصل علماء المادة وفلاسفة الطبيعة الى استخراج جملة من القوى و العناصر المودعة فى الكون المحسوس التی ما كان يحلم بها أحد من السابقين فاستخرجوا الكهرباء والعناصر المشعّة كالراديوم و الاورانيوم وأمثالها ممّا يدهش الالباب فيما ترتب عليها من الآثار والاسرار وعجائب المخترعات النافعة كالسيّارة والطيّارة ، والهاتف والحاكى ، وما اليها فضلا عن الاكتشافات الفلكية والطب والجراحة وأضرابها ، و بعد هذا كله أى مجال للاستنكار او الاستبعاد فی ان يكون فی الكون قوى كامنة وأسرار خفية أطلع الله عليها أنبيائه و أوليائه ، فيستطيع أحدهم ان ينقل بلحظة عرض بلقيس من سبأ (اليمن) الى أورشليم (القدس) او تكون لاميرالمؤمنين علیه السلام قوة طبيعية فضلا عن القوة الروحانية يستطيع بها أن ينتقل من المدينة الى المدائن فی دقيقة واحدة ، اوان الجواد علیه السلام يجيب عن ثلاثين او ثلاثة آلاف مسألة فی مجلس واحد (1) أی استبعاد أن يكون فى الكون مثل هذه القوى الغربية بعد أن رأينا بأعيننا (أشعة رنتجن) التی يرى الانسان فيها بعين رأسه ماوراء الاجسام الكثيفة كصناديق الحديد بل من وراء الجدار ؛ ومع كثرة هذه الاختراعات الباهرة لايزال يقول كبار فلاسفة الطبيعة ورجال المادة ، ان العلم لا يزال طفلا ، فاذا بلغ أشده وأصاب رشده سوف يستكشف ما هو أدق و أعمق و أرفع وانفع من هذه المآثر والآثار والفوائد والاسرار.
وحقّاً ان العلم لايزال طفلاً فانهم حتى الآن لم يصلوا الى معرفة حقيقة الكهرباء مع كثرة تصرفاتهم فيها ولا أصابوا كنه الحياة وجوهرها ، ولاكنه القوة ودقائق المادّة ، ولا حقيقة العناصر التی تتركب منها المواليد العنصرية فضلا عن جوهر
ص: 78
الكواكب والشموس سوى تخمينات وتخرّصات لا يعول عليها ، وكلما ازداد الانسان علما ازداد علما بجهله و اعترافا بقصوره.
والغرض من هذا كله كسر سورة الاستنكار والاستبعاد وأن أمثال (الراديو) او (الراديوم) و (أشعة رنتجن) و أمثالها من مكتشفات هذا القرن لم تبق مجالاً للاعتماد على القواعد القررة المقررة فى الفلسفة الطبيعية القديمة مثل استحالة الخرق والالتئام (1) وتناهى الاجسام وأضرابها ، نعم طى الزمان والمكان وطى الارض وبسطها ومد الوقت وقبضه ربما يشكل القول بها لاستلزامها اختلاف نظام العالم الشمسى وتناثر الكواكب المرتبط بعضها ببعض على نظام مخصوص ، وآخر القول أن المعجزات وخوارق العادات قد تكون لها أسباب طبيعية فضلا عن القوى الروحية ولكن لم يصل العلم بعد اليها ، وقد يصل فيها بعد وقد لايصل، والله أعلم بحقائق مخلوقاته وعجائب مصنوعاته.
ص: 79
ص: 80
العداوات ، والتباغض بين الافراد والقبائل ، والجماعات غريزة بعيدة المدى فی طبيعة البشر من أول عهده ، وبدء وجوده على هذه الكرّة من عهد هابيل وقابيل مستمرة فی جميع الاجيال الى هذا الجيل ، ومنشأ العداوة وبواعثها غالبا هو التنافس والتعالى والأنانية التی تدفع الى حب الاثرة والغلبة السيطرة ، والاستيلاء على مال او جاه ؛ أو ولاية وامرة ، وأنكى العداوات ، العداوات التی تبعث عن ترة وطلب ثار وغسل عار وللتشفى والانتقام ، ولكن اسوأ العداء أثراً ، وأبعده مدى ، والذی يستحيل تحويله ولايمكن زواله هو عداوة الضدية الذاتية ، والمباينة الجوهرية كعداوة الظلام للنور ، والرذيلة للفضيلة ، والقبح للحسن ، والشرّ للخير وامثال ذا .
فان هذا العداة والتنافر يستحيل من أن يزول الّا بزوال احدهما اذكل يضاد الاخر فى اصل وجوده وطباع ذاته ، وكل واحد يمتنع على الاخر فلايجتمعان ولا يرتفعان ؛ فالذوات الشريرة بذاتها وفی جوهرها تضاد الذوات الخيرة وتعاديها ، وكلها واحد من هذين المتضادين المتعاندين يجد و يجتهد فی ازالة الآخر
ص: 81
ومحوه من الوجود كالنور والظلام لا يجتمعان فی محل واحد ابداً ، وكل منهما بطباعه يتنافى مع الآخر ويعاديه و كالفضيلة والرذيلة فی الانسان ، وعلى هذا الطراز ، ومن هذا النوع عداوة بنی هاشم وبنی أمية ، عداوة جوهرية ذاتية يستحيل تحويلها ويمتنع زوالها ، عداوة الظلام للنور ، والشر للخير ، والخبيث للطيب ؛ ويعرف كل واحد منهما بثماره و آثاره. وقديماً قيل: «من ثمارهم تعرفونهم» الشجرة لاتعرف الا من ثمرها أنها خبيثة أم طيبة ؛ والانسان لا يعرف خبثه وطيبه الّا من أعماله وملكاته وخصاله .
أولد عبد مناف هاشما ، وعبد شمس ، ونشب العداء بينهما منذ نشأ و شبا لالشیء سوی اختلاف الجوهرين ، وتباين الذاتين ، ثم استشرى الشر واتسعت عدوى العداء بين القبيلين بحكم الوراثة ، وكان لكل واحد من هذا القبيل ضد له من القبيل الاخر ، فعدوه بالنسب ؛ هاشم و عبد شمس ، وعبدالمطلب وأميّة ، وأبوطالب وحرب ، ومحمّد صلی الله علیه و آله و سلم وأبو سفيان ، ما اشرقت أول بارقة من أشعة الاسلام وما اعلن البشير النذير بدعوة التوحيد الّا وثارت نعرة الشرك والوثنية لطمس أنوار الاحدية ، وقام بحمل معاول المعارضة والهدم لما يبنه ويتبناه منقذ البشرية من مخالب الوحشية ، قام بها ثالوث الجبت والطاغوت ، أبوجهل ، وأبولهب، وأبوسفيان ، وكان الثالث زعيم الحزب الاموى أشدهم مناوئة للاسلام ومحاربة له ؛ نصبوا كل الحبائل ، وتوسّلوا بجميع الوسائل لاخفات صوته ، واخماد صوته ؛ واعملوا كل بأس ، وسطوة فی مقاومة تلك الدعوة ، حتى ألجأت جماعة ممن تدين بها فهاجروا الى الحبشة .
وتحمل النبی واصحابه من الاضطهاد والاذى أكثر من عشر سنين حتى اضطر الى الجلاء من وطنه و وطن آبائه ، ومركز عزّه ، فهاجر الى يثرب فطارده أبوسفيان ، وتلاحقه الى دار هجرته ، وما رفعت رأية حرب على الاسلام الاّ
ص: 82
وبنو أمية وزعيمهم أبوسفيان قائدها ورافعها يلهب نارها ويثير غبارها ويتربص باخماد ذلك النور ، الدوائر ، ويهيج نعرة القبائل ، الى أن فتح الله الفتح المبين وأمكن الله نبيّه من جبابرة قريش وملكهم عنوة ، فصاروا عبيداً وملكا بحكم قوانين الحرب ، والاستيلاء على المحاربين ، بالقوة والسلاح ، ولكنه سلام الله عليه أطلقهم وعفاعنهم ، وقال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء ، واكتفى منهم بظاهر الاسلام واطلاق لسانهم بالشهادتين ، و قلوبهم مملوءة بالكفر والحقد على الاسلام ، يتربصون الفرص لمحو سطوره ، وقلع جذوره وما اسلموا ، بل استسلموا ، ولما وجدوا أعواناً على الاسلام وثبوا» ماتغيّر شیء نفسيات أبى سفيان وبنی أمية بعد دخولهم فی حظيرة الاسلام قلامة ظفر ، انما تغيّر وضع المحاربة ، وكيفية الكفاح والمقاومة.
دخل أبوسفيان ومعاوية فى الاسلام ، ليفتكوا فى الاسلام ويكيدوا له و العدو الداخل أقدر على الكيد والفتك والعدو الخارجى ، وهذه العداوة ذاتية متأصلة ؛ والذاتی لايزول وليست هی من تنافس على مال ، أو تزاحم على منصب أو جاه ، بل هى عداوة المبادى ، عداوة التضاد الطبيعی ، والتنافر الفطرى ، عداوة الظلام للنور ، والضلال للهدى ، والباطل للحق ، والجور للعدل ، ولذا بقی بنور أمية على كفر هم الداخلى ومكرهم الباطنى مع عدادهم فى المسلمين وتمتعهم بنعم الاسلام وبركاته لكن لم يمس الاسلام شعرة من شعورهم ولابلّ ريشة من اجنحتهم كالبط يعيش طول عمره فی الماء ولايبل الماء ريشه منه. (فيما يقولون) نعم أقرّوا باسلامهم حقنا لدمائهم و تربّصالسنوح الفرصة لهدم عروش الاسلام وقواعده ، حتى اذا أدلى من كانت له السلطة بالخلافة الى أول خليفة منهم طاروا فرحا ؛ وأعلنوا ببعض ما كانت تكنه صدورهم ، فجمعهم أبو سفيان وقال : «تلقفوها يا بنی أمية ، تلقف الكرة ؛ فوالذى يحلف به أبو سفيان ما من جنّة و لانار» .
ثم أخذوا زمام الخليفة الاموى بأيديهم ، وصاروا يقودونه «كالجمل الذلول»
ص: 83
حيث شاؤوا ، فاتخذوا مال المسلمين دولاً ، و عبادالله خولاً ، وانتقضت بلاد المسلمين من جميع أقطارها عليه وعليهم الى أن حاصروه فی داره ، وضايقوه على أن يخلع نفسه من الخلافة ، ويجعلها شورى بين المسلمين فتقاعس وتصلّب أولا ، ثم لما اشتد الحصار عليه وحبسوا عنه حتى الماء والطعام تراخت أعصابه ، و وهنت اطنابه ، وحاول أن يخمد نار الفتنة بخلع نفسه ، اجابة للثائرين الذين شددوا الحار فاحس بنوأمية وقيادتهم يومئذ بيد مروان فی المدينة ، ومعاوية فی الشام ، بأن صاحبهم اذا خلع نفسه فسوف يفلت الحبل من أيديهم ، وقد غلط الدهر أو غلط المسلمون غلظة يستحيل أن يعودوا لمثلها أبداً ، وبأى سابقة ، أو مكرمة لبنی أمية أو جهاد فی الاسلام يستحقّون أن تكون خلافة المسلمين فی واحد منهم ، وهم اعداء الاسلام و خصومه فی كل موقف من مواقفه ، وفی كل يوم من ايام ، أدرك كل ذلك مروان ومن معه من حزبه ، فتواطئوا مع زعيمهم بالشام أن يجهّزوا على صاحبهم فيقتلوه قبل أن يخلع نفسه وقبل ان يفلت حبل الحيلة من ايديهم ، نعم يقتلونه ويتخذون قتله ذريعة الى مطالبة فئة من المسلمين بدمه ؛ ويتظاهرون لسائر المسلمين بأنه قتل مظلوما ولابد من الاخذ بثاره فيكون أقوى وسيلة الى استرجاع الخلافة اليهم ، ولولا قتل عثمان و قميص عثمان لما صارت الخلافة الى معاوية ومروان وابناء مروان ، ولكان من المستحيل أن يحلموا بها فی يقظة أو منام ، ولكن جاءت صاحبهم الاول من غيرثمن ، وقد دفعها اليه من قبله دفعا .
نعم اراد السابق أن يحولها عن بنی هاشم الى خصومهم الالدّاء بنی أمية ففتل حبل الشوری ، وابرمه بحيث تصير الخلافة لامحالة الى عثمان وما اكتفى بذلك حتى نفخ روح الطموح اليها فى نفس معاوية الطليق ابن الطليق ؛ وهو وأبوه اكبر الاعداء الالدّاء للاسلام ، كان كل سنة يحاسب عمّاله ويصادر أموالهم ، ويعاملهم بأشد الاحوال الّا معاوية ، تتواتر الاخبار لديه بأن معاوية يسرف فی صرف
ص: 84
أموال المسلمين ، ويلبس الحرير و الديباج فيتغاضى عنه بل يعتذر له ، ويقول: «ذاك كسرى العرب» (1) مع أن معاوية كان من الضعة وافقر والهوان باقصى مكان ، كان من الصعاليك الساقطين فی نظر المجتمع حتى ان احد اشراف العرب (2) وفد على النبی صلی الله علیه و آله و سلم ولما أراد الخروج أمر النبی صلی الله علیه و آله و سلم معاوية أن يشيعه الى خارج المدينة وكان الحرّ شديداً والارض يغلى رملها ويفور ومعاوية حافی القدمين ، فقال للوافد الذی خرج فی تشييعه.
-اردفنى خلفك
-أنت لاتصلح أن تكون رديف لاشراف والملوك!.
-ألافاعطنی نعليك اتقی بهما حرارة الشمس.
-أنت احقر من أن تلبس نعلى.
-ما أصنع وقد احترقت رجلاى ؟
-امشی فی ظل ناقتى و لاتصلح لاكثر من هذا!!
تعساً لك يا زمان وأف لك يا دهر هذا الصعلوك النذل صار أو صيّروه كسرى العرب!!! نعم : و مروان هما اللذان دبّرا الحيلة فی قتل عثمان ، ومكّنوا الثائرين من قتله ، وقضية الجيش الذى أرسله معاوية من الشام الى المدينة و وصيته له بأن لايدخل المدينة حتى يقتل عثمان تشهد لذلك وهی مشهورة.
نعم : وقد أعانهم على قتله ايضا احدى زوجات النبی التی كانت تهرج على عثمان وتصرخ فی النوادى «اقتلوا نعثلا قتل الله نعثلا» ثم بعد أن امتثلوا أمرها
ص: 85
وقتلوه ، ثارت أو أثاروها الى الطلب بدمه ، وكانت من جرّاء ذلك واقعة الجمل التی ذهب ضحيتها عشرون الف من المسلمين وفتحت باب الحروب بين أهل القبلة ، وقال احد شعراء العصر يخاطبها و يؤنبها :
وأنت البلاء و انت الشقاء *** وأنت السحاب وأنت المطر
وأنت أمرت بقتل الامام *** و قلت لنا انه قد كفر
و قال الاخر :
جاءت مع الاشقين فی هودج *** تزجى الى البصرة اجنادها
كأنها فی فعلها هرة *** من جوعها تأكل أولادها
وهذه النكات التی رشح القلم بها هنا و هی من اسرار دقائق التاريخ والتی قلّ من تنبه لها انما جاءت عفوا ، وما كانت من القصد فی شیء ، انما المقصود وبالبيان ان معاوية وأبا سفيان لما بهرهما الاسلام وقهرهما على الدخول فيه حفظاً لحوبائها من التلف ؛ اظهرا الاسلام صورة واضمرا الكيد والفتك به سريرة ، وبقيا يتربصان فكلما سنحت فرصة لذلك ظهرت ركيزتهم فی اقوالهم وفی اعمالهم .
وكان معاوية ادهى من أبيه الذى كبر وخرف فی آخر عمره ومن دهائه وعزمه كان تحتفظ بصورة الاسلام مدة امرته بالشام عشرين سنة فلايصطدم بشعيرة من شعائره ، ولا يتطاول الى اعتراض قاعدة من قواعده فلا يتجاهر بشرب الخمر والاغانى (1) ولا يقتل النفس المحرمة ، ولا يلعب بالفهود والقرود ، ولا يضرب على المزمار والعود ، نعم : قد يلبس الحرير والديباج وطيلسان الذهب ولا بأس بذلك فانه «کسرى العرب» وما احتفظ بشعائر الاسلام الالحاجة فی نفس يعقوب ، ومن باب الهدوء قبل العاصفة والمشى رويداً لاخذ الصيد .
ص: 86
بقى على ظاهر هذا الايمان المبطن بالكفر مدة مخالفته ومحاربته لاميرالمؤمنين فی صفّين، فلما استشهد سلام الله عليه تنفس الصعداء وغمرته المسرّة، وامكنته الفرصة من اللعب على الحبل وتدبير الحيل ؛ ولكن بعد أن بويع الحسن علیه السلام والتف عليه الأبطال من اصحاب أبيه. وشيعته ومواليه ومنهم الرؤوس ، والضروس ، والأنياب ، والعديد ، والعدة ، والسلاح ، والكراع ، فوجد أنه وقع فی هوة اضيق واعمق من الاولى ، فان الحسن علیه السلام سبط رسول الله ، وابن بنته ، وريحانته ، وهو لوداعته ؛ وسلامة ذاته محبوب للنفوس لم يؤذ احداً مدة عمره . بل كان كلّه خير وبركة ، ولم تعلق به تهمة الاشتراك بقتل عثمان ، بل قد يقال : انه كان من الذابّين عنه فكيف يقاس معاوية به وكيف يعدل الناس عن ابن فاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم الى ابن هند آكلة الاكباد. اقلق معاوية ، وأقض مضجعه التفكير بهذه النقاط المركّزة التی لامجال فيها للنقاش والجدال، ولكن سرعان ما اهتدىٰ بدهائه ومكره الى حل عقدتها وكشف كربتها ، فلجأ الى عاملين قويّين أولهما المال الذی يلوى اعناق الرجال ، ويسيل فى لعبه لعاب الابطال وبعث الى اعظم قائده من قادة جيش الحسن الذين بايعوه على الموت دونه وامسهم رحماً به وهو عبيد الله بن العباس الذی جعله أميراً حتى على قيس ابن سعد بن عبادة ذلك الزعيم العظيم الفارس المغوار المتفانى اخلاصاً فى حب الحسن علیه السلام وأبيه علیه السلام . (1)
ص: 87
نعم : بعث اليه معاوية باكثر من خمسين الف ، و وعده عند مجيئه اليه بمثلها فانسلّ الى معاوية فی جنح الظلام ، وأصبح الناس ولا أمير لهم فصلّى بهم قيس ، وهوّن عليهم ، هذه الفادحة أوهت عزيمة الجيش ، و هيأتهم للهزيمة. قبل النضال وقل ساعد الله قلبك ياابا محمّد كيف تحمّلت هذه الرزايا التی اقبلت عليك متتابعة كقطع الليل ، وصار معاوية يعمل بهذه الخطة مع كل بارز من الشيعة ورجالهم و ابطالهم فأستمالهم اليه جميعا ، ولم يستعص عليه ويسلم من مكره وحبائله الّا عدد قليل لايتجاوز العشرة كقيس بن سعد ؛ وحجر بن عدى وامثالهم من ناطحوا صخرة الظلم والظلال براسخ ايمانهم ، وما اختلجهم الشك فی كفر معاوية وأبيه و بنيه . طرفة عين وكان قيس «اقسم بالله أن لا يلقى معاوية الّا وبينهما الرمح او السيف» فی قضية معروفة هذا «أول» تدبير أتخذه معاوية للغلبة على الحسن علیه السلام واستبداده بالامر واغتصاب الخلافة منه .
«والثانى» وهی حيلة تأثيرها أشد من الاولى استطابها السواد الاعظم وانجرف اليها الرأى العام تلك دعوى معاوية الحسن علیه السلام الى الصلح ، نعم : اشد مافت فی عضد الحسن طلب معاوية الصلح ، فقد كانت أفتك غيلة وأهلك حيلة لأن المال كان يستميل به معاوية عيون الرجال ، والخواصّ منهم .
اما العامّة فلاينالهم منه شیء ولكن الناس كانوا قد عضّتهم انياب الحروب حتى أبادت خيارهم ، وأخرجت ديارهم ، فی أقل من خمس سنين ثلاثة حروب ضروس : الجمل ، وصفين ، والنهروان ، فاصبحت الدعوة الى الحرب ثقلية وبيلة والدعوة الى الصلح والراحة لذيذة مقبولة ، وهنا تأزّمت ظروفه سلام الله عليه وحاسب الموقف حسابا دقيقاً ، حساب الناظر المتدبر فی العواقب فوضع الرفض والقبول فی كفتى الميزان ليرى لأيّها الرجحان ، فوجد أنه لورفض الصلح وأصرّ على الحرب ، فلا يخلو أما أن يكون هو الغالب ، ومعاوية المغلوب وهذا و ان كانت
ص: 88
تلك الأوضاع والظروف تجعله شبه المستحيل ولكن فليكن بالفرض هو الواقع ، ولكن هل مغبّة ذلك الّا تظلم الناس لبنی أمية ، وظهورهم باوجع مظاهر المظلومية ، بالامس قتلوا عثمان عين الامويين ، وأمير المؤمنين «كما يقولون» واليوم يقتلون معاوية عين الامويين ، وخال المؤمنين (1) (يالها من رزية) ويتهيأ لبنی أمية
ص: 89
ص: 90
قميص ثانی فيرفعون قميص عثمان مع قميص معاوية ، والناس رعاع ينعقون مع كل ناعق لاتفكير ولاتدبر ، فماذا يكون موقف الحسن اذاً ؟ لو افترضناه، هو «الغالب».
أما لو كان هو «المغلوب» فاوّل كلمة تقال من كل متكلم ان الحسن هو الذی ألقى نفسه بالتهلكة ، وسعى الى حتفه بظلفه ، فان معاوية طلب منه الصلح الذی فيه حقن الدماء فابى وبغی ؛ وعلى الباغی تدور الدوائر وحينئذ يتم لمعاوية وابى سفيان ما أرادا من الكيد للاسلام وارجاع الناس الى جاهليتهم الاولى ، وعبادة اللّات والعزّى ، ولا يبقى معاوية من أهل البيت نافخ ضرمة ، بل کان نظر الحسن علیه السلام فی قبول الصلح ادقّ من هذا وذاك أراد أن يفتك به ويظهر خبيثة حاله: وما ستره فی قرارة نفسه قبل أن يكون غالباً أو مغلوبا ؛ وبدون أن يزجّ الناس فی حرب ، ويحملهم على ما يكرهون من اراقة الدماء .
فقد ذكرنا أن معاوية المسلم ظاهراً العدو للاسلام حقيقة ، وواقعاً كان لوجود المزاحم يخدع الناس بغشاء رقيق من التزمت فی ارتكاب الكبائر والموبقات ، وما ينطوى عليه من معاداة الاسلام و تصميم العزيمة على قلع جذوره واطفاء نوره ؛ يتكتم بكلّ ذلك خوفا من رغبة الناس الى الحسن وأبيه من قبل فاراد الحسن أن يخلى له الميدان ، ويسلم له الامر ويرفع الخصومة ، حتى يظهر ما يبطن ، ويبوح بكفره ، ويعلن ويرفع عن وجهه ذلك الغشاء الصفيق ويعرف الناس حقيقة أمره ، وكامن سره ، وهكذا فعل ، وفور ابرام الصلح صعد المنبر فی جمع غفير من المسلمين ، وقال:
ص: 91
« انى ما قاتلتكم لتصوموا ولا لتصلّوا وانما قاتلتكم لأتأمر عليكم ، وقد اعطيت الحسن شروطا كلّها تحت قدمی » .
انظر الى القحة والصلف وعدم الحياء وضيق الوعاء وصفاقة الوجه ؛ أما وايم الله انه لو لم يكن لقبول الصلح الا ظهور هذه الكلمات من معاوية لكفى بها دليلا على افتضاح معاوية ، ومعرفة الناس بكفره ، فما ظنك به وقد استمر على هذه الخطة الكافرة ، والخطيئة السافرة ، والتحدى للاسلام وهدم قواعده جهاراً.
لولا صلح الحسن لما استلحق معاوية زيادا بابى سفيان ، وهو ولده من الزنا ، فضرب قول رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم «الولد للفراش وللعاهر الحجر» ضربها بالحجر وبعرض الجدار بلاخيفة ، ولاحذار.
لولا الصلح لما قتل حجر بن عدى سيد الأوّابين؛ وعشرة من اعلام خيار الصحابة والتابعين، قتلهم بمرج عذراء-من قرىٰ دمشق-صبراً ، من دون أى سبب مبرر .
لولا الصلح لماقتل معاوية الصحابی الجليل عمرو بن الحمق وحمل رأسه الى الشام ، وهو أول رأس حمل فی الاسلام.
لولا الصلح لما سقى معاوية الحسن السمّ على يدجعيدة بنت الاشعث .
لولا الصلح لما أجبر معاوية البقية الصالح من أولاد المهاجرين والانصار على أخذ البيعة ليزيد ، وحاله فى الفسق والفجور مشهور الى كثير من أمثال هذه المخازى ، والفظایع التی لا يبلغها الاحصاء. ولكن تأمل ملياً وأنظر من الغالب ومن المغلوب ، أنظر ما صنع الحسن بمعاوية فى صلح وكيف هد جميع مساعيه وهدم كل مبانيه حتى ظهر الحق وزهق الباطل ، وخسر هنالك المبطلون ، فكان الصلح فی تلك الظروف هو الواجب والمتعيّن على الحسن علیه السلام ، كما أن المحاربة والثورة على يزيد فی تلك الظروف كان هو الواجب والمتعين على أخيه الحسين ، كل ذلك للتفاوت بين الزمانين والاختلاف بين الرجلين .
ص: 92
ولولا صلح الحسن الذی فضح معاوية ، وشهادة الحسين التی قضت على يزيد ، وانقرضت بها الدولة السفيانية بأسرع وقت.
لولا تضحية هذين السبطين لذهبت جهود جدّهما بطرفة عين ، ولصار الدّين دین آل أبی سفيان دين الغدر والمكر ، دين الفسق والفجور ، دين الحانات والخمور ، دين العهار والقمار ، دين الفهود والقرود ، دين ابادة الصالحين واستبقاء الفجرة الفاسقين . (1)
فجزاكما الله ياسيدى شباب الجنة ويا سبطى رسول الله ، جزاكما الله على الاسلام وأهله أفضل الجزاء ، فوالله ما عبدالله عابد ولا وحّده موحّد ، وما حقت فريضة ولا أقيمت سنة ولا ساغت فى الاسلام شريعة ولا زاغت من الضلال الى الهدى أمة الّا ولكما بعدالله ورسوله الفضل والمنّة والحجة البالغة والمحجّة .
جاء رسول الله بالهدى والنور الخير والبركة للانسانية أجمع من غيرلون ولون وعنصر وآخر وأمّة دون أمّة وقوم سوى آخرين جاء بالاسلام والنور المبين فشيّد قواعده واحكمه واقومه واكمله وأتمه ولم يترك فيه أى نقص وأى عوج وجاء أبوسفيان والشجرة المعلونة فى القرآن : معاوية ويزيد ومروان ، فحملوا معاول الكفر والشرك وتحاملوا على تلك الاسس والقواعد يقلعون جذورها ويخمدون نورها ( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْوٰاهِهِمْ وَ يَأْبَى اللهُ إِلّٰا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكٰافِرُونَ ) (2) فوقف السبطان بمالهما من قوة وسلطان سدّاً منيعاً دون ذلك البنيان وما تمّ لها ما أرادا من حفظ شريعة جدهما الا بالتضحية العظمى بأنفسهم وأموالهم ورجالهم واطفالهم وبكل ما فی دنيا النعمة والنعيم والعيش الوسيم ، بذلوا
ص: 93
كل ذلك فی سبيل الله ولحفظ دين الله ، ولو لا هذه التضحية وتلك المفادات لأصبح دين الاسلام اسطورة من الاساطير لاتجده الا فی الكتب والقماطير يذكره التاريخ كما يذكر الحوادث العابرة والامم المنقرضة.
«سبحان الله والله اكبر ولله الحمد» من هنا تعرف ويجب أن تعرف السرّ فی حفاوة المنقذ الاعظم تلك الحفاوة البليغة والتعظيم الخارج عن نطاق العرف والمعتاد بل وعن رواق التعقل والسداد ذلك النبی العظيم والشخصية والحبيبة الى المبدء الاعظم التى ملاءها هيبة وعظمة و وقارا ، والذی لا تهزه العواصف ولا تستميله العواطف ولا خامره فى لحظة من عمره العبث واللهو واللعب الذی كانت غريزته التی فطر عليها قوله : «ما أنا من دد ولا الددمنی» والذی كان من الوقار والهيبة والأتز ان ربما يدخل عليه الرجل الذى ما رآه من ذی قبل فترتعد فرائصه من هيبته فيقول له النبی : «لا تفزع فانی ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد» حذراً من أن يقول المسلمون فيه ما قالت النصارى فی المسيح هذا الطود العظيم ، يحمل الحسن والحسين وهما طفلان على كتفيه ، ويمشى بهما وهما على متنيه فى ملاء من المسلمين رافعا صوته ليسمعوا «نعم الجمل جملكما ، و نعم الراكبان انتما» ثم يأتى الحسين وهو غلام فيعلو على ظهر النبی والنبی صلی الله علیه و آله و سلم ساجد فلا يرفع رأسه حتى ينزل الحسين علیه السلام حسب ارادته ، النبی يخطب والحسين يدرج فی المسجد فيعثر فيقطع النبی خطبته ؛ ويعدو اليه ويحتضنه ويقول: «قاتل الله الشيطان ، الولد فتنة لما عثر ولدى هذا أحسست أن قلبی قد سقط منى» الى كثير من أمثال هذا صدر عنه سلام الله عليه فى ولديه مما لست بصدد احصائه وجمعه.
ولكن أقول : ان هذا الشغف ، والحب اللامتناهی ليس لكونهما ابنى بنته فحسب فان هذه النسبة لا تستوجب كل هذا العطف الخارق لسياج العرف والعادة ، ولكن لا شك ان هناك اسراراً واسبابا هی ادق واعمق ، اسرار روحية هی فوق هذه
ص: 94
الوشایج الجسمية ، فهل ترى معى أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لعله ارتفع عن افق الزمان ، واشرف بروحيته المقدسة من نافذة الدهر ، واطل على صحيفة التكوين من ألفه الى يائه ، فنظر الى الماضى والحاضر والآتى نظرة واحدة ؛ رأى الحوادث الآتية ممثّلة بعينها فی صحيفة الوجود لا بصورها على شاشة التمثيل ، رأى ما كابد ولداه من الدفاع عن دينه ، والحماية لشريعته والتضحية بانفسهم وأموالهم وأولادهم ، وأنهم ارخصوا فی المفادات كل غال وعزيز ، تجرّع الحسن السمّ من معاوية مرارا حتى قضى بالمرّة الاخيرة التی تقيأ بها كبده قطعة قطعة .
ثم ضرب الحسين علیه السلام المثل الاعلى فى التضحية والمفادات لحفظ شريعة جده ، فاستقبل السيوف والرماح والسهام وجعل صدره ونحره ورأسه ورئته ، وقاية عن المعاول التی اتخذها بنو أمية لهدم الاسلام ، وقلعه من اساسه ، ونصب نفسه وأولاده وانصاره ، الغرّ الميامين هدفا وشبحا لوقاية الاسلام من أن تنهار دعائمه ، وتنهد قواعده وقوائمه ، بهجمات الامويين عليه ، حتى سلم الاسلام واشرقت أنواره ، وعلمت اسراره ، وهلك الكافرون وخسر هنا لك المبطلون ، وكانت كلمة الله العليا ، وكلمة اعدائه السفلى ، وكل مسلم من أول اسلام الناس الى اليوم بل والى يوم القيمة مدين ورهين بالشكر والمنة لهذين الامامين ؛ ولو لا تضحيتهما التی ماحدث التاريخ بمثلها ابدا .
نعم لولا تلك التضحية لعاد الناس بمساعى الامويين الى جاهليتهم الاولى بل أتعس اذاً ، فهل تستغرب من النبى صلی الله علیه و آله و سلم تلك الحفاوة والتعظيم لهما وهما طفلان صغيران ، وقد عرف بل رأى بعين بصره تلك الحوادث الفجيعة ؛ وذلك الكفاح المرير من اجله وفى سبيله ، وكان يشمها ويضمها ويقول: «هما ولداى وريحانتاى» وباليقين انه كان يتنسم منهما العبق الربوبی ، ويتوسم بهما الالق الالهى وبهذا نعرف ويجب ان نعرف أن الحسن والحسين ، نور واحد لا يفضل احدهما على
ص: 95
الاخر قدر عرض شعرة كل واحد منهما قد قام بواجبه ؛ وأدّى رسالته ؛ وعمل بالمنهاج المقرر له من جده وأبيه والصك الذى تسلمه فی اول يوم من امامته ، اذا أردت التوسّع فی معرفة عظمة الحسن سلام الله عليه وشجاعته ، وبسالته ، وقوة قلبه ، وشدة عارضته ، وبليغ حجته ، وعدم اكتراثه بزخارف الملك ، وابهة السلطان ، فانظر الى كلماته واحتجاجاته فى مجلس معاوية مع روؤس المنافقين ، وضروس الكفرة الملحدين الذين كان معاوية يحرش بينهم وبين الحسن ليضحك على ذقونهم ، كابن العاص وابن شعبة ومروان ونظرائهم من زبانية جهنم الذين ما آمنوا بالله طرفة عين ، انظرها واعجب بها ماشئت هناك تتمثّل لك العظمة فی أوج رفعتها ، وتتصوّر لك البسالة فى موج لجّتها ، وان شئت المزيد فانظر الى كلماته ساعة الموت ويوم انطلاقه من هذا السجن. الكلمات التی قالها لاخيه محمّد بن الحنفية فی حق أخيه الحسين ، هنا لك تنفتح لك اغلاق اسرار الامامة ، و يتضح لديك اشراق أنوار النبوة والزعامة ، وتعرف المرعوية النبوية والولاية الكلية هنا لك الولاية لله «والنبی أولى بالمؤمنين من انفسهم» ومن كنت مولاه فعلى مولاه وانما وليّكم الله ورسوله الاية .
وقد زحف القلم ، وخرج عن المحدد واشتمر عن قصد الجادة وجادة القصد ، انما القصارى التی اردتها من كلمتى هذه ان العداوة بين بنی هاشم و بنی امية متأصلة هی عداوة الهدى للضلال ، والنور للظلام ؛ ويشهد لذلك أنك لو استعرضت سيرة بنی أمية من أولهم من عبد شمس الى آخرهم مروان الحمار لم تجد فی صحيفة الكثير بل الاكثر منهم الا الغدر والمكر ونكث العهود ، والفسق والفجور ، والعهر والخنا وأنباء الزنا الى كل ما يتحمّله لفظ الرذيلة من المعانى .
واذا استعرضت سيرة بنى هاشم من أوّلهم ليومنا هذا لم تجد فی صحيفة الكثير بل الأكثر منهم الا كلما تحمله لفظ الفضيلة من الوفاء والصدق والشجاعة والعفة ،
ص: 96
وطهارة المولد ، وشرف النفس وعلوّ الهمة ، والتضحية فی سبيل المبدأ وما الى ذلك من كرم الاخلاق ، وطهارة الاعراق ، وهب أن هناك من يعذر بنی أمية فی عداوتهم لبنى هاشم ويقول:
انهم اتخذوها ذريعة و وسيلة الى الملك والسلطان. ولكن ما عذر الموالين لبنى أمية فى هذا العصر ما عذر الاموية الحديثة ، التی لا تنال بذلك حظا من حظوظ الدنيا ولا نصيباً فی الاخرة.
( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمٰالاً ٭ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِی الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) (1) ( خَسِرَ الدُّنْيٰا وَالآخِرَةَ ذٰلِكَ هُوَ الْخُسْرٰانُ الْمُبِينُ ) (2) .
والحمد لله الذی فقأ عينى الكفر والنفاق، وأقرّ عينى الاسلام والايمان بالحسن والحسين، والعترة الطاهرة ؛ ونسأله تعالى كما منّ علينا بمعرفتهم و ولايتهم أن يحشرنا فی زمرتهم ، ويكرمنا بشفاعتهم والبراءة من اعدائهم وعداوتهم :
أو اليكم ما دجت مزنة *** وما اصطخب الرعدأ وجلجلا
وأبرء ممن يعاديكم *** فان البراءة شرط الولا
وحقّاً الزّكى أبا محمّد سلام الله عليه فی المدة القصيرة التی عاشها بعد أبيه تحمّل من الرزايا والمحن ما لم يحتملها نبی أو وصى نبی ، وما هی بأقل من المصائب التی جرت على أخيه أبی عبد الله علیه السلام يوم الطف فان النكبة الاليمة ، والضربة الاثيمة فی الاخوين واحدة وان اختلفت الاشكال والاساليب وكما أن الحسين قابل رزاياه بالصبر الذی عجبت منه ملائكة السماوات ، فكذلك الحسن قاتل عدوّه . وقابل
ص: 97
الأمّه وأرزائه بصبر عجيب. وصدر رحيب ماهان يوما ولالان. ولا تضرع ولا استكان وما اخذ من أمواله التى اغتصبها معاوية منه وصارت العوبة بأيدى بنی امية ، وما أخذوا احداً من الآف بل من مئات الآلآف وكما لامساغ للتفاضل بين هذين النيّرين ، كذلك لا يصح القول بأن صبرالحسن دون صبر الحسين ، أو أن مصيبته أهون المصيبتين ، فسلام الله عليكما یا امامی الهدى وسليلی عليٌّ والزهراء علیها السلام ما أزهرت الفضيلة واكفهرت الرذيلة .
واختم كلمتى بأبيات من خاتمة قصيدة رثاء لسيد الشهداء نظّمتها منذ مدّة تزيد على خمسين سنة أستهلها :
خذو الماء من عينى والنار من قلبی *** ولا تحملوا للبرق منا ولاالسحب
وأختمها :
بنى الشرف الوضاح والحسب الذی *** تناهی فاضحی قاب قوسين للربّ
لئن عدت الاحساب للفخر أو غدت *** تطاول بالانساب سيارة الشهب
فما نسبی الا انتسابی اليكم *** وما حسبى الا بأنكم حسبی
ص: 98
السؤال:
أسمع من كثير من الخطباء على منبر الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام أحاديثا جمّة يذكرونها عن النبی صلی الله علیه و آله و سلم ومن جملتها هذا الحديث : حسين منى وأنا من حسين ، وكلّما أمعنت النظر واكثرت من التفكير فيه لم أصل الى حد يوقفنی عنده ، فاعلم فی قوله صلی الله علیه و آله و سلم « حسين منّى » هو ان الحسين ولد من فاطمة علیها السلام وفاطمة ابنة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم ولكن يقف حدّى أتحرج فی تفكيرى و يختلف عقلی فی تفسيرها .
الجواب:
الاول : من المحتمل ان المراد به ما هو الدارج المتعارف حيث يقول الرجل لولده او أخيه او أحد أقربائه : أنا منك وأنت منى ، ويستعمل فی مورد الكناية من شدّة الاتصال والقرب المقتضى للمودّة والمحبة لانهما من شجرة واحدة ومتفرّعات من اصل واحد ، فيكون المراد والله العالم انى أنا والحسين من نور واحد وشجرة واحدة
ص: 99
أحبّه ويحبنى وأتصل به ويتصل بی ؛ ويؤيد هذا المعنى شيوع هذا الاستعمال وكثرته والمشكوك يلحق بالأعم الأغلب ، والذی يبعده انه معنی تافه لامزية فيه للحسين علیه السلام بل ويشاركه ابوه وأخوه بل سائر بنی هاشم ، وسياق الكلام يقتضى ان يكون المراد بيان مزية تختص بالحسين من النبی صلی الله علیه و آله و سلم دون غيره.
الثانی : ان يكون المراد - والله أعلم - المعنى الذی يقصد بقولهم النخلة من النواة والنواة من النخلة ، وفى الشجرة بذرة منها توجد الشجرة ، فيكون كناية عن كون الحسين علیه السلام قد انطوى فيه جميع كمالات الشجرة أی كمالات النبی صلی الله علیه و آله و سلم ، ففيه كمالات النبوة المعنوية دون النبوة الظاهرية الرسمية ، وهذا المعنى يؤيده مساعدة الاعتبار ومطابقة الحقيقة والوجدان ، ويبعده لازمه اختلاف سياق الجملتين كما لا يخفى على المتأمل.
الثالث : من المحتمل يكون المراد الاشارة الى ما هو المعلوم والمقطوع به من أنّه لولا شهادة الحسين علیه السلام لما بقى للاسلام اسم ولارسم فان أباسفيان ونغلاه (معاوية ویزيد) ، حاربوا النّبی صلی الله علیه و آله و سلم فى الجاهلية وحاربوه فى الاسلام لمحو الاسلام وطمس آثاره وأنواره وقد تسنّى لهم ذلك بعد شهادة اميرالمؤمنين على علیه السلام واستقامة الامر لمعاوية بعد صلح الحسن علیه السلام ، ولو تمّ الامر ليزيد كما تم لأبيه لمحى الاسلام بالتمام وأعاد الجاهلية علىٰ بكرة أبيها وبتمام معانيها ، ولكن جزى الله الحسين علیه السلام عن الاسلام أحسن الجزاء فلقد حفظه بشهادته وفداه بدمه ودم الصفوة من أهل بيته وأصحابه الذين ما خلق الله لهم مثيلا على وجه الارض لافی عصرهم فقط بل منذ خلقت الدنيا الى وقتك، هذا فبقاء شريعة الاسلام ونبوّة النّبی صلی الله علیه و آله و سلم من الحسين علیه السلام ، وهذا المعنى عال شريف ، وهو عين الحقيقة والواقع ، وهی مزيّة اختص بهادون أبيه وأخيه فضلا عن غيرهم ؛ ولكن يبعده استلزامه اختلاف سياق الجملتين ايضا ، اذ يكون الحاصل حسين منى ولادة وشريعتى من الحسين بقاء واستدامة .
ص: 100
الرابع : وهو أعلى المعانى ولعله أصحّها وأجمعها وربما تندرج تلك الوجوه فی طیّه ، وهو يحتاج الى بيان مقدمة تمهيدية تشمل على أمرين الاول : ان الولادة التی هی عبارة عن تكوّن شیء من شیء وانبثاق كائن من كائن آخر تقع فی الخارج على ثلاثة أنواع :
1): تولّد جسم من جسم ومادّى من مادّى كتولّد حيوان من حيوان ونبات من نبات ومعدن من معدن ومنه تولد انسان من آخر ، فيتحقق انتزاع النبوّة والأبوّة والأمومة ، وهذا هو التوالد الجسمانى المحض :
2): تولّد روح من جسم كتولّد ارواح الحيوان من جسمه ؛ وتوالد أرواح البشر من أجسامها على ما حقّق فی محله من ان النفس جسمانية الحدوث روحانية البقاء ، وان الروح تتكون من جسم الانسان او الحيوان كما تتكوّن الثمرة من الشجرة .
وأما أحاديث خلق الأرواح قبل الاجسام بألفى عام فهی محمولة على معان أخرى من الحكمة العالية والمعارف المتعالية مما لا مجال لذكر هاهنا ، وهذه الولادة برزخ بين الولادة الجسمانية المحضة والروحانية المحضة التی يأتی ذكرها لأنها روحانية جسمانية .
3): تولّد مجرد وروح من روح كتولّد النفوس الكلّية من العقول الكلّية فی قوس النزول وتولد العقول الجزئية من النفوس الجزئية وتولد النفوس الجزئية من الأجسام الشخصية فی قوس الصعود ، وقد قرر العرفاء الشامخون والحكماء الالهيون أنه لا تنافی بين أن يتولد شخص من آخر بالولادة الجسمانية ويكون الوالد متولداً من ولده بالولادة الروحانية ؛ فآدم ابوالبشر وابو الأنبياء وكذلك هو أب لخاتم الانبياء صلی الله علیه و آله و سلم بالولادة الجسمانية ولكنّه متولد من محمّد صلی الله علیه و آله و سلم بالولادة الروحانية ، ولعل اليه يشير شاعر العرفاء او عارف الشعراء ابن الفارض : (1)
ص: 101
وانى وان كنت ابن آدم صورة *** فلى فيه معنى شاهد بأبوتى
وشاعر اهل البيت علیهم السلام العمرى (1) يقول فی مدح امير المؤمنين سلام الله عليه :
أنت ثانى الآباء فی مبدء الدور *** و آباؤه تعدّ بنوه
خلق الله آدم من تراب *** فهو ابن له وأنت أبوه
فأباه النّبی بالولادة الجسدية كلّهم أبنائه وهى ولادة حقيقية بل أحق من الولادة الجسمية .
الثانی : ان الولاية أوسع دائرة وأعلى أفقا واكثر أثرا من النبوة : هنالك الولاية لله ؛ وأول ولاية ولاية الله جل شأنه ، ( اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا ) (2) فولاية الله هی الولاية الكبرى ، وولاية النبی صلی الله علیه و آله و سلم هی الوسطى ، و ولاية أوليائه من سدرة المنتهى وجنة المأوى ، ومن هنا قالوا ان الولاية أعمّ من النبوة وكلّ نبىّ ولىّ ولا عكس ، والنبوة تحتاج الى الولاية والولاية لاتحتاج الى النبوة.
اذا تمهّدت هذه المقدمة وما تنطوى عليه من الأمرين النيّرين ظهر لك معنى الحديث الشريف بالوجه الاكمل : وهو «حسين منى» بالولادة الجسمانية «وانا من حسين» بالولادة الروحانية فان الحسين بوجوده السعی الكلّى الأرجی العينی لاالذهنى المفهومی هو الحائز بشهادته الخاصة ، وامامته العامة لمقام الولاية العظمى ، والفائز بالقدح الأعلى من سدرة المنتهى وهذه هی مجمع الولايات وغاية الغايات ، ومنها تنبثق وتتولد جميع النبوات، فلاجرم ان حسينا من محمّد صلی الله علیه و آله و سلم و محمّد من حسين علیه السلام .
محمّد النّبی من الحسين الولىّ ونور النبوّة ينبثق من نور الولاية ثم يصير النور
ص: 102
واحداً ، وهنا تزول الحيثيات وتسقط الاعتبارات وليس الا الله جلّ جلاله أنواره وتجلياته ، فأطفأ السراج فقد ظهر الصباح لذى عينين وزال كل فرق وفارق من البين ، ووصل الكلام الى مقام لاتحتمله عقول الانام ، وهنا أسرار وأكوار لايجوز نشرها وذكرها ، وكيف كان فهذا الحديث من جوامع كلمه صلوات الله عليه ، والحمدلله ولىّ الالهام فی البدء والختام.
ص: 103
ص: 104
جرت عادة الصحف منذ سنوات أن تفرّد عدداً خاصا فی الحسين سلام الله عليه عند رأس السنة مستهل محرم من كل عام فيستنهضون أقلام الكتاب و يشحذون عزائهم لتحبير المقالات ، فيأخذ كل كاتب او شاعر او خطيب ناحية من نواحی واقعة الطف ويكتب فيها ما تملى عليه قريحته و تواتيه قدرته ، وكنا كتبنا فی فواتح عدة من الصحف فی مستهل النسوات الغابرة ما لو جمع لجاء مؤلفاً مستقلاً وكتابا فذاً ، أما لو جمع ما كتبه العلماء والأدباء والشعراء والخطباء فی تلك الفاجعة.
نعم لو جمع كل ما قيل فى تلك الفاجعة الدامية من بدء حدوثها الى اليوم لأستوعب الوف الكتب والمؤلفات وبرزت منه دائرة معارف كبرى لم يأت لها الدهر بنظير ، وليس هذا هو الغرض من كلمتى هذه وانما المقصود بالبيان: أن نهضة الحسين علیه السلام على كثرة ما نظّم الشعراء فيها ممّا يجمع مئات الدواوين وأكثرمنها الخطب والمقالات وألوف المؤلفات هل ترى أن كل ذلك وجميع اولئك أحاطوا بكل مزاياها؟ وأحصوا جميع خصائصها وخفاياها؟ و وصلوا الى كنه أسرارها و عجائبها ؟ كلاّ فان اسرار تلك الشهادة ومزاياها لاتزال تتجدد بتجدد الزمان
ص: 105
وتطلع كل يوم على البشر طلوع الشمس والقمر لا ينتهى أمدها ولا ينتفى نورها ولا يحدّ سورها ولعل أقرب مثل يضرب للحسين عليه السلام هو كتاب الله المجيد ، فان هذا الفرقان المحمدى على كثرة تفاسيره و شرح نكاته ودقائقه وغوامض حقائقه واعجازه وبلاغته وباهر فصاحته وبراعته لا يزال كنزاً مخفيا ، ولا تزال محاسنه تتجدد واسراره تتجلى ، وفی كل عصر وزمان يظهر للمتأخر من اشاراته ومغازيه ما لم يظهر للمتقدم ، فكأنه يتجدد مع الدهر ويتطور بتطور الزمان .
نعم القرآن كتاب الله الصامت والحسين علیه السلام كتاب الله الناطق ، القرآن كتاب الله التدوينى والحسين « كتاب الله التكوينى » وكل من الكتابين صنع ربوبى وعمل الهى ، نعم كل الكائنات صنع ربوبى ولكن الحسين علیه السلام والقرآن صنعهما للتحدّى والاعجاز ، وما تحدى الله بصنعه يعجز البشر عن الاحاطة به واستيعاب مزاياه وأسراره وبدائع أحكامه وحكمته.
القرآن يملى على البشر فی كل زمان أسرار الكون وخبايا الطبيعة ودقائق الفطرة ، ونهضة الحسين علیه السلام فی كل محرم من كل سنة بل فی كل سنة تملى على الكائنات عجائب التضحية وغرائب الاقدام والثبات ومقاومة الظلم ومحاربة الظالم ، تلقى على العالم دروس العزّة والاباء والاستهانة بكل عزيز من نفس او مال فی سبيل نصرة الحق وقمع الباطل والدفاع عن المبدء والعقيدة ، يلقى على الواعين دروس الاخلاق الفاضلة والانسانية الكاملة ، والسجايا العالية و الملكات الزاكية وكل ما جاء به القرآن والسنّة من الخلق العظيم و النهج القويم ، ولكن جاء بها القرآن قولا وطبّقها الحسين علیه السلام عملا وأبرزها للناس يوم الطف عيانا ، أتريد أن تتعرف بناحية مما صنع الحسين علیه السلام يوم الطف؟ أنظر الى الكتاب الكريم فان أقصى ما طلبه من العباد فى باب الجهاد هو الجهاد بالنفس والمال فقال تعالى: ( جٰاهَدُوا
ص: 106
بِأَمْوٰالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ) (1) والحسين سلام الله عليه لم يقنع بهذا حتى جاهد بماله ونفسه وأولاده وعياله وأطفاله والصفوة من صحبه وأسرته. صنع الحسين علیه السلام يوم الطف صنع العاشق الولهان ، فضحّی فی سبيل معشوقه كلما اعزّ وهان كان الله تعالى أعزّ شیء عند الحسين علیه السلام ، فأعزه الله صار ثارالله فی الارض والوتر الموتور .
نعم قلنا ولا نزال نقول ان نهضة الحسين علیه السلام لاتحصى أسرارها ولا تنطفى أنوارها ولاتنتهی عجائبها :
وعلى افتنان الواصفين بوصفه *** يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف
فصلوات الله عليك يا «ابا عبدالله» وعلى نهضتك المقدسة التی حيّرت الافكار وأذهلت العقول وأدهشت الالباب. وأعجزت عن الاحاطة بها كل كاتب وكتاب ، على مرّ الدهور وتمادى الاحقاب .
ص: 107
ص: 108
لقد وقفوا فی ذلك اليوم موقفا *** الى الحشر لايزداد الا معاليا
وذاك لأنّ موقفهم ذلك اليوم ماكان عملا من أعمال الأنام وحادثة غريبة من حوادث الايام بل كان عملا ربوبيا ، وطلسما الهيا.
نعم هی دروس الاهية ، وتعاليم روحية ، أملاها على جوامع الجبروت وصوامع الملكوت ، لأجيال الأبدية، وأحقاب السرمدية، وأعقاب البشرية اكبر أستاذ الهى ، ومعلم ربوبى مع سبعين نفر من اهل بيته وخاصته ، وخرّيجی جامعته ، ما فتح الدهر سمعه وبصره على مثيل لهم قط. وقفوا ضحوة من النهار على تلال الطف فألقوا على الأملاك والأفلاك والأرض والسماء والأنس والجن دروساً طاشت لها الالباب ، وذهلت عندها البصائر ، ذاك لأن تلك الدروس ما كانت اقوالا وكلمات ؛ والفاظا وعبارات بل كانت أعمالاً جبّارة ، وتضحيات قهارة ، وعزائم ملتهبة ؛ خاضوا لجج غمرات البلاء شعلاً نارية بل نورية التمع منها فی آفاق الأبدية سطور تسجّل احتقار هذه الحياة مهما كانت شهيّة بهيّة ، وتبرهن أنها مهما غلت وعزت فهى أرخص ما يبذل فی سبيل المبدء،
ص: 109
وأهون ما ينبذ فی طريق الشرف والكرامة وسمو العقيدة ونبالة الذكر الخالد والمجد المؤبد ، وليست القضية قضية تقابل بين مزاج يعمل للاريحية والنخوة ومزاج يعمل للمنفعة والغنيمة ونزاع بين العقائد عراك بين الكفر والايمان. وحراب بين الشرك والتوحيد بل بين الدِّين والجهود ، والروح والمادة والفضيلة والرذيلة.
نعم الحروب التی كانت بين محمّد صلی الله علیه و آله و سلم وأبی سفيان فی بدر وأحد والأحزاب سوىٰ أن الاول ظفر بالثانى بالغالبية وفى محاربة الحسين علیه السلام ويزيد يوم الطّف ظفر الأول بالثانى بالمغلوبية فانعكست القضية هنا فصار المقتول هو القاتل والمغلوب هو الغالب ، المقتول غالب والقاتل مغلوب (1) نعم كان القراع والصراع على ذلك المبدء أولا وأخيراً ، ولولا نهضة الحسين علیه السلام وأصحابه يوم الطف لما قام للاسلام عمود ولا أخضر له عود ، ولأماته أبوسفيان وابناء معاوية ويزيد فی مهده ، ولدفنوه من أول عهده فی الحده. ولعل مراد القائل بالنخوة والحميّة هذه المعانی السّامية ولمّا ضاقت عليه العبارة رمز اليه بالاشارة ، وعلى كلّ فالمسلمون جميعا بل والاسلام من ساعة قيامه الى قيام الساعة رهين شكر للحسين علیه السلام وأصحابه (2) على ذلك الموقف الذی أقل ما يقال فيه .
«لقد وقفوا فی ذلك اليوم موقفا *** الى الحشر لايزداد الا معالیا»
ص: 110
هل فى قرائة الخطيب للأخبار الواردة فى ثواب البكاء على الحسين علیه السلام كما هو مذكور فى محله من المقاتل الحسينية اغراء للشيعة يوجب حرمة قرائتها ؟
الجواب:
الأخبار الواردة فى ثواب البكاء على الحسين سلام الله عليه أو زيارته فهى وان كانت عظيمة ولكنّه ولله المجد والعظمة أعظم من ذلك ويستحق اكثر من ذلك ولكنّ اللاّزم على خطباء المنابر والذاكرين لرزيّة الحسين علیه السلام فی هذا العصر الذی ضعفت فيه علاقة الدين وتجرّأ الناس على المعاصى وتجاهروا بالكبائر أن يفهموا ان الحسين علیه السلام قتل وبذل نفسه لأجل العمل بشعائر الدين ، فمن لا يلتزم بأحكام الاسلام ويتجاهر بالمعاصى فالحسين علیه السلام منه بریء كبرائته من يزيد وأصحاب يزيد ، وأما ذكر أخبار الثواب فقط ففيها أعظم الاغراء ، وقد تنبّه كثير من الكتاب وذوى الألباب ونشروا ذلك من الصحف حتى أن بعضهم كتب مقالاً واسعاً فی هذا المعنى وجعل العنوان (جنايتنا على الحسين) وحقّا ان اكثر أعمالنا جناية عظمى على الحسين علیه السلام ولا مجال للبيان أكثر من هذا ، وفقكم الله لكل عمل صالح بدعاء .
ص: 111
ص: 112
انّ التضحية والمفادات التی تسامى وتعالى بها امام الشهداء وأبوالائمة يوم الطّف من أى ناحية نظرت اليها ، ومن كل وجهة اتجهت لها متأملاً فيها أعطتك دروساً وعبراً ، وأسراراً وحكماً تخضع لها الالباب وتسجد فی محراب عظمتها العقول ، واقعة الطف وشهادة سيّد الشهداء واصحابه فى تلك العرصات كتاب مشحون بالآيات الباهرات والعظات البليغة فهی :
كالبدر من حيث التفت وجدته *** يهدى الى عينيك نوراً ثاقبا
أو :
كالشمس فی كبد السماء ونورها *** يغشى البلاد مشارقاً ومغارباً
أو :
كالبحر يمنح للقريب جواهرا *** غرراً ويبعث للبعيد سحائبا
هذه الدنيا وشهواتها ولذائذها وزينتها وزخارفها التی يتكالب عليها البشر ویتهاوى على مذبحها ضحايا الانام ، هذه الدنيا التی اتخذها كل واحد من الناس
ص: 113
ربّاً وصار عبداً لها ولمن فی يده شیء منها فلعبت بهم ولعبوابها ، هذه الدنيا وشهواتها التی أشار جلّت عظمته الى جمهرتها بقوله تعالى : ( زُيِّنَ لِلنّٰاسِ حُبُّ الشَّهَوٰاتِ مِنَ النِّسٰاءِ وَالْبَنِينَ وَ الْقَنٰاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ ) (1) كانت كل هذه النفائس الدنيوية قد توفر للحسين علیه السلام أكملها وأجملها :من المال والبنين و النساء والخيل المسمومة مضافا الى ما كان له من العز والكرامة وكل مؤهلات الشرف والتقدير التی استحقها بحسبه ونسبه وبيته ومواهبه وقد كان فی ذلك العصر لايوازيه ولايدانيه أحد فی دنيا المفاخر والمآثر ، الكلّ يعترف ويعرف ماله من عظيم القدر ورفيع المنزلة ؛ فسلّم المجد والصعود الى السماء بيمينه ، ومفاتيح خزائن الدنيا فی قبضة شماله. ومع ذلك كلّه فحين جدّ الجدّ وحقّت الحقيقة بذل كل ذلك وضحّى به فى ضاحية يوم الطف ، وفى سبيل المبدء كان أهون شیء عليه كل تلك النفائس ، وما اكتفى حتى بذل نفسه وجسده ورأسه وأوصاله وأولاده وكل حبيب له وعزيز عليه فی سبيل حبيب الأعلى ومعشوقه الأول ، أفليس هو الجدير والحرى بأن يقول ؟:
وبما شئت فی هواك اختبرنی *** فاختیاری ما كان فيه رضاکا
يحشر العاشقون تحت لوائى *** وجميع الملاح تحت لواكا
واقتباس الأنوار من ظاهرى *** غير عجيب وباطنى مأواكا
ص: 114
كلّما ازداد الشیء عظمة وتعالى خيراً وبركة ، وتوفّرت غرر أوصافه من جميع أطرافه ، وتسامت معاليه من كل مناحيه ازدادت حيرة العقول فيه ، وقصرت الأفهام عن ادراك كنهه وأداء حقّه ، هناك وما أدريك ما هناك ، تقف الأفهام ، وتنكسر الاقلام، وتطيش الالباب، و توصد الابواب دون الدخول الى مجاز حقيقته وحقيقة مجازه ، وحلّ ألغازه ، ومعرفة سرّ اعجازه مهما أطنبت وأطالت ، ومهما أنشأت وقالت، فان قصاراها الاعتراف بالتقصير بل القصور عن التعبير والتصوير .
خذ اليك مثلا على ذلك هذا القرآن العظيم فقد مضى على نزوله من المبدء الأعلى من السماء الأسمى الى هذه الارض السفلى زهاء أربعة عشر قرناً ألف سنة وزهاء أربعمأة عام ، وفى كل عام من الصدر الاول الى اليوم تنشر عنه المقالات وتؤلّف المؤلّفات ، مطوّلة ومختصرة عن بلاغته وفصاحته ، واعجاز آياته ودقائق نكاته ، وربما ينوف هذا النوع من المؤلفات على الألوف بل عشرات الألوف ؛ ولكن أترى ان جميع اولئك الكتبة بلغوا من عظمة مقداره عشر معشاره ؟ او وزنوا دانقاً من قنطاره ؟ أو انتهلوا القطرة من بحره ؟ او اهتبلوا الذرّة من ذروته ؟ لاولا
ص: 115
وكلا و لقد احسن العارف ابن الفارض فيما فرض فى احدى عرفانياته حيث قال :
وعلى افتتان الواصفين بوصفه *** يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف
ولعل من قال انّ القرآن لم يفسر حتى الآن لم يبالغ فيما قال كل ذلك لتعاظم القرآن وتساميه ، وارتفاع أفق أسراره عن أفق ادراك البشر.
ومن هذا القبيل وعلى هذا السبيل فاجعة الطف التی حدثت عام احدى وستين هجرية ، ولايزال المؤرخون وأرباب السير والمقاتل والفلاسفة والأدباء وكتبة الشرق والغرب يكتبون عنها باحثين عن جريان سيرها وتسلسل اسبابها ، وأليم وقعها ، وعظيم هولها نظما ونثراً ، و تمثيلا وتحليلا ، حتى لو أمكن تعداد نجوم السماء ، وجاز الصعود الى الجوزاء أمكن احصاء كل ما قيل وما نظم وما نثر فی هذه الحادثة النكراء التی ما حدث فى عصر من العصور نظيرها ولاحدث التاريخ بمثلها ، ولكن كأن كل من كتب فيها اوجز او أطنب وقصر او أطفل ما اعترضها الامن ناحيتها السطحية ولا تناولها الّا من وجهتها التاريخية ، وما أقل من استطاع سبر جرحها الدامی وغورها العميق ، وأسرارها الغامضة من كل ناحية من نواحيها وكل فصل من فصولها ، لانه على الغالب غير مستطاع لهم ولا تصل الى أقله أكثر او اكبر مداركهم.
على القاعدة التی افتتحنا بها كلمتنا من أن الشیء كلما ازداد عظمة تزداد فيه الحيرة ، فترتبك الافهام ، وتقف الاقلام ، وتعجز الارقام ، قل لی بربك: ريشة أىّ رسّام مصور مهما كان فنانا بارعا ومصورا ماهراً يستطيع أن يمثل ويصور لك حالة الحسين سلام الله عليه بعد الظهر بساعتين من يوم عاشوراء بعد مصرع جميع أولاده واخوته و بنى أخيه وبنی عمومته جعفر وعقيل وجمهرة أصحابه حتى الاطفال والشباب الذى لم يبلغ الحلم ، فهاهی جثثهم على رقعة الارض المحمّرة
ص: 116
بدمائهم فی حرّ الهجير تصهرهم الشمس نصب عينه بين المعارة والمخيم ، وقد خفقت أجنحة المنيّة على رأسه ، وجراحاته تشخب دما ، وقد بنى عليه درعه بنيانا ، وحال العطش بينه وبين السماء كالدخان ، ولما راى انه لم يبق بينه وبين الشهادة الاسويعة ، ليس بينه وبين هبوط جسده المبضع الى الارض وعروج روحه المعذبة الى السماء ، نعم لم يبق الا هذه الحملة الاخيرة يدخل الى الميدان ثم لايخرج منه الا ورأسه على السنان.
نعم من ذا الذی يقتدر أن يصوّر لك الحسين علیه السلام وقد تلاطمت امواج البلاء حوله ، وصبّت عليه المصائب من كل جانب ، وفى تلك الحال عزم على توديع العيال ومن بقى من الاطفال ؛ فاقترب من السرادق المضروب على حرائر النبوة وبنات على علیه السلام و الزهراء علیها السلام ، فخرجت المخدرات من الخدور كسرب القطاء المذعور ، فأحطن به وهو سابح بدمائه ، فهل تستطيع أن تتصور حالهن وحال الحسين علیه السلام فى ذلك الموقف الرهيب ولايتفطّر قلبك ؟ ولا يطيش لبَّك ؟ ولا تجرى دمعتك ؟ أما أنا فيشهدالله وكفى به شهيداً انى اكتب هذه الكلمات عصر هذا اليوم من محرم سنة : (1373) ه- ولعلها الساعة التی وقف فيها سلام الله عليه لوداع اهل بيته اكتب والقلب ير تجف ، والقلم يرتعش والعين تدمع والحشا تذوب وتتلاشى. لاأدرى كيف أعبّر ؟ وكيف أصوّر ذلك الموقف المهول ؟ وأعجب كيف لم تسقط السماء على الأرض أسى وحزنا ولوعة وشجواً ؟ غيرة الله وحجته يريد ان يرتحل من هذه الدنيا ويترك هذه الحرائر المخدرات فى تلك الصحراء ، يتركهن فی الصحراء بين جثث القتلى ومصارع فتيانهن ، وبين الوحوش الكاسرة التی قتلت رجالهن وأطفالهن ، تدبر ما شئت وفكر ما وسعك التفكير ، وتأمل كيف حاله سلام الله عليه فى فراقه لهن وهن بذلك الوضع الشائك ، وكيف حالهن فی فراقهن له وهو غيرة الله ، وهن ودائع الله ، وودائع رسوله ، تجسّمت للحسين علیه السلام عند التوديع
ص: 117
فی تلك البرهة القصيرة ، وتمثل له كل ما تصبه سحائب المصائب على هذه الحفنة من اليتامى والنسوة الثواكل اللاتى ما فيهن الامن فقدت عزيزها من ولدا وأخ او زوج وكم فيهن من فقدت كل اولئك وكل عميد لها وزعيم .
مشى الدهر يوم الطف أعمى فلم يدع *** عميداً لها الا وفيه تعثرا
تمثّل للحسين علیه السلام حالهن من ساعته تلك الى رجوعهن إلى المدينة ، وأشد ما يشجيه ويبكيه لو كان مجال للبكاء ما يمرّ عليهن تلك الليلة ليلة الحادية عشر وصبحها يوم الرحيل مفكّرا من يراقبه تلك الليلة الحادية عشر وصبحها يوم الرحيل مفكّرا من يراقبهن تلك الليلة فی تلك الصحراء ومن يحميهن ومن يطعمهن ؟ و من يسقيهن ؟
نعم وهو سلام الله عليه امام كل هذه الخواطر صابر ، وبينما هو يودّع ودائع النبوة ويأمرهن بالصبر (1) اذا استعجله جيش بنی امية وناداه مناديهم : للنزال ودخل خيمة النساء فودّعنه ولسان حال كل واحدة يقول :
ودّعته وتؤدّی لو توّدعنى *** روح الحياة وانى لا أو دّعه
ص: 118
تسمع من الذاكرين أن رأس الحسين علیه السلام قد تكلّم غير مرّة ويروون بذلك أخباراً شتّى ورواياتاً مختلفة كخبر زيد بن أرقم وابن وكيدة وغيرهما ، ويروون انه قد تكلم فی مجلس يزيد ، فهل هذه الاخبار صحيحة أم لا ؟ فان كانت صحيحة فهل يمكن ان يقع مثل هذه المعجزة العظيمة الخارقة للعادة بمرأى من الناس و مسمع ولايرتدع منهم أحد ؟ أو يرميه بالسحر كما رموا النبی صلی الله علیه و آله و سلم بذلك ؟ أو يغالون فيه كما غالوا فى الامير علیه السلام لما ظهرت على يديهما بعض المعاجز ؟ فان التاريخ لم ينقل لنا شيئا من ذلك ، وهل يجوز أن يكون جميع الذين شاهدوا ذلك الامر العظيم معاندين مكابرين ؟ هذا ما نرجو الجواب عنه ، ولكم جزيل الاجر والثواب .
الجواب:
نعم خبر زید بن ارقم (1) وابن وكيدة مروى كلاهما فی بعض الكتب المعتبرة ،
ص: 119
ص: 120
والمراد هنا الاعتبار التاريخی لا الاعتبار الذی عليه المدار فی الاخبار التی يستنبط منها الاحكام الشرعية من الصحيح والحسن والموثق ، بل هو من قبيل قولنا تاريخ الطبرى وتاريخ ابن الاثير ، معتبران ، ويكفى فى هذا المعنى من الاعتبار للخبر أن ينقله مثل صاحب البحار والطريحی فی المنتخب ، فضلا عما لوراه السيد بن طاووس ، فی اللهوف او الشيخ المفيد ، وفی الارشاد ونظرائهم ، والظاهر ان مثل هذه الكرامات (ولاتسمّى معجزات) على تقدير صحّة وقوعها ما وقعت بمرأى من عامّة الناس وانما هى خصوصية لبعض الافراد الناقلين لها لحكمة هناك اما مجهولة لنا او معلومة ، وعلى تقدير وقوع شیء من ذلك بين امة من الناس وجمهرة من البشر ، (1) فلايلزم من ذلك ان يرتدعوا ، وكم وقعت من الانبياء معجزات بين
ص: 121
أممهم فلم يرتدعوا حتى أصابهم العذاب ، وعدم ارتداعهم واصرارهم ليس بأعظم من اصرارهم على القتل من غير جرم ولاجناية ، وقد ورد فی الاخبار المعتبرة ان رأس يحيى بن زكريا تكلم بعد قتله مع الجبار الذى أمر بقتله وقال له (انها لا تحل لك) عن المرأة التی تزوجها وأمرته بقتل يحيى فلم يرتدع (1) وسرّ ذلك كله ان الحرص والشهوة والطمع اذا استحكم فی النفس وصار خلقالها وطبعا فيها لم يكن شیء من العبر والعظات مؤثراً فيها ( وحبّ الشیء يعمى ويصم ) فاذا شاهدت
ص: 122
النفس من تلك الغرائب شيئا انصرفت عن التفكر به وترتيب الاثر عليه او تصرفت فيه بالتأويلات وصرفته عن وجه الحقيقة ، وان أمة تقتل عترة نبيها وتسبى عياله لاتستبعد عليها جهود معجزة له او كرامة ، ولو أنعمت النظر فی رجال عصرنا الحاضر وما يرتكبون من الجناية على هذه الامة المسكينة وما يقترفون من الخيانة والغدر لحقوقها حتى اسقطوها فی هوة الافلاس والفقر المدقع والهلاك المؤبد لوجدت من أبناء عصرك وسماسرة مصرك المتربّعين على دست الحكم بقوة الظالم الغاشم وعدو العرب والاسلام ما هو أشنع وافظع ممّا يحدثنا التاريخ عنه من أبناء العصور الغابرة وابناء الملوك الجائرة ، فلا تستبعد شيئا بعد الذی تراه بعينك فی زمانك وأوطانك والسلام .
ص: 123
ص: 124
ما تقول فی خروج امير المؤمنين أرواحناه فداه ليلة 19 رمضان مع علمه بقتل ابن ملجم له كما يظهر من كلامه لأم كلثوم ، وكلامه لابن ملجم : لو شئت لاخبرتك بما تحت ثيابك ، وقصة أوز وغير ذلك من الدلالات ، وهل هذا الخروج من باب القاء النفس الى التهلكة ؟
الجواب:
معاذالله ان يكون ذلك من باب القاء النفس الى التهلكة بل هو على الاجمال من باب الجهاد الخاص على الامام لاالجهاد العام على عموم الاسلام. يعنى انه من باب المفادات والتضحية والتسليم لامر الله سبحانه فی بذل النفس لحياة الدين وتمييز الحق من الباطل ، ليهلك من هلك عن بيّنة ويحى من حی عن بيّنة ، ويميزالله الخبيث من الطيب ومن هذا الباب اقدام الحسين علیه السلام على الشهادة مع علمه بأنه
مقتول لا محالة .
ولاشك انهم سلام الله عليهم كانوا يعلمون بكل ذلك باخبار النبی علیه السلام وحياً ،
ص: 125
ولكن يحتملون فيه ان يتطرق اليه البداء ويكون من لوح المحو والاثبات وان يكون ثابتا خلافه فى العلم المخزون المكنون الذى استأثر الله سبحانه به لنفسه فلم يظهر عليه ملكا مقربا ولانبيا مرسلا ، وباب البداء باب واسع لا مجال هنا لشرحه ، وفى هذا كفاية ان شاء الله .
ص: 126
ذكر المؤرخون وأهل السير بأن الحسين علیه السلام أحلّ أصحابه من بيعته يوم كربلاء وأذن لهم بالانصراف وقد أبوا الّا مواساته ، فان صح ذلك فكيف يحلّهم من بيعته والحال انه خلاف الضرورة من دين المسلمين : من مات وليس فی عنقه بيعة لامام زمانه مات ميتة جاهلية ؟ فكيف يأمرهم علیه السلام بذلك ؟ ويقول لهم أنتم فی حل من بيعتى مع ما يترتب عليه من المحذور وهو ميتة الكفر ، ثم أليس الجهاد معه واجب ؟ وحفظه علیه السلام على الامّة واجب ؟ فكيف يأمرهم بترك الواجب وقد صمّموا على الجهاد والدفاع عنه حتى الممات ؟ ولما كان امره واجب الطاعة فكيف لم يتفرقوا عنه حينما أمرهم بالتفرق عنه ؟ فبقائهم معه مع امره بالتفرق عنه معصية و حاشاهم المخالفة لامر امامهم ونهيه وهم العالمون بأن طاعته واجبة.
وان قيل : انه اراد اختبارهم واقامة الحجة عليهم. فيقال : هذا لا يصح لان الاختبار انما يصح مع مشكوك الحال او معلوم النفاق عند المختبر (بالكسر) لتتمّ الحجة عليه فی ذلك الحال ، أما هؤلاء الصفوة والعلماء الابرار فان ذلك لهم من قبيل تحصيل الحاصل لانهم رضوان الله عليهم بأعلى مراتب الايمان والتقوى وانهم
ص: 127
لم يطلقوا حلائلهم ولم يعرضوا عن زهرة دنياهم ، ويناصروا الحسين علیه السلام الّا وهم على بصيرة وعلم من أنه علیه السلام امام تجب طاعته وتحرم معصيته ، فكيف يختبرهم بعد هذا الاخلاص والمعرفة الثابتة بوجوب طاعته ؟
الجواب:
أن فاجعة الطّف قضية هى الوحيدة من نوعها واليتيمة فی بابها خرجت عن جميع القواميس والنواميس ولا ينطبق عليها حكم من أحكام الشرائع السماوية ولا الأرضية لا الدينية ولا المدنية ، ولا ينفذ فی فولاذها الحديدى (لماذا ولأن) قل لى بربك أیّ حرب فی العالم برزفيها سبعون نفر ازاء سبعين ألف اولئك عطاشا قد كظّهم الجوع والظمأ وهؤلاء ملاءى البطون من الطعام والشراب ، اولئك مقسمة أفكارهم موزّعة ألبابهم بعيالهم وأطفالهم المعرّضة للنهب والسلب ، وهؤلاء وادعة نفوسهم مجتمعة افكارهم حيث لا عيال ولا أطفال ولاجوع ولا عطش ، قل لى بربك أىّ حرب يبرز فيها غلام لم يبلغ الحلم ولم يجر عليه قلم التكليف بصوم وصلاة فضلا عن الجهاد فيأذن له عمّه (1) فى المبارزة ويتقدم الى سبعين الف من الابطال الامعة سيوفهم مشرعة رماحهم ، أفما كان اللازم بحكم الشرائع السماوية ان يقول له عمّه أنت غير مكلّف بجهاد ولادفاع ؟ ويجب علينا ان ندفع عنك لاأن
ص: 128
تدافع عنّا ، فكيف يأذن له عمّه العطوف الرؤوف حتى يقتل ويصرع نصب عينيه ، ثم يبرزله أخ أصغر منه غلام (1) بل دون الغلام فى أول الصبا وغضارة العمر وطراوة الشباب فيقتحم الميدان الذی ترتجف من رؤيته العقول والابدان ، فيضر به أحد العتاة من عسكر العدو على رأسه ضربة صرعته وضربة أخرى على يده فأبانها من المرفق وبقيت معلّقة ، فنادى واعماه وعمّه ينظر اليه فيسرع اليه قائلا : عزّ على عمّك ان تدعوه لا يجيبك او يجيبك فلا يغنى عنك هذا يوم كثر واتره وقلّ ناصره ، ويبقى الغلام يتفحّص برجليه حتى يموت ، قل لی بربك اى حرب برزت فيها ربات الحجال الى القتال واشتبكت مع الرجال وحملت على الابطال بعمود الخيمة .
قل لی بربّك أیّ حرب منع فيها العدو الماء حتى عن النساء والأطفال فانّ الطاغی معاوية (2) وان سبق الى ذلك فی صفين ولكن لم يكن فی معسكر امير المؤمنين علیه السلام سوى الرجال ، قل لی بربك أی حرب حملت الرؤوس فيها على اطراف الرماح يطاف بها من بلد الى بلد ، فانّ الجبت والطاغوت معاوية وان حمل اليه رأس الصحابی الجليل عمر وبن الحمق الخزاعی وهو اول راس حمل فی الاسلام ولكن ما حمل على الرمح ولاطيف به فی البلدان .
قل لی بربك أیّ حرب فی الاسلام بل وفی الجاهلية حملت فيها المخدّرات المصونات مع أطفالهن مسبية بتلك الصورة المهولة من بلد الى بلد ولو أردنا ان نحصى ونستقصى الفظائع التی اقترفتها يد الاثم والعدوان فی حادثة الطف وذيولها تلك الفظائع التی خرقت النواميس و مزقت القواميس ولا ينطبق عليها أیّ حكم
ص: 129
من الأحكام ولا تسيغها شريعة من الشرايع ، لاقتضى ذلك تأليف كتاب يشجبك ويشجيك ، ويضحكك ويبكيك.
اما ما أشكل عليك من جعل الحسين سلام الله عليه أصحابه فی حلّ من بيعته فليس محل العجب منه وموضع السؤال وعقدة الاشكال معكوسة وهى انه سلام الله عليه كيف أباح لهم الجهاد معه وهو يعلم كما قال لهم ان القوم انما يطلبون شخصه الكريم فقط ، وانهم لو ظفروا به لم يكن لهم حاجة بغيره ، ويعلم هو كما يعلم كل واحد منهم انهم لا يستطيعون دفع القتل عنه مهما جاهدوا واجتهدوا ، اذا ألّا يكون جهادهم معه من العبث والقاء النفس فى التهلكة بغير فائدة فكيف رضى سلام الله عليه منهم بذلك ؟ وهذا هو السرّ الغامض الذى يحتاج الى البحث والنظر لاما ذكرته من جعلهم فی حل من بيعته ، وليس معنى ذلك انه أسقط عنهم التديّن بامامته الّتى جعلها الله طوقاً فى عنق كل مكلف يستحيل نزعه وخلعه ، وليس هو المقصود من جعلهم فی حلّ من بيعته كما توهّمت .
نعم العقدة التی لا تحل ولعل سرّها الغامض لا يعلمه الا الله والراسخون فی العلم هو هذه الناحية ، فانّ المعلوم بضرورة العقل والنقل وفى عامّة الشرائع والأديان ان الجهاد انما يجب أو يجوز مع احتمال السلامة ورجاء الظفر والغلبة أما مع اليقين بالهلكة والمغلوبية فهو اتلاف للنفوس بغير فائدة (1) فاصحاب الحسين علیه السلام لو تركوا
ص: 130
اقتحام هذه المعركة وتباعدوا عنها لم يكن العدو يتعقّبهم وليس له أىّ غرض بهم، ولما دخلوا فی الحرب لم يحفظوا الحسين علیه السلام ولم يحفظوا أنفسهم فكان اللازم البقيا على أنفسهم ولعل بقائهم وسلامتهم أنفع للحسين علیه السلام وعياله من قتلهم واستئصالهم، هذا هو الامر المشكل والسرّ الغامض لا جعلهم فی حلّ من البيعة الذی هو بمعنى اسقاط الجهاد عنهم أو الدفاع الذى هو ساقط بطبعه وبذاته ، والله هو العالم بأسرار أوليائه وحكمة احكامه وقضائه ، وله الحمد .
ص: 131
ص: 132
هل الأخبار الواردة فی سكينة بنت الحسين عليها السلام من تعاطيها الشعر وبلوغها درجة الحكم بين الشعراء وكثرة مراجعتهم لها فی مجلس أعدّ لذلك كما فی الأغانى وغيره صحيحة عندكم ؟ فان صح ذلك فالمرجو التفضّل بكلمات تؤيّد تلك الأخبار ويحتجّ بها على من أباها ونفاها ، وان لم تصح فتصدقوا علينا ببسط كلام فى التشنيع على من صدّق تلك الاخبار واعتقد بها وأهلّ سكينة لمحادثة الرجال ومراجعتهم فی الاشعار ومناظرتهم فيما نظّم بالشعر وغيره.
الجواب:
فاعلم وفّقك الله ان أول من روى هذه الاخبار ونشرها على الظاهر هو ابو الفرج الاصفهانی فی كتاب الاغانی ، وكل من رواها بعده فعليه اعتمد ومن شرعته ورد. اما من قبله من الثقات الاثبات كابن قتيبة فلم يذكر شيئا منها فی شیء من كتبه وكذلك ابن طيفور فی بلاغات النساء وهما أقدم من أبی الفرج بكثير ، ومن المعلوم
ص: 133
ان كتاب الاغانى كتاب لهو وطرب (1) يجمع فيه كل غثّ وسمين ، اذ ليس المقصود منه على الاكثر سوى الفكاهة وأحاديث السمر ، وابو الفرج وان كان ثقة لا يكذب ولكنه كثيراً ما يروى عن الكذّابين ولا يعنيه أمر الصحة والضعف فی الاخبار ، ويسرد كل ما وصل اليه مهما كان، والاحاديث التی رواها فی سكينة منها مقطوع بكذبه وأنه من المجعولات وأحاديث السمر ، مثل حديث ابن سريج مع سكينة فانه من السماجة والسخافة بحيث يدرك كل احد جعله وكذبه ، ولاسيما وان راويه
ص: 134
حماد الرواية (1) المشهور بالكذب وكان يضع القصص والوقائع وينشىء الاشعار وينسبها الى العرب ، وكيف يحتمل العاقل ان سكينة تقول لابن سريج المغنیّ الذی تنسك وترك الغناء أنا بريئة من جدّى ان لم تغنّى لى ، وبريئة من جدّى ان لم تقم فی بيتی شهراً كى تغنّى لى كلّ يوم ، وهكذا تبرّأت من جدّها عدة مرّات ، والحاصل ان المؤرخ وكتب التاريخ والأدب كحاطب ليل ، واللازم فی تمييز الصحيح من السقيم الرجوع الى العقل والتعويل الى القرائن والأمارات ، فمثل تلك الاخبار حرام نقلها والاعتماد عليها ، نعم فى الاغانى ما يمكن التعويل عليه فی احوال سكينة مثل أن جريراً والفرزدق (2) وجماعة من الشعراء اجتمعوا فی ضيافة سكينة ، فمكثوا اياما ثم أذنت لهم فدخلوا عليها ، فقعدت حيث تراهم ولا يرونها ، وتسمع كلامهم ، ثم اخرجت وصيفة لها وضيئة قد روت الاشعار والأحاديث فقالت أيّكم افرزدق؟ فقال لها أنا ذا الى الآخر ، فمثل هذا الخبر الذى يحفظ كرامة هذه العقيلة ويجعلها فی
ص: 135
المقام اللائق بشرفها من الستر و الصيانة هو المعقول و المقبول، ولا جرم أنها كما ذكر ابوالفرج بنفسه ان سكينة كانت عفيفة سلمة برزة تجالس الجلّة من قريش وتجتمع اليها الشعراء وكانت ظريفة مزّاحة ، فكيف يعقل ان اقل غلمانها وهو أشعب يجترىء عليها ويقول فی خبر ابن سريج الذى اشرنا اليه : الرجل (یعنی ابن سریج) زاهد ولا حيلة فيه فارفعی طمعك وامسحى بوزك الى آخره.
والخلاصة ان اخبار الأغانی بل وغيرها مغشوشة، والكذب فيها ان لم يكن اكثر من الصدق فهما سواء ولا يميز هذا من ذاك الا الماهر المتبحر من العلماء ولا يجوز لغيرهم من الذاكرين وغيرهم ذكرها الا بعد عرضها على من يوثق به من اهل البحث والنظر ، والّا كان ائمه اكبر من نفعه ؛ اما اخبار سكينة من الاغانی وغيره فالارجح بل اللازم ترك ذكرها فى النوادى العامة والمحافل و مجالس العزاء وان كان السيد المرتضى رضوان الله عليه (1) ذكر خفيفا منها فى اماليه ، والظاهر ايضا انه أخذه من الاغانى ( يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ٭ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمٰالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فٰازَ فَوْزاً عَظِيماً ) . (2)
ص: 136
اتيح لى ان أطّلع على كتاب « السياسة الحسينية » لجامعه ولدكم المحروس عبدالحليم ، ومادار به من بحوث حول الحسين وسياسة الحسين علیه السلام فخرجت من هذه المطالعة على وشك الاعتقاد الراسخ من انّ الحسين لم يقتل الا لاجل شیء معنوى ، وهذا الشیء المعنوى لا يزال مجهولاً عند الباحثين عن تاريخ الحرب الأموية وعند اتباع الحسين علیه السلام الذين يتحرّون جميع الاساليب المؤثّرة ويزيدونها على النواجيد الحسينية اثارة للذكريات الدفينة التی تمّجد موقف الحسين علیه السلام وتخذل موقف اليزيد والامويين الذين عاصروه ومشوا على مبادئه وسننه الظالمة.
أن الحسين علیه السلام لم يقتل لاجل الدين الاسلامی كما تقول الشيعة بذلك ولم يستشهد طلبا للملك والسلطان ، بل قتل علیه السلام محافظا على معنويته الهاشمية التی هی علة وجود الامة العربية وبعثها من جديد متمتعة بجميع اساليب الثقافة و وسائل النجاح الاقتصادی المادى ، وهذه القتلة التی يقولون عنها أنها كانت فی سبيل الله وسبيل المحافظة على معنوية آل محمّد فی سبيل الله ايضا هی الشیء المعنوی الذی لا يزال مخبئا عن أعين الباحثين ونحن اذا قلنا ان الحسين علیه السلام مات دفاعاً من شرف
ص: 137
الدين نكون قد أسأنا الى الدين الاسلامی نفسه الذی ليس يقوم على قتلة الحسين علیه السلام او استشهاد أىّ نبىّ من الانبياء وليس هو صورة مادية يملكها فرد من البشر لتموت بموته وتحيى بحياته ، والافضل لكل مقتصد أن يجعل هذه القضية قضية عائلية تتفاوت عن حرّ وقوعها بين سمو مبادىء الحسين علیه السلام وبين انحطاط مبادىء یزید.
وقد ادرك ولدكم - حرسه الله - فی جوابه على كتاب الشيخ عبدالمهدى شيئا من هذا اذ قال : ان الذى عرض الحسين علیه السلام للقتل هو تمنعه عن المبايعة ليزيد ، وفی عدم القيام بهذه المبايعة يتعرض الحسين علیه السلام لان يقتل بسيوف الامويين ، حتى ولو كان فی عقر داره دون ان يضطرّ الى الخروج لمحاربة يزيد وأتباعه ، وان يعرض نسائه وأطفاله للهتك الذى هو صورة القبح عند طبقات الاشراف الذين منهم الحسين ، كما زعم غير واحد فى افترائه على الحسين وعائلة الحسين.
ان هذا الافتراض ممكن الوقوع اكثر من غيره ، ومبايعة الحسن علیه السلام لمعاوية التی ظلّت أسبابها مغمضة فی بحثكم هى التى أجلت وقوع الحرب الاموية الى ما بعد وفاة معاوية ، ويظهر ان الحسن بتعهده لمعاوية انه لايرى من الحسين علیه السلام سيّئا ؛ -كما جاء برسالة سماحتكم ، -وقف وقفة المشفق الذی لا يريد ان يفجع بأخيه وهو حى ، أراد بمبايعته أن يحجب دماء الابرياء التی أباحها يزيد فی تعنته وطغيه وفساده واعتدائه على أخيه الحسين علیه السلام ؛ ولكن السياسة لعبت دورها يومذاك اذمات معاوية الذی كان عنده مخافة من الله اكثر من ولده يزيد (1) واذا توفى الحسن علیه السلام الذى يعدّ بحث نبراس السياسة الهاشمية المؤدية الى اعمال السلام
ص: 138
القومى الذى وقف حائلا فی حياته دون وقوع حرب طاحنة -كالحرب الاموى : فيما لو ضم صوته الى صوت اخيه الحسين علیه السلام فی زمن معاوية الذی تعود مبايعته لهذا السبب الوفاقى - على ما أظن - لا لأسباب الخوف والوجل الذی عزاه كثير من ضعفاء العقول والنوايا السيئة للحسن علیه السلام ، أما قضية العادة العربية التی قلتم سماحتكم أنها دفعت بالحسين علیه السلام أن يصحب أولاده ونسائه معه مستميتا فی سبيل الكرامة والشرف ، فهذه تخضع على خروجها عن قلم سماحتكم لضروب النقد والاعتراض اذ كان الدين الاسلامی او التعاليم الاسلامية - بتعبير أصح - حرمت المرأة من مخالطة الرجال وسماع أحاديثهم الامن وراء الحجاب ، وأرجعتها الى بيتها حيث تقوم بتربية وتهذيب أولادها وتبير شئون منزلها الذی يعد نصف الحياة الزوجية - اذلم يكن كلها - فى نظر قانون الزواج المدنى والدينی فكيف بالحسين علیه السلام خرق حجاب هذا النظام وأصحب عائلته وتابعيه معه جريا على العادة العربية المعروفة قبل ظهور الاسلام وبعده ؟
وتعلمون ان العادة التقليدية غير حكم الدين التشريعی ، فحكم الدّين أسمى مكانة فی نفس الحسين علیه السلام من العاطفة العادة ، فهل هناك ضرورة حيوية دفعت بالحسين علیه السلام ان لا يكترث بتعاليم الدين ؟ ويتبع ما أوحته عاطفة العادة التی تعد ملغاة بحكم هذه التعاليم ؟ هذا ما نريد الاجابة عليه مفصلا.
وهناك شیء آخر يخضع للنقد الشخصى وهو ، أن الخمسة أثواب التی أعطاها الحسين علیه السلام الى محمّد بن بشير الحضرمی - السياسة الحسينية -كان يزيد ثمن الواحد منها على المأة ليرة عثمانية لا يتوافق اقتنائها بهذا الثمن الباهظ من قبل الحسين علیه السلام مح دواعی الزهد التی كانت متجسمة فی أبيه وجده سيد الرسل ، اذ عرفنا عن طرق الاحايت المروية أن عليا علیه السلام والد الحسين علیه السلام كان يرتدى الصوف على بدنه داخلا ويلبس الاطمار الرخيصة خارجا ، دلالة على زهده و ورعه
ص: 139
وتقواه او تقليداً للنبی الذی هو المثل الاعلى للامة الاسلامية ، والذی جعل بهذه الارتداء امثولة عزاء للفقير الذى لا يستطيع أن يلبس ثوبا يساوى ثمنه مأة ليرة عثمانية ونحوها ، كما استطاع الحسين علیه السلام أن يلبس (1) مثل هذا الثواب ويهب خمسة على غرارة الى احد أتباعه من الفقراء ؟
ان هذه الرواية على ما فيها من استقراء فی النقل تصور لنا الحسين مسرفاً طامعاً فى خير الدنيا اكثر من خير الآخرة بينما لو رجعنا الى استقصاء ورع الحسين علیه السلام وزهده وتقواه لوجدنا ذلك أنه لا يتوفق - ورغبة الحسين فی تضميد عواطف الفقراء المجروحة ، والترفيه على كل بائس محتاج ولو أن راويا عزى ذلك الى الحسن علیه السلام الذى كان له ميل خاص وصفة خاصة بهذا الثراء الدنيوى لا مكننا أن نصدق ذلك بدليل أن الحسن نشأ على الابهة والمجد فی زمن جده وأبيه ، وأما الحسين علیه السلام فمن المعروف عنه انه كان لا يعرف قيمة الدنيا. ولو عرف بها قيمة لبايع يزيد ، وبذلك كان أضاف الى ثراه ثراء آخر يدفعه له يزيد بدلا عن تلك المبايعة التی كانت منعت هذه الحرب وذلك الهتك ؛ وحولت معنوية الحسين علیه السلام من رجل شريف نزيه حافظ على مبدء أجداده ومعنوية هذا المبدء الى رجل مادى عبث بكل شیء وخضع لكل شیء بتأثير المادة.
ورواية أخرى لا تتوافق صحته النقل ، وهی واردة بجواب سماحتكم من زيد بن أرقم قال اليزيد يوم كان يضرب رأس الحسين بعوده: ارفع عودك عن هاتين الشفتين فوالله طالما رأيت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقبلها ، اذ انه من المعروف أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم كان يقبّل الحسين فی نحره على اعتبار انه سيموت مقتولا ويقبّل الحسن علیه السلام فی فمه على اعتبار أنه سيموت مسموماً ، فكيف تناقض المعنى الذی
ص: 140
وقع فعلا كما أشار النبی صلی الله علیه و آله و سلم وكيف انتقل تقبيل فم الحسن الى فم الحسين الذی مات منحوراً من قفاه ؟ ولم ينتقل تقبيل نحر الحسين علیه السلام الى نحر الحسن علیه السلام الذی مات مسموما فی فمه .
وفى الاستعراض الدينى لاهل البيت نجد اعتراضا على الحديث الذی ورد بلسان النبی صلی الله علیه و آله و سلم قال مخاطبا سلمان الفارسی : نحن أسرار الله المودعة فی هياكل البشرية ، يا سلمان نزلونا عن الربوبية ثم قولوا فينا ما استعطتم . فان البحر لا ينزف وسرّ الغيب لا يعرف ؛ وكلمة الله لا توصف ومن قال هناك لم ومم وبم فقد كفر ، اذ أن من يتأمل العامى الاستهلالية من الحديث يجد ان منها ما يعد استكباراً فی الارض ، وهو يخالف بمنطوقه ارادة الله التى جائت فى القرآن فمحت آية الاستكبار الخليفة بالمستضعفين من الناس ، ويجد أن كلمة أسرار الله المودعة التی عمت جميع هياكل البشرية تتعرّض الشرّحينا وللخير حينا آخر ، وتنقل من الزهد والتقوى دوراً والى افساد والاثم والفوضى دوراً آخراً ، حيث كانت هياكل البشر الطاهرة فيها ، فهل كان الرسول يعنى انه هو وذريته سرّ الله المودع فی هياكل البشرية الطاهرة فقط ؟
او فی جميع الهياكل سواء كانت طاهرة أو خبيثة ، مجرمة او مصلحة ، مدنسة . و غير مدنسة ؟! هذا سؤال نطرحه امام سماحتكم من الشطر الاول من الحديث.
وأما الشطر الآخر فيه (ومن قال لم ومم وبم فقد كفر) فيكفينا أن نقول ان فيه حجراً لعقل الاسلامى الذى خلق حرّاً طليقا بحكم التشريع الاسلامی ، ونتسائل كيف اباح النبی محمّد صلی الله علیه و آله و سلم لنا ادراك الله عن طريق العقل بعد التفكير والتكييف والمقارنة والمشابهة والظن والشك والريبة وما أشبه ذلك ، ثم تكون هذه الاشياء كلها شرعية بنظر القانون الاسلامى ، ولم يبح لنا ادراك كنه (أسرار الله المودعة والسر الله الذى لا يعرف وكلمة الله التى لا توصف) المتجسمة فی شخصه وشخص ذريته من بعده ؟
ص: 141
ان هذا المنع المجرد عن العقل والروية بعرض الرسول صلی الله علیه و آله و سلم -اذا كان صادرا عنه - الى عدة انتقادات عقلية أهمها انه اباح للعقل أن يدرك الله تعالى عن طريق الظنّ والتفكير الذى حرّمه لادراك شخصه ، وبذلك جعل نفسه فوق الله تعالى ؟ وان كانت هذه النفس هی خليقة الله والخاضعة لامر الله ، هذا فضلا عن أن هذا الادعاء المتجسّم فی كلمة : سرّ الغيب الذى لايعرف وكلمة الله التی لاتوصف ، يجعل للشكوك والاوهام سبيلا للوقوف حائلا بين حكم العقل وعاطفة الاعتقاد ، ولماذا لايعرف رسول الله الذی هو كلمة الله وله أعمال واقوال تدل على شخصه و تنم عن سجاياه وأخلاقه؟ ومتى كانت أعمال الرجل وأقواله وتصرفاته الدينية والاجتماعية بين ايدينا يمكننا أن نحكم على شخصيته من أنها شخصية صالحة اذا كانت أعماله واقواله توافق الصلاح وان نحكم على هذه الشخصية من أنها شخصية مجرمة فاسدة فيما اذا كانت اعماله واقواله تأتى الفساد وترتكب الاجرام والفوضى الاجتماعية ؟
لاأعتقد أن هذا القول يصدر عن النبی كمحمد صلی الله علیه و آله و سلم كان متواضعا جداً وهو كانسان بسيط يمشى فى الاسواق ، ويأكل ويشرب ، فكيف به كنّبی يقول مثل هذا القول الذی هو من صفات الالهية ؟ بل أعتقد أن هذا الحديث من جملة الاحاديث التی دسّتها اليهود دسّا فی كتب الاسلام انتقاصا فى قيمة الدعوة المحمدية التی هی أسمى كل شیء ظهر على وجه الارض !
أما اذا كان هناك مايدعو الى الاعتقاد بصحّتها فأرجو سماحتكم أن تتفضلوا بيان ذلك ولو مفصلاً .
الجواب:
تقول -أيدك الله - فی كتابك : ونحن اذا قلنا ان الحسين علیه السلام مات دفاعا عن شرف الدين نكون قد أسأنا الى الدين الاسلامی ، الى آخر ما أبديت فی هذا
ص: 142
الموضوع وكأنه غاب عنك أننا حيث نقول ؛ مات او قتل دفاعا عن الدين ؛ لانريد أن الدين اسلامی يموت بموته ويحيى بحياته ، بل نريد العكس يعنی ان الدين يحيى بموته ويموت باستبقاء حياته ، وهذه حال جميع من قتل فی سبيل الله الذين يقول الله جلّ شأنه عنهم : ( وَ لٰا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِی سَبِيلِ اللهِ أَمْوٰاتاً بَلْ أَحْيٰاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) (1)... ، مثل حمزة وجعفر وعبيدة بن الحارث وسعد بن الربيع (2) وأمثالهم ممن بذلوا حياتهم فی الدنيا لحياة الدين فوجدوا خيراً من تلك الحياة عند الله تعالى ؛ فهم عند الله أحياء غير أموات وان كانوا بالنظر الى الدنيا أمواتا غیر أحياء ، ولا يلزم من هذا أن يكون الدين الاسلامی صورة مادية يملكها فرد من البشر كما تخيلت ، ضرورة أن الدين هو عبارة عن تلك الاحكام والقوانين التی جاء بها الرسول الامين من رب العالمين وحياتها وموتها بالعمل بها وعدم العمل بها ، ولما سلك يزيد فی خلافته مسلكا يوجب ابطال العمل بشرائع الاسلام حيث صار يجاهر بشرب الخمور وارتكاب الفجور وترك الصوم والصلاة والناس يتبعونه طبعا ( لان الناس على دين ملوكهم ) كما قيل ، وكأنه بهذا يريد القضاء على الاسلام وموته ، لذلك ضحى الحسين علیه السلام بحياته وحياة خيرة أهل بيته وأصحابه انكاراً على يزيد وابطالاً لمساعيه واحياء للدين ، ولحمل الناس على العمل بشرائعه كما قال سلام الله عليه او قيل عنه :
ان كان دين محمّد لم يستقم *** الا بقتلى يا سيوف خذينی
فحقّاً ان الحسين سلام الله عليه ما بذل نفسه الا دفاعا عن شرف الدين وتفاديا
ص: 143
للمبدء المقدس ، ولا نكون بهذا قد أسانا الى الدين بل أحسنّا اليه حيث جعلناه فوق نفس الامام المعصوم وأنه يفدى بأعز النفوس ، ومن الغريب قولك على قولنا ان العادة العربية دفعت بالحسين علیه السلام أن يصحب أولاده ونسائه معه مستميتا فی سبيل الكرامة والشرف ، فقلتم ان التعاليم الاسلامية حرمت المرأة مخالطة الرجال وسماع أحاديثهم الامن وراء حجاب ، أليس من الغريب أن تقول وأنت بهذه الثقافة : ان الدين الاسلامى حرّم المرأة من مخالطة الرجال فتجعل ذلك وصمة شنعاء ولطخة سوداء فی جبين الدين الاسلامی ؟ كيف يقال هذا وهذه الصدّيقة فاطمة الزهراء علیه السلام بنت مشرّع الدين الاسلامى خطبت فی المسجد النّبوى فی حشد المهاجرين والانصار تلك الخطبة البليغة الغرّاء التى تستغرق ما يقرب من ساعة وكلّهم يسمعون ويشهدون ؟ وهذه عايشة ما زالت مدة عمرها تخطب وتحدث الرجال بالاحاديث النبوى واذا نظرت الى كتب صحاح اخواننا العامّة تجد الربع او الثلث تقريبا ينتهى سنده الى عائشة ، حتى نسبوا الى النبی صلى الله عليه و آله و سلم قال : خذوا ثلث دينكم من الحميراء ، وهل اول جواز الاختلاط من أنها قادت جيشا جرّاراً وجنداً قهارا الى حرب البصرة حاربت أمير المؤمنين علیه السلام ومعه اعاظم أصحاب النبی صلى الله عليه و آله و سلم من الانصار والمهاجرين ؟ دع عنك هذا وراجع كتاب (بلاغات النساء) وأمثاله وانظر الى النساء اللاتى كنّ يخطبن فى الجيوش فی صفين ويحرضن أهل العراق على حرب اهل الشام ، وانظر الى كلام الوافدات (1) على معاوية بعد أن تم الامر له . وكيف كانت تلك النسوة أجرء من اللبوة وأقوى قلبا من الصخور ،
ص: 144
أنظر الى الخنساء (1) يوم حرضت أولادها الاربعة فی بعض حروب المسلمين حتى قتلوا جميعا ، وبعد هذا فهل تجد من الصحيح قولك : ان الاسلام حرّم المرأة من مخالطة الرجال ؟ ألم تكن النساء تضمّد الجرحى وتسقی العطاشا، وتزغزد وتهلهل وتحرض المقاتلين على الهجوم فی حرب النبی صلى الله عليه و آله و سلم وحرب الوصى علیه السلام .
دع وانظر الى صفايا النبوّة وحرائر الرسالة وبنات سيد الموحّدين ويعسوب الدين علیه السلام من زينب وأم كلثوم وسكينة وخطبهن فی كربلاء والكوفة والشام ، وفی مجلس يزيد وابن زياد فی النوادى والمجتمعات، فهل مع هذا كله نقول : ان التعاليم حرمت المرأة من مخالطة الرجال وسماع احاديثهم وأرجعتها الى بيتها ؟ أما آية الحجاب فهی واردة فی خصوص نساء النبی علیه السلام (2) وكان الاعراب الذين أخبر الله جل شأنه عنهم بقوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يُنٰادُونَكَ مِنْ وَرٰاءِ الْحُجُرٰاتِ أَكْثَرُهُمْ لٰا يَعْقِلُونَ ) ، (3) يؤذون نساء النبی بالهجوم عليهن فى منازلهن نهاهم الله عن ذلك ، راجع سورة الاحزاب نعم ان التعاليم الاسلامية حرمت على النساء مطلقا التبرج واظهار الزينة للرجال : ( وَ لٰا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجٰاهِلِيَّةِ الْأُولىٰ ) (4) وأين هذا من
ص: 145
حرمة المخالطة ولو سلمنا تنازلا بحرمة المخالطة فأىُّ منافاة بهذا لما أبديناه واريناه من ان حمله لنسائه واولاده استماتة فى سبيل الكرامة والشرف، فان حمله لهن لا يستلزم المخالطة بوجه والا لما جاز لامرأة تسافر من محل الى آخر أبداً .
وأغرب من ذلك بل وأعجب جداً قولك : وهناك شیء آخر يخضع للنقد الشخصى وهو ان الخمسة اثواب... يزيد ثمن الواحد منها على مأة ليرة عثمانية لا تتوافق اقتنائها مع دواعی الزهد التی كانت متجسمة فی أبيه وجدّه سيد الرسل الى آخر من افضت به وافدت فى هذه الناحية ، وكأنك تحسب ان الزهد هو الفقر و الفلاكة وعدم الوجدان ، وان الغناء والثروة تنافى الزهد ؟ لا يا عزيزی حقيقة الزهد هو عدم الحرص على المال وعدم المبالات فى الدنيا وان يكون وجود المال وعدمه عنده سواء ؛ وقد جمع الله الزهد فی كلمتين : ( لِكَيْلاٰ تَأْسَوْا عَلىٰ مٰا فٰاتَكُمْ وَ لٰا تَفْرَحُوا بمٰا آتٰاكُمْ ) (1) وحقيقة الزهد لا تظهر ولا تتجلّى الا مع توفر النعم وغزارة المال وبذله وعدم الحرص والتعفف عن رذيلة الشحّ والبخل : ( وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (2) أما الفقير المعدم الذى لا يجد ولا يملك شيئا فأى زهد له ؟ وأى فضيلة له بذلك الزهد القهرى وقد سئل الحسن البصری : أنت أزهد أم عمر بن عبد العزيز وهو خليفة المسلمين ، فقال : عمر بن عبد العزيز أزهد منى لانه وجد فعفّ وتمكن فكفّ ولعل الحسن لو وجد وتمكن لأستخف وأكل فأسرف.
وأما رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما وألهما حيث كانوا يأكلون
ص: 146
الشعير ويلبسون الصوف فليس لأنهم كانوا لا يتمكنون من المآكل الطيّبة والملابس الليّنة ولكنهم كانوا يحتقرون الدنيا ونعيمها الفانی ويقولون عن اهل الدنيا : اولئك قوم عجلت لهم طيباتهم ونحن أخرت طيباتنا ؛ ولامير المؤمنين علیه السلام فی نهج البلاغة كلام مع العلاء بن عاصم الذى ترك الدنيا ولبس الصوف فقال له : ياعدىّ (1) نفسه لقد استهام بك الخبيث (بمعنى الشيطان) فقال : يا أمير المؤمنين هذا أنت فى خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك ، قال : ويحك انی لست كأنت ان الله تعالى فرض على ائمة العدل ان يقدروا انفسهم بضعفة الناس كى لا يتبيّغ بالفقير فقره ، (2) وللباقر والصادق عليهما السلام مع سفيان الثورى واصحابه من متقشفة ذلك العصر ومتّصفة تلك الايام حيث كانوا يعترضون على الائمة علیهم السلام اذا وجدوا عليهم بعض الملابس الفاخرة قائلين : ان جدّكم رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله عليها ما كانوا يلبسون هذه الملابس ؟ فيقول لهم الامام : ذاك حيث ان الزمان قلّ اما اذا درت الدنيا أخلافها فأولى الناس بها أولياء الله أو ما هو بهذا المضمون ، وللرضا علیه السلام كلام عال شريف فى هذا الموضوع. ولقد كان لامير المؤمنين علیه السلام فی المدينة من الضياع والبساتين والمزارع كعين أبی نيزر والبغيبغة وغيرها ما يدرّكل سنة بألوف الدنانير ، وقد أوقفها جميعاً فی سبيل الله وكان يضرب بالمسحاة بيده فی عقار له لا حرصا على الدنيا والاموال ولكن حرصا على الانفاق فی سبيل الله والاحسان على الضعفاء من عبادالله (3) وكانت قنية تلك الاثواب الثمينة تمسّ ورع
ص: 147
ص: 148
الحسين علیه السلام وزهده لو كان يشح بها يحرص عليها ، اما وقد بذلها فی فك الأسير المجاهد فی سبيل الله فتلك فضيلة للحسين علیه السلام وكرامة تزيد فی علو ورعه وزهده ورغبته فی تضميد عواطف الفقراء المجروحة والترفيه عن كل بائس محتاج.
ولعلك حسبت ان الحسين علیه السلام يلبس تلك الثياب ويتظاهر فيها بالبذخ والخيلاء او نحو ذلك مما ينافی تلك القدسية السامية كلا يا عزيزی ، فان الحسين سلام الله عليه لو ملك الدنيا كلها لوهبها لحظة واحدة فی سبيل الله وفى سبيل البرّ والمعروف، وما كان يضع شيئا من تلك الثياب على بشرة بدنه الشريف وانما يقتنيها ليجود بها ويعطيها ويضعها فی مواضعها اللائقة بها ، وقد ورد فی بعض الاخبار انه سلام الله عليه لما استشهد كان عليه من الدين سبعة آلاف دينار ذهباً
ص: 149
او سبعون ألف وان على بن الحسين عليهما السلام لما رجع الى المدينة امتنع عن الطعام والنام الى ان قضاها عن أبيه ، والخلاصة ان الزهد هو قطع العلاقة عن الدنيا وعن حب المال لاعدم وجود المال ، وليس الزهد هو لبس الثياب الممزّقة والاطمار المرقعة والمآكل الخشنة ، اسمح لى ان اقول لك : ان اكثر الناس لا يعرفون من حقيقة الزهد شيئاً ، والمواكب العظيم الذی سارفيه الحسين علیه السلام من الحجاز الى العراق وسقى فی قفر الارض بحرّ الهجير ألف فارس وألف فرس (1) أعظم وأفخم من قضية الثياب الخمسة .
أما زيد بن ارقم وقوله ارفع عودك عن هاتين الخ... فلعل تقبيل رسول الله شفتی الحسين علیه السلام من جهة انه تعالى أعلمه أنهما موضع ضرب يزيد وابن زياد الذين قرعوا ثغر الحسين علیه السلام بالخيزرانة . (2)
واما حديث : نحن اسرار الله المودعة الخ... فحيث انه من الاسرار التی لا يليق افشاؤها مضافا الى ضيق المجال وطول المقال فالاجدر عدم الخوض فيه ونسأله تعالى ان يعصم افهامنا واقلامنا من الهفوات ، وما توفيقی الا بالله عليه توكلت واليه أنيب .
ص: 150
(وَ لَقَدْ كَتَبْنٰا فِی الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهٰا عِبٰادِيَ الصّٰالِحُونَ ) (1)
دلت الادلة القاطعة. وقامت البراهين الساطعة ، ولم يبق مجال شك لذوى العقول والالباب أن بهذه العوالم المحسوسة فضلا عن العوالم الغائبة عن الحس من الذرّة الى الذرى ، ومن الثريا الى الثرى من الاملاك والافلاك ، والانسان والحيوان ، والنبات والجماد = لم يبق شك لذى عقل = فی أن لها صانعا حكيماً ، ومدبراً عليماً ، كما لاريب فى ان المدبر الحكيم ، والصانع القدير منزه عن العبث مقدس عن اللغو وجميع افعاله معللة بالحكمة ، ومنوطة بالفائدة ، ومربوطة بالاغراض الصحيحة ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمٰا خَلَقْنٰاكُمْ عَبَثاً ) (2) واذا توسّعنا فی الفكر واستقصينا النظر وطالعنا من اول فجر التاريخ الى صحوة هذه العصور ، وتأملنا فی
ص: 151
جريان عوالم البشر من أبيه الاول الى ولده الاخير وجدنا الشرّ هو الغالب على البشر ، والفساد هو المستولى على الصلاح ، والباطل غابا مستفحل على الحق ، وان الانسانية لاتزال تئنّ من جروح الظلم الدامية ، وترزح تحت اثقال الجور العاتية ، فهل يصلح هذا أن يكون هو الغرض والحكمة لذلك الصانع الحكيم من خلق هذا المخلوق التعيس وهو الانسان ؟ وهل هذه الفائدة والثمرة من ايجاده ؟ كلاثم كلا وتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً هذا البشر الذی ثلثاه شرّ بل أكثره ؟ وقد قال القائل ؟
ليت الكلاب لنا كانت مجاورة *** وأننا لم نر ممن نرى أحداً
وقال الاخر :
انى لافتح عينى حين افتحها *** على كثير ولكن لاأرى أحداً
أفهذا يصلح أن يكون غاية الصنع ، وفائدة الايجاد ، وثمرة التكوين ؟ جل الصانع وتعالى ، وتقدس عن ذلك ، كيف وقد قال جل شأنه: ( كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِی ) (1) وقد رأينا اكثر الرسل مغلوبين مقهورين مستضعفين مقتّلين ، ولاشك ان المراد بالغلبة المنوّه عنها فى الكتاب هى الغلبة فى الدنيا . اما فی الاخرة فالغلبة له جل شأنه وحده كل شیء هناك هالك الا وجهه (2) _ والملك يومئذ لله الواحد القهار -(3) اذاً فلا محيص ولا مجال من ان للحق فی هذه الدنيا دولة ، وللصلاح فوزو نجاح وللعدل ظهور وغلبة ، ورسله فى هذا الكون سطوة وسلطان على جنود الشيطان، وان الله جل شأنه سوف يفی بوعده لانبيائه و أوليائه وهو لا يخلف الميعاد.
ص: 152
وانه لولم يبق من الدنيا الا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يظهر من يملاء الارض قسطا وعدلاً بعد ما ملئت ظلما وجوراً ؛ (1) هنالك تظهر حكمة الصنع وفائدة الايجاد ، والغرض الصحيح من الابداع والتكوين ويستبين أن هذه العوالم المتقدمة والشرور المتطرّفة كلها مقدمات وتمهيدات لظهور دولة الحق ، وقمع دولة الباطل ، هنالك يعرف كل انسان صدق قوله تعالى : ولقد كتبنا فی الزبور من بعد الذكر ... الآية ، وقوله عز من قائل : كتب الله أنا ورسلى ، ذلك حيث يظهر مهدى الامم ، وجامع الكلم ، والحق الجديد ، والعالم الذی علمه لا يبيد . (2)
ص: 153
ص: 154
الأسباب التی دعت الى غياب حجّة عجل الله فرجه وهل هو حى الآن ؟ وكيف يمكن أن يظل طيلة هذه المدّة حياً ؟ وما الفائدة من تغيّبه ؟ ولماذا لم يظهر خصوصاً فی هذا العصر الذی فيه المسلمون أرقاء ؟ وكذلك يسئل عن سبب تغيّب الخضر ؟
الجواب
قال سبحانه وتعالى: ( هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) (1) ، لاشك أن دين الاسلام من حين ظهوره الى الآن لم يظهر ويغلب على جميع الاديان بحيث لايكون على وجه الارض دين سواه ، وقد وعد الله سبحانه بذلك فى هذه الاية ، وآيات أخرى ، والله سبحانه لايخلف الميعاد ، فلابد فی وقت من الأوقات ان يقوم داع الى الله سبحانه والى دينه الحق بحيث لايعبد فی الارض غيره تعالى شأنه كما لا يعبد فی السماء سواء .
هناك يملاءها قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجوراً ، وهذا فرع من أصل بل
ص: 155
أصول يبتنى بعضها على بعض ، يبتدء من اثبات الحكيم بنعوته الجلالية وتنتهى الى وجوب وجود الامام فی كل عصر. وأن الارض لاتخلو من حجة ؛ وأنها لولا وجود الحجة لساخت وانقلبت بمن فيها كما ورد فی الحديث المروى من طرق الفريقين وهنا اسرار و أستار لايمكن كشفها ورفع الحجب عنها.
أما السؤال عن الاسباب التی دعت الى غيبته ، فاللازم أولا أن يعرف السائل أن الانسان اذا عرف أن له خالقا لم يخلقه عبثا ولم يتركه سدى بل كلّفه بتكاليف يؤهّله بها للفوز والسعادة الابدية فى دار أخرى هى دار القرار ودار الجزاء ، فاذا عرف ذلك جيداً وجب عليه ان يعرف التكاليف والاحكام التى أمره الله بها ، ويأخذها من الحجة عليه والسفير بينه وبين الله سبحانه.
ولا يلزم عليه ان يعرف حكمة تلك الاحكام ، ومصالح تلك التكاليف وان كنا نعتقد على الاجمال ان جميعها مشتمل على اشرف الحكم والمصالح ولكن ليس كل العقول تستطيع الوصول الى تلك الاسرار الربوبية والحكم الالهية ، وهناك مراتب ومقامات حتى الانبياء والائمة عليهم السلام تقف دونها ولا تستطيع الوصول اليها ، فماظنك بأمثالها ؟ ومهما اتسعت علوم البشر واكتشافاتهم عن اسرار الطبيعة ، ومكنونات الخليفة والحقيقة اتضح لهم ان نسبة معلومات جميع البشر من أول التاريخ الى اليوم نسبتها الى مجهولاتهم نسبة القطر الى البحر بل أقل بكثير.
قيل لأفلاطون (1) عند قرب موته. ما تقول فى الدنيا ؟ قال ما أقول فی دار جئتها
ص: 156
مضطراً وسأخرج منها مكرها ، وبقيت فيها متحيراً ، ولم استفد من جميع علمى سوى أنى لاأعلم ؛ والجميع اكابر الحكماء من اسلام وغيرهم الكثير من امثال هذه الكلمات ، والشافعى يقول : كلما ازداد علما زادنی علما بجهلى ؛ والفخر الرازی يقول من أبيات له :
نهاية ادراك العقول عقال *** وغاية سعى العالمين ضلال
وكفاك شاهداً على ضعف الانسان وقصور مداركه مهما كان قصة موسى علیه السلام مع الخضر مع ان موسى علیه السلام كان يومئذ نبيّاً ولله كليما ، ومع ذلك عجز عن معرفة أسرار أمور جزئية كخرق السفينة ، وقتل الغلام ، واقامة الجدار : فما ظنك بأسرار أمور جزئية كخرق السفينة ، وقتل الغلام ، واقامة الجدار : فما ظنك بأسرار الاحكام الكلية ، والنواميس الالهية ، فاذا الادلة القطعية عقلية ونقليه عن وجود امام يتردد فى الامصار ولكنه غائب عن الابصار وجب الالتزام بذلك ولا يجب علينا ان نعرف اسباب غيبته ومتى يظهر ؟ وكيف يظهر ؟ ولماذا لا يظهر الان ؟ وقد فشى الجور والعدوان ، فان كل هذه الاسألة عبث وفضول وتلك اسرار تعجز عنها العقول . روى الصدوق عن عبد الله بن الفضل الهاشمى قال : سمعت الصادق علیه السلام يقول : انّ لصاحب هذا الامر غيبة لابد منها يرتاب فيها كل مبطل فقلت : ولم جعلت فداك ؟
قال : الامر لم يؤذن لنا فی كشفه لكم ، قلت : فما وجه الحكمة فی غيبته ؟ قال :
ص: 157
وجه الحكمة فی غيبته وجه الحكمة فى غيبات من تقدمه من حجج الله تعالى ذكره ان وجه الحكمة لا ينكشف الابعد ظهوره الى أن قال : يا ابن الفضل ان هذا الامر امر من الله وسرّ من سرّ الله وغيب من غيب الله ، ومتى علمنا أنه عزوجل حكيم صدقنا بان افعاله كلها حكمة وان كان وجهها غير منكشف لنا .
وقال علیه السلام لمهزم الاسدى يا مهزم كذب الوقّاتون ؟ وهلك المستعجلون ونجى المسلمون الصابرون ، ولعله سلام الله عليه اشار بقوله :ان وجه الحكمة لا ينكشف الا بعد ظهوره الى انه بعد هوره ومشاهدة العجائب والايات الباهرة التی تكون معه ، والتى لم يقع نظيرها لنبیّ ولا وصى نبى مدة عمر الدهر ، هناك يعرف ان هذا الأمر العظيم يستحق ذلك التأخير وطول المدة وان يكون قريبا للساعة ، وفناء العالم وانقضاء دور من ادوار الكون وأكداره او لعل مراده بوجه الحكمة الذی ينكشف بظهوره هو الحكمة الغامضة ، والسرّ المخزون المكنون الذی استأثر الله به فی علم الغيب عنده والا ففی تفاريق اخبارهم سلام الله عليهم قد أشاروا الى وجوه كثيرة من الحكمة فی غيبته علیه السلام .
منها : أن دولته سلام الله عليه آخر الدول ولا دولة بعدها لكفار ولاغير وانما بعده فتن (1) تتّصل بيوم القيامة. ولا يقبل الجزية من أحد ، ويخرب البيع والكنائس ، ولا يبقى على وجه الارض صليبا ولا صنما ، ولا يقبل صلحا ولا هدنة وكيف يقبل الصلح من تعبّر جيوشه البحار باقدامهم ، وتهدم الحصون والقلاع بتكبيراتهم ، والحاصل كل شئونه وأحواله سلام الله عليه آيات باهرات وخوارق عادات ، ومثل هذا لا يكون الّا فى آخر هذا العالم وفى نهاية الدور من السنوات الآلهية ، ولهذا الدور أمد وحدّ معين فی علم الله. والحكمة فی غيبته انتظار انقاء هذا الدور حتى يخرج .
ص: 158
ومنها : انه سلام الله عليه يخرج بالسيف ويقتل العالَم - الظالم الجائر - قتلاً ذريعا قال محمّد بن مسلم : سمعت الباقر علیه السلام يقول : « لو يعلم الناس ما يصنع المهدى علیه السلام اذا خرج ما أحب أحد خروجه مما يقتل من الناس ، وليس بينه وبين العرب وغيرهم الا السّيف حتى يقول كثير من الناس ما هذا من آل محمّد صلی الله علیه و آله و سلم لو كان منهم لرحم الناس » ، وحيث ان الله عزّ شأنه جعله نقمة على الكافرين وقاطعا لدابر الظالمين ومعلوم ان الله سبحانه قد اودع نطف المؤمنين فی اصلاب الكافرين ، وقد رأينا فی العصور المتقدمة وفى هذه العصور ايضا كثيراً من المؤمنين الاخيار وآبائهم من الكفار او الاشرار .
أيظن احد أن مثل الحجاج بن يوسف الثقفى وهو اكفر من نمرود وأعتى من عاقر الناقة يخرج من صلبه مثل ذلك الشاعر الشيعى البليغ ؛ الحسين بن الحجاج (1) صاحب القصائد الغرر التی يمدح بها اهل البيت علیهم السلام ؟ منها قصيدته التی أنشدها فی النجف بمحضر عضد الدولة لمّا بنى القبة البيضاء على قبر امير المؤمنين علیه السلام التی يقول فی اولها :
يا صاحب القبّة البيضاء على النجف *** من زار قبرك واستشفى لديك شفی
من كان يظنّ ان يزيد بن معاوية يخرج من صلبه مثل معاوية بن يزيد الذی خلع نفسه من الخلافة (2) وقال: هی حق على بن الحسين علیهما السلام حتى قتله بنو أميّة سرّاً،
ص: 159
ولو شئنا ان نعد الألوف من هذا القبيل لما عجزنا وحينئذ فلابد ان يكون ظهوره علیه السلام فی زمان لايكون فی اصلاب الكافرين ودائع نطف المؤمنين حتى لاتضيع باستيصال شافة الكفار . والله سبحانه اعلم بمقاديرها وزمان خلوّ الأصلاب منها .
وقد أشار الى ذلك ، الصادق علیه السلام فی حديث رواه الصدوق فی العلل حيث قال : « ان القائم علیه السلام لن يظهر أبداً حتى يخرج ودائع الله عزوجل ، فاذا خرج ظهر على من ظهر من أعداء الله فقتلهم » ، وبهذا فسرّ قوله تعالى : ( لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذٰاباً أَلِيماً ) (1) .
وببالی قديما فی بعض الكتب أن الحسين علیه السلام فی حملاته يوم الطف يعترضه الفارس من أعدائه فلايضربه بسيفه ، وكذلك أبوه يوم صفين ، فسئل عن ذلك ؟ فقال : كشف [لي] عمّا فی صلبه من المؤمنين فتركته ، وفی آية : ( يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ) (2) كفاية .
ص: 160
ومن الحكم فی غيبته عجّل الله فرجه ولعلها من أهم الحكم والاسرار هو تمحيص المؤمنين بهذه المحنة ، و ابتلائهم بهذه الفتنة ( أحَسِبَ النّٰاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّٰا وَ هُمْ لٰا يُفْتَنُونَ ) (1) ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمّٰا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسٰاءُ وَالضَّرّٰاءُ وَزُلْزِلُوا حَتّٰى يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتىٰ نَصْرُ اللهِ أَلٰا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبُ ) (2) ( حَتّٰى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جٰاءَهُمْ نَصْرُنٰا ) (3) والاخبار بهذا المعنى كثيرة وأن بطول مدة غيبته يمتاز الايمان الثابت من المستودع ، والمؤمن الخالص من المغشوش ، فهى غربلة وتصفية للمؤمنين ( وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ الْكٰافِرِينَ ) . (4)
روى الصدوق رحمه الله عن الكاظم موسى علیه السلام : « اذا فقد الخامس من ولد السابع فالله الله فی اديانكم لا يزيلكم عنها أحد يابنیّ لابد لصاحب هذا الامر من غيبة حتى يرجع عن هذا الامر من كان يقول به ، انما هی محنة من الله عزوجل امتحن بها خلقه -الى ان قال - يا بنىّ عقولكم تصغر عن هذا وأحلامكم تضيق عن حمله » . وفی احتجاج الطبرسى فى التوقيع الصادر من الناحية المقدسة على يد العمری : أما علّة ماوقع من الغيبة فان الله عزوجل يقول : ( يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْيٰاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) (5) انه لم يكن أحد من آبائى الا وقعت فی عنقه بيعة لطاغية زمانه وانى أخرج ولابيعة لاحد من الطواغيت فی عنقی.
وهناك اسرار وحكم أخرى لايتسع الوقت والمجال لبيانها ، على أن كل ذلك
ص: 161
تطفّل وفضول بد ما عرفت من أن الله فی عباده شئونا لاتدركه العقول ، ونحن حتى الان لم تصل عقولنا الى اسرار خلقتنا وكنه أرواحنا وحقيقة حياتنا : فكيف نحاول معرفة أسرار الملك والملكوت، والعزة والجبروت ؟ نحن لانستطيع ان نعرف الحكمة فی جعل المغرب ثلاثا والعشاء اربعا والصبح اثنين وأمثال ذلك من الأوامر التشريعية فضلا عن الامور التكوينية !! نعم وفى مثل هذه المقررات المجهولة الحكمة سبحانه الراسخين فی العلم حيث قال عزّ شأنه : ( وَ الرّٰاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّٰا بِهِ كُلُّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنٰا ) (1) مدحهم على الايمان بما جاء من الله عز شأنه وان لم يعرفوا تأويله وحكمته .
وأما قولك : وكيف يمكن أن يظل طيلة هذه المدّة حيّاً ؟ ! (2) فهو سؤال غريب
ص: 162
بل و غريب جداً ، كأنك نسيت قوله تعالى فى نبيه نوح علیه السلام : ( فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلّٰا خَمْسِينَ عٰاماً ) . (1) وذكر أرباب السير أن عمره كان الفاً وستمأة ، وقيل أقل ، وقيل اكثر حتى قيل انه تجاوز الالفين. ومن تدبر وأنصف عرف أن الانسان اذا أمكن أن يعيش سنة امكان ان يعيش ألوف السنين فان من وهبه الحياة سنة يقدر أن يمدّها الى ماشاءالله .
وأما سبب غيبة الخضر علیه السلام ان صح كونه حيّاً موجوداً الى الآن كما عليه اكثر علماء الفريقين فلعل العلة فى غيبته كراهته لمعاشرة هذا الخلق المنعوس ، وتجافيه عن مباشرة البشر الذی ثلثاه شرّ ، بل كلّه شرّ الّا من عصم الله ممن يصل اليهم او يصلون اليه ، ويأنس بهم ويأنسون اليه. أراد -ونعم ما أراد -أن يعيش متباعداً عن هذه الجلبة والضوضا ، والمدنية الزائعة ، وكان وظيفته بين الانبياء -ان كان نبيّاً - تكميل الخواص من عبادالله من السيّاح والزهاد ، والابدال والاوتاد بخلاف سائر الانبياء ، فان وظيفتهم دعوة العامة من سواد الناس الى الايمان بالله واليوم الاخر ولو بالايمان البسيط واليقين الضعيف .
ص: 163
ص: 164
السؤال
الى أىّ حد نعتبر باب الاجتهاد مفتوحا امام علماء الشيعة الامامية وما مسافة هذا الاجتهاد؟ وما نوعه وما تأثيره على الفقه الشيعی ؟ وهل حرّيتهم الفكرية المعروفة عنهم مطلقة بالمعنى الصحيح أم هی مقيّدة تقييداً كبيراً بمذهبهم ؟
الجواب
1 . يعتبر باب الاجتهاد مفتوحا أمام فقهاء الامامية بغير حد من ناحية المجتهد الّا حدود تحقق شرائطه وأهليته من أى عنصر كان وفى أى بلد او زمان يكون ، والى أىّ نحلة من نحل الاسلام ينتسب ، فهو من هذه الناحية حرّ طليق لايتقيد الّا بنفسه وتحقّق ذاته .
2. واما مسافته : فهى كذلك غير محدودة لافى أول ولا آخر ، بل مستمرّة مادام التكليف، وما بقين العقول التى هى الحجة الكبرى للخالق على المخلوق، وللمخلوق
ص: 165
على الخالق ، وهی ثابتة فى كل زمان ومكان ؛ وفی عامة الشرائع والاديان.
3. وأما نوعه : فهو من العلوم النظرية الفكرية الاستقلالية ، و ليس من العلوم الالية ، وهو مقدمة للعمل وليس تحققه منوطاً به ؛ بل هو ملكة نفسية كسائر العلوم والفنون ، ولاتكون ملكة راسخة الا بعد الممارسة والمزاولة وسبر الادلة ، واستحضار القواعد العامة ، والاحاطة بالاشباه والنظائر ، وهو احوج ما يكون الى ذهن نافذ وفهم وقّاد ، وذوق سليم واعتدال سلييقة واستقامة طريقة ، ومعرفة بالأمور العرفية يستطيع بها تطبيق الاصول للفروع وأستنباط حكم الجزئى من الدليل الكلى ، ويستحيل عادة او حقيقة حصول هذه الملكة -أعنى ملكة الاجتهاد - للبليد والرجل العادى ، ولذا قالوا : ان الاجتهاد نور يقذفه الله فی قلب من يشاء ، وأنا أقول : نعم هو نور ولكن لايقذفه الله فی قلب احد جزافاً ، وانما ينفحه به بعد طول الكدّ والجدّ والتعب ، والعناء ، وان نقل عن بعض الاساطين : ان ملكة الاجتهاد حصلت لهم قبل البلوغ ، وهو ان صح فمن النوادر والشواذ.
4 . هل حرّيتهم الفكرية مطلقة بالمعنى الصحيح أم هی مقيدة تقييدا كبيراً بمذهبهم ؟ ! قد أشرنا الى ان الاجتهاد لايتقيد بمذهب من المذاهب ، فهو مطلق من هذه الناحية ، ولكن الاجتهاد الصحيح الذى يجوز للمجتهد ان يعمل به ، وللمقلد أن يأخذ به ويرجع اليه مقيد بأن يكون على مذهبهم ومن السنّة المعتبرة عندهم ، مثلا الأحناف قد يفتون على ما يقتضيه القياس والمصالح المرسلة ، وهذا لايجوز عند الامامية أصلا ؛ بل لابد من الاستناد الى الكتاب اوالسنّة المعتبرة عندهم ، او العقل القطعى البديهى لا الظن او الاستحسان وحتى ان مراجعهم العليا فی الحديث -وهى الكتب الاربعة المشهورة : (الكافى) و(التهذيب) و(الاستبصار) و(من لا يحضره الفقيه) - مع جلالة قدرها وعظمتها عندهم فهم لا يعملون بكل حديث فيها ؛ بل يمحّصونه ويفحصونه ويجتهدون فی سنده ومتنه ، فقد يقبله مجتهد حسب
ص: 166
اجتهاده ؛ وقد يردّه آخر لعيوب يجدها فيه او معارض أقوى حسب اجتهاده ايضاً ، ومن هنا تعرف حريتهم الفكرية كيف ترامت الى أمد بعيد قد تجاوز الحدود واخترق التخوم ، ومنه تعرف ايضا تأثير انفتاح باب الاجتهاد على الفقه ، فان هذا الانفتاح قد شحذ أذهانهم ، وفتق قرائحهم ، وفتح لهم مدائن واسعة فی الفروع والاصول يعرف ذلك جلياً من راجع مؤلفاتهم فى الفقه والاصول ، من المتقدّمين والمتوسّطين والمتأخرين.
ولولا انحراف الصّحة ، و ضعف القوى ، وسوء ملكة العلل والاسقام لناساعة كتابتی هذه لذكرت نبذة وافية من الشواهد على ما كان له من التأثير على الفقه الشيعی ، بل قد تجاوز ذلك الى تأثيره على الأدب العربی ، والشعر البديع فقد كان لأكثر فقهائنا ، حتى من غير العرب نصيب من الادب العالى والشعر الرائق والمؤلّفات النفيسة فى انواع علوم العربية حتى متن اللغة ولو نظرت الى ( طراز اللغة ) لسيّد عليخان صاحب السلافة الذى هو وان لم يكمل أضعاف القاموس ، نعم لو نظرته لرأيت العجب من تلك السعة والاحاطة وحسن الذوق .
والخلاصة : أن انفتاح باب الاجتهاد لم يؤثر على الفقه عندهم فقط بل له تأثيره البليغ فی سائر العلوم حتى الحساب والهندسة والفلك وما اليها واذا أردت أن تعرف الفرق بين فقههم وفقه بقية المذاهب الاسلامية فمن الجدير ان تسيم نظرك فی مؤلّفنا الجديد الذی فرغنا من تأليفه وطبعه العام الماضی ، وهو كتاب (تحرير المجلة ) فی خمسة اجزاء ، الاربعة الاولى منه فی العقود والمعاملات والالتزامات والضمانات والقضاء والمرافعات ، والخامس فی ما يسمّونه اليوم بالحقوق الشخصية الذی استدركناه على أرباب المجلة.
وهذا البيان الوجيز وفق ما امكن لاوفق ما يلزم ، ولا زلتم موفّقين لخدمة المعارف بدعاء الأب الروحى .
ص: 167
ص: 168
ولدى العزيزالمهذّب النجيب
سألت عن « المهدی المنتظر » وقلت ان الشيعة يزعمون انه دخل فی سرداب فی سامراء وتغيّب هناك... ويقفون فى كل ليلة بعد صلاة المغرب بباب هذا السرداب فيهتفون باسمه ويدعونه للخروج حتى تشبتك النجوم ، ثم ينفضون ويرجئون الأمر الى الليلة الآتية - (انتهى) .
الجواب
عجبت كيف تسألنی عن هذه الخرافة ؟ ونسيت ما قلته أنت ونقلته عنّا فی صفحة من صفحات كتابك انه (اى محمّد الحسين) لا يرضى عن الرجوع فی تاريخ الشيعة اى ما كتبه ابن خلدون (البربری) الذی يكتب وهو فی أفريقيا وأقصى المغرب عن الشيعة فى العراق واقصى المشرق انتهى . فهل نقلت الأسطورة الخرافية الّا عن ابن خلدون أو أمثاله ؟ وهل وجدتها فی شیء من كتب الشيعة ؟
وقد أوضحنا غير مرّة أن من الاغلاط الشائعة عند القوم (اى عند السنّة) من
ص: 169
سلفهم الى خلفهم والى اليوم زعمهم أن الشيعة يعتقدون غيبة الامام فی السرداب ؛ مع أن السرداب لاعلاقة له بغيبة الامام اصلا ؛ وانما تزوره الشيعة وتؤدّى بعض المراسيم العبادية فيه لأنه موضع تهجد الامام وآبائه العسكريين ، ومحل قيامهم فی الأسحار لعبادة الحق.
وأعجب من ذلك قضية الوقوف على باب السرداب والهتاف باسمه ودعوته للخروج ، فان سامراء من مشاهير مدن العراق ، يقصدها كل يوم او كل شهر ، او كلّ عام ألوف من أهل الاقطار النائية من مختلف العناصر والمذاهب ، ومقام السرداب وبابه مفتوح لكل وارد انفتاح سائر المشاهد والمعابد ، فمن ذا الذی رأى الشيعة يقفون على بابه ويهتفون باسمه للخروج نعم السرداب مزار عند الشيعة ويقفون على بابه أىّ وقت شاؤوا لا يختص بمغرب ولاغيره ؛ ويسمّيه العوام او بعض الخواص ب- ( سرداب الغيبة) لان الامام غاب فى تلك الدار ، وهی التی ولد ونشأفيها ، ويقفون على الباب يستأذنون للدخول شأن الوقوف على الاماكن المقدّسة ، و يسألونه تعالى تعجيل الفرج برفع كابوس هذا الظلم عن العالم ، واقامة موازين القسط والعدل بظهور امام يملؤها قسطاً وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجوراً ، ولا يختص السرداب بهذا الدعاء بل يدعون به فی كل زمان وكل مكان وهذه احدى الافتراآت التی كانت الدعايات السوداء تنشرها عن الشيعة ، وكنّا نحسبها زالت او تزول فی هذا العصر الذی يسمّونه عصر النور - وهو أظلم العصور ظلماً وظلاما -كنا نحسبه عصر التمحيص وعصر الحقائق - واذاً الناس تلك الناس - والزمان ذلك الزمان ، وكل كتاب فجر الاسلام ، وكل كاتب أحمد أمين... ( فلا حول ولا قوة الا بالله العظيم ) .
ثم ذكرت أنّ المؤرخون السنّيون يَشِكّون كلّ الشك فی نسب عبيد الله المهدى - ( الفاطمى ). مع أن كثيراً من مؤرخى السنة يصححون نسب الفاطميين ، ومنهم
ص: 170
المقريزى على ما ذكر ، والظاهر ان محمّد بن اسماعيل هو محمّد المكتوم لامحمّد بن المكتوم ، أما ما نقلته عن المقريزى من أن أصل الدعوة الفاطمية مأخوذ عن القرامطة فان الحس والوجدان ، وسيرة الفاطميين أنفسهم تفند هذا الرأى وتزيفه ، فان القرامطة ملاحدة ، وقضيتهم فى مكة المشرفة وقلع الحجر ، وقول زعيمهم :
أنا بالله وبالله أنا *** يخلق الخلق وأفنيهم أنا
وقوله بعد أن قتل فی المسجد الحرام سبعين ألفامن الحجّاج :
ولو كان هذا البيت بيتا لربّنا *** لصبّ علينا من صواعقه صباً
الى آخر الأبيات ، فان كل ذلك معروف .
ص: 171
ص: 172
سألت عن الفاطميين وصلتهم مع القرامطة ، أقول : الفاطميون فيمكن أن يصحّ القول عنهم : أنه ما من دولة نشرت الثقافة الاسلامية وخدمت الاسلام عموماً ، ومصر خصوصاً مثل الدولة الفاطمية ، ولو لم يكن لهم من المآثر والمفاخر سوى الأزهر الخالد لكفی ، أمن الحق والانصاف أن يكون جزاء هؤلاء ازاء خدماتهم لمصر والاسلام انهم ملاحدة قرامطة مذهباً ؟ ويهود بالاصل نسباً ؟! الحكم فی ذلك لوجدانك النزيه ، وضميرك الحرّ ونعوذ بالله من العصبية التی تضع على الأبصار والبصائر كل غشاوة.
فمن عقائد الفاطميين قولهم بوصاية على بن ابيطالب علیه السلام ، وهی فكرة مأخوذة عن الشيعة الامامية. وهم الذين لقبّوا عليا بهذا اللقب فی حياته وان علياً لم يرض به كما لم يرض بغيره من الاقوال التی ذهبوا فيها الى تقديسه الى آخر ما ذكرت ، وهذه شنشنة قديمة أعرفها من اخواننا السنّيين ، ولااستطيع ان أثبت لك بهذه الفصاصة وصاية على علیه السلام من كتبهم لانه قد يستوعب مجلداً ، ولكن ليت شعرى أنظرت فی « أصل الشيعة وأصولها » ونسيتها او تناسيتها اولم تنظرها ؟ وعلى كل
ص: 173
فأنا أرشدك الى شاهد ثبت لعلك تقنع به ، وتعرف منه أن لقب الوصى لعلّى علیه السلام أشهر -كما يقولون - من الشمس فى رائعة النهار ، هو المسطور فی آخر مجلد من لسان العرب لابن منظور المصرى تحت مادّة «وصى» أنظر هناك واعجب (1) ثم ليت شعرى من اين ثبت عندك أن عليا علیه السلام لم يرض به فی حياته ؟
وهذا (نهج البلاغة) مشحون بما يدلّ على ذلك ، وغير النهج من خطبه وكتبه.
ص: 174
1 . سألت عن القول بعصمة الائمة عند الشيعة الامامية يحجب شيئا من الحرية الفكرية عندهم ، او يحول دون التمتع بها على الوجه الاكمل .
الجواب
أنى لااحسب ان طائفة من طوائف الاسلام تلتزم الحرية الفكرية وتطلق سراح العقل فی أوسع آفاقه كعلماء الطائفة الامامية ؛ والقول بالعصمة لا يضايق العقل عندهم ولا تقيّده بشیء من قيود ، وللعقل المقام الأعلى فی ادلة الاحكام ؛ واذا عارضه النقل فالمعول على العقل وكثيراً ما يأتى الحديث الذی هو فی أعلى مراتب الصحة عن الائمة المعصومين علیهم السلام -وهو ما يسمّونه بالصحيح الاعلائى - ويكون منافيا للعقل ، فان أمكن تأويله الى ما يوافق العقل أوّلوه ، والّا ضربوا به الجدار ، وتأدّباً يقولون نردّ علمه الى أهله ، ولا يعملون به .
2. وسألت ما هى أهمّ الفروق الواضحة بين الشيعة الامامية والشيعة الفاطمية الذين هم فرع من الامامية ؟ !
ص: 175
الجواب
ما قلته لبعض علماء الشيعة الاسماعيلية الذين هم الى اليوم فی الهند (بومباى) فانّهم بقية الفاطميين تحقيقا وأعنى بهم (البهرة) أتباع. «طاهر سيف الدين» لاأتباع «آغاخان» فانهم ملاحدة تحقيقاً : لاحج ، ولا صوم ، ولا صلاة ، بخلاف الاوّلين .
نعم قلت : نحن وأنتم سرنا فی طريق واحد وعند ما وصلنا منتصفة الطريق فارقتمونا وهكذا الحال فانهم يوافقوننا فی ستة من الائمة من على علیه السلام الى جعفر الصادق علیه السلام وينكرون الستّة الآخرين ؛ وللمقال هنا مجال واسع فی ذكر أصولهم وفروعهم ، وفى ذكر القاضى النعمان بن محمّد المصرى وغيره من افراد أسرته الجليلة الذين تولّوا القضاء للفاطميين أكثر من مأة سنة وكتابه الجليل (دعائم الاسلام) ولكن لاقوة تساعدنى على الافاضة فی ذلك ، فعذراً .
3. وسألت ما هى الصلة بين الشيعة الامامية ومنهم الفاطمية وبين المعتزلة التی هى من فرق السنة ؟ فقد وجدت الفريقين تتحدثان عن صفات الله ، وتخصّان صفة العدل من صفاته تعالى بالكلام .
الجواب
أن المعتزلة فرق كثيرة ، وقد انقرضت اليوم على الظاهر ، ومنها معتزلة الشيعة ، ومعتزلة السنّة ، ومعتزلة السنّة ايضا أنواع مفضّلة وغير مفضّلة ، والذی يجمعها عموما مع الشيعة عموما هو قولهم بأن من صفاته تعالى العدل الذی ينكره الاشاعرة . وعلى هذا تبتنى مسئلة الحسن والقبح العقليين التی تقول بها الامامية والمعتزلة ؛ وتنكرها الاشاعرة ايضا ، وبهذا الملاك يطلق على الفريقين اسم العدلية .
أما الكلام فهی مسئلة أخرى ، فان الاشاعرة قالوا بالكلام النفسى له تعالى ،
ص: 176
وأنه من صفاته الثبوتية ، وانكره العدلية بأجمعهم ، ومن هذه القضية تفرّعت المسألة المهمة التى أخذت دوراً واسعاً فی زمن المأمون والمعتصم ، والواثق بل والمتوكل ايضا ، وهى قضية خلق القرآن وهل هو حادث او قديم ؟ مخلوق او غير مخلوق ؟ وهی المحنة التی ضرب فى سبيلها الامام أحمد بن حنبل بالسياط ، وقد أشبعنا الكلام فی هذه المباحث فی الجزء الاول من كتاب (الدين والاسلام) ولامجال لتفصيل هذه المباحث العويصة فى هذا الكتاب الوجيز مع ما نحن فيه من العجز .
ص: 177
ص: 178
سألت - وفقك الله - عن الحديث الذی رواه البخاری ومسلم وأرباب السنن کالترمذی ، وابن داود ابن ماجه عن حذيفة أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أتى سباطة قوم فبال قائماً. وأن بعض أئمة المساجد لم تستطع أن تقنعه بأن هذا الحديث كذب. وتقول هل جاء نص بحرمته ؟ وطلبت منا الجواب.
فاعلم أننا وأكثر المذاهب الاسلامية على الظاهر نعتقد عصمة النبی صلی الله علیه و آله و سلم ولاشك أنّ العصمة فوق العدالة بمراتب والعدالة كما هو معروف ترك الكبائر و عدم الاصرار على الصغائر ، وعدم ارتكاب منافيات المروّة ، ويمثّلون منافيات المروة بمثل الأكل فى الطريق او المشى فيه عاريا مستور العورة ، فاذا كان مثل الاكل منافياً للمروّة ومسقطاً للعدالة ، فكيف لا يكون البول فی الطريق منافيا للمروة ومسقطاً للعدالة ؟ فهل يعقل أن يكون النبی صلی الله علیه و آله و سلم غير عادل ؟ مع أن الواجب عقلا أن يكون معصوما والعصمة فوق العدالة ، ومنافيات المروة لا يلزم أن تكون حراما حتى يقال هل أتى نص بحرمته ، وغير خفى على ذى لب أن مقام النبی الكريم الذى يقول فيه العظيم : ( وَ إِنَّكَ لَعَلىٰ خُلُقٍ
ص: 179
عَظِيمٍ ) (1) حتى فى احواله العادية فضلاً عمّا يعود الى عالم التشريع هو فوق مستوى البشرية فهو منزه فى كل أقواله وأفعاله بعيد عمّا يكون له أی مساس بحفظ الكرامة ، والصيانة والوقار ، والهيبة ولا ريب أن البول قياما ولاسيما أمام جماعة من الناس ممّا تتبوعنه الطباع وتشمئز منه النفوس ، ألا ترى ان العرب كانوا اذا أرادوا ذم الرجل ، وأنه جلف جافى لا يعقل شيئا يقولون : (أعرابی (2) بوّال على عقبيه) أى يبول قائما يترشح البول او يسيل على عقبيه كالبهائم. فاذا كان أحد أئمة المساجد الذى لم تستطع اقناعه بكذب الخبر يرضى أن يكون نبيّه بوالاً على عقبيه ، فنحن لا نرضى بذلك وننزّه مقام النبوّة ونقدّسه عن مثل هذا الرذائل. ومن الشائع المعروف عند الامامية أنه صلی الله علیه و آله و سلم ما رآه أحد على بول او غائط قط وان الارض تبتلع فضلاته .
وهذا أمر جلى واضح يدركه الذوق والوجدان وهو فی غنى عن الدليل والبرهان ، فان كل ذى شعور اذا وجد رجلا يبول فى الطريق قائما أو قاعداً يسقط من عينه ، ولا يبقی له أى كرامة فی المجتمع ، كمن يمشى عاريا فی المجامع ، ويستحق الذّم واللوم عند العقلاء وهو فی سائر الناس فما ظنك بالنبیّ والائمة سلام الله عليهم ؛ والعلماء الذين بهم الأسوة والقدوة ؟ !
هذا من طريق العقل والعرف والاعتبار ، أما لو اردنا سرد الاخبار الواردة فی كراهة البول قائما او فی الطريق ، واستحباب التباعد بالبول بحيث لايرى ، وأن يتوقى الترشح ونحوه فهو كثير لايسع المجال لاحصائه ، نعم لو رأينا النبی صلی الله علیه و آله و سلم بال قائما بأعيننا او ثبت ذلك بالتواتر وجب علينا تخريج وجه لصحة عمله ، وطلب وجوه التأويل هذا العمل المنكر عقلا وعرفا وشرعا ، فنقول ان مراده بیان الجواز ؛
ص: 180
ودفع توهّم الحرمة ، أو أن الضرورة وشدة الحصر دفعه الى ذلك لدفع الضرر ، كما ورد فی بعض الاخبار : «بل ولو على ظهر حمارك» أى اذا حصرك البول. وبالجملة اذا قطعنا بصدور العمل منه يلزمنا التأويل.
أما بمثل هذا الخبر الضعيف السند المضطرب المتن ، السخيف المعنى والمبنى فنضرب به الجدار ، ومن أصرّ عليه فلاذوق له ، وان أبیٰ فهو حمار ، وقد روى البخارى بنفسه ضد هذا الخبر سنده عن ابن طاووس عن ابن عباس : أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم مرّ على قبرين فسمع منهما أنينا فقال : ان صاحبيهما ليعذّبان وما يعذبان عن كبيرة ، أما أحدهما فكان لا يستتر ببوله وأما الاخر فيمشی بالنميمة .
وفی بعض الاخبار التی رواها فی بول النبی صلی الله علیه و آله و سلم أن حذيفة كان الىٰ جنب النبی صلی الله علیه و آله و سلم لما بال وهو قائم ، والقصارى ان هذا الخبر يشهد بكذبه العقل والعرف والذوق والاحاديث الكثيرة ، فان قنع صاحبك بهذا كله فالحمد لله على الوفاق ، والّا فانك لاتهدى من أحببت ولكن الله يهدی من يشاء.
ص: 181
ص: 182
سؤال:
ما المراد من الاسم او الاسماء الواردة فی أدعية متفرقة عن أهل الذكر عليهم السلام كما فى دعاء السحر «اللهم انی أسألك من أسمائك بأكبرها وكل أسمائك كبيرة» وكما فى غيره «وبأسمائك التى ملاءت أركان كل شیء» «وبأسمائك التی تجلّيت بها للكليم على الجبل» وأمثال ذلك وكالاسماء التى اشتقّها تعالى من أسمائه لبعض أوليائه كمحمد ؛ وعلى ؛ وفاطمة ؛ والحسن ، والحسين علیهم السلام مع أنه جل وعلا لم يجعل من أسمائه التی تسمّى بها محمّداً ، وفاطمة ، وحسين ؛ كما قد جعل عليا وحسنا منها ، وما المراد من الاشتقاق ؟
الجواب:
المراد من الاسماء فی تلك الادعية الشريفة المظاهر الآلهية التی يتجلّى بها جلّ شأنه لخاصّة أصفيائه فى أزمنه خاصة ، وأمكنة مقدسة فالاسماء التی تتجلى بها
ص: 183
للكليم هى الظهورات التى ظهر بها الجليل على جبل طور سيناء ، أى الانوار او النار التی ظهرت للكليم ( فَلَمّٰا أَتٰاهٰا نُودِيَ مِنْ شٰاطِئِ الْوٰادِ الْأَيْمَنِ فِی الْبُقْعَةِ الْمُبٰارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يٰا مُوسىٰ إِنِّی أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعٰالَمِينَ ) (1) وتوجد الاشارة الى كثير من هذه الظهورات فى دعاء السمات الذى يقرء عصر الجمعة وهو من الادعية الجليلة وهذه هی الاسماء التی ملاءت أركان كل شیء ، فان له تعالى فی كل ظهور .
وفی كل شیء له آية *** تدل على أنه واحد (2)
وأما اشتقاق أسماء بعض أوليائه من أسمائه ، فالمراد اشتقاقها من المصادر ، والمعانى الشريفة التى هى من أوصافه بالحق والاستحقاق ، وعلى الاطلاق كالحمد الذی اشتق منه محمّد صلی الله علیه و آله و سلم وكالعلو الذى اشتق منه على علیه السلام وكالحسن والاحسان الذى أشتق منه الحسن والحسين ، وهكذا ، والله وأوليائه أعلم بمرادهم .
وللاسم معان أخرى لا يتسع الوقت لبيان أعظمها ؛ العقل الاول فی لسان الحكماء ورحمته التی وسعت كل شیء فى لسان الشرع ، وهكذا والله العالم .
ص: 184
ما تقولون فی الحديث النبوی : علماء امتى كأنبياء بنی اسرائيل ؟ (1)
ما المراد بالعلماء أهم الائمة علىّ أميرالمؤمنين وأولاده علیهم السلام ؟ أم علماء الشيعة ؟! وما المراد بالانبياء أهم نوح ؛ وابراهيم ، وموسى ، وعيسى علیهم السلام ؟ أم سائر أنبياء بنی اسرائیل ؟
الجواب:
وجوه الشبه والمماثلة بين أنبياء بنى اسرائيل وعلماء هذه الأمّة كثيرة.
ص: 185
الاول : المشابهة عند الله سبحانه فی المنزلة والكرامة.
الثانی : أن بنى اسرائيل كان اكثر أنبيائهم يختلفون فی التكليف بالدعوة. فبعض طائفة وآخر يدعو بلداً ، وثالث يدعو قرية وهكذا وكذلك علماء هذه الامة.
الثالث : كما أن أكثر أنبياء بنى اسرائيل لم يكونوا أصحاب شرائع جديدة بل كانوا يدعون الى شريعة موسى، ويبلغون الى الناس أحكام (التوراة) فكذلك علماء هذه الامة يدعون الى شريعة خاتم الانبياء ويبلغون أحكام القرآن الكريم.
الرابع : كما أن أنبياء بنی اسرائيل كانوا فی الغالب تحت اسر البلاء والشدة والبلاء والمحنة من جبابرة زمانهم ، فكذلك العلماء الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ، الصالحون المصلحون ممتحنون مضطهدون.
الخامس : كما أن أنبياء بنى اسرائيل زاهدون فی الدنيا راغبون فی الاخرة ، حلماء حكماء فكذلك علماء هذه الامة ، ولعل هناك وجوها آخر يستخرجها الفطن اللبيب ، وعلى أی حال فالمراد من العلماء هم فقهاء الامامية وحملة آثار النبوة والامامة ، لاخصوص الائمة المعصومين سلام الله عليهم وان كانوا أظهر أفراد العلماء.
وباختلاف تلك الوجوه يختلف التعميم والتخصيص من حيث ارادة تمام انبياء بنی اسرائیل حتی موسی و عیسی علیهما السلام ، او من عدا اولى العزم منهم ، والله العالم .
ص: 186
قد يعترض على بيتين من قصيدة السيد حيدر الحلّى (1) وهی قوله كما يأتى أدناه متهجّماً على بنی أمية وآل سفيان ماسّاً فی عرضهم، يدّعى المعترض انّ هذا خطأ من السيد الحلّى لأنّ نساء بنی أمية وبناتهم عرض النبی حيث بنی أمية وبنی هاشم من أب واحد واخوان ، ومن يمس بعرض بنی امية ويقول فيهم الفحش قد مسّ النبی ، ولم يقنع من أن الاسلام فرّق بين المؤمن والكافر وبين الاخ واخيه والولد وأبيه الخ ...
الأبيات:
ودونكم والعار ضمّوا غشائه *** اليكم الى وجه من العار أسود
يرشح لكن لالشیء سوى الخنا *** وبعدكم فيما يروح ويغتدى
وتترف لكم للبغاء فتاتكم *** فيدنس منها فی الدجى كل فرقد
ص: 187
الجواب:
لا غرو أن يعترض أمثال هؤلاء الاغراروالناشئة الذين لاخبرة لهم بشیء من السير والتاريخ والامور الضرورية من أحوال الجاهلية والاسلام وان الذی ذكره علماء التاريخ من رجال السنة وشعرائهم وكتّابهم من فضائح بنی أمية ومخازيهم والقدم فی أعراضهم وبيان (عهر هم) وفجورهم أكثر مما ذكره علماء الشيعة وشعرائهم بكثير ، وقضايا هند أم معاوية زوجة ابى سفيان وفجورها قد نظّمه الشعراء فی زمن النبی صلی الله علیه و آله و سلم وأشهر من شهرها شاعر النبی حسان ثابت بقوله :
لمن الصبی بجانب البطحاء *** ملقی عليها غير ذی مهد
بخلت به هيفاء آنسة *** من عبد شمس صلة الخد
فی أشعار كثيره كلّها مخزية ، ومارواها الّا علماء السنة وشعرائهم ولماذا نذهب بعيداً الى ثلاثة او أربعة عشر قرنا وهذا الشاعر الفحل الذی لم يبعد عن عصرنا بقرن واحد وهو (عبد الباقی) وهو سنّى عمرى فاروقى يقول فی الباقيات الصالحات من جملة ابيات مشهورة :
واحربا یا آل حرب منكم *** یا آل حرب منكم واحربا
فيكم وعنكم وبكم ومنكم (1) *** مالو شرحناه فضحنا الكتبا
فرحمة الله على السيد حيدر فانّه أقصى ما صنع بشعره انه فضحهم ولكن العمرى فضح الكتب بفضايحهم ، وعلى أى فقل لذلك الجاهل المعترض ( بأنّ نساء بنی امية عرض النبی صلی الله علیه و آله و سلم ) ليتك أيها الغرّ قرأت كتاب ابن ابی الحدید او نهج البلاغة الذی طبع مئات المرّات، ليتك تقرء وتتدبّر ان أميّة وهاشم ليس ابوهما
ص: 188
واحداً ، فان امية ليس من صلب عبد شمس ولكنه لقيط أی : ابن زنا وولد فاحشة تبنّاه عبد شمس (1) ويشهد لهذا اقوى شهادة قول أميرالمؤمنين سلام الله عليه فی كتاب له ذكره السيد الرضى رضوان الله عليه فی محاسن كتب النهج جوابالكتاب من معاوية يقول فيه لاميرالمؤمنين علیه السلام : ألسنا نحن -اى بنی اميّة - وانتم -اى بنى هاشم - من شجرة واحدة او ما هو بهذا المضون فيقول له سلام الله عليه فی الجواب : نعم ولكن ليس المهاجر كالطليق ولا الصميم كاللصيق ، يعنى ان هاشما
ص: 189
الولد الصميم وامية الولد اللصيق ، قل لذلك الجاهل او كانت نساء اميّة عرض النبی صلی الله علیه و آله و سلم لنهی شاعره حسان عن التعرّض لها ، وما لنا نذهب بعيداً وهذا كتاب الله العظيم يقول لنبيّه نوح حين قال : ان ابنی من أهلی ، فنفاه تعالى عنه بقول : ( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلُ غَيْرُ صٰالِحٍ ) ؛ ولكن اكثر شبّان هذا الزمان يدخلون المدارس ويخرجون بعد ست سنوات او أكثر يحملون الشهادة او شهادة (الدكتوراه) ولا يحفظون آية واحدة من كتاب الله العظيم حتى ولافاتحة الكتاب ، لان الشيطان والتمدن الغربی بحمد الله قد اسقط عنهم كل تكليف وكل أدب اسلامی.
اما معاوية فلى فيه رأی خاص لعلى قد انفردت به - على الظاهر - وهو ان هنداً حملت به من... (1) ولا أدرى أكان ذلك فی الجاهلية او الاسلام ولكنه... ولى على ذلك شواهد كثيرة لامجال لذكرها فی هذه اللمحة العابرة ولو وجدت متسعاً فی الوقت ومهلة من الاشغال وفترة من الاسقام لشرحت لك قدراً وافيا من فضايح بنی امية ومخازيهم ما يصدّق قولا الفاروقى : (ما لو شرحناه فضحنا الكتبا) ولعرفت القائل فی صحيفته السوداء من المتعصبين لهذه الشجرة الملعونة فی القرآن والقرود التی رآها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم تنزوه على منبره ، نعم لو فسح لى المجال لعرفته ضلالته بقوله : الاسلام بلغ ذروته فى أيام بنی امية وأريته بالعيان والوجدان فضلا عن الدليل والبرهان ان الاسلام ما ضربه أحد الضربة القاضية سوى بنی أمية وكل الحروب والرايات التی قامت بضد الاسلام مارفعها سوى ابی سفیان وقومه قبل الاسلام وبعد وسواء كان امية من العرب او من غيرهم ، فلقد سوّدوا وجه العرب بشنائعهم ومخازيهم فی الجاهلية و أول الاسلام كما سوّد ملك العرب اليوم جبين العروبة الأغرّ بخيانتهم فی قضية فلسطين ولله امر هو بالغه ، ولا حول ولا قوة إلّا به .
ص: 190
سمعنا أن أهل البيت علیهم السلام قالوا : من رآنا فقد رآنا فهل هذا صحيح ؟ وكيف يتّفق مع انكار العلم الحديث صحّة الحديث ؟
الجواب:
اما صحّة الحديث فهو من الشهرة والاستفاضة بمكان وقد اتفق على روايته فی الجملة رواة العامة والخاصة ، وهو وان وقع الاختلاف فی الفاظه وتراكيبه ولكن القدر المشترك منه وهو : عن النبی صلی الله علیه و آله و سلم من رآنی فقدرآنی فانّ الشيطان لا يتمثل بصورتى (1) مستفيض ، وقد رواه الصدوق رحمه الله فى الامالى والعيون، وتعرّض ابو الفتح الكراجكی رحمه الله لهذا الحديث فى كنزه (2) ونقل عن شيخه المفيد رضوان الله عليه
ص: 191
كلاماً عاليا فی شرحه و وجوهه .
اما صحّة الاحلام فى الجملة واصابة كثير منها للواقع فأمر لايقبل الانكار ويشهد به الوجدان قبل الشريعة والقرآن واتفقت عليه حكماء الهند واليونان ، اما علماء الغرب واهل العلم الحديث فلا احسبهم متفقين على انكاره ، وان وجد فيهم من ينكره فهم الماديّون المنكرون للارواح المجردة والجواهر المفارقة ، اما المثبتون للارواح والذاهبون الى صحة التنويم المغناطيسی واستحضار ارواح الاموات والاحياء فهو محقق عندهم وبالجملة فصحة بعض الاحلام مما لايرتاب فيها ذو والاحلام .
ص: 192
سؤال:
حول عصیان آدم ابوالبشر لربّه فى أكل الشجرة الّتی نهاه عنها ، فكيف يجوز ذلك إلى الانبياء ؟
الجواب:
فهى مسألة جدا بسيطة ، فانها فرع من اصل ؛ وينبغى البحث والنظر فی ذلك الأصل فان كان محققاً كان ترتب الفرع عليه ضروريا والافلا، اما الاصل فهو قضية عصمة الأنبياء ، فان قامت الادلة العقلية القاطعة على لزوم عصمتهم فلا محيص من تأويل كل ما ورد فى النقل مما هو بظاهره معارض لحكم العقل ، اذ الدليل النقلى يقبل التأويل مهما كان قوى الظهور بخلاف الدليل العقلى ، أما حكم العقل بوجوب عصمة الانبياء فى الجملة مما لاريب فيه (1) والا لانتقض الغرض من
ص: 193
بعثتهم ولكن شمول الادلة لاثبات العصمة حتى لآدم الذی هو بدء الخليقة واول التكوين ولم تكن هناك أمة أرسل الى هدايتها وارشادها ولا دعوة قام باعباءها ، نعم شمول الادلة لوجوب عصمة مثله مشكل ، وشمول العصمة حتى لمثل هذا الذنب اشكل وصدور المعصية منه بمعناها الحقيقی لا يمنع منه العقل ويشهد به النقل ، ولكن علمائنا الاساطين ولاسيما السيد المرتضى والمفيد رضوان الله عليهم أبوا الّا تنزيهه عن المعصية كتنزيه سائر الانبياء حتى الصغار منهم وتأويل كل ما ورد فی الكتاب الكريم مما هو كالنص فی صدورها منه مثل قوله تعالى : وعصى آدم ربه فغوى (1) ونظائرها كثيرة .
نعم كافة الامامية نزّهوا آدم عن المعصية ولعلّهم ارادوا أن يكونوا لأبيهم ابناء بررة ، ولا يعقّونه كما عقّه سائر المسلمين بل وغيرهم بل أفرط بعض الفلاسفة الأدباء من حكماء الاسلام حتى الى أعباء مسئولية جميع ابنائه عليه ، فهذا الفيلسوف ابن شبل البغدادی (2) فی قصيدته الكونية المشهورة التی يقول فی أولها :
بربك أيها الفلك المدار *** أقصد ذا المسير أم اضطرار
ص: 194
فان يك آدم أشقی بنيه *** بأمر ماله منه اعتذار
ولم ينفعه بالاسماء علم *** ولا نفع السجود ولا الحوار
فيالك أكلة مازال منها *** علينا نقمة وعليه عار
وزاد فيلسوف المعرّة (1) على ذلك فی عدة مقاطيع من لزومياته بمثل قوله مخاطبا بنی آدم :
أكان ابوكم آدم بالذی أتى *** نجيبا فترجون النجابة للنسل
ولكن تلطف المتنبی (2) وابدع فی تقريع أبيه أبى البشر ونبزه بالمعصية حيث يقول على لسان حصانه .
اوكم آدم سن المعاصی *** وعلّمكم مفارقة الجنان
نعم والتأويل فى قضية عصمة الانبياء لابد منه فی القرآن ولا محیص عنه والآيات الظاهرة فى ارتكاب الانبياء للمعصية كثيرة سيّما فی حق نبينا سيّد الانبياء صلوات الله عليه و آله مثل :
ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخّر ، وللجميع وجوه من التأويل معقولة ومقبولة .
ص: 195
ص: 196
هل وجد المسلمون ثمرة للخلاف ؟ وماهی الأسباب التی دعتهم الى ذلك ؟
الجواب:
اعلموا أولا أن الاختلاف ليس ضرورياً فی البشر فقط بل هو ضروری فی طبيعة هذا الكون ايضا ، أعنى عالم الكون والفساد. ليل ونهار وظلم وأنوار ، حرّ وبرد ، وصيف وشتاء ، وغيم وصحو ، وهلمّ جرّاً واختلاف الآراء من أدقّ نواميس الكون وأقوى قاعدة لحفظ نظام العالم ، ولا يزالون مختلفين، والواحدة التی ندب اليها القرآن الكريم ليست هی الوحدة فى الآراء والمذاهب ، فذلك مستحيل بحسب طبيعة البشر ومعطل لأكبر المواهب وأى موهبة أشرف من موهبة حرية الآراء وعدم الحجر على العقول واخماد جذوة الذكاء والفهم والبحث والتنقيب ، انما المراد بالوحدة المندوب اليها فی القرآن العزيز والتی هی احدى دعامتی الاسلام-الوحدة والتوحيد - هی الوحدة الاخلاقية ، الوحدة الايمانية ، وحدة الاخاء المودّة.
وذلك بأن لا يكون اختلاف المذاهب والآراء سببا للتباغض والتقاطع والجفاء
ص: 197
والعداء بل يأخذوا بالمثل الأعلى والقدوة الحسنة من خيار الصحابة فی صدر الاسلام، فقد كانوا على كثرة ما بينهم من الاختلاف فى القضايا الفرعية والمسائل العلمية على أقصى ما يرام من الاخاء والصفاء، ودفاع بعضهم عن بعض وحماية بعضهم لبعض ما يرام من الاخاء والصفاء ، ودفاع بعضهم عن بعض وحماية بعضهم لبعض كأن الاسلام جسد وهم أعضاء ذلك الجسد تجمعهم روح واحدة روح المبدء المقدس وتحية كل عزيز فى سبيله ، اما من هو المسئول عن ادارة الشئون الاخلاقية فی الاوساط الاسلامية ، فالجواب الصحيح عن ذلك. كلكم راع وكلكم مسئول . كلّ على حسب شأنه وبمقدار قابليته وكلّ ذى شعور هو أعرف بنفسه وبقدر ما فی وسعه ، والحقيقة ان الجميع مكلف. والكل مقصر يتطلب لنفسه العلل والمعاذير والحقائق لا تخفى والمعاذير لا تنفع ، يوم تبلى السرائر فماله من قوة ولا ناصر .
ص: 198
ما تقول فی سبب ظهور المبطلين على المحقّين ؟ وما سرّ غلبة روح الشرّيرين على الخيّرين ؟ مع علمك بأن الناموس الطبيعی ينادى بلسان فصيح: ( الا ان حزب الله هم الغالبون ) ، فنرجو من حضرتكم أن تبيّنوه لنا بصورة فنّية فلسفية تحليلية.
الجواب:
لاشك ان مرادكم السؤال عن سبب الظهور فى الدنيا وغلبتهم فی هذه العاجلة ، وحينئذ فلا أجيبكم عن ذلك بما ربما يجيب به الزاهدون المتقشّفون انّ سبب ذلك هو احتقار الدنيا عند الله جل شأنه، وانه لو كان لها من القدر عندالله جناح بعوضة لما سقى الكافر منها قطرة من الماء كلّا لا أجيب بهذا الجواب الذی لعلّه لايوافق ذوق هذا العصر وروح هذا النشأ الجديد ؛ بل ربما لا يوافق ذوقى وذوق امثالى من الروحانيين المشذبين الذين يرون أن الدنيا مهما زادت حقارتها وخسّتها ، وقصرت أو طالت مدّتها فهى مزرعة الآخرة ، وبها تحصل السعادة والشقاوة ، وهی نعم دار المتّقين وان دين الاسلام متكفل بالسعادتين ، وان السعيد حقيقة من فاز بنعيم الدنيا
ص: 199
والاخرة وأخذ حظّاً من هذه وحظاً من هذه كما صرّحت به جمهرة من الاخبار وأشارت اليه نبذة من الآيات .
انما الجواب الفلسفى التحليلى فى سبب غلبة المبطلين على المحقّين هو أن اهل الحق مقيّدون بقيود العقل والدين فلا يتوصلون الى مقاصدهم الا على ضوء الفضيلة وفی مناهج الشرع والعقل.
( وقد يرى الحول القلب وجه الحيلة ودونها حاجز من تقوى الله فيدعها رأى العين وينتهزها من لاحريجة له فی الدين ) (1) مثلا ان معاوية لا يتأخر ولا يتوقف من اعطاء خراج مصر كله لعمرو بن العاص وكان خراجها يومئذ والى اليوم يعدّ بالملايين يعطيه لشخص فاسق (2) ليعينه على أمر باطل وهو محاربة امير المؤمنين علیه السلام فی حين ان امير المؤمنين علیه السلام لايسمح لأخيه عقيل وهو سيّد شريف (3) ولاشك ان نعله أشرف من عمرو بن العاص ، لا يسمح له بزيادة دريهمات على راتبه الذی هو در همان فی كل يوم مع كثرة عياله وأطفاله.
نعم سمح له بالحديدة المحماة ، والناس كما تعلم وكما قال سيد اهل الاباء وامام الشهداء علیهم السلام : الناس عبيد الدنيا والدين لعق على السنتهم الخ، وسئل الخليل بن
ص: 200
أحمد (1) لماذا مال اناس عن على علیه السلام الى غيره مع عظيم فضائله وشهرة مناقبه ؟ فقال: قهر نوره نورهم وغلب جمهوره جمهورهم والناس الى امثالهم أميل .
وهناك سرّ آخر لغلبة الاشرار والفجار على خصوص الانبياء والاوصياء ؛ وهو ما بسط القول فيه بأحسن بيان نائب الحجة الخاص الحسين بن روح رضوان الله عليه فی جواب من سأله ان الحسين عليه السلام ولى الله ؟
قال : نعم ، فقال الشمر عدو الله ؟ قال نعم فقال : كيف يسلط الله عدوّه على وليّه ؟ فأجابه بجواب طويل شاف ملخصه : ان الله لمّا أيد أنبياء بالمعجزات وخوارق العادات فلو جعلهم فی كل أحوالهم غالبين وقاهرين لاتخذتهم الناس أربابا من دون الله ، ولكن جعلهم تارة قاهرين ، وأخرى مقهورين ، ومرّة غالبين ومرّة مغلوبين ليعلم الناس أنهم بشر أمثالهم وعباد مكرمون لايسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون انتهى.
اما قوله تعالى: ( فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغٰالِبُونَ ) (2) وأمثاله نظير قوله تعالى: ( وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) (3) وأمثال : «الحقّ يعلو ولا يعلى عليه» فقد ورد تفسيرها فی بعض الاخبار أن المراد الغلبة بالحجة والبيان والدليل والبرهان لا أنّ المراد الغلبة بالملك والسلطان والسيف والسنان ، ويمكن أن يكون المراد الغلبة فى الدار الاخرى دار القرار ومنزل الخلود والابدية ، فان هذه الدنيا على سعة مدتها وطول امتدادها ليست بالنسبة الى وعاء الدهر والسّرمد وحقيبة
ص: 201
أحقاب الازلية والابدية الاكغمضة عين او كلمح بالبصر ، فما شأن الغلبة فيها مع المغلوبية هناك .
لا وأيم الله وكلّا ، بل ان حزب الله هم الغالبون حتى فی هذه الدنيا مثلا انّ يزيد وابن زياد قتلوا الحسين علیه السلام وأصحابه وغلبوهم ولكن الغالب فی الحقيقة والواقع هو المغلوب والقاتل هو المقتول ، فان يزيد قتل الحسين علیه السلام فی جسده وفرّق بين بدنه ورأسه ؛ ولكن الحسين علیه السلام قتل يزيد فى روحه وفرق بين الشرف واسمه وقرن اللعنة به ، فاصبح الحسين علیه السلام واهل بيته وأصحابه تمثال الشرف ورمز الكرامة وعنوان الفخر فی الدنيا فضلا عن الآخرة ، واصبح يزيد وبنوامية مجسمة الخبث واللعنة والسفالة والنذالة والسقوط والخسّة فى الدنيا مع قطع النظر عن الدار الاخرة، فبالله عليك ايها الفطن اللبيت أىّ الرجلين هو الغالب وأيهما المغلوب ، فارجع واتل بحق واذعان ويقين وايمان : ألا ان حزب الله هم الغالبون ، ولا يسع المقام لأكثر من هذا.
ص: 202
انّ رسول الله علیه السلام قبل بعثته بالرسالة والنبوّة - أىّ دين -كان يعتنق ، واذا يوجد حال استثنائى فى قواعد البشرية للنبی صلى الله عليه و آله و سلم ما هو ؟
لأنّ عادة البشر يلزم أن يكون متديّناً بدين (1) والعوام مقلّد . فعليه ، النبی صلى الله عليه و آله و سلم قبل ان يبعث بالرسالة كان على أى طريقة ؟
الجواب:
أولاً : ان الدِّين عبارة عن وظائف روحیه و وظائف جسديه یعنی اعمال للقلب واعمال للقالب ، فاعمال القلب و وظائفه هو الاعتقادات وبعبارة أخرى أصول الدين كالتوحيد والنبوّة والمعاد بما فيه من الحساب والثواب والعقاب والصراط والميزان وغير ذلك وهى اصول الاسلام التی لا خلاف فيها بين جميع فرق المسلمين ، ثم العدل والامامة التى هو من مختصّات العدلية كالامامية وكثير من
ص: 203
فرق المعتزلة وتلك هى التى لا تتغيّر ولا تتبدّل وبها بعثت جميع الكتب والرسل لا تختلف بها شريعة ولا أحرى دين عن دين وهى عقلية استقل العقل بأمهاتها وأيده الشرع واستقل ببعض فرعياتها .
وبينا «محمّد» صلى الله عليه و آله و سلم بل وسائر الأنبياء كلهم على هذه العقيدة منذ ولدبل وقبل أن يولدوا فالسؤال هنا لا محل له.
واما الفروع وهى الاحكام التی تتعلق بالعمل فهی التی يمكن ان تختلف باختلاف الشرائع والملل حسب اختلاف الظروف والملابسات الزمنية والمكانية، والامكانات الذاتيّة او الفرضية ولكن فيها جملة احكام اتفقت عليها ايضاً جميع الأديان وهى الوصايا العشر التی جاء بها موسى وتبعه عيسى علیه السلام فی خطبته على الجبل والأصل فيها صحف ابراهيم علیه السلام وملّته التی هی أم الشرائع والاديان واضحة مشهورة هی : لا تقتل. لا تشرب. لا تسكر. لا تزنی. لا تعق أبويك. لا تسرق. الى آخرها .
ثم جاء الاسلام فأكدّها وشدّدها وزادها كثيراً ، وملّة ابراهيم هی البذرة الأولى للأديان وفيها عدا تلك الوصايا العشر التی أخذتها الأديان الثلاثة أصول وأحكام أخرى كالحج بما فيه من طواف وسعى وغيرها والختان وغسل الجنابة وسنن وواجبات ومستحبات كالسّواك ، وقصّ الشارب (1) والأظفار وأمثالها ممّا جاء فی الاسلام مما زاد فيه بعض الشروط والكيفيات ولعل اكثرها كان فی شريعة موسى علیه السلام .
واما الزعامة الدينية من بنى اسرائيل فغيّروا وبدّلوا كما غيّرت المسيحية أحكام
ص: 204
التورات فانّ أناجيل النصارى تنصّ ان عيسى علیه السلام يقول :
تزول السماوات والارض ولا يزول حرف من الناموس ولا يتبدل حكم من احکامه. مع انهم قد بدلوا السبت الى الاحد والختان الى التعميد ، وتعدد الزوجات الى زوجة واحدة الى كثير من امثال ذلك . (1)
والغرض : ان أصل الشرائع هى ملة ابراهيم وآيات القرآن تنصّ على انّ النبیّ صلى الله عليه و آله و سلم كان متّبعاً وعاملاً بها مثل قوله تعالى : وأوحينا اليك۟ ان اتبع ملة ابراهيم -ملة ابيكم ابراهيم هو سماكم المسلمين -(2) ومن يرغب عن ملة ابراهيم الا من سفه نفسه - الى كثير من أمثال ذلك.
ولا ينافيه ان شريعة عيسى علیه السلام هی الشريعة الأخيرة وان شريعته عامّة لانه من أولى العزم (3) لما عرفت من ان الصحيح والصميم من شريعة عيسى و موسى علیه السلام
ص: 205
هو ما وافى شريعة ابراهيم عدا بعض الاضافات والملابسات التی اقتضتها الظروف الزمنية والامكانات المكانية مما لا تقدح فی الجوهر .
واما اليهودية والنصرانية التی كانت فی زمن النبی صلى الله عليه و آله و سلم والى اليوم فهی ممسوخة مسخاً كلّياً والتوراة والانجيل محرّفات تحريفاً جلياً فويل للذين يكتبون الكتاب بايديهم ثم يقولون هذا من عند الله ، وقد دللنا واثبتنا فی مؤلفاتنا ك- «الدين والاسلام» و«التوضيح» وغيرهما فضايح هذه الكتب ومخازيها التی منها : ان لوط شرب الخمر وسكر وزنى ببناته -معاذ الله تعالى .
(القصارى) ان القرآن ينصّ على ان رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم كان قبل بعثته متّبعاً لملّة أبيه (1) ابراهيم علیه السلام بل ولا يبعد أنّ آبائه الاطهار كهاشم وعبدالمطلب وعبد الله ايضاً على هذه الشريعة ماسجدوا لصنم قط ولا عبدوا غير الله تعالى.
«ولكن التحقيق العميق» والفكرة الدقيقة تقضى بانه سلام الله عليه وآله من أول نشأته بل وقبل بلوغه فضلا عمّا قبل بعثته ما عمل الّا بشريعته (2) وهی شريعة الاسلام وكان يعلم بها بالالهام بل وبالوحى الخاص ولا ينافيه قوله تعالى : (أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرٰاهِيمَ ) (3) فان ملته ملة ابراهيم فی مرتبتها الكاملة ومقامها الشامخ. والغرض من هذه الآيات الشريفة الردّ على اليهود والنصارى
ص: 206
الذين كانوا يقولون للعرب : ( وَقٰالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصٰارىٰ تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرٰاهِيمَ حَنِيفاً وَ مٰا كٰانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) . (1)
واذا كان محمّد صلى الله عليه و آله و سلم أكمل الأنبياء وأفضلهم وشريعته أكمل الشرائع ، فيستحيل ان يتدين الاكمل بغير الأكمل ، ويترجح الفضول على الأفضل ولاغرابة فی كونه عالماً وهو صبیٌّ بجميع نواميس الشريعة الاسلامية وقوانينها ، فاذا تكلم عیسی علیه السلام بالمهد صبيّاً وتكلّم رأس يحيى علیه السلام فى طشت من ذهب ، وتكلم رأس الحسين علیه السلام على الرمح .
ولبس محمّد الجواد علیه السلام خلعة الامامة وهو ابن سبع سنوات، والتحف بها الحجّة عجّل الله تعالى فرجه وهو ابن خمس سنين ، وظهرت فی قضية الهميان وغيره له تلك الكرامات الباهرة ، فلم لا يكون لسيّدهم وسيد الكائنات ما هو أعظم من ذلك ؟
نعم كان يعمل بشريعته قبل بعثته غايته انه لم يكن مأموراً بدعوة الخلق اليها الا بعد بلوغ الأربعين ولنا هنا تحقيقات أنيقة وأسرار من المعارف رشيقة ولكن لا مجال لذكرها هنا ولله المنّة نستمد التوفيق .
ص: 207
ص: 208
ماهی فائدة وفلسفة وميّزة نبيّنا الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم عن أنبياء أولى العزم بمعراجه الى السماء وكيفية المعراج .
الجواب:
أنّ كيفية معراج النبی صلى الله عليه و آله و سلم الى السماء وفلسفة ميّزته على سائر الأنبياء لو أردنا ايضاحها على نحو البسط والتحقيق - احتجنا الى تأليف رسالة او كتاب ، ولو ألّفنا تلك الرسالة لاأحسبها تكون فى متناول أفهامكم ولعل من العبث او المرجوح خوضكم فی مثل هذه النظريات العويصة التى هى مزالق أذهان الحكماء ، فكيف بغيرهم ولماذا يتكلف الانسان ما لم يكلف الله به ولايسأله يوم القيامة عنه ولا يحاسب عليه ، والذى أراه خيراً لكم أن تأخذوا احدى الرسائل العملية الفقهية كوجيزة الاحكام أو غيرها، وتحفظون بها مسائل دينكم من أحكام الصلاة والغسل والوضوء واحكام البيع والشراء ، وسائر أبواب المعاملات كالاجارة ونحوها.
ولیت شعری هل فرغتم من كل احكام تلك التكاليف حتى عرجتم الى كيفية
ص: 209
المعراج ؟ وتلك الاحكام والوظائف هى التى يسأل عنها العبد يوم القيامة ، ويعاقب أشد العقاب على ترك تعلّمها والتسامح بها .
واما مسائل المعراج ونحوها من الجسمانی أو الروحانی فلاتزيد العامّة من الناس الّا حيرة وارتباكاً ، وقد سكت الله تعالى عن أشياء لم يسكت عنها عجزاً أو بخلاً ولكن سكت عنها رحمة بعباده ولطفاً.
( يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ٭ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمٰالَكُمْ ) الى آخرها = وفقكم الله .
ص: 210
طالعت فی بعض الكتب العلمية حديثاً منسوباً للنبی صلى الله عليه و آله و سلم وهو ( اختلاف امتى رحمة) فهل هذا من الاحاديث المأثورة؟ واذا كان صحيحاً هل تفسّروه لنا وتفيدوننا عن سببه ؟؟
الجواب
نعم هو شائع فى كتب الشيعة والسنة عدا الصحاح ، فانه لم يذكر فيها وقد ذكره المناوى فى « كنوز الحقائق » فی حديث خير الخلائق. والسيوطی فی « الجامع الصغير » الحديث الثمانون بعد المأتين ورواه الشعرانی فی « الميزان الكبرى » هكذا عن النبی صلى الله عليه و آله و سلم [ جعل اختلاف امتى رحمة وكان فيما قبلها عذاباً ] اما فی كتب الشيعة فلعل اول من ذكره الصدوق فی كتاب « معانى الاخبار » ، حيث روى بسنده عن الصادق علیه السلام قال قلت لابی عبد الله ان قوماً رووا ان رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم قال « ان اختلاف امتى رحمة » فقال صدقوا . قلت : ان كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب قال ليس حيث ذهبت وذهبوا أفما اراد قول الله عز وجل ( فَلَوْ لٰا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ
ص: 211
مِنْهُمْ طٰائِقَةُ لِيَتَفَقَّهُوا فِی الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) فامرهم ان ينفروا الى رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فيختلفوا اليه فيتعلّموا ثم يرجعوا الى قومهم فيعلّموهم، انما اراد اختلافهم فی البلدان لا اختلافاً فی دين الله انما الدين واحد : انتهى .
وبهذا الحديث ظهر احد المعانى المحتملة فی الحديث. ويحتمل فيه معنى آخر ولعله أظهر وهو ان المراد الاختلاف فی الفروع اى فی الفتاوى الاجتهادية ، فان الحكم الواقعى وان كان واحداً ولكن اختلاف المجتهدين فى تعيينه هو رحمة للعباد مثل الماء الذی يغسل به الثوب المتنجّس مع خلوّه من عين النجاسة قيل : انه نجس وقيل: انه طاهر فمن يريد الورع والاحتياط يأخذ بقول النجاسة ويجتنبه ومن يريد السعة والتيسير يأخذ بقول الطهارة فيستعمل وهكذا قضية طهارة اهل الكتاب ونجاستهم -قول بطهارتهم مطلقاً ، وقول بنجاستهم كذلك ، وقول ثالث بالتفصيل ، بين حال الضرورة وفى حال عدم العلم بمباشرتهم للخمر والخنزير وامثالها من النجاسات فيجوز مساورتهم وفى حال عدم الضرورة او الاطلاع على مباشرة نجس فلايجوز.
والحاصل لاريب ان اختلاف الفقهاء فی الفتاوى رحمة وتوسعة على العباد واليه الاشارة فی حديث آخر رواه الصدوق رحمه الله ايضاً فى كتاب (معانی الاخبار) قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم ما وجدتم فى كتاب الله عزوجل فالعمل به لا عذر لكم فی ترك سنتی و ما لم يكن سنة منّى فما قال اصحابی فقولوا به فانما مثل اصحابی فيكم كمثل النجوم بأيّها أخذ أهتدى وبأى أقاويل أصحابی اخذتم اهتديتم واختلاف اصحابی لكم رحمة فقيل يا رسول الله : ومن اصحابك ؟ قال : اهل بيتی علیهم السلام ، ثم قال مؤلف الكتاب : ان اهل البيت لا يختلفون ويفتون الشيعة بحرّ الحق وربّما أفتوهم بالتّقية فما يختلف من قولهم فهو للتقية والتقية رحمة للشيعة : (1) انتهى .
ص: 212
هل ديوان الشعر الموسوم (بديوان الامام على علیه السلام) هوله أو منسوب له ؟ وهل كان ينظّم الامام علیه السلام ؟ وهل نظّم النبی صلى الله عليه و آله و سلم او كان يستشهد او كان يستشهد به فقط ؟؟
الجواب
هذا الديوان على التحقيق ليس كلّه للامام على علیه السلام بل اكثره لغیره من أبى الأسود الدئلى وابی العتاهية والسيد الحميرى وامثالهم وربما يوجد فيه شیء قليل لأميرالمؤمنين علیه السلام واصل هذا الديوان قد جمعه قطب الدين الكيدری من اهالى أواخر القرن السادس الهجرى تلميذ الطبرسی رحمه الله صاحب « مجمع البيان » المطبوع بالعرفان وسمّى الديوان الذی جمعه من متفرق الكتب « انوار العقول من اشعار وصى الرسول » وذكر الكتب التی نقل عنها ولكن حذفوا الاسانيد فی هذا الديوان المطبوع.
والخلاصة : ان امير المؤمنين سلام الله عليه لاشك انه نظّم الشعر وانما الكلام فی
ص: 213
مقداره مقلّ او مكثر فبين من يقول جميع الديوان له وبين من يقول لم ينظّم مدة عمره سوى بيتين قال فى القاموس فى مادة « ودق » ذات ودقين الداهية واستشهد بقول على علیه السلام .
تلكم قريش تمنّانى لتقتلنى... الخ. ثم نقل عن المازنی انه لم يثبت عن على علیه السلام انه نظّم من الشعر سوى هذين البيتين وصوّبه الزمخشری . اما النبی علیه السلام فنص القرآن الكريم انه بعيد عن الشعر ( وَ مٰا عَلَّمْنٰاهُ الشِّعْرَ وَ مٰا يَنْبَغِی لَهُ ) (1) وذلك مصلحة -معلومة فى الدعوة النبوّة وان نسب اليه بعض الابيات الرجزية مثل قوله :
انا النبی لاكذب *** انا بن عبدالمطلب
وقوله :
ان انت الا اصبع دميت *** وفى سبيل الله مالقيت
ويعتذرون بان لم يقله بقصد الشعراى صدرا عفواً كکلام فاتفق انه صدر موزوناً كما فی القرآن العظيم كثير من هذا القبيل - ان جميع البحور موجودة فی القرآن .
ص: 214
الاول : السؤال عن وجه الحكمة فى اختصاص بعض الامم والبلدان ببعض الانبياء الذين دعوتهم (عند كافة اهل الاديان) عامة لجميع البشر ، فبماذا خصّ العرب بخاتم الانبياء صلی الله علیه و آله و سلم واليهود بالمسيح علیه السلام وبنى اسرائيل بالكليم علیه السلام وحرم منهم الهند والفرس والصين وامثالهم من الامم ذات الحول والطول والكثرة والقوّة ، فكان الواجب على الله سبحانه من باب اللطف لا يخلى بقعة من الارض الا وبعث فی اهلها رسولا اقول : ان لسئوالك جوابين اجمالی اقناعی و آخر تفصیلی...
امّا الاول : فلا يخلو اما ان يكون بين السايل والمجيب اصول موضوعية ومبادى مسلمة ام لا وأعنى بتلك المبادىء اعتراف الطرفين بان للكائنات صانعاً حكيما واجب الوجود وانه ارسل اولئك الرسل المدعين للنبوة المؤيدين بالمعجزة وانهم رسل حق من ذلك الصانع الحكيم ، فان لم تكن هذه المبادى مسلمة لزم النظر فيها اولا والبحث فی وجه الاختصاص والسؤال عن الحكمة فيه لا وجه له بل لا مجال له قبل تلك المبادى .
واما بعد اثباتها او بعد تسالمها عليها فايضاً لاوجه ولا مجال له اذ بعد الاعتراف
ص: 215
بحكمته وسعة علمه وانه هكذا صنع فلابد من الالتزام بثبوت حكمته هناك وان كانت مجهولة لنا ولا اجد من الخلايق مهما كانوا من القرب والزلفی عند الله عزّ شانه من ملائكته وانبيائه يقدر ان يدّعى لنفسه العلم بجميع الحكم والاسرار الالهية « سبحانك لا علم لنا » « قل لا يعلم من فى السماوات والارض الغيب الا الله » « قال انما العلم عند الله » الى كثير من امثالها ممّا هو صريح فى نفى العلم المطلق عن كل احد وحصره بالواحد الاحد وعلى اىّ حال ، فالسؤال ساقط على كلا الفرضين غاية الأمرانّه على تقدير التسالم على المبادى او اثباتها جديداً يلزمنا الاقرار بحكمته هناك ولا يلزمنا البحث عنها بل ربما يكون البحث عنها من قبيل - لا تطلب ما لا يعنيك فيفوتك ما يعنيك - وكفى به ضرراً وشرّا وهذا الجواب وان كان اجماليا ولكنه جواب سیّال نافع فی كثير من تلك الاسألة التی لا يكون الجهل بها فحلا بشرط من شروط الايمان والاسلام ولا نحن بمسئولين عنها يوم الدينونة .
و اما الثانی : فالنبی الذی اختاره الله سبحانه لسفارته السابق علمه به « الله اعلم حيث يجعل رسالته » اذا كانت نبوته بامر الله عامة ودعوته لكل البشر شاملة يلزم كما ذكرت من باب اللطف واتمام الحجة بلوغ الدعوة مقرونة بالحجة والبرهان الى جميع من على وجه البسيطة من الشعوب والعناصر المستعدّين للتكليف لاالقاصرين والمستضعفين الذينهم بالبهايم لااقرب شبهاً منهم بالانسان كزنوج افريقيا المتوحشة العرات كالحيوانات و هنود امريكا قبل الاكتشاف فاللازم بلوغ الدعوة لاخصوص صاحب الدعوة و وصوله الى كل مكان وانسان وعلى النحو المتعارف فی التبليغ لاعلى سبيل خرق العادة والاعجاز - والا « ولو شاء ربك لامن من فی الارض كلهم جميعا » ولعلك جد خبير بان كل ايام الدعوة من المسيح علیه السلام كانت ثلاث سنوات ثم رفعه الله وما تجاوزت دعوته فى ايامه منطقة قريته وبعض اهالى بلاده من فلسطين ولكن ياهل علمت الى اين بلغت دعوته وانتشرت من بعده
ص: 216
نبوّته فى امم الشرق والغرب حين نفضت الى ماوراء المحيط من امريكا كل ذلك بفضل مساعی الاثنى عشر من الحواريين الذين آمنوا به وفازوا بصحبته او بصحبة اصحابه کمرقس و پولس -و پطرس - ويوحنا -.. واحزابهم الذين استوعبوا كل ما كان من المعمور ووصلوا الى جميع ملوك الاض وكانوا يدعون الناس الى دين المسيح والمعجزات تجرى على ايديهم بحيث لوا دعوها لأنفسهم لراج لهم ذلك ولم يكن لولا الحق شططا وقد اشارالله سبحانه فی كتابه المجيد الى بعض اولئك الرسل الناشرين لدعوة المسيح حيث قال : واضرب لهم مثلا اصحاب القرية اى : انطاكية -اذ ارسلنا اليهم اثنين - بولس - و صاحب له - فعززنا هما بثالث - شمعون الصفا واول من امن بهم من القرية حبيب النجار وهو المشار اليه بقوله تعالى (وجاء رجل من اقصى المدينة يسعى) وما آمن بهم حين طلب منهم المعجزة وكان له ولداكمه مطموس العينين فوضعا (بندقتين) على موضع باصرته ، فصار تا عینین باصرتين فانتشر الخبر فاحضرهم الملك وطلب منهم احياء ولد له كان مات قريبا فاخبره فآمن الملك واكثر اهل المدينة ، الى كثير من امثال ذلك وعلى هذا المنوال نبينا محمّد صلی الله علیه و آله و سلم فان دعوته فی حياته وان لم تتجاوز الا اطراف شبه جزيرة العرب ولكن بعد بضع سنوات من وفاته استوعبت امهات ممالك كسرى وقيصر ونفذت الى اقصى الشرق من العراق الى خراسان ثم من سوريا الى مصر وهلمّ جرّاً من اليمامة والبحرين وغيرهما وكل ذلك بتائيد من الله سبحانه للقائمين بنشر الدعوة من بعده و قوّادهم وقدكانت المعجزة تجرى على يد بعضهم عند مسيس الحاجة اليه كما فی قصة -خالد بن الوليد مع عبدالمسيح بن يقلبه فى الحيرة على ما ذكره السيد المرتضى رحمه الله فى أماليه « الدرر والغرر » فی باب المعمرين حيث دخل على خالد وفی يد عبد المسيح شیء يقلبه وهو سم ساعة فاخذه خالد وذكر اسم الله عليه وابتلعه ، فسكن قليلا ثم قال وكأنما أنشط من عقال فاذ عن عبدالمسيح وبعض قومه للجزية
ص: 217
ودخل جماعة منهم فی الاسلام (1) وكما جرى للعلاء الحضرمی فاتح البحرين من عبوره هواصحابه على الخليج بعدان احرق اهل الرّدة سفنهم فعبروا بدوابهم الى كثير من امثال ذلك .
ص: 218
هل يوجد دليل على استحباب أو جواز لطم الصدور فی عزاء أبی عبد الله الحسين ارواحنافداه أولاً ؟ فانّ بعض من ليسوا من أهل نحلتنا ينكرون الجواز ، وبعض آخر يقولون انا نستكشف الجواز من لطم الفاطميات .
الجواب
مسألة لطم الصدور ونحو ذلك من الكيفيات المتداولة فی هذه الأزمنة كالضرب بالسلاسل والسيوف وامثال ذلك ان أردنا ان نتكلم فيها على حسب ما تقتضيه القواعد الفقهية والصناعة المقررة لاستنباط الاحكام الشرعية فلا تساعدنا الاّ على الحرمة ولايمكننا الا الفتوى بالمنع والتحريم. فانه لا مخصّص للعمومات الأولية والقواعد الكلّية من حرمة الاضرار وايذاء النفس والقائها فی التهلكة ولادليل لنا يخرجها عنها فی المقام ولكن الذی ينبغی ان يقال بالقول الصريح أنّ من قطعيات المذهب الامامى ومن مسلّمات هذه الفرقة الحقّة الاثناعشرية.
انّ فاجعة الطف والواقعة الحسينية الكبرى واقعة عظيمة ونهضة دينية عجيبة
ص: 219
والحسين علیه السلام رحمة الله الواسعة وباب نجاة الأمّة ووسيلة الوسائل والشفيع الذی لايرد وباب الرحمة الذی لايسدّ . (1)
وانّى أقول انّ حق الأمر و حقيقة هذه المسألة انما هو عندالله جلّ وعلا ولكن هذه الأعمال والافعال ان صدرت من المكلّف بطريق العشق الحسينى والمحبّة والوله لأبی عبد الله علیه السلام على نحو الحقيقة والطريقه المستقيمة وانبعثت من احتراق الفؤاد واشتعال نيران الأحزان فی الاكباد بمصاب هذا المظلوم ريحانة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم المصاب بتلك الرزيّة بحيث تكون خالية ومبرّاتاً من جميع الشوائب والتظاهرات والأغراض النفسانيّة فلا يبعد أن يكون جائزاً بل يكون حينئذ من القربات وأجلّ العبادات وعلى هذا يحمل ما صدر من الاعمال ونظائر هذه الافعال من أهل بيت العصمة والطهارة علیهم السلام مثل ما نقل عن العقيلة الكبرى والصدّيقة الصغرى زينب علیها السلام من «أنها نطحت جبينها بمقدّم المحمل حتّى سال الدم من تحت قناعها » ومثل ما ورد فی زيارة الناحية المقدّسة فی وصف مخدّرات أهل البيت سلام الله عليهم «للشعور
ص: 220
ناشرات وللخدود لاطمات» ولكن هذا المعنى الذى اشرنا اليه لا يتيسّر لكل احد وليس شرعة لكل وارد ولا مطمع لكل طامع ولايحصل الادعاء والتخيّل فانّه مرتبة عالية ومحل رفيع ومقام شامخ منيع واغلب الاشخاص الذين يرتكبون هذه الامور والكيفيات لا يأتون الاّ من باب التظاهر والمرآت والتحامل والمداجات مع أنّ هذا المعنى بغير القصد الصحيح والنيّة الصادقة لايخلوا من اشكال بل حرام وحرمته تتضاعف لبعض الجهات والعوارض الحالية والطوارئ المقامية واحسن الاعمال وانزهها فى ذكرى الحسين السبط صلوات الله عليه هو النياحة والندبة والبكاء لريحانة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم والمظلوم الموتور والسلام عليه والزيارة له واللعن على اعدائه والتبرّى من ظالميه والمشاركين فى دمه وقاتليه والرّاضين بقتله صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وأولاده الميامين المنتجبين .
ص: 221
ص: 222
السؤال
هل يكفی فی زيارة «عاشورا» قراءة كلّ من السّلام واللّعن مرّة واحدة بدلاً عن مائة مرّة .
الجواب
لابدّ وأن يعلم أنّ اكثر المستحبات المركّبة غير ارتباطية بمعنى أنّ ثواب بعض اجزائها وصحّتها غير موقوفة على صحّة وثواب الباقى بل كثير منها من باب المستحب فی المستحب كما أنّ القنوت فی الصلاة مستحب ودعاء الفرج ايضاً فی القنوت مستحب آخر ، فان قلنا انّ زيارة (عاشوراء) من هذا القبيل فيمكن الاكتفاء بلعن واحد وسلام واحد ولكن هذا المعنى من مساق الأدلة والاخبار بعيد فى الغاية بل زيارة (عاشوراء) نظير صلاة جعفر الطيار والتسبيحات الأربع المعتبرة فيها بعدد ستين و ثلثمائة وستّين تسبيحة على الترتيب المعروف فان نقص
ص: 223
عدد واحد منها فی هذه الصلاة المخصوصة التى لها آثارها الخاصة فكأنّه لم يأت المكلف بتلك الصلاة وهكذا فی زيارة (عاشوراء) الواردة برواية سيف بن عميرة ورواية صفوان الجمّال بالكيفيات المعهودة والا ثار المخصوصة فان تركت تكبيرة واحدة من كبيراتها فضلاً عن اللعن والسلام كلّ واحد منهما مائة مرّة يكون هذا العمل باطلاً نعم لايحرم المكلف ثواب مطلق زيارة سيدالشهداء سلام الله عليه بل يحسب من زائريه بلاشك .
ويمكن لنا استفادة مطلب آخر من هذه الأخبار وهو أنّ الزائر ان كان له شغل او عذر ولا سيّما الشغل الذى هو مستحب مؤكد عند الشارع المقدّس مثل عيادة المؤمن وتشييع جنازته أو قضاء حوائج اخوانه فی الدين ونظائر ذلك فيمكن له ان يكتفى بلعن واحد وسلام واحد بمعنى أنّ له الشروع باللعن واتمامه ولو حال المشى فی الطريق أو فی مجلس آخر فانّ الامر اذا دار بين فوات الاجزاء أو الشرائط فمراعات الاتيان بالاجزاء أولى وأهمّ والظاهر أنّ شيخ مشايخنا المحقق الانصارى قدس سره تعرّض لهذا المطلب فى (فرائده) فی رسالة اصل البرائة ويمكن ان نتوسّع فى هذا المعنى حتى بالنسبة الى الصلوات المستحبّة كصلاة جعفر وغيرها بمعنى أنّه ان عرض شغل مهّم للمكلف امكن له ان يصلى تلك الصلاة حيثما اراد اربع ركعات متعارفة بنيّة صلاة جعفر وبصدها وبعد اتمامها يسبّح ستّين وثلاثمائة تسبيحة فان لم يتكلم فی الاثناء كان احسن وأولى .
وأما فی زيارة (عاشوراء) فان اكتفى بلعن واحد وسلام واحد فينبغی اتمام العمل حتّى السجدة الأخيرة وبعد ذلك يتّم اللعن والسلام مائة مرّة الى آخر العمل وهذا النحو ايضاً احسن وأولى البتة والله العالم .
ص: 224
ظاهر الآية الشريفة فى القرآن الكريم «فاغسلوا وجوهكم وايديكم الى المرافق» (1) يدلّ على أنّ الغسل من الأصابع الى المرافق فما وجه العكس اى الغسل من المرافق الى رؤس الأصابع ؟
الجواب
المتحصّل والمستفاد من هذه الآية الشريفة هو أنه لابدّ من غسل الوجه والأيدى ومسح الرأس والأرجل فى الوضوء ، ولمّا كان عند الشارع المقدّس يكفى فی خصوص الرأس مسمّى المسح بمقدار من مقدّم الرأس كمايدّل على ذلك دخول باء التبعيض فى قوله تعالى «برؤسكم» ليفيد هذا المعنى وامّا باقی الأعضاء فلمّا كان غسلها أو مسحها بأجمعها ممّا لابدّ منه فلم يدخل الباء عليها ولكن لابدّ من بيان حدودها ، امّا حدود الوجه فهى معلومة ولا يطلق عند العرف على المعانى المختلفة
ص: 225
فانّ من المعلوم عند عموم الناس أنّ الوجه هو ما يواجه به فی مجلس التخاطب ويشاهد حين التقابل وحدّه منتهى شعر الرأس من طرف الجبين الى آخر الذقن ، وأمّا الأيدى والأرجل فلمّا كانت حدود هما مشتبهة ولها اطلاقات كثيرة عند العرف فتارة يراد من اليد عندهم خصوص الكف التی هی عبارة عن الاصابع الى الزند وتارة اخرى تطلق الى المرفق وثالثة الى الكتف كان من اللازم تعيين المراد من اليد وأنّه أىّ معنى اراد سبحانه من هذه المعانى فقال تبارك وتعالى «الى المرافق» وهكذا الحال فی الأرجل حيث كان لها اطلاقات كثيرة فقال تعالى «الى الكعبين» فيعلم من ذلك أنّ هاتين الملمتين فی الآية الشريفة انّما هما لبيان غاية المغسول والممسوح وبيان حدودهما لا لبيان غاية الغسل والمسح ، والحق أنّ الغسل والمسح فی الآية الشريفة مطلقان من حيث النكس وغير النكس أما بطلان الوضوء بالنكس فهو مستفاد من الأخبار لا من الاية وما ذكرناه فی المقام هو تحقيق انيق فی فهم المراد من الآية الشريفة والله الموفق وبه المستعان .
ص: 226
هل يلزمنا اجتناب أهل السنة والجماعة مع العلم بأنّهم يباشرون أهل الكتاب والمشركين بالرطوبة حتى فى الأكل والشرب وأنّهم قائلون بطهارة الدم والمنى أولا يلزم ذلك ؟ وهل يجوز أكل الدم المتخلّف فی رقبة الحيوان اذا اطبخ أولا ؟ من جهة استصحاب النجاسة تفضلوا ببيان الدليل فی المسألة لازلتم مرجعاً للعلم والدين .
الجواب
اعلم أنّ كل من يشهد الشهادتين يحكم عليه شرعاً بالطهارة غير الغلات والنواصب والخوارج فأهل السنة من حيث الذّات فی انفسهم طاهرون ببركة الشهادتين، واما من حيث نجاستهم العرضية بسبب ملاقات احدى النجاسات فلابدّ من اعتبارهم متنجّسين ولا فرق فى هذه الجهة بين الخاصة والعامة ، وعموم المسلمين الذينهم محكومون بالطهارة بل وجميع الأشياء التی يحكم بكونها طاهرة بالذّات لا يحكم بنجاستها باحتمال التنجّس وقاعدة الطهارة حاكمة وليس لنا ان نخرج من هذا الأصل الاّ بالعلم اليقينى الوجدانی أو ما يقوم مقام العلم شرعاً
ص: 227
كالبيّنة أو خبر العدل الواحد على القول به فى الموضوعات وامّا الاعتماد على العلم العادى فى هذه الموارد فمشكل وبناء على هذا ففى كل مقام و مورد جاء احتمال الطهارة ولو كان فى غاية الضعف ، فلابدّ من البناء على الطهارة وهذه القاعدة المباركة حاكمة ، ومن المعلوم أنّ الطهارة فی نظر الشارع المقدّس مبنيّة على التوسعة ، وامّا امر النجاسة والتنجس فهو مبنى على الضيق وعدم التوسع ( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لٰا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (1) بل الغالب أنّ هذه الخيالات والتوهمات تنجّر الى الوساوس والمخاطر وهى الطامّة الكبرى المفسدة للدّين والدنيا ، فعلى هذا فان رأيت بعينك أنّ العامى باشر الدم أو المنى ولم يجتنب منها أو أنّه باشر الكافر ولم يتباعد عنه ففی ذاك المجلس اجتنب عنه وكذا ان علمت أنّه فی الامس أو فی مجلس قبل هذا المجلس باشر الكافر لزم الاجتناب ايضاً وليست الغيبة فی هذا المقام مطهّره فانّه يشترط فيها العلم بالنجاسة وهو ليس بقائل بنجاسة هذه الامور المذكورة ففى هذا الفرض يجرى استصحاب النجاسة .
وامّا اذا علمت أنّ المباشرة أنّما وقعت فی وقت من الأوقات ولكن لم يعلم أنّها فی أىّ وقت وقعت بالخصوص ففى هذه الصورة لا يجرى الاستصحاب بل تجرى قاعدة الطهارة .
فصارت النتيجة أنّ فى كل مورد تزاحم احتمال الطهارة مع احتمال النجاسة فاحتمال الطهارة مقدّم عليه عند الشارع المقدّس ولو كان احتمال النجاسة اقوى عند العرف والعادة أو من قرائن الأحوال الاّ ان يجرى أصل او تقوم بيّنة ومع عدمهما وعدم كون المقام مورداً لهما يبنى على الطهارة وهذا المقام من الموارد التی يحسن الاحتياط فيها ولكن فی غير موارد العسر والحرج ، وامّا الدم المتخلف فی الرقبة
ص: 228
أو فى مطلق الذبيحة من الحيوان الطاهر بعد قذف القدر المتعارف منه فهو من الخبائث وأكله مستقلاً حرام ولو كان بعد الطبخ ، وامّا تبعاً للّلحم فيجوز أكله فانّه ليس له فی نظر العرف وجود مستقل فلا يكون مورداً للاستصحاب والله العالم .
ص: 229
ص: 230
أنّه قد تعارف بين الناس أنّهم اذا وجدوا جسد ميت من العلماء وغيرهم بعد سنين من دفنه طريّا لم يتغير يعدّون ذلك من الكرامات له ويحسبون أنّ ذلك من علائم السعادة فما وجه هذا الاعتقاد هل له دليل ومستند مستفاد من اخبار اهل البيت علیهم السلام خزّان علم الله وحفظة وحيه أولا ؟ مع أنّا نشاهد بالوجدان والعیان ظهور جسد بعض الفساق بل ومن هو اسوأ حالا منهم ايضأ بعد اعوام كثيرة من
موته طريّالم يتغير .
الجواب
يخطر على بالى أنّ فی احد الكتب من ارشاد الديلمی ، أو معالم الزلفی او الانوار النعمانية : أنّ الانبياء والائمة سلام الله عليهم بل والعلماء لا تبلى اجسادهم وهذه القضية شائعة عند عوام الشيعة ، بل وبعض الخواص ولعله بلغكم ما يقال : من أنّ احد الامراء اراد نبش قبر الامام موسى بن جعفر سلام الله عليهما ليتحقق هذه القضية فقيل له أنّ الشيعة يعتقدون ذلك فی علمائهم ايضاً فنبش قبر الكلينی او
ص: 231
المفيد رضوان الله عليهما فوجده بحاله لم يتغيَّر ، ومثلها للشاه اسماعيل الصفوى مع الحرّ سلام الله عليه ، ومثل هذه الاشياء لا ينبغى الجزم بتصديقها ولاتكذيبها بل «فذروه فی سنبله» وقاعدة الشيخ الرئيس كلّ ما قرع سمعك الى آخرها أما فی الأدلّة الشرعية من الكتاب والسنة فلا أتخطر دليلاً فی ذلك معتبراً يعتمد عليه ، نعم فی خواص بعض الاعمال المستحبة كغسل الجمعة ربما يوجد أنّ من خواصها حفظ الجسد من البلا وعلى فرضه فلابد أن يكون المراد الى مدة ما والاّ فكل شيئى فان ولايبقى الاّ وجهه الكريم وبقاء الأجسام وتلاشيها ببطؤ أو سرعة يختلف باختلاف استعدادها والتربة التی يدفن فيها وربّ جسد يبقى مائة سنة وآخر الى جنبه تلاشى بخمسين سنة ولله البقاء ومنه البدء وحده واليه المعاد .
ص: 232
هل القرآن دالّ على كون آدم أباالبشر ، وأوّل خليقة من هذا النوع أم لا ؟ وعلى فرض كون آدم أوّل مخلوق من النوع الانسانی فكيف التناسل بين أولاده ؟
الجواب
جميع الآيات الكريمة فى هذا الموضوع صريحة فی أنّ آدم خلق من تراب ، وتكون بالخلق الفجائی ، وأنّ ينبوع الحياة الأزلى نفخ فيه نسمة الحياة ، وهو حىّ مستحدث من جماد بل الحق الصراح عند ارباب الفلسفة العالية أنّ الروح فی سائر الأجسام الحيّة هی جسمانية الحدوث روحانية البقاء فآدم الذی نوّه عنه القرآن الكريم هو الأب الأعلىٰ لهذا النوع الموجود على هذه البسيطة وكلّهم من نسله ولكن ليس فی القرآن ولا الاحاديث ما يدل على أنّه الاول من هذا النوع بل فی الكتاب والحديث ما يدلّ على خلاف ذلك ففی تفسير قوله تعالى ( بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ) (1) وردت عدة اخبار عن الصادقين سلام الله عليهم مضمونها أو
ص: 233
نصّها تقريباً... (تحسبون أنّه ليس غير آدمكم هذا بلى أنّ الله سبحانه خلق الف الف آدم والف الف عالم قبل هذا ، ويخلق بعد انقراض هذا العالم ودخول اهل الجنة جنتهم ، واهل الجحيم جحيمهم الف الف آدم والف الف عالم ، وتجد معظم هذه الأخبار فی كتاب «الخصال» للصدوق اعلى الله مقامه وصريح هذه الاخبار أنّ هناك مالا يحصى من الادميين والعوالم وهو الموافق لعدم تناهى قدرته تعالى وأنّ يديه مبسوطتان ، وأنّ فيضه مازال ولايزال ولاينقطع فی حال من الاحوال وقالت اليهود يدالله مغلولة غلّت أيديهم ولعنوا بما قالوا .
امّا كيفية التناسل فى بدء هذا الدور اعنى دور آدمنا هذا الذی نحن من نسله فلها حسب ما ورد فی بعض الآثار والأخبار طريقتان :
الاولى : ولعلها الأصح أنّ حوّا كانت تلد توأما كلّ بطن ذكر وانثى فكان يزوج الذكر من هذا البطن من الأنثى فكان يزوج الذكر من هذا البطن من الأنثى من البطن الاخر وهكذا والاشكال أنّه كيف يزوج الاخت من اخيها ولو من بطن آخر ، وأنّه لايخرج عن كونه زنا وبذات المحارح مدفوع بأنّ الزنا ليس الاّ مخالفة القوانين المشروعة ، والنواميس المقررّة من المشرّع الحكيم ، وحيث أنّ فى بدء الخليقة لايمكن التناسل الاّ بهذا الوضع اجازه الشرع فی وقته لوجود المقتضى وعدم المانع ثم لمّا تكثّر النسل ، ومسّت الحاجة الى حفظ الأنساب وتميّز الأسر والأرحام ، وحفظ النظام العائل ، وحصل المانع من تزوّج الأخ باخته وامثال ذلك ممّا تضيع فيه العائلة وتهدم دعائم الأسر ولايتميز الأخ من الابن والأخت من البنت لذلك وضع الشارع قوانين للزواج يصون النسل عن الاختلاط والامتزاج وهذا المحذور لم يكن فی بدء الخليقة يوم كانت أسرة آدم وحوّاء نفراً معدوداً.
ص: 234
الطريقة الثانية: ما فی بعض الاخبار من أنّ الله جل شأنه انزل حوريتين فتزّوجها ولد آدم فكان النسل منهما ، ولعلّ المراد من الحوريتين امرأتين بقيتا من السلائل البشريّة المتقدمة على آدمنا هذا ، وعلى كلّ حال فلا يلزم الزنا ، ولا مخالفة حرمة نكاح المحارم .
ص: 235
ص: 236
ذكر علماء الهيئة أنّ سبب الخسوف هو حيلولة الأرض بين القمر والشمس ، وسبب الكسوف هو حيلولة القمر بين الارض والشمس وبهذا يعلم المنجّمون وقت الخسوف ، والكسوف ، فحينئذ أى ربط بين ما ذكروه وبين ما فی بعض الأخبار بأنّ سببهما كثرة الذنوب وهاتان من علامة غضب الله فكيف يعلم المنجّمون وقت غضب الله ، فلو فرضنا عدم وجود انسان فی الدنيا لايكون خسوف ولا كسوف؟
الجواب
ما ذكره علماء الهيئة فى سببهما كاد يكون محسوساً أو كالمحسوس ، أما ما ورد فی الاخبار من أن سببهما كثرة الذنوب فهو مضافاً الى ضعفها المانع عن جواز التعويل عليها ومعارضة بعض الاحاديث النبوية لها الواردة فى الخسوف المقارن لموت ابراهيم بن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و اعتقاد الناس أنّ ذلك لموت ابراهيم فردعهم النبی صلی الله علیه و آله و سلم وخطب قائلاً : انّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد
ص: 237
ولا لحياة أحد الخ يمكن تأويلها وحملها على ارادة المعنى الكنائی : وهی أنّ كثرة الذنوب هى التى تطمس نور شمس الهداية وتذهب بنور أقمار العقول. فالذنوب هی التی ينخسف بها قمر العقل وينكسف شمس المعرفة فلايبقى للعقل ولاللمعارف أثر كما ينكسف الشمس بحيلولة القمر ، والقمر بحيلولة الأرض ، وهذا معنى حسن ومقبول عند ذوى العقول وان أبيت فطرح تلك الأخبار هو الأصح والله العالم .
ص: 238
ما معنى المعاد الجسمانى هل يعود عين البدن الدنيوی أو غيره ؟ فلو كان عين البدن الدنيوى فما معنى قوله تعالى ( لِمَ حَشَرْتَنِی أَعْمىٰ وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً ) ؟ (1)
الجواب
معنی المعاد الجسمانی كما فی بعض الأخبار انّك لو رأيته لقلت هذا هو فلان بعينه وكما أنك لو رأيت شخصاً فى الدنيا وهو صحيح سليم الاعضاء ثمّ رأيته بعد عشر سنين مثلا مقطوع الاصبع ، أو اليد ، او قد ذهبت عينه ، او أذنه تقول هو فلان بعينه ولا يقدح فی شخصيته فقدان يده او عينه فكذلك فی الآخرة لايقدح فی وحدته ، وتشخصه كونه كان فى الدنيا بصيراً ويحشر فی الاخرة أعمى ، وهذا العمىٰ هو العمیٰ الحقيقی الذی كان له فی الدنيا وهو عمى البصيرة وحيث أنّ الدار الآخرة هی الدار التی تبلى فيها السرائر وتظهر الحقائق - فلا محيص من ان يحشر الكفار
ص: 239
والفاسق اعمى ، ويعرف أهل المحشر أنّ هذا هو الذى كان اعمى فی الدنيا حقيقة وان كان بصيراً صورة قد حشره الله بصورته الحقيقية فی الاخرة التی هی دار الحق والحقيقة ، ويؤيده قوله تعالى: ( كَذٰلِكَ أَتَتْكَ آيٰاتُنٰا فَنَسِيتَهٰا وَكَذٰلِكَ الْيَوْمَ تُنْسیٰ ) فتدبره جيّداً .
ص: 240
ولد الزنا هل له نجاة فی الاخرة أم لا ؟... وفرض كونه من الهالكين خلاف مقتضى العدل لانّ الذنب على أبويه.
الجواب
ولد الزنا حسب قواعد العدلية المطابقة للموازين العقلية والادلة القطعية - من انّه لا تزر وازرة وزر اخرى ، ولا يعاقب شخص بجريمة غيره فحاله اذاً حال سائر المكلّفين ان اختار الطاعة وعمل اخير فهو من أهل الجنة والنعيم ، وان اختار المعصية وعمل الشرّ كان من أهل الجحيم وكل ما فی الاخبار ممّا ينافی هذا فلابدّ من تأويلها و حملها على مالا ينافى تلك القاعدة المحكمة ، وخبث نطفته وشقاوة ابويه ليسا بحيث يسلبان منه القدرة والاختيار على الطاعة والمعصية ، فهذه الأخبار كأخبار الطينة والسعادة والشقاوة مثل أنّه تعالى قبض قبضة من طينة البشر وقال هذه للنار ولا ابالی ، وقبض أخرى وقال هذه للجنة ولاابالى ، وامثال قوله تعالى
ص: 241
( طَبَعَ اللهُ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ ) (1) ( وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلىٰ عِلْمٍ ) (2) وهی كثيرة فی القرآن العزيز مما يدل بظاهرة أنّ الاغواء والاضلال والطبع والشّقاء هو من الله قهراً وجبراً على العباد وليس ذلك هو المراد قطعاً ولامجال لبسط الكلام فی هذا المقام باكثر من هذا.
ص: 242
ظاهر القرآن ، أو الدليل العقلى يساعد كون نبينا محمّد صلی الله علیه و آله و سلم خاتم الانبياء «بالكسر» أم لا ؟
الجواب
نعم ظاهر القرآن فی قوله تعالى - وخاتم النبيين (1) على القراءتين الفتح والكسر «اسم فاعل واسم مفعول» هو انّه صلوات الله عليه وآله قدختمت به النبوّة ، وامّا الدليل العقلى فهو واضح لمن تدبّر نواميس هذه الشريعة واحكامها وأنّها بلغت الغاية فى الاحاطة بمصالح البشر والنظام الاجتماعى الذى لاتتصور العقول ارقى منه واكمل. فلابدّ أن تكون هی الغاية والخاتمة كما قال جلّ شأنه ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) (2) واذ اكمل الشيئی فقد تمّ وانتهى ولامجال لجعل غيره اذ المجعول امّا مثله او أنقص فهو قبيح وأمّا الاكمال فهو حاصل فی هذه الشريعة والله العالم .
ص: 243
ص: 244
فى الحديث أنّ النبی صلی الله علیه و آله و سلم لما فتح مكة ودخل الكعبة وكسر الاصنام كان صنم فی موضع مرتفع فقال على علیه السلام : يا رسول الله انا أحملك لتكسر هذا الصنم فقال رسول الله : انت لاتطيق حمل النبوة ما معنى هذا الحديث والحال أنّ النبی يركب الدوابّ ؟
الجواب
نعم فرق بين حمل الدواب للنبىّ صلی الله علیه و آله و سلم وحمل أميرالمؤمنين علیه السلام له اذ من المعلوم الضرورى أنّ البدن سواء فى الحيوان ، أو الانسان هو الذی يحمل الاثقال وينهض نهضة الابطال ولكن انّما ينهض البدن بحملها بقوّة الروح وعزيمة الهمّة والشعور ضرورة أنّ الجبل الشامخ لايقوى على حمل طائر بل لايقدر على حمل ذبابة بل الطائر والذبابة تحمل نفسها عليه. فانّ الانسان بقدر عزمه وهمّته وشعوره يحمل الاثقال ، ولمّا كان مثل أميرالمؤمنين علیه السلام يعرف عظمة النبی صلی الله علیه و آله و سلم ويقدر هيبة النبوّة ، ويدرك معنى تلك المرتبة والوظيفة الآلهية ، فلاريب أنّ قوّة البشريّة مهما كانت
ص: 245
عظيمة فهى تتصاغر أمام تلك العظمة وتندك لدى اشراق لمعات تلك الهيبة لانّ تقديرها على مقدار ادراكها والشعور بها أما الحيوان وسائر افراد الانسان فلايدرك من النّبی صلی الله علیه و آله و سلم ولا يعرف من حقيقته الّا جسده الظاهری وهيكله المادی ومعلوم أنّه خفيف الطبع لطيف الجسد يقوى على حمله من هذه الجهة كلّ أحد ولكن أميرالمؤمنين علیه السلام وجبرئيل يعرفان من فضله ما يعجزهما عن حمله فتدبّره واغتنم وبالله التوفيق .
ص: 246
ما هی فلسفة الأضحية فى منى ، نرى كثرة الحجاج وعدم المصرف للحوم ذبائحهم فی منى ، فلو فرضنا الحجاج مائة الف فلا يقل كلّ واحد غالبا عن ذبيحتين فی الاضحية ، والكفارة تصير مأتى الف ذبيحة فيذبح ولا مصرف لها ، ولا أحد يأخذ ، فيطرح على الارض ويفسد الهواء ويتولد الامراض وفی هذا الزمان يقولون يجمعها ابن سعود فی بئر ويطرح عليها التراب ، فأیّ فائدة فيها اجتماعية وانفرادية ، فلو عيّن الشارع الاسلامى على كلّ احد من الحجاج بدل الهدى مقداراً معينا من النقود فيجمع للصرف فى مصالح العامة للمسلمين أليس أحسن ؟
الجواب
قضية الذبائح ، والقرابين وتقديمها للالٓهة بكثرة شعيرة من الشعائر القديمة فی اكثر الاديان حتى عند المشركين وعبدة الاوثان فضلا عن الديانات الثلاث المشهورة ، وحيث أنّ الشريعة الاسلامية جعلت الكعبة قبلة للمسلمين واليها حجّهم وموقع الكعبة هو الحجاز ، وهى ارض (كما يعلم كلّ احد) قاحلة وحرة
ص: 247
سوداءة لا يعيش فيها ضرع ولازرع ، واهل الحجاز على الغالب فقراء بالفقر المدقع الذى كان يدفعهم الى استطابة اكل الحشرات والوحوش من الضب ، واليربوع، والأرانب ونحوها بل ربما يضطرون فی بعض السنوات الى اكل الدم الممتزج بالصوف بل ما هو اسوأ من ذلك فقضت الحكمة الالهية الارفاق بأهل تلك البلاد والتوسعة عليهم ، ومن يتجوّل فى القبائل الحجازية وينظر شحوب تلك الشعوب ، وغيرة وجوههم، ورّث ملابسهم وجشوبة طعمهم يعرف سعة الرحمة الآلهية والشفقة الربوبية فی فرض هذا النسك ، ومن يراجع الايات الكريمة الواردة فی هذا الموضوع يعرف جلياً أنّ الحكمة والغرض من هذا الحكم هو التوسعة على الفقراء والهلكى الذين هم أكثر أهل الحجاز واشباع نهمهم وسد فورتهم يقول جلّ شأنه : ( فَكُلُوا مِنْهٰا وَ أَطْعِمُوا الْبٰائِسَ الْفَقِيرَ ) (1) - ثم يقول : ( فَإِذٰا وَجَبَتْ جُنُوبُهٰا فَكُلُوا مِنْهٰا وَأَطْعِمُوا الْقٰانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ) (2) فقول السائل انه لا مصرف لها غير صحيح وكلّ احد يعلم أنّ جمعاً كبيراً من أعراب تلك النواحى يجتمعون ويتقاسمون تلك الذبائح فيما بينهم ويتناهبون تلك الاغنام انتهاب الغنائم ، وان بقى فضلة منها فهى من التوابع القهرية ، والغالب أنّ الخير الكثير ليستتبع الشرّ اليسير ، وهذا ايضاً لا يعود الى نقص فی التشريع فانّ قبائل الحجاز لو اجتمع نصفهم فضلا عن كلهم لما كان يقع سهم كلّ واحد منهم شاة واحدة من تلك الاضاحی الكثيرة لانّهم يبلعون على أقل تقدير أكثر من مليونين ونصفهم على أقل فرض فقراء فلو اجتمعوا فی صحراء منى وعرفات وهى قريبة منهم أو ارسلوا وكيلا ، أو وكلاء يحملون اليهم حصصهم لكان سهم كل عشرة شاة واحدة ولكن هم المقصرون فى الانتفاع بما فرضة الله لهم .
أمّا تعيين مقدار من النقود بدلها فهو خلاف غرض الشارع الذى يحب اطعام
ص: 248
الطعام ، وبذل الزاد لاشباع الجائع ، ودفع كضّة النهم ، والقرم فانّه قديمرّ على البدوى فى الصحراء الشهر او الشهرين لا يذوق فيها طعم اللحوم ، ولا يشمّ قتار الدسوم على أنّ الشارع ببركة ما اوجب على أغنياه المسلمين فی الحجّ الى تلك المشاعر ، والشعائر ، وما ينفقون فيها من الاموال الطائلة قد صبّ عليهم البركة صبّاً وملاء جيوبهم بالنقود - فاوجب الاضاحی - تكميلا للغاية ، واتساعاً فی المنفعة واستقصاء فی الاخذ بأسباب الجود ، وعموم الكرام ولعل هذا هو السرّ أو بعض المصالح والحكمة التی نظرت اليها العناية العليا والرعاية الازلية حتى صارت القرابين والاضاحی من النواميس المقدسة فى أكثر الشرائع والاديان ، وحثت على الاكثار منها ولان كان هذا بالغاً مرتبة الرجحان فى سائر الاقطار والبلدان فهو للحجاز ولاسيما البيت الحرام ، وهو بواد غير ذی زرع ، ولاسبد ، ولا لبد ينبغى بل يلزم أن يكون بحد الوجوب ، وهكذا كان الامر من لدن حكيم عليم ؛ نعم يلزم على أولياء الامور فی تلك المشاعر التنظيم والعناية بما يستوجب الانتفاع بتلك الذبائح ، ودفع مضارها أو بيع مالا يمكن الانتفاع منه الا بالاحتفاظ به بعمل وتدبير كجلودها واصوافها فيلزم اصلاحه أولا ثم بيعه وتوزيع ثمنه على الفقراء أو المصالح العامة باجازة حاكم الشرع أو الحاكم العادل.
ص: 249
ص: 250
الجواب
انّنا لو أردنا أن نكتب مألّفا خاصّاً فى الحكم ، والمصالح التی اشتملت عليه هذه الشرعة النبوية والسياسة المحمديّة لكان يلزمنا القيام بأكبر مؤلف وقد لا نحيط بسائر الجهات منها ، نعم نعلم على الجملة انّ اقترانه بكلّ واحدة من تلك الزوجات كانت المصلحة فی تلك الظروف المعيّنة يقتضى وجوبه الختمى ، وللمجموع أعنى لمجموع التعدّد اجمالا حكم ومصالح أيضاً توجبه وتلزم به ، ولا يسعنا ايضاح تلك المصالح جميعاً ولكن نشير الى واحدة منها اشارة اجمالية وهى : أنّه سلام الله عليه أراد أن يضرب المثل الاعلى والبرهان الاتمّ الاجلى لنفسه الملكوتية ومقدار رزانتها ، وقوة استقامتها وعدلها ، وعدالتها ، وكلّ أحد يعلم كيف تتلاعب النساء بأهواء نفوس الرّجال وتتصرّف فيها حسب ما تشاء ، كما يعلم كل أحد ما بين النساء والزوجات من التنافس ، والغيرة ، واعمال الدسائس والمكائد فيما بينهن ، واضطراب حبل النظام العائلى والقلق الداخلى ، وهذه الذات المقدسة
ص: 251
الغريبة فى جميع أطوارها - ضرب المثل الأعلى فی ضبط النفس واقامة العدل بين زوجاته المتعدّدات وعدم الانحراف عن محجّة العدل والانصاف بينهم قيد شعرة مع جمعه لهنّ فی منزل واحد واختلافهن فی السنّ والجمال وسائر الجهات الّتي تستهوى النفوس ونحن نجد فی الكثير الغالب أنّ الرجل الصلب القوى قد يعجز عن ارضاء زوجتين واقامة ميزان العدل بينهن على أتمّ حدوده ومقاييسه ولابدّ أن ترجّح احدى الكفّتين عنده ولو قليلا مهما بالغ فى التحفّظ والكتمان فكيف بمن يحسن معاشرة تسع نساء أو أكثر فی منزل واحد فيرضى الجميع ويعدل بين الكل ويخضعن له جميعاً وهنّ «حبائل الشيطان» ولا يرضيهنّ فی الغالب كلّ ما فی الكون من ثروة وسلطان حتّى أنّ احدى زوجاته وهى سودة بنت زمعة (1) لمّا أراد النبیّ
ص: 252
طلاقها وهبت لعائشة ليلتها ولم ترض أن يطلقها وقالت : أريد أن أحشر فی أزواجك ، وكانت بيئته وقلّة ذات يده وجشوبة عيشه وخشونة ازيائه كلّها تستدعى على الدوام بينهنّ حدوث الشغب وتقطع حبل الراحة بمقاريض التعب، ولكنّه على ذكره السلام لم يحدث شیء واحد من ذلك فی بيته مدّة عمره بينهنّ سوى واقعة واحدة هى فى غاية البساطة بل هى من اعلام النبوة ودلائل الوحى والرسالة واحدى قضايا الاعجازوهی قضية مارية القبطية (1) التی نزلت فيها
ص: 253
اوائل سورة التحريم ، وفی قضية الزوجتين اللّتين أودعهما النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم سرّاً فاظهرتاه والمرأة مهما كانت رخوة العنان ضعيفة الكتمان ولكن أراد النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم أن يصهرهنّ فی بوتقة الامتحان حتّى يظهر الذهب الخالص من المزيف، وعلى كلّ حال فقد اظهر الله جلّ شأنه لنبيّه فى تعدّد الزوجات معجزتين : الاولى : فی داخليته وعدّله المستمرّ بينهن أكثر من عشر سنين .
الثانية : وهى اكبر آية واعظم اعجازاً واسطع برهاناً ذاك انّ من يستقرأ سيرة النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم بعد هجرته من وطنه البيت الحرام الى مصيره الأخير - يثرب يجده فی هذه السنوات الأخيرة من عمره الشريف كالرجل الفارغ البال من أثقال العيال ، يجده كالوادع الأمن والهادىء المطمئنّ كأنّه لا علاقة له بشيىء من النساء ولا واحدة فضلا عن المتعدد ، فهو قائد جيش ومشرع احکام و امام محراب
ص: 254
وقاضی خصومات ، وعاقد رايات، ومؤسس شريعة ، وعابد منقطع الى التهجد والعبادة ، ولقد كان يصلّى حتى ورمت قدماه فكيف مع ذلك كلّه استطاع ادارة تسع نساء أو أكثر مع شدّة الغيرة والتنافس بينهنّ وكيف لم يقسمن فكره ويشغلن باله عن تلك الأعمال الجبّارة والعزيمة القهّارة فهل هذه الّا المعجزة بذاتها والقدرة الآلهية بأجلى مظاهرها ؟
وهل تريد لتعدد الزوجات اعظم من هذه الحكمة وابلغ من هذه الفائدة ؟ ولعل هذه واحدة من الف ، واشراقة من شمس ، والّا فالمسألة كما ذكرنا تستحق أن تفرد بالتأليف لكثرة ما فيها من السياسات والحكم .
ص: 255
ص: 256
ما وجه القَسَمِ بالتين ، والزيتون ؟ وما سبب امتيازهما بين المخلوقات ؟ وما تفسيرها؟
الجواب
جرت سنة الله العظيم فى كتابه : أن يقسم بمخلوقاته العظيمة البركة العميمة الفائدة كالشمس والقمر والنون والقلم والرياح الذاريات والمرسلات كما يقسم بالقرآن الذى هو شمس الهداية الحقيقية وهداية الأرواح ، والنفوس والعقول ، بل بمادون ذلك كالصبح ، والليل والجوارى الخنّس ، والكواكب الكنّس ، وأمثال ذلك ممّا هو كثير فى الكتاب الكريم ، وحيث أنّ التين والزيتون من الأطعمة العظيمة الخير والبركة ، فانّ العين فاكهة وحلوى رطبة نافع وجافة أنفع وهو غذاء ودواء وطعام وادام وفيه منافع كثيرة ، ومثله الزيتون ولعله اشرف ، والطف واعظم بركة ونفعاً باعتبار دهنه الذی لا تعدّ ولا تحصى منافعه وخيراته وخواصّه ، وآثاره ، وهو مع أنّه من أحسن الادام ، والصبغ للآكلين فيه منافع عظيمة وخواص بليغة فی
ص: 257
المعالجات، فلهذا حسن القسم بهما لعظيم فائدتهما ، هذا كله بناء على أنّ المراد بهما تلك الثمرتان ، أو الشجرتان المباركتان ومن الجائز القريب بل لعلّه الاقرب أنّ المراد بالتّين جبل يكثر به شجرة التين من جبال القدس وحبرون (1) الذی تجلّى عليه الجليل لابراهيم الخليل علیه السلام ، والزيتون جبل الزيتا الذی تجلّى الرّب فيه لاسرائيل يعقوب أبی الاسباط وللمسيح فيه مواقف كثيرة ، ويشهد له عطف طور سينين عليهما و هو الجبل الذى تجلّى فيه الجليل لكليمه موسى علیه السلام ثم عطف عليهما البلد الأمين وفيه جبل حراء الذى تجلّى فيه الحق لحبيبه محمّد صلوات الله عليه وآله فهذه الجبال الاربع هى مظاهر الانوار الآلهية ، والتجليات الربوبية على الارواح النبوية والهياكل البشريّة ، ولا شيىء أحق منها للحق بأن يقسم بها من مخلوقاته ، والله أعلم وأحكم بأسرار كلماته وسائر آياته .
ص: 258
لأىّ علة منع لبس خاتم الذهب وزرّ الذهب للرجال ؟
الجواب
حق السؤال أن يكون هكذا -لماذا منع الدين الاسلامی من لبس الرجال الحرير والذهب ؟... والجواب : أنّ الدين الاسلامى يريد من الرجال الخشونة والصلابة ، وان يكونوا أشدّاء واقوياء ، ولمّا كان فى الحرير والذهب من النعومة والطراوة والميعان واللمعان ما ليس فى غيرهما حرّمهما على الرجال لعلمه تعالى ولعله من المشاهد المحسوس أنّ الزينة بمثل هذه الاشياء يوجب التأنث والتخنث وسفالة الهمّة والميل والانقياد الى الشهوات البهيمية ، ويسقط همّة الرجل فيها عن السّمو الىٰ نيل المعالى وعظائم الفتوح وعزائم الروح، ولا يقاس هذا بلبس الأحجار الكريمة والجواهر الثمينة فانّها توجب العزّة والكرامة والسّمو وعلوّ الهمّة ، واين هذا من نعومة الحرير ولمعان الذهب الّتی تلائم ربات الحجال. ويجب أن تترفع عنها الرجال حتى لو لم يحرّمهما الشارع. فلله شريعة الاسلام ما أعظمها
ص: 259
وأجلّها ولله هذه الأمة المسلمة ما أضعفها وأجهلها والحكم لله ولا حول ولا قوة الا بالله عليه توكلت واليه أنيب .
ص: 260
لما قضت العناية الازلية ؛ والحكمة البليغة لبقاء هذا النوع (البشر) أن يكونوا مختلفين غير متساويين فی القوى والملكات والافهام والذكاء كاختلافهم فی الاخلاق والصفات والخلق والهيئات ، وكاختلافهم فى الغنی والفقر ، والسعادة والشقاء ، ولو كانوا جميعاً فی رتبة واحدة من الذكاء والفقر والغنى والسعادة والعنا لهلكوا جميعاً ، والى هذا اشار الامام الجواد علیه السلام فی كلمة موجزة من ابلغ الكلمات القصار ، حيث يقول : ( لو تساويتم لهلكتم ) ؛ وهذا جلى واضح لاحاجة الى ايضاحه ، ولكن لازم هذا الاختلاف الواسع والتباين الشاسع لحفظ بقاء النوع هو التعاون مع رعاية التوازن والتعاون ضرورة من ضرورات الحياة ، وهو فی الجملة غريزة وطبيعة قضت به حاجة بعضهم الى بعض ، وتبادل المنفعة وتكافى المصالح ، وبه يتمّ النظام وتحفظ الهيئة الاجتماعية وهذا التعاون التی تدفع اليه الحاجة وتدعو له الضرورة هو فی غنى عن الحثّ والبعث اليه .
وانّما الذی يحتاج الى التشريع والبعث اليه هو التعاون بلاعوض وعمل الخير
ص: 261
والاحسان ؛ وصنع المعروف لوجه الله ، وفى سبيل الله ، لجميع عباد الله ، للفقير والغنى، والعاجز والقوى ، للمؤمن والكافر ، وهذه الفضيلة هی فضيلة الجود والسخاء التی يقابلها رذيلة الشحّ والبخل فالكرم عطاء بلاعوض ، وبذل من دون نظر الى الاستحقاق وعدمه ، والبخل المنع حتى مع الاستحقاق، والاولى هى بمرتبتها العليا هی صفة الحق جلّ شأنه والامثل فالامثل من الانبياء والمرسلين، والاوصياء والصديقين، ولعلها فی بعض البشر من الغرائز والمواهب لا تحصل بالطلب والكسب كصفاء اللؤلؤة واشراق الشمس وفيض الينابيع ، ومثلها رذيلة البخل قد تكون طبيعة فی بعض البشر وغريزة وهناك اوساط ونفوس ساذجة ليس فى جبلّتها هذا أوّلاً ذاك ، فيؤثر فيها المحيط والتربية ، والأقران فضيلة أو رذيلة ، وما من شريعة من الشرايع ، ولا دين من الاديان ، ولا كتاب من الكتب قدحث وبعث وبالغ فی الدعوة الى الاحسان والمعروف وبذل المال فی سبيل الخير مجّاناً ولوجه الله تعالى كشريعة الاسلام وكتابها المجيد.
وقلّما تجد سورة من سور القرآن لم يتكرّر فيها طلب الانفاق والوعد بالأجر العظيم له خذ أول سورة بعد الفاتحة وهى اوسع سورة بعد الفاتحة وهى اوسع سورة تضمّنت التشريع الاسلامى وعامة فرايضه من الصلاة والصوم والزكاة والحج والنكاح والرضاع والطلاق والمعاملات والدّيون والرهن والقصاص والدّيات وغير ذلك ، افتتح البارى جل شأنه هذه السورة بالانفاق ، وقرنه بالايمان بالله ، وبأهمّ دعائم الاسلام وهى الصلاة فقال ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلٰاةَ وَ مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ يُنْفِقُونَ ) (1) ثمّ قال جلّ شأنه فيها بعد جملة آيات ( وَ لٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلٰائِكَةِ وَ الْكِتٰابِ وَ النَّبِيِّينَ وَ آتَى الْمٰالَ عَلىٰ حُبِّهِ
ص: 262
ذَوِی الْقُرْبىٰ وَ الْيَتٰامىٰ وَالْمَسٰاكِينَ ) (1) ثم قال بعد فصول طويلة ، وبيان احكام كثيرة ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ) (2) ولم يكتف بهذا كله فى هذه السورة المباركة حتى أفاض فی فضل الانفاق وأجره العظيم، وانّه يعود لاضعافه المضاعفة وجاء بأبلغ الامثال ، وابدع المقال فندب الى البذل والاحسان وحرمة الربا الذی فی قطع سبيل المعروف ، وأكل المال بالباطل ، وجعل من يصرّ على استعماله محارب بالله العظيم والله محارب له ، كلّ ذلك فى ضمن أكثر من ثلاثة عشر آية مطوّلة بدأها عزّ شأنه بقوله : ( مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِی سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِی كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَ اللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (3) الى قوله تعالى: ( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (4) ثم بعدها اربعة عشر فی فضل الانفاق الحقها بتحريم الرّبا، وفظاعة شأنه، وتهويل جريمته ، وبيان جملة من احكامه فقال : ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرّبا لٰا يَقُومُونَ إِلاّٰ كَمٰا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ) وهذا تصوير بديع لحال المرابين، وعظيم جشعهم، وحرصهم على جمع المال وادّخاره وتوفيره ، فهو كالذی فيه مسّ من الجنون يذهب ويجیء ويقوم ويقعد ويأخذ ويعطى ، فهو فی حركة دائبة وعمل متواصل لا يقرّ له قرار ، ولا يستريح من التفكير والتوفير والادخار فی ليل ولانهار واذا اعترضه معترض قال ممرّراً عمله انما البيع مثل الربا والبيع حلال فالرّبا مثله ، وهو قياس فاسد ، ويعرف فساده من القاعدة الشرعية المباركة «الغُنم
ص: 263
بالغرم» فكلّ معاملة فيها غنم بلا غرم فهى أكل مال بالباطل ، والبيع غنم بغرم ، و مبادله مال بمال ، بخلاف الربا فانه للاخذ غنم بلاغرم ، وللدافع غرم بلا غنم ، فاذا أعطى العشرة باثنتى عشر من جنس واحد فقد اخذ اثنين بلا عوض فهو أكل مال بالباطل ولذا اختص الربا بالمتجانسين ، أى أن يكون العوضان من جنس واحد ويكون من المكيل والموزون ، اذ المعاملة بالمعدود، والمشاهدة نادرة والنادر ملحق بالعدم، ومدار المعاملات فى العالم على الكيل والوزن مضافاً الى جهات اخرى ، وما أبدع وأروع تعقيب آيات الحث على الانفاق احساناً وكرماً بآيات تحريم الرِّبا فان ذلك فضل واحسان ، وهذا جور وعدوان وهذه الفصول فى آخر هذه السورة التی هی أطول أو افضل سور القرآن من حيث بيان النواميس الاسلامية ، محبوكة كالسرد الوضين فانه عز شأنه ذكر فضل الانفاق فی سبيل الله والعطاء المجّانی وربط به حرمة الرّبا ، وهو الأخذ العدوانی ، ثم اردفه بالدين والرهن واحكامهما والامر بانظار المعسر ( وَ إِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ) (1) انظر واعجب لهذه الرحمة الواسعة ، وهذا التشريع الرفيع ، وهل يبقى لك شك فی ان هذا القرآن من الوحى المعجز والذكر المبين، نزل به الروح الامين من رب العالمين ، وهل تجد شيئاً من هذه الأساليب فی شیء من التوراة والانجيل والزبور وغيرها وهى اكبر حجماً ، واكثر ألفاظاً ورقماً أرأيت كيف تنازل العظيم من أوج عظمته الى مخلوقه العاجز الضعيف فصار يستقرضه ويقول : ( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَ لَهُ أَجْرُ كَرِيمُ ) (2) ثم لم يكتف بهذا كله فى الدعوة الى التعاون وتعاطف البشر بعضهم على بعض بالاحسان والمعروف، نعم لم يكتف بما ندب اليه من المعروف على سبيل الندب والاستحباب وان كان واجباً أخلاقياً .
ص: 264
نعم لم يكتف بذلك العموم والاطلاق فى الترغيب الى الانفاق والاحسان لكل ذى روح حتى البهائم والهوام بل وحتّى الكلب العقور ، فاذا رأيت كلباً يلهث من العطش استحب لك فی الشريعة الاسلامية أن تسقيه الماء ( فان لكل كبد حرّاء أجر ) كما فی الحديث ما الرفق بالحيوان والحمولة والدواب فقد عنيت الآداب الاسلامية برعايتها والرحمة لها عناية بالغة ، وفى الحديث ما مضمونه : اذا وصلت المنزل فابدأ بسقی دابتك وعلفها وراحتها قبل نفسك ولا تتخذوا ظهور دوابّكم منابر ، ولا تحملوا عليها فوق طاقتها ولا تجدوها ولا تضربوا وجوها الى كثير من امثال ذلك مما لا مجال لاحصائه فی هذا البيان.
أمّا الفقراء والضعفاء والعجزة فلم يكتف لهم الشارع المقدس ورحمته الواسعة بهذه العمومات والمطلقات، بل جعل لهم مزيد عناية تخصّهم وفرض لهم فی اموال الأغنياء نصيباً مفروضاً ، وصيّرهم شركاء لهم فيها بأيديهم ولكن من دون اجحاف واعتساف باموالهم بل قال الشارع الاقدس فى كتابه المقدس ( يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ) (1) يعنى الزائد من المال على حاجته حسب شأنه فی سنة أو سنوات، وقال المبلغ عنه من فضول اموال أغنيائكم ترد على فقرائكم وفی الحديث ما مؤدّاء ( لما علم الله أن نسبة الفقراء من الاغنياء العشر فرض لهم العشر فى اموالهم وما جاع فقير الا بما منعه الغنى من حقّه ) نعم فرض للفقراء الحق على الاغنياء ولكن جعل السلطنة الأغنياء وأعطاهم الحرّية الواسعة والاختيار العام فيما يدفعون من نقود أو عروض ولأىّ فقير يدفعون ، وبأى وقت يشاؤون، والفقير وان صار شريكاً ولكن لا سلطة له على الأخذ وانمّا سلطة الدفع والتعيين لربّ المال، وعدلت الشريعة الاسلامية هذه القضية حذراً من تفشّى داءِ الكسل والاتكال فی النفوس وترك الناس السعى والعمل وتغلّب البطالة والمسألة على المجتمع ، فخصّ ذلك
ص: 265
الحق بالفقير الذی لا يستطيع العمل لعذر من الاعذار أو كان عمله لا يفی بمؤونة عياله ، ثمّ حث الناس على الكسب والسعى فی توفير المال وأوجبه لتحصيل الرزق له وللعيال ، كما أوجب للعمال دفع حقوقهم موفّرة من أرباب الأموال وعدم بخس ما يستحقّونه من الأجر وأن يدفع للعامل أجرته فوراً قبل أن يجفّ عرقه ، وهذه هی الاشتراكية الصحيحة العادلة السمحاء التی وقعت وسطاً بين افراط الاشتراكية الحمراء وتفريط الرأسمالية القاسية السوداء فلم تسلب الغنى حريّته فيما بيده و ما استحصله بجهده كما تسلبه الشيوعية الظالمة التى تسلب بعسفها ، وظلمها أفضل نعم الله على العبد وهو الحرّية، ولاسلبت الأمل ما يستحقه بعمله من الأجرة، ولم تبخس حقّه كالرأسمالية ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ) (1) أنظر سعة نظر التشريع الإسلامى وعنايته بسدّ الحاجة وتدارك مواضع الضعف فى الامّة فيما فرض من الزكاة وتعيين مصرفها ومستحقّيها فجعل الفقراء والمساكين فی الدرجة الأولى، ثم للعاملين فى جبايتها ، ثم للمدينين الذين لا يستطيعون وفاء دينهم، ثم الأسراء والعبيد وعتقهم، ثم أبناء السبيل المنقطعين فی الغربة والمؤلفة قلوبهم وفی سبيل الله أى المصالح العامة كبناء القناطر والمدارس والمعاهد والمعابد وتعبيد الطرق و امثال ذلك فرض الله الفقراء العاجزين عن تحصيل ما يمونهم وعيالهم لنقص فی أبدانهم من مرض ونحوه او عدم مواتاة الحظ لهم (ان صح أنّ شيئا يسمّى الحظ له شیء من التأثير فی المقادير) .
نعم فرض الله الزكاة وقرنها بالصلاة اهتماما بها فی زهاء عشرين آية متفرقة ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ) أربع منها فی سورة البقرة (2) ثم تكرّرت فی عامّة سور
ص: 266
الطوال، والمفصل والقصار وآخرها فی سورة (البينة) آخر القرآن ( وَ مٰا أُمِرُوا إِلّٰا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفٰاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلٰاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَ ذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ) (1) وفى الجميع قدمت الصلاة على الزكاة الّا فی آية واحدة ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّٰى ٭ وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ) (2) لنكتة معلومة ، ولكن فی الحديث ما يشير الى انه تعالى ربط الزكاة بالصلاة للدلالة على أن من لا زكاة له لا صلاة له ، يعنى ان من وجبت عليه زكاة فى امواله ولم يدفعها لمستحقّها لم تقبل صلاته ، وان اتى بها على أصح وجوهها ، ومن سعة رحمته وعناية بخلقه جعلها فی اهم الاشياء واعمّها، والزمها فى حياة البشر ومقوّمات العيش وهى الاجناس التسعة النقدان ، والغلّات الأربع والانعام الثلاثة ، وهو عزّ شأنه وان فرض فيها النزر اليسير ، وهو العشر ونصفه أو ربعه ولكن الحاصل من مجموعه الشیء الكثير ، وليست فوائد هذا التشريع وهذه الاشتراكية العادلة الحرّة مقصورة على الناحية الماديّة فقط بل فيها من الفوائد الاجتماعية والتأليف بين الطبقات وتعاطف الناس بعضهم على بعض وقطع دابر الفساد والشغب فيما بينهم ما هو اوسع وانفع واجلّ واجمع فانّ فيه غرس بذور المحبة بين الغنى والفقير فالغنى يدفع وينفع الفقير باليسير من ماله عن طيب خطره أداء لواجبه ورغبة بطلب المثوبة من ربه والفقير يأخذ من غير مهانة ولاذلّة لأنه اخذ الحق الواجب له من مالكه وخالقه ثم اردف الزكاة بالخمس توفيراً لحق الفقراء ، وتكريما للعترة الطاهرة عن تلك الفضول التی هی صدقات ونوع من الاستجداء ثم رعاية شبه الجزاء والأجر لجدّهم الأعظم فيما تحمل من عناء التبليغ واعباء اداء الرسالة
ص: 267
وبعد ذلك الحثّ على الانفاق عموما ، وتشريع الزكاة والخمس خصوصاً هل قنعت واستكفت سعة تلك الرحمة وبليغ هاتيك الحكمة ؟
هل اكتفت للفقراء والعناية بهم بكل ذلك ؟ كلّا بل فتحت فی التشريع الاسلامی باب (الكفارات) وهو باب واسع يدخل فى اكثر العبادات وغير العبادات من المحرمات وغير المحرمات ، فقد مشت وفشت فريضة هذه الضريبة حتى فى الصلاة وتكثّرت فى الصوم والاعتكاف والحج والايلاء والظهار والنذر واليمين وقتل الخطأ بل والعمد وغير ذلك مما يجد المتتبع فى اكثر ابواب الفقه ، وهو اطعام للفقراء تارة ، وكسوة أخرى وعتق ثالثة ، جمعت الشريعة الاسلامية بسعة رحمتها وعظيم حكمتها بين رعاية الفضل والعدل ، وأقامت قواعد الاقتصاد والاعتدال فی بذل الأموال ولمّا ندبت وبالغت فی الحث على الانفاق فی سبيل الله ، وتدرّجت فيه الى أبعد غاية الانفاق من فاضل المال وحواشيه اولاً لامن صلبه ثم المواساة والمشاطرة من صميمه ثانياً ( وَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُوم ) (1) ثم الايثار على النفس ثالثاً ( وَ يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةُ ) (2) وهذا اقصى ما يتصوّر من السخاء والكرم والردع عن رذيلة البخل والشح ، وحذراً من أن تطغى هذه العاطفة فتجحف بالمال و تضرّ بالاهل والعيال ، ويضطرب بها حبل المعيشة والعائلة تداركت الشريعة ذلك ودلّت هذا المملّ على المال ، وقال : لاصدقة وذو رحم محتاج بل سبق ذلك كتاب الله المجيد فانّه جلّت عظمته لمّا بالغ فی دعوة الناس عموماً ، والمسلمين خصوصاً الى البذل والاحسان وانفاق المال على الفقراء والمساكين فيما يزيد على سبعين آية باساليب مختلفة ، وتراكيب عجيبة توجّه
ص: 268
الكتاب الكريم الى تعديل ذلك فأمر بالاقتصاد والتدبير والاعتدال ومجانبة التبذير فقال جلّ وعلا ، ( وَ آتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ لَا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً ٭ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً ) (1) بل زاد فقال : ( كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَ لٰا تُسْرِفُوا ) (2) اى لا تسرفوا فی العطاء بل أوضح ذلك فی سورة الاسراء وسورة الفرقان فقال فی الاولى : ( وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَ لٰا تَبْسُطُها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً ) (3) وفى الثانية ( وَ الَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ) (4) الى كثير من أمثالها ، ومن هنا كانت الشريعة الاسلامية شريعة العدل والفصل ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ) (5) لاتدعوا الى فضيلة الّا وتقرنها بالاعتدال والعقل والتوسط ( وخير الامور أوسطها ) فلله شريعة الاسلام المقدسة ما أسعها وأجمعها وأمنعها وأنفعها ، أفلا قائل يقول لهذا الشباب الطائش المخدوع بتلك الشيوعية الحمراء، والبلشفية السوداء ؟... أتطلبون اشتراكية أعلى وأصح من هذه الاشتراكية المنظّمة العادلة التی توسّع على الفقراء والمحاويج ما يرفع حاجتهم ؛ ويحفظ لأرباب الاموال والأغنياء مكانتهم وحرّيتهم ، ولاتضايقهم ولا ترهقهم ولا تحرم العاملين ثمرة اتعابهم ولا تجعلهم كآلة ميكانيكية ، أو كالبهائم ليس لها الا علفها ومعلفها ، نعم انك لاتهدى من أحببت ولكن الله يهدی من يشاء ، بل الشيطان سوّل لهم وأملى لهم ؛ ولعل العناية تدركهم فتردّهم الى صوب الصواب والمنهج القويم ان شاء الله تعالى .
ص: 269
ص: 270
السّماوات التی نطق بها القرآن الكريم ما حقيقتها فی الديانة المقدّسة وتطبيقها مع الأفلاك التی تقول بها الهيئة القديمة وكذا تطبيقها مع الهيئة الجديدة لا تطمئنّ به النفس وايضاً أىّ دليل دلّ صريحاً من الكتاب والسنة على كون العرش والكرسیّ شيئاً جسمانياً .
الجواب
ظاهر القرآن العزيز أنّ السماوات أجسام واجرام مبدأها دخان ( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَ هِيَ دُخَانُ ) (1) ولعله كناية عن الغاز أو الأثير أو ما أشبه ذلك من العناصر اللطيفة الشفّافة السائلة ثم تماسكت وجمدت كما تشير اليه بعض خطب اميرالمؤمنين علیه السلام فی النهج وغيره، وهذا قريب الى ما تصوره الهيئة القديمة من الأفلاك السبعة بل التسعة من فلك الأفلاك الى فلك القمر وأنّ كل واحد منهما
ص: 271
جسم اثيرىّ مستدير لا يقبل الخرق والالتئام والكوكب يعنى زحل والمشترى والمريخ وأخواتها كل واحد منها مركوز فى ثخن فلكه وفرضوا لبعضها حوائل وموائل وجوز هرات الى تمام ما هو مبسوط فى الهيئة القديمة من الحدسيات ونحوها مما اضطرّهم الى فرضه حركات تلك الكواكب السبعة ولا سيّما الخمسة المتحيّرة منها ذوات الرجوع والاقامة والاستقامة نعم ما هو الظاهر من الشرع فی السّماوات والكواكب لا ينطبق على الهيئة الحديثة بل هی قديمة ايضاً فانّها مبنيّة على الفضاء الغير المتناهى وكلّ كوكب يتحرك فى ذلك الفضاء فی مدار مخصوص ويرتسم من حركته فلك أىّ دائرة لا ينفك سيره عليها ، وفرضوا شموساً ولكلّ شمس نظام من أقمار وكواكب وأراضى تدور حول شمسها أحدها بل اصغرها نظامنا الشمسی ، وليس فى انكارهم للسموات بالمعنى الظاهر من الشرع دعوى اليقين بعدها بل بمعنى أنّ علمهم وبحثهم لم يوصلهم اليها وهی أىّ هذه الطريقة أسلم وأبسط من الاولى والاعتبار والآثار تدلّ عليها ولم يحتاجوا الّا الى فرض الأثير المائی لذلك الفضاء لنقل النور من كوكب الى آخر ، وقد اكتشفوا بآلاتهم الرصديّة سيارات أخرى كثيرة غير السبعة المشهورة ممّالا مجال لذكرها فی هذا المقام .
وأما العرش والكرسى فليس فی الشرع كتاباً وسنة ما يدلّ صريحاً على جسمانیتهما سوى بعض اشارات طفيفة مثل قوله تعالى ( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ ) (1) وقوله ( عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ) (2) وهى مصروفة عن هذا الظاهر قطعاً وامّا السنّة فالأخبار كما فی السماء والعالم من البحار وغيره مختلفة اشدّ الاختلاف
ص: 272
وفيها ما يشعر بأنّهما جسمان واكثرها صريح فى عدم الجسمية وأنّهما من مقولة العلم والقدرة والملك وصفات الذات المقدسة ، وبالجملة فامعان النظر في الاخبار وكلمات العلماء والمفسرين لا يزيد الا الحيرة والارتباك والذی أراه فی هذا الموضوع الدقيق والسرّ العميق والبحث المغلف بسرائر الغيب وحجب الخفاء أنّ المراد بالكرسى هو الفضاء المحيط بعالم الاجسام كلها من السّماوات والارضين والكواكب والافلاك والشموس ، فانّ هذه العوالم الجسمانية بالقطع والضرورة لها فضاه يحويها ويحيط بها سواء كان ذاك الفضاء متناهياً بناءً على تناهى الأبعاد أو غير متناهى أىّ مجهول النهاية بناءاً على صحة عدد متناهى معلولات العلة الغير المتناهية ، وهذا الفضاء المحيط بعوالم الاجسام هو الكرسىّ - وسع كرسيه السماوات والأرض - وهو المعبّر عنه ايضاً بلسان الشرع ( بعالم الملك ) تبارك الذی بيده الملك ، ثم تحمل هذا الفضاء وكل ما فيه القوة المدبّرة المتصرفة فيه وليست هی من الأجسام بل نسبتها الى الاجسام نسبة الروح الى الجسم وهذه هی ( العرش ) الذی يحيط بالكرسى ويحمله ويدبّره ويصرّفه ويتصرّف فيه ، وتقوم تلك القوة بثمانية أركان كلّ واحد متكفّل بجهة من التدبير فتحمل ذلك العرش المحيط بالكرسی وما فيه وهی حملة العرش ، ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ، ولعلّ هذه الثمانية هی الصفات الثمانية : العلم والقدرة والحياة والوجود والارادة والسمع والبصر والادراك ، فهى بالنظر الى نسبتها الى تدبير الاجسام والسماء والارض وما فيهما ( العرش الاولى ) وبالنظر الى نسبتها الى الذات المقدّسة وأنّها صفات تلك الذات ( العرش الاعلى ) والملائكة الكروبيين ، والعرش الاعلى والادنى هو عالم الملكوت ثم فوق القوة المدّبرة للاجسام عالم العقول والمجرّدات والملائكة الروحانيين وهذا هو عالم الجبروت ، ثم يحيط بهذا العالم ويدبّره ويتصل به عالم الأسماء والصفات والاشراقات والتجلّيات وهو عالم اللاهوت ، فانتظمت العوالم الاربعة هكذا عالم
ص: 273
اللاهوت ، ثمّ عالم الجبروت ، ثمّ عالم الملكوت وهو العرش ، ثمّ عالم الملك وهو الكرسیّ أعنى الاجسام والجسمانيات .
أمّا أهل الهيئة القديمة من علماء المسلمين فقد جعلوا فلك الثوابت هو الكرسی، والفلك التاسع الأطلس هو العرش ، ومهما كان الواقع فانّ كل هذه العوالم أشعة تلك الذات المقدّسة الأحديّة ومضافة اليها اضافة اشراقية لا مقولية وسارية تلك الحقيقة سريان العلة فى المعلول .
جمالك فی كلّ الحقائق سائر *** وليس له الا جلالك ساتر
الى آخر الأبيات، وهذا البيان فى توجيه العرش والكرسی وتطبيقه على العوالم الكونية من متفرداتنا ولنا هنا مباحث دقيقة واسرار عميقة لا يتّسع لها الوقت ولا المجال ولله الحمد والمنّة على كلّ حال .
ص: 274
عموم الولاية للفقيه فی زمن الغيبة ثابت أم لا ؟ وما هو المحقّق فی ذلك .
الجواب
الولاية على الغير نفساً ، أو مالا ، أو أىّ شأن من الشئون لها ثلاث مراتب بل أربعة :
( الاولى ) ولاية الله جلّ شأنه على عباده وهو المالك لهم ولما يملكون بالملك الحقيقی الذاتى لا الجعلى العرضی ( هنا لك الولاية لله ) وهذه الولاية بدرجتها .
( الثانية ) جعلا وذاتاً لرسول الله والائمة سلام الله عليهم ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) (1) أى فضلا عن الكافرين ، وهذه الآية واسعة مطلقة بتمام السعة والاطلاق بحيث لو أنّ النبی أو الامام طلّق زوجة رجل طلقت رغماً عليه فضلا عن المال وغيره.
ص: 275
(المرتبة الثالثة ) ولاية الفقيه المجتهد النائب عن الامام وهی طبعاً أضيق من الأولى، والمستفاد من مجموع الأدلة أنّ له الولاية على الشئون العامة وما يحتاج اليه نظام الهيئة الاجتماعية المشار اليه بقولهم : ( مجاری الامور بايدى العلماء والعلماء ورثة الانبياء وامثالها ) وهى المعبّر عنها فى لسان المتشرعة بالامور الحسبية مثل التصرف باموال القاصرين الذين لاولىّ لهم ، والاوقاف التی لا متولى عليها ، وتجهيز الاموات الذين لاولىّ لهم ، واخذ ارث من لا وارث له ، وطلاق زوجة من لا ينفق على زوجته ولا يطلّقها ، أو الغايب غيبة منقطعة وكثير من أمثال ذلك ممّا لا بدّ منه وعدم امكان تعطيله للزوم العسر والحرج ، ولعلّ من هذا الباب اقامة الحدود مع الامكان وامن الضرر ، وبالجملة فالعقل والنقل يدلّ على ولاية الفقيه الجامع على مثل هذه الشئون فانّها للامام المعصوم أولاً ، ثم للفقيه المجتهد ثانياً بالنيابة المجعولة بقوله علیه السلام : وهو حجّتى عليكم ، وانا حجة الله عليكم .
ص: 276
انّما يعرف الرجل العظيم بأعماله العظيمة ويكرم ويعظم على قدر مساعيه الكريمة ويمتاز عن غيره ويرتقی على من سواه بآثاره الخالدة وعن صفاته التی هی على نفاسة ذاته شاهدة ولو أن الانسان تصفح وسبر احوال جميع من وجد فی هذا العالم من بنی آدم من الأنبياء والأصفياء والملوك والعظماء والقادة والزعماء ونظر فی حياتهم وصحيفة اعمارهم ومابقى من اخبارهم وآثارهم لم يجد واحداً فی الدهر لأميرالمؤمنين مساوياً لابل لايجد له مقارباً او مدانيا عدامن اعتراف هو له بالفضل وشهد له بالتقدم بل يظهر من مستجم كلمات رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ومستجمع ما أبان فی فضل اميرالمؤمنين علیه السلام انهما فى المزايا الذاتية سيّان وفی حقيقة الشرف الجوهرى عدلان متوازيان وان اختلفا فى شرف المنصب من حيث النبوة والامامة الذى لا يرجع الى تفاوت فى الكمالات الذاتية والفضايل الكسبيه وانما هو نص واختيار وتلجئة واضطرار بل فی بعض كلمات النبی صلی الله علیه و آله و سلم ما هو نص بانه لااحد اعظم منزلة عندالله سبحانه من على علیه السلام وهو كثير .
فمنه ما فى كلام لامير المؤمنين علیه السلام وقد تكرر منه ذلك بعبارات مختلفة حيث
ص: 277
يقول « انا من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم کالعضد من المنكب وكالذراع من العضد وكالكف من الذراع ربّانی صغيراً و آخانى كبيراً وقد علمتم انى كان لی منه مجلس سرّ لايطلع عليه غيرى واوصى الى دون اصحابه واهل بيته ولاقولن ما لم اقله لاحد قبل هذا اليوم سألته مرّة ان يدعولى بالمغفرة فقال : افعل ثم قام فصلى فلما رفع يده بالدعاء استمعت اليه ، فاذا هو قائل : اللهم بحق عليٍّ عندك اغفر لعلي فقلت يا رسول الله : ما هذا الدعاء ؟ فقال : أو أحد اكرم منك عليه فاستشفع به اليه » .
ولا غرو ولاعجب بعد الوقوف على السبب ، فانك اذا نظرت الى أيّ حال من احواله وصفة من صفاته بل الى كل واحد من اعماله تجدها خارجة عن الطاقة البشرية و ممّا يعجز عنها ولم يتهيأ مثلها لأكابر اولى العزم من الرسل فضلا عن غيرهم ، فاذا نظرت مثلا الى شجاعته وحدها او الى بلاغته مع قطع النظر عن غيرها وجدتها بالغة الاعجاز ومترفعة عن الطراز البشرى والطبع الانسانی بحيث لو أن رجلاً تخلّص للشجاعة والفراسة والقراعة والمجالدة مدة عمره بحيث لم يعان مهنة سواها ولا تعاطى حرفة غيرها ، ثم برزمنه تلك البسالة الباهرة والشجاعة القاهرة لكانت موضع الحيرة والدهشة وموضع العجب والعجب ، فكيف بك لوضممت بعض تلك الصفات الى بعض على تضادها وتنافرها غالباً ، فان الشجاع لايكون حليما والحليم لا يكون جسوراً والجسور لايكون زاهداً والزاهد المتعبد لايكون عارفاً حكيما والحكيم العارف لايكون فيلسوفا والفيلسوف لا يكون متقشّفا والمتقشف لايكون بشوشا مداعبا وهكذا وهو سلام الله عليه قد جمع كل تلك الصفات والمحامد بل كان فى كل صفة هو فردها الاكمل ومظهرها الاتم الذی يضرب به المثل وله العل منها والنهل فليس له فى الشجاعة ثانی ولا فی البلاغة مدانى ولا فى العلم مقارب ولا فی الحلم مناسب وهكذا.
انظر وعمق الفكر والنظر فى ادنى الصفات وانزل المقامات وهو مقام زهده فی
ص: 278
الدنيا واحتقاره لها وشطف عيشه وجشوبة مأكله وخشونة ملبسه ثمّ قس ذلك الى شجاعته وبسالته وقوّة عضده وساعده وانظر هل يمكن عادة ان يعطى ذلك الغذاء تلك القوّة وينمو عليه ذلك الجسد هنالك تستيقن أن القوة الٓهية والتربية ملكوتية وانه صلوات الله عليه متصل بعالم الغيب بلاريب كما قال هو صلوات الله عليه والله ما قلعت باب خیبر ولادككت حصن يهود بقوة جسمانية ولكن بقوة الٓهية .
وكيف يمكن فى العادة أن غلاما ابن احدى او اثنى عشرين سنة يقلع بابا يعجز عن حمله أربعون رجلاً.
أما طعامه وقوته فقد تظافر الخبر عنه بل تواتر يجد كل ناظر فی تفاريق كتب التاريخ ومجاميع الاخبار ففى كتاب « نثر الدر للوزير الآبى » قال الاحنف : دخلت على معاوية فقدّم لى من الحار والبارد الحلو والحامض ما كثر تعجبى منه ، ثم قدّم لى لونا لم أدر ما هو فقلت ما هذا ؟ فقال : مصارين البط محشوّة بالمخ قد قلبت بدهن الفستق وذرّ عليها بالطبرزد فبكيت فقال :
ما يبكيك ؟ قلت : ذكرت عليا علیه السلام بينا انا عنده وقد حضر وقت افطاره وطعامه وسئلنى المقام اذ دعا فجئ له بجراب مختوم فقلت :سیدی ما فی الجراب ؟ قال : سويق شعير قلت : خفت عليه أن يؤخذ أو بخلت به ؟ فقال : لا ولا احدهما ولكن خفت ان يلثه الحسن او الحسين بسمن اوزيت. قلت: محرّم هو یا اميرالمؤمنين علیه السلام ؟ فقال : لاولكن يجب على أئمة الحق أن يعتدوا أنفسهم من ضعفة الناس لئلّا يطغى الفقير فقره ، فقال معاوية : ذكرت من لا ينكر فضله (1) انتهى .
ص: 279
وقد تكرر هذا المضمون باساليب متنوعة والظاهر انه عن وقايع متعددة ففى المجموعة بسنده عن عدى ابن حاتم الطائی رحمه الله انه دخل على على بن ابيطالب سلام الله عليه فی بعض مقاماته بصفّين عشاء قال : فلقيناه واذا بين يديه شنة فيها ماء قراح وكسيرات من خبز شعير وملح ثم قال : فقال له عدى : انی لارثى لك يا اميرالمؤمنين انك لتظلّ نهارك طاوياً مجاهداً وليلك ساهراً مكابداً ثم يكون هذا فطورك فرفع رأسه سلام الله عليه وقال : ياعدى الغنی فی النفوس والفقر فیها وصلّى الله على محمّد و آله الطاهرين .
ص: 280
فی كشف الغمة عن يزيد بن قعنب - قال كنت جالساً مع العباس بن عبدالمطلب (ض) وفريق من بنى عبدالعزّى - بازاء بيت الله الحرام اذ اقلبت فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين علیه السلام حاملاً به لتسعة أشهر وقد أخذها الطلق. فقالت : يارب انى مؤمنة بك وبما جاء من عندك من كتب ورسل وانی مصدّقة بكلام جدى ابراهيم الخليل علیه السلام وانه بنى البيت العتيق فبحقّ البيت ومن بناه وبحق المولود الذی فی بطنى الّا ما يسّرت علىٰ ولادتى .
قال يزيد بن قعنب : فرأيت البيت قد انشقّ عن ظهره ودخلت فاطمة فيه وغابت عن أبصارنا وعاد الى حاله فرمنا أن ينفتح لنا قفل الباب فلم ينفتح ، فعلمنا ان ذلك من أمر الله تعالى.
ثمّ خرجت فی اليوم الرابع وعلى يدها «على بن أبی طالب» ثم قالت : انی فضّلت على من تقدّمنى من النساء لأنّ آسية بنت مزاحم عبدت الله سرّاً فی موضع لايحب أن يعبدالله فيه الا اضطراراً وأنّ مريم بنت عمران هزّت النخلة اليابسة بيدها حتى أكلت منها رطباً جنيّاً . وانى دخلت البيت الحرام فأكلت من ثمار الجنة وأرزاقها ،
ص: 281
فلما أردت أن أخرج هتف بی هاتف وقال : يا فاطمة سميّه علياً فهو علىٌّ ، والله العلى الأعلى يقول : شققت اسمه من اسمى وأدبته بآدابى وأوقفته على غامض علمى وهو الذي يكسر الأصنام فی بيتی ، وهو الذی يؤذّن على ظهر بيتی ويقدّسنى ويمجّدنى فطوبى لمن أحبّه وأطاعه و ويل لمن ابغضه وعصاه .
قالت فاطمة سلام الله عليها : ولدت علياً ولرسول الله صلى الله عليه و آله و سلم ثلاثون سنة وأحبّه رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم حباً شديداً ، وقال : اجعلی مهده قرب فراشی وكان صلى الله عليه و آله و سلم یلی اکثر تربيته ، وكان يطهّر علياً فى وقت غسله ويوجره اللبن عند شربه ويحرك مهده عند نومه ويناغيه فی يقظته ويحمله على صدره ويقول هذا أخی و وصيى وناصرى وصفیّى وذخری وصهرى وزوج كريمتی وخليفتی على أمتى وكان يحمله دائماً ويطوف به جبال مكة وشعابها وأوديتها وفجاجها فصلّى الله على الحامل والمحمول .
أقول : اتّفقت رواية الفريقين المؤالف والمخالف على انه سلام الله عليه ولد فی الكعبة وأنّها من المزايا التى اختصّه الله بها فلم تكن لأحد بعده .
ولكن لم يبحث أحد من العلماء الراسخين عن سرّ هذا الرمز الالٓهى والايماء الربوبى ، ولعلّه اشارة الىٰ ما بينه وبين الكعبة من المناسبة ، فكما ان الصلاة لاتقبل ولاتصحّ الا بالتوجه اليه ، فكذلك الاعمال كلها لا تقبلل الّا بالتوجه اليه ، والاعتماد على الأخذ منه ومن ذريته والتقرب الى الله بولايتهم و ولايته .
فهم كعبة الارواح وهو كعبة الاشباح ، وهم كعبة الاسرار والمعانی وهو كعبة الظواهر والمبانى وهم كعبة المعارف واللطائف وهو كعبة العاكف والطائف ، والغاية أن تولده سلام الله عليه فى الكعبة اشارة الى أنه هو سرّ شرف الكعبة وروح معناها وجوهر حقيقتها.
ولعل الحق جلّ شأنه انما شرفها فى عالم الأزل لسابق علمه الأزلی بأنّها ستكون مهبط ذلك النور الأقدم ومحطّ ذلك التجلّى الأعظم وموضع بزوغ ذاك القبس
ص: 282
الآلهى والعلم الغير المتناهى ، ويشير الى هذا ماهو المشهور من حديث : مفاخرة كربلاء والكعبة الذى صدع وسطع منه النداء الربوبى الكعبة قرى ياكعبة وتطامنى فلولاكربلاء ومن حل فيها لما خلقتك ولا شرفتك... الى آخر الحديث .
والا فليست الكعبة ولا المشاعر ولاالبيت ولا الحجر ولا المروة ولا الصفا لولا طلوع تلك الأنوار منها وسطوع هاتيك الاقمار الربوبية عنها الا كسائر الأماكن والبقاع وحقّاً ما يقول القائل من أعمامنا : (1)
هم كعبة البيت ومن هم *** هم عرفات والصفا وزمزم
ما الركن ما الكعبة ما المشاعر *** هم باطن الامر وهذا الظاهر
وعلى هذا فيكون التعليل معكوساً ولا ينبغی أن يقال : ما سرّ تولد أميرالمؤمنين علیه السلام فى الكعبة ؟ وهو تولّده فيها ، فتدبّر وبالله التوفيق وله المنة والحمدلله رب العالمين .
ص: 283
ص: 284
روى الأفاضل الثقات عن الشيخ المفيد رضوان الله عليه فی الاختصاص قال قال ابوالحسن موسى بن جعفر علیهما السلام : لما امر هارون الرشيد بحملی دخلت عليه فسلّمت فلم يرد علىّ السلام ورأيته مغضبا فرمى الىّ بطومار فقال : اقرأه فاذا فيه كلام قد علم عزوجل برائتی منه وفيه ان موسى بن جعفر علیه السلام یجبی الیه خراج الآفاق من غلاة الشيعة ممّن يقول بامامته يدينون الله بذلك عليهم الى أن يرث الله الأرض و من عليها ويزعمون أنه فرض يذهب اليه بالعشر ولم يصل بامامتهم ولم يحجّ باذنهم ويجاهد بامرهم ويحمل الغنيمة اليهم ويفضّل الائمة على جميع الخلق ويفرض طاعتهم مثل طاعة الله ورسوله فهو كافر حلال دمه وماله وفیه کلام شناعة مثل المتعة بلاشهود واستحلال الفروج ولو بدرهم والبرائة من السلف ويلعنون عليهم فی صلاتهم ويزعمون ان من لم يتبرء منهم فقد بانت منه امرأته والكتاب طويل واناقائم أقرء وهو ساكت فرفع رأسه وقال : يا موسى خلیفتان يجبى اليهما الخراج ؟ فقلت : يا اميرالمؤمنين أعيذك الله ان تبوء باثمى واثمك وتقبل الباطل من اعدائنا علينا فانه كذب علينا منذقبض رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم والذي بعث
ص: 285
محمّداً بالنبوة ما حمل الىّ أحد درهما ولا ديناراً من طريق الخراج كلّنا معاشر آل أبی طالب نقبل الهدية التی احلها الله لنبيه صلی الله علیه و آله و سلم فی قوله : لواهدى الىّ كراع لقبلت ، ولو دعيت الى ذراع لأجبت ، وقد علم اميرالمؤمنين ضيق ما نحن فيه وكثرة عدوّنا وما منعنا السلف من الخمس الذی نطق لنا به الكتاب فضاق بنا الأمر ورحمت علينا الصدقة فاضطررنا الى قبول الهدية وكل ذلك ممّا علمه اميرالمؤمنين فان رأيت بقرابتك من رسول الله ان تأذن لى احدثك بحديث اخبرنی به ابی عن آبائه عن جدى رسول الله فقال اذنت لك فقلت اخبرنى عن آبائه عن جدى رسول الله انه قال : ان الرحم اذا مسّت الرحم تحركت واضطربت فناولنی يدك جعلنی الله فداك ، فقال : ادنو فدنوت منه فأخذ بيدى ثم جذبنی الى نفسه وعانقنی طويلاثم تركنى وقد دمعت عيناه فقال : اجلس يا موسى فليس عليك بأس صدقت وصدق جدّك لقد تحرّك دمى واضطربت عروقی وغلبت علىّ الرقة حتى فاضت عينای واعلم انك لحمى ودمى ان الذی حدثتنی به صحيح و انا اريدان اسئلك عن أشياء تتلجلج فی صدری منذحين لم اسئل عنها احداً فان اجبتنى عنها خلّيت عنك ولم اقبل قول أحد فيك وقد بلغنى انك لم تكذب قط فاصدقنی عما اسئلك فقلت ما كان علمه عندى فانى مخبرك به ان آمنتنی قال : لك الامان ان صدقتنى وتركت التقيّة التی تعرفون بها بنى فاطمة فقلت ليسأل اميرالمؤمنين عمّا شاء .
قال : اخبرنى لم فضّلتم علينا ونحن وانتم من شجرة واحدة وبنو عبدالمطلب سواء أنتم بنو ابی طالب ونحن بنی العباس وهما عما رسول الله وقرابتهما منه سواء ؟ فقلت : نحن اقرب ، قال وكيف ذلك ؟ قلت : لان ابا طالب وعبدالله لأم وأب وابوكم العباس ليس من ام عبد الله ، قال : ولم ادعيتم انكم ورثتم النبی صلى الله عليه و آله سلم ؟ والعلم يحجب ابن العم وقبض رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وقد توفى ابوطالب قبله والعباس عمّه حى فقلت له : ان رأى اميرالمؤمنين أن يعفينی من هذه المسألة ويسئلنی عن كلّ باب
ص: 286
سواه ، فقال : لا أو تجيب ؟ فقلت : فآمنی قال : قد آمنتك قبل الكلام ، فقلت : ان فی قول على بن ابیطالب علیه السلام انه ليس مع ولد الصلب ذكرا كان او انثى لاحد سهم الا للأبوين والزوج والزوجة ولم يثبت مع ولد الصلب للعم ميراث ولم ينطق به الكتاب الّا أنّ تيماً وعديا وبنی امية قالوا : العم والد رأيا منهم بلاحقيقة ولااثر عن النبى صلی الله علیه و آله و سلم ومن قال بقول على علیه السلام من العلماء قضايا هم خلاف قضايا هؤلاء هذا نوح بن درّاج يقول فی هذه المسألة بقول على علیه السلام وقد حكم به وقد ولاه اميرالمؤمنين المصرين البصرة والكوفة وقد قضى به فانتهى الى اميرالمؤمنين فامر باحضاره واحضار من يقول بخلاف قوله منهم سفيان الثورى وابراهيم المدنى والفضيل بن عباس فشهدوا انه قول علىّ فى هذه المسألة فقال لهم : لم لاتفتون به وقد قضى به نوح بن درّاج ؟ فقال : جسر نوح وجبنا وقد امضى اميرالمؤمنين قضية بقول قدماء العامة عن النبی صلی الله علیه و آله و سلم انه قال : اقضاكم علىّ وكذلك قال عمر بن الخطاب : علىّ اقضانا وهو اسم جامع لان جميع ما مدح به النبی صلی الله علیه و آله و سلم اصحابه من الفرايض والقرائة والعلم داخل فى القضاء فقال زدنى يا موسى ، قلت : المجالس بالأمانات وخاصّة مجلسك ، فقال : لاباس عليك فقلت : ان النبی صلی الله علیه و آله و سلم لم يورث من
لم يهاجر ولا اثبت له ولاية حتى يهاجر فقال ما حجّتك ؟ قلت : قوله تعالى ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا ) وانّ عمى العباس قدر على الهجرة ولم يهاجر وكان فی عدد الاسارى ببدر وجحد ان يكون له قدرة على الفداء ، فانزل الله تبارك وتعالى على النبی صلی الله علیه و آله و سلم يخبره بدفين له من ذهب فبعث عليّا فاخرجه من عند ام الفضل واخبر العباس بما اخبره جبرئیل فاذن بعلی واعطاه علامة مادفن فقال العباس عند ذلك : يابن اخی ما فاتنی والله منك اكثر واشهدانك رسول رب العالمين فلمّا احضر على علیه السلام الذهب قال العباس افقرتنی یابن اخى فانزل الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرِىٰ إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ
ص: 287
فِی قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنكُمْ ) . فقال لی : اسئلك ياموسى هل افتيت بذلك احداً من أعدائنا او الفقهاء ؟ فقلت : اللهم لا وما سئلنى عنها الا اميرالمؤمنين ثم قال لم جوّزتم للعامة والخاصة أن ينسبوكم الى رسول الله ويقولون لكم يابن رسول الله وانتم بنو على وانما ينسب المرء الى ابيه وفاطمة هی وعاء والنبی جدكم من قبل أمكم ؟ فقلت : يا اميرالمؤمنين لو انّ النبی صلی الله علیه و آله و سلم نشر فخطب اليك كريمتك هل كنت تجيبه ؟ فقال : سبحان الله ولم لااجيبه بل افتخر على العرب والعجم وقريش بذلك ، فقلت : ولكنه لايخطب الىّ ولا ازوجه ، فقال : ولم ؟ فقلت : لأنه ولدنى ولم يلدك ، فقال : احسنت یا موسی فکیف قلتم انّا ذرية النبی والنبی ولم يعقّب وانما العقب للذكر لا الانثى وانتم ولد الابنة ؟ فقلت : اسئلك بحق القرابة والقبر ومن فيه الا اعفيتنی من هذه المسألة ، فقال : لا اوتخبرنی بحجتكم فيه يا ولد على وانت يا موسى یعسوبهم وامام زمانهم ولست اعفيك عن كل ما اسئلك حتى تأتينی فيه بالحجة من كتاب الله فانتم تدعون معشر ولد علىّ انه لا يسقط عنكم منه شیء الف ولا واو الا وتأويله عندكم واحتججتم بقوله تعالى : ما فرطنا فی الكتاب من شیء وقد استغنيتم عن راى العلماء وقياسهم ؟ فقلت : تأذن لی فی الجواب ؟ قال : هات فقلت :
بسم الله الرحمن الرحيم ومن ذريته داود وسليمان وايوب الى قوله وعيسى ... من أب عيسى يا اميرالمؤمنين ؟ فقال : ليس لعیسی اب ، فقلت : انما الحقناه بذراری الانبياء من قبل مريم علیها السلام وكذلك انما الحقنا بالنبی صلی الله علیه و آله و سلم من قبل فاطمة علیها السلام فقال : احسنت احسنت یاموسی فزدنى من مثله فقلت : وقد اجمعت الأمة برّها وفاجرها ان حديث النجرانی حين دعاه النبی صلی الله علیه و آله و سلم الى المباهلة لم يكن فی الكساء الا رسول الله وعلى وفاطمة والحسن والحسين علیهم السلام فقال الله تعالى ( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا
ص: 288
وَأَنْفُسَكُمْ ) فكان تأويل ابنائنا الحسن والحسين ، فقال : احسنت ارفع الىّ حوائجك ، فقلت : حاجتى ان تأذن لی فی الانصراف الى أهلى فانى تركتهم باكين آيسين من ان يرونی ، فقال : مأذون لك اردد .
وهكذا كان دأب ذلك الطاغية مع الامام علیه السلام لايزال يناظره ويجادله والامام يصانعه ويجامله ، يكاتمه مرة ويكاشفه اخرى ويحاشيه طوراً ويعايشه طوراً وكان هارون كأنه يريد بتلك المطارحات والمنافحات ان يستطلع مكنون الحقيقة من الامام ويستجلى مخبئات الاسرار ويتعرّف ما عند ابی الحسن سلام الله عليه فی أمر الامامة والخلافة وانه هل يرى فى نفسه ردائه المستلب وحقه المغتصب وهل فی أنفس آل على علیه السلام نزوع بعد اليها وعزيمة نهوض اليها ام طابت وتطامنت انفسهم عنها وتخلّت عزائهم منها ، فكان الامام علیه السلام يتجافى عن ذلك ما استطاع وعدد امر لايفسح له فى ذلك ويابى الا ان يصارحه بالحقيقة ولايقنع منه الا بمخ الصواب ، فاضطر الامام الى ان فلقی عليه من الحجج البالغة بل الصواعق الدامغة ما يضيق الدنيا فی عينه ويصغر عظمة ملكه وسلطانه ويجعله فی اضيق من الحبوس التی حبس الامام فيها اخيراً مستشيراً حيث يوضح له عيانا حجة وبرهانا انه غاصب ظالم ومخلد فى العذاب الدائم وكل تلك المساجلات كان الغرض منها التوصل الى تلك الخفايا والوقوف على هاتيك الثنايا ولكن الغوى الرشيد والجبار العنيد عرف بعدان سئل الامام تلك المسائل التی ادلى سلام الله عليه فيها بالحجج وأوضح المنهج واخذ بالفلج انه لوصارحه بامر الامامة وقال له فمن اين جائتكم الامامة وصرتم اوصياء رسول الله ورسول الله لم يوص الى احد وانما الامامة باجماع اهل الحل والعقد وما أشبه هذا من مزخرفاتهم عرف انه لوسئله عن ذلك لالقمه الامام حجراً ولواه من الفشل والخزى ما يودّ معه لو نبذ بالعرا فلهذا قطع الكلام و وقف دون الغاية وقال فى نفسه يقينا حسبنا منك يا اباالحسن ما لقينا ولكن الامام
ص: 289
سلام الله عليه اتماماً للحجة وقطعا للمعاذير كان يصارحه بجواب ذلك السؤال المقدر ويرميه بأم الصدر ويجرعه العلاقم ، فقدروى اثبات الفريقين من العامة والخاصة حتى رواه الزمخشرى فى ربيع الابرار قال : ان الرشيد كان يقول لموسى بن جعفر علیه السلام حدّلى فدك حتى أردها اليك فيأبى حتى الّح عليه .
أقول وكأنه سلام الله عليه أراد أن يدله على ان فدك ليست هی تلك النخيلات التی بيثرب وانما هى الملك والسلطان الذى انت فيه وغاصب لنا به ، فقال : لا أحدها الا بحدودها قال : وما حدودها ؟ قال : ان حددتها لم تردها وكان الطاغية أحس فاخذ يلح على الامام ليستطلع طلع الحقيقة ويستجلى محبأة السريرة ، فقال للامام : بحق جدّك الا فعلت قال : اما الحد الاول فعدن فتغير وجه الرشيد وقال : الحدّ الثانى سمرقند فاربد وجهه وقال : الحد الثالث افريقيه فاسود وجهه وقال : هبه قال : والرابع سيف البحر ممايلى حرزا ارمنية فقال الرشيد : فلم يبق لنا شیء فتحول الى مجلسى ؟ قال موسى علیه السلام قد اعلمتك اننى ان حددتها لم تردها . وانت تعلم ان مثل هارون فى طاغوته وجبروته وحرصه على الملك الى اين يبلغ الغيظ والحنق به على من يبدى صفحته له قائلا انى انا احق منك بالملك واولى بالامامة والولاية وانت غاصب ظالم وهو الذى اباد البرامكة واستأصلهم وهم اعزّ الخلق عليه على الظنّة وتوهم انه ربما يغلبونه او يتغلبون على ولده من بعده ولذلك لماسمع ذلك الكلام من الامام صمّم الغريمة على اتلافه كما صنع اسلافه باسلافه وقال رواة ذلك الحديث فعندها عزم على قتله ومن تلك المحاورات وامثالها يعرف معنى ماشاع عنهم سلام الله عليهم من انّ الحق يعلو ولا يعلى عليه يعنى ان الحق يعلو بالحجة والبرهان ان كان الباطل طالما يعلو على الحق بالغلبة والسلطان فان الائمة على ذكرهم السلام مازالو يقهرون اعدائهم بالحجج الباهرة والايات القاهرة ولكن اعدائهم يقهرونهم على ناموس ردالفعل بالمثل فيرمونهم بامهات المهالك
ص: 290
يحطّمونهم حطما طحنوهم طحن الرحا وداسوهم دوس السنبل خطما خضما قتلا وسما وشنقا ومحقا ارهاقا و ازهاقا واعتقالا واحراقا .
لما رای هارون ان لسان الامام على ذكره السلام اشد عليه من مأة الف سيف اراد ان يقتله بان يسجنه ويعتقله ليشفى ألم غيظه منه اولاً ويقطع سبيل وصول الناس اليه ثانياً كى لاتثور ثائرتهم وتعظم عليه بليتهم فزج الامام بسجن لا يرى فيه أديم السماء ولا يبرد اليه بريد الهواء ولكن كل ذلك ما برّلوعة غيظه ولا اطفى نار حقده ولم يجد ما يبرد أواره ويبلغه من الامام او تاره الاّ جرعة السم فی الرطب فنال فرعون ببغيه وسلطانه ما اراد من موسى زمانه وكذلك ما تركت تلك الامة التعيسة وفراعنتهم نوعاً من انواع العسف والجور والعذاب الاليم الا وقلبت اهل البيت على جمرة ساجور ومكنت زعماء الطاغوت حتى شفى من روح الايمان غلیل کفره .
ففی بعض زياراتهم الجامعة المفجعة : يا موالى فلوعاينكم المصطفى وسهام الأمّة مغرقة فى اكبادكم ورماحهم مشرعة فی نحوركم وسيوفهم مولغة فی دمائكم يشفى ابناء العواهر والزوانی غليل الفسق من ورعكم وغيظ الكفر من ايمانكم وانتم بين صريع فی المحراب قد فلق السيف هامته وشهيد فوق الجنازة قد شكّت بالسهام اكفانه وقتيل بالعراء قد رفع فوق القناة رأسه ومكبّل فی السجن قد رضت بالحديد اعضائه و مسموم قد قطعت بجرع السم امعاؤه وشملكم عباديد تفنيهم العنيد وابناء العبيد والمكبل فى السجن المرضوضة بالحديد اعضائه المقطع بجرع السم امعائه ، هم الامام موسى بن جعفر صلوات الله عليه وانّ جنازته اخرجت مع سلاسل السجن وللحديد حشخة فی رجله فهل المحن يا سادتى الا التی لزمتكم والمصائب الا التی عمّتكم والفجائع الا التی خصّتكم والقوارع الا التی طرقتكم ، فصلوات الله عليكم وعلى ارواحكم واجسادكم و رحمة الله وبركاته .
ص: 291
ص: 292
قال الخطيب البغدادى هو من أعاظم علماء العامّة وثقات المؤرخين وقدمائهم فی تاريخ بغداد ونقله عنه ابن خلّكان فی كتابه (1) قال كان موسى يدعى العبد الصالح من شدّة عبادته واجتهاده روی انه دخل مسجد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فسجد سجدة فی اوّل الليل فسمع وهو يقول : عظم الذنب من عندى فليحسن العفو من عندك يا أهل التقوى ويا أهل المغفرة . فجعل يردّدها حتى أصبح وكان سخيّا كريماً وصفوها حليماً ، فكان يبلغه عن الرجل انه يأذيه فيبعث اليه بصرة فيها ألف دينار ، ثم يزداد فی اكرامه وكان يصرّ الصرر ثلثمأة دينار واربعمأة دينار ومأتى دينار ثم يقسمها بالمدينة انتهى .
اقول : وقد عاصر سلام الله عليه أربعة من خلفاء الجور أواخر المنصور ثم المهدى ثم الهادى ثم هارون الرشيد وكلّهم تصدى لقتله وايذائه وأبدى صفحته لهتكه وظلمه قال الخطيب : كان موسى علیه السلام يسكن المدينة فاقدمه المهدى بغداد ،
ص: 293
فحبسه فرأى فى النوم على ابن ابيطالب علیه السلام وهو يقول : يا محمّد هل عسيتم ان توليتم ان تفسدوا فی الارض وتقطعوا ارحامكم . قال الربيع : فارسل الىَّ ليلاً فراعنى ذلك فجئته فاذا هو يقرء هذه الاية وكان أحسن الناس صوتاً وقال : علىَّ بموسی بن جعفر فجئته به یعنی من الحبس فقام له وعانقه واجلسه الى جانبه وقال : یا ابالحسن علیه السلام انى رأيت أمير المومنين علیه السلام فى النوم يقرء علىَّ كذا فتؤمننی ان تخرج علىَّ او على أحد من أولادى فقال : والله لافعلت ذلك ولا هو من شأنی قال : صدقت أعطه ثلاثة الاف دينار وردّه الى أهله بالمدينة قال الربيع : فاحكمت أمره ليلاً فما أصبح الّا وهو فی الطريق خوف العوائق .
اقول : ولم يزل صلوات الله عليه مدة خلافة المهدى والهادى والرشيد يحبس تارة ويطلق أخرى ويعرض على القتل مرّة ويعفى عنه مرة اخرى وحتى ان الخبيث الهادى مازال يهدّده قتله يحلف بالايمان المغلّظة على قتله ولما قتل سادات «فخ» ورئيسهم الحسين بن على من اولاد الحسن علیه السلام و حمل رأسه اليه مع الأسرى من أصحابه جعل يأبخهم وينال من الطالبين الى ان ذكر موسى بن جعفر علیه السلام فقال والله ما خرج حسين الّا عن أمره ولا اتبع الارأيه لانه صاحب الوصية فی اهل هذا البيت قتلنى الله ان ابقيت عليه ، ثم حبسه وعزم على قتله فحال الله سبحانه بینه وبين ما أراد وهلك بعد سنتين من خلافته ، ثم انتقل الامر الى الغوى العنيد هارون الرشيد وكان هو من اعراف الناس بمنزلة الامام موسى علیه السلام ومعجزاته وباهر كراماته حتى ان ولده المأمون كان يقول : انما تعلّمت التشيع من والدى الرشيد فی حديث طويل وكان يعتقد بامامته ويعتمد على حديثه وانه واقع لامحالة.
وقد ذكر جماعة من المؤرخين منهم الدميرى فی حياة الحيوان من الأصمعی انه دخل على هارون فاحضر له ولديه الامين والمأمون قال فاقبلا كانه قمرا أفق ثم أمرنى بمطارحتهما الأدب فكنت لا ألقى عليهما شيئاً من فنون الأدب الا أجابا فيه
ص: 294
وأصابا قال : فكيف ترى ادبهما ؟ قلت : يا امير المؤمنين ما رأيت مثلهما فی ذكائهما وجودة فهمهما فضمهما الى صدره وسبقته عبرته فبكى حتى تحادرت دموعه على لحيته ثم امرهما بالانصراف فانصرفا ، فلما خرجا قال لى یا اصمعی کیف بهما اذا ظهر تعاديهما وبدأ تباغضهما و وقع بأسهما بينهما حتى نسفك الدماء و يودّ كثير من الأحباء انهم كانوا موتى ؟ قلت يا امير المؤمنين : هذا شیء قضى به المنجّمون عند ولادتهما ؟ أو شیء اشرته العلماً فی امرهما ؟ قال : لابل شیء اشرته العلماء عن الأوصياء عن الأنبياء فی امرهما .
وكان المأمون فی ايام خلافته بعد قتل أخيه وسلبه ملكه يقول : كان الرشيد سمع جميع ماجرى بيننا عن موسى بن جعفر علیه السلام ومع هذا فقد كان كثيراً ما يقول له اذا اجتمع بالامام : یا موسی انی قاتلك لا محالة فيقول له الامام علیه السلام : لا تفعل يا أمير المؤمنين فانى سمعت عن ابی عن جدى ان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم كان يقول : ان الرجل يهمّ أن يصل رحمه وقد بقی من عمره ثلاث سنين فيمدها الله الى ثلاثين وقديهمّ بقطع رحمه ويكون بقی من عمره ثلاثون سنة فينقصها الله الى ثلاث سنين .
ولم يزل ينقله من سجن الى سجن وذلك ان الرشيد حجّ فی أوائل خلافته ودخل المدينة فبدء بقبر النبی صلی الله علیه و آله و سلم فقال : يا رسول الله انى أعتذر اليك من شیء انى أريد ان أحبس موسی بن جعفر علیه السلام فانه موسى بن جعفر علیه السلام فانه يريد التشتّت بين أمّتك وسفك دمائها ثم أمر بالامام علیه السلام فأخذ من المسجد وهو قائم يصلّى ، فقطعوا عليه صلاته وحمل وهو يبكى ويقول : اليك اشكو يا رسول الله ما القى واقبل الناس من كل جانب يبكون ويصحيون ، فلما أوقف بين يدىّ الرشيد شتمه وجفاه ، ثم أمر به فقيّد واخرج من داره بغلان عليهما قبتان مغطاتان الامام فى احديهما ووجّه مع كل واحدة خيلان فاخذ بواحدة على طريق البصرة والأخرى على طريق الكوفة ليعمى على الناس أمره وكان فی القبّة التی توجّهت الى البصرة وامر الرسول ان يسلّمه الى عيسى
ص: 295
ابن جعفر بن المنصور وكان والياً على البصرة حينئذ ، فقدم به حسان السروى ودفعه الى عيسى بن ابى جعفر نهاراً علانية حتى عرف ذلك وشاع خبره ، فحبسه عيسى فى بيت من بيوت المحبس الذی كان يحبس الناس فيه واقفل عليه وشغله عنه العيد ، فكان لا يفتح عنه الباب الّا فی حالتين حال يخرج فيها الى الطهور وحال يدخل اليه فيها الطعام.
فلما مضت عليه سنة كاملة على ذلك كتب عيسى الى الرشيد ان خذه منى وسلّمه الى من شئت والّا خليت سبيله فقد اجتهدت ان اجد عليه حجة فما قدرت على ذلك حتى انى لأتسّمع عليه اذا دعا لعلّه يدعو علىّ او عليك فما اسمعه يدعو الّا لنفسه بالمغفرة والرحمة، فوجّه من تسلّمه منه واتى به الى بغداد وحبسه عند الفضل بن الربيع فبقى عنده مدة طويلة فاراده الرشيد على شئى من أمره يعنى على قتله فابی وكان يظهر له علیه السلام فی الحبس من الدلايل والآيات والمعجزات ما شاع حتى بلغ الرشيد واقلقه ذلك وتحيّر فى امره فدعا يحيى بن خالد البرمكى فقال له : یا ابا على ما ترى ما نحن فيه من هذه العجائب وما نلاقى من موسى بن جعفر ألا تدبّر فی أمر هذا الرجل تدبيراً تريحنا من غمّه فقال له يحيى بن خالد : الذى اراه لك يا أميرالمؤمنين أن تمنن عليه وتصل رحمه فقد والله افسد علينا قلوب شيعتنا وكان يتولّاه وهارون لا يعلم فقال هارون : انطلق اليه واطلق عنه الحديد وأبلغه عنى السلام .
ثم امر بتسليمه الى الفضل بن يحيى بن خالد فتسلّمه منه وأراد منه الرشيد أن يسعى فى قتله فلم يفعل وبلغه انه عنده فى رفاهية وسعة وهو حينئذ بالرقة فانفذ سرورا الخادم الى بغداد وأمره ان يدخل من فوره الى موسى بن جعفر علیه السلام فيعرف خبره فان كان الامر على ما بلغه أخذه منه وسلمه الى السندی بن شاهك فقدم سرور ودخل دارالفضل ولا يعلم احد ما يريد ثم دخل على الامام فوجده على ما بلغ الرشيد، فامره بتسليمه الى السندى وهذا هو الحبس الرابع من حبوسه سلام الله عليه وهذه
ص: 296
الحبوس الأربع التى أولها عند عيسى ابن ابى جعفر ، ثم عند الفضل بن الربيع ، ثم عند الفضل بن يحيى ، ثم عند السندی بن شاهك كلّها فی خلافة هارون .
واما حبوسه من المهدى والهادى قبل خلافة هارون فهی كثيرة وأشدّ الحبوس عليه هو الحبس الأخير حبس السندی بن شاهك عليه اللعنة والعذاب الاليم، فان هذا الخبيث قد ضيق وشدد عليه بل ربما كان يسبّه ويتجاسر عليه حتى صار الامام سلام الله عليه من تواتر هذه المصائب والمحن وطول زمن الضرو البلوى كالشبح والخيال او كعود الخلال ولم يكن لبدنه جرم ولا حجم ولم يبق فی جسده الشريف لحم ولادم.
وقد ذكر ابن الجوزى فى كتاب التذكرة ان مدة حبس الرشيد له احدى عشر سنة وعن احمد بن عبد الله القزوينی عن ابيه قال : دخلت على الفضل بن الربيع وهو جالس على سطح فقال لى : ادن منی فدنوت حتى حاذيته ، ثم قال لى : اشرف على البيت فاشرفت على صحن الدار فقال لی: ماترى فقلت : ثوبا مطروحا فقال : انظر حسنا، فنظرت وتأملت فقلت : رجل ساجد فقال لى : تعرفه ؟ قلت : لاقال : هذا مولاك ، قلت : ومن مولاى ؟ فقال : تتجاهل علىّ ، هذا مولاك ابوالحسن موسى بن جعفر انی اتفقده الليل فلا أجده فی وقت من الاوقات الاّ على الحال التی اخبرك بها انه يصلى الفجر فيعقّب ساعة فی دبر صلاته الى أن تطلع الشمس ، ثم يسجد سجدة فلايزال ساجداً حتى يزول الشمس وقد وكلّ من يترصّدله الزوال فلست أدرى متى يقول الغلام : قد زالت الشمس اذيثب فيبتدء بالصلاة من غير ان يجدد وضوء ، فاعلم انه لم ينم فى سجوده ولا اغفى فلا يزال كذلك الى ان يفرغ من صلاة العصر ، فاذا صلى العصر سجد سجدة طويلة الى مغيب الشمس ، فاذا غابت وثب من سجدته فصلّى من غير ان يحدث حدثا ولا يزال فی صلاته وتعقيبه الى ان يصلى العتمة ، فاذا صلى العتمة افطر على شوى ثم يجدد الوضوء ثم يسجده ثم ينام نومة
ص: 297
خفيفة ، ثم يقوم فيجدد الوضوء ثم يقوم فلايزال يصلى فی جوف الليل حتى يطلع الفجر فهذا دأبه مذحول الىّ.
فقلت : اتق الله ولا تحدثن فى أمره حديثا يكون منه زوال النعمة فقد تعلم انه لم يفعل احد باحد منهم سوءً إلّا كانت نعمته زائلة فقال : ارسلوا الىّ غير مرّة يأمرونی بقتله فلم اجبهم الى ذلك واعلمتهم انی لاافعل ولو قتلونى .
والغوى هارون لم يزل كلما حبس الامام علیه السلام عند واحد من ثقاته وخاصته كلّفه بشتمه وقتله فيمتنع من ان يلقى الله بدمه ويتحرّج ان يبوء باثمه ولمّا كان الشّقی السندى ممن اشترى سخط الخالق برضا المخلوق وباع آخرته بدنياه اجابه الى ما دعاه و وافقه على سمّ الامام ففی بعض مؤلفات اصحابنا ان هارون لما اراد أن يقتل الامام علیه السلام عرض قتله على سائر جنده وفرسانه فلم يقبل احد منهم حتى احضر من بلاد الافرنج قوماً لايعرفون الله ولارسوله ولا الاسلام ولاشيئا من لغة العرب وادخلهم على الامام ليقتلوه فلما رأوه خرّواً سجداً بين يديه ولما عزم السندى بامر فرعونه هارون على سمّ الامام علیه السلام وعلم هارون منه ذلك احضر رطبا وأخذ منه عشرين رطبة وأخذ سلكا فعركه فى السم وادخله فی سم الخياط واقبل يردد السلك فى كل رطبة حتى علم ان السمّ قد حصل فيها ، ثم وضعه فی صينية وبعثه الى السندى فقدمه الى الامام علیه السلام وقال له أن الخليفة اكل من هذا الرطب وانفذلك وهو يقسم عليك حقّه لما أكلتها عن آخرها فأكل الامام علیه السلام شيئاً قليلا فامره السندى أن يزداد فقال : حسبك فقد بلغت ماتريد .
وروى عن بعض الثقات قال : جمعنا السندى ونحن ثمانون رجلاً من الوجوه ممّن ينسب الى الخير فادخلنا على موسى بن جعفر علیه السلام فقال لنا السندى يا هؤلاء انظر واالى هذا الرجل هل حدث به حدث فانّ الناس يزعمون انه قدفعل مكروه به ويكثرون فی ذلك وهذا منزله وفرشه موسّع عليه فی جميع أمره فسئلوه
ص: 298
فقال علیه السلام : اما ذكر من التوسعة واما اشبه ذلك فهو على ما ذكر غير انی اخبركم ايها النفر أنی قد سقيت السم فی تسع تمرات فانى اخضر غداً وبعد غد أموت قال : فنظرت الى السندی بن شاهك لعنه الله يرتعد ويضطرب مثل السعفة ثم انّ الامام علیه السلام بعد ان أكل الطعام المسموم بقى ثلاثة ايام وقيل سبعة.
قال على بن سويد كتبت الى ابى الحسن موسى علیه السلام أسأله عن حاله وعن مسائل كثيرة فاحتبس الجواب علىّ ثم اجابنى بجواب هذه نسخته بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله العلى العظيم الذی بعظمته ونوره ابصر قلوب المؤمنين وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون وابتغى من فى السماوات والارض اليه الوسيلة بالاعمال المختلفة والأديان المتضادة فمصيب ومخطىء ومهتد وسميع واصم وبصير واعمى وحيران اما بعد فانك امرء انزلك الله من آل محمّد بمنزلة خاصة وحفظ مودة لما استرعاك من دينه وما الهمك من رشدك وبتفضيلك اياهم وردك الامور اليهم كتبت تسلئنی عن أمور كنت منها فی تقية و من كتمانها فی سعة فلما انقضى عنى سلطان الجبابرة وجاء سلطان ذى السلطان العظيم بفراق الدنيا المذمومة الى اهلها العتاة على خالقهم رأيت ان افسّر لك ماسئلتنی عنه مخافة ان تدخل الحيرة على ضعفاء شيعتنا من قبل جهالتهم فاتق الله جل ذكره وخص بذلك الامر أهله واحذر ان تكون سبب بليّة الاوصياء او حارشا عليهم بافشاء ما استودعتك واظهار ما استكتمك ولن تفعل ان شاء الله ان اول ما انهى اليك انى انعى اليك نفسى فی ليالی هذه غير جازع ولانادم ولاشاك فيما هو كائن مما قد قضى الله جل وعزوحتم فاستمسك بعروة الدين آل محمّد والعروة الوثقى الوصى بعد الوصى والمسالمة لهم والرضا بما قالوا ولاتلتمس دين من ليس من شيعتك ولاتحبّ دينهم فانهم الخاثنون الذين خانوا الله ورسوله وخانوا أماناتهم وتدری كيف خانوا اماناتهم ائتمنوا على كتاب الله فحرّفوه وبدلوه ودلّوا على ولاة الامر منهم فانصرفوا عنهم الى ان قال علیه السلام : وسئلت عن الشهادات
ص: 299
لهم فاقم الشهادة لله عزوجل ولو على نفسك او الوالدين الاقربين فيما بينك وبينهم فان خفت على أخيك ضيما فلا وان من واجب حق اخيك ان لاتكتمه شيئا تنفعه به لأمر دنياه وآخرته ولاتحقد عليه و ان اساء وأجب دعوته اذا دعاك ولاتخل بينه وبين عدوّه من الناس وان كان اقرب اليه منك وعدّه فی مرضه ليس من اخلاق المؤمنين الغش ولا الأذى ولا الخيانة ولا الكبر ولا الخنا ولا الفحش ، فاذا رأيت المشوّه الاعرابى فى جحفل جرار فانتظر فرجك ولشيعتك المؤمنين ، فاذا انكسف الشمس فاربع بصرك الى السماء وانظر ما فعل الله بالمجرمين وقد فسرت لك جملاً و صلى الله على محمّد وآله الاخيار .
فلما كان اليوم الثالث قال علیه السلام للمسّيب بن زهير وهو من مواليه وكان موكّلاً بالامام علیه السلام : انى على ماعرفتك من الرحيل الى الله عزوجل ، فاذا دعوت بشربة من ماء فشربتها واصفر واحمر واخضر وأتلون ألوانا ، فاذا رأيت بی هذا الحدث فاياك ان تظهر عليه أحداً ولاعلى من عندى الا بعد وفاتى قال المسيب : فلم ازل أرقب وعده حتى دعا بالشربة فشربها ، ثم دعانى فقال لی يا مسيب ان هذا الرجس السندى سيزعم انه يتولى غسلى ودفنى وهيهات هيهات ان يكون ذلك أبداً ، فاذا حملت الى المقبرة المعروفة بمقابر قريش فالحدونی بها ولا ترفعوا قبرى فوق اربع اصابع مفرجات قال ثم رايت شخصاً اشبه الاشخاص به علیه السلام جالسا الى جنبه وكان عهدى بسيدی الرضا علیه السلام وهو غلام فأردت سؤاله فنهانى سيدى موسى علیه السلام فلم أزل صابراً حتى مضى وغاب الشخص ، ثم انهيت الخبر الى الرشيد فوافى السندی بن شاهك فوالله لقد رأيتهم بعينى وهم يظنّون انهم يغسلونه فلاتصل أيديهم اليه ويظنون انهم يحنطونه ويكفنونه وأراهم لا يصنعون به شيئاً ورأيت ذلك الشخص يتولى غسله وتحنيطه وتكفينه وهو يظهر المعاونة لهم وهم لا يعرفونه ولما قضى سلام الله عليه امر السندى ان يحمل على نعش ونودى عليه
ص: 300
« هذا امام الرافضة فاعرفوه » فلما أتى به مجلس الشرطة اقام اربعة نفر فنادوا عليه بنداء خبيث لا يستطيع القلم نشره ولا اللسان ذكره . وخرج سليمان بن أبی جعفر عمّ الرشيد من قصره الى الشطّ فسمع الصياح والضوضاء فقال لغلمانه : ما هذا ؟ قالوا : السندى ينادی على نعش موسى بن جعفر علیه السلام كذا وكذا ، فقال لولده و غلمانه : يوشك ان يفعل به هذا فی الجانب الغربی ، فاذا عبر به فانزلوا وخذوه من أيديهم فان مانعوكم فاضربوهم فلمّا عبروا به نزلوا اليهم فأخذوه من أيديهم وضربوهم وخرقوا عليهم سوادهم ووضعوه فی مفرق أربعة طرق وأقام المنادين ينادون ألا من أراد ان يرى الطيّب بن الطيّب موسى بن جعفر علیه السلام فليخرج وحضر الخلق وحنط بحنوط فأخّر واكفنه بكفن فیه حبرة استعمل عليه بالفين وخمس ماءة دينار عليها القرآن كلّه واحتفی ومشى فی جنازته مشقوق الجيب الى مقابر قريش فدفنه هناك وكتب بخبره الى الرشيد، فكتب اليه : وصلتك رحم يا عم وأحسن الله جزائك والله ما فعل السندى لعنه الله ما فعله عن أمرنا . (1)
وروى ان السندى سئل الامام علیه السلام أن يكفنه فأبى وقال : انا اهل بيت مهور نسائنا وحج صرورتنا واكفان موتانا من طهرة اموالنا وعندی کفنی ، فلما مات ادخل عليه الفقهاء و وجوه اهل بغداد وفيهم الهيثم بن عدى وغيره فنظروا اليه لااثر به وشهد واعلى ذلك واخرج فوضع على الجسر ونودى عليه هذا موسى ابن جعفر الذی تزعم الرافضة انه لا يموت فانظروا اليه فجعل الناس يتفرّسون فى وجهه وهو ميّت وفی هذا من الهون والاستخفاف والجرأة على هتك حرمات الله العظيم وهياكل توحيده المقدسة انواره و خزائن علمه واسراره ما يتذوّب له فؤاد المؤمن
ص: 301
الغيور وينشق منه قلب المتجلّد الصبور ان يكون مثل الامام موسى بن جعفر علیه السلام صفى الله وابن اصفيائه وامينه وابن امنائه مطروحاً فی الشوارع مكشوف الوجه وهو ميّت يتفرج عليه الرايح والغار والعاكف والباد والمسلم والكافر والوارد والصادر بعد تلك المحن والسجون والشئون والشجون كما ورد فی بعض زياراته الشريفة صلوات الله عليه حيث ورد فيها : اللهم صل على محمّد واهل بيته الطاهرين وصل على موسى بن جعفر وصى الابرار وامام الاخيار وعيبة الانوار و وارث السكينة والوقار والحكم والاثار الذى كان يحيى الليل بالسهرالى السحر بواصلة الاستغفار حليف السجدة الطويلة والدموع الغزيرة والمناجات الكثيرة والضراعات المتصلة ومقرالنهى والعدل والخير والفضل والندى والبذل ومألف البلوى والصبر المضطهد بالظلم المقهور (1) بالجور المعذب فی قعر السجون وظلم المطامير ذى الساق المرضوض بحلق القيود والجنازة المنادى عليها بذل الاستخفاف والوارد على جده المصطفى وأبيه المرتضى وأمّه سيدة النساء بارث مغصوب وولاء مسلوب وأمر مغلوب ودم مطلوب وسمّ مشروب اللهم فكما صبر على غليظ المحن وتجرّع غصص الكرب واستسلم لرضاك واخلص الطاعة لك ومحض الخشوع واستشعر الخضوع وعادى البدعة واهلها ولم يلحقه فی شیء من أوامرك ونواهيك لومة لائم صل عليه صلاة نامية زاكية منيفة توجب له بها شفاعة امم من خلقك وقرون من براياك بلّغه عنّا تحية وسلاماً و آتنا من لدنك فی موالاته فضلاً واحساناً ومغفرة ورضوانا انك ذوالفضل العميم والتجاوز العظيم برحمتك يا ارحم الراحمين .
ص: 302
( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ٭ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ ) . (1)
بما انّ الانسان متكوّن من جوهرين جسم وروح ، فقد جعل شارع الشريعة الاسلامية لكل من الجوهرين فرائض ، وتكاليف ، ليس الغرض منها سوى سعادة الانسان ، وتعاليه فی معارج الكرامة ومدارج العظمة ، وأهمّ فرائض الروح العقيدة والايمان ، واهمّ فرائض البدن ، اعمال خاصة يسمّيها الشرع بالعبادات والفروع أى فروع الدين، كما يسمّى تلك باصول الدين ، وتلك العبادات خمسة : الصلاة والصوم ، وهی بدنية محضة ، والخمس ، والزكاة وهی مالية محضة ، والحج يتضّمنها معاً ، فهو عبادة مالية ، وبدنية وقد جمعت كلّ واحدة من هذه العبادات أسراراً وحكماً اذا لم يكن الحج اكبرها مقاصد واكثرها أسراراً وفوائد فليس هو باقلّها وقد اشارت الآيات الى بعض تلك الاسرار والمزايا ، وهي مادية اقتصادية ،
ص: 303
واخلاقية اجتماعية ، ورموز علوية ، ورياضات روحية ، نعم الناظر إلى أعمال الحج نظرة سطحية قد ينسبق الى ذهنه أنّها الاعيب من العبث ، واضراب من اللهو والنصب ولكن لا تلبث تلك النظرة العابرة حتى تعود عبرة وفكرة ، تذهل عندها الالباب وتطيش فى سبحات جلالها العقول ، امّا الذى فيه من الفوائد المادية ، والاجتماعية ، والاخلاقية ، فلعل سطحه الاول ظاهر مكشوف ، والتوسع فيه يحتاج الى مجال اوسع ونظر اعلى وارفع، وهى التى اشير اليها بقوله عزّ شأنه ( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ) ولكن اذا لم يتسع لنا المجال للاشارة الى تشريح هذه المنافع أفلا يمكن التلويح الى بعض تلك النفحات التی تهب نسائهما من الكنوز والرموز الروحية التی تتضمنها أعمال الحج أوّلها الاحرام ، أرايت المحرم حين يتجرد من ثيابه التى يتجمل بها بين الناس فيستبدل بها قطعتين من القطن الابيض اشارة الى قطعه جميع علائق هذه الحياة ، وزخارفها ، واكتفائه بثوبين ، كمن ينتقل من هذه الحياة الى الحياة الاخرى ، لابساً أكفانه ، منصرف النفس عن كلّ شهواتها ، وعازفاً عن كلّ لذاتها ، أتراه حين يرفع صوته كلما على جبلاً أو هبط وادياً او نام او استيقظ ( لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك ) كانه يجيب داعياً، ويخاطب مناديا ، نعم يجيب داعى الضمير، وخطاب الوجدان خطاباً يجيب به نداء ربّه ، واذان أبيه ابراهيم ، ودعوة نبيه محمّد صلی الله علیه و آله و سلم أتراه كيف يتجرّد عن الدنيا ويتحلى عن الروح الحيوانية فيصير روحاً مجرداً ، وملاءكاً بشراً فيحرّم على نفسه التمتّع حتى من النساء والطيب والطيبات ، بل حتى العقد على النساء ويحرم عليه أن يؤذى حيواناً ، ولو من الهوام وأن يصيد صيداً ولو من الانعام ، وان يقطع شجراً؛ أو يقطع نباتاً، واذا عقد على امرأة فى احرامه حرمت عليه ابداً ، أرأيته حين يطوف حول الكعبة رمز الخلود ، ومركز الابدية وتمثال العرش الذى تطوف حوله الملائكة ( وَ تَرَى
ص: 304
الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ) (1) طالباً أن تفتح أبوابها فيدخل فی فردوسها الأبهى ؛ ويخلد فی نعيمها الابدى ، مع الخالدين ، أتراك حيث يبتدء بطوافك من الحجر فتلمسه قاصداً انك تبايعه وتأخذ العهد منه وتقبله وكأنك تقبل يد الرحمن، وانّه قد نزل من السماء أبيض من اللجين ولكن ذنوب العباد كسته حلة السواد كناية انه تحمل ذنوبهم وتعهد بغفرآنها من خالقهم ، أرأيت كيف ينقلب الطائف حول الكعبة بعد الفراغ من طوافه الى مقام ابراهيم فيصلّى فيه اشارة الى أنّه بعد طوافه على القلب قام مقام أبيه ابراهيم فی دعائه الى الرّب واتخذوا من مقام ابراهيم مصلّى ربنا تقبل منا انك أنت السميع العليم وتب علينا انك أنت التواب الرحيم ، أتراه حين ينفلت بعد الفراغ من الطواف الى السعى بين الصفا والمروة مهرولاً يدفعه الشوق الى السوق حذار أن تعرضه خطرات الوساوس فتكون حجر عثرة فی طريقه الى مشاهدة الحق وتكدر عليه ذلك الصفا المتجلّى عليه من اشعة تلك اللمعات والصفا هو الصخرة التی وقف عليها نبی الرحمة فی أول دعوته الناس الى التوحيد ، والدخول فی دين الاسلام ، والتخلّى عن عبادة الاصنام ، ما بين الصفا والمروة هو الموقع الذی سعت فيه هاجر أم اسماعيل سبع أشواط فی طلب الماء لولدها الذی تركته فی المسجد الحرام حول الكعبة ولما أيست رجعت لولدها ، رجعت اليه فوجدت ماء زمزم قد نبع من تحت قدميه ثم بعد اكمال السعى يقصر من شعره، ولعله اشارة الى أن السالك الى الحق مهما جد فی المسير، فان مصيرة ومنتهاه الى القصور فی شعوره ، أو التقصير ، فاذا عرف قصوره ، واعترف به ، حلّ من احرامه ، وأحل الله له الطيبات التی حرمها عليه ، ورجع من الحق الى الخلق، وهو أحد الاسفار الاربع ، والى هنا تنتهى عمرته ، ثم يوم الثامن يوم التروية يعقد
ص: 305
الاحرام ثانياً، وهو احرام الحج ، ويتوجّه الى منى وقبل الظهر يوم التاسع يكون فی عرفات من الظهر الى غروب الشمس ، ثم يفيض الى المشعر ، وقبل طلوع الشمس يعود الى منى ، فيأتی بمناسكها الثلاثة الرمی ، والذبح ، والحلق يوم عيد الأضحى ، وبعد الحلق يحل من كل ما حرم عليه بالاحرام الا الطيب ، والصيد، والنساء، ثم يعود الى مكة ، لاحرام الحج و يحل له بعده الصيد ، والطيب ؛ ثم يعود الى منى ويبيت فيها ليالى النقر ؛ الحادية والثانية عشر ويرمى الجمرات فی اليومين، او الثلاث بعد الاضحى ثم يطوف طواف النساء فتحل له وهنا تنتهى أعمال الحج والمناسك بأجمعها وفى كل واحد من هذه الاعمال رموز و اسرار وحكم ومصالح لو أردنا شرح بعضها فضلاً عن كلّها لاحتجنا الى مؤلف مستقل لا نستطيع القيام به ، وقد وهن العظم منى واشتعل الرأس شيباً ، ولكن ليعلم أنّ الاسرار والمصالح التی فی الحج ، بل وفی كلّ عبادة ، نوعان خاصة ، وعامّة ، أمّا الخاصة فهی الاسرار التی يتوصّل اليها السالكون والعلماء الراسخون ، والعرفاء الشامخون ولا تنكشف استارها ، وكنوزها لعامّة الناس ، بل ولا يتصورها بلمح الخيال احد منهم وأمّا العامّة فهى الواضحة المكشوفة التى يستطيع كل متفكر ومتدبر أن يعرفها ويتوسل اليها وأعظمها وأهمّها واجلى المصالح والاهداف التی يرمى اليها ويتطلبها على الظاهر المكشوف والتی يدركها كل ذى شعور هى الناحية الاجتماعية ، ومن المعلوم أنّ الاسلام دين اجتماعی وقد أعطى للنواحى الاجتماعية أعظم الأهمية فشرّع صلاة الجماعة فی مسجد المحلة كلّ يوم ثلاث مرّات أو خمس وصلاة الجمعة فی المسجد كل اسبوع وصلاة العيدين لعموم أهل كل بلد وضواحيها كل سنة مرتين ولم يكتف بذلك كله حتى دعى الى مؤتمر عام بجميع أهل الحجى ، والثروة ، والطبقة الرّاقية ، مالاً وعقلاً من المسلمين المتفرقين فى اقطار الارض الشاسعة فی صعيد واحد ، ليتعار فوا أولاً فاذا تعاروفا تآلفوا واذا تآلفوا تكاثفوا وصار كل واحد منهم
ص: 306
قوة للآخر يتفقد شؤونه ، ويشاركه فى سرّائه وضرّائه ، ونعيمه وشقائه ، فتكون من ذلك للمسلمين قوّة هائلة ، لا تقاومها كلّ قوة فی العالم، أذكر انّى عام ( 1330 ه-) أعنى قبل احدى واربعين سنة لما تشرفت للحج اجتمعت على ربوة (1) مساء حول مسجد الخيف بجماعة من الحجاج، فكان فيهم الصينى، والمراكشی ، واليمانی ، والعراقی ، والهندى ، وكان فيهم من يحسن اكثر اللغات، فانجرّ الحديث الى الحج ومنافعه ، وفوائده ، مع كثرة متاعبه ، وتكاليفه ، فقلت أیّ فائدة تريدون أعظم من اجتماعنا هذا وهل كان يدور فی خلد أحد أن يجتمع الصينی فی أقصى الشرق بالمراكشی وهو فى أقصى الغرب والعراقى والفارسی وهو فی طرف الشمال باليمانی وهو فی أقصى الجنوب ، ولكنّ المسلمون ويا للأسف لو كان يجدى الأسف انّهم لما فاتهم الحجى واللبّ أصبحت أعمالهم بل وعباداتهم قشراً بلا لبّ ، يجتمعون وهم متفرّقون ، ويتقاربون وهم متباعدون، متقاربة أجسامهم متضاربة أحلامهم ، يحجّون ولا يتعرّف احدهم باخيه ولا يرى الّا صورته ، ولا يعرف شيئاً من أحواله بل ولا اسمه ، وبهذا ومثله وصلنا الى الحال التی نحن فيها اليوم ، فلا حول ولا قوّة ، وبالله المستعان على هذا الزمان وأهل الزمان .
ص: 307
ص: 308
تشترك العبادات عموماً بأنّها أفعال وجودية ، هی بمنزلة الجسد وروحها النيّة ، فالصلاة ، والطواف ، والسعى ، كالغسل والوضوء ، وامثالها اعمال جسدية ، اذا لم يأت بها المكلف بداعى القربة فهى كجسد ميت لا حياة فيه ، وكاشباح بلا ارواح ، ولكن مهما كان فهو جسم عبادة ؛ وصورة طاعة ؛ وكل العبادات فی ذلك سواء أعنى أنّها أجساد ولها ارواح فان كانت تلك الروح فيه فهو حىّ ، والّا فهو ميت الّا الصوم فقد كادبل كان روحاً مجردة ، وحياة متمحضة لاجسم له ولا مادة ، وهذه ميزة امتاز بها الصوم عن سائر العبادات ، ولم يشاركه فيها سوى الاحرام ؛ فان الصيام والاحرام كل منهما تروك محضة ، وعدميات صرفة ، ليس فيها من الأعمال الجسمانية شیء، ولكن الاحرام فضحته ثياب الاحرام ولبسها وبقى الصيام محتفظاً بروحيّته وتجرّده من كل عمل ظاهرى ، ولم يتجاوز عن كونه نيّة خالصة ، وعبادة قلبية حفيّة ، لا يعلم بها الاصاحبها وربّه العالم بالسرائر ، ومن هنا اختص الصوم بميزة انفرد بهادون كلّ عبادة ، وهی عدم امكان دخول الرياء فيه بل يستحيل ذلك إلّا بالقول، فيكون الرياء حين ذاك بالعبارة لا بالعبادة ، وبالكلام لا بالصيام
ص: 309
والاحرام أيضاً بجوهره وان كان نيّة وتروكاً كالصوم الا أن الاحرام فيه عمل واحد وجودى ؛ وهو لبس ثياب الاحرام، ومنه قد يتأتى تدخّل الرياء فيه ، بخلاف الصوم المتمحّض فى النيّة والتروك فقط فهو عبادة صامتة خرساء ، ومعاملة سرّية بين القلب والرّب ، ولعل هذا هو المراد من الحديث المشهور ( الصوم لى وأنا أجزى به ) مبنيّاً للفاعل ، فيكون القصد أنه تعالى تكريماً للصائم يتولى جزائه مباشرة من دون وسائط الفيض، وعلى المفعول : فيكون المراد انه هو جزائی واللائق بمقام عظمتى وتجرّدى ، فانّ الصائم يتجرّد ويصير روحانياً، والمتخلق باخلاق الرّوحانيين يلحق بهم، ويكون الحوقه بهم جزاؤه لهم ، سواء عاد الضمير الى الصوم ، أو للصائم هذا مضافاً الى ما يتضمّنه الصوم من الفوائد الصحّية ، والرياضة البدنيّة، وتربية قوّة الارادة، ومضاء العزم، وتهذيب النفس ، وقمعها عن الانقياد الى بواعث الشهوات، وكبح جماع قوتى الشهوّة والغضب اللتين هما أصل كل جريمة ، والسبب فی هتك كلّ حرمة ، ومن آثاره تذكر حال الفقراء وأهل الفاقة ومن كضه الطوى وأمضه الجوع ، فانّ الصيام يوجب رقة القلب واندفاع الدمعة فيواسى اخوانه ، ويكون حليماً ورحيماً ومهبطاً للرحمة ، والراحمون يرحمهم الله تعالى .
ص: 310
(68) وحدة الوجود أو وحدة الموجود (1)
« عن سائر العبادات »
هذه القضيّة من أمّهات أو مهمّات قضايا الفلسفة الآلهية وهی تتصل اتصالاً وثيقاً بعلم الحكمة العالية والالهى بالمعنى الاعم الذی يبحث فيه عن الامور العامّة ، كالوجود والموجود وكالواجب والممكن ، والعلّة والمعلول والوحدة والكثرة، وأمثالها ممّا لا يتعلق بموضوع خاص، ولا حقيقة معيّنة من الانواع لا ذهناً ولا خارجاً، وللتمهيد والمقدمة نقول :
انّ من المسائل الخلافية بين حكماء الاسلام وفلاسفة المسلمين مسألة أصالة الوجود أو الماهية بمعنى أنّ المتحقق فى العين والخارج هل هو الوجود والماهية امر اعتبارى ينتزع من الوجود المحدود المقيّد المتعيّن بالتعيّن الذی يميّزه عن غيره
ص: 311
بالجنس والنوع وغيرهما من الاعتبارات او أنّ المتحقق فی ظرف العين والخارج ونفس الأمر والواقع هو الماهية والوجود مفهوم اعتبارى خارج عنها منتزع منها محمول عليها من خوارج المحمول لا المحمولات بالضميمة ، فماهيّة النار مثلا اذا تحققت فی الخارج وترتبت عليها آثارها الخاصة من الاضائة والاحراق والحرارة صحّ انتزاع الوجود منها وحملة عليها فيقال النار موجودة وإلا فهى معدومة وهذا القول أعنى اصالة الماهية ، وأنّ الوجود فی جميع الموجودات حتى الواجب اعتبار محض على الظاهر كان هو المشهور عند الحكماء الى أوائل القرن الحادی عشر ، وعليه تبتنى شبهة الحكيم ( ابن كمونه ) (1) التی اشكل بها على التوحيد زاعماً أنه ما المانع من أن يكون فی ظرف التحقّق ونفس الأمر والواقع هو بتان مجهولتا الكنه والحقيقة ؛ بسيطتان متبائنتان بتمام ذاتيهما وينتزع وجوب الوجود من كلّ منهما ويحمل على كل واحدة منهما من قبيل خارج المحمول لا المحمول بالضميمة لأنّ ذات كلّ منهما بسيطة لا تركيب فيها إذا التركيب يلازم الامكان وقد فرضنا وجوب كلّ منهما وقد اعضلت هذه الشبهة فی عصره على اساطين الحكمة واستمر
ص: 312
اعضالها عدّة قرون حتى صار يعبّر عنها كما فی أوّل الجزء الاوّل من الاسفار ( افتخار الشياطين ) وسمعنا من اساتذتنا فی الحكمة انّ المحقق الخونساری (1) صاحب ( مشارق الشموس ) الذى كان يلقب بالعقل الحادی عشر ، قال : لو ظهر الحجة عجل الله فرجه لما طلبت معجزة منه الّا الجواب عن شبهة ابن كمونة ولكن فی القرن الحادی عشر الذی نبغت فيه أعاظم الحكماء كالسيد الداماد ، (2) وتلميذه ملاصدرا ، (3) وتلميذيه الفيض (4) واللاهيجى صاحب الشوارق الملقب بالفيّاض (5) انعكس الامر وأقيمت البراهين الساطعة على أصالة الوجود ، وأنّ الماهيات جميعاً اعتبارات صرفة ينتزعها الذهن من حدود الوجود، امّا الوجود الغير المحدود كوجود الواجب جلّ شأنه فلا ماهيّة له بل ( ماهيته انيته ) وقد ذكر الحكيم السبزواری رحمه الله (6) فی منظومته البراهين القاطعة على أصالة الوجود مع أنّه من أوجز كتب الحكمة فما ظنّك بالاسفار وهى اربع مجلدات بالقطع الكبير ، ويكفيك
ص: 313
منها برهان واحد وهو اختلاف نحوى الوجود حيث نرى بالضّرورة والوجدان أنّ النار مثلاً بوجودها الذهنى لا يترتب عليها شیء من الآثار من احراق وغيره بخلاف وجودها الخارجیء ولو كانت هى المتأصلة فی كلا الوجودين لترتبت آثارها ذهناً وخارجاً واليه أشار فی المنظومة بقوله :
وانه منبع كل شرف *** والفرق بين نحوى الكون يفى
وحيث اسفرت الابحاث الحكمية عن هذه الحقيقة الجلية من اصالة الوجود الخارجی الغير المحدود الذی نعبر عنه بواجب الوجود جلّت عظمته يستحيل أن يفرض له ثانی . فان كل حقيقة بسيطة لا تركيب فيها يستحيل أن تتثنى وتتكرر لا ذهناً ولا خارجاً ولا وهماً ولا فرضاً ، وقد أحسن المثنوى (1) فی الاشارة الى هذه النظرية القطعية حيث يقول : عن أستاذه شمس التبريزى . (2)
شمس در خارج اگرچه هست فرد *** می توان هم مثل او تصویر کرد
شمس تبریزی که نور مطلق است *** آفتاب است و ز انوار حق است
شمس تبریزی که خارج از اثیر *** نبودش در ذهن و در خارج نظیر
وبعد أن اتضح بطلان أصالة الماهية ، وأشرق نور الوجود باصالته اختلف القائلون باصالة الوجود بين قائل بأنّ الوجودات بأجمعها واجبها وممكنها الذهنى منها ، والخارجی المتبائنة فی تشخصها وتعيينها قطعاً هل اطلاق الوجود عليها من باب المشترك اللفظى ، وهو اطلاق اللفظ على المعانى المتكثرة والمفاهيم المتبائنة التی لا تندرج تحت حقيقة واحدة ، ولا يجمعها قدر مشترك كالعين التی تستعمل فی
ص: 314
الباصرة وفى النابعة والذهب الى آخرها لها من المعانى الكثيرة المتبائنه على عكس المترادف الفاظ كثيرة لمعنى واحد والمشترك معانى كثيرة تحت لفظ واحد ، وقد نسب هذا القول الى المشائين أو لأكثرهم.
أو أنّه من المشترك المعنوى موجود النار ووجود الماء فی باب المفاهيم ووجود زيد، ووجود عمر وفى باب المصاديق شیء واحد وحقيقة فاردة وانّما التبائن والتعدّد فی الماهيّات المنتزعة من حدود الوجود وتعينّات القيود ، فحقيقة الوجود من حيث هو واحدة بكل معانى الوحدة ، وما به الامتياز هو عين ما به الاشتراك فتدبّر هذه الجملة جيداً كى تصل الى معناها جيداً، وحيث أنّ القول الاوّل يستلزم محاذير قطعية الفساد وما يستلزم الفاسد فاسد قطعاً، ومن بعض محاذيره لزوم العزلة بين وجود الواجب ووجود الممكن وعدم السنخية بين العلة والمعلول المنتهى الى بطلان التوحيد من أصله واساسه ، والى هذا أشار سيد الموحدين وامام العرفاء الشامخين أمير المؤمنين سلام الله عليه حيث يقول :
( توحيده تمييزه عن خلقه وحكم التمييز بينونة صفة لا بينونة عزلة ) ولله هذه الحكمة الشامخة والكلمة الباذخة ما أجلّها وأجمعها لقواعد التوحيد والتجريد والتنزيه ودحض التشبيه ، والأصح الذى لا غبار عليه أنّ حقيقة الوجود من حيث هى واحدة لا تعدّد فيها ولا تكرار بل كلّ حقيقة من الحقائق وماهية من الماهيّات أيضاً بالنظر الى ذاتها مجردة عن كل ما سواها يستحيل تعددها وتكررها ومن قواعد الحكمة المتفق عليها أنّ ( حقيقة الشیء لا تتثنى ولا تتكرر والماهيّات انّما تتكثرو تتكرر بالوجود ) كما ان الوجود انما يتكثر بالماهيّات والحدود يعنى أنّ ماهية الانسان وحقيقته النوعية انّما تكثرت بالافراد العينية والمصاديق الخارجية والتعيّن انّما جاء من الوجود وبه تكررت الماهية وتكثرت ، ولو لا الوجود لما كانت الماهية من حيث هی الّا هی لا تعدد ولا تكثر وكما أنّ الماهيّة بالوجود تكرّرت وتكثّرت
ص: 315
فكذلك الوجود انّما تكرر وتكثر بالحدود والتعيّنات التى انتزعت منها الماهيّات ، فالقضية مطردة منعكسه تكثر الوجود بالماهية ، وتكثرت الماهية بالوجود .
ثم انّ الوجود نوعان : ذهنى وخارجى ، اما الذهنى : فهو اعتبار صرف ومفهوم محض كسائر المفاهيم الذهنية المنتزعة من المصاديق يحمل عليها بالحمل الشايع الصناعی من المحمولات بالضميمة لا خوارج المحمول فقولك زيد موجود كقولك : زید كاتب وهو كلى واحد منطبق على افراده التی لا تحصى ومن المعقولات الثانوية باصطلاح الحكيم.
امّا الوجود العينى الخارجى الذى يحكى عنه ذلك المفهوم وينتزع منه : فهو بانواعه الأربعة الذاتى وهو بشرط لا والمطلق وهو لا بشرط والمقيد وهو بشرط شیء ويندرج فيه الوجود الرابط وهو مفاد كان الناقصة والرابطى وهو ما يكون وجوده فى نفسه عين وجوده لغيره كالاعراض والربطى وهو ما يكون وجوده لنفسه فی نفسه ولكن بغيره كالجواهر فانها موجودة لنفسها وفى نفسها لكن بغيرها أى بعلتها اما واجب الوجود فوجوده لنفسه فی نفسه بنفسه ، وهو أى الوجود أيضاً بذاته وبجميع هذه الأنواع وحدانی ذو مراتب متفاوتة بالقوّة والضعف والأوّليّة والأولوية أعلى مراتبه واولها واولاها الوجود الواجب الجامع لكمالات جميع مادونه من مراتب الوجود بنحو البساطة والوحدة الجامعة لجميع الكثرات وكل الكثرات نشأت منها ورجعت اليها ( إنّٰا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) واليه الاشارة بقولهم ( بسيط الحقيقة كل الاشياء وليس بشیء من الاشياء ) والتوحيد الكامل ( رد الكثرة الى الوحدة والوحدة الى الكثرة ) وهذا الوجود الخارجی من أعلى مراتبه الوجوبيّة الى أخسّ مراتبه الامكانية وهى الهيولى التى لها أضعف حظّ من الوجود وهى القوة القابلة لكلّ صورة ولعلها هى المشار اليها فی دعاء السمات وانزجر لها العمق الاكبر كله واجبه وممكنه وماديه ومجرده حقيقة واحدة وان
ص: 316
اختلف فى القوة والضعف والوجوب والامكان والعلّية والمعلولية ولكن كل هذا الاختلاف العظيم لايخرجه عن كونه حقيقة واحدة ولا يصيره حقائق متبائنة وان كان بالنّظر الى حدوده ومراتبه متعدداً ومتكثراً ولكن حقيقته من حيث هی واحدة لا تعدد فيها ولا تكثر ألا ترى أنّ الماء من حيث انواعه واصنافه ما اكثره واوسعه فماء السماء وماء البحر وماء النهر وماء البئر وهكذا ولكن مهما تكثّرت الانواع وتعدّدت المصاديق فحقيقة الماء وطبيعته فى الجميع واحدة وهكذا سائر الماهيات والطبائع اذاً فوحدة الوجود بهذا المعنى تكاد أن تكون من الضروريات التی لا تستقيم حقيقة التوحيد الّا بها ولا تنتظم مراتب العلّة والمعلول والحق والخلق الا بها فالوجود واحد مرتبط بعضه ببعض من أعلى مراتبه من واجب الوجود نازلاً على أدناها وأضعفها وهو الهيولى التى لا حظ لها من الوجود سوى القوة والاستعداد ثم منها ساعداً الى المبدء الاعلى والعلة الا ولى منه المبدء واليه المعاد ، ثم انّ اول صادر منه واقرب موجود اليه هو العقل الكلى والصادر الاول ( اول ما خلق الله العقل ) الحديث وهو العقل الكلى الخارجى العينى لا الكلى الذهنی المفهومی وهو ظل الله وفيضه الاقدس - وظلّ الله الممدود من سماء الجبروت عالم السكون المطلق ومركز الثبات ، الى عالم الملك والملكوت والناسوت موطن التغيّر والحركات ، ألم تر الى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكناً، وهذا هو وجه الله الكريم الذى لا يفنى ولن يفنى أبداً وهو اسم الله العظيم الأعظم ونوره المشرق على هياكل الممكنات الذى يطلق عليه عند الحكماء بالنفس الرحمانی وعند العرفاء بالحق المخلوق به ، وفی الشرع رحمته التی وسعت كل شیء والحقيقة المحمدية ، والصادر الاول ( أوّل ما خلق الله نورى ) وهو الجامع لكل العوالم عالم الجبروت والملكوت والملك والناسوت ، وجميع العقول المفارقة والمجردة والمادية الكلية والجزئية عرضية وطولية ، والنفوس كذلك كلية وجزئية والارواح والاجسام
ص: 317
والمثل العليا، وارباب الانواع التی يعبّر عنها فی الشرع بالملائكة والروح الاعظم الذی هو سيد الملائكة ورب نوعها . كل هذه العوالم صدرت من ذلك الوجود المطلق والمبدأ الاعلى الذی هو فوق ما لا يتناهى بما لا يتناهى قوّة وشدّة وعدة ومدّة، أو جد عزّ شأنه ذلك الصادر الاوّل الجمع لجميع الكائنات والوجودات الممكنات ، أو جده بمحض المشيئة ، وصرف الارادة فی أزل الآزال الى أبد الآباد ( وَ مٰا أَمْرُنٰا إِلّٰا وٰاحِدَةُ كَلَمْحِ بِالْبَصَرِ ) (1) والتشبيه من ضيق نطاق الالفاظ ، والّا فالحقيقة أدقّ وأرقّ من ذلك وهو المثل الاعلى الحاكى بنوع من الحكاية عن تلك الذات المقدّسة المحتجّبة بسرادق العظمة والجبروت وغيب الغيوب ( يا من لا يعلم ما هو الّا هو ) وذلك العقل الكلى أو الصادر الاول ( ما شئت فعبرّ ) أو الحقيقة المحمّديّة متصلة بمبدأها غير منفصلة عنه ، لا فرق بينك وبينها الّا أنّهم عبادك وخلقك ؛ بدؤها منك وعودها اليك ، ( أنا أصغر من ربی بسنتين ) والكل وجود واحد ممتد بلا مدة ولا مادّة ، من صبح الازل الى عشية الابد بلاحدّ ولاعدّ، ولا بداية ولا نهاية ، ومن المجاز البعيد ، وضيق خناق الالفاظ قولنا : هو الأوّل والآخر والظاهر والباطن ، وجوده قبل القبل فی أزل الآزال ، وبقاؤه بعد البعد من غير انتقال ولا زوال .
همه عالم صدای نغمۀ اوست *** که شنید این چنین صدای دراز
( مٰا خَلْقُكُمْ وَ لٰا بَعْثُكُمْ إِلّٰا كَنَفْسٍ وٰاحِدَةٍ ) (2) وذلك النفس الرحمانی والعقل الكلّى ، والصادر الاول - هو كتاب الله التكوينی - الذى لا نفاد لكلماته ( قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ) (3)
ص: 318
ولو أردنا التوسع فى هذه الغوامض والاسرارا وكشف الرموز عن هذه الكنوز ملأنا القماطير بالاساطير ولم نأت الّا بقليل من كثير .
( مثنوی هفتاد من كاغذ شود )
ولكن ما ذكرناه مع غاية ايجازه لعلّه كاف للمتدبّر فی أثبات المعنى الصحيح ( لوحدة الوجود ) وأنّه مترفّع الأفق عن الانكار والجحود، بل هو من الضروريات الأوليّة ، وقد عرّفنا الضرورى فى بعض مؤلفاتنا بأنّه ما يستلزم نفس تصوّره حصول التصديق به ولا يحتاج الى دليل وبرهان، مثل أنّ الواحد نصف الاثنين فوحدة الوجود بالمعنى الذی ذكرناه لا ريب فيها ولا اشكال ، انّما الاشكال والأعضال فی وحدة الموجود فانّ المعقول فی بادىء النظر وحدة الوجود ، وتعدّد الموجود المتحصّل من الحدود والقيود والتعينات، ولكنّ الذی طفح وطغى فی كلمات العرفاء الشامخين ومشايخ الصوفية السالكين والواصلين هو وحدة الوجود ووحدة الموجود أيضاً، وكانت هذه الكلمة العصماء يلوح بها أكابر العرفاء والأساطين فی القرون الاولى كالجنيد (1) والشبلى (2) وبا يزيد البسطامی ، (3) ومعروف الكرخی ، (4) وأمثالهم حتى وصلت الى الحلّاج وأقرانه الى أن نبغ فی
ص: 319
القرون الوسطى محى الدين العربى وتلميذاه القونوی . (1)
والقيصرى (2) فجعلوها فناً من الفنون والمؤلّفات الضخام كالفتوحات المكية وغيرها، والمتون المختصرة كالفصوص والنصوص التی شرحها ونقحها صدر الدين القونوی ، وانتشرت وعند عرفاء القرون الوسطى من العرب كابن الفارض وابن عفيف التلمسانى (3) وغيرهما ، ومن الفرس كثير لا يحصى عددهم كالعطّار (4) والهاتف (5) والجامى (6) واضرابهم واحسن من أبدع فيها نظماً العارف التبريزى الشبسترى فى كتابه المعروف (کلشن راز ) وخلاصة هذه النظرية أنّ تلك الطائفة لمّا ارادوا ان يبالغوا ويبلغوا أقصى مراتب التوحيد الذی ما عليه من مزيد، وان لا يجعلوا للحق شريكا لا فی الربوبية كما هو المعروف عند ارباب الاديان بل نفوا الشريك له حتى فى الوجود فقالوا لا موجود سوى الحق ، وهذه الكائنات من المجرّدات والماديّات من أرضين وسماوات ، وما فيها من الأفلاك والانسان والحيوان والنبات بل العوالم باجمعها كلها تطوراته وظهوراته وليس فی الدار غيره ديّار ، وكل ما نراه أو نحسّ به أو نتعقله لا وجود له ، وانّما الوجود والموجود
ص: 320
هو الحق جل شأنه، ونحن أعدام وليس وجودنا الّا وجوده.
ما عدمائيم وهستيهانما *** تو وجود مطلق و هستی ما
که همه اوست و نیست جز او *** وحده لا اله الا هو
وقد تفنّن هؤلاء العرفاء فى تقريب هذه النظرية الى الاذهان ، وسبّحوا سبحاً طويلاً فی بحر هذا الخيال ، وضربوا له الامثال ( فصوّروه ) ثارة بالبحر وهذه العوالم والكائنات كامواج البحر فانها ليست غير البحر وتطوراته ؛ وليست الامواج شیء سوى البحر فاذا تحرك ظهرت ، واذا سكن عدمت واندحرت ، وهو معنى الفناء المشار اليه بقوله تعالى ( كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ٭ وَ يَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ) (1) يفنى وجه الممكن ويبقى وجه الواجب .
چه ممکن گرد امکان برفشاند *** بجز واجب دیگر چیزی نماند
نعم الامواج تطورات البحر لا شيء موجود غير وجود البحر.
چه دریای است وحدت لیک پر خون *** کز او خیزد هزاران موج مجنون
هزاران موج خیزد مردم از وی *** نگردد قطره هرگز کم از وی
قالوا : الوجه واحد والمرايا متعددة.
وما الوجه الا واحد غير أنه *** اذا انت عدّدت المرايا تعددا
وكذلك العدد ليس الا تكرار الواحد الى ما لا نهاية له :
وجود اندر کمال خویش ساری است *** تعينها أمور اعتباری است
أمور اعتباری نیست موجود *** عدد بسیار و یک چیز است معدود
چه واحد گشته در اعداد ساری
ص: 321
ومن هذا القبيل التمثيل بالشعلة الجّوالة التی ترسمّ دائرة نارية من سرعة حركتها وليست هى الا تلك الشعلة الصغيرة.
همه از وهم تو این صورت غیر *** چه نقطه دائره است از سرعت سیر
والوجود واحد والموجود واحد له ظهورات وتطورات، يترائى أنها كثرات وليس الا الذات ومظاهر الاسماء والصفات وشؤون الجمال والجلال والقهر واللطف ؛ وقد رفع الكثير منهم حجب الاستار عن هذه الاسرار حتى أنّ محى الدين العربی (1) عبّر عن كل هذا بتغيير كلمة فی البيت المشهور .
وفی كل شیء له آية *** تدل على أنّه واحد
فقال : ( تدل على أنّه عينه ) ثم تحامل و تقحم الى ما هو اصرح واعظم حيث قال:
سبحان من حجّب ناسوته *** نور سنا لا هوته الثاقب
ثم بدا فی خلقه بارزا *** بصورة الأكل والشارب
ومشى على السبيل المتوعر كثير من شعراء العرب وعرفائهم فی القرون الوسطى يحمل رأيتهم ويفرضها ابن الفارض (2) فى اكثر شعره ولا سيما تائيته الصغرى والكبرى التی يقول فيها :
هو الواحد الفرد الكثير بنفسه *** وليس سواه ان نظرت بدقة
بدا ظاهرا للكل فی الكل بيننا *** نشاهده بالعين فی كل ذرّة
فكل مشاهد محسوس من الذرة الى الذرى ومن العرش الى الثرى هى اطواره
ص: 322
وانواره ومظاهره وتجلياته وهو الوجود الحق المطلق ولا شیء غيره فاذا قلت لهم فالاصنام والاوثان يقول لك العارف الشبسترى .
مسلمان گر بدانستی که بت چیست *** بدانستی که دین در بت پرستی است
واذا قلت فالقاذورات قالوا نور الشمس اذا وقع على النجاسة هو ذلك النور الطاهر ولا تؤثر عليه النجاسة شيئاً.
نور خورشيد أر بيفتد بر حدث *** نور همان نور است نپذیرد خبث
وما اكتفوا بهذه التمثيلات والتقريبات حتى أخضعوا هذه النظريّة المتمردة على العقول لسلطان البرهان الساطع والدليل القاطع وبيانه بتنقيح وتوضيح منّا بعد مقدمتين وجيزتين « الاولى » أنّ الوجود والعدم نقيضان والنقيضان لا يجتمعان ولا يقبل أحدهما الاخر بالضرورّة فالوجود لا يقبل العدم والعدم لا يقبل الوجود يعنى أنّ الموجود يستحيل أن يكون معدوما والمعدوم يستحيل أن يكون موجوداً والاّ لزم أن يقبل الشیء ضده ونقيضه وهو محال بالبداهة ، ( الثانية ) أنّ قلب الحقائق مستحيل ، فحقيقة الانسان يستحيل أن تكون حجراً ، وحقيقة الحجر تستحيل أن تكون انساناً، وهذا لمن تدبّره من أوضح الواضحات ، فالعدم يستحيل أن يكون وجوداً، والوجود يستحيل أن يكون عدماً، وبعد وضوح هاتين المقدمتين نقول : لو كان لهذه الكائنات المحسوسة وجود بنفسها لاستحال عليها العدم لأنّ الوجود لا يقبل العدم وهو منافر له وضد له بطبيعته ، مع أننّا نراها بالعيان توجد وتعدم وتظهر وتفنى فلا محيص من الالتزام بانّها غير موجودة وليس الموجود الا وجود واجب الوجود الازلى الحق الذی يستحيل عليه العدم بطبيعة ذاته المقدسة وكل ما نراه من هذه الكائنات التی نحسبها بالوهم موجودة هی اطواره ومظاهره يفيضها ويقبضها يبقيها ويفنيها ويأخذها ويعطيها وهو المانع
ص: 323
والمعطى والقابض والباسط وهو على كلّ شیء قدير وكل شیء هالك الا وجهه ، وكلّ الاشياء تجلياته وظهوراته واشراقاته وانواره وكل الكائنات والممكنات كلها مضافة اليه بالاضافة الا شراقية لا المقولية اطرافها اثنان لا ثلاثة وسواء قلنا بأنّ هذا البرهان صخرة صماء لا تمسه اظافر الخدشة أو أنّ للمناقشة فيه مجال فهو برهان منطقی على أصول الحكمة والمنطق هذا عدا ما يدعونه من الشهود والمكاشفة والعيان الذی هو اسمى من الدليل والبرهان اذ يقولون انّ الدليل عكازة الاعمى :
پای استدلالیان چوبین بود *** پای چوبین سخت بی تمکین بود
***
زهی احمق که او خورشید تابان *** بنور شمع جوید در بیابان
در آن جایی که نور حق دلیل است *** چه جای گفتگوی جبرئیل است
سبحانك أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك متى غبت حتى تحتاج الى دليل يدل عليك ، ومتى بعدك حتى تحتاج الى ما يوصلنا اليك ، عميت عين لا تراك ولا تزال عليها رقيبا .
ومع هذا كله فانّ علماء الظاهر وامناء الشرع يقولون ان سالك هذا الطريق كافر زنديق و هذه الطريقة أعنى وحدة الوجود والموجود عندهم زندقة والحاد ، تضاد عامّة الشرائع والأديان مهما قام عليها الدليل والبرهان ، اذ حينئذ اين الرّب والمربوب ، أين الخالق والمخلوق، وما معنى الشرائع والتكاليف ، وما هو الثواب والعقاب، وما الجنة والنار ، وما المؤمن والكافر، والشقی والسعيد ، الى آخر ما هنالك من المحاذير واللوازم الفاسدة ، ولعلّ هذا هو مدرك ما ذكره السيد الاستاذ قدس سره « فى العروة الوثقی » ما نصّه (1) ( القائلين بوحدة الوجود من الصوفيّة اذا
ص: 324
التزموا باحكام الاسلام فالاقوى عدم نجاستهم ) واذا أحطت خبراً بما ذكر ناتعرف ما فی هذا وأمثاله من كلمات الفقهاء رضوان الله عليهم ، وانی لا ارى من العدل .
والانصاف ، ولا من الورع والسداد ، المبادرة الى تكفير من يريد المبالغة فی التوحيد وعدم جعل الشريك لله تعالى فى كل كمال والكمال والوجود كله لله وحده لا شريك له ، ومع ذلك فهم يؤمنون بالشرائع، والنبوات والحساب ، والعقاب، والثواب ، والتكاليف ، بأجمعها على ظواهرها فالحقيقة لا تصح عندهم ولا تنفع بدون الطريقة والطريقة لا تجدى بدون الشريعة والشريعة هی الاساس وبها يتوصل ملازم العبادة ، الى أقصى منازل السعادة وعندهم فی هذه المسائل مراحل ومنازل وتحقيقات أنيقة وتطبيقات رشيقة ومعارج يرتقى السالك بها الى اسمى المناهج ومؤلفات مختصرة ومطوّلة فوق حد الاحصاء نظما ونثرا و اذكار سرّاً وجهراً ورياضات و مجاهدات لتهذيب النفس وتصفيتها كی تستعد للحوق بالملاء الاعلى والمبد الاول وهناك من البهجة والمسرة والجمال والجلال ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وهيهنا أسرار عميقة ومباحث دقيقة لا تحيط بها العبارة ولا تدركها الاشارة فلنتركها لاهلها، ونسأله تعالى أن يفيض علينا من فضله بفضلها ، نعم لا ريب انّ كل طائفة اندس فيها من ليس من أهلها من الدخلاء وأهل الاهواء حتى يكاد أن يغلبوا على أربابها الاصحاء، فلا ينبغی ضرب الجميع بسهم واحد وأخذهم أو نبذهم على سواء كما أنّ بعض المتطرفين المتوغّلين فى الغرام والهيام والشوق الى ذلك المقام الاسمى قد توقدت شعلة المعرفة فی قلوبهم فلم يستطيعوا ضبط عقولهم والسنتهم فصدرت منهم شطحات لا تليق بمقام العبودية مثل قول بعضهم ( أنا الحق ) ( وما فى جبتى الا الحق ) وأعظم منها فی الجرأة والغلط والشطط قول بعضهم ( سبحانى ما اعظم شأنی ) وهذه الكلمات قد حملها الثابتون منهم على أنها صدرت من البعض حالة المحولا حالة الصحو، وفی
ص: 325
مقام الفناء فى الذات ، لا فى مقام الاستقلال والثبات ، ولو صدرت فی غير هذه الحال لكانت كفراً على انّ المنقول عن الحلّاج (1) انه قال للذين اجتمعوا على قتله اقتلونی فان دمى لكم مباح لانى قد تجاوزت الحدود ومن تجاوز الحدود ( أقيمت عليه الحدود ) ولكن العارف الشبسترى (2) التمس العذر لهذه الشطحات وحملها على احسن وجه حيث قال :
انا الحق كشف آن اسرار مطلق *** بجز حق کیست تا گوید أنا الحق
روا باشد انا الحق از درختی *** چرا نبود روا از نیک بختی
يقول من ذا يستطيع غير الحق أن يقول انا الحق واذا صح وحسن من الشجرة ان تقول انا الله فلماذا لا يحسن ذلك من العارف الحسن الحظ وحقاً أقول انّ من أجال فكره وأمعن النظر فی جملة من آيات القرآن العزيز وكلمات النبی والائمة المعصومين سلام الله عليهم وادعيتهم واورادهم سيجد فی الكثير منها الاشارة الى تلك النظرية العبقرية ، وقد شاعت كلمة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وهی قوله سلام الله عليه : ( اصدق كلمة قالها شاعر قول لبيد ) . (3)
ص: 326
( ألا كل شیء ما خلا الله باطل ) (1)
وقد تضمنت هذه الكلمة فی طيّاتها كل ما قاله العرفاء الشامخون من أنّ الاشياء أعدام اذليس الباطل الّا العدم وليس الحق الّا الوجود فالاشياء كلّها باطلة وأعدام وليس الحى والموجود الّا واجب الوجود وهذا كل ما يقوله ويعتقده اولئك القوم أفاض الله سبحانه هذه الكلمة على لسان ذلك الشاعر العربی الذی عاش أكثر عمره فی الجاهلية وأدرك فی أخريات حياته شرف الاسلام فاسلم وقد صدق تلك الجوهرة الثمينة الصادق الامين ومثلها كلمة ولده صادق أهل البيت سلام الله عليه ( العبودية جوهرة كنهها الربوبية ) بل لو أمعنت النظر فی جملة من مفردات القرآن المجيد تجدها وافية بذلك الغرض واضحة جلية مثل قوله تعالى: ( كُلُّ مَنْ عَلَيْهٰا فٰانٍ ) (2) و ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكُ إِلا وَجْهَهُ ) (3) فان المشتق حقيقة فيمن تلبس بالمبدء حالاً فكلّ شیء فان فعلاً وهالك حالاً لا أنّه سوف يهلك ويفنى.
ومهما أحاول أن أوضح الحقيقة أجدها عنى أبعد من الشمس بيد أنّها أجلى منها وأنّى لهذا اليراع القصير والعقل الصغير أن يجرء فيتناول جرعة من ذلك البحر الغزير يا من بعد فی دنوه ، ودنى فى علوه ، ربنّا عليك توكلنا واليك انبنا واليك المصير ، سبحانك لا احصی ثناء عليك أنت كما اثنيت على نفسك وفوق ما يقول القائلون وانا لله وانا اليه راجعون .
ص: 327
ص: 328
المهمّ والأعضال فی هذا الموضوع هو تصوّر كيف يعود هذا الجسم العنصری التی تعتور عليه الاطوار والادوار المختلفة المتنوعة التی ينتقل فيها من دور الى دور لا يدخل فی واحد الا بعد مفارقة ماقبله ولا يتشكّل الا بشكل يباينه ما بعده ينشأ جنيناً ، ثم طفلاً رضيعاً ثمّ صبّياً وغلاماً ، ثم شباباً وكهلاً، ثم شيخاً وهرماً، فباىّ صورة من هذه الصور يبعث وأىّ جسم من هذه الأجسام يعود ؟ ثم كيف يعود ؟ وقد تفرّق ورجع كلّ شیء الى أصله غازاً وتراباً، وكل ما فيه من عناصر ، ولو جمعت كلها واعيدت فهو خلق جديد وجسد حادث ، غايته أنّه مثل الاوّل لا عين الأوّل ، مضافاً الى الشبهات الكثيرة ، كاستحالة أعادة المعدوم، وشبهة الآكل والمأكول وغير ذلك ، وحيث أنّ الاعتقاد بالمعاد روحاً وجسماً يعدّ من اصول الدين الخمسة ، أو من دعائم الاسلام الثلاثة : التوحيد ، والنبوة ، والمعاد ، ومهما كان فلا مجال للشّك بانّ المعاد الجسمانی على الاجمال من ضروريّات دين الاسلام ، وهل الضرورى من الدّين الّا ما يكون التدين بذلك الدين مستلزماً للاعتقاد والتدين به مثلاً وجوب الصلاة من ضروريات دين الاسلام فهل يعقل الالتزام
ص: 329
بدين الاسلام مع عدم الالتزام بوجوب الصلاة ؟ والتصديق بنبوّة النبی صلی الله علیه و آله و سلم عبارة عن التصديق بانّ كلّ ما جاء به حق وهو من الله جلّ شأنه وهذا القدر يكفی فی الاعتقاد بالمعاد ولا حاجة الى أكثر من هذا للخروج من عهده التكليف الشرعی أو العقل ولا يلزم معرفة كيف يعود ؟ ومتى يعود ؟ وأين يعود ؟
فانّ التكليف بمعرفتها تكليف شاقٌّ على الخواص فكيف بغيرهم فانه يکاد يكون تكليفاً بما لا يطاق والعلم اللازم فی أصول الدين لا يقدح فيه الاجمال ولا يلزم فيه أن يكن قادراً على البرهنة والاستدلال بل يكفی فيه حصوله من أىّ سبب كان وعدم جواز التقليد فی أصول الدين يراد منه عدم كفاية الظن ولزوم القطع واليقين لا لزوم اقامة الحجج والبراهين ، والغاية من هذا البيان والغرض الاقصى به أنه لا يجب على المكلفين ولا سيمّا العوام البحث عن كيفية المعاد الجسمانی بل قد لا يجوز لهم ذلك كسائر قضايا القواعد النظرية والمباحث الحكمية مثل قضية القضاء والقدر والخير والشر والاختيار والجبر ما الى ذلك من المعضلات العويصة اذ قد تعلق الشبهة بذهن أحدهم (1) ولا يقدر على التخلّص منها فيكون من الهالكين كما هلك ابليس اللعين بشبهة خلقتنى من نار وخلقته من طين، فالاولى بل الاسلم هو الالتجاء الى العلم الحاصل من النقل من كتاب وسنّة واعتبارات يستفاد من مجموعها اليقين بأنّ المعاد الجسمانی مثلاً من اصول الدين ويلتزم به ويقف عند هذا
ص: 330
الحدو على هذه الجملة والا جمال لا يتجاوزه الى تفاصيل الاحوال ، اما الاستدلال عليه كما قد يقال ، بأنّه ممكن عقلاً وقد أخبر به الصادق الامين فيجب تصديقه فهو دليل لا مناعة فيه لدفع الاشكال فانّ المانع يمنع الصغرى ويدعى أنّه ممتنع عقلاً امّا لاستحالة أعادة المعدوم أو لغير ذلك من المحاذير المعروفة وحينئذ ، فاذا ورد ما يدل عليه بظاهر الشرع فاللازم تأويله كى لا يعارض النقل دليل العقل كما فی سائر الظواهر القرآنية مثل يد الله فوق أيديهم والرحمن على العرش الى كثير من امثالها مما هو ظاهر فی التجسيم المستحيل عقلاً اذاً أليس الاسد والاسعد للانسان القناعة بالسنّة والقرآن وترك البحث والتعمق وطلب التفصيل فی كل ما هو من هذا القبيل ؟ ولعلّ هذا المراد من الكلمة المأثورة (1) « عليكم بدين العجائز » أی اعتقاد
ص: 331
الطاعنين أو الطاعنات فى السنّ فانّ من نشأ على عقيدة وشب وشاب عليها تكون فى أقصى مراتب الرسوخ والقوة ، ولا تزيله كلّ الشبهات والتشكيكات عنها ، وان كانت العقيدة عنده مجردة عن كل دليل بل تلقاها من الآباء والامهات انّا وجدنا آبائنا على امة وانّا على آثارهم مقتدون ، ولعلّ فى الكلمة ( العجائز ) تلميحاً أيضاً الى العجز عن اقامة الدليل ، فان أهل الاستدلال والصناعات العلمية غالبا اقرب الى التشكيك من اولئك البسطاء المتصلبين فی عقائدهم غلطاً كانت فی الواقع أو صواباً ولذلك كانت الانبياء سلام الله عليهم يقاسون أنواع البلاء وأشدّ العناء فی اقناع أمتّهم بفساد عقائدهم واقلاعهم عنها من عبادة الاصنام أو غيرها، والبساطة فی كل شیء أقرب الى البقاء والدوام من التركيب والانضمام ، والبسائط أثبت من المركباب ، لقبول الاجزاء الانحلال والتفكك ، ولعل هذا هو السبب فی جعل الاعتماد فی الاعتقاد بالمعاد والجسمانی منه خاصة على ظواهر الشرع والادلة النقلية دون العقلية من بعض أكابر الحكماء كالشيخ الرئيس ابن سينا قدس سره حيث قال فی المقالة التاسعة من الهيات الشفاء ( فصل فی المعاد ) وبالحرى أن نحقق ههنا احوال النفس الانسانية اذا فارقت أبدانها وانّها الى اى حالة تعود فنقول : يجب أن يعلم ان المعاد منه ما هو مقبول من الشرع ولا سبيل الى اثباته الا من طريق الشريعة وتصديق خبر النّبوة وهو الذی البدن عند البعث وخيرات البدن وشروره معلومة وقد بسطت الشريعة الحقة التى أتانا بها سيّدنا ونبينا ومولانا محمّد بن عبد الله صلی الله علیه و آله و سلم حال السعادة والشقاوة التى بحسب البدن ، ومنه ما هو مدرك بالعقل والقياس البرهانى وقد صدقته النبوة وهما السعادة او الشقاوة التی للأنفس انتهى محل الحاجة منه . وعليه فمن حصل له الاعتقاد بالمعاد من الادلة السمعية ولم تعرض له فيه شبهة توجب تشكيكه لرسوخ عقيدته وقوتها فقد وفق وأصاب ، وبلغ النصاب ، ولا ينبغى بل قد لا يجوز له الخوض فى الادلة العقلية والاصول
ص: 332
النظرية ولكن من عرضته الشبهة واعتقد بالاستحالة والامتناع عقلاً وأنّه لابد من تأويل الظواهر الشرعيّة كی لا يتنافى الشرع مع العقل ويسقط عنده قول المستدل : انّه ممكن وأخبر به الصادق الامين لاندفاعه عنده بما أشرنا اليه قريباً فلابد حينئذ من رفع هذه الدعوى أعنى دعوى الاستحالة والامتناع واثبات انّه ممكن عقلاً بل واقع فاللازم اثبات امكانه الذاتى وامكانه الوقوعى ابقاء للادلة الشرعية على ظواهرها، وقطع أيدى التأويل عن منيع مقامها .
وحيث أنّ الحاجة الى النظر فی هذه القضية لابد أن يكون من غير الظواهر النقلية بل من المبادء العقلية ، فاعلم اوّلا أنّ الاقوال فى المعاد أربعة : ( احدها ) انکاره مطلقاً لا جسماً ولا روحاً، وهو قول جميع الملاحدة والطبيعيين الذين ينكرون المبدأ ، فكيف المعاد وهما متلازمان فى المفاد وبينهما أقوى مراتب الاتحاد واثبات المبدأ يكفى فى ابطال هذا القول . راجع الجزء الاول من ( الدين والاسلام) تجد فيه لا ثبات الصانع ما يغنيك عن غيره ، باجلی بيان ، وأقوى برهان .
( ثانيها ) اثبات المعاد الروحانی فقط نظراً الى أنّ الارواح مجرّدة والمجرد باق، والجسم مركب من عناصر شتى ، واذا فارقته الروح ، ودخلت فی عالم المفارقات انحل هذا المركب ولحق كل عنصر باصله . وانعدم وتلاشى ذلك المركب ، وانعدمت تلك الصورة، والمعدوم يستحيل عوده والروح باقية، وهی التی تعاد للحساب وانجاز عملية الثواب والعقاب ، ولعل الى هذا الرأى المثالی أو الخيالی بشير المعلم الثانی ابو نصر الفارابی قدس سره (1) فى ارجوزته التی يقول فيها .
ص: 333
ص: 334
ص: 335
أصبح فی بلابلی وامسى *** أمسى كيومى وكيومی أمسى
يا حبذا يوم حلال رمسی *** مطلع سعدى ومغيب نحسى
من عرض يبقی بدار الحس *** وجوهر يرقى لدار القدس
وكل جنس لاحق لجنس
ویعنى بالعرض الجسم التعليمی ، ذا الابعاد الثلاثة ، والكيفيات الخاصة وهو الذی تتفرق بالموت اجزاؤه ، ويلحق كل جزء بأصله من العناصر ولم يعلم رأيه انما تعود أولا تعود وكيف تعود ، وعلى كل فبطلان هذا القول يبتنى على منع صيرورة البدن معدوماً بالموت أو بعد الموت كما سيأتی قريباً ان شاء الله تعالى .
( ثالثها ) القول بالمعاد الجسمانی فقط ، وهو مذهب جميع أهل الظاهر من المسلمين وبعض المتكلمين ، وهو لازم كل من أنكر وجود النفس والروح المجردة ، بل أنكر وجود كل مجرد سوى الله ( فلا مجرد الا الله ) أمّا الملائكة ، والعقول ، والنفوس والارواح ، فكلّها اجسام ، غايته انّها تختلف من حيث اللطافة والكثافة والعنصرية والمثالية ، يظهر هذا من كلمات عدة من العلماء ولكنّى اجلهم عن ذلك ؛ وكلماتهم محمولة على غير ما يترائى منها ، ومغزاها معانى أخرى جليلة . (1)
( رابعها ) وهو أحقها وأصدقها اثبات المعاندين الجسمانی والروحانى أى معاد
ص: 336
هذا الجسد الذی كان فی الدنيا بروحه وجسمه ! فيعود للنشر يوم الحشر كما كان، ويقف للدينونة بين يدى الملك الديان كما هو ظاهر جميع ما ورد فی القرآن الكريم من الآيات الدالة على رجوع الخلائق الى الله عزّ شأنه والرد على منكرى البعث والمعاذ لمحض العناد ، او الاستبعاد أو اخذاً بقضية استحالة اعادة المعدوم المرتكزة فی الاذهان ، وقد رد عليهم الفرقان المحمدى بانحاء من الاساليب البليغة البالغة ، الى أقصى مراتب البلاغة والقوة ، يعرفها من يتلو القرآن يتدبر وامعان ، وحيث أنّ غرضنا المهم من تحرير هذه الكلمات هو اثبات الامكان ، ودفع الاستحالة ؛ كى تبقى ظواهر الأدلة على حالها، لذلك لم نتعرض لسرد تلك الآيات النيّرات واتجهنا الى تلك الوجهة ، ودحض تلك الشبهة ، بأوضح بيان ، وأصحّ برهان، ومنه تعالى نستمد وعلى فضل فيضه نعتمد ، ونقول : حيث أنّ من الواضح المعلوم بل المحسوس لكل ذی حس ، أنّ كل شخص من البشر مركب من جزئين ، الجزء المحسوس وهو البدن العنصری الذی يشاهد بعين الباصرة ويشغل حيزاً من الفضاء، وجزء آخر يحسّ بعين البصيرة ولا تراه عين الباصرة، ولكن يقطع كل أحد بوجود شیء فی الانسان ، بل والحيوان غير هذا البدن ، بل هو المصرف والمتصرّف فی البدن ، ولولاه لكان هذا البدن جماداً لأحس فيه ولا حركة ولا شعور ولا ارادة ؛ اذاً فيلزمنا للوصول الى الحقيقة والغاية المتوخّاة البحث عن هذين الجزئين فاذا عرفناهما حق المعرفة فقد عرفنا كل شیء واندفع كل اشكال ان شاء الله .
( واليك البيان ) يشهد العيان والوجدان وهما فوق كل دليل وبرهان واليهما منتهی أكثر الادلة أن هذا البدن المحسوس الحى المتحرك بالارادة لا يزال يلبس صورة ويخلعها وتفاض عليه أخرى وهكذا لا تزال تعتور عليه الصور منذ كان نطفة فعلقة فعظاماً فجنيناً فمولوداً فرضيعاً فغلاماً فشاباً فكهلاً فشيخاً فميتاً فتراباً،
ص: 337
تكونت النطفة من تراب ، ثم عادت الى التراب ، فهو لا يزال بعد أن انشأه باريه من أمشاج ليبتليه فجعله سميعاً بصيراً ، اما شاكراً أو كفوراً، فی خلع ولبس، افعيينا بالخلق الاوّل بل هم فى لبس من خلق جديد يخلع صورة ويلبس أخرى وينتقل من حال الى حال ومن شكل الى آخر مريضاً تارة وصحيحاً وهزيلاً وسميناً وابيضاً واسمراً وهكذا تعتوره الحالات المختلفة ، والاطوار المتبائنة ، وفى كلّ ذلك هو هو لم تتغير ذاته وان تبدلت احوله وصفاته فهو يوم كان رضيعاً هو يوم صار شيخاً هرماً لم تتبدل هويته ولم تتغير شخصيته بل هناك أصل محفوظ يحمل كل تلك الأطوار والصور ، وليس عروضها عليه وزوالها عنه من باب الانقلاب فان انقلاب الحقائق مستحيل فصورة المنوّية لم تنقلب دموّية أو علفية ولكن زالت صورة المنى وتبدلت بصورة الدم وهكذا فالصور متعاقبة متبادلة لا متعاقبة منقلبة ( اذ صورة لصورة لا تنقلب ) وهذه الصور كلها متعاقبة فی الزمان لضيق وعائه مجتمعة فی وعاء الدهر لسعته والمتفرقات فى وعاء الزمان مجتمعات فی وعاء الدهر ولابدّ من محل حامل وقابل لتلك الصور المتعاقبة ماشئت فسمه مادّة أو هيولى أو الأجزاء الاصلية كما فی الخبر الآتى ان شاء الله وكما أن المادة ثابتة لا تزول فكذلك الصور كلها ثابتة فی محلها فی كتاب لا يضل ربی ولا ينسى ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا احصاها وقد عرفت فی ما مرّ عليك من المباحث انّ الشیء لا يقبل ضده والموجود لا يصير معدوماً والمعدوم لا يصير موجوداً وانقلاب الحقائق مستحيل .
ثم انّ هذا البدن المحسوس العنصرى لا ريب فی أنّه يتحصّل من الغذاء وأنّ أجزائه تتحلل وتتبدل فهذا الهيكل الجسمانی بقوّة الحرارة الغريزية التی فيه المحرّكة للقوى الحيوانية العاملة فى بنائه وحفظه و تخريبه وتجديده كالجاذبة والهاضمة والدافعة والماسكة وغيرها لايزال فى هدم وبناء واتلاف و تعويض كما قال شاعرنا الحكيم فی بيته المشهور :
ص: 338
والمتلف الشیء غارمه *** وقاعدة: (المتلف ضامن)
وفی بيان أوضح أنّ علماء ( الفزيولوجيا ) علم اعضاء الحيوان قد ثبت عندهم تحقيقاً أنّ كل حركة تصدر من الانسان بل ومن الحيوان يلزمها يعنى تستوجب احتراق جزء من المادة العضلية والخلايا الجسمية وكلّ فعل ارادیّ أو عمل فكرى لابد وأن يحصل منه فناء فى الأعصاب واتلاف من قلايا الدماغ بحيث لا يمكن لذرّة واحدة من المادّة أن تصلح مرّتين للحياة ومهما يبدو من الانسان بل مطلق الحيوان عمل عضلى أو فكرى فالجزء من المادّة الحية التی صرفت لصدور هذا العمل تتلاشى تماماً ثمّ تأتى مادة جديدة تأخذ محل التالفة وتقوم مقامها فی صدور ذلك العمل مرة ثانية وحفظ ذلك الهيكل من الانهيار والدمار وهكذا كلما ذهب جزء خلفه آخر خلع ولبس كما قال عزّ شأنه ( أَ فَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقِ جَدِيدٍ ) (1) ويكون قدر هذا الاتلاف بمقدار قوة الظهورات الحيويّة والاعمال البدنية فكلّما اشتدّ ظهور الحياة وتكثرت مزاولة الاعمال الخارجية ازداد تلف المادّة وتعويضها وتجديدها ومن هنا تجد أرباب الاعمال اليدويّة كالبنّائين والفلّاحين واضرابهم أقوى أجساماً وأعظم أبداناً بخلاف ذوى الاعمال الفكرية الذين تقل حركاتهم وتسكن عضلاتهم ثم انّ هذا التلف الدائم لا يزال يعتوره التعويض المتصل من المادة الحديثة الداخلة فی الدم المتكونة من ثلاث دعائم هی دعائم الحياة وأسسها الجوهرية الهواء ، والماء ، والغذاء ، ولو فقد الانسان واحداً منها ولو بمدة قصيرة هلك وفقدت حياته .
وهذا العمل التجديدى عمل باطنّى سرّى لا يظهر فی الخارج الّا بعد دقّة فی الفكر ، وتعمق فى النظر ، ولكن عوامل الاتلاف ظاهرة للعيان يقال عنها انّها
ص: 339
ظواهر الحياة ، وما هى فى الحقيقة الّا عوامل الموت، لانّها لا تتم الّا باتلاف أجزاء من أنسجتنا البدنية واليافنا العضويّة فنحن فی كلّ ساعة نموت ونحيا ونقبر وننشر ، حتى تأتينا الموتة الكبرى، ونحيا الحياة الاخرى ، اذاً فنحن بناء على ما ذكر فی وسط تنازع هذين العاملين. عامل الاتلاف ، وعامل التعويض ، يفنى جسمنا ، ويتجدّد فی مدار الحياة عدة مرات، بمعنى أنّ جسمنا الذی نعيش به من بدء ولادتنا الى منتهى أجلنا فی هذه الحياة تفنى جميع اجزائه فى كلّ برهة وتتحصل أجزاء يتقوم بها هذا الهيكل ليس فيها جزء من الاجزاء السابقة ، ولا يمكن تقدير هذه البرهة على التحقيق يعنى أى مقدار به تتلاشى تلك الاجزاء جميعاً وتتجد غيرها بموضعها نعم لا نعلم ذلك ولكن ينسب الى الفى لوجى ( موليشت ) (1) انّ مدة بقائها ثلاثين يوماً ثم تفنى جميعاً ونقل عن ( فلورنس ) (2) انّ المدة سبع سنين وقد أجرى العلماء المحققون فی هذه الاعصار الامتحانات الدقيقة فی بعض الحيوانات كالأرانب وغيرها فأثبت لهم البحث والتشريح تجدد كلّ انسجتها بل وحتى عظامها ذرّة فی مدة معينة ، فكيف يتفق هذا مع ما يرتأيه الماديون ومنكروا النفس المجردة فی زعمهم انّ الذاكرة قوة تنشأ من اهتزازات فسفورية تخزن فی القلية العصبية من الدماغ عند وصول التأثيرات الخارجية اليها ، نعم كيف يجتمع هذا مع ما تقرر فی الفنّ وشهد به الاختيار والاعتبار من انّ كلّ ما فينا من الانسجة والعظام والقلالی العصبية تتلاشى ثم تجدد بمدة معلومة أقصى ما تجدد به السبع سنوات ، ولو كانت
ص: 340
قوة التذكر والتفكر ماديّة وقائمة فی خلايا الدماغ لكان اللازم أن نضطر فی كلّ سبع سنين الى تجديد كلّ ما علمناه وتعلمناه سابقاً، والحالة المعلومة بالضرورة والوجدان عندنا انّ سيال المادة المتجدد والمجدد لما يندثر منا على الاتصال لم يحدث أدنى تغيير فی ذاكرتنا ، ولم يطمس أىّ شعلة من علومنا ومعارفنا ، ولعمرى أن هذا الأقوى دليل على وجود قوّة فينا مدركة شاعرة مجردة عن المادّة باقية بذاتها، مستقلة فی وجودها ، بقيومية مبدأها ، محتاجة الى آلاتها المادية فی تصرفها متحدة معها فى أدنى مراتبها ، ودثور المادة لا يستوجب دثورها، ولا دثور شیء من كمالاتها وملكاتها ، ولا من مدركاتها ، ولا من معلوماتها ، كيف لا ولا تزال تخطر علىَّ بالنا فی وقت الهرم أمور وقعت لنا ايّام الشباب بل ايّام الصبا وما قبله ، وكيف كان فانّ من الوضوح بمكان أنّ كل ما فينا يؤيد ثبات شخصيتنا وعدم تغييرها مع تغيّر وتبدل جميع ذرات اجسامنا ، ولمزيد الايضاح وبيان ما يتفرّع على هذا الاصل الرصين لا بدلنا من ذكر أصول فى فصول للحصول على الوصول الى حل عقدة المعاد الجسمانى التی أعضل حلها كما عرفت على أكبر حكماء الاسلام .
1 - فصل وأصل
قد تلونا عليك ما هو المعلوم لديك من أن هذه الاجسام من الانسان والحيوان لا تعيش ولا تمتد حياتها الّا بدعائم الحياة الثلاث الهواء ، والماء، والغذاء ، وما يلزمها من الحركة ، والحرارة والضياء، ولكن لعلك تحسب ان الغذاء الذی نعيش به هو بذاته وصورته يكون جزء من أبداننا ومقوماً لا عضائنا وأنسجتنا كلّا فان هذا الوهم يذهب شعاعاً عند أوّل نظرة عن تدبر وفكرة وذلك ان كسرة الخبز التی نأكلها وفدرة اللحم التی نمضغها وتدخل فی جوفنا تعتور عليها عدة صور تخلع صورة وتلبس أخرى من الكيموس الى أن تصير دماً ، ثم توزعه العناية الكبرى
ص: 341
المدبرة للكائنات والمربيّة للعوالم تلك العناية التى تحير العقول وتدهش الالباب ؛ فتجعل من ذلك الدم لحماً وعظماً وشحماً وعصباً واليافاً وعروقاً وكبداً وقلباً ورية وطحالاً الى آخر ما يحتوى ويتّكون منه هذا الهيكل الانسانی والجسد الحيوانی، اضرب باجواء فكرك ما اتّسع لك التفكير وأعرف سرّ قولهم عليهم آلاف التحية والتسليم ( تفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة ) فكرّ وكبرّ عظمة المبدع كيف أنشأ من كسرة الخبز التی نأكلها سبعين نوعاً من الانواع المختلفة والاجناس المتبائنة : فأين العظم من اللحم ، وأين الشحم من الغاز ، وأين الغاز من المخ ، وأين المخ من الشعر ، وهكذا، وهلم جرّاً.
كلّ هذا تكون من لقمة الخبز التی نأكلها ، فهل فی لقمة الخبز كل هذه الانواع مندمجة مطويّة ؟ أم انقلبت وتحولت من صورة الى صورة ومن حقيقة الى أخرى ؟ أو أنّها كانت معدة للنطفة بأن تفيض العناية اليها صورة العلقة والمضغة وهكذا حتى تصير انساناً كاملاً ؟ كل ذلك مما تقف عنده العقول حائرة خاسرة مهما سطروا وحرّروا ، وألّفوا وصنفوا ، فانّهم دون الحقيقة وقفوا ، وعنها صرفوا ، ولكن مهما تغلغل الامر والواقع فی مجاهل الغيب والخفاء فانّ من الواضح الجلى أن تلك اللقمة التی تدخل فى جوفنا وتتصرف بها المشية تلك التصاريف المتنوعة لم تدخل هی فی كياننا ، ولم تصر جزءاً من اجسامنا ، بل تطورت عدة أطوار وتعاورتها صورة بعد صورة ، دخلت فی معامل مكانيكية وتحليلات كيمياوية الى أن بلغت هذه المرحلة ونزلت من أجسامنا بتلك المنزلة ، فلو أنّ مؤمناً أكل كل لحم فی بدن الكافر ، أو أكل الكافر كل لحم فى بدن المؤمن فلا لحم الكافر صار جزءاً من بدن المؤمن ولا لحم المؤمن دخل فى بدن الكافر ، بل اللحم لما دخل فى الفم وطحنته الاسنان وهو الهضم الاول زالت الصورة اللحمية منه وارتحلت الى رب نوعها حافظ الصور واكتست المادة صورة أخرى، وهكذا صورة بعد صورة ، ومن القواعد المسلمّة
ص: 342
عند الحكماء بل عند كل ذی لب : انّ الشیء بصورته لا بمادته اذاً فأين تقع شبهة ( الأكل والمأكول ) ؟ وكيف يمكن تصويرها وتقريرها فضلا عن الحاجة الى دفعها والجواب عنها ؟ وكيف استكبرها ذلك الحكيم الكبير الالهى فقال : ( يدفعها من كان من فحول ) ؟ ويزيدك وضوحاً لهذا : أنّ جميع المركبات العنصرية يطرّد فيها ذلك الناموس العامّ : ناموس التحوّل والتبدل والدثور والتجدد ، انظر حبة العنب مثلاً فهل هى الأماء وسكر ؟ وهل فيها شیء من الخمر أو الخل أو الكحول ؟ ولكنّها بالاختمار تصير خلاً ثم خمراً ثم غازاً أو بخاراً وهكذا ، أترى أنّ العنب صار جزءاً من الخل والخل صار جزءاً من الخمر ؟ اذاً فمن أين جاءت شبهة الآكل والمأكول التى لا يدفعها الّا من كان من الفحول ؟ ومن أين اتّجه القول بأنّ لحم الكافر يصير جزءاً من بدن المؤمن ولحم المؤمن جزءاً من بدن الكافر ؟ لا أدرى .
2 - فصل ووصل
لعلك تقول : اذا كان هذا الهيكل الانسانى عبارة عن صور متعاقبة يتلو بعضها بعضاً ويتصل بعضها ببعض اذاً فشخصية كل فرد من هذا النوع بماذا تتحقق ؟ وتعينّة بأی شیء يكون ؟ والمادّة بنفسها غير متحصلة فكيف يتحصل بها غيرها وهى صرف القوّة والاستعداد ؟ فنقول: فليكن هذا أيضاً من أحد الادلة على وجود النفس المجرّدة ذاتاً الماديّة تعلقاً وتصرفاً وتشخّص كلّ فرد وتعينّه انّما يكون بتلك النفس التی تتعلق بتلك الصوّر المختلفة المتعاقبة بنحو الاتصال على المادّة المبهمة والهيولى الاولى التی لا توجد ولا تخرج من القوة الى الفعل الّا بصورة من الصور وهى متحدّة معها وجوداً منفكة عنها تعقلاً ومفهوماً والنفس الجزئية المستمدة من النفوس الكلية حافظة لها معاً وهى أيضاً متحدة بها وجوداً ومتصلة بهما ذاتاً وتواكب وتصاحب كل تلك الصور المتعاقبة على نحو الاتّصال والواحد السيّال .
ص: 343
وأضرب لك مثلاً محسوساً لتقريب ذاك الى ذهنك واستحضاره بعقلك أرأيت النهر الجارى فى الليلة القمراء ؟ حيث يطل القمر على الماء المتدافع وكل موجة تأتى يشعّ القمر عليها وترتسم صورته فيها ثم تمضى وتأتى موجة أخرى ترتسم صورة القمر فيها وهكذا حتّى يجفّ الماء ويغيب البدر فالقمر هو النفس والنهر هو البدن والموجات المتدافعة من الينبوع هى الصور المتعاقبة على البدن التی يشرق عليها ويتّحد مع كل واحدة منها وهى مع كثرتها واحدة ومع انفصال بعضها عن بعض متصلة والنهر واحد سيّال على الاتصال وكذلك البدن من حيث الصور المتعاقبة عليه واحد كثير متّصل منفصل والنفس مشرقة عليه هى المدبرة له الباعثة فيه النور والحرارة والحركة والحياة وهذا العالم الصغير يحكى لك العالم الكبير بل ( وفيك انطوى العالم الاكبر ) وهو المثل ( ولله المثل الاعلى ) ( أيّها الانسان أعرف نفسك تعرف ربّك ) نعم النهر يجرى من ينبوع الارض والجسد والنفس تجرى من ينبوع السماء بل من ينابيع العرش بل من ينابيع ربّ العرش عظمت جلالته ، وجلت عظمته .
شد مبدل آب این جو چند بار *** عکس ماه و عکس أختر برقرار
تبدّل ماء هذا الجدول عدّة مرات وعكس القمر والشمس لم يتحول ولم يتبدل عن ذلك القرار .
3 - فصل وأصل
هل فى هذا الهيكل الانسانى سوى ما هو المعروف والمحسوس من أنّه : جسد وروح ؟ روح مجردة بسيطة ، وجسد مادى مركب من العناصر ، فهل ثّمة شیء ثالث ؟ -الجواب نعم ولكن لا تستغرب ولا تعجب لو قلت لك ان فی كلّ جسم
ص: 344
حیّ مادی عنصری - جسم آخر أثيرى سيال شفاف أخف وألطف من الهواء هو برزخ بين الجسم المادى الثقيل ، والروح المجرد الخفيف ، ولعلّ هذا هو الجسم البرزخی الذی يسأل فی القبر ويحاسب ، وينعمّ ان كان تقياً ويعذّب ان كان شقياً ويبقى فی نعيم أو حميم الى يوم البعث الى يوم القيامة الذی تعود فيه هذه الأبدان العنصريّة للحياة الابديّة وقد تلونا عليك من قبل انّ الحقائق الحكمية والدقائق الفلسفية لا تسعها العبارات اللفظية ، وأنّ الالفاظ لا يقتنض منها شوارد المعانى، واوابد الاسرار، ولكنها اذا كانت لا تحكى عن الحقيقة من كل وجه فقد تحكى عنها من وجه ، أرايتك حين تقول : روحى وجسدى وعقلى من تعنى بياء المتكلم ؟ ومن هو الذى تقصده بقولك ( أنا وأنت وهو ) وامثالها من الضمائر ؟ فهل تريد بقولك : أنا لهذا الجسد الخاص و لشخصيتك المتعيّنة من الجسد والنفس ؟ اذاً فماذا تريد بقولك جسدى ؟ ومن هو الذی أضفت اليه جسدك أو اضفت جسدك أو نفسك أو عقلك اليه ؟
ثمّ هل تدبّرت حالك حين تتلو سورة من القرآن ؟ تحفظها فی نفسك وتقرزها فی خاطرك من دون ان تحرّك لسانك أو يظهر صوتك وأنت فی تمام السكوت والسكون كانّ فی داخلك شخصاً يقرأ ويتلو عليك بغير صوت ولا لسان فقد تقرأ سورة من الطوال أو قصيدة ساحبة الاذيال مرتلاً لها ومترسلاً فيها واللسان صامت والمقول ساكت وقد قرأتها كلمة كلمة وتلوتها حرفاً حرفاً، فمن ذا الذى املاها عليك ؟ وأين كانت مخزونة ومجتمعة ، ثم جاءت واحدة بعد واحدة متقطعة ، حقّاً انّ التفكّر فى هذه السلسلة سلسلة الفكر والذكر والحفظ والنسيان والتصور والتفكر والتصديق والشك واليقين وكل ما هو خارج عن المادة الجسمانية والاعضاء الحسية ، حقاً انّ معرفة كل ما هو من هذا النطلق أمر لا يطاق ولا تصل أنسرة العقول مهما حلقت فی سماء التفكير الى كبرياء معراجه ومفتاح رتاجه ،
ص: 345
ولكن مهما استعصى على اولى الحجى سره فهو يدل دلالة واضحة على انّ فی الانسان بشخصه الخاص جوهر مفيض وآخر مستفيض وغلاف وقشر يحمل هذين الجوهرين فالمفيض هو النفس الجزئية المتّصلة بالنفس الكلية والمبدأ الأعلى ، والمستفيض هو ذلك البدن المثالى الاثيرى ، والغلاف هذا البدن العنصری ، على انّ التحقيق والبحث الدقيق أوصلنا الى حقيقة جليّة وهی أنّ هذه الحقائق الثلاث شیء واحد وأنّها تنشأ نشأة واحدة وانّ النفس جسمانية الحدوث روحانية البقاء فهى تتدرج فى تكونها ونشوها ونموها من النطفة الى ان تصير انساناً كاملاً عاقلاً بل الى أن تصير عقلاً مجرداً ملكاً أو شيطاناً ، فهذا العنصرى هو النفس ولكن بمرتبتها السالفة ، والنفس هی البدن ولكن بمرتبته العالية ، وكلّ ما فيه من الحواسّ الظاهرة والباطنة والقوى العاملة من الهاضمة والماسكة والدافعة والمصوّرة والمقدّرة الى غير ذلك كلّها آلات للنفس وأدوات تمدّها وتستمدها وتتعاكس معها وتتعاون أخذاً ورداً وسلباً وايجاباً فكلّ الانفعالات النفسية تظهر فورها على البدن ألاترى حمزة الخجل وصفرة الوجل وضربان العقول وخفقان القلب عند الخوف وابتهاج البدن عند الفرح وبالعكس كلّ ما يصيب البدن من ضربة أو صدمة أو جرح تنفعل النفس به وتتألم ؟
وكلّ هذا شاهد ودليل على وحدة النفس مع البدن ، وانّ البدن المادىّ والبدن الامتدادى المجرد عن المادّة والروح المجردة عنهما شیء واحد ، وهذا البدن الامتدادى الاثيرى هو همزة الوصل بين الروح المجردة عن المادة ذاتاً المتعلقة بها تصرفاً وبين البدن المادىّ ذاتاً والذى هو آلة الروح تعلّقاً و تصرفاً وهو الذی تجد الاشارة عنه حيناً والتصريح به حيناً آخر فى كلمات أكابر الفلاسفة الأقدمين والحكماء الشامخين والعرفاء السالكين مثل قول أرسطو فيما نقل عنه : أنّه ربما خلوت بنفسی و خلعت بدنی وصرت كانّى جوهر مجرد بلا بدن فأكون داخلاً فی
ص: 346
ذاتى خارجاً عن جميع الاشياء فأرى فى ذاتى من الحسن والبهاء ما ابقى له متعجبا مبهوتا فاعلم انى جزء من اجزاء العالم الاعلى الشريف ، وعن الوصية الذهبية لفيثاغورس (1) اودیوجانس (2) اذا فارقت هذا البدن اصبحت سابحا فی عوالم الفلك غير عائد الى الانسانية ولا قابلا للموت وقال آخر : من قدر على خلع جسده صعد الى الفلك وجوزى هناك باحسن الجزاء ، والصعود الى الفلك انما هو بذلك الجسم الاثيرى بحكم التناسب فكما أنّ الجسم العنصرى أخلد الى الارض لانه منها ويعود اليها فكذلك الجسم يرقى الى الاجسام الفلكية الاثيريّة لانّه منها ويعود اليها لا غرابة لو قال بعض العرفاء : ربّما تجردت من بدنى هذا وارتقيت الى الافلاك وسمعت تسبيح الملائكة ، وكل هذه الاحوال انّما هی لهذا البدن الاثيرى المثالى لا للعنصرى ولا للروح فانها ترقى الى عالم المجردات المحضة بعد كمالها لا الى الاجسام الفلكية والعوالم الاثيريّة . وعلى كلّ فيغنيك الوجدان عن البرهان فی اثبات تلك الابدان -الابدان المثالية التى هى أنت وأنت هى وبقاؤك به لا بهذا الجسد العنصری الذی قد عرفت أنّه فی كلّ برهة يتلاشى ولا يبقی منه شیء ثم يتجدد وتتعاقب فى تقويمه الصّور صورة بعد صورة وهيئة بعد هيئة وهو الذی يستعمل الحواس ويستخدمها وتملى عليه الروح المعارف والامور العامّة فيمليها على القلب واللسان .
أنظر اذا كنت تحفظ سورة من القرآن أو خطبة من الخطب أو قصيدة من الشعر
ص: 347
فربّما تلوتها فی نفسك وقرأتها فی خاطرك فتجد كأنّ شخصاً فی طويتك يتلوها عليك كلمة كلمة وأنت سامد ساكن لم تفتح فماً ولم تحرك لساناً وطالماً كنت أمسك القلم بأنا ملى فأجد كأن انساناً أو ملاكاً يملى على الخطبة أو الشعر أو المقال ويجرى مع القلم من دون فكرة ولا روية كأنى أنقله من كتاب امامی وليس شیء من هذه الاعمال من وظائف الروح والنفس وانّما وظائفها العلم والادراك ومعرفة الكليّات المجردة والامور العامة مثل أن الكثرة هى الوحدة والوحدة هى الكثرة وانّ العلة تعالى المعلول والمعلول تنازل العلة وانّ الغاية هى الرجوع الى البداية والبداية هی النهاية وأمثال هذه من قواعد الحدوث والقدم والوجوب والامكان والجواهر والاعراض كما انّها أيضاً ليست من وظائف الجسد المادّى الحى فانّ وظيفته ادراك الجزئيات وثورة العواطف من تأثير الحسّ الظاهرى أو الباطنى نعم بحكم الوحدة والاتصال بين تلك القوى يستمدّ بعضها من بعض ويتقّوى بعضها ببعض وحكم العالم الصغير مثل العالم الكبير فكما أنّ الجسمانيات العنصريّة مرتبطة بالفلكيات وهی مرتبطة بالمجردات ، والنفوس الجزئية تستمد من النفوس الكلية ، وهی تستمد من العقول المجردة، فكذلك هذا الجسد الانسانی الذی انطوى فيه العالم الاكبر ، ولا تعدّ قواه ولا تحصر .
ص: 348
من حياة الامام المؤلّف ... 5
مولد النّبوي الشريف صلی الله علیه و آله و سلم ... 11
هل كان النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم أمّياً ؟ ... 21
هل القرآن أفضل من محمّد صلی الله علیه و آله و سلم أم محمّد أفضل ؟ ... 25
ما معنى قول النبى صلی الله علیه و آله و سلم لأمير المؤمنین علیه السلام اذا فاضت نفسی؟ ... 27
ليلة ولادة اميرالمؤمنین سلام الله عليه ... 31
يوم ميلاد مولانا امیرالمؤمنین علیه السلام ... 43
يوم الغدير ... 47
هل الخلفاء هم من أهل النار ؟ ... 53
فاطمة الزهراء علیها السلام ... 61
عليٌّ علیه السلام فوق العبقريات ... 67
يوم التاسع من ربيع الأوّل ... 73
هل النار محرّمة على ذرية الزهراء علیها السلام ؟ ... 75
بنی هاشم ، وبنی امية والحسن علیه السلام ومعاوية ... 81
حسين منّي وأنا من حسين علیه السلام ... 99
الحسين علیه السلام كتاب الله التكوينی ... 105
ص: 349
موقف الحسين علیه السلام واصحابه يوم الطف ... 109
هل البكاء على الحسين علیه السلام اغراء للشيعة ... 111
التضحية في ضاحية الطّف ... 113
ساعة الوداع لسيّد الشهداء علیه السلام ... 115
هل تكلم رأس الحسين علیه السلام ؟ ... 119
هل كان خروج الامام علیه السلام القاء النّفس الى التهلكة ؟ ... 125
سؤال عن تضحية أصحاب الحسين علیه السلام ... 127
سكينة بنت الحسين علیه السلام وتعاطى الشِّعر ... 133
لماذا قتل الحسين علیه السلام ... 137
لابد من ظهور المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) ... 151
أسباب غيبة المهدى علیه السلام و هل ... ... 155
الاجتهاد والحرّية الفكرية عند الشيعة الامامية ... 165
غيبة المهدي المنتظر ... 169
الفاطميون والقرامطة ... 173
عصمة الأئمة و ... ... 175
عصمة الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم ... 179
أَسْمٰاءِ اللهِ الحُسْنىٰ ... 183
ما معني : « علماء أمّتي كأنبياء بني اسرائيل ؟ » ... 185
هاشم وأميّة ليسا من أب واحد ... 187
هل حديث : « من رآنا فقد رآنا » صحيح ؟ ... 191
عصيان آدم ابوالبشر ... 193
هل للخلاف بين المسلمين ثمرة ؟ ... 197
سبب ظهور المبطلين علىٰ المحقّين ... 199
ديانة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم قبل البعثة ... 203
ص: 350
كيفية المعراج وفائدته ... 209
حول حديث : اختلاف امتي رحمة ... 211
ديوان الامام عليّ علیه السلام ... 213
وجه الحكمة لاختصاص الأمم بالأنبياء ... 215
في عزاء سيّد الشهداء علیه السلام ... 219
زيارة عاشوراء ... 223
في آية الوضوء ... 225
هل يلزمنا اجتناب أهل السّنة والجماعة ... 227
في ظهور أجساد من العلماء وغيرهم طرّيا ... 231
القرآن و أوّل خليفة من البشر ... 233
سبب الخسوف والكسوف ... 237
المعاد الجسماني ... 239
اولاد الزّنا والنجاة في الآخرة ... 241
في خاتمية الرسالة ... 243
في حديث : أنت لا تطيق حمل النّبوة ... 245
فلسفة الأضحية في مني ... 247
ما الحكمة في تعدّد ازواج النبی صلی الله علیه و آله و سلم ... 251
القَسَم بالتّين والزّيتون ... 257
فی لبس خاتم الذهب ... 259
الزّكاة والاشتراكية الصحيحة ... 261
والتعاون في الاسلام ... 261
ما هي السماوات في نطق القرآن ... 271
ولاية الفقيه ... 275
حالات امیرالمؤمنين وأوصافه علیه السلام ... 277
ص: 351
مولد أمير المؤمنين علیه السلام ... 281
احوال الامام موسى بن جعفر علیه السلام ... 285
وفات الامام موسى الكاظم علیه السلام ... 293
بعض أسرار الحج ... 303
بعض أسرار الصوم وامتيازه عن سائر العبادات ... 309
وحدة الوجود أو وحدة الموجود ... 311
المعاد الجسمانی ... 329
ص: 352