مَسائل شَرعيّة بين السنّية والبدعية
حَىَّ عَلى خَيرِ العَمَل
تأليف
السيِّد محمد مهدي السيِّد حسن الموسوي الخرسان
عفي عنه
بطاقة تعريف:خرسان: حسن، 1904- م. Kharsan, Hasan al - Musawi
العنوان والمنشئ:حىّ على خير العمل / تأليف محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان.
حالة النشر:قم :دلیل ما، 1386.
مواصفات المظهر: 176 ص.
شابک 13 :8- 301- 397- 964- 978
حالة الإدراج:فییا
ملحوظة:بالای عنوان: مسائل شرعيه بين السنة والبدعة.
ملحوظة:ببليوغرافيا مع ترجمة.
عنوان آخر:مسائل شرعيه بين السنة والبدعة.
موضوع: الأذان والإقامة - أحاديث.
موضوع: الأذان والإقامة - أحاديث أهل السنة.
موضوع:فقه تطبیقی.
تصنيف الكونجرس: 9 ح 4 خ 3/ 186 BP
تصنيف ديوي: 297/353
رقم المكتبة الوطنية: 1075134
محرر الرقمي: بسم الله قرباني
ص: 1
حىّ على خير العمل
محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان
منشورات: دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: الاولى
سنة النشر: 1428 ه- ق - 1386 ه ش
عدد النسخ : 1000 نسخة
السعر مجلداً 1300 توماناً
ردمك 13: 8 - 301 - 397 - 964 - 978
العنوان: ایران، قم، شارع معلم، ساحة روح الله، رقم 65
هاتف وفکس : 7733413، 982517744988)
صندوق البريد : 1153 - 37135
WWW.Dalilema.com
info@Dalilema.com
----------------------------
مراکز پخش:
1) قم، انتهای خیابان صفائیه، بعد از کوچه 39، پلاک 759، طبقه دوم، فروشگاه دلیل ما، تلفن 7737011 - 7737001.
2) تهران، انقلاب، فخر رازی ، فروشگاه دلیل ما، پلاک 32 تلفن 66464141.
3) مشهد، چهارراه شهداء، ضلع شمالی باغ نادری، کوچه شهید خوراکیان مجتمع تجاری گنجینه کتاب، طبقه اول، فروشگاه دلیل ما، تلفن 5 - 2237113.
-----------------------------
ص: 2
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين
الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمّد خاتم النبيين وسيد المرسلين، والسلام التام الدائم على آله الطيبين الطاهرين، عليهم جميعاً سلام الله ، ورضي الله عن الصحابة والتابعين المهتدين بهدي رب العالمين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين، وبعد:
فهذه هي الطبعة الثانية من رسالة (حيّ على خير العمل) وهي إحدى المسائل الشرعية التي كان البحث فيها بين السنّة والبدعية ، وقد أشرت إلى تلك المسائل في مقدّمة الطبعة الأولى، وكان منتهى أملي أن أواصل البحث في بقيّة تلك المسائل المشار إليها. غير أنّي لم أتمكّن فعلاً من ذلك، لانصرا في إلى انجاز ما هو أهم في نظري، ممّا لم يتيسّر لي من قبل إنجازه، للظروف القاسية التي عاشها أهل العراق ولا يزال يعاني من ويلاتها، فرّج الله الكرب عن أهله، ولم الشعث من شمله ، ونشر الأمن عليهم من فضله.
ص: 3
ولمّا كثر الطلب بإلحاح على إعادة طبع هذه الرسالة التي اعتبرها بعضهم على صغر حجمها ووجيز ما ورد فيها ، بمثابة جرعة دواء لمن استفحل عنده الداء وهو يتطلب الشفاء.
فغدا يراجع حساباته العقدية على ضوء ما فيها، فأغنته في اقناع بعض المضلّلين ممن يجهل حكم (حيّ على خير العمل) في الأذان والإقامة. نسأل الله تعالى أن ينفع بها من يتطلب الحقّ، ويهدينا وإيّاه إلى سواء السبيل.
12 شعبان المعظم 1427ه-.
الراجي
محمد مهدى السيد حسن محمدمهدى
الموسوي الخرسان
عفي عنه
ص: 4
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين، وبعد:
فهذه مسائل شرعية أكثرها مما يختص بالصلاة وبعضها يتعلّق بغيرها، مما ثبت بالدليل الشرعي أنها هي السنة الشرعية التي صحَّت عن النبي الأكرم (صلّی الله علیه وآله وسلّم) و عن أهل بيته المعصومين لكرام (علیهم السلام) ، كما وردت عن سيرة بعض الصحابة رضي الله تعالى عن المهتدين المهديين.
فالتزم بها الشيعة الاثنا عشرية تبعاً للدليل، واتّباعاً لأوامر المولى الجليل (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُدُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ
ص: 5
فَانْتَهُوا)، فشنَّع عليهم مَن لا حريجة له في الدين، وبلغت القحة والعناد ببعضهم أن اعترف بأن ذلك الحكم الذي التزم به الشيعة الاثنا عشرية في هذه المسألة أو تلك هو الحكم الصحيح، وأنه هو الثابت بالسنّة، إلا أن التزام الشيعة به هو الذي حدا به لأن يغيّر العنوان من شرعية الحكم وسُنّيته إلى رفضه وبدعيّته (!!).
وحجّته في ذلك أنه أصبح شعاراً للروافض !! فضَلّ وأضَلَّ، ولا يزال ولم يزل مَن يهرف بما لا يعرف على ذلك، إذ لكل ساقطة لاقطة.
فرأيت أن أوضّح ذلك ما وسعني البيان، من إقامة الدليل والبرهان على صحة عمل الشيعة الاثني عشرية في تلك المسائل، والله هو الموفق والهادي إلى الصواب.
ص: 6
كثيراً ما نقرأ في كتب الفقه والفِرَق والرجال مفاهيم خاطئة فيها خلط بيِّن فظيع وفي خلط الأوراق يخفى الحق ثم يضيع وخذ إليك مثلا واحدا، وهو ما يعنينا أمره:
إن الخلط بين مفهوم الروافض والشيعة والإمامية والاثني عشرية، قد تسبب كثيراً في طمس حقائق كان الواجب على الباحث النزيه أن لا يشوِّهها ويمسّها بسوء، فإن لكل واحد من تلك العناوين مميزات خاصة بكل فئة يصدق عليها ذلك العنوان، وفي شمول بعض العناوين لبعض آخر لا يلزم التساوي في جميع الجهات والخصوصيات، فالنسبة بين بعضها وبعضها
ص: 7
الآخر أقرب ما تكون هي نسبة العموم والخصوص من وجه، وبين بعضها وبعضها الآخر نسبة العموم المطلق، ويبقى لكل مميزاته الخاصة، فليس كل شيعي رافضيا إذا فسِّرنا الرفض بالمعنى الذي قاله أصحاب الفِرَق والمقالات وبعض رجال التراجم والحديث، بأنه تقديم الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) على من تقدَّمه كما قال ابن حجر في مقدمة فتح الباري (في ألفاظ الجرح): « والتشيّع محبّة علي وتقديمه على الصحابة، فمن قدَّمه على أبي بكر وعمر فهو غالٍ في تشيّعه، ويطلق عليه رافضي وإلا فشيعي».
وعلى هذا فإن الزيدية - وهم من الشيعة - لا يقولون كلهم بذلك، فهم ليسوا بروافض إذن.
كما أنه ليس كل رافضي إماميًّا، فإن عنوان الروافض لا يشمل إلا بعض شذوذ من الزيدية كما يقول الشيخ الكوثري وسيأتي ذلك عنه. وعلى ذلك فليس كل إمامي هو اثني عشري، فإن كثيراً من الفِرَق التي تقول بالإمامة ليست باثني عشرية كالإسماعيلية، والزيدية، والفطحية وغيرها.
ص: 8
وعلى ذلك جاء قول الرازي في كتابه (معالم أصول الدين)، فقد قال: «المسألة الثالثة: قالت الاثنا عشرية والشيعة: وجوب العصمة شرط لصحة الإمامة ...».
وقال: «المسألة الخامسة قالت الاثنا عشرية... » مفرقاً بين العناوين لتغاير أصحابها، فلاحظ.
ومن الغريب ما يجده الباحث من خلط وخبط في بعض المصادر في تعريف الإمامية أو الشيعة، فهلمّ واقرأ ما قاله التهانوي مثلاً في كتابه (كشاف اصطلاح الفنون).
قال: الإمامية فرقة من الشيعة قالوا بالنص الجلي على إمامة علي...
إلى أن قال: ثم متأخر و الإمامية اختلفوا وتشعّبوا إلى معتزلة: إما وعيدية أو تفضيلية، وإلى أخبارية يعتقدون ظاهر ما وردت به الأخبار المتشابهة، وهؤلاء ينقسمون مشبِّهة يُجرون المتشابهات على أن المراد بها ظواهرها (!)، وسلفية يعتقدون أن ما أراد الله بها بلا شبهة كما عليه السلف (!)، وإلى ملتحقة بالفرق الضالة .(!)(1).
ص: 9
وإذا كان من حقِّنا أن نعتب على المؤلف لهذا الخليط (الخريط)، فمن حقنا أيضاً أن نعتب على محقق كتابه الدكتور لطفي عبد البديع، وعلى الدكتور عبد المنعم محمد حسنين الذي ترجم النصوص من الفارسية، وأخيراً على الأستاذ أمين الخولي الذي تولّى مراجعة الكتاب، كيف لم يتنبّه جميع هؤلاء لما في النصّ من تناقضات لا تخفى، ولم يعلّقوا عليها بشيء.
وأبعد من ذلك غرابة ما رأيت من عد الخوارج من الإمامية (؟!!)، فقد جاء في دستور العلماء: (الإمامية) هم الذين قالوا بالنص الجلي على إمامة علي كرّم الله وجهه... وهم الذين خرجوا على علي رضي الله تعالى عنه، وهم اثنا عشر ألف رجل (؟!!)(1).
فبعد هذا الخلط العجيب الغريب تطلب مني أثراً بعد عين، ألم تتشابك الفِرَق حتى وشجت بينها المقالات كوشائج الأرحام، فأصبح بعضها دعيًّا داخلاً في نسب غيره على حد قول عبد الرحمن بن الحكم لمعاوية حين ادعى زيادا:
ص: 10
وأَشْهَدُ أَنْ رَحمَكَ مِن زيادٍ***كرحم الفيلِ مِن ِولدِ الأتان(1)
فعلى ضوء هذه المقدمة فإنه يجب الاحتراز والتحفظ بمنتهى الحيطة في التعريف بالفِرَق ونسبة القول إليها تصديقاً أو إدانة، فذلك الأحرى بالصدق وأداء الأمانة.
وقد تنبّه لبعض هذا الشيخ محمد زاهد الكوثري (الحنفي) وكيل المشيخة الإسلامية في الخلافة العثمانية سابقاً، فقد سجّل مؤاخذته على أبي الحسين الملطي المتوفى سنة 377 ه- في مقدمة كتاب (التنبيه والرد)، فقال في المقدمة: ثم أخذ الملطي يشرح أحوال ثماني عشرة فرقة من الروافض وعنونهم بالإمامية، فلعله أراد بها كل من له رأي من الشيعة في الإمامة، فشملت الاثنا عشرية [كذا] وغيرها من الشيعة في مصطلحه، ولا مشاحّة في الاصطلاح، لكن عنوان الروافض لا يشمل إلا بعض شذوذ من الزيدية كما هو معروف، فيكون جعل العنوان بحيث يشمل جميع الزيدية غير مستقيم(2).
ص: 11
ونحن لنا أن نزيد على ذلك فنقول: إنّ جعل العنوان -الروافض- بحيث يشمل جميع الإمامية أيضاً غير مستقيم(1).
إذن لا بد من التأكد من صدق العنوان، والتثبّت من صحة النسبة، ثم القول في ذلك سلباً أو إيجاباً، وعلى ضوء هذه المقدمة الصادقة في رفع الإيهام ودفع الاتهام، وحباً في الوئام والسلام، ندعو كل مسلم غيور على دينه أن يتفهم حُجّة أخيه المسلم فيما يدين الله به، ليكون صادقاً في إسلامه، نزيهاً في أحكامه، فلا يرميه بالعظائم من الشتائم، فثمة يوم يُقتص فيه للمظلوم من الظالم.
ص: 12
قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه وشريف خطابه، لنبيّه الكريم عليه وعلى آله أفضل الصلاة والتسليم (ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ اعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)(1).
هذه الآية الكريمة المتضمنة للأمر والعزيمة، خير منهاج في أدب الدعوة والاحتجاج، حتى مع أهل العناد واللجاج، فكيف مع الأخوة ونحن على هديها وبنورها سيكون حديثنا مع كل الأخوة، ولنا ولهم برسول الله أسوة، قال الله تعالى ﴿لَقَدْ كَانَ
ص: 13
لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا﴾(1).
فإلى كل مسلم طالب للحق راغب في استماع الصدقّ أن يقرأ ما أكتبه له بعين البصيرة قبل عين البصر، وليفتح قلبه بالوعي وليتجرد عن التعصب والعناد ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور ﴾(2).
فالواجب على كل فرد مسلم أن يتبع الحق، سواء التزم به غيره أم لا، وهذا كتاب الله المجيد قوله فصل، وقضاؤه عدل ينادي المؤمنين بقوله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)(3).
ويقول أيضاً وهو شاهد صدق وناطق حق (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ
ص: 14
تَحْكُمُونَ)(1).
ولينظر مَن أولئك الذين اهتدوا بنور الله وزادهم هدى، حيث اتّبعوا ما أنزل الله تعالى، هل هم الذين امتثلوا ما أمر الله به، فاتبعوا سنّة رسوله (صلّی الله علیه وآله وسلّم)؟ أم هم الذين زاغوا عن الحق
عناداً وعتواً؟ ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وعُلُوا)(2).
هل من العقل والمنطق أن يُنبز من اتبع الحق بأنه رافضي؟ إن كان معنى الرافضي هو رفضه للحق (إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاَق).
لماذا إذن يعاب الشيعة الاثنا عشرية؟!
على اتّباعهم السنة النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) و سيرة أهل بيته الطاهرين (علیهم السلام) وسيرة أصحابه الخّيرين رضوان الله عليهم أجمعين؟
مساكين - والله - أولئك الذين تقاذفتهم أمواج الفتن المتلاطمة، فتاهوا في ظلمات البر والبحر، إذ لم يركبوا سفن النجاة التي أمر النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) وأمّته بالركوب فيها عند طوفان
ص: 15
الأهواء، فقال:
«مَثَلُ أهل بيتي فيكم كسفينة نوح، مَن ركبها نجا، ومَن تخلّف عنها غرق وهوى»(1).
مساكين - والله - أولئك الذين لا بسوا الفتن حتى تاهت بهم السبل عن سبيل الحق، فأصرّوا على العناد إصراراً، وتركوا السُّنّة استكباراً، حين تركوا كثيراً من السُّنن الشرعية الثابت حكمها - باعترافهم - وأنها هي السُّنّة الصحيحة، لا لشيء إلا لأنها صارت شعاراً لغيرهم.
لماذا التعصب الأعمى؟ لماذا التضليل على المساكين من السذّج المقلّدين؟
أعود فأقول وأدعو كل مسلم طالب للحق ليقرأ بقلب مفتوح، ويترك تقليد المضلّلين الذين تعمّدوا الإضلال والعناد
ص: 16
(لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ الاَ سَاءَ مَا يَزِرُون)(1)، وليعُد إلى معالم الشريعة السمحاء النيّرة، فهي واضحة المحجَّة، لائحة الحجّة (ليلها كنهارها) كما قال (صلّی الله علیه وآله وسلّم).
أدعُوه ليكون ممن مدَحه الله تعالى في كتابه المجيد بقوله (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أَوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأَوْلَئِكَ هُمْ أوْلُوا الأَلْبَابِ﴾(2).
وأحذّره بما حذَّره الله تعالى بقوله (فَلْيَحْدَر الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾(3).
وأخيراً أخاطبه بقول علي بن العباس بن الرومي:
أمامك فانظر أيَّ نَهْجَيكَ تَنْهجُ***طريقان شِتَّى مستقيمٌ ومعوجُ
ص: 17
قال الله سبحانه وتعالى ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُدُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) وإنّ مما آتانا الرسول الكريم والذي أمرنا بأخذه قوله (صلّی الله علیه وآله وسلّم): لا يبلغ أحد حقيقة الإيمان حتى يحبّ للناس - لأخيه المؤمن - ما يحب لنفسه من الخير(1).
وهو حديث صحيح أخرجه الحفاظ وأئمة الحديث مخبتين بصحّته، ويكفي في الدلالة على صحته ما فيه من سمّو المعنى في الأدب الإيماني، فهو خير منطلق لنا في السلوك والتعامل مع
ص: 18
الآخرین.
ومن هذا المنطلق الذي حدّده الرسول الكريم (صلّی الله علیه وآله وسلّم) ولإثبات تلك الحقيقة الإيمانية، وحرصاً مني على الالتزام بسنّة النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) و أحببتُ أن أستعرض بعض المسائل الشرعية التي كان العمل بها هو السنّة الصحيحة، وتركها إن كان عناداً فإنما هو نبذ لها، وليتما كان ذلك لحجة شرعية، بل كانت دواعي الترك وراءها دوافع سياسية كما سيتضح للقارئ ذلك من خلال البحث، ومتى دخلت السياسة في الدين أفسدته.
ولقد ورد عنه (صلّی الله علیه وآله وسلّم) قوله: يأتي على الناس زمان المتمسّك بسنّتی عند اختلاف أمتي كالقابض على الجمر(1).
وليس من شك في أن الاختلاف قد حصل منذ عصر الإسلام الأول، ومنذ ذلك الحين ازداد الخلاف والاختلاف، مما أدّى إلى غياب كثير من السنن المشروعة عن أذهان المتشرِّعة من المسلمين، بسبب الإهمال والمسير في الطريق المعاكس، وأصبح العامل بها يعاني من نقد التارك لها جهلاً بها أو عناداً، حتى
ص: 19
صار بتمَسّكه بها كالقابض على الجمر من شدّة معاناته.
وبذلك صدقت نبوءة رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلّم)، كما صدقت نبوءته في قوله الآخر لحذيفة: كيف بك يا حذيفة إذا تركت بدعة قالوا: ترك سنة(1).
وكيف لا تصدق نبوءاته وهو الصادق الأمين ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى عَلْمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى)، فقد حصل جميع ذلك.
والآن لنقرأ ما أشرنا إليه من عناوين المسائل الفقهية المشروعة، والتي ثبتت شرعيتها بالسنّة الصحيحة، وتركها ترك للسنّة الصحيحة:
1- مسألة الإتيان بحيّ على خير العمل في الأذان.
2 - مسألة الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة.
3 - مسألة القنوت قبل الركوع في الصلاة.
4 - مسألة الجلوس بعد السجدة الأخيرة في الركعتين الأولى والثالثة في الصلاة.
ص: 20
ه - مسألة التكبير بعد السلام في الصلاة.
6 - مسألة التحنك في لبس العمامة.
7 - مسألة التختم باليمين.
8 - مسألة مسح الرأس والقدمين في الوضوء.
9 - مسألة وقت صلاة المغرب والإفطار بعد سقوط القرص.
10 - مسألة حرمة الصوم في السفر.
11 - مسألة التكبير على الجنائز خمساً.
12 - مسألة تسطيح القبور.
13 - مسألة الصلاة على الآل مقرونة بالصلاة على النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم).
14 - مسألة صلاة التراويح.
إلى غير ذلك من المسائل الخلافية التي جاءت بها السنة الصحيحة، فالتزم بها بعض المسلمين دون الآخرين، فشنّع بعضهم على بعض في ذلك، وكان نصيب الشيعة الاثني عشرية الملتزمين من هذا الباب ما جاوز العتاب، بل حد الصواب،
ص: 21
فاستُهدفوا ظلماً، ونُبزوا بالمبتدعة لالتزامهم بما هو ثابت شرعاً بالسنّة باعتراف الخصوم، وكثُر عليهم النكير والتشهير، ولو أنصفوا لما كان من حق أحد أن ينبزهم، لأنهم وسائر المسلمين شرع سواء، عليهم أن يطيعوا ويتّبعوا، وليس لهم ولا لغيرهم أن يشرّعوا ويبتدعوا، إذ لم يرخّص الشارع المقدس بالاجتهاد في مقابل النص، ثم يجترئون فيقولون لما تهوى أنفسهم: (هو من عند الله). لا، ليس ذلك لأي أحد ولا كرامة.
وقبل الخوض في بحث تلك المسائل لا بد لنا من إلمام القارئ بمعنى البدعة التي هي تقابل السنّة، لتصحيح المعرفة الخاطئة بمفهوم البدعة المنهي عنها شرعاً، ويستحق أن يُسمَّى فاعلها المبتدع، كما أن من معرفتها بحدودها سوف تتميّز عن السنة الصحيحة الثابتة، والتي يستحق أن يُسمَّى فاعلها السُنّي بمعنى اتّباعه للسنَّة.
ص: 22
إن معنى البدعة هي الأمر المحدَث.
وخير تعريف لها - بنظري - ما ذكره التفتازاني في شرح المقاصد، فقد قال:
البدعة المذمومة هي المحدَث في الدين من غير أن يكون في عهد الصحابة والتابعين ولا عليه دليل شرعي. ومن الجهَلة مَن يجعل كل أمر لم يكن في زمن الصحابة بدعة مذمومة وإن لم يقم دليل على قبحه تمسّكاً بقوله عليه الصلاة والسلام: «إياكم ومحدثَات الأمور» ولا يعلمون أن المراد بذلك هو أن يجعل في الدين ما ليس منه، عصمنا الله تعالى من اتّباع الهوى، وثبّتنا على
ص: 23
اقتفاء الهدى بالنبي وآله الأمجاد(1).
وقد ذهب القرافي المالكي في الفروق، والغزالي الشافعي في الإحياء، ومن الإمامية الاثني عشرية الإمام محمد بن مكي المعروف بالشهيد الأول في كتابه القواعد والفوائد وغيرهم، إلى أن محدَثات الأمور تنقسم بانقسام الأحكام الخمسة.
فمنها: الواجب، كتدوين القرآن والسنّة إذا خيف عليهما الضياع والتفلت من الصدور.
ومنها: المستحب، وهو ما تناولته أدلة الندب، كبناء المدارس وإنشاء المعاهد والمكتبات ونشر الكتب وغيرها.
ومنها: المباح، وهو الداخل تحت عموم أدلة الإباحة، ومثلّوا باتخاذ المناخل للدقيق، حتى قيل: إن أول شيء أحدثه الناس بعد رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلّم) اتّخاذ المناخل.
ومنها: الحرام، وهو كل بدعة تناولتها أدلة التحريم كتقديم ولاة الجور، وتولي من لا يصلح لتولي المناصب الشرعية بإرث أو ببذل، ومثل استحداث المكوس وغير ذلك.
ص: 24
ومنها: المكروه، وهو ما شملته أدلة الكراهة من الشريعة وقواعدها كتخصيص بعض الزمان أو المكان بأعمال لم يرد فيها أمر ولا نهي(1).
وقد ناقش الشاطبي في الاعتصام في هذا التقسيم مناقشة نافعة، فليرجع إليها(2).
ومهما يكن فالمتحصل مما ذكره أولئك الأعلام وغيرهم من علماء الإسلام أن البدعة المنهي عنها في الشرع ما حدث بعد الرسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلّم)، و لم يرِد فيه نص بالخصوص، ولا يكون داخلاً في بعض العمومات، أو ورد نهي عنه عموماً أو خصوصاً، وما يفعل منها على وجه العموم إذا قصد كونها مطلوبة على الخصوص فهو بدعة، كما إذا عيَّن سبعين تهليلة مثلاً في وقت مخصوص على أنها مطلوبة للشارع في خصوص ذلك الوقت بلا نص ورد فيه، كان ذلك بدعة.
وبالجملة، فإحداث أمر في الشريعة لم يرد فيه نص بدعة سواء كانت أصلها بدعة أو خصوصياتها مبتدعة.
ص: 25
والآن هلّم فاقرأ ما كتبه ابن الحاج المالكي المتوفى سنة 737 ه- في تبدل المفاهيم حتى أصبحت السُنّة بدعة والبدعة سُنّة.
قال في كتابه (المدخل) وهو ينعى على أهل زمانه ترك السنن الثابتة، وشيوع العمل بالبدعة في زمانه فقال: ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام «كيف بك يا حذيفة إذا تركت بدعة قالوا: تركَ سنّة». لأن السنّة إذا أطلقها العلماء فالمراد بها طريقة صاحب الشرع صلوات الله عليه وعلى آله وعادته المستمرة على ذلك، قال الله تعالى (سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ).
ص: 26
(سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا)، أي عادة الله التي قد خلت، وعادة مَن قد أرسلنا قبلك من رسلنا، فلما أن ارتكبنا عوائد اصطلحنا عليها بحسب ما سوّلت لنا أنفسنا، صارت تلك العوائد التي ارتكبناها ومضينا عليها سنّة.
فإذا جاءنا من يعرف السنّة ويعمل بها أنكرناها عليه، لأنه يعمل بخلاف سنّتنا، وقلنا: هذا يعمل بدعة بالنسبة إلى سنّتنا التي اصطلحنا عليها، فإذا نهانا عن عادتنا وأمرنا بتركها وتركها هو، قلنا: هذا يترك السنّة التي اصطلحنا عليها. فجاء كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتقدم سواء بسواء، فإنا لله وإنا إليه راجعون(1).
وقد روى مالك في موطئه عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة (رض) أن رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم خرج يوماً إلى المقبرة، فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله عن قريب بكم لاحقون، وددت أني قد رأيت إخواننا. فقالوا: يا رسول الله السنا بإخوانك؟ قال: بل
ص: 27
أنتم أصحابي، وإخواننا الذين يأتون بعد وأنا فرطهم على الحوض. فقالوا: يا رسول الله كيف تعرف مَن يأتي بعدك من أمتك؟ فقال: أرأيتم لو كانت لرجل خيلٌ غرّ محجّلة دُهم، ألا يعرف خيله من غيرها؟ قالوا بلى يا رسول الله. قال فإنهم يأتون يوم القيامة غرّاً محجّلين من آثار الوضوء(1)، وأنا فرطهم على الحوض، فليذادنّ رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضالّ، أناديهم: ألا هلمّ، ألا هلمّ. فيقال: إنهم قد بدّلوا بعدك. فأقول: فسحقاً فسحقاً(2).
ص: 28
ثم قال ابن الحاج معقباً على ذلك بقوله: فأتى عليه الصلاة والسلام بلفظ التبديل على طريق العموم، فيدخل في ذلك التبديل في الاعتقاد والقول والعمل في القليل والكثير. فلا شك أن الرجوع إلى العوائد من غير علم بها والاستمرار على ما نحن فيه من الاصطلاحات سخفٌ في العقل وحرمانٌ بيّن(1).
انتهى ما أردنا نقله من كلام ابن الحاج المالكي، وحسبنا ذلك فهو غير متّهم في قوله ذلك.
إذن ليس من حق أيّ أحد كان أن يسنّ أو يبتدع أمراً وينسبه إلى الشارع المقدس على أنه منه، فيجعله سنّة، أو يتركه على أنه بدعة وهذا هو الحق الذي لا ريب فيه.
ص: 29
وعلى ضوئه هل يمكن لنا أن نصحّح بعض المفاهيم الخاطئة في فهم تلك العوائد حتى اشتبه فيها الأمران - السنّة والبدعة - وهما لا يتشابهان وكيف يتشابهان وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) يقول: وإن السنن لنَیّرة لها اعلام، و ان البدع لظاهرة لها أعلام(1).
ولكن لقد حصل بعض ذلك نتيجة التحوير والتزوير في مفاهيم السنة والبدعة، ونتيجة بعض العوامل التي كلما تمادى الزمان كثرت أحابيل الشيطان، وأصبح من الصعب بمكان إفهام الإنسان - أي إنسان - بما هو عليه من سوء الفهم والتسرع في الحكم.
فهذا عمر بن عبد العزيز مع ما كان عليه من قوة السلطان ومكانة في النفوس لم يستطع تغيير بعض تلك العوائد، حتى اعترف بعجزه فقال: ألا وإني أعالج أمراً لا يُعين عليه، إلا أنه قد فني عليه الكبير، وكبر عليه الصغير، وفصح عليه الأعجمي، وهاجر عليه العربي، حتى حسبوه ديناً لا يرون الحق غيره(2).
ص: 30
ومن المعلوم أنه كلما تمادى الزمان رسخت تلك العوائد حتى عند من لا ينبغي أن يخفى عليه أمرها من الأعلام، فما رأيك في مثل أحمد بن حنبل وهو إمام المذهب، فقد غلبته بعض تلك العوائد حتى حسبها أنها السنّة - وهو إمام أهل السنّة - ومَن خالفها كان على بدعة.
قال أبو طالب المكي في قوت القلوب: كان أحمد بن حنبل قد أكثر عن عبد الله بن موسى الكاظم، ثم بلغه عنه أدنى بدعة، قيل: إنه كان يقدِّم عليّاً على عثمان فانصرف أحمد ومزّق جميع ما حمل عنه ولم يحدّث منه - عنه - شيئاً؟(1).
يا لَله ، أتلك بدعة يستحق صاحبها أن يمزّق ما حُمل عنه من حديث كثير؟ لولا رسوخ تلك العوائد التي تأصّلت في النفوس حتى صار كل مَن لم يأخذ بها فهو مبتدع، وتناسى أئمة الحديث - ومنهم أحمد بن حنبل - ما رووه لنا عن رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلّم) من أحاديث الفضائل التي قالها في حق ابن عمه علي بن أبي طالب (علیه السلام) بصيغة أفعل التفضيل، وهو الذي قدّمه في كل المواطن ولم يقدّم عليه أحد.
ص: 31
وحسبنا ما قاله أحمد بن حنبل نفسه في تلك الفضائل: ما جاء لأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم من الفضائل ما جاء لعلي بن أبي طالب(1).
وقوله الآخر ما لأحد من الصحابة من الفضائل بالأسانيد الصحاح مثل ما لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه(2).
ولم يكن أحمد بدعاً في قوله ذلك، فقد ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب قال: وقال أحمد بن حنبل وإسماعيل بن إسحاق القاضي: لم يُروَ في فضائل أحد من الصحابة بالأسانيد الحسان ما روي في فضائل علي بن أبي طالب (عليه السلام)(3).
وذُكر مثل ذلك أيضاً عن النسائي، وحكى عنهم ابن حجر العسقلاني في فتح الباري، وابن حجر الهيتمي في الصواعق، والشبلنجي في نور الأبصار، وقد زاد الآخران إلى أحمد وإسماعيل القاضي والنسائي، أبا علي النيسابوري.
ص: 32
أوليس في هذا ما يغني عن الإسهاب بأنه أفضل الأصحاب ، فلماذا يمزق أحمد ذلك الكثير مما كتبه عن ذلك العلوي؟!
الأنه بلغه عنه أدنى بدعة، قيل: إنه يقدم علياً على عثمان؟!
ما ذنب العلوي في ذلك إذا كان جده رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلّم) و قدّمه على جميع أصحابه بأمرٍ من ربّه بقوله (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلّغ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلِّغْتَ رِسَالَتَهُ)، فقد روى أحمد بن حنبل نفسه في مسنده بسنده عن البراء بن عازب ... ثم ذكر حديث غدير خم.
إلى أن قال: فأخذ بيد علي فقال: مَن كنتُ مولاه فعليُّ مولاه اللهم والِ مَن والاه وعادِ مَن عاداه. قال فلقيه عمر بعد ذلك فقال له: هنيئاً لك يا ابن أبي طالب أصبحتَ وأمسيتَ مولى كل مؤمن ومؤمنة(1).
فمن كان مولى كل مؤمن ومؤمنة هل يبدع مَن كان يقدِّمه
ص: 33
على عثمان حتى يمزق ما كتب عنه من حديث لولا تلك العوائد التي اصطلحوا عليها فقالوا: (إنها السنّة) كما مرّ ذلك عن ابن الحاج المالكي؟!
ثم إن مسألة تبديع من قدَّم عليّا ًعلى عثمان مسألة فيها نظر، فقد كان يقدّمه الحسين بن الفضل البجلي صاحب الكلام والأصول وصاحب التفسير والتأويل، وعلى نكته في القرآن معوَّل المفسرين، وهو الذي استصحبه عبد الله بن طاهر والي خراسان إليها، فقال الناس: إنه قد خرج علم العراق كله إلى خراسان(1).
كما كان يقدِّمه أيضاً محمد بن إسحاق بن خزيمة إمام الفقه والحديث، مع ما كان فيه من مكايدة المتكلمين، ثم إنه رجع إلى موافقة منه لهم(2).
ولقد توقّف في التقديم القلانسي، وقال: لا أدري أيهما أفضل. وأجاز إمامة المفضول(3).
ص: 34
فلماذا يبدّع السيد العلوي ولا يبدّع مَن ذكرنا، وفي كتب الرجال تجد الثناء عليهم طويلاً عريضاً؟!
ثم ما بال أحمد بن حنبل وغيره ممن كانت البدع في أيامهم تتوالى ولا تقف عند حد، لم يستنكر منها سوى بدعة القول بخلق القرآن ومحنته بها معروفة، أمّا ما سواها فلم ينبس فيها ببنت شفة.
وأظهر ما كان يومئذٍ يواجهه هو وغيره ممن يحضرون صلاة الجمعة والجماعة، مع أي إمام - بَرّ أو فاجر - يقيم لهم الجماعة، ويسمعون فيها بدعة الدعاء للخلفاء في الخطبة، وقد قال عنها عز الدين بن عبد السلام: إنّ الدعاء للخلفاء في الخطبة بدعة غير محبوبة(1).
وقد نعى الشاطبي سلوك أهل زمانه معه على نحو ما تقدم عن ابن الحاج فقال: وتارة نُسبتُ إلى الرفض وبغض الصحابة رضي الله عنهم، بسبب أني لم ألتزم ذكر الخلفاء الراشدين منهم في الخطبة على الخصوص، إذ لم يكن ذلك من شأن السلف في
ص: 35
خطبهم ، ولا ذكره أحد من العلماء المعتبرين في أجزاء الخطب. وقد سُئل أصبغ عن دعاء الخطيب للخلفاء المتقدمين: فقال هو بدعة، ولا ينبغي العمل به(1).
ص: 36
ومن الطريف ما حكاه الشاطبي عن الإمام الشهير عبد الرحمن بن بطة الحافظ مع أهل زمانه، إذ حكى عن نفسه فقال:
«عجبت من حالي في سفري وحضري مع الأقربين مني والأبعدين والعارفين والمنكرين، فإني وجدت بمكة وخراسان وغيرهما من الأماكن أكثر مَن لقيت بها موافقاً أو مخالفاً دعاني إلى متابعته على ما يقول وتصديق قوله والشهادة له.
فإن كنت صدّقته فيما يقول وأجزت له ذلك - كما يفعله أهل هذا الزمان - سمّاني موافقاً، وإن وقفت في حرف من قوله، أو في شيءٍ من فعله سمّاني مخالفاً، وإن ذكرت في واحدٍ منها أنّ
ص: 37
الكتاب والسنّة بخلاف ذلك سماني خارجياً، وإن قرأت عليه حديثاً في التوحيد سمّاني مشبُّهاً، وإن كان في الرؤية سمّاني سالمياً، وإن كان في الإيمان سمَّاني مرجئاً، وإن كان في الأعمال سمّاني قدرياً، وإن كان في المعرفة سمَّاني كرّامياً، وإن كان في فضائل أبي بكر وعمر سمَّاني ناصبياً، وإن كان في فضائل أهل البيت سمَّاني رافضياً، وإن سكت عن تفسير آية أو حديث فلم أجب فيهما إلّا بهما سمَّاني ظاهرياً، وإن أجبت فيهما بغيرهما سمَّاني باطنياً، وإن أصبت بتأويل سمَّاني أشعرياً، وإن جحدتهما سمَّاني معتزلياً، وإن كان في السنن مثل القراءة سمَّاني شفعوياً، وإن كان في القنوت سمّاني حنفياً، وإن كان في القرآن سمَّاني حنبلياً، وإن ذكرت رجحان ما ذهب كل واحد إليه من الأخبار - إذ ليس في الحُكم والحديث محاباة - قالوا: طعن في تزكيتهم.
ثم أعجب من ذلك أنهم يسمّونني فيما يقرؤون عليّ من أحاديث رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلّم) ما يشتهون من هذه الأسامي، ومهما وافقت بعضهم عاداني غيره، وإن داهنت جماعتهم أسخطت الله تبارك وتعالى، ولن يغنوا عني من الله شيئاً، وإني مستمسك
ص: 38
بالكتاب والسنّة واستغفر الله الذي لا إله إلا هو وهو الغفور الرحيم».
قال الشاطبي: هذا تمام الحكاية، فكأنّه رحمه الله تكلم على لسان الجميع، فقلما تجد عالماً مشهوراً، أو فاضلاً مذكوراً، إلّا وقد نُبذ بهذه الأمور أو بعضها، لأنّ الهوى قد يداخل المخالف، بل سبب الخروج عن السنّة الجهل بها، والهوى المتّبع الغالب على أهل الخلاف فإذا كان كذلك حمل على صاحب السنّة أو غير صاحبها، وروجع بالتشنيع عليه، والتقبيح لقوله وفعله حتى ينسب هذه المناسب(1).
فهذه القصة على ما فيها من طرافة تعكس الألم والمعاناة التي كان يعيشها أحرار العلماء بسبب تلك العوائد الراسخة في نفوس الناس، حتى أصبحت عندهم هي السنّة وهي ليست كذلك.
فإذا ما رأوا أحداً خرج عليها ولم يلتزم بها، ظنوا به الظنون، فقالوا فيه بما يهرفون، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
ص: 39
والآن إلى المسائل التي تمتُّ إلى الصلاة بصلة كمسألة الأذان بحي على خير العمل، ومسألة الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، ومسألة القنوت في الصلاة، ومسألة التكبير ثلاثاً بعد السلام وغيرها.
ص: 40
في الأذان
ص: 41
ص: 42
حيَّ على خير العمل
لا بدّ لنا قبل الحديث في هذه المسألة من الإلمام بحديث بدء الأذان وتشريعه، إذ هو شعيرة من شعائر الدين وقد أمر به النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) علّمه بلالاً وابن أم مكتوم في المدينة وأبا محذورة بمكة وغير هؤلاء.
قال ابن حزم: لا يشك أحد في أنّ رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلّم) علّم الناس الأذان ولولا ذلك ما تكهنوهما - يعني الأذان والإقامة- ولا ابتدعوهما، فإذ لا شكّ في ذلك، فإنَّما علّمهما (علیه السلام)، مرتبين كما هما أولاً فأولاً، يأمر الذي يعلّمه بأن يقول ما يلقّنه ثم الذي بعده من القول إلى انقضائهما، فإذا هذا كذلك فلا يحل لأحد مخالفة أمره (صلّی الله علیه وآله وسلّم) في تقديم ما أخر أو تأخير ما قدّم وبالله تعالى
ص: 43
التوفیق(1).
ولما كانت الصلاة عمود الدين، والأذان إعلاماً بحضور وقتها وإعلاماً للمسلمين بدعوتهم للحضور وإقامتها، فكان هو أول ما يواجهه المسلمون من شؤونها فيتوجهون به إليها، وهذا معنى قول الإمام الحسين بن علي سيّد شباب أهل الجنة وقد سُئل عن الأذان وما قيل في بدء تشريعه في حديث له كما سيأتي: والأذان وجه دينكم.
ولمّا كان الوجه يحكي الملامح الظاهرة قبل الخفية، كذلك الأذان فهو - كما قال القرطبي وغيره - على قلة ألفاظه مشتمل على مسائل العقيدة، لأنّه بدأ بالأكبرية وهي تتضمن وجود الله تعالى وكماله، ثم ثنّى بالحق ونفى الشريك، ثم بإثبات الرسالة لمحمد (صلّی الله علیه وآله وسلّم)، ثم دعا إلى الإطاعة المخصوصة عقب الشهادة بالرسالة، لأنّها لا تعرف إلّا من جهة الرسول، ثم دعا إلى الفلاح، وهو البقاء الدائم، وفيه الإشارة إلى المعاد، ثم أعاد ما أعاد توكيداً(2).
ص: 44
ومن الغريب أنّ المسلمين يختلفون في أصل تشريعه وفي كيفيته وعد فصوله عداً ومداً وترجيعاً في التكبيرات والشهادة تثنية وتثليثاً وتربيعاً، حتى اتسعت الهوّة بين الآراء بُعد الأرض والسماء، وكأن الأمر في ذلك سهل القبول عند ذي العقول.
وما ندري كيف يسوغ ذلك الاختلاف في شعيرة يُهتف بها كل يوم خمس مرات في الجوامع والمجامع لإقامة الفرائض؟
ولو رجعنا إلى المصادر المعنية بالسنة نجد المسلمين في عهد الرسول (صلّی الله علیه وآله وسلّم) ومَن بعده حتى انقضاء الخلافة الراشدية كانوا يؤدون تلك الشعيرة على نمط واحد كما علّمهم رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلّم) عدا ما طرأ على صيغة (حيّ على خير العمل) من حذفٍ لها وإضافة التثويب في الأذان في أيام عمر وبأمرٍ منه لأسباب كما سيأتي توضيح ذلك.
إذن لماذا اختلف المسلمون في كيفية الأذان بعد ذلك العصر؟ وصاروا كأنهم في معسكرين، فريق يقولون: إنّ الأذان هو من وحي السماء علّمه رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلّم) ليلة الإسراء، وهذا هو مذهب أهل البيت (علیهم السلام) وشيعتهم.
ص: 45
وفريق يقول: إنّ الأذان من وحي أهل الأرض، لرؤيا رآها رجل من الأنصار اسمه عبد الله بن زيد، فحدّث بها النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم)، فصدّقه، وأمر بالأذان استناداً إليها! وكم بين الفريقين من بُعد شاسع، وهذا ما عبّرنا عنه ببعد الأرض والسماء.
والآن لتوضيح الأمر لا بدّ من عرض حجج الفريقين والنظر فيها سنداً ودلالة.
ص: 46
أجمع أئمة أهل البيت (علیهم السلام) على أن الأذان من وحي السماء، حمله النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) معه إلى الأرض بعد عودته من رحلة الإسراء.
1- فقد روى الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) عن النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) أنه قال: لمّا عرج بي إلى السماء، أذّن جبرئیل (علیه السلام) ... إلی أن قال لي: تقدم يا محمد ... فتقدّمت وصليت بهم - الأنبياء - ولا فخر(1).
وهذا المعنى رواه عنه أولاده من باقي الأئمة الطاهرين
ص: 47
وجرى عليه شيعتهم، وإليك الإشارة إلى بعض ما جاء عنهم.
2 - الإمام الحسين بن علي (علیه السلام)، وجاء في حديثه قال: بل سمعت أبي علي بن أبي طالب (علیه السلام)، يقول: أهبط الله ملَكاً حتى عرج رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلّم) ... وساق الحديث بطوله في المعراج وما وقع فيه من الأذان والإقامة والصلاة(1).
3- عبد الله بن عباس حبر الأمة: فقد روى أبو الشيخ في كتاب الأذان عنه قال: الأذان نزل على رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلّم) مع فرض الصلاة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَومِ الجُمُعَةِ فَاسعوا إلى ذِكْرِ الله)(2). قال الحافظ مغلطاي: أي مع فرض الجمعة، وأخرج عن ابن عباس قال: عُلّم النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) الأذان حين أُسري به(3).
4 - محمد بن الحنفية: أخرج أبو شاهين عن زياد بن المنذر قال: حدثني العلاء قال: قلت لمحمد بن الحنفية: كنا نتحدث أنّ
ص: 48
الأذان رؤيا رآها رجل من الأنصار، ففزع وقال: عمدتم إلى أحسن دينكم فزعمتم أنّه كان رؤيا؟ هذا والله الباطل، ولكن رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلّم) ولما عُرج به انتهى إلى مكان من السماء وقف، وبعث الله مَلكاً ما رآه أحد في السماء قبل ذلك اليوم فعلمه الأذان(1).
ه - الإمام محمد الباقر (علیه السلام): قال السرخسي الحنفي: وكان أبو جعفر محمد بن علي ينكر هذا -يعني دعوى بدء الأذان من الرؤيا - ويقول: تعمدون إلى ما هو من معالم الدين فتقولون: ثبت بالرؤيا، كلا ولكن النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم حين أسري به إلى المسجد الأقصى وجمع له النبيون أذّن مَلَك وأقام، فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم(2).
6 - الإمام جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام): فقد روى الشيخ الصدوق في العلل والكليني في الكافي وغيرهما بأسانيدهم المنتهية إلى المزني وسدير ومحمد بن النعمان وابن أذينة عن أبي
ص: 49
عبد الله (علیه السلام)، أنهم حضروه فقال: يا عمر بن أذينة ما ترى هذه الناصبة في أذانهم وصلاتهم؟ قال: فقلت: جعلت فداك إنَّهم يقولون أنّ أُبي بن كعب الأنصاري(1) رآه في النوم. فقال (علیه السلام): كذبوا والله إنّ دين الله تبارك وتعالى أعز من أن يُرى في النوم. فقال له سدير الصيرفي: جعلت فداك فأحدث لنا من ذلك ذكراً. فقال أبو عبد الله (علیه السلام): إنّ الله العزيز الجبار عرج بنبيه إلى سمائه سبعاً(2)، أما أولاهن: فبارك عليه صلوات الله عليه والثانية: علّمه فيها فرضه، والثالثة: أنزل الله العزيز الجبّار عليه ... إلى آخر الحديث، وهو طويل، وفيه ذكر الأذان والصلاة بالملائكة والنبيين صلوات الله عليهم أجمعين.
وفي حديث آخر عنه (علیه السلام)، أنّه لعن قوماً زعموا أنّ النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) أخذ الأذان من عبد الله بن زيد، فقال: ينزل الوحي على نبيكم فتزعمون أنّه أخذ الأذان من عبد الله بن زيد(3).
ص: 50
وفي حديث ثالث عن عبد الصمد بن بشير قال: ذُكر عند أبي عبد الله (علیه السلام)، بدو الأذان فقال رجل: إنّ رجلاً من الأنصار رأى في منامه الأذان فقصّه على رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلّم)، وأمره رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلّم) أن يعلّمه بلالاً. فقال أبو عبد الله: كذبوا... ثم ذكر حديث المعراج بطوله(1).
إلى غير ذلك مما ورد عن أئمة أهل البيت (علیهم السلام) من أحاديث دلت على أنّ الأذان هو من وحي السماء وليس كما يزعم غيرهم أنّه من الرؤيا والأحلام.
والآن إلى استعراض ما جاء في الأذان من هذا المنظار عن جماعة من الصحابة وهم:
1- السيدة عائشة - أم المؤمنين - مرفوعاً عنه (صلّی الله علیه وآله وسلّم) : «لمّا أسري بي أذّنَ جبرئيل، فظنت الملائكة أنّه يصلي بهم، فقدّمني فصليت». أخرجه ابن مردويه(2).
ص: 51
2- عبد الله بن عمر كما في حديث ابنه سالم عنه قال: لمّا أسري بالنبي صلى الله عليه [وآله] وسلم أوحى الله إليه الأذان، فنزل به فعلمه بلالاً(1).
3- أنس بن مالك قال: إنّ جبرئيل أمر النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم بالأذان حين فرضت الصلاة(2).
ص: 52
المنظور الآخر للأذان
لقد تداول فقهاء الإسلام - على حد تعبير الحاكم النيسابوري - حديث رؤيا عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري بالقبول. ولا بد لنا من معرفة ذلك الصحابي المحظوظ من هو؟
قال مترجموه: هو عبد الله بن زيد بن عبد ربه، ولهم اختلاف في نسبه، فلاحظ الإصابة والاستيعاب وأسد الغابة وفتح الباري والمستدرك فستجد بعض التفاوت في الأسماء بدءاً من جدّه الأدنى فهو عبد ربه تارة، وتارة ثعلبة، وثالثة ورابعة... إلى آخر ما هنالك من بقية النسب إلى جدّه الأعلى الحرث بن الخزرج الأنصاري.
ص: 53
وقالوا عنه أيضاً: إنّه بدري عقبي - ويعنون بذلك أنه أحد السبعين الذين بايعوا النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) عند العقبة، وذلك قبل الهجرة.
وقال عنه الذهبي: إنّه صاحب الأذان بدري كبير - كما في التلخيص. ووصفه ابن حجر في الإصابة بأنّه رائي الأذان.
وقال عنه الحاكم في المستدرك: بل هو الذي أري الأذان الذي تداوله فقهاء الإسلام بالقبول.
وقال موفق الدين بن قدامة المقدسي: هو الذي أُري الأذان، شهد بدراً وشهد قبلها العقبة، ثم شهد سائر المشاهد، وكانت معه راية بني الحارث يوم الفتح، توفي سنة 32 ه-: وصلى عليه عثمان(1).
ص: 54
وهكذا تناغموا جميعاً على وتيرة واحدة هي رؤيا الأذان.
كما اتّفقوا إلا من شذّ منهم بأنه ليس للرجل المذكور على طول صحبته للرسول (صلّی الله علیه وآله وسلّم) من الحديث عنه غير هذا الحديث يعني حديث الرؤيا.
فقد قال الترمذي: لا نعرف له عن النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم شيئاً يصح إلّا هذا الحديث الواحد.
وقال ابن عدي: لا نعرف له شيئا يصح غيره.
وجزم البغوي بأنّ ما له غير حديث الأذان، وقال: وحديثه عند الترمذي من رواية ابنه محمد بن عبد الله وصحّحه.
ذكر جميع ذلك ابن حجر في الإصابة وعقّب بقوله:
وأطلق غير واحد أنّه ليس له غيره، وهو خطأ، فقد جاءت عنه عدة أحاديث ستة أو سبعة جمعتها في جزء مفرد.
أقول: ما أدري كيف يقول الحافظ ابن حجر ذلك مع قول البخاري وابن عدي: لا يُعرف له إلّا حديث الأذان(1).
ص: 55
فأي إنسان ذي مسكة من دين أو عقل يصدّق بأنّ رجلاً بدرياً عقبياً عاش مع النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) تلك الفترة الطويلة المليئة بالأحداث، وحضر معه مشاهده وكانت معه راية بني الحارث في يوم فتح مكة - فيما زعم الزاعمون - و.... و... ومع ذلك لم يصح عنه غير حديث واحد كما مرّ نقله عن البخاري والترمذي وابن عدي والبغوي وأطلقه غير واحد مع كثرة الدواعي لروايته أحاديث أخرى من مشاهداته التي حضرها مع النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) حضراً وسفراً، ولو قايسناه مع غيره ممن هو أدنى زماناً في الصحبة، وأنأى مكاناً في الغربة كأبي هريرة مثلاً فكيف يكون الحساب؟
ودَعْ عنك أبا هريرة فلديه من الأحاديث أكثر من جراب، وخذ غيره من الصحابة المقلّين ممن له عدة أحاديث ولكنها تتناسب و زمان ومكان الصحبة، وإنّ الذي جمعه ابن حجر في جزء مفرد متردداً بين الستة أو السبعة ليس بالقدر الذي يتناسب وزمان ومكان صحبته، فصحبة أكثر من عشرين سنة مع وحدة البلد، ثم لا يروي صاحبها إلّا حديثاً واحداً ، إن ذلك لعجيب!!
ثم لماذا لا يروي حديثه المزعوم غيره من الصحابة الذين
ص: 56
حضروا عند النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) وحين جاء مبشراً برؤياه؟ فأين كان المسلمون الذين يحوطون النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) حين قصَّ رؤياه؟
ثم لماذا لا يروي ذلك الحديث عنه غير ابنه محمد؟ فهل كان الابن من الصحابة الذين حضروا قصة الرؤيا؟ ولماذا اختص برواية الرؤيا دون الباقين؟ أم أنّ الأب كتم ذلك عن المسلمين فحبا ابنه تلك الحبوة؟
فلنترك الجواب والحساب إلى فقهاء المسلمين الذين تداولوا الحديث بالقبول والإنعام وإن كان من أضغاث الأحلام، والآن فلنقرأ صور الحديث.
ص: 57
بعض صور الحديث
الصورة الأولى:
ما أخرجه مالك في الموطّأ: حدثني يحيى عن مالك عن يحيى بن سعيد أنّه قال: كان رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم قد أراد أن يتّخذ خشبتين يضرب بهما ليجتمع الناس للصلاة، فأُري عبد الله بن زيد الأنصاري ثم من بني الحارث من الخزرج خشبتين في النوم فقال: إنّ هاتين لنحوٌ مما يريد رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم فقيل: ألا تؤذنون للصلاة؟ فأتى رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم حين استيقظ فذكر له ذلك، فأمر رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلّم) بالأذان(1).
ص: 58
وهذه الصورة مع إرسالها سنداً ليس فيها ما يتفق مع الصور الآتية، إلّا ذكر عبد الله بن زيد الأنصاري، وأنّه هو صاحب الرؤيا. وأما ما جاء فيها من ذكر الخشبتين وما بعدها فهو من نسيج خيال الراوي عن الرائي.
الصورة الثانية:
ما أخرجه أبو داود في سُننه: حدثنا محمد بن منصور الطوسي، ثنا يعقوب، ثنا أبي عن محمد بن إسحاق، حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن محمد بن عبد الله بن زید بن عبد ربه، حدثني أبي عبد الله بن زيد قال: لمّا أمر رسول الله صلّى الله تعالى عليه وعلى وآله وسلم بالناقوس يُعمل ليضرب به للناس لجمع الصلاة، طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوساً في يده، فقلت: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ فقال: وما تصنع به؟ فقلت: ندعوا به إلى الصلاة. قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت له: بلى. قال: فتقول: الله أكبر ... ثم ساق فصول الأذان مرتين مرتین إلّا التكبير في أوله أربعاً، وتهليلة واحدة في آخره
ص: 59
قال: ثم استأخر عني غير بعيد، ثم قال: ثم تقول إذا أقمت الصلاة... وذكر الفصول بنحو ما تقدم إلا في التكبير مرتين. فلما أصبحت أتيت رسول الله صلّى الله تعالى عليه وعلى وآله وسلم فأخبرته بما رأيت. فقال: إنها لرؤيا حق، فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به، فإنّه أندى صوتاً منك. فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به، قال: فسمع ذلك عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وهو في بيته، فخرج يجر رداءه ويقول: والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل ما أري. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى وآله وسلم: فلله الحمد.
قال أبو داود: وهكذا رواية الزهري عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن زيد، وقال فيه ابن إسحاق عن الزهري: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر. وقال معمر ويونس عن الزهري فيه: الله أكبر، الله أكبر. لم يثنيا(1).
ص: 60
الصورة الثالثة:
ما أخرجه الترمذي في سننه، قال: حدثنا سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي، حدثنا أبي، حدثنا محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن محمد بن عبد الله بن زيد عن أبيه قال: لمّا أصبحنا أتينا رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم فأخبرته بالرؤيا فقال: إنّ هذه لرؤيا حق، فقم مع بلال فإنّه أندى وأمدّ صوتاً منك، ألقِ عليه ما قيل لكَ وليناد بذلك. قال: فلما
سمع عمر بن الخطاب نداء بلال بالصلاة خرج إلى رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم وهو يجر رداءه وهو يقول: يا رسول الله والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذي قال. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم: فلله الحمد، فذلك أثبت.
قال: وفي الباب عن ابن عمر.
قال أبو عيسى - هو الترمذي-: حديث عبد الله بن زيد حدیث حسن صحيح، وقد روى هذا الحديث إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق أتم من هذا الحديث وأطول وذكر فيه قصة الأذان مثنى مثنى والإقامة مرة مرة، وعبد الله بن زيد هو
ص: 61
ابن عبد ربه ويقال ابن عبد ربّ، ولا نعرف له عن النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم شيئاً يصح إلّا هذا الحديث الواحد في الأذان(1).
الصورة الرابعة
ما أخرجه ابن ماجة في سننه، قال: حدثنا أبو عبيد محمد ابن عبيد بن ميمون المدني، ثنا محمد بن سلمة الحراني، ثنا محمد بن إسحاق، ثنا محمد بن إبراهيم التيمي عن محمد بن عبد الله بن زيد عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم قد همَّ بالبوق وأمر بالناقوس، فنُحِتَ، فأري عبد الله بن زيد في المنام(2) قال: رأيت رجلاً عليه ثوبان أخضران(3) يحمل ناقوساً، فقلت له: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟
ص: 62
قلت: أنادي به إلى الصلاة(1). قال: أفلا أدلّك على خير من ذلك؟ قلت: ما هو؟ قال: تقول: الله أكبر ... وذكر فصول الأذان بأربع تكبيرات في أوله وتهليلة واحدة في آخره. قال(2): فخرج عبد الله بن زيد حتى أتى رسول الله فأخبره بما رأى قال يا رسول الله رأيت رجلاً عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوساً. فقص عليه الخبر. فقال رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم: إنّ صاحبكم قد رأى رؤيا(3)، فاخرج مع بلال إلى المسجد(4) فألقها
ص: 63
عليه، وليناد بلال فإنه أندى صوتاً منك. قال: فخرجت مع بلال إلى المسجد فجعلت ألقيها عليه وهو ينادي بها. قال: فسمع عمر ابن الخطاب بالصوت فخرج، فقال: يا رسول الله والله لقد رأيت مثل الذي رأى(1). قال أبو عبيد: فأخبرني أبو بكر الحكمي أنّ عبد الله بن زيد قال في ذلك(2):
أحمَدُ الله ذا الجلال وذا الإكْ- -رامِ حمداً على الأذان كثيرا
إذ أتاني به البشير من الل- -ه فأكرِم به لدي بشيرا
في ليالٍ والى بهنَّ ثلاثٍ كلما جاء زادني توقيرا(3)
ص: 64
والآن إلى الإشارة لما في الحديث المزعوم من مواقع للنظر، بدءاً برجال الأسانيد، ومروراً بما في المتن، وانتهاءاً بثبوت الأحكام عن طريق الرؤى والأحلام.
أولاً : نظرة في رجال الإسناد:
إذا قارنّا بين الصور المتقدمة نجد البون الشاسع بينها لكثرة الفوارق، مما يحملنا على الريب في رجال
أسانيدها، فنحمّلهم إصر وتبعة تلك الفوارق (وما آفة الأخبار إلّا رواتها)، فإلى نظرة عابرة عليهم، بدءاً من شيوخ أصحاب الصّحاح، وانتهاءاً بالصحابي المحظوظ بالرؤيا، لنرى ماذا قيل فيهم وما يمكن حمله عليهم.
فالصورة الأولى: رواها مالك عن يحيى بن سعيد، وهو الأنصاري المدني التابعي، ولم يذكر هو عمَّن رواها، فهي ،مرسلة، مضافاً إلى ما في متنها من ثغرات تكفي في إسقاطها عن الاعتبار.
والصورة الثانية: رواها أبو داود عن شيخه محمد بن
ص: 65
منصور الطوسي عن يعقوب عن أبيه عن ابن إسحاق... الخ.
فيكفي أن نعرف أن يعقوب هو ابن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، ومعرفة الأب تغنينا عن معرفة الابن فالولد سر أبيه والأب إبراهيم أثنى عليه الذهبي في ،ميزانه وقال: (كان يجيد -يجيز - الغناء)، وذكر عن ابن عدي أنّه ساق إليه عدة غرائب عن الزهري مما خولف في إسنادها يبدل تابعياً بآخر.
فمن كان كذلك فكم له من تغيير وتبديل فيما كان يرويه عن ابن إسحاق، حيث قال الذهبي عن إبراهيم بن حمزة أنّه قال: كان عند إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق نحو من سبعة عشر ألف حديث في الأحكام - يا سلام - ومع ذلك كلّه يبقى عند الذهبي إبراهيم بن سعد ثقة بلا ثنيا (؟!).
أمّا ابن إسحاق فسيأتي الحديث عنه، إذ هو الذي تنتهي إليه أسانيد الصورتين الآتيتين أيضاً.
والصورة الثالثة: رواها الترمذي عن سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي عن أبيه عن محمد بن إسحاق...
ص: 66
ويحيى بن سعيد هو ابن أبان بن سعيد بن العاص الأموي. وصفوه بالحافظ الكوفي نزيل بغداد لقبه الجمل. قال ابن حجر في التقريب: صدوق يُغرب (؟).
وحكى في تهذيب التهذيب عن الدمياطي قوله فيه: (يقال أنه كان يدلّس)، وعن القطّان فيه: (كان يحفظ ويدلّس). وذكره الذهبي في الميزان لأنّ العقيلي ذكره في الضعفاء(1).
والغريب من الترمذي أن يروي الحديث من غير طريق شيخه أبي داود مع تخريج الشيخ له كما مرَّ في الصورة الثانية.
ولدى المقارنة بين الصورتين نجدهما - الترمذي وشيخه أبا داود - يختلفان سنداً منهما إلى ابن إسحاق، ثم يتفقان منه إلى الصحابي، وقد لا يكون في ذلك كبير غرابة، فلكل اختيار من يروي عنه، ولكن الغرابة كل الغرابة أن نجدهما يختلفان كثيراً في رواية متن الحديث مع أنّ الحديث واحد، والحدَث واحد، والصحابي الذي رآه فرواه واحد، والراوي عنه هو ابنه وهو واحد، والراوي عن ابنه - محمد بن إبراهيم التيمي - واحد
ص: 67
والراوي عنه - هو محمد بن إسحاق - واحد. فمن أين جاء الاختلاف؟
أما الصورة الرابعة: فقد رواها ابن ماجة عن أبي عبيد محمد بن عبيد المدني عن محمد بن سلمة الحراني عن محمد بن إسحاق ... الخ.
فقد قال أبو حاتم في محمد بن عبيد المدني: شيخ وذكره ابن حبان في الثقات وقال: ربما أخطأ. حكاه ابن حجر في تهذيب التهذيب(1).
والآن إلى محمد بن إسحاق الذي انتهت إليه أسانيد الثلاثة من أصحاب الصِّحاح في هذا الحديث، ونظرة عابرة في بعض كتب الجرح والتعديل، ونختار منها المغني في الضعفاء للذهبي، فقد ذكره فيه، وقال أحد الأعلام صدوق قوي الحديث، إمام لا سيما في السِّير، وقد كذّبه سليمان التيمي وهشام بن عروة ومالك ويحيى القطان ووهيب. وأما ابن معين فقال: ثقة ليس بحجة. وكذا قال النسائي وغير واحد، وقال أحمد بن حنبل:
ص: 68
حسن الحدیث، ولیس بحجة(1).
وذكره الذهبي أيضاً في ميزانه، وحكى عن أحمد قوله فيه: هو كثير التدليس جداً. قيل له: فإذا قال: (أخبرني وحدّثني) فهو ثقة؟ قال: هل يقول (أخبرني) ويخالف؟ فقيل له: أرَوَى عنه يحيى بن سعيد؟ قال: كلا.
وحكى عن أبي داود الطيالسي قال: حدثني بعض أصحابنا قال: سمعت ابن إسحاق يقول: حدثني الثقة. فقيل له: مَن؟ قال: يعقوب اليهودي (؟!)
هذا بعض ما ورد في حقه، ويبقى ابن إسحاق أحد الأعلام صدوقاً قوي الحديث كما يشاء الذهبي ومن ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون.
أمّا شيخ ابن إسحاق في هذا الحديث - وهو محمد بن إبراهيم التيمي - فقد قال أحمد بن حنبل: في حديثه شيء، يروي مناكير. أو قال: أحاديث منكرة. ومع ذلك يقول الذهبي في ميزانه وثّقه الناس (؟!)، واحتج به الشيخان، وقفز القنطرة.
ص: 69
أقول: الحمد الله أنه لم يكن يتقن القفز العالي، وإلاّ لطار في الهواء فبلغ السماء.
ثانياً: نظرة في المصادر:
إنّ الحديث المذكور لم يخرجه الشيخان البخاري ومسلم في صحيحهما، وهما هما في مكانتهما بين بقية كتب الصحاح، مع أنّ البخاري ومسلم قد عقدا باباً بعنوان (باب بدء الأذان)، ولمّا كان عدم تخريجهما لحديث الرؤيا المزعومة فيه يثير تساؤلاً يبعث على الشك في صحَّته، فقد أغرب شرَّاح الصحاح والسنن في هذا المقام، فاعتذر بعضهم كالحاكم النيسابوري الذي ذكر الحديث في المستدرك ثم قال: لم يُخرَّج - الحديث - في الصحيحين لاختلاف الناقلين في أسانيده. وأمثل الروايات فيه رواية سعيد بن المسيب، وقد توهَّم بعض أئمتنا أنّ سعيداً لم يلق عبد بن زيد وليس كذلك، فإنّ سعيد بن المسيب كان فيمن يدخل بين علي وعثمان في التوسط، وإنما توفي عبد الله بن زيد في أواخر خلافة عثمان(1).
ص: 70
أقول: هذا ما اعتذر به الحاكم عن عدم تخريج الشيخين لحديث عبد الله بن زيد، ولم يبعد عنه الذهبي كثيراً حين قال في التلخيص: لم يخرجا في الصحيحين حديثه في الأذان لخلف في
سنده.
ومهما كانت العلّة في ذلك فليس ذلك بالمهم في المقام، ولكن هلّم إلى الخطب فيما يزعمه الحاكم بأنّ أمثل الروايات فيه رواية سعيد بن المسيب، وتهالكه في إثبات لقيا سعيد للصحابي الرائي، بحجة إدراك سعيد لزمانه ، لأنّه كان يدخل بين علي وبين عثمان في التوسط (؟).
ولا ينقضي عجبي من الحاكم، فهو على جلالته ومعرفته بعلوم الحديث كيف يعتذر بذلك؟ مع أن سعيد بن المسيب ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر، يعني سنة 15ه-، فيكون عمره عند موت عبد الله بن سعيد سنة 32 ه- سبع عشرة سنة تقريباً، هذا أولاً. ومَن كان في سنّه يومئذٍ وعدم مكانته الاجتماعية التي تؤهّله للتوسط بين علي وعثمان ثانياً، مع وجود الصحابة ممن لهم المكانة الذين تربطهم أواصر المودة أو القربى معهما أو مع
ص: 71
أحدهما ، فلا يتصور أن يكون لسعيد أي دور فيما زعم الحاكم.
ثم ما بال الحاكم لم يذكر لنا ذلك الخلاف الذي يحتاج إلى توسط جماعة وكان سعيد فيمن يدخل فيه؟
ولعلّه أراد اعتزال الإمام علي لعثمان وجماعة الثوار، حين أعياه الأمر من كثرة التوسط بين عثمان والثوار، فاعتزلهم وخرج إلى ينبع، فلمّا اشتد الأمر على عثمان، أرسل إليه عبد الله بن عباس يطلب إليه أن يعود إلى المدينة، ويكرر مساعيه لكف الثائرين عنه، وهذا ما ذكره المؤرخون. أمّا عن وساطة سعيد فلم أقف على من ذكر له ذلك.
وبعد هذا هل يبقى لقول الحاكم: (وأمثل الروايات فيه رواية سعيد بن المسيب) من قيمة؟ وكم للحاكم من نظير.
فإن البيهقي صاحب السنن، ساق في باب بدء الأذان ما ذكره البخاري ومسلم وغيرهما من أصحاب السنن والأسانيد من أحاديث الأذان، وختم الباب بما رواه عن أبي بكر محمد بن يحيى المطرز، قال:
سمعت محمد بن يحيى يقول: ليس في أخبار عبد الله بن
ص: 72
زيد في قصة الأذان خبر أصح من هذا. يعني محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التيمي عن محمد بن عبد الله بن زيد، لأنّ محمداً سمع من أبيه، وابن أبي ليلى لم يسمع من عبد الله بن زید(1).
ونحو ذلك قال محمد بن يحيى الذهلي وابن خزيمة(2).
وفي كتاب العلل للترمذي قال: سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث - يعني محمد بن إبراهيم التيمي - فقال: هو عندي صحيح.
أقول: فإذا كان عنده صحيحاً فلماذا لم يخرِّجه في كتابه أسوة بحديث ابن عمر وحديث أنس، فهو مفصِّل لما أجمل فيهما، ومبين لما استبهم عندهما؟
ثم أن حديث ابن أبي ليلى المشار إليه آنفاً هو حديث ذكر فيه عدة أحكام تتعلق بالصلاة ومنها ما يتعلق بالأذان، وقال فيه تارة: حدّثنا أصحابنا. وتارة يقول: حدّثنا أصحاب محمد. وتارة
ص: 73
عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ. ورابعة: عبد الرحمن عن عبد الله بن زيد. مع أنّ الحديث واحد والقصة واحدة.
لذلك ضعّفه ابن حزم(1) وإن كان في المحلى خالف ذلك، فراجع.
ثالثاً: نظرة فاحصة في متن الحديث:
إذا أردنا المقارنة بين صور الحديث - وهو حديث واحد - نجد التفاوت بينها عجيباً غريباً.
ففي الصورة التي رواها مالك في الموطأ ورد أنّ النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) أراد أن يتّخذ خشبتين يضرب بهما ليجتمع الناس للصلاة، فاري عبد الله بن زيد خشبتين، فقال: إنّ هذا لنحو ما يريده رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلّم).
والسؤال هنا: هل أنّ ضرب الخشبتين له صدى يسمعه جميع المسلمون في المدينة فيجتمعون عند سماعه؟
ثم هل أنّ الخشبتين اللتين أرادهما النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) كانتا بصورة مخصوصة، ولم يجدهما يقظةً فوصفهما للصحابة، فوجد
ص: 74
نحوهما الصحابي المذكور في المنام؟ ولا بد من افتراض ذلك، وإلّا فمن أين للصحابي معرفة أنهما لنحو مما يريد رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلّم)، ثم ذكر: فقيل: الا تؤذنون للصلاة؟ وهذا يوحي بأنّ المسلمين ومنهم الصحابي المذكور كانوا يعرفون الأذان وإلاّ فتكون الإحالة على أمرٍ مجهول، وتبقى المشكلة قائمة.
ويؤكد سبق معرفتهم بالأذان أنّ النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) بمجرد أن ذُكر له ذلك فأمر بالأذان، لأنّه كان يعرفه، ولكنه لم يستعمل علمه حتى جاءه الصحابي الأنصاري فأخبره بما سمع من قول القائل: أفلا تؤذنون؟
سبحانك اللهم إن هذا إلّا بهتان عظيم.
وأما الصورة التي رواها أبو داود في سننه فقد جاء فيها عن عبد الله بن زيد قال: لمّا أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى وآله وسلم بالناقوس ليُعمل ليضرب به للناس الجمع الصلاة طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوساً في يده، فقلت: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قال: أفلا أدلّك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت له: بلى. فقال: تقول: الله أكبر... وذكر الأذان
ص: 75
بفصوله، ثم علّمه الإقامة لذلك، وقد مرت تلك الصورة.
ولنا أن نسأل أبا داود من أين أتى بالناقوس في روايته، ولعلّه هو أو رواته لمّا عرفوا أنّ الناقوس قطعة طويلة من حديد أو خشب يضربونها النصارى لأوقات الصلاة فاستُبدلت لفظة (الخشبتين) التي وردت في موطأ مالك بالناقوس هنا ما دام الغرض منهما واحداً، وهو التنبيه على أوقات الصلاة.
وقد لا يكون لذلك التحريف كبير أهمية عند أصحاب التخريف، ولكن هلّم الخطب في رواية الصحابي بقوله: (لما أمر رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلّم) بالناقوس يُعمل)، هل أنّ أمره (صلّی الله علیه وآله وسلّم) كان عن إرادة وعزم وتبعاً لأمر الله تعالى، أم كان من عند نفسه؟ فإن كان ذلك عن عزم وإرادة وأمر من الله تعالى، فلماذا كرهه وأعرض عنه مفضّلاً عليه رؤيا الصحابي المذكور؟
وإن كان غير ذلك فكيف يتصور ذلك في حقه (صلّی الله علیه وآله وسلّم)؟ وهل يريد أن يعلم حكماً شرعياً وشعيرة دينية، أليس يستلزم ذلك نسبة العبث إليه - والعياذ بالله - وقد نزّهه الله تعالى بقوله ﴿وَما
ص: 76
يَنْطِقُ عَن الهَوى* إن هو إلا وَحْيٌ يُوحى)(1)، وقال تعالى ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الأقاويل* لأخذنا مِنْه بِالْيَمِين * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْه الوتين)(2).
وأما الصورة التي رواها الترمذي في سننه فلم يرد فيها ذكر المقدمات، وبقيت مطوية في بطن الغيب وصدر الريب، وابتدأت بقول الصحابي: لمّا أصبحنا أتينا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فأخبرته بالرؤيا، فقال: إنّ هذه لرؤيا حق.
فهل لنا أن نسأل: من طوى تلك المقدمات؟ ولماذا طويت؟
وأما الصورة التي رواها ابن ماجة في سننه فقد ذكرنا في الهامش بعض ما فيها من التساؤل الذي يبعث على الشك في صحَّتها.
والآن فليقارن القارئ بين الصور الثلاث التي رواها أبو داود والترمذي وابن ماجة وكلهم رووها عن طريق محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن محمد بن عبد الله بن
ص: 77
زيد عن أبيه الصحابي رائي الأذان.
فهل يجدها تتفق بألفاظها أو معانيها؟ ولماذا الاختلاف والحديث واحد والرواة هم نفس الرواة؟
ولو تتبّعنا بقية صور الحديث عن ابن إسحاق وقد رواها - غير من تقدَّم - كل من ابن خزيمة وابن حبان والدارمي والبيهقي لرأينا عجباً، ولا ندرك لذلك سبباً، ومع كل تلك التناقضات يبقى حديث ابن إسحاق في المقام هو الحديث الأصح كما مرّت الإشارة إلى ذلك نقلاً عن المطرزي والذهبي وابن خزيمة والترمذي وغيرهم.
لماذا؟ لأنّ حبَّ الشيء يعمي ويصم !! ودفعاً بالصدر، فعلينا أبداً أن نسدل الستار على العقول، وعلى الناس أن تصدّق بالمنقول عن ابن إسحاق - مع وصفه بالدجال والمدلّس - فيما رواه من حديث عبد الله بن زيد الرائي. إنّ هذا لشيء عجاب!!
ويبقى العجب من أولئك الأعلام من فقهاء الإسلام الذين تداولوا حديثه بالقبول كما مرَّ عن الحاكم النيسابوري.
وأعجب من ذلك كلّه ما قاله ابن عبد البر: روى قصة عبد
ص: 78
الله بن زيد هذه في بدء الأذان جماعة من الصحابة بألفاظ مختلفة ومعانٍ متقاربة، والأسانيد في ذلك متواترة؟؟(1)
يا لَله والمسلمين، كيف يتقبل الإنسان العاقل هذه الدعاوى الفارغة، مع وضوح الحجة البالغة؟
شعيرة من شعائر الدين تدعو المسلمين إلى إقامة أهم الواجبات نسمِّيها قصة، وكأنها من قصص ألف ليلة وليلة، ثم يزعم الزاعم: أنّه رواها جماعة من الصحابة، فمن هم ؟ ولماذا لم يسمّهم؟
ولقد أمعن إيغالاً في الإيهام بالمكاثرة حين زعم قائلاً: والأسانيد في ذلك متواترة.
ما هو معنى التواتر عنده؟ أليس هو رواية جماعة يمتنع تواطوهم على الكذب عن جماعة كذلك، وهكذا حتى ينتهي الإسناد إلى المصدر الأول؟ وهل يسع الإنسان أن يسمّي خبر واحد عن واحد عن واحد عن الصحابي بالمتواتر؟
ألم يقل ابن خزيمة والذهبي وغيرهما ممن مرَّت أقوالهم في
ص: 79
هذا الحديث: حديث صحيح ثابت من جهة النقل، لأنّ محمداً سمع من أبيه، وابن إسحاق سمع من التيمي، وليس هذا مما دلّسه؟ ويقول: ليس في إخبار عبد الله بن زيد في قصة الأذان خبر أصحّ من هذا؟
فخبر محمد بن إسحاق - لا غيره - عن محمد بن إبراهيم التيمي - لا غير - عن محمد بن عبد الله بن زيد - لا غير - عن عبد الله بن زيد الصحابي صاحب الرؤيا - لا غير - غدا بجرّةٍ من القلم - لا غير - يوصف بالتواتر، صدق الله ربنا العلي العظيم (الْهَاكُمُ التَّكَاثر).
وإذا كان هذا هو التواتر فما هو خبر الآحاد؟
اللهم ارحم أمّة نبيّك ولا تسلبها عقولها، لئلا يهرفوا ويخرفوا بما يعرفون وما لا يعرفون
ص: 80
هل يجوز تشريع الحُكم بالرؤى؟
سؤال يفرض نفسه، ولا بد من التماس الجواب عليه.
فإن كان ذلك يجوز (؟)، فلا حاجة إذن للوحي ولا إلى الرسول ما دام الرائى غير الرسول يرى فيتعبّد هو ويعبّد غيره معه بموجب رؤياه، وحاشا الله أن يتعبّد خلقه من هذا الطريق.
وإذا كان ذلك لا يجوز فقد سقط حُكم الأذان والإقامة ما دام مصدرهما الرؤيا، ولا يجوز التعبد بهما.
إذن لا بدّ من بحث هذه المسألة بدقة وتعقل، فإنها بمنتهى الأهمية وبالغة الخطورة، وقد تنبّه لذلك بعض من أصرّ على أنّ مصدر الأذان هو الرؤيا، فرأى أنّ مثل هذا الادّعاء يفتح شرحاً
ص: 81
في أحكام الشريعة لا يُسدّ فتقه، فحاول إضفاء الشرعية على تلك الرؤيا خاصةً دون غيرها لرفع تلك الإشكالية.
فقد قال الحافظ ابن حجر: قد استشكل إثبات حُكم الأذان برؤيا عبد الله بن زيد، لأنّ رؤيا غير الأنبياء لا يُبنى عليها حُكم شرعي. وأجيب: باحتمال مقارنة الوحي لذلك، ويؤيده ما رواه عبد الرزاق وأبو داود في المراسيل من طريق عبيد بن عمير الليثي - أحد كبار التابعين - أنّ عمر لمّا رأى الأذان جاء ليخبر النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) فوجد الوحي قد ورد بذلك، فما راعه إلّا أذان بلال، فقال له النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم): سبقك بذلك الوحي.
ثم قال الحافظ: وهذا أصحّ مما حكى الداوودي عن ابن اسحاق أنّ النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) أمر بالأذان قبل أن يخبر عبد الله بن زيد بثمانية أيام(1).
فانظر بربّك إلى هذا الجواب المبني على مجرد احتمال مقارنة الوحي لذلك.
فهل يغني مجرد الاحتمال في دفع الإشكال؟ وإذا صحّ فقد
ص: 82
بطل إذن الاستدلال بالرؤيا في تشريع الأذان، لأنّ الوحي يكون هو مصدر الحجة الشرعية، فلا قيمة إذن للرائي ولا لرؤياه فلماذا الإصرار على أنّ بدء الأذان كان من الرؤيا؟
ثم لماذا رؤيا عبد الله بن زيد بالخصوص؟ وقد روى الذين يصرّون على التعبد بالأحكام عن طريق الأحلام أنّ رجالاً غير عبد الله بن زيد رأوا مثل الذي رأى، وفيهم مَن هو أعلى مقاماً وأقدم إسلاماً كأبي بكر وعمر مثلاً.
ألم يقولوا: إنّ أبا بكر رأى مثل ذلك، وقد رواه الطبراني في الأوسط؟(1)
فلماذا لم يأخذ النبي برؤياه وهو صاحبه؟
ألم يقولوا: إنّ عمر رأى مثل ذلك قبل أن يرى عبد الله بن زید بعشرين يوماً؟(2)، ولماذا لم يأخذ النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) برؤياه؟
ص: 83
وكيف قال الناس إن السكينة تنطق على لسانه؟(1).
ولكن إن فاته السبق في هذا المقام فسوف يمنحه الحفّاظ ذلك كما سيأتي عن قريب.
ألم يقولوا: إنّ سبعة من الأنصار رأوا مثل ذلك؟! ولا تسلني من هم؟ ولكن سل الحافظ مغلطاي الذي ذكرهم(2).
ألم يقولوا: إنّ السبعة كانت رؤاهم في ليلة واحدة؟ كما قاله السرخسي الحنفي في المبسوط(3).
وهكذا تصاعدت حُمَّى المزايدات في مثل تلك الرؤيا حتى ارتفعت فبلغت أربعة عشر رجلاً فيما زعم الجيلي في شرح التنبيه(4)، ولعلّ سبعة منهم من المهاجرين ليتساووا في هذه الفضيلة المزعومة مع إخوانهم الأنصار.
قال السيوطي في كتابه (الحاوي للفتاوي): وقد ورد في
ص: 84
عدة أحاديث أن أبا بكر وعمر وبلالاً رأوا مثل ما رأى عبد الله ابن زيد. وذكر إمام الحرمين في النهاية والغزالي في البسيط أن بضعة عشر من الصحابة كلهم قد رأى مثل ذلك(1).
وإن تعجب من تلك المزايدات بالأحلام فثم عجب وأعجب، ففي سوقها ينفق كل هراء، فهلم واقرأ ما أخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده عن كثير الحضرمي قال: أول من أذّنَ بالصلاة جبريل في السماء الدنيا، فسمعه عمر وبلال، فسبق عمر بلالاً، فأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم جاء
بلال فقال له: سبقكَ بها عمر(2).
يا لَله مِن أناس يزعمون بأنهم حفاظ السنّة وحملة الحديث، ثم يروون أمثال هذه الترهات التي تسيء إلى مقام النبوة وهم لا يشعرون ، ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً، إذ يزعمون أنّ النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) الذي ينزل عليه الوحي وتسدّده رسالة السماء، ثم هو لا يدري - وأستغفر الله من قولي هذا - كيف الوسيلة لأن يجمع المسلمين للصلاة، ويشير بعض أصحابه
ص: 85
بالشبور، فيأباه لأنه لليهود، وبعضهم أشار بالناقوس، فيأباه لأنّه للنصارى، وبعضهم قال: النار. فأبى لأنّها للمجوس؟؟
ويبقى مهموماً حتى يفرج عنه الكرب عبد الله بن زيد حين أتاه وقصَّ عليه رؤياه، ثم بدأ التنافس والتسابق، فذكروا أسماء آخرين رأوا مثل ما رأى ، ولم يأخذ النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) إلّا برؤيا عبد الله بن زيد، ياله من حظٍ عظيم وشرف جسيم، لم ينله أبو بكر ولا عمر ولا السبعة من الأنصار، ولا الأربعة عشر من المجهولين هوية.
ومهما كثر العدد، وتكاثر المدَد فإنّ ذلك لا يغير من واقع الشريعة شيئاً، بل تبقى السنّة النبوية تلو القرآن المجيد، وهما تنزيل من الله العزيز الحميد فالقرآن وحي لفظاً ومعنى، والسنّة وحي حُكماً ومبنى. فليس للنبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) أن يغير أو يبدل، أو يزيد أو يُنقص، أو يثبت أو ينسخ، إلّا فيما أوحي إليه فعله، وأُمِرَ بتبليغه.
ص: 86
نافذة على التاريخ وحيث انتهينا من استعراض ما جاء في أصل تشريع الأذان من خلال المنظورين المتباينين: منظور يرى تشريعه من وحي السماء، وهو الذي التزمه أئمة أهل البيت (علیه السلام) وشيعتهم.
و منظور آخر يرى تشريعه من الرؤى والأحلام من بعض أهل الأرض، وقد تداول حديثه فقهاء الإسلام كما مرَّ عن الحاكم النيسابوري.
وكم بين المنظورين من بُعد. فلماذا كان ذلك؟
وبالأحرى لماذا حدث ذلك البعد الشاسع ما دام الأذان عملاً عباديّاً ومقدمة لعمل عبادي من أهم الواجبات، والمسلمون
ص: 87
جميعاً لا ينبغي لهم أن يختلفوا فيه ما دامت الأحكام - عبادية أو غيرها - إنّما يأخذونها عن النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم)؟
وللإجابة على ذلك لا بدَّ من العودة إلى ما مرَّ في المنظور الأول الذي ذكرنا فيه طائفة من أقوال أئمة أهل البيت (علیهم السلام)، ونمعن النظر جيداً في جواب كلٍ من السيدين الجليلين الإمام الحسين بن علي (علیه السلام) وأخيه محمد بن الحنفية رضي الله عنه، ففي كلامهما نافذة ينبثق منها النور، تكشف عمّا وراء الأكمة من خطر يكمن في المنظور الثاني الذي يصرّ أصحابه على تجريد الأذان من قداسته الشرعية، وجعله من أضغاث الأحلام، وبالتالي يتم تمييعه وتذويبه - إنّ صحّ التعبير - فيلغى مرةً واحدة إذا سنحت لهم الفرصة.
والآن لنر كيف يكون ذلك؟
1- فقد قال الإمام الحسين (علیه السلام): الوحي ينزل على نبيكم وتزعمون أنّه أخذ الأذان من عبد الله بن زيد، والأذان وجه دينكم. وغضب، ثم قال: بل سمعت أبي علي بن أبي طالب (علیه السلام)، یقول... ثم ذكر حديث المعراج، ومما جاء فيه ذكر الأذان والإقامة والصلاة بالنبيين عليهم الصلاة السلام.
ص: 88
2- وقال محمد بن الحنفية - بعد أن فزع من مقالة العلاء وقد قال له: إنّ الأذان رؤيا رآها رجل من الأنصار -: عمدتم إلى أحسن دينكم فزعمتم أنّه كان رؤيا ؟! هذا والله الباطل...
ثم ذكر حديث المعراج.
وفي جواب هذين السيدين ابني الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام)، ما يوحي أنّ إشاعة تلك الطامة إنّما كانت في أيامهما، ولم تكن من قبل. فقول الحسين (علیه السلام): (وتزعمون) وقول أخيه محمد: (عمدتم... فزعمتم) يدلان على حدوث أمرٍ لم يكن من قبل حتى غضب الأول وفزع الثاني.
وما مرَّ من قول ابن عباس حبر الأمة في تعيين تاريخ تشريع الأذان.
وما يروى عن ابن الزبير من قوله: أخذ الأذان من أذان إبراهيم (وَاذْن في الناس بالحج)(1) الآية، قال: فأذَّنَ صلى الله عليه [وآله] وسلم(2).
كل ذلك يدلّ على أن البلية كانت في أيامهم ولم تكن قبل
ص: 89
ذلك، إذ لم نجد من أنكر كالحسين وأخيه أو استنكر ولو من طرف خفي كابن عباس وابن الزبير قبل هؤلاء.
وإذا لاحظنا تاريخ حياتهم نجدهم كلهم عاصروا معاوية وهو الذي أفسد كثيراً من عقائد المسلمين وغير ما استطاع، ولسنا بصدد إثبات ذلك، والذي يعنينا إثباته هو أن معاوية هو الذي بذر تلك البذرة الوبيئة من اختلاق الأحاديث المكذوبة واتخذ جماعة لذلك، منهم أبو هريرة وعمرو بن العاص والمغيرة ابن شعبة وسمرة بن جندب و... و...
وقد كان موضوع الأذان يزعجه وقد كان يخطط لرفعه. وقد يفاجأ القارئ بهذا فيتهمني بالتجني، ولكن هل-م فلنقرأ معاً حديثه مع المغيرة بن شعبة وهو من أشياعه وأتباعه ولا يتهم عليه.
قال المطرف بن المغيرة بن شعبة: دخلت مع أبي على معاوية، فكان أبي يأتيه فيتحدث معه، ثم ينصرف إلي فيذكر معاوية وعقله، ويعجب بما يرى منه، إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء، ورأيته مغتما فانتظرته ساعة، وظننت أنه لأمر حدث فينا، فقلت: مالي أراك مغتمّاً منذ الليلة؟
فقال: يا بني جئت من أكفر الناس وأخبثهم قلت
ص: 90
وما ذاك؟
قال: قلت له وقد خلوت به: إنّكَ قد بلغت سنّاً يا أمير المؤمنين، فلو أظهرت عدلاً، وبسطت خيراً، فإنّك قد كبرت، ولو نظرت إلى إخوانك من بني هاشم، فوصلت أرحامهم، فوالله ما عندهم اليوم شيء تخافه، وإنّ ذلك مما يبقى لك ذكره وثوابه.
فقال: هيهات هيهات أي ذكر أرجو بقاءه؟! ملَكَ أخوتيم فعدل وفعل وفعل، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره، إلّا أن يقول قائل: أبو بكر . ثم ملَك أخو عدي فاجتهد وشمّر عشر سنين، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره، إلّا أن يقول قائل: عمر. وإنّ ابن أبي كبشة ليُصاح به كل يوم خمس مرات: (أشهد أنّ محمداً رسول الله)، فأي عمل يبقى؟ وأي ذكر يدوم بعد هذا لا أبا لك؟ لا والله إلّا دفناً دفناً.
وقد أورد ذلك المسعودي في مروج الذهب، وزاد فيه ذكر عثمان، حيث قال بعد ذكر عمر:
ثم ملك أخونا عثمان، فملك رجل لم يكن أحد في مثل نسبه، فعمل ما عمل (وعمل به)، فوالله ما عدا أن هلك فهلك
ص: 91
ذكره، وذكر ما فُعل به، وإن أخا هاشم يُصرخ به في كل يوم خمس مرات: (أشهد أنّ محمداً رسول الله)، فأي عمل يبقى مع هذا لا أُمَّ لك، والله إلا دفناً دفناً(1).
قال المسعودي: وإنّ المأمون لما سمع هذا الخبر بعثه ذلك على أن أمر بالنداء حسب ما وصفنا(2)(3).
هذا هو الحديث الذي أوحى إلينا بإدانة معاوية، وأنّه كان يخطّط لرفع الأذان حين أشاع على السنة سماسرته أنّ الأذان إنّما هو من رؤيا عبد الله بن زيد، ليسلبه قداسته وقدسية فصوله، وقد كشف عن خبيئته في حديثه السابق، ولا غرابة في ذلك فالرجل لم يؤمن أبدا بالإسلام كما يقول الدكتور سامي
علي النشار... ومهما قيل في معاوية، ومهما حاول علماء
ص: 92
المذهب السلفي المتأخر وبعض أهل السنّة من وضعه في نسق صحابة رسول الله، فإنّ الرجل لم يؤمن أبداً بالإسلام، ولقد كان يطلق نفثاته على الإسلام كثيراً، ولكنه لم يكن ليستطيع أكثر من هذا(1).
وقال أيضاً: فلم يكن الرجل أبداً مسلماً تام الإسلام، كان جاهليّا بمعنى الكلمة(2).
وقال ثالثاً: وكان خليفة دمشق غارقاً لأذنيه في جاهليته الأولى بين جواريه ومغانيه وملاهيه وطربه، يرتكب الكبائر سرًّا أو علانية، ويحطم في بناء المجتمع الإسلامي الخلقي، كما حطّم بناءه السياسي والاقتصادي(3).
ولم يكن الدكتور النشار بدعاً في قوله هذا، فقد حكى في كتاب كامل البهائي نقلاً عن البيهقي الشافعي صاحب السنن وغيرها قوله ردّاً على قول القائل: (إن معاوية خرج من الإيمان بمحاربة علي (علیه السلام)، فقال البيهقي: إن معاوية لم يدخل في
ص: 93
الإيمان حتى يخرج منه، بل خرج من الكفر إلى النفاق في زمن الرسول (صلّی الله علیه وآله وسلّم)، ثم رجع إلى كفره الأصلي بعد(1).
كما أن البيهقي هو الآخر لم يكن بدعاً في قوله هذا، فإن يحيى بن عبد الحميد الحِمّاني - وقد وثّقه يحيى بن معين وغيره - قال: كان - مات - معاوية على غير ملة الإسلام(2).
ولنكتف نحن بهذا من أمره، ولا نُقذّر كتابنا بذكره على حد قول عبد الرزاق بن همام الصنعاني - صاحب المصنَّف - فقد ذكر الذهبي عن مخلد الشعيري أنه قال: كنت عند عبد الرزاق، فذكر رجل معاوية، فقال: لا تقذّر مجلسنا بذكر ولد أبي سفیان(3).
ونحن لا نزيد على قوله إلا قول ربنا تعالى ﴿يُريدُونَ لِيُطْفِئوا نُورَ الله بأفواههمْ وَالله متم نوره وَلَو كَرِهَ الكَافِرُونَ)(4).
(أَلَم يَعْلَمُوا أَنه مَنْ يُحادِد الله وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَه نارَ جَهَنَّمَ
ص: 94
خالِدًا فيها ذلِكَ الخِزي العَظِيمُ )(1).
وَمَن يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَه الهدى وَيَتَبِع غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلّه ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا)(2).
كما قد تبيّنَ بعد هذا العرض أنّ الأذان من وحي السماء، وعليه فلا يجوز لأي إنسان أن يغيّر فيه شيئاً، فيزيد فيه أو ينقص منه، وأنّ فصوله معلومة لدى جميع المسلمين، وبالرغم من تكرار الأذان بها كل يوم وليلة خمس مرات في المجامع والجوامع، فقد وردت أحاديث كثيرة في كيفيتها عداً ومداً، ثم ترجيعاً في التكبيرات والشهادة تثنية وتثليثاً وتربيعاً، وكأن القول في ذلك سهل القبول عند ذوي العقول.
ولا أريد التوسع في ذلك، بل أود تنبيه القارئ أنّ من فصول الأذان والإقامة قول: (حيّ على خير العمل) مرتين، وقد أمر بتركه الخليفة عمر اجتهاداً منه كما جاءت الإشارة إلى ذلك في حديث الإمام الباقر (علیه السلام)، قال: كان الأذان بحيّ على خير العمل على عهد رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلّم)، و به أمروا في أيام أبي بكر
ص: 95
وصدر من أيام عمر، ثم أمر بقطعه وحذفه من الأذان والإقامة، فقيل له في ذلك فقال: إذا سمع الناس أن الصلاة خير العمل تهاونوا بالجهاد وتخلفوا عنه(1).
وهذا ما ذهب إليه التفتازاني والقوشجي وغيرهما كما سیأتی.
ص: 96
حيّ على خير العمل
بين الإثبات والرفع
والآن إلى استعراض ما يقوله بقية أهل المذاهب في ذلك، المعرفة هل كان ذلك على عهد النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) أم لا؟
1- قال ابن حزم الظاهري: وقد صحّ عن ابن عمر وأبي أمامة بن سهل بن حنيف أنهم كانوا يقولون في أذانهم: (حيَّ على خير العمل) ولا نقول به، لأنّه لم يصح عن النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم (؟) ولا حجّة في أحد دونه (؟)، ولقد كان يلزم من يقول في مثل هذا عن الصاحب، مثل هذا لا يقال بالرأي، أن يأخذ بقول ابن عمر في هذا ، فهو عنه ثابت بأصح إسناد(1).
ص: 97
ولنا أن نقول لابن حزم وأشياعه: إذا صحّ زعمه أنّه لم يصح عن النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) فمن أين جاء به ابن عمر وأبو أمامة بن سهل بن حنيف، ولا يخلو إمّا أن يكونا ابتدعا أو اتبعا، والأول باطل لمنافاته لعدالة الصحابة التي يقول بها أشياع ابن حزم، فتعيّن الثاني وأنّهما اتّبعا سنّة النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) فيه.
2- قال البيهقي الشافعي في السنن الكبرى: (باب ما روي في حيّ على خير العمل):
أخبرنا: أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو، قالا: ثنا أبو العباس بن محمد بن يعقوب، ثنا يحيى بن أبي طالب، ثنا عبد الوهاب بن عطاء، ثنا مالك بن أنس عن نافع، قال: كان ابن عمر يكبِّر في النداء ثلاثاً، ويشهد ثلاثاً، وكان أحياناً إذا قال: (حيّ على الفلاح) قال على إثرها: (حيّ على خير العمل).
ورواه عبد الله بن عمر عن نافع قال: كان ابن عمر ربما زاد في أذانه (حيّ على خير العمل). ورواه الليث بن سعد عن نافع
ص: 98
كما أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أبو بكر بن إسحاق، ثنا بشر بن موسیٰ، ثنا موسى بن داود، ثنا الليث بن سعد عن نافع، قال: كان ابن عمر لا يؤذن في سفره، وكان يقول: (حيَّ على الفلاح)، وأحياناً يقول: (حي على خير العمل).
ورواه محمد بن سيرين عن ابن عمر أنّه كان يقول ذلك في أذانه. وكذلك رواه نسير بن ذعلوق عن ابن عمر وقال: في السفر. وروي ذلك عن أبي أمامة.
وأخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ، أنا أبو بكر بن إسحاق، ثنا بشر بن موسیٰ ثنا موسى بن داود، ثنا حاتم بن إسماعيل، ثنا جعفر بن محمد عن أبيه، أن علي بن الحسين كان يقول في أذانه إذا قال: (حيً على الفلاح)، قال: (حيً على خير العمل)، ويقول: هو الأذان الأول.
أخبرنا: أبو بكر أحمد بن محمد بن الحارث الفقيه، ثنا أبو محمد بن حيان أبو الشيخ الأصفهاني، ثنا محمد بن عبد الله بن رستة، ثنا يعقوب بن حميد بن كاسب، ثنا عبد الرحمن بن سعد المؤذن عن عبد الله بن محمد بن عمار وعمار وعمر ابني
ص: 99
حفص بن عمر بن سعد عن آبائهم عن أجدادهم عن بلال أنّه كان ينادي بالصبح فيقول: ( حيَّ على خير العمل)، فأمره النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم أن يجعل مكانها: الصلاة خير من النوم، وترك حيَّ على خير العمل.
قال الشيخ - البيهقي -: وهذه اللفظة لم تثبت عن النبي (صلی الله علیه و آله وسلّم) فيما علًم بلالاً وأبا محذورة ونحن نكره الزيادة فيه، وبالله التوفيق (1).
أقول: هذا جميع ما ذكره البيهقي في الباب المذكور، وإذا كان من حقنا التعقيب عليه وتنبيه القارئ إلى ما ورد فيه فنقول:
أولاً: أنّ الأحاديث التي ساقها عن ابن عمر بأسانيد مختلفة توحي بأن ثمة رقابة مشدّدة على القائلين بها، وإلّا فما معنى قول نافع وهو مولاه وأخبر الناس بحاله: كان أحياناً إذا قال: (حيَّ على الفلاح)، قال على أثرها: (حيَّ على خير العمل)؟
ص: 100
أو قوله: ربما زاد في أذانه: (حيَّ على خير العمل) ونحو ذلك مما تقدّم نقله عنه ، أليس ذلك يكشف لنا أنّ ابن عمر كان يخشى من شدة المراقبة، فكان يقول: (حي على خير العمل) حين يكون في مأمن من عيونها، ويتركها حين یخشى مغبة المؤاخذة.
وإلّا فالثابت عنه بأصح إسناد قوله لها، وقد مرَّ ذلك في نقل ابن حزم عنه، وسيأتي ما يؤكّد ذلك.
ثانياً: ما ذكره من حديث الآباء عن الأجداد عن بلال أنّه كان ينادي بالصبح فيقول: ( حيَّ على خير العمل)، فأمره النبي(صلی الله علیه و آله وسلّم) و أن يجعل مكانه: (الصلاة خير من النوم)، وترك(حيَّ على خير العمل).
فهذا حديث لا يصح أن يُستدلّ به على النسخ، لأنّه من طريق لا يثبت النسخ بمثلها كما قال الشوكاني، وسيأتي نقل ذلك عنه، وهو إنّ دلً على شيء دلً على أنّ الأذان بحيَّ على خير العمل كان بأمر النبي (صلی الله علیه و آله وسلّم) كما هو كذلك، ثم زعم بلال - فيما تقل عنه الأجداد - أن يجعل مكانها: (الصلاة خير من النوم).
ص: 101
ثالثاً: قول البيهقي: ونحن نكره الزيادة فيه. فنسأله: هل أنّه يكره كل زيادة في الأذان بما هي زيادة، أو يكره خصوص هذه اللفظة؟
فإذا كان يكره كل زيادة فيه فما رأيه في التثويب، وهو قول المؤذن (الصلاة خير من النوم)؟ فهو أيضاً زيادة لم تثبت عن النبي (صلّی الله علیه و آله وسلّم) و كما قال أبو حنيفة فيما رواه عن حماد بن إبراهيم، قال - حماد -: سألته - أي إبراهيم - عن التثويب، فقال: هو مما أحدثه الناس، وهو حسنٌ مما أحدثوا... الخ (1).
ونحن لنا شهادته وله استحسانه، وكيف نستحسن أمراً لم يأت به رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم)؟
وجاء في الموطأ لمالك والمنتقى للزرقاني عن مالك: أنه بلغه أن المؤذّن جاء عمر بن الخطاب يؤذنه لصلاة الصبح، فوجده نائماً، فقال: الصلاة (خير من النوم)، فأمره عمر أن يجعلها في نداء الصبح (2).
قال السيوطي في شرحه: قال ابن عبد البر: لا أعلم أحداً
ص: 102
روى هذا عن عمر من وجه يُحتج به وتُعلم صحّته... الخ.
أقول: هذا غريب من ابن عبد البر وهو من أتباع مالك الذين يرون أنه ما على الأرض كتاب بعد كتاب الله أصح من كتاب مالك. وهذا التثويب البدعي ورد في كتاب مالك، فكيف ينكره ابن عبد البر؟ ولكن للهوى سلطان فوق سلطان العلم .
قال ابن حزم: ولا نقول بهذا - التثويب - أيضاً ، لأنّه لم يأت عن رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلّم)(1).
وقال سعيد بن المسيب فأدخلت هذه الكلمة في التأذين إلى صلاة الفجر - يعني قول: (الصلاة خير من النوم)(2).
إلى غير ذلك من أقوال ثبت بدعيتها وعدم شرعيتها.
ونعود فنقول للبيهقي أيضاً: ونحن أيضاً نكره الزيادة في الأذان، والتثويب من الزيادة، فلماذا حاول جاهداً إثباتها، مع روايته لكثير من الروايات التي تنفي شرعيتها؟! فيبدو أنّه كغيره مزدوج المعايير، فلنتركه ونعود إلى استعراض بقية الأقوال في
ص: 103
شرعية الأذان بحيّ على خير العمل.
3- قال الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى - أحد أئمة الزيدية - في كتابه البحر الزخّار.
(مسألة ) (5 جميعاً ) - أي إجماع القاسمية والناصرية - وأخيراً قولي (ش) - أي قول الشافعي - ومنهما - أي الأذان والإقامة - حيَّ على خير العمل لخبر علي سمعت رسول الله. الخبر(1) (ق) - أي القاسم - أمر (صلّی الله علیه وآله وسلّم) بالتأذين به(2).
أبو محذورة: أمرني (صلّی الله علیه وآله وسلّم).... الخبر(3). وزاده ابن عمر
ص: 104
وعلي بن الحسين في أذانهما.
105 (1) وجاء في المصدر السابق أيضاً: قوله: (وزاده ابن عمر وعلي بن الحسين في أذانهما) قال في الشفاء: وروى ابن أبي شيبة بإسناده عن نافع عن ابن عمر أنه ربما زاد في أذانه (حيّ على خير العمل). وفيه عن علي بن الحسين زين العابدين عن أبيه أنّه كان إذا قال (حيّ على الفلاح) قال: (حيّ على خير العمل). ويقول: هو الأذان الأول.
وفيه أيضاً: عن محمد بن علي عن أبيه علي بن الحسين (علیه السلام) أنه كان إذا قال: (حيّ على الفلاح)، قال: (حيّ على خير العمل). قال - يعني محمد بن علي - وكانت هذه الكلمة في الأذان، فأمر عمر بن الخطاب أن يكفّوا عنها مخافة أن تثبّط الناس عن الجهاد ويتكلّوا على الصلاة.
انتهى
قلت - والقائل هو ابن بهران الصعدي صاحب الكتاب -: وحكى سعد الدين التفتازاني في حاشيته على شرح العضد: عن عمر أنّه كان يقول: ثلاث كنّ على عهد رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلّم) وأنا أحرّمهنّ وأنهى عنهنّ: متعة الحج، ومتعة النكاح، وحيّ على خير العمل. انتهى.
ص: 105
(ها) - يعني الفقهاء - لم يذكر في خبر بدء الأذان. وقال علي بن الحسين: هو الأذان الأول، فهو منسوخ وأمر عمر بتركه.
قلنا: قد ذكره (صلّی الله علیه وآله وسلّم) بعدُ، ويعني بالأول المنسوخ قبل أمر عمر بتركه، وأمره بتركه كان استصلاحاً، لئلا يُستغنى بالصلاة عن الجهاد لجعلها خير الأعمال، وذلك ليس بحجة ولا نسخ(1).
4 - جاء في الروض النضير للسياغي، وهو من كتب الزيدية أيضاً:
وللسيد أبي عبد الله محمد بن علي بن الحسن بن عبد الرحمن العلوي صاحب (الجامع الكافي) - ممن ذكره الذهبي في النبلاء وأحسن الثناء عليه بما يستحقه - كتاب نحو كراسين أو ثلاثة في التأذين بحيَّ على خير العمل(2)، أورد فيه أحاديث مرفوعة وموقوفة على أمير المؤمنين (علیه السلام) وبنيه الحسنين ومحمد ابن الحنفية وغيرهم من بنيهم ومن بني هاشم، وفي أسانيد ذلك
ص: 106
مَن قد تُكلّم فيه، إلّا أنّ في مجموعها ما يقوي بعضها بعضاً، ويدل أنّ له أصلاً.
وقد نقل الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد (صلّی الله علیه وآله وسلّم) في (الاعتصام) من ذلك شطراً، فليراجعه من أراد الإطلاع على بعض كتب السيد أبي عبد الله العلوي.
وقال ابن حميد في (التوضيح): قال السيد محمد بن إبراهيم الوزير رحمه الله: ذكر المحب الطبري إمام الشافعية في عصره في كتابه الجليل المسمّى ب-(إحكام الأحكام) ما لفظه:
ذكر الحيعلة بحيَّ على خير العمل عن صدقة بن يسار عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أنّه كان إذا أذّن قال: حيَّ على خير العمل. أخرجه سعيد بن منصور.
وروى ابن حزم في كتاب (الإجماع) عن ابن عمر أنّه كان يقول في أذانه: حيَّ على خير العمل(1).
وجاء فيه أيضاً نقلاً عن كتاب (التلويح في شرح الجامع الصحيح) لمغلطاي إمام الحنفية ما لفظه: (وأما حيّ على خير
ص: 107
العمل فذكر ابن حزم أنّه صحّ عن عبد الله بن عمر وأبي أمامة ابن سهل بن حنيف أنهما كانا يقولان في أذانهما: حيَّ علی خیر العمل). قال مغلطاي وكان علي بن الحسين يفعله(1).
وذكر سعد الدين التفتازاني في (حاشية شرح عضد الدين على المختصر في الأصول) أنّ (حيَّ على خير العمل) كان ثابتاً على عهد رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم، وأنّ عمر هو
الذي أمر أن يكف الناس عن ذلك، مخافة أن يثبط الناس عن الجهاد، ويتكلوا على الصلاة(2).
ص: 108
وهو معنى ما ذكره الإمام الهادي إلى الحق (علیه السلام)، في الأحكام ما لفظه:
وقد صحّ لنا أنّ (حيّ على خير العمل) كانت على عهد رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلّم) يؤذّنون بها، ولم تُطرح إلّا في زمن عمر بن الخطاب، فإنّه أمر بطرحها، وقال: أخاف أن يتّكل الناس على ذلك.
وفي كتاب (السنام) ما لفظه: الصحيح أنّ الأذان شرع بحيَّ على خير العمل، لأنّه اتفق على الأذان به يوم الخندق، ولأنّه دعاء إلى الصلاة، وقد قال (صلّی الله علیه وآله وسلّم): «خير أعمالكم الصلاة» انتهى.
وقال ابن حميد في (توضيحه) وقد ذكر الروياني أن للشافعي قولاً مشهوراً بالقول به:
وقد قال كثير من علماء المالكية وغيرهم من الحنفية والشافعية: إنّه كان (حيَّ على خير العمل) من ألفاظ الأذان.
ص: 109
قال الزركشي في (البحر المحيط): ومنها ما الخلاف فيه موجود كوجوده في غيرها، وكان ابن عمر - وهو عميد أهل المدينة - يرى إفراد الأذان والقول فيه (حيَّ على خير العمل).
وجاء فيه أيضاً: وممن جنح من مجتهدي المتأخرين إلى تصحيح كونه من ألفاظ الأذان العلّامة الجلال في (ضوء النهار) ونقل فيه إجماع العترة اليهم.
وكذا صاحب منظومة الهدى ولفظه:
ونهما حي على خير العمل قالَ به آلُ النبي عن كُمَل
وقيل لا دليل فيه يُقبلُ وأحوطُ القولين عندي العمل(1)
5 - قال الشعراني في كتابه (الكبريت الأحمر): وقال - يعني محي الدين بن عربي الحاتمي - ما عرفت مستند من كره قول المؤذّن: (حيّ على خير العمل)، فإنه روي أن رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم أمر بها يوم حفر الخندق والصلاة خير موضوع كما ورد، فما أخطأ من جعلها في الأذان، بل اقتدى إن صح هذا الخبر... وأطال في ذلك(2).
ص: 110
6- قال الشوكاني - الزيدي سابقاً والسلفي لاحقاً - في نيل الأوطار في هذه المسألة:
وقد ذهبت العترة إلى إثباته - حيَّ على خير العمل - وأنه بعد قول المؤذن: (حيَّ على الفلاح)، قالوا: يقول مرتين: (حيَّ على خير العمل)...
واحتج القائلون بذلك بما في كتب أهل البيت كأمالي أحمد بن عيسى والتجريد والأحكام وجامع آل محمد من إثبات ذلك مسنداً إلى رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم.
قال في الأحكام: وقد صحّ لنا أنّ (حيّ على خير العمل) كانت على عهد رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلّم) يؤذّن بها، ولم تُطرح إلّا في زمن عمر، وهكذا قال الحسن بن يحيى، روي ذلك عنه في جامع آل محمد.
وبما أخرج البيهقي في سننه الكبرى بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمر أنّه كان يؤذن بحيَّ على خير العمل أحياناً. وروى فيها عن علي بن الحسين أنّه قال: هو الأذان الأول.
وروى المحب الطبري بذلك في أحكامه عن زيد بن أرقم
ص: 111
أنّه أذّن بذلك.
قال المحب الطبري: رواه ابن حزم، ورواه سعيد بن منصور في سننه عن أبي أمامة بن سهل البدري، ولم يرو ذلك من طريق غير أهل البيت مرفوعاً.
وقول بعضهم: وقد صحّح ابن حزم والبيهقي والمحب الطبري وسعيد بن منصور ثبوت ذلك عن علي بن الحسين وابن عمر وأبي أمامة بن سهل موقوفاً ومرفوعاً ليس بصحيح، اللهم إلّا أن يريد بقوله: مرفوعاً قول علي بن الحسين: (هو الأذان الأول). ولم يثبت عن ابن عمر وأبي أمامة الرفع في شيء من كتب الحديث.
ثم قال الشوكاني: وأجاب الجمهور عن أدلّة إثباته بأنّ الأحاديث الواردة بذكر ألفاظ الأذان في الصحيحين وغيرهما من دواوين الحديث ليس في شيء منها ما يدل على ثبوت ذلك.
قالوا: وإذا صحّ ما روي من أنّه الأذان الأول فهو منسوخ بأحاديث الأذان لعدم ذكره فيها، وقد أورد البيهقي حديثاً في نسخ ذلك، ولكنه من طريق لا يثبت النسخ بمثلها(1).
ص: 112
أقول: ما ذكره الشوكاني من جواب الجمهور لا يصلح أن يكون جواباً، وذلك لعدة وجوه:
أولاً: خلو دواوين الحديث التي ذكروها لا ينفي ورودها في غيرها، ويكفي ورود ذلك فيما ذكره الشوكاني نقلاً عن كتب أهل البيت (علیهم السلام)، وأنها كانت على عهد رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلّم) يؤذّن بها، ولم تُطرح إلّا في زمن عمر.
وإذا كان خلو الصحيحين حجة صحيحة عنده فقد خليا من الشويب أيضاً وهي (الصلاة خير من النوم)، فلماذا التزم به؟!
ثانياً: ما مرَّ نقله في الهامش عن جواهر الأخبار للصعدي من خبر علي (علیه السلام)، أنّ النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) أمر بلالاً أن يؤذّن بها، وكذا ما مرَّ عن أبي محذورة - أحد مؤذّني الرسول (صلّی الله علیه وآله وسلّم) - قال: أمرني رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلّم) أن أقول في الأذان: حيَّ على خير العمل.
ثالثاً: يكفي القائلين بإثبات (حيَّ على خير العمل) في الأذان والإقامة عن طريق الرفع قول الإمام علي بن الحسين (علیه السلام): (هو الأذان الأول). يعني الأذان الذي أمر به
ص: 113
رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلّم)(1).
7- قال الشيخ محمد زاهد الكوثري الحنفي في تقريضه لكتاب الروض النضير للسياغي وقد مرّ النقل عنه برقم (4):
ولفظ (حيَّ على خير العمل) في الأذان يوازن الجهر بالبسملة، فيجريان في مجرى واحد، حيث صحّ فيهما الموقوف دون المرفوع الصريح في التحقيق (؟).
وقد روى محمد بن الحسن في الموطأ عن مالك عن نافع عن ابن عمر اللفظ المذكور، كما يروي مثله الليث عن نافع.
وأخرج ابن أبي شيبة والحاكم والبيهقي نحو ذلك عن عدة
ص: 114
من الصحابة والتابعين، ولا سيما عن علي زين العابدين بن الحسين (علیهما السلام)، فالجمهور أخذوا بالمرفوع فيهما، ومن تمسّك بالموقوف يعتبره في حُكم المرفوع في المسألتين.
وأما قول ابن تيمية في منهاجه بأنَّ اللفظ المذكور بدعة الروافض وشعارهم فمن مجازفاته، ويأبى الله أن يكون ابن عمر وعلي بن الحسين يبتدعانه، أو أن يوصما برفض...
ثم قال: وابن أبي هريرة من الشافعية يرى ترك السنّة إذا أصبحت شعاراً للمبتدعة، وفرَّع على هذا الأصل:
ترك الترجيع في الأذان(1) والجهر بالبسملة والقنوت في الفجر، والتختم باليمين، وتسطيح القبور. لكن في هذا التأصيل والتفريع كلاماً ليس هذا محلاً للإفاضة فيه(2).
ص: 115
أقول: ما أشار إليه من رواية محمد بن الحسن في الموطأ قال: أخبرنا مالك، أخبرنا نافع عن ابن عمر أنّه كان يكبّر في النداء ثلاثاً، ويتشهد ثلاثاً، وكان أحياناً إذا قال: (حيَّ على الفلاح)، قال على أثرها: (حيَّ على خير العمل)(1).
انظر الموطأ برواية محمد بن الحسن الشيباني بتحقيق سعيد اللحام، وقد علّق المحقق المذكور بقوله: لم يرد في الأحاديث المرفوعة تثليث التكبير، و (حيَّ على خير العمل)، وذكر ابن تيمية أنّ هذه الزيادة إنّما جاءت من الشيعة؟!
تعقيب على سعيد اللحام من الغريب أن يكتب اللحام ذلك، وهو يعلق على كتاب الموطأ لمالك، ثم يكذّب ذلك والموطأ عنده وعند قومه من صحاح الكتب عند أهل السنّة، فما ذنب الشيعة في هذا المقام؟
هب أنّ مغفّلاً أراد تصديقه في ما نقله عن ابن تيمية، فكيف له لو أراد تصديق ابن تيمية فيما زعمه (أنّ هذه الزيادة إنّما جاءت من الشيعة)؟ وهي مروية عن ابن عمر، رواها مالك
ص: 116
في الموطأ، فهل أنّ كتاب الموطأ برواية محمد بن الحسن الشيباني والذي توليت كبر تحقيقه هو من كتب الشيعة؟
وهل أنّ مالك بن أنس صاحب الموطأ كان من الشيعة؟
وهل أنّ محمد بن الحسن راوي الموطأ كان من الشيعة؟
وهل أنّ نافعاً مولى ابن عمر الراوي لذلك عنه كان من الشیعة؟
وهل أنّ ابن عمر الذي كان يقول أحياناً: (حيَّ على خير العمل) كان من الشيعة؟
أيّ ذنبٍ للشيعة في ذلك يا مسلمون؟!
ثم يا أيها اللحام الذي لا تجيد صنعة اللقب، ولم ترباً بنفسك عن الكذب، لو أبصرت الطريق وصدقت في التحقيق، لرجعت إلى نص ما قاله ابن تيمية في ذلك، فإنّه قال: (إنّ اللفظ المذكور - حي على خير العمل - بدعة الروافض وشعارهم). وقد مر محكياً عنه في كلام الكوثري، وابن تيمية في قوله كاذب في أوله، صادق في آخره.
أما كذبه ففي نسبته بدعية (حيَّ على خير العمل) إلى
ص: 117
الروافض، وقد تبين مما قدمناه أنّ (حيَّ على خير العمل) جزء من الأذان والإقامة، وهو الأذان الأول الذي كان على عهد النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم)، فمتى ابتدعه الروافض؟ فهل كانوا هم الذين أوحوا بالأذان لرؤيا رأوها كما يزعم غيرهم بأنّ الأذان كان لرؤيا عبد الله بن زيد بن ثعلبة؟؟ معاذ الله أن يقول ذلك مسلم شيعي.
ولا ننسى كلمة الشيخ الكوثري الحنفي رداً على ابن تيمية، إذ قال في ذلك: ويأبى الله أن يكون ابن عمر وعلي بن الحسين يبتدعانه أو أن يُوصما برفض.
ونحن نزيد عليه فنقول: ويأبى الله تعالى أن يكون الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام)، وأحفاده من بقية أئمة أهل البيت (علیهم السلام)- وهم جميعاً أدرى بأحكام الشرع لأنّهم أهل الدار، من أولئك الأغيار الذي تسلّقوا عليها من وراء جدار - ثم بقية الصحابة الذين وصلت أسماؤهم مثل أبي أمامة بن سهل -وهو من البدريين - وزيد بن أرقم وابن عمر ومَن بعدهم من
التابعين.
يأبى الله تعالى والمؤمنون أن يكون كل أولئك يبتدعون في
ص: 118
الدين ما لم يكن.
حاشا لله أن يكون علي أمير المؤمنين (علیه السلام) قد التزم بدعة، وهو الذي قال فيه الرسول الكريم (صلّی الله علیه وآله وسلّم): «علي مع الحق، والحق مع علي، لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض»، وقال فيه أيضاً: «اللّهم أدر الحق معه حيث دار»(1).
أعرفت أيها الأخ المسلم كيف استبان كذب ابن تيمية ومَن قال بمقالته، فزعم أنّ (حيَّ على خير العمل) من بِدَع الروافض؟
إنّ التزام الشيعة ب- ( حيَّ على خير العمل) إنّما هو التزام بسُنة أهل البيت (علیهم السلام)، وهي السنة الصحيحة حتى أصبحت شعاراً لهم. ومن هنا قلنا: إنّ ابن تيمية صادق في آخر كلامه، حيث قال: (وشعاراً لهم).
وقد تجيش نفس القارئ بسؤال: لماذا أصرّ أهل البيت (علیهم السلام) وشيعتهم على الالتزام بذلك الشعار؟
والجواب بكل بساطة أنّ لذلك الشعار مدلوله الخاص الذي ينبثق من العقيدة بالولاية والموالاة، ويتّسق مع الإيمان
ص: 119
بالتوحيد والرسالة.
أمّا كيف ينبثق؟ وكيف يتسق؟
فهذا ما سنبينه فيما يأتي إن شاء الله تعالى.
ص: 120
ماذا يعني ذلك الشعار؟
يختلف المسلمون في منظورهم إلى ذلك الشعار، فهم فيه فئتان:
إحداهما: الفئات الحاكمة وبالطبع يكون منظورها هو الذائع الشائع بين المسلمين، فترى أنّ (حيَّ على خير العمل) محض دعوة للمسلمين إلى خير العمل الذي كان في عرفهم السائد هو الصلاة، باعتبار أنها ميزان قبول الأعمال، فإن قبلت قبل ما سواها، وإن رُدَّت رُدَّ ما سواها.
وهذا هو ما تستوجبه طبيعة الأذان أيضاً.
لكن الخليفة عمر بن الخطاب ارتأى رفع ذلك الشعار من
ص: 121
الأذان، لئلا يتكّل عليه المسلمون ويتثاقلوا عن الجهاد في سبيل الله، وحيث كانت رغبته في توسيع رقعة الفتوحات الإسلامية، وتلك الرغبة تستدعي أكبر عدد من المسلمين للانضمام إلى مقاتلي الجبهات لتكثير صفوف المجاهدين، فتأوّل ورأى أن من المصلحة رفع ذلك الشعار، لأنّ بقاءه يُهتف به خمس مرات في اليوم والليلة يشد المسلمين إلى الصلاة أكثر، وفيه نحو تثبيط للعزائم عن المسارعة إلى الجهاد، خصوصاً وأنّ الجهاد فيه تعريض النفس للمخاطر، بينما الصلاة ليس فيها ذلك، والنفس بحكم طبيعتها تميل إلى جانب الدعة وحب السلامة، فأصرَّ على رفع (حيَّ على خير العمل).
هكذا قيل في تعليل الرفع، وهذا هو الرأي الشائع الذائع بين المسلمين يومئذ - كما قلنا - تبعاً للتفسير الرسمي.
وإزاء ذلك كانت المواقف مختلفة، فلم يكن جميع الصحابة راضين عن هذا التصرف، ولا يذعنون بصحة ذلك التفسير.
ويبدو أن التفاوت عند الأشخاص حسب الظروف، فبينا نجد مثل الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام)، يسمع
ص: 122
المؤذن في المسجد فيبكي ويبكي معه بنوه لبكائه، فلما فرغ المؤذن قال: أتدرون ما يقول المؤذن؟ ثم شرع في بيان معاني فصول الأذان فصلاً فصلاً - والحديث طويل - ولم يرد فيه ذكر تفسير معنى ( حيَّ على خير العمل)، إمّا لأن المؤذن لم يقله، وإما أن يكون ترك ذلك للتقية كما قال الصدوق في كتابه معاني الأخبار، حيث قال: إنّما ترك الراوي لهذا الحديث (حيَّ على خير العمل) للتقية.
ومهما يكن السبب فإنا نجد الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) أيام خلافته كان إذا رأى ابن النباج مؤذنه وكان يقول: (حيَّ على خير العمل، حيَّ على خير العمل)، كان إذا رآه قال له: مرحباً
بالقائلين عدلاً وبالصلاة مرحباً وأهلاً(1).
ويعني بقوله ذلك أن مّن ترك (حيَّ على خير العمل) لم يقل عدلاً، بل حاد عن جادّة الصواب، والفرق بين المقامين واضح، ففي الأول لم يفسّر (حي على خير العمل) لما قلناه فيما تقدّم، ولما واتته الظروف بذكرها أيام خلافته كان يرحّب بمؤذّنه ابن النباج ويقول له ما مرَّ.
ص: 123
وهذا ابن عمر مثلاً - وهو ابن من حرَّم النداء بذلك الشعار - لم يذعن لذلك التحريم، فكان يؤذن بحيَّ على خير العمل أحياناً كما قيل، ويعني فعله ذلك أنّه كان يؤذن بذلك إذا أمن بطش الرقيب الحاكم مثلاً، وينكر حين لا أمن، كما أن فعله يوحي بتصديق مقولة أبيه: (أنا أنهى عنها وأعاقب عليها)، فمتى أمِن ابن عمر فَعَل، ومتى لم يأمن لم يفعل.
وهذا ابن عباس وهو حبر الأمة وصاحب المكانة عند عمر، يجيب عكرمة وقد سأله عن ذلك، فقال: أخبرني لأي شيء حُذف من الأذان (حيَّ على خير العمل)؟
قال: أراد عمر بذلك أن لا يتكل الناس على الصلاة ويدعوا الجهاد، فلذلك حذفها من الأذان(1).
فهذا الجواب من ابن عباس لا يتعدى التفسير الرسمي - إن صحّ التعبير - للمنع والرفع، وهذا هو الجانب الواقعي المعاش الظاهر الذي كان يصوّر وجهة نظر الخليفة ومَن تبعه من المسلمين يومئذ، ويبقى التصديق بوجاهته وعدمها تبعاً للأشخاص وعقائدهم.
ص: 124
ثانيتهما: الفئات التي تعكس وجهة نظر أهل البيت (علیهم السلام) ومن تابعهم، ويعبّر عنه بالتفسير الآخر في تفسير تلك الصيغة، وتبعاً لذلك التفسير فسيكون المنظور الأول يحمل معنى المعارضة لهذا المنظور، خصوصاً وأنّ مسايرة الأحداث التاريخية والتزام أهل البيت (علیهم السلام) وتمسّك من يتبعهم بإصرار على ذلك يعني أنّ الرأي الأول ليس بمقنع عندهم، ولديهم تفسير آخر.
فما هو ذلك التفسير؟
إنّه (الولاية) بمعنى موالاة علي وأهل بيته.
وهذا المعنى هو الذي ذكره ثلاثة من أئمة أهل البيت (علیهم السلام) وأكّدوا عليه ابتداءً، أو في جواب مَن يسألهم عن ذلك، وإليك التفصيل:
1- قال الإمام الباقر (علیه السلام) - خامس أئمة أهل البيت - لمحمد بن مروان: أتدري ما تفسير (حيَّ على خير العمل)؟ قال: لا. قال: دعاك إلى البِرّ، أتدري بِرّ مَن؟ قال: لا. قال: إلى بِر فاطمة وولدها (عليهم السلام)(1).
2- الإمام الصادق (علیه السلام) - سادس أئمة أهل البيت - فقد
ص: 125
سُئل عن معنى (حيَّ على خير العمل) فقال: (خير العمل) الولاية(1).
3- الإمام موسى بن جعفر (علیه السلام) - سابع أئمة أهل البيت - سأله ابن أبي عمير عن (حيَّ على خير العمل) لم تُركت من الأذان؟ فقال: تريد العلة الظاهرة أو الباطنة؟ قال ابن أبي عمير: أريدهما جميعاً. فقال: أمّا العلّة الظاهرة فلئلا يدَع الناس الجهاد اتكالاً على الصلاة. وأما الباطنة فإنّ خير العمل الولاية، فأراد مَن أمر بترك (حيَّ على خير العمل) من الأذان أن لا يقع حثٌّ پعليها ودعاءً لها(2).
وهذا التفسير للشعار الذي قلناه إنّه ينبثق من الولاية ثم هو الذي يتّسق مع التوحيد والرسالة تمام الاتساق، فالإتيان بالشهادتين للتوحيد والرسالة يستدعي الإتيان بالولاية لكمال التشريع بهما، لأنّ الإيمان بالشهادة بالوحدانية الله تعالى من كماله وتمامه الشهادة بالرسالة لمحمد (صلّی الله علیه وآله وسلّم)، وكذلك الشهادة بالوحدانية والرسالة من كمالهما وتمام الإيمان بهما الشهادة
ص: 126
بالولاية لعلي، ولمّا كانت (حيَّ على خير العمل) منبثقة من الولاية، وتحمل تلك الشارة التي التزم بها المؤمنون تبعاً لأهل البيت (علیهم السلام)، كان نفس المنع لهذا المعنى هو المقبول.
وهذا التفسير هو الذي يؤكِّده قول الإمام زين العابدين (علیه السلام) : (هو الأذان الأول). يعنى الذي أمر به رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلّم) وهو ولاية علي (علیه السلام).
ولمّا كانت ولاية علي (علیه السلام) ثابتة بنص الكتاب المجيد في قوله تعالى (إنَّما وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُه وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة وهم راكِعُونَ)(1)، ويعتقد بها الشيعة تبعاً
ص: 127
128
لأمر النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) الذي نصبه عَلَماً وهادياً لأمته، وجعله خليفته من بعده.
لكن فئة من الأمة حادت عن الصواب، وبقيت فئة على موالاته تعلن بشعارها (حيَّ على خير العمل) في أذانها ، كلما سنحت لهم الظروف بذلك.
ففي القرن الرابع الهجري كان ذلك الشعار معلناً به في جملة من البلاد الإسلامية، فقد حكي عن ابن الجنيد الإسكافي
ص: 128
المتوفى سنة 381 ه- أنّه شاهد عمل جميع آل الرسول (صلّی الله علیه وآله وسلّم) علی ذلك، وكذلك عمل أهل طبرستان واليمن والكوفة ونواحيها وفي بعض من محال بغداد، فالجميع يؤذنون بحي على خير العمل(1).
وأيضاً نحن إذا أخذنا بهذا التفسير فقد استرحنا من عناء تفسير الظواهر التي ظهرت على مسرح الأحداث عبر مسيرة التاريخ الإسلامي من مختلف الفئات الحاكمة في شتى الأصقاع.
حيث أصبحت كلمة (حيَّ على خير العمل) تعني عند شيعة أهل البيت (علیهم السلام) الدعوة إلى ولاية علي، ومنها إلى موالاتهم، وهو معنى لا شك يثير سخط الحكّام السنيين، لأنّه يعني نسف شرعية حكومتهم، لذلك متى ما استولى حكام السنّة منعوه، وكذلك العكس لو قُدّر أن استولى بعض الشيعة على الحُكم في بلدٍ مّا أعلن بذلك الشعار. ومن هذا المنطلق صحَّ قول من يقول: (إنّه شعار الرافضة)، على تسامح في التعبير عنهم بالرافضة.
ومن هذا المنطلق قال بعض المستشرقين حتى إذا نودي بها
ص: 129
- حيَّ على خير العمل - من مآذن مدينة من مدن أهل السنّة عرف السكان أنّ الحكومة أصبحت شيعية(1).
ومعنى ذلك هو استغلال السياسة لذلك الشعار سلباً وإيجاباً، لأنّه شعار يثير الشعور.
ص: 130
الشعارات الدينية وسائل إعلامية ليس من شك في أنّ الشعار (حيَّ على خير العمل) قد استُغل - وجوداً وعدماً - كوسيلة إعلامية من قبل الفئات المتصارعة على الحكم، سواء في ذلك السنية منها أم الشيعية، كغيره من الشعارات الدينية كالجهر بالبسملة مثلاً.
فإذا كانت الفئة الحاكمة سُنّية أمرت بمنعه، لتستقطب نحوها الشعور السني بشتى مذاهبه، وبذلك تحصل على عدد كبير من المسلمين ليكونوا أنصاراً لها.
وإذا كانت الفئة الحاكمة شيعية نادت به ليستجيب لها كل شيعي فيكثر أنصارها.
ص: 131
وهكذا دخلت السياسة في شؤون الناس الدينية، فأفسدت الكثير أسوةً بكل ما تدخلت فيه مما ليس من شأنها التدخل فيه، ورحم الله القائل: ما دخلت السياسة في شيء إلا وأفسدته.
ومالنا نحن والدخول في السياسة، ويكفينا عرض نماذج من أحاديث السَّاسة، الذين استغلوا شعار (حيَّ على خير العمل) كوسيلة إعلامية، وسأكتفي بالإشارة إلى بعض الحوادث التي وقعت في التاريخ، ومنها ما وقع في أربع عواصم إسلامية بدءاً بمهبط الوحي حسب التسلسل التاريخي لتلك الحوادث.
1- المدينة المنورة: في سنة 179ه- أيام موسى الهادي العباسي ثار الحسين بن علي صاحب فخ، فدخل هو وأصحابه المسجد النبوي الشريف عند أذان الصبح ونادوا: (أَحَد أَحَد). وصعد عبد الله بن الحسن الأفطس المنارة التي عند رأس النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) عند موضع الجنائز، فقال للمؤذن: أذن ب-(حيَّ على خير العمل). فلما نظر إلى السيف في يده أذَّنَ بها، فسمعها الوالي العُمري، فأحس بالشر ودُهش وصاح: (أغلقوا البغلة الباب، وأطعموني حبتي ماء). فكان ولده يُعرفون ببني حبتي ماء(1).
ص: 132
2- القاهرة في سنة 358 ه- قدم جوهر داعية الفاطميين، ودخل جامع ابن طولون، فأمر بالأذان ب- (حيَّ على خير العمل)، ثم بعده أذَنَ في الجامع العتيق بذلك، وجهر ب- (بسم الله الرحمن الرحيم)(1).
3- جاء في نسمة السحر: قال الشريف محمد بن أسعد الجواني النسّابة:
أول من قال في الأذان بالليل (محمد وعلي خير البشَر) الحسن بن علي بن محمد بن إسماعيل بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (علیه السلام). أذّن بذلك في عليه حلب أيام سيف الدولة الحمداني سنة 347ه-، ولم يزل الأذان كذلك إلى أيام محمود زنكي، فمنعه(2).
ولما ولي سعد الدولة أبو المعالي بن سيف الدولة الحمداني سنة 369ه- زاد في الأذان: حي على خير العمل ومحمد وعلي خير البشر(3).
ص: 133
وحين أراد صلاح الدين الأيوبي الاستيلاء على حلب استنجد الوالي بأهلها، وطلب منهم العون، وأن يُعَبَّثوا أنفسهم تعبئة عامة، فاشترط عليه الشيعة إن أجابوه أن يعيد في الأذان (حيَّ على خير العمل) في جميع المساجد، وينادي باسم الأئمة الاثني عشر أمام الجنائز، ويُكبَّر على الميت خمس تكبيرات ويُفوّض أمر العقود والأنكحة لشيخ الشيعة أبي المكارم حمزة ابن زهرة، فقبل الوالي ذلك كله(1).
4- بغداد: في سنة 450 ه- وقعت الفتنة ببغداد، وكان البساسيري داعية للمستنصر الفاطمي، فلمّا استولى على بغداد خطب يوم الجمعة 13 ذي القعدة في جامع المنصور ببغداد للمستنصر. وأذّنوا ب-(حيَّ على خير العمل)، ولمّا انتهت الفتنة رُفع من الأذان (حيَّ على خير العمل)(2).
ه- وجاء في (سير أعلام النبلاء) في آخر ترجمة أمير الجيوش الملك الأفضل: ووزر بعد هلاك الآمر -الفاطمي - أمير الجيوش أبو علي أحمد بن الأفضل، وكان... سائساً سُنّياً كأبيه
ص: 134
وجدّه، فحجر علی الحافظ ...
وقيل: إنه ترك من الخطبة اسم الحافظ وخطب لنفسه، وقطع الأذان بحي على خير العمل، فنفرت منه الرعية وغالبهم شيعة، فقُتل وهو يلعب بالكرة سنة 526 ه-، وجدّدوا البيعة للحافظ(1).
6 - في سنة 709 ه- لما أعلن السلطان المغولي تشيّعه أمر بتغيير الخطبة وذِكر الأئمة الاثني عشر (علیهم السلام) على المنابر، وذِكر (حي على خير العمل) في الأذان...
7- وفي سنة 908 ه- أعلن السلطان يوسف عادل شاه تشيّعه، وهو رأس الملوك العادلشاهية في بيجابور الهند، وأمر الناس عامة بالحضور في المسجد الجامع، وصعد المنبر السيد نقیب خان من عظماء المدينة، وأذّن فقال في أذانه: (أشهد أن عليّاً ولي الله...)، واستمر الحال حتى ولي السلطنة إبراهيم بن إسماعيل بن يوسف عادلشاه، فأيّد أهل السنة، ورفع الشعار. ولما اعتل علة الوفاة بلغه أن ابنه علي عادل شاه رقى المنبر
ص: 135
بنفسه، وأذّن على طريقة الإمامية في أوقات الصلاة(1).
8 - وفي سنة 908 ه- أمر الشاه عباس الصفوي أن يُؤَذّن على خير العمل في جميع بلاد إيران، ونقش على النقود اسم علي وآله(2).
9 - في سنة 930 ه- أمر الشاه إسماعيل الأول الصفوي بالأذان بحيَّ على خير العمل، وبقي الأذان به حتى أيام إسماعيل الثاني الذي كان على مذهب آبائه في التشيّع فترة من حکمه، فزيَّن له مير مخدوم الشريفي مذهب أهل السنّة فعدل إليه، ومنع من الشعارات الشيعية في الأذان وغيره، ثم أحسّ أنّ أهل السنّة يرومون خلعه، لأنّه لا يجوز لخليفتين متعاصرين أن يحكما ما لم يكن بينهما بحر، وخليفة آل عثمان أقدم منه بيعةً، فعليه أن يخلع نفسه أو يخلعه أهل السنّة، فعاد إلى التشيع حفاظاً على عرشه، وأعاد الشعار على ما كان.
وهكذا نجد الساسة يدخلون على قلوب الناس من منافذها العقائدية بغير استئذان استحواذا عليهم لأغراضهم
ص: 136
وتسخيرهم لرغباتهم. وما أكثر الشواهد على تلك الصفحات الحمراء التي خطها الساسة بدماء الناس، فهم الذين يخطِّطون، وهم الذين يورون وقدة الفتنة الطائفية في سبيل أطماعهم، وتكون الوسيلة لهم هي الدين ويبقى الأذان الحد الفاصل، ويكون الضحايا هم الأبرياء.
ففي سنة 441 ه- مثلاً وقعت فتنة بين الشيعة والسنة، وتفاقم الشر، وشرع الشيعة في بناء سور يحيط بالكرخ لصد عادية المعتدين، وهكذا شرع السنّة في بناء سور على سوق القلائين، وأذّن أهل كل حزب بمقتضى مذهبهم(1).
وفي سنة 447ه- وقعت فتنة بين الشافعية والحنابلة، كان السبيل إلى إثارتها هو أنّ الحنابلة أنكروا على الشافعية الجهر بالبسملة، والقنوت في الصبح والترجيع في الأذان(2).
وفي حوادث سنة 343 ه- ذكروا وفاة أبي عمر الزاهد محمد بن عبد الواحد ببغداد، وحدَّث أبو العلاء المعري أنّ البغداديين حدّثوه أنّه لمّا عبرت السنّة بأبي عمرو في الكرخ وهو
ص: 137
شيعة بغداد، وحوله التكبير والتهليل قال قائل: (هذا والله لا كمن دُفنت ليلاً)، يعني فاطمة (علیها السلام)، فثار أهل الكرخ، وقتل بينهم جماعة، وطُرح أبو عمرو عن النعش، وجُرح جراحاً كثيرة(1).
انظر بربك إلى هذه الحال البشعة والشتيمة المقذعة، لماذا يقول قائلهم هذا القول المستهجن؟ فيذكر فاطمة البتول وبضعة الرسول صلى الله عليها وعلى أبيها وعلى بعلها وبنيها. وماذا أراد ذلك الشرير من فتنة أثارها، فاصطلى جماعة المسلمين أوارها؟ حتى لحق الأذى بميتهم فطُرحت جنازته، وجُرحت جثته، أليس ذلك كله من نتائج كلمة سيئة، قالها سيئ وأراد بها سوءاً؟
وإذا تأملت في خلفيات كل الحوادث التي يطغى عليها العنف الطائفي تجد وراءها أصابع الساسة دسّاسة.
وفي جميع الأحوال يُتّخَذ الدين ذريعة، واختلاف المذهب وسيلة لتبرير وتمرير الجرائم، ويُؤخذ البريء بذنب الجاني لو كان هناك جان وكانت جناية.
ص: 138
ويحضرني شاهد له دلالة في المقام، فقد روى المؤرخون أنّ المُلك وزير طغرل بك السلجوقي، كان كثير الواقعية في الإمام الشافعي، فخاطب طغرل بك في سنة 458 ه- في لعن الرافضة بخراسان (؟). فأذِن له بذلك، فأمر بلعنهم، وأضاف إليهم الأشعرية (؟)، فأنِفَ من ذلك أئمة خراسان، منهم أبو القاسم القشيري وأبو المعالي الجويني، وقد هاجر إلى الحرمين الشريفين فأقام بمكة أربع سنين فسُمّي إمام الحرمين(1).
فانظر إلى هذه الحادثة، وتأمل في أبعادها، وتسائل مع نفسک:
أولاً: لماذا كان عميد المُلك كثير الوقيعة في الإمام الشافعي؟
ثانياً: لماذا يستصدر الإذن من طغرل بك مرسوماً بلعن الرافضة؟ وماذا كان ذنبهم؟
ثالثاً: لماذا يضيف إليهم الأشعرية؟ وماذا كان ذنبهم؟
ولعل جواب التساؤل الأول يكمن في أنّ الإمام الشافعي
ص: 139
كان يرى حب آل محمد (صلّی الله علیه وآله وسلّم) وحبّهم يومئذٍ علامة الرفض، وقد اتُّهم بذلك حتى اشتهر قوله:
إن كان رفضاً حُبُّ آل محمدٍ فليَشهد الثقلان أني رافضي فما دام الشافعي يستشهد الثقلان على رفضه، إذن فليكن كل الرافضة ضحية معهم لبغض عميد المُلك الناصبي، فيلعنهم على المنابر، وهو بذلك ضرب عصفورين بحجرٍ واحد، ومنه يُعلم جواب التساؤل الثاني، لكن يبقى اللغز المحير هو لعن الأشعرية، لماذا أضافهم عميد المُلك فلعنهم مع الرافضة على المنابر؟
والجواب يبقى عند الماتريدية لاختلافهم مع الأشاعرة.
ونعود إلى شعار (حيَّ على خير العمل) الذي قلنا عنه: إنّه قد استُغل كوسيلة إعلامية، وذكرنا بعض الشواهد على ذلك، ونضيف الآن إلى ما سبق أنّ القلقشندي في كتابه صبح الأعشى طالعنا بمفاجأة غريبة، حيث ذكر أنّ الشعار استُعمل بدل الحيعلتين، واستُغل في أيمان البيعة عند الزيدية (؟) فقد قال:
ص: 140
وهم - الزيدية - يقولون: إنّ نص الأذان بدل الحيعلتين (حيَّ على خير العمل)، يقولونها في أذانهم مرتين بدل الحيعلتين، وربما قالوا قبل ذلك: (محمد وعلي خير البشر وعترتهما خير العتر) ومن رأى أنّ هذه بدعة فقد حاد عن الجادة.
وقال أيضاً: وأيمانهم - في البيعة - أيمان أهل السنّة، يعني فيحلّفون كما تقدم، ويزيدون فيها (وإلّا برئت من معتقد زيد بن علي، ورأيت أنّ قولي في الأذان (حيّ على خير العمل) بدعة)(1).
أقول: لقد سبق أن ذكرت للقارئ ما قاله أئمة الزيدية في كتبهم في هذه المسألة، ولم يكن فيها ما ذكره عنهم القلقشندي من أنّهم يقولون (حيَّ على خير العمل) بدل الحيعلتين، كما لم يكن فيها ما ذكره بعد ذلك جملةً وتفصيلاً، فراجع.
.....
والآن وبعد هذه الجولة بين كتب الحديث والفقه والتاريخ عرفنا المطالب التالية:
ص: 141
1- عرفنا أنّ قول ( حيَّ على خير العمل) في الأذان كان على عهد النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) وأنّ بلالاً وأبا محذورة أذّنا بذلك، وأكّد ذلك قول الإمام علي بن الحسين (علیه السلام): هو الأذان الأول.
2- عرفنا أنّ أوّل من مَنَعَ منه هو عمر، وقال: ثلاثٌ كنَّ على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، أنا أنهى عنهن وأحرِّمهن، وهي: متعة النساء، ومتعة الحج، وحيَّ على خير العمل(1).
وعرفنا أنّ الأذان بحيّ على خير العمل كان على عهد النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) و على عهد أبي بكر، وصدراً من خلافة عمر، إذ لم يكن نهيه عن المتعتين في أول خلافته كما في حديث جابر في المتعتين(2)، وقد مرَّ في حديث أبي جعفر (علیه السلام) التصريح بذلك.
3- وعرفنا سبب المنع بوجهيه: الظاهر الرسمي، والآخر الحقيقي الذي هو انبثاق من الولاية، وهي اتساق والتصاق مع التوحيد والرسالة.
4 - وعرفنا أنّ الذين أصرّوا على استعمال ذلك هم أئمة
ص: 142
أهل البيت (علیهم السلام) وشيعتهم وآخرون من الصحابة.
ه - وعرفنا أنّ إصرار الشيعة على الإتيان به يعني الدعوة إلى ولاية علي وبنيه الأئمة (علیهم السلام)، وهذا ما يثير حنق الحاكمين عليهم، لأنّهم دأبوا على إبعاده وجوداً وذِكراً، فكان إصرار الشيعة بمثابة رد فعل على إصرار الحاكمين.
6- وعرفنا أنّ إصرار الحاكمين على منعه إنما كان لأنّه ينسف شرعية حكوماتهم، فإنهم قد تبوّؤا مناصبهم بالقهر والغلبة، فكلما ازداد الحاكمون منعاً كلما ازداد الشيعة تمسّكاً به، لأنّهم يرون في الإتيان به إثبات ولاية علي بن أبي طالب (علیه السلام) الذي دأب الأمويون وأشياعهم على سبّه على المنابر.
ومن هنا نعرف لماذا صار الشيعة يقولون في أذانهم: (أشهد أنّ عليّاً ولي الله)، وهذه الشهادة أيضاً أضحت مثار أخذ ورد، ومن الخير أن نعرف شيئا عن شرعيتها في ضوء ما تقدم.
ص: 143
الشهادة الثالثة
بين البدعية والشرعية
لقد كثر الكلام حول الإتيان بالشهادة الثالثة في الأذان والإقامة بين البدعية والشرعية.
لقد تطرف قوم فذهبوا إلى بدعيته مطلقاً، وتطرّف قوم فذهبوا إلى شرعيته مطلقاً، وتوسَّط آخرون بينهما، فكانوا أقوم اعتدالاً، واختلف كل من هؤلاء وأولئك في آرائهم وحججهم، ونحن سنلقي نظرة عابرة على ما عندهم تكشف لنا أنّ الرأي الصحيح هو الذي ذهب إليه الوسط المعتدل (وخير الأمور
أوسطها).
ص: 144
رأي البدعيين وحجتهم:
لقد ذهب هذا الفريق إلى أنّ الإتيان بالشهادة الثالثة في الأذان والإقامة بأي قصد كان هو من البدع المحرَّمة.
وحجّتهم خلو فصول الأذان والإقامة التي وردت على لسان الشارع المقدس منها، ولما كان الأذان والإقامة عبادة يُتقرب بها إلى الله سبحانه، والعبادات توقيفية، فلا يجوز الزيادة في أجزائها على أنّه منها، كما لا يجوز نقصان جزء منها على أنه ليس منها، فعلى هذا لا يجوز الإتيان بالشهادة الثالثة، لأنه لم يرد ما يدل على أنها من فصول الأذان والإقامة، فتكون النتيجة أنّ الإتيان بها بدعة، وكل بدعة محرَّمة.
وهؤلاء الفريق هم جمهور المشنّعين على الشيعة.
وقفة مع هؤلاء:
لقد تطرّف هؤلاء في تشنيعهم مع عدم سلامة حجتهم، لمناقشتها كبرى وصغرى:
أمّا مناقشة الكبرى: فإنّه ليس كل بدعة محرَّمة، وقد مرَّ معنا بيان معنى البدعة المحرَّمة المنهي عنها شرعاً، وأنّ المراد بها ما حدث بعد الرسول (صلّی الله علیه وآله وسلّم) ولم يرد فيها نص بالخصوص، ولم
ص: 145
یكن داخلاً في بعض العمومات أو ورد فيه نهي خاص، أو هو داخل في بعض العمومات أو ما يفعل على وجه العموم بقصد كونه مطلوباً على الخصوص، لأنّ جميع ذلك يكون من اعتقاد شرعية شيء من دون استناد إلى دليل شرعي، أما مع الاستناد إلى الدليل الشرعي فلا يكون بدعة محرمة.
وأما مناقشة الصغرى: فإنّ الشهادة الثالثة ليست من البدع المحرَّمة، لأنّها ترجع إلى عمومات شرعية دلّت على الأمر باعتقاد الموالاة كما ستأتي الإشارة إلى شيءٍ منها في أدلة الوسط المعتدل، وما دامت الشهادة الثالثة متناولة لتلك العمومات فهي ليست من البدع المحرّمة، وعليه فلا ينبغي التشهير والنكير على من أتى بها.
رأي الشرعيين وحجتهم:
لقد ذهب هذا الفريق إلى لزوم الإتيان بالشهادة الثالثة کفصل من فصول الأذان والإقامة، ومَن لم يأتِ بها فقد أخلّ بأذانه وإقامته، وحجّتهم أنهم رأوا أخباراً شاذة فعملوا بها، ولم تُنقل إلينا تلك الأخبار لنعرف مدى صحتها سنداً ودلالة.
وهؤلاء هم المفوِّضة.
ص: 146
وأول من أشار إليهم في هذه المسألة هو الشيخ الصدوق المتوفى سنة 380 ه- في كتابه (من لا يحضره الفقيه)، إذ قال:
والمفوِّضة - لعنهم الله - قد وضعوا أخباراً وزادوا في الأذان (محمد وآل محمد خير البرية) مرتين، وفي بعض رواياتهم بعد (أشهد أن محمداً رسول الله): (أشهد أنّ عليّاً وليّ الله) مرتين.
ومنهم من روى بدل ذلك: (أشهد أن علياً أمير المؤمنين حقاً) مرتين.
ثم قال: ولا شك في أنّ عليّاً ولي الله، وأنّه أمير المؤمنين حقاً، وأنّ محمداً وآله صلوات الله عليهم خير البرية، ولكن ليس ذلك في أصل الأذان وإنما ذكرتُ ذلك ليعرف بهذه الزيادة المتهمون بالتفويض، المدلّسون أنفسهم في جملتنا(1).
تعقيب على هؤلاء:
1- أنّ المفوضة الذين ذكرهم الشيخ الصدوق رحمه الله هم فرقة ضالّة قالت: إنّ الله خلق محمداً (صلّی الله علیه وآله وسلّم)، وفوَّض إليه خلق الدنيا، فهو الخلّاق، وقيل: بل فوَّض ذلك إلى علي (علیه السلام). تعالى الله عمّا يقولون علواً كبيراً.
ص: 147
وهؤلاء غير المفوضة الذين يقولون بتفويض أعمال العباد إليهم من خير وشر كالمعتزلة وأضرابهم، فهم المشهورون بهذا الاسم.
2- ما حكاه الشيخ الصدوق رحمه الله من مقالة هؤلاء المفوضة صريح بأنهم كانوا يقولون ذلك في أصل الأذان، بمعنى أنّه فصل من فصوله، وهذا لا شك بأنّه بدعة محرَّمة، لأن الأذان - كما سبق - عبادة يُتقرب بها إلى الله سبحانه، والعبادة توقيفية فلا يجوز الإتيان بزيادة شيء في أجزائها، ولا نقصان شيء منها، بل يجب أن يُؤتى بها كما أمر الشارع المقدس، وما كان يقوله المفوضة على أنّه من أصل الأذان لم يستند إلى أصل صحيح لشهادة الصدوق بأنهم وضعوا أخباراً وزادوا في الأذان.
لذلك كانوا من المتطرفين في مقالتهم.
رأي الوسط المعتذل:
وهذا الفريق إنّما سميناهم بالنمط الأوسط، لأنّهم وقفوا باعتدال بين تفريط الأولين وإفراط الآخرين.
فقالوا: إنّ الإتيان بالشهادة الثالثة مستحب بنفسه، سواء كان ذلك في الأذان والإقامة أم في غيرهما، يجوز الإتيان بها، بل
ص: 148
ينبغي الإعلان بها كما سيأتي من الأمر بذلك في كل حال، إلّا في حال الصلاة، لأنّه من كلام الآدميين.
ولما كانت الأخبار الخاصة منعت من إدخال الكلام في الصلاة، إلّا ما كان قرآناً أو ذِكراً أو دعاءً، كالتهليل والتكبير والتسبيح فإنّه من الذكرِ وكالصلاة على النبي وآله فهي من الدعاء.
وأما الشهادة بالرسالة فهي وإن لم تكن من الدعاء إلاّ أنّ في رواية الحلبي عن الصادق (علیه السلام) ما يدل على أنها من الصلاة.
قال (علیه السلام): كل ما ذكرت الله به والنبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) فهو من الصلاة(1).
ولمّا كانت الشهادة لعلي بالولاية ليست داخلة تحت العناوين المذكورة لذلك منع بعضهم احتياطاً من الإتيان بها، وقال: لا يجوز ذلك، كما لا يجوز الإتيان به بنحو الجزئية في الأذان والإقامة.
ص: 149
أدلّة الرأي الوسط:
يمكن تقسيم أدلّة أصحاب الرأي الوسط إلى قسمين:
القسم الأول:
ما ورد من طرق العامة والخاصة من العمومات في الكتاب والسنة على أصل الاعتقاد بولاية علي (علیه السلام)، وأنها على حد الاعتقاد بولاية الله تعالى وولاية رسوله، وقد مرَّت الإشارة إلى
بعضها في (حيَّ على خير العمل) عند الاستدلال بقوله تعالى (وإنَّما وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُه وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَلاة ويُؤْتُونَ الزَكاة وَهم راكِعُون﴾(1).
ونزيد هنا على ذلك ما ذكروه: وهو أن الله سبحانه وتعالى منذ أن أوحى إلى نبيه الكريم أن يتّخذ علياً وصيّاً له وخليفة من بعده في أمّته، صار الرسول (صلّی الله علیه وآله وسلّم) يقوم المقام بعد المقام معلناً ما يأمره به وحي السماء ﴿وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى)(2)، بدءاً من يوم (والذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين﴾(3) وانتهاءً
ص: 150
بآخر خطبة له على المنبر وهو معصوب الرأس قبيل وفاته.
وما بينهما من مواقف كان يعلن فيها ولاية علي من بعده، على شدة ما كان يلاقي في سبيل ذلك من العنت، ويكابد من مكابرة أهل النفاق الذين لمّا يدخل الإيمان في قلوبهم، فقاسى الأمرين، فالوحي يأمره بالإبلاغ، وهو يرى ما يراه من بعض الصحابة، ويسمع منهم ما يسمع مما يشق عليه سماعه، ويُنبِّئُك عن ذلك قوله تعالى الذي أنزل عليه عشية عرفة في حجة الوداع، قال تعالى ﴿فَلَعَلَّكَ تاركٌ بَعْضَ ما يُوحَى إِلَيْكَ وَصَائِقٌ به صَدْرُكَ﴾(1).
قال زيد بن أرقم: إن جبرئيل الروح الأمين نزل على رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم بولاية علي بن أبي طالب عشية عرفة، فضاق بذلك رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم مخافة تكذيب أهل الإفك والنفاق، فدعا قوماً أنا فيهم فاستشارهم في ذلك ليقوم به في الموسم، فلم ندر ما نقوله له وبكى (صلّی الله علیه وآله وسلّم)، فقال له جبرئيل: يا محمد أجزعت من أمر الله؟ فقال: كلا يا جبرئيل، ولكن قد علم ربي ما لقيت من قريش إذ
ص: 151
لم يقرّوا لي بالرسالة حتى أمرني بجهادهم، وأهبط إلىّ جنوداً من السماء فنصروني، فكيف يقرّون لعلي من بعدي؟ فانصرف جبرئيل، فنزل عليه (فَلَعَلَّكَ تاركٌ بَعْضَ ما يُوحَى إِلَيْكَ وَصَائِقٌ بِه صَدْرُكَ)(1).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت هذه الآية (يا أَيُّها الرَّسُولُ بَلّغ مَا أُنْزِلَ إليك)(2) في علي كرم الله وجهه، حيث أمر سبحانه أن يخبر الناس بولايته، فتخوّف رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلّم) و أن يقولوا : (حابى ابن عمّه)، وأن يطعنوا في ذلك عليه، فأوحى الله تعالى إليه هذه الآية(3).
ولم يترك الوحي أمر الولاية، فنزل قوله تعالى (يا أيها الرَّسُولُ بَلّغ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفعَل فَما بَلِّغْتَ رِسالَتَه والله يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)، وكان ذلك يوم الثامن عشر من ذي الحجة عند منصرفه من حجة الوداع في الجحفة عند غدير خم، فأمر بحطّ أوزار المسير في رمضاء الهجير، واعتلى منبراً صُنع له
ص: 152
من حدوج الإبل، فبلّغ الرسالة صادعاً بالنذارة، استنشد المسلمين واستشهدهم على أنفسهم في خطبته...
إلى أن قال: الستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ فقالوا: اللهم بلى. فأخذ بضبع ابن عمِّه علي بن أبي طالب حتى بانَ بياض إبطيهما، وقال: من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه...(1).
وأقبل الناس يسلّمون على علي بإمرة المؤمنين، وقال أبو بكر وعمر لعلي أمسيت يا ابن أبي طالب مولى كل مؤمنٍ ومؤمنة(2).
وفي حديث أبي هريرة أن عمر قال: بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مسلم. فأنزل الله تعالى قوله (اليَومَ أَكْمَلْتُ لَكُم دِينَكُمْ)(3)...(4).
وهكذا تواترت الأحاديث تبعاً لترادف المواقف التي يتلو
ص: 153
بعضها بعضاً، وفي جميعها التأكيد على ولاية علي، وعرف المسلمون ذلك، ففي حديث عمران بن الحصين عنه (صلّی الله علیه وآله وسلّم) أنه قال: إنّه مني وأنا منه، وهو وليّ كل مؤمن بعدي(1).
وفي حديث بريدة عنه (صلّی الله علیه وآله وسلّم) أنه قال: فإنّه مني وأنا منه، وهو وليكم بعدي(2).
حتى إنّ عمر بن الخطاب قال لإعرابيين تخاصما إليه فأحالهما على علي، فقال أحدهما في ذلك فقال عمر: هذا مولاي ومولى كل مؤمن ومن لم يكن مولاه فليس بمؤمن(3).
وقال أيضاً: لا يتم شرف إلا بولاية علي(4).
إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على أنّ الاعتقاد بولاية علي (علیه السلام) على حد الاعتقاد بالوحدانية والرسالة، لأنّها الجزء المتمِّم للنعمة والمكمِّل للدين. وما دامت هي تمام الشرف كما
ص: 154
قال بها عمر فلا حرج لو أعلن بها شيعته في أذكارهم وأورادهم، إيذاناً لطاعتهم لله سبحانه، وامتثالاً لأمر رسوله (صلّی الله علیه وآله وسلّم)، حيث لا مانع من ذلك.
ولقد كانت الشيعة الأوائل من الصحابة يرون الولاية لعلي (علیه السلام)، من خير ما يتقرّب به العبد إلى ربّه.
فهذا ابن عباس حبر الأمّة وترجمان القرآن جعلها من خواتيم عمله عند دنو أجله، متوسّلاً إلى الله تعالى بها، مستودعاً لها عند ربّه، ليردّها عليه يوم الحساب، فيقول عند وفاته: اللهم إني أتقرّب إليك بولاية علي(1)، اللهم إني أحيى على ما حيّ عليه علي بن أبي طالب، وأموت على ما مات عليه علي بن أبي طالب(2).
القسم الثاني:
ما ورد من طرق الشيعة خاصةً في العمومات الدالة على
ص: 155
خصوص اتساق الشهادة بولاية علي مع الشهادتين بالتوحيد والرسالة، نذكر بعضاً من ذلك:
1- روى الكليني في الكافي والصدوق في الأمالي عن أبي عبد الله - الصادق - (علیه السلام) أنه قال: إِنَّا أول أهل البيت نوّه الله بأسمائنا، إنّه لما خلق السماوات والأرض أمر منادياً فنادى (أشهد أن لا إله إلّا الله) ثلاثاً، (أشهد أنّ محمداً رسول الله) ثلاثاً، (أشهد أنّ علياً أمير المؤمنين حقاً) ثلاثاً(1). 2- ما رواه الصدوق من حديث أبي الحمراء خادم رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلّم)، وفيه: قال النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) لجماعة من المسلمين من عرب وعجم وقبط وحبشة:
يا معشر العرب والعجم والقبط والحبشة أقررتم بشهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمداً عبده ورسوله؟ فقالوا: نعم. فقال: اللهم اشهد حتى قالها ثلاثاً، فقال في الثالثة: أقررتم بشهادة أن لا إله إلّا الله وأني محمد عبده ورسوله، وأنّ علي بن أبي طالب أمير المؤمنين وولي أمرهم من بعدي؟ فقالوا:
ص: 156
اللهم نعم. فقال: اللهم اشهد حتى قالها ثلاثاً ... الخ(1).
3- ما رواه السيد ابن طاووس بسنده عن أبي عبد الله الصادق (علیه السلام) في قول الله عزّ وجل (فِطرَتَ الله التي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيها)(2) قال: هي التوحيد، وأنّ محمداً رسول الله، وأن علياً ولي الله أمير المؤمنين(3).
4 - ما رواه ابن طاووس نقلا عن محمد بن العباس في كتابه ما نزل من القرآن في النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) من تفسير (سُبْحانَ الذي أسرى بعَبْدِهِ لَيْلاً﴾(4) وذكر حديث المعراج ...
إلى أن قال: (سل يا محمد من أرسلنا من قبلك مِن رُسُلنا: أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون؟) فالتفت إليهم رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلّم) بجميعه، فقال: بم تشهدون؟ قالوا: نشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأنّك رسول الله، وأنّ عليّاً أمير المؤمنين
ص: 157
وصيّك، وأنكَ رسول الله سيّد النبيين، وأنّ عليّاً سيّد الوصيّين أخذت على ذلك مواثيقنا لكما بالشهادة(1).
5 - ما رواه السيد ابن طاووس في حديث خلق الله ملكين اكتنفا العرش، فقال الله سبحانه وتعالى: (اشهدا أن لا إله إلّا أنا). فشهدا، ثم قال: (اشهدا أنّ محمداً رسول الله). فشهدا، ثم
قال لهما: اشهدا أن علياً أمير المؤمنين). فشهدا(2).
6- ما رواه الحر العاملي نقلاً عن تفسير الإمام الحسن العسكري (علیه السلام)، مرفوعاً عنه (صلّی الله علیه وآله وسلّم) في آداب الوضوء، قال: وإن قال المتوضئ في أول وضوئه: (بسم الله الرحمن الرحيم) طهرت أعضاؤه، وإن قال في آخر وضوئه أو غسله من الجنابة: (سبحانك اللهم...)، إلى أن قال: وأشهد أنّ محمداً عبدك ورسولك، وأشهد أنّ علياً وليّك وخليفتك بعد نبيك، وأن أولياءه خلفاؤك وأوصياؤه) تحاتت عنه ذنوبه(3).
ص: 158
7 - ما رواه الحر العاملي عن حميد بن زياد بن الحسن بن محمد بن سماعة، عن وهيب بن حفص، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: ما اجتمع قوم في مجلس لم يذكروا الله عزّ وجلّ ولم يذكرونا إلّا كان ذلك المجلس حسرةً عليهم يوم القيامة. ثم قال أبو جعفر (علیه السلام): إنّ ذِكرنا مِن ذِكر الله، وذكر عدونا من ذكر الشيطان(1).
8- ما رواه الطبرسي عن علي بن أبي حمزة عن الإمام الصادق (علیه السلام)، عن أبيه عن آبائهم (علیهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلّم): حدثنی جبرئيل عن رب العزّة جل جلاله أنّه قال - في حديث طويل -: ومن لم يشهد أن لا إله إلّا أنا وحدي، أو شهد بذلك ولم يشهد أنّ محمداً عبدي ورسولي، أو شهد بذلك ولم يشهد أنّ علي بن أبي طالب خليفتي، أو شهد بذلك ولم يشهد أنّ الأئمة من ولده حُججى فقد جحد نعمتي، وصغّر عظمتي، وكفر بآياتي وكتبي(2).
ص: 159
9 - ما رواه الطبرسي من خبر القاسم بن معاوية عن الإمام الصادق (علیه السلام)، وذكر حديثاً طويلاً جاء فيه: إنّ الله (لا إله إلّا الله محمد رسول الله علي ولي الله) على جملة من مخلوقاته، بدءاً من العرش والكرسي واللوح والملائكة والسماوات والأرضين...
إلى أن قال الإمام الصادق (علیه السلام): فإذا قال أحدكم: لا إله إلّا الله محمد رسول الله ، فليقل: علي أمير المؤمنين(1).
فعلى ضوء ما تقدم كان قول الشيعة (أشهد أن علياً أمير المؤمنين ولي الله) مُستحباً في الأذان والإقامة وغيرهما، عدا حال الصلاة.
ورأوا في ذلك إعلاناً بولايته، خصوصاً وأنّ في خبر الاحتجاج الثاني والأخير الأمر بذلك، حيث استفيد من قوله (علیه السلام): إذا قال أحدكم: (لا إله إلا الله محمداً رسول الله) فليقل: (علي أمير المؤمنين)، فإنّ الحديث عام، ولم يتقيد بحال دون حال لا زماناً ولا مكاناً وعمومه يشمل حال الأذان والإقامة، لكن قال الفقهاء: بشرط أن لا يأتي به المؤذّن أو المقيم
ص: 160
على نحو الجزئية، فإن أتى به كفصل من فصولها أثم وعند بعضهم بطل أذانه وإقامته.
وإليك بعضاً من آرائهم:
آراء الفقهاء في ذلك
1- قال الشيخ الطوسي وأما قول: (أشهد أنّ عليّاً أمير المؤمنين وآل محمد خير البرية) على ما ورد في شواذ الأخبار فليس بمعمول به في الأذان، فلو فعله الإنسان لم يأثم به غير أنه ليس من فضيلة الأذان، ولا كمال فصوله(1).
وقال أيضاً في النهاية: فأما ما روي في شواذ الأخبار من قول: (إنّ عليّاً ولي الله، ومحمد وآل محمد خير البشر) فمما لا يُعمل عليه في الأذان والإقامة، فمن عمل به كان مخطئاً(2).
وقال العلّامة الحلي في المنتهى: وأما ما روي في الشاذ من
ص: 161
قول: (إنّ عليَّا وليّ الله ومحمد وآل محمد خير البرية) فمما لا يعوَّل عليه(1).
2 - وقال المجلسي: لا يبعد كون الشهادة بالولاية من الأجزاء المستحبة للأذان، لشهادة الشيخ والعلامة والشهيد وغيرهم بورود الأخبار بها(2).
ثم ذكر أقوال الطوسي والعلامة كما سبق، ثم قال: ويؤيِّده ما رواه الشيخ أحمد بن أبي طالب الطبرسي في كتاب الاحتجاج...
وذكر ما مرَّ نقله برقم، ثم قال: فيدل على استحباب ذلك عموماً، والأذان من تلك المواضع، وقد مرَّ أمثال ذلك في أبواب مناقبه عالية. ولو قاله المؤذن أو المقيم لا بقصد الجزئية بل بقصد البركة لم يكن آثماً، فإن القوم جوّزوا الكلام أثناءهما مطلقاً، وهذا من أشرف الأدعية والأذكار.
أقول: وقد استجود الشيخ صاحب الحدائق ذلك(3)،
ص: 162
وجرى على هذا المنوال كل الفقهاء منذ عصر المجلسي رحمه الله المتوفى سنة 1111ه- حتى يومنا الحاضر، فكلهم أفتوا باستحباب الإتيان بالشهادة الثالثة، لكن لا بعنوان الجزئية، واعتبره الكثير من إعلان النصرة لأمير المؤمنين (علیه السلام) التي دأبت الحكومات المعادية له سلفاً وخلفاً على إنكار ولايته، حتى إنّ الأمويين أعلنوا بسبّه على منابر المسلمين، وحملوا الناس على ذلك بالقهر والغلبة، وجعلوا سبّه سنَّة، فكان الشيعة تبعاً لأهل البيت يشهدون أنّ عليَّا أمير المؤمنين ولي الله، إشعاراً للمغفلين الذين غُرِّرَ بِهم فسبّوه بأنّه ولي الله، وولي الله لا يجوز سبّه، ومن سبّه فقد سبَّ الله ورسوله.
وهو شعار يحمل معنى التحدي للسلطات المناوئة لأهل البيت (علیهم السلام) في كل مكان وزمان.
ص: 163
رأي على رأي وقول على قول
الإنسان الحر في رأيه هو الذي لا تثقله الموروثات الخاطئة خلّفها الحاقدون، واختزنها الجامدون، فكانت كالمرعى الوبيل، يجترّه من لا بصيرة له، بل يجب عليه أن يفتح قلبه قبل أن يفتح عينيه (فإنها لا تعمى الأبصارُ وَلكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور)(1).
ونحن قد سرنا مع القارئ مسيرة متأنية، استعرضنا فيهاآراء المسلمين حول (الشهادة الثالثة)، فقرأنا رأي البدعيين
ص: 164
وحجتهم، ثم وقفنا معهم وقفة عابرة ذكرنا مناقشتهم فيما تطرّفوا فيه من زعم أنها بدعة مطلقاً، ولم نعقّب على إفراطهم بشرعيتها مطلقاً، لشهادة الشيخ الصدوق رحمه الله بأنهم من المدلّسين أنفسهم في جملتنا وليسوا منا. ولما بيّناه من وضوح فساد مقالتهم بأنها فصل من فصول الأذان.
ثم قرأنا رأي الوسط المعتدل، وبسطنا القول في أدلتهم وأتبعنا ذلك بآراء الفقهاء في ذلك، و مما ذكرناه فيما أحسب - بلاغ وكفاية، إلّا أنّه يبقى سؤال يجيش به الصدر، وهو ما دام النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) مؤكداً ولاية علي كما مرّ، وأنها تلو الشهادتين بالتوحيد والرسالة، فلماذا لم يأمر بالإعلان بها في الأذان والإقامة؟
وهو سؤال لا يخلو من وجاهة لكن الجواب على ذلك واضح تمام الوضوح، إنّما هو وجود المانع لا عدم المقتضي.
وبيان ذلك يُعلم مما مرّ من أسباب نزول الآيات التي مرَّت في عشية عرفة ويوم الغدير، حيث كان (صلّی الله علیه وآله وسلّم) يقرأ في وجوه بعض الصحابة ممن لا يحبون عليّاً كراهية الإعلان بولايته والتنويه بفضله.
ص: 165
لكن لمّا نزل الوحي بالوعيد بقوله تعالى (وإنْ لَمْ تَفعَل اتخاذ فَما بَلغت رسالته)(1) فبلّغ (صلّی الله علیه وآله وسلّم) ومع جميع الاحتياطات اللازمة، والوسائل الكفيلة بإثبات الولاية، فقد نبغ خامل الأقلين، ونزغ الشيطان في صدور المنافقين.
فجاء جابر بن النضر بن الحارث بن كلدة العبدري فقال: يا محمد أمرتنا من الله أن نشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك رسول الله وبالصلاة والصوم والحج والزكاة فقبلنا منك لم ترض بذلك حتى رفعت بضبع ابن عمك ففضّلته علينا وقلت: (من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه)، فهذا شيء منك أم من الله؟
فقال رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلّم): والذي لا إله إلّا هو إنّ هذا من الله.
فولى جابر يريد راحلته وهو يقول: إن كان ما يقول محمد حقًا فأمطر علينا حجارة من السماء أو اثتنا بعذاب أليم. فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر، فسقط على هامته وخرج من دبره وقتله، وأنزل الله تعالى (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذَابِ واقع﴾(2)(3).
ص: 166
أتدرون لماذا قال ذلك جابر بن النضر، ولم يرض بولاية عليّ (علیه السلام) لأنّ علیّاً كان قد قتل أباه صبرا بين يدي النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) حين جيء به أسيرا يوم بدر(1).
فيا هل ترى كم هم أولئك الذين هم أمثال جابر من الذين قتل علي آباءهم وإخوانهم وعشيرتهم في سبيل الدين وخاصة من قريش؟
فكيف يرضى أولئك بولاية علي؟ ألم يقل عثمان لعلي في أيامه ما ذنبي إليك إذا لم تحبك قريش وقد قتلت منهم سبعين رجلاً كأن وجوههم سيوف الذهب)(2).
فإذا كان مثل عثمان في سنّه وقرباه يقول ذلك بعد مرور أعوام تزيد على الثلاثين، وكأنّه ينفث بعض ما يجد في صدره على علي (السلام)، فما ظن القارئ ببقية الأحزاب والطلقاء
ص: 167
وأبنائهم؟
فهل يمكن أن يقال بعد هذا كله : لماذا لم يأمر النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) بالشهادة الثالثة إعلاناً بها في الأذان؟ أوليس ما أمر به النبي مما له الدلالة على الولاية قد حُذِفَ وحُرِّف؟ وقد مرَّ بنا شاهد ذلك في (حيَّ على خير العمل).
ثم هل ينسى تاريخ المآسي جرائم معاوية وموبقاته في حربه على الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) طوال حياته، وازداد في طغيانه وعتوّه بعد وفاة الإمام، فأعلن بسبّه على المنابر وجعل
سبّه سُنّة، فهل يمكن أن يصح من أحد أن يقول: لو كان الرسول (صلّی الله علیه وآله وسلّم) يريد الشهادة الثالثة لأمر بها، وهو الذي كان علمه من لدن حكيم عليم بما سيجري في أمّته؟
أو ليس قد مرَّ بنا أنّ معاوية هو الذي قال للمغيرة فيما رواه مطرف بن المغيرة: وإنّ أخا هاشم - يعني به النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) يُصرخ به في كل يوم خمس مرات: (أشهد أنّ محمداً رسول الله)، فأي عمل يبقى مع هذا لا أم لك؟ والله إلّا دفناً دفناً(1).
ص: 168
فمن لم يطق سماع الشهادة للنبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) هل يمكن أن للشهادة الثالثة بالولاية لعلي لو كانت؟ فتلك الحال التي كان النبي (صلّی الله علیه وآله وسلّم) يعلمها من المنافقين هي التي منعته من الإعلان بالشهادة الثالثة في الأذان.
فإذن السبب في عدم الإعلان بها هو وجود المانع لا عدم المقتضي.
وختاماً فقد علمنا من جميع ما تقدم أن ولاية علي (علیه السلام) كانت على حد الشهادتين بالتوحيد والرسالة كجزء متمّم لهما، وبها تمّت النعمة وكمل الدين - كما مرّ في سبب نزول قوله تعالى (اليَومَ أَكْمَلْتُ لَكُم دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُم نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً)(1) - فالاعتقاد بها واجب، والإعلان بها في الأذان وغيره مستحب لا بنحو الجزئية.
كما يفعله بعضهم حتى في التشهد الثاني قبل السلام، ولعل مستندهم ما ورد في الكتاب المسمّى ب-(فقه الرضا) حيث ورد فيه:
فإذا صليت الركعة الرابعة فقل في تشهدك: (بسم الله
ص: 169
وبالله، والحمد لله، والأسماء الحسنى كلها لله، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، التحيات الله والصلوات الطيبات الزاكيات الغاديات الرايحات الناميات المباركات الصالحات الله ما طاب وزكى وطهر ونما وخلص، وما خبث فلغير الله. أشهد أنك نِعم الرب، وأن محمداً نعم الرسول، وأن عليًّا نعم المولى، وأن الجنة حق والنار حق، والموت حق والبعث ،حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، اللهم صلِّ على محمد وآل محمد وبارك على محمد وآل محمد، وترحَّم على محمد وآل محمد، أفضل ما صليت وباركت وترحَّمت وسلَّمت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. اللهم صلِّ على محمد
المصطفى، وعلي المرتضى، وفاطمة الزهراء، والحسن والحسين وعلى الأئمة الراشدين من آل طه وياسين. اللهم صلُّ على نورك الأنور، وعلى حبلك الأطول، وعلى عروتك الوثقى، وعلى وجهك الأكرم، وعلى جنبك الأوجب، وعلى بابك
ص: 170
الأدنى، وعلى سبيلك الصراط، اللهم صلِّ على الهادين المهديين الراشدين الفاضلين الطيبين الطاهرين الأخيار الأبرار. اللهم صلِّ على جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل، وعلى ملائكتك المقربين وأنبيائك المرسلين ورسلك أجمعين من أهل السماوات والأرضين، وأهل طاعتك راكعين، واخصص محمداً (صلّی الله علیه وآله وسلّم) بأفضل الصلاة والتسليم، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام عليك وعلى أهل بيتك الطيبين، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين).
ثم سلّم عن يمينك، وإن شئت يميناً وشمالاً، وإن شئت تجاه القبلة(1).
فهذا الذي ورد ذكره لم أقف عليه في غير الكتاب المذكور من المصادر الحديثية المعتبرة، ولما كان الكتاب مشكوك النسبة إلى ،مؤلفه، وكان للأعلام حوله كثير كلام من نقض وإبرام فلا يمكن الالتزام بصحة جميع ما ورد فيه، ولا قراءة ما مرَّ في التشهد الأخير بنحو الورود.
وتبقى الولاية بين الوجوب والاستحباب جزءاً من العقيدة
ص: 171
- لا العاطفة - عند المؤمنين في أذكارهم، والحمد الله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
ص: 172
المقدمة ...5
مفاهيم خاطئة يجب أن تصحح ...7
دعوة من أدب القرآن الكريم ...13
المنطلق من حقيقة الإيمان ...18
ما هي البدعة المحرَّمة ...23
تبدّل المفاهيم في سلطان الهوى ...26
طريفة ذات مغزى ...37
المسألة الأولى: حي على خير العمل في الأذان ...41
الأذان من وحي السماء ...47
ص: 173