الفکر التربوي الإسلامي عند الإمام جعفر بن محمد الصادق علیه السلام
نويسنده:دیالمه، حسناء
زبان: عربی
ناشر: المکتبة العصرية - صیدا - لبنان
سال نشر: 1431 هجری قمری|2010 میلادی
کد کنگره: BP 45/35 /د9ف8
ص: 1
الفکر التربوي الإسلامي عند الإمام جعفر بن محمد الصادق
نويسنده:دیالمه، حسناء
ص: 2
إلى المربي الأول و الناصح الأكمل و الأب الأمثل
سيدنا محمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم
و إلى محيي سنته الشريفة
باعث الروح و العلم و الأخلاق في الأجيال
و مجدّد النهضة الفكرية و الثقافية في الإسلام
إلى الإمام أبي عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق
أيها الإمام العظيم، أيها المفكر الجليل، أيها المربي الشفيق، ترى هل وفيتك حقك و أنا أقفو خطاك في هذا البحث المتواضع؟ لكن يا ابن رسول اللّه إنّ الهدية على قدر مهديها.
عشت معك ساعات و أياما و شهورا و أعواما و أنا أتنقل بين روائع عطاياك في المراجع و المصادر بذكرك، فوجدتك في جميعها عظيما و منيرا و معلما كبيرا. أنعم اللّه عليك فأجزلت بنعمه على كل إنسان جمعت العلم من مكامنه العميقة و رصعته بالنور بجهودك النشيطة و قدمته للأمة لتفجر به طاقاتها الكريمة.
ص: 3
ص: 4
أ. د. محمد منير سعد الدين
الحمد للّه و الصلاة و السّلام على سيدنا محمد و على آله و صحبه و بعد... إن الكتاب الذي بين يدي القارئ هو في الأصل أطروحة دكتوراه عنوانها: «الفكر التربوي عند الإمام جعفر الصادق»، تقدمت بها الطالبة لنيل درجة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية من كلية الإمام الأوزاعي للدراسات الإسلامية حيث كلفت من المجلس العلمي بالإشراف عليها.
هنا أشير أنه عند ما جاءتني الطالبة الباحثة بعد تكليفي بالإشراف عليها شعرت بالعبء الكبير الملقى على عاتقها، و الجهد الذي عليها أن تبذله، بخاصة و هي تخوض في الفكر التربوي للإمام جعفر الصادق، لأن الباحث في الفكر التربوي الإسلامي عامة أشبه بمن يجمع ذرات من التراب فهو يقرأ كتبا ضخمة متعددة الأجزاء فيخرج منها بمحصول ضئيل أو بلا شيء، و أيضا ظاهرة عدم تركيز علماء المسلمين في أعمالهم على النشاط التربوي في كتب خاصة، و الأمر نفسه بالنسبة للإمام جعفر الصادق فهو إنسان ترك تراثا موسوعيا كبيرا.
و لكنه لم يترك كتبا تربوية مستقلة. كذلك لم يترك المعاصرون ممن سبقوا الباحثة كتابات تربوية بهذه الإفاضة العلمية و الإلمام بالجانب التربوي كما قدمته. و ما زاد شفقتي أيضا أنها من أصول فارسية و هي بحاجة إلى تمكن في اللغة العربية. و أيضا رغم ممارستها التعليم فهي لم تكن مختصة بالتربية. و مع كل هذا استطاعت أن تذلل صعوبات كثيرة و اجهتها بالصبر، و طول النفس، و القدرة الفائقة على التعلم.
و لا بد من وقفة عند الإمام جعفر بن محمد بن علي الملقب بالصادق، و الذي عاش في نهاية الدولة الأموية و بداية الدولة العباسية، و في عهد تبادل أفكار و تفاعل مع الأمم و الحضارات، حيث تمخضت الحركة الفكرية عن مذاهب فلسفية و فقهية مختلفة، و مدارس كلامية، و أشاعرة، و معتزلة، و قدرية، و جبرية، و خوارج، و متصوفة، و زنادقة، و ملاحدة و غيرها.
لقد ملأ جعفر الصادق الدنيا بعلمه (كما يقول الجاحظ)، و عمل على إعداد قيادات واعية، و معلمين عاملين على نشر الإسلام، و تركزت جهوده العلمية في مختلف الاختصاصات من الفلسفة و علم الكلام و الطب و الرياضيات و الكيمياء، إضافة إلى القواعد و الأصول الاجتماعية و الفقهية كركيزة متينة للتشريع الإسلامي تضمن بقاءه و استمراره. و واجه أخطار الزنادقة و الملاحدة بأسلوب مرن و هدوء و رصانة ناقدا و داحضا آراءهم و حججهم.
ص: 5
أما الحديث عن علمه و مدرسته و الأجيال التي تخرجت على يديه حيث يقال إنه قد يلقى عدد طلابه أربعة آلاف طالب.
و لقد اشتهر من طلابه: مالك بن أنس، و أحمد بن حنبل، و أبو حنيفة بن النعمان، و سفيان الثوري، و جابر بن حيان، و هشام بن الحكم و غيرهم كثير.
و نقل عنه كثير من العلماء أمثال: مالك بن أنس، و محمد بن إدريس الشافعي، و إبراهيم بن أدهم، و مالك بن دينار و غيرهم.
يقول عنه مالك بن أنس: «ما رأت عين و لا سمعت أذن و لا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر الصادق فضلا و علما و ورعا و عبادة».
و يقول عنه كمال الدين محمد بن طلحة الشافعي: «عبد اللّه أبو جعفر الصادق بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السّلام)، هو من عظماء أهل البيت و سادتهم (عليهم السّلام)، ذو علوم جمة، و عبادة موفورة، و أوراد متواصلة، و زهادة بينة، و تلاوة كثيرة، يتبع معاني القرآن الكريم، و يستخرج من بحره جواهره، و يستفتح عجائبه، و يقسم أوقاته على أنواع الطاعات بحيث يحاسب عليها نفسه، رؤيته تذكر بالآخرة، و استماع كلامه يزهد في الدنيا، و الاقتداء به يورث الجنة، نور قسماته شاهد أنه من سلالة النبوة، و طهارة أفعاله تصدع بأنه من ذرية الرسالة».
ذلك هو الإمام جعفر الصادق و الذي طرقت الباحثة بابه لتغرف من بحر علمه، و بالذات من فكره التربوي، و لتقدم الأطروحة في صورتها كما هو واضح من فصولها في هذا الكتاب:
الإطار العام للدراسة: يتضمن المنهجية العلمية للدراسة.
الفصل التمهيدي: التربية من المنظور الإسلامي.
الفصل الأول: دراسة شخصية الإمام الصادق.
الفصل الثاني: التربية العقدية و العبادية.
الفصل الثالث: التربية العلمية و العقلية.
الفصل الرابع: التربية الخلقية و الاجتماعية.
الفصل الخامس: التربية الاقتصادية و المهنية.
الخاتمة:
بعد هذا العرض لجهد مشكور، من باحثة جادة، خاضت عملا صعبا، و لكنها استطاعت أن تشق طريقها بنجاح، يسرني أن يكون هذا الكتاب لبنة من اللبنات التي قامت عليها سلسلة الكتاب التربوي الإسلامي.
و اللّه ولي التوفيق.
ص: 6
لقد جعل اللّه الشكر مفتاح كلام أهل الجنّة فقال تعالى: وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ (1)، و الشكر كما يقول الإمام جعفر الصادق: «زيادة في النعم و أمان من الغير».
أما و إنّي قد انتهيت من إعداد هذه الأطروحة فلا يسعني إلاّ أن أتوجه بالشكر و الامتنان للعلي القدير على ما وفقني إليه.
و يجدر بي في هذا المقام أن أتقدم بالشكر و التقدير إلى فضيلة الأستاذ الدكتور محمد منير سعد الدين (حفظه اللّه) الّذي أشرف على هذه الدراسة و ما قدّمه لي من نصح و توجيه و إرشاد لإغناء البحث و إثرائه، فجزاه اللّه خيرا لخدمة العلم.
كما أتوجه بالشكر و التقدير إلى الأستاذ الفاضل الدكتور نايف معروف على مراجعته للبحث و ملاحظاته القيمة.
و أتوجه بالشكر الجزيل إلى كلية الإمام الأوزاعي - عمادة و أساتذة و عاملين - و التي أتاحت لنا هذه الفرصة الذهبية في العودة إلى التربية السليمة وفق منهج القرآن الكريم و السّنة النبوية المطهرة.
و لا بدّ من توجيه الشكر إلى المكتبات و العاملين فيها بلبنان و إيران.
ثم أتوجّه بشكري و تقديري للجنة المناقشة الّتي ستكون ملاحظاتها إنارة لطريقي في هذا البحث و اعتناء و إثراء له.
كما أوجه الشكر إلى كلّ من مدّ يد العون و المساعدة في إعداد هذه الدراسة العلمية.
و من الحري أن أذكر في هذا المقام أخي الشهيد الّذي كان أول من عرّفني على مدرسة الإمام الصادق و ربّاني على حبّ النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و أهل بيته.
و كذلك والدي المرحوم العزيز الّذي بدأت هذا السبيل مشيّعة بدعواته الخيّرة، غير أنّ القدر الإلهي لم يمهله ليشهد اكتمال هذا المسعى فمضى إلى ربّه.
و أقدم خالص شكري إلى أمي الحنون التّي شاهدت منها العزيمة الثابتة على
ص: 7
الأخلاق و التحلّي بجميل الآداب و معذرة من القلب لأنّني انصرفت عنها و قضيت من الأوقات بين جنبات الكتب أكثر ممّا قضيت معها، أسأل اللّه لها العافية و الدرجات العالية.
و يطيب لي أن أسجل عميق شكري لرفيقة دربي و شريكة أملي، أختي الوحيدة، و التي كانت لي خير معين و مساعد لإنجاز هذا الجهد، كما كانت لي بمنزلة نعم العون في طاعة اللّه طيلة حياتي. و كذلك أشكر عائلتها جميعا (زوجها و أولادها) على دعمهم و تشجيعهم و مواقفهم الطيبة، فلهم مني جميل الثناء و استمرارية الدعاء.
و أسال اللّه أن يجعل جهدنا جميعا فيه خالصا لوجهه تعالى فيما يحب و يرضى من خير للإسلام و المسلمين إنّه سميع مجيب.
ص: 8
الحمد للّه ربّ العالمين و الصلاة و السّلام على رسولنا الأمين و على آله و صحبه الذين رضي اللّه عنهم و رضوا عنه.
و بعد...
لا يخفى على أحد من المختصين أهمية التربية في حياة الإنسان. فهي ضرورة من ضروريات الحياة و شأن أصيل من شؤون الإنسان لأن قيمة المجتمع لا تتمثل في معادنه و ثرواته و إنما قيمته مرهونة بالعقول الناضجة و الأفراد المهذبين، الذين يعيشون فيه.
و بما أنّ التربية الإسلامية تربّي الفرد الصالح، و الأسرة الصالحة، و المجتمع الصالح، و عن طريقها تتقدم الحضارات و تصنع الأجيال و تنمو المفاهيم الإنسانية الخيرة بين البشر، من هنا تتضح الحاجة إلى معرفة نظرة التربية الإسلامية للإنسان مستلهمين أصالتنا التربوية و فكرنا الإسلامي القائم على الكتاب و السنّة.
إن البشرية تعاني اليوم من أزمات حادة و معضلات صعبة، رغم التطور العلمي و التقني، و لا تعود هذه الأزمات إلى طبيعة النظام العالمي و النظم الاقتصادية، بل تعود إلى فشل المدارس الفكرية و التربوية في بناء الإنسان المتوازن بين قابلياته المعنوية و ميوله النفسية.
و مع الأسف نرى أنّ التربية السائدة في النظم التعليمية المعاصرة في عالمنا الإسلامي متأثرة إلى حد كبير بأنظمة التعليم و أفكار التربية الغربية دون تدقيق في محتوى و مضمون هذه التربية أو في الظروف الغربية الخاصة التي أدّت إلى ولادة هذه التربية و مفاهيمها.
و ليست التربية في بلادنا اليوم تربية إسلامية خالصة، و لا تعبر عن أوضاعنا و طموحاتنا و أهدافنا. و نحن في الوقت الحالي في أمسّ الحاجة إلى النظام التربوي الإسلامي الذي يتناسب مع واقعنا و عقيدتنا. و هذا يقتضي منّا بشكل ملحّ على العودة إلى تراثنا الإسلامي الزاخر بآراء و أفكار تربوية متميزة من خلال ما خلّفها السلف الصالح و الّتي جاءت أمينة و صادقة.
من ثم اهتم كثير من الباحثين و بعض المنظّمات بدراسة العديد من الشخصيات الإسلامية البارزة لإظهار فكرهم التربوي للإفادة منه في بناء نظرية تربوية إسلامية معاصرة التي تصلح لحاضرنا و مستقبلنا.
و من الشخصيات الإسلامية التي كان لها دور بارز في النظام التربوي الإسلامي الإمام جعفر بن محمد الصادق، حفيد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، الذي أسهم إسهاما فاعلا في دفع عجلة التربية إلى الأمام، فهو مربّ قدير تتلمذ على يديه عدد من العلماء البارزين، و قد خلّف من بعده من إرشادات و تعاليم، و تراث موسوعيّ ينفتح على كل قضايا الإنسان في حياته الفردية
ص: 9
و الاجتماعية و الذي يتّضح من دراسته مدى قيمته اتفاقه مع الكتاب و السنّة. كما قال الإمام جعفر بن محمد نفسه:
«حديثي حديث أبي، و حديث أبي حديث جدّي، و حديث جدّي حديث الحسين، و حديث الحسين حديث الحسن، و حديث الحسن حديث أمير المؤمنين علي، و حديث أمير المؤمنين حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و حديث رسول اللّه قول اللّه تعالى»(1).
من أجل هذا، أردت الإسهام في هذا الموضوع، و الهدف منه لا يقف عند إبراز دور هذا المفكر في الحضارة الإنسانية، إنّما يتعدّى ذلك إلى تبيين فكره و توظيفه في التربية المعاصرة، خصوصا أنّ عصره كان عصر ثقافات أجنبية متعددة و أيضا ديانات مختلفة، و من ثمّ فقد عاش في عصر أقرب إلى عصرنا هذا الّذي نعيش فيه.
و لقد حاولت - قدر استطاعتي - إعطاء صورة واقعية لقضايا التربية عند الإمام، و لا أظن أنني بهذه الأطروحة قد أتيت على كل آراء الإمام جعفر الصادق التربوية، و ربّما فاتني الكثير منها، و هذه الدراسة لا تمثل كل النظام التربوي لديه، بل تمثل جزءا من آرائه في التربية، و هناك دراسات كثيرة يجب الكشف عنها و إخضاعها للبحث و الدراسة، لعلّها تكشف عن أصالة الفكر التربوي في الإسلام.
ثمة دوافع دفعتني إلى اختيار هذه الدراسة جملة منها:
أولا: التربية الإسلامية تختلف عن غيرها من النظم التربوية في إعداد الإنسان للحياة الدنيا و الآخرة، و مما لا شك فيه أن استقراء مناهج هذه التربية عند المفكرين الإسلاميين يضعنا في خندق المواجهة مع أزمة التربية الإسلامية اليوم، و السعي لإيجاد النظام التربوي الإسلامي الذي يعيد إلينا كرامتنا و يعود بنا إلى الإسلام.
ثانيا: كشف الفكر التربوي عند الإمام جعفر بن محمد الصادق المفكر، العالم، الذي كان له مدرسة نموذجية في تربية الإنسان و الأخذ بمنهجه للسعي باتجاه وضع الماضي في خدمة الحاضر و المستقبل.
ثالثا: عند ما بحثت في المكتبات الإسلامية وجدت على الرغم من قيام عدد من الدارسين بالدراسة في شخصية الإمام الصادق و مناهجه في المواضيع المختلفة كالمنهج الفقهي و السياسي لم يتعرضوا إلى أفكاره التربوية، الذي اهتم بها اهتماما بالغا في حياته كلها. و قد رميت إلى تبيين هذه الفكرة من خلال هذه المحاولة المتواضعة مع الالتزام بقواعد المنهج العلمي.
آمل أن أتمكن من خلال هذه الأطروحة من الإجابة عن هذا التساؤل الرئيسي:
ص: 10
ما النظام التربوي الإسلامي في مدرسة الإمام الصادق؟ و من الذي يمثل الشخصية الصالحة عند الإمام، و كيف يمكن تربيته؟
و يترتب على ذلك طرح تساؤلات فرعية مثل:
- ما الأسس التي تقوم عليها التربية في فكر الإمام الصادق؟
- ما الميادين التي تقوم فيها التربية عند الإمام؟
- ما أهم المبادئ و الأساليب التربوية في مدرسة الإمام؟
قد تعرضت لصعوبات كثيرة في هذه الدراسة و منها:
- كثرة تراث الإمام جعفر من أقواله و رسائله و خطبه و حكمه، لأنّه ليس شخصية عاديّة، محدودة الأبعاد، و الفكر، و محدودة الآراء، فيصعب الإلمام بأطرافه.
- إنّ الإمام الصادق رغم كثرة تعاليمه لم يترك لنا كتابات تربوية مستقلة كسائر التربويين و مع ذلك في كل ما قاله الإمام، تربية.
- صعوبة استخراج و تنسيق آراء الإمام التربوية و تبويبها، نظرا لأنّها متناثرة في مجالات مختلفة و التي تؤدي إلى البحث في هذه المجالات العديدة كلها.
- عدم وجود أبحاث سابقة في هذا الموضوع.
اتبعت في هذه الدراسة المنهج التاريخي - الاستردادي - باعتباره المنهج الذي يرجع إليه في تحليل الظروف السياسية و الاجتماعية و الثقافية في ذلك العصر، إضافة إلى المنهج الوصفي - التحليلي عند تتبع آراء الامام جعفر لاستنباط أفكاره التربوية.
لا بد لاستقصاء أقوال الإمام في هذه الدراسة من العودة إلى كافة المصادر المقبولة عند المسلمين، و هذا لا يعني أنني وثقت بكل ما روي عن الإمام الصادق، لأن وجود الكذابين و الوضاعين بين الرواة حقيقة، أشار إليها الإمام نفسه، حيث قال:
«إنّ الناس قد أولعوا بالكذب علينا و إنّي أحدّث أحدهم بالحديث فلا يخرج من عندي حتى يتأوله على غير وجهه و ذلك أنّهم كانوا لا يطلبون بأحاديثنا ما عند اللّه و إنما يطلبون الدنيا و كل يحب أن يدّعي رأسا»(1).
من أجل ذلك فقد سلكت في هذا الطريق ذلك الأسلوب الذي أشار إليه الاستاذ محمد أبو زهرة في دراسته عن الإمام الصادق بقوله:
«نتلقّى منه ما لا يعارض كتابا أو سنة بل نجد فيها تأثيرا لأحكامها و ما اشتملا عليه من عقائد و تتّفق مع ما عرف عن الصادق رضي اللّه عنه»(2).
ص: 11
و هذا هو المعيار ذاته الذي قرره الإمام جعفر نفسه لطلاب الحقيقة، حيث يقول: «لا تقبلوا علينا حديثا إلاّ ما وافق الكتاب و السنّة أو تجدون معه شاهدا من أحاديثنا المتقدمة»(1).
أمّا الحدود الزمنية للبحث فإنها تقتصر على الفترة ما بين سنة 80 حتى سنة 148 ه: ق، حياة الإمام جعفر، رغم أنني أشرت إلى فترة سابقة، لأن فكره له ارتباط بذلك.
لا جرم أن بحوثا و دراسات قيمة كثيرة قد أنجزت لحد الآن حول شخصية الإمام الصادق، و وضعت العديد من الكتب في هذا المضمار.
و قد ركزت هذه الدراسات غالبا على شخصية الإمام من زوايا عقدية و سياسية و دعوية مختلفة، و سلطت الضوء قبل كل شيء على آرائه الفقهية باعتباره زعيم أحد المذاهب الإسلامية.
من بين أهم هذه الكتب يمكن الإشارة إلى:
كتاب الأستاذ أبو زهرة بعنوان: «الإمام جعفر بن محمد، حياته و آراؤه، عصره و فقهه» و كتاب «الإمام الصادق رائد السّنة و الشيعة» من تاليف الدكتور عبد القادر محمود.
إلاّ أن أيا من هذه المؤلفات لم تتجه اتجاها تربويا، و لم تكتب بغية استخلاص الآراء و الأساليب التربوية لهذا المعلم المبرز في تاريخ المسلمين.
و مع أن كثيرا من الآراء و الأفكار التربوية لهذا المفكر ممكنة الرصد في ثنايا هذه الكتب، و كذلك الكتب المؤلفة حول الأفكار التربوية لمذهب الإمامية ككتاب: «الفكر التربوي عند الشيعة الإمامية» تأليف أمير علاء الدين قزويني، و كتاب «تاريخ التربية عند الإمامية» لعبد اللّه فياض، بيد أن ايا من هذه الدراسات لم تعن بالجانب التربوي لفكر الإمام الصادق. و على الرغم من أهمية هذا الجانب و ضرورته إلاّ أن دراسة علمية مستقلة لم تظهر في هذا الميدان (في حدود علمي).
من هنا فقد حاولت في هذه الأطروحة التركيز على هذا البعد المنسي و كشف النقاب عن الأفكار و الأساليب و الآليات التربوية لدى الإمام بقصد اكتشاف النظام التربوي العام عند هذا المعلم و المربي الكبير.
تتكون الدراسة من فصل تمهيدي و خمسة فصول:
فصل تمهيدي: التربية من المنظور الإسلامي
في مستهل هذا الفصل تم تعريف التربية لغويا و اصطلاحيا، و جرى الحديث عن
ص: 12
اهمية التربية الإسلامية و مكانتها. ثم أشير إلى العوامل المؤثرة في التربية الإسلامية، و لا يفوتني أن أسلط الضوء بعد ذلك على مصادر و خصائص التربية الإسلامية التي تميزها عن التربية البشرية. و في الخاتمة تمت الإشارة إلى أهداف التربية الإسلامية و بعض أبرز أساليبها.
الفصل الأول: «دراسة شخصية الإمام جعفر بن محمد»
يشتمل هذا الفصل على ثلاثة مباحث. و قد حاولت في المبحث الأول أن أقدم صورة للخصائص البارزة في عصر الإمام الصادق. و عنيت في المبحث الثاني بمراجعة عاجلة لحياة الإمام مسلّطة الضوء على المنزلة العلمية للإمام و تصورات العلماء و الشخصيات الإسلامية حوله، و سمات مدرسته الفكرية و التلامذة الذين تخرّجوا منها.
المبحث الثالث يحمل عنوان «إطار الفكر التربوي في مدرسة الصادق» و يعالج الإطار العام للعملية التربوية من منظور الإمام، و من ذلك الرؤى الأساسية في المقولات الثلاث (اللّه - الكون - الإنسان)، و العوامل المؤثرة في التربية من وجهة نظر الإمام، و كذلك طرائق التربية و التعليم. و لا يفوتني أن أشير في هذا البحث كذلك إلى التربية الجسمية و الروحية التي عني بها الإمام في مدرسته عناية بالغة، كما تم التطرق باختصار إلى مكانة و أهمية تربية الأطفال في فكر الإمام الصادق.
في الفصل الثاني فما بعد تناولت بالتفصيل في كل واحد من الفصول أبعادا تتعلق بمجالات مختلفة في تربية الإمام و قدمت أهم النقاط ذات الصلة بهذه الأبعاد. فكانت مضامين الفصول كما يلي:
أما الفصل الثاني فإنه يختص «بالتربية العقدية و التعبدية» في مدرسة الإمام، و يشتمل على مبحثين: في المبحث الأول عمدت ابتداءا إلى تعريف العقيدة و بيان أهميتها في الإسلام و تصورات الإمام الصادق، ثم انتقلت إلى عرض منهج الإمام في خلق و تكريس العقيدة الإسلامية على أساس محورين، الأول: تكوين العقيدة الصحيحة، و المشتمل على أساليب الإمام في تحكيم الأركان العقدية الستّة. و الثاني: تحصين الأمة عن التيارات المنحرفة و الخاطئة، حيث تم التطرق لأساليب الإمام في صيانة الأمة الإسلامية من الشبهات و الفتن الفكرية الوافدة من خارج الإسلام كالإلحاد و الزندقة، و كذلك الانحرافات داخل الإسلام من قبيل الأفكار المغالية و المتطرفة.
أما المبحث الثاني من هذا الفصل فقد خصّص لتربية روح العبادة لدى أفراد المجتمع.
و قد تناولت فيه المفهوم العبادة و أهميتها في مدرسة الصادق، و كيفية تعليم فقه العبادات من قبل الإمام، و التربية الروحية عن طريق مظاهر العبادة كالصلاة و الحج و... الخ.
و ذكرت في هذا المبحث ايضا «الالتزام بالنظرية و التطبيق» و «التركيز على الاعتدال» هما السمتان الرئيستان لمنهج الإمام.
الفصل الثالث خصصته لمنحى الإمام في «التربية العلمية و العقلية» لتلاميذه، و يضم
ص: 13
مبحثين: المبحث الأول يختص بأهمية العلم و صفات المعلم و المتعلم من وجهة نظر الإمام. و أخيرا تم بحث و دراسة أبرز الأساليب التعليمية عند الإمام.
أما أهم عناوين المبحث الثاني في هذا الفصل فهي: مكانة العقل في مدرسة الإمام، علاقة العقل بالدين و الأخلاق، أساليب تنمية العقل و طريقة التفكير المنطقي و العلمي، و يختص الفصل الرابع بأبرز منحى للإمام في التربية ألا و هو «التربية الأخلاقية و الاجتماعية»، و يحتوي مبحثين اثنين: في المبحث الأول الخاص ببنية السلوك الفردي لدى الإنسان الصالح من وجهة نظر الإمام الصادق، تطرقت إلى ماهية الأخلاق و مكانتها في الأفكار التربوية للإمام، و كذلك أهداف و أساليب هذا المربي الكبير في المضمار المذكور.
خلق رصيد معرفي للسلوكيات، إلى جانب إيجاد حالة الحب و الإقبال على الفضائل الأخلاقية، بالإضافة إلى آليات تعزيز الإرادة الفردية من جملة أصول و مبادئ التربية الأخلاقية عند الإمام التي تناولناها بالبحث و الدراسة.
المبحث الثاني في هذا الفصل مخصص لاتجاهات الإمام في التربية الاجتماعية، و كيفية تنمية الشعور بالمسؤولية لدى الفرد تجاه الآخرين - سواء كانوا أفراد عائلته أم أقرباءه أم اصدقاءه أم جيرانه أم سواهم - و في النهاية جرى الحديث عن أهم المبادئ التربوية للإمام في إيجاد السلوك الاجتماعي المناسب لدى الإنسان الصالح، و منها: الأخوة، و التكافل، و الصدق، و الأمانة، و الإصلاح الاجتماعي.
أما الفصل الخامس و هو آخر فصول هذه الأطروحة فيحمل عنوان «التربية الاقتصادية و المهنية» و يشتمل أيضا على مبحثين:
درست في المبحث الأول مناهج التربية الاقتصادية عند الإمام ضمن محورين، الأول في المجال النظري حيث بيّنت جهاد الإمام من أجل صياغة رؤية صائبة (مستخلصة من الإسلام) بخصوص المال و الملكية و الكسب و الربح. و الثاني في المجال العملي حيث أوضحت كيفية تربية الإنسان المسلم على أساس نموذج صحيح للإنتاج و الاستهلاك في مدرسة هذا المعلم الكبير.
في المبحث الثاني من الفصل الأخير تطرقت إلى أهمية الشغل و المهنة من وجهة نظر الإمام إلى جانب ضوابط و أخلاقيات المهنة عند الإنسان الصالح.
و هكذا نصل إلى نهاية دراستنا بخصوص الفكر التربوي للإمام جعفر الصادق.
و في خاتمة الدراسه قد تناولت باختصار بعض السمات المميزة للمنهج التربوي للإمام جعفر بن الصادق.
أسأل اللّه تعالى أن أكون قد وفقت في معالجة هذا الموضوع.
ص: 14
فصل تمهيدي التربية من المنظور الإسلامي
- مفهوم التربية الإسلامية و أهميتها:
- العوامل المؤثرة في التربية الإسلامية:
- مصادر التربية الإسلامية و سماتها:
- أهداف التربية الإسلامية و أساليبها:
ص: 15
ص: 16
لم يعد خافيا على أحد ما للتربية، بمفهومها الواسع و مضامينها العريضة، من أثر و أهمية في حياة الأفراد و المجتمعات و تجدّدها.
إن التربية إنّما تكون قاعدة أساسية لتطور الإنسان و ارتقائه فكريا فيما إذا استهدفت الازدهار التام لشخصيته و عنيت بغرس النزعات الخيرة في نفسه، و إذا لم تعن بذلك فإن الإنسان يفقد أصالته و ذاته.
فهي عملية اجتماعية تختلف من مجتمع إلى آخر حسب طبيعة المجتمع و القوى المؤثرة فيه و القيم التي اختارها، ليسير عليها في حياته.
فالتربية بهذا المعنى وسيلة و هدف، طريقة و غاية، تبدأ من بدء الحياة، و لا تنتهي برغم نهاية حياة الأفراد؛ لأنها عملية اجتماعية تخص المجتمع، كما تخص كل فرد فيه.
و الحديث عن التربية الإسلامية يستند إلى الحديث عن الإسلام نفسه؛ لأن الإسلام دين للبشر كافة، و لأنه نظام يتضمن كل ما يتصل بحياة الإنسان من جوانبها المختلفة ككلّ «و هو منهج ربّاني للحياة البشرية، ينظم شؤونها في الدنيا في كافة المجالات للفرد و الأسرة و المجتمع، فيضمن للإنسان الفرد، و الإنسان الأمة، و الإنسانية جمعاء إذا ما اتقوا ربهم في القول و العمل، السعادة في الدارين»(1).
فالتربية الإسلامية هي تلك التربية التي تجمع بين «تأديب النفس، و تصفية الروح و تثقيف العقل و تقوية الجسم فهي تعنى بالتربية الدينية و الخلقية و العلمية و الجسمية دون تضحية بأي نوع منها على حساب الآخر»(2).
ص: 17
إذا تتبعنا معنى مصطلح التربية من الناحية اللغوية فإننا نجد أنه يعود إلى أصول لغوية ثلاثة و هي:
الأصل الأول: ربا، يربو بمعنى: نما، ينمو و زاد، يزيد
و في هذا المعنى نزل قوله تعالى: وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللّهِ (1).
و قال الراغب الأصفهاني(2): الربّ في الأصل التربية، و هو إنشاء الشيء حالا فحالا إلى حد التمام(3).
كما يقول البيضاوي(4) في تفسيره: فربّاه بمعنى نمّاه، و التربية و هي تبليغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا، ثم خرجت الكلمة إلى وصف اللّه تعالى على سبيل المبالغة(5). و يقول الفيروزآبادي(6) في القاموس المحيط: ربّ جمع و زاد(7).
و الأصل الثاني: ربّى، يربّي بمعنى نشأ و ترعرع.
ص: 18
و عليه قول ابن الأعرابي(1):
فمن يك سائلا عني فإني بمكة منزلي و بها ربيت
و الأصل الثالث: ربّ يربّ بمعنى: أصلح، و ساس، ورعا، و تولى. و من هذا المعنى قول حسان بن ثابت(2) كما أورده ابن منظور(3) في لسان العرب:
و لأنت أحسن إذ برزت لنا يوم الخروج بساحة القصر
من درة بيضاء صافية مما تربّب حائر البحر
و قال: يعني الدرة التي يربيها في الصّدف في قعر الماء، و بيّن بأن معنى:
تربب حائر البحر: أي مما ربّبه و ترببه أي رباه مجتمع الماء في البحر.
قال: و رببت الأمر أربّه ربّا و ربابا: أصلحته و متّنته.
و قال: ربّ ولده و الصبي يربّه ربّا... وليّه حتى يفارق الطفولية.(4)
و يمكن استنباط مجموعة من العناصر من خلال هذه الأصول اللّغوية:
«أولها: المحافظة على فطرة الناشئ و رعايتها.
ثانيها: تنمية مواهبه و استعداداته كلها، و هي كثيرة متنوعة.
ثالثها: توجيه هذه الفطرة و هذه المواهب كلها نحو صلاحها و كمالها اللائق بها.
رابعها: التدرج في هذه العملية، و هو ما يشير إليه البيضاوي بقوله: (...
شيئا فشيئا) و الراغب بقوله: (حالا فحالا...)»(5).0.
ص: 19
للتربية في الاصطلاح تعريفات كثيرة، تتلاقى أو تتقارب في مضمونها، و لعل أكثرها وضوحا التعريفات الثلاثة الآتية:
«التربية عملية قصدية، يتمّ عن طريقها، توجيه الأفراد الإنسانيين، لنموّهم»(1).
و جاء في تعريف آخر للتربية بأنّها «العملية المقصودة أو غير المقصودة، التي اصطنعها المجتمع، لتنشئة الأجيال الجديدة، بما يسمح بتنمية طاقاتهم و إمكانياتهم إلى أقصى درجة ممكنة، ضمن إطار ثقافي معيّن، قوامه: المناهج، و الأفكار، و النظم التي يحددها المجتمع»(2).
و من أشمل التعريفات الواضحة التي تراعي التكامل بين الجانبين الفردي و الاجتماعي للشخصية الإنسانية، هو التعريف التالي: «التربية عملية تشكيل الشخصية السوية المتكاملة في جميع جوانبها روحيا و عقليا و وجدانيا و خلقيا و اجتماعيا و جسميا و القادرة على التكيف مع البيئة الاجتماعية و الطبيعية التي تعيش فيها»(3).
و المقصود من التربية الإسلامية أنّها: «تنشئة و تكوين إنسان مسلم متكامل من جميع نواحيه المختلفة من الناحية الصحيّة، و العقليّة، و الاعتقادية، و الروحية، و الأخلاقية، و الإداريّة، و الإبداعية في جميع مراحل نموه في ضوء المبادئ و القيم التي أتى بها الإسلام، و في ضوء أساليب التربية التي بيّنها»(4).
هذه التربية عملية مستمرة تمتد منذ طفولة الإنسان، و تستمر حتّى وفاته.
و ما دام الدين هو الحياة، فالتربية الإسلامية هي الحياة إذن، فهي لا تعني فقط الأخلاق أو العقائد أو العبادات، بل إنها تعني ما هو أعظم من هذا و أكبر،
ص: 20
بحيث يمكن القول «إن التربية الإسلامية تعني منهجا كاملا للحياة، و للنظام التعليمي بكامله، و مكوناته»(1).
تبرز أهمية التربية الإسلامية في الارتقاء بالإنسان نحو الكمال، «و هوية الأجيال المسلمة لا تشكّل إلاّ بهذه التربية عن طريق المفاهيم الإسلامية و القيم الأصيلة و الأفكار العملية الناضجة و الاتجاهات البنّاءة الصادقة بعد تجسيدها إلى سلوكيات و أعمال مفيدة»(2). فإننا بالتربية الإسلامية نحرر الإنسان من أن يكون عبدا لحاجاته و دوافعه و رغباته، و نربي فيه المعالي و الهمم التي تجعله متطلّعا للغايات الكبرى و الأهداف النبيلة، يحمل الخير و يسعى للخيرية، يحب الفضيلة و يتحلى بالفضائل، يتطهر من الرّذيلة و ينفر من الرّذائل، يسهم في تلبية حاجات الإنسانية في التّهذيب و السلوك السوي، و كذلك بالتربية الصالحة نحمي أمّتنا من أن تتربى على الفساد بكل أشكاله و التبعية بكل صورها، و نحميها من أن ينشأ فيها جيل ينتمي لغير أمته فكرا و سلوكا، و لا ينسجم مع البيئة الإسلامية التي نشأ فيها و تربى على أرضها.
مما لا شك فيه أن البشر متفاوتون متمايزون بعضهم من بعض، بحيث لا يتطابق اثنان منهم تطابقا كاملا.
و من المعلوم أن العلماء و المفكرين اتفقوا على أن الشخصية الإنسانية تتأثّر في تكوينها و تفاعلاتها المختلفة، بعاملين رئيسين هما: العامل الداخلي أو الذاتي الذي يعرف بعامل الوراثة، و العامل الخارجي أو المكتسب الذي يعرف بعامل البيئة.
«و يتضافر هذان العاملان، منذ اللحظة الأولى في حياة الفرد و حتى موته في تكوين شخصيته»(3).
ص: 21
عرف البشر تأثير الوراثة في النبات و الحيوان منذ زمن طويل، إذ اكتشفوا أن البذرة الجيدة الصفات تنتج نبتة قوية ترث عنها صفاتها العامة و خصائصها البيولوجية، و تعطي ثمارا صحيحة جيدة كذلك، و أن النبتة المريضة أو المصابة أو الضعيفة تنتج ما يتوافق مع صفاتها.
و الإنسان مثل بقية المخلوقات، يتأثر بالوراثة، إذن «لم تكن البشرية تجهل قانون الوراثة تماما فيما مضى، بل كانوا يجهلون خصوصياتها. إنّ علماء الماضي كانوا يعلمون أن في بذرة الزهرة و نواة الشجرة و نطفة الإنسان و الحيوان ذخائر تنقل صفات الأجيال السابقة للأجيال اللاحقة»(1).
و قد أقر الإسلام مبدأ الوراثة في خصائص الأفراد، فمسألة اختيار الزوج التي لفت إلى أهميتها تقوم على مبدأ الوراثة، على نحو ما بيّنه النبي صلّى اللّه عليه و سلّم في حديثه الشريف: «تخيّروا لنطفكم فإنّ العرق دسّاس»(2).
و الحديث يشير إلى أن أخلاق الآباء تنتقل إلى الأبناء بمعنى أنه في حال توافرت في الآباء صفات الصلاح و الفلاح و الأخلاق الفاضلة، و النزعات الكريمة و الميول الحسنة و النوايا الطيبة لا بدّ و أن يكون للطفل نصيب منها و هو في بطن أمه. و سيكون على عكس ذلك فيما لو طغت نزعات الشقاء على والديه.
أكد الباحثون المتخصصون على أهمية تأثير عامل البيئة في العملية التربوية، و تكوين شخصية الناشئين منذ فجر حياتهم الأولى.
إن الإنسان لا يخضع في سلوكه لتكوينه الداخلي فحسب، و إنما يخضع للعوامل الخارجية التي تتفاعل معه، و تؤثر فيه. و بذلك تطبع البيئة آثارها في دخائل النفس، و تكسبها الخلق و العادات.
البيئة الأولى للإنسان و هي رحم الأم، التي يحصل منها الجنين على مقومات بقائه. و لذا طلب الشارع من النساء تناول الغذاء الذي تتوافر فيه العناصر اللازمة
ص: 22
لتكوين الجنين و حمايته و اكتمال نموه. كما طلب من الأم أن تبقى بحالة نفسية هادئة، لأن «حالة الأم النفسية تؤثر على صحة الجنين كما تؤثر في نفسيته مستقبلا»(1).
و يتعرض الإنسان بعد ولادته للعديد من المؤثرات البيئية المختلفة، و هذه البيئة إمّا أن تكون طبيعية و إمّا اجتماعية:
فالبيئة الطبيعية و يقصد بها كل ما يحيط بالإنسان من الأمور المادية، تتمثل في المناخ و ما يشتمل عليه، الأرض ظاهرها و باطنها و موقع البلد و...، تؤثر في ألوان الناس و أجسامهم و عقولهم و أخلاقهم و عاداتهم، أما المجتمع البشري الذي يحيط بالإنسان و ما يربط بين أفراد هذا المجتمع من صفات مشتركة و علاقات متبادلة و عادات و تقاليد و نظم متبعة، كل ذلك يشكل البيئة الاجتماعية. فهي «تكوّن الميول العقلية و العاطفية في سلوك الأفراد إذ تدفعهم إلى ألوان من الأعمال تذكي فيهم ضروبا من البواعث»(2).
و لذلك حينما نتكلم عن البيئة الاجتماعية للطفل نقصد بها الأجواء الاجتماعية التي تحتضنه، و تؤثر في أدوار نموه و تكامله، كالعقائد و الأعراف و التقاليد و طريقة التفكير.
و الإنسان يمر ببيئات تربوية متعددة، ابتداء بالأسرة و مرورا بغيرها من الجماعات كجماعة اللعب و الجوار و المدرسة و العمل و غيرها، و في كل هذه المراحل يكون عرضة للمؤثرات المختلفة التي تشكل شخصيته وفق العادات و التقاليد التي تنسجم مع نظرة هذه الجماعات إلى الحياة. و يمكن تلخيص البيئة الاجتماعية بالمجالات الآتية:
- الأسرة.
- المدرسة.
- المجتمع.9.
ص: 23
فالأسرة تمثّل المدرسة الأولى لتشكيل و توجيه سلوك الفرد و عاداته و طبائعه.
«و يعتبر الأب و الأم القدوة المثلى للأبناء، يرون فيهما صورة الكمال و يقلدونهما و يحاكونهما في سلوكهما و تصرفاتهما، و يكتسبون بطريقة لا شعورية، كثيرا من القيم و المبادئ و المثل و الفضائل الأخلاقية، و ما يفتقر إليه الأبوان من السمات و الصفات الصالحة ينعكس في مفهوم الأبناء الأخلاقي»(1).
و لذلك قد أوصى الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم باختيار الزوجة الصالحة ذات الدين حتى تنشأ أولادها تنشئة صالحة، و تغرس في نفوسهم التمسك بالدين و مكارم الأخلاق. قال الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم: «تنكح المرأة لأربع: لمالها و لجسمها و لجمالها و لدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك»(2). و كذلك أوصى الرسول باختيار الزوج الصالح ذي الدين و الخلق الطيب فقال: «إذا خطب إليكم من توصون دينه و خلقه فزوّجوه إلاّ تفعلوا تكن فتنة في الأرض و فساد عريض»(3).
إن اهتمام الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم بتوجيه أصحابه إلى اختيار الزوج الصالح و الزوجة الصالحة إنما يدل على اهتمامه بتهيئة الجو الأسري الصالح للطفل لكي ينشأ نشأة سليمة صالحة، يتربى فيها تربية حسنة، و يتعلم فيها من والديه التعاليم الإسلامية الصحيحة، و العادات الحسنة، و الأخلاق الحميدة.
و بما أن الفرد «في هذه البيئة الاجتماعية الصغيرة يتلقّى أول إحساس بما يجب و ما لا يجب القيام به»(4)، فقد جعل الإسلام لها قيمة اجتماعية مفروضة، و شرع لها قوانين تضبطها و دعا إلى إنزال أشد العقوبات على من يتعدّى عليها، و ينتهك حرمتها.
إنّ المدرسة تتمم دور الأسرة في تربية الطفل، «فهي المكان الذي يمكن أن نساعد فيه الأطفال على تنمية عقولهم و حواسهم بطريقة منظمة و مخططة و منسقة، و ذلك بتهيئة الجو المناسب لهم من حيث حرية السؤال و التعبير عن الآراء
ص: 24
و المناقشة و الإفصاح عن آرائهم بما يتناسب مع مستواهم العقلي»(1).
و المعلّمون في المدارس ممثّلون للقيم، و إن كانوا يختلفون فيما بينهم، إلا أنهم يتشابهون فيما يجلّون من بعض قيم كقيمة النظام و المعرفة و احترام الكبير، من هنا فإن المعلم يحظى بالاحترام و التقدير في كثير من المجتمعات، نظرا للدور العظيم الذي يقوم به في تربية الناشئة.
و لذلك تؤدّي المدرسة دورا مهمّا في التربية، فالبيئة الاجتماعية فيها أوسع من بيئة المنزل و أكثر تنوّعا و أكثر ثراء فيما تقدّمه من خيرات في المجال التربوي.
المجتمع هو الدائرة الأوسع التي يعيش فيها الإنسان، يتأثر بما يسود فيها من قيم، و يؤثر فيها، يأخذ منها و يعطيها، يلهمها و يستلهم منها، نتيجة التفاعل الذي يحدث بينه و بين أفراد المجتمع.
ففيه تنشأ العلاقات بين الأفراد أو الجماعات، و يستطيع المجتمع بما يحمله من قيم و مبادئ أن يعطي الفرد القدرة على حسن التعامل مع الآخرين، و المشاركة في التفاعل الاجتماعي، و إحراز مكانة في الجماعة الذي ينتمي إليهم.
فإن المجتمع بهيئاته المختلفة: كالمؤسسات التعليمية و الثقافية، و الروابط الاجتماعية و المهنية و السياسية و غيرها ذو أثر كبير في سلوك الفرد و قيمه و اتجاهاته.
و قد عني الإسلام بصورة بالغة في أمر البيئة الخاصة، فلاحظ أهم جوانبها المؤثرة في انفعال الفرد و إكسابه العادات و الأخلاق، و منها «الصداقة»، فإنها من أقوى العوامل التربوية التي تنقل خلق كل واحد و اتجاهاته و ميوله إلى الآخر.
قال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل»(2).
و قد حث الإسلام بإصرار بالغ على مصاحبة الأخيار، و الملتزمين بدينهم، و مصاحبة ذوي الشرف و النبل و الاستقامة حتى يكتسب منهم حسن السلوك و مكارم الأخلاق، و محاسن الأعمال.
و حذّر من مصاحبة الأشخاص المصابين ببعض الأمراض النفسية و العاهات الأخلاقية.
و قال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «إنما مثل الجليس الصالح و الجليس السوء كحامل المسك
ص: 25
و نافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك و إما أن تبتاع منه، و إما أن تجد منه رائحة طيبة. و نافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، و إما أن تجد فيه ريحا خبيثة»(1).
و لذلك أجمع المعنيون في البحوث التربوية أن «المجتمع من أهم العوامل التي تعتمد عليه التربية و تستغله في تشكيل الشخصية الإنسانية و تحقيق رغبات الأفراد و الطبقات داخل النطاق الحضاري العام، كما تعمل على تحقيق درجة عالية من التكامل الاجتماعي، كما أنها في الوقت نفسه، تقلل من ظهور التوترات، و مظاهر السلوك المنحرف»(2).
إنّ التربية في الإسلام تعنى بإيصال الإنسان إلى أرقى صور الكمال الإنساني، لذا عرفت هذه التربية بأنها عملية مقصودة تهدف إلى تنشئة الإنسان الكامل. و يزداد الكمال الإنساني كلما ازدادت طاعته للّه سبحانه و تعالى، لذا فإن الهدف العام للتربية الإسلامية هو الإقرار بالعبودية للّه سبحانه و تعالى». و ليس أدل على ذلك من قول اللّه تعالى:
وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ (3) .
و هذا الهدف يتطلب تربية الإنسان على النحو الذي يمكنه تحقيق ذلك. «فإن التربية الإسلامية جزء لا يتجزأ من الإسلام نفسه، بل إن التربية الإسلامية يجب أن تكون انعكاسا و صورة واضحة للإسلام»(4) و هذا يعني بالضرورة أن تكون مصادر الإسلام هي مصادر التربية الإسلامية نفسها، و لها سمات خاصة تميّزها من سائر المناهج الوضعية. كما يلي:
لكل تربية مصادر تستقي منها النهج الذي تسير عليه في تصوراتها، و نقصد بالمصادر تلك الينابيع و الأصول التي تستند إليها التربية في محتواها و أهدافها و خصائصها، «و ما دمنا نقول تربية إسلامية، معنى ذلك أن مصدرها الإسلام الذي دستوره القرآن الكريم، و هو المصدر الأول، و المصدر الثاني هو السنّة النبويّة الشريفة الشارحة للقرآن، المبيّنة لمقاصده و المفصلة لأهدافه»(5).
ص: 26
و للقرآن الكريم وقع عظيم و أثر تربوي بالغ في نفوس المسلمين، و السر في ذلك أنّ له أسلوبا رائعا و مزايا فريدة في تربية الإنسان على الإيمان بوحدانية اللّه و باليوم الآخر.
و هكذا السّنة المطهّرة، لأن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم كان نموذجا تربويا كاملا للإنسان، فهو مربّ عظيم ذو أسلوب تربوي فذّ يسمو بالفرد و ينهض بالمجتمع. على هذا فإن القرآن الكريم و السنّة النبويّة ينطويان على أصول تربوية تشكل أسس التصور الإسلامي للتربية كما يلي:
إن أعظم و أهم مصدر تربوي في حياة المسلم هو القرآن الكريم، و لا غرو في ذلك، فهو كلام الخالق - سبحانه و تعالى - إلى خلقه، و هو الأدرى و الأعلم بهذا الخلق، و بما يحتاج إليه، و بما يفيده أو يضرّه؛ لقوله تعالى:
أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (1) .
و ممّا يدعو إلى الدهشة أن أول ما نزل من القرآن الكريم آيات تربوية حيث قال جل من قائل:
اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ * اِقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ * اَلَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (2) .
كما أقسم - تعالى - أحد عشر قسما أن النفس الإنسانية قابلة للتربية(3) و التزكية و التسامي.
فإن آيات القرآن هي المتكفلة بهداية البشر و تربيتهم في جميع شؤونهم و أطوارهم، في أجيالهم و أدوارهم، و إذا ما نظرنا إلى الأسلوب القرآني من الوجهة التربوية، نجد ثمة المنهج التربوي القرآني الأصلح في مناهج التربية التي عرفتها البشرية، و التي تحقق انسانية الإنسان، لما له من أثر عظيم في إصلاح الفرد و الجماعة، و تربية الناشئة على القيم و الأخلاق.
السنّة بالإجماع هي «ما أضيف إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم من قول أو فعل أو تقرير أو وصف
ص: 27
خلقي أو خلقي(1). و قد أمر اللّه تعالى في كتابه العزيز بإطاعة الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم في كل أمور الحياة بقوله تعالى:
وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (2) .
فالسّنة النبوية هي المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي، و هي تمثل - في الوقت نفسه - مصدرا رئيسا من مصادر التربية الإسلامية، و لما كان القرآن الكريم دستورا يعالج كل أمور الحياة و قضايا الإنسان، و يتناول أصول التشريع فقد وكّل اللّه عز و جل إلى رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم مهمة إيضاح هذه الأصول، من بيان حكمة التنزيل في كل أمر من الأمور، و تفصيل الأوامر و النواهي التي جاءت عامة في القرآن الكريم، كما ورد في قوله - تعالى -:
وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (3) .
و كذلك تتناول السّنة بيان تشريعات و آداب أخرى كما ورد في قول الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم:
«ألا و إني أوتيت الكتاب و مثله معه»(4). فكل ما جاء به الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم من أمور الدين ليس من لدنه و إنما هو بوحي من اللّه تعالى:
وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى (5) .
و لذلك يعتبر تطبيقا عمليّا لبناء مجتمع إسلامي متكامل، وفق التربية الربانية، و تحديدا للمثل الإسلامي الأعلى للحياة الذي يستهدفه، و ما يجب أن يسود فيه علاقات، و أساليب التعامل التي ترتقي به.
و قد بذل رسولنا الكريم صلّى اللّه عليه و سلّم جهدا كبيرا في بناء النفس البشرية، و يمثل الجانب التربوي محورا من أهم المحاور في رسالته، و من يدرس شخصيته صلّى اللّه عليه و سلّم فسوف يجده مربيا عظيما ذا أسلوب تربوي فريد.
و لذلك كان «للسّنة النبوية في المجال التربوي فائدتان عظيمتان:
أ - إيضاح المنهج التربوي الإسلامي المتكامل الوارد في القرآن الكريم و بيان التفاصيل التي لم ترد في القرآن الكريم.
ب - استنباط أسلوب تربوي من حياة الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم مع أصحابه، و معاملته الأولاد، و غرسه الإيمان في النفوس»(6).5.
ص: 28
جدير بالذكر إن الأمر الذي يجب أن لا نغفل عنه أنّ التراث التربوي الإسلامي زاخر بآراء و أفكار تربوية الّتي خلّفها علماؤنا السلف بجهودهم على امتداد قرون فعلينا الرجوع إلى هذا التراث لكونه إحدى المصادر في بيان معالم النظرية التربوية الإسلامية.
إن التصور الإسلامي للكون و الإنسان و المجتمع ينعكس بوضوح على التربية الإسلامية و لذلك تشتمل هذه التربية جملة من الخصائص، و المميزات، و السمات التي تختص بها عملية التربية في الإسلام دون سواها. لأن «طريقة الإسلام في التربية فهي معالجة للكائن البشري كلّه، معالجة شاملة لا تترك منه شيئا و لا تغفل عن شيء»(1).
فهي تربية صالحة لكل إنسان في كل مجتمع إنساني، و في كل زمان و مكان. إنها تتصف بالرفعة و السمو و تتمشّى مع فطرة الإنسان، «التي خلقه اللّه عليها لا تغفل شيئا من هذه الفطرة، و لا تفرض عليها شيئا ليس في تركيبها الأصيل»(2).
و فيما يلي نستعرض أهم تلك الخصائص و المميزات التي تنفرد بها التربية الإسلامية عما عداها:
التربية الإسلامية تربية إلهية تستند إلى القرآن الكريم و السّنة النبوية الشريفة، و هما مصدران موحى بهما من عند اللّه تعالى، فهي تربية ربانية، كونها من عند رب العالمين.
و الوصف بالإلهية يقابله الوضعية التي يضعها البشر من عند أنفسهم، و هو الواقع الذي ينطبق على كافة الأنماط التربوية خلا التربية الإسلامية، و شتان بين تربية وضعها البشر، و تربية وضعها ربّ العالمين الذي خلقهم، و هو أعلم بهم من أنفسهم.
و التربية الإسلامية ترتكز على غائية الخلق و الوجود و المصير الإنساني، وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ و مهما طالت الحياة بالإنسان، فإن مصيره الموت، من هنا فإن «التربية القرآنية تجعل غايتها الخيرة، و هدفها البعيد، حسن الصلة باللّه تبارك و تعالى و الحصول على مرضاته، فهذه هي غاية القرآن، و هي غاية الإنسان المسلم»(3).
التربية الإسلامية تنظر إلى الإنسان نظرة متكاملة تشمل كل جوانب الشخصية، فهي تربية للجسم و الروح و العقل معا.
ص: 29
و كل هذه الجوانب تؤثر سلبا أو إيجابا في الجانب الآخر، و تتأثر به. فالرسول الكريم صلّى اللّه عليه و سلّم يقول: «ألا و إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، و اذا فسدت فسد الجسد كله، ألا و هي القلب»(1).
و أكّد الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم على أهمية الجسم في التربية الإسلامية فقال: «إن لبدنك عليك حقا... فاعط كل ذي حق حقه»(2).
و التربية الإسلامية تعنى بالعقل عنايتها بالجسم و الروح، و لذا «تخاطب العقل، و تحتكم إليه، و الإسلام دين العقل و النظر و التفكير و التأمل و يحتل العقل فيه مكانا هاما.. فهو أساس التكليف و الاختيار و الحساب»(3).
و هكذا التربية الإسلامية ترقّي الروح بالإيمان و العبادة، و تنمّي العقل بالتعلّم و الكسب المتواصل للمعارف و التدبر في آيات اللّه في الكون، و تقوّي البدن بتلبية مطالبه المادية المشروعة، على أساس من التوازن.
تعمل التربية الإسلامية على تحقيق المتطلبات المتوازنة بين الأطراف المتضادة في حياة الإنسان، فلا ينفرد أحدها بالتأثير، و يطرد الطرف المقابل، و معنى هذا أنّها تعطي كل شيء حجمه المناسب «فالتوازن في نظر الإسلام، شامل يشمل كل نشاط الإنسان، فهو توازن بين طاقة الجسم، و طاقة العقل، و طاقة الروح. توازن بين ماديات الإنسان و معنوياته، توازن بين النزعة الفردية و النزعة الجماعية... توازن في كل شيء في الحياة»(4).
و هذه الخاصية ملازمة لخاصية التكامل و الشمول، و هو في التصور الإسلامي متوازن أيضا «و قد صانته هذه الخاصية الفريدة من الاندفاعات هنا و هناك و الغلو هنا و هناك، و التصادم هنا و هناك، لأنّ هذه الآفات لم يسلم منها أي تصور آخر»(5).
فالتربية الإسلامية تستهدف الجمع بين حسنتي الدنيا و الآخرة للإنسان، و هي لا ترى هناك تعارضا أو تناقضا بين الدين و الدنيا إذا فهم الإنسان الصلة الوثيقة بينهما على الوجه السليم، قال جل جلاله:
ص: 30
وَ ابْتَغِ فِيما آتاكَ اللّهُ الدّارَ الْآخِرَةَ وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا (1) .
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته، و لا آخرته لدنياه، حتى يصيب منهما جميعا، فإن الدنيا بلاغ للآخرة»(2).
على هذا فإنّ التربية الإسلامية ليست مادية بحتة، و لا روحانية خالصة، تخالف الطبع و تقطع عن العمل.
فهي تهذّب الفرد تهذيبا ذاتيا، كما تهذّبه تهذيبا اجتماعيا تجعله يشعر بانتمائه إلى المجتمع الذي يعيش فيه، و بقيمة أخيه المسلم؛ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «فالمسلم أخو المسلم لا يظلمه و لا يخذله و لا يكذبه و لا يحقره»(3).
كما قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»(4).
التربية الإسلامية تربية وسطية تنظر إلى الأمور نظرة وسطية، و تحافظ على مبدأ الاعتدال في الشخصية الإسلامية، حتى في الأمر الواحد؛ فعلى سبيل المثال: قال سبحانه: وَ الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (5)
و قال عزّ و جلّ:
وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (6) .
هذه هي أبرز سمات التربية الإسلامية المتوازنة التي تضع لكل شيء حده، و تحسب لكل أمر قدره حتى لا تختل الموازين و تضطرب أمور الحياة.
فإن خاصية «الاعتدال» تجعل المجتمع الإسلامي مجتمعا إنسانيّا «وسطا»، لا يسرف في أموره، و لا يفرط فيها، قال تعالى:
وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً (7) .
و لا جرم أن مبدأ الوسطية هو الذي جعل الأمة الإسلامية تمتاز عن غيرها من الأمم، و ما أصابها من تردّ و نكوص على الأعقاب إنما أصابها بسبب اتباع أبنائها سبيل الإفراط و التفريط، فضلا عن بعض العوامل الأخرى التي ليس ههنا محل لمناقشتها.
ص: 31
خاصية التطبيق من أهم خصائص التربية الإسلامية لأنّ هذه التربية لا تقتصر على النصح و الموعظة و التوجيه و الإرشاد النظري، بل تهتم بتطبيق التعاليم و التوجيهات الدينية و المبادىء و القيم الخلقية، في الحياة الإنسانية، و تجسدها في الواقع، و لذا تربط بشكل متكامل بين الإيمان و العمل، و العقيدة و السلوك، و النية و التنفيذ، و القول و الفعل، و النظرية و التطبيق. «و إذا نظرنا إلى الأركان الرئيسة الخمسة التي بني عليها الإسلام نجد أنّها تتطلب سلوكا عمليا؛ فالشهادة بوحدانية اللّه و نبوة رسوله محمد صلّى اللّه عليه و سلّم و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة و الحج و صوم شهر رمضان كلّها تتطلب سلوكا عمليا»(1).
و بمعنى آخر فإنها ترى «أن الإيمان إذا لم ينعكس في العمل فهو إيمان عليل ناقص، و أن العمل إذا لم يتجسد و يستهد بالإيمان فهو عمل مادي زائف، و أن مبادىء الأخلاق إذا لم تنعكس في السلوك فهي شعارات جوفاء. و أن السلوك إذا لم يجسد القيم و الفضائل فهو سلوك أعمى غاشم»(2).
و لذلك نجد في كتاب اللّه تعالى الكثير من الآيات التي تربط الإيمان و العقيدة بالعمل و السلوك.
* لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ الْكِتابِ وَ النَّبِيِّينَ وَ آتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ السّائِلِينَ وَ فِي الرِّقابِ وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ الصّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَ الضَّرّاءِ وَ حِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (3) .
«فالإسلام ينظر إلى الإيمان على أنّه ما قرّ في القلب و نطق به اللسان و صدقه العمل، فالعمل إذن ثمرة المعرفة و العلم، و لا قيمة لمعرفة أو علم لا يستفاد منه بالعمل، و من تمام كمال الإنسان المسلم أن تتطابق أقواله مع أفعاله»(4).
قال جل جلاله:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (5) .
ص: 32
أما بالنسبة للسّنة النبوية المطهرة، فهي في جوهرها و حقيقتها ربط حي فعال للعقيدة بالعمل، و للدين بالأخلاق، و للتعاليم النظرية بالتطبيقات الواقعية المعاشة في الحياة الإنسانية. قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «المسلم من سلم الناس من لسانه و يده.
و المهاجر من هجر ما نهى اللّه عنه»(1).
على صعيد آخر «تشمل التربية العملية التربية المهنية التي تمثل قيمة العمل النافع في الحياة، و الذي يتضمن المعرفة على تسخير ظواهر الكون و الاستفادة من الأرض الطيبة المعطاء، و تصنيع مواردها و ثرواتها و خاماتها فيما ينفع الفرد و المجتمع و الإنسانية جمعاء»(2).
فالإسلام يفترض في كل فرد أن تكون له مهنة يعتاش منها، و يحث الرسول الكريم على احترام العمل و السعي إليه، فيقول: «ما أكل أحد طعاما قط، خيرا من أن يأكل من عمل يده، و إن نبي اللّه داود - عليه السّلام - كان يأكل من عمل يده»(3).
و لذلك تحرص التربية الإسلامية على توجيه الفرد إلى الاهتمام بوقته، و عدم تضييعه سدى في اللّهو و العبث، بل يجب عليه أن يستغلّه في تنمية مواهبه و ميوله و هواياته بما يعود عليه و على مجتمعه بالفائدة المرجوة.
إنّ التربية الإسلامية لا تنتهي عند مرحلة معينة، إنّما تمتدّ على طول حياة الإنسان كلها.
فهي «كعملية تنشئة و تكوين للأجيال الصاعدة تتميز عن سواها، بخاصية - الاستمرار - و الثبات المستمدة من ثبات شرع اللّه تعالى و استمراره إلى أن يرث اللّه الأرض و من عليها. و لا شك أن قواعد الإيمان و العبادة و الأخلاق و السلوك هي قواعد ثابتة مستمرة خالدة لارتباطها بالمنهج الرباني الذي لا يداخله ضلال، و لا يلابسه ريب»(4).
على هذا تتصف التربية في الإسلام بالدوام و الاستمرار، حيث تبدأ من المهد، فما أن يخرج المولود إلى الدنيا حتى يحنّك و يؤذّن في أذنه اليمنى، و تقام الصلاة في أذنه اليسرى، إلى غير ذلك مما ينبغي الشروع فيه من الأحكام الخاصة بالمولود،
ص: 33
و تستمر التربية بحسب الأحكام الشرعية المتعلقة بالرضيع و الصبي و اليافع الشاب، و الراشد و الرجل و الكهل و العجوز بحيث لا تنتهي إجراءات التربية الإسلامية و أحكامها الشرعية إلا عند ما يصير الإنسان إلى اللحد.
فالفرائض و العبادات إن هي في حقيقتها إلا تربية مستمرة متصلة بالإنسان، طيلة حياته، تزكي روحه، و ترقي نفسه، و تقوّم خلقه، و تهذب سلوكه، على مدار الأيام و الأسابيع و الأشهر و الأعوام، بلا انقطاع؛ و ذلك لأن الإنسان يمر بتربية يومية بالصلوات الخمس، و تربية أسبوعية بصلاة الجمعة، و تربية شهرية بصوم النوافل، و تربية سنوية بصوم شهر مضان، و صلاة العيدين.
و لكن لا بدّ من الإشارة هنا إلى أن الذي يتولى مراقبة السلوك و تقويمه بعد البلوغ عند الفرد إنما هو الفرد نفسه، قال سبحانه و تعالى: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (1)، و قال سبحانه و تعالى: وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوّامَةِ (2)، و النفس اللوامة نفس حميدة تلوم صاحبها على فعل الذميم من السلوك، و هذا مفهوم المراقبة و تقويم الذات، و هو من أبرز عناصر التربية المستدامة في التربية الإسلامية، و من هنا تتراءى أهمية التقوى في حياة الفرد المسلم، حيث يظل على أساس هذا المعيار في مراقبة مستمرة لسلوكه و حركاته و سكناته، حتى إذا ما شعر بأنه قد انحرف عاد إلى الجادّة من جديد.
مما لا شك فيه أنّ خاصية «التيسير» من أهم خصائص التربية الإسلامية المتمشية مع الفطرة البشرية و القدرة الإنسانية، بحيث لا يكلف الإنسان إلا بما يدخل في نطاق استطاعته و قدرته و احتماله: من تكاليف دينية أو واجبات دنيوية، على حدّ سواء.
و بهذه الخاصية الإيجابية تجنّب التربية الإسلامية الإنسان المشقة و العنت، و الضيق و الحرج، و لا تحمله من الأمور إلا بما يكون في وسعه، و استطاعته. و قال تعالى: يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ (3).
و عن أنس بن مالك، قال: قال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «يسّروا و لا تعسّروا و بشّروا و لا تنفّروا»(4).
و عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: «ما خيّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بين أمرين قط، إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه»(5).
ص: 34
و من الجدير بالذكر أنّ «خاصية التيسير في التربية الإسلامية، لا تعني أنها تربية تتساهل في أمور الإيمان و العقيدة، و العبادة و الأخلاق، فهي لا تسمح بالتعدي على حدود اللّه تعالى و انتهاك حرمات الدين، و لا العبث بمبادىء الأخلاق و فضائل الآداب.
و هي - و إن كانت ترفع الحرج في الضرورات و المشقات - فإنها تسد الذرائع، و تقطع السبل في وجه انتشار الضلال الديني و الفساد الخلقي و التحلل الاجتماعي، و تؤكد على ضرورة اتقاء الشبهات و ترك ما يريب إلى ما لا يريب»(1).
تعتبر التربية الإسلامية تربية عالمية؛ قال عزّ و جلّ: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ (2). و قال تبارك و تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً (3)، فإنّ الإسلام رسالة عالمية جاءت للناس كافة، و غاية الرسالة لا تتحقق إلا بتغيير معتقدات الناس و سلوكهم إلى معتقدات و أنماط سلوك إسلامية، و هذا لا يمكن الوصول إليه إلا بالتربية، و عالمية الرسالة الإسلامية تعني أيضا عالمية التربية الإسلامية، و هي موجهة إلى الناس جميعا، و ليست مختصة بقوم دون قوم، أو جنس دون جنس، أو لون دون لون، أو فئة دون فئة، فلا تلمح فيها أثرا قوميّا، أو عنصريّا، أو نحوهما البتة، لذلك قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، و بعثت إلى الناس كافة»(4).
فهي تربية يتساوى فيها الجميع، و التفاضل بينهم يكون بالتقوى و الإيمان لا بالحسب و النسب و الجاه.
و من جانب آخر فإن التربية القائمة على هذا الدين الحنيف تربية خالدة، تصلح لكل زمان و مكان؛ لأنها تنبثق من قواعد و قيم شرعية تعالج الإنسان بوصفه إنسانا، لا تتغير، و لا تختلف من زمن، إلى زمن، أو من مكان إلى مكان، كما أن «قيم الإسلام قواعد ثابتة، فالصدق قيمة خلقية سامية لا يمكن أن يتطور ليصبح خلقا ذميما، و كذلك الأمانة و الاستقامة، و العدل، و التواضع هي قيم أخلاقية، يسعى الإسلام إلى تحقيقها لدى أبنائه بالتربية الإسلامية، كما لا يمكن أن يصبح الكذب قيمة خلقية سامية، و لا الزنا، و لا القمار و الغيبة، و لا شيء من ذلك، و هذه بجملتها ترتكز على قواعد شرعية ثابتة، تعالج كافة المتغيرات، و تعطي حلولا لكل البدائل المحتملة»(5)، لأن الإسلام
ص: 35
دين الحياة و الدين الخاتم قال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الْإِسْلامُ (1).
و قال عزّ و جلّ: وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (2).
إن تحديد الهدف أمر أساس في كل عمل، و بعد أن يتم توضيحه، و توجد القناعة بأهميته يرسم الطريق المؤدي إليه، و يبدأ السير عليه، و دون ذلك تضيع الجهود و تتعثر الخطوات، و يصبح المرء كمن يدور في حلقة مفرغة، فيثّاقل إلى الأرض، و لا يرغب في القيام بأي جهد.
و الوسائل هي أداتنا الوحيدة لتحقيق ما نؤمن به من الأهداف، و ينبغي العناية الكاملة بها، و التدقيق في بحثها و اختيارها، إذ الوسيلة الفاسدة تضيّع الهدف الصالح و تحيد عن الطريق. «و حين يتم تحديد هدف التربية بشكل صحيح، و يكون هذا الهدف واضحا للمربين، و مقبولا من الذين يعملون في حقلها و يتأثرون بها، و توضع الوسائل المؤدية إليه، و يبدأ العمل بأساليب محكمة، فإن التربية تؤتي ثمارها، و تصبح ذات أثر كبير في رقي الأمة و ازدهار المجتمع»(3).
و من ثم فالوسائل و الأهداف عنصران أساسيان من عناصر المنهج التربوي، و لا تفترق، و لا يمكن تقويم الهدف من غير الوسيلة التي تؤدي إلى تحقيقه، و لا يمكن تقويم الوسائل بمعزل عن الأهداف. و للتربية الإسلامية أهداف سامية جدا، تستهدف تحقيقها، كما لها أساليب خاصة سامية أيضا لتحقيق هذه الأهداف.
تمتاز أهداف التربية الإسلامية عن غيرها من الأهداف تبعا لتميز نظرة الإسلام للّه و الإنسان و الكون و المجتمع و الحياة الآخرة. و هذه الأهداف هي القاعدة الأساسية في بناء الفرد و المجتمع و الحضارة و الدولة الإسلامية. و قد صرح القرآن الكريم بأن الهدف الأساس لوجود الإنسان في الكون هو عبادة اللّه و الخضوع له في قوله تعالى:
وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ (4) .
«و مفهوم العبادة في الإسلام مفهوم واسع شامل، لا يقتصر على أداء الشعائر
ص: 36
التعبدية فحسب، بل يشمل نشاط الإنسان كله من اعتقاد و فكر و شعور و تصور و عمل ما دام الإنسان يتوجه بهذا النشاط إلى اللّه، و يلتزم فيه شرعه، و يسير على منهجه»(1). و اذا كانت هذه مهمّة الإنسان في الحياة فإنّ تربيته يجب أن يكون لها الهدف نفسه.
فنرى أن التربية الإسلامية تهدف إلى «تنمية الإنسان العابد الصالح و ينطوي تحت هذا الهدف مجموعة من الأهداف الخاصة التي تجعل من الإنسان هدفا في حد ذاته، و هي علامات في طريقه إلى الهدف الأعلى من التربية الإسلامية»(2). و هذا الإنسان لبنة صالحة لبناء المجتمع الصالح الذي تحكمه خشية اللّه و تقواه، و بصلاحه يصلح المجتمع المسلم.
و على هذا «فإن التربية الإسلامية نظام متكامل لبناء شخصية الإنسان المسلم في ذاته و في مجتمعه، و من ثم فهي وسيلة لإيجاد مجتمع خيّر فاضل قدر المستطاع»(3)و لذلك «تكون الغاية النهائية لهذه التربية هي تحقيق العبودية للّه في حياة الإنسان الفردية و الجماعية»(4).
نستنتج ممّا سبق أن الهدف الثاني للتربية الإسلامية هو إيجاد الأمة الرائدة، لتأخذ دورها بين الأمم و تحمل راية التوحيد إلى الأمم جميعا تأمر بالمعروف، و تنهى عن المنكر، و تدعو إلى الخير امتثالا لقوله تعالى:
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ (5) .
أمة يسعى كل فرد فيها إلى قضاء حوائج أخيه، و يطمع أن يتحقق فيه قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «من كان في حاجة أخيه كان اللّه في حاجته و من فرّج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج اللّه عنه بها كربة من كرب يوم القيامة»(6).
فهي أمة يتعاون فيها الجميع، و الذكور و الإناث، و الكبار و الصغار، لتنفيذ شرع اللّه تعالى و هداية البشرية إلى الصراط المستقيم.
إذا كانت التربية الإسلامية تتميز بالشمول و التكامل، فإن أساليبها تتميز كذلك
ص: 37
بالتعدد و التنوع في شمول معجز و تكامل دقيق و توازن محكم.
و لو اتجه المتخصصون إلى استعراض آيات القرآن الكريم، و فهمها، لخلصوا منها إلى صور عديدة مشرقة لأساليب هذا النهج الرباني في التربية، الذي يتميز باتزان محكم دقيق. فكيف لا و هو من اللّه خالق الإنسان و مبدع الوجود!
فنعرض لأهمّ الأساليب في حدود ما يشير إليه القرآن الكريم:
من الأساليب المعروفة في التربية الإسلامية، الموعظة و النصح «ففي النفس الإنسانية دوافع فطرية في حاجة دائمة للتوجيه و التهذيب، و لا بد في هذا من الموعظة»(1).
فالموعظة المؤثرة تفتح طريقها إلى النفس مباشرة عن طريق الوجدان كما نرى أمر اللّه تبارك و تعالى رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم في طريق الدعوة: اُدْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (2).
لا شك أن «الإنسان قد يصغي و يرغب في سماع النصح من محبّيه و ناصحيه، فالنصح و الموعظة يصبحان في هذه الحالة ذا تأثير بليغ في نفس المخاطب، و لا سيما حين يكونان صادرين عن محبة و من القلب إلى القلب و ما لم يكن الوعظ صادرا من القلب إلى القلب فتأثيره يكون ضعيفا أو معدوما تقريبا»(3).
و نرى كثيرا من النصائح و المواعظ القيّمة في القرآن الكريم، و هو الذي وصف بأنه جاء موعظة للناس. كما قال تعالى:
يا أَيُّهَا النّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (4) .
و خير مثال على ذلك من كتاب اللّه ما جاء في موعظة لقمان لابنه، و هو ينهاه عن الشرك، و يأمره بالصلاة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و يأمره بمكارم الأخلاق.
قال اللّه تعالى:
وَ إِذْ قالَ لُقْمانُ لاِبْنِهِ وَ هُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (5) . و يقول
ص: 38
اللّه تعالى: * إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (1).
فنرى «معظم المواعظ القرآنية تدور حول تربية الإنسان عقليا و سلوكيا، و من ثم تأتي أهمية هذه الطريقة العظيمة من طرق التربية الإسلامية لتكوين و تنشئة و إعداد المسلم العابد الصالح بحيث يكون سلوكه صائبا في معتقده و دينه و عقله و علمه و هذا هو هدف الموعظة كما جاءت في القرآن الكريم»(2). و هو الأمر الذي يهدف إليه الكتاب العزيز بالجملة.
ترى التربية الإسلامية تقديم القدوة من وسائل التربية، و هو أقوى تأثيرا من التوجيه بالوعظ و القول، فلا فائدة ترجى من قول لا يترجم إلى عمل، لأنّ المربي حين يعطي القدوة، ينبغي ألا يثير التناقض بين ما يأمر به و بين ما يترجمه إلى سلوك.
«و الفرد في تربيته لا بدّ له من قدوة تتمثل في والديه و معلميه و المحيطين به، لكي يتشرب قيم مجتمعه و آدابه عن طريق هذه القدوة، فهي التي تجعل الصور الذهنية لتلك القيم و المبادىء المثالية معروضة عرضا واقعيا أمام عينيه»(3).
فالطفل منذ ولادته يكتسب ألوان السلوك بتقليده للآخرين و محاكاتهم، و يتوقف ما يكتسبه الطفل من عادات مرغوب فيها أو غير مرغوب فيها على نوع القدوة التي تأثر بها في حياته التربوية.
و القرآن يؤكد أهمية القدوة في تقرير مصير الإنسان تأكيدا قويا، و هو يدعو المسلمين لأن يدرسوا سيرة الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم فيتخذوها قدوة لهم، قال تعالى:
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ (4) .
و حقا «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أكبر قدوة للبشرية في تاريخها الطويل، و كان مربيا و هاديا بسلوكه الشخصي قبل أن يكون بالكلام الذي ينطق به»(5).
و لقد كان لهذه الطريقة أثر عميق في تعليم المسلمين و تثقيفهم و تغيير اتجاهاتهم و تعديل سلوكهم و الأخذ بيدهم نحو بناء الشخصية الإسلامية و المجتمع الإسلامي.
ص: 39
القصة من أكثر أساليب التربية فعالية، و هي وسيلة مشوقة للصغار و الكبار، تحدث أثرها في النفس مع الشعور بالمتعة، و تجعل الإنسان ينجذب إليها و ينتبه إلى أحداثها، و لا يشرد بذهنه عمن يربيه. «و الإسلام يدرك هذا الميل الفطري إلى القصة، و يدرك ما لها من تأثير ساحر على القلوب فيستغلها لتكون وسيلة من وسائل التربية و التقويم»(1).
و القرآن يستخدم القصة لجميع أنواع التربية و التوجيه، قال اللّه تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَ إِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (2).
فإذا صدرت القصة عن الحكيم الخبير العليم ببواطن النفس، و بما يصلحها و بكيفية إصلاحها آتت ثمارها يانعة، و حققت الغاية منها، و كانت قصص القرآن الكريم طويلة حينا و قصيرة أحيانا. و هي كل مرة تقع في القمة من البلاغة و الأسلوب البياني و من الناحية الأدبية و الفنية و بالنظر إلى مغزاها و آثارها التربوية.
إن الحكماء و المربين ليستنبطون العبر ممّا في القرآن من قصص الأنبياء و غيرهم، و يجعلونها وسيلة من وسائل التربية القويمة كما قال اللّه تعالى:
لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَ لكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) .
مصطلح الترغيب و الترهيب يطلق عند المربين المسلمين على الوسائل الدافعة لفعل الشيء، أو المانعة من فعله، و هذا الأسلوب من الأساليب التي لا يستغني عنها المربي في كل زمان و مكان. «و يتمشى مع طبيعة الإنسان حيثما كان، و أيّا كان جنسه أو لونه أو عقيدته، فالإنسان يتحكم في سلوكه، و يعدل فيه بمقدار معرفته بالنتائج الضارة أو النافعة، و السارة أو المؤلمة التي تترتب على عمله و سلوكه»(4).
و التربية الإسلامية تستخدم أسلوب الترغيب و الترهيب، لما له من أهمية بالغة في التنشئة الصالحة لأبنائنا؛ لأنّ «الإنسان يولد و فيه استعداد الخوف و الرجاء متجاورين..
ص: 40
و ينمو الطفل و معه هذان الخطان، هما هما، في تقابلهما و ازدواجهما يحددان له مشاعر الحياة و اتجاهاتها و الطفل على قدر ما يخاف، و على نوع ما يرجو، يوفق بين سلوكه و بين ما يرجو و ما يخاف»(1).
فأسلوب القرآن الكريم في تصوير الجنة بخيرها و نعيمها، و النار بأهوالها و عذابها إنما هو أسلوب مناسب لطبيعة الإنسان التي تسعى دائما وراء المنفعة، و تبتعد ما أمكن عن المضرة.
قال تعالى: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (2).
و في الدنيا وعد اللّه المتقين المتوكلين عليه بالفرج و العون و الرزق الوفير.
قال تعالى:
وَ مَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللّهُ لِكُلِّ شَيْ ءٍ قَدْراً (3) .
و قد حذّر القرآن الناس من غضب اللّه و نقمته إن هم عصوه و كفروا به.
قال تعالى:
أَ فَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (4) .
كما حذرهم من عذابه في الدار الآخرة. قال تعالى:
وَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَ لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (5) .
من أساليب التربية الإسلامية التي تؤثّر تأثيرا فعّالا في سلوك الأفراد ضرب الأمثال و استعمال التشبيهات لتوضيح المعاني المجردة، «و يؤدي تشبيه هذه المعاني الذهنية بالأشياء الحسية الملموسة إلى وضوحها، و يؤدي ضرب الأمثال إلى تقريب الأفكار من العقل و جعلها مفهومة، كما يؤدي التشبيه و التمثيل إلى إدراك المعنى و تكوين صورة له
ص: 41
في المخيلة، و يجعل التأثير بتلك الصورة أشد من الأفكار المجردة، إضافة إلى ما في التصوير و التشخيص الحي من الإثارة و المتعة»(1).
و قد أشار القرآن الكريم الى استخدام هذا الأسلوب من أساليب التربية بقوله:
وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ وَ ما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (2) . ذلك لأن «الأمثال أوقع في النفس و أبلغ في الوعظ و أقوى في الزجر و أقوم في الإقناع»(3).
و قد كثر الاعتماد على هذا الأسلوب في القرآن الكريم، حتى ضربت فيه الأمثال بكثير من الأشياء الصغيرة و بعض الحشرات الحقيرة.
قال تعالى:
* إِنَّ اللّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (4) .
و في الحقيقة «إذا كان الغرض التأثير، فالبلاغة تقضي بأن تضرب الأمثال لما يراد تحقيره و التنفير عنه، بحال الأشياء التي جرى العرف بتحقيرها و اعتادت النفوس النفور منها»(5).
و من ذلك أن اللّه سبحانه و تعالى شبّه ضلال المشركين و ضعف أوليائهم الذين يلجؤون إليهم من دون اللّه بالأنسجة التي تنسجها العنكبوت لقنص فريستها، فقال:
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَ إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (6) .
و أخبر اللّه تعالى عن إحباط أعمال الكافرين بقوله:
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمّا كَسَبُوا عَلى شَيْ ءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (7) . «فكما أن الريح الشديدة و العاصفة القوية تبعثر الرماد، و لا تبقي منه شيئا، فإن أعمال الكافرين تتبدّد فتصبح هباء منثورا، و لا ينفعهم شيء ممّا عملوه و كسبوه؛ لأنهم لم يجعلوه خالصا لوجه اللّه»(8).8.
ص: 42
و شبّه مضاعفة ثواب الذين ينفقون أموالهم في سبيله بالحبة التي أنبتت سنابل كثيرة في كل منها حبات عديدة، فقال:
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَ اللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (1) .
إنّ التربية الإسلامية ليست تربية نظرية «و لا تكتفي بالقول و إنما تتعداه إلى الممارسة و العمل، لأنّ من تمام كمال الإنسان المسلم أن تتطابق أقواله و أفعاله»(2)، فتكوين الأخلاق الفاضلة لا يتم بالوعظ فقط و لا بالحفظ وحده، و لا بالاقتناع العقلي بمفرده بل يحتاج إلى ممارسة فعلية يقوم بها الإنسان حتى يتعود هذه الأخلاق الفاضلة فتصبح جزءا من كيانه و لا يطمئن قلبه بغيرها و لا يرتاح ضميره إذا خرج عنها.
فالإسلام دعوة إلى العمل كما أنّ التفاضل بين المسلمين تفاضل بالأعمال الصالحة و الخالصة لوجه اللّه تعالى.
و لقد اعتمد هذا الدين على التربية بالعمل من أول الدعوة فكان الواحد من الصحابة حين يعتنق الإسلام يدفعه الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم إلى من يعلمه القرآن الكريم، فيتعلم عشر آيات، و يقول لمن يعلمه: دعني حتى أذهب و أعمل بهذه الآيات ثم أعود فأتعلم غيرها(3).
و قال أبو عبد الرحمن السلمي(4): «حدثنا الذين كانوا يقرئوننا أنهم كانوا يستقرئون من النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل فتعلمنا القرآن و العمل جميعا(5).
و حين يكرّر الإنسان الأعمال التي تعلمها مرات عديدة تصبح عادة متأصلة في نفسه «فالاعتياد أمر مهم في ميدان التربية، و إن لم يكن كل شيء في التربية و لقد بالغ بعض المربين حين عبروا بأنّ التربية عادة، فقال ابن سينا مثلا: التربية عادة. و أعني
ص: 43
بالعادات فعل الشيء الواحد مرارا كثيرة زمانا طويلا في أوقات متقاربة»(1).
و العبادات التي أمر اللّه بها عباده، ما هي إلاّ «وسائل تربية الإنسان و توجيهه نحو الأهداف التربوية التي يدعو إليها القرآن»(2). و لذلك «تتطلب ممارسة و أسلوبا عمليا»(3).
على سبيل المثال أمر اللّه تبارك و تعالى:
حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى وَ قُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ (4) .
إنّ الصلاة تربّي الإنسان روحيا و خلقيّا إذ تربط بينه و بين خالقه، و تقوي إرادته و تعوّده، ضبط النفس و المحافظة على المواعيد، فالعبادات في الإسلام طرق للتربية على منهج الإسلام و هي «تمارين متكررة لتعويد المرء أن يحيا بأخلاق صحيحة، و أن يظل متمسكا بهذه الأخلاق مهما تغيّرت أمامه الظروف»(5).
لذلك حرص المربّون المسلمون على استخدام الممارسات العملية في التربية لتكوين العادات الحسنة و ترك العادات السيئة.
هذه هي أهم أساليب الإسلام في التربية، و هي تتعاون كلها في تحقيق هدف واحد و هو بناء شخصية المسلم و يستخدم منها ما يتلاءم مع طبيعة كل إنسان و إمكاناته و تهيؤه النفسي و سنّه و قدرة إدراكه.7.
ص: 44
المبحث الأول: المعالم البارزة في عصر الصادق
المبحث الثاني: المعالم البارزة من حياة الإمام
المبحث الثالث: إطار الفكر التربوي في مدرسة الصادق
ص: 45
ص: 46
تستلزم دراسة الفكر التربوي عند الرجال، تحليل ظروف و اتجاهات العصر الذي عاشوا فيه؛ لأنّ السعي لمجانبة الحقيقة و التزام الصدق و الأمانة العلمية في مجال الأبحاث الفكرية لا يتأتى إلاّ من خلال الإحاطة بالظروف الاجتماعية و الفردية الخاصة بالشخصية موضوع البحث، «فالتربية بطبيعتها عملية مشروطة بالزمان و المكان و يستحيل على الباحث التربوي أن يحيط علما بأي نظام تربوي و أن يقف على حقيقة أمره في مجتمع من المجتمعات، دون أن يتعرف إلى الأبعاد السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الدينية و الثقافية المحيطة به، فدراسة هذه الأبعاد ليست من قبيل العمل التمهيدي للبحث و إنّما هي جزء أساسي له»(1).
لهذا يقتضي في هذا الفصل الإيماء إلى الحالة الفكرية و السياسية و الاجتماعية التي عايشها الإمام جعفر بن محمد الصادق.
أما بالنسبة لحياته الشخصية لا يخفى على أحد من المسلمين و روّاد العلم و غيرهم منزلة و مكانة هذا الإمام الجليل، فهو كان مشعل الهداية و مصباح الدين الذي تلألأت أضواؤه في كل مكان و تخرّج في مدرسته الرواة و المحدثون و الفقهاء.
و ليس بإمكاننا التعرّف إلى هذا المفكر التربوي الكبير حق المعرفة إلاّ بالمرور الخاطف على بعض زوايا حياته، من سيرته و أخلاقه و أقوال الكبار و العلماء في شأنه، مدرسته العلمية و تعاليمه، تلاميذه و رواته مع إشارة موجزة إلى كبار المتخرجين في مدرسته.
فالحديث عن الإمام الصادق حديث عمّن أغنى الفكر الإنساني بأنواع المعارف و العلوم و دفع الحياة إلى الازدهار في مجالاتها الفكرية و الاجتماعية و التربوية و الأخلاقية.
و لعلّ أكثر ما اهتم به الإمام جعفر هو بناء الشخصية الإسلامية و إيصالها إلى مستوى التكامل و الرقي، فقد مارس هذا الدور بشكل عملي و وظف أفكاره و أساليبه و طرقه في إطار نظري منسق بهذا الاتجاه. و «استمرّ يناضل في سبيل الإسلام مجاهدا
ص: 47
و لكنّه لم يحمل سيفا، كان جهاده هو الجهاد الأكبر و هو ضبط النفس عن أهوائها و الإرشاد و التعليم»(1).
و قد استوعب مجال التربية عند الصادق كثيرا من ميادينها إذ قدّم الإمام منهجا شاملا - ناشئا من القرآن الكريم و سيرة جدّه صلّى اللّه عليه و سلّم - بين يدي المربين عسى أن ينفعهم في مهامهم الإصلاحية و التربوية.
سنحاول فيما يلي أن نعرض المعالم البارزة في عصر الإمام و حياته و كذلك الاتجاهات الرئيسة لفكره التربوي و ما ينطوي عليه.0.
ص: 48
المبحث الأول المعالم البارزة في عصر الصادق
- الجانب السياسي:
- الجانب الديني:
- الجانب الاجتماعي:
- الجانب العلمي و الثقافي:
ص: 49
ص: 50
يمتد عصر الإمام الصادق من آخر خلافة عبد الملك بن مروان إلى وسط خلافة أبي جعفر المنصور، أي سنة 83 ه إلى سنة 148 ه.
و قد عاش جعفر بن محمد حتى الحادية عشرة من عمره مع جده زين العابدين، و حتى الثانية و الثلاثين مع أبيه محمد الباقر، و عاش بعد أبيه أربعا و ثلاثين سنة، و كان في هذه السنوات بقية ملك هشام بن عبد الملك، و أيام ملك الوليد بن يزيد بن عبد الملك، ثم يزيد بن الوليد الناقص، ثم إبراهيم بن الوليد، ثم مروان بن محمد بن مروان بن الحكم، ثم صارت المسودّة (لاتخاذهم شعار السواد) مع أبي مسلم سنة اثنتين و ثلاثين و مائة، فملك أبو العباس الملقب بالسفاح، ثم ملك أخوه أبو جعفر الملقب بالمنصور، و توفي الإمام بعد عشر سنين من ملكه.
فالإمام الصادق عاش في مرحلة من أدق المراحل التاريخية الإسلامية من الناحية السياسية و اختلاف دولتين، هما دولة بني أمية و دولة بني عباس اللتان مارستا دورا حسّاسا خطيرا في هذه الحقبة من التاريخ الإسلامي.
يمتد من سنة 41 إلى سنة 132 للهجرة (661-750 م)، أي نحو تسعين عاما من الدهر. و الخلفاء الذين حكموا في هذه الدولة فرعان:
الفرع السّفيانيّ و الفرع المروانيّ.
بعد معركة صفّين صار معاوية بن أبي سفيان، خليفة على البلاد الإسلامية، ثمّ حكم عشرين سنة، من السنة 41 ه إلى السنة 60 ه و ثبّت الملك في أثنائها لبني أمية، و جعل الخلافة وراثية في نسله. و «كانت فكرة الوراثة في الملك غريبة عن العرب.
فجهد معاوية بضع سنوات حتى استطاع أن يمهّد لها»(1).
و لما ولّى معاوية ابنه يزيد العهد، انتقلت الدولة من ذلك النظام الذي ساد عهد
ص: 51
الخلفاء الراشدين، إلى النظام الذي سار عليه الأمويون «و هو النظام الملكي الذي يقوم على أساس الوراثة. و بذلك أصبحت الخلافة الأموية أقرب إلى السياسية منها إلى الدين و استحالت بذلك إلى ملك»(1).
مات معاوية سنة 60 ه فخلفه ابنه يزيد و «لم يكن من الدّهاء السياسي كأبيه(2)» و قد وقعت في عهده وقائع و أحداث نتيجة لموقف المعارضة منها، فكانت في أيامه مأساة كربلاء في 10 المحرم 61 ه، و مقتل الحسين بن علي و أهل بيته(3) ثم كانت في أيامه وقعة الحرّة(4) في ذي الحجّة من سنة 63 ه(5)» فكثر أعداء الأمويين و خصومهم في العراق و في الحجاز»(6).
و جاء بعد يزيد ابنه معاوية و كانت مدة خلافته قصيرة أقل من شهر، فلمّا توفّي عاد النزاع على الخلافة من جديد، «و لكن بين عدد أكبر من الطامعين فيها، ثم بين نفر من رؤوس بني أمية على الأخص»(7).
تغلّب مروان بن الحكم يومذاك على الطامعين، فعادت الخلافة إلى الاستقرار في بني أمية، و لكن في فرع جديد عرف في التاريخ باسم الفرع المرواني نسبة إلى مروان بن الحكم. و عاش مروان بن الحكم في الخلافة عشرة أشهر، ثم خلفه ابنه عبد الملك، فبقي في الخلافة إحدى و عشرين سنة امتدّت من سنة 65 إلى سنة 86 ه.
و اتسعت الفتوح في المغرب (ليبيا و تونس و ما وراءهما)، و كذلك في خراسان و بلاد الترك و السند في الجانب الشمالي الشرقي من شبه جزيرة الهند، ثم فتحت الأندلس زمن ابنه الوليد الذي حكم عشر سنوات.ه.
ص: 52
و شهدت الساحة الأموية في عهد المروانيين صراعات بين أفراد الأسرة التي ترجع إلى طموحات الأمويين للوصول إلى السلطة. و أول خلاف جدّي هو صراع عبد الملك بن مروان و عمرو بن سعيد الذي خلع بيعته و تمرّد عليه، و قد أدّى إلى إراقة دم عمرو على يد عبد الملك بعد سلسلة من الأحداث(1). و في الحقيقة «كانت تولية العهد لاثنين(2)، من الأسباب التي أدّت إلى انشقاق البيت الأموي و المنافسة بين أفراد تلك الأسرة و أورثتهم الأحقاد و البغضاء»(3).
و كان لهذه السياسة أثرها في ضعف الأمويين «و هذا النزاع لم يقتصر على أفراد البيت الأموي، بل تعداهم إلى القوّاد و العمال، حتى إذا ولي الثاني(4) الخلافة انتقم من أنصار الخليفة الذي قبله و أقصاهم عن مناصب الدولة»(5).
على صعيد آخر: «ارتكز الحكم الأموي منذ نشأته على العصبية القبلية، و غلب عليه الطابع العربي القومي الذي لازمه حتى زواله»(6).
و راح الأمويون يستعلون على الموالي(7)، و «لا يسوون بينهم و بين العرب في الحقوق، فهم يرهقونهم بكثرة الضرائب»(8)، و يحرمونهم الامتيازات الاقتصادية «و يبعدونهم بشكل عام من تولّي الوظائف الكبرى في الدولة»(9).
و كانت هذه المعاملة السيئة للموالي سببا في حقدهم على العرب أو بعبارة أدق على الدولة الأموية.
و تبدلت السياسة الأموية تجاه الموالي في خلافة عمر بن عبد العزيز، بسبب زهده «و قد نجحت في تسكين الفتن و الاضطرابات، ثم تغيرت هذه السياسة بعد وفاته، فعاد الأمويون يفرقون في المعاملة بين العرب و الموالي»(10).6.
ص: 53
و منذ وفاة هشام بن عبد الملك عام 125 ه حتى سقوط الدولة الأموية عام 132 ه أخذت الأفعال و ردود الأفعال القبلية تتمادى و تزداد استشراء، و «امتدت تأثيراتها على كافة الأقاليم و إلى سائر مساحات الحياة الإدارية و السياسية و الاقتصادية، فكانت أحد العوامل في تدمير الوجود الأموي»(1).
إضافة إلى أسباب خطيرة أخرى كقيام حركات المعارضة من العلويين و الخوارج و الدعوة العباسية في نهاية الأمر. و «كان العصر الأمويّ من الناحية السياسية عصرا قلقا، يتأرجح إلى الدنيا مرّة، و الى الدين الحقّ مرّة أخرى، و فيه تأجّجت الثورات في كلّ مكان، و انتهت تلك الثورات بإضعاف الحكم الأمويّ»(2).
ثم نشط الدعاة العباسيون، و على رأسهم أبو مسلم الخراساني، فاختار النقباء، و أرسلوا الدعاة إلى مختلف الأقاليم، و بخاصة خراسان، يدعون إلى الرضا من آل البيت، و اتخذوا السواد. (العلم الأسود و الثياب السود شعارا لهم مخالفة لبني أميّة الذين كان البياض شعارا لهم). فاجتمع الناس خلف تلك الدعوة و استطاعوا أن يزعزعوا الحكم و طويت صفحة الدولة الأموية بقتل مروان الجعدي (و هو مروان بن محمد بن مروان بن حكم)(3).
قامت الدولة العباسية في سنة 132 ه: و هم من نسل العباس عم الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، و استمرت قائمة أكثر من خمسة قرون.
كان السّفاح أول خلفاء بني العباس «فقد عمل على تصفية بقايا الأمويين و مطاردتهم في كل مكان»(4)، و قد اتخذ الكوفة عاصمة له ثم هجرها لأنها كانت مركزا للعلويين و أنصارهم و اتخذ الأنبار (على الفرات في شمالي العراق) عاصمة جديدة.
و حكم أربع سنوات ثم توفي سنة 136 ه فخلفه أخوه أبو جعفر المنصور، و هو المؤسس الحقيقي للدولة العباسية (136-158 ه:) «فبنى المنصور بغداد سنة 145 ه و جعلها عاصمة الدولة العباسية بعيدة عن الشام»(5).
و تطور نظام الخلافة بقيام العباسيين، إذ قامت تلك الدولة على كواهل الفرس.
بينما «كان استخدام الموالي في العهد الأموي نادرا، و لكن صار هو المألوف في العصر العباسي»(6).
ص: 54
إن أبا جعفر المنصور أول من استعمل مواليه على الأعمال، و قدّمهم على العرب، بل روي «أن أكثر من تولّى الأعمال للمنصور كانوا من الموالي»(1).
حذا العباسيون حذو الأمويين في تولية العهد لأبنائهم، كما نرى «في سنة سبع و أربعين خلع المنصور عمّه عيسى بن موسى من ولاية العهد الذي كان السفاح عهد بها إليه من بعد المنصور، و عهد بها إلى ولده المهدي»(2).
و من أبرز معالم سياسة المنصور القضاء على ثورات العلويين، و منها ثورة محمد بن عبد اللّه بن حسن المعروف بالنفس الزكية(3) (سنة 145 ه)، و ثورة إبراهيم بن محمد(4) أخيه الذي أعلن ثورته الكبرى على الخليفة في البصرة(5) و كذلك لم تكن بداية دولة بني العباس إلا مرحلة أخرى من الحروب و الاضطرابات و الثورات و العمليات العسكرية لما نقله على آخر ذيول الحكم الأموي و تثبيت المواقع السياسية الجديدة.
لذلك نستطيع أن نميز عصر الصادق بأنّه كان عصر فتن و حروب طاحنة، و نزاع بين رجال الدولة و الحركات السياسية فضلا عن الاضطرابات التي كانت تنخر عظام دولة الخلافة من طولها إلى عرضها.
لقد شهد جعفر الصادق مخاض المعارك و المؤامرات السياسية، التي كانت تتوخى زعزعة الكيان الأموي، و عايش يوميات الأحداث التي انتهت بالانقلاب العباسي على الخلفاء الأمويين، و النزاع الكبير الذي جرى إثر ذلك بينهم و بين العلويين من أبناء الحسين و أبناء عمهم، و طولب الإمام أن يبايع بعض أبناء عمه، فأبى، فاتّهم بالحقد و الحسد.ا.
ص: 55
و كان من بين الذين كانوا يعملون لمصلحة العلويين أحد القادة أبو سلمة الخلال(1)، و لما أحسّ أبو سلمة بنوايا العباسيين و عزمهم على الاستئثار بالسلطة كتب إلى ثلاثة من العلويين هم الإمام الصادق و عبد اللّه المحض(2) و عمر الأشرف(3)، و أرسل الكتب مع بعض أنصارهم و قال للرسول: إقصد أوّلا جعفر بن محمد الصادق، فإن أجابك فلا تراجع غيره، و مزق الكتابين، و إن لم تجد منه جوابا، فاذهب إلى عبد اللّه المحض، و سلّمه الكتاب، فإذا أجابك، فلا تراجع غيره، و إلا فاذهب إلى عمر الأشرف.
فذهب الرسول إلى الإمام جعفر بن محمد، و دفع إليه كتاب أبي سلمة، فقال الإمام: ما لي و لأبي سلمة و هو شيعة لغيري؟ ثم قال لخادمه: أدن مني السراج.
فأدناه منه، فوضع الكتاب على النار، حتى احترق بكامله و الرسول ينظر إليه، فقال له الإمام هذا جواب كتابه.
فمضى الرسول إلى عبد اللّه المحض، فدفع إليه الكتاب، فقبّله و قرأه و ركب من ساعته إلى الإمام الصادق و قال له: هذا كتاب أبي سلمة يدعوني فيه إلى الخلافة، و قد وصلني مع بعض شيعتنا من أهل خراسان. فقال له الصادق: «و متى صار أهل خراسان شيعة لك؟ أ أنت وجهت إليها أبا مسلم؟ و هل تعرف أحدا من أهلها باسمه، فكيف يكونون شيعتك و أنت لا تعرفهم و لا يعرفونك؟ فرد عليه عبد اللّه بقوله: هذا الكلام منك لشيء.
فقال الصادق: لقد علم اللّه أني أوجب النصح على نفسي لكل مسلم فكيف أدخره عنك، فلا تمنّي نفسك بالخلافة، فإن هذه الدولة ستتم لهؤلاء - أي لبني العباس - و قد جاءني مثل هذا الكتاب الذي جاءك»(4).5.
ص: 56
الأخبار في جملتها تومئ إلى أن «الإمام الصادق ما كان يتجه إلى الانتقاض على الحكام، لأنه كان يعتقد أن هذا لا يفضي إلى إقامة الحق و إزهاق الباطل... و فوق ذلك فإنه قد لاحظ أن الخروج يؤدي إلى الفتن، و الفتن تضطرب فيها الأمور»(1). فما شارك في تلك الحوادث قط، لعلمه بعواقب الأمور، و أن الدعاة لهم أهداف و غايات، فاختط لنفسه و لأهل بيته خطة الاعتزال عن تلك التيارات و الأعاصير السياسية، و لم يذكر اسمه في الأحداث التي وقعت في عصره، إلاّ إذا كانت ألما أو أسفا أو حزنا على الذين يقتلون من ذوي قرباه، و اتجه إلى الاحتفاظ بمركزه العلمي لأداء رسالة الإسلام على أكمل وجه، فابتعد عن المغامرة برغم إلحاح الكثيرين ممن ينظرون إلى الأمور نظرا سطحيا، و لا يعلمون بعواقبها، و لذلك كان ينهي أبناء عمّه عن القيام بأيّ نشاط ثوري، كما «نهى حمزة بن عبد اللّه عند ما خرج مع النفس الزكية، و قد استغل جعفر الصادق هذه المرحلة أحسن استغلال لإنعاش الساحة الثقافية و خلق واقع تعليمي و تربوي في المجتمع.).
ص: 57
تميز عصر الصادق بظهور المذاهب و الفرق الإسلامية و الدينية المختلفة، و قد أدّى انتشار هذه المذاهب و الفرق إلى زيادة اهتمام العلماء ببحث المسائل الدينية المختلفة و منها مسألة القضاء و القدر و الجبر و الاختيار، و قدرة الإنسان إلى جانب قدرة اللّه تعالى، و مرتكب الكبيرة و خلق القرآن...
و من أهم هذه الفرق و المذاهب الإسلامية:
و هم الذين ظهروا في حرب صفين بعد التحكيم و هم يرون «أن الخليفة لا يكون إلا بانتخاب حر صحيح يقوم به عامة المسلمين لا فريق منهم، و يستمر خليفة ما دام قائما بالعدل مقيما للشرع، مبتعدا عن الخطأ و الزيغ، فإن حاد وجب عزله أو قتله...
و يرى الخوارج تكفير أهل الذنوب، و لم يفرقوا بين ذنب و ذنب، بل اعتبروا الخطأ في الرأي ذنبا، و لذلك كفّروا عليّا لرضاه بالتحكيم مع أنه لم يقدم عليه مختارا... و هم متمسكون بألفاظ قد أخذوا بظواهرها، و ظنوا هذه الظواهر دينا مقدسا»(1).
و كما عادى الخوارج الإمام علي (كرم اللّه وجهه) و كرهوه، فقد كانوا أعداء لبني أمية، و لذلك نجد صراعهم يطول في عهد الدولة الأموية. «و تاريخهم في هذا العهد - بشكل عام - يمثل سلسلة من الثورات المسلحة و الحروب المتواصلة التي لا يختلف بعضها عن بعض، إلا باختلاف العناصر البشرية المتحاربة و تبدل مواقع القتال الجغرافية»(2)، حتى إنهم في بعض الأحيان كانوا «يظفرون و يكوّنون لأنفسهم سلطة و نفوذا»(3).
و في النهاية ضعف أمرهم في العصر الأموي، و انكسرت شوكتهم، و لم يعودوا يشكّلون خطرا يذكر على كيان الدولة فيما بعد، و لكن يبدو أن نهايتهم كانت مقدمة
ص: 58
لنهاية حكم الأمويين أيضا، حيث اقتصر نشاطهم بصورة عامة على الفترة الأولى من الخلافة العباسية، أيام الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، الذي واجههم في الجزء الأكبر من خلافته. «فظل نظرهم إلى الخلفاء في العهد العباسي كما كان في العهد الأموي بأن كلهم لا يصلحون للخلافة، و يجب الخروج عليهم، إلا أن قوة الخوارج في هذا العهد لم تكن كقوتهم في العهد الأموي»(1).
نشأت هذه الفرقة في العصر الأموي، و لكنها شغلت الفكر الإسلامي في العصر العباسي ردحا طويلا من الزمن. و تعتبر هذه الفرقة من أهم الفرق الكلامية التي ظهرت في التاريخ الإسلامي، و قد نصب أتباعها أنفسهم للدفاع عن العقيدة و ما يتصل بها.
قيل في سبب تسميتهم بالمعتزلة «أنّ أستاذهم الأول «واصل بن عطاء»(2) كان من يرتاد مجلس الحسن البصري(3) و لكن خرج عن أقوال الفرق قبله و جعل الفاسق من هذه الأمة في منزلة بين الكفر و الإيمان فطرده الحسن البصري من مجلسه فاعتزل عند سارية من سواري مسجد البصرة و قال الناس يومئذ فيه إنه قد اعتزل قول الأمة و سمي أتباعه من ذلك اليوم معتزلة»(4).
و تتكون عقيدتهم من خمسة أصول «هي: التوحيد، و العدل، المنزلة بين المنزلتين و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر»(5).
و تتلخص عقيدة المعتزلة في «نفي صفات اللّه الأزلية و القول باستحالة
ص: 59
رؤية اللّه عزّ و جلّ بالأبصار، و اتفقوا على القول بحدوث كلام اللّه و أنّ اللّه غير خالق لأكساب الناس و الناس هم الذين يقدرون على أكسابهم و القول بأنّ المسلم العاصي في منزلة بين المؤمن و الكافر و هو فاسق»(1)، و اتسعت حركتهم في عصر الصادق اتساعا كبيرا «و كانوا يكرهون الأمويين و يكرههم الأمويون..
و في بدء العصر العباسي نشطت دعوتهم، و بعثوا الدعاة إلى أقصى الأقطار ينشرون مبادءهم... و كان زعيمهم عمرو بن عبيد(2) مهادنا للمنصور لا يخرج عليه، و لكن لا يعاونه.»(3)
ج - الجهمية(4) أو الجبرية:
خاض العلماء في حديث القدر و قدرة الإنسان بجوار قدرة اللّه سبحانه و تعالى في عهد بني أمية، و كان فريق منهم زعموا أن الإنسان لا يخلق أفعاله، و ليس له مما ينسب إليه من الأفعال شيء، و إنما هو مجبور فيها و لا قدرة و لا إرادة و لا اختيار له.
فقوام هذا المذهب «نفي الفعل حقيقة عن العبد و إضافته إلى الرب تعالى»(5) فإنّ الإنسان لا يقدر على شيء و لا يوصف بالاستطاعة. و «القول في الجبر شاع في أول العصر الأموي، و كثر حتى صار مذهبا في آخره»(6) له ناس يعتنقونه، و يدعون إليه، و يدرسونه، و يبيّنونه للآخرين.
و يقال: إن أول من دعا إلى هذه النحلة من المسلمين الجعد بن درهم(7)، ثم
ص: 60
تلقاه عنه الجهم بن صفوان(1) الذي نسبت إليه هذه الفرقة.
و هؤلاء مذهبهم على النقيض من مذهب الجهمية، إذ إنّهم يقولون إنّ الإنسان يعمل أفعال نفسه و يكسبها. «فإن القدرية نفوا العلم الأزلي و التقدير الأزلي»(2).
و قد كان ظهور هذه النحلة بالبصرة و «أول من حمل لواء هذه الدعوة معبد الجهني(3) و سلك أهل البصرة مسلكه»(4)، ثم وسّع القول فيها غيلان الدمشقي(5).
من الطوائف الإسلامية التي شاعت في عصر الصادق المرجئة، و هم الذين يخرجون العمل من دائرة الإيمان، و هم أصناف شتى، فمنهم من يزعم أنّ الإيمان هو المعرفة (أي معرفة القلب فقط) و «لم يكفروا أصحاب الكبائر و لم يحكموا بتخليدهم في النار خلافا للخوارج و القدرية»(6). و زعموا أن الإيمان إقرار و تصديق و منفصل عن العمل(7).
ص: 61
و «لا تضرّ مع الإيمان المعصية، كما لا تنفع مع الكفر الطاعة»(1).
«هم الذين غلوا في حق أئمتهم حتى أخرجوهم عن حدود الخليقية و حكموا فيهم بأحكام الإلهية»(2).
و لهم أصناف مختلفة و منهم الخطابية، و هم أصحاب أبي الخطاب محمد بن أبي زينب الأسدي(3) الذي عزا نفسه إلى أبي عبد اللّه جعفر بن محمد «و زعم أبو الخطاب أن الأئمة أنبياء ثم آلهة، و قال بإلهية جعفر بن محمد و إلهية آبائه، فلمّا وقف الصادق على غلوّه بالباطل في حقه تبرّأ منه، و لعنه، و أمر أصحابه بالبراءة منه، و شدّد القول في ذلك»(4).
*** إلى جانب انتشار هذه الفرق الإسلامية نرى ظهور حركات خطيرة كحركات الزنادقة في هذا العصر. يرجع تاريخهم إلى أواخر العصر الأموي، لكنّها لم تقو على الظهور، إلاّ بعد قيام الدولة العباسية إذ انتشرت في الكوفة. «و نحن إذا قارنا بين انتشار هذه الكلمة في العصر الأموي و العصر العباسي، وجدنا استعمال الكلمة في العصر الأموي قليلا نادرا، و في العصر العباسي فاشيا شائعا»(5).
و للزندقة عدّة معان تختلف باختلاف العصور: «فقد كان العرب يطلقون لفظ زنديق على من ينفي وجود اللّه سبحانه و تعالى أو يقول: إنّ له شريكا.
و قيل: هو كل من يتأثّر بالفرس في عاداتهم، و يسرف في العبث و المجون»(6).
و قيل: هو «اتباع دين المجوس خاصّة دين ماني مع التظاهر بالإسلام أو غير تظاهر بالإسلام»(7).
و مهما كانت معانيها المختلفة، فمن المعلوم أنّ «غرض حركة الزندقة في هذا
ص: 62
العصر كان تهديد الدّين الإسلامي، فهي تدعو إلى آراء تخالف تعاليم الإسلام»(1). و قد قتل كثيرون من رؤوس الزنادقة في العصر العباسي «يتقدمهم ابن المقفع الذي قتل في عهد أبي جعفر المنصور»(2).
و في وسط هذا الجو، تعدّدت الفئات الدينية في المجتمع الإسلامي؛ فكان منها أهل الذمة، و هم النصارى و اليهود، و قد عاشوا بين المسلمين، بالأمن و الحرية في شتىّ المجالات، و «كانوا يتمتّعون بكثير من التسامح الديني، و يقيمون شعائرهم الدينية في أمن و دعة»(3).
فقد كانت نتيجة الانفتاح الثقافي و الفكري على الملل و النحل انتشار الفلسفة اليونانية بموضوعاتها و مفاهيمها و مصطلحاتها الجديدة «فأصبحت المناقشات الفلسفية عامة في كل حاضرة من حواضر العالم الإسلامي»(4). و تغلغل معها الشك بين المسلمين فكثرت الشبهات. و طغت موجة الأفكار المنحرفة، فكان أرباب الديانات يتجادلون في أديانهم، و يقفون مواقف الهجوم و الدفاع، و يدعون إلى دينهم بأدلّة عقلية مؤسسة على منطق أرسطو و قد كانت الدعوة إلى الإسلام في العصر الأول أكثر ما تعتمد على الأسلوب الفطري و الانتباه إلى الكون و آثاره. أمّا في هذا العصر، «فتحولت الدعوة الدينية إلى علم الكلام، و تأثر تفسير القرآن و تفسير الحديث و التشريع بهذا الأثر الفلسفي و رأينا العلماء يجتهدون في شرح كل ما يعرض لهم من ذلك بعلل عقلية و عبارات منطقية»(5).
و كذلك نضج علم الكلام في العصر العباسي الأول، و انتشر الخلاف و كثر الجدل و كان النزاع يملأ حلقات العلم، و المناظرات تقع في مجالس الخلفاء في المساجد و في الشوارع.
و في وسط هذه الأفكار و الآراء نرى أنّ «الصادق كان ذا تفكير مستقل، و كان يوجّه و لا يتأثّر بالآراء و كان غير مقيد بنحلة و فرقة بل كان فوق تنازع الفرق»(6) و كان يبيّن مقدار ما فيها من الحق و كان المصلح الذي تولّى تربية الجيل المسلم على منهج خاصّ «و منهاجه القويم الذي رسمه لنفسه هو الالتزام بالكتاب و السّنة»(7) و سنفصل الكلام عليه فيما بعد عند كلامنا على آرائه التربوية في البحوث التالية.9.
ص: 63
لم يحدث الانقلاب في البيئة العربية فجأة، بل بدأ التبدل فيها منذ خرجت جيوش الفتح إلى أقطار العالم في الشرق و الغرب، و منذ أخذ الإسلام ينتشر في صفوف غير العرب، و منذ شرع البدو يتخلّون عن سكنى البادية، و ينزلون الحواضر، و منذ تزوّج الفاتحون العرب الفارسيات و التركيات و الروميات. إلا أن هذا التبدّل التدريجي كان قد بلغ مع قيام الدولة العباسية مبلغا لفت الأنظار.
العرب في الأصل - إلا أقلّهم - بدو رحل يحملون مبادئهم و قيمهم مع خيامهم و ينتقلون بها من مكان إلى آخر، لا يذكرون إلا صلة النسب أو ما هو بمعنى النسب من الولاء و الحلف. و شرعوا يتخلّون عن سكنى البادية، و ينزلون الحواضر في عهد بني أميّة «فدعاهم النزول في الحضر إلى الترف و اللهو و إلى ضياع كثير من محامدهم الأولى من الفطرة الخيّرة و الشجاعة و النجدة، ثم انتشر بينهم كثير من مساوئ المدنية كالشراب و الانغماس في اللذات»(1).
من ناحية أخرى جعل الفتح الإسلامي العرب يحتكّون بأمم غير عربية. فتزوج العرب بغير العربيات، فنشأ بذلك جيل مولد بين العرب و غير العرب. هذا الجيل الجديد كان أكثر إمعانا في اللّهو من الجيل العربي الأول. ثم كثرت الجواري أيضا و شاعت المجالس التي يجتمع فيها الناس كلّهم، و حدث السّفور (بروز النساء في المجالس و مجاراة الرجال في النّزه و الغناء). «و قد أخذ الأمويون كما أخذ العباسيون من بعدهم نظام مجالسهم عن الفرس»(2)
و تطوّر الغناء تطوّرا بارزا بسبب ما انتقل إليه من الفن الفارسيّ و أشياء قليلة من الفن الرومي. و كان حظ الحجاز من هذا التطور في الغناء عظيما جدّا، و كان أهل الحجاز صنّاع هذا التطوّر، «فقد امتلأت مكة و المدينة و ضواحيها بالمغنين و المغنيات و كان لمغنّي مكة مذهب في الغناء و لمغنّي المدينة مذهب، و كان بين الفريقين مفاخرة»(3).
ص: 64
و لا مجال لإنكار انتشار الغناء و اللهو في الحجاز و أقاليم أخرى في الدولة الأموية كالعراق و الشام، فذلك ما تؤكده كثير من الروايات، و تؤيده دواوين الشعراء و موروثات الأدباء، و برغم اختلاف الروايات في مدى ذلك الانتشار و تعبيره عن حقيقة الحياة في المجتمع الأموي في خطّها العام، و مهما كان في هذه القصص من المبالغة، فالأساس صحيح.
هذا و قد أسهم عدد من خلفاء بني أمية و أبناء الخلفاء في نشر الموسيقى و الغناء و استعمال آلاتها، على أن آخرين منهم كعمر بن عبد العزيز كانوا يرفضون ذلك و يقاومونه(1).
أما العباسيون، فقد رفضوا في مطلع عهدهم التعاطي باللهو و الغناء، «كالمنصور الذي كان يعيّر آل الزبير بحبّهم للطرب و الموسيقى»(2)، و لكن عددا من الخلفاء العباسيين اشتغل فيما بعد بصناعة الموسيقى و التلحين، حتّى شاع اللهو في البلاد، و مال الناس إلى الغناء و الرقص و التفنّن في الملبس، و كان من الترف و الفراغ أنّ شاع التّسرّي، و تعاطي الناس المسكرات سرّا و علنا، «و لقد كان هذا نتيجة حتمية للاختلاط بالأجناس الأجنبية، و الثقافات المغايرة، و أيضا لإطلاق الحريات في جميع الميادين»(3)، و قد أثّر ذلك تأثيرا بالغا في الحياة الاجتماعية.
لقد كان هذا الحال واضحا في العصر العباسي إلا أنّ هذا كان من شأن طائفة فقط، و لم يكن شأن الجميع، «فما كانوا كلّهم أغنياء و لا كلّهم هازلين، و ما كان ذلك لأمة من الأمم في أي عصر من العصور... إنّما هو يمثّل ناحية واحدة من نواحيها المتعددة و وجوهها المختلفة»(4) كما نرى في هذا العصر، تيار الزهد و التقوى الذي غير الوضع قليلا كتقشف و زهد سفيان الثوري(5)، و عبد اللّه بن المبارك (6)، فقلدهم الناس و ساروا في طريقهم.).
ص: 65
و قد شهد العصر الأموي طائفة من التطورات الإدارية و الاجتماعية.. فكان منها ما اتجه إلى تطوير الإدارة بابتكار بعض الدواوين، مثل ديوان البريد و ديوان الخاتم.
و الاتجاه إلى صهر الأمة الإسلامية مختلفة الأجناس في الإطار العربي، و ذلك ببدء حركة التعريب سواء بتعريب أهم دواوين الدولة و هو ديوان الخراج، أم بتعريب العملة، حيث سك عبد الملك للعرب عملة خاصة بهم(1)، بعد أن كانوا يتعاملون بالعملة الرومية و العملة الفارسية (سنة 74 ه)، ثم أمر بتعميمها في جميع النواحي (سنة 76).
«و لم يكتف بتعريب العملة بل وحّد عيارها»(2)، فخفضت من مشكلات الجباية الناشئة عن اختلاف أوزان الدراهم من قبل، و أصبح نقدا دوليا في التعامل التجاري الدولي.
كما «أمر عبد الملك بنقل الدواوين (كتابة سجلات الدولة) إلى اللغة العربية»(3)بعد أن ظلّت إلى أيامه تكتب في العراق بالفهلوية (الفارسية القديمة) و في الشام بالرومية و في مصر بالقبطية. «فقد سادت اللغة العربية هذه الممالك جميعها و انهزمت أمامها اللغات الأصلية للبلاد»(4)، و هكذا أصبحت لغة دولة و «لم ينقض العصر الأموي حتى كانت اللغة العربية هي السائدة في كل أنواع المكاتبات»(5). و اضطر الساكنون في البلاد الإسلامية إلى تعلّم اللغة العربية، و جمعتهم ثقافة واحدة.
و من ناحية أخرى سن الأمويون نظاما دقيقا للإشراف على جباية الأموال، «و قد زادت الضرائب في عهد بني أميّة على ما كانت عليه في عهد الخلفاء الراشدين، إذ لم يراع الخلفاء الأمويون القواعد التي قررها أسلافهم، بل تجاوزوا حدود الضرائب التي فرضوها»(6)، كالرسوم على الصناعات و الحرف(7) و فرض ضرائب على من يتزوج أو يكتب عرضا(8) و فرض الجزية على المسلمين الجدد في زمن عبد الملك بن مروان(9)،5.
ص: 66
ثم ألغى عمر بن عبد العزيز في أيّام خلافته الضرائب الإضافية، كهدايا النوروز و المهرجان و ضرائب الزواج و أجور البيوت.. فقرّر إعفاء من يسلم من الجزية(1)، و لكن إصلاحاته انتهت بوفاته(2)... و لم تستمر إلا جزئيا بعده.
و قد اهتم العباسيون كذلك بالخراج اهتماما عظيما، «و كانت خزائن العباسيين تفيض بالأموال التي كانت تجبى من الضرائب، و قد بلغت في أيام الرشيد ما يقرب من اثنين و أربعين مليون دينار»(3).
و قد أدّت كثرة الأموال في العصر الأموي و العباسي إلى الترف، و انتقل المجتمع الإسلامي من طور البساطة و الزهد و التخفف من متاع الدنيا، إلى طور جديد فيه شيء من الترف و قدر من التنعّم، و قد تركت هذه النقلة المدنية أثرها على مناحي الحياة المختلفة، «فعمّ التأنّق في المطعم و الملبس و المسكن ثم بنيت الدور و القصور، و أنشئت البساتين»(4).
فلما قامت الدولة العباسية بمساعدة الفرس، اعتمد الخلفاء عليهم. و أهملوا العرب الذين نقموا على الفرس، حتّى إنّ الطابع الفارسيّ ظهر واضحا في العصر العبّاسيّ الأول، و اقتبس الخلفاء العباسيون كثيرا من نظم الفرس الحكومية. فعلى سبيل المثال، «طرائقهم في تنسيق دواوين الدولة و أساليب الحرب، و نظم الحكم»(5)، حتّى لقد «أخذ العباسيون من الفرس فكرة الوزارة»(6).
و احتجب الخليفة عن رعيته و اتخذ الوزير و السياف، فأحيط شخصه بالقداسة و الرهبة.. «و إن ذلك المظهر الخارجي الذي أحاط بالخلفاء العباسيين ليختلف عن تلك البساطة الأولى التي امتاز بها الإسلام، و يعيد إلى الذاكرة مظاهر الأبهة التي تجلّت في البلاط الساساني»(7).
و هكذا انغمس العباسيون في الترف و البذخ بزيادة العمران و تدفق الثروة، و كانت قصور الخلفاء و الأمراء و كبار رجال الدولة مضرب المثل في حسن رونقها و بهائها، كما امتازت بفخامة بنائها و اتساعها»(8)، كقصر الذهب الذي بناه أبو جعفر المنصور في وسط بغداد و قصر الخلد الذي بناه على شاطئ دجلة الغربي(9).5.
ص: 67
و من الطبيعي أن يعمّ البؤس و الشقاء من جانب، بينما يعم النعيم و الترف من جانب آخر»(1)، فقد كانت هناك طبقة تنعم بالحياة بلا حدّ، و طبقات قتّر عليها في الرزق، فهي تشقى كلّ الشقاء إذ، «لم تكن أموال الدولة موزّعة توزيعا متقاربا، و لا كانت الفروق بين الطبقات فروقا طفيفة، و إنما كانت هناك هوّات سحيقة بين الطبقات»(2).
و الجدير بالذكر أنّ عناية الخلفاء لم تقتصر في هذا العصر على عمارة القصور و البساتين فقط، بل اهتموا ببناء المدن الكبرى من ناحية (كمدينة قيروان و مدينة بغداد)، و بناء المساجد من ناحية أخرى، كما روي بناء مسجد الخيف بمنى على يد أبي جعفر المنصور و كذلك توسيع المسجد الحرام على يده، فقيل عند ما أراد أبو جعفر أن يوسّع المسجد الحرام «و امتنع الناس من بيع منازلهم، فذكر ذلك منصور لجعفر بن محمد، فقال الإمام: سلهم أهم نزلوا على البيت أم البيت نزل عليهم؟ فكتب منصور إليهم فقالوا: نزلنا عليه. فقال جعفر بن محمد: فإن البيت فناؤه. فكتب أبو جعفر إلى و اليه زياد بن عبيد اللّه بهدم المنازل التي تليه فهدمت المنازل و أدخلت عامّة دار الندوة فيه حتى زاد فيه ضعفه...»(3).9.
ص: 68
لم يقتصر تطوّر البيئة العربية في عصر الصادق على جانب واحد من الحياة الاجتماعية، فقد تطوّرت في جوانب مختلفة، و كان للحركات الفكرية و الثقافية نصيب من ذلك التطوّر، فدخلت الأمة الإسلامية ذلك العصر مرحلة جديدة في حياتها العقلية و العلمية.
نلاحظ في أوائل العصر الأمويّ عناية العرب بمعارفهم العربية الخالصة من أخبار آبائهم في الجاهلية و أنسابهم و أشعارهم، فكثر بينهم علماء النسب و أصحاب الأخبار، و إلى جانب المعارف العربية اندفع العرب نتيجة لتمازجهم مع الأمم الأعجمية يطلبون كل ما لدى هذه الأمم من معارف تطبيقية، فعرفوا تخطيط المدن و عمارة المباني، كما عرفوا جباية الخراج و ضبط الدواوين، و لم يقف تأثر العرب بالأعاجم عند المعارف التطبيقية و إنما تحولوا إلى المعارف النظرية البحتة يدرسونها، «و لا شك أنهم استفادوا من المدارس التي وجدت في جند يسابور و الرها و نصيبين و أنطاكية و حرّان و الإسكندرية التي هي مزيج من الثقافة اليونانية و ثقافات شرقية مختلفة، دينية و غير دينية»(1).
بدأ العرب يهتمون بالترجمة منذ ذلك العصر، و «كان خالد بن يزيد بن معاوية أول من عني بنقل علوم الطب و الكيمياء من الكتب اليونانية و القبطية إلى العربية»(2)، و في أخبار عمر بن عبد العزيز «أنه أمر ماسرجوية البصري أن يترجم من السريانية إلى العربية كتابا في الطب»(3).
لكن أعمال الترجمة في العصر الأمويّ كانت مقصورة على أفراد، و تمثل اهتمامات فردية أو جهودا شخصية، خلافا لما نجده في العصر العباسي، حيث كانت الترجمة «تمثل مدرسة كاملة ترعاها الدولة و تباركها. كذلك اهتمت الترجمة في العصر الأمويّ بالعلوم مثل الطب و الكيمياء، و لم تتعدها إلى العلوم العقلية في الرياضيات و المنطق و الفلسفة»(4). إضافة إلى «أن الترجمة في هذا العصر كانت بدائية و ضعيفة
ص: 69
المستوى إذا ما قورنت بالترجمات الأخرى في الأدوار التالية»(1)، على كلّ حال لم يكن لترجمة الكتب العربية حظ كبير في عهد بني أمية و لقد عمل الخلفاء العباسيون جميعا على تنشيط حركة الترجمة، مستخدمين في ذلك شتى السبل و الأساليب المادية منها و المعنوية.
فإن الخليفة المنصور هو أول من ازدهرت في عهده هذه الحركة من خلفاء بني العباس، فعني بترجمة الكتب من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية و تشجيع العلماء و الباحثين على ذلك... حتى قيل: «إن المنصور كان يدفع ثمن المترجمات الجديدة ما يوازي وزنها ذهبا.»(2) فترجمت له الكتب القديمة من اليونانيّة، و الروميّة، و الفهلويّة، و الفارسيّة، و السريانيّة، فنشرها بين الناس، فكثرت في أيامه رواياتهم، و اتّسعت علومهم. «و من المؤلفات التي ترجمت في أيام المنصور، كتاب كليلة و دمنة، و كتاب السند هند، و كتاب أرسطوطاليس من المنطقيات و سائر الكتب العجمية في النجوم، و الحساب و الطب و الفلسفة و غير ذلك... و يعتبر المنصور أول خليفة عمل بأحكام النجوم، و ترجمت في عهده أشهر كتب الفلك»(3).
و كذلك نرى أن العلم في العصر الأمويّ كانت نواته القرآن و الحديث، فكل مسائل العلم تقريبا تدور حول هذه النواة، منهما يستنبط الفقه، و لأجلهما يروى الشعر، و بسببهما تبحث مسائل النحو. و على الجملة «فالحركة العلمية كانت كلها دينية إلا القليل؛ و العلم كان رواية العلماء من حفظهم أو من صحف جمعت حيثما اتفق، فالصحيفة قد يكون فيها حديث و مسألة فقهية، و مسألة نحوية، و مسألة لغوية. و مجالس العلماء كذلك و لم نجد العلوم متميزة، فليس علم مستقل اسمه التفسير، و لا علم مستقل اسمه الفقه و هكذا، و لا العلماء كذلك.
أمّا في العصر العباسي، فنجد الدراسة حول الطب و الطبيعة و الكيمياء و الهيئة و غير ذلك من الدراسات الدنيوية إلى جانب الدراسات الدينية حول القرآن و الحديث، و لكل نوع مميزات خاصة و منهج في البحث خاص»(4). و نجد في الوقت نفسه أن كلاّ منها قد أثر في الآخر و تأثر به.
و بدأت تتراءى في هذا العصر مسألة التخصص في العلوم، فامتازت مختلف العلوم).
ص: 70
عن بعضها البعض، و جمعت مسائل كل علم على حدتها، «و قد ميز كتاب المسلمين بين العلوم التي تتصل بالقرآن الكريم و بين العلوم التي أخذها العرب عن غيرهم من الأمم.
و يطلق على الأولى العلوم النقلية أو الشرعية، و على الثانية العلوم العقلية أو الحكمية، و يطلق عليها أحيانا علوم العجم، أو العلوم القديمة»(1).
و تشمل العلوم النقلية: التفسير، و القراءات، و الحديث، و الفقه، و علم الكلام، و النحو، و اللغة و البيان، و الأدب.
و تشمل العلوم العقلية: الفلسفة، و الهندسة و علم النجوم، و الطب، و الكيمياء.
و في هذا العصر «بدأت المذاهب تتحدّد، و أصبح لكل إمام أصول و أساليب يجري عليها في الاستنباط... فظهور المذاهب الفقهية و تكوّنها و شمولها لأبواب الفقه و التأليف فيها و استقلالها و نحو ذلك كله ظاهرة من ظواهر العصر العباسي»(2). و لذلك ذكر المؤرّخون أن التدوين و التأليف كانا من مميزات العصر العباسي في التشريع، «فقد ظهرت حركة التدوين في هذا العصر في كل فروع العلم و منها الفقه؛ نعم كان في العصر الأمويّ نواة التدوين، و لكنها نمت و اتسعت في العصر العباسي»(3).
و لم يكن للمكتبات شأن كبير في العصر الأموي، و لما نشطت حركة الترجمة و التأليف في العصر العباسي، و تقدمت صناعة الورق، كثرت المكتبات التي كانت تزخر بالكتب الدينية و العلمية و الأدبية، و صارت هذه المكتبات فيما بعد أهم مراكز الثقافة الإسلامية.
و كذلك نرى للمساجد في هذا العصر دورا كبيرا في النهضة العلمية؛ فلم تكن بيوتا للعبادة فحسب، بل كانت أيضا معاهد علمية لدراسة القرآن و الحديث و الفقه و اللغة، و الحافلة بكل أنواع المعرفة و التثقيف، يقدم إليها الراغبون في العلم، و يجتمعون في حلقات حول أستاذهم، و تكبر الحلقة و تصغر تبعا لمكانة الأستاذ.
ففي مسجد الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم «كان الإمام جعفر الصادق يجلس ليعلم الناس و يثقفهم و يفقههم في أمور دينهم»(4). و في مسجد البصرة حلقات أخرى للدرس و الشعر و الأدب... و قد عملت هذه المجالس و الحلقات على تنشيط الحركة العلمية و الفكرية و الثقافية الإسلامية.
و سوف أتحدث إن شاء اللّه عن إسهامات الإمام الصادق في تنشيط هذه الحركة في الفصول الآتية بالتفصيل، أسال اللّه تبارك و تعالى أن يعينني في ذلك.9.
ص: 71
ص: 72
المبحث الثاني المعالم البارزة من حياة الإمام الصادق
- ولادته و تسميته:
- روافد علمه و فكره:
- لمحات من صفاته و أخلاقه:
- مكانته العلمية و آثاره:
- أقوال العلماء في شخصيته:
- رواته و كبار المتخرجين من تلاميذه:
ص: 73
ص: 74
الإمام أبو عبد اللّه جعفر الصادق، ابن محمّد الباقر، ابن علي زين العابدين، ابن الحسين سبط رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، ابن علي بن أبي طالب.
ولد بالمدينة المنورة يوم الجمعة، عند طلوع الفجر 17 ربيع الأول سنة 80 ه:(1).
اسمه الشريف جعفر، له ألقاب أشهرها الصادق و منها الصابر و الفاضل و الطاهر و الكافل و لقّب بالصادق لصدق حديثه(2).
و كنّي الإمام الصادق بأبي عبد اللّه و أبي إسماعيل و أبي موسى(3).
هو الإمام محمد بن علي الباقر، من جلة علماء المدينة(4) و شهر أبو جعفر بالباقر من بقر العلم (أي شقّه) فعرف أصله و خفيه(5).
و كان رضي اللّه عنه مفسرا للقرآن، و مفسرا للفقه الإسلامي، مدركا حكمة الأوامر و النواهي، فاهما كل الفهم لمراميها، و كان راوية للأحاديث. و لهذا «كان مقصد العلماء من كل البلاد الإسلامية»(6).
رويت عنه آثار في الأخلاق الشخصية و الاجتماعية ما لو جمع في كتاب لتكون منه مذهب خلقي سام، يعلو بمن يأخذ به إلى مدارج السمو الإنساني. و قد جمع بين العلم و العمل و السؤدد و الشرف و الشقة و الرزانة(7).
ص: 75
هذا أبو جعفر محمد الباقر، و من حاله نعرف إلى أي سلالة ينتمي جعفر، و نعرف أنه في ظل العلم النبوي نما و ترعرع، و قد كان له قدوة في طلبه للحقيقة و الحكمة، فكان ذا أثر بالغ في حياة ولده، و قد مات في سنة 115(1).
هي (أم فروة) بنت الفقيه القاسم بن محمّد بن أبي بكر(2) اسمها قريبة أو فاطمة، و أمّها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر و هذا معنى قول الصادق إن أبا بكر ولدني مرتين(3).
و هي من سيدات النساء عفة و شرفا و فضلا، فقد تربّت في بيت أبيها و هو من الفضلاء اللامعين في عصره، كما تلقت الفقه و المعارف الإسلامية من زوجها الإمام محمّد الباقر و كانت على جانب كبير من الفضل، حتى أصبحت مرجعا للسيدات من نساء بلدها و غيره في مهمّات أمورهن الدينية، و حسبها فخرا و شرفا أنها صارت أمّا لإمام من أئمة المسلمين، و كانت تعامل في بيتها بإجلال و احترام من قبل زوجها، و باقي أفراد الأسرة النبوية.
و قد قال الإمام الصادق فيها: إنّها ممّن آمنت و اتّقت و أحسنت و اللّه يحب المحسنين(4).
نشأ أبو عبد اللّه بالمدينة المنورة، و قد تولّى جدّه الإمام زين العابدين تربيته في عهد طفولته، و درج تحت كنفه و رعايته، و كان هو معلمه الأول.
قضى مع جده زين العابدين ما يقارب 14 سنة من عمره، و بعد وفاة جدّه سنة 94 ه، تولى أبوه الباقر تربيته، و استقل بتعليمه، و كان الإمام الصّادق مقدما عند أبيه و ملازما له في حلّه و ترحاله، و دخل معه الشام و مكة المكرّمة، و شاهد هناك ازدحام الفقهاء من مختلف الأقطار على أبيه الباقر لاستماع حديثه و سؤاله، و كانت حلقة درسه تعقد بالمسجد، فتكون هي الحلقة الوحيدة لطلاّب العلم، و رجال الفكر، و رواة الحديث، فلا تعقد حلقة هناك إلاّ بعد انتهاء الإمام الباقر من إلقاء دروسه.
ص: 76
و كان الإمام الصّادق في طليعة تلامذة أبيه في مدرسته بالمدينة، و هي تضم عددا وافرا من أعلام عصره و هم يسألونه عن أهم المسائل و أعظم المشكلات. و هكذا بقي مع أبيه بعد جدّه زين العابدين تسع عشرة سنة.
و في هذا النبع الصافي من علم آل محمد ترعرع و نما، و في ظل ذلك البيت الكريم عاش، و قد اتجه منذ نعومة أظفاره إلى العلم، كشأن أهل البيت في ذلك الوقت.
و لذلك نرى أن حياة الصادق العلمية و الفكرية و التربوية هي امتداد لحياة أبيه و جدّه و قد أغنى فيها الفكر بالعلم الغزير و مناهجه التربوية السّديدة.
ص: 77
أولا: جده علي بن الحسين زين العابدين:
و لقد قال ابن شهاب الزهري الذي تتلمذ لزين العابدين: «ما رأيت أفقه من علي بن الحسين... و كانت أكثر مجالستي له»(1).
فقد مات زين العابدين و الصادق في الرابعة عشرة من عمره أو حولها، فلا بد أنه أخذ عنه، و خصوصا أنه بقية السلف من أولاد الحسين.
و قيل: «روى عنه (زين العابدين) أولاده باقر و زيد كما روى عنه حفيده الصادق»(2).
ثانيا: أبوه محمد الباقر:
فقد كان إماما في عصره، تلقى عنه أبو حنيفة، و أخوه زيد و غيرهم، و قد كان بيته مقصد العلماء من كل فج عميق، و إنه كان على اتصال بكل علماء المدينة يجيئون إليه.
و قد قال فيه ابن كثير في تاريخه: و روى عنه جماعة من كبار التابعين و غيرهم فممن روى عنه ابنه جعفر الصادق، و الحكم بن عتبة، و الأعمش، و أبو إسحاق السبيعي، و الأوزاعي، و الأعرج، و هو أسن منه، و ابن جريج، و عطاء، و عمرو بن دينار، و الزهري(3).
و قد لزم جعفر أباه معدن العلم و توفي أبوه و هو في الرابعة و الثلاثين. و لأنه استقى العلم من جده زين العابدين، و من أبيه الإمام محمد الباقر فقد نشأ تلك النشأة الصالحة، و نال تلك الدرجة السامية، و عظم في أعين كبار الفقهاء، لما تحلى به من الخصال الحميدة، و الأخلاق الفاضلة، و الإحاطة التامة بشتى العلوم، و ظهرت عليه علائم الفضل، و شرف المحتد، و عزة النفس، و صدق اللهجة.
و جدير بالذكر بأن هناك أقوالا مختلفة في شيوخ الإمام غير أبيه و جده(4). و عند
ص: 78
دراسة مختلف الآراء - في هذا الصدد - نجد أن العلماء قد أجمعوا على ذكر أبيه الباقر و جده زين العابدين، و اختلفوا في سائر الأشخاص حتى إن الأستاذ أبا زهرة الذي قد حاول جاهدا العثور على شيوخ يربط من خلالهم بين الصادق و بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لم يذكر مثالا على ذلك سوى اسم القاسم بن محمد بن أبي بكر و يقول: «و لا بد أن يكون قد تلقى عن أبي أمه، و هو القاسم بن محمد، فقد توفي القاسم، و هو في الثامنة و العشرين». و قال في موضع آخر: «بلا ريب له شيوخ كثيرون و إن لم تذكرهم كتب المناقب بالإحصاء و العدد».
و أضاف قائلا: «و لم يكن له طريق إلاّ التلقي العلمي عن آبائه و أجداده»(1).
و برغم أنّ الذهبي ذكر عدة شيوخ للإمام قائلا: «و ليس هو بالمكثر إلا عن أبيه»(2)و لهذا بعيدا عن الدخول في مجالات الخلاف ذكرنا الأسماء التي أجمع العلماء عليها، و اتفقوا فيها، و هما أبوه الباقر و جدّه كما أكّد الإمام الصادق نفسه:
قيل لأبي بكر بن عيّاش(3) لم تستمع الحديث من جعفر بن محمد مع أنك أدركته؟ قال: سألت جعفر بن محمد عن الأحاديث التي كان ينقلها: هل سمع شيئا منها - أي هل لها شيوخ حديث -؟ قال: لا، لكنّها رواية رويناها عن آبائنا(4).7.
ص: 79
لقد كان الإمام الصادق مثلا أعلى للصفات الكاملة، و المزايا الحميدة، و الأخلاق الفاضلة، فهو الصادق في القول، و الناطق بالحق، و العالم العامل بعلمه، و الموجه للأمة بدعوته، «و ما أجمع علماء الإسلام على اختلاف طوائفهم كما أجمعوا على فضله و علمه»(1).
و فيما يلي بعض أبرز صفاته و مميّزاته:
اتصف الإمام الصادق التقي بنبل المقصد و سمو الغاية، و التجرد في طلب الحقيقة من كل هوى، أو عرض من أعراض الدنيا، فما طلب أمرا دنيويا تنتابه الشهوات أو تحف به الشبهات، بل طلب الحقائق النيرة الواضحة، و طلب الحق لذات الحق لا يبغي به بديلا.
قيل في شأنه: «إنه لم ير لأحد غير اللّه حسابا فما كان يخشى أحدا في سبيل اللّه، و لا يقيم وزنا للوم اللائمين.. و كان بهذا الإخلاص و تلك التقوى السيد حقا و صدقا»(2).
و قد تحدّث التاريخ بصدقاته في السرّ، كان يقوم في الليل يحمل الطعام و الدراهم على عاتقه لأهل الحاجة من فقراء المدينة، فيقسمه فيهم و لا يعرفونه.
و من صلاته السرية ما رواه إسماعيل بن جابر(3) قال: أعطاني أبو عبد اللّه خمسين دينارا في صرّة، و قال لي: ادفعها إلى شخص من بني هاشم، و لا تعلمه أني أعطيتك شيئا، فأتيته و دفعتها إليه، فقال لي: من أين هذه؟ فأخبرته أنها من شخص لا يقبل أن تعرفه، فقال العلوي: ما يزال هذا الرجل كل حين يبعث بمثل هذا المال، فنعيش بها إلى قابل، و لكن لا يصلني جعفر بدرهم مع كثرة ماله(4).
ص: 80
خشية اللّه و عبادته على قدر معرفة المرء بربه، و علاقته به و حبه، و قد قال عزّ و جل: إِنَّما يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ (1).
و الإقبال على عبادة اللّه تعالى و طاعته من أبرز صفات الإمام، فقد كان من أعبد الناس للّه في عصره، قال الإمام مالك بن أنس: «جعفر بن محمد اختلفت إليه زمانا فما كنت أراه إلا على إحدى خصال ثلاث: إمّا مصلّ، و إمّا صائم، و إمّا يقرأ القرآن»(2).
قال أحد أصحابه: رأيت أبا عبد اللّه ساجدا في مسجد النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، فجلست حتى أطلت، ثم قلت: لأسبحنّ ما دام ساجدا، فقلت: «سبحان ربي و بحمده، أستغفر اللّه ربي و أتوب إليه» ثلاثمائة و نيفا و ستين مرة، فرفع رأسه(3).
و قيل: كان عليه السّلام إذا أراد التوجه إلى الصلاة اصفرّ لونه، و ارتعدت فرائصه خوفا من اللّه تعالى و رهبة و خشية منه، و قد أثرت عنه مجموعة من الأدعية في حال وضوئه، و توجهه إلى الصلاة و في قنوته، و بعد الفراغ من صلاته(4).
إن السخاء بالمال يدل على مقدار قوة الإحساس الاجتماعي، و إن ستره يدل على ملاحظة جانب اللّه وحده، و ليس ذلك بعجب ممن نشأ مثل نشأة الإمام الصادق.
سأله فقير فأعطاه أربعمائة درهم، فأخذها الفقير و ذهب شاكرا فقال لخادمه:
ارجعه، فقال الخادم: سئلت فأعطيت، فما ذا بعد العطاء؟ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:
«خير صدقة ما أبقت غنى، و إنا لم نغنه، فخذ هذا الخاتم فاعطه فقد أعطيت فيه عشرة آلاف درهم، فإذا احتاج فليبعه بهذه القيمة»(5).
و قيل: كان جعفر بن محمد يعطي حتى لا يبقى لعياله شيئا(6).
يقول أحد أصحابه: كان أبو عبد اللّه إذا أعتم و ذهب من الليل شطره أخذ جرابا فيه خبز و لحم و دراهم، فحمله على عنقه ثم ذهب به إلى أهل الحاجة من أهل المدينة
ص: 81
فقسّمه فيهم و لا يعرفونه فلما مضى جعفر فقدوا ذلك، فعلموا أنه كان أبا عبد اللّه(1).
إن الحلم و السماحة، خلق قادة الفكر و الدعاة إلى الحق. كما قال اللّه تعالى آمرا نبيه، و كل هاد بل كل مؤمن: خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (2).
و لقد كان الصادق سمحا كريما لا يقابل الإساءة بمثلها، بل يقابلها بالتي هي أحسن، عملا بقوله تعالى: اِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (3).
و قد ضرب المثل الأعلى في هذا الصدد، فقد روي أن رجلا من الحجّاج نام في المدينة، فتوهّم أنّ كيسه للنفقة قد سرق، فخرج فرأى جعفر الصادق مصليا، و لم يعرفه، فتعلّق به، و قال له: أنت أخذت همياني! قال: ما كان فيه؟ قال: ألف دينار.
فحمله إلى داره، و وزن له ألف دينار، و عاد الرجل إلى منزله، فوجد هميانه، فعاد إلى جعفر معتذرا بالمال، فأبى قبوله، و قال: شيء خرج من يدي لا يعود إليّ.
فسأل الرجل عنه، فقيل: هذا جعفر الصادق.
قال: لا جرم هذا فعال مثله(4)!.
و كان رقيقا مع كل من يعامله، من عشراء و خدم، و يروى في ذلك أنه بعث غلاما له في حاجة، فأبطأ، فخرج يبحث عنه، فوجده نائما، فجلس عند رأسه، و أخذ يروّح له حتى انتبه، فقال: «ما لك تنام الليل و النهار؟ لك الليل و لنا النهار»(5).
مدح اللّه عزّ و جلّ نبيه إبراهيم عليه السّلام بكرمه إذ قال في كتابه المبارك: فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (6)، فأسرع إبراهيم عليه السّلام بتقديم ضيافة عظيمة، لعلّ الضيوف جياع.
و يشعر هذا التصرف باستحباب الإسراع في تقديم القرى للضيف. فالضيف أسير مضيفه، و تحت رعايته، فينبغي إكرامه بالابتسامة و البشاشة و الإطعام و...
ص: 82
و من كرم الصادق و سخائه حبه للضيوف و إكرامه لهم، فكان - فيما يقول الرواة - يشرف على خدمة ضيوفه بنفسه، و كان يأتيهم بأشهى الطعام و ألذه، و أوفره، فعن أبي حمزة الثمالي(1) قال: كنا عند أبي عبد اللّه عليه السّلام جماعة فأتينا بطعام ما لنا عهد بمثله لذاذة و طيبا، و أتينا بتمر ننظر فيه إلى وجوهنا من صفائه و حسنه، فقال رجل: لتسألنّ عن هذا النعيم الذي نعمتم به عند ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فقال أبو عبد اللّه: «اللّه أكرم و أجل من أن يطعمكم طعاما فيسوغكموه، ثم يسألكم عنه، و لكن يسألكم عمّا أنعم عليكم بمحمد و آل محمد(2). و يكرر عليهم القول وقت الأكل: «أشدكم حبّا لنا أكثركم أكلا عندنا»(3).
فهو يحدثهم في أثناء الطعام ليطول جلوسهم على المائدة، و يرفعوا الحياء عند الأكل، و ليكونوا في حال شغل بالأكل و المضغ، و الإمام يحدث رويدا رويدا، فيبقى عندئذ على الطعام إلى آخر الضيوف.
و من مظاهر شخصيته العظيمة نكرانه للذات و حبه للتواضع، فقد جافى التكبر، و الاستعلاء على خلق اللّه، و كان يرى ذلك من أفحش الصفات، التي تهبط بالإنسان إلى قرار سحيق.
و كان من تواضعه أنه يجلس على الحصير(4)، و يرفض الجلوس على الفرش الفاخرة، و كان ينكر و يشجب المتكبرين و قد قال ذات مرة لرجل من إحدى القبائل: من سيد هذه القبيلة؟
فبادر الرجل قائلا: أنا، فأنكر الإمام ذلك، و قال له: «لو كنت سيّدهم ما قلت: أنا»(5).
و روي أنّه كان يقول لخادمه في أوقات حاجة الناس: «اشتر لنا شعيرا، و اخلط به طعامنا، فإني أكره أن نأكل جيدا، و يأكل الناس رديئا»(6).
ص: 83
و هكذا يجب أن يكون القدوة، يعيش آلام الناس، و يشاركهم شظف العيش، و يواسيهم بنفسه، و يكره أن يتميز عنهم.
و كان الإمام الصادق حاضر البديهة تجيئه أرسال المعاني في وقت الحاجة إليها من غير حبسة في الفكر، و لا عقدة في اللسان، و إن مناظراته الكثيرة تكشف عن بديهة حاضرة، فيجيب عنها من غير تردد و لا تلكؤ مبينا اختلاف الفقهاء فيها، و ما يختار من أقوالهم، و ما يخالفهم جميعا فيه.
و إن مناظراته التي كان يلقم بها الزنادقة و غيرهم الحجة، ما كانت ليستقيم فيها الحق لو لا بديهة تسعفه بالحق في الوقت المناسب.
قيل: إنّ ابن أبي العوجاء لمّا سمع بعض الحجج الدامغة من الصادق في العقيدة الإسلامية، كان يفتّش عن دليل يتمسّك به للرّد على الإمام، فمرّة جاء إلي جعفر بن محمد و جلس ساكنا لا ينطق بشيء، فقال له الإمام: كأنّك جئت تعيد بعض ما كنّا فيه؟
فأسرع ابن أبي العوجاء قائلا: أردت ذلك يا ابن رسول اللّه! فقال الإمام: «ما أعجبك هذا، تنكر للّه و تشهد أنّي ابن رسول اللّه!»(1)
إن حضور البديهة من ألزم اللوازم لقادة الأفكار، و الأئمة المتبعين، فلا توجد قيادة فكرية لعييّ في البيان، و لا توجد قيادة فكرية لمن عنده حبسة في المعاني.
أضفى اللّه تعالى على جعفر بن محمد الصادق، جلالا و نورا من نوره، و ذلك لكثرة عبادته، و صمته عن لغو القول، و انصرافه عما يرغب فيه الناس، و جلده للحوادث، كل هذا جعل له مهابة في القلوب، فوق ما يجري في عروقه من دم طاهر نبيل، و ما يحمل من تاريخ مجيد لأسرته، و ما آتاه اللّه من سمت حسن، و منظر مهيب، و علو عن الصغائر و اتجاه إلى المعالي.
و قد التقى مرة بابن العوجاء، فلما رأى الصادق و استرعى انتباهه ما عليه من سمت، و أخذ الصادق يتكلم فلم يحر جوابا، حتى تعجب الصادق و الحاضرون، فقال له: ما يمنعك من الكلام؟ و يقول الزنديق: «بدا جلال لك و مهابة، و ما ينطق لساني بين يديك، فإني شاهدت العلماء، و ناظرت المتكلمين، فما داخلتني هيبة قط مثل ما داخلني من هيبتك»(2).
ص: 84
و مع هذه الهيبة التي تفرض الإنصات إليه، مهما تكن لجاجة من يسمعه نرى من الصادق تواضعا لتلاميذه و المقبلين عليه.
و هكذا العظماء تفرض المهابة طاعتهم، و لكنهم موطئو الأكناف لعشرائهم، و خصوصا الضعفاء، ليدنوهم إليهم، و ليكونوا في حرية و رغبة و إرادة.
*** تلك بعض سجايا الصادق، و إنه ببعض هذه الصفات يعلو الرجال على أجيالهم، و يرتفعون إلى أعلى مراتب القيادة الفكرية، فكيف و قد تحلى بهذه الصفات و بغيرها.
و لقد نوّه إلى تلك السمات العالية من كان في عصره و أشاد بالإمام حتى اعداؤه، عند ما يعترفون بفضائله الخلقية و العلمية في تعامله معهم.
هذا هو ابن أبي العوجاء حينما يسمع أحد تلاميذ الإمام بعض أباطيله، بحيث لم يمتلك نفسه غضبا فيخاطبه: يا عدو اللّه ألحدت في دين اللّه و أنكرت البارئ جل قدسه... أجاب ابن أبي العوجاء: «إن كنت من أصحاب جعفر بن محمّد الصادق فما هكذا يخاطبنا، و لا بمثل دليلك يجادلنا، و لقد سمع من كلامنا أكثر ممّا سمعت، فما أفحش في خطابنا، و لا تعدّى في جوابنا، و إنّه للحليم الرزين(1) العاقل الرصين(2)، لا يعتريه خرق(3) و لا طيش(4) و لا نزق(5)، و يسمع كلامنا و يصغي إلينا، و يستعرف حجّتنا حتّى استفرغنا ما عندنا، و ظننّا أنّا قد قطعناه، أدحض حجّتنا بكلام يسير، و خطاب قصير، يلزمنا به الحجّة، و يقطع العذر، و لا نستطيع لجوابه ردّا، فإن كنت من أصحابه فخاطبنا بمثل خطابه»(6)!8.
ص: 85
سنوات قليلة من حياة الإمام جعفر بن محمد الصادق ملأ فيها الدنيا من علمه، و ازدهرت ألوف الكتب بأحاديثه و آرائه، ألقى فيها على طلابه مختلف العلوم، و علمهم صنوف المعارف.
و انتشر عنه من العلوم الجمة ما بهر به العقول، و لم ينقل العلماء عن أحد من أهل بيته ما نقل عنه، و لا لقي أحدا منهم من أهل الآثار و نقلة الأخبار، و لا نقلوا عنهم ما نقلوا عنه لقد شبهوا دار الإمام بالجامعة، جامعة كبيرة تموج بالحكماء و أهل العلم يجيب عن أسئلتهم، و يحل مشاكلهم، دون التفات إلى نحلهم و مذاهبهم أو مقاصدهم.
و لذلك: «ما أجمع علماء الإسلام على اختلاف طوائفهم في أمر، كما أجمعوا على فضل الإمام الصادق و علمه، فأئمة السّنة الذين عاصروه تلقوا عنه و أخذوا، أخذ عنه مالك رضي اللّه عنه، و أخذ عنه طبقة مالك، كسفيان بن عيينة و سفيان الثوري، و غيرهم كثير، و أخذ عنه أبو حنيفة... و قد تلقى عليه رواية الحديث طائفة كبيرة من التابعين، منهم يحيى بن سعيد الأنصاري، و أيوب السختياني و أبان بن تغلب، و أبو عمرو بن العلاء، و غيرهم من أئمة التابعين في الفقه و الحديث، و ذلك فوق الذين رووا عنه من تابعي التابعين و من جاء بعدهم و الأئمة المجتهدين(1). و لذا كان مجلسه بالمدينة مثابة أهل العلم، و طلاب الحديث و طلاب الفقه، يأخذون عنه، و يردون مورده العذب... «و كل من التقى به أجلّه و أجلّ علمه، و كانوا يقتبسون من علمه و خلقه و حكمه»(2).
و قد كان يقصده العلماء ليستمعوا إليه، و ليأخذوا عنه فكان يحضر درسه في أغلب الأوقات أربعة آلاف من الطلاب.
«فقد جمع أصحاب الحديث أسماء الرواة عنه من الثقات على اختلافهم في الآراء و المقالات، فكانوا أربعة آلاف رجل، ذكرهم الحافظ ابن عقدة الزيدي في كتاب رجاله، و ذكر مصنفاتهم فضلا عن غيرهم، و استدرك ابن الغضائري على ابن عقدة فزاد عليهم، و روى عنه راو واحد و هو أبان بن تغلب الرّبعي، أبو سعد، ثلاثين ألف حديث(3).
ص: 86
و لا شك أن كثرة المتعلّمين الذين كانوا يحضرون في حلقة درسه، أو الذين نقلوا عنه الأحاديث يظهر مدى عظمة شخصيته العلمية.
كان الحسن بن علي الوشّاء(1) يقول: «رأيت في مسجد الكوفة تسعمائة شخص يقول كل منهم حدّثني جعفر بن محمد»(2).
و لذلك نطقت ألسنة العلماء جميعا بفضله «و بذلك استحق الإمامة العلمية في عصره، كما استحقها أبوه و جده من قبله، فقد كانوا جميعا أئمة الهدى يقتدى بهم، و يقتبس من أقوالهم، و قد عكفوا على علم الإسلام عكوف العابد على عبادته، فخلفوا علما، و خلفوا رجالا، و تناقل الناس علمهم و تحدّثوا به»(3).
و لقد خاض الإمام في عدة علوم، و بلغ فيها الذروة، فهو نجم بين علماء الحديث، و كان ينادي: «سلوني قبل أن تفقدوني، فإنّه لا يحدّثكم أحد بعدي بمثل حديثي»(4).
و ساد علماء عصره في الفقه حتى إنه كان يعلم اختلاف الفقهاء، و يروى في ذلك عن الإمام أبي حنيفة أنه قال: «قال لي أبو جعفر المنصور يا أبا حنيفة إن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد، فهيىء له من المسائل الشداد، فهيأ له أربعين مسألة، و التقى الإمامان بالحيرة في حضرة المنصور، و يقول الإمام أبو حنيفة في اللقاء: «أتيته فدخلت عليه و جعفر بن محمد جالس عن يمينه، فلما بصرت به دخلني من الهيبة لجعفر الصادق بن محمد ما لم يدخلني لأبي جعفر، فسلمت عليه، و أومأ فجلست، ثم التفت إليه، و قال: هذا أبو حنيفة. فقال: نعم، ثم التفت إلي، و قال: يا أبا حنيفة ألق على أبي عبد اللّه من مسائلك، فجعلت ألقي عليه، فيجيبني، فيقول: أنتم تقولون كذا، و أهل المدينة يقولون كذا، و نحن نقول كذا، فربما تابعنا، و ربما تابعهم، و ربما خالفنا جميعا، حتى أتيت على الأربعين مسألة، ثم قال أبو حنيفة: «إن أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس»(5).
و كان العلماء يتلقون عنه التخريجات الفقهية، و تفسير الآيات القرآنية المتعلقة0.
ص: 87
بالأحكام الفقهية. و الأحاديث التي وصلت إلينا من الإمام الصادق لا تختص بالفقه فقط، بل وصلت إلينا منه أحاديث أيضا في مجال التفسير.
و قد عني بدراسة علوم القرآن، فكان على علم دقيق بتفسيره، و كان على علم بتأويله، يعلم الناسخ و المنسوخ.
و روي أن ابن أبي العوجاء - من الزنادقة - سأل هشام بن الحكم، فقال: أ ليس اللّه حكيما؟ قال: بلى هو أحكم الحاكمين. قال فأخبرني عن قول اللّه عزّ و جلّ:
فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً (1) أ ليس هذا فرض؟ قال:
بلى، قال: فأخبرني عن قوله عزّ و جلّ: وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ (2)
أي حكيم يتكلم بهذا؟ فلم يكن عنده جواب فرحل إلى المدينة إلى أبي عبد اللّه فقال: يا هشام في غير وقت حج و لا عمرة.
قال: نعم جعلت فداك لأمر أهمني أن ابن أبي العوجاء سألني عن مسألة لم يكن عندي فيها شيء قال: و ما هي؟ فأخبرته بالقصة فقال أبو عبد اللّه: «أما قوله عزّ و جلّ: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً يعني في النفقة و أما قوله: وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ يعني في المودة، فإنّه لا يقدر أحد أن يعدل بين امرأتين في المودة، فلما قدم عليه هشام بهذا الجواب، قال: و اللّه ما هذا من عندك»(3).
و لقد اشتهرت مناظرات الإمام الصادق، حتى صار، و مرجعا للعلماء في كل ما تعضل عليهم الإجابة عنه من أسئلة الزنادقة و توجيهاتهم، و قد كانوا يثيرون الشك في كل شيء و يستمسكون بأوهى العبارات، ليثيروا غبارا حول الحقائق الإسلامية.
و قد قال أبو شاكر الديصاني (من الزنادقة): إنّ في القرآن عبارة تدل على أن الإله ليس واحدا، فقد جاء فيه: «و هو الذي في السماء إله و في الأرض إله» فبلغ ذلك الصادق، فقال لمن بلغه، و قد عجز عن الرد: «هذا كلام زنديق خبيث إذا رجعت إليه فقل له: ما اسمك في الكوفة؟
فإنه يقول لك: فلان. فقل له: ما اسمك، بالبصرة؟ فإنه يقول لك: فلان، فقل له: كذلك ربنا في السماء إله و في الأرض إله، و في البحار إله، و في القفار إله، و في كل مكان إله(4).9.
ص: 88
و إنّ ردّ الصادق واضح كل الوضوح، و هو تسهيل لبيان المراد، و إن ذلك الزنديق الذي يعلم العربية لا بد أن يعلم أن كلمة (إله) خبر عن مخبر عنه واحد، و تعدد الأخبار لتعدد المكان لا يدل على تعدد المبتدأ، كما تقول: الصادق هو العالم في العراق، و العالم في المدينة و العالم في مكة، فإن هذا وصف واحد تعدد في أخبار، باعتبار تعدد الأمكنة، و هو واحد، و الحقيقة واحدة.
هذه المناظرات و غيرها كثير تدل على عناية الإمام الصادق بتصحيح العقائد، و الوقوف في وجه أولئك الذين كانوا ينحرفون في اعتقادهم، أو يهاجمون الإسلام «و فوق هذه العلوم كان الإمام الصادق على علم بالأخلاق و ما يؤدّي إلى فسادها»(1).
و من هؤلاء الذين كانوا يحرصون على سماع مواعظه و حكمه سفيان الثوري محدث الكوفة و فقيهها و الذي قال لقيت الصادق فقلت: يا ابن رسول اللّه أوصني، فقال لي: «يا سفيان ثق باللّه تكن مؤمنا، و ارض بما قسم اللّه تكن غنيّا، و أحسن مجاورة من جاورك تكن مسلما، و لا تصحب الفاجر يعلمك فجوره، و شاور في أمرك الذين يخشون اللّه عزّ و جلّ»(2).
هذه نماذج من جوامع الكلم قد نطق بها ذلك الإمام الجليل عترة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، و لقد أثر عنه كلام قيم في الأخلاق و تلقّي النفوس لها، و كانت ذات أثر في الذين التقوا به، و من ذلك مجموعات مأثورة.
على صعيد آخر نرى بأنّ الإمام الصادق لم يكتف بالدراسات الإسلامية و علوم القرآن و السّنة و العقيدة و الأخلاق، بل اتجه إلى دراسة الكون و أسراره، و دراسة الإنسان إجابة لطلب اللّه تعالى من عباده أن ينظروا في السموات و الأرض و ما فيهما، فقد قال تعالى: قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما تُغْنِي الْآياتُ وَ النُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (3).
فنرى كثيرا من هذه الدراسات في رسالة التوحيد التي أملاها الإمام على تلميذه مفضل بن عمرو الكوفي.
و من الثابت أن الإمام الصادق كان على علم بخواص الأشياء منفردة و مركبة، و أنه درّس علم الكيمياء في مدرسته، و قد اشتهر من تلامذته في هذا العلم جابر بن حيان الذي دوّن تقريرات الإمام في علمي الكيمياء و الطب(4).
و اعترف العلماء و منهم علماء الغرب بالدور البارز للإمام الصادق في علم النجوم2.
ص: 89
«و كتبوا عن آرائه و نظرياته في دوران الكرة الأرضية و حركاتها، و في مقدار أشعة النجوم، و حركة الضوء، و أنّه كان يلقي دروسه و نظرياته في هذا العلم على تلاميذه و طلاّب العلم، و يناقش محترفي علم النجوم، و يصحّح آراءهم، و يوضّح لهم أخطاءهم»(1).
و كان من تأثير توجيهات الإمام و إرشاداته في علوم الهيئة و الفلك، أن اهتمّ تلامذته بهذه العلوم، و اشتغلوا بالأرصاد و التقاويم و التنجيم و الاختبارات و غير ذلك من فروع علم الفلك من أقدم الأزمنة، كان أبو إسحاق إبراهيم بن حبيب الفزاري (المتوفّى عام 161) و هو من تلامذة الإمامين الصادق و موسى بن جعفر أوّل من عمل الإصطرلاب(2) في الإسلام، و أوّل من ألّف فيه، و له في ذلك «كتاب العمل بالإصطرلاب ذوات الحلق» و: «كتاب العمل بالإصطرلاب المسطّح»(3).
و كذلك نرى بأن الإمام أعطى فهما واسعا لكلمة العلم، فقد كان من الواضح في الأذهان أن العالم هو الذي يدرس علم الحديث و التفسير و غيرهما مما له علاقة بالفقه.
أما الإمام فقد وسع هذا المعنى، ليشمل أكثر العلوم الكونية، كالجبر و الكيمياء و الفلك و غيرها من العلوم، و لهذا كان الإمام الصادق، «... أكثر أئمة المذهب معرفة، حيث كان له آراء في كل لون من ألوان المعرفة آنذاك، و لا تقف معرفته عند علوم الدين فحسب، بل تجاوز ذلك إلى الكيمياء و الطب و غير ذلك من العلوم التي تبدو بعيدة الصلة عن الإمامة الدينية»(4).
و قد برهن الإمام أن الدين الإسلامي جاء للحياة ليحكمها لا ليصدّ عنها و يحكمها الشيطان. «و هداه هذا التفكير إلى الاهتمام بعلوم الطبيعة... لأنّها علوم تحقق مصالح الناس، تحرر الفكر و تهديه إلى الإيمان العميق الحق الراسخ»(5). و من المعلوم «أن الخاصّة التي اختص بها الإمام الصادق ليست هي أنّه عالم في الكيمياء أو الطبيعة أو الطب، و إنّما الظاهرة الكبرى فيه أنه كان أبرز أئمة عصره في علوم الإسلام، يؤخذ عنه، و تشد الرحال إليه في طلبها، و لذلك كانت عنايتنا متهجة إليها على أنها الأصل0.
ص: 90
المقصود و الغرض المنشود و عداه على هامش الموضوع كما كانت هذه المعلومات على هامش تفكيره، فما كانت غايته...».(1)
هذه المؤلفات هي(2):
1 - كتاب توحيد المفضّل الذي أملاه الإمام الصادق على المفضّل بن عمرو الكوفي من تلاميذه عند ما التقى المفضل بأحد الزنادقة، و ناظره، و طلب من الإمام أن يملي عليه بما يقوى به على مناظرة الزنادقة، و يحتوي على دلائل التوحيد و محكم البراهين على وجود الصانع الحكيم من بيان هيئة العالم و تأليف أجزائه و كيف خلق الإنسان و تكوينه إلى غير ذلك.
2 - رسالة إلى النجاشي والي الأهواز المعروفة برسالة عبد اللّه بن النجاشي، و فيها مهمّات الحاكم و الموظف الإداري.
3 - رسالة إلى جماعة من أتباعه و تلاميذه فأمرهم بمدارستها و النظر فيها و تعاهدها و العمل بها، و كانوا يضعونها في مساجد بيوتهم، فإذا فرغوا من الصلاة نظروا فيها.
4 - رسالته في الغنائم و وجوب الخمس.
5 - وصيته لعبد اللّه بن جندب.
6 - وصيته لأبي جعفر محمد بن النعمان الأحول في علوم القرآن.
7 - نثر الدرر كما سماه بعض الشيعة و كله حكم بالغة الأهمية.
8 - رسالته في وجوه معايش العباد و وجوه إخراج الأموال جوابا لسؤال من سأله: كم جهات معايش العباد التي فيها الاكتساب و التعامل بينهم و وجوه النفقات؟.
9 - رسالة في احتجاجه على الصوفية فيما ينهون عنه من طلب الرزق.
و هاتان الرسالتان عملان أساسيان في الاقتصاد و الاجتماع، يدلان على منهاج الإمام في صلاح الدنيا بالعمل و العبادة معا.
10 - كلامه في خلق الإنسان و تركيبه و حكمه القصيرة(3).
11 - كتاب الردّ على القدرية، كتاب الرد على الخوارج؛ كتاب الردّ على الغلاة من الروافض.
ص: 91
و هناك كتب مروية عن الصادق، جمعها أصحابه مما رووه عنه، فيصح بهذا الاعتبار نسبتها إليه؛ لأن الإملاء أحد طرق التأليف.
12 - نسخة ذكرها النجاشي في ترجمة محمد بن ميمون الزعفراني فقال: عامي غير أنه روى عن أبي عبد اللّه نسخة.
13 - نسخة رواها الفضيل بن عياض عن الإمام قال النجاشي في ترجمة الفضيل:
بصري، ثقة عامي، روى عن أبي عبد اللّه نسخة.
14 - نسخة رواها عبد اللّه بن أبي أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي حليف بني تميم بن مرة أبو أويس عن الإمام. قال النجاشي: له نسخة عن جعفر بن محمد.
15 - نسخة يرويها إبراهيم بن رجاء الشيباني قال النجاشي: له عن جعفر نسخة.
16 - كتاب رسائل الإمام الصادق إلى جابر بن حيان الكوفي(1).
هذا ما عرف من الكتب التي دوّنت وحدها، و عرفت بأسماء مخصوصة، و إلا فالذي جمع مما رواه عنه العلماء في فنون شتى من فنون العلم في العقيدة و أصول الفقه و الاحتجاج و الحكم و المواعظ و الآداب و غير ذلك لا يكاد يحيط به الحصر.1.
ص: 92
1 - قال الإمام أبو حنيفة (م 150): «ما رأيت أحدا أفقه من جعفر بن محمد...
ألسنا روينا أن أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس»(1).
2 - قال الإمام مالك بن أنس (م 179): «ما رأت عين، و لا سمعت أذن، و لا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمّد الصادق علما و عبادة و ورعا»(2).
و قال: «كنت أرى جعفر بن محمد، و كان كثير الدعابة و التبسم، فإذا ذكر عنده النبي صلّى اللّه عليه و سلّم اخضرّ و اصفرّ. و لقد اختلفت إليه زمانا فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال: إمّا مصليا، و إما صائما، و إما يقرأ القرآن. و ما رأيته قط يحدث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إلا على الطهارة»(3).
3 - محمّد بن إدريس الشافعي (م 204)، فقد قال إسحاق بن راهويه: قلت للشافعي:
كيف جعفر بن محمّد عندك؟ فقال: ثقة. في مناظرة جرت بينهما(4).
4 - أبو حاتم الرازي (م 277) فقد روى ابن أبي حاتم عن أبيه: «جعفر بن محمّد ثقة لا يسأل عن مثله»(5).
5 - قال الجاحظ (م 250 أو 255): «جعفر بن محمد الذي ملأ الدنيا علمه و فقهه»(6).
6 - و قال ابن الواضح الكاتب العبّاسي المعروف باليعقوبي (م 292): «.. أبو عبد اللّه جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب.. و كان أفضل الناس و أعلمهم بدين اللّه، و كان من أهل العلم الذين سمعوا منه، إذا رووا عنه قالوا:
أخبرنا العالم»(7).
ص: 93
7 - و قال ابن عدي (م 365): «و لجعفر أحاديث و نسخ، و هو من ثقات الناس، كما قال يحيى بن معين».(1)
8 - و عن الحاكم النيسأبوري (م 405): «و أصحّ طريق يروى في الدنيا أسانيد أهل البيت جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ، إذا كان الراوي عن جعفر ثقة»(2).
9 - و قال أبو نعيم الأصفهاني (م 430): «... الإمام الناطق، ذو الزمام السابق، أبو عبد اللّه جعفر بن محمّد الصادق، أقبل على العبادة و الخضوع، و آثر العزلة و الخشوع، و نهى عن الرئاسة و الجموع... حدّث عنه الأئمة و الأعلام: مالك بن أنس و سفيان الثوري... و أخرج عنه مسلم بن الحجاج في صحيحه محتجا بحديثه»(3).
10 - و قال ابن حجر العسقلاني (م 463): «جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب فقيه صدوق»(4).
11 - و قال الشهرستاني (م 548): «... جعفر بن محمّد الصادق. هو ذو علم غزير في الدين، و أدب كامل في الحكمة، و زهد بالغ في الدنيا، و ورع تامّ عن الشهوات»(5).
12 - و قال ابن خلكان (م 681): جعفر الصادق: كان من سادات أهل البيت، و لقّب بالصادق لصدقه في مقالته، و فضله أشهر من أن يذكر(6).
13 - و قال الذهبي (م 748): «جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين الهاشمي أبو عبد اللّه، أحد الأئمّة الأعلام، برّ، صادق، كبير الشأن»(7).
و قال أيضا: «جعفر بن محمد بن علي، ابن الشهيد الحسين بن علي بن أبي طالب، الهاشمي، الإمام أبو عبد اللّه العلوي، المدني، الصادق، أحد السادة الأعلام»(8).6.
ص: 94
14 - و قال ابن حجر الهيثمي (م 974): «جعفر الصادق... نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان، و انتشر صيته في جميع البلدان، و روى عنه الأئمّة الأكابر»(1).
15 - و قال خير الدين الزركلي (م 1385): «كان من أجلاّء التابعين و له منزلة رفيعة في العلم. أخذ عنه جماعة، منهم الإمامان أبو حنيفة و مالك و لقب بالصادق لأنه لم يعرف عنه الكذب قط.»(2).1.
ص: 95
لم يشهد التاريخ الإسلامي مدرسة أعظم من مدرسة الإمام الصادق في كثرة طلابها، و اختلاف العلوم التي كان يدرسها فيها و كانت امتدادا لمدرسة أبيه و جده. فهي لم تكن بأي حال من الأحوال مدرسة خاصة فيها لون خاص من المعارف و العلوم، و إنما كانت تبني عقولا و تنشىء أجيالا، و تؤسس صروحا من الثقافة، و دنيا من التوجيه، و تضع دستورا شاملا لإصلاح الحياة و تطويرها و تقدمها في جميع الميادين(1).
انتشر ذكر مدرسة الإمام الصادق في جميع الأقطار الإسلامية، فأصبحت جامعة إسلامية كبرى تقصدها وفود الأمصار. و عملت على تنوير الفكر البشري، و تطوير المجتمع الإنساني، و إبراز القيم الإسلامية، فأنتجت صفوة العلماء، و قادة المفكرين، و قد جهدوا بإخلاص على نشر العلم بجميع أنواعه.
و قد قيل في البعثات العلمية التي بادرت إلى الالتحاق بجامعة الإمام أنّ «الكوفة و البصرة، و واسط، و الحجاز أرسلت إلى جعفر بن محمد أفلاذ أكبادها من كل قبيلة، من بني أسد، و من غنى، و مخارق، و طي، و سليم، و غطفان، و غفار، و الأزد، و خزاعة، و خثعم، و مخزوم، و بني ضبة، و من قريش، و لا سيما بني الحارث بن عبد المطلب، و بني الحسن بن علي(2).
فكان عددهم من أضخم ما ضمته المدارس العلمية في ذلك العهد و فيهم من كبار العلماء و المحدثين الذين أصبحوا فيما بعد أئمة و رؤساء المذاهب الإسلامية:
- كالإمام أبي حنيفة (المتوفى 150 ه)، يقول الأستاذ أبو زهرة: «أبو حنيفة كان يروي عنه - جعفر بن محمد -، و اقرأ كتاب الآثار لأبي يوسف و الآثار لمحمد، فإنك واجد فيهما رواية عن أبي حنيفة عن جعفر بن محمد.. فكان الثقة الصدوق. و مع أنه في مثل سن أبي حنيفة لم يتأب أبو حنيفة عن الأخذ عنه»(3).
- و الإمام مالك بن أنس (المتوفى 179 ه) و كانت له صلة تامة بالإمام الصادق
ص: 96
و روى الحديث عنه، «و اختلف إليه في مجلسه و انتفع من فقهه و روايته»(1). و غير هؤلاء من حملة الحديث و أعلام الأمة و لا يتسع المجال لذكرهم، و نكتفي بذكر جماعة منهم في عرض موجز و هم:
- يحيى بن سعيد الأنصاري أبو سعيد المدني (المتوفى 143) قاضي المدينة، قال البخاري عن علي بن المدني له نحو ثلاثمائة حديث و قال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث حجة ثبتا، روى عن إسحاق بن عبد اللّه و أنس بن مالك و جعفر الصادق و غيرهم(2).
- شعبة بن الحجاج بن الورد العتكي (المتوفى سنة 160 ه) خرّج له أصحاب الصحاح و السنن، و روى عنه خلق كثير. قال الشافعي: لو لا شعبة لما عرف الحديث بالعراق. و قال أحمد: شعبة أمة وحده(3).
- سفيان الثوري (المتوفى سنة 161 ه) و هو من حملة الحديث و أعلام الأئمة، و كان له اختصاص بالإمام الصادق، و قد روى عنه الحديث كما روى كثيرا من آدابه و أخلاقه و مواعظه(4).
- زهير بن محمد التميمي أبو المنذر الخراساني (المتوفى سنة 162 ه) أخذ عن الإمام الصادق و عنه أبو داود الطيالسي، و روح بن عبادة، و أبو عامر العقدي، و عبد الرحمن بن مهدي، و الوليد بن مسلم، و يحيى بن بكير، و أبو عاصم و غيرهم، و ثقه أحمد و يحيى و عثمان الدارمي، و هو من رجال الصحاح(5).
- معاوية بن عمار الدهني البجلي الكوفي (المتوفى 175 ه) روى عن أبيه عمار و أبي الزبير و احتج به مسلم و النسائي، و حديثه في الحج من صحيح مسلم عن الزبير، روى عنه عن مسلم يحيى بن يحيى و قتيبة و جماعة(6).
- و حاتم بن إسماعيل (المتوفى سنة 180 ه) كوفي الأصل خرّج له البخاري و مسلم و الترمذي و الجماعة و كان ثقة في الحديث، أخذ عن الصادق، و أخذ عنه خلق كثير منهم إسحاق و ابن معين(7).7.
ص: 97
- إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري (المتوفى سنة 180 ه) روى عنه محمد بن جهضم و يحيى بن يحيى النيسابوري، و أبو الربيع الزهراني، و أبو معمر الهذلي و غيرهم، قال ابن سعد: ثقة و هو من أهل المدينة قدم بغداد، و لم يزل بها حتى مات، خرّج له البخاري و مسلم و الجماعة(1).
- و حفض بن غياث بن طلق بن معاوية بن مالك أبو عمرو الكوفي (المتوفى سنة 194 ه) روى عن الصادق. و روى عنه أحمد، و إسحاق، و أبو نعيم، و يحيى بن معين، و علي بن المديني، و عفان بن مسلم، و عامة الكوفيين، ولي قضاء بغداد، ثم عزل، و ولي قضاء الكوفة، و كان كثير الحديث حافظا له ثبتا فيه مقدما عند المشايخ كتبوا عنه من حفظه ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف حديث، خرّج له الجماعة أجمع(2).
- سفيان بن عيينة (المتوفى سنة 198 ه) كان في الكوفة و هو شاب على عهد الإمام أبي حنيفة و كان حسن الحديث يعدّ من حكماء أصحاب الحديث، و فيه قال الشافعي: لو لا مالك و سفيان لذهب علم الحجاز(3).
- يحيى بن سعيد بن فروخ القطان الحافظ البصري (المتوفى سنة 198 ه) روى له رجال الصحاح، و حدث عنه ابن مهدي، و عفان و مسدد و أحمد و إسحاق و ابن معين(4).
- عثمان بن فرقد العطار أبو معاذ البصري، خرّج له البخاري في صحيحه و الترمذي، و روى عنه ابن المديني و ابن المثنى و زيد بن أحزم، قال ابن حبان: مستقيم الحديث(5).
و أمّا خواصّ أصحابه و حملة فقهه، الذين كانت لهم اليد الطولى في خوض معارك الحياة الفكرية و الاجتماعية، فعدد كبير جدا على سبيل المثال: أبان بن تغلب و أبو بصير الأسدي، و محمد بن مسلم، و بريد بن معاوية العجلي في المجال الفقهي، و جابر بن يزيد جعفي، و أبو حمزة الثمالي في مجال الأخلاق، و مفضل بن عمرو في مجال أسرار الكون و حكمة الوجود، و جابر بن حيان الصوفي في مجال الكيمياء....
و لا بأس بالإشارة إلى بعض الوجوه البارزة ممّن كان لهم الأثر الكبير في الحركةدق
ص: 98
العلمية و العقلية في ذلك العصر، و فضلنا الاقتصار على دراسة حياة أبان بن تغلب، و جابر بن حيان اللذين كانا من المتخصصين في مجالات مختلفة.
أبان بن تغلب بن رباح الرّبعي هو أبو سعد الكوفي البكري الجريري (المتوفى سنة 141 ه) كان جليل القدر و عظيم المنزلة، فقد حضر عند الإمام زين العابدين، و بعده عند الإمام الباقر، ثم الإمام الصادق و أخذ عنهم علمي الفقه و التفسير و كان مقدما في الأدب و اللغة و النحو.
قال ياقوت الحموي: كان قارئا لغويا فقيها نبيها ثبتا(1)، و سمع من العرب و حكى عنهم و صنّف غريب القرآن و غيره(2).
و قال ابن سعد: كان ثقة(3)، و ذكره ابن حبان في الثقات(4).
روى الحديث عنه كثير و منهم موسى بن عقبة الأسدي (المتوفى 141) فهو من رجال الصحاح الستة، و شعبة بن الحجاج، و سفيان بن عينية و غيرهم.
و قيل: بأنّه روى عن الصادق ثلاثين ألف حديث(5).
و ترجم له الذهبي في ميزان الاعتدال، فقال: «أبان بن تغلب (م. عو) الكوفي شيعي جلد، لكنه صدوق، فلنا صدقه، و عليه بدعته، و قد وثقه أحمد بن حنبل و يحيى بن معين و أبو حاتم. و لو ردّ حديث هؤلاء، لذهب جملة من الآثار النبوية»(6).
و عدّه ممن احتج بهم مسلم و أصحاب السنن الأربعة، أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجه حيث وضع على اسمه رموزهم(7). و هو ممّن أجمعوا على قبول روايته و صدقه.
و مما يدل على إحاطة أبان في الحديث أنه كان يجلس في مسجد النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فيجيء إليه الناس و يسألونه فيخبرهم على اختلاف الأقوال(8).
ص: 99
و من مؤلفاته: غريب القرآن و هو أول تأليف في ذلك، فصار أساسا لعلم اللغة - و كتاب الفضائل - و كتاب معاني القرآن - كتاب القراءات - كتاب الأصول في الرواية على مذهب الشيعة(1).
هو أبو موسي جابر بن حيان بن عبد اللّه الطرطوسي الكوفي، و هو كوفي نسبة إلى التي عاش فيها زمنا و اشتهر بعلم الكيمياء(2)، و هو أول من عرف به، و «بلغت مؤلفاته 3900 رسالة»(3).
و نسب أخذه و تعلمه لهذا العلم عن الإمام الصادق. لقد وجد الإمام في تلميذه استعدادا و لياقة، فأخذ يخصّه بوقت يدرّسه فيه الكيمياء و غيرها من العلوم، حتى كتب جابر من محاضرات الإمام مئات الرسائل، و قيل: إنّه قد ألف كتابا يشتمل على ألف ورقة، تتضمن رسائل جعفر الصادق، و هي خمسمائة رسالة(4).
و عبارات جابر بن حيان في رسائله تؤيد ما يقوله أكثر الباحثين بأنه أخذ ذلك عن الإمام الصادق، فقد كرر في عباراته ما يشعر بذلك، و يعبر عنه بقوله: حدثني سيدي عن آبائه واحدا بعد واحد، و قال لي...(5). فالإمام «كان يدارسه و يختصه بالانفراد في الدراسة، مما يدل على أنّ ما كانا يتدارسانه لا يطيقه كل الناس، لدقة حقائقه، و عمق ما يحتاج إليه من تفكير»(6).
و قد استغرب جورجي زيدان الباحث النصراني المعروف - قلّة اهتمام المسلمين به، حيث قال: إنه - يعني جابر بن حيّان - من تلامذة الصادق، و إنّ أعجب شيء عثرت عليه في أمر الرجل أنّ الأوروبيين اهتمّوا بأمره أكثر من المسلمين و العرب، و كتبوا فيه و في مصنّفاته تفاصيل، و قالوا: إنّه أول من وضع
ص: 100
أساس الكيمياء الجديد، و كتبه في مكاتبهم كثيرة، و هو حجّة الشرقي على الغربي إلى أبد الدهر(1).
*** و هكذا خرّجت مدرسة الإمام الصادق كادرا علميا ناضجا و واعيا، ضرب المثل في الصمود و الدفاع عن العلم و العقيدة، تفنّن الإمام في صنعه و نحته، فبقى خالدا تردّد إنجازاته ذاكرة التاريخ و الزمن.5.
ص: 101
ص: 102
المبحث الثالث إطار الفكر التربوي في مدرسة الصادق
- أساسيات التربية عند الإمام:
- اهتمامات الصادق التربوية بالبعدين الروحي و الجسدي:
- العوامل المؤثرة في التربية عند الإمام:
- تربية الطفل و رعايته في فكر الصادق:
- طرائق التربية و التعليم في مدرسة الصادق:
ص: 103
ص: 104
إن الفكر التربوي عند الإمام الصادق حصيلة تصور إسلامي شامل متكامل للّه و للكون و الإنسان؛ «لأن عملية التربية و أنشطتها المختلفة لا يمكن أن تتم، و لا يمكن حتى تصورها بمعزل عن هذه النواحي»(1).
فلا بدّ أن يحدد المربي موقفه من هذه المباحث الرئيسة الثلاثة و نوع العلاقة التي يجب أن تربط بين الإنسان و خالقه و سائر الكائنات.
و إليكم المبادئ و المعتقدات و المسلمات التي أقام عليها الإمام رسالته التربوية.
إن الاعتقاد باللّه تبارك و تعالى في كل أجزائه، ليس مجرد طرح فكري بل يرتبط ارتباطا وثيقا بحياة الإنسان و سلوكياته.
و على هذا الأساس، «يجعل الصادق الإيمان باللّه و المعرفة به منطلقا أساسيا لسلوكيات المسلم، و من هنا تأتي أهمية دراسة العقيدة عنده لما لها من أهمية في تحديد الأهداف التربوية عنده و بالتالي تحديد شخصية المسلم»(2).
فهو يرى أنّ الدليل على وجود الخالق الحكيم دليل فطري علمي عقلاني، و يعتبر شك الكافرين باللّه تعالى ناجم عن الجهل المطبق الذي استوعب آفاق نفوسهم، و تركهم يتخبطون في مجاهل هذه الحياة، فلم ينظروا في خلق أنفسهم، و لم يبصروا ما في الكون من عجائب مخلوقات اللّه تعالى المنتشرة في البر و البحر، فيقول: «إن الشكاك جهلوا الأسباب و المعاني في الخلقة، و قصرت أفهامهم عن تأمل الصواب
ص: 105
و الحكمة فيما ذرأ الباري، و برأ من صنوف خلقه في البر و البحر، و السهل و الوعر، فخرجوا بقصر عقولهم إلى الجحود، و بضعف بصائرهم إلى التكذيب و العنود، حتى أنكروا خلق الأشياء، و ادعوا أن تكونها بالإهمال، و لا صنعة فيها، و لا تقدير، و لا حكمة من مدبر، و لا صانع، تعالى اللّه عما يصفون»(1).
فالصادق يربط طريق المعرفة باللّه «بالتعرّف على إبداعه و تمام صنعه و اتصال تدبيره، بافتقارنا إليه، بتغيير كل شيء و تسخيره»(2).
و تتبلور رؤيته في اللّه بأنّه موصوف بصفات الكمال: «واحد، صمد، أزلي، غير محسوس، لا تدركه الأبصار، علا فقرب، دنا فبعد، عصي فغفر، و أطيع فشكر، لا تحويه أرضه و لا تقله سماواته، لا ينسى و لا يلهو...»(3).
كما أنه ينزّهه تنزيها مطلقا عن النقص و التشبيه بقوله: «لم يلد أنّ الولد يشبه أباه و لم يولد فيشبه من كان قبله و لم يكن له من خلقه كفوا أحد... لا يوصف بزمان و لا مكان و لا حركة و لا سكون بل خالق الزمان و المكان و الحركة و السكون...»(4).
و ينفي منه تعالى أي صفة من صفات المخلوق كقوله: «لا يدرك بالحواس و لا يقاس بالناس(5)... و لو كان اللّه تعالى جسما لم يكن بين الخالق و المخلوق فرق»(6).
و إنّ تصور العقيدة كما يبدو عنده يوحي بأنّ على الإنسان أن يعرف ربّه معرفة حقيقية و هذا ما أوضحه إذ قال:
«ما أقبح بالرجل يأتي عليه سبعون سنة أو ثمانون سنة يعيش في ملك اللّه و يأكل من نعمه ثم لا يعرف اللّه حق معرفته»(7).
فهو يرسم الطريق الصحيح إلى معرفة اللّه بأنّه الرجوع إلى القرآن و الاقتصار على ما وصفه اللّه به نفسه قائلا:4.
ص: 106
«إن المذهب الصحيح في التوحيد ما نزل به القرآن من صفات اللّه عزّ و جلّ...
و لا تعدوا القرآن فتضلوا بعد البيان»(1).
و قد اعتمد الإمام في نهجه التربوي على القرآن الكريم، الذي يعتبر المعلم الأخلص و المرشد الأبلغ، الذي رسخ جذور المعرفة باللّه و عني بذكر صفاته التي لا مثيل لها، و لا سيما الاعتراف بتوحيد اللّه عزّ و جلّ، كما نرى في تعريفه الموجز للتوحيد.
و هو «أن لا تجوّز على ربك ما جاز عليك»(2). و في رواية أخرى: «...
التوحيد أن لا تتوهّمه»(3).
و بما أنّ التوحيد و الشرك مفهومان متضادّان، فيساعد فهم أحدهما على فهم الآخر.
يلقي الإمام الضوء على المراتب الخفية من الشرك تحذيرا للناس من الوقوع فيها و التلبس بها.
فيعرّف الشرك في شرح الآية الشريفة: وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ (4)«بأنّه قول الرجل: لو لا فلان لهلكت و لو لا فلان لأصبت كذا و كذا و لو لا فلان لضاع عيالي، أ لا ترى أنّه قد جعل اللّه شريكا في ملكه يرزقه و يدفع عنه»(5).
و بهذه التعريفات الدقيقة يبرز الإمام الرؤية السليمة إلى اللّه الخالق و توحيده.
يرى الصادق أنّ الكون و ما فيه من المخلوقات، إنّما هو منتظم مبدع، خلقه اللّه عزّ و جلّ بعلمه و حكمته المطلقة، و تتبلور رؤيته لهذا الكون في قوله:
«كل ما كان إذا فتّش وجد على غاية الصواب حتى لا يخطر بالبال شيء إلا وجد ما عليه الخلقة أصح و أصوب منه»(6).
فيستدل الإمام على هذه النظرية الإسلامية الأصلية في أدلته التي قد حشدها في رسالة التوحيد في مجالسها الأربعة على أنّه «ليس في الإمكان أبدع مما كان حتى في
ص: 107
النملة التافهة... و إذا كان تمام التدبير و اتصاله و إعجاز الرعاية هكذا في أحقر الأشياء فما بالك في السماوات و الأرض و ملكوتها؟»(1).
فكل مظاهر الطبيعة بجمالها و روعتها مع ما فيها من النظم و السنن، أصدق شاهد على وجود بارئها و مكونها و منشئها، فقال:
«أول العبر و الأدلة على الباري - جل قدسه - تهيئة هذا العالم و تأليف أجزائه و نظمها على ما هي عليه، فإنك إذا تأملت العالم بفكرك و ميزته بعقلك وجدته كالبيت المبني المعد فيه جميع ما يحتاج إليه عباده، فالسماء مرفوعة كالسقف، و الأرض ممدودة كالبساط، و النجوم منضودة كالمصابيح، و الجواهر مخزونة كالذخائر، و كل شيء فيها لشأنه معد، و الإنسان كالمملك ذلك البيت، و المخول جميع ما فيه، و ضروب النبات مهيئة لمآربه، و صنوف الحيوان مصروفة في مصالحه و منافعه، ففي هذا دلالة واضحة على أن العالم مخلوق بتقدير و حكمة، و نظام و ملاءمة، و أن الخالق له واحد و هو الذي ألفه و نظمه بعضا إلى بعض»(2).
فالصادق يستقرئ في أحوال الخلق، من إنسان و فلك و حيوانات و نباتات و غير ذلك ليستدلّ من خلال تلك الأحوال على وجود اللّه.
و من المناسب ذكر بعض ما أفاده الإمام في هذا المقام، أنه يتناول من السماء و ما فيها من ضروب المنافع: «فكر في لون السماء و ما فيه من صواب التدبير فإن هذا اللون أشد الألوان موافقة للبصر و تقوية... فانظر كيف جعل اللّه جل و تعالى أديم السماء بهذا اللون الأخضر إلى السواد ليمسك الأبصار المنقلبة عليه فلا ينكأ فيها بطول مباشرتها له، فصار هذا الذي أدركه الناس فالفكر و الروية و التجارب يوجد مفروغا منه في الخلقة حكمة بالغة ليعتبر بها المعتبرون»(3).
و منها قوله: «فكر في ضروب من التدبير في الشجر فإنك تراه يموت في كل سنة موتة، فتحتبس الحرارة الغريزيّة في عوده و تتولّد منه مواد الثمار، ثم تحيا و تنتشر فتأتيك بهذه الفواكه نوعا بعد نوع، كما تقدم إليك أنواع الأطبخة التي تعالج بالأيدي واحدا بعد واحد. فترى الأغصان في الشجر تتلقّاك بثمارها حتى كأنّها تناولكما عن يد و ترى الرياحين تلقّاك في أفنائها كأنّها تجيئك بأنفسها، فلمن هذا التقدير إلاّ لمقدّر حكيم؟! و العجب من أناس جعلوا مكان الشكر على النعمة جحود المنعم بها»(4).3.
ص: 108
و كذلك عكف الصادق على دراسة الكون، و ما اشتمل عليه، «فكل علم من العلوم الكونية، التي تبحث عن المادة و خصوصياتها و تكشف عن سننها و قوانينها، كعملة واحدة لها وجهان، فمن جانب يعرّف المادة بخصوصياتها، و من جانب آخر يعرّف موجدها و صانعها»(1)، إذ لا بد لكل مخلوق من خالق، و لا بد لكل موجود من واجد، و قد تفهّم الإمام حال الكون و كيفية خلقه، و «كان عنده من القوى العقلية و النفسية و الفراغ ما يجعله يتجه إلى طلب المعرفة من أي نوع كانت، و عندنا الكثير من الأدلة المقربة التي تدل على أنه كان له علم بالكونيات، و قد طلب ذلك، ليتخذ منه ذريعة لبيان وحدانية اللّه تعالى»(2).
فهو يعتبر أن الخوض في العلوم الكونية من الأمور اللازمة التي تؤدي إلى قوة الإيمان باللّه سبحانه و تعالى و تربية الإنسان المسلم عليها، فقد دعا تلاميذه إلى الاشتغال بها لإثراء الثقافة الإسلامية و الفكر الإنساني على السواء.
و قد كان لنظرته تلك أثرها التربوي في مدرسته العلمية، التي تمثلت في جابر بن حيان، الذي أخذ عنه أصول الاعتقاد و الإيمان، كما أخذ عنه طبائع الأشياء و خواص المعادن، و مزج الأشياء ببعضها.
الإنسان هو محور التربية فالعملية التربوية بكل ما تشتمل عليه من أصول و نظريات، و مناهج، و مربين، كلها تعمل و تتفاعل من أجل تهيئة الجو المناسب للإنسان كي يرتقي إلى درجة الكمال التي هيأها اللّه له.
و لن يتحقق هذا الأمر إلاّ بمعرفة طبيعة الإنسانية و العلم بها كي يمكن المساهمة في إصلاحه و ارتقائه و عليه «و لا بد لكل فلسفة تربوية من أن تحدد مفهومها لطبيعة الإنسان إذ في ضوء هذا المفهوم تتعين الأهداف التربوية و تتحدّد الوسائل المعينة لتحقيقها»(3).
فنظرة المربي إلى الطبيعة الإنسانية تفسح له المجال في معرفة الطريقة التي يعامل الإنسان بها، و يحدد مجال العمل معه حسب قدرة الإنسان و إمكاناته و مدى تقبله لها.
فأساس التربية أمران مهمان: أحدهما طبيعة الإنسان، المادة الخام التي يعالجها
ص: 109
علماء التربية، و في ضوئها تتحدد المعالم الرئيسة لها، و الآخر حرية الإنسان في أفعاله و أعماله. و فيما يلي نذكر رأي الصادق في هذين الأمرين:
الطبيعة الإنسانية في الإسلام تختلف في مفهومها، و في مصدرها، و في غايتها عن الطبيعة الإنسانية في الفلسفات و مدارس علم النفس المختلفة.
و «الطبيعة في المصطلح الغربي الذي قامت عليه مدارس علم النفس هناك، هي الأشياء المادية المحسوسة حولنا من جماد و حيوان و نبات، ففي الاصطلاح اليوناني:
(الفيزيقا) - هي الطبيعة و - (الميتافيزيقا) - ما وراء الطبيعة أي الأمور الغيبية و غير المحسوسة»(1). في حين لا يختلف معنى الطبيعة الإنسانية في التصور الإسلامي عن معنى الفطرة.
و معنى أن اللّه فطر الخلق «هو إيجاده الشيء و إبداعه على هيئة مترشحة لفعل من الأفعال»(2)، و مفهوم فطرة الإنسان هو الخلقة أو الهيئة التي خلق اللّه الناس عليها.
لذلك «يقصد بالطبيعة الإنسانية من المنظور الإسلامي فطرة الإنسان التي فطره اللّه عليها»(3).
فإذا كانت الفطرة في الإسلام هي خلق اللّه الإنسان، فإن الطبع هو صياغة اللّه الإنسان بمزاج و سجية خاصة. و عند ما ننتبه إلى نظرة الصادق إلى الإنسان نرى أنه آمن بأن النفس الإنسانية في مبدأ الفطرة خالية من جميع العلوم كما وردت في القرآن الكريم:
وَ اللّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً (4) .
و لكنها مستعدة لتلّقيها استعدادا فطريا، فالطفل يتدرج بمعارفه مكتسبا الخبرة الخارجية بحواسه، و ذلك عن طريق تكرار استعمال الحواس حتى تحصل له المعارف الأولية الناتجة عن الحس عن طريق البيئة التي يعيش فيها ثم يتدرج شيئا فشيئا حتى تحصل له المدارك العقلية.
ورد عن الإمام ما نصّه: «... فصار - أي الطفل - يخرج إلى الدنيا جاهلا غافلا عما فيه أهله، فيلقى الأشياء بذهن ضعيف و معرفة ناقصة، ثم لا يزال يتزايد في
ص: 110
المعرفة قليلا قليلا و شيئا بعد شيء، و حالا بعد حال، حتى يألف الأشياء، و يتمرن، و يستمر عليها، فيخرج من حد التأمل لها و الحيرة فيها إلى التصرف و الاضطرار إلى المعاش بعقله و حيلته، و إلى الاعتبار و الطاعة و السهو و الغفلة و المعصية»(1).
و يعلل الإمام الصادق ذلك بوجوه مختلفة فيقول:
«لو كان المولود يولد فهما عاقلا، لأنكر العالم عند ولادته، و لبقي حيران تائه العقل إذا رأى ما لم يعرف، و ورد عليه ما لم ير مثله من اختلاف صور العالم من البهائم و الطير إلى غير ذلك مما يشاهد ساعة بعد ساعة...
و لو ولد عاقلا كان يجد غضاضة إذا رأى نفسه محمولا مرضعا... لأنه لا يستغني عن هذا كله لرقة بدنه... ثم كان لا يوجد له من الحلاوة و الوقع من القلوب ما يوجد للطفل... فإنه لو كان يولد تام العقل مستقلاّ بنفسه لذهب موضع حلاوة تربية الأولاد، و ما قدر أن يكون للوالدين في الاشتغال بالولد من المصلحة، و ما يوجب التربية للآباء على الأبناء من المكافأة بالبر و العطف عليهم عند حاجتهم إلى ذلك منهم... ثم كان الأولاد لا يألفون آباءهم و لا يألف الآباء أبناءهم، لأن الأولاد كانوا يستغنون عن تربية الآباء و حياطتهم فيتفرقون عنهم حيث يولدون...»(2).
و كذلك بيّن الإمام الصادق وجوها خمسة لبيان الحكمة في مجيء الطفل و عقله فارغا من العلوم و المعارف قابلا لها بحسب الاستعداد الفطري، فإنه لو كان يولد و له من المعارف لحصل:
أولا: إنكار العالم عنده و حيرته مما يشاهد.
ثانيا: الشعور بالذلة و المنقصة في نفسه للحمل و الرضاع و غير ذلك.
ثالثا: ذهاب حلاوة التربية من الأبوين للأولاد.
رابعا: عدم حصول مصلحة للوالدين في تربية أولادهم و رعايتهم، و عدم الترابط و التراحم فيما بينهم.
خامسا: ذهاب مكافأة الولد لوالديه بالبر و الإحسان عند عجزهما و كبرهما.
و لهذا يرتقي الإمام الصادق في هذه النظرة التربوية التي سبقت وجهات النظر التربوية الحديثة منذ اثني عشر قرنا.
على صعيد آخر يعتبر الإمام الصادق معرفة اللّه أمرا فطريا عند الإنسان و هذا ما4.
ص: 111
عبر عنه في قول اللّه تبارك و تعالى: وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا (1).
«و أثبت الإقرار في صدورهم و لو لا ذلك ما عرف أحد خالقه و لا رازقه»(2) فيرى الإمام بأنّ الآية واضحة الدلالة على أنّ الناس كافة مجبولون على معرفة اللّه.
فيسلك الأنبياء بين الناس بالنسبة إلى المعرفة الإلهية دور المذكر لا المعلم، فإنهم يقومون بإزاحة أستار الغفلة عن الفطرة الإنسانية و «جاءوا ليوصلوا المعرفة الفطرية الإجمالية إلى مرحلة الإيمان الاستدلالي العقلي التفصيلي»(3).
و من الإفاضات الإلهية الفطرية للبشر في رأي الصادق: الحس الأخلاقي - أي:
القوة المدركة الباطنية للخير و الشر - الذي يكون جزءا من البناء التام للإنسان و فطرته.
و «لو لا أودع اللّه في النفوس من إدراك المعلومات على اختلاف مراتبها، لما فهموا ما تدعوهم إليه الشرائع الإلهية»(4).
أشار الإمام إلى هذه القوة في النفس الإنسانية في تفسير قوله تعالى: وَ نَفْسٍ وَ ما سَوّاها * فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها (5)«بين لها ما تأتي و ما تترك»(6).
يستفاد من استعمال كلمة الإلهام «حدوث علم في النفس بدون تعليم»(7). فهي جزء من خلقة الإنسان و هيكله، و اللّه تبارك و تعالى غرس في الإنسان هذه البصيرة الأخلاقية يستطيع بها أن يدرك الخير و الشر، بإرشاد الأنبياء و الرسل عليهم السّلام.
ذكرنا سابقا أن الإنسان موضوع اهتمام التربويين باعتباره موجودا يحمل في داخله قدرا كبيرا من الإمكانات و الاستعدادات بل و من المتناقضات، و له أهداف معينة في هذه الحياة التي تتحقق بها إنسانيته و لا يصل إليها إلا بممارسة اختياره و قدرته و حريته.
و من هنا «تظهر أهمية الحرية بالنسبة للتربية، حيث إن الحرية أساسية في تحقيق الذات الحقيقية، أما إذا فقد الإنسان حريته فإن النتائج السيئة في تربية أكثر من أن تعد
ص: 112
و تحصى، فالإنسان الفاقد لحريته لا يمكن له القيام بالعملية التربوية على الوجه الأكمل»(1).
فالتربية المثمرة تعتمد على نظرة صحيحة و متكاملة إلى حريّة الإنسان و اختياره.
بناء على هذا يقرر الصادق رأيه في هذا الصدد بعبارة موجزة و دقيقة و هي قوله:
«لا جبر و لا تفويض بل أمر بين الأمرين»(2). و لربما اعتبر أمر التخيير هو ما قد يحل محل الجبر أو التفويض، و ليس الأمر بين الأمرين تلفيقا بين الجبر و التفويض بمعنى أنّ في سلوك الإنسان شيئا من الجبر و شيئا من التفويض بل بمعنى نفي الجبر و نفي الاستقلال في سلوك الإنسان.
و عند ما سأل رجل الإمام: و ما أمر بين الأمرين؟ قال: «مثل ذلك رجل رأيته على معصية، فنهيته فلم ينته، فتركته، ففعل تلك المعصية، فليس حيث لم يقبل منك فتركته، كنت أنت الذي أمرته بالمعصية»(3).
فيرى الإمام أنّ الإنسان مسؤول عن أعماله، لأنّ في استطاعته أن يفعل أو لا يفعل، و لو لم يكن مسؤولا عن أعماله، لما كلف و لما كان هناك معنى للثواب و العقاب، و لا جدوى للأنبياء و الرسالات و التي ما كانت إلا لإرشاد الناس و رعايتهم و تحذيرهم حتى تكون هناك مسؤولية.
و كذلك سأل رجل أبا عبد اللّه: أجبر اللّه العباد على المعاصي؟ فقال: «اللّه أعدل من أن يجبرهم على المعاصي، ثم يعذبهم عليها». فقال له: ففوض اللّه إلى العباد؟
قال: «لو فوض إليهم لم يحصرهم بالأمر و النهي. فقال له: فبينهما منزلة؟ قال:
نعم، أوسع مما بين السماء و الأرض»(4).
هذا الكلام يبيّن لنا حقيقة هامة يجب أن نأخذها بالاعتبار و هي أنّ مساحة الأمر بين الأمرين هي كل مساحة حياة الإنسان و هو في كل شؤونه و أعماله و حركاته يتعامل مع اللّه تعالى و لم ينفرد عن رعايته و تدبيره، فسلطان إرادة اللّه في حياة الفرد إلى جانب حرية إرادة الإنسان هو مبدأ الأمر بين الأمرين و هذه المساحة الواسعة هي التي عبّر الصادق عنها بأوسع ممّا بين السماء و الأرض.1.
ص: 113
إن اللّه تعالى خلق الإنسان ذا طبيعة مزدوجة و جعله مزيجا من العالمين الروحي و المادي، يتميز به عن سائر المخلوقات. فهو سبحانه جعل هذين العنصرين، مترابطين في كيان كلي واحد و بسبب هذا الارتباط يؤثر الواحد منهما في الآخر.
فمثلما تؤثر الجهود الجسمانية تأثيرا عميقا في روح الفرد كذلك فإن الروح و الجهد النفسي له أثره في البدن.
من هنا تعطي التربية الإسلامية جانب الروح حقه من الصفاء و العبادة و نقاء السريرة و حسن الخلق، كما تعطي الجسم حقه من إشباع الحاجات و الغرائز بالطرق التي شرعها اللّه، و هذا ما أشار إليه الحديث الشريف:
«إن لبدنك عليك حقا و لنفسك عليك حقا... فأعط كل ذي حق حقّه»(1).
انطلاقا من هذا المفهوم فقد أولى الصادق الجسد في تربيته اهتماما بالغا و وجّه إلى العناية به، كما اهتم بالجانب المعنوي و الروحي بطريقة متوازنة و أعطى كلاّ حقه في تكامل و توازن.
فهو يرى أنّ الإنسان لا يمكن أن تتوافر فيه عناصر الحياة السليمة و الطاقات الحيويّة إلا إذا تهيّأت معالم التربية الصحية فيه «فالإنسان المريض، ضعيف الإرادة، واهي الأعضاء، مضطرب التفكير، عصبي المزاج، لا يستفيد منه المجتمع الإنساني كما يستفيد من الأصحاء الأقوياء»(2).
هذا ما أثر عن الصادق في هذا الصدد بقوله: «من لم يرغب السلامة ابتلي بالخذلان... فالعافية نعمة يعجز الشكر عنها»(3).
و قد عرض الإمام جعفر إلى بعض المناهج الصحية في وصاياه و نصائحه و منها أن يريح الإنسان جسمه و روحه، لأنّ الراحة تقي الإنسان من الإصابة بكثير من الأمراض، فقال:
ص: 114
«النوم راحة الجسد، النطق راحة الروح و السكوت راحة العقل»(1).
فقد تضمن هذا الكلام بعض أصول المبادئ الصحية، فالنوم عنصر من عناصر الصحة للإنسان و لا يستقيم البدن بدونه. و النطق راحة للروح، فإن اللّه خلق البيان للإنسان ففيه راحة لروحه و قضاء لمهماته. و أما السكوت في المواضع التي لا حاجة فيها إلى النطق و لا ضرورة تدعو له، فهو راحة الفكر.
فهو يرشد إلى طرق المحافظة على الجسد من خلال صيانته من العبث و وقايته من المرض و الضرر و ذلك من خلال الاعتدال في الطعام فقال: «لو اقتصد الناس في المطعم لاستقامت أبدانهم»(2).
كما أنّه ينهى عن كثرة النوم و الأكل و الشرب لأنّها تسبب كثيرا من الأمراض الجسمية و النفسية كقوله:
«كثرة النوم تتولّد من كثرة الشراب، و كثرة الشراب يتولّد من كثرة الشبع، و هما يثقلان النفس عن الطاعة و يقسيان القلب عن التفكر و الخشوع»(3).
و في هذا دلالة واضحة على تأثير الجسم على الروح و تأكيد الإمام على الصحة الجسمية للفرد و تكامل نموه لكي يعيش حياة سعيدة.
و من العناصر المهمة في تكوين الحياة الصحية و ازدهارها، رعاية النظافة التي تجعل الفرد بمأمن من التلوث و الأمراض، و قد حض الإمام الصادق المسلمين على الاعتناء بهذا الجانب في حياتهم، و قد أثر عنه كثير من الوصايا في هذا الصدد منها قوله:
«من غسل يده قبل الطعام و بعده بورك له في أوله و آخره و عاش ما عاش في سعة و عوفي من بلوى في جسده»(4).
فغسل اليدين قبل الطعام تطهير و تعقيم لهما من الجراثيم المحتملة التي تتعلق بهما، و غسلهما بعد الطعام من النظافة التي هي الإيمان.
و مثل ذلك وجوب غسل الفاكهة قبل الأكل، قال الإمام: «إن لكل ثمرة سمّا فإذا أتيتم بها فأمسّوها الماء و اغمسوها في الماء»(5).5.
ص: 115
و بما أنّ «الجسم هو الوعاء الذي يحلّ فيه العقل و الروح و النفس بقواها المختلفة و هو المجال الذي تظهر فيه أنشطة كل هذه القوى المعنوية»(1)، فجاءت تربية الصادق بكثير من توجيهاته الوقائية للمحافظة على الجانب الجسمي و صحته و مما قاله:
«لا تدخل الحمام إلا و في جوفك شيء يطفئ عنك وهج المعدة، و هو أقوى للبدن و لا تدخله و أنت ممتلئ من الطعام»(2).
فتدخل في دائرة وصاياه الصحية بعض الآداب الجزئية التي تسهم في صحة البدن كقوله: «الخلال بعد الطعام يشدّ اللثاث و يجلب الرزق و يطيب النكهة»(3).
و قد كان للصادق رأي في ما قد يصيب البدن من تعب أو مرض، و في طريقة علاجه و هو يدرك ما يحمله الدواء من تأثيرات جانبية سلبية، فيقول: «إجتنب الدواء ما احتمل بدنك الداء»(4).
فاجتناب الدواء إذا لم يكن ثمة ضرورة لاستعماله فإنّه يعود على البدن بالصحة.
لأنّ كثيرا من الأمراض يدفعها الجسم إذا كانت فيه مناعة و قوة، و يجعله في مأمن من تأثيراته السلبية.
و أخيرا نشير إلى كلام جامع من الإمام يدلّ على اهتمامه البالغ بتربية الروح و الجسد معا. إذ قال لرجل طلب منه أن يوصيه، فقال: «أوصيك بتسعة أشياء فإنّها وصيتي لمن يريد الطريق إلى اللّه، و اللّه اسأل أن يوفقك لاستعمالها، ثلاثة منها في رياضة النفس، و ثلاثة منها في الحلم، و ثلاثة منها في العلم فاحفظها و إياك و التهاون بها.
أما اللواتي في الرياضة فإياك أن تأكل ما لا تشتهيه فإنه يورث الحمق و البله، و لا تأكل إلا عند الجوع، فإذا أكلت فكل حلالا و سمّ اللّه تعالى و اذكر حديث النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:
«ما ملأ آدمي وعاء أشد شرّا من بطنه، فإن كان و لا بد فثلث لطعامه و ثلث لشرابه، و ثلث لنفسه»(5).
و أما اللواتي في الحلم فمن قال لك: إن قلت واحدة سمعت عشرا، فقل له: إن قلت عشرا لم تسمع واحدة. و من شتمك فقل له: إن كنت صادقا فيما تقوله فأسأل اللّه0.
ص: 116
المغفرة، و إن كنت كاذبا، فأسأل اللّه أن يغفر لك. و من وعدك بالخيانة فعده بالنصيحة و الوفاء.
و أما اللواتي في العلم، فاسأل العلماء ما جهلت و إياك أن تسألهم تعنتا و تجربة، و إياك أن تعدل بذلك شيئا و خذ بالاحتياط في جميع أمورك ما تجد إليه سبيلا، و اهرب من الفتيا فرارك من الأسد و لا تجعل رقبتك للناس جسرا»(1).
و هكذا نرى أن الإمام قد عني في بنائه للإنسان و في تربية أتباعه، بكل ما يحفظ لهم الصحة النفسية و العقلية و البدنية ليجعل منهم أشخاصا متكاملين، سعداء، أقوياء فعالين و قادرين على تحمّل المسؤوليات في حياتهم.9.
ص: 117
كما ذكرنا سابقا، أشار الإسلام إلى تحديد أثر كل من الوراثة و البيئة في تكوين شخصية الإنسان.
و تنطلق هذه العوامل في فكر الصادق من صميم الإسلام و توجيهاته فقد اهتم بأثر الوراثة و البيئة في حياة الإنسان و تربيته. و قد روي عنه في هذا الصدد: «و تجب على والده - أي الطفل - ثلاث خصال: اختيار لوالدته، و تحسينه اسمه، و المبالغة في تأديبه»(1).
و معنى اختيار والدته يقوم على مبدأ الوراثة و البيئة معا.
بمعنى أنّ صفات الصلاح و الشقاء يكون للطفل نصيب منها و هو في بطن أمّه.
كما أنّ شؤون الزوجة و أسرتها لها أثر عميق في تكوين الطفل و تربيته. «فالاختيار قد يكون على أساس الأصل الطيب من الناحية الوراثية، كما قد يكون أيضا من الناحية الخلقية و الدينية حتى ينشأ الأطفال في رعاية أم حسنة الأخلاق و الدين، تحسن تربيتهم و تنشئتهم نشأة صالحة»(2).
لذلك عند ما يستشير رجل الصادق في زواجه يقول له: «انظر أين تضع نفسك، و من تشركه في مالك، و تطلعه على دينك و سرك، فإن كنت لا بد فبكرا تنسب إلى الخير و إلى حسن الخلق»(3).
و كما أوصى الإمام باختيار الزوجة الصالحة المتدينة، فكذلك أوصى أيضا باختيار الزوج الصالح ذي الدين و الخلق الطيب و نهى عن غيره لما له من التأثير الكبير في الأولاد بقوله: «من زوّج كريمته من شارب الخمر فقد قطع رحمها»(4).
ص: 118
و هكذا يعالج الإمام تربية الأفراد بتكوين الأسرة الصالحة لكونها تقوم على أسس متينة و قواعد عملية صحيحة في اختيار شريك الحياة و التي من أهمها الاختيار على أساس الدين و أساس الأصل و الشرف ذلك أن السجايا الخلقية و الصفات الحميدة و الرذيلة في الوالدين تهيّئ استعدادا في الأبناء، فالآباء و الأمهات الذين يمتازون بصفات الشجاعة و الكرم و التضحية و الخدمة ينجبون أبناء ذوي فضيلة و إباء و كرم على عكس غيرهم.
و هذا معنى كلام الصادق بدلالته على أهمية الوراثة: «و لا يطيب ثمر إلاّ بفرع و لا فرع إلا بأصل، و لا أصل إلا بمعدن طيب»(1).
و لا يحصر الإمام صفات الولد بما يرثه عن آبائه القريبين فقط، بل قد يرث صفات أجداده البعيدين و حتى الإنسان القديم إذ قال: «إن اللّه تبارك و تعالى إذا أراد أن يخلق خلقا جمع كل صورة بينه و بين آدم، ثم خلقه على صورة إحداهن فلا يقولن أحد لولده هذا لا يشبهني و لا يشبه شيئا من آبائي»(2).
على صعيد آخر يؤمن الإمام جعفر إيمانا راسخا بأنّ البيئة أقوى تأثيرا من الوراثة في بناء الإنسان و أن الصفات الموروثة و فضائل الأسرة لا تقاوم ضغط هذه البيئة. لذلك ينصح بزيارة الأخيار و تجنّب الفجار قائلا:
«إذ زرت فزر الأخيار و لا تزر الفجار، فإنّهم صخرة لا ينفجر ماؤها و شجرة لا يخضرّ ورقها و أرض لا يظهر عشبها»(3).
فيكتسب الإنسان كثيرا من عاداته و أخلاقه و قيمه و اتجاهاته الفكرية من البيئة الاجتماعية و الثقافية التي ينشأ فيها، و إذ استقرت عادات الإنسان و أخلاقه نتيجة الممارسة المتكررّة فإنّه يصبح من الصعب بعد ذلك تغييرها إلاّ بمجهود شاق و إرادة قوية، و قد لا تتغيّر إذا ما استحكمت في المرء فصارت سجية فيه.
و قد أشار الإمام إلى هذه الحقيقة قائلا:
«لا تصاحب الفاجر فيعلّمك من فجوره... و من يصاحب صاحب السوء لا يسلم»(4).
و غير ذلك من توجيهات توضح اهتمام الإمام بالبيئة الاجتماعية و المخالطة مع الآخرين، إلى جانب الوراثة، فهما أصل السلوك عنده و لا يخفى أمرهما في عملية التربية.8.
ص: 119
إنّ تربية الطفل فرع من تربية الفرد الذي يسعى الإسلام إلى إعداده و تكوينه ليكون عضوا نافعا و إنسانا صالحا في الحياة.
و قد أمر اللّه تعالى الوالدين بتربية الأبناء، و حضّهم على ذلك، و حمّلهم مسؤوليتها بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النّاسُ وَ الْحِجارَةُ (1).
«فوقاية النفس عن النار بترك المعاصي و فعل الطاعات، و وقاية الأهل بحملهم على ذلك بالنصح و التأديب، فيجب على الرجل تعلّم ما يجب من الفرائض و تعليمه لهؤلاء»(2) و تعليم ما لا يستغنون عنه من الأدب.
انطلاقا من هذا التوجيه القرآني عني الإمام الصادق في منهجه التربوي بتربية الأطفال و الناشئين عناية خاصة، واضعا المسؤولية فيه على عاتق الآباء و الأمهات، فأرشدهم إلى أن يقوموا بأداء هذه المهمة بوجه صحيح، حتى يتيحوا لأولادهم فرصة كافية لإبراز المواهب التي أودعها اللّه فيهم لينشأوا نشأة سوية.
فالطفل يحتاج إلى توازن ميوله و طاقاته كما أنّه يفتقر إلى تربة صالحة ينشأ فيها و يترعرع عليها.
فلا بدّ من بذل الجهد و العمل الدؤوب في تأديب الأطفال و تصحيح أخطائهم على الدوام و تعويدهم الخير.
و قد أخذ الصادق بالاعتبار أنّ بناء الشخصية السويّة تأخذ ثمراتها النهائية من الطفولة، و رغم أنّ الإمام يرى بأن عملية التربية تستمر إلى نهاية حياة الإنسان و أنّها لن تتوقف، إلا أن هذه المرحلة أخذت عنده طابعا مميزا في تعاليمه و إرشاداته لأن كل «إنسان مهما كان عمره متعلما، غير أنّ ذلك لا يعني أن دور الطفولة لا يمتاز بكونه المرحلة المهمة في عملية التربية أكثر من غيره و ذلك لإعداد الناشئ للحياة و تكيفه معها»(3).
ص: 120
هذا ما أشار إليه أبو عبد اللّه حينما ينصح ابنه قائلا: «يا بنيّ إن تأدّبت صغيرا انتفعت كبيرا و من عني بالأدب اهتم به، و من اهتم به تكلّف علمه، و من تكلف علمه اشتدّ في طلبه، و من اشتدّ في طلبه أدرك منفعته»(1).
فالإمام جعفر ينظّم أطوار نمو الأبناء و تربيتهم ضمن ثلاث مراحل، لكل مرحلة متطلباتها الخاصة و أساليبها التربوية المميزة و هذا ما قال فيه:
«دع ابنك يلعب سبع سنين، و يؤدب سبع سنين، و ألزمه نفسك سبع سنين فإن أفلح و إلا فلا خير فيه»(2).
في هذا التوجيه التربوي يسمّي الإمام السنوات السبع الأولى في حياة الطفل طابع اللعب. «و هذا التأكيد يعني بوضوح عدم تقبّله للتدريب الجاد»(3). فالطفل يستحق في هذه المرحلة من والديه الرعاية و العناية و الاهتمام بالاستجابة لرغباته في الحدود التي لا تؤذيه و لا تضرّه.
أما المرحلة الثانية فيسميها الصادق طابع التأديب أو تنشئة القائمين على مجرد التدريب، ذلك لأنّ الطفل في هذه المرحلة ينتقل إلى مرحلة الفهم و الإدراك و يجب أن يخضع لمنهج تربوي دقيق على أساس مراقبة الوالدين و إرشاداتهما.
أما المرحلة الثالثة و التي تعتبر أكثر أهمية - فإنها تتسم بطابع الإلزام و فيها إشارة دقيقة إلى طبيعة هذه المرحلة و متطلباتها التربوية. فتبدأ في هذه الفترة - الطاقات و الغرائز الكامنة في الإنسان بالتفتح و يتطلّع المراهقون إلى الاستقلال، فمن الضروري للآباء أن يلزموهم أنفسهم و يحترموا مشاعرهم و يأخذوا بآرائهم و يستشيروهم.
يبدو أن التفات الإمام في تربيته للأولاد بهذه المراحل الثلاث، مأخوذ من تقرير جدّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كما يقول و ربّما يعتبر تفسيرا لحديثه الشريف: الولد سيد سبع سنين و عبد سبع سنين و وزير سبع سنين»(4).
فحينما يسير الآباء و الأمهات على هذا النهج في تأديب أبنائهم، يستطيعون أن يكوّنوا جيلا صالحا و مهيئا للقيام بأعباء مسؤولياتهم و تكاليفهم في الحياة.
و قد حث الإمام الصادق على الاهتمام بعقيدة الطفل و تلقينه إياها منذ صغره لينشأ8.
ص: 121
عليها، فالصبي في أول نشوئه يحفظه حفظا «ثم لا يزال ينكشف له معناه في كبره شيئا فشيئا، فابتداؤه حفظ، ثم الفهم ثم الاعتقاد و الإيمان و التصديق به»(1).
هذا ما أشار إليه الإمام: «إذا بلغ الغلام ثلاث سنين يقال له سبع مرات قل: «لا إله إلا اللّه ثم يترك، حتى يتمّ له ثلاث سنين و سبعة أشهر و عشرون يوما، فيقال له:
قل: محمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ثلاث مرات، و يترك حتى يتمّ له أربع سنين ثم يقال له سبع مرات: صلّى اللّه على محمد و آله»(2).
و كذلك يوجّه أبو عبد اللّه الآباء و الأمهات إلى بعض الخطوات التي تهدف إلى بناء الأساس العبادي في الأطفال بقوله: حينما «يتمّ له خمس سنين يقال له: أيهما يمينك و أيّهما شمالك؛ فإذا عرف ذلك حوّل وجهه إلى القبلة و يقال له: اسجد، ثم يترك حتى يتم له ست سنين، فإذا تمّ له ست سنين: صلّى و علّم الركوع و السجود حتى يتم له سبع سنين. فإذا تمّ له سبع سنين، قيل له: اغسل وجهك و كفيك فإذا غسلهما، قيل له: صلّ، حتى يتم له تسع، فإذا تمت علّم الوضوء»(3).
من البديهي أن «الطفولة ليست مرحلة التكليف و إنّما هي مرحلة إعداد و تدريب و تعويد للوصول إلى مرحلة التكليف عند البلوغ، ليسهل عليه أداء الواجبات و الفرائض»(4)، و يتربى كذلك على طاعة اللّه و القيام بحقه.
فهذه الوثيقة التربوية تمثل مدى اهتمام الإمام بالتربية الإيمانية في الأولاد وفق برامج منظمة كما أنّ فرز هذه المراحل ينطوي على نتائج مثمرة من حيث عملية التعليم و التدريب عليه بنحو يتساوى مع النمو الإدراكي و الجسدي للطفل.
و قد لفت الإمام جعفر أنظار المربين إلى رعاية القدرة و الاستطاعة في الأطفال حين يشجعونهم على العبادات و ذلك لازدياد رغبة الناشئين إليها كقوله:
«إنّا نأمر الصبيان أن يجمعوا بين الصّلاتين: الأولى و العصر و بين المغرب و العشاء الآخرة، ما داموا على وضوء قبل أن يشتغلوا»(5).
و يؤكد المعنى ذاته في حديث آخر:
«الغلام يؤخذ بالصيام إذا بلغ تسع على قدر ما يطيقه فإن أطاق إلى الظهر أو2.
ص: 122
بعده صام إلى ذلك الوقت، فإذا غلب عليه الجوع و العطش أفطر»(1).
و هكذا فإن من أظهر المسؤوليات التي اهتم بها و حض عليها و وجّه الأنظار إليها مسؤولية الوالدين تجاه أولادهم و حقهم في التعليم و التوجيه و التربية، فهي في الحقيقة مسؤولية كبيرة و شاقة تتبلور على أساسها شخصيته، و تتوضّح بها مسيرته، و يتحدد من خلالها مصيره في هذه الحياة.
كذلك نرى بعض التوجيهات التربوية من الإمام إلى الدعاة و الذين يقومون في ساحة التبليغ للدين الإسلامي و نشر تعاليمه، بأنهم لا بدّ أن يهتموا بتربية المراهقين و الشباب أكثر من الآخرين.
فرجل من أصحابه حضر يوما عنده، فسأله الإمام: «كيف رأيت مسارعة الناس إلى هذا الأمر و دخولهم فيه؟»، قال: و اللّه إنهم لقليل، فقال الصادق: «عليك بالأحداث فإنهم أسرع إلى كل خير»(2).
لقد صرح الإمام في حديثه هذا بشكل واضح إلى نقاء الباطن و حب الخير و الفضيلة في جيل الشباب و ذكر الفرد - و هو مبلّغ للدين و المربي في المجتمع - بأنّ الشباب أكثر استعدادا للخيرات و اتصافهم بالخصال الإنسانية أسرع من غيرهم.6.
ص: 123
عني المربّون المسلمون بطرائق التعليم و لكن لكلّ منهم أسلوبا خاصا يعتمده في تعليمه و نظرة خاصة يرى الأمور من خلالها.
هذه الطرق التي انتهجها المربون في التعليم ليست منفصلة عن ثقافة العصر و نظمه الاجتماعية؛ لأنّ التعليم نشاط اجتماعي ينعكس على كافة الجوانب الاجتماعية و ما فيها من قيم و معايير و نظم.
و قد استخدم الإمام الصادق بعض طرق التعليم، فسلكها لإيصال المعارف الإسلامية في كافة مجالات الحياة من العقائد و العلم و الأخلاق و الآداب إلى المتعلمين، و وظّفها توظيفا فاعلا يتلاءم مع الأهداف التي خطّط لتحقيقها في منهجه التربوي.
و فيما يلي طائفة من أهم الطرق التي اعتمدها الصادق في منهجه التربوي:
تعتمد التربية الإسلامية على الوعظ كطريقة تعليمية «تقوم على توضيح الأمور النافعة و الضارّة للمتعلمين و تعظهم و ترشدهم إلى الخير و تحثهم على التحلّي بمكارم الأخلاق»(1).
و قد أولى الصادق اهتماما بالغا بالمواعظ و وجّه جميع جهوده لوعظ الناس و تهذيبهم و غرس النزعات الكريمة في نفوسهم. فقدّم تراثا غنيا لكل مسلم، من الحكم و المواعظ التي حاول من خلالها، التأثير على النفوس، و تنمّي مداركها المعنويّة و ترفع مستوى إيمانها و عملها، و تأكيده على هذا الأسلوب يرجع إلى اهتمامه بتعميق مسؤولية الإنسان في دنياه و ربطه بالدار الآخرة من حيث تجسيدها لنتائج المسؤولية.
فنرى في كثير من مواعظه تذكير الناس بالدار الآخرة و تحذيرهم من عذاب اللّه و عقابه كقوله:
«مسكين ابن آدم لو خاف من النار كما يخاف من الفقر، لأمنهما جميعا و لو خاف اللّه في الباطن كما يخاف خلقه في الظاهر، لسعد في الدارين»(2).
ص: 124
لقد انطلقت تلك الجمل الوعظية في صيغ لغوية هادفة، لها دلالتها اللفظية و أبعادها الحركية في الواقع النفسي و الاجتماعي.
و قد يطرد الإمام بمواعظه القلق و الاضطراب من النفس الإنسانية، كقوله:
«إذا بلغك عن أخيك ما يسوؤك فلا تغتمّ، فإنّه إن كان كما يقول كانت عقوبة عجّلت، و إن كان على غير ما يقول كانت حسنة لم تعملها»(1).
ربّما يضيق صدر الإنسان من كلام الآخرين في حقه، فيشعر بالحزن و الاضطراب. فالإمام يرشد الفكر إلى التفكر في حقائق الأمور و يبين له بأنّ كلام الناس في حقه لا يخلو من أمرين: إما أن يكون حقيقيّا و إمّا غير حقيقي.
فإذا كان كلامهم صحيحا و الخطأ فيه، فهي عقوبة عاجلة له، أما إذا كان غير صحيح و ليس كما يقولون، فهو افتراء عليه و تكتب له حسنة بها.
و لم تكن عظات الإمام لفئة خاصة أو طائفة معينة، بل شملت كل الناس، و قد تنفع أي شخص حتى المقتدرين و أصحاب المناصب، فكل وعظ منه كان يتناسب مع ظروف كل فرد و ثقافته كما قال أبو جعفر المنصور الخليفة للإمام: حدّثني عن نفسك بحديث أتّعظ به و يكون لي زاجر صدق عن الموبقات فقال الإمام:
«إملك نفسك عند أسباب القدرة، فإنك إن تفعل ما تقدر عليه كنت كمن شفى غيظا و تداوى حقدا أو يحب أن يذكر بالصولة. و اعلم بأنّك إن عاقبت مستحقا لم يكن غاية ما توصف به إلا العدل و الحال التي توجب الشكر أفضل من الحال التي توجب الصبر. قال أبو جعفر: وعظت فأحسنت و قلت فأوجزت»(2).
تعتبر الرسائل إحدى طرق التعليم، فالطالب يرسل مسائله إلى أستاذه و يتلقّى منه الأجوبة عنها مكتوبة.
و قد كان يطلق على هذه الرسائل اسم كتب «المسائل» «التي فيها أجوبة لمسائل أرسلها أو وجّهها مباشرة طلبة الأئمة أو المشاهير الشيوخ»(3).
و قد كانت لأبي عبد اللّه مراسلات إلى مختلف الأقطار تتضمن مجمل نصائحه
ص: 125
التي يدعو فيها تلاميذه إلى سبيل ربه، و كانت تهبط عليه أسئلة من المسلمين في البلدان النائية يسألونه إيضاح ما أشكل عليهم من أمور دينهم و دنياهم، «و منها كتاب المسائل للحلبي عن الإمام الصادق»(1).
و أحيانا بادر الإمام بنفسه بكتابة رسائل فيما يحتاج إليه تلاميذه سواء في ذلك ما يتعلق بأمورهم الدينية أم حياتهم الدنيوية. و منها على سبيل المثال: رسالة طويلة بليغة إلى أتباعه «أمرهم بمدارستها و النظر فيها، و تعاهدها و العمل بها، فكانوا يضعونها في مساجد بيوتهم، فإذا فرغوا من الصلاة نظروا فيها»(2).
و هذه مقتطفات منها:
«أما بعد فاسألوا اللّه ربكم العافية، و عليكم بالدعة و الوقار و السكينة، و عليكم بالحياء و التنزه عما تنزه عنه الصالحون قبلكم...
فاتقوا اللّه و كفوا ألسنتكم إلا من خير، و إياكم أن تذلقوا ألسنتكم بقول الزور و البهتان، و الإثم و العدوان، فإنكم إن كففتم ألسنتكم عما يكرهه اللّه مما نهاكم عنه، كان خيرا لكم عند ربكم. و عليكم بالصمت إلا فيما ينفعكم اللّه به، من أمر آخرتكم و يأجركم عليه...
و عليكم بحب المساكين المسلمين، فإن من حقرهم و تكبّر عليهم، فقد زلّ عن دين اللّه، و اعلموا أن من حقر أحدا من المسلمين ألقى اللّه عليه المقت، فاتقوا اللّه في إخوانكم فإن لهم عليكم حقا أن تحبوهم فإن اللّه أمر نبيه بحبهم، فمن لم يحب من أمر اللّه بحبه فقد عصى اللّه و رسوله، و من عصى اللّه و رسوله و مات على ذلك مات من الغاوين...
إياكم أن يبغي بعضكم على بعض فإنها ليست من خصال الصالحين، فإنه من بغى صيّر اللّه بغيه على نفسه، و صارت نصرة اللّه لمن بغى عليه، و من نصره اللّه غلب و أصاب الظفر من اللّه.
إياكم أن يحسد بعضكم بعضا، فإن الكفر أصله الحسد.
إياكم أن تعينوا على مسلم مظلوم يدعو اللّه عليكم و يستجاب له فيكم، فإن أبانا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «إن دعوة المظلوم مستجابة».
إياكم أن تشره نفوسكم إلى شيء مما حرّم اللّه عليكم، فإن من انتهك ما حرّم اللّه عليه حال اللّه بينه و بين الجنة»(3).4.
ص: 126
فهذه الرسالة للإمام بمثابة رسالة الحقوق التي ذكرت فيها حق اللّه و حق الناس.
و كأنّ الإمام أراد أن يجسّد الإسلام و بما فيه من الآداب و الأخلاق من خلال رسائله لطلابه.
لقد كانت المناظرة و الحوار من مميزات طرق التربية الإسلامية و «تقوم هذه الطريقة على أساس النقاش الذي يعتمد على طرح الأسئلة و تلقي الأجوبة للوصول إلى حقيقة من الحقائق لا تحتمل الشك و النقد و لا الجدال»(1).
فقد سلك القرآن الكريم الطريقة الحوارية مع المسلمين و غير المسلمين بشكل يؤثر على العقل و الوجدان و بأسلوب يعتمد على الإقناع بالمناقشة التي تكشف عن الحق. لذلك كانت المناظرة و الحوار إحدى الطرق التعليمية في الإسلام. و لأن الإسلام دعوة للتفكر و تحرير العقل اهتم علماء المسلمين عناية كبرى بالمناظرة و الحوار في طرق تعليمهم «لما لها من الأثر الكبير في شحذ الذهن و تقوية الحجة، و التمرن على سرعة التعبير، و ترتيب الأفكار، و تجديد نشاطها كما تساعد التلاميذ على تنمية قدراتهم العقلية»(2).
و كذلك كانت المناظرة من أبرز طرائق التعليم عند الإمام الصادق، حيث كان إماما في الحوار و لقد أكد في قوله و عمله أنّ العالم المربّي لا بدّ أن يفتح عقله و قلبه و علمه لكل إنسان يطرح مشكلة أو يثير شبهة و إن اختلف معه في الأسس و المبادئ الفكرية.
فكان يجلس في بيت اللّه الحرام و يحاور كبار الملاحدة و الزنادقة و ذوي الملل و النحل، بعقل منفتح و صدر واسع.
و قد يبدأ الإمام بالكلام و طرح السؤال حتى يسوق ذهنية الفرد إلى الحقيقة التي أراد أن يثبتها، كما روي أنه:
جاء أحد الزنادقة إلى الإمام و هو في بيت اللّه الحرام و لمّا فرغ من طوافه و صلاته، قال أبو عبد اللّه له: «أتعلم أن للأرض فوقا و تحتا»؟ قال: نعم. قال الإمام:
«فهل دخلت تحتها»؟ قال: لا. قال الإمام: «ما يدريك ما تحتها؟» قال: لا أدري إلا أني أظن أن ليس تحتها شيء. قال أبو عبد اللّه: «فالظن عجز، فلم لا تستيقن؟» ثم أردف الإمام يقول: «أ فصعدت إلى السماء؟» قال: لا، قال: «أ فتدري ما فيها؟» قال:
لا. قال الإمام: «عجبا لك لم تبلغ المشرق، و لم تبلغ المغرب، و لم تصعد إلى
ص: 127
السماء، و لم تجز هناك، فلم تعرف ما خلقهنّ و أنت مع ذلك جاحد بما فيهن؟»
«أيها الرجل ليس لمن لا يعلم حجة على من يعلم، و لا حجة للجاهل، إفهم عنّا فإنّا لا نشك في اللّه أبدا»(1).
و هكذا فإن الإمام بقوله: «ليس لمن لا يعلم حجة على من يعلم»، ضمن دفاع عن دينه و معتقده، يعلّم قواعد و منهجية للفكر الإسلامي من الناحية العقدية من خلال الحوار.
و يجيز الإمام لتلاميذه المناظرة، إذا كانوا مهيئين لها مع العلم و قوّة الاحتجاج، لأنّ المناظر لا بدّ «أن يكون عالما مطلقا ذا قوة و ملكة على رد الفروع إلى الأصول، و عارفا بقواعد و أدلة الأحكام»(2)، فالإمام يربّي تلاميذه على الحوار، و يمدّهم بالحجج و البراهين و أساليب الدفاع حتى كان يحيل المخالفين إليهم رغم إصرارهم على المناظرة معه شخصيا.
و من أمثلة ذلك، المناظرة التي وقعت بين تلاميذ الإمام و رجل من أهل الشام الذي دخل على الإمام و «قال: بلغني أنك عالم بكل ما تسأل عنه فصرت إليك لأناظرك، فقال الإمام: في ما ذا؟ قال: في القرآن. فقال الصادق: «يا حمران(3) دونك الرجل».
فقال الرجل: إنما أريدك أنت لا حمران فقال أبو عبد اللّه: «إن غلبت حمران فقد غلبتني» فأقبل الشاميّ يسأل حمران حتّى ضجر و ملّ و عرض و حمران يجيبه، فقال أبو عبد اللّه: «كيف رأيت يا شاميّ؟!» قال: رأيته حاذقا ما سألته عن شيء إلا أجابني فيه، ثم أراد الشاميّ أن يناظر في العربية و الفقه و الكلام فيناظر مع التلاميذ الآخرين للإمام الصادق و الإمام كان حاضرا. و في الأخير قال الشاميّ للإمام: كأنك أردت أن تخبرني أن في أصحابك مثل هؤلاء الرجال. قال: «هو كذلك»(4).
تقوم هذه الطريقة التعليمية بدور هام في مجال التدريس و «عند ما تطورت الحركة
ص: 128
العلمية و استخدم الورق، أصبح الإملاء من أعلى مراتب التعليم»(1) و سميت بعض الكتب في ذلك - الأمالي - «فيملي الأستاذ ما يريد تعليمه، و يكتب الطلاب خلف المدرّس، و بعد الانتهاء يعرج على الشرح و الإيضاح و التفسير للفقرات الغامضة، و يدون الطالب هذه الشروح على هامش الأوراق التي كتب عليها الأصول»(2).
فقد استخدم الإمام جعفر هذه الطريقة في تعليمه و أملى على تلاميذه في مختلف العلوم، و له كتاب يسمّى - أمالي الصادق - و منها إملاء الإمام على تلميذه مفضل بن عمرو في أربعة مجالس سميت بتوحيد المفضل.
إنّ الوصية طريقة تعليمية مستوحاة من القرآن الكريم و قد استفاد أبو عبد اللّه من هذه الطريقة كثيرا عند ما قام بوصايا متعددة لتلاميذه تتناول كافة الجوانب المتعلقة بشخصية الإنسان المسلم.
و منها وصيته لولده موسى الكاظم: «يا بني اقبل وصيتي، و احفظ مقالتي، فإنك إن حفظتها تعش سعيدا، و تمت حميدا.
يا بني: إنه من رضي بما قسم له استغنى، و من مد عينه إلى ما في يد غيره مات فقيرا، و من لم يرض بما قسم اللّه عزّ و جلّ اتهم اللّه في قضائه، و من استصغر زلة نفسه استعظم زلة غيره، و من استصغر زلة غيره استعظم زلة نفسه... قل الحق لك أو عليك تستشار من بين أقرانك»(3).
و ليس من الغريب أن نرى كثيرا من علماء الأمة يغتنمون فرصة الاتصال بالإمام و يطلبون منه أن يزودهم بوصاياه؛ لأنّهم يجدون فيها توجيها للخير و السعادة، فهذا سفيان الثوري و هو من علماء الأمة يتردد على الإمام و يطلب منه أن يوصيه ما ينفعه.
فقال الإمام: «يا سفيان لا مروءة لكذوب، و لا راحة لحسود، و لا سؤود لسيّئ الخلق و لا خلّة لبخيل و لا إخاء لملول»، قال: زدني، فأضاف الإمام قائلا: «كفّ عن محارم اللّه تكن عابدا، و ارض بما قسم اللّه تكن غنيا و شاور في أمورك الذين يخشون اللّه تعالى»، ثم قال: زدني فقال الإمام: «يا سفيان من أراد عزّا بلا عشيرة و هيبة بلا سلطان، فليخرج من ذلّ المعصية إلى عزّ الطاعة...»(4).
ص: 129
من الطرق التي سلكها الإمام جعفر في التربية و التعليم الأدعية التي اعتمدها قبله جدّه الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين في تربية الأمة. و قد كان لها بالغ الأثر و عظيم المنفعة في حياة المسلمين. فعبر التوجه المستمر و الانقطاع الكامل إلى اللّه تصبح النفس الإنسانية أكثر قدرة على تذويب السلبيات و على تقبّل الفضائل و الخصال الحسنة.
و ها هي أدعية الإمام الصادق مدرسة قائمة بنفسها يتخرّج منها الداعي و قد ملئ علما و ورعا، و عند ما يتأمل ما ورد عنه من مناجاة يكتشف فيها المعاني الفكرية و التربوية التي تشدّ الإنسان إلى اكتساب الفضائل و تجعله قريبا من ذاته قادرا على إرغامها باتجاه معاكس للهوى و الشهوات، و فيما يلي نشير إلى أهم هذه المفاهيم:
- تعريف العقيدة و عرض مفاهيمها و تركيز مبادئها في النفوس كتعريف اللّه تعالى بصفاته و عظمته و شدّ المسلم بكل وجوده و جوارحه إلى اللّه سبحانه كما ورد في دعائه:
«يا من يرحم من لا يرحمه العباد و يا من يقبل من لا تقبله البلاد، و يا من لا يحتقر أهل الحاجة إليه، و يا من لا يخيّب الملحين عليه فلك العلو الأعلى فوق كل عال و الجلال الأمجد فوق كل جلال»(1).
- توجيه الناس إلى حبّ اللّه تعالى بتوكيد النظر في نعم اللّه و آلائه و توكيد حمده و شكره له. و قد تمثل هذا في أحد أدعيته:
«... يا رب كم من نعمة بها عليّ، قلّ عندها شكري،... فيا من قلّ عند نعمته شكري فلم يحرمني... يا ذا المعروف الذي لا ينقضي معروفه أبدا، و يا ذا النعماء التي لا تحصى عددا... يا سيدي ما اهتديت إلا بك، و لا علمت إلا بك، و لا قصدت إلا إليك، و لا أقصد و لا أرجو غيرك...»(2).
- تنمية الإحساس بالخطأ و الاعتراف بالذنب مع توفير جوّ يشعر بالراحة و التخلّص من التبعات بالاستغفار إلى اللّه، كدعائه قائلا:
«سائل ببابك، مضت أيامه، و بقيت آثامه، و انقضت شهوته و بقيت تبعته، فارض عنه و إن لم ترض عنه فاعف عنه، فقد يعفو السيد عن عبده و هو غير راض عنه»(3).
ص: 130
- تربية الأخلاق و تقويم السلوك و تنمية مشاعر الخير في النفس الإنسانية كما يدعو ربه بقوله:
«اللّهم إني أعوذ بك من الكسل و الهمّ و الجبن و البخل و القسوة... اللّهم ارزقني مواساة من قترت عليه رزقه بما وسّعت عليّ من فضلك»(1).
- بعث السكينة و الاطمئنان و الثقة في نفس الإنسان بأنّ اللّه تعالى يستمع إليه إذا شكا، و يمدّه إذا ضعف، و يعينه إذا احتاج، فيدعوه:
«كم من كرب يضعف عنه الفؤاد و تقلّ فيه الحيلة و يشمت به العدو و تعييني فيه الأمور أنزلته بك و شكوته إليك، راغبا فيه عمن سواك ففرجته و كشفته...»(2).
و هكذا استخدم الإمام هذه الطريقة لكي تضفي جوا مناسبا على عملية التوجيه تؤصّل في الإنسان معاني الخير و الصلاح، و التي لم تتوفر في النظريات التربوية المعاصرة التي استنتجها علماء النفس.9.
ص: 131
ص: 132
المبحث الأول: البناء العقدي
المبحث الثاني: البناء العبادي
ص: 133
ص: 134
حينما نتحدث عن الفكر التربوي الإسلامي لا بدّ أن نركّز على العقيدة الإسلامية و العمل بها.
فأهمية الأساس العقدي في التربية تأتي من ارتباط هذا الأساس القوي بكل شؤون الحياة، لما لها من سلطان على النفس و الفكر و الإرادة الإنسانية.
كما أن الأساس العبادي في التربية يعمل على تقوية صلة العبد باللّه و من خلال الشعائر و العبادات، فالعقيدة تمثل الجانب النظري من الدين و قد اضطلعت بمهمة ضبط المسار الفكري للإنسان، أمّا العبادة فهي تمثل الجانب التطبيقي و هي تعنى بالمسار العملي في الحياة.
فهما متلازمتان، بحيث لا تنفصل الأولى عن الثانية.
فبقدر ما يكون هذان الأساسان متينين تكون الأمّة قوية متماسكة ملتزمة بالسلوك الإسلامي، و هذا المفهوم السليم يتجلى في تربية الإمام الصادق، فهي تشمل الإيمان و العمل، و تربط كلاّ منهما بالآخر ارتباطا عضويا مؤكدا أنّ العمل ليس إلا تجسيدا للإيمان و انعكاسا له.
و قد استهدف أبو عبد اللّه في منهجه التربوي، ربط الإنسان بربّه الإله الواحد، عقلا و قلبا؛ لأنّه يرى أن رسوخ العقيدة باللّه في النفوس، تسرع بها إلى العمل بأوامره و الابتعاد عن نواهيه.
من هنا فقد أولى التربية العقدية اهتماما كبيرا في مدرسته، و بجهده المتواصل كان يراقب الناس في أفكارهم و عقائدهم ليصونهم تجاه التيارات المنحرفة و الخاطئة، ثم يسعى إلى تسليح المجتمع عباديا و روحيا من خلال تنشئة أفراده على أداء الفرائض و الشعائر و الذكر و الدعاء...
و بكل هذا يرمي إلى بناء القواعد المؤمنة الواعية المتزوّدة بالعقيدة الصحيحة و صفاء الروح و العمل الصالح.
و فيما يلي نشير إلى أهم جهود الإمام في هذا الصدد.
ص: 135
ص: 136
المبحث الأول البناء العقدي
- العقيدة و أهميتها
- موقع العقيدة الإسلامية في فكر الإمام التربوي
- تكوين العقيدة الصحيحة في منهج الإمام التربوي
- تحصين الأمة من التيارات المنحرفة و الخاطئة
ص: 137
ص: 138
أصل العقيدة في اللغة من «عقد: نقيض الحلّ، نقول: عقد الحبل أي شدّه، و عقد البيع إذا أمضاه و وثقه، و عقدة اللسان ما غلظ منه، و عقدة كل شيء إبرامه و عقد قلبه على شيء: لزمه و تعقّد الإخاء: استحكم»(1).
و في الاصطلاح هي «ما انعقدت قلوبنا و عقولنا على معرفته معرفة غير قابلة للتشكيك، و ما انعقدت عواطفنا عليه انعقادا يصرف أفعالنا و حركاتنا، و حبّنا و بغضنا، بطريقة شعورية أو بطريقة لا شعورية، فمتى بلغ شعورنا بالشيء إلى حد أصبح يحرك عواطفنا و يوجه سلوكنا حمل اسم عقيدة»(2).
و في تعريف آخر: «هي الأمور التي يصدق بها قلبك، و تطمئن إليها نفسك، و تكون يقينا عندك، لا يمازجه ريب و لا يخالطه شك»(3).
فإنّ العقيدة تكون الأساس المطلق للإرادة و الرغبات الإنسانية على اختلافها و ترتبط ارتباطا وثيقا بالسلوك «فسلوك الإنسان و تصرفاته في الحياة مظهر من مظاهر عقيدته فإذا صلحت العقيدة صلح السلوك و استقام و إذا فسدت فسد و اعوجّ»(4).
و لا ضمان لصلاح العقيدة إلاّ بعقد الصلة و تقويتها بين الإنسان و خالقه عزّ و جلّ.
إنّ العقيدة الصحيحة هي الموجهة لرسالة الإنسان في هذه الحياة، فالإيمان ثمرة من ثمرات البناء العقدي و ناتج مرغوب للجهود التربوية التي قام بها أنبياء اللّه و رسله عبر تاريخ الإنسانية الطويل.
ص: 139
و إذا تأملنا آيات القرآن نجد أنّ الرسل و الأنبياء يعنون عناية كبيرة بسلامة عقيدة أبنائهم، فمن ذلك: وَ وَصّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (1).
و هذا الإيمان هو الركن الأساس الذي بدأ الإسلام به في تكوين شخصية المسلم، و الإنسان الذي يسلك في هذه الحياة و لديه المعتقد الديني الصحيح، يكون إنسانا سويّا يتمتع بوعي و بصيرة وسعة في الأفق و طمأنينة في القلب.2.
ص: 140
يبدأ الإمام الصادق رسالته التربوية من تكوين العقيدة السليمة و وجوب تعليمها، فهو يرى أنّ غرس مفاهيم الإيمان باللّه و عقيدة التوحيد في النفوس هو أمثل طريقة لإيجاد عناصر صالحة تستطيع أن تقوم بدورها كاملا في الحياة.
و ممّا حفظ عنه من ضرورة تعلّم الإنسان في مجال العقيدة قوله: «وجدت علم الناس كلهم في أربعة: أولها: أن تعرف ربك و الثاني: أن تعرف ما صنع بك و الثالث:
أن تعرف ما أراد منك و الرابع: أن تعرف ما يخرجك عن دينك»(1).
هذه أقسام تحيط بالمفروض من المعارف: لأنه «أول ما يجب على العبد معرفة ربه جل جلاله فإذا علم أن له إلها وجب أن يعرف صنيعه إليه، فإذا عرف صنيعه إليه، عرف به نعمته، فإذا عرف نعمته وجب عليه شكره، فإذا أراد تأدية شكره وجب عليه معرفة مراده ليطيعه بفعله، و إذا وجبت عليه طاعته وجبت عليه معرفة ما يخرجه عن دينه ليجتنبه، فيخلص به طاعة ربه و شكر إنعامه»(2).
فنرى الإمام يبين أن الإيمان باللّه و التعرف إليه ليس مجرد كلام، بل هو سلوك و تقوى، و تجنب الذنوب و التمسك بما يحب اللّه تعالى، و شكره و استغفاره.
فإذا «عرف الإنسان ربه، و قوى صلته به، فإن هذه المعرفة، بفاطر السموات و الأرض ستثمر ثمارا طيبة، و ستترك في النفس آثارا طيبة، و بالتالي ستوجه السلوك نحو الخير و الحق، و هو ما يحبه اللّه عزّ و جلّ و يرضاه»(3).
و من هنا دعا الصادق تلاميذه إلى معرفة اللّه كأساس البناء العقدي للفرد المسلم و كشف لهم عن جليل آثارها فقال: «لو يعلم الناس ما في فضل معرفة اللّه عزّ و جلّ ما
ص: 141
مدوا أعينهم إلى ما متع اللّه به الأعداء من زهرة هذه الحياة الدنيا و نعيمها، و كانت دنياهم أقل عندهم مما يطؤونه بأرجلهم، و لنعموا بمعرفة اللّه عزّ و جلّ و تلذذوا بها تلذذ من لم يزل في روضات الجنات مع أولياء اللّه، إنّ معرفة اللّه أنس من كل وحشة، و صاحب من كل وحدة، و نور من كل ظلمة، و قوة من كل ضعف، و شفاء من كل سقم»(1).
و إذا تأملنا تعاليم مدرسة الإمام التي تتناول موضوع العقيدة نجد أنّ الإمام يركّز تربيته العقدية على أساس إيجاد الوعي و البصيرة في الأمة اعتمادا على كتاب اللّه.
فالعقيدة عند ما تستند إلى العلم و الإدراك و الاستدلال و القناعة التامة تتأصل في النفوس و لا تزول من القلوب فقال الإمام: «من عرف دينه من كتاب اللّه زالت الجبال قبل أن يزول و من دخل في أمر بجهل خرج منه بجهل»(2).
على هذا الأساس يبني الإمام تربيته على محورين:
الأول: تكوين العقيدة الصحيحة.
الثاني: تحصين الأمة عن التيارات المنحرفة و الخاطئة.3.
ص: 142
احتل الجانب التربوي العقديّ مساحة كبيرة من اهتمامات الإمام الصادق، فهي بالنسبة له، الوسيلة الفاعلة التي تدفع الإنسان لحمل رسالته على الأرض، ذلك لأن «تهذيب سلوك الأفراد عن طريق غرس العقيدة الدينية هو أسلوب من أعظم الأساليب التربوية»(1).
و هذا الأساس يقوم على مرتكزات و دعائم، سماها العلماء أركان الإيمان أي ما عليها يقوم كيان المسلم الإيماني، و هذه الأركان جاءت صريحة في حديث الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم: «الإيمان أن تؤمن باللّه و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر و تؤمن بالقدر خيره و شره»(2).
و عند التأمل في النصوص الواردة عن الإمام يظهر لنا أنّه بذل جهدا واسعا في ترسيخ هذه الأركان التي تتمثل في الأمور التالية:
- المعرفة باللّه عزّ و جلّ و بأسمائه الحسنى، و صفاته العليا، و المعرفة بدلائل وجوده، و مظاهر عظمته في الكون.
- المعرفة بعالم ما وراء الطبيعة، و ما فيه من قوى الخير التي تتمثل في الملائكة.
- المعرفة بكتب اللّه تعالى التي أنزلها لتحديد معالم الحق و الباطل.
- المعرفة بأنبياء اللّه تعالى و رسله عليهم الصلاة و السّلام، الذين اختارهم ليكونوا أعلام الهدى و قادة الخلق إلى الحق.
- المعرفة باليوم الآخر، و ما فيه من بعث و جزاء، و ثواب و عقاب، و جنة و نار.
- المعرفة بالقدر الذي يسير عليه نظام الكون في الخلق و التدبير.
فإن «كلّ ركن من هذه الأركان ذو صلة وثيقة بسائرها بحيث تكون في النهاية كلاّ متكاملا، يؤثر بمجموعة المترابط في حياة الإنسان»(3).
ص: 143
فيسمّى الفرد مؤمنا حين يؤمن بهذه الأمور كلّها إيمانا راسخا خالصا، و فيما يلي نستعرض الاتجاهات الرئيسة في فكر الإمام جعفر لتكوين هذه العقيدة الصحيحة و تأصيلها في نفوس الناس.
لقد استهدف الإمام جعفر غرس الإيمان باللّه و توحيده في نفوس تلاميذه، ذلك لأن «معرفة اللّه هي أساس البناء التربوي الأصيل و مرتكز غذاء الروح و صفاء الفطرة الإنسانية»(1).
فيرى الإمام أن أشرف أنواع العلوم بل أفضل الفرائض هو المعرفة باللّه و صفاته و الإقرار بها فيقول: «إن أفضل الفرائض و أوجبها على الإنسان معرفة الرب و الإقرار له بالربوبية»(2).
و عند ما سئل أي الأعمال أفضل؟ قال» «توحيدك لربك»(3).
فقام أبو عبد اللّه بتعميق الوازع الديني في نفوس المتعلمين عن طريق تبيين هذه المعرفة الشريفة و ترسيخها، باستخدام الأدلّة الفطرية و الحسيّة و العقلية، و تعريف اللّه بصفاته و أسمائه - حسب مستويات الناس - حتى يستطيع الفرد المسلم أن يظل صامدا أمام الغشاوات الّتي تتعرض لها مرآة النفس من ظلمات الشهوات و الغرائز المنحرفة، و كذلك تجاه الشبهات و التيارات التي تواجهه في الحياة.
و إليكم أهم هذه البراهين و هي كما يلي:
إنّ الفطرة الإنسانية هي «الخلقة التي خلق اللّه عليها الإنسان أول ميلاده قبل أن يتغيّر صفوها بفعل شياطين الإنس و الجن»(4).
و قد فطر اللّه تبارك و تعالى الإنسان على معرفته و الإيمان به و أصبح هذا الإيمان جزءا من ماهيته لا يستطيع الانفكاك منه، و هذا المعنى أكّده اللّه تعالى بقوله:
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ (5) .
ص: 144
و عند ما سئل الإمام الصادق عن معنى هذه الآية الشريفة قال: «فطرهم جميعا على التوحيد»(1).
و في هذا الكلام تأكيد على أنّ الفطرة ليست غرسا من غراس البشر يغرسه المربون في نفوس و قلوب الأجيال و إنّما هو غرس ربّاني جبلّي يملكه كل إنسان من غير تربية و من غير تعليم، كما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه»(2).
أي إن الإقرار بوجود اللّه مركوز في جبلّة الإنسان و كيانه، فيكون دور المربين هو تعهد الفطرة و المحافظة على سلامتها و خيريتها.
و من هذا المنطلق، اهتم الإمام الصادق بإحياء بذور الفطرة في الناس و لفت الأنظار إلى أن هناك معرفة فطرية عامة لا يفقدها أحد، سواء فيها العالم و الجاهل، و المؤمن و الكافر، فوصف اللّه بأنّه تعالى «معروف عند كل جاهل»(3).
و مما يدل على هذه المعرفة الفطرية بوجوده سبحانه أن الإنسان عند مواجهته للحوادث المهيبة، و يأسه من الأسباب المعروفة عنده، يوقن أن هناك خالقا عظيما يقدر على نجاته لو شاء، فاستشهد به الإمام حين سأله رجل: ما الدليل على اللّه؟ و لا تذكر لي العالم و العرض و الجوهر؟ فقال له: هل ركبت البحر؟
قال: نعم. قال: هل عصفت بكم الريح حتى خفتم الغرق؟ قال: نعم.
قال: فهل انقطع رجاؤك من المركب و الملاحين؟ قال: نعم.
قال: فهل تتبعت نفسك أن ثم من ينجيك؟ قال: نعم.
قال: فإن ذاك هو اللّه. قال اللّه تعالى: ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (4).
فقد ذكّر الصادق السائل بالميثاق المعهود بين فطرة البشر و خالق البشر الذي يظهر في حالة الشدّة في صورة الالتجاء إلى اللّه تعالى.
و يشير بأنّ الإنسان في مثل هذا المأزق الحرج يجد نفسه تتعلّق بقوة غيبية عليا، يؤمن بأنّها أقوى قوة في الوجود و بأنّها قادرة على أن تخلّصه من هذه الشدة، فيلجأ إليها و يطلب منها النجاة، و «هذا الاندفاع الفطري للتعلق باللّه تعالى و الإيمان بقدرته3.
ص: 145
على النجاة من الشدائد هو دليل على وجود اللّه و هو ما يسمى بفطرة التديّن»(1).
و على الرغم من أنّ الإنسان مفطور على الإيمان باللّه، لم تكن هذه الفطرة جبرا لازما، إذ مكّنه اللّه من حريّة الاختيار ما بين الكفر و الإيمان و هذا جليّ في قول الإمام عند ما سئل:
«من خلقه اللّه كافرا أ يستطيع الإيمان، و له عليه بتركه الإيمان حجة؟
قال: «إن اللّه خلق خلقه جميعا مسلمين، أمرهم و نهاهم، و الكفر اسم يلحق الفعل حين يفعله العبد... فعرض عليه الحق فجحده فبإنكاره الحق صار كافرا»(2).
فقد صرّح الإمام بأن اللّه تعالى خلق عباده على فطرة التوحيد، و أمرهم بما يقربهم إليه زلفى، و قد اختارت شرائح من الخلق الكفر و الإلحاد و جحدوا الحق، و ذلك بإرادتهم و اختيارهم.
و هكذا عقيدة التوحيد في مدرسة الصادق أمر مركوز في طبيعة الإنسان و فطرته، و قد تحجبها الغفلة و البيئة و التقليد أحيانا، و لكنّ الإمام يرى بأن جذور هذه المعرفة عميقة في النفس، فلذا يحاول أن يردّ كل فرد إلى فطرته السليمة حتى يعرف ربّه من تلقاء نفسه.
أعمق المعرفة باللّه تعالى هي الحاصلة من النظر في الآفاق و الأنفس، و هو ما حضّ عليه القرآن الكريم و منه قوله سبحانه: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ (3).
و «كان بالإمكان لهذا الاتجاه الحسي في البحث عن نظام الكون أن يقدم دعما باهرا للإيمان باللّه سبحانه و تعالى بسبب ما يكشفه من ألوان الاتساق و دلائل الحكمة التي تشير إلى الصانع الحكيم»(4).
و لم يغفل الإمام المربّي عن الملاحظة و النظر في هذه الآيات الدالّة على القدرة الإلهية فقال: «و من صلاح دينه - الإنسان - معرفة الخالق بالدلائل و الشواهد القائمة في الخلق»(5).
و قد ينقل المتعلمين من عالم الآفاق إلى عالم الإنسان الذي يرى في صنعه
ص: 146
عجائب، فقال: «و العجب من مخلوق يزعم أن اللّه يخفى على عباده و هو يرى أثر الصنع في نفسه»(1).
و هو يبيّن الطريق الموصلة إلى معرفة اللّه سبحانه بدلالات حسيّة تقود إلى الإيمان به وحده فيستدلّ باستقامة النظام الكوني و وحدته على وجود اللّه و توحيده قائلا:
«و لعمري لو تفكروا في هذه الأمور العظام لعاينوا من أمر التركيب البين و لطف التدبير الظاهر و وجود الأشياء مخلوقة بعد أن لم تكن، ثم تحولها من طبيعة إلى طبيعة و صنيعة بعد صنيعة ما يدلهم على الصانع، فإنه لا يخلو شيء منها من أثر تدبير و تركيب يدل على أن له خالقا مدبرا و تأليف بتدبير يهدي إلى واحد حكيم»(2).
فالصادق يعتمد في كلامه على عنصري الملاحظة و التفكير، و هذه الطريقة من المحسوس إلى المعقول هي طريقة القرآن الكريم في الوصول إلى الحقيقة.
و بما أن الإيمان يزيد برؤية آيات اللّه في إبداع مخلوقاته و جميل صنعه، ينبّه الإمام الأفراد إلى الدقّة و التأمل فيما حولهم من ظواهر و مخلوقات و يشرح لهم عجائب الصنع الإلهي و لطائف التدبير فيها، ليضع منظارا إيمانيا أمام أعين المتعلمين بحيث يستطيعون رؤية اللّه و عظمته في كل شيء، كما روي أن رجلا جاء إلى الإمام فقال: يا جعفر بن محمد دلني على معبودي. فقال له أبو عبد اللّه: إجلس. و إذا غلام له صغير في كفه بيضة يلعب بها.
فقال له أبو عبد اللّه: «ناولني يا غلام البيضة. فناوله إياها، فقال له أبو عبد اللّه: هذا حصن مكنون له جلد غليظ و تحت الجلد الغليظ جلد رقيق، و تحت الجلد الرقيق ذهبة مائعة، و فضة ذائبة، فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضة الذائبة، و لا الفضة الذائبة تختلط بالذهبة المائعة، فهي على حالها، لم يخرج منها خارج مصلح فيخبر عن صلاحها، و لا دخل فيها مفسد، فيخبر عن فسادها، لا يدري للذكر خلقت أم للأنثى، تنفلق عن مثل ألوان الطواويس أ ترى لها مدبرا؟»(3)
و هكذا يوجّه الإمام نظر من يريد تربيتهم إلى جمال الإبداع الإلهي، و يفتّح بصائرهم على القدرة المعجزة و الخلائق العجيبة من الصانع الحكيم، و ذلك حسب مراحل نموهم و مداركهم و مستوى ثقافتهم و تعليمهم.
فما يملك القلب إزاء ذلك إلا أن يخشع و يهتزّ لعظمة اللّه، و ما تملك النفس تجاه هذا إلا روح الخشوع و العبودية لربّ العالمين.4.
ص: 147
لئن كان وجود الخالق من الأمور البديهية المركوزة في فطرة الإنسان منذ نشأته الأولى، إلا أن الصادق يرى أن يستخدم بعض البراهين النظرية العقلية كوسيلة للتعرف على صدق هذا الإحساس الفطري، لإزالة ما يمكن أن يعرض للنفس من الشكوك و الشبهات.
فحرص على تأصيل معرفة اللّه و توحيده، على أساس العلم و البصيرة و الوعي، فسلك في تعاليمه مسلك القرآن العقلي و استدلّ بالأدلّة الحاسمة ردّا لكلّ أنواع الإنكار أو الشك أو الظنّ.
ذلك لأن «العقل كالبصر، و الشرع كالشعاع، و لن يغني البصر ما لم يكن شعاع من خارج، و لم يكن الشعاع ما لم يكن بصر»(1) و اليقين بالمعرفة الناتجة عن العقل و أدواته أول نصير للعقيدة الإسلامية.
و هذا ما أشار إليه الإمام بقوله: «فبالعقل عرف العباد خالقهم و أنهم مخلوقون، و أنه المدبر لهم و أنهم المدبرون، و أنه الباقي و هم الفانون»(2).
فقد اعتبر الصادق العقل أداة من أدوات المعرفة و أنّه مكلّف بالتعرّف على خالقه.
و عند ما سئل ما الدليل على أنّ لك صانعا؟ يخاطب عقل السائل و يوجّهه إلى معرفة الصانع عبر سبر الحالات الممكنة العقلية. و هذا ما نصه:
قال: «وجدت نفسي لا تخلو من إحدى جهتين: إما أكون صنعتها أنا، أو صنعها غيري. فإن كنت صنعتها، فلا أخلو من أحد معنيين، إما أن أكون صنعتها و كانت موجودة فقد استغنت بوجودها عن صنعتها، و إن كانت معدومة، فإنك تعلم أن المعدوم لا يحدث شيئا، فقد ثبت المعنى الثالث أن لي صانعا و هو رب العالمين»(3).
فقد زخرت تعاليم الصادق بكثير من هذه الأدلّة القائمة على العقل و التفكير الموضوعي، لإقامة الحجة على الناس.
و قد يشير إلى التغيير المستمر في هذا الكون الفسيح، و بما أنّ «التغيّر لا ينفك عقلا عن معنى الحدوث»(4)، يستدلّ الإمام به على وجود الخالق العظيم فيقول ما نصه:
ص: 148
«إن الأشياء تدل على حدوثها، من دوران الفلك بما فيه، و هي سبعة أفلاك، و تحرك الأرض و من عليها، و انقلاب الأزمنة، و اختلاف الوقت، و الحوادث التي تحدث في العالم: من زيادة، و نقصان، و موت، بأن لها صانعا و مدبرا، أ لا ترى الحلو يصير حامضا، و العذب مرّا، و الجديد باليا، و كلّ إلى تغير و فناء»(1).
هذا الكلام يبيّن أن كلّ هذه التغييرات الكونية لا بدّ لها قطعا من سبب حقيقي كامل القدرة، ينتهي إليه معنى الخلق و الإبداع.
و قد يحتّج الإمام بدليل التسخير و الاضطرار، فيرى بأنّ كل مضطر مخلوق و لا بدّ له من مدبّر فقال: «أما ترى الشمس و القمر و الليل و النهار يلجان فلا يشتبهان، و يرجعان، قد اضطرا، ليس لهما مكان إلا مكانهما، فإن كانا يقدران على أن يذهبا فلم يرجعان؟ و إن كانا غير مضطرين فلم لا يصير الليل نهارا، أو النهار ليلا؟! اضطرا إلى دوامهما، و الذي اضطرهما أحكم منهما و أكبر.
إن الذي تذهبون إليه، و تظنون أنه الدهر، إن كان الدهر يذهب بهم لم لا يردهم، و إن كان يردهم لم لا يذهب بهم؟ لم السماء مرفوعة و الأرض موضوعة؟
لم لا تسقط السماء، على الأرض، لم لا تنحدر الأرض فوق أطباقها، و لا يتماسكان و لا يتماسك من عليها؟»(2)
كما يستدل الصادق على وجود صانع الكون و مدبره بسمات الافتقار و الحاجة في الموجودات. فكون الإنسان و غيره من الأشياء فقيرا و محتاجا ذاتيّا دليل واضح على أنه معلول و مخلوق.
و قد نراه يأتي بأوجز بيان في البرهان مع الوفاء بالقصد، و ذلك حين يسأل عن الدليل على الواحد فيقول: «ما بالخلق من حاجة»(3).
فإنا نجد الناس في حاجة مستمرة في كل شأن من شؤون الحياة، و هذه الحاجة تدل على وجود مآل لهم في حوائجهم إلى غني عنهم بذاته.
و بما أن التوحيد هو الأصل الأصيل الذي تقوم عليه المعرفة الدينية فقد بذل الإمام جهده طوال حياته في تثبيت أركان هذا المعتقد العقلي و الديني و منها ما احتجّ على الزنديق الذي ادّعى اثنين فقال:
«لا يخلو قولك: إنهما اثنان، من أن يكونا قديمين قويين، أو يكونا ضعيفين، أو يكون أحدهما قويّا و الآخر ضعيفا، فإن كانا قويين لم لا يدفع كل واحد منهما7.
ص: 149
صاحبه و يتفرد بالتدبير؟ و إن زعمت أن أحدهما قوي و الآخر ضعيف، ثبت أنه واحد كما نقول، للعجز في الثاني»(1).
و ليست هذه الأدلة كلها إلا لتزويد الناس بالبراهين المقنعة التي تقويّ جانب العقيدة و تؤدّي إلى الإيمان الراسخ و الثابت لهم، و صحيح أنّ الصادق لم يعرض أدلته بالأسلوب المعقّد الذي نجده في الكتب الفلسفية و الكلامية و هذا يزيد من قيمة طريقته التي اتخذها من المنهج القرآني، فهو يستخدم الأدلّة القائمة على التفكير الفطريّ الذي لا يعتريه ريب و لا يداخله شك، و يراعي مستوى عقل السائل و ثقافته ثم يختار له الإجابة الواضحة و السهلة و التي تكون أكثر ملائمة لفكرة المخاطب.
إنّ أسماء اللّه الحسنى هي الوسيلة التي تعرّف اللّه بها إلى خلقه، و هي النوافذ التي تفتح أمام الإنسان آفاقا فسيحة تشاهد فيها أنوار اللّه و جلاله. و المنهج المعرفي الذي سلكه الإمام الصادق في التعرف على اللّه لا يقتصر على التدليل لوجود الخالق فحسب، بل يتعدّاه إلى تبيين أسماء اللّه و صفاته العليا للناس.
ذلك لأنّ الإنسان يقيم علاقاته مع اللّه من خلال هذه الصفات، و يدعوه و يتضرّع إليه في إطار معرفته له.
و على ضوء هذا التصور نرى أن الإمام جعفرا يستغلّ أيّ فرصة - و لو بلسان الدعاء - لتعليم صفات الباري لتلاميذه و رفع مستواهم في معرفة اللّه.
كما جاء في دعائه المنثور: «يا من يعطي من سأله، يا من يعطي من لم يسأله و من لم يعرفه تحننا منه و رحمة»(2).
نستشف مما ورد في هذا الدعاء مدى سعة رحمة اللّه بعباده و محبته لهم، و مدى مغفرته لذنوبهم و عفوه عن معصياتهم، حتى عن أولئك الذين لا يعبدونه حق عبادته، و لا يسألونه عطاء و لا يعترفون بجميله، و هذا ما يدعو إلى مزيد تعلق بالخالق المنان، و إلى مزيد من المحبة و الامتنان لعطاياه.
إنّ العقيدة الإسلامية تتميّز بالحيويّة «فهي تضفي على الخالق صفات تجعله قريبا من الإنسان أو معه بحيث يراه في كلّ لحظة يراقب تصرفاته و يحاسبه عليها و يكافئه»(3).
ص: 150
هذا ما أشار إليه الإمام بقوله: «كيف يكون غائبا من هو مع خلقه شاهد و هو أقرب إليهم من حبل الوريد يسمع كلامهم و يعلم أسرارهم، لا يخلو منه مكان و لا يشغل به مكان، و لا يكون إلى مكان أقرب منه إلى مكان، تشهد بذلك آثاره و تدل عليه أفعاله»(1).
فتأكيد الإمام على تعريف الباري تعالى بصفاته و أسمائه نابع من آثارها التربوية في الإنسان، فكلما ازدادت معرفة الفرد بهذه الصفات ازداد حبّا للّه و ذكرا و خشوعا له، من هنا نجد كثيرا من المواقف التي يلفت الإمام أنظار الناس إلى معرفة حقيقية للّه تعالى و منها كلامه: «يا من يشكر اليسير و يعفو عن كثير و هو الغفور الرحيم»(2).
هذه الصفة الإلهية التي يريد الإمام تعميقها في النفوس، توحي بأنّ اللّه تبارك و تعالى يتقبّل القليل من الطاعة و يعطي الكثير من الثواب، فهذه المعرفة تعدّ دافعا قويّا للتوجه إلى العمل الصالح و الإحسان.
و كذلك لم يغفل الإمام عن الصفات التي تترك انعكاساتها المباشرة على سلوك الفرد و منهجية حياته و منها وصف الباري بالسميع و البصير الذي ورد في كثير من الآيات القرآنية فقال الصادق: «من علم أن اللّه يراه و يسمع ما يقول و يعلم ما يعمل من خير أو شر، فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال، فذلك الذي خاف مقام ربه و نهى النفس عن الهوى»(3).
فهاتان الصفتان - السميع و البصير - تلقيان في قلوب المؤمنين السكينة من حيث كون يد العناية و الحماية الإلهية معهم في كل حال، و من جهة أخرى فإنهما تنطويان على تحذير خفيّ للمؤمنين ليراقبوا أقوالهم و أعمالهم؛ لأن اللّه محيط بها علما.
و هكذا يرى الإمام لأسماء اللّه الحسنى و صفاته طابعا عقديّا، فيرى بها تكميل المعارف الإلهية عند أبناء المجتمع، إلى جانب أثرها التربوي في تكامل النفوس الإنسانية من روح مراقبة اللّه و حبّه.
فهو لم يكتف بإيجاد القناعة الإيمانية في العقل فحسب، بل يغذّيها برعاية العواطف و مشاعر الحبّ و الخوف و الإجلال عن طريق تعريف اللّه بصفاته و أسمائه، ذلك لأنّ الإيمان باللّه لا يستقرّ و يثبت لدى الإنسان إلاّ بقوة من دعامتي العقل و العاطفة معا.3.
ص: 151
من أركان العقيدة الإسلامية الإيمان بالملائكة، قال اللّه تعالى في صفة عقيدة المؤمنين:
آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ (1) .
إنّ «عالم الملائكة عالم كبير واسع من الغيب الذي حجب اللّه عنا علمهم، و ليس لنا سبيل إلى هذا العالم الواسع و العجيب إلاّ من خلال الوحي، و هو من الغيب الذي أمرنا اللّه تعالى أن نؤمن به»(2).
قال اللّه تعالى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (3).
فالصادق يلقي الضوء على هذه الآية الشريفة مثبتا ضلال من يكفر بالملائكة، و يصرّح بأن قوله تعالى «يدلّ على وجوب الإيمان بالملائكة و الرسل و أن عداوتهما كفر»(4) ذلك لأنّهم يقومون بدور الوساطة و السفارة بين اللّه و أنبيائه، و يوحون لهم شريعة اللّه للناس و لهم عمل في عالم الأرواح، و عمل في عالم الطبيعة، و لهم صلة خاصة بالإنسان.
و قد أشار أبو عبد اللّه إلى أمر تسبيح اللّه تعالى و تقديسه للملائكة، و قد رمى بذلك إلى زيادة معرفة الناس بحقيقتهم حتى يدركوا من الكون ما لم يدركه الغافلون و هو ما عبّر عنه بقوله:
«ما في السموات موضع قدم إلا فيها ملك يسبّحه - اللّه - و يقدّسه و لا في الأرض من شجر و لا مدر إلا و فيها ملك موكل بها يأتي اللّه كل يوم بعملها»(5).
و قد اقتضت حكمة اللّه أن يسخر الملائكة لكثير من الوظائف يقومون بها في الناس، كمراقبة أعمال البشر، ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (6) و المحافظة على الناس: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمّا عَلَيْها حافِظٌ (7) و قبض أرواحهم: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ (8).
و قد تحدّث الإمام عن أعمال الملائكة و علاقتهم بالإنسان تثبيتا للاعتقاد بوجودهم
ص: 152
و مكانتهم، فقال: «وكّل اللّه عزّ و جلّ ملائكة بالدعاء للصائمين و لم يأمرهم بالدعاء لأحد إلا استجاب لهم فيه»(1).
إنّ الإيمان باللّه يقتضي الإيمان بما أنزل اللّه على رسله من الكتب السماوية.
ذلك لأنّ «الرسالات هي الكتب السماوية التي تضمنت رسم اللّه للعقائد و العبادات و أصول الحلال و الحرام، و من هنا طلب الإسلام الإيمان بالكتب سواء ما أنزل على محمد و ما أنزل على إخوانه السابقين»(2).
فيقول تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ الْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَ الْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ (3).
لقد اشتركت الكتب السماوية كلّها في بيان أصول الدين كما نرى كثيرا مما أنزله اللّه في الكتب الأولى قد جاء في القرآن بالتصريح أو من غير تصريح.
و قد أشار الصادق إلى هذا الأمر بقوله: «إنّ اللّه تبارك و تعالى أعطى محمدا شرائع نوح و إبراهيم و موسى و عيسى عليهم السّلام: التوحيد و الإخلاص، و خلع الأنداد و الفطرة الحنيفية السمحة....»(4).
و القرآن آخر الكتب السماوية أنزله اللّه على خاتم أنبيائه و رسله و اقتضت مشيئة اللّه أن ينسخ هذا الكتاب الشامل الكامل ما سبقه من الكتب جميعا و يهيمن عليها. و قد تكفل اللّه بحفظه من أي تحريف أو تبديل أو زيادة أو نقص. «فوجود الكتاب الرباني في الأمة من بعد الرسول بمثابة استمرار الرسول نفسه فيهم، من حيث التعرف على أصول الدين و أحكام الشريعة، و سائر مواعظها و آدابها»(5).
فقد وجّه أبو عبد اللّه الأمة الإسلامية إلى دور القرآن و حقيقته و أهميته، فقال ما نصّه: «لقد تجلى اللّه لخلقه في كلامه، و لكنّهم لم يبصروه»(6).
و قوله: «القرآن عهد اللّه إلى خلقه، فينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده»(7).
فحضّ في كثير من تعاليمه على التمسك بالكتاب العزيز؛ لأنه هو المصدر الأول
ص: 153
لتحصيل المعرفة الدينية، فهو مدرسة حيّة تنظم حياة المسلم في الدنيا كما تبين سعادته في الآخرة، و إليكم بعض تعاليمه في هذا الصدد:
إنّ القرآن هو صراط اللّه الذي رسمه لعباده و هو السبيل الوحيد الذي يوصل الإنسان إلى اللّه تعالى و يتطابق بشكل دقيق مع فطرة الإنسان، فالإيمان بأنّ القرآن من عند اللّه هو الذي يجعله مقوما لحياة الفرد و المجتمع.
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ (1) .
فعلى هذا يرى الصادق أن معرفة القرآن، هي أصل الحركة و التكامل للإنسان و أن الكمال الذي يحصل للفرد بالتفاعل مع القرآن لا يحصل له بغيره. و بالقرآن يتسنى للإنسان أن يعرف موقعه في الوجود و عوالمه و ما كان المقصود من خلقه، فيقول:
«من لم يعرف الحق من القرآن لم يتنكب الفتن»(2).
و القرآن تبيان لكل شيء يحتاجه الإنسان إليه في حياته، فشريعته «صالحة لكل زمان و مكان لما اتصفت به من مرونة و شمول، فهي تحدد الأسس و المبادئ فيما يتغير بتوالي العصور و فيما يختلف بين الشعوب»(3).
فقد أشار الإمام إلى هذه الخصوصية التي تؤدي إلى ضرورة تفاعل الناس مع القرآن في كل العصور، فعند ما سئل: ما بال القرآن لا يزداد على النشر و الدرس إلا غضاضة؟ فقال: «لأنّ اللّه تبارك و تعالى لم يجعله لزمان دون زمان و لا لناس دون ناس، فهو في كل زمان جديد، و عند كل قوم غضّ إلى يوم القيامة»(4).
هذا التوجيه التربوي إضافة إلى بيان صفة الخلود للقرآن يضمن تأثيره الهائل و المتصل في النفوس. فكلّما التقى الإنسان القرآن و جلس إليه، ترك القرآن في نفسه انطباعا و أثرا جديدا غير الذي تركه في نفسه من قبل، و قام عن القرآن بفائدة جديدة، و زاده هدى على هدى كما سلب منه شكا أو ريبا.
و في ضوء هذا يعرّف الصادق كتاب اللّه بأنه ضابط لتمييز الحق من الباطل من الأقوال و الآراء، فيقول: «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلا و له أصل في كتاب اللّه عزّ و جلّ و لكن لا تبلغه عقول الرجال»(5).
ص: 154
فيربي تلاميذه على هذه القاعدة، ليعرفوا الصواب و الخطأ من الأحاديث المنسوبة إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، فيؤكد على أن: «ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف»(1).
و الصادق يزن الحديث بالقرآن، فالصحيح ما وافقه، و غيره ما خالفه. فكان السابق إلى منهج يعد اليوم «أهم المناهج الفكرية المعاصرة ألا و هو منهج التناص أو مقارنة النص بالنص - مقارنة نص الحديث بنص القرآن - و اكتشاف مدى قيمته العلمية من خلال استنطاقه في عملية التناص المذكورة»(2). و هذا من أبرز قواعده التربوية للبناء العقدي، و كان هدفه تربية عقل إسلامي يعتمد القرآن الكريم.
و لم يكتف الصادق في تعاليمه بوصف القرآن و الدعوة إلى التدبر فيه بل يؤكد على التمسك العملي به، ذلك لأنه كتاب التربية، و كل كلمة فيه هي توجيه تربوي لإنشاء الإنسان الصالح، فحضّ تلاميذه على الاعتبار و العمل به بقوله: «عليكم بالقرآن، فما وجدتم آية نجا بها من كان قبلكم، فاعملوا به، و ما وجدتموه هلك من كان قبلكم فاجتنبوه»(3).
و عند ما لبى الصادق نداء جده رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في هذا الصدد(4)، فإنه كان يدرك خطورة النصوص المخالفة للقرآن الكريم، تلك التي أقبل إليها المسلمون المنفتحون على الثقافات الجديدة كما هو حالنا اليوم من خلال الانفتاح المحموم الذي نعيشه على الثقافات العالمية المعاصرة التي تتعارض بمجملها مع القرآن الكريم.
إنّ النبوة ظاهرة ربانية تنير حياة الإنسان و تكملها، و النبي هو حامل رسالة اللّه إلى عباده، و هي وحدها القادرة على إنقاذهم من مهاوي الضلالة لو أخذوا بها. «و لو ترك اللّه سبحانه و تعالى بني آدم دون رسل يهدونهم إلى سبل الخير و الفضيلة لعاشوا حياة الغاب تتحكم فيهم شهواتهم و غرائزهم، لا يعرفون للفضائل أو الأخلاق الحميدة أو المسؤولية الاستخلافية، سبيلا»(5).
من أجل ذلك أرسل إليهم الأنبياء و الرسل لهدايتهم إليه - سبحانه - و الأخذ
ص: 155
بأيديهم إلى الطريق المستقيم. من ثم يرى الصادق أن أفضل الفرائض و أوجبها على الإنسان بعد معرفة الرب معرفة الرسل و الشهادة لهم بالنبوة، فيقول: «بعث اللّه أنبياءه و رسله و نبيه محمدا صلّى اللّه عليه و سلّم فأفضل الدين معرفة الرسل و ولايتهم»(1).
و قد اعتبر الإمام أنّ الاعتقاد بأنبياء اللّه و رسله ناتج عن الإيمان باللّه و معرفة صفاته، فعند ما يسئل من أين أثبتّ الأنبياء؟
قال: «إنا لما أثبتنا أن لنا خالقا صانعا متعاليا عنا و عن جميع ما خلق، و كان ذلك الصانع حكيما متعاليا، لم يجز أن يشاهده خلقه و لا يلامسوه، فيباشرهم و يباشروه و يحاجهم و يحاجوه، ثبت أن له سفراء في خلقه يعبرون عنه إلى خلقه و عباده، و يدلونهم على مصالحهم و منافعهم و ما به بقاؤهم و في تركه فناؤهم. فثبت الآمرون و الناهون عن الحكيم العليم في خلقه و المعبرون عنه جل و عز و هم الأنبياء و صفوته من خلقه»(2).
لقد أمرنا اللّه أن نؤمن بجميع الرسل؛ لأن كل الرسالات الإلهية تنبع من مصدر واحد و تتفق في توحيد اللّه و الأمر بعبادته و في أسس الدين و مبادئه، قال تعالى:
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا (3) .
انطلاقا من تعاليم القرآن، ينبه أبو عبد اللّه إلى أنّ الإيمان بواحد من الرسل لا ينفك عن الإيمان بجميع الأنبياء الصادقين، فوجب الإيمان بهم جميعا، و لا يصحّ إيمان من أنكر نبوة واحد من الرسل قائلا: «إعلموا أنه لو أنكر رجل عيسى بن مريم و أقر لمن سواه من الرسل لم يؤمن»(4).
و قد «اقتضت حكمة اللّه أن يجعل الأنبياء أكمل البشر خلقا و أفضلهم علما و أشرفهم نسبا و أعظمهم أمانة حتى يكونوا أسوة كاملة للبشر»(5) فلذا لم يكتف أبو عبد اللّه بترسيخ العقيدة بالأنبياء فحسب، بل يصفهم بالخصائص التي تجعلهم أهلا لحمل الرسالة، و ذلك لغرس حبّهم في النفوس و السير على نهجهم كقوله: «إنّ الصبر و الصدق و الحلم و حسن الخلق من أخلاق الأنبياء عليهم السّلام»(6).9.
ص: 156
و كقوله: «و لا يفرض اللّه عزّ و جلّ على عباده طاعة من يعلم أنه يغويهم و يضلهم، و لا يختار لرسالته و لا يصطفي من عباده من يعلم أنه يكفر به، و يعبد الشيطان دونه، و لا يتخذ على خلقه حجة إلا معصوما»(1).
و بما أنّ محمدا صلّى اللّه عليه و سلّم خاتم الرسل و الأنبياء و امتازت رسالته بأنها أكمل الرسالات و أكثرها شمولا فقد تركّزت جهود الإمام في تربيته الإيمانية على ضرورة اتخاذ الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم قدوة و اتباع سنته، فنذكر مقتطفات منها فيما يلي:
إنّ النفس البشرية عامة تحاول أن تتشبه بأقوى شخصية حولها، و ذلك لتقتدي بها و تسير على هداها، و تقلدها في كل حركاتها. و التربية الإسلامية طلبت أن يشدّ المسلم إلى شخص الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم إذ هو القدوة السامية، و هو أكمل البشر على الإطلاق، و هو أفضل رسل اللّه أجمعين.
و على هذا الأساس دعا الإمام الصادق جميع المسلمين إلى اتباع سنة الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم و اتخاذه قدوة، بقوله: «و اتبعوا آثار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و سنته فخذوا بها، و لا تتبعوا أهواءكم و آراءكم فتضلوا، فإن أضل الناس عند اللّه من أتبع هواه و رأيه بغير هدى من اللّه»(2).
فكان يربي تلاميذه على هذا النهج، و يسعى لتوعية كل من غفل عن هذه الأسوة الحسنة، فقام بإحياء سنة جدّه في منهجه التربوي بثلاث طرق:
يقتضي الإيمان برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، اتخاذه قدوة و اتباع سنته صلّى اللّه عليه و سلّم، «و حقا كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بشخصه و شمائله و سلوكه و تعامله مع الناس ترجمة عملية بشرية حية لحقائق القرآن و تعاليمه و آدابه و تشريعاته»(3). فهو القدوة الرائعة لجميع الناس.
و لقد سئلت أم المؤمنين عائشة عن خلق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقالت: «كان خلقه القرآن»(4).
فالإمام يرسم سلوك النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و آدابه لتلاميذه فيقول: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أكثر
ص: 157
ما يجلس تجاه القبلة(1)... لا يسأله أحد من الدنيا شيئا إلا أعطاه(2)... و كان يداعب الرجل، يريد به أن يسرّه و لا يقول إلا حقا»(3).
و كان يقّسم لحظاته بين أصحابه فينظر إلى ذا، و ينظر إلى ذا بالسوية(4)... و إذا دخل منزلا قعد في أدنى المجلس إليه حين يدخل(5)...
و عند ما كان يأمر تلاميذه بشيء، أو ينهاهم عن شيء يستشهد بسيرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كما يقول: «أدّوا الأمانة فإن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كان يؤدي الخيط و المخيط»(6).
و يدعو نفسه و الآخرين إلى التأسي برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قائلا: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إذا جاء شهر رمضان زاد في الصلاة و أنا أزيد، فزيدوا»(7).
كمّا أنّه يعوّد تلاميذه على أن يجعلوا سيرة الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم معيارا في حياتهم، كقوله: «إياك أن تطمح نفسك إلى من فوقك، فإن خفت شيئا من ذلك فاذكر عيش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقد كان قوته الشعير و حلواه التمر و وقوده السعف إذا وجده.
و إذا أصبت بمصيبة فاذكر مصابك برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فإن الخلق لم يصابوا بمثله أبدا»(8).
و من طبيعة الإنسان، حينما تقع عليه مصيبة، أن يتصور أنها أكبر فاجعة حلّت به و أنه لم يقع في مثلها أحد، فيعسر عليه حلّها. أما إذا ما نظر إلى شخص مصاب بهذا البلاء نفسه أو أعظم منه، خاصة عند ما يكون هذا الشخص ذا درجة رفيعة فيهون الأمر عليه.
و الإمام الصادق كمربّ للنفوس يرشد الناس إلى تذكّر المصائب و الشدائد في حياة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم حتى يستشعروا السكينة في نفوسهم و ترتفع معنوياتهم و مستوى استقامتهم.
ص: 158
اهتم الإمام برواية الأحاديث النبوية التي أخذها عن آبائه، و نادى «ما من معنى إلا و فيه كتاب أو سنة»(1).
فنهلت الأمة من مناهل علمه، و رأت موقفه موقف المربي الذي بذل جهدا كبيرا في نشر أحاديث جده رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بين تلاميذه خاصة و المسلمين عامة، حتى يأخذوا حقيقة الإسلام من مصدريه الرئيسين: الكتاب و السّنة.
قال أبان بن تغلب في جعفر بن محمد: ما سألته عن شيء إلا قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم(2). و يؤيد هذا الأمر كثير من مروياته، منها:
قال جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر(3) قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم. يقول:
«إن شفاعتي يوم القيامة لأهل الكبائر من أمتي»(4).
و في رواية أخرى قال جعفر بن محمد عن محمد بن علي بن الحسين عن الحسين بن علي عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «من زهد في الدنيا علّمه اللّه تعالى بلا تعلّم، و هداه بلا هداية و جعله بصيرا، و كشف عنه العمى»(5).
جعل الصادق السّنة القاعدة الثانية إلى جانب القرآن لتمحيص الروايات، فقد سئل عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به و منهم من لا نثق به، قال: «إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب اللّه أو من قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و إلا فالذي جاءكم به أولى به»(6).
و في رواية أخرى قال: «فاتقوا اللّه فلا تقولوا علينا ما خالف قول ربنا و سنة نبينا صلّى اللّه عليه و سلّم»(7).
في ضوء هذه الأحاديث، نقف على القاعدة الفكريّة للحكم على الأحاديث المشتملة على بعض المفاهيم التي تتنافى مع روح القرآن و السّنة النبوية.
فقد أوصى الصادق تلاميذه بأن لا يقبلوا كل ما يرويه الرواة عنهم و وضع لهم
ص: 159
قاعدة يرجعون إليها ليتأكدوا من صحة ما ينسب إليهم. و هذا هو الخط الذي يحمي عقائد المسلمين من الانحراف بما يضعه الوضاعون من الأحاديث الموضوعة.
الإيمان باليوم الآخر أهم أركان الإيمان بعد الإيمان باللّه تعالى، و لا يكاد يذكر الإيمان باللّه في القرآن حتى يقرن به الإيمان باليوم الآخر، كما في قوله تعالى:
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ (1) .
ذلك «أنّ الإيمان باللّه يحقق المعرفة بالمصدر الأول الذي صدر عنه الكون، و الإيمان باليوم الآخر يحقّق المعرفة بالمصير الذي ينتهي إليه الوجود، و على ضوء المعرفة بالمصدر و المصير يمكن الإنسان أن يحدّد هدفه و يرسم غايته»(2).
و من ثم فقد عني الإمام الصادق في تربيته العقدية بهذا الأساس، و رأى أن الإيمان باليوم الآخر من مقتضيات الإيمان بالعدالة الإلهية المطلقة في الجزاء، و لو لم يتلق المرء تبعات سعيه لكانت حياته عبثا، كما قال: «و لو لا المعاد لذهبت مظالم العباد و تساوى أهل الصلاح و الفساد، و لتساوى الأشرار مع الأنبياء و الشهداء، ثم إن لطف اللّه يستحيل عليه الانقضاء؛ لأن الموجب للابتداء هو المانع عن الانتهاء»(3).
و لترسيخ هذه العقيدة أشار إلى شواهد قرآنية تدل على إحياء جمهرة من الذين أماتهم اللّه كقوله: «و قد رجع إلى الدنيا ممن مات خلق كثير منهم أصحاب الكهف أماتهم اللّه ثلاثمائة عام و تسعة، ثم بعثهم في زمان قوم أنكروا البعث، ليقطع حجتهم، و ليريهم قدرته، و ليعلموا أن البعث حق»(4).
و ممّا لا شك فيه «أن الإيمان بيوم الحساب و بمبدأ الثواب و العقاب الإلهي يغيّر من نمط تفكير الفرد و نظرته إلى الكون، و يحدث تغييرات جذرية في أعماق الإنسان»(5). حيث يوقظ الشعور بالمسؤولية في الفرد، فيعصمه عن المعاصي و هو الضابط الذي يصون الأخلاق و يضمن تنفيذ الشريعة في الحياة.
فالصادق يحاول أن يبدّل هذا الإيمان إلى العقيدة الحيّة في أعماق النفوس، فيذكّر طلابه في مواقف متعددة بها، و يستخدمها لتربيتهم على الصعيدين النفسي و الخلقي.
ص: 160
و قد شكا إليه رجل الوسواس، فقال له: «أذكر تقطّع أوصالك في قبرك و رجوع أحبابك عنك إذا دفنوك في حفرتك و أكل الدود لحمك، فإن ذلك يسلي عنك ما أنت فيه»(1).
قال الرجل: فو اللّه ما ذكرته إلا سلّي عني ما أنا فيه من همّ الدنيا.
هكذا يعالج الإمام همّه الدنيوي بذكر هموم الآخرة و ما فيها.
و بما أنّ الموت بداية الحياة الآخرة الذي لا بدّ منه، فالمؤمن يذكر الموت دائما فيكثر من الخير ابتغاء ثوابه و يبتعد عن الشر خوف عذابه.
و قد يشير الإمام إلى الآثار العقدية و النفسية و الخلقية لذكر الموت بأنّه «يميت الشهوات في النفس و يقلع منابت الغفلة، و يقوي القلب بمواعد اللّه و يرقّ الطبع و يكسر أعلام الهوى و يطوي نار الحرص و يحقر الدنيا»(2).
إن الاعتقاد باليوم الآخر يشمل الاعتقاد بمجموعة من الحقائق التي وردت في الكتاب و السّنة كفتنة القبر و عذابه و نعمه و البعث و الحشر و الحساب و الجنة و النار...
و الصادق يلفت الأنظار إلى بعض هذه المراحل، لتحقيق الإيمان التام البصير بالمرجع الذي تنتهي إليه حياة الإنسان؛ و منها كلامه في توصيف لحظة خروج الروح من الجسد بأنها» للمؤمن كأطيب ريح يشمه، فينعس لطيبه، و ينقطع التعب و الألم كله عنه، و للكافر كلسع الأفاعي و لدغ العقارب و أشد»(3).
فنرى في تعاليم الإمام كثيرا من هذه الحقائق و تفاصيلها التي ذكرها مستندا إلى ما جاء في الكتاب و السّنة، مبتدئا ببيان أمر ملك الموت و أعوانه، و سكرات الموت و مقدماته، و ما يراه المؤمن و الكافر عند الموت، و ما يجري على الميت في القبر، و سؤاله و ضغطه، و البرزخ، و ما يلحق الرجل بعد موته من الأجر، و أحوال يوم القيامة و مواقفها، و كيفية الحشر و الحساب، و الصراط و أوصاف الجنة و النار(4). بهذا كله يقوي الإمام الوازع الديني و النفسي الذي يرغب في الخير و يصد عن الشر.
إنّ الإيمان بالقدر خيره و شره جزء من الإيمان باللّه و يتفرع عنه، و المقصود
ص: 161
بالقدر «هو النظام المحكم الذي وضعه اللّه لهذا الوجود و القوانين العامة، و السنن التي ربط اللّه بها الأسباب بمسبباتها»(1).
فلا يكون شيء في الكون كلّه إلا ما قدر اللّه. «و لا يخرج عن ذلك شيء لا أفعال الإنسان و لا غيرها، كما لا يخرج عن ذلك ما يصيب الإنسان و ما يقع في الكون من الأحداث و بهذا كله يتحقق الإيمان المطلوب بالقضاء و القدر الذي أمر به القرآن و جاءت به السّنّة النبوية المطهرة»(2).
و قد وصف اللّه تعالى المؤمنين بهذا الوعي و الإيمان بقوله:
قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاّ ما كَتَبَ اللّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَ عَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (3) .
فالإمام الصادق في تربيته العقدية اهتم بهذه الركيزة الإيمانية، فهو يسعى في تعاليمه إلى إثبات هذه العقيدة في نفوس أبناء المجتمع، و ذلك بالتأكيد على شموليتها لكل الأحداث قائلا: «ما من قبض و لا بسط إلا و للّه فيه مشيئة و قضاء و ابتلاء»(4).
بهذا الكلام يوضح الإمام الحضور الدائم المتصل للّه في كل مساحة الكون و دائرة القضاء و القدر، لا يغيب عنه شيء و له قيومة و رعاية دائمة، و هو الحيّ القيوم.
و هذا الإيمان يجعل صاحبه في حياته بين مرتبتي الصبر على المكاره و الشكر على المحامد، إلا أن للإيمان بالقدر مراتب، أدناها الإقرار بالقضاء الإلهي، فهو شرط للإيمان، و لكن «هناك درجة التسليم و الرضى بقدر اللّه و هي مرتبة الإحسان التي يصل إليها الإنسان حين يتعمق إيمانه و يرسخ، فيعرف أن لكلّ قدر حكمة و أن قدر اللّه كله خير للمؤمن المستقيم على الطريق»(5).
فلفت الإمام أنظار تلاميذه إلى هذه المرتبة الشريفة بقوله: «الرضا بمكروه القضاء أعلى درجات اليقين»(6).
فهو يرسم لهم طريق الوصول إليها من خلال التعرف على صفات اللّه العظيمة كعدله و حكمته، فيقول: «إن اللّه تبارك و تعالى لا يفعل لعباده إلا الأصلح لهم و لا يظلم الناس شيئا»(7) و هكذا يكون المؤمن مستقر النفس و هو موقن تمام اليقين أنّ تدبير2.
ص: 162
اللّه له أفضل من تدبيره لنفسه و رحمته تعالى به أعظم من رحمة أي شخص به.
و هذا ما ركّز عليه الإمام مرة بالموعظة و الإرشاد و مرة بالقدوة، فقد روي عنه:
«حين توفي ابن له فخشي عليه الجزع، فخرج هادئا سالما فقال له قائل: و خشينا عليك، فقال الإمام: «إنا ندعوا اللّه فيما نحبّ فإذا وقع ما نكره لم نخالف اللّه فيما يحبّ»(1).
و الأمر الذي يجب إمعان النظر فيه هو أنّ اهتمام الإمام بترسيخ الإيمان الصحيح بالقضاء و القدر لا يتعارض مع رأيه في حرية الإنسان و اختياره، ذلك لأنّ اللّه تعالى مكّن الإنسان أن يمارس اختياره في وسط نظام محكم و متقن من القضاء و القدر في الحياة الاجتماعية و في الكون. فلا يضرّ الاختيار بحتمية القضاء و القدر، و لا يمس القضاء و القدر من حريّة الإنسان في الاختيار على الإطلاق.
فالإمام جمع بين الرضاء بالقضاء و التسليم بالقدر، و تحمل الإنسان مسؤولية عمله و الحساب عليه محذرا تلاميذه من الوقوع في شبهة القعود عن تغيير الواقع و التواكل و تصور الجبر فقال لتلميذه زرارة بن أعين: «يا زرارة أعطيك جملة في القضاء و القدر ثم قال: إنّه إذا كان يوم القيامة و جمع اللّه الخلائق سألهم عما عهد إليهم و لم يسألهم عما قضي عليهم»(2).
هذا الكلام يلقي الضوء على أن اللّه تبارك و تعالى لا يؤاخذ الإنسان فيما يجري من أمور خارجة عن حدود إرادته، فلا يحاسبه على ما نزل فيه بمحض القضاء إنما يواخذ فيما يفعله من أعمال بإرادته، فالمسلم عند ما يتم له التصور الصحيح لمفهوم القضاء و القدر لا يخلط بينه و بين مواقع المسؤولية الإنسانية.
فما يجري بمحض القضاء و القدر فإنه يستقبله بالتسليم و الرضا، و يعلم أنّه عين الحكمة، و أمّا ما يقع في دائرة المسؤولية الإنسانية فإنّه يباشر فيه الأسباب وفق ما أمر اللّه، و يحاسب نفسه و يحاسب الآخرين.1.
ص: 163
وقفنا على جهود الصادق لبناء الشخصية الإسلامية على العقيدة الصحيحة بأسلوب نافذ إلى العقول و القلوب معا. فهو أكّد على أهميّة الإيمان بالأركان الستّة و التبصّر بها، على الوجه الذي دلّ عليه كتاب اللّه و سنّة الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم و اتجه بكل إمكاناته إلى تربية طلابه على الفهم العميق لمبادئ الدين الإسلامي. فلم تقتصر جهوده في بناء شخصية المسلم على تبيين العقيدة الصحيحة فحسب، بل قام بصيانة الناس من التيارات المنحرفة و إيضاح الأخطاء الفكرية، «فكان [بحقّ] مرجع عصره في ردّ الشبهات»(1).
و لطالما عمل الإمام على إزالة اللبس و إيضاح الصورة أمام الفرد المسلم ليتمكن من فهم العقيدة، و يتمكن بالتالي من تطبيق تعاليمها؛ لأنّ نقاء الحركة الإنسانية و نضوج فعلها يعتمد على مدى وضوح الرؤية العقديّة في فكر الفرد و عمق وعيه بذلك.
و من هنا سعى المغرضون إلى تشويه المفهوم العقديّ و زعزعة الروح الإيمانية، من خلال تشكيكها، إمّا بأفكار و مفاهيم مختلقة أو محرّفة أو خاطئة.
و لم تلبث الحياة الإسلامية أن شهدت هذه الفتن بين جماعات المسلمين و لم تكن مدرسة الصادق غائبة عن هذه المعركة، و لم يكن لها أن تكون على الحياد، فيتوجه الإمام إلى الناس مربيا مرتقيا بهم من البلبلة الفكرية إلى صفاء العقيدة الإسلامية. فقام بتفنيد الأفكار الباطلة و إزالة الشبه و كشف القناع عن الحقائق و توضيح الأمر للجاهل و المضلل حتى يشكل صمام الأمان لعقيدة الأمّة.
فنرى جهوده لمواجهة هذه التيارات الفكرية في ثلاثة ميادين:
أ - مواجهة الإلحاد و الزندقة.
ب - تحذير الأمة من الأفكار المنحرفة.
ج - صيانة الناس من التصورات الخاطئة.
كما ذكرنا سابقا، من المظاهر التي سادت في عصر الإمام الصادق انتشار
ص: 164
الزندقة(1)، حيث ظهرت طوائف من المغرقين بالكفر و الإلحاد قاموا بإثارة الشبهات لإفساد المسلمين و تضليلهم فأخذوا يهاجمون العقيدة و الأخلاق مهاجمة صريحة، و يقعدون للمسلمين كلّ مرصد، و يجدّون لهدم تعاليم الدين الحنيف بكلّ الوسائل المتاحة.
و إزاء الحملات المسعورة التي كان يشنها هؤلاء الزنادقة على الإسلام و المسلمين، فإن الإمام الصادق لم يكن ليقف مكتوف الأيدي، فدخل في تلك المعارك الفكرية و جاء بخطّة متينة للكشف عن زيف مناقشاتهم. و لقد ناظر رؤساءهم بمناظرات عديدة في مجال العقيدة بأسلوب هادئ، رصين، مدعوم بالحجج و البراهين التي لم تدع لهم مخرجا، و سجّلت بعض مصادر الحديث و التاريخ نماذج من تلك المناظرات التي تبيّن للناس ما ينير طريقهم و يزيل الشك عنهم.
و ها نحن نعرض أمثلة منها فنروي ما حصل حين حضر عبد الكريم بن أبي العوجاء مجلس الإمام الصادق فابتدأه الإمام بالقول: «أ مصنوع أنت أو غير مصنوع؟ فقال ابن أبي العوجاء: بل أنا غير مصنوع.
فقال الإمام: فصف لي لو كنت مصنوعا كيف كنت تكون؟
فبقي عبد الكريم مليّا لا يحير جوابا، و ولع بخشبة كانت بين يديه و هو يقول:
طويل، عريض، عميق، قصير، متحرك، ساكن، كل ذلك صفة خلقه.
فقال له الإمام: فإن كنت لم تعلم صفة الصنعة غيرها، فاجعل نفسك مصنوعا لما تجد في نفسك ممّا يحدث من هذه الأمور»(2).
كان ابن أبي العوجاء واقفا على أنّ الاعتراف بالمصنوعية يلزمه الإذعان بوجود الصانع تعالى فأنكر كونه مصنوعا، و لكنّ الإمام ألزمه بالاعتراف بذلك بما سأله عنه، و هو أنه لو كان مصنوعا، فما هي صفاته؟
فتوقف عن الجواب، إذ رأى أن له جميع آثار المصنوعية.
و لعل في الرواية التالية التي سنسوقها أبلغ دليل على مدى حجة الإمام الصادق في إفحام الدهريين و الرد عليهم لإبعاد الناس عن شبهاتهم فقد بلغه أنّ الجعد بن درهم(3) جعل في قارورة ترابا و ماء، فاستحال دودا و هواما، فقال: أنا خلقت هذا؛ لأنني سبب تكوينه.).
ص: 165
فقال الإمام: «ليقل كم هو الذكران و الإناث إن خلقه و ليأمر الذي سعى إلى هذا الوجه أن يرجع إلى غيره»(1).
فإنّ هذه الحركة «شغلت حيزا رئيسا في الفكر الديني... و كان لها أثرها العميق في المجتمع بما أصدرته من صراع فكري أثر في معتقدات الناس و بالتالي في قيمهم و حضارتهم»(2).
حتى كان لهم الظهور و الاعتراض جهارا على الإسلام في المسجد الحرام، و إذا لم يكن للصادق يومئذ القوة التي تمكنه من دفع الزنادقة عن دخول ذلك الحرم الشريف، فكان لديه قوة العلم التي دفع بها شبهاتهم كما روي أن أحد رؤسائهم قال للإمام:
«إلى كم تدوسون هذا البيدر، و تلوذون بهذا الحجر و تعبدون هذا البيت المرفوع بالطوب و المدر، و تهرولون حوله هرولة البعير إذا نفر؟ فقل فإنك رأس هذا الأمر و سنامه و أبوك أساسه و نظامه.
فأجابه أبو عبد اللّه: «إن من أضله اللّه و أعمى قلبه استوخم الحق و لم يستعذبه و صار الشيطان وليه و ربه يورده مناهل الهلكة و لا يصدره، و هذا بيت استعبد اللّه به خلقه ليختبر طاعتهم في إتيانه على تعظيمه و زيارته، و جعله قبلة للمصلين له فهو شعبة من رضوانه و طريق يؤدي إلى غفرانه، منصوب على استواء الكمال و مجمع العظمة و الجلال...»(3).
و هكذا نرى أنّ الزنادقة كانوا يستهزئون بشعائر المسلمين علنا لكي يشككوا في مبادئ الإسلام، و يؤثروا في أصحاب النفوس الضعيفة، الذين يهتزّون و تلتوي أعناقهم أمام أول هبوب للريح، و قد يرجع السبب إلى هشاشة بنيانهم النفسي و الديني، لذا فقد سعى الإمام دوما إلى تقوية هذا البنيان و تدعيمه، و حماية أصحابه من الوقوع في الشبهات، فنراه أحيانا يجتمع مع هؤلاء الزنادقة و يسمح لهم بالكلام، و يستمع إلى أباطيلهم و ترهاتهم، ثم يزيّف عقائدهم، و يفنّد أفكارهم و مزاعمهم.
فرغم أن الإمام يعلم أغراضهم الفاسدة و يشير في بداية كلامه إلى قلوبهم العمياء،5.
ص: 166
و ولاية الشيطان عليهم، إلا أنه يوضّح مكانة الكعبة و حكمة مناسكها لدفع تأثيراتهم المخرّبة على الآخرين.
و يمكن القول بأنّ الإمام يرمي إلى تبصير الناس و تحصينهم عن طريق إبطال حجج الملحدين. لذلك نراه يحارب في هذا الميدان على أكثر من جبهة و أكثر من صعيد.
و على خط مواز عمل الصادق على تمكين تلاميذه من المشاركة في مثل هذه النقاشات و الحوارات التي تساعد على إغناء ثقافتهم و تقوية حججهم ليتوصلوا إلى إقناع الطرف الآخر بوجهات نظرهم المستمدة من الإسلام و تعاليمه، إنما كان كل ذلك يتم تحت إشرافه شخصيّا و متابعته البنّاءة، فعند ما ذكر تلميذه مفضل بن عمرو أنّ قوما يزعمون أنّ هذا العالم من فعل الطبيعة، علّمه الإمام قائلا: «سلهم عن الطبيعة، أ هي شيء له علم و قدرة على مثل هذه الأفعال، أم ليست كذلك؟
فإن أوجبوا لها العلم و القدرة، فما يمنعهم من إثبات الخالق. فإنّ هذه صنعته.
و إن زعموا أنّها تفعل هذا الأفعال بغير علم و لا عمد و كان في أفعالها ما قد تراه من الصواب و الحكمة، علم أنّ هذا الفعل للخالق الحكيم، و أن الذي سمّوه طبيعة هو سنّة في خلقه الجارية على ما أجراها عليه»(1).
فيحاول الإمام أن يفتح بصائر تلاميذه و ينمي عقولهم لإقناعهم بالعقيدة السليمة، حتى يكونوا قادرين على الدفاع عن دينهم دفاعا قويّا و يشعروا بالاعتزاز بإيمانهم الثابت بالإسلام.
لا يكفي تزويد الأمة بعقيدتها النقية بل لا بد من توفر الوعي بالأفكار المنحرفة و الهدامة التي تدخل في الوسط الإسلامي، للتشويه و التحريف في المفاهيم الدينية.
و الإمام الصادق كمفكر مربّ يرى حاجة المسلم إلى وقاية تربوية تحصّنه من الانحرافات العقدية التي يصادفها في حياته.
فهو يراقب عن كثب علاقة تلاميذه بمبادئ الإسلام سلبا أو إيجابا، و يرصد المظاهر المنحرفة التي لا تمثل حقيقة الإسلام. فيتصدّى لها من خلال العلم و توعية أفراد الأمة بخطورتها و من أهمها فكرة الغلوّ في عصره «التي تنشأ ضمن إطار التشيع و هي منحرفة عنه بل إن بعضها مروق عن الدين كلّه»(2) فنجمت عنها آثار خطيرة في عقيدة المسلمين.
ص: 167
فهم نسبوا بعض صفات اللّه إلى بعض البشر و بثوا الأحاديث الموضوعة و أسندوها إلى حملة العلم.
و كان للإمام دور فعال في التصدي لهم و دعم العقيدة الإسلامية و بما أنّ الناس متفاوتون في تأثرهم بالأفكار الفاسدة - حسب مستوياتهم - نرى أساليب مختلفة اتبعها الإمام لحماية الأمة من الانغماس في خبث عقائدهم، و من الانخداع بما يظهرونه من حسن النوايا و ما يخفونه من مكر و دهاء، لذا فقد كان الإمام تارة يعلن براءته منهم بكل وجوده فيقول:
«سمعي و بصري و شعري و بشري و لحمي و دمي من هؤلاء برئ اللّه منهم و رسوله، ما هؤلاء على ديني و دين آبائي، و اللّه لا يجمعني و إياهم يوما إلا و هو عليهم ساخط»(1).
و عند ما سمع أنّ أبناء هذه الطائفة يقدّسون الإمام نفسه و يضفون عليه صفات إلهية عارضهم بشدّة و لعنهم قائلا:
«لعن اللّه من قال فينا ما لا نقوله في أنفسنا، و لعن اللّه من أزالنا عن العبودية للّه الذي خلقنا و إليه مآبنا و معادنا و بيده نواصينا»(2).
و طورا يأمر بقطع أواصر العلاقة بينهم و بين أتباعه كي لا يكون مجال لترك أي أثر لأفكارهم الهدّامة في عقول المسلمين و نفوسهم، فقال: «لا تقاعدوهم، و لا تؤاكلوهم، و لا تشاربوهم، و لا تصافحوهم»(3).
و الغلوّ خطر يتدرّج بدخوله في العقيدة خطوة خطوة «فالتعظيم الزائد عن الحد آفة من آفات القلب البشري حين يتوجه بالحب إلى شخص معين، أو شيء معين، فينقلب التعظيم إلى تقديس، و ينقلب الحب إلى عبادة»(4).
من ثم اهتم الإمام الصادق بالتربية الوقائية للشباب في هذا الصدد فنبّه الآباء إلى مسؤولياتهم الخطيرة و مهماتهم في تحصين الأجيال بأخذ الاحتياطات و التدابير اللازمة حتى لا يقعوا في فخّ هذه الأفكار الباطلة، فقال:
«احذروا على شبابكم الغلاة لا يفسدوهم، الغلاة شر خلق اللّه يصغّرون عظمة اللّه و يدّعون الربوبية لعباده»(5).
و هذا كلّه نموذج من خطاب عقديّ، إصلاحي، يتوخّى الإمام به صيانة المسلمين من الإفراط في تعظيم و تقديس الصالحين.0.
ص: 168
و حقا لم نر هجوما قط من الإمام جعفر على طائفة أو مذهب، كهجومه على فكرة الغلاة، و إذا لم يأخذ الملحدين بالشدة فتحا لأبواب الهداية لهم، فهو صارم في صدد المغالين في الإمام علي (كرم اللّه وجهه) أو في نفسه، و أسلوبه في مواجهتهم، من أهم الجهود التربوية التي بذلها للحفاظ على الأمة بعامة و الناشئة منها خاصة و وقايتهم من الانحراف.
كان العالم الإسلامي في عصر الصادق شاهدا لظهور التصورات الخاطئة التي تمس العقيدة الإسلامية، و منها فكرة إخراج العمل عن دائرة الإيمان، بأنّ الإيمان اعتقاد بالقلب و لا تضرّ معه معصية(1).
فهذه الفكرة ذهبت إلى تعطيل الفرائض و تجاوز كل القيم في المجتمع، لذلك قام الإمام برفض هذه الادعاءات، و من احتجاجاته على هذه الطائفة ما ذكره لأحد تلاميذه عند ما سأل عن قولهم في الكفر و الإيمان فقال: إنّهم يحتجون علينا و يقولون: كما أنّ الكافر عندنا هو الكافر عند اللّه، فكذلك نجد المؤمن إذا أقرّ بإيمانه أنّه عند اللّه مؤمن، فأجاب الإمام:
«سبحان اللّه، و كيف يستوي هذان و الكفر إقرار من العبد، فلا يكلّف بعد إقراره ببينة فإذا اتفقنا فالعبد عند اللّه مؤمن و الكفر موجود بكل جهة من هذه الجهات الثلاث من نيّة أو قول أو عمل، و الأحكام تجري على القول و العمل في أكثر من يشهد له المؤمنون بالإيمان و يجري عليه أحكام المؤمنين و هو عند اللّه كافر، و قد أصاب من أجرى عليه أحكام المؤمنين بظاهر قوله و عمله»(2).
في هذا التوجيه التربوي أبرز الإمام جعفر عدة أمور منها:
- أن الكفر إقرار من العبد و بعد إقراره لا يحتاج إلى بيّنة.
- أن الإيمان هو دعوى من العبد كسائر الدعاوي، فيحتاج في قبولها و إثباتها إلى بيّنة، و بيّنة الإيمان هي النيّة و العمل و القول فتكون دعوى الإيمان هذه مقبولة من العبد بالقصد و النية و عمل الجوارح و تجري عليه أحكام الإسلام بظاهر القول و العمل.
- قد يكون العبد كافرا عند اللّه و لا صحة لدعواه الإيمان بسبب نفاقه، على الرغم من جواز إجراء أحكام المؤمنين عليه لظاهر قوله و عمله.
فراح الإمام يعرّي زيف هذه التفسيرات الباطلة للناس و التي استندت على فهم مقلوب من الدين.
ص: 169
و كذلك برزت التصورات الخاطئة التي تدور حول مسؤولية الإنسان عن أفعاله الإرادية و قد تمثلت باتجاهين(1):
فالطائفة الأولى اتجهت إلى نفي إرادة الإنسان و حريته في سلوكه و أنكرت أن يكون للفرد دور في أفعاله أو أن يكون له قدرة تؤثر في مقدورها، بل الفاعل على الحقيقة لأفعال العباد و المريد لها هو اللّه الذي لا مشيئة إلا مشيئته و قدرته.
أما الطائفة الأخرى فهم أصحاب الإرادة الحرة الذين رأوا أنّ الإنسان موجد لأفعاله على الحقيقة و هو مستقل في هذا الإيجاد و اللّه تعالى فوّض إليه اختيار ما يعمل.
أدرك الإمام خطورة الاتجاهين على العقلية الإسلامية و على فهمها للقرآن و السّنّة، و أنهما يسيئان إلى الخالق عزّ و جلّ. ذلك أن تصوّر الجبر في حياة الإنسان يمسّ عدل اللّه تعالى و يسمح بعقوبة الإنسان من جانب اللّه على ما لا قدرة له عليه، كما أنّ تصور التفويض و استقلال الفرد يمسّ توحيد اللّه و يقطع علاقة الإنسان باللّه في حياته اليومية و عمله و تحركه. كما ذكر الإمام: «القدرية أرادوا أن يصفوا اللّه عزّ و جلّ بعدله فأخرجوه من قدرته و سلطانه»(2)!
فالإمام عرض نقاط الضعف و الخلل في تلك النظريات المستوردة، و قام من موقع الدفاع عن التوحيد و العدل و تصحيح تصورات الناس، فقال:
«رجل يزعم أن اللّه عزّ و جلّ أجبر الناس على المعاصي، فهذا قد ظلم اللّه في حكمه فهو كافر. و رجل يزعم أن الأمر مفوض إليهم، فهذا قد وهن اللّه في سلطانه فهو كافر. و رجل يقول: إن اللّه عزّ و جلّ كلف العباد ما يطيقون، و لم يكلفهم ما لا يطيقون و إذا أحسن حمد اللّه، و إذا أساء استغفر اللّه، فهذا مسلم بالغ و اللّه الموفق»(3).
يقف الإمام من هذه القضية موقفا حاسما واضحا لتعلّقها بأمر العقيدة تعلقا جوهريّا و لتأثيرها على صحة إيمان العبد أو عدمه و ذلك حتى لا يبقى لأحد حجة أو شبهه بعد هذا البيان.1.
ص: 170
و في هذه المسيرة يهتم الإمام بتنزيه اللّه تعالى عن نسبة العمل القبيح إليه و يؤكد على حرية الاختيار للإنسان بين الطريقين المتمثلين بالخير و الشر في هذه الحياة.
و عند ما سأله رجل عنه فقال: العمل الصالح من العبد هو فعله، و العمل الشر من العبد هو فعله؟ أجاب الإمام: «العمل الصالح من العبد بفعله، و اللّه به أمره، و العمل الشر من العبد بفعله، و اللّه عنه نهاه. ثم سأل: أ ليس فعله بالآلة التي ركبه فيها؟ قال:
نعم. و لكن بالآلة التي عمل بها الخير، قدر على الشر الذي نهاه عنه...»(1).
إن الإنسان الذي يعمل الخير هو في الوقت نفسه قادر على عمل الشر، و هذا أمر واضح، و بهذا الاعتبار استحق الثواب، كما أنه لو فعل المحرم استحق عليه العقاب.
فرغم الاهتمام الكبير من الصادق في رفض هذه التصورات الخاطئة، إلا أنه و من أجل وقاية الأمة من الوقوع في الشبهات العقدية و الفكرية، فقد نهى عن الخوض في هذه المسائل لغموضها و محدودية إدراك الإنسان لها.
فقال ما نصّه: «إن اللّه تعالى أراد بنا شيئا، و أراد منا شيئا، فما أراده بنا طواه عنا، و ما أراده منا أظهره لنا، فما بالنا نشتغل بما أراده بنا عما أراده منا»(2).
فالإمام يوجّه الأنظار بأنّنا لسنا مسؤولين عمّا يجري اللّه بنا؛ لأنّه فوق استطاعتنا و لكننا مكلفين في جانب الطاعة و المعصية للّه و الذي عرض لنا في أوامره و نواهيه الواضحة، و الخوض في غيره ممّا خفي عنّا، فإنّه من متاهات العقول.0.
ص: 171
ص: 172
المبحث الثاني البناء العبادي
- مفهوم العبادة و أهميتها في مدرسة الصادق
- الالتزام بالنظرية و التطبيق في فكر الإمام
- تعليم فقه العبادات في مدرسة الصادق
- تربية الروح بمظاهر العبادة عنده
- التركيز على الاعتدال في العبادة في مدرسته
ص: 173
ص: 174
لا ينفصل البناء العقدي في التربية الإسلامية عن البناء العبادي؛ لأن «الدين الإسلامي دين عملي واقعي لا يكتفي بإعطاء الإنسان القواعد النظرية الكلية في الحياة فحسب، بل إنه يربي الإنسان تربيّة عملية. فما الفرائض - أي الصلاة و الصوم و الحج و الزكاة - إلا وسائل عملية لتربية الإنسان تربية إنسانية كاملة»(1).
و لذلك بني الإسلام عليها، كما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «بني الإسلام على خمس:
شهادة أن لا إله إلا اللّه و أن محمدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة و حجّ البيت و صوم رمضان»(2).
فالإنسان حين يتصل بخالقه و تقوى عبوديته للّه من خلال تأديته الفرائض و النوافل و الشعائر، فإنّ الروح تسمو و تتزكى و يظهر صفاءها الفطري و يتحقق لها غذاؤها الكامل، و لحاجة الإنسان المستمرة إلى الطاقة الروحية تنوعت العبادات المأمور بها من اللّه، فالصلاة عبادة مستمرة طوال الحياة، شعيرة تغذي روح مؤدّيها، و الصوم و الزكاة و الحج و الذكر كلها عبادات فالشعائر يحتاجها الإنسان لتكسبه التوازن الروحي و الاستعلاء على الشهوات، و تمده بالطاقة الروحية التي تجعله فاعلا في أداء رسالته في الحياة باقتدار.
و من ثم كانت العبادة ركنا أساسيّا في بناء الشخصية المتكاملة التي يريدها اللّه عزّ و جلّ، و بناؤها في التربية يعدّ مكملا لبناء العقيدة، و «لا بد لكي يظل غرس العقيدة قويّا في النفس، من أن يسقى بماء العبادة، بمختلف صورها و أشكالها، فبذلك تنمو العقيدة في الفؤاد و تترعرع و تثبت أمام عواصف الحياة و زعازعها»(3).
و الإمام الصادق في منهجه التربوي لم يكتف ببناء العقيدة الإسلامية في المتعلمين فحسب، بل اهتم بالحث على العبادة إلى جانبها؛ و فيما يلي نستعرض بعض جهوده في هذا الصدد.
ص: 175
العبادة في اللغة: هي «التذلل، و الخضوع، و الانقياد، و الطاعة، و التعبد:
التنسك»(1).
و في الاصطلاح: «اسم جامع لكل ما يحبه اللّه و يرضاه من الأقوال و الأعمال الباطنة و الظاهرة»(2)، فهي طاعة اللّه تعالى و خضوع له، و التزام بكل ما شرع ظاهرا و باطنا، سرّا و علانيّة، في الحركات و السكنات، في الليل و النهار.
فالعبادة تجمع أصلين: غاية الحب بغاية الذلّ و الخضوع، و قد أضاف البعض إليهما عنصرا ثالثا بأن العبادة في الشرع «عبارة عما يجمع كمال المحبة و الخضوع و الخوف»(3).
فمن عرف ربّه و امتلأ قلبه بمحبته و الشوق إليه و خشيته، فإنه يلتزم بما شرعه اللّه، أمرا و نهيا.
إذن العبادة ليست قاصرة على مناسك التعبد المعروفة من صلاة و صيام و زكاة..
و مدلول العبادة لا بدّ أن يكون أوسع و أشمل من مجرد إقامة الشعائر. «فالإسلام يوسع معنى العبادة حتى تشمل الحياة كلها.. فأي عمل يتوجه الإنسان به إلى اللهو فهو عبادة.. و كلّ عمل يتركه تقربا للّه و احتسابا، فهو عبادة..»(4).
و عليه فالإمام جعفر يعتبر أنّ حقيقة العبادة هي التذكير الدائم باللّه بقوله:
«أفضل الوصايا و ألزمها أن لا تنسى ربك و أن تذكره دائما و لا تعصيه، و تعبده قاعدا و قائما»(5).
و بما أنّ التذكير باللّه يعمر القلب بعظمته، و يوجه قوى النفس إلى البر و الخير و منعها من الإثم و الشر، فالإمام يذكر أنّ طاعة اللّه علامة الذكر و معصيته علامة الغفلة، فمن أطاع اللّه و أدّى ما طلبه منه فهو لا بدّ ذاكرا لخالقه، و من يتخلّف عن تأدية أوامر اللّه و ارتكب المعاصي و الذنوب فلا بدّ أن يكون غافلا و جاحدا لنعم اللّه.
و قد أثر عن الصادق: «من أشد ما فرض على خلقه ذكر اللّه كثيرا، و لا أعني سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلا اللّه و اللّه أكبر، و إن كان منه، و لكن ذكر اللّه عند ما أحلّ و حرّم، فإن كان طاعة عمل بها، و إن كان معصية تركها»(6).
ص: 176
فالعبادة هي خضوع للّه على وجه التعظيم، فمن أطاع اللّه و توجه إليه بالعبادة و شغل سمعه و بصره و لسانه و قلبه بما أمر اللّه، فهو الذي يعمل على تربية روحه و تطهيرها مما يعلق بها أحيانا من أدران.
و بهذا المعنى الشامل تصبح العبادة هي الصلة الدائمة بين المسلم و ربّه. و من مظاهرها أداء الفرائض و الشعائر التعبدية التي تعتبر وسيلة لتربية الإنسان و توجيهه نحو الأهداف القرآنية.
و الإمام الصادق كعالم تربوي اعتمد على هذه الوسيلة في مدرسته بتعليم الفرائض و النوافل و آدابها، و قد حث تلاميذه على تلاوة الأدعية و الأذكار و شدّد عليها عبر تبيين أسرارها النفسية و الخلقية و الاجتماعية فقال:
«الصلاة قربان كل تقيّ، و الحج جهاد كل ضعيف، و زكاة البدن الصيام، و الداعي بلا عمل كالرّامي بلا وتر، و استنزلوا الرزق بالصدقة، و حصّنوا أموالكم بالزكاة»(1).
كما أنّ الإمام ذاته كان معروفا بكثرة عبادته و شدة تعلّقه باللّه سبحانه، و هذا البعد الروحي و العبادي لشخصية الإمام، لم يكن لتربية نفسه فحسب، بل يقصد به تركيز المعنى للاتصال الدائم باللّه في ذهنية الأمة، من خلال ترغيب الفرد في الإلمام بهذا الجانب و الانخراط فيه.2.
ص: 177
إنّ التربية في مدرسة الإمام الصادق فكر و عمل، و يشترط أن يكون العمل فيها قرينا للعقيدة، ذلك لأنّها منبثقة من القرآن الكريم الذي يعبر عن العقيدة بالإيمان، و عن الشريعة بالعمل الصالح مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً (1).
إن الإيمان و العمل يشكلان وحدة مترابطة في التربية القرآنية، «فإن العملية التربوية لا يمكن لها أن تقوم إلا في ظل الالتحام بين الفكر و العمل، أو بين النظرية و التطبيق»(2) و هذا غاية ما يدعو إليه الإمام الصادق.
فاهتمامه بتربية المتعلمين على الشعائر و العبادات تنبع عن هذا المبدأ العام في تربيته كما قال: «الإيمان لا يكون إلا بعمل و العمل منه و لا يثبت الإيمان إلاّ بعمل»(3).
فقد عبّر أبو عبد اللّه عن العمل كوسيلة لتثبيت العقيدة التي لا بدّ أن يؤدي إلى الممارسة العملية أو التطبيق.
و النفاق أصلا يرتكز على جذور الفصل بين القول و الفعل، و بين الاعتقاد و السلوك. و من ثم ينبغي ترجمة الإيمان في واقع الحال، إلى أفعال تلمسها الحواس، و هي «المقياس الذي تقاس به تربية الإنسان، يقاس به إيمانه، تقاس به أخلاقه، يقاس به علمه»(4).
من هنا اعتبر الإمام العمل مقياسا للقرب من اللّه و البعد عنه بقوله: «إنّما تفاضل القوم بالأعمال»(5).
ص: 178
و كم من أشخاص و فئات كانوا أولي أفكار و أنظار يحملونها في أدمغتهم غير أنّهم لم يسعوا لإخراجها إلى عالم الوجود، فلم يترتّب عليها أثر، و لم ينتفع بها أحد فبقوا بعيدين عن الفضل.
و عند ما سئل الصادق: من أكرم الخلق على اللّه؟ قال: «أكثرهم ذكرا للّه، و أعملهم بطاعة اللّه»(1).
و من المعلوم أن كلّ عمل و عبادة إنّما يعدّ مثمرا و منتجا إذا كان دائما غير منقطع، لذلك جعل الشارع كثيرا من الفرائض مستمرة، لأن العمل الذي يؤتى به حينا آخر لا يثمر للعامل و لا يزيده إلا ضعفا.
فالبدء بالعمل سهل ميسور و الاستمرار فيه قد يكون صعبا في كثير من الأوقات، و النتيجة الكاملة إنّما تتوقف على الاستمرار كما ورد في الحديث الشريف: «أحبّ الأعمال إلى اللّه أدومها و إن قلّ»(2).
فأوصى أبو عبد اللّه طلابه قائلا:
«إياك أن تفرض على نفسك فريضة فتفارقها اثني عشر هلالا»(3).
يشدّد الإمام بهذا القول على مداومة الأعمال العبادية حتى تصبح عادة متأصلة في نفس الإنسان، و لكي تتمكن روح العبودية و الخضوع للّه من السيطرة على حياته.6.
ص: 179
ذكرنا سابقا أنّ الإمام جعفر الصادق كان من أبرز فقهاء عصره و هو مؤسس لمدرسة فكرية تربوية، و من فروعها مدرسة فقهية متكاملة في تاريخ الأمة الإسلامية، و التي عرفت باسم المذهب الجعفري.
فينتهي فقه الإمامية إليه لما انتشر عنه من العلم و حفظ عبره من الحديث، حتى إنّ «أكثر ما ورد في كتبهم الحديثية مروي عنه»(1).
و قد ضبط أصول الاستنباط، كما تكلّم في أصول الفقه بعد أبيه الباقر و أملاها على تلاميذه، فرواة فقهه كانوا ملازمين له يتدارسون الأحاديث و القرآن و ما يستنبط منهما و ما يتفرع من الأحكام عليها، و الأصول الأربعمائة(2) التي دوّنها تلاميذه تتضمن أصول المذهب الجعفري و فقهه «الذي يعتمد على المصادر القطعية من القرآن و الأخبار»(3).
هذا كله له دلالة واضحة على أنّ من أهم جهود الإمام التربوية في مدرسته كان تعليم الفقه و أحكام التشريع و منها فقه العبادات و الفرائض، و عند ما نتأمل النصوص الواردة عنه نرى كثيرا من المسائل التي طرحها الإمام في المجتمع آنذاك، و التي تختص بتعليم الشعائر العبادية و كيفية أدائها من الصلاة و الصيام و الحج و غير ذلك كما اهتمت مدرسته بالتربية و الإعداد العلمي و العملي في هذا الصدد، و لعلّه من المفيد أن نذكر بعضا من تلك المسائل التي تدل على اهتمام الإمام بهذا الأمر.
ص: 180
سئل الصادق عن رجل نسي أن يركع في الصلاة؟ قال: «عليه الإعادة»، ثم يقول: «لا تعاد الصلاة إلا من خمسة: الطهور، الوقت، القبلة، الركوع و السجود»(1).
و في مجال آخر: سئل الإمام عن رجل أكل و شرب بعد ما طلع الفجر في شهر رمضان؟ قال: «إن كان قد قام، فنظر، فلم ير الفجر، فأكل، ثم عاد فرأى الفجر فليتم صومه، و لا إعادة عليه، و إن قام فأكل و شرب ثم نظر إلى الفجر فرأى أنّه قد طلع، فليتم صومه و يقضي يوما آخر؛ لأنّه بدأ بالأكل قبل النظر، فعليه القضاء»(2).
و منها كلامه في كيفية الإحرام في الحج بأنّ: «الإحرام من المواقيت التي وقّتها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لا ينبغي لحاج و لا معتمر أن يحرم قبلها و لا بعدها».
و عند ما سئل عن رجل مرّ على الميقات فنسي أو جهل، و لم يحرم حتى أتى مكة، فخاف إن رجع إلى المواقيت أن يفوقه الحج؟ قال: «يخرج من الحرم و يحرم و يجزئه ذلك»(3).
و قد ورد في الكتب الفقهية كثير من مثل هذه الأسئلة و إجابة الإمام عنها، «حتى يتعذّر «إحصاء مسائل جعفر في الفقه لأنه مذهب بكامله»(4)، فهو كان مرجع الناس في هذه المشكلات الفقهية ممّا يعرّفنا مدى اهتمام الإمام بتعليم الناس أداء العبادات و الفرائض على أساس ما ورد في القرآن و السّنّة النبويّة؛ لأنه يرى أن الحج و الصلاة و الصيام و غير ذلك... قادرة على رفع الإنسان إلى مراتب عالية من الصفاء و السموّ و الاتصال باللّه، طالما التزم بالطريق التي أمر اللّه بها.8.
ص: 181
إنّ الجانب العملي لتربية الروح يتمثل في ممارسات و أعمال و خبرات و تجارب تمرّ بها الروح عمليّا، لتتزكى و تزداد صفاء، فتقرب من اللّه تعالى، فلذلك «تعتبر العبادات تربية عملية للروح يتم من خلالها تطبيق و تنفيذ الجانب النظري من تربيتها»(1).
فقد طرح الإسلام منظومة تشريعية تطال باهتمامها كل تصرفات و ممارسات الإنسان كما طرح منظومة عقديّة مستوعبة و وسيعة.
و في التزام الإنسان بأحكام الشريعة يتجلّى تحقيق معنى العبودية التي جعلها اللّه تعالى شأنه غاية لخلق الإنسان. و من هنا جاءت الشريعة، و وزعت العبادات على مختلف حقول الحياة و حثت على الممارسة العبادية.
ذلك أن «السالك إلى اللّه و إن كانت جميع أعماله عبادة و بأهداف إلهية، و لكنّه بحاجة ماسّة يوميّا إلى أن يفرّغ شيئا من وقته للمناجاة مع اللّه و التكلم معه، و التوجه الحضوري إليه، و ليس كالتوجه العام الثابت في كل الأعمال»(2).
فالتربية بممارسة الأعمال أو أداء الفرائض تعوّد المرء على النظام في الحياة و على ضبط النفس و على الحياة الاجتماعية التعاونية و على التضحية في سبيل الجموع كلها، و هي تتطلب مراعاة و ممارسة يومية تلازم حياة الإنسان.
و فيما يلي نستعرض بعض اهتمامات الصادق في هذا المجال و ما أشار إليها من الأغراض التربوية التي تمكن في العبادات باعتبارها وسائل فعالة في بناء شخصية المسلم.
إن الصلاة تأتي في مقدمة العبادات التي تصقل الروح و تربيها على محبة الاتصال باللّه و الوقوف بين يديه. و هي أعظم العبادات أجرا و أهم ما أكده الأنبياء في رسالاتهم،
ص: 182
فجاء توجيه الصادق إلى هذا الأمر بقوله: «أحبّ الأعمال إلى اللّه عزّ و جلّ الصلاة، و هي آخر وصايا الأنبياء»(1).
و أداء الصلاة أرقى مراتب العبادة، و أجلى مظاهر الشكر و أصدق تعبير عن مشاعر الوفاء و الإخلاص، و أخص مراسم إعلان العبودية و الارتباط باللّه، فالدروس الروحية و الأخلاقية و الاجتماعية التي يحصل عليها الإنسان من الصلاة هي وسائل تربوية فعالة في الحياة.
على هذا يقول الصادق:
«ما أعلم شيئا بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة. أ لا ترى أن العبد الصالح عيسى بن مريم قال: وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (2)»(3). «فالصلاة في الإسلام بما تحتويه من مراقبة للّه و قيام و سجود له، و ما تشتمل عليه من معاني القربى له، تربط المصلي بخالقه و تشعره بعلو مكانته في نظر نفسه حتى يرى من آثار الكرامة ما يستقذر معه الإتيان بالقبائح»(4).
و اللّه سبحانه يصف الصلاة بقوله جل شأنه:
إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ (5)
فإذا أدّيت هذه الفريضة بإخلاص تمنع صاحبها أن يمارس أي قول أو عمل قبيح فاحش، و قد نبّه الصادق أحد تلاميذه على هذا الأمر العظيم بقوله: «اعلم أنّ الصلاة حجزة اللّه في الأرض، فمن أحبّ أن يعلم ما أدرك من نفع صلاته فلينظر، فإن كانت حجزته عن الفواحش و المنكر، فإنّما أدرك من نفعها بقدر ما احتجز»(6).
و كذلك أولى الإمام جعفر في تربيته العبادية بأداء الصلاة في أول وقتها؛ لأنّ ممارستها في أوقات معينة مرتبة ببناء الإرادة و تعوّد النفس على أداء عمل معين في وقت معين و قد ورد عنه: «فضل الوقت الأول على الآخر كفضل الآخرة على الدنيا»(7).
و لا بد في الصلاة من حضور القلب و هو «مصطلح في تربية الروح يعني طرد الخواطر التي تشغل الإنسان عن عبادة ربّه»(8) لأن الصلاة لا تؤدّى أغراضها إذا كان7.
ص: 183
المصلّي حاضرا بجسده و هيكله في موضع الصلاة، و غائبا بروحه و وعيه عمن يناجيه و يعبده فلهذا قال أبو عبد اللّه: «إنّي لأحبّ للرجل منكم المؤمن إذا قام في صلاة فريضة أن يقبل بقلبه إلى اللّه و لا يشغل قلبه بأمر الدنيا، فليس من مؤمن يقبل بقلبه في صلاته إلى اللّه إلا أقبل اللّه إليه بوجهه»(1).
فينصح الصادق تلاميذه نصائح غاية في الأهمية في تحصيل إقبال القلب في الصلاة فيقول: «إذا صلّيت صلاة فريضة فصلّها لوقتها صلاة مودع يخاف أن لا يعود إليها أبدا، ثم اصرف ببصرك إلى موضع سجودك فلا تعلم من يمينك و شمالك لأحسنت صلاتك و اعلم أنك بين يدي من يراك و لا تراه»(2).
أمّا صلاة الجماعة فإنها من أوثق الأسباب لترابط المسلمين و تآلفهم و اجتماعهم على صعيد المحبة و الألفة، من هنا فقد أولاها الصادق المزيد من اهتمامه بها متأسيا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لتكسب المسلمين وحدة و قوة و منعة، و يتميز بها الصالح من الطالح و المطيع من العاصي.
قال الإمام: «إنما جعل الجماعة و الاجتماع إلى الصلاة، لكي يعرف من يصلي ممن لا يصلي، و من يحفظ مواقيت الصلاة ممن يضيع. و لو لا ذلك لم يتمكن أحد أن يشهد على أحد بصلاح لأن من لم يصلّ في جماعة فلا صلاة له بين المسلمين؛ لأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «لا صلاة لمن لم يصلّ في المسجد مع المسلمين إلاّ من علّة»(3).
فالصلاة بصورة جماعية تكون مظهرا من مظاهر التعبد الجماعي، ذلك أنّ المسلمين يتوجهون بقلب واحد و شعور واحد نحو قبلة واحدة و رب واحد ليستشعروا جميعا وحدة التوجه البشري إلى اللّه إضافة إلى أنّ الخطب و التوجيهات في الجماعة تنمي ثقافة الجماعة الدينية، و لمثل هذه الأسباب ورد عن الإمام الصادق: «إنّ على الإمام أن يخرج المحبوسين في السجن يوم الجمعة إلى الجمعة و يوم العيد إلى العيد، و يرسل معهم من يحفظهم، فإذا قضوا الصلاة و العيد ردّهم إلى السجن»(4).
على صعيد آخر حضّ الصادق تلاميذه على النوافل عامّة و صلاة الليل خاصّة، فقال: «لا تدع قيام الليل، فإنّ المغبون من حرم قيام الليل»(5).
هكذا يعتبر الصادق الصلاة مدرسة إصلاحية للتربية و يريد بكل توجيهاته أن يجعل2.
ص: 184
طلابه في هذه المدرسة التي تقوّي إرادة الإنسان، و تعوّده ضبط النفس و المحافظة على المواعيد، و لا يقف أثرها و دورها الإصلاحي في حدود الدائرة الفردية بل يتعداها إلى مجالات المجتمع المختلفة، فتصنع من المصلّي إنسانا صالحا يعيش في ساحة الحياة فيملأها بأنشطة الخير و الإحسان.
الزكاة أحد أركان الإسلام و فريضة من فرائضه التي جعلها اللّه سبحانه و تعالى في كثير من الآيات مقرونة بالصلاة قال سبحانه:
وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ ارْكَعُوا مَعَ الرّاكِعِينَ (1) .
«و إذا كانت الصلاة عماد الدين، فالزكاة قنطرته و حصنه المتين و عصب المادة في بنية الأمة»(2).
فقال الصادق في مكانتها: «ما فرض اللّه على هذه الأمة شيئا أشدّ عليهم من الزكاة و ما تهلك عامّتهم إلاّ فيها»(3).
هذا لأنّ «الإنسان محبّ للمال عادة و حريص على جمعه، و يصعب عليه إنفاقه، و بخاصة إذا كان في سبيل اللّه و لا يلمس عوضا ماديّا آخر يقابله»(4).
و للزكاة خاصة و الصدقات و الإنفاق عامة آثار كبيرة من الناحية النفسية و الاجتماعية. أما النفسية، فهي تطهير لنفس الإنسان من الشحّ و الأدران و سموّ بها في مدارج الكمال الإنساني قال تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ (5).
و من الناحية الاجتماعية فهي الرباط الإسلامي بين الأغنياء و الفقراء و التي يتحقّق بها الإخاء ابتغاء مرضاة اللّه.
فيرى الصادق أنّ الزكاة هي تربية عملية من جانب اللّه تعالى تستأصل مرض الأنانية من نفس الغني، و الحسد و الطمع من نفس الفقير. فقال: «إنما وضعت الزكاة اختبارا للأغنياء و معونة للفقراء»(6).
كما أنها أهم وسيلة لتحقيق التكافل الاجتماعي و علاج ناجح لفساد المجتمع من الناحية الاقتصادية يقرّب المسافة بين الغني و الفقير، و يطهر المجتمع من الحقد
ص: 185
و الكراهية، و يجعله متآلفا متعاونا يشعر أفراده بالطمأنينة و الاستقرار.
و قد وضّح الصادق غاية تشريع هذه العبادة المالية و دورها في تنشيط الحياة الاقتصادية و الاجتماعية، و إقرار العدل الاجتماعي في المجتمع الإسلامي بقوله: «و لو أن الناس أدّوا زكاة أموالهم ما بقي مسلم فقيرا محتاجا و لاستغنى بما فرض اللّه عزّ و جلّ له و إن الناس ما افتقروا، و لا احتاجوا و لا جاعوا و لا عروا الا بذنوب الأغنياء»(1).
و هكذا يربّي الصادق تلاميذه على الاهتمام بدفع الزكاة، و ينبّههم على أنّها تكشف عن صدق الإيمان و الإخلاص للّه في الاستجابة لأمره، و تنمي روح الفضيلة و تحفظ أمن المجتمع و استقراره.
إنّ الحج مدرسة لتربية الروح من أول عمل يقوم به الحاج حتى آخره، تجتمع فيه العبادات كلّها من صلاة و صدقة و ذكر و صبر على طاعة اللّه و غير ذلك.
فإن اللّه تبارك و تعالى فرض على الناس في الحج أعمالا لا تأنس بها النفوس و لا تهتدي إلى معانيها العقول كرمي الجمار بالأحجار و حلق الرأس، و غير ذلك... ليظهر كمال الرقّ و العبودية منهم.
ذلك لأنّ «كل ما أدرك العقل معناه مال الطبع إليه ميلا ما فيكون ذلك الميل معينا للأمر و باعثا معه على الفعل فلا يكاد يظهر به كمال الرق و الانقياد»(2).
في الحج يطأ الحاج أرضا طيبة طاهرة سارت عليها أقدام الأنبياء الكرام، فتتجدد في نفسه أحداث التاريخ، و خواطر الأولياء، «فيدفعه هذا الإحساس المتدفق، و الشعور المنبعث في نفسه إلى أن يسلك الطريق، و يتبع المنهج نفسه، و يتحلى بالسيرة نفسها»(3).
فيقول الصادق: «إن اللّه تعالى جعل الحج... لتعرف آثار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و تعرف أخباره و يذكر و لا ينسى»(4).
و الحج يرمز إلى الوحدة بين المسلمين، إذ تمحي فيه الفوارق التي بينهم و يتساوى الغني و الفقير و الأمير و الحقير، يطوفون حول الكعبة باتجاه واحد، و يتجهون إليها في صلاتهم فيعلمون أنهم أبناء أمة واحدة.
ص: 186
و لقد ألمح الإمام الصادق إلى بعض المصالح التي تترتب على هذه الفريضة التي تعود بالخير العميم على المسلمين، فقال:
«إن اللّه تعالى خلق الخلق... و أمرهم و نهاهم ما يكون من أمر الطاعة في الدين و مصلحتهم من أمر دنياهم، فجعل في الحج الاجتماع من المشرق و المغرب، ليتعارفوا و ليتربح كل قوم من التجارات من بلد إلى بلد، و لينتفع بذلك المكاري و الجمال»(1).
و تحدث الإمام في بعض الأحيان عن حكمة مناسك الحج لتوعية الناس و تبصيرهم بأسرارها الكامنة، فعند ما سأله سفيان الثوري أنّ: يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، لم جعل الموقف من وراء الحرم؟ و لم يصيّر في المشعر الحرام؟
فقال: «الكعبة بيت اللّه، و الحرم حجابه، و الموقف بابه. فلما قصده الوافدون أوقفهم بالباب يتضرعون، فلما أذن لهم في الدخول، أدناهم من الباب الثاني و هو المزدلفة.
فلما نظر إلى كثرة تضرعهم و طول اجتهادهم رحمهم، فلما رحمهم، أمرهم بتقريب قربانهم، فلما قربوا قربانهم، و قضوا تفثهم و تطهّروا من الذنوب التي كانت حجابا بينه و بينهم، أمرهم بزيارة بيته على طهارة.
قال له: فلم كره الصوم أيام التشريق؟ قال: «لأنهم في ضيافة اللّه و لا يحبّ للضيف أن يصوم»(2).
إنّ الصيام من بين العبادات، خاصة عملية تدريب للإنسان على مقاومة شهواته و السيطرة عليها، ففيها يمتنع الإنسان باختياره عن كثير من اللذائذ المباحة تعويدا على المجاهدة في طاعة اللّه و مران على المشاق في طريق العبودية. و «استمرار هذا التدريب مدة شهر كل عام بلا شك سيؤدي إلى تعليم الإنسان قوة الإرادة و صلابة العزيمة، لا في التحكم بشهواته فقط، إنّما في سلوكه العام في الحياة و في القيام بمسؤولياته و أداء واجباته و مراعاة اللّه تعالى في كل ما يقوم به من أعمال»(3).
فالإمام جعفر يلفت الأنظار إلى هذا الغرض التربوي الكامن في حقيقة الصوم فيوسّع رؤية الناس بأنّ ثمرته لا بدّ أن تنعكس التزاما بالتقوى في كل الجوارح قائلا:
«إذا أصبحت صائما فليصم سمعك و بصرك من الحرام، و جارحتك و جميع
ص: 187
أعضائك من القبيح ودع عنك الهذي و أذى الخادم، و ليكن عليك وقار الصيام، و الزم ما استطعت من الصمت و السلوك، إلا عن ذكر اللّه و لا تجعل يوم صومك كيوم فطرك...»(1).
و يشرح الإمام تعبيره عن وقار الصيام في توجيهاته الأخرى كقوله: «إذا صام أحدكم، فلا يجادلن أحدا و لا يجهل و لا يسرع إلى الحلف و الإيمان باللّه، و إن يجهل عليه أحد فليتحمل»(2).
تبدو صلة الصوم بالأخلاق صلة وثيقة لا تخفى على أحد، «فالصوم انضباط و كف للبطن و الفرج عن شهواتهما، كما أنه انضباط للجوارح و كف لها عن الآثام، و الأخلاق في تفسيرها الصحيح ليست إلا انضباطا في السلوك و ضبطا و تهذيبا للشهوات»(3).
و قد أشار الصادق إلى الفوائد النفسية و الاجتماعية لفريضة الصوم عند ما تحدث الحكمة من تشريع الصوم بقوله: «أمّا العلّة في الصيام ليستوي به الغني و الفقير و ذلك لأنّ الغني لم يكن ليجد مسّ الجوع فيرحم الفقير لأنّ الغني كلّما أراد شيئا قدر عليه، فأراد اللّه عزّ و جلّ أن يسوّي بين خلقه و أن يذيق الغنيّ مسّ الجوع و الألم ليرقّ على الضعيف و يرحم الجائع»(4).
فالشعور بالألم يدع الشخصية متحسّسة بشدائد الآخرين و يدفعه إلى التفكير بمدّ يد المساعدة إليهم، و كذلك عند ما يشعر الغني بالجوع و العطش في الصيام فإن مجرد هذا الإحساس كاف بالتنازل عن الذات و التوجه نحو الآخرين فيبعث في نفسه مشاعر الرحمة و الشفقة على الفقراء و المساكين ممّا يقوي في المجتمع روح التعاون و التضامن الاجتماعي.
لقد حرص الإمام جعفر على ربط تلاميذه بالقرآن الكريم و جعله جزءا من حياتهم، و منهجا كاملا يستضيئون بنوره و يهتدون بتعاليمه. فحض على تعلّم القرآن و تعليمه. كقوله:
«ينبغي للمؤمن أن لا يموت حتى يتعلّم القرآن أو يكون في تعليمه»(5).
ذلك لأنّ ما يزيد المسلم من أسباب السعادة في الدنيا و الآخرة، استمرار الاتصال بكلام اللّه ربّ العالمين ف «إنّ في القلب حاجة لا يسدها إلاّ ذكر اللّه و التلذذ بكريم
ص: 188
خطابه، و إنّ فيه وحشة لا يزيلها إلاّ الأنس بكتابه، و إن فيه قلقا و خوفا لا يؤمنه إلاّ السكون إلى ما بشر اللّه به عباده، و إنّ فيه فاقة لا يغنيها إلاّ التزود من حكم القرآن و أحكامه»(1).
فقال أبو عبد اللّه: «من قرأ القرآن فهو غني و لا فقر بعده»(2).
و من هذا المنطلق فقد كان يشجّع طلابه أن يلتزموا بقراءة خمسين آية في كل يوم(3) و أن لا يمنعهم أي شغل أو عمل من قراءة القرآن، فقال: «ما يمنع التاجر منكم المشغول في سوقه إذا رجع إلى منزله أن لا ينام حتى يقرأ سورة من القرآن»(4).
و يعلّمهم في الوقت نفسه آداب القراءة و منها: أن يدعوا اللّه ساعة يأخذون الكتاب العزيز للتلاوة هكذا: «اللّهم فاجعل نظري فيه عبادة و قراءتي فيه فكرا، و فكري فيه اعتبارا و اجعلني ممّن اتّعظ ببيان مواعظك فيه، و اجتنب معاصيك... و لا تجعل نظري فيه غفلة و لا قراءتي هذرا...»(5).
فإنّ القصد الأهم من التلاوة هو التدبر في كلام اللّه و التعلّم منه، و الذي يعتبر التعليم الذاتي، و هو التعلّم المستمر الذي يلازم الإنسان طيلة حياته. فاتصال الفرد بالقرآن و معانيه و ما فيه من الحكم البالغة، دعوة إلى هذا النوع من التعليم في كل زمان و مكان.
على هذا ينبّه الصادق تلاميذه أن لا تكون قراءتهم قراءة سطحية فلا بدّ أن يشغل القارئ قلبه بمعاني ما يلفظ من القرآن و يفكر، و يتأمل فيه حتى تكون قراءته قراءة واعية و عميقة. و عند ما سأله رجل من كلابه أقرأ القرآن في ليلة؟ قال: «لا، إنّ القرآن لا يقرأ هذرمة(6) و لكن يرتّل ترتيلا، فإذا مررت بآية فيها ذكر الجنة فقف عندها و سل اللّه عزّ و جلّ الجنة، و إذا مررت بآية فيها ذكر النار فقف عندها و تعوذ باللّه من النار»(7).
يوجه الإمام بهذا أن لا تغفلوا عن معاني الآيات الكريمة و أهدافها السامية و أمرها و نواهيها و وعظها و زجرها و لا يجب أن يكون هدفكم ختم القرآن في أيام معدودة أو الإسراع في قراءة السورة و البلوغ إلى آخرها، كأن آيات الجنّة و نعيمها و آيات جهنم و عذابها لا تعنيكم!!2.
ص: 189
الدعاء تعبير حيّ عن معنى العبودية و الخضوع و الخشوع الذي يتمثل في العبادة، فهو يهزّ أعماق الإنسان بالشعور بوجود اللّه و حضوره في كل ملتقى للإنسان في ما يهمه من أمور الحياة و في ما يثيره من شؤون الآخرة. و حقيقة الدعاء «استدعاء العبد ربه العناية و استمداده إياه المعونة و حقيقة إظهار الافتقار إليه و هو سمة العبودية و إظهار الذّلة»(1).
و بما أنّ النصوص الإسلامية مليئة، بترغيب الناس إلى هذه العبادة، فإن الإمام جعفر كمربّ للأمة أشاد بفضل الدعاء، و أهاب بتلاميذه أن لا يتركوه في جميع أمورهم، فقال: «عليكم بالدعاء فإنكم لا تقربون بمثله، و لا تتركوا صغيرة لصغرها أن تدعوا بها أن صاحب الصغار هو صاحب الكبار»(2).
و لأن الدعاء ضمان للنفس من الغفلة و الطغيان فقد كان الإمام يحض طلابه على ملازمته في كل حال بقوله: «ادع و لا تقل: إن الأمر قد فرغ منه، إن عند اللّه عزّ و جلّ منزلة لا تنال إلا بمسألة»(3).
و للدعاء عند الصادق سجل خاص منطلق من القرآن و السّنّة يحوي فنونه و آدابه و الأساليب التي ينبغي للمؤمن أن يلتزم بها حال الدعاء، و القواعد التي عليه أن يراعيها عند المناجاة بين يدي رب العزّة و جبّار السموات و الأرض. و منها قوله: «لا يستجيب الدعاء بظهر قلب ساه، فإذا دعوت فاقبل بقلبك ثم استيقن الإجابة»(4).
فبكل هذه التوجيهات التربوية يريد أبو عبد اللّه أن يكون الدعاء عند طلابه أصلا إيمانيّا متينا، بعيدا عن العادات و التقاليد الموروثة حتى تصبح عبادة واعية للّه تعالى.
و تحريضه على الدعاء كمظهر من مظاهر العبادة، لا ليتجمد الفرد، بل لكي يتحوّل إلى طاقة مبدعة في الواقع العملي، فينشط و يندمج بالحياة الإنسانية بكل قوة و وعي و ثبات و عزم إيماني.
و كذلك عاش الإمام مهتمّا بالعبادات كلّها من الفرائض و النوافل، فهي عنده عمل تربوي غائي و منهج تثقيفي فاعل يستطيع رفع المستوى الروحي للإنسان المؤمن إلى أعلى درجات اليقين و الإيمان، و لذلك دعا تلاميذه إلى ممارستها، و حضّهم على
ص: 190
الالتزام بآدابها - الظاهرية و الباطنية - و ركّز على ضرورة القيام بها، فهي وسيلة يعبّر بها الإنسان عن فقره و حاجته إلى الخالق العظيم.
رغم اهتمام الإمام الصادق بتربية الروح بالفرائض و العبادات و تشجيع تلاميذه على المداومة و التدريب عليها، إلا أنّه لم يغفل عن مبدأ الوسطية في تربية هذا الجانب المهم من جوانب الشخصية المسلمة.
ذلك لأن «العدل في العبادات من أكبر مقاصد الشرع»(1).
و لقد امتاز الإسلام بيسر تكاليفه و سماحة أحكامه و دفع الحرج أو المشقة عن الناس في أمورهم كلها كما في قوله تعالى: يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ (2).
و قد «سمّي هذا الدين الحنيفيّة السمحة لما فيها من التسهيل و التيسير»(3) حيث نهى الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم عن الزيادة في العبادة بما يحمّل النفس فوق طاقتها، حيث جاء في الأثر: «خذوا من العمل ما تطيقون فإنّ اللّه لا يملّ حتى تملّوا»(4).
من هذا المنطلق يريد أبو عبد اللّه أن يجعل هذا الأساس منهجا للحياة و لذلك يرشد أتباعه بالاعتدال في أداء العبادة تحذيرا عن الإفراط و التفريط فيقول: «اجتهدت في العبادة و أنا شاب، فقال لي أبي: يا بنيّ دون ما أراك تصنع فإن اللّه عزّ و جلّ إذا أحبّ عبدا رضي عنه باليسير»(5).
يؤكد الإمام بهذا القول على كراهة إجهاد النفس في العبادة و يحض على الاعتدال و عدم التشدّد فيها، لأن «تحميل النفس من التكاليف ما يشق عليها، يجعلها تبغض ذلك العمل، و يؤدي بها إلى الانقطاع عن أدائه»(6).
لذلك يوصي تلاميذه بأن: «لا تكرهوا إلى أنفسكم العبادة»(7) أي استعينوا على طاعة اللّه عزّ و جلّ بالأعمال في وقت نشاطكم و فراغ قلوبكم بحيث تستلذّون العبادة و هذا مظهر من مظاهر النهي عن الإفراط في مدرسة الإمام.
ص: 191
و كذلك نرى تحذير الصادق عن التفريط في العبادة الذي يمثل في تعاليمه كالنهي عن تأخير الصلاة عن وقتها أو تخفيفها، فعند ما قيل له: الرجل تكون له حاجة يخاف فوتها، أ يخفّف الصّلاة؟ قال: «أو لا يعلم أنّ حاجته إلى الذي يصلّي إليه؟»(1).
و بكل هذا يسعى أن يلزم أتباع مدرسته بالتجنّب عن الإفراط و التفريط، و الذي يؤدّي إلى بناء الشخصية السّوية.9.
ص: 192
المبحث الأول: البناء العلمي
المبحث الثاني: البناء العقلي
ص: 193
ص: 194
تحرص التربية الإسلامية، أشدّ الحرص، على تربية المسلم تربية علمية، و حريصة على بناء شخصيته و سلوكه بناء علميّا إسلاميّا و تؤكد عدم الفصل بين الدين و العلم، بل و توثق الصلة بينهما، و توظفهما معا لصالح الإنسان في دنياه و أخراه.
جاء في الحديث: «من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك اللّه به طريقا إلى الجنة»(1).
و لقد اهتم الإمام الصادق بتربية تلاميذه على هذا المنهج، و اعتنى الإمام الصادق كأشد ما يكون الاعتناء بنشر العلم و الثقافة و بلورة الفكر الإسلامي بشتى أنواع العلوم، فأشاد بفضل العلم و أثنى على روّاده و حث على طلبه و وضع المناهج لآداب المتعلمين، كما عني بصورة خاصة بالتفقه في الدين و معرفة أحكام الشريعة الإسلامية، التي يسمو بمعرفتها الإنسان المسلم و تزدهر بها شخصيته. و إن جهوده في نقل التراث الفكري العلمي إلى الأجيال من بعده فائقة الأثر، بالغة القيمة. و كان من خير نتائج هذه الجهود أنه ترك وراءه مدرسة فكرية خاصة، يقتدي بها الناس من بعده. ترك تعاليم من عنده لطلابه، و منهجا محددا للباحثين على طريقته، و حلولا لكل مسألة عرضت له، للمهتمين بتراثه.
فلا جرم أنه كان كثير العلم واسع الاطلاع، و لم يقتصر علمه على حقل واحد كالفقه أو العقيدة مثلا، ليكون سببا لمخاطبة و جذب فئة محدودة من الناس، بل كانت الروايات المستفيضة من تعليمه و مناظراته و رسائله في مختلف المجالات و لذلك «تناولت مدرسته العلمية مجموعة العلوم الدينية و غيرها من العلوم الطبيعية، و تربّى فيها كبار العلماء في مختلف فروع المعرفة الإسلامية و البشرية؛ بحيث نجد الحضارة الإسلامية أصبحت مدينة لعلوم الإمام و معارفه و منهجه التعليمي و المعرفي»(2).
لقد أعطى الإمام الصادق العقل المنزلة الأولى، و تحدّث عن اقترانه بالعلم و الدين في العديد من مروياته، و كشف عن أبعاد هذه العلاقة المستحكمة بين العقل و العلم و الدين، و كان يعتمد في دروسه و أبحاثه و حواراته على الأدلّة العلمية و نادى بتحكيم
ص: 195
العقل و حريّة البحث العلمي. فكان كمرب و معلم كبير قد اهتمّ بتنمية كامل الشخصية الإنسانية، و ركز على الجانب الفكري، انسجاما مع النهج القرآني الذي يدعو للقراءة، و يحضّ على طلب العلم، و يؤكد على التفكير و التأمل، و يرفض الجهل و التقليد، و يرفع من شأن العلماء و قدرهم.
و قد عرفنا في ما سبق جهود الصادق في البناء العقدي و العبادي للشخصية الإسلامية و سنتحدث في هذا الفصل عن الجانب الآخر من المجال المعرفي في البناء العلمي و العقلي التي تتجسد في الشخصية الصادقية (بعون اللّه تعالى).
ص: 196
المبحث الأول البناء العلمي
- أهمية العلم و حث الإمام الصادق عليه
- مدرسته العلمية و خصائصها
- الإفادات التربوية حول العالم و المتعلم
- الأساليب التعليمية عند الإمام جعفر بن محمد
ص: 197
ص: 198
يؤكد الدين الإسلامي على المعرفة و العلم كقيمة أساسية في الحياة تجذب الإنسان إليها و تحمّله المسؤولية، و الإسلام في طليعة الأديان التي تحث على التعلّم و التعليم، و يضع فرقا عظيما بين العالم و الجاهل، كما قال تعالى:
قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (1) .
و قد اشتهر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قوله: «طلب العلم فريضة على كل مسلم»(2).
و لأنّه لا يمكن للإنسان أن يصل إلى أهدافه السليمة في بناء مجتمعه إلا على أساس من الوعي العلمي القائم على الفهم، و التعقل لحقائق الأمور و من ثمّ فقد جعل الإسلام التسلح بالعلم ضرورة فردية و اجتماعية.
فالعلم يثير في الإنسان الوعي و الرؤية الواضحة، فيحرسه من الانحراف، و يحصنه من الضلال، و يوفر عليه ما يحمي حياته من الأخطار، و يؤمن لمجتمعه رفاهية و سلاما. و لذلك قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاء بما يصنع»(3).
فمن مبادئ التربية الإسلامية تعظيم العلم و المعرفة، و كان للإمام الصادق اهتمام خاص بقيمة العلم و فضله و أثره في حياة الناس تمشيا مع الدين الإسلامي فقال: «العلم أصل كل حال سني و منتهى كل منزلة رفيعة»(4).
فالعلم في نظر الإمام حاكم، يمنح الإنسان الوعي لكل حالة من أحواله، فيعرف الخطأ من الصواب، و الباطل من الحق، فيسيطر على انفعالاته و نزواته، فقال: «العلم حياة القلوب، و مصابيح الأبصار، توصل به الأرحام، و يعرف به الحلال و الحرام،
ص: 199
يعطيه اللّه السعداء و يحرمه الأشقياء..»(1).
و قد ذكر الصادق مكانة العلم و من تحلّى به ببيان فضل العالم على العابد كقوله:
«عالم أفضل من ألف عابد و ألف زاهد»(2).
و قد قام بدور إيجابي في بعث الحركة العلمية و تطويرها ابتغاء تحرير المسلمين من رواسب الجهل و الجمود، و لذلك حث المسلمين على طلب العلم، بقوله: «لو علم الناس ما في طلب العلم، لطلبوه و لو بسفك المهج و خوض اللجج»(3).
و في دعوته لطلب العلم ركّز على مرحلة الشباب، فقال مخاطبا تلاميذه: «لست أحب أن أرى الشاب منكم إلا غاديا في حالين: إما عالما أو متعلما، فإن لم يفعل فرّط، و إن فرّط ضيّع، و إن ضيّع أثم...»(4).
و لا شك أن قيمة العلم بقيمة فائدته، فكلما كانت فائدة العلم أعلى و أهم كان ذلك العلم أشرف و أعظم، و من الواضح أن أوجب الأشياء في حياة الإنسان هي معرفة الدين، فهو أهمّ العلوم و أشرفها.
ورد عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «من يرد اللّه به خيرا يفقهه في الدين»(5).
و قد عني الإمام الصادق بهذا الأمر فكان يحث أصحابه و مريديه على التفقه في الدين في مثل قوله: «عليكم بالتفقه في دين اللّه و لا تكونوا أعرابا(6)، فإنّه من لم يتفقه في دين اللّه لم ينظر اللّه إليه يوم القيامة و لم يزك له عملا»(7).
و عند ما سئل عن معنى الحكمة في قوله تعالى: وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً (8).
فقال: «إن الحكمة هي المعرفة و التفقه في الدين، فمن تفقّه منكم، فهو حكيم، و ما من أحد يموت من المؤمنين أحب إلى إبليس من فقيه»(9).9.
ص: 200
فليس للإنسان البصير أن يعيش غير مسؤول و لا يعذر الجاهل بجهله، و قد نبه الصادق تلاميذه على هذا الأمر بقوله: «أحسنوا النظر في ما لا يسعكم جهله، و انصحوا لأنفسكم و جاهدوها في طلب معرفة ما لا عذر لكم في جهله، فإنّ لدين اللّه أركانا لا ينفع من جهلها شدّة اجتهاده في طلب ظاهر عبادته»(1).7.
ص: 201
كان من أبرز الفعاليات التي بذلها الإمام في نشر العلم و إشاعته بين الناس تأسيسه مدرسة علمية لبثّ الوعي في الأمّة و إصلاح شؤونها.
و كان كبار العلماء و طلاب العلوم على اختلافها يترددون على مدرسته، و لم يختص بعلم دون آخر، و لم يقتصر على منهج واحد، فكان كل وارد يجد عنده ما يطلبه، و كل سائل يأخذ عنه أحسن الجواب.
و قد كان لمدرسته طابع خاص انفردت به عن بقية المؤسسات، و هو الاستقلال الذاتي المتميز بعدم الارتباط بأي جهاز رسمي، فقد كانت تتمتع بالحرية الواسعة في مناهجها التعليمية أو في مجالاتها الفكرية، و لم تتلق من السلطة الحاكمة أي دعم اقتصادي أو مادي، و إنما كانت منفصلة عنها، و مبتعدة في سلوكها عن جميع المؤثرات الخارجية، فهي تسير بالروح الإسلامية المشرقة و هدفها خدمة الأمة، لذلك أصبحت الوفود تنهال على هذه المدرسة من جميع الأقطار، لأنهم وجدوا في شخصية الإمام الصادق العلم و المصداقية و التفاني في خدمة العلم.
لقد عملت مدرسة الإمام على الانطلاق الفكري، و نشر الوعي العلمي، و جنّدت جمهرة كبيرة من العلماء للقيام بتثقيف المسلمين، و تهذيبهم، و تقديمهم في مختلف الميادين العلمية، فقد تميزت هذه المدرسة بمنهجها العلمي السليم، و عمقها الفكري و اتجاهها العقديّ التربوي و الإصلاحي، «و لم تكف أطروحتها في الإعداد العلمي الاعتماد على حشو الذهن بالمعلومات فقط، و إنما خرّجت هذه المدرسة شخصيات كبرى و نماذج مثلى عرفت بالعطاء السخيّ للأمة بحيث أصبح الانتماء إلى مدرسة الإمام و جامعته يعدّ من المفاخر»(1).
فلذا كان تلامذة الإمام الصادق يفتخرون بانتمائهم إلى تلك المدرسة العظيمة، و يرون ما اقتبسوا من علومها اعتزازا به و نشرا له.
و فيما يلي عرض موجز لشؤون هذه المدرسة في عهد الإمام الصادق.
ص: 202
لقد اختار الصادق المدينة مهبط الوحي فجعل فيها مدرسته، «و قد ازدهرت المدينة بها، و استعادت نشاطها في توجيه الركب الإسلامي نحو الخير و السعادة»(1).
أما مكان التدريس، فكان الجامع النبوي الذي كان مزدهرا بمحاضرات الإمام و دروسه التي شملت جميع أنواع العلوم، «ففيه كان حملة الحديث و روّاد العلم يزدحمون لاستماع دروس الإمام و تسجيل أبحاثه»(2).
و في بعض الأحيان كان الصادق يلقي دروسه في بيته، «فيحكي لنا المفضل بن عمر الجعفي(3) أن الإمام كان يلقي دروسه على تلامذته في جميع الفنون الإسلامية في داره»(4) و ذات مرة روى أحد تلامذة الإمام الصادق أنه زار إمامه في منزله، فقال له الإمام: «أ معك شيء تكتب؟ قال: نعم، قال: أكتب...»(5).
و حينما انتقل الإمام الصادق إلى الكوفة أيام أبي العباس، و استمر بقاء الإمام فيها سنتين، اشتغل فيها بالعلم و التعليم، و كان المسجد مكانه الذي يلقي فيه دروسه على تلاميذه و مريديه. و «شوهد الإمام في مسجد الكوفة بين جمع كبير من أتباعه يعظهم»(6).
لما فتح الإمام مدرسته لجميع المسلمين التحق بها جمع غفير من روّاد العلوم على اختلاف نزعاتهم و ميولهم.
و كان الإمام الصادق، يلقي دروسه يوميّا على أكثر من أربعة آلاف طالب، أتوا من أطراف البلاد الإسلامية، من اليمن و مكة المكرمة و البصرة و الكوفة و من مصر و إيران... و من الأقطار الأخرى. فكان مجلسه يكتظ بمختلف الطبقات من روّاد العلم و حملة الحديث، و كان هؤلاء ينشرون في أوساط الأمة الإسلامية ما تعلموه منه، و أخذوه عنه.
ص: 203
و قد فتح الإمام الصادق أبواب مدرسته على مصراعيها أمام الجميع و لم يقتصر دوره العلمي على تلامذته من أتباع مذهبه، و إنما كان همّه إيصال الفكر الرسالي إلى الأمة جمعاء. و لذلك كانت مدرسته تستوعب مختلف الاتجاهات.
فعند ما نقرأ أسماء الرواة الذين رووا عنه أو الذين تعلموا عنده نجدهم لا ينطلقون من لون واحد، بل كانوا يتحرّكون في ألوان متعددة، تلتقي عند الإنسان الذي يستطيع أن يجمع الألوان عند لون الحقيقة الذي يستطيع أن ينفتح على الجميع.
و قد حضّ الإسلام على الخوض و الاختصاص بجميع أنواع العلوم و المعارف خصوصا التي تتطور بها الحياة الفكرية و الاجتماعية. و «الدين الإسلامي لا يخص دعوته لتعلم العلوم الدينية فحسب، و إنما يخص فرض العين بها، و يرغب في تعلم كل علم فيه إسعاد الحياة، و لا تفترق علوم الدين عن غيرها مما يحتاج إليه النوع من إسعاد الحياة و يضطر إليه، إلا في رجحان العلوم الدينية على غيرها، و عينية الوجوب فيها على كل أحد و كفائيته في غيرها»(1).
فإنّ العلم الذي حث الإسلام على طلبه لا يتقيد بنوع خاص، و إنما يشمل جميع أنواع العلوم و الفنون، هذا لأنّ «غرض التربية عند المسلمين يتمثل في إعداد المرء للحياة الدنيا و الآخرة»(2) و من ثم يرى الإمام الصادق بأن لا شيء بعد التفقه في الدين و تطبيق أحكامه أفضل من معرفة العلوم و الآداب الطبيعية و قوانينها، لذلك كان من الطبيعي أن يؤكد وحدة الدين و العلم. فقال: «لا يستغني أهل كل بلد عن ثلاثة يفرغ إليهم في أمور دنياهم و آخرتهم، فإن عدموا ذلك كانوا همجا: فقيه عالم ورع، و أمير خير مطاع، و طبيب بصير ثقة»(3).
و اللافت للنظر حقا هو صيغة التكامل و الشمول التي تميز بها الصادق في تناول العلوم الدينية و العلوم الدنيوية، و عدم الفصل بينهما، حتى إنه يجعل الأمير و الفقيه و الطبيب على سواء، و يستخدم نتائج العلوم الطبيعية للاستدلال على عظمة الإله و قدرته، و في التدليل على صدق التبليغ عنه.
و من ثم أطلّت «عين جعفر على حقائق العلم فرآها في علوم الدنيا و علوم الدين، فلم يدع واحدا منهما ليلقي نفسه على الآخر، و إنما قدم ما حقه التقديم، و لم ينس
ص: 204
نصيبه من الدنيا، و أخذ يسبق إلى مسائل العلم المادي لأنه رآها معينة على علوم الدين و لا غنى للدنيا عنها، و كثير من مسائل العلم يشترك فيه الدين و الدنيا فلا ينفصلان، و قد صار له في كل ناحية منها خبرة تدل على أنه قد غاص إلى قرارها أو كاد»(1).
و على هذا تناولت محاضرات الصادق و دروسه جميع الفنون العلمية التي لها الأثر التام في التقدم الاجتماعي، حتى قال بعض علماء الغرب: «يصح لنا القول بأن الصادق إن لم يكن هو الرائد المجدّد في جميع العلوم، فهو دون أدنى شك في طليعة أولئك المجددين»(2).
و العلوم التي تناولتها مدرسة الإمام بالبحث و التدريس هي علوم الفلك، و الطب، و الحيوان، و النبات، و الكيمياء، و الفيزياء، فضلا عن العقيدة و الفقه و الأصول و علوم القرآن و تفسيره و علم الحديث.
و لم يقتصر الإمام في أبحاثه على الناحية العلمية، بل توسّع في محاضراته، فشملت أصول الآداب و القيم الاجتماعية، من مكارم الأخلاق، و الإصلاح الشامل في جميع المجالات.
و هذا التعدد في العلوم يدلل على مدى عظمة مدرسة الإمام و اتساع نطاقها العلمي، حتى شملت هذه العلوم.
اعتنى الإمام بالتخصص العلمي في مدرسته؛ لأن للاختصاص دورا كبيرا في إنماء الفكر الإسلامي و تطويره يمكنّه من استيعاب الطاقات الكثيرة الوافدة على مدرسة الإمام من سائر أنحاء العالم الإسلامي، و بالتخصص تتنوع العطاءات، و يكون الإبداع و عمق الإنتاج، و لذا وجّه الإمام أنظار تلاميذه إلى التخصص العلمي، و تصدّى للإشراف على كل تلك التخصصات.
فحاول إعطاء كل مجموعة من تلامذته علما معيّنا يختص به و لأن الإمام الصادق علم استعداد كل منهم، و رعى مواهبهم، فوجهها إلى ما يجلو فيها القدرة و يصقل الإمكانية، و نتج من ذلك مجموعة كبار العلماء.
فكلف أبان بن تغلب(3) بالفقه، و أمره أن يجلس في المسجد، فيفتي الناس، و كان فقيها يزدحم الناس على أخذ الفقه عنه.
ص: 205
و وكل حمران بن أعين(1) بالأجوبة عن مسائل علوم القرآن، و قد كان أحد حملة القرآن الذين يحتج بهم في القراءات، و كان عالما بالنحو و اللغة.
و سمح لزرارة بن أعين(2) بالمناظرة في الفقه و هشام بن الحكم(3) و صاحب الطاق(4) بالمناظرة في العقائد و الكلام.
و تخصّص في حكمة الوجود و أسرار الخليقة المفضّل بن عمر(5) الذي أملى عليه الإمام الصادق كتابه الشهير المعروف بتوحيد المفضّل.
و تخصّص في علم الكيمياء جابر بن حيان الكوفي(6) فنشط كل منهم حسب اختصاصه في التأليف و المناظرة، و بمرور الأيام تبوّأ رجال المدرسة مواقعهم بكفاية عالية و تمكّن باهر.
و لذلك سبقت مدرسة الإمام الصادق على المدارس الأخرى في تأسيس الاختصاص بالدراسات العلمية.
كان من أهم إنجازات الإمام الصادق هو التأليف و التدوين الذي حرض عليهما طلابه، فاستجابوا إلى هذه الدعوة التي تحمل في أعماقها إنارة الفكر الإنساني و إشاعة العلم و بسطه بين الناس، و قد أقبل أصحابه على التأليف و تدوين علومه حتى بلغ عدد أهم ما ألفوه أربعمائة كتاب التي سميت بالأصول.
ص: 206
و قد ذكر ابن النديم في الفهرست جملة منها عند حديثه عن مصنفي الشيعة و علمائهم، منها كتب القراءات لأبان بن تغلب(1). و كتاب المعرفة لصاحب الطاق(2).
و قد ذكر سبعة عشر مؤلفا لهشام بن الحكم في مختلف العلوم و الفنون(3).
إضافة إلى هذا كان الإمام يصحح ما يكتبه الكبار من تلاميذه من الكتب العلمية، فقد روي «أن لعبيد اللّه(4) كتابا عرضه على الإمام الصادق و صححه، و استحسنه عند قراءته»(5).
و قد عهد الإمام لبعض تلاميذه بدراسة بعض الكتب خصوصا ما يتعلق بالفقه فقد روى زرارة بن أعين أن الصادق أمره بدراسة - صحيفة الفرائض - و هو من الكتب الفقهية التي عنيت ببيان سهام الفرائض من المواريث(6).5.
ص: 207
نستخلص من أقوال الصادق مجموعة من الإفادات التربوية حول العالم و المتعلم و ذلك من خلال تحديد العلاقات المثالية التي نشد قيامها بين المعلم و المتعلم.
و قد تكلّم الإمام عن الصفات التي يجب أن يتحلى بها كل من المعلم و المتعلم.
فإن للعالم المعلّم آدابا في نفسه و مع تلاميذه كما أنّ للمتعلم آدابا مع معلّمه، و فيما يلي نشير إلى مجمل آراء الصادق في هذا المجال.
المعلم هو العنصر الأساسي في العملية التعليمية، و لا يمكن أن يصلح حال التعليم إلاّ إذا صلح حال المعلم دينا و خلقا و علما.
و المعلم الصالح يستطيع أن يتلافى كثيرا من النواقص التي تعتري التعليم في المنهج و الوسائل التعليمية و غيرها، و الذي يرجع إلى تراثنا الإسلامي الذي يستمد أصوله من الكتاب و السّنّة يجد ما يؤكد بوضوح مبدأ الإيمان بأهمية المعلم، و ينبه إلى الدور الخطير الذي يقوم به في بناء الفرد، و إصلاح أحوال المجتمع، و حمل رسالة الدين و فهمها و تفهيمها للناس، و يرفع من شأن العلم و العلماء، و يجعل العلماء ورثة الأنبياء و يعتبر عملهم من أجل تعليم الناس و إفادتهم من خير الأعمال الصالحة.
فشخصية المعلم في الإسلام لها أثر عظيم في عقول التلاميذ و نفوسهم، و قد يكوّن التلاميذ انعكاسا لشخصية المعلم. فهم يتأثرون بفعله و انفعاله. و «كان أسلافنا من علماء المسلمين يتلقون عن أساتذتهم ليس العلم فحسب و إنما الخلق و الدين و الأدب و السلوك»(1).
من هنا كان المعلّم عند الإمام الصادق مرآة الصلاح و معيار الخير لمن يترسمون خطواته، فيوصيه بإصلاح نفسه حتى لا يروا منه إلا الحسن و الصلاح، فيروي عن جدّه الإمام علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه: «... و اعلم أن المتلبس بالعلم منظور إليه و متأسيا بفعله و قوله و هيئته، فإذا أحسن سمته و صلحت أحواله، و تواضعت نفسه،
ص: 208
و أخلص للّه تعالى عمله، انتقلت أوصافه إلى غيره من الرعية، و نشأ الخير فيهم، و انتظمت أحوالهم...»(1)
و لأن التلميذ لا يذكر إلاّ و اسم شيخه مقرونا به فإن كان سيئا فسيلحق السوء بشيخه.
كما خاطب الإمام الصادق تلاميذه: «فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه، و صدق الحديث، و أدّى الأمانة، و حسن خلقه مع الناس، قيل هذا جعفري، و يسرّني ذلك و يدخل عليّ منه السرور، و إن كان على غير ذلك دخل عليّ بلاؤه و عاره، و قيل: هذا أدب جعفر»(2).
و قد حدّد الإمام مجموعة خصائص ينبغي أن يتصف بها العالم المعلّم من مقومات الشخصية و المهنية كما يلي:
و هي السمات التي يجب أن يتحلى بها المعلم في نفسه التي تجعله قدوة عليا في السلوك و منها:
لا شك أن الإخلاص، المقوّم المهم من مقومات شخصية المعلم بسببه تصلح و تزكو عبادة المعلم التعليمية، و بفقده تذهب بركة علمه و فائدته، فالمخلص في تعليمه يصبح متحررا من كافة القيود البشرية ينعم بحريّة الإيمان باللّه فلا يخشى إلا اللّه.
قال الإمام الصادق: «إذا رأيتم العالم محبّا لدنياه، فاتهموه على دينكم، فإنّ كل محب لشيء يحوط ما أحب»(3). «فإن أقل درجات العالم أن يدرك حقارة الدنيا و خسّتها و كدورتها و انصرامها و عظم الآخرة و دوامها»(4) و لذلك قال الصادق: «من تعلّم للّه عزّ و جلّ و عمل للّه، و علم للّه، دعي في ملكوت السماوات عظيما»(5).
أي إنّ على العالم أن يخلص في تعليمه، و يجعله خالصا لوجه اللّه تعالى حبا له سبحانه و رغبة فيما عنده من عظيم الأجر و الثواب الذي لا يتأتى إلا بتطهير النفس
ص: 209
و تنوير القلب و الدعوة إلى الحق بصدق السريرة و استقامة السيرة، لأنّ «مدار الأعمال على النيّات، و بسببها يكون العمل تارة خزفة لا قيمة لها، و تارة جوهرة تعلم قيمتها لعظم قدرها»(1).
قال الإمام الصادق: «إن العالم إذا لم يعمل بعلمه، زلّت موعظته من القلوب كما يزل المطر عن الصفا»(2) و من صفات العالم الناجي أن يعمل بعلمه، و لا يخالف فعله قوله، فروح العلم هو العمل الصالح و» أن المنزلة التي احتلها العلماء في الإسلام لم يحتلوها لمجرد علمهم، بل لما يترتب على هذا العلم من آثار حيث يكون العالم أقدر على القيام بمهام الاستخلاف من الجاهل».(3)
و من جعل نفسه للناس معلما و مرشدا، فليبدأ بتعليم نفسه و إرشادها قبل تعليم غيره و إرشادهم. أثر عن الإمام علي بن أبي طالب (كرم اللّه وجهه) بقوله: «من نصب نفسه للناس إماما فليبدأ بتعليم نفسه، قبل تعليم غيره...، فإن معلم نفسه و مؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس و مؤدبهم»(4) و لذا أكّد الصادق على العالم ضرورة العمل بما يعلم، ليحتفظ بتأثيره في النفوس و ينال ما يستحقّه من الثواب عليه في الدنيا و الآخرة. كما في قوله: «لن ينفعكم اللّه بالعلم حتى تعملوا به لأنّ العلماء همتهم الرعاية و السفهاء همتهم الرواية»(5).
العلم الذي يختزنه العالم في نفسه، ليس ملكا له، بل هو لكلّ من يطلبون الهدى، فليس من حقه أن يقبع في زاوية ليحجب علمه عن الناس، فهو مسؤول عنه أمام اللّه تعالى الذي يقول في كتابه الكريم:
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنّاهُ لِلنّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ (6) .
و قد روى الصادق عن الإمام علي كرم اللّه وجهه: «ما أخذ اللّه على أهل الجهل أن يتعلموا، حتى أخذ على أهل العلم أن يعلّموا»(7).
ص: 210
فلا يمكن للعالم أن يكون حياديّا إزاء الجهل، بل لا بدّ له أن يبذل العلم عند وجود المستحق، فقال الصادق: «إن لكل شيء زكاة، و زكاة العلم أن يعلمه أهله»(1).
و في كلام آخر أشار إلى ثواب التعليم بقوله: «من علّم خيرا فله مثل أجر من عمل به، قيل: فإن علّمه غيره يجري ذلك له؟ قال: إن علّمه الناس كلهم، جرى له، قيل: و إن مات؟ قال: و إن مات»(2).
من هنا يحذّر الإمام صاحب العلم من التقاعس عن نشر العلم بقوله: «إنّ من العلماء من يحبّ أن يخزن علمه و لا يؤخذ عنه فذاك في الدرك الأوّل من النار»(3)، لأن انتفاع الناس بالعلم لا يكون إلا بنشره، و ما فائدة السراج اذا أطبق عليه.
فالإمام يؤكد مسؤولية العالم في التعليم فالعلم ملك للناس جميعا و أداة لتطوير حياتهم.
و مما اعتبره الصادق منافيا لروح المعرفة العلمية هو القول بغير علم، إذ ما يستدعيه التزام الإنسان بالمعرفة العلمية أن لا يتجاوز حدود علمه فيما يؤمن به من فكرة أو يتعبد به من عقيدة، و التزام الإنسان بهذا المبدأ يكشف عن إخلاصه للعلم و احترامه لعقله، و في الوقت نفسه يكشف عن رغبة الإنسان في الالتزام بالحق الذي يفرض عليه أن لا يتكلم خارج إطار ما يعرف و يعلم، و في هذا الشأن يقول: «حق اللّه على خلقه أن يقولوا ما يعلمون، و يكفّوا عما لا يعلمون، فإذا فعلوا ذلك فقد أدّوا إلى اللّه حقه»(4).
فهذا المبدأ له أهميته و مكانته في حياة المعلم و المربي لقد رسم الصادق للعالم طريق النجاة و الكرامة بقوله: «للعالم إذا سئل عن شيء و هو لا يعلمه أن يقول: اللّه أعلم»(5).
فجواب من لا يعلم بأنّ اللّه أعلم تسليم للّه تعالى بالعلم، و ذود للنفس عمّا يشينها من الباطل، فهو قيمة دينية و خلقيّة رفيعة تريح باله، و تزيده ثقة بنفسه و احتراما في عين الناس.
و هذا ما أراده الصادق الذي انتقل من التذكير إلى التحذير، فقال: «و اهرب من الفتيا هربك من الأسد، و لا تجعل رقبتك للناس جسرا»(6).
ص: 211
و في هذا التحذير أمر بالفرار من الإفتاء بغير علم، و نهى عن خسران الدنيا و الآخرة بالتعالم، لأنّ «قول العالم: لا أدري لا يضع منزلته، بل يزيدها رفعة، و يزيده في قلوب الناس عظمة و تفضّلا من اللّه تعالى عليه، و تعويضا له بالتزامه الحق، و هو دليل واضح على عظمة محلّه و تقواه و كمال معرفته»(1).
و الفتوى بغير علم ليست منقصة في حق العلماء فحسب، و إنما هو من المهلكات، يقول الإمام الصادق ما نصّه: «إياك و خصلتين مهلكتين: أن تفتي الناس برأيك، و أن تقول ما لا تعلم»(2).
و هكذا كان الصادق يخشى على المسلمين الانزلاق إلى الهوى و الانغماس في حب النفس الذي يخرج بها عن الصراط المستقيم، و يهوي بها في ظلمات النقص و البوار.
إنّ العلم لا ينفع صاحبه و لا طالبه ما دام يقترن بالكبر في نفس العالم، فالمتكبر تعافه النفس، و تنفر منه، و يذهب ما عنده من العلم أو الرغبة فيه سدى.
من هنا فقد أهاب الصادق بالعلماء ألا يباهوا و لا يفخروا بالعلم نأيا بهم عن الخسران المبين، فقال: «من تعلم علما ليماري به السفهاء أو يباهي به العلماء أو ليقبل بوجوه الناس إليه فهو في النار»(3).
و حذر العلماء مما يسوؤهم و يعرضهم للخسران المبين، فقال: «آفات العلماء ثمانية أشياء: الطمع، و البخل، و الرّياء، و العصبيّة و حب المدح، و الخوض فيما لم يصلوا إلى حقيقته، و التكلّف في تزيين الكلام بزوائد الألفاظ، و قلة الحياء من اللّه و الافتخار، و ترك العمل بما علموا»(4).
و لو اجتنب العلماء هذه المساوئ، لبلغوا المنزلة الرفيعة و نالوا الكرامة في الدنيا و السعادة في الآخرة.
المقصود بالمقومات المهنية الأعمال التي يقوم بها المعلم خلال مزاولته للتعليم بهيئة و كيفية خاصتين تزيدان من تأثير حضوره و من استيعاب الطالب. فعند ما يهذّب المعلم روحه و نفسه و يؤدبها يترك آثارا أكثر لدى المستمع من النواحي المعنوية و التعليمية و التربوية. و من جملة تلك الآداب:
ص: 212
من أهم المقومات المهنية للمعلم بدء تعليمه بالبسملة و الاستعانة باللّه؛ لأنّ الدين الإسلامي هو دين التوحيد، و كل شيء فيه يدور حول محور التوحيد، لذلك فإن الاستعانة باللّه و اللجوء إليه أمر ضروري للقيام بأي عمل، ذلك لأن إرادته تعالى إذا لم تشأ أمرا فلن يكون، و قد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى:
وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْ ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً * إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ وَ اذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَ قُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (1)
كما أن أي عمل يتم دون ذكر اسم اللّه، فسيكون الشيطان شريكا فيه بشكل من الأشكال، و يؤدي ذلك إلى بطلانه و خرابه.
روي عن الإمام الصادق قوله: إذا توضأ أحدكم أو شرب أو أكل أو لبس و كل شيء يصنعه له أن يسمّي، فإن لم يفعل؛ كان للشيطان فيه الشرك»(2).
بدء العمل باسم اللّه يعد نوعا من التقدير و الشكر للّه على نعمه، كما إنه طلب منه تعالى أن يعين على أداء العمل و إتمامه. روي عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قوله: «كل كلام أو أمر ذي بال لا يفتح بذكر اللّه فهو أبتر»(3).
و روي عن الإمام الصادق قوله: «و ربما ترك في افتتاح أمر بعض أتباعنا بسم اللّه الرحمن الرحيم؛ فيمتحنه اللّه بمكروه و ينبّهه على شكر اللّه تعالى و الثناء عليه، و يمحو فيه عنه وصمة تقصيره عند تركه باسم اللّه»(4).
و كان الإمام بنفسه يلتزم بالبسملة دوما عند بدء درسه أو خطبه أو رسائله و ما يمليه. كما يقول: «لا تدع بسم اللّه الرحمن الرحيم و إن كان بعده شعر»(5).
لقد حضّ الإسلام دوما على الوضوء و الطهارة، إلى درجة أنه من المستحب أن ينام الإنسان و هو على طهارة و تزداد أهمية هذا الأمر في مجال التربية و التعليم. نرى الصادق كان ينصح تلاميذه حين يريدون الإقبال على التجربة و تحصيل العلم بالوضوء و الطهارة بقوله: «من ذهب في حاجة على غير وضوء فلم تقض حاجته، فلا يلومنّ إلا نفسه»(6).
ص: 213
فانّ الوضوء و الطهارة بحدّ ذاتهما هما نوع من التزكية، و من أجدر بهما من المعلم. و قد ذكر الإمام مالك بن أنس أن الإمام الصادق كان إذا ذكر حديثا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كان يلتزم على الطهارة.(1)
و من جملة الآداب التعليمية مراعاة حرمة العلم و طالبه. فقد روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قوله: «وقّروا من تعلمونه العلم»(2).
و قرّر الإمام الصادق بهذا بقوله: «تواضعوا لمن تعلّمونه العلم، و لا تكونوا علماء جبارين، فيذهب باطلكم بحقكم»(3).
و هذه دعوة حازمة جازمة للعالم أن يلين لتلاميذه و المتعلّمين على يديه، و يلطف بهم، و يعطف عليهم، «لأنّ التواضع من السنن الأكيدة، و إن كان لازما لكل من الناس خصوصا للمؤمنين لكن للمتعلّمين أوجب، لأنهم بمنزلة الأولاد مع ما هم عليه من ملازمة العالم و اعتمادهم عليه في طلب العلوم النافعة»(4).
و قد روي أن سفيان الثوري(5) سأل الإمام الصادق عن خطبة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم في مسجد الخيف، و كان الإمام يستقل مركبا ليتوجه إلى مكان ما، فوعده الإمام بإجابته بعد عودته من شأنه، لكن سفيان أصرّ على ذلك، عندئذ ترجل الإمام عن مركبه و قال: «اكتب باسم اللّه...»(6) و تصرّف الإمام هذا يدل على مدى احترامه للعلم و التعليم، مما جعله يترجل عن مركبه و يذكر له خطبة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم.
المحبة هي المبدأ التربوي الذي لا يستقيم تعليم و لا تربية من دونه، فالطلاب بحاجة إلى المحبة و اللطف و الرعاية، كي يطمئنوا إلى معلمهم فيحبوه و يثقوا به و يقدّروا مكانته، و متى نمت هذه العلاقة استطاع المعلم أن يفعل الشيء الكثير في ميدان التعليم.
و ليس من أخلاق المعلم المسلم العنف و الخشونة في تعليمه، لأنّها تؤدي إلى ابتعاد التلاميذ عنه و عدم التفاتهم إليه إذا كان فظّا غليظ القلب.
ص: 214
أشار الإمام الصادق إلى هذا الأدب بقوله:
«على العالم إذا علّم ألاّ يعنف، و إذا علّم أن لا يأنف»(1).
فينبغي أن يحسّن العالم خلقه لمن يعلّمهم، و يتلطف بهم إذا لقيهم و يظهر لهم البشر و المودّة. و وصف الإمام مالك الصادق نفسه في مجلس درسه فقال: «لقد كنت أرى جعفر بن محمد و كان كثير التبسّم...»(2).
و كانت العلاقة بين الإمام و تلاميذه حميمة جدا، حتى إنه إذا دخل عليه أبان بن تغلب - مثلا - ثنى له الوسادة، و صافحه مستقبلا و مودّعا، و قال في وفاته: «أما و اللّه لقد أوجع قلبي موت أبان»(3). و كذا يقول لأبي حمزه الثمالي: «إني لأستريح إذا رأيتك»(4).
و شمل لطفه حتى معارضيه و المنحرفين عنه رحمة لهم و شفقة عليهم و رغبة فيهم، فكان يخاطبهم برقيق القول من قبيل: يا أخا مصر يا أخا الشام.
من الآداب الأخرى التي ينبغي مراعاتها في التعليم، و لها آثار تربوية و تعليمية كبيرة. أن يراعي المعلم العدل بين تلاميذه في الجوانب كلها، العدل في النظرات نحوهم، و في السؤال و الجواب و التشجيع و الجزاء و غير ذلك. و كان النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يراعي العدل حتى في النظر إلى أصحابه عند الحديث معهم.
و المعلم الذي لا يراعي العدالة بين تلامذته، يفقد مكانته عندهم، و إذا انعدم احترام الطلاب لمعلمهم فلن يصغوا إلى كلامه و دروسه، مما سيقلل من استيعابهم.
من هنا فقد عني الإمام الصادق بهذا الأدب، و عند ما سئل عن هذه الآية:
وَ لا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنّاسِ (5) قال: ليكن الناس عندك في العلم سواء(6).
و في كلام آخر إلى المعلم الذي سأله عن التعليم قال: «... أن يكون الصبيان عندك سواء في التعليم و لا تفضّل بعضهم على بعض»(7).
ص: 215
فيرشد الصادق المعلم إلى أمر تربوي عظيم تبتني عليه صيانة قدر الإنسان و كرامته و يشترط لجواز شغله أن يكون التلاميذ عنده سواء و أن لا ينظر إلى الفواصل المالية و الفروق المعيشية و المظاهر الترفيهية فيهم، فيحذّره عن عواقبه كما ينصه:
«من العلماء من يرى أن يضع العلم عند ذوي الثروة و الشرف، و لا يرى له في المساكين وضعا، فذاك في الدرك الثالث من النار»(1).
الفروق الفردية «هي تلك الخصائص و الصفات التي يتميز بها كل إنسان عن غيره من بني البشر سواء كانت هذه الخصائص تتعلق بالنواحي الجسمية أم العقلية أم الاجتماعية أم الأخلاقية»(2).
و لا شك في وجود هذه الفروق بين الأفراد، و لا يتشابه اثنان تشابها تامّا، «فقد اقتضت حكمة اللّه عزّ و جلّ وجود فوارق فردية بين البشر لكونها من أهم الوسائل الدافعة للإنسان نحو الرقي و التطور المستمر»(3) و في كتاب اللّه عزّ و جلّ الذي هو هداية و منهج للحياة إشارات عديدة للفروق الفردية و ضرورة العناية بها، قال تعالى:
وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (4)
و هناك في القرآن دعوة صريحة إلى ضرورة تحمل كل نفس ما تستطيع حمله و عدم تكليفها فوق ذلك: لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها (5)
و عملا بالقاعدة نفسها ورد في الحديث الشريف: «نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم و نكلّمهم على قدر عقولهم»(6).
و في هذا الحديث مبدأ تربوي مبني على الاعتراف بما بين الناس من فروق في العقول. «و لما كان لكل متعلم قدرات و استعدادات خاصة به. لذا نرتب على المعلم أن يسير معه بقدر فهمه، فلا يلقي إليه ما لا يبلغه عقله»(7).
ص: 216
فلم يغفل الإمام الصادق عن مراعاة الفروق الفردية في التربية العملية عند المتعلمين إذ أمر بعض تلامذته بالمناظرة، و نهى بعضهم عنها، فقد رأى أحد تلامذته صاحب الطاق و هو يناظر المخالفين في المدينة فنبّهه على أن الإمام ينهى تلاميذه عن الكلام فالتفت صاحب الطاق إليه و قال:
أو أمرك أن تقول لي؟
قال: لا، و لكنه أمرني ألاّ أكلم أحدا.
قال: اذهب فأطعه فيما أمرك.
و سمع الصادق بالواقعة من التلميذ فتبسّم، و قال له: «إن صاحب الطاق يكلم الناس فيطير، أما أنت إن قصوك لن تطير»(1).
و عاش الصادق يمنع كلاّ من تلاميذه عن الخوض في علم ما إذا شعر أنّه لا يفلح فيه، و يسمح به للمقتدر عليه انطلاقا من معرفته ما يمتاز به بعض الناس من بعض في هذا المضمار أو ذاك.
و مما يؤكد هذا المنهج ما رواه أبو زهره أنّ الإمام كان يخلو بجابر «أنّه كان يدارسه، و يختصه بالانفراد به في الدراسة مما يدلّ على أنّ ما كانا يتدارسانه لا يطيقه كل الناس لدقة حقائقه و عمق ما يحتاج إليه من تفكير»(2).
حدّد الإمام الصادق خصائص أو سمات المتعلّم فيما يخص من الناحية الشخصية و السلوكية التي تجسّد من العلاقة المثالية بين العالم و المتعلم، و تعاليمه كان على رأسها التوجيه المعنوي الذي يعتبر اليوم أساسا أوليّا لكل روح علمية خالصة، فهو لا ينسى أن ينبّه على موضوع بالغ الأهمية و هو تزكية النفس قبل التعلم، لأنّ العلم نور لا يقذفه اللّه تعالى في القلب المنجس بالكدورات النفسية و الأخلاق الذميمة، فيقول الصادق:
«ليس العلم بكثرة التعلم، و إنّما هو نور يقذفه اللّه تعالى في قلب من يريد اللّه أن يهديه»(3).
و المقصود بالعلم في كلام الإمام هو المعرفة، و العلم غير المعرفة. العلم طائفة من المعلومات تشغل الذاكرة و ليس لها علاقة بالسلوك أما المعرفة فلها علاقة مباشرة بسلوك الإنسان و أخلاقه. و في الآية الكريمة: إِنَّما يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ (4)
ص: 217
نجد العلاقة بين المعرفة و السلوك و الأخلاق بشكل واضح، و المقصود بالعلماء في هذه الآية أصحاب المعرفة، «فإن العلم لا يتم تحصيله إلا بالتعلم و لكن قول جعفر الصادق لا يراد به ظاهره إنما يراد به حسن الانتفاع و صدق العمل»(1).
و بهذا يعلم» أنّ العلم ليس هو مجرد استحضار المعلومات الخاصة و إن كانت هي العلم في العرف العامي و إنّما هو النور المذكور الناشىء من ذلك العلم الموجب للبصيرة و الخشية للّه تعالى»(2).
و لذلك اهتمّ الصادق بهذا الأمر بالغ الأهمية بقوله:
«فإن أردت العلم فاطلب أولا في نفسك حقيقة العبودية، و اطلب العلم باستعماله، و استفهم اللّه يفهمك»(3).
فهو لا يكتفي بالحثّ على تحصيل العلم بل يأمر إلى جانب ذلك بالتخلّق بالأخلاق الفاضلة، فالتقوى و الأخلاق أولا ثم العلم، فلا أثر لعلم بغير تقوى و لا ثمر لدين بغير علم.
إذن فلا بد لكل «متعلم أن يطهر نفسه أولا من رذائل الأخلاق، و الأوصاف بأسرها و إذا لم يجرد لوح نفسه عن النقوش الروية لم تشرق عليه لمعات أنوار العلم و الحكمة»(4).
فقد ورد عن الصادق توصيات عامة، يوصي بها المتعلمين و ما ينبغي أن يتصفوا به تجاه المعلمين، منها ما رواه عن جدّه علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه مخاطبا لطلبة العلم: «يا طالب العلم، إن العلم ذو فضائل كثيرة، فرأسه التواضع، و عينه البراءة من الحسد، و أذنه الفهم، و لسانه الصدق، و حفظه الفحص، و قلبه حسن النيّة، و عقله معرفة الأشياء و الأمور، و يده الرحمة، و رجله زيارة العلماء. و همته السلامة، و حكمته الورع، و مستقرّه النجاة. و عافيته العافية، و جيشه محاورة العلماء، و ماله الأدب، و ذخيرته اجتناب الذنوب، و زاده المعروف، و ماؤه الموادعة، و دليله الهدى، و رفيقه محبة الأخيار»(5).
و يبدو واضحا من خلال هذا النص معظم الصفات التي يجب أن يتصف بها المتعلم.2.
ص: 218
و فيما يلي جملة من هذه الصفات التي أوردها الإمام، و التي ينبغي لطالب العلم التحلي بها كي ينجح في دراسته و حياته العلمية:
و ينبغي للمتعلم أن يخلص للّه تعالى في طلبه للعلم، و أن يتوخى في ذلك مرضاة اللّه تعالى، و أن يتجرد من الهوى و من حظوظ النفس، و قد أعلن ذلك الإمام الصادق بقوله: «من أراد الحديث لمنفعة الدنيا، لم يكن له في الآخرة نصيب، و من أراد به خير الآخرة أعطاه اللّه خيري الدنيا و الآخرة»(1).
و قد كان يحثّ تلاميذه و اللائذين به و الطائفين حول رحابه على الإخلاص و أن لا يكون في طلبهم للعلم شيء من المراء و المباهاة و المفاخرة. و الوصول إلى جاه أو مال أو لمجرد التفوق على الأقران، بل لنشر العلم و الفضيلة، فكان يقول:
«لا تطلب العلم لثلاث: لترائي به، و لا لتباهي به، و لا لتماري به»(2).
و أهاب الإمام بطلاب العلوم ألاّ يتباهوا و لا يفخروا على غيرهم بما عندهم من طاقات علمية ذلك لأنّ «الذين مقصودهم من وراء الدراسة أمور نفسية نستطيع أن نقول أن غاية مطلوبهم الجهل»(3)، و قد بيّن الصادق بوضوح أصناف طلاب العلوم، مصورا لدوافعهم النفسية، فقال: «طلبة العلم ثلاثة: فاعرفهم بأعينهم و صفاتهم - و هم:
- صنف يطلبه للجهل و المراء.
- صنف يطلبه للاستطالة و الختل.
- و صنف يطلبه للفقه و العقل.
فصاحب الجهل و المراء: مؤذ ممار، متعرض للمقال في أندية الرجال، بتذاكر العلم، و صفة الحلم، قد تسربل بالخشوع، و تخلى عن الورع، فدقّ اللّه من هذا خيشومه(4)، و قطع منه حيزومه(5).
و صاحب الاستطالة و الختل: ذو خبّ(6) و ملق(7)، يستطيل على مثله من أشباهه،
ص: 219
و يتواضع للأغنياء من دونه، فهو لحلوانهم هاضم، و لدينه حاطم، فأعمى اللّه على هذا خبره، و قطع من آثار العلماء أثره.
و صاحب الفقه و العقل: ذو كآبة، و حزن و سهر، و قد قام الليل في حندسه(1)يعمل و يخشى، و جلا داعيا، مشفقا، مقبلا على شأنه، عارفا بأهل زمانه، مستوحشا من أوثق إخوانه، فشدّ اللّه من هذا أركانه، و أعطاه يوم القيامة أمانه»(2).
و سلّط الإمام الضوء على نفسيّات طلاب العلوم، و أنّ من يطلب العلم منهم لغير اللّه فهو في ضلال مبين، و أمّا من يطلب العلم لوجه اللّه، فهو على هدى، و أعطاه اللّه يوم القيامة أمانه.
و من آداب المتعلم متابعة العالم و ملازمته في طلب العلم و الصبر على ما لم يحط علمه به من ذلك، فقد أوصى الصادق تلاميذه بالتحلي بالحلم في كثير من وصاياه لهم فقال: «عليك بالحلم فإنّه ركن العلم»(3).
فقد أثر عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أنه قال: «ما جمع شيء أفضل من حلم إلى علم»(4)
لذلك أدّب الصادق تلاميذه بهذا الأدب تصديقا لما ورد في حديث النبي صلّى اللّه عليه و سلّم بقوله:
«أطلبوا العلم و تزيّنوا معه بالحلم و الوقار»(5).
فنرى شخصية المتعلم في فكر الصادق بأنّه يملك العلم و لكن مع سعة الصدر عند ما يواجه التحديات.
و أوصى الصادق تلاميذه بقوله: «اطلبوا العلم بوجوهه، فانبرى إليه بعض أصحابه، فقال: ما وجوهه؟ فأجابه: بمناهجه و وجوهه قائلا: «التواضع للعالم، و القبول منه، و الصمت أمامه، و الاستماع إليه، و حفظ العلم، و العمل به...»(1).
يجب على المتعلّم تعظيم العالم و توقيره «و أن يحافظ على شرائط الخضوع و الأدب للمعلم و لا يردّ عليه شيئا بالمواجهة و يكون محبا له بقلبه و لا ينسى حقوقه»(2).
و لذلك ما حضّ الإمام الصادق على طلب العلم إلاّ و حضّ على العناية بشأن العلماء و العطف عليهم فقال:
«من أكرم فقيها مسلما لقي اللّه يوم القيامة و هو عنه راض، و من أهان فقيها مسلما لقي اللّه يوم القيامة و هو عليه غضبان»(3).
و قال: «إني لأرحم ثلاثة، و حقّ لهم أن يرحموا: عزيز أصابته مذلّة بعد العزّ، و غنيّ أصابته حاجة بعد الغنى، و عالم يستخفّ به أهله و الجهلة»(4).
و قال: «ثلاثة يشكون إلى اللّه عزّ و جل: مسجد خراب لا يصلّي به أهله، و عالم بين جهّال، و مصحف معلّق قد وقع عليه غبار لا يقرأ فيه»(5).
ينبغي على طالب العلم أن يجتهد في تحصيل العلوم، فعليه المبادرة إلى التفهم و السؤال. و كان الإمام الصادق يحض تلاميذه على المبادرة إلى السؤال عمّا جهلوه، و يوجههم لأهمية السؤال و آدابه ممّا يعود نفعه علميّا و تربويّا على نفس التلميذ و أوصى بقوله: «إذا كنت لا تعلم، عليك أن تسأل و لا تتجمّد عند جهلك، لأنّ جهلك ليس عذرا لك أمام اللّه، ما دمت تستطيع أن تحوّل جهلك إلى علم. و دواء العي السؤال»(6).
و قال: «إنما يهلك الناس لأنهم لا يسألون...»(7). أي يهلكون لأنّهم جهلوا تكاليفهم و عقيدتهم، فانحرفوا من موقع جهلهم، و كانوا القادرين على أن يسألوا العلماء
ص: 221
و أهل المعرفة، و لكنهم أحجموا عن ذلك و لم يتحسّسوا أهمية الأمر.
و قال أيضا: «إن هذا العلم عليه قفل و مفتاحه المسألة»(1).
و أوصى المتعلمين بترك الحياء في طلب العلم؛ لأنّه يؤدي إلى الجهل فقال ما نصه: «لا تدع طلب العلم لثلاث: رغبة في الجهل، و زهادة في العلم، و استحياء من الناس»(2).
و كان الإمام يستقبل من يسأله بالترحيب و التودد و انبساط الوجه و الخلق العالي و قد يحسنهم على بعض الأسئلة تشجيعا لهم على طلب العلم.
و لكن يلزم الإمام طالب العلم بأن يكون سؤاله طلبا للمعرفة و إزاحة الجهل و ليس له أن يسأل تعنتا و حبا لظهور الأمر الذي يتنافى مع واقع العلم. فقال: «فاسأل العلماء ما جهلت، و إياك أن تسألهم تعنتا و تجربة، و إياك أن تعدل بذلك شيئا، و خذ بالاحتياط في جميع أمورك ما تجد إليه سبيلا...»(3).
دخلت على الإمام امرأة، فسألته عن مسائل في الحرام و الحلال، فتعجّب تلاميذ الإمام من حسن تلك المسائل، فقال لهم الإمام: «أ رأيتم مسائل أحسن من مسائلها؟»(4).
من آداب المتعلم اهتمامه بكتابة الدروس و قد ورد عليها كثير من الآثار فمنه عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أنه قال: «قيّدوا العلم بالكتابة»(5)، فينبغي لطالب العلم أن يحمل معه أدوات الكتابة، فقد روي أنه جاء رجل إلى أبي عبد اللّه و معه أناس من أصحابه فسأله حديثا فأخبره به «فكتب القوم الحضور عنه ذلك الحديث»(6).
و روي أنّ الإمام نظر إلى فتى على ثيابه أثر المداد و هو يستره لئلا يراه الإمام، فقال له الصادق: «يا هذا إنّ المداد على الثياب من المروءة»(7).
و كان الإمام يحث تلاميذه على كتابة العلم؛ لأنه مفتاح للتأليف و سبب لتطور
ص: 222
الفكر و تقدم للطالب في ميادن العلم و قد أكّد دعوته الملحة على هذه الجهة في غير موطن كقوله: «اكتبوا فإنكم لا تحفظون حتى تكتبوا»(1)، و قال: «إنّ القلب يتكل على الكتابة»(2).
و حث تلاميذه على تدوين دروسه و محاضراته و ذلك خوفا عليها من الضياع و الاضطراب. فقال للمفضل بن عمرو: «اكتب و بثّ علمك في إخوانك، فإن متّ فأورث كتبك بنيك، فإنه يأتي على الناس زمن هرج لا يأنسون فيه إلا بكتبهم»(3).
كما أوصى تلاميذه بالمحافظة على الكتب بقوله: «احتفظوا بكتبكم، فإنكم سوف تحتاجون إليه»(4).
و لأن الكتاب يعتبر من أعظم الوسائل التربوية و أحسن وسيلة لنقل العلوم و الحقائق أو الآراء و الأفكار من جيل إلى جيل، فهي مادة أساسية للمعرفة و بمنزلة الكنوز التي يتركها السلف للخلف. فقد اهتم الإمام الصادق بهذا الأمر و رسم لنا منذ اثني عشر قرنا ما للكتب من قيمة علمية و أدبية بقوله:
«... و كذلك الكتابة التي تقيّد أخبار الماضين للباقين، و أخبار الباقين للآتين، و بها تخلد الكتب في العلوم و الآداب و غيرها، و بها يحفظ الإنسان ذكر ما يجري بينه و بين غيره من المعاملات و الحساب، و لولاه لانقطع أخبار بعض الأزمنة عن بعض، و أخبار الغائبين عن أوطانهم، و درست العلوم، و ضاعت الآداب، و عظم ما يدخل على الناس من الخلل في أمورهم و معاملاتهم، و ما يحتاجون إلى النظر فيه من أمر دينهم، و ما روي لهم ممّا لا يسعهم جهله...»(5).9.
ص: 223
كان الإمام الصادق يستخدم بعض الأساليب في تعليم تلاميذه، و منها:
للوسائل التعليمية دور مهم في شرح العملية التعليمية و لمزيد من الفهم عند الطالب، فأهم وسائل المعرفة عند الإنسان و أكثرها شيوعا هي الحواس الظاهرية، و خاصة لدى المبتدئين. و الحواس الظاهرية لا تدرك إلا المحسوسات، أما غير المحسوسات فإنها تدرك عن طريق العقل و الذهن، و العقل و الذهن يدركان عبر مقدمات حسية. و عليه فكلما ازدادت المقدمات الحسية و كانت أكثر وضوحا كلما كان الإدراك العقلي و الذهني أفضل و أسرع. من هنا ينبغي أن يقدم المحتوى المضمون التعليمي العقلي أو الذهني بأساليب مختلفة منها استخدام وسائل التوضيح التعليمية المحسوسة و الملموسة.
فنرى الإمام الصادق يستخدم بعض هذه الوسائل المحسوسة، فعند ما سئل: متى وقت الصلاة؟ فأقبل يلتفت يمينا و شمالا كأنّه يطلب شيئا فأخذ عودا فنصبه بحيال الشمس ثم قال: «إنّ الشمس إذا طلعت كان الفيء طويلا ثم لا يزال ينقص حتى تزول، فإذا زالت، زادت، فإذا استنبت فيه الزيادة فصلّ الظهر ثم تمهّل قدر ذراع و صلّ العصر»(1).
في هذه الرواية نجد أن الإمام الصادق استخدم عودا من الخشب منصوبا ليعلّم الرجل كيفية تحديد وقت الصلاة.
و تؤدّي وسائل التوضيح التعليمية أدوارا متعددة في رفع المستوى التعليمي و الفهم، و من جملة ذلك: تؤمن للفكر أساسا يمكن لمسه، و يخفف على الطلاب استخدام المفاهيم المجردة، و تزيد من رغبة التلاميذ في التعلم، و تسترعي انتباههم أكثر، و تنقل و توصل المعاني و المفاهيم بشكل أسرع و أوضح.
إضافة إلى أن الوسائل التعليمية ليست بالضرورة أن تكون متطورة، بل يمكن استخدام وسائل تعليم بسيطة كما رأينا ذلك في سيرة الإمام.
ص: 224
و منه ما روي أن أبا عبد اللّه تلا هذه الآية:
وَ الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (1)
فأخذ قبضة من حصى فقبضها بيده فقال: «هذا الإقتار الذي ذكره اللّه في كتابه ثم أخذ قبضة أخرى و أرخى كفّه كلّها ثم قال: هذا الإسراف، ثم أخذ قبضة أخرى فأرخى بعضها و أمسك بعضها و قال: هذا القوام»(2).
كما رأينا فإن الإمام استخدم ببساطة الوسائل التعليمية المتوافرة، و علّم تلامذته ما يريد بأسلوب عيني.
من الأساليب التعليمية الأخرى عند الإمام تشجيع طلابه على فهمهم، الذي يشكل عاملا مؤثرا في رفع مستوى تلقّيهم.
فقد روي عن الإمام الصادق أنّه قال لبعض تلامذته: أي شيء تعلمت منّي؟ قال له: يا مولاي ثمان مسائل، قال له: قصّها عليّ لأعرفها قال: الأولى رأيت كل محبوب يفارق عند الموت حبيبه فصرفت همّتي إلى ما لا يفارقني بل يؤنسني في وحدتي و هو فعل الخير، فقال الإمام: أحسنت و اللّه. الثانية، قال: رأيت قوما يفخرون بالحسب و آخرين بالمال و الولد و أن ذلك لا فخر و رأيت الفخر العظيم في قوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ (3) فاجتهدت أن أكون عنده كريما قال: أحسنت و اللّه. الثالثة، قال... و في كل مرّة، قال الإمام: أحسنت و اللّه، و أثنى عليه قائلا: «و اللّه إن التوراة و الإنجيل و الفرقان و سائر الكتب السماوية ترجع إلى هذه الثمان المسائل»(4).
من هنا فقد كان الإمام يستخدم التشجيع الكلامي مع تلامذته على علم تلقوه منه أو اقتبسوه عنه، إلى درجة يمكننا القول معها أن التشجيع الكلامي عند الإمام كان ملازما لسيرته.
و قد أشاد الإمام كثيرا بكبار تلامذته تقديرا لخدماتهم في طريق الإسلام كقوله في زرارة بن أعين(5): «لو لا زرارة لظننت أن أحاديث أبي ستذهب»(6). و قال في حق هشام بن الحكم: «هذا ناصرنا بيده و لسانه و قلبه»(7).
ص: 225
إن أسلوب التضاد أو المقارنة من جملة الأساليب المؤثرة في التعليم، و تساعد على بقاء المطلب في ذهن المتلقي. فبشكل عام عند ما يكون هناك ارتباط منطقي بين عنصرين، فإذا عرفنا أحدهما أو تصورناه، فإننا سنعرف الثاني بسهولة. و الارتباط المنطقي بين الشيئين إما أن يكون عن تشابه أو تعارض يمكن أن يساعد الطالب على التعلم و الفهم.
نجد نماذج لهذا الأسلوب في سيرة الإمام الصادق كقوله: «لا صغيرة مع الإصرار، و لا كبيرة مع الاستغفار»(1).
الصغيرة و الكبيرة من الذنوب في هذه الرواية متضادان، و قد أدرجهما الإمام في جملة واحدة ليبيّن حكمهما. كما إنه قد استخدم علاقة التشابه أيضا، ذلك لأن حكم الموضوعين متشابه، أي أن الأصلين هنا ينتفيان، فالإصرار على الصغيرة ينفي صغر الذنب حتى يصبح كبيرة، و الاستغفار من الكبيرة ينفي أصل الذنب الكبير ليغفر.
و عليه فإن الإمام قد استخدم في جملته هذه علاقتي التشابه و التضاد معا و نتيجة ذلك أن يبقى المطلب في الأذهان بسهولة.
للتمثيل و التشبيه دور مهم و أساس في التعليم، و خاصة في التعليم العام، فالقرآن الكريم استخدم التمثيل كثيرا في مجال تربية الإنسان، و يذكر القرآن بنفسه الهدف من ذكر الأمثلة، ألا و هو تذكير البشر، فيقول: وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (2)
ذلك لأن التمثيل و التشبيه يقرب الأمور المعقولة و الذهنية و المجردة من الأمور العينية، و علاوة على ذلك فإن هذا الأسلوب يشكل نوعا من التعلّم ذي المعنى، فهو يقدم للطلاب محتوى تعليميّا جديدا يضاف لما لديهم و يرسخه، كما إنه يمثل طريقة تعلّم أفضل و أسهل.
شكا رجل للإمام الصادق الفقر، فقال له: «اصبر فإن اللّه سيجعل لك فرجا، ثم سكت ساعة ثم أقبل على الرجل فقال: أخبرني عن سجن الكوفة كيف هو؟ فقال:
أصلحك اللّه، ضيق منتن و أهله بأسأ حال، قال: فإنما أنت في السجن فتريد أن تكون فيه سعة أما علمت أنّ الدنيا سجن المؤمن»(3).
ص: 226
فنرى أن الإمام قد شبّه الدنيا بالسجن، و بيّن له أن الموطن الحقيقي للمؤمن هو الجنّة، و أن الجنّة قياسا مع الدنيا كالدنيا قياسا بالسجن، بل أفضل من ذلك.
كما شبّه الحدود الإلهية في الحلال و الحرام بحدود البيت قائلا: «إنّ للدين حدودا كحدود بيتي هذا، و أومأ بيده إلى جدار فيه»(1).
و في مجال آخر قال: «مثل الدنيا كمثل ماء البحر كلما شرب منه العطشان ازداد عطشا حتى يقتله»(2).
من الأساليب التي نجدها في التربية العلمية للإمام الصادق تنظيمه للنصوص التعليمية و تقسيمها إلى بنود أبجدية ذات تأثير كبير على فهم الطالب و حفظه لتلك النصوص، و نجد أن الإمام لم يغفل عن هذا الأسلوب، خاصة عند ما يكون الدرس كبيرا و مفصلا.
و يعتقد المعلمون اليوم «أن مثل هذا التنظيم و التقسيم له آثار تعليمية كسهولة التعلّم و الحفظ، و لا يتعب الطالب. كما إن له آثارا تربوية أخرى منها: أنه يصوغ ذهن الطالب على النظام و الانضباط المنطقي، حتى يصبح ذهنه منطقيّا و منظما بشكل غير مباشر و دون عناء منه»(3).
و يبدو من كلام الإمام الصادق الآتي اهتمامه بهذا الأمر في إعداده لتلاميذه قبل إثني عشر قرنا. عند ما سأله سائل فقال: كم جهات معائش العباد التي فيها الاكتساب و التعامل بينهم و وجوه النفقات؟
فقال: «جميع المعائش كلّها من وجوه المعاملات فيما بينهم ممّا يكون لهم فيه المكاسب أربع جهات من المعاملات... فأول هذه الجهات الأربع: الولاية و تولية بعضهم على بعض... ثم التجارة في جميع البيع و الشراء بعضهم من بعض، ثم الصناعات في جميع صنوفها، ثم الإجارات في كل ما يحتاج إليه من الإجارات. و كل هذه الصنوف تكون حلالا من جهة، و حراما من جهة، و الفرض من اللّه على العباد في هذه المعاملات الدخول في جهات الحلال منها و العمل بذلك الحلال و اجتناب جهات الحرام منها»(4).
نجد أن الإمام قدم في البداية إطارا أساسيّا يضم الجواب الكامل على سؤال السائل، ثم بدأ بشرح كل وجه من الوجوه الأربعة، و جهات الحلال و الحرام فيها.
ص: 227
و من الأساليب التعليمية التي استخدمها الإمام الصادق تبيين الدروس في أطر عددية ثنائية و ثلاثية و رباعية و... و هو أسلوب خاص لا يمكن أن يصاغ كل نص به، بل تصاغ به النصوص المتناسبة مع هذا الإطار.
و استفاد الإمام الصادق من هذا الفن في سيرته التربوية و التعليمية لتلامذته كثيرا، ليزيد به من تأثير كلامه و نفوذه في أذهان الأفراد. فنجده يعرض المواعظ في أطر ثلاثية العدد كقوله: «من تعلّق قلبه بالدنيا، تعلّق منها بثلاث خصال: همّ لا يفنى، و أمل لا يدرك، و رجاء لا ينال»(1).
و أحيانا في مواعظ عددية رباعية كقوله: «من أعطي أربعا لم يحرم أربعا: من أعطي الدّعاء لم يحرم الإجابة، و من أعطي الاستغفار لم يحرم التوبة، و من أعطي الشكر لم يحرم الزيادة، و من أعطي الصبر لم يحرم الأجر»(2).
و أحيانا أخرى في أطر خماسيّة و سداسيّة أو أكثر منها كقوله: «خمس من لم تكن فيه خصلة منها، فليس فيه كثير مستمتع: الدين و العقل و الأدب و الحريّة و حسن الخلق»(3).
يعتبر الاستجواب من الوسائل المساعدة على التعلّم و تنمية الملكات و القدرات العقلية، فهي وسيلة ناجحة في تحريك العقول و الأفهام و تهيئتها للتلقّي و التعلّم و مشاركتها الذاتية الفعّالة فيها. فلذلك من الأساليب التي كان لها مكانتها الخاصة في التربية العلمية للإمام الصادق أسلوب السؤال و الجواب، حيث كان الإمام يطرح ابتداءا السؤال، و يطلب من تلاميذه التفكير فيه و الإجابة عنه، فقد يجيب التلميذ بجواب صائب فيؤكّده الإمام و يؤيّده، و قد تكون إجابته ناقصة فيكملها الإمام. و أحيانا يكون الجواب غير صائب، فيصححه الإمام. و أحيانا كان التلميذ يسكت معترفا بجهله الإجابة، فيبادر الإمام إلى الإجابة بنفسه.
و الهدف من استخدام هذا الأسلوب هو تحفيز الطالب على المعرفة، و دفع الطالب ليكون فعّالا في تلقّي المعلومات، و لفت انتباهه نحو الأستاذ، و ليتعلّم بشكل أفضل و أعمق.
ص: 228
قال الإمام الصادق لتلميذه يوما: «أ تدري من الشحيح؟ قال: هو البخيل، فقال:
الشحّ أشدّ من البخل، إن البخيل يبخل بما في يده، و الشحيح يشحّ على ما في أيدي الناس و على ما في يده حتى لا يرى في أيدي الناس شيئا إلاّ تمنّى أن يكون له بالحلّ و الحرام لا يشبع و لا ينتفع بما رزقه اللّه»(1).
و في موضع آخر يسأل الإمام تلامذته: «أ تدرون من الفتى؟ قالوا: الفتى عندنا الشباب، قال لهم: أما علمتم أنّ أصحاب الكهف كانوا كلّهم كهولا فسمّاهم اللّه فتية بإيمانهم، من آمن باللّه و اتقى فهو الفتى»(2).
فنجد الإمام كيف يستعرض نصوصه التعليمية من خلال السؤال ليلتفت الطالب إلى جهله بالمسألة أولا، ثم يرفع من حوافزه للتعلّم و الاطلاع حتى يركّز جميع حواسه على تلقّي المعلومات ثانيا، و ليشارك الطالب بنفسه في تلقّي العلوم بفعالية ثالثا، و ليتم تناول و توضيح زوايا أكثر من الموضوع و المسألة، و ليكون التعليم أعمق و أرسخ.
و أحيانا نجد أن الإمام يسعى لتحقيق أهدافه التعليمية هذه من خلال طرح عبارات مبهمة و غير مستأنسة، ليدفع الطالب إلى المشاركة في الأسئلة و البحث.
و من ذلك قوله لتلامذته يوما: «اتقوا الحالقة فإنها تميت الرجال، قالوا: ما الحالقة؟ قال: قطيعة الرحم»(3).
و كان بإمكانه أن يقول لهم مباشرة اتقوا قطع الرحم، لكنه لم يفعل ذلك ابتداءا، بل طرح فكرته تلك بكلام مبهم، ليوجد السؤال في ذهن المخاطب ليكون التعلّم أفضل و يكون تأثيره أرسخ و أبقى.
يطلق اسم التعليم العملي على التعليم الذي يقوم خلاله الأستاذ بأداء ما يريد إفهامه للطالب ليراه و يتعلمه، أو أن يطلب الأستاذ من التلميذ القيام بذلك بنفسه ليتعلمه من خلال التجربة.
و يسمّى النوع الأول التعليم بالمشاهدة أيضا، بينما يسمّى النوع الثاني التعليم العملي أو التعليم من خلال التطبيق و قد سمّينا كلا الأسلوبين في هذه الدراسة التعليم العملي.
و بما أن هذا النوع من التعليم يرتبط بحواس الإنسان، لذلك يكون أكثر عمقا
ص: 229
و رسوخا. من هنا فإن المعلومات التي تدرّس بشكل نظري و يمكن شرحها بشكل عملي سيكون تعلمها بشكل أفضل و تبقى راسخة في الأذهان أكثر.
و لقد استعمل الإمام الصادق أسلوب التعليم العملي من بين أساليبه التربوية مع تلامذته، ذات يوم فقال لأحد أصحابه: «تحسن أن تصلي؟» قال له: يا سيدي أنا أحفظ كتاب الحريز(1) في الصلاة. قال الإمام: «لا عليك قم صلّ» فقام بين يديه متوجها إلى القبلة، فاستفتح الصلاة و ركع و سجد. فقال الإمام: «لا تحسن أن تصلّي، ما أقبح بالرجل أن يأتي عليه ستون أو سبعون سنة فما يقيم صلاة واحدة بحدودها تامّة» فقال: فعلمني الصلاة. فقام أبو عبد اللّه مستقبل القبلة منتصبا، فأرسل يديه جميعا على فخديه... فقال: «هكذا صلّ»(2).
كان الإمام يستطيع أن يعلمه فيقول له صلّ هكذا دون أن يريه ذلك عمليّا، لكنه لم يفعل ذلك، بل صلّى أمامه عمليّا، ثم قال له: «هكذا صلّ» لأن مثل هذا التعليم نادرا ما ينسى.
كما إن بعض الأمور لا يمكن تعليمها للغير بشكل شفهي و نظري، بل لا بد أن يمارسها الطالب عمليّا و يجريها.
ورد عن الصادق أن رجلا أتاه فقال: يا ابن رسول اللّه؟ أخبرني عن أعظم أسماء اللّه تعالى، و كان بين يديه حوض و كان يوما باردا فقال الإمام للرجل: «أدخل في هذا الحوض و اغتسل حتى أخبرك به، فدخل الرجل في الحوض و اغتسل فبقي فيه ساعة، فلما أراد الخروج أمر الإمام غلمانه أن يمنعوه من الخروج، فبقي فيه ساعة، فتألم من البرد فقال: ربّ أغثني! فقال الإمام: هذا ما سألت عنه فإنّ العبد إذا اضطر يدعو اللّه بهذا الاسم فيغيثه اللّه تعالى»(3).
تربية الإمام الصادق تعتمد على الممارسات العملية و التقييم التي تعرف بواسطتها استعداد التلاميذ و مبلغ تحصيلهم من العلم.
و كثيرا ما يدع الصادق تلاميذه يخوضون في النقاش و التباحث في مواضيع علمية
ص: 230
شتّى و يقبل عليهم و يصغي إليهم، و ربما تدخل فيما بينهم، أو نبّههم إلى مواطن الصحّة و السقم في البحث العلمي، و كان يصنعهم بعينه.
فنرى الإمام الصادق يوجه أصحابه إلى مجادلة أحد المخالفين الذين يفدون على المدينة من الشام، فبعد المناقشة قام الإمام بتقييم تلاميذه فيعلّق على طريقتهم أو قدرتهم كما يلي:
التفت أبو عبد اللّه إلى حمران بن أعين(1) فقال: «تجري الكلام على الأثر فتصيب»، و التفت إلى هشام بن سالم(2) فقال: «تريد الأثر و لا تعرفه»، ثم التفت إلى الأحول(3)، فقال: «قيّاس روّاغ، تكسر باطلا بباطل، إلاّ أنّ باطلك أظهر»، ثم التفت إلى قيس الماصر(4)، فقال: «تتكلم و أقرب ما تكون من الخبر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أبعد ما تكون منه، تمزج الحق مع الباطل و قليل الحق يكفي عن كثير الباطل، أنت و الأحول قفّازان حاذقان»(5).
فالصادق يبين لهم جوانب النقص و الكمال في نقاشهم و يشجعهم على إكمالها و هذه النقطة في غاية الأهمية في عملية التعليم و هي الوسيلة الهامّة أيضا لتنمية العلم و تقدمه.
فكأنّ الإمام يخاطب الذي يحاول أن يستفيد من الباطل لكي يتغلّب على الخصم، ما الفرق بينك و بينه؟ إنّه جحد حقّا و جحدت مثله، فهو جحد الحقّ في النتائج، و أنت جحدت الحق في الوسيلة.
و يؤكّد أن الدعوة إلى الحق ينبغي أن تعتبر الحق هو العنصر الأساسي في الوسيلة و العنصر الأساسي في النتيجة، لأنّك عند ما تأخذ من الباطل حجّة على حقّك، فإنّ معنى ذلك أنّك توحي بضعف الحقّ عن مواجهة التحديّات التي توجّه إليك، و لذلك تلجأ للاستعانة بالباطل في مقام تأكيد صوابية رأيك.
و هكذا، فإنّ الإمام يريد أن يوحي لنا بأنّ على الإنسان ألاّ يظلم الآخر عند ما يستعين في الحوار معه بأمور غير حقيقية في سبيل تركيز الفكرة، لأنّ القضيّة الأساسية هي أن نعطي الإنسان الحق كلّه، لينطلق الحقّ بكلّه في عقله و وجدانه.8.
ص: 231
و لقد يلاحظ المرء من ذلك تعدد طرقهم، و تفاوت علمهم، و نفاذ بصيرة الإمام إلى خصائصهم، و دوره في تصويب و تدريب كل منهم، و هو لا يتركهم دون تشجيع، و أحيانا كان الإمام يثني على بعض تلاميذه و يكبر جهادهم في تفنيد شبهات الخصم كما يقول لأبان بن تغلب: «يا أبان ناظر أهل المدينة فإنّي أحبّ أن يكون مثلك من رواتي و رجالي»(1).
فجلوس الإمام فيما بين أصحابه عند المناظرة، و إحالة الكلام و المناظرة من أحدهم إلى الآخر كما يأمرهم ثم تقويم مناظرة كل منهم و مدى قدرته على محاجّة الخصم و دحض مزاعمه، ليعطي إشارة واضحة منه أنهم في دورة تدريبية، و لا بد من إكمال نقص قدراتهم، و اتخاذ أساليب أخرى، أو إقراره لهم بحسن المناظرة كما مرّ.
على صعيد آخر نلاحظ أن الإمام الصادق في تربيته العلمية يطالب من تلاميذه أن يعرضوا عليه معلوماتهم و مناقشاتهم حتى يقوّم مستوى ما تعلّموا منه فيقول لأحد تلاميذه: «أي شيء تعلّمت مني؟ قصّها عليّ لأعرفها»(2)، أو يقول لهشام بن الحكم بعد مناظرته مع عمرو بن عبيد(3): «أ لا تخبرني كيف صنعت بعمرو؟ و كيف سألته؟ و عند ما قال هشام: إني أجلّك و أستحييك و لا يعمل لساني بين يديك قال الإمام: إذا أمرتكم بشيء فافعلوه...»(4)7.
ص: 232
المبحث الثاني البناء العقلي
- مكانة العقل في مدرسة الصادق
- العلاقة بين العقل و الدين
- العلاقة بين العقل و السلوك الأخلاقي
- سبل تنمية العقل عند الإمام الصادق
ص: 233
ص: 234
العقل آية من آيات اللّه العظام، و لطف من أروع ألطافه التي منحها الإنسان، فهو أساس المعرفة البشرية، و وعائها و وسيلة إدراكها و توظيفها، و بدونه لا يمكن أن تحصل المعرفة و لا أن يقوم العلم، و لا أن تتم عملية التعلم و التعليم.
و قد كرّم اللّه عزّ و جلّ الإنسان بالعقل، و ميزه به عن سائر المخلوقات، و فرض عليه أن يفكّر، حتى ينمو، و يستمر في الرقيّ و التقدّم، بدلا من أن ينحدر و يهبط إلى مستوى الحيوانات، و نجد في القرآن الكريم يسقط عن المعطلين لعقولهم صفة الإنسانية؛ لأن الميزة التي يمتاز بها الإنسان عن الحيوان هي العقل كما يقول تعالى:
* إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (1) .
و قد تحدّث الإمام الصادق عن هذه الميزة بقوله:
«فأما من عدم العقل، فإنه يلحق بمنزلة البهائم، بل يجهل كثيرا مما تهتدي إليه البهائم، أ فلا ترى كيف صارت الجوارح و العقل و سائر الخلال التي بها صلاح الإنسان، و التي لو فقد منها شيئا، لعظم ما يناله في ذلك من الخلل، يوافي خلقه على التمام حتى لا يفقد شيئا منها، فلم كان كذلك؟ إلا أنه خلق بعلم و تقدير»(2).
و في الحقيقة «الإسلام دين يحترم العقل، و يجعله مناط التكليف، و محور الثواب و العقاب»(3). و التنمية العقلية و إذكاء العقل هو الهدف الأسمى فيه، و هذا يعني احترام الإنسان و تقديره؛ لأن أهم ما في الإنسان عقله، «و هو القوة الدافعة التي تجعل الإنسان يتعلم و يفكر و تجعله يميّز الحق و الباطل و الخير و الشر و الصواب و الخطأ و الهدى و الضلال و الحسن و القبيح و النافع و الضار»(4) و لذلك فإنّ التربية الإسلامية قد أولت التربية العقلية درجة كبيرة من الاهتمام.
ص: 235
و المقصود «بالتربية العقلية و الاهتمام بالنمو العقلي، الكشف عن القدرات العقلية و إنمائها، سواء في ذلك القدرة على التفكير أم التذكر أم التخيل، أم اتباع التعليمات، أم القدرة على التفكير الابتكاري... فوظيفة التربية في هذا الجانب، إنماء القدرات العقلية إلى أقصى حد ممكن...(1) حتى يستطيع الإنسان أن يحكم على الأشياء حكما قوامه الصدق و العدل، و يمكن أن يفهم البيئة التي تحيط به.
و في ضوء هذا التصور عن التربية العقلية نجد أن مدرسة الصادق قد تبنّت هذه الحقيقة و جعلتها منهجا تربويّا تربى عليه الناس، و لعل أولى الجوانب التي تؤكد النزعة العقلية في تربية الصادق، تلك المكانة الرفيعة التي يحتلها العقل في مدرسته، و كثرة دعوته إلى التفكر و التدبر و إنكار التقليد و جمود الفكر.6.
ص: 236
إنّ للعقل في مدرسة الصادق مكانة سامية؛ فهو حجة إلهية على العباد في باطن نفوسهم، و به تستكمل الحجج على العباد، كما أنّ الأنبياء و الهداة حجج اللّه في الظاهر فقال:
«إن للّه حجتين: حجة ظاهرة و حجة باطنة، فأمّا الظاهرة فالرسل، و أمّا الباطنة فالعقل»(1).
بيّن الإمام أنّ العقل هو متمم الحجّة على الإنسان لأنّه هو الذي يحرّكه لاتّباع الدستور الإلهي الذي جاء به الأنبياء عليهم السّلام و هو الذي يدفع الإنسان لقطف ثمار حركة الأنبياء عبر سلوك فعّال و بنّاء و منتج. «فإذا كان العقل هو وسيلة الإنسان للإدراك و حمل المسؤولية، فإن الوحي المنزل على الأنبياء و الرسل من لدن الخالق العظيم، مقصود به هداية الإنسان و تكميل إدراكاته و تحديد مسؤولياته من هذه الحياة و ترشيد توجهاته فيها... و لذلك الوحي و العقل ضروريان و متكاملان لتحقيق الحياة الصحيحة في الأرض»(2).
فالعقل المسلم يستمد قوته و توازنه و ثبات خطواته و استقامته بما لديه من علم الوحي، فهو عقل مؤمن راشد مطمئن غير مكابد و لا جاحد و لا مستكبر و لا متروك اليقين إلى الظن و لا يترك الهداية إلى الضلالة، «فأما حين يستقل هذا العقل البشري بنفسه بعيدا عن الوحي، فإنه يتعرض حينئذ للضلال و الانحراف و سوء الرؤية و نقص الرؤية و سوء التقدير و سوء التدبير»(3)
و أدلى الإمام بحديث ممتع عن أهمية العقل و تدبيره في شؤون الإنسان، و إيصاله إلى المراتب العالية فقال ما نصّه:
«دعامة الإنسان العقل، و العقل منه الفطنة و الفهم، و الحفظ و العلم، و بالعقل يكمل، و هو دليله و مبصره، و مفتاح أمره، فإذا كان تأييد عقله من النور، كان عالما،
ص: 237
حافظا، ذاكرا، فطنا، فهما، فعلم بذلك، كيف؟ و لم؟ و حيث؟ و عرف من نصحه، و من غشه، فإذا عرف ذلك، عرف مجراه و موصوله، و مفصوله، و أخلص الوحدانية للّه، و الإقرار بالطاعة، فإذا فعل ذلك كان مستدركا لما فات، و وارد على ما هو آت، يعرف ما هو فيه، و لأي شيء هو ها هنا، و من أين يأتيه، و إلى ما هو صائر، و ذلك كله من تأييد العقل...»(1).
فقد شبّه الإمام الإنسان بالبناء و العقل بالدعامة له، يعني إثبات الإنسانية للإنسان و تحققها و قيام معناها إنّما هو بالعقل كما أنّ إثبات السقف و قيامه بالعماد(2).
فأعطى الإمام العقل المنزلة الأولى و كان يعتمد في دروسه و محاضراته و حواراته على الأدلة العلمية و نادى بتحكيم العقل؛ لأنه يعد بمثابة المعيار الذي يميز بين الحق و الباطل و الأداة الكاشفة عن سبيل الرشاد من سبيل الغي فيقول الإمام علي كرم اللّه وجهه: «كفاك من عقلك ما أوضح لك سبل غيّك من رشدك»(3).
و بما أن العقل هو موجّه الإنسان و دافعه و وسيلته في إدراك موقعه و غايته من الحياة يعتبر الصادق العقل أعلى مراتب الغنى بقوله:
«لا غنى أخصب من العقل و لا فقر أحط من الحمق»(4). و إن المتأمل في مدرسة الصادق يلاحظ المزيد من الاهتمام بالتربية العقلية حتى وصف تلاميذه بأولي النهى بقوله:
«إن أصحابي أولو النهى و التقى فمن لم يكن من أهل النهى و التقى فليس من أصحابي»(5).
و ذلك لأنّه يدرك أن مواقف التعليم لا قيمة لها إن لم تكن هناك رعاية للتربية العقلية التي هي محور العملية التعليمية.
و قد صرّح الصادق بأن اللّه تبارك و تعالى فضّل بعض خلقه على بعض في هذه الموهبة، فالناس متفاوتون في قدرة العقل على الإدراك، فعند ما قيل للإمام ما بال الناس منهم من إذا كلّمته يستدلّ بأول كلامك على آخره ثم يجيبك و منهم من إذا كلّمته يصمت حتى يستغرق في كلامك فيجيبك، و منهم من إذا كلّمته يقول: أعد عليّ؟ فأجاب الإمام:7.
ص: 238
«إن اللّه قسّم العقل على ثلاثة أجزاء، فمن الناس من ابتدئ بالعقل قبل خلقته فهذا الذي يستدلّ بأول الكلام على آخره ثم يجيب، و منهم من عجن عقله بالنطفة التي خلقهم اللّه منها فهو الذي يصمت على ما يستغرق في الكلام ثم يجيب، و منهم من ركّب فيه العقل بعد كمال خلقته فهو الذي اذا كلّمته يقول أعد عليّ»(1).
و قد ألمح الإمام بكلامه هذا إلى تفاوت المتعلمين، وفقا لتفاوت عقولهم، و لفت الأنظار إلى مبدأ أساسي و جوهري في العملية التربوية و هو مراعاة الفروق الفردية بين المتعلمين.0.
ص: 239
كما ذكرنا سابقا أن تربية الصادق بنيت على التأصيل القوي للعقل في حياة المسلم و على هذا قرنت بين الدين و العقل. فقال: «من كان عاقلا كان له دين و من كان له دين دخل الجنة»(1).
و يعتبر أن العقل هو بوابة الدين، و حينما يفتقد الإنسان هذه البوابة فإنه يفتقد السبيل لمعرفة و وعي الدين، فيعرّف العقل بأنّه: «ما عبد به الرحمن و اكتسب به الجنان»(2).
فالتدين لا بد أن يسبق بعملية التعقل و إلا تحول الدين إلى خرافة و مجرد ممارسات و شعائر فارغة من أي معنى، فقال الإمام:
«لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يكون كامل العقل»(3).
فنرى بأن الإيمان الأتم في نظر الإمام هو الإيمان الذي يستضيء بنور العقل.
و الإيمان ليس بديلا عن العقل، بل هو و العقل عينان يبصر بهما الإنسان الحقيقة و يكتشف بهما المجهول و يستكمل بهما المعرفة و من هنا يبقى للعقل حتى بعد مجيء الرسالة و تعرّف الإنسان على كلمة الوحي دوره في إمداد الإنسان بالمعرفة و تصحيح معتقداته.
فهذه العلاقة المستحكمة بين العقل و الدين يكشف الصادق عن أبعادها عند ما يقول:
«إن أول الأمور و مبدأها و قوتها و عمارتها التي لا ينتفع شيء إلا به، العقل الذي جعله اللّه زينة لخلقه و نورا لهم، فبالعقل عرف العباد خالقهم، و أنهم مخلوقون، و أنه المدبر لهم، و أنهم المدبّرون، و أنه الباقي و هم الفانون؛ و استدلوا بعقولهم على ما رأوا من خلقه، من سمائه و أرضه، و شمسه و قمره، و ليله و نهاره، و بأن له و لهم خالقا و مدبرا لم يزل و لا يزول، و عرفوا به الحسن من القبيح، و أن الظلمة في الجهل، و أن النور في العلم، فهذا ما دلهم عليه العقل»(4).
و عند ما سئل رضي اللّه عنه: فهل يكتفي العباد بالعقل دون غيره؟
ص: 240
قال: «إن العاقل لدلالة عقله الذي جعله اللّه قوامه و زينته و هدايته، علم أن اللّه هو الحق، و أنه هو ربه، و علم أن لخالقه محبة، و أن له كراهية، و أن له طاعة، و أن له معصية، فلم يجد عقله يدلّه على ذلك(1)، و علم أنّه لا يوصل إليه إلا بالعلم و طلبه، و أنّه لا ينتفع بعقله، إن لم يصب ذلك بعلمه، فوجب على العاقل طلب العلم و الأدب الذي لا قوام له إلا به»(2).
فقد أشار الإمام الصادق إلى اقتران العقل بالعلم و الدين، و أفصح أن العقل إذا ما توافر لدى الإنسان و التزم به فإنه لا مناص من أن يهديه إلى العلم، و العلم إذا ما حصل عليه الإنسان لا مناص من أن يهديه إلى خالقه و يعرّفه عليه.
فإنّ هذا الاعتراف لم يمنع الصادق من نظرته لإمكانات العقل، من التنبيه إلى قصوره و محدودية إمكانات إدراكه خاصة في الأمور الغيبية، بل وضع المنهج الصحيح لاستخدام العقل دون إغراق فيما فوق طاقته. فهو يسعى إلى رعاية العقل و صيانته من الانحراف، و تبدأ التربية العقلية بتحديد مجال النظر العقلي، و منها رأيه بأن العقل يقف عند حد معين من معرفة الخالق، بل من معرفة نفسه فلا يحدده، في قوله:
«إن العقل يعرف الخالق من جهة توجب عليه الإقرار و لا يعرفه بما يوجب له الإحاطة بصفته... إنما كلف العباد من ذلك ما في طاقتهم أن يبلغوه، و هو أن يوقنوا و يقفوا عند أمر اللّه و نهيه و لم يكلفوا الإحاطة بصفته كما أنّ الملك لا يكلّف رعيته أن يعلموا أ طويل هو أم قصير و إنّما يكلفهم الإذعان بسلطانه و الانتهاء إلى أمره»(3).8.
ص: 241
استخدام العقل و التفكير السليم على أساس المنهج العلمي يتصل الإنسان بمنظومة القيم الأخلاقية و يكون له خير معين في بناء شخصيته، و قد أشار خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و سلّم إلى هذا الأمر عند ما قال: «رأس العقل بعد الإيمان باللّه عزّ و جلّ مداراة الناس»(1).
أي إن العقل له علاقة مع المعرفة باللّه من جانب و السلوك مع الآخرين من جانب آخر، و لا تكون الأخلاق السليمة و السلوك الصحيح إلا بالعقل و بعد النظر و الحكمة.
فركز الإمام الصادق هذه العلاقة بين العقل و سلوك الإنسان و ربط ربطا محكما بينهما عند ما تبين بأن حسن الأخلاق مع الناس دليل على وفور العقل و كماله بقوله:
«أكمل الناس عقلا أحسنهم خلقا»(2).
و قد برز رأي الصادق في تأثير العقل على سلوك الإنسان عند ما يتحدث عن أوصاف العاقل التي تشمل الأخلاق الفاضلة أو العادات الحميدة.
فقال: «لا يعد العاقل عاقلا حتى يستكمل ثلاثا: إعطاء الحق من نفسه على حال الرضا و الغضب. و أن يرضى للناس ما يرضى لنفسه، و استعمال الحلم عند العثرة»(3).
و عند ما يتحدث الإمام عن جنود العقل و الجهل، فإنه يعدّ جيوش العقل و الجهل خمسا و سبعين، يعتبر أكثرها من الفضائل أو الرذائل الأخلاقية بقوله: «اعرفوا العقل و جنده، و الجهل و جنده، تهتدوا... إن اللّه عزّ و جلّ خلق العقل... ثم جعل للعقل خمسة و سبعين جندا... و خلق الجهل فأعطاه خمسة و سبعين جندا... الخير و هو وزير العقل و جعل ضدّه الشر و هو وزير الجهل، و الإيمان و ضدّه الكفر، و الرجاء و ضدّه القنوط، و العدل و ضدّه الجور، و الشكر و ضدّه الكفران، و الرأفة و ضدّها القسوة، و العفّة و ضدها التهتك، و التواضع و ضدّه الكبر، و الحلم و ضدّه السفر، و الصبر و ضدّه
ص: 242
الجزع، و القنوع و ضدّه الحرص، و المودّة و ضدّها العداوة، و الأمانة و ضدها الخيانة،... و السخاء و ضدّه البخل. فلا تجتمع هذه الخصال كلّها من أجناد العقل إلا في نبي أو وصي نبي أو مؤمن قد امتحن اللّه قلبه للإيمان...»(1).
و الجدير بالذكر أن التعبير بالجند و الجيش - في هذا الصدد - ذو معنى غني، يفصح أن القيم الخلقية هي الضوابط التي تبنى و تقوّم و تصون شخصية الإنسان و تدعم دور العقل في بناء و تقويم الشخصية الإسلامية.9.
ص: 243
بهذه المكانة العظيمة للعقل تهدف التربية في نظر الصادق إلى ضرورة تنمية ذكاء الإنسان و قدرته العقلية.
فبذل جهدا كبيرا لاستخدام الأساليب التربوية في شحذ العقل و إزالة أسباب الكسل و الفتور عنه؛ لأن «العقل لا بد أن يعمل و إلا أصابه الصدأ، و إذا أصابه الصدأ تبلد فقبل كل ما يعرض عليه دون تفكير أو تأمل»(1).
و في ما يلي نشير إلى أهم سبل تنمية العقل عند الصادق:
من أولى خطوات التنمية العقلية، تحرير العقل المسلم من الجمود و التقليد الأعمى، و «الإسلام لا يقبل من المسلم أن يلغي عقله ليجري على سنة آبائه و أجداده و لا يقبل منه أن يلغي عقله خنوعا لمن يسخّره باسم الدين في غير ما يرضي العقل و الدين...»(2).
و لقد ذمّ القرآن الكريم هذه الظاهرة و التي لا يمكن أن تتأسس على أيّ مبرر عقلي غير رضى المقلّدين بمصادرة عقولهم و تعطيل قدراتهم المعرفية و الفكرية، فقال عزّ شأنه: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللّهُ وَ إِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ (3).
فنعى القرآن على المقلدين و أنكر عليهم أن يغفلوا عقولهم و يهملوا أفكارهم و هو بهذا يريد أن يكوّن لهم شخصية كريمة تجعل لهم حياة مستقلة.
و الإمام الصادق يسلك الطريقة القرآنية ذاتها في الاعتماد على العقل و المنطق، و يعتبر التقليد مذلة عقلية و استعبادا للنفس، و يحاجج في ذلك قرآنيّا عند ما سئل عنه في معنى: اِتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ (4)» قال: «أما و اللّه ما دعوهم
ص: 244
إلى عبادة، و لو دعوهم ما أجابوهم، و لكن أحلوا لهم حراما و حرّموا عليهم حلالا، فعبدوهم من حيث لا يشعرون»(1).
و في تعبير آخر يقول: «و اللّه ما صاموا لهم و لا صلوا، لكن أحلوا لهم حراما و حرموا عليهم حلالا فاتبعوهم»(2).
فالاتباع دون فهم، في الحلال و الحرام، أو غيرهما، ترك لزمام النفس في قبضة الغير، و إهدار لحريتها و قدرتها، و تلك عبادة لغير اللّه.
ذهب الإمام الصادق إلى بيت أحد تلاميذه و كان بيتا صغيرا جدا و كأنّه كان من الذين يعلم الإمام أنّ حالته تقتضي أن يكون له بيت أفضل فقال له الإمام:
«لماذا تسكن في هذا البيت؟ من سعادة المرء سعة داره، فقال: يا ابن رسول اللّه؟ إنّ هذا بيت آبائي و أجدادي و لا أستطيع مغادرته، و بما أن أبي و جدي كانا فيه، فلا أريد مفارقته فقال الإمام: لو كان أبوك جاهلا فهل عليك أن تقيّد نفسك بجهل أبيك؟ اذهب و هيئ لنفسك بيتا أفضل»(3).
و لقد حرص الصادق على التنمية العقلية من خلال استفزازه للعقل المسلم كي يعمل في تحصيل الوعي و المعرفة و حرية التفكير فقال لرجل من تلاميذه: «... إياك أن تنصب رجلا دون الحجة فتصدق في كل ما قال، و تدعو الناس إلى قوله»(4).
المراد أن الإنسان ينصب رجلا فيصدّقه في كل ما يقول برأيه من غير أن يسند إلى الدلائل العقلية أو النقلية.
أما «عامل التقليد لا يتخلّص في تقليد الأفراد منّا بل كثيرا ما يفقد شعب استقلاله و شخصيته تجاه شعب آخر ذي امتياز خاص في الحياة المادية و من المجتمعات المتقدمة، فيبالغون في الانجذاب إليها من الناحية الشخصية و من ناحية الحركات و السكنات و بصورة غير منطقية و يودّون تلقي كل شيء من ذلك»(5).
فقال الإمام: «لا تكوننّ إمّعة(6)، تقول: أنا مع الناس و أنا كواحد من الناس»(7).6.
ص: 245
هذا التوجيه التربوي يوصي الناس بأن يكونوا في عقائدهم علماء أو متعلّمين و لا يكونوا مقلّدين أي من الذين لا يرون لأنفسهم حق التفكير و التحقيق فيما يكتبه أو يقوله الآخرون و هكذا تكون الدعوة للحرية الفكرية و الحث على الاجتهاد و توظيف العقل.
و يلاحظ أن الإمام الصادق في دعوته لبناء الفكر الحرّ، فإنه يحض على تهيئة العقل الاستدلالي لدى المرء، هذا العقل الذي لا يقبل فكرة دون بحث و لا يؤمن بعقيدة ما لم تحصل على برهان، ليكون هذا العقل الواعي ضمانا للحرية الفكرية، و عاصما للإنسان من التفريط بها بدافع من التقليد أو الجمود الفكري.
و في الواقع حركة الصادق جزء من معركة الإسلام لتحرير المحتوى الداخلي للإنسان «فهو كما حرر الإرادة الإنسانية من عبودية الشهوات، كذلك حرر الوعي الإنساني من عبودية التقليد، و بهذا و ذاك أصبح الإنسان حرا في تفكيره و حرا في إرادته»(1).
إن التفكير جهد يبذله العقل في سبيل اكتساب معارف و علوم جديدة من معارف سابقة و موجودة و مرتكزة في الذهن. فهو يقوم بدور كبير في التنمية العقلية لأن «من أهم وظائف العقل البشري: التفكير و التأمل و النظر. و إذا تعطلت هذه الوظائف تعطل نشاط العقل و نموه و قدرته على العطاء و يتبع ذلك توقف النشاط البشري و جموده بل و فناؤه»(2).
فالعقل ينمو على أثر التفكير المنطقي، و يظهر كماله الباطني بصورة تدريجية، فقد دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إلى التفكير الواعي المتبصر بما يهدي المسلم إلى سواء السبيل في الدين و الدنيا فقال صلّى اللّه عليه و سلّم: «عوّدوا قلوبكم الترقب و أكثروا التفكر و الاعتبار»(3).
و لم يغفل الصادق في تربيته عن هذه القضية، عند ما كان يدرّب تلاميذه على التدبر و النظر و يعتبر بأن: «كثرة النظر في العلم تفتح العقل»(4) فهو يرى التفكير من أعظم العبادات لأنّها «عبادة حرّة طليقة من كل قيد إلاّ قيد واحد و هو التفكر في ذات اللّه»(5). فقال: «أفضل العبادة إدمان التفكر في اللّه و قدرته»(6).
ص: 246
فالمراد بالتفكر في اللّه، النظر إلى أفعاله و عجائب صنعه و بدائع أمره في خلقه، فإنها تدلّ على كمال علمه و حكمته.
و لا شك أن كثرة التدبر في آيات اللّه تؤدي إلى تفتيح الأذهان و توسيع الأفكار و المعارف الصحيحة ما لا يمكن الوصول إليه بدون ذلك. و هذا التفكير وسيلة العقل في فهم قوانين الحياة و علل الكون و سنن اللّه في خلقه، على هذا حث الصادق تلاميذه بالتفكر و التأمل في ما دعا اللّه عباده إليه، من آيات القرآن الكريم و آيات كونه العظيم و النفس البشرية، التي تنتج عنها تقوية الإيمان باللّه وحده. فنشير إلى أهم مجالات التفكير عند الصادق:
إنّ النظر و التبصر الدقيقين و التفكر الواعي في الظواهر الكونية يعتبر وسيلة رئيسة في تربية الفكر الإنساني و تكوين العقلية العلمية التي لا تقبل نتائج بدون مقدمات، لقد سلك الإمام الصادق مسلك القرآن في دعوته إلى التفكير في الآفاق و الأنفس و استخلاص الدروس و العبر منها. فهذه هي «الدعوة الواثقة بالحقيقة الكامنة في كل ما في السموات، و في كل ما في الأرض التي لا تتطلب من الإنسان إلا أن ينظر و يتطلع و يفكر من دون حاجة إلى جهد كبير و أخذ و رد»(1).
فزخرت رسالة التوحيد التي أملاها على تلميذه مفضل بن عمرو بالدعوة إلى التفكير في أسرار الكون بعبارات مختلفة مثل: تأمل،... فكّر... و اعتبر و انظر و غير ذلك. و المتأمل في أبعاد مدرسة الصادق يلاحظ المزيد من الاهتمام بالتربية العقلية و توجيهها التوجيه السليم نحو تدبّر نواميس الكون و تأمل ما فيها من دقة و ارتباط.
فالكون عنده مادة حية للتفكير الذي يؤدي بأقرب طريق إلى الإيمان بوجود اللّه.
و كما أن القرآن لا يقتصر على دعوة الإنسان للتفكير في ذلك كله بل يحاول أن يخطو به الخطوات الأولى في هذا السبيل، و يدله على بدايات الطريق، فنرى الإمام يبين كثيرا من الأسرار الكبيرة التي تكون في نطاق الكون، و يذكر تفاصيل خلق الإنسان و أحوال السماء، و الأرض، و الشمس، و القمر، و النجوم، و الفلك، و الليل، و النهار، كذلك أسرار حياة الحيوانات لحثهم على التفكّر و التعقّل و استخدام طاقات عقلية كما يقول لتلميذه مفضل في هذا الصدد: «لألقينّ إليك من حكمة الباري جل و علا و تقدس اسمه - في خلق العالم و السباع و البهائم و الطير و الهوامّ و كل ذي روح من الأنعام و النبات و الشجرة المثمرة و غير ذات الثمر
ص: 247
و الحبوب و البقول، المأكول من ذلك و غير المأكول - ما يعتبر به المعتبرون و يسكن إلى معرفته المؤمنون و يتحيّر فيه الملحدون»(1). و هذا الإمام الصادق يتكلم على عالم الطبيعة و أسرارها، و يربي طلابه على تأملها قائلا:
«انظر إلى شروق الشمس على العالم كيف دبر أن يكون؟ فإنها لو كانت تبزغ في موضع من السماء فتقف لا تعدوه، لما وصل شعاعها و منفعتها إلى كثير من الجهات، لأن الجبال و الجدران كانت تحجبها عنها، فجعلت تطلع في أول النهار من المشرق فتشرق على ما قابلها من وجه المغرب ثم لا تزال تدور، و تغشى جهة بعد جهة، حتى تنتهي إلى المغرب، فتشرق على ما استتر عنها في أول النهار فلا يبقى موضع من المواضع إلا أخذ بقسطه من المنفعة منها»(2).
إن منهج التربية عند الصادق يربي طاقة العقل أيضا عن طريق توجيهه إلى النظر في حكمة التشريع الإلهي كحكمة تحريم الربا و الخمر و الزنا... ذلك «لأنّ التشريع منزل من عند اللّه و لكن القائمين به هم البشر و ينبغي أن يكون البشر و اعين لحكمة التشريع و إلا فلم يطبّقوه على تمامه و لن يطبّقوه على وضعه الصحيح»(3).
و لذلك نرى أن الإمام جعل الدين موضوعا من موضوعات التفكير و التأمل و لم يقصره على العبادة و إجراء الأحكام دون وعي و يهتم ببيان بعض المقاصد من الأوامر و النواهي في الشريعة حتى يفهم الإنسان هذه الحكمة كما أراده اللّه، و يستطيع تطبيقها في واقع حياته بصورة واعية.
فعند ما سئل لم حرم اللّه الربا؟ قال: «لئلا يتمانع الناس بالمعروف»(4). و هذا حق؛ لأن الناس لو كانوا لا يقرضون إلا بالربا ما وجد تعاون بينهم، و عند عدم وجود التعاون يحصل التمانع بينهم، و إذا حصل التمانع أحضرت الأنفس الشح.
و عند ما سئل: فلم حرّم اللّه الخمر، و لا لذة أفضل منها؟
قال: «حرّمها لأنها أم الخبائث، و رأس كل شر، يأتي على شاربها ساعة يسلب له لبّه و لا يعرف ربّه، و لا يترك معصية إلا ركبها، و لا حرمة إلا انتهكها»(5).
ص: 248
ان المدخل الضروري و الطبيعي لأي اعتقاد أو إيمان سليم و عمل صالح، إنّما هو العلم بمفهومه الإسلامي الشامل للسنن الإلهية. و إن اللّه عزّ و جلّ يرشدنا بأن نجعل سنن اللّه في خلقه موضوع التفكير و التدبر، فأشار إليها القرآن بالإجمال لأن «العلم بهذه السنن من أهم العلوم و أنفعها»(1) لما فيها من الهداية و الموعظة كما جاء في الآية الشريفة:
يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ (2) .
و لم يغفل الإمام الصادق عن هذا الأمر فجعل دراسة السنن و النظر فيها موضوعا من موضوعات التدبر، عند ما يتحدّث عنها في تعاليمه و يدعو إلى التأمل في حكمة بعض هذه السنن الربانية، على سبيل المثال يلفت الإمام الأنظار إلى سنة الموت بقوله:
«أ فرأيت لو كان كل من دخل العالم يبقون، ألم تكن الأرض تضيق بهم؟ فإنهم و الموت و الآفات تفنيهم أولا بأول يتنافسون في المساكن و المزارع حتى تنشب بينهم في ذلك الحروب و تسفك فيهم الدماء، فكيف كانت تكون حالهم لو كانوا يولدون و لا يموتون، و كان يغلب عليهم المرض و الشرة، و قساوة القلوب؟ فلو وثقوا أنهم لا يموتون لما قنع الواحد منهم بشيء يناله...»(3).
و كذلك يدعو إلى التأمل في سنة الابتلاء بأنها تدفع الإنسان إلى الشكر و الصبر إذا كان صالحا و تردعه إذا كان ظالما كقوله في الآفات و المكاره و المصائب:
«لكيلا يركنوا إلى المعاصي من طول السلامة فيبالغ الفاجر في ركوب المعاصي، و يفتر الصالح عن الاجتهاد في البرّ، فإن هذين الأمرين جميعا يغلبان على الناس في حال الخفض و الدعة، و هذه الحوادث التي تحدث عليهم تردعهم و تنبههم على ما فيه رشدهم فلو أخلوا منهما لغلوا في الطغيان و المعصية كما على الناس في أوّل الزمان...»(4).
من المؤشرات التي تؤكد حرص الإمام الصادق على الاهتمام بالتربية العقلية، تلك المواقف المربية التي كان الإمام يوجدها لتدريب الطاقة العقلية على طرق التفكير
ص: 249
العلمي المستنير، و الاستدلال المثمر للوصول إلى الحقائق و فهمها.
فهناك نماذج عديدة من جهود الصادق في تعويد تلاميذه على التفكير العلمي المنظم و «التفكير العلمي المنظم يعني الاستدلال العقلي الذي يقوم على الملاحظة و المشاهدة مع الفهم و التصور، و التحليل و التركيب و الاستنتاج، و إصدار الحكم»(1).
فنرى تدريب تلاميذه على خطوات التفكير العلمي كما يلي:
من خطوات التفكير العلمي هي استخدام الملاحظة العلمية باستخدام الحواس، سواء حواس البصر و السمع أم... «و ذلك ليكون هذا الحسّ بعالم الواقع و الشهادة مقدمة في عملية التفكير قبل إصدار الحكم في الوقائع و الأحداث»(2) فالمعرفة الحسية ما هي إلا مرتبة من التفكير لدى الإمام الصادق حيث يتوصل الإنسان من حين ولادته بالمدركات الحسية إلى المعارف العقلية، و ذلك عن طريق استعمال الحواس، و تدرجه في إحساسه للأمور الجزئية إلى إدراك الأمور الكلية عن طريق تجريد العقل للجزئيات المدركة بالحس، ليتوصل إلى استنتاج المعاني الكلية و بالتالي تؤدي عملية التجريد هذه إلى تنمية العقل الإنساني التي تدعو إليه التربية العقلية.
فيلفت الصادق نظر المتعلمين إلى الحواس التي يستخدمها الإنسان للوصول إلى العلم و المعرفة في قوله:
«انظر إلى هذه الحواس التي خصّ بها الإنسان من خلقه و شرف بها على غيره، كيف جعلت العينان في الرأس كالمصابيح فوق المنارة ليتمكن من مطالعة الأشياء...
و كان الرأس أسنى المواضع للحواس و هو بمنزلة الصومعة لها فجعل الحواس خمسا تلقي خمسا لكي لا يفوتها شيء من المحسوسات... فخلق البصر ليدرك الألوان، و لم يكن بصر يدركها لم يكن منفعة فيها. فخلق السمع ليدرك الأصوات فلو كانت الأصوات و لم يكن سمع يدركها لم يكن فيها إرب و كذلك سائر الحواس...(3) لست أجد القلب يعلم شيئا إلا بالحواس...»(4)
و هكذا «فإن الملاحظة العلمية تتطلب استخدام الحواس باعتبارها أبواب المعرفة
ص: 250
و الإدراك، فإذا استخدم الإنسان بصره لاحظ، و إذا دقق تأمل، و متى تأمل فكر، و متى فكر استغرق، و التفكير هو هدف العلم، و الاستغراق في التفكير هو نهاية المعرفة»(1).
إن الملاحظة و التجربة - و إن كانتا ضروريتين للحصول على معرفة عن العالم الخارجي - إلا أنهما لا تكفيان لوحدهما. «فلو أننا اكتفينا بحواسنا الظاهرية لم نستطع التعبير عن العالم الخارجي، و الإيمان بوجود الترابط بين الحوادث الطبيعية»(2).
يقول الإمام الصادق: «... الحواس الخمس و هي لا تنفع من الاستنباط إلا بدليل كما لا تقطع الظلمة بغير مصباح»(3).
من هنا فإنه يرى الحس بنفسه لا يفيد علما بل لا بد له من مبادئ عقلية لا يعتريها ريب؛ لأن الحس يعطينا سلسلة مؤشرات متفرقة و العقل هو الذي يقوم بعملية الربط بينها، فقيمة عمل الحواس من قيمة ارتباطها بالعقل.
قال الإمام الصادق:
«فإنك لو رأيت حجرا يرتفع في الهواء علمت أن راميا رمى به، فليس هذا العلم من قبل البصر، بل من قبل العقل لأن العقل هو الذي يميزه، فيعلم أن الحجر لا يذهب علوّا من تلقاء نفسه...»(4).
فهو هنا يدلل بما تلمسه الحواس على لزوم وجود ما لا تلمسه، فهو يستعمل العقل و الواقع معا.
و عند ما سأله زنديق: كيف يعبد اللّه من الخلق و لم يروه؟ قال الصادق:
«رأته القلوب بنور الإيمان، و أثبتته العقول بيقظتها إثبات العيان، و أبصرته الأبصار بما رأته من حسن التركيب و إحكام التأليف. ثم الرسل و آياتها، و الكتب و محكماتها، و اقتصر العلماء على ما رأوه من عظمته دون رؤيته»(5).
فالإنسان المفكر ينتقل من مرتبة النظر إلى الكائنات بعين البصر إلى مرتبة النظر
ص: 251
في الموجدات بعين الذهن المعتمد على الحواس، و إذ ذاك يتحقق له استنتاجه المقصود و يتم له استدلاله المراد فيصل إلى مبتغاه من الحق عن هذا الطريق.
هذه المرحلة مرحلة فكرية متقدمة تلي المرحلة السابقة إذ بها يستطيع الإنسان أن يربط بين الحقائق التي حصل عليها، و يمكن أن يحاول ضبط أفكاره و ربطها و الوصول إلى الكليات و الحقائق الجديدة.
فقد نرى موارد عديدة من هذه الاستنتاجات للإمام الصادق، كما أنه دعا إلى استخدام العقل و الإفادة من العمليات العقلية للتعرف على قدرة الخالق و عظمته و الإيمان بوحدانيته بقوله:
«لو رأيت تمثال الإنسان مصورا على حائط فقال لك قائل: إن هذا ظهر ها هنا من تلقاء نفسه لم يصنعه صانع، أ كنت تقبل ذلك؟ بل كنت تستهزئ به، فكيف تنكر هذا في تمثال مصور، جماد، و لا تنكر في الإنسان الحي الناطق؟»(1)
و ضرب الإمام مثالا على أساس المعرفة العقلية بين الأسباب و المسببات و يستنتج منها على وجود الخالق و المدبر لهذا العالم.
كما نلاحظ أن حديثه عن الطبيعة بمظاهرها الحية بما يتخللها من قواعد و نواميس حياتية و ما يحكمها من إرادة خفية دقيقة التنظيم و الصنع، و كلامه عن السماء و الأرض و السحاب و الجبال و الحيوانات المختلفة المتباينة كالفيل و الطاووس و النملة و تحليله الأوضاع الاجتماعية و الغرائز الإنسانية في رسالة التوحيد إلى المفضل، يعتبر في ذروة أنموذج التفكير العلمي المبدع المبني على دقة الملاحظة و الإدراك الواعي.
و لنستمع له قليلا في كلامه كعالم و باحث و مستنتج حيث يصف لنا السمك خلقا و عيشا و دلالة:
«... تأمل خلق السمك و مشاكلته للأمر الذي قدّر أن يكون عليه، فإنه خلق غير ذي قوائم لأنه لا يحتاج إلى المشي لذا كان مسكنه الماء، و خلق غير ذي رئة لأنه لا يستطيع أن يتنفس و هو منغمس في اللجة، و جعلت له مكان القوائم أجنحة شداد يضرب بها في جانبيه كما يضرب الملاح بالمجاذيف من جانبي السفينة، و كسي جسمه قشورا متانا متداخلة كتداخل الدروع و الجواشن لتقيه من الآفات فأعين بفضل حس في الشم لأن بصره ضعيف و الماء يحجبه فصار يشم الطعم من البعد البعيد. فينتجعه و إلا
ص: 252
فكيف يعلم به و بموضعه؟ و اعلم أن من فيه إلى صماخيه(1) منافذ فهو يعب الماء بفيه و يرسله من صماخيه فتروّح إلى ذلك ما يتروّح غيره من الحيوان إلى تنسّم هذا النسيم.
فكّر الآن في كثرة نسله و ما خصّ به من ذلك، فإنك ترى في جوف السمكة الواحدة من البيض ما لا يحصى كثرة، و العلة في ذلك أن يتسع لما يتغذى به من أصناف الحيوان، فإن أكثرها يأكل السمك حتى إن السباع أيضا في حافات الآجام عاكفة على الماء أيضا كي ترصد السمك، فإذا مرّ بها خطفته، فلما كانت السباع تأكل السمك و الطير يأكل السمك و الناس يأكلون السمك و السمك يأكل السمك كان من التدبير فيه أن يكون على ما هو عليه من الكثرة، فإذا أردت أن تعرف سعة حكمة الخالق و قصر علم المخلوقين فانظر إلى ما في البحار من ضروب السمك...»(2).
هذا هو أسلوب التفكير عند الصادق، ملاحظة و جمع بيانات، و استنتاج و اعتبار من نتائج البحث، و تبصر في أعماق الصنع.
لكن الإمام لم يحتكر هذا النمط من التأمل الفكري لنفسه فقط و إنما أراد شيوع ذلك بين تلاميذه لترتفع من أوساطهم حجب الجهل و الظلام و لتحل بينهم مظاهر المعرفة و الإدراك.9.
ص: 253
ص: 254
المبحث الأول: البناء الأخلاقي
المبحث الثاني: البناء الاجتماعي
ص: 255
ص: 256
أجمع المربون على اعتبار التربية الأخلاقية الجانب الأصعب من التربية عموما، كما اعتبروا أنها التربية الأكثر وجوبا في حياة الإنسان، حتى إنهم قالوا: «إن عملية التربية و العملية الأخلاقية شيء واحد ما دامت الثانية لا تخرج عن أنها انتقال الخبرة باستمرار من أمر سييء إلى أحسن منه و أفضل»(1).
و بما أن المجتمع يتكون من الأفراد، فإن لكل فرد فيه تأثيرا واضحا على بقية أفراد المجتمع، و من هنا أتى هذا الارتباط العميق لنجاح المجتمع و سعادته بالمستوى الأخلاقي لحياة أفراده؛ لأن الحياة الأخلاقية لكل فرد ستنعكس على المجتمع، سواء إيجابا أم سلبا. «و إذا كان الأمر كذلك فلا بدّ من البدء بالفرد و ذلك بتكوينه إنسانا صالحا خيرا لنفسه و لغيره معا، و هذا يكون بتعليمه ما هو خير و ما هو شر و أين تقع حدودهما في ميزان السلوك الإنساني»(2).
و قد أولى الإسلام التربية الخلقية بالغ الأهمية على صعيد كل من الفرد و المجتمع.
فحينما يثني اللّه على رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم بسمو أخلاقه فيقول جلّ من قائل: وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (3) و حينما يعمد الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم إلى الحديث عن جوهر الدعوة الإسلامية، فإنه يؤكد أنه بعث مؤدبا فيقول: «إنما بعثت لأتمم صالحي الأخلاق»(4) ثم يجعل المتخلقين بالأخلاق الفاضلة أحب الناس إليه و أقربهم منه درجة في قوله: «إن أحبكم إلي و أقربكم مني منازل يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، الموطأون أكنافا الذين يألفون و يؤلفون»(5) هذا هو جوهر الدين الإسلامي، حيث جعل دعامته الأولى الأخلاق المتينة.
ص: 257
و المتأمل للقواعد الأساسية للأخلاق في القرآن الكريم يجد أن الحديث عن الأخلاق فيه متنوع ما بين الأخلاق الشخصية و الأخلاق الاجتماعية، من هنا «فإن التربية الخلقية تمثل روح التربية الإسلامية(1)»، بل هي من أهم الأهداف التي تسعى التربية الإسلامية لتحقيقها و إبرازها بالشكل اللائق بها و ها هو الإمام الصادق استجابة لأحكام الدين الإسلامي و توجيهات القرآن الكريم، يجعل الأخلاق رسالته العليا في منهجه التربوي القويم و يربطها بالدين رباطا لا انفصام له إلى حد أنها أضحت جوهر العملية التربوية و معدنها الثمين.
فهو يعتبرها الهدف الأسمى الذي يرمى إليه من تكوين الشخصية الإنسانية السوية، و قد تجلى نصحه و تعليمه لنا في أقواله و أفعاله و مما قاله في هذا الصدد:
«إن أجلت في عمرك يومين فاجعل أحدهما لأدبك لتستعين به على يوم موتك»(2).
فقد بدأ الإمام في منهجه بالجانب الأخلاقي و ضبط سلوك الفرد ليعدّه في مرحلة لاحقة للبناء الاجتماعي حيث كانت آدابه و سلوكياته و توجيهاته و مواقفه منابع ثرة للرؤية في هذا الاتجاه و مناهج للتربية
و قد عرفنا ممّا سبق كيف اهتمت مدرسة الصادق في بناء شخصية المسلم بالتربية العقدية و التربية العلمية (في المجال المعرفي)، و هنا سنتحدث عن التربية الخلقية و الاجتماعية (في المجال السلوكي) الذي اعتبر من أهم المجالات التي اهتمت بها هذه المدرسة؛ لأنها تجسد التطبيق العملي لكل ما أخذ من دروس و ما أسدي من نصائح لإرشاد الإنسان المؤمن في حياته و إيصاله قريبا من الكمال.0.
ص: 258
المبحث الأول البناء الخلقي
- ماهية الخلق و أقسامه
- موقع الأخلاق في صرح الإمام التربوي
- أهداف التربية الخلقية في مدرسة الصادق
- مبادئ التربية الخلقية في فكر الإمام
- أساليب التربية الخلقية في مدرسة الصادق
ص: 259
ص: 260
خلق الإنسان من جسد و روح، و قد جعل اللّه لكل منهما غذاء خاصّا و إذا كان الطعام و الشراب من العناصر الأساسية لبناء هذا الجسد و نموه، فإن للروح أنواعا خاصة من الغذاء منها: الإيمان و العلم و المحبة و الصدق... إلخ و لعل أهمها على الإطلاق الالتزام بالمبادئ و الأخلاق.
و كما يسعى الإنسان في سبيل إحياء مواهبه الفكرية، و إدراك الحقائق العلمية، و يحرز تقدما جديدا في كل يوم، كذلك عليه أن يسعى في سبيل تزكية نفسه و تطهيرها بالفضائل الأخلاقية.
الخلق بضم اللام و سكونها: هو الدين و الطبع و السجيّة، جمعه أخلاق(1).
و في الاصطلاح «عبارة عن هيئة في النفس راسخة، عنها تصدر الأفعال بسهولة و يسر، من غير حاجة إلى فكر و رؤية»(2).
و المقصود من هذا التعريف أن هيئة النفس التي يكون خلقها حسنا تصدر عنها الأفعال المحمودة، و هيئة النفس التي يكون خلقها سيئا تصدر عنها الأفعال المذمومة، و ذلك بطريقة مستمرة و ليست عارضة أو مؤقتة؛ لأن «التخلق بالأخلاق الحسنة أو السيئة إنما يعني، تشبّع روح الإنسان بصفة ما، حتى تصبح تلك الصفة من ملكاته النفسية، بحيث يستطيع أن يمارس تلك الصفة بيسر، و من دون تفكير، في تعامله مع الناس، إذن لا يمكن للإنسان أن يتصف بصفة الكرم بمجرد قيامه بالبذل و الإنفاق أياما، كما أنه بالكذب بضع مرات لا يكون قد تخلق بصفة الكذب المذمومة»(3).
ص: 261
و إذا كان الخلق صفة نفسيّة، فإن المظهر الخارجي له يسمى «سلوكا» أو «معاملة» و بهذا يكون السلوك دليل الخلق و مظهره. إلا «أن الخلق ليس صفة للنفس في جملتها، لكن في جانب معين من جوانبها، و ليس هذا الجانب هو جانب العقل و المعرفة، و لا جانب الشعور و العاطفة؛ و إنما هو جانب القصد و الإرادة.(1)
و تنعكس الأخلاق على هذه الصفات المستقرة في النفس الإنسانية، فتظهر حسنها أو قبحها بما يميزها عن غيرها على اعتبار أن آثارها في السلوك قابلة للمدح و الذم.
و الأخلاق تنقسم إلى قسمين: الأول: الأخلاق الفطرية و الثاني: الأخلاق المكتسبة.
فبعض أخلاق الناس أخلاق فطرية، تظهر فيهم منذ أول حياتهم، و منذ بداية نشأتهم. و بعض أخلاق الناس أخلاق مكتسبة من البيئة الطبيعية، أو من البيئة الاجتماعية، أو من توالي الخبرات و التجارب و نحو ذلك.
و لذلك في الإصلاح التربوي قد يقبل بعض الناس بعض فضائل الأخلاق بسهولة، و لا يقبل بعضها الآخر إلا بصعوبة و معالجة طويلة المدى، و قد تقل نسبة استجابته.
و هذا ما أشار إليه الإمام الصادق تماما في قوله: «إن الخلق منيحة يمنحها اللّه عزّ و جلّ خلقه، فمنه سجية و منه نية. فقيل: فأيهما أفضل؟ فقال: صاحب السجيّة هو مجبول لا يستطيع غيره، و صاحب النية يصبر على الطاعة تصبرا فهو أفضلهما»(2).
فقد عبّر الإمام بقوله هذا عن الأخلاق الفطرية ب «السجية»، كما عبّر عن الأخلاق المكتسبة ب «النية». و لم ينظر إلى الأخلاق على أنها كلها كسبية و إلا لأهمل جانب الفطرة الإنسانية، و مقتضياتها الخيرة عند ما تتهيأ لها عوامل الخير، كما لم ير أنها كلها وهبية و إلا لأهمل وظيفة العقل و دور الشرع في الإرشاد و الهداية، فضلا عن إلغاء ما للإرادة الإنسانية من دور مهم في هذا الصدد.
إضافة إلى أن الصادق يعتقد بأن بعض الصفات الرذيلة في خلق الإنسان كسبية تماما و لم يجبله اللّه عليها، فليس لها جذور الفطرية بل يعلمها الإنسان طوال حياته من البيئة الاجتماعية. كما أشار إليها في قوله: «بني الإنسان على خصال فمهما بني عليه أنه لا يبنى على الخيانة و الكذب»(3).4.
ص: 262
أما الخلق الطبعي فإنه ذات نسب فطرية متفاوتة في الناس كتفاوت استعداد الناس لتعلم أنواع العلوم المختلفة. و لكن مع وجود التفاوت الواسع في هذا بين الناس، نلاحظ بأن هذه الطبائع كلها قابلة للتغيير و التعديل وفق ما تكتسبه من محيطها و لا سيما التعليمي و التربوي؛ «لأن وجود الخلق بصفة فطرية يدل على وجود الاستعداد الفطري لتنميته بالتدريب و التعليم و تكرار الخبرات، كما أنه يدل على وجود الاستعداد الفطري لتقويمه و تعديله و تهذيبه، بالتدريب و التعليم و تكرار الخبرات»(1).
و إن التغيير المستمر في تصرفات الإنسان و عاداته و سلوكه، سواء نحو الأفضل أم الأسوأ، هو خير دليل على وجود هذه القابلية و هذا الاستعداد الفطري لتقبل النصح و الإرشاد و التوجيه أو رفضه. «و لو كانت الأخلاق لا تقبل التغيير لبطلت الوصايا و المواعظ و التأديبات و لما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «حسّنوا أخلاقكم»(2).
و كذلك قول الصادق يدل على هذا الأمر «وطّن نفسك على حسن الصحابة لمن صحبت، في حسن خلقك و كف لسانك، و اكظم غيظك...»(3).
و لأن الأخلاق تكتسب بالتعلم و التهذيب و النصح المستمر حتى تصير ملكة، فالإنسان مطبوع على قبول الخلق بالتأديب و المواعظ إن سريعا أو بطيئا.
و قد تبلور اقتداء الإمام الصادق المتواصل بالمثل الأعلى للمربين النبي الأكرم صلّى اللّه عليه و سلّم - فأشار إلى مبدأ الاستعداد الفطري في السجايا الأخلاقية عند الناس كنعمة إلهية عظيمة منّ اللّه بها على عباده، و بالتالي يتوجب عليهم شكره و حمده، كما يشجعهم دوما على اكتساب المزيد من الفضائل الأخلاقية بالاستعانة باللّه حيث قال: «فإن كانت فيكم منها (مكارم الأخلاق) فاحمدوا اللّه و ارغبوا إليه في الزيادة منها»(4).
و هذه القابلية للتعديل و التحسين، تفتح الباب أمام التربية لتقوم بدور هام في التنشئة الأخلاقية للفرد.0.
ص: 263
ذكرنا أن الدين الإسلامي يهتم غاية الاهتمام بالتربية الخلقية و يعطيها قدرا كبيرا من التوجيه، باعتبارها الأساس الأول الذي يشيد عليه البناء الاجتماعي السليم.
إن حقيقة هذه التربية في نظر الإسلام «هي تنشئة الفرد و تكوينه، إنسانا متكاملا من الناحية الأخلاقية بحيث يصبح في حياته مفتاحا للخير، و مغلاقا للشر»(1). و مجال الأخلاق في الإسلام هو «مجال الحياة كلها لأن الأخلاق إذا كانت نمطا للعمل و السلوك في الحياة فإنها تشمل جميع النشاطات البشرية».
و لذا، فإننا نلاحظ أن الآيات القرآنية التي تشير إلى مجال التربية الأخلاقية تمثل في مجموعها ما يقرب من ربع عدد آيات الكتاب العظيم(2).
و على هذا الاعتبار، اتخذ الإمام الصادق الأخلاق أساسا و نبراسا لتعاليمه التربوية. و انطلاقا من عناية القرآن الكريم بهذا الأمر و تشديده عليه، فقد عني الإمام كل العناية في بث الأخلاق الكريمة، و غرس الفضائل في نفوس المتعلمين؛ لأن الأخلاق - في نظره - تزين الإنسان في نفسه، و تحسن علاقته مع ربه و مع الآخرين، و بها كمال الدين. و قد ورد عنه في هذا قوله: «الخلق الحسن جمال في الدنيا و نزهة في الآخرة و به كمال الدين و القربة إلى اللّه تعالى»(3).
فهو ينتهز كل فرصة مناسبة في الحضر و السفر، ليذكر الناس بواجباتهم، و يحثهم على السير في طريق مكارم الأخلاق، و يربيهم على التحلي بالصفات الإنسانية.
و قد ركز الإمام على أهمية حسن الخلق لتأثيرها في رفع الخطايا و النقائص فقال مخاطبا المسلم: «إنّ الخلق الحسن يميت الخطيئة كما تميت الشمس الجليد»(4).
ص: 264
و هكذا، يعتبر الإمام الصادق حسن الخلق في الحياة الدنيويّة - و لا سيما في العلاقات الاجتماعية - طريقا لجلب محبة اللّه، فيقول: «ما يقدم المؤمن على اللّه عزّ و جلّ بعمل بعد الفرائض أحب إلى اللّه تعالى من أن يسع الناس بخلقه»(1).
ففي المحيط الذي يشعر كل فرد منه بمسؤوليته، و يتخلقون بالأخلاق الحسنة، تكون أرواح الناس و أموالهم و أعراضهم مصونة من الأذى و الاعتداء، و يكون الناس فيه أقل عرضة للقلق و الاضطراب و الغضب و المخاصمة و الجدل. و في هذا قال الإمام:
«لا عيش أهنأ من حسن الخلق»(2).
و هذا طبيعي لأن نجاح العلاقات الاجتماعية هو أساس الشعور بالطمأنينة و الإحساس بالأمان و راحة البال.
و على صعيد آخر يرى الإمام الصادق أن الفضائل الخلقية مترابطة بعضها ببعض، مثلما إن الرذائل الاخلاقية ذات صلات وثيقة فيما بينها. لهذا غالبا ما يتعذر الفصل التام بينها. يقول الإمام: «إنّ خصال المكارم بعضها مقيّد ببعض»(3).
إن مثل هذه الآصرة بين مجموعة الفضائل أو الرذائل الأخلاقية حصيلة اشتراكها في الجذور و العوامل المسببة لها، أو هي ثمرة الترابط بين نتائجها و استحقاقاتها، حتى إنه يمكن تصورها علي صورة شبكة مترابطة الأجزاء.
و للإمام علي (كرم اللّه وجهه) إشارة دقيقة إلى هذا المعنى حيث يقول: «إذا كان في الرجل خلّة رائعة فانتظروا أخواتها»(4).
و التبصر بهذه الروابط يمكنه أن يمد يد العون للمربي في بلوغ أهدافه التربوية لإصلاح السلوك و تهذيب الأخلاق لدى المتربي. و لهذا يشرح الإمام الصادق هذه النقطة في سياق برنامجه الأخلاقي، و يسرد المصاديق لها كي يدفع طلابه للتحلي بفضيلة خلقية رفيعة عن طريق سائر الفضائل المرتبطة بها. و من ذلك قوله:
«إن الغنى و العز يجولان فإذا ظفرا بموضع التوكل توطّنا»(5) فالعزة و الغنى من وجهة نظر الإمام أمران متلازمان مع التوكل.
و هذا يعني أن القلب الذي تحوّل إلى مركز للتوكّل على اللّه فإنّه يشعر بالغنى و عدم الحاجة لغير اللّه تعالى، و كذلك فإن مثل هذا الإنسان يعيش العزّة و القدرة لأنّه3.
ص: 265
يتحرّك مع موقع الاعتماد على القدرة المطلقة التي تسمو على جميع القدرات الأخرى و لا تقبل الضعف و التردّد. و على هذا النحو يشير الإمام أحيانا إلى العلاقة بين الرذائل، و مثال ذلك قوله: «إياكم و الخصومة في الدين فإنّها تورث النفاق و تكسب الضّغائن و تستجيز الكذب»(1).
اعتبر الإمام في هذا الكلام، الخصومة، سبيل إلى نشوء النفاق و الضغينة و جواز الكذب و يرى هذه الرذائل الأربع ذات علاقة وثيقة فيما بينها.
أجل، بما أن كثيرا من الخصال تمثل الجذر و القاعدة المنتجة للصفات الأخرى، لذا يهتم الإمام اهتماما خاصا بهذه الأمور الأساسية في تربيته الأخلاقية ليعين المتربّين في الالتزام بالسلوك الأخلاقي القويم.
فمن جملة أبرز و أهم الفضائل الأساسية التي كان الإمام يوليها أهمية كبرى في تربية تلاميذه صفة «الحرية»، فالصادق يرى أن الحرية حاجة أساسية من حاجات النفس لا بدّ من إشباعها و لا يستطيع الإنسان أن يكمل نفسه و يرقي أخلاقه و يصل إلى غايته إلاّ إذا كان حرّا.
الحرية من منظور الإمام أصل للكثير من الصفات الأخلاقية الحميدة، حتى إن التحلي ببعض الخصال و الإيجابيات منوط بتوفر خصلة الحرية عند الإنسان. و هذا ما ذكره في حديثه: «خمس خصال من لم تكن فيه واحدة منها فليس فيه كثير مستمتع:
الوفاء و التدبير و الحياء و حسن الخلق و الخامسه تجمع هذه الخصال كلّها و هي:
الحرّية»(2).
إن الحرية يراد منها تارة التحرر من الشهوات و الأهواء، و أخرى التحلل من التقليد و التبعية، و ثالثا الخلاص من القوة و السيطرة المعتدية، و أي معنى من هذه المعاني الثلاثة فإن الإنسان يفقد شخصيته و إرادته إذا فقد الحرية؛ لأن من تتحكم به العواطف و الانفعالات، أو يسيطر عليه الغير يستحيل عليه التدبير و الوفاء، و حسن الخلق و الحياء، يستحيل عليه التدبير أن يملك من أمره غير الخضوع و التسليم.
و من أجل هذا اعتبر الإمام الصادق الحرية أم الفضائل و رأس الأخلاق، و فقدانها أم الرذائل و أصل المشكلات الشخصية و الاجتماعية.
و من الصفات الأخلاقية المهمة الأخرى التي يعتبرها الإمام الصادق ينبوعا للفضائل الأخرى هي صفة الحياء. و الحياء عبارة عن: «ظاهرة تعبّر عن الخوف من الظهور بمظهر النقص و تعبر عن علوّ همة النفس إلى الكمالات و نفورها من النقائص4.
ص: 266
و كراهيتها لها، و حذرها من أن تظهر أمام الناس ببعض مظاهرها»(1).
من هنا يرى الإمام أن هذه الصفة تختص بالإنسان و تمثّل سببا من أسباب تكريمه، و في هذا يقول مخاطبا المفضل بن عمر: «انظر يا مفضل إلى ما خصّ به الإنسان دون جميع الحيوان من هذا الخلق الجليل قدره العظيم غناؤه، أعني الحياء»(2).
فالحياء يحجز المرء عن الفواحش و يدفعه إلى التحلّي بكل جميل و من أجل ذلك قرّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بأنّ «الحياء خير كلّه»(3).
و يشرح الإمام الصادق كيف أن الكثير من السلوكيات الحسنة و حتى مراعاة الحقوق تظهر بفضل التزام الإنسان بسجية الحياء في حياته:
«فلولاه [أي الحياء] لم يقر ضيف و لم يوف بالعداة و لم تقض الحوائج و لم يتحرّ الجميل و لم يتنكّب القبيح في شيء من الأشياء حتّى إنّ كثيرا من الامور المفترضة ايضا إنّما يفعل للحياء فإنّ من النّاس من لو لا الحياء لم يرع حقّ والديه و لم يصل ذا رحم و لم يؤدّ امانة و لم يعف عن فاحشة»(4).
و هكذا يرى الإمام الحياء رأس كثير من مكارم الأخلاق و يشجع طلابه عليه فيقول:
«صدق الحديث و صدق الناس، و إعطاء السائل، و مكافأة الصانع، و أداء الأمانة، و صلة الرحم و التودّد إلى الجار و الصاحب، و قرى الضيف و رأسهنّ الحياء»(5).
و على هذا النحو يشير الإمام أحيانا إلى الجذور الأصلية للرذائل و يعبّر عنها بأصول الكفر فيقول ما نصّه: «أصول الكفر ثلاثة: الحرص و الاستكبار و الحسد»(6)ربّما مصدر جميع المصائب الكبرى التي حدثت في العالم الإنسانية منذ صدر الخليقة هي هذه الصفات الثلاث.
و تشير نماذج من هذا القبيل إلى أن الإمام الصادق اهتم عبر نظامه التربوي الأخلاقي المستمد من النظام التربوي القرآني بتحري جذور الفضائل و الرذائل الأخلاقية، و بدأ بها في تربية طلابه و قد استعان بالمقارنات و ظاهرة الترابط القائم بينها في هذا المجال.1.
ص: 267
تتوخّى التربية الخلقية في الإسلام تحقيق الفضائل وفق مستويين:
أحدهما الحد الأدنى الواقعي و يرمي إلى الوصول بالطباع و الأخلاق إلى حد الاعتدال أو نقطة التوازن بين الإفراط و التفريط. فالفضائل هي أوساط بين أطراف، و الأطراف هي الرذائل. و بذلك جاء حديث الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم «خير الأمور أوسطها»(1).
فالحكمة وسط بين السّفه و البله، و الحياء وسط بين الوقاحة و الخرق، و الشجاعة وسط بين رذيلتيّ الجبن و التهوّر، و العفّة وسط بين الشره و خمود الشّهوة، و السّخاء بين رذيلتي التقتير و التبذير، و غير ذلك(2) أما الحد الأعلى الثاني فيرمي تطبيق هذه الفضائل إلى منتهى غاياتها ابتغاء مرضاة اللّه؛ فالعدل فضيلة و الإحسان و التفضل مثالية، و السخاء فضيلة، و الإنفاق في سبيل اللّه بغير منّ و لا أذى مثالية. و الشجاعة فضيلة، و بذل المسلم روحه في سبيل اللّه لنشر الدعوة الإسلامية مثالية.
و ممّا لا شك فيه أن وجود هذا الحد الأعلى المثالي في الأخلاق هو سمة الأصفياء، و وجوده ضرورة في الأمّة؛ لأنه رصيد الخير الذي يشدّها شدّا، و يرتفع بها من هوّة المطالب الدانية إلى ذروة المطامح العالية، و يشير إلى هذا الموضوع أحد علماء اللاّهوت الغربيين عند ما يفصل بين الأخلاق الدنيوية التي هي ضرورة اجتماعية تفرضها للمحافظة على الأمن، و الأخلاق الإنسانية التي هي فيض إلهي تخلق في الإنسان نفسا قدسية. فهو يتحدث بها لنيل الكمالات المعنوية و السمو النفسي(3).
و كذلك في مدرسة الصادق، فالأخلاق الحميدة قسمان: الأول: محاسن الأخلاق، و الثاني: مكارم الأخلاق. و المحاسن هي أساس العلاقات الاجتماعية و هي
ص: 268
الباعثة على نيل المنافع المادية و تحسين الحياة و أما المكارم فهي معيار الإنسانية، و بها يستقيم الطبع، و تزكو النفس، و يسمو الروح.
و لأن الإمام الصادق عند ما يتكلم عن الأخلاق الحسنة بمعناها الجامع الشامل لبيان أهميتها و قيمتها في التعاليم الإسلامية، يعبّر عنها بحسن الخلق، و عمّا يقابلها بسوء الخلق.
و عند ما كان الإمام يريد توجيه الناس إلى السمو المعنوي و كمال النفس ليبيّن لهم القيم الإنسانية الرفيعة كان يحدّثهم عن مكارم الأخلاق كما يحدّثهم عن المحاسن دون أن يفصل بينهما؛ لأن مدرسته لا تقتصر على الأخلاق الحسنة فحسب بل تريد أن ترقّى بالناس إلى المستوى الأعلى المثالي بالمكارم. و هذا معيار المحاسن و المكارم عند الإمام، فقد سئل ذات مرّة: ما حدّ حسن الخلق؟ قال: «تليّن جانبك. و تطيّب كلامك، و تلقى أخاك ببشر حسن»(1).
و جاء رجل، فقال له: يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، أخبرني بمكارم الأخلاق، فقال:
«العفو عمن ظلمك. و صلة من قطعك. و إعطاء من حرمك، و قول الحق و لو على نفسك»(2).
فالبشاشة و التبسم و احترام الناس و أدب الكلام و عيادة المريض و تعزية المصاب و ما شابهها من صور التراحم و التودّد المطلوبة شرعا و عرفا هي من محاسن الأخلاق، و بها تطيب الحياة، إذ تشيع بين الناس مظاهر الفضيلة و تبادل الاحترام و الأدب، و يفيض الودّ و المحبّة على المجتمع و هذا يكاد يكون ميسورا لجميع الناس، فكل امرئ يستطيع بالمراقبة و المران أن يتخلّق بها ليتمتع بثمارها المفيدة.
أما مكارم الأخلاق، فلا يبلغها إلا من استطاع أن يتغلب على هوى النفس، و يحررها من أسر الشهوات.
و فيها قال الإمام الصادق: «فإن استطعت أن تكون فيك (المكارم) فلتكن، فإنها تكون في الرجل و لا تكون في ولده، و تكون في ولده و لا تكون في أبيه، و تكون في العبد و لا تكون في الحرّ...»(3).
و من هذا المنطلق يمكن القول، مع علماء النفس، بأن تطبيق محاسن الأخلاق دليل على الوصول إلى مرحلة ال (أنا)، و التخلق بمكارم الأخلاق دليل على الوصول إلى مرحلة ال (أنا الأعلى) الشامخة.1.
ص: 269
و ما برح الإمام الصادق يدعو تلاميذه إلى قسمي الأخلاق مؤكدا أن المكارم أشد تأثيرا في ضمان النجاة و سعادة الإنسان، لأنها تحرّر الإنسان من عبادة الذات و الطبيعة الحيوانية و تبعثه على الحب في اللّه و البغض في اللّه، و هما غاية التربية الإسلامية.
فقام بتعليم تلاميذه هذه المكارم و ترسيخها في نفوسهم، لكي يكمل البناء الذي أرسى قواعده من قبل جدّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقال ما نصّه:
«إن اللّه عزّ و جلّ خصّ رسله بمكارم الأخلاق، فامتحنوا أنفسكم؛ فإن كانت فيكم، فاحمدوا اللّه، و اعلموا أن ذلك من خير، و إن لم تكن فيكم فاسألوا اللّه، و ارغبوا إليه فيها»(1).
و هكذا نلمس أن تربية الإمام الصادق تجعل «السمو بالأخلاق» و ترقيتها، و التحلي بفضائلها و آدابها أهم مقاصد التربية المتكاملة، ترمي بها إلى ترسيخ هذه القيم و تكوين الخلق الفاضل القويم في نفوس المتعلمين.0.
ص: 270
تناولنا أهمية التربية الخلقية و أهدافها في مدرسة الصادق، و من الطبيعي أن نتحدّث بعد ذلك، عن المبادئ الرئيسة لهذه التربية التي نراها تسير بخطى عملية مترابطة و متكاملة معا، تشكل الإلزام الخلقي في الإنسان و تنمي فيه روح الاستقامة على الخير و الصلاح؛ و أهم هذه الخطى:
من أهم مبادئ التربية الخلقية عند الصادق تكوين بصيرة أخلاقية لدى كل مسلم.
فهو يرى أن المعرفة لا بد أن تكون سابقة على السلوك، ليكون الإلزام الخلقي حقيقة واقعة في نفس الإنسان و هذه المعرفة تجعل الإنسان متمكنا من أنماط سلوكه و واعيا لأبعادها، و قادرا على القيام بما يجب عليه، و من هنا قال: «العامل على غير بصيرة كسائر على سراب بقيعة لا تزيده سرعة السير إلا بعدا»(1).
«فمعرفة مبررات القانون، و الاقتناع بعدالته يجذب النفوس إلى امتثاله و يغريها بطاعته عن محبة و طواعية»(2).
و هكذا تنمية الروح الأخلاقية تحتاج إلى تعليم و تبصير و لا بدّ من وعيها وعيا نافذا ليدرك الإنسان حكمة المبادئ الأخلاقية و ليستطيع التمييز بين المحاسن و المساوئ، و ما يترتّب على الفضائل من خير، و ما يترتّب على الرذائل من شرّ.
«فالعلم و المعرفة شرط جوهري في تقرير خلقية السلوك، كما أنه دلالة على صحّة القصد الخلقي، فتغدو المعرفة بخلقية العمل سبيلا إلى الالتزام به و الشعور تجاهه بأنه واجب خلقي... كما أن المعرفة بالشر تكون سبيلا إلى النفور منه و البعد عنه»(3).
و من هذا المنطلق، فقد كان الإقناع الفكري من أهم الطرائق التي سلكها الإمام
ص: 271
متأسيا بالمنهج القرآني. و البناء الخلقي عنده، ليس مجرّد مدح لبعض الأعمال و لا ذمّا لبعض، و إنما هو تكوين معرفة صحيحة بالفضائل و الرذائل و تحليل للنتائج النفسية و الاجتماعية لسلوك ما.
و لذلك نجد الإمام معلما و مربيا يسعى لتكوين بصيرة علمية و قناعة عقلية بالقيم الخلقية عن طريق تبيين هذه القيم و حدودها، و بيان حكمتها و آثارها، ليختار الفرد المسلم أخلاقه في الحياة العملية في ضوء معايير العمل الصالح في الإسلام.
لقد غرس الإمام هذه المعرفة و الوعي في تلاميذه و محبيه بما نورده على ما يأتي:
إنّ تبصير الفرد بالقيم و الفضائل و إبعاده عن الرذائل يحتاج إلى معرفة الخير و الشر في مجال التطبيق، لأن الأخلاق هي دراسة القيم في مجال السلوك البشري و لهذا «تتكون من خلال الممارسة و الانخراط في مواقف الحياة حيث يكون التعامل مع الأفراد و الجماعات، و حيث يكون اكتساب القيم و الاتجاهات و العادات ذات الأثر الإيجابي البناء، كالتعاون و التساند الاجتماعي و حب الخير و كره الشر»(1).
و هذا ما يلمسه من يقرأ سيرة الإمام الصادق و منهجه الذي اتّبعه في حياته، فهو يعرّف كثيرا من الأخلاقيات بظواهرها السلوكية لتكوين معرفة صحيحة بها و لتفتح للإنسان طريق العمل بمصاديقها في مختلف نواحي الحياة كما نرى في تعريفه للتواضع حيث قال ما نصّه:
«التواضع هو أن ترضى من المجلس بدون شرفك و أن تسلم على من لقيت، و أن تترك المراء، و إن كنت محقا»(2).
و كذلك في تعريفه للكبر حيث يقول: «الكبر أن يغمص الناس و يسفّه الحق»(3).
فيعرّف الإمام الكبر في عبارة موجزة بأنه تحقير الناس و ازدراؤهم من جهة و عدم رؤية الحق من جهة أخرى.
و في ضوء هذا الهدف يدلّ الإمام على الفضائل و الرذائل بعلاماتها كقوله:
«للمرائي ثلاث علامات: يكسل إذا كان وحده. و ينشط إذا كان الناس عنده. و يتعرض في كل أمر للمحمدة»(4).
ص: 272
«و للحاسد ثلاث علامات: يغتاب إذا غاب، و يتملّق إذا شهد، و يشمت بالمصيبة»(1).
فالعلائم أفضل الطرق لمعرفة الصفات الباطنية، و بما يستطيع الإنسان أن يطلع على وجود هذه الصفات من نفسه فيقوم بمعالجتها.
فلا يكفي عند الصادق أن يريد الإنسان من أعماق نفسه عمل ما يجب عمله، بل يرى من الضروري أن يعرف ذلك بظواهره السلوكية؛ لأن «القوانين الأخلاقية ليست ترفا عقليّا و إنما هي قواعد للعمل»(2) و لذا كان التركيز في منهج الإمام على الجانب التطبيقي أكثر من المفاهيم و التصورات الذهنية.
إحدى الطرق لتكوين بصيرة أخلاقية هي تبيين حدود السلوك الخلقي و تمييزه عمّا تشابه منه، لئلا تختلط الفضيلة بالرذيلة، و العدل بالظلم، و الصواب بالخطأ.
فمن خلال جهود الصادق في تربية الأمة أخلاقيّا، فإنه سعى إلى تصحيح المفاهيم الأخلاقية التي التبس بعضها ببعض أحيانا بتأثير التغير و التغيير الاجتماعيين الضاربين في مسيرة الأمة، فقال محددا مفهوم التعصب: «ليس من العصبية أن تحب أخاك و لكن العصبية أن ترى شرار قومك خيرا من خيار غيرهم»(3).
فحب الإنسان لأخيه و الانتصار له عند الشدة بالحق ليس عصبية و لا صلة لهما بالعصبية؛ لأنهما واجب أخلاقي و شرعي أما إذا كانت النصرة خارج الإنصاف، فهي عصبية ذميمة يأباها الشرع و مكارم الأخلاق.
و كذلك يبيّن الإمام الفضيلة و الرذيلة بتحديد مفهوم العصبية و تمييزها عن الغيرة الممدوحة.
كما حدّد الصادق السخاء بقوله: «ليس السخي المبذر الذي ينفق ماله في غير حق، و لكنه الذي يؤدي إلى اللّه عزّ و جلّ ما فرض عليه في ماله من الزكاة و غيرها و البخيل الذي لا يؤدي حق اللّه عزّ و جلّ من ماله»(4).
و بهذا القول رفع الصادق ما بين السخاء و التبذير من الالتباس، و حدّد السخاء بأداء المفروض في المال إلى اللّه تعالى.
ص: 273
و قوله: «إلى اللّه» تحديد آخر للسخاء من التبذير، فليس إخراج الزكاة وحده سخاء في رأي الصادق، و إنما لا بد أن يكون للّه تعالى لا لشهرة، و لا لمصلحة خاصة، و لا لفساد في الأرض.
و هكذا يشير الإمام إلى دور النية و القصد في تحديد الفعل و تقويمه؛ لأنها روح العمل. فقال ما نصّه: «النية أفضل من العمل ألا و إن النية هي العمل»(1).
فعلى أساسها تصنّف الأفعال و توزن، فلا عبرة بالفعل و لا قيمة له ما لم يقم على أساس قصد سليم و نية مخلصة و صادقة مهما يكن ضخما و مهمّا يبدو في وضعه المنظور خيرا و حسنا. و قد أثر عن الإمام من تفسير قول اللّه تعالى:
لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (2) «ليس يعني أكثر عملا و لكن أصوبكم عملا و إنما الإصابة خشية اللّه و النية الصادقة و الحسنة»(3). هذا يعني أهمية العمل تتعلق بكيفيّته أكثر مما تتعلق بكميّته، و من مقتضيات ذلك أنّ «تصبح قيمة الأعمال في النفس مستمدة من بواعثها لا من نتائجها»(4) فكم من الأعمال تعجب بظاهرها و الناس يعدّون فاعلها صانعا للمعروف، في حين أن قصد فاعله تخالف الصورة الظاهرة فينقلب هذا الشكل الخير إلى الرياء الذي هو شر مهلك.
فالإمام يؤكد على أهمية النية لتحديد السلوك الأخلاقي و تمييزه عن غيره من الأفعال، و يعلّم تلاميذه هذا الموضوع الخطير الأثر في الحياة؛ لأنها تعبير عن الموقف الداخلي و عن التوجه الذاتي و الحقيقة الباطنة للإنسان فشرح قوله تعالى:
كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ (5) بأنها تعني على نيته»(6).
لمعرفة الفضائل الأخلاقية معرفة صحيحة، لا بد أن تبرز ما فيها من كمال و جمال، و لا بد أن تورث اليقين بفوائدها و ثمراتها الطيبات و خيراتها الحسان المادية و المعنوية، و الدنيوية و الأخروية. و كذلك معرفة الرذائل و النقائص الأخلاقية لا بد أن تبرز ما فيها من نقص و قبح، و لا بدّ أن تورث اليقين بمضارها و نتائجها السيئة.
من هنا عرض الصادق، في سبيل تبصير تلاميذه بالسلوكيات الأخلاقية على
ص: 274
أنواعها، و ما يترتب على الفضيلة من خير و ما ينجم عن الرذيلة من شرّ؛ فعلى سبيل المثال قال له أحد تلاميذه: «قد عرفت حالي وسعة يدي و توسعي على إخواني، فأصحب النفر منهم في طريق مكة فأتوسع عليهم فقال له: لا تفعل، إن بسطت و بسطوا أجحفت بهم، و إن هم أمسكوا أذللتهم، فاصحب نظراءك، إصحب نظراءك»(1).
لقد نهاه الإمام عن صحبة من دونه في السفر و علل له ذلك، ليعرف ما ينفع و ما يضرّ و ليعي أن جميل العشرة ليس أن يكلّف رفيقه أو يذلّه.
و حث الصادق أتباعه على التحلّي بالصفات الحميدة و السجايا المطلوبة بذكر فوائدها و نتائجها فقال: «قل الحق لك و عليك تستشار من بين أقربائك»(2).
فبيّن الإمام أثر اتّباع الحق بين الناس الذي يؤدي إلى مكانة الثقة للمرء و منصة المشورة عن الآخرين.
كما حذّر تلاميذه من الأخلاق الذميمة مبينا سوء أثرها في النفس و المجتمع فقال ناهيا عن المراء: «لا تمارينّ حليما و لا سفيها فإن الحليم يغلبك و السفيه يؤذيك»(3).
فالتبصير بعواقب الأفعال و آثارها أمر حيوي عند الإمام لإصلاح النفوس، حيث لم يعلّم الفضائل و الرذائل إلا بذكر ثمارها العاجلة و الآجلة. و لكنّه رغم ذكر الفوائد الدنيوية للفضائل، نبّه تلاميذه إلى اختلاف الخلق الايماني عن الخلق النفعي(4) لكي ينفذوا سلوكهم الأخلاقي إطاعة لأمر اللّه و يكون الدافع الأصلي فيهم ابتغاء لوجهه.
فقال ما نصّه:
«عليكم بمكارم الأخلاق فإن اللّه عزّ و جلّ يحبها، و إباكم و مذامّ الأخلاق فإن اللّه عزّ و جلّ يبغضها»(5).
و معلوم أن التخلق لغير اللّه تعالى مهما كان فإنه، ليس من المكارم على ما في الإسلام الحنيف.0.
ص: 275
ب - تكوين عاطفة أخلاقية (1):
معرفة الأخلاق و الفضيلة عند الصادق لا تبعث على التمسك بهما ما لم تمتزج بعاطفة أخلاقية تمنحهما الحياة التي تدفع الإنسان نحو عمل الخير و تردعه عن الشر.
هذه العاطفة، كحافز ذاتي في داخل الإنسان، توجه إرادته و تدفعه إلى ممارسة السلوك الأخلاقي و هذا ما سعى الإمام الصادق إلى تحقيقه في نفس الإنسان المسلم، فلم يكتف بالتوعية وحدها، بل شفّعها بتكوين الرغبة و الاستعداد الكامل في نفوس تلاميذه للالتزام بالمبادئ الأخلاقية، و قد سلك في ذلك طرقا منها:
«لقد خلق الخالق العظيم الإنسان «و أودع في مدارك الأفكار و في مشاعر الوجدان الفطرية ما تدرك به فضائل الأخلاق و رذائلها، و نستطيع أن نسمي ذلك «الحس الأخلاقي». و هذا ما يجعل الناس يشعرون بقبح و ينفرون منه، و يشعرون بحسن العمل الحسن و يرتاحون إليه»(2).
و قد وصف القرآن الكريم هذه الهداية التكوينية بأنها إلهام رباني بقوله:
فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها (3) . فالنفس الإنسانية منذ تكوينها و تسويتها ألهمت في فطرتها إدراك طريق فجورها و طريق تقواها، و هذا هو الحس الفطري الذي تدرك به الخير و الشر، الذي يسمّيه علماء النفس «الضمير».
و قد أرشدت السّنة النبوية إلى وجود هذا الحس في النفوس الإنسانية و أرشدت المسلم إلى استفتاء قلبه في حكم السلوك الذي قد تميل نفسه إلى ممارسته، فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، عند ما سأله رجل عن البر: «استفت نفسك، البرّ ما اطمأنّ إليه القلب، و اطمأنت إليه النفس، و الإثم ما حاك في القلب و تردد في الصدر، و إن أفتاك الناس»(4).
و هذا يدل على أن في النفس الإنسانية قدرة على الإحساس بالبر و الإثم. و قد جمع الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم فضائل الأخلاق تحت عنوان (البر) و جمع رذائل الأخلاق تحت عنوان (الإثم).
و كذلك الإمام الصادق الذي تخرّج من مدرسة جدّه، لم يغفل عن هذا الوازع في
ص: 276
النفس الإنسانية فذكّر تلاميذه به من حيث تنميته و حمايته في قوله:
«إنك قد جعلت طبيب نفسك، و بيّن لك الداء، و عرفت آية الصحة، و دللّت على الدواء، فانظر كيف قيامك على نفسك»(1).
ففي هذا الكلام، تبيان واضح للحس الأخلاقي الذي شبّهه الإمام بالطبيب الذي يعرف الداء و الدواء. فبهذا الوجدان يهتدي الإنسان إلى معرفة أمراض نفسه، و يستطيع الوصول إلى سلامة روحه؛ لأنه إذا كان نقيّا صافيا سليما من العلل، يساعد الإنسان على تمييز مواقف الخير من غيرها، و يحمله على وقوفها و اجتناب مواقف السوء.
فقد أشار الإمام إلى موقع هذا الوازع الداخلي في صيانة الإنسان عن الانحراف بقوله: «من لم يكن له واعظ من قلبه و زاجر من نفسه، و لم يكن له قرين مرشد استمكن عدوه من عنقه»(2) و من البديهي أنّ الإنسان يحتاج إلى واعظ قبل كل شيء ليكون معه في كل حال و يعلم أسراره الداخلية و يكون عليه و معه دائما.
فهذه الصرخة الإلهية في نفس الإنسان تقوّم شخصيته و تشكل محكمة عادلة و منصفة داخله، و تراقب سلوكه و مواقفه بدقة و توبّخه و تؤنبه عند كل شطط و انحراف كما تمدحه عند كل خير و فضيلة. و على هذا ذكّر الصادق الناس بهذا الوازع الداخلي الذي يشعرهم بقبح العمل القبيح و ينفرهم منه و يشعرهم بحسن العمل الحسن فيرتاحون إليه، ترغيبا لهم في الخير و تنفيرا من الشر.
للطمع و الخوف أثر كبير في النفس الإنسانية و هما يتحركان بالترغيب و الترهيب، فإذا رأى الإنسان المكافأة على عمل اندفع إليه طمعا فيها، و إذا رأى العقوبة عليه ارتدع عنه خوفا منها.
و قد اعتمد الصادق في منهجه التربوي اعتمادا كبيرا على تحريك هذين العنصرين لبعث الفضيلة و نبذ الرذيلة من أعماق النفس الإنسانية مازجا بين العقل و العاطفة لتمكين الروح من الاستقامة على الخير و الحق و الجمال.
و هذه أمثلة من ترغيبه و ترهيبه، قال: «من ظلم مظلمة أخذ بها في نفسه أو في ماله أو في ولده»(3).
و هذا تخويف من العقاب الذي يطال الظالم في الدنيا بأنه قد يكون في نفسه أو
ص: 277
في ماله، إذ يقتصّ اللّه سبحانه منه للمظلوم بمرض أو بلاء أو خسارة في ماله.
و أحيانا يكون العقاب في أولاده و لأن الإنسان يحبّ نفسه و ما يتعلق بها من مال و ولد، أراد الإمام أن يبعد الناس عن ظلم بعضهم بعضا بإخافتهم من عاقبة هذا الظلم.
و رغّب الناس في البر و الفضيلة بلفت أنظارهم للتأثير المتقابل في الأعمال، ليحرّك عواطفهم و أحاسيسهم إلى الالتزام به. فقال: «برّوا آباءكم يبرّكم أبناؤكم...
عفّوا عن نساء الناس تعف نساءكم»(1).
كما يخوّفهم من عواقب بعض الرذائل في مثل قوله: «من كشف الحجاب عن عورة غيره انكشف الحجاب عن عورات بيته، و من سلّ سيف البغي قتل به و من احتفر لأخيه بئرا سقط فيها»(2).
فالإمام كما رغّب و رهّب بالنتائج الدنيوية للأعمال أشار إلى الآثار الأخروية لها أيضا كقوله: «إن المتكبرين يجعلون في صور الذرّ يتوطأهم الناس حتى يفرغ اللّه من الحساب»(3).
فهذا رعاية لوجود الفروق الفرديّة بين الناس و منهم من يحرّك بالعواقب الأخروية من النفوس المؤمنة الصادقة، و منهم من يتأثر بالنتائج الدنيوية أشد تأثيرا من مستوى العام بين الناس. لهذا تشمل ترغيبات و ترهيبات الإمام كلا الجانبين.
يرى الصادق محاسبة النفس طريقا إلى تكوين عاطفة أخلاقية تؤدي إلى الرغبة في الفضيلة و ترك الرذيلة باستمرار. «فمن عوامل الرقي في بناء الذات، النقد البناء و المحاسبة الذاتية و هو أساس كل حركة و وجودهما ضمانة أكيدة للبناء و التكامل الذاتي»(4) و لا بد للإنسان أن يكون ناقدا لنفسه يزن أعماله و سلوكه بميزان الحق و يميّز الحسن من السيئ منها، قال الإمام علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه: «ثمرة المحاسبة صلاح النفس»(5).
فالمراقبة هي الملاحظة الكاملة لكيفية الأعمال قبل صدورها، و المحاسبة هي دراسة نتائج الأعمال و آثارها بعد صدورها.
ص: 278
و من يراقب نفسه دائما، و لا يغفل عن عمله، فيبادر لاجتناب المعاصي و اجتثاث أثرها من روحه و قلبه قبل أن تتأصل جذورها في نفسه و تصير ملكة له تستقيم سيرته، و تزدهر حياته، و تثمر خيرا عميما.
و لذا شجع الإمام الصادق تلاميذه و مريديه على هذه المحاسبة الواعية، و جعلها واجبا عليهم، فقال: «حق على كل مسلم يعرفنا أن يعرض عمله في كل يوم و ليلة على نفسه، فيكون محاسب نفسه، فإن رأى حسنة استزاد منها، و إن رأى سيئة استغفر منها»(1).
و بيّن الصادق أن من أهمل محاسبة نفسه أو شك أن يكون عن الخيرات ساهيا و بالقبائح لاهيا فلا تؤثّر فيه مواعظ الآخرين، فقال: «من لم يجعل له من نفسه واعظا فإن مواعظ الناس لن تغني عنه شيئا»(2).
فهو يدعو لمراجعة الحسابات و الموازنة يوميّا استعدادا لمواجهة حساب الآخرة فقال: «إذا أويت إلى فراشك، فانظر ما سلكت في بطنك، و ما كسبت في يومك، و اذكر أنك ميّت، و أن لك معادا»(3).
على وفق هذه المحاسبة في كل يوم يرسم الصادق حقيقة الإنسان المؤمن خاصة و الإنسان عامة بقوله: «من استوي يوماه فهو مغبون. و من كان غده شرا من يومه فهو مفتون. و من لم يتفقد النقصان في نفسه دام نقصانه. و من دام نقصانه، فالموت خير له»(4).
هذه النظرة تؤدي إلى تكوين الرغبة في الخير و التقدّم في نفس الإنسان الذي يكون باستطاعته أن يحرّك و يوجه و يؤثر.
يرى الصادق أن التربية الخلقية لا تتم و لا تقوم لها قائمة، دون تربية قوة الإرادة، فهي من مبادئ التربية الخلقية في منهجه؛ لأن إرادة الإنسان هي المحرك الأول لقوة العمل و بقوة هذه الإرادة تكافح الغرائز و الميول و تبتدئ الفضيلة و يتم التوازن، فهي المبدأ الأساس في البناء الخلقي للمسلم، و لا يستطيع الإنسان أن يطبق المبادئ الأخلاقية في كل المواقف و الأحوال دون أن يملك قوة الإرادة.
فكثير من الناس يرون الاستقامة فضيلة، لكن لضعف إرادتهم في المواقف
ص: 279
الضاغطة و المثيرة لا يستطيعون التغلب على الشهوات و الأهواء، فكثيرا ما يعلمون الخير و يجتنبونه، و يعلمون الشر و يأتونه «فمعرفة الخير ليست كافية في الحمل على فعله، بل لا بد أن ينضم إليها إرادة قوية حتى يعمل على وفق ما علم»(1).
و نعني بالإرادة القوية، إرادة تنفذ ما قصدت إليه مهما كلفها من المشاق، و مظاهر قوة الإرادة هي الشجاعة في مواجهة الحياة و ألوانها المختلفة حلوها و مرها، و الثبات على المبادئ التي يؤمن بها و الاستمرار في تطبيقها مهما تكلفه من العناء و المشقة، أينما كان و حيثما وجد.
و قد جمع الإمام الصادق هذه المعاني كلها في كلمته البليغة: «ما ضعف بدن عما قويت عليه النية»(2).
أي إذا كانت إرادة الإنسان في نفسه قوية، فإنها تمنح الجسد قوّة بحيث يستطيع أن يقوم بما تنفتح عليه الإرادة و لو كان ضعيفا.
و قد عدّد في تعاليمه ما يدل على مزيد من الاهتمام بتكوين الشخصية القوية الإرادة، و منها تركيزه على الأمور التالية:
لا شك أن جهاد النفس هو من أعظم الأعمال التي يقوم بها الإنسان في حركته التكاملية، و قد جاء التعبير عنه في الحديث الصحيح المروي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بأنّه الجهاد الأكبر(3) و أهمية هذه الضابطة في جانبها الذاتي، إنما تنبع من تربية الإرادة الإنسانية و تقويتها. و لذلك يدعو الصادق إلى هذا الأمر بقوله:
«لا تدع النفس و هواها، فإن هواها رداها، و ترك النفس و ما تهوى أذاها و كف النفس عما تهوى دواؤها»(4).
و في تربية الإرادة أبان الصادق أن النفس و رغباتها و أهواءها عدو الإنسان، فحذّر الناس منها و أمرهم بكبحها و السيطرة عليها بقوله:
«إحذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم، فليس شيء أعدى للرجال من اتباع أهوائهم، و حصائد ألسنتهم»(5).
ص: 280
و المقصود أن الخضوع للأهواء و الانقياد التام للميول النفسانية يضعفان الإرادة الخيرة في الإنسان و ضعف الإرادة هو داعي الشقاء و الهلاك و منع النفس عن الهوى دواءها و علاجها.
التقوى من مادة الوقاية فهي قوة وجودية رادعة في نفس الإنسان، تمنحه سلوكا إراديّا خاصّا يصونه عن المعاصي و الرذائل و يرشده إلى طاعة اللّه.
و لما سئل الصادق عن تفسيرها قال: «التقوى أن لا يفقدك اللّه حيث أمرك و لا يراك حيث نهاك»(1).
يبدو أن التزام طاعة اللّه في كل ما أمر به و في ما نهى عنه من الوسائل الناجعة في تقوية الإرادة الإنسانية و لذلك لم يدع الإمام فرصة إلا و أوصى أهله و تلاميذه فيها بالتقوى؛ فما من خطبة أو وصية له إلاّ و يستهلّها بالحضّ على التقوى، و لا يميز في هذه النصيحة بين الصغير و الكبير و القريب و البعيد، فيوصي بها الناس عامتهم و خاصتهم، لأنها أساس كل فضيلة و تكمن فيها قوة الإرادة و ضبط النفس.
فعند ما قال أحد تلاميذ الإمام له: إني لا ألقاك إلا في السنين، فأخبرني شيئا آخذ به، فقال: «أوصيك بتقوى اللّه و الورع و الاجتهاد، و اعلم أنه لا ينفع اجتهاد لا ورع فيه»(2).
لقد سعى الإمام لتنمية قوة الإرادة لدى تلاميذه بتشجيعهم على الاجتهاد في طاعة اللّه و الاجتناب عن المحارم و تحمل الضغوط النفسية و عدم الاستسلام لها في هذا الطريق.
اهتم الصادق بتقوية عناصر الإيمان باللّه في نفوس أصحابه و تقوية ما يقتضيه الإيمان فيهم من الثقة باللّه، و صدق التوكل عليه، و حسن الظن به؛ لأنه «من الوسائل الجذرية لاكتساب فضيلة قوة الإرادة»(3) و هو ما أشار إليه الرسول الخاتم صلّى اللّه عليه و سلّم بقوله:
«من سرّه أن يكون أقوى الناس فليتوكل على اللّه»(4).
فقد حضّ الإمام تلاميذه على التوكل و الثقة باللّه و لفت أنظارهم إلى ظواهر هذه
ص: 281
الثقة السلوكية في حياة الإنسان، فقال: «من التوكل أ لا تخاف مع اللّه غيره»(1).
أي هذه الثقة المطلقة باللّه تهب الإنسان شجاعة واعية و متانة أعصاب بل رباطة جأش فائقة، لا يخالطها تردد و لا تلجلج. فالتوكل على اللّه سبحانه اتصال بسبب غير مغلوب البتة، و هو السبب الذي فوق كل سبب. «فعند ما يتجلى هذا المفهوم بمعناه الصحيح في واقع حياة الإنسان و على سلوكياته، فإنّ ذلك من شأنه أن يبعث على تقوية الإرادة و تحكيم دعائم المقاومة و الشجاعة»(2).
و هذا ما أشار إليه الصادق تشجيعا لتلاميذه: «من أعطي التوكل أعطي الكفاية، أ تلوت كتاب اللّه: وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ» (3).
و صوّر الإمام لنا شخصية المؤمن بالصفات التي تجسّد قوة إرادته، فقال ما نصّه: «المؤمن له قوة في دين، و حزم في لين، و ورع في رغبة، و صلاة في شغل، و صبر في شدة، وقور في الهزائز، صبور في المكاره... لا يفضحه بطنه و لا يغلبه فرجه...»(4).
و مما لا شك فيه أن هذه الصفات التي يعدّدها الإمام الصادق تمثل مظاهر لقوة الإرادة، فالمؤمن قوي في دينه، حازم في لينه، و إذا انطلقت رغباته فإنه لا يندفع معها بل إنه يعيش الورع، و هو يحفظ مواقيت الصلاة، و لا يسهو عنها مهما كان من شغل، و هو صابر عند الشدائد و المكاره، كما أنه مالك بطنه و فرجه، لا تسيطر عليه شهواته.
و لا تجد هذا كله إلا في الشخصية القوية الإرادة.1.
ص: 282
كما سبق و ذكرنا فإنّ المجال السلوكي من أهم المجالات التي اهتمت بها مدرسة الصادق؛ و لطالما اعتمد هذا الإمام المربي، أساليب تربوية متنوعة فيه، يسهم كلّ منها في بناء شخصية الإنسان المسلم بناء سويّا.
فهو يربّي المجتمع و يهديه و يعرّفه على واجباته بصور شتّى، و يعلّم الناس السلوك الخلقي بشكل مباشر و غير مباشر، قد تكون هذه الأساليب كلامية شفاهية أحيانا، و قد تكون عملية في أحيان أخرى، و قد تتبدى سلبية حينا، بينما تأتي إيجابية إصلاحية في حين آخر. و قد يلاحظ أنها عامة لكل الناس تارة و خاصة بتلاميذه تارة أخرى. و على العموم، فبالنظر إلى التنوع السلوكي و الطابع المركب للأساليب التربوية في سيرة الإمام، يمكن استخلاص أساليب مبتكرة و مؤثرة اتكأ عليها في مناهجه الخاصة بالتربية الأخلاقية. و فيما يلي إشارات إلى طائفة من هذه الأساليب:
ذكرنا في فصل سابق أن الأسلوب العملي من أكثر الأساليب التربوية تأثيرا، في هذا الأسلوب يتأثر الشخص بالسلوك القويم و الإيجابي الذي يشاهده من مربيه أو من قدوته الحسنة. و هو إذ يشاهد هذه التصرّفات العملية عيانا، فإنه يعي الرسالة التربوية الكامنة فيها.
لقد استخدم الإمام الصادق هذا الأسلوب في كثير من الأحيان، ضاربا صفحا عن الموعظة و الشرح المباشر للسلوك السليم، بعرض أبهى أشكال الخلق الإسلامي على نحو عملي و في الظرف المناسب، أمام الشخص الذي يروم تربيته؛ و ممّا أثير عنه في هذا الصدد ما رواه حمّاد البشير(1)، قال:
كنت عند عبد اللّه بن الحسن(2) و عنده أخوه الحسن بن الحسن فذكرنا أبا عبد
ص: 283
اللّه، فنال منه، فقمت من ذلك المجلس فأتيت أبا عبد اللّه ليلا فدخلت عليه و هو في فراشه... فخبرته بالمجلس الذي كنا فيه و ما يقول حسن. فقال يا جارية: ضعي لي ماء فأتى به فتوضأ و قام في مسجد بيته، فصلى ركعتين ثم قال: «يا رب إن فلانا أتاني بالذي أتاني عن الحسن و هو يظلمني و قد غفرت له، فلا تأخذه و لا تقايسه يا ربّ فلم يزل يلح في الدعاء على ربه ثم التفت إليّ فقال: انصرف رحمك اللّه، ثم زاره بعد ذلك»(1).
عند ما يسمع بعض الجهلة أحدا يغتاب صاحبا لهم ينقلون إليه الغيبة بدلا من أن يدافعوا عنه، ظانّين أنهم بهذا يقدّمون خدمة لصاحبهم من جهة بإطلاعه على ما يقال عنه، و يكشفون له، من جهة أخرى، مقدار ما يكنّونه له من حبّ و صداقة. و كذلك هنا ربما كان يجول في خاطر الراوي أنه وضع يده على كنز ثمين، و إذا ما سارع إلى نقل ما دار في مجلس عبد اللّه بن الحسن إلى الإمام فسيحمد له الإمام موقفه، و لكن الإمام اعتبر هذا العمل مثيرا للفتنة و من العيوب المعنوية، و السّيئات الأخلاقية، فقبّح فعل النّمام عمليّا.
فصلاة الإمام، و إعلان الصفح عمن ذكره بسوء عقيب الصلاة، كل ذلك، يبيّن بأن الإمام أراد أن يلقّنه درسا أخلاقيّا لن ينساه، و بهذا الخلق العالي قطع الإمام دابر الفتنة.
و نظير ذلك ما روي من كلام جدّه الإمام علي بن الحسين عند ما قيل له: «إن فلانا ينسبك إلى أنك ضالّ مبتدع». فقال له: «ما رعيت حقّ مجالسة الرّجل حيث نقلت إلينا حديثه، و لا أدّيت حقي حيث أبلغتني عن أخي ما لست أعلمه»(2).
إذا غدا المشرف التربوي في غمرة التعامل مع تلاميذه و الاتصال بهم شخصية مقبولة و محببة لديهم، بحيث لا يتقبّلون فقط اتباعه و احتذاء خطاه كأسوة لهم، بل و فوق ذلك يتواصلون معه تواصلا عاطفيّا عميقا، و ينظرون لرضاه القلبي عنهم كأمر على جانب كبير من الأهمية و الجد، عندئذ يستطيع المربي الانتفاع من هذه الرابطة القلبية لحثهم على الفضائل لينهلوا من معينها، و نهيهم عن الرذائل ليقلعوا عنها.
و بالنظر لما كان يتمتع به الإمام الصادق من منزلة عظيمة لدى تلاميذه، و ما يكنّه طلابه من حب و مودّة قلبية عميقة له، فقد استفاد الإمام من هذا الأسلوب بنحو واضح في عملية التربية الأخلاقية، حتى إنه في كثير من الأحيان يستعيض عن البيان الدارج
ص: 284
و المألوف لإيجابية الأعمال و فضائلها، بالإشارة إلى منزلة هذه الأعمال الحسنة في نفسه و أهميتها لديه و حبّه الغامر لها و لفاعلها. و هكذا، فإن تلاميذه فضلا عن تفطنهم إلى حسن ذلك الفعل، يتفاعل في نفوسهم الشوق إلى ممارسته نظرا لحبهم الحقيقي لأستاذهم. و مثال ذلك قوله رضي اللّه عنه:
«لئن آخذ خمسة دراهم و أدخل إلى سوقكم هذه، فأبتاع بها الطعام و أجمع نفرا من المسلمين أحبّ إليّ من أن أعتق نسمة»(1).
كما يقرّب لتلاميذه و مريديه حسن الصنيع و الإفضال ليحملهم على هذا العمل الجميل فيقول ما نصّه -:
«لأن أطعم مؤمنا محتاجا أحبّ إليّ من أن أزوره، و لأن أزوره أحبّ إليّ من أن أعتق عشر رقاب»(2).
و في المقابل، كان الإمام يستعيض أحيانا عن الإشارة المباشرة لقبح الفعل، بقبحه في نفسه و اشمئزازه منه فيعرب عن بغضه لذلك الفعل السيئ، بل قد يعتبر قيام تلاميذه بذلك العمل القبيح ظلما له هو، و استخفافا به أو باعث إزعاج له، فيثير بذلك انتباههم لسلبية الفعل، و يشعرهم بوجود صلة بين عملهم و استياء أستاذهم و مربيهم، عسى أن ينتقل هذا الانزعاج من الفعل المشين إليهم و لا يعاودوا اقترافه.
و مما روي في هذا الصدد، أن جماعة من أصحابه كانوا عنده، فقال: «ما لكم تستخفون بنا؟ فقام إليه رجل من أهل خراسان فقال: معاذ اللّه أن نستخف بكم أو بشيء من أمركم؟ فقال الإمام: إنك أحد من استخف بي فقال: معاذ اللّه أن أستخف بك؟ فقال الإمام: ويحك ألم تسمع فلانا و نحن بقرب الجحفة و هو يقول لك: احملني قدر ميل فقد و اللّه أعييت. فو اللّه ما رفعت له رأسا، لقد استخففت به، و من استخف بمؤمن فينا استخف، و ضيع حرمة اللّه عزّ و جلّ»(3).
يشدد الإمام هنا على أمر يثير بكل تأكيد حفيظة طلابه، و هو الاستخفاف بأستاذهم و مربيهم، ليشير لهم بذلك إلى قبح فعالهم و يدعوهم إلى العزوف عنها.
من أساليب التربية الأخلاقية، التعبير غير المباشر و الإشارة غير الصريحة، إلى حسن الأعمال أو قبحها، و التي تترك في أحيان كثيرة تأثيرا طويل الأمد في نفس
ص: 285
المتلقّي، إذ بالنظر للتعبير غير المباشر في هذا الأسلوب يضطر المتلقي للتفكير و التدقيق في الأمر و استخلاص النتائج الذهنية بنفسه حتى يتمكن بذلك من استيعاب مراد الأستاذ، الأمر الذي يكرّس التذكرة الأخلاقية في ذهنه لأمد طويل.
أضف إلى ذلك أن هذه الإشارة غير المباشرة إذا كانت تختص بخطأ أو زلة وقع فيها المتلقّي، فإن المربي سيشير من خلالها إلى الخطأ و ينتقده، حافظا للمتلقي في الوقت ذاته كرامته الإنسانية و مبتعدا عن الحط من شأنه بسبب الفعل السيئ الذي صدر عنه. لذلك يترسّخ هذا التذكير في ذهن الفرد بسرور أكبر (مقارنة بالنقد الصريح) و يدركه بحلاوة أوفر و يحاول أن لا ينساه؛ و مثال ذلك ما صنعه الإمام الصادق مستخدما هذا الأسلوب بصورة رائعة لتذكير أحد محبيه في الحادثة التالية:
كان رجل يعيش في عصر الإمام الصادق و على الرغم من أنه كان يعتبر نفسه من محبّي أهل البيت، إلاّ أنه كان يشرب الخمر، ملوّثا نفسه بهذا الإثم الكبير، التقاه الإمام يوما مصادفة في زقاق منفردا. فانتهز الفرصة لكي ينتقده على ارتكاب هذا المنكر، و يحمله على الإقلاع عنه، فقال له:
«إن الحسن من كل أحد حسن، و إنه منك أحسن لمكانك منا، و إن القبيح من كل أحد قبيح، و إنه منك أقبح»(1).
و بهذا الأسلوب الرائع لم يجعله للإمام هدفا مباشرا للانتقاد، و لم يحتقره بلومه، بل أكّد احترامه له بسبب مودته لأهل البيت و أشار إلى فضله على غيره، و نوّه بأعماله الحسنة و السيئة على صعيد واحد، منتقدا شربه الخمر من دون أن يصرّح بذلك مباشرة، بلّ لمح إلى ذلك تلميحا. فإن لمثل هذا النوع من الانتقاد تأثيرا في الناس الواعين أعمق بكثير من الانتقاد المباشر الصريح.
ليس من الضروري أن تكون ردود الفعل حيال الأخطاء شفهية كلامية، إنما يمكن التعبير عن عدم الرضى بتغييرات في السلوك و الأحوال. و يبدو أن الإمام الصادق كان يصرّ أحيانا على ردود الفعل السلوكية في تربيته الأخلاقية، رغم أن استخدام الأسلوب الكلامي كان متاحا له أيضا.
و ربما كان مرد هذا الإصرار إلى أن تأثيرات ردود الفعل السلوكية أعمق و أنفذ نقدا و أكثر دواما إذا ما قورنت بالأسلوب الكلامي، فهي تحض المتلقي على التفكير و التدبر من ناحية، و تعبر من ناحية ثانية عن المعتقد القلبي الراسخ لدى المربي.
ص: 286
أضف إلى ذلك أن ردود الفعل السلوكية تعد ضربا من التذكير غير المباشر لا يشتمل على الأضرار و الأعراض السلبية للتوجيهات اللفظية المباشرة. طبعا، يمكن أن تكون ردود الأفعال السلوكية مؤثرة حينما يكون المتلقي على معرفة بالنمط السلوكي للمربي و مدلولاته، فيشعر بأقل تغيير يطرأ على سلوكه و يحاول أن يكتشف أسبابه، من هنا يمكننا القول أن الإمام كان يستخدم هذا الأسلوب أكثر ما يستخدمه في تربية تلاميذه و خواصه كما قال إسحاق بن عمار(1): دخلت علي أبي عبد اللّه الصادق. فنظر إليّ بوجه قاطب، فقلت: ما الذي غيّرك عليّ؟: قال: «الذي غيّرك لإخوانك، بلغني يا إسحاق أنك أقعدت ببابك بوّابا يردّ عنك الفقراء. فقلت: جعلت فداك إني خفت الشهرة. فقال: «أ لا خفت البلية»(2).
كان بوسع الإمام أن يذكر إسحاقا بأخطائه منذ البداية و بصراحة، و يمنعه عن هذا الفعل الذي أتاه، بيد أنه لم يتصرف بهذه الطريقة، إنما أراد أن يدفع به إلى التفكير في فعلته عبر التحوّل الذي يلاحظه في سلوك الإمام معه و لو من خلال نظرة غاضبة، فيسأل عن سبب هذا التحوّل و يكون بذلك مستعدّا لسماع كلام الإمام.
بالإضافة إلى ذلك يذكر الإمام أن تغيّر سلوكه مع تلميذه إسحاق هو حصيلة تغيّر سلوك إسحاق مع إخوانه في الدين، ليشير بذلك إلى قبح هذا الفعل و يؤكد - في الوقت نفسه - على أهمية و خطر هذه المسألة بالنسبة إليه.
لا ريب أن المربي الناجح يتحرّى دوما الفرص المناسبة و المؤثرة لعرض الشذرات التربوية و الأخلاقية اللازمة. فالتذكير الأخلاقي يؤثر في المتلقي بأفضل صورة ممكنة حينما يقترن بالمصاديق و المناسبات الخاصة و يرتبط بشؤون الحياة الفردية.
و كان الإمام الصادق يولي أهمية بالغة لهذا الجانب، و يستثمر كل فرصة مناسبة لمعالجة المشكلات الأخلاقية في المجتمع الإسلامي آنذاك. و حيث إنه كان يعتقد أن أي سلوك أو قول له جذوره في تفكير الفاعل و رواه العامة، فقد حاول إصلاح أفكار تلاميذه و رؤاهم و ملاءمتها مع أسس التفكير القرآني وصولا إلى إصلاح سلوكهم و أقوالهم.
و في هذا السياق رويت عنه أحداث عديدة تتعلق بصدور بعض الأقوال و التصرفات المجافية للأدب الإسلامي عن بعض الناس في حضوره، و كيف كان رضي
ص: 287
اللّه عنه يسارع من فوره لتصحيح ذلك السلوك أو القول شارحا جذوره، ليكون بذلك قد وجّه الشخص المخطئ و الآخرين في إطار ذلك الموقف و في حدود تلك المناسبة حتى يصلح الفرد من سلوكه، و لا يفهم من صمت الإمام و عدم اكتراثه - إزاء بعض المواقف - تأييده لذلك السلوك فيما يشبه الإمضاء و التكريس و من الأمثلة على ذلك ما روي أن رجلا من أهل السواد كان يلزم جعفر الصادق، فافتقده فسأل عنه، فقال له رجل أن ينتقصه: إنه نبطي، فقال جعفر فورا: «أصل الرجل عقله، و حسبه دينه، و كرمه تقواه و الناس في آدم مستوون»(1).
و قد وجد الإمام الفرصة هنا مناسبة، فبادر من فوره إلى تصحيح هذه المفاهيم الخاطئة عند الرجل مذكرا الناس بالمعيار القرآني العام يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ (2).
و لم يرض الإمام أن يتفاضل الأفراد في الأمة الإسلامية الواحدة بأجناسهم و أصولهم و أحسابهم و أنسابهم، علما بأن الإسلام قد قوّض دعائم العصبيّة، و لم يؤل جهدا في سبيل إزالة هذا التفاضل.
حيث إن لسلوكيات الإنسان أبعادا و آثارا مختلفة، لذا سيكون سلوك الإنسان أصح و أنضج، كلما كان له رؤية أوسع و إحاطة أكبر بتلك الأبعاد و الوجوه.
من الخصائص المهمة للمربي أن يستطيع التفطن إلى نتائج العمل من جوانبه المختلفة. و من شأن هذه السمة عند المربي أن تفسح المجال أمام التلاميذ للرؤيه أرحب و للوقوف على الآثار الناتجة عن سلوكهم و ممارساتهم، فيتنبهون إلى كافة التفاصيل الجلية و الخفية للعمل و تأثيراته اللاحقة. و هكذا تتوافر لديهم قدرات أدق و أفضل على تمييز الأفعال الحسنة و القبيحة.
لقد أولى الإمام الصادق هذه النقطة اهتماما كبيرا في تربية طلابه أخلاقيّا، فشرح لهم في حالات عديدة الأبعاد المنسية و الآثار الخفية لأعمالهم و ممارساتهم، و قد روي في هذا الصدد عن أحد تلاميذه أنه قال: كنا في نحو عشرين نفرا عزمنا على الحجّ إلى بيت اللّه الحرام على أساس الاشتراك في نفقات السفر، و كنت أذبح لهم شاة في كل منزل ننزل فيه، و في يوم، و نحن في السفر، زرت الإمام الصادق فقال لي: «أ تذلّ المؤمنين؟» قلت: أعوذ باللّه من ذلك. فقال: «بلغني أنّك كنت تذبح لهم في كل منزل شاة». فقلت: يا مولاي: و اللّه ما أردت بذلك غير وجه اللّه تعالى: فقال: «أما
ص: 288
كنت ترى أن فيهم من يحبّ أن يفعل مثل أفعالك فلا يبلغ مقدرته ذلك، فتتقاصر إليه نفسه؟». قلت: يا ابن رسول اللّه، أستغفر اللّه و لا أعود»(1).
لم يكن هذا المرء يرى من عمله سوى قري رفاق سفره، دون أن ينتبه لما في ذلك من إهانة و تحقير للآخرين، فبيّن له الإمام الصادق الجانب الخفيّ من وراء عمله فتنبّه الرجل إلى ذلك فورا، و لم يعد لمثله.
لم ينظر الإمام الصادق في منهاجه التربوي للحاجات الروحية و الأخلاقية لدى الأفراد فحسب، إنما كان يرى أن كثيرا من التنبيهات الأخلاقية لا تؤثر في المتلقّين إلاّ حينما يجري الاهتمام أيضأ بحاجاتهم المادية و مشكلاتهم. و قد أخذت هذه النقطة الدقيقة في سيرة الإمام بالاعتبار؛ و ترى صدى له في علم النفس الحديث، فنظرية «الحاجات الإنسانية»(2) في العلم المعاصر تشير إلى هذا الجانب، و هو أن لدى معظم الأفراد سلسلة من الحاجات المادية ينبغي أن تشخّص و تولى الأهمية المناسبة، بحسب تراتبية أولويتها، و لا شك أن الاحتياجات المالية و المعيشية للأفراد من جملة متطلباتهم الأولية، و قد ركّز الإمام اهتمامه على هذه القضية بوصفه مربّ حاذق متعمق حتى يمهد الأرضية المناسبة لتأثير مواعظه الأخلاقية.
روي في هذا الصدد أن المفضل بن قيس(3) دخل على الصادق يوما يسأله الدعاء، يقول المفضل: «فشكوت إليه بعض حالي و سألته الدعاء فقال: يا جارية هاتي الكيس... فقال: «هذا كيس فيه أربعمائة دينار فاستعن بها». قلت: ما أردت هذا الكيس، و لكن أردت الدعاء لي. قال: «و لا أدع الدعاء لك. و لكن لا تخبر الناس بكل ما أنت فيه فتهون عليهم»(4).
ص: 289
هكذا تتابع منه العطاء غير المطلوب، و الدعاء المطلوب، و النصح الواجب. فهو معلم في الحقيقة. أعطى فأغنى. ثم نصح، ليقبل النصح منه. و الأعمال أعلى صوتا من الأقوال.
إن حسن بعض السلوكيات أو قبحها لا يكفي لإقناع الشخص باتباع أحسنها، لذلك تبدو الحاجة ملحّة للاستعانة بالمؤثرات الخارجية إلى جانب الحوافز الداخلية لحضّ الشخص على إتيان الجميل و تحاشي القبيح.
و بسبب العواقب الوخيمة لمثل هذه الأمور، لم يكن الإمام الصادق ليكتفي بإقناع المتلقّي، إنما يبادر إلى الأمر و النهي بشكل جاد، مضيفا لإشاراته المختصرة إلى أسباب أوامره و نواهيه. و هكذا فالأمر و النهي المباشران في بعض الحالات يعدان أسلوبا تربويّا من أساليب الإمام.
على سبيل المثال استخدم الإمام هذا الأسلوب فيما يتعلق بحقوق الأم، التي تعدّ طبقا لمبادئ التربية الإسلامية ذات بركات و خيرات جمّة، بينما يؤدي التماهي فيها إلى عواقب وخيمة، فقد روي في هذا الصّدد أن رجلا وقع بينه و بين أمه كلام، فأغلظ لها، فلما دخل عليه من الغد، و كان الإمام قد علم بصنيعه مع أمّه ابتدأه قائلا: «ما لك و أمّك، أغلظت في كلامها البارحة، أما علمت أن بطنها منزل قد سكنته، و أن حجرها مهد قد عمرته، و أن ثديها وعاء قد شربته؟ قال: بلى. قال: فلا تغلظ لها»(1). فالإمام يوصي بالأم معددا جهودها و فضلها على الأبناء باختصار ثم نهى مباشرة عن ترك حقوقها.
ص: 290
المبحث الثاني البناء الاجتماعي
- تنمية روح التعلق بالمجتمع
- تنمية الشعور بالمسؤولية في المجتمع
- مبادئ التربية الاجتماعية في مدرسة الصادق
ص: 291
ص: 292
الإنسان كائن اجتماعي استخلفه اللّه تعالى في الأرض، و كان من سنة اللّه في خلقه أن جعل الإنسان محدود القدرة و الإمكانات بحيث لا تستقيم حياته إلا إذا عاش مع الجماعة، فهو في حاجة دائمة إلى الأقران و الرفاق و الأسرة و المجتمع، و على هذا فإن الاجتماع الإنساني ضروري، و يعبر الحكماء عن هذا بقولهم: «الإنسان مدني بالطبع أي لا بدّ له من الاجتماع»(1).
فاختلاف قدرات الناس و مواهبهم و ذكائهم و خبراتهم و سائر إمكاناتهم النفسية و الجسدية من ناحية، ثم تنوع الحاجات الضرورية الملبية لرغبات البشر المختلفة من ناحية أخرى هو الذي أدى إلى ضرورة استعانة أفراد المجتمع بعضهم ببعض و معنى قوله تعالى: لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا (2). أي التعاون و تبادل الخدمات و الأعمال و المنافع، فالكل مسخر لخدمة الكل(3). و قد قال الإمام الصادق: «إنه لا بد لكم من الناس، إن أحدا لا يستغني عن الناس في حياته، و الناس لا بدّ لبعضهم من بعض»(4).
و بناء على ذلك، فالحياة الاجتماعية هدفها تلبية المتطلبات المادية و المعنوية لأفراد المجتمع. و لأن الإسلام دين اجتماعي و «التربية هي في أصلها مهمّة اجتماعية»(5)، فإن التربية الاجتماعية في الإسلام تسعى إلى إنشاء المجتمع الصالح «و لا تتوقف عند إعداد الأفراد المؤمنين، و إنما تتخذ من هذا الإعداد وسيلة لهدف آخر هو إخراج أمة المؤمنين التي يتلاحم أفرادها عبر شبكة من الروابط الاجتماعية»(6).
و هذه التربية ترمي إلى وضع نظام تربوي اجتماعي قادر على أن يخلص المجتمع من
ص: 293
كل عيوبه و انحرافاته و أن يهيّئ الناس ليتعارفوا و يتفاهموا و يتآلفوا و يأتمروا فيما بينهم بالمعروف و يتناهوا عن المنكر و يتعاونوا على البرّ و التقوى.
و هكذا المجتمع الذي يريد الإسلام بناءه هو خير مجتمع أو خير أمّة، على حد تعبير القرآن الكريم و لهذا قال تعالى:
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ (1) .
و من هنا فقد كان الإمام الصادق في منهجه التربوي حريصا على بناء العلاقات الاجتماعية السليمة بين الأفراد، على أساس قوي من الالتزام النابع من نفوسهم، و المستمد من القيم الأخلاقية في الإسلام، و التي تحدد حقوقهم و واجباتهم و مسؤولياتهم تجاه بعضهم البعض، و ممّا يؤكد اهتمام مدرسته بالتربية الاجتماعية، ذلك الحرص البالغ بإسناد المسؤولية إلى كل فرد في المجتمع الإسلامي نحو الآخرين.
فهو يريد بناء المجتمع الخيّر الذي يتميز بقوة البنيان و ترابط الأطراف و الاستقرار و الهدوء، و الذي تسود بين أفراده المودة و الرحمة، و التواصي بالحق و لا يكون بينهم العداء و النزاع. لذا نجده قد أولى اهتماما بالغا لاكتساب الأفراد الآداب الاجتماعية التي تقوي ترابطهم و تمتّن تعاطفهم و ترسخ تكافلهم، فتجعل منهم أسرة واحدة يظلّلها الوئام و المودة و الأمن، و ترفرف عليها السعادة و الطمأنينة.0.
ص: 294
لطالما عمل الإمام الصادق في منهجه على تنمية المشاعر الجماعية و زرع الحسّ الاجتماعي في الفرد. فهو يرى ضرورة المخالطة و التوسّع في العلاقات في مقابل الانطواء و العزلة و الرهبنة، حيث يتجه إلى تأكيد الفطرة الإنسانية و توجيهها نحو الكمال من جهة، و تنمية العقل بالمعاشرة مع الآخرين من جهة أخرى، فيقول ما نصّه:
«مجاملة الناس ثلث العقل»(1).
و هذا طبيعي، إذ إن الإنسان في كنف المجتمع سيحصل على خواصّه الإنسانية التي كانت تنقصه. و المجتمع يؤدي وظيفة حيويّة بالنسبة إلى الإنسان في تزايد عقله و كثرة تجاربه حيث لا تتكامل شخصية الإنسان، و لا تنمو أبعادها المختلفة بدونه، إضافة إلى أنّ روح الجماعة تجعل الإنسان مرآة صافية يرى من خلالها نقاط ضعفه، فيسعى للقضاء عليها حتى يتمكن من أداء دور المصلح لذاته.
و قد أشار الإمام الغزالي إلى هذا المعنى في مثاله قائلا:
«مثال القلب المشحون بالخبائث مثال دمل ممتلئ بالصديد و المدة. و قد لا يحسّ صاحبه بألمه ما لم يتحرّك أو يمسّه غيره فإن لم يكن له يد تمسه أو عين تبصر صورته و لم يكن من يحرّكه ربما ظنّ بنفسه السلامة و لم يشعر بالدمل في نفسه و اعتقد فقده.
و لكن لو حرّكه محرّك أو أصابه مشرط حجام لانفجر منه الصديد و فار فوران الشيء المختنق إذا حبس عن الاسترسال، فكذلك القلب المشحون بالحقد و البخل و الحسد و الغضب و سائر الأخلاق الذميمة إنّما تنفجر من خبائثه إذا حرّك»(2).
فالإنسان يختبر أخلاقه و صفات باطنه عن طريق المعاشرة؛ فهو لا يقدر على خوض هذه التجربة في العزلة.
من هنا نرى أن التربية على تماسك الجماعة ظاهرة جليّة في تعاليم الإمام في مثل قوله: «عليكم بالصلاة في المساجد و حسن الجوار للناس و إقامة الشهادة و حضور الجنائز. إنّه لا بدّ لكم من الناس...»(3).
ص: 295
كما بيّن في المقابل أن النتائج السلبية للعزلة تنعكس على الفرد نفسه فقال:
«من كفّ يده عن الناس فإنّما يكفّ عنهم يدا واحدة و يكفّون عنه أيدي كثيرة»(1).
و قد حث الإمام تلاميذه على الإكثار من الأصدقاء، متابعا عملية غرس الروح الجماعية في نفوسهم، فقال: «من لم يرغب في الاستكثار من الإخوان ابتلي بالخسران»(2). و تابع نصحه و إرشاده لمحبيه و مريديه، مشددا على أهمية هذا الأمر في الدنيا و الآخرة فقال ما نصّه: «أكثروا من الأصدقاء في الدنيا فإنّهم ينفعون في الدنيا و الآخرة، أما في الدنيا فحوائج يقومون بها، و أما في الآخرة فإن أهل جهنم قالوا:
فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ * وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ» (3) .
إنّ إشارة النص إلى أنّ ظاهرة الصداقة مرتبطة بحوائج الدنيا تعني: أنّ الصداقة مظهر من مظاهر الحاجة إلى الانتماء الاجتماعي.
و كذلك جاء حث الإمام على اندماج الأفراد في المجتمع ذلك الاندماج الإيجابي الذي ينتهي لصالح الاثنين؛ الفرد و المجتمع في آن واحد، كما حذّر في الوقت نفسه من الانسياق السلبي مع المجتمع غير المسؤول، فقال:
«إياكم و عشرة الملوك و أبناء الدنيا ففي ذلك ذهاب دينكم و يعقبكم نفاقا، و ذلك داء رديء لا شفاء له، و يورث قساوة القلب و يسلبكم الخشوع. و عليكم بالأشكال من الناس(4) و الأوساط من الناس فعندهم تجدون معادن الجواهر»(5).
فالإمام يبيّن الخطوط الفكرية العامة التي توجّه مسيرة العلاقات الاجتماعية باتجاه التكامل الذاتي في حركة الفرد و المجتمع.5.
ص: 296
ذكرنا بأن تعاليم الإمام الصادق تؤكد على ضرورة التماسك الاجتماعي، و الابتعاد عن العوامل التي تضعف هذا التماسك. و لما كانت صفة المسؤولية الاجتماعية هي التعبير عن الاهتمام بالآخرين، و هي المظهر الخارجي للحركة الداخلية في شخصية المسلم، فقد حرص الإمام على تربية أفراد المجتمع على يقظة الشعور بالمسؤولية في مختلف مرافقه، و هذا يتوافق مع ما ورد في الآيات القرآنية و الأحاديث النبوية، و كانت دوائر المسؤولية الاجتماعية تتسع لتشمل المجتمع كلّه على النحو الذي عبّر عنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في قوله:
«كلكم راع و كلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع و مسؤول عن رعيته، و الرجل راع في أهله و مسؤول عن رعيته، و المرآة راعية في بيت زوجها و مسؤولة عن رعيتها، و الخادم راع في مال سيده و مسؤول عن رعيته، و كلكم راع و مسؤول عن رعيته»(1).
من هنا فقد اهتمّ الإمام الصادق بهذه الدوائر انطلاقا من الأسرة - الخلية الأولى في المجتمع - ثم الأقارب و الأرحام، ثم الجيران و الأصدقاء و انتهاء بالمجتمع كله.
و نقف الآن وقفات قصيرة و سريعة لاستعراض ما قرّره الصادق للمسلم من مسؤوليات في دائرة العلاقات الخاصة و العامة و هي كما يلي:
أكّد الصادق على مبدأ الأولوية في دائرة العلاقات الاجتماعية منطلقا من القرآن الكريم؛ لأن العلاقات بين أبناء المجتمع ليست بمستوى واحد، إذ هناك أشخاص تتشابك معيشتهم ليلا و نهارا و يستمر تواصلهم في جميع أبعاد و شؤون الحياة، كما يوجد أشخاص لا تبلغ علاقاتهم هذا المستوى حيث يتم الاتصال بينهم أسبوعيّا أو شهريّا لا أكثر.
إذن، فهذه العلاقات ذات شدة و ضعف و فوارق عميقة، فتختلف مسؤولية الفرد تجاه كل فرد في المجتمع حسب درجة التباعد و التقارب و الاتصال و القرابة بينهم. و هنا يطرح مبدأ الأولوية كما يقول اللّه تعالى في كتابه العزيز: وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي
ص: 297
كِتابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (1) . مؤكدا على هذا المبدأ، و مشيرا إلى أن الأرحام و الأقارب أيضا ليسوا متكافئين، حيث يرجّح بعضهم على بعض آخر، لدرجة أن الجار القريب قد منحه الإسلام حقوقا ليست للجار البعيد.
و قد تبلور اهتمام الإمام الصادق بمبدأ الأولوية في تربيته الاجتماعية، و ذلك من خلال دعوة تلاميذه إلى الشعور بالمسؤولية في دائرة العلاقات الخاصة، على الصورة التالية:
أكّد الإمام الصادق على فعالية دور الأسرة في ترسيخ القيم و الأخلاق؛ لأن الأسرة هي قوام المجتمع و عموده الأساس الذي ترتكز عليه، و العلاقة بين الأسرة و المجتمع علاقة الجزء بالكل «و لا يستطيع المجتمع أن يجد بديلا عن الأسرة ليحترم قيمه و معاييره حتى لو كان حافلا بالمفكرين و العلماء الذين يرسمون هذه الدعائم النظرية، و ذلك لعجز هؤلاء جميعا عن تثبيت هذه القيم في الناس أو المحافظة عليها لأن ذلك شأن الأسرة وحدها»(2)، فهي المجتمع الأول الذي يستقي منه الأبناء القيم و الأخلاق و العادات.
و تتنوع العلاقات في إطار الأسرة، و نذكر منها: علاقة الزوج بالزوجة، و علاقة الوالدين بالأبناء و العكس.
و على هذا الأساس رسم الصادق بعض الخطوط العريضة التي يجب أن تحكم العلاقات بين أفراد العائلة الواحدة كما يلي:
من الثابت أن السعادة الزوجية لا تتحقق للزوجين إلاّ برعاية كل منهما حقوق الآخر و أداء واجباته التي جعلها اللّه تعالى أساسا لهذه العلاقة. و قد اعتبر الإمام أن توفير الجو العاطفي داخل البيت، و حسن العشرة بين الزوجين التي عبر عنها القرآن الكريم بالمودّة و الرحمة، ستؤدي حتما إلى أن يراعي كلا الطرفين حقوق كل منهما و واجباته، فقال:
«لا غنى بالزوج عن ثلاثة، فيما بينه و بين زوجته: الموافقة ليجلب بها موافقتها و صحبتها و هواها، و حسن خلقه معها و استعماله استمالة قلبها بالهيئة الحسنة، و توسعته
ص: 298
عليها، و لا غنى للزوجة فيما بينها و بين زوجها عن ثلاث خصال:
صيانة نفسها من كل دنس حتى يطمئن قلبه إلى الثقة في حال المحبوب و المكروه، و حياطته ليكون ذلك عاطفا عليها عند زلة تكون منها، و إظهار العشق بالخلابة و الهيئة الحسنة لها في عينه»(1).
و ترى الإمام يركّز على ما يجب على الرجل من إحسان العشرة بالسلوك الرفيع و الإنفاق اللازم و احترام الذات فيقول: «إن المرء يحتاج في منزله و عياله إلى ثلاث خصال يتكلفها، و إن لم يكن في طبعه ذلك: معاشرة جميلة، وسعة بتقدير، و غيرة بتحصين»(2).
و تعبير الإمام بقوله: «و إن لم يكن في طبعه ذلك»، يدلّ على ضرورة وجود مثل هذه الخصال في ممارسات الزوجين خلال حياتهما المشتركة، و إن ألزم كلّ منهما نفسه بممارستها دون قناعة راسخة؛ لأنها ستدعم أسس هذه الحياة بين الشريكين فتنعكس سعادتهما و صلاحهما على المجتمع بأكمله.
هذه العلاقة تشكل الشطر الآخر من العلاقة داخل العائلة الواحدة، و هي مهمة في بناء العائلة بناء سليما. و عند ما يحسن الوالدان التعامل مع أولادهما، و يحسن بالمقابل الأولاد التعامل مع والديهم، فإن الحياة العائلية تغدو سليمة و تؤمّن للأطفال تربية صحية و نموا روحيّا و جسميّا سليما، كما تزرع بين أفرادها بذور المودة و الرحمة، و تقوي أواصر التعاون و المحبة.
و يوجّه الإمام الصادق تلاميذه لبناء علاقة سليمة في جوّ العائلة، و يدعوهم إلى تأدية واجباتهم تجاه والديهم، بأن يقدّروا فضلهم و عظيم إحسانهم، و يجازوهم بما يستحقون من الرعاية و التكريم، كما فرض في «صفات الشريف أن يقوم من مجلسه لأبيه»(3)، و قال لأحد تلاميذه في تفسير قول اللّه تعالى: وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً (4)«الإحسان أن تحسن صحبتهما و أن لا تكلفهما أن يسألاك شيئا ممّا يحتاجان إليه و إن كانا مستغنيين... فلا تمل عينيك من النظر إليهما إلاّ برحمة و رقّة، و لا ترفع صوتك فوق أصواتهما، و لا يدك فوق أيديهما، و لا تقدّم قدّامهما»(5).
ص: 299
فهو يؤكّد على الإحسان بالوالدين خاصة عند عجزهما و شدة احتياجهما إلى الرعاية و البرّ، قال أحد تلاميذ الإمام قلت لأبي عبد اللّه: إنّ أبي قد كبر جدا و ضعف، فنحن نحمله إذا أراد الحاجة. فقال: «إن استطعت أن تلي ذلك منه فافعل، و لقمه بيدك، فإنّه جنّة(1) لك غدا»(2).
و على صعيد آخر يرى الإمام أن حاجة الأولاد إلى المودة و الرحمة من والديهم لا تقل عن حاجتهم إلى الغذاء و الحركة.
و إن لهذا التعامل الرحيم من قبل الأهل تحديدا تأثيرا كبيرا في تكامل شخصية الأبناء، كما أن فقدان هذه المودة يؤدي إلى انحراف سلوكي و أخلاقي كبيرين في هؤلاء الأبناء الذين يشكلون شريحة كبيرة و أساسية من شرائح المجتمع.
و من ثم أكد على توافر المحبة في علاقة الوالدين مع أبنائهم بقوله:
«إن اللّه عزّ و جلّ ليرحم الرجل لشدة حبه لولده»(3) كما أوصى بضرورة احترام الأبناء و تكريمهم، و لا سيما خلال فترة مرورهم بفترة المراهقة، فيقول:
«دع ابنك يلعب سبع سنين و يؤدب سبع سنين، و الزمه نفسك سبع سنين»(4).
و إنّ خطاب الإمام لكل أب بعبارة «الزم نفسك» تدلّ على أهمية احترام الفتى و تقديره و التقرب إليه و مصادقته، و قد أولى الإمام تربية الفتيات رعاية خاصة و مميزة فقال لأحد تلامذته و قد رزقه اللّه بابنة فسخطها:
«بلغني أنه ولد لك ابنة فتسخطّها و ما عليك منها، ريحانة تشمّها و قد كفيت رزقها و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أبا بنات»(5).
و لطالما ركّز الإمام على مسؤولية الوالدين تجاه تربية أولادهم في مثل قوله:
«إنّ خير ما ورّث الآباء لأبنائهم الأدب لا المال، فإن المال يذهب و الأدب يبقى»(6).
إن مواصلة الأهل و الأقرباء و السعي لتعزيز هذه العلاقة و تدعيمها، يدخل في إطار
ص: 300
الشعور بالمسؤولية الاجتماعية، و على كل فرد إعطاء الأولوية لهذه العلاقة و جعلها مميزة و عميقة. «و هذا التعامل الخاص ينطلق من بعد إنساني باعتبار الرابطة النسبية التي تعني امتدادا للإنسان في وجوده و حركته يدركها و يحس بها إحساسا فطريّا»(1).
و قد بذل الإمام جهده في تمتين خيوط هذه الشبكة من العلاقات المحيطة بالإنسان، و التي تقوم بدور كبير في حماية الفرد وسط مشكلات الحياة و متاعبها، كما بيّن أهمية صلة الرحم التي أشار إليها الخالق في كتابه العزيز: وَ اتَّقُوا اللّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ الْأَرْحامَ إِنَّ اللّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (2)، فقال الإمام: «هي أرحام الناس، إنّ اللّه أمر بصلتها و عظّمها، أ لا ترى أنه قرنها بنفسه»(3).
و لطالما أكّد الصادق على أن حقّ الرحم لا يقطعه شيء فحذر من قطع هذه الوشيجة التي أقامها اللّه بين الناس، إذ جاء إليه رجل فشكا أقاربه، فقال: «أكظم غيظهم». فقال الرجل: إنهم يفعلون و يفعلون. فقال الإمام: «أ تريد أن تكون مثلهم فلا ينظر اللّه إليكم!!»(4).
فتراه بنصيحة هذا يدفع الناس إلى فضيلة صلة الرحم عند القطيعة، و ذلك حرصا على بقاء هذه العلاقات و استمرارها. و قد آمن الإمام نفسه بهذه العقيدة و عمل بها و ضرب المثل الأعلى في ذلك على نحو ورد في مرض وفاته أنه قال:
«أعطوا الحسن بن علي بن علي بن الحسين و هو الأفطس سبعين دينارا، و أعطوا فلانا كذا و فلانا كذا، فقيل له: أ تعطي رجلا حمل عليك بالشفرة يريد أن يقتلك؟ قال: تريدون أن لا أكون من الذين قال اللّه عزّ و جلّ: وَ الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (5)، إنّ اللّه خلق الجنة فطيّبها و طيّب ريحها، و إنّ ريحها ليوجد من مسيرة ألفي عام فلا يجد ريحها عاق و لا قاطع رحم»(6).
يحتل الجيران و طريقة التعامل فيما بينهم حيزا كبيرا و موقعا خاصّا في دائرة العلاقات الاجتماعية المتنوعة حيث يشكل المتجاورون جماعة متراصة، متعاطفة، يراد
ص: 301
منها تحقيق التعاون لإيجاد بنية اجتماعية سليمة و قوية من خلال الموقع الجغرافي المميز و المشترك، ما يجعلهم يستشعرون الدّعة و القوة التي يحتاجونها في مواجهة ما يعترضهم من مشاكل و أحداث و معاناة.
و قد أخذت هذه العلاقات حيّزا لا بأس به في فكر الإمام الصادق، حيث تكرّرت توصية الإمام بالجار في مواطن كثيرة حتى إنه نعى على تاركي هذه التوصية بقوله:
«أما يستحي الرجل منكم أن يعرف جاره حقّه و لا يعرف حق جاره»(1). بل إنه أخرج من دائرة تلاميذه من لم يلتزم بحسن الجوار، فقال: «و ليس منا من لم يحسن مجاورة من جاوره»(2).
و من صور العلاقات الاجتماعية المهمة، تلك التي تعنى بعلاقة الإنسان مع من حوله من المعارف و الأصدقاء. و قد ورد عن الإمام علي (كرم اللّه وجهه): «عليك بإخوان الصدق فأكثر من اكتسابهم فإنهم عدّة في الرخاء و جنّة في البلاء»(3).
و الصداقة في مفهومها الإسلامي ليست هذه التي بين عامة الناس من المجاملة و الصحبة القائمة على أساس المنفعة و المصلحة. فقد نرى كثيرا من الناس يشكون تنكّر الأصدقاء لهم و جفاءهم الذي قد يدفعهم إليه جهلهم بواقع الصداقة و الأصدقاء و عدم التمييز، و عدم قدرة هؤلاء الذين يشكون على التمييز بين الأصدقاء الحقيقيين و الأصدقاء المزيّفين. فالصداقة إنما هي من الصدق في الصحبة، و تقوم على أساس التصافي و التحابّ في التعامل، و إن لها الكثير من الحقوق العظيمة، على ندرة توافرها في العلاقات السائدة بين الناس.
و قد أوضح الإمام الصادق واقع الأصدقاء و أبعاد صداقاتهم، و جعل لها شروطا تمنى على الناس التزامها و تطبيقها، و اعتبر أن الذين لا يلتزمون بهذه الشروط أو بعضها على الأقل غير أهل لأن يكونوا أصدقاء بكل ما في الكلمة من معنى، فقال:
«الصداقة محدودة و من لم تكن فيه تلك الحدود فلا تنسبه إلى كمال الصداقة، و من لم يكن فيه شيء من تلك الحدود فلا تنسبه إلى شيء من الصداقة: أن تكون سريرته و علانيته كلّ واحدة، و أن يرى زينك زينه و شينك شينه، و أن لا يغيّره عليك مال و لا ولاية و لا يمنعك شيئا مما تصل إليه مقدرته، و أن لا يسلمك عند النكبات»(4).
و في هذا دلالة واضحة على أن الإمام مؤمن تماما بأن الصديق في وقت الضيق،7.
ص: 302
و هو الذي يتلاحم مع أخيه، بشكل لا يكون له مصلحة، و لا تؤثر عليه الأموال مهما بلغ مقدارها، و لا يكون بينه و بين صديقه سر يخافه عليه.
و هذا النوع من الصداقة هو الذي لا ينبني على أساس مادي، ينهار مع انهيار المادة، و إنما على أساس معنوي روحي، و لذلك فلا يسلمه عند النكبات و النوازل.
إن أكبر دائرة من دوائر العلاقات الاجتماعية تتمثل في دائرة المجتمع الإسلامي الكبير (الأمة)؛ حيث تستقرّ حياة الإنسان، و يتجنب الوقوع في كثير من المشكلات إذا قامت حياته على أسس صحيحة تتبلور في تصرفاته السليمة في خط علاقته بالآخرين و شعوره بالمسؤولية تجاههم بحيث يؤدي ذلك إلى سعادة الجميع.
فمن حق المسلم على المسلم أن يقف إلى جانبه و يغيثه و يضع يده في يده، و أن يشاركه مسؤولياته، أفراحه و أتراحه، و همومه و أحزانه.
و قد اعتبر الإمام الصادق المجتمع الإسلامي أسرة كبيرة مترابطة، و لخّص علاقات المسلم في هذا المجتمع بثلاث صور ليس بخارج منها، فقال لأحد تلاميذه:
«أوصيك أن تتخذ صغير المسلمين ولدا، و أوسطهم أخا، و كبيرهم أبا، فارحم ولدك، و صل أخاك، و برّ أباك»(1).
فالمجتمع في هذا التصور يكون كلاّ مترابطا و متماسكا و متضامنا، و يتحمّل كل عضو فيه مسؤولية الآخرين كما يتحمّل مسؤولية نفسه و أهله.
فها هو الإمام الصادق يستشهد بكلام جده رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فيقول: «من لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم»(2).
إن هذا الكلام يعني نفي صفة الإسلام عن الإنسان اللامبالي الذي لا يعنيه ما قد يحدث للمسلمين من مآس أو ويلات أو هزائم... إلخ، فتراه لا يجهد عقله ليفكر، و لا يرأف قلبه ليتعاطف أو ليساعد، و إذا كان هذا موقفه إزاء الأحداث التي تخص المسلمين فليس من الإسلام في شيء و ليس له من إسلامه سوى الاسم.
و من يراجع النصوص الواردة عن الإمام الصادق في هذا الباب، يجد أن تربية
ص: 303
المسلمين على أداء الحقوق و المسؤوليات من أبرز جهود الإمام في البناء الاجتماعي و تقويتها، و من هذه النصوص:
«حق المسلم على المسلم أن لا يشبع و يجوع أخوه، و لا يروى و يعطش أخوه، و لا يكتسي و يعرى أخوه، فما أعظم حق المسلم على أخيه المسلم»(1).
فهو يضيف إلى ذلك ضرورة العناية بحاجاته المعنوية بقوله: «أحب لأخيك المسلم ما تحب لنفسك، و إذا احتجت فسله، و إن سألك فأعطه، لا تملّه خيرا(2) و لا يمله لك، كن له ظهرا فإنه لك ظهر، إذا غاب فاحفظه في غيبته، و إذا شهد فزره و أجلّه و أكرمه، فإنه منك و أنت منه»(3).
و هذا التعبير الدقيق «إنه منك و أنت منه»، إضافة إلى دلالته على العلاقة القوية و المتينة بين المسلمين فهو يظهر هذه اللحمة التي لا يمكن أن تنفصل و بالتالي تتعاظم معها مسؤولية المسلم تجاه أخيه المسلم حيث إن المسلمين بعضهم من بعض، كتلة واحدة متماسكة.7.
ص: 304
لقد اعتمدت مدرسة الإمام الصادق على الأسس و المبادئ التي تؤدي إلى تقوية الروابط الاجتماعية من جهة و اجتثاث مشاعر الفردية و الأنانية من الإنسان المسلم من جهة أخرى، و يتضح لنا تركيز هذه المدرسة على ذلك من خلال ترسيخها لعدة مبادئ في العلاقات الاجتماعية و من أهمها:
تشكل قاعدة التآخي و التعاطف أساسا مهمّا في القيم الإسلامية الاجتماعية، «و هذه القاعدة تكون بأن يحبّ الإنسان غيره لوجه اللّه، دون ابتغاء نفع أو مصلحة»(1)و هي تقود إلى سيادة الأخلاق الخيرة وسط الجماعة، و تشجع الأفراد على التضحية و تقديم كل مساعدة ممكنة للآخرين، و فعل كل برّ يمكنهم القيام به.
و انطلاقا من هذه القاعدة حدّد اللّه تعالى علاقة المؤمنين في الآية الكريمة: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ (2).
و التعبير عن العاطفة بين المؤمنين بالأخوة يرسم عمق الصلة المتقابلة بين الناس، و التي تكون فريدة في شبكات العلاقات الاجتماعية المتنوعة، و قد اهتم الإمام الصادق بترسيخ هذه الصلة الوثيقة بين تلاميذه من خلال منهجه التعليمي التربوي بقوله:
«تواصلوا و تبارّوا و كونوا إخوة بررة كما أمركم اللّه عزّ و جلّ»(3).
كما ربط المجتمع برباط الحب و المودّة و الإخاء بقوله: «فاتقوا اللّه في إخوانكم المسلمين فإن لهم عليكم حقا أن تحبوهم...»(4).
ص: 305
و قد أتى تمثيل الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم(1) لأفراد المجتمع في توادهم و تراحمهم و تعاطفهم كجسم واحد متماسك، يتأثر كل عضو فيه بالآخر و لا سيما في الحالات الصعبة، و في هذا انعكاس لواقع المجتمع المتآخي و المتآلف الذي يساند أفراده بعضهم البعض.
و قد استخدم الإمام الصادق أيضا هذا التشبيه متأسيا بجدّه فقال:
«و اللّه لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يكون لأخيه مثل الجسد، إذا ضرب عرق واحد تداعت له سائر عروقه»(2). فقد اعتبر الإمام في كلامه، الأخوّة شرط الإيمان، و هي من المقومات الأساسية في تركيب بناء الأمة الإسلامية. فهو يرى أن حبّ الإنسان المسلم لدينه يتجسّد في حبه لأخيه، فقال: «من حبّ الرجل دينه حبّه أخاه»(3).
و قد كان الإمام يسعى دوما إلى إيجاد المواقف التي توطّن روح الأخوة و المحبة بين تلاميذه، فكان يرشدهم إلى ما يعزز بقاء المودة بينهم، و ذلك عبر أمور عدة، منها:
يقول أبو عبد اللّه لتلاميذه في هذا الصدد: «تزاوروا و تلاقوا و تذاكروا أمرنا و أحيوه»(4)؛ لأن اختلاط المؤمنين بعضهم ببعض يوفّر الحبّ فيما بينهم و يقوّي عزائمهم على فعل الخير، و تجعل كلاّ منهم يذكّر من نسي ذكر اللّه.
وجّه الإمام تلاميذه إلى مستلزمات الأخوة فقال: «يحتاج الإخوة فيما بينهم إلى ثلاثة أشياء، فإن استعملوها و إلا تباينوا و تباغضوا، و هي: التناصف، التراحم، و نفي الحسد»(5). فمفهوم الإنصاف أن لا يرضى المرء لنفسه بشيء إلا رضي لأخيه مثله.
أوصى الإمام تلاميذه أن يتبادلوا الهدايا قائلا: «تهادوا تحابّوا فإن الهدية تذهب بالضغائن»(6)؛ لأن من شأن هذه الظاهرة الكريمة تعميق جذور المحبة و المودة بين
ص: 306
أفراد جماعة المسلمين و توحيدهم في نظام الجسد الواحد الذي يتشارك أعضاؤه اللذات و الآلام.
قال الصادق لأحد تلاميذه: «إذا أحببت رجلا فأخبره بذلك، فإنه أثبت للمودة بينكما»(1). لا شك أنّ التدريب على ممارسة مثل هذا السلوك اللفظي ليساهم بنحو فعال في تحقيق التكيّف مع الآخرين، فإذا أعرب المرء عن محبته لأخيه فإنه يوثق بينهما و شائج الأخوة الإيمانية و يرعى كل منهما حقوق هذه الأخوة القائمة على الحب في اللّه.
قال الصادق: «لا تذهب الحشمة بينك و بين أخيك و أبق منها، فإنّ ذهاب الحشمة ذهاب الحياء و بقاء الحشمة بقاء المودة»(2).
قال أبو عبد اللّه لأحد تلاميذه: «إن أردت أن يصفو لك ودّ لأخيك فلا تمازحنّه و لا تمارينّه و لا تباهينّه»(3).
إلا أن الإمام بيّن بأن مفهوم التآخي بين المسلمين ليس من قبيل العواطف و التمنيات فقط، و إنما هو عبارة عن حقوق و مسؤوليات ثقيلة تلقى على عواتقهم جميعا. و لذا حين سئل عن حق المسلم على المسلم أجاب:
«له سبعة حقوق و واجبات، ما منهنّ حق إلا و هو عليه واجب، إن ضيّع منها شيئا خرج عن ولاية اللّه في طاعته و لم يكن للّه فيه نصيب»، ثم قال:
أيسر حق منها أن تحب له ما تحب لنفسك، و تكره له ما تكره لنفسك، الحق الثاني: أن تجتنب سخطه، و تتبع مرضاته، و تطيع أمره، الحق الثالث: أن تعينه بنفسك، و مالك و لسانك و يدك و رجلك، الحق الرابع: أن تكون عينه و دليله و مرآته، الحق الخامس: أن لا تشبع و يجوع و لا تروى و يظمأ، و لا تلبس و يعرى، الحق السادس: أن يكون لك خادم و ليس لأخيك خادم، فواجب أن تبعثه فيغسل ثيابه، و يصنع طعامه، و يمهد فراشه، الحق السابع: أن تبرّ قسمه، و تجيب دعوته، و تعود مرضه، و تشهد جنازته، و إذا علمت أن له حاجة تبادره إلى قضائها و لا تلجئه
ص: 307
أن يسألكها، و لكن تبادره مبادرة فإذا فعلت ذلك وصلت ولايتك بولايته و ولايته بولايتك»(1).
و قد حفلت هذه الحقوق منهجا حيّا للرابطة الإسلامية التي تجمع ما بين المشاعر و العواطف و المسؤوليات، و توجب اشتراك المسلمين معا في السراء و الضراء.
و عبارة «إن ضيّع منها [أي الحقوق] شيئا خرج من ولاية اللّه و طاعته» يشي بخطورة هذا الأمر، من هنا فقد بيّن الإمام أن هذه الألفة بين المسلمين - و المبنية على دعائم الأخوة - هي من ولاية اللّه، و أن الإخلال ببعضها إخلال بها كلّها؛ و إذا انقطعت هذه الألفة فيما بين المؤمنين فإن حبل الولاية فيما بينهم و بين اللّه سوف ينقطع، و لن يبقى من ولايتهم لربهم شيء.
و هكذا جهد الإمام الصادق في غرس تلك المفاهيم السامية في نفوس تلاميذه ليجعلهم جماعة مثالية في مودّتهم و أخوتّهم و تعاطفهم.
تكتمل صورة الاهتمام بالمسؤولية الاجتماعية في مدرسة الصادق من خلال تأكيدها على مبدأ التعاون و التكافل. و هذا الأساس يقوم على الأخوة الصادقة بين المؤمنين، و معناه «التّناصر بين أفراد المجتمع ليسدّ بعضهم حاجات بعض، و يسند الضّعفاء من قبل الأقوياء، و كذلك التّناصر بينهم في القيام بأعباء العمل الصّالح، فيقوّي القادرون منهم على ذلك الضّعفاء فيه بمختلف معاني القوّة و الضّعف»(2).
و ها هو القرآن الكريم يعبّر عن هذا التعاون تعبيرا واضحا: وَ تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ (3).
و هو ما عبّر عنه الإمام الصادق بقوله مستشهدا بكلام جده رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقال ما نصّه: «و ليعن بعضكم بعضا فإن أبانا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كان يقول: إنّ معاونة المسلم خير و أعظم أجرا من صيام شهر و اعتكافه في المسجد الحرام»(4).
فهو يريد بناء جماعة مؤمنة يكون التكافل بينهم ماديّا و معنويّا، و لذلك قال:
«المؤمنون خدم بعضهم بعض، و عند ما سئل: كيف؟ قال: يفيد بعضهم بعضا»(5).
ص: 308
فلعلّ عناية الإمام الصادق بتنمية روح التعاون و التكافل، و التي تبلورت عبر صور و أساليب شتى، إنّما تروم أن تصنع من الإنسان الأرضي الضيق الأفق، أنموذجا راقيا تتسع روحه ليتعايش مع بني نوعه، و يسعى دوما لقضاء حوائجهم و يشركهم فيما يمتلك.
و من هنا اعتبر الإمام هذه الصورة و هذا الأداء واجبا ينبغي على كل مسلم أن يلتزم بها فقال: «و يحقّ على المسلمين الاجتهاد في التواصل و التعاون على التعاطف و المواساة لأهل الحاجة»(1).
فهذه الرابطة الأفقية بين الإنسان و أخيه رابطة محورية في الارتقاء الحضاري لأي مجتمع حيث تعمل على تذويب الأنانيات و تقوية أواصر الأخوة الإسلامية و تشيع أجواء التكافل.
فقد بيّنت مدرسة الإمام الصادق إذا الصورة التي يريدها الإسلام للعلاقة بين أفراد مجتمعه بكل جوانبها، و قامت بتوطيد روح التكافل و التعاون الجماعي في نفوس تلاميذها، عبر مشاريع اجتماعية متعدّدة التي يمكن تلخيصها كما يلي:
إنها من أروع مظاهر التكافل الاجتماعي؛ فهي المساعدة الطوعية النابعة من نفس الإنسان و قناعته التامة بتلبية حاجات الآخرين. و قد جعل اللّه للإنسان طاقات نفسية و عقلية و جسدية، و هذه كلها من نعم اللّه العديدة و منّه و كرمه على عباده.
فإن صرفها العبد في مساعدة أهل الحاجة يكون قد أدّى حق الشكر للّه تعالى المؤدي إلى زيادة هذه النعم أضعافا، و إن منعها عن أهلها يكون قد ضيّع حقّ اللّه و عرّض نعمه تعالى للضياع و الزوال، و هذا مصداق لقول أبي عبد اللّه: «ما أنعم اللّه على عبد نعمة فلم يحتمل مؤونة الناس إلاّ عرّض تلك النعمة للزوال»(2).
و قد أشار الإمام أنّ فوائد مساعدة الآخرين و خدمتهم لا تعود على صاحب الحاجة فقط، بل يعمّ نفعها قاضي الحوائج نفسه كما يعم المجتمع أيضا، قائلا: «أيّما مؤمن أتى أخاه في حاجة، فإنّما ذلك رحمة من اللّه ساقها إليه و سبّبها له، فإن قضى حاجته كان قد قبل الرحمة بقبولها و إن ردّه عن حاجته و هو يقدر على قضائها فإنّما ردّ عن نفسه رحمة من اللّه جلّ و عزّ ساقها إليه و سبّبها له...»(3).
ص: 309
و هكذا حث الإمام تلاميذه على التعاون و التكافل بلسان واضح و صريح، فقال:
«إن اللّه خلق خلقا من رحمته برحمته لرحمته، و هم الذين يقضون الحوائج للناس، فمن استطاع منكم أن يكون منهم فليكن»(1).
و لم يقتصر الصادق في دعوته على تلبية الحاجات الخاصة فقط، بل لفت أنظار تلاميذه إلى حاجات إنسانية أخرى قد لا ينتبه إليها عادة، فقال: «إسماع الأصم من غير تضجّر صدقة هنيئة»(2).
إسماع الأصمّ من الأمور المستحيلة طبعا، إلا أن في هذه الدعوة إشارة إلى اتباع الأسلوب المناسب الذي يستطيع من خلاله الشخص القادر إيصال ما أمكنه من أنواع المساعدة إلى الشخص المحتاج و بأية وسيلة ممكنة.
و قد نرى من خلال جهود أبي عبد اللّه في التربية تأكيده على بذل أقصى الجهد و السعي في قضاء حوائج الآخرين، و اعتبار عدم تأديتها خيانة، حيث قال:
«أيّما رجل من أصحابنا استعان به رجل من إخوانه في حاجة فلم يبالغ فيها بكل جهده فقد خان اللّه و رسوله و المؤمنين»(3).
و لم يكتف الإمام بذلك، بل دعا الإنسان الذي قد لا يتمكن من قضاء حوائج الغير بنفسه أو بماله، أن يسعى في قضائها عند من يستطيع، و هذا ما ورد في وصيته بقوله: «الماشي في حاجة أخيه كالساعي بين الصفا و المروة، و قاضي حاجته كالمتشحّط بدمه في سبيل اللّه...»(4).
إلاّ أنه و رغم اهتمام الإمام بقضاء حوائج الناس و دعوته إليها، فقد حذّر من أن تؤدي هذه الخدمة إلى استغلال الفرد و تحقيره، فوضع لها حدّا يقف عند كرامة المؤمن و صيانة عزّته، فقال: «اخدم أخاك فإن استخدمك ألا و هي الكرامة»(5).
و لطالما حدّث الصادق تلاميذه عن أخلاقيات قضاء الحوائج، فقال: «لا يتم المعروف إلا بثلاثة: تصغيره و ستره و تعجيله»(6) فإن كان غير ذلك محقته و نكدته»(7).
ثم شرح الإمام أسبابها فقال:3.
ص: 310
«فإنك إذا صغّرته عظّمته»، فعند ما يعظّم الإنسان الحاجة يصغّر نفسه عند طالبها لما سيراه من ضعفه و عجزه، بينما إذا اعتبرها صغيرة يعظم و تعظم الحاجة عند طالبها.
ثم قال: «و إذا سترته تمّمته»، فإن خدمة الآخرين بصمت هي من أعمال الخير التي يقوم بها المؤمن الواثق بنفسه الذي يهمّه رضا اللّه لا رضا الناس و الذي يضع نصب عينيه وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ (1). ثم قال: «و إذا عجّلته هنّأته»(2)، فإن الإنسان إذا أسرع في قضاء حاجة الغير فرح بها و شعر بقيمة قضائه لها، بخلاف ما إذا ماطل فيها.
لذا أكد الإمام في كلام آخر على تعجيل قضاء حوائج الآخرين خوفا من فوات الفرصة، فقال: «إن الحاجة تعرض للرجل قبلي فأبادر بقضائها مخافة أن يستغني عنها أو تأتيه و قد استبطأها فلا يكون لها عنده موقع»(3).
لقد مارس الإمام الصادق هذا الأمر قولا و فعلا ليجسد للمسلمين الأسس المتينة لبناء المجتمع التعاوني الذي ينشط مع الجهد الجماعي. فهو يجعل المؤمن يرى نفسه في الآخرين و يرى الآخرين في نفسه، فيدفع لا محالة إلى التكافل و التناصر. فقال:
«أحبّوا للناس ما تحبّون لأنفسكم»(4).
و قد احتلت الدعوة إلى التكافل الاقتصادي حيزا كبيرا من تعاليم الإمام الموجهة إلى طلاّبه، فعمل على تشجعيهم لنصرة المحتاجين في مرافق الحياة، و توفير حاجاتهم و ذلك عبر إقراض المؤمنين و سدّ حاجاتهم بطريقة تحفظ ماء وجوههم، و هو من أرفع الأمور التي يتقرب بها المسلم إلى اللّه. «فإن المقرض عند ما يتنازل عن بعض ما يملك و يقدّمه للآخر ليقضي حاجته، تتحرك في هذه العملية نفسيته الطاهرة التي تحبّ الخير و تنشده»(5). كما يكون لهذا العمل أثر جميل في تمتين أواصر المحبّة و التعاون بين أفراد المجتمع الواحد.
و قد ورد عن الصادق الحث على هذا المعروف بقوله: «لئن أقرض قرضا أحبّ إلي من أن أتصدق بمثله»(6).
ص: 311
فالقرض من وجهة نظر الإمام بمنزلة الصدقة بل ربما هو أفضل إذ إنه يحفظ المال لصاحبه، و يصون كرامة المقترض، فلا يحوجه إلى ذل السؤال.
و لفت الإمام إلى أن من أخلاقيات المقرض و آدابه أن ينظر المعسر إلى وقت الإيسار، و لا يجوز لهم مضايقته أو التشديد عليه، فقال في وصية طويلة كتبها إلى أصحابه:
«إياكم و إعسار أحد من إخوانكم المسلمين أن تعسروه بشيء يكون لكم قبله و هو معسر فإن أبانا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كان يقول: ليس لمسلم أن يعسر مسلما و من انظر معسرا أظله اللّه يوم القيامة بظله يوم لا ظل إلا ظله»(1).
فإذا تعسّرت أحوال ذي حاجة و لم يوفّق إلى السّداد، و أقفلت الدنيا أبوابها في وجهه، فيجب على المقرض أن ينظره حتى يفتح اللّه عليه بواسع رحمته و جوده. لذا عند ما سئل أبو عبد اللّه: ما للرجل أن يبلغ من غريمه؟ استدلّ الإمام بكلام الوحي و قال: «لا يبلغ به شيئا اللّه انظره»(2) ثم تلا هذه الآية: وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَ أَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (3).
و ليس مثل هذا في تعاليم الإمام مجرّد نظرية فحسب، بل هو يراقب تلاميذه بأن يطبّقوها و يجسّدوها في واقعهم العملي كما قال أحد تلاميذه، قلت لأبي عبد اللّه: إن لي على رجل دينا و قد أراد أن يبيع داره فيعطيني، فقال الصادق: «أعيذك باللّه أن تخرجه من ظل رأسه، أعيذك باللّه أن تخرجه من ظل رأسه»(4).
فالإمام هنا لم يرض أن تباع دار يسكنها المستدين ليقضي ما عليه من دين، لا بل استعاذ باللّه من القيام بمثل هذا بين أتباعه و مريديه.
«الإخوان ثلاثة: مواس بنفسه، و آخر مواس بماله، و هما الصادقان في الإخاء، و آخر يأخذ منك البلغة و يريدك لبعض اللذّة، فلا تعدّه من أهل الثقة»(1).
و تتحقق المواساة بتفريج الكرب عن المكروبين و إغاثة الملهوف، و إدخال السرور في قلب المؤمن سواء عبر الموقف أو الكلمة أو أي طريقة مناسبة، و قد انطلق الإمام من تعاليم جده رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في التناصر المعنوي النفسي بين المؤمنين، فقال: «من أغاث أخاه المؤمن اللّهفان عند جهده، فنفّس كربته و أعانه على نجاح حاجته، كتب اللّه عزّ و جلّ له بذلك عند اللّه اثنتان و سبعون رحمة من اللّه، و يعجّل له منها واحدة يصلح بها معيشته و يدّخر له إحدى و سبعين رحمة لأفزاع يوم القيامة و أهواله»(2).
ذلك «لأنّ كرب الدنيا بالنسبة إلى كرب الآخرة لا شيء، فادّخر اللّه جزاء تنفيس الكرب عنه لينفس به كرب الآخرة»(3)
و هكذا دعا الصادق المجتمع الإسلامي بجميع أفراده إلى التكافل المادي و المعنوي، إلا أنّه اعتبر أن للأغنياء في هذا المعروف دورا خاصّا و مميزا، فحين دخل إليه رجل، سأله الإمام: كيف خلّفت إخوانك؟ فأحسن الثناء عليهم. فسأله: «كيف عيادة أغنيائهم على فقرائهم؟ قال الرجل: قليلة. قال الإمام: كيف مساعدة أغنيائهم لفقرائهم؟ قال: قليلة. قال الإمام: فكيف يزعم هؤلاء أنهم أتباعنا؟»(4)
و كأنّي بالإمام يرى في مواساة الأغنياء للفقراء و مساعدتهم شرطا لا غناء عنه للتتلمذ في مدرسته.
و من هذا الموقف ندرك بأن استراتيجية الإمام التربوية لم تتقوقع في دائرة التنظير أو تكتف برفع الشعارات و إطلاق الخطابات، بل نلاحظ أنها قد خرجت منها إلى حيّز العمل، كما أنها ترتكز على صيغتها الأساسية في النزول إلى واقع المجتمع، تستخبر و تحاور و تحرّك و تؤثر ليصبح المجتمع بكل أفراده و على مختلف مستوياتهم مستعدين لتقديم الخدمة للآخرين بكل محبة و في أي وقت، معتمدين على ما منحهم اللّه سبحانه من قدرات و إمكانات و مواهب. فكلما ازدادت هذه النعم عليهم، ازدادت مسؤولياتهم تجاه الآخرين و تجاه المجتمع بكامله.
و لكي يرفع الإمام و تيرة السعي و الجدّ في خدمة الآخرين، قام بتذكير المتعلّمين لديه بهذا الجانب المهم و هي حاجتهم الدائمة إلى توفيق اللّه تعالى و تسديده، حتى8.
ص: 313
يلزمهم بالدعاء و الطلب فقال: «و ليس كل من يحب أن يصنع المعروف إلى الناس يصنعه، و ليس كل من يرغب فيه يقدر عليه، و لا كلّ من يقدر عليه يؤذن له فيه، فإذا اجتمعت الرغبة و القدرة و الإذن، فهنالك تمّت السعادة للطالب و المطلوب إليه»(1).
فهذه المواقف الكثيرة توحي لنا بمدى إيلاء الإمام لهذا المبدأ المهم في المجتمع، عنايته و تخطيطه و بذله و تركيزه في ذهنية الأمة.
أساس الحياة الاجتماعية للإنسان هو العمل على المستوى الجماعي. و لا يتسنى ذلك إلاّ بأن يتعامل أفراد المجتمع فيما بينهم من موقع الثقة المتبادلة و اعتماد البعض على البعض الآخر، و هذا المعنى لا يتحصّل إلاّ بتوافر عنصري الصدق و الأمانة بينهم.
لذلك اعتبر الصادق مبدأ الصدق و الأمانة من المبادئ المهمّة التي يجب الالتزام بها في دائرة العلاقات الاجتماعية. فالصدق «هو تطابق الكلام مع الواقع سواء كان الواقع الخارجي أم الباطني»(2). فهو يرمز إلى الطهارة في الذات و البعد عن الرذيلة، و له تأثير في جميع أعمال الإنسان و سلوكياته. كما قال الإمام الصادق: «من صدق لسانه زكى عمله»(3).
و إذا اتخذ الفرد هذه الفضيلة منهاجا لحياته تلاشت المشكلات التي مصدرها و أساسها الكذب و الخداع و «متى انهارت في الفرد فضيلة الصدق انقطعت ما بينه و بين مجتمعه رابطة عظمى، و غدا الناس لا يصدقونه فيما يقول، و لا يثقون به فيما يحدّث به أو فيما يعد فلا يكلون إليه أمرا و لا يعقدون بينهم و بينه عهدا»(4).
و كذلك «الأمانة هي التزام الواجبات الاجتماعية و أداؤها خير أداء»(5). و هي لا تحصر في أضيق معانيها و حدودها، أي في إطار قيام الإنسان بحفظ ما يودع لديه من مال، بل تكون شاملة للقيام بجميع التكاليف و الالتزامات الاجتماعية و الأخلاقية، كما أشار إلى ذلك أبو عبد اللّه قائلا: «لا يكون الأمين أمينا حتى يؤتمن على ثلاثة فيؤديها: على الأموال و الأسرار و الفروج. و إن حفظ اثنين و ضيّع واحدا فليس بأمين»(6).
ص: 314
إن «الأمانة تدعو الإنسان إلى صدق الحديث كما أن صدق الحديث يدعو الإنسان إلى الأمانة في الجهة المقابلة؛ لأن صدق الحديث نوع من الأمانة في القول و الأمانة نوع من الصدق في العمل. على هذا الأساس فإنّ هاتين الصفتين ترتبطان بجذر مشترك و تعبّران عن وجهين لعملة واحدة»(1).
فالصادق يحكي عن الأهمية البالغة لهذا المبدأ بأنها من الأسس المشتركة بين جميع الأديان السماوية، فقال: «إن اللّه عزّ و جلّ لم يبعث نبيّا إلا بصدق الحديث و أداء الأمانة إلى البرّ و الفاجر»(2).
فالمؤمن الحقيقي هو الذي يتحرّك في سلوكه من موقع الصدق و مراعاة الأمانة بصورها المختلفة، و يهتم بالحفاظ عليها من موقع المسؤولية و أداء الوظيفة؛ لهذا تكررت في كثير من وصايا الإمام هذه العبارة: «عليكم بصدق الحديث و أداء الأمانة»(3)، كما كان يوصي بهما كل من دخل عليه من أصحابه و من فارقه.
من هنا نرى أن تربية الأفراد على انتهاج هذا الخط تحظى من الإمام بعناية خاصة من خلال عدة أمور في توجيهاته التربوية للأمة. فنشير إلى أهمها فيما يلي:
يرى الصادق بأن الأمانة خلق كريم يدلّ على يقظة ضمير الإنسان و إحساسه بالمسؤولية المنوطة به، فيتولاها و يوجه تلاميذه إلى أدائها للمسلم و غير المسلم؛ لأن اختلاف الدين لا يمنع الشخصية المسلمة من أداء الحقوق إلى صاحبها، فقال: «أدّوا الأمانات إلى أهلها إن كانوا مجوسا»(4). حتى إنه وصل إلى أبعد من ذلك، فأكد على هذه المسؤولية - عبر أنمودجه هو - بأنّه يؤدّي الأمانة و لو كان لقاتل جدّه علي بن أبي طالب، فقال: «اتقوا اللّه، و عليكم بأداء الأمانة إلى من ائتمنكم، فلو أنّ قاتل علي ائتمنني على أمانة لأديتها إليه»(5)، و هذا لا شكّ أنه لتعظيم أهمية الأمانة و أدائها و رفع شأنها.
فقد جاء حث الإمام علي الصدق و الأمانة من خلال تجسيد هذه الفضيلة عمليّا في واقع الأمة. فهو يذكر المكانة الرفيعة للإمام علي بن أبي طالب (كرم اللّه وجهه) عند
ص: 315
رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ثم يشير إلى سبب احتلاله هذه المكانة، ليمكّن تلاميذه من الاقتداء بأنموذج حيّ في حياتهم.
فقال إلى أحد تلاميذه: «انظر ما بلغ بسببه عليّ بن أبي طالب عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فالزمه، فإنّ عليّا إنّما بلغ ما بلغ به عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بصدق الحديث و أداء الأمانة»(1).
يعتبر الإمام الصّدق و الأمانة علامتين بارزتين في سلوك المؤمن، فيقول:
«لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل و سجوده فإن ذلك شيء اعتاده، و لو تركه استوحش لذلك، و لكن انظروا إلى صدق حديثه و أمانته»(2).
فلا اعتبار بطول الرّكوع و السّجود و لا اعتبار بكثرة الصيام و القيام، بل الميزان الّذي يقيّم على أساسه إيمان الرجل، هو صدق حديثه و مدى التزامه بالأمانة.
لم يترك الإمام التأكيد على معطيات الصدق و الأمانة في الحياة الاجتماعية، و هي تقوم على المحبة في النفوس، و كثرة التعامل و ثقة الناس فيما بينهم، فقال في وصيته إلى أحد تلاميذه: «عليك بصدق الحديث و أداء الأمانة تشارك الناس في أموالهم هكذا - و جمع بين أصابعه»(3).
و قد يكون في جمعه بين أصابعه - حين تكلم على الصدق و الأمانة - إشارة إلى عملية الاندماج العملي و الروحي بين أفراد المجتمع من خلال تعاملهم مع بعضهم البعض و تشاركهم في معظم أمور حياتهم.
وجّه الإمام المودع للأمانة و صاحب المال لأن يكون ذكيّا في اختيار الشخص المؤمّن، و ألا يكون ساذجا بحيث يودع أمانته لدى أي شخص كان. و كان لو أتى إليه رجل فقال له: «إني ائتمنت رجلا على مال و أودعته عنده فخانني و أنكر مالي، قال الإمام: «لم يخنك الأمين و لكنّ ائتمنت الخائن»(4).
فالتوجيه التربوي الذي رمى إليه الإمام من خلال هذه الحادثة يتضمن التفاته إلى جانبين مهمّين:
ص: 316
- الجانب النفسي لدى الرجل بعد الحادثة، فقد غدا منفعلا بالشك و سوء الظن بالآخرين مع ما يتبع ذلك من نتائج و آثار أبرزها: الانفرادية و الانعزال.
- الجانب الاجتماعي في المسألة، فإن سقوط الثقة بالآخرين و تكشّف القناع عن وجه الخائن المخادع، ينبغي أن يظل محصورا في نطاق الأفراد الذين سقطت الأقنعة عن وجوههم، و انكشفت حقيقتهم المزرية، و من الخطورة بمكان أن يمتد الشك و الريب إلى الآخرين الذين لا علاقة لهم بما جرى، و الذين لا يملكون الصفات أو التصرفات نفسها.
فالإمام ينطلق في كلامه من نظرة واقعية لها وجهان:
الأول: أن الأمين لا يخون، و لو كان في أمسّ الحاجة إلى ما تحت يده، أو إلى ما أودع لديه، فإنه يعفّ و يحافظ على حقوق الآخرين و يؤديها إليهم.
و الثاني: أن الإمام لا ينفي وجود من يخون الأمانة و يترك الوفاء، فهذه حقيقة واقعية لها مصاديق بين الناس.
إذن، فهذه الحادثة ينبغي أن تضيف إلى المرء خبرة جديدة تجعل عقله أكثر تفتحا و يقظة، حتى لا يعود مرّة أخرى لائتمان الخائن، و لا ينساق إلى اتهام من جرّب أمانته و وفاءه، كما يقول الإمام في مناسبة أخرى: «ليس لك أن تأمن الخائن و قد جرّبته، و ليس لك أن تتهم من ائتمنته»(1).
لا يخفى على أحد ما ما للإصلاح الاجتماعي من أهمية قصوى و دور فعّال في توفير السّلام و استتباب الأمن و الشعور بالطمأنينة و سيادة العدل بين أفراد المجتمع الواحد.
و لا جرم أن له موقعا خاصّا في التربية الاجتماعية، فهو من التغييرات الإيجابية في المجتمع التي تساعد على تحوّله نحو الأفضل كما توجّهه نحو الأصوب، و تثبت خطى أفراده على الطريق الأقوم و النهج الأسلم.
و من قواعد الإصلاح الاجتماعي الأساسية - وفق العقيدة الربانية - محاربة الفساد و الانحراف و الحفاظ على القيم الإسلامية. إلا أن الوصول إلى ذلك له مدخل أساسي و هام جدا، يتجلّى بشعور كل فرد من أفراد المجتمع بمسؤوليته عن نفسه أولا، و عمّن يعيل و عن المجتمع الذي يعيش فيه ثانيا. و أن يكون على علم وثيق من أنه سوف يحاسب على تقصيره في أيّ من هذه المسؤوليات بعد ذلك.
ص: 317
فالإسلام حمّل الأفراد هذه المسؤوليات، كلّ حسب موقعه و مؤهلاته؛ و على هذا، فإن هذا المجتمع، أفرادا و أسرا و أمّة، و بكل من فيه من رجال و نساء، مدعوّ لانتهاج سبيل الخير و الدعوة إليه، و أفراده مدعوّون لأن يتواصوا بالحق و يتواصوا بالصبر. و هذا التواصي من «الوظائف الاجتماعية التي تمثل في المجتمع الإسلامي قوة الدفع إلى الارتقاء في سلّم الكمال، و قوّة الحماية عن الانزلاق إلى دركات النقص، و قوّة الصيانة التي تصون المكاسب التي يحققها المسلمون أفرادا و جماعات، من مكاسب المعارف و الفضائل الخلقية و السلوكية»(1).
و نظرا لأهمية هذا المبدأ و السعي إلى ترجمته عمليّا، فإن الإمام الصادق كان ينمي لدى تلاميذه الشعور بالمسؤولية تجاه سلوك الآخرين، و محاولة التغيير و الإصلاح في المجتمع، فهو يريد أن يرقّي الفرد من عضو عادي إلى فرد رسالي يتحمّل مهمّة توجيه الآخرين و تقويم انحرافاتهم.
و قد أوجب الإمام على الإنسان المؤمن الوقوف في وجه الانحراف و العصيان، و محاولة تغيير ما يجري حوله من خلاف، فإن لم يستطع هذا الإنسان أن يقوم بأدنى تغيير أو تأثير، فيرى الإمام في هذه الحال ضرورة الكفّ عن مجالستهم و التواصل معهم، حتى لا يكون سببا في تشجيعهم على الاستمرار في ارتكاب المعاصي و المحرّمات، فيقول: «لا ينبغي للمؤمن أن يجلس مجلسا يعصى اللّه فيه و لا يقدر على تغييره»(2).
و على مستوى التخطيط للقيام بالتغيير، يعتمد الإمام فكرة التدرج في العمل الاجتماعي و التغيير الإصلاحي فيه، تبعا لقوة الإيمان عند الناس، فيقول: «إن الإيمان عشر درجات بمنزلة السلم يصعد منه مرقاة مرقاة، فلا يقولنّ صاحب الاثنتين لصاحب الواحدة لست على شيء حتى ينتهي إلى العاشرة، فلا تسقط من هو دونك، فيسقطك من هو فوقك و إذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة، فارفعه إليك برفق، و لا تحملنّ عليه ما لا يطيق فتكسره، فإن من كسر مؤمنا فعليه جبره»(3).
يستفاد من هذا النص أنّ التدرّج أمر أساسي يدخل في صلب النظام التربوي للإمام؛ لأنه لا يمكن لأي شخص تقبّل فكرة تغيير ما اعتاد عليه من تصرّفات و أعمال أو اعتقادات دفعة واحدة، بل يتحقق ذلك تدريجيّا، و مصحوبا بكثير من الرفق و اللين في التعامل.2.
ص: 318
فليس من الحكمة تحميل صاحب الخطوة الأولى مثلا ما يمكن لصاحب الخطوة الثانية أن يحمله، و ذلك ليتم انسجام الدعوة و الإصلاح مع عقلية المخاطب و مستوى إيمانه، و هكذا قام الإمام في مدرسته بتربية الإنسان المسؤول الذي يجعل همّ إصلاح المجتمع و تطويره إلى الأفضل بالتدريج و إن من أهم خطواته العملية في هذا الطريق ما يلي:
المراقبة و النقد الاجتماعي.
مواجهة الخلافات و الخصومات الاجتماعية.
إن المراقبة الاجتماعية هي إحدى الوسائل البالغة الأهمية في عملية إصلاح المجتمع و تغييره و استقرار القيم الأخلاقية فيه، و قد جعل الدين الإسلامي كلّ مسلم رقيبا على نفسه، كما جعله رقيبا على غيره، و ذلك ليتسنى له القيام بدور فعّال في بناء المجتمع و السير به نحو الأفضل.
و يتبلور هذا الدور في تطبيق فريضتي الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. و قد تناولت الحديث عنهما جملة من الآيات القرآنية، فجعلت منهما صفتين ملازمتين لأفراد الأمة الإسلامية، و ذلك في قوله تعالى: وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ (1) و بما أن هذه الدعوة أتت على لسان الوحي، فلا مجال للشك أنّ ممارسة الأمر بالمعروف و محاولة تغيير المنكر، من أفضل الطرق العملية المثمرة في صيانة المجتمع و تقويمه. «و لا نجد في النظم التي ابتكرها الإنسان لرعاية القوانين و الدساتير و تبصير الناس بها - حتى لا يقعوا في المخالفات المتوالية - نظاما يصل إلى فكرة هذا المبدأ باعتباره مبدأ تربويّا جادا يتيح لأكبر قاعدة في الأمة أن تعرف ما لا بد من معرفته... و بطريقة مكررة تضمن التذكر الدائم و تشمل كل البيئات في المجتمع»(2). لذا فإن «الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر مبدأ عظيم يصلح بمفرده دستورا لجميع نواحي الإصلاح»(3).
و ها هو الإمام الصادق يهتم بهذه الخطوة الإصلاحية اهتماما بالغا، و يعتبرها ركنا أساسيّا في صيانة الأمة الإسلامية، حيث يرى أنها شرط للتديّن؛ لأن بهما يعبد اللّه و يسود الأمن و تزول أسباب الفتن، و بهما يمكن تغيير الواقع إلى الصلاح، فيقول:
ص: 319
«ويل لقوم لا يدينون للّه بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر»(1).
من هذا المنطلق فقد قرّر الإمام اعتماد أساس النصح المتبادل في المجتمع، و الذي يتم من خلاله نصح كلّ فرد الآخر إذا رأى منه ما يندرج في إطار مخالفة السلوك الأخلاقي، فقال لأحد تلامذته: «عليك بالنصح للّه في خلقه فلن تلقاه بعمل أفضل منه»(2).
كما كان يرى الإمام أن للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، إضافة إلى الأبعاد الاجتماعية المتعددة، أبعادا تربوية عميقة، و أن تكرار الأمر و النهي على أسماع الناس كلما خفي معروف أو ظهر منكر على مر الأيام يحقق دون شك تثقيف الأمة كلها.
و يرى فيه كذلك إفادة للعاقل و الجاهل فيقول: «إنما يؤمر بالمعروف و ينهى عن المنكر مؤمن فيتعظ، أو جاهل فيتعلّم»(3).
و هذا الأمر إنما يتحقق بأداء أهل الحق و الصلاح واجبهم، و ذلك بالأخذ بيد أهل الفساد و المعصية للسير بهم نحو الطريق الصحيح، و نجد الإمام يلقي التبعة الأكبر و الأهم على كاهل العلماء بالدرجة الأولى فيقول: «لأحملنّ ذنوب سفهائكم على علمائكم... ما يمنعكم إذا بلغكم عن رجل منكم ما تكرهونه مما يدخل علينا به الأذى و العيب عند الناس، أن تأتوه فتؤنبوه و تعظوه و تقولوا له قولا بليغا»(4).
فالإمام هنا يوجب على العالم أن لا يتخلّى عن تعليم الجاهل حتى لا يبقى يتردى في جهالته، فيرتكب ما يخالف الدين.
و قد انصبت جهود الإمام الصادق في مشواره التربوي الحافل، على أن يرسخ في عقول تلامذته أن للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر شروطا و آدابا يجب أخذها في اعتبار الأمر الناهي، حتى يكون له استجابة أكثر، و تأثير أقوى. كما شدّد على أن من يريد القيام بمثل هذه المهمة، لا بد أن تتوافر فيه صفات و خصال مميزة، «إنما هو (أي الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر) على القوي المطاع العالم بالمعروف و الناهي عن المنكر لا على الضعيف الذي لا يهتدي سبيلا»(5).
إذا، و باستعمال الإمام كلمة (إنما) حصر تحقيق هذه الفريضة بكل مكلّف تتوافر فيه خصائص ثلاث:6.
ص: 320
- أن يكون قويّا، أي أن له قدرة و استطاعة في التغيير و الإصلاح فلا يضعف أمام شدة، و لا يجبن أمام قوّة.
- أن يكون مطاعا، أي أنّ الناس يقبلون نصائحه الرشيدة، و كلماته المفيدة.
- أن يكون عارفا و بصيرا بمصاديق و مظاهر المعروف و المنكر.
فالصادق يحمّل المجتمع المسلم هذه المسؤولية بمستويات تتناسب مع مستويات الاستطاعة لكل فرد من أفراده؛ إلا أنه لا يعفي أي شخص من الحد الأدنى لتطبيق هذه الفريضة، و إن كان عبر الإنكار بالقلب على الأقل، و قد قال في ذلك:
«حسب المؤمن عزّا إذا رأى منكرا أن يعلم اللّه عزّ و جلّ من قلبه إنكاره»(1).
ذلك أن الإمام يؤمن و يشرح لتلاميذه «من شهد أمرا فكرهه، كان كمن غاب عنه و من غاب عن أمر فرضيه، كان كمن شهده»(2). إضافة إلى ذلك، نجد الإمام يولي الجانب الأخلاقي في مسألة الأمر و النهي اهتماما خاصّا، فيدعو للرفق و الشفقة في تطبيق هذه الفريضة، فيقول: «كن رفيقا في أمرك بالمعروف، و شفيقا في نهيك عن المنكر»(3).
فلا بد لمن يقوم بالنصح أن يتحلى بلين الجانب و حسن الخلق، و أن يكون كلامه حين يأمر الآخرين و ينهاهم منبعثا من حبه لهم و حدبه عليهم. فقد أراد الصادق أن يثبت للمجتمع بجميع أفراده أن الآمر الناهي «عادل فيما يأمر، و عادل فيما ينهي»(4) أي أن يراعي حدود الإنصاف و العدالة، و ينهج منهج الحكمة و الموعظة الحسنة في دعوته ليكون التأثير أبلغ.
و بما أن الهدف الأساسي من هذه الفريضة، هو التأثير في نفوس الناس، و رفع مستواهم نحو الأعلى و الأفضل، فلا بد أن ينتبه المصلح إلى مدى الفائدة التي تحققت أو ستتحقق من نصحه هذا. و أن يمسك في حال لاحظ أو تأكد من أنه لم يعد لكلامه و لا لنصحه أثر فيمن يوجّه إليه، و قد أكد الصادق هذا الأمر قائلا:
«و ليكن أحدكم بمنزلة الطبيب المداوي إن رأى موضعا لدوائه، و إلاّ أمسك»(5).
فقد شبّه الإمام هنا الإنسان المصلح بالطبيب الذي لا بدّ أن يكون على بيّنة من تأثير دوائه و طرق استخدامه.
نأتي الآن إلى ذكر أسلوب آخر في الأمر و النهي، بإمكانه أن يستمرّ أو يستخدم5.
ص: 321
في كل الظروف، ألا و هو الأسلوب غير المباشر، و الذي ركز عليه الإمام، و لطالما أراد من الدعاة أن يقرنوا العمل بالقول، حتى يصبحوا قدوة صالحة بأعمالهم قبل أقوالهم، فلم يزل يكرر هذه الوصية بقوله: «كونوا دعاة الناس بغير ألسنتكم ليروا منكم الاجتهاد و الصدق و الورع»(1).
و هكذا يتبدى لنا حرص الإمام الشديد على تربية فئة مؤمنة تسعى دوما لإصلاح المجتمع و السير به نحو الأفضل و الأرقى و ذلك بانتهاج الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر كأحد السبل الأساسية، الذي يساعد على الطاعة و يزيد من فرصها، و يقلّل من فرص المعصية و يمنع من وجودها في المجتمع.
من أهم المشكلات التي قد تهدّد الجماعات البشرية، نشوء الخلافات و أسباب الفرقة المؤدية إلى التنازع، و هو الطريق الحتمي للفشل و الوهن، و ينهى اللّه عن التنازع فيما بين المؤمنين فيقول جلّ من قائل: وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ (2).
فالتنازع و الخلاف و الخصومة من أهم أسباب الفساد و الانحراف بين أفراد المجتمع. كما أنها تؤدي إلى هدر الطاقات البشرية، و استنزاف القدرات الخلاّقة في غير أماكنها، و هدم بنيان الجماعات، و قلع أسس المودّات و الصّداقات.
و قد أدرك الإمام الصادق خطورة هذا الأمر، فتشدّد فيه و حذّر من عواقبه، فقال:
«إياك و كثرة الخصومات فإنها تبعدك من اللّه»(3)، كما حذّر من مخاطرها على الأجواء النفسية و الاجتماعية بقوله: «إياكم و المراء و الخصومة فإنهما يمرّضان القلوب على الإخوان، و ينبت عليهما النفاق... و من زرع العداوة حصد ما بذر»(4)
و على هذا، فإن من أبرز مظاهر إصلاح المجتمع المؤدية إلى صحّته و سلامته، العمل على فض النزاعات و إزالة الخصومات و معالجة الخلافات، التي تسمح للفرد أن يعيش في كنف مجتمع ناعم بالسلام و الأمن و الاستقرار.
و المصلح الاجتماعي الذي يتربّى في مدرسة الصادق لا يتوانى عن استئصال بذور الاختلاف من تربة المجتمع. فهو المسارع دوما نحو تقريب أفراد المجتمع، فيتحلى أبناؤه بالمحبة و الإخاء، و يشبكون أيديهم متحدين في مواجهة أعدائهم و مؤازرة أصدقائهم.
ص: 322
و لطالما كان سلوك الإمام مرآة تعكس هذه المثل و الإرشادات التربوية الإصلاحية في كل مناسبة. و قد روي أن أبا عبد اللّه إذا مرّ بجماعة يختصمون لا يجوزهم حتى يقول ثلاثا: «إتقوا اللّه إتقوا اللّه و يرفع بها صوته»(1).
و لا يختلف أحد في الانعكاسات السلبية التي تنتج عن النزاعات و الخصومات، و لكن المشكلة تكمن في إيجاد الطرق المناسبة للتخلص من هذه الخلافات، و الوصول إلى تغيير حال الخصومة و النزاع إلى حال الوحدة و الاعتصام بحبل اللّه تعالى.
و الإمام الصادق كمصلح تربوي يقدّم لنا بعض الطرق الناجعة إلى حلّ هذه المشكلات و يواجه معها باعتماد أسلوبين: الوقاية و العلاج.
و أسلوب الوقاية يتمثل في السعي إلى حل المشكلات قبل حدوثها؛ أي أن يتم التركيز على زرع الأصول و المبادئ الأخلاقية في نفوس المؤمنين؛ لأنها كفيلة بتمتين العلاقات السليمة و تحصينها و الابتعاد عمّا يثير الحساسيات و العصبيات بين الأفراد.
أما أسلوب العلاج فيتمثل في السعي إلى حل المشكلات بعد حدوثها؛ أي أن يتم السعي إلى إزالة آثار الحقد و البغض من القلوب، و تعويد النفوس و تربيتها على ردّات الفعل الصحيحة و السليمة. و من أبرز هذه الأساليب:
إن معرفة الأسباب المؤدية إلى النزاع و تجنبها، تعتبر مدخلا هامّا يوصلنا إلى تقليل فرص حصول مثل هذه النزاعات، و تدخل في أساس الإجراءات الوقائية عند الإمام الصادق، لا بل إنها تدخل في صميم منهجه التربوي الذي حذّر بشدة من تباعد المسلمين و اختلاف كلمتهم و تشتت شملهم، و ذلك لتحصين هذا المجتمع و صيانته من التفتت و الانهيار.
و لأن المجال لا يتسع للإحاطة بكل ما يمكن اعتماده من الأساليب الإصلاحية، فسنختار منها نماذج من جذور الخلاف التي يعرّفها الإمام و يحذّر الأمّة عنها، فنذكر بعضها:
قد لا يسلم إنسان من نقاط ضعف و عيوب في شخصيته و سلوكه و أخلاقه، إلاّ أن الإمام حذّر من التركيز و الحديث الدائم عن هذه النقاط و إثارتها، كما اعتبرها ابتعادا عن اللّه لما لها من أثر في تعميق حالة الكراهية و العداوة، فقال: «أبعد ما يكون العبد من
ص: 323
اللّه أن يكون الرجل يؤاخي الرجل و هو يحفظ عليه زلاّته ليعيّره بها يوما ما»(1).
كما شدّد على عدم اعتبار نقاط الضعف و العيوب التي تحدثنا عنها هدفا دائما، نصوّب بنادقنا نحوه، فنصيبه بما يؤدي إلى أذيته لا إلى تصويبه و تقويمه، فقال: «إياكم و التعرض لعيوب الناس فمنزلة المتعرض لعيوب الناس كمنزلة الهدف»(2).
إنّ السخرية من الآخرين و تحقيرهم، تشكّل تهديدا لوجود المجتمع؛ و أقلّ أضراره تتمثل في نفور الناس و كراهيتهم لمن يسخر منهم؛ لأن مبعث ذلك، الغرور بالنفس و اعتقاد المستهزئ بكونه أفضل من كل من هم حوله، و هذا سيؤدي حتما إلى زوال التعاطف بين أفراد المجتمع. و قد أشار الإمام إلى هذا فقال: «لا يطمعنّ المستهزئ بالناس في صدق المودة»(3).
فقد شبّه الإمام الصادق النمّام بالساحر الذي يفرّق بين الأحبّة بسحره، فتكلم في حديث مختصر عميق المغزى عن دور النميمة التخريبي الهدّام في المجتمع قائلا: «إن من أكبر السحر النميمة يفرّق بها بين المتحابّين و يجلب العداوة على المتصافين و يسفك بها الدماء و يهدم الدور و تكشف بها الستور و النمّام أشرّ من وطأ على الأرض بقدم»(4).
و لطالما كان يجتمع مثل هؤلاء الأشخاص حول الملوك و الولاة و السلاطين، فيتقرّبون منهم كي يتمكنوا من زرع بذور الخلاف و الفرقة لتحقيق أهدافهم السيئة الوضيعة، لذا نجد الإمام يحذر أحد الولاة (النجاشي(5) الذي كان قد طلب منه بعض الوصايا، فكتب الإمام إليه: «إياك و السعاة و أهل النمائم فلا يلتزقن بك أحد منهم، و لا يراك اللّه يوما و لا ليلة و أنت تقبل منهم صرفا و لا عدلا فيسخط اللّه عليك و يهتك سترك»(6).
ص: 324
إنّ الجدال عبارة عن تردّد الكلام بين الخصمين، إذا أراد كلّ واحد منهما إحكام قوله، ليدفع به قول صاحبه و هو نوعان: «إن كان في تقرير الحق فهو ممدوح و إن كان في تقرير الباطل فهو مذموم»(1) الذي يقصد به دفع الحق أو مجرد العناد أو ليلبس الحق بالباطل أو طلب السمعة و الجاه. و أمّا المراء «طعن في كلام الغير لإظهار الخلل فيه من غير أن يرتبط به غرض سوى تحقير الغير»(2).
و الإمام ينهى عن الجدال المذموم الذي لا يراد به وجه اللّه كما ينهى عن المراء بما أنّهما يمثلان آفة من أشدّ الآفات التي تسبّب الخصومة و تفرق صفوف الأمة. فقال «إياك و المراء فإنه يحبط عملك، و إياك و الجدال فإنه يوبقك»(3).
لا ينظر الإمام إلى الغيبة كرذيلة أخلاقية فحسب، بل هو يراها من العوامل الهدّامة لشخصيات الأفراد في المجتمع، و التي تجعلهم يسقطون في أوحال الحقد و البغضاء و العداوة، فنجد الإمام يتمثل شدة قبح عمل المغتاب إلى درجة أن الشيطان نفسه يتبرأ من رفقته و صحبته و يستقبح قبول ولايته، فيقول: «من روى على مؤمن رواية يريد بها شينه و هدم مروءته ليسقط من أعين الناس أخرجه اللّه من ولايته إلى ولاية الشيطان فلا يقبله الشيطان»(4).
و قد نهى الإمام عن هذه الرذيلة (الغيبة) حتى في حالات القطيعة، اتقاء لازدياد وتيرة العداء و اتساع رقعة الخلاف و حفظا لماء الوجه و تحسّبا لعودة المودّة و الألفة يوما ما، فورد على لسانه: «لا تتبع أخاك بعد القطيعة وقيعة فيسدّ طريق الرجوع إليك، فلعلّ التجارب تردّه عليك»(5).
يقول الصادق في هذا الصدد: «من اتهم أخاه في دينه فلا حرمة بينهما»(6). إن في كلام الصادق هنا إظهارا للأثر السلبي لاتهام المؤمن أخاه، و التشكيك في نزاهته
ص: 325
و صدقه و نواياه... إلخ؛ لأن في ذلك إسقاطا للحرمات و تعديا على الكرامات و عدم الشعور بالأمان و الطمأنينة بين الأفراد.
من المؤكد أن توجيه الشتائم للآخرين و إهانتهم عن طريق السبّ أو اللعن أو غيره، سيتسبب بمزيد من الشحناء و البغضاء، و سيبقى أثره في النفوس، و إن توصّل المتنازعون إلى صلح بينهم فيما بعد، و قد نقل الإمام إلينا كلاما في ذلك ورد على لسان جده رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقال: «سباب المؤمن كالمشرف على الهلكة»(1). و كذلك حذّر من التلاعن بين أفراد الأمة الإسلامية بقوله: «إن اللعنة إذا خرجت من صاحبها تردّدت بينه و بين الذي يلعن... فاحذروا أن تلعنوا مؤمنا فيحل لكم»(2).
و لا يكتفي الإمام بالتحذير و ذكر نتائج ارتكاب رذيلتي السبّ و اللّعن، إنما نجده - و كعادته - ينصح باعتماد أساليب وقائية نحاول إبعاد المؤمن عن التلفظ بأقل ما يمكن [أن] يقال في مقام الإيذاء فيقول:
«إذا قال الرجل لأخيه المؤمن: أفّ خرج من ولايته - أي الولاية التي تربط المؤمن بالمؤمن -... و لا يقبل اللّه من مؤمن عملا و هو مضمر على أخيه سوءا»(3).
إنّ مجرد التعبير بلفظة أف، أخف كلمة صادرة عن نزعة الكراهية و «هذا القدر من التعبير العدواني يخطره الإمام، فيما يدعنا نتأمل بمزيد من الملاحظة مدى حرص الإمام على تنقية الشخصية و تدريبها على أعلى مستويات السلوك السوي»(4).
*** هذه بعض جذور الخلاف التي حدّثنا عنها الإمام و حثّنا على استئصالها، و نصح بتجاوزها، كما دلّنا على بعض أساليب الوقاية من الوقوع فيها.
و من هنا يظهر لنا بوضوح حرص الإمام الدائم و اهتمامه المتواصل - عبر نهجه القويم - بوحدة جماعة المسلمين و عدم كونهم فريسة للخلاف و الفرقة، لئلا تكسر شوكتهم و توهن قواهم، فيطمع بهم عدوّهم و يقذف بهم إلى الفشل، بينما يصيبون في تحابّهم و توادّهم و ابتعادهم عن هذه الرذائل العزّة و الرقيّ و التقدّم لهم و لمجتمعهم الحضاري و الإنساني.
ص: 326
ثمّة تدابير وقائية أولاها الإمام الصادق اهتماما خاصّا؛ بهدف منع حدوث الخلافات و الخصومات في المجتمع، و هذه التدابير تتمثل في اعتماد التغافل و حسن الظن، «و التغافل يعني أن يكون المرء عالما بالشيء و مطّلعا عليه ثم يتعمّد بإرادته أن يظهر نفسه و كأنه لا يعرف شيئا عنه»(1).
فإذا كان هذا التغافل بهدف ستر العيوب الخفية للآخرين، و التغاضي عن زلاّتهم التي لا ينبغي إظهارها، فهو من صفات المؤمنين الحميدة، و دليل على عظمة الفرد و كرامته، كما يعدّ من العوامل الرئيسة لإصلاح المجتمع، حيث يبعث على التحابّ و التقارب بين الناس، و ربما يحول دون وقوع النزاع و الشجار، و من هنا يبرز دوره المهم في تخفيف آلام الحياة و منغصاتها.
و بعبارة أكثر إيجازا، التغافل في وقته و موضعه المناسب يعتبر من ضرورات الحياة الاجتماعية الهادئة السلمية التي يقتضيها كلّ من العقل و المصلحة. و قد تناول الصادق في نهجه التربوي هذا الموضوع قائلا: «صلاح حال التعايش التعاشر ملء مكيال، ثلثاه فطنة، و ثلثه تغافل»(2).
فليست الدنيا شيء وراء التعايش و التعاشر فيما بين البشر، و لا بدّ من أن يعيش الناس عيشة ترضي اللّه، لا نزاع فيها و لا خصام. و الميزان الذي كال به الإمام ليوازن بين كفتي التعايش و التعاشر، يمثل الانتباه و الفطنة ثلثيه، بينما يمثل التغافل عن بعض الأمور الثلث الباقي، و هي نسبة لا يستهان بها.
فكما أن على المؤمن العاقل أن يتعامل مع مسائل الحياة بالتحقق و التدقيق و اليقظة كي يتمكن من إحراز خيره و صلاحه، و أن لا يغفل عن حيل أعدائه و مكرهم و سوء سعيهم، بل عليه أن يكون دائما يقظا و على حذر، و لكن في المقابل يجب أن لا تخلو حياته و معاشرته من التسامح و التساهل، حتى تصفو له و للآخرين أجواء المعاشرة و العلاقة.
و هذا التساهل يقتضي في بعض الأحيان أن يجعل الإنسان كثيرا من الأمور الجزئية في علاقته مع الآخرين في زاوية النسيان و الإهمال؛ لأن الدّقة الشديدة في متابعة كلمات الآخرين و مواقفهم و وضعها تحت المجهر قد يؤدي إلى مضاعفة المشكلات و خلق الحساسيات في أجواء المجتمع المسلم.
فالصادق يحرص كل الحرص على أن يعيش الناس مع بعضهم البعض في أمن و وئام، و في جوّ من الثقة المتبادلة، و عدم الإسراع إلى تصديق ما يسمعه عن أصدقاء أو
ص: 327
إخوان لهم. فروي أنّ أحد تلاميذ الإمام قال له: يبلغني عن الرجل من إخواني ما أكرهه، فأسأله فينكر ذلك و قد أخبرني عنه الثقات أجاب الإمام في ذلك: «إذا بلغك عن أخيك شيء و شهد أربعون أنّهم سمعوه منه فقال: لم أقل، فاقبل منه»(1).
و في كلام الصادق تشديد واضح على أهمية الثقة في الحياة الاجتماعية؛ لأنها تشكل أساسا متينا للتعامل المشترك بين أفراده، فهو يشجع المسلم على أن يمر على زلاّت الآخرين مرور الكرام من موقع سعة الصدر، و حفظا لماء وجههم، و اتقاء لانتشار الحقد و البغضاء فيما بينهم.
و على هذا، فقد أوصى الإمام أفراد المجتمع الإسلامي بحسن الظن، و أن يلتمس كل فرد منه عذرا لأخيه، أو محملا يحمله عليه فيما قد يشك فيه، فقال: «إذا بلغكم عن مسلم كلمة فاحملوها على أحسن ما تجدون، فإن لم تجدوا فلوموا أنفسكم»(2).
ثم عاد فأكّد ما نصح به قائلا: «فإن لم تجد له عذرا فقل لنفسك: لعلّ له عذرا لا تعرفه»(3).
و الإمام انطلاقا من القرآن الكريم و السّنة الشريفة يعلّمنا كيف نربي أنفسنا على أن لا نظن بأحد سوءا إلاّ أن يردنا عليه إثبات قطعي أو بيّنة؛ لأن تحوّل الثقة بين الناس إلى الشك و سوء الظن سيوجّه علاقة الأفراد في المجتمع نحو الحذر و الريبة، و ربما إلى التآمر عليهم و النيل من مواقعهم الاجتماعية، و بالتالي سيجرّهم ذلك إلى خوض صراعات، و نشوب خلافات قد لا تنتهي....
إن من أهم الوسائل التي اعتمدها الإمام الصادق في علاج النزاعات و الخصومات بين أفراد المجتمع، هي إصلاح ذات البين.
و قد أشرنا فيما سبق إلى أن المجتمع الإسلامي لا بدّ أن ينبني على قاعدة التآخي و التآلف، إلاّ أن الشيطان قد يفسد فيما بين الأخوين، فيثير أحدهما على الآخر، رغم الحذر و اتخاذ التدابير الوقائية. فيجب على طرفي النزاع، كما يجب على الآخرين أن يتداركوا فورا ما أفسد الشيطان من العلاقة بينهما، التزاما بقوله تعالى:
وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ (4) ، و قوله تعالى: فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ (5).
ص: 328
فإذا ما اشتدّ أمر الخصام وجب على كل مسلم أن يسارع إلى الإصلاح بين المتخاصمين بمختلف الوسائل. و معروف ما لهذا العمل من أهمية و فضل، و ما له من آثار إيجابية في توطيد العلاقات الاجتماعية العامّة. و لذا فقد بذل الصادق أقصى جهده في حث المؤمنين و ترغيبهم بإصلاح ذات البين حتى اعتبره أفضل الصّدقة فقال:
«صدقة يحبّها اللّه إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا و تقارب بينهم إذا تباعدوا»(1).
و في المقابل، اعتبر الإمام أن أقبح الأعمال عنده، هو أن يبادر أحد الطرفين المتنازعين إلى الصلح مع الآخر، فيمدّ يده إليه فيقبض الآخر عنه يده و لا يستجيب لمبادرته، فقال في ذلك: «ملعون رجل يبدؤه أخوه بالصلح فلم يصالحه»(2).
و التأمل في نصوص الإمام الواردة في إصلاح ذات البين، يبصّرنا بالدور الرائد الذي أعطاه للمصلحين، لما له من أثر في سدّ أبواب الفتن و إطفاء نار النزاعات المحرقة، و قد ربّى الإمام في طلابه روح الإصلاح و وجّههم إلى كيفية التعامل مع المتنازعين في مثل هذه الحالات، فورد عنه ما نصّه:
«الكلام ثلاثة: صدق، كذب و إصلاح بين الناس، قيل له: الإصلاح بين الناس؟ قال: تسمع من الرجل كلاما يبلغه فتخبث نفسه فتقول: سمعت من فلان. قال فيك من الخير: كذا و كذا خلاف ما سمعته منه»(3).
و لا شك أنّ الكلام يحتمل وجهين، فإمّا أن يكون مطابقا للواقع أو مخالفا له، فالأول يدعى صدقا، و الثاني كذبا، و لكن بما أن الكلام المخالف للواقع بدوره على قسمين: فإمّا أن يكون موجبا للفساد أو موجبا للإصلاح، فإنّ الإمام قد فصل بين هذين القسمين و قرّر بأنّ القسم الموجب للإصلاح هو قسم ثالث من أقسام الكلام.
و الإصلاح ليس بالأمر السهل كما يظنه البعض، إنما هو عملية صعبة و معقدة، تحتاج إلى فطنة و دراية و مزيد من الوعي و الإدراك.
و لا عجب إذا رأينا الإمام الصادق نفسه في طليعة الساعين إلى إصلاح ذات البين و رأب الصدع بين الناس، إلا أنه استطاع أن يبتكر أسلوبا مميزا لم يسبقه إليه أحد في علاج الكثير من المشكلات و المواقف الحرجة، فقد عيّن مبلغا من المال دراهم و دنانير للإصلاح و فصل الخصومة بين أصحابه إذا حصل بينهم خلاف أو نزاع في القضايا المالية، تأليفا لقلوبهم، و دفعا لموجبات العداء و التفرقة بينهم.6.
ص: 329
كما ورد عن أبي حنيفة سائق الحاج(1) قال: مرّ بنا المفضل و أنا و ختني نتشاجر في ميراث، فوقف علينا ساعة، ثمّ قال لنا: تعالوا إلى المنزل. فأتيناه، فأصلح بيننا بأربعمائة درهم فدفعها إلينا من عنده، حتى إذا استوثق كلّ واحد منّا من صاحبه قال:
«أما إنها ليست من مالي، و لكن أبو عبد اللّه أمرني: «إذا تنازع رجلان من أصحابنا في شيء، أن أصلح بينهما، و أفتديهما من ماله» فهذا من مال أبي عبد اللّه»(2).
و هكذا نلحظ كيف يكلّف الإمام بعضا من تلاميذه لحلّ الخلافات بين الناس بما يودع لديهم من ماله؛ لأنه يشعر و يدرك أثر تعطيل دور الإصلاح في تنافر القلوب و ضعف المودّة الاجتماعية إلى أبعد الحدود.
فالمشاكل الاجتماعية بين الأفراد إنما تبدأ بخطأ من طرف أو شخص، فإذا قوبل الخطأ بتصرف من جنسه كردّ فعل عليه، ترسّخت المشكلة و تعقدت، لذلك نجد أبا عبد اللّه يدعو في تربيته الاجتماعية إلى العفو و الصفح عن المسيئين، و يعتبر أن مقابلة الإساءة بالإحسان من أهم الأساليب المتبعة لعلاج الخصومات و إطفاء ثورة النزاعات.
فرغم أن من حقّ المظلوم أن يعاقب على السيئة بمثلها - وفق مقتضى العدل - إلا أنّ الأخلاق الإسلاميّة توصي بالعفو و المغفرة، من غير تشجيع على الظلم و التمادي فيه؛ لأن مرتبة الإحسان أعلى و أرفع، و بها يصل الفرد إلى مستوى لا تمنعه معه الإساءة الشخصية من فعل الخير إلى المسيء؛ لأنه إنما يفعله ابتغاء مرضاة اللّه.
و على هذا الأساس يستنكر الإمام الصادق وجود الحقد في قلب المؤمن بقوله:
«حقد المؤمن مقامه، ثم يفارق أخاه فلا يجد عليه شيئا»(3).
فعند ما يصل المرء إلى مرحلة دفن الحقد مباشرة و عدم ترك أي أثر منه في النفس على الشخص المسيء، فإن العفو سوف يسهل عليه و ستكون خطواته الأولى في مسيرته الحصول على مكارم الأخلاق؛ لأن مقابلة السيئة بالحسنة، هو أقصى ما يصل إليه من صفاء في النفس ينعكس على تصرفاته و مواقفه، و قد تبلور هذا في وصية الصادق إلى عبد اللّه بن جندب بن جنادة(4) حيث قال له:
ص: 330
«يا ابن جندب، صل من قطعك، و أعط من حرمك، و أحسن إلى من أساء إليك، و سلم على من سبك، و انصف من خاصمك، و اعف عمن ظلمك كما أنك تحب أن يعفى عنك، فاعتبر بعفو اللّه عنك، أ لا ترى أن شمسه أشرقت على الأبرار و الفجار، و أن مطره ينزل على الصالحين، و الخاطئين»(1).
فالإمام في قوله هذا يتمثل بالآية الكريمة: اِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (2) بمصاديقها في واقع الحياة، و يركز على محور الإحسان الذي يغرس المحبة و يزيل آثار الإساءة من القلوب، فأداء الإحسان لا يدفع الخصومة فحسب، بل يحوّل المسيء إلى محبّ، كما أشار الإمام إلى هذه الجبلّة في الإنسان بقوله: «جبلت القلوب على حبّ من أحسن إليها و بغض من أساء إليها»(3).
و هكذا نتيقّن أن الإمام عمل في رسالته التربوية على مستويين في وقت واحد؛ فهو في حين عمل على إزالة التناقضات الاجتماعية من الساحة، فقد عمل في الوقت نفسه على القضاء على منبع تلك التناقضات من النفس الإنسانية التي يتقاسمها الهوى و الإيمان.
كذلك هذه المشاريع كلّها هي نماذج من الوعي الاجتماعي الذي سعى الإمام الصادق إلى ترويجه في المجتمع و التي تربّي الفرد و تعدّه روحيّا و أخلاقيّا و ثقافيّا ليبني مجتمعا صالحا يسوده الخير و الحبّ و الوئام.7.
ص: 331
ص: 332
المبحث الأول: البناء الاقتصادي
المبحث الثاني: البناء المهني
ص: 333
ص: 334
تعتبر التربية الاقتصادية و المهنية جزءا من منظومة التربية الإسلامية، لا ينفصم عنها طبقا للفهم الصحيح للإسلام، الذي يشمل كل نواحي الحياة. فقد عنيت هذه التربية بالنشاط الاقتصادي النافع و جعلت الكسب الطيب جزءا لا يتجزأ من الإيمان و التقوى، و نهت الإنسان عن الاستكانة إلى الفقر ما دام في مقدوره أن يتخلّص منه و يرتقي إلى مراتب الاكتفاء و الغنى، ذلك لأنّ اللّه تبارك و تعالى خلق كل الخيرات في الكون و جعلها في خدمة الإنسان:
أَ لَمْ تَرَوْا أَنَّ اللّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً (1) .
كما يحث كل فرد مسلم على العمل و استصلاح الموارد الطبيعية لتحسين أسباب العيش و تحقيق التقدم و نشره في المجتمع.
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَ كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَ إِلَيْهِ النُّشُورُ (2)
فالإسلام لا يعارض الدافع المادي للعمل و الكسب و تأمين المعيشة، بل إنه يتمشّى مع ذلك و يمتاز عن غيره من الأنظمة الفكرية و المجتمعية في أنه جعل الاحتراف شعيرة من الشعائر التعبدية، مما شكل حافزا للمسلمين للاشتغال بالمهن المختلفة.
على هذا الأساس، فإنّ التربية الاقتصادية في الإسلام تعلّم الإنسان كيف يتصرف شؤونه الاقتصادية جاعلا نصب عينيه علاقته باللّه. فالإنتاج و التوزيع و الاستهلاك لا بدّ أن يبنى على المعرفة الصحيحة و التطبيق السليم للتعاليم الإلهية.
و من هنا هذه التربية تمثّل المجال الحيوي الذي يتجلّى فيه اهتمام الإسلام بالجانبين الروحي و المادي معا، كما إن التربية المهنية تمثّل المجال الذي يخلق الحضارة الإسلامية من خلال عديد من المهن و الحرف، و كسب الخبرات و المهارات اللازمة فيها مع مراعاة احترام المبادئ الأخلاقية.
إنّ الإمام الصادق كمفكر تربوي كان يمارس هذا اللون من التربية، المؤسسة على تنمية الوعي الاقتصادي و المهني للفرد المسلم فهو لم يغفل قيمة الجانب المعيشي
ص: 335
باقتصادياته و ضروراته في حياة الفرد و حياة الجماعة. بل كرّس جانبا كبيرا من خطاباته للدعوة إلى مكافحة التخلّف و تنمية الإنتاج و توظيف الطاقات و مكافحة البطالة و تشجيع الفرد نحو الحرف و المهن الطيبة و اعتبار ذلك عملا عباديّا و جهادا مقدسا، هذا إلى جانب اهتمامه بتربية المستهلك الواعي الذي يدرك دور المال في حياته و وظيفته الاجتماعية، بوصفها وسيلة إلى أهداف أسمى، أبرزها ابتغاء مرضاة اللّه جلّ شأنه فيتحقق بذلك سعادة البشر في الدارين الدنيا و الآخرة.
و سنتناول في هذا الفصل تعاليمه و مناهجه التربوية في هذا الصدد إن شاء اللّه.
ص: 336
المبحث الأول البناء الاقتصادي
- مفهوم الاقتصاد و أهميته
- الجانب الاقتصادي في فكر الإمام التربوي
- تربية المسلم الاقتصادية في المجال المعرفي
- تربية المسلم الاقتصادية في المجال السلوكي
ص: 337
ص: 338
أصل «الاقتصاد» مأخوذ من كلمة «قصد»، و القصد في الشيء هو الاعتدال و التوسط فيه، و هو مرحلة بين الإفراط و التفريط، يقال: «فلان مقتصد في المعيشة» أي متوسط فيها»(1)، و علم الاقتصاد هو «العلم الذي يدرس النشاط الإنساني في سعيه لإشباع حاجاته المتعددة بواسطة الوسائل النادرة ذات الاستعمالات المختلفة»(2).
و على هذا الأساس، قام علماء معاصرون بدراسة هذا العلم، نظرا لأهميته المباشرة و تأثيره العميق في جوانب حياة الفرد و المجتمع، و لما يقدمه من حلول تجاه ما يواجه الإنسان من مشكلات و ما يمرّ به من أزمات. كما إن الحاجات الاقتصادية تحتل المرتبة الأهمّ في سلّم حاجات البشر على الأرض.
و بما أن الإنسان لا يستطيع أن يحيا بدون غذاء و لا كساء و لا سكن، فنجد أنها حاجات دائمة يجب أن نسعى إلى تحقيقها و توفيرها؛ لأنها تغطي قسما كبيرا من نشاطات الفرد و المجتمع، و تشكل في حياة الإنسان علاقات متنوعة و معقّدة.
إنّ الإسلام دين شامل و منهج متكامل يعالج جميع جوانب حياة الإنسان، و لقد اهتمّ هذا الدين - منذ ظهوره - بالنواحي الاقتصادية، و تراه من خلال الآيات القرآنية الكريمة و الأحاديث النبوية الشريفة، يقرّر الأصول الهامة التي تنظم العلاقات الاقتصادية بين الناس، فقال عزّ و جلّ: وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا (3)، كما
ص: 339
قال تعالى: كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ (1)، و قال جل و علا: وَ الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (2).
و ها هو الرسول الأكرم صلّى اللّه عليه و سلّم يتناول بعض جوانب التربية الاقتصادية الإسلامية فيقول: «الجانب مرزوق و المحتكر ملعون»(3) و يقول صلّى اللّه عليه و سلّم أيضا: «من غشنا ليس منا»(4).
و ورد غير ذلك الكثير من الآيات و الأحاديث التي تنظم الحياة الاقتصادية بين أفراد المجتمع.
و عليه، نستطيع أن نعرّف علم الاقتصاد الإسلامي بأنه: «العلم الذي ينظم علاقة الأشخاص بالمال في كسبه و في إنفاقه وفق مقاصد الشريعة و أحكامها»(5). فهو يبحث في كيفية تنظيم النشاط الاقتصادي للأمة الإسلامية أفرادا و جماعات، مما يؤدي إلى اكتساب الحلال و إنفاقه فيما يرضي اللّه.
من هنا يختلف الاقتصاد الإسلامي في أسسه و فروضه مع الاقتصاد الوضعي تماما.
فالاقتصاد الوضعي يعتبر أن أساس الأزمات الاقتصادية يعود إلى مشكلة الندرة، و هي عبارة عن ندرة وسائل إشباع الحاجات الإنسانية التي تنشأ عن محدودية الثروات الطبيعية من جهة، و تنامي الحاجات البشرية المرتبطة بازدياد عدد السكان و التقدم الحضاري من جهة أخرى(6).
هذا يعني ضآلة الثروات المتوافرة بالمقارنة مع حاجات الإنسان، و من هنا فإن كل نظرية اقتصادية تحاول إيجاد الحل الملائم لهذه المشكلة، كنظريّة الرأسمالية أو الاشتراكية مثلا.).
ص: 340
أما بالنسبة للنظرية الاقتصادية الإسلامية فإن المشكلة الحقيقية لم تنشأ عن بخل الطبيعة أو عجزها عن تلبية حاجات الإنسان، و لا بسبب ندرة الموارد، لأن اللّه تعالى خلق الأرزاق كلها لجميع مخلوقاته، فقدّرها حق قدرها، و بارك فيها، كما قال سبحانه و تعالى: * قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ * وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَ بارَكَ فِيها وَ قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيّامٍ سَواءً لِلسّائِلِينَ (1).
و لو أمعنّا النظر في مضمون الآيات السابقة نستنتج أن اللّه تعالى قد حشد للإنسان في هذا الكون الفسيح كل ما له فيه مصلحة و منفعة. و قد أشار الإمام الصادق إلى هذا المعنى انطلاقا من فهمه للقرآن الكريم، فقال مؤكدا: «أن اللّه عزّ و جل خلق الخلق و خلق معهم أرزاقهم حلالا طيبا»(2)، فتراه من خلال كلامه يرفض الإقرار بمشكلة الندرة المذكورة، و يصرّح بأن اللّه تعالى وفّر للإنسان في هذا الكون الموارد الكافية التي تساعده على استمرار حياته من خلال تلبية احتياجاته المادية.
إذا، المشكلة قبل كل شيء، هي مشكلة الإنسان نفسه، فأنانيته و حبّه المفرط للمال، و غلوّه في هذا الحب أحيانا، يقوده إلى سوء استخدام الثروات، و سوء تنظيمه الاقتصادي في توزيعها، و حرمان الآخرين، مما يؤدي إلى اضطراب أنظمة الحياة المعاشية للبشر في كل زمان و مكان مهما تغيرت الظروف؛ و هذا هو السبب الأكثر أهمية لكثير من مشكلات الإنسان الحياتية بصورة عامة، و الاقتصادية بصورة خاصة و هذا الأمر بالذات هو ما أشار الصادق في كلامه:
«... فالأمطار هي التي تطبق الأرض... و بها يسقط عن الناس في كثير من البلدان مؤونة سياق الماء من موضع إلى موضع، و ما يجري في ذلك بينهم من التشاجر و التظالم، حتى يستأثر بالماء ذوو العزّة و القوة و يحرمه الضعفاء»(3). «فظلم الإنسان في حياته العملية و كفرانه بالنعمة الإلهية هما السببان الأساسيان للمشكلة الاقتصادية في حياة الإنسان»(4)
و لا يمكن إيجاد ما يسمى بالحلول الاقتصادية إلاّ بإصلاح نفوس الناس و عقائدهم. فبمجرد تفسير المشكلة على أساس إنساني يمكن التغلب عليها بإعادة تربية7.
ص: 341
الإنسان و صياغة مفاهيمه و نظرته إلى المال و المنفعة، و تصحيح سلوكه في الكسب و الإنفاق ليتناسب مع النهج الإلهي.
و لذا فإن «المدخل إلى علم الاقتصاد الإسلامي هو مدخل تربوي سلوكي يضع قواعد السلوك الصحيح و يشارك في التربية عليها»(1).
و من هنا تظهر ضرورة التربية الاقتصادية للمسلم، فهي جزء من التربية الإسلامية الشاملة لتحقيق الحياة الكريمة التي تعينه على عمارة الأرض و عبادة اللّه عزّ و جلّ.7.
ص: 342
إن القضايا الاقتصادية تعتبر عصب الحياة في المجتمع الإنساني، و التربية في هذا الصدد ينبغي أن تصبح أحد العناصر الأساسية في التوعية و في نشر الثقافة بين الجمهور.
و على هذا فإن التربية الاقتصادية تهدف إلى «تشكيل السلوك الاقتصادي للمسلم المنبثق من تكوينه الشخصي إيمانيّا و خلقيّا و ثقافيّا، من خلال تزويده بالثقافة الفكرية و بالخبرات العملية و الاقتصادية، بما يتفق مع مقاصد الشريعة الإسلامية»(1).
فهذه التربية واجبة في كل مراحل الحياة، منذ الطفولة حتى الشيخوخة، وفق مقررات معيّنة تناسب كل مرحلة، إذ إنه لا يمكن الفصل بينها و بين التربية الإسلامية.
و قد اهتم الإمام الصادق كعالم تربوي بهذا الجانب اهتماما كبيرا، فكانت له كلمات مضيئة ذات طابع اقتصادي يضفي على منهجه التربوي مزيدا من المصداقية و الفعالية، و ممّا قاله في ذلك: «ثلاثة أشياء يحتاج الناس طرّا إليها: الأمن، و العدل، و الخصب»(2).
فالمتأمل في كلامه يجد أن الإمام يعتبر تأمين الحاجات و المتطلبات المادية و المعيشية هي من المستلزمات الأولية لحياة كل مجتمع و استمرار بقائه.
فهو يرى أن الخصب و اتساع الرزق يقترن بتحقق الأمن و العدل من ناحية، بكثرة الموارد و توفرها و بالعمل الذي يستثمر تلك الموارد استثمارا طيبا من ناحية أخرى.
و هذا التعليم مقتضاه أن الناس إذا لم ينالوا ما يحتاجون إليه، فإن أيّ إصلاح أو وعظ أو تثقيف لن يؤتي أكله في حملهم على تعديل سلوكهم. فإقامة العدل الاجتماعي و الاقتصادي من أهم الأمور المؤثرّة في الحركات البناءة. و هذا واضح لدى كل من له إلمام بواقع حياة الناس و طبيعة المجتمع.
ص: 343
إضافة إلى ذلك، فإن الإمام يرى العلاقة الجدلية واضحة بين الأزمات الاقتصادية و الأخلاق و سلوك الأفراد، فيؤكد ما يراه قائلا: «غلاء السعر يسيء الخلق و يذهب الأمانة و يضجر المرء المسلم»(1).
فلا يستطيع عاقل أن ينكر تأثر القضايا الأخلاقية إلى حدّ كبير بالعوامل الاقتصادية، و لا يمكن تجاهل مثل هذه العلاقة على ضوء هذه الحقيقة التجريبية الحسية و «من الصعوبة بمكان المحافظة على القيم الأخلاقية كالشهامة و الصراحة و الصدق و الأمانة و استقلال الشخصية بالنسبة للفرد الجائع.
فليس بالضرورة أن يلجأ الجائع إلى الكذب و الغش و الخداع، غير أنّه يكون أكثر استعدادا من غيره للوقوع في حبائل هذه الأمراض الاجتماعية، و التعرض للانحرافات الخلقية و فقدان الإيمان»(2).
من هنا يعتبر الصادق أن الفقر الاقتصادي قد يكون باعثا على ارتكاب الذنب، كما أن الغنى المادي قد يصبح عاملا مساعدا على التقوى و الصلاح، فيقول: «غنى يحجزك عن الظلم خير من فقر يحملك على الإثم»(3).
و على صعيد آخر، يرى الإمام الصادق علاقة وثيقة بين قيام المجتمع الإسلامي و دوامه، و بين النظام الاقتصادي السائد فيه، فيتمثل ذلك قائلا:
«إن من بقاء المسلمين و بقاء الإسلام، أن تصير الأموال عند من يعرف فيها الحق و يصنع المعروف. و إنّ من فناء الإسلام و فناء المسلمين، أن تصير الأموال في أيدي من لا يعرف فيها الحق و لا يصنع فيها المعروف»(4).
و هو يؤكد بأن ثروات الأمة إن كانت بيد الذين يعرفون الحق في الأموال و لا يسيئون استخدامها، و ينفقونها في وجوه البرّ بما يعود بالخير على كل الناس و على جوانب حياتهم المختلفة، سواء المادية و الروحية و الفردية و الاجتماعية، و وفقا لمنهج اللّه تعالى، فهذا يؤدي إلى حياة المجتمع و عزته و بقائه.
أما إن كان المال بيد أناس لا يعرفون حق اللّه تعالى في إدارة المال و يعتبرونه غاية، و يسعون وراء الحرية في الاستغلال و الملكية، و يسوّغون لأنفسهم التكاثر و الاكتناز، فإن هذا سوف يؤدي إلى فساد المجتمع و سقوطه و هلاكه.1.
ص: 344
و في إطار هذا التعليم ثمة إرشادات موجّهة لا ينبغي أن نمرّ عليها غير مدركين لأهميتها، و منها:
1 - ليس مقدار المال من حيث القلة و الكثرة هو المعيار الباتّ للمصالح و المفاسد الاجتماعية، و لتركيز العدالة و إقامة القسط، بل المعيار هو كيفية جريان المال في الأيدي و تداوله بين الأفراد، فبقاء المجتمع و فناؤه يرتبط بأصحاب الثروات، و كيفية إدارتهم لها، و من هنا يأتي التركيز على العامل الإنساني في القضايا الاقتصادية.
2 - عبارة «يعرف فيها الحق»، توحي بضرورة المعرفة و الاختصاص في المسائل الاقتصادية، و الخبرة بالأمور المتعلقة بالأموال، و الاطلاع على نظرة الإسلام إلى المال و حقوقه، و العلم بأشكال تداوله بين الناس.
3 - عبارة «يصنع المعروف»، يتوقف فيها على وضع الأموال في مواضعها الإلهية و رعاية العدالة و الحق فيها، أي السلوك الاقتصادي الرشيد الذي يرضى عنه اللّه، و إنما قدّم في الحديث قوله: «يعرف فيها الحق» على قوله: «يصنع المعروف» للتدليل على أن الأساس الأهم في الأمور الاقتصادية - كسائر الأمور - هو تقديم الخبرة و المعرفة على السلوك و التطبيق، إذ إن التجاوز عن صنيع المعروف في كثير من الأحيان يعود إلى عدم العلم و المعرفة الواعية.
و من ثم فإن الإمام في منهجه التربوي يرى في التغيير الفكري و النفسي و السلوكي في الأفراد، تمهيدا لبناء المجتمع الإنساني الذي يقوم على القسط و العدل الاقتصادي.
فهو يرسم خطة تربيته الاقتصادية على أساس خطوتين:
* الخطوة الأولى: تتجه إلى مجال النظرة و التصور.
* الخطوة الثانية: تتجه إلى مجال التطبيق و السلوك.
و فيما يلي عرض لأهم تعاليم الإمام الصادق الاقتصادية، نستخلصها في البحوث التالية إن شاء اللّه.
ص: 345
ينطلق الإمام الصادق في منهجه التربوي إلى تكوين معرفة صحيحة لدى الفرد؛ لأن هذه المعرفة هي مادة الحركة الإنسانية و وقودها، و لا شك بأن سلوك الإنسان و نشاطه نابع من النظام الفكري القابع في عقله و باطنه، و بالتالي فإن المحتوى الفكري لدى الإنسان إذا لم يبن على أسس سليمة فإنه سينعكس سلبا على تصرفاته، و لن يكون صالحا أو مؤهلا لأن يصبح إنسانا سويّا ناجحا في مسيرة حياته.
و من هنا فإن الإمام يعتمد في منهجه التربوي الاقتصادي على تصحيح نظرة أفراد المجتمع إلى المال و كل ما يتعلق به، على أساس معطيات الكتاب و السّنة.
و يبدو أن معظم النشاطات الاقتصادية و المعيشية للفرد تنشأ من نظرته إلى الثروة.
و تقويم هذا التصور سوف يؤدي بلا شك إلى محاولة إنشاء السلوك السليم، أو بمعنى آخر، فإن تنظيم الحياة الاقتصادية للفرد يرتبط ارتباطا وثيقا بنظرته الشاملة و المتكاملة إلى المال.
فالمال هو عصب الحياة الاقتصادية، إذ إن الانسان يستطيع من خلاله تحقيق الخير و الرفاهية له و لأسرته و لأفراد المجتمع الذي يعيش فيه. «و هو بالنسبة للفرد وسيلة لإشباع الحاجيات و بالنسبة للمجتمع وسيلة التنمية و مصدر القوة»(1).
انطلاقا من هذا المفهوم، فقد عنيت مدرسة الإمام الصادق بهذا الأمر في المجتمع، و أولته اهتماما بالغا، و ذلك من خلال التركيز على نواح عدة تبين كل منها بعدا خاصّا لهذا التصور، منها:
إنّ المال في الأصل: «ما يملك من الذهب و الفضة ثم أطلق على كل ما يقتنى و يملك من الأعيان»(2) و سمّي المال مالا لميل النفس إليه.
ص: 346
أما المفهوم الاقتصادي للمال فإنه يعدّ كل ما ينتفع به على أي وجه من وجوه النفع مالا، كما أنه يعد «كل ما يقوّم بثمن مالا، أيّا كان نوعه، و أيّا كانت قيمته»(1).
و قد بيّن الإسلام أنّ اللّه جل ثناؤه هو المالك الحقيقي لكلّ ما في السموات و الأرض، كما يتضح من قوله عزّ و جلّ:
وَ لِلّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (2) .
لذا، فإن كل ما يسمى المال هو مال اللّه و ما يؤتاه الإنسان في حياته إنّما هو جزء من مال اللّه، كما قال تعالى: وَ آتُوهُمْ مِنْ مالِ اللّهِ الَّذِي آتاكُمْ (3).
و من ثم فإن ملكية الإنسان للمال ليست ملكية أصلية و حقيقية، بل هو مستخلف من اللّه في تملك المال كما ورد في الكتاب العزيز: وَ أَنْفِقُوا مِمّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ (4)، فقد اقترنت الدعوة القرآنية إلى الإنفاق بالتذكير بمعنى الاستخلاف على المال لئلا يظنّ المالك أن حقه في المال حق ثابت دائم مطلق.
و على هذا الأساس فقد ركّز الإمام الصادق على هذا المبدأ الأساس في منهجه التربوي لكي تستقيم نظرة تلاميذه إلى المال، فهو يعبّر عنها تارة بالوديعة في قوله:
«إن المال مال اللّه جعله ودائع عند خلقه»(5)
و تارة بالعارية كقوله: «إجعل مالك كعارية تردّها»(6).
و يظهر لنا مدى تركيز الإمام على ترسيخ هذا التصور في نفوس الناس، عند ما اعتبره جزءا من حقيقة العبودية، في قوله:
«حقيقة العبودية ثلاثة أشياء، الأول أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوّله اللّه ملكا لأن العبيد لا يكون لهم ملك يرون المال مال اللّه، يضعونه حيث أمرهم اللّه به...»(7)
من خلال هذا المفهوم الرائع يربّي الإمام الفرد المسلم على أصل هام، و هو أن الإنسان ليس مستقلاّ في امتلاكه و لا حرّا بتصرفه في المال بغير إذن صاحبه الحقيقي، أو بخلاف مراده و مقصوده و مشيئته و مطلوبه، لأنه عبد للّه و مستخلف في مال اللّه.9.
ص: 347
و «هذا التصور الإسلامي الخاص لجوهر الملكيّة متى تركز و سيطر على ذهنية المالك المسلم، أصبح قوة موجهة في مجال السلوك و قيدا صارما يفرض على المالك التزام التعليمات و الحدود المرسومة من قبل اللّه عزّ و جلّ، كما يلتزم الوكيل و الخليفة دائما بإرادة الموكل و المستخلف»(1).
و يؤكد الإمام هذه النظرة الاستخلافية في طريقة امتلاك الأموال و كيفية إنفاقها بقوله:
«لو أنّ الناس أخذوا ما أمرهم اللّه عزّ و جلّ به فأنفقوه في ما نهاهم اللّه عنه ما قبله منهم، و لو أخذوا ما نهاهم اللّه عنه فأنفقوه في ما أمرهم اللّه به ما قبله منهم حتى يأخذوه من حقّ و ينفقوه في حقّ»(2).
و يقصد الصادق من هذا التوجيه أن تصرّف الإنسان الاقتصادي كسبا و إنتاجا و إنفاقا - محكوم بإرادة المالك الحقيقي، و هو اللّه، أي أنه مقيد بأوامره و نواهيه، و أن حسابه على هذا التصرف واقع لا محالة، كما أن الإيمان بهذا الأمر «يقلل من تكالب الإنسان المسلم على المال و يهذب نفسه و يجعله يراقب اللّه أثناء كسب المال و حين إنفاقه له، فيصبح المال بذلك نعمة و وسيلة لإسعاد الإنسان»(3). و ليس نقمة و وسيلة إلى شقائه في دنياه و أخراه و هذا ما يهدف إليه الدين الحقّ.
إن ملكية اللّه لكل شيء، لا تعني حرمان الإنسان من جهده أو منعه من التصرف في ما يحصل عليه نتيجة جهده و عمله، بل إن الملكية الفردية حق أساس ثابت و واضح في الإسلام، كما أن الاستخلاف يجيز التملك و الانتفاع، منعا من الاعتداء و الظلم و بغي الناس بعضهم على بعض.
و رغم أن المال للّه تعالى و الناس خلفاؤه فيه، إلا أن الشارع الكريم يسمي الإنسان مالكا و يعدّه صاحبا له باعتبار أنه المتسبب في تحصيل المال و جمعه، و لم يغفل الحق - تبارك و تعالى - مجهود الفرد و حق الانتفاع به في هذا الصدد، فنسب القرآن الأموال إلى الناس فقال جلّ من قائل: لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النّاسِ بِالْباطِلِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ (4)، و أقر بملكية الإنسان استجابة لغريزة حب المال في فطرته: وَ تُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (5).
ص: 348
ثم إنّ حماية الملكية تنمي في المسلم شعورا داخليّا بالأمان و هو يرى الجميع يتجافى عن الظلم و الغصب و العدوان»(1).
و لقد أعطى الإسلام الفرد حقوقا كاملة من ملكيته تقابل بها المسؤولية عن كل تصرف فيه؛ «لأن المال في نظر الإسلام له وظيفة اجتماعية و التصرف به، كسبا و إنفاقا، مرهون بتحقيق تلك الوظيفة للفرد و الأمة على حد سواء»(2).
فلا يجوز للمالك أن يحول دون أداء الأموال لدورها الاجتماعي عن طريق الاكتناز أو الإشراف أو منع المجتمع من حقه فيها، و على هذا فكلما ازدادت دائرة الامتلاك ازدادت حدود المسؤولية، و قد سعى الإمام الصادق إلى لفت أنظار تلاميذه إلى هذه الصلة الوثيقة حتى يبين لهم حقيقة الملكية و مفهومها في الإسلام، فقال: «ما كثر مال الرجل قطّ إلاّ عظمت الحجة للّه تعالى عليه، فإن قدرتم أن تدفعوها عن أنفسكم فافعلوا»، و عند ما سئل بما ذا؟ قال: «قضاء حوائج إخوانكم من أموالكم»(3).
و هكذا يركز أبو عبد اللّه في نفوس أبناء المجتمع أن المالك يجب أن يصرف جزءا من ماله على المجتمع و مرافقه؛ لأن سعة المال تفضي بالمالك إلى مزيد من التبعات و المسؤوليات، و قد لا يتم أداء هذه التكاليف إلا باتباع أوامر اللّه فيها، و من أهمها: قضاء حوائج الناس.
ورد ذكر المال في القرآن الكريم ستا و ثمانين مرة(4)، مفردا و جمعا، و معرفا و منكرا، و مضافا و غير مضاف... و لا ريب أن تكرار لفظ المال على هذا النحو في القرآن دليل على اهتمام القرآن به، و تقديرا لآثاره في الحياة.
و من البديهي أن الإنسان لن يتمكن من تحقيق العيش الهادئ المطمئن في الحياة و التوصل إلى الأهداف المنشودة من خلق العالم و أداء رسالته و تعميره الكون و ارتقائه في سلم الرقي و التحضّر إلا بالمال(5).
ص: 349
و عند ما يدرك الفرد وظيفة المال و الغرض المنشود منه في الحياة، ينظم نشاطاته الاقتصادية وفقا له.
و لذا فقد أكد الإمام الصادق في تربيته الاقتصادية بوجه عام، و في مجال تصحيح النظرة المعرفية بوجه خاص على دور المال في حياة الإنسان. و قد تناولت التعابير التي أوردها الإمام الجانبين السلبي و الإيجابي للمال، ليتمكن الإنسان من الاطلاع على مضاره و فوائده، فيمكنه أن يحترز من شرّه و يستدرّ من خيره... فقد عرّف المال بما يلي:
لقد عبر الإمام الصادق عن المال بقوام الدين، و نهى عن تضييعه و إهماله، كما أوصى واحدا من تلاميذه: «احتفظ بمالك فإنه قوام دينك»(1) ثم يستدل بالآية الشريفة:
وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِياماً (2) .
و لأنه يؤمن بصلة وثيقة بين الدنيا و الآخرة، فإنه يرى أن إنفاق المال في الاستعانة على العبادة و في سبيل النفس و العيال يعدّ طلبا للآخرة.
«قال له رجل: إنا لنطلب الدنيا و نحب أن نؤتاها. قال الإمام: ما ذا تحب أن تصنع بها؟ فقال الرجل: أوسع بها على نفسي و عيالي، و أصل بها قرابتي، و أتصدق و أحج و أعتمر. فقال: ليس هذا طلب الدنيا، هذا طلب الآخرة»(3).
فبهذا الفهم السديد يوجّه الإمام الأمّة إلى تعميق الفهم لوظيفة المال كونه عونا لطلب الآخرة و وسيلة يستقوي بها على غرائزه و نزواته، كما يتقوى بها على طاعة ربه و عبادته، و يفسح المجال أمام كل مواهبه و طاقاته للنمو و التكامل.
يرى الإمام أن المال قوام الدنيا، و به يحقق الخير و العدل، و لذا فسّر قوله تعالى:
رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً (4) ، و يظفر برضوان اللّه و الجنة في
ص: 350
الآخرة، و السعة في الرزق و المعاش و حسن الخلق في الدنيا(1).
فنظرة الإمام إلى المال نظرة واقعية، لا ينكر فيها أثره في توفير كفايته المعاشية و المكاسب المادية و كل ما يحتاجه الإنسان في حياته، فتراه يقول في شأن الدنانير و الدراهم و ما على الناس فيها: «هي خواتيم اللّه من أرضه جعلها مصحة لخلقه و بها تستقيم شؤونهم و مطالبهم»(2)
فهو لا يجعل الثروة هدف الحياة و غايتها، بل إنه ينظر إليها على أنها ذريعة للحياة و مصحّة للناس، كما يشير إلى أن فقدان المال يؤثر تأثيرا سلبيّا على العيش و العقل و القلب، و ذلك من خلال قوله: «خمس خصال من فقد واحدة منهن لم يزل ناقص العيش، زائل العقل، مشغول القلب...» و ذكر منها «الغنى و السعة في الرزق»(3).
يرى الإمام «أن النفس قد تلتاث(4) على صاحبها إذا لم يكن لها من العيش ما يعتمد عليه، فإذا هي أحرزت معيشتها اطمأنت»(5).
و قد عبّر الإمام عن المال بما يعتمد عليه، لأن الناس يعتمدون عليه في قضاء حوائجهم في الحضر و السفر، فلذا يؤكد على ضرورة صيانته، قال له رجل:
«يكون معي الدراهم فيها تماثيل و أنا محرم فأجعلها في همياني(6) و أشدّه في وسطي؟ فقال: لا بأس، أو ليس هي نفقتك و عليها اعتمادك بعد اللّه عزّ و جلّ(7)»؟.
و هذا يظهر أن الاعتماد على اللّه في كل الأمور أمر مسلّم به، إلا أن هناك وسائل تسهم في تحقيق هذه الحاجات و الحصول عليها، و المال هو إحدى هذه الوسائل التي سخّرها اللّه لنا و دعانا للحفاظ عليها و عدم إهمالها حتى في وقت الإحرام في الحج،
ص: 351
فبيّن الحكم الشرعي فيها و جواز حملها و الاهتمام بها نظرا لأهميتها.
المال في رأي الإمام سبب للشرف و العلو في المجتمع، يستغني به صاحبه عن الآخرين، فقال: «عليك بإصلاح المال، فإن فيه منبهة(1) للكريم و استغناء عن اللئيم»(2).
و يؤكد الإمام على طلب المال و السعي إلى زيادته لما فيه من الخير للفرد و المجتمع، فيقول: «لا خير فيمن لا يحب جمع المال من حلال، يكفّ به وجهه و يقضي به دينه و يصل به رحمه»(3).
فكفّ الوجه و قضاء الدّين يعني سدّ الحاجة من خلال الاعتماد على الجهد الشخصي و عدم اللجوء إلى مساعدة الآخرين، و صلة الرحم هي إعطاء ذوي الحاجة من رحم الإنسان في المجتمع مما توفر لديه من الثروة، و تحقيق التكافل الاجتماعي الذي يسعى الإسلام إلى تحقيقه.
و الأمر الذي يجب إمعان النظر فيه هو أن الصادق لم يكتف في مسيرته التربوية بإبراز الدور الإيجابي للمال فحسب، بل إنه حين كشف عن الوجه الجميل للمال، و أظهر لتلاميذه جوانب الحسن منه، كشف أيضا عن الوجه البغيض له، ذلك الوجه الذي يزين للناس الشرّ و يوقعهم في الفتنة و الفساد، كقوله: «إن مع كثرة المال تكثر الذنوب لواجب الحقوق»(4).
لذا فقد حذّر الإمام تلاميذه من فتنة المال و الإخلاد إلى حبه حبا طاغيا و بيّن لهم آثاره السلبية كي لا يصبحوا عبيدا بل أربابا له؛ لأن الإنسان إذا لم يكن متيقظا باستمرار من هذه الفتنة، فسيؤول به الأمر حتما إلى الهلاك.
هذا ما أراد الإمام غرسه في المسلم - منطلقا من تعاليم الدين الإسلامي، لتتكون لديه نظرة واسعة متكاملة تشمل الوجوه الإيجابية و السلبية للمال معا، و ها هو يعلّم تلاميذه ترديد دعاء جدّه الإمام علي بن الحسين زين العابدين الحافل بإبراز هذه الوجوه:
ص: 352
«اللّهم إني أسألك حسن المعيشة، معيشة أتقوّى بها على جميع حوائجي و أتوصّل بها في الحياة إلى آخرتي، من غير أن تترفني فيها فأطغى، أو تقتّر بها عليّ فأشقى، أوسع عليّ من حلال رزقك... ثم لا تشغلني عن شكر نعمتك بإكثار منها تلهيني بهجته و تفتنّي زهرات زهوته، و لا بإقلال عليّ منها يقصر لعملي كدّه و يملأ صدري بهمّه...»(1).
من أهمّ ما أولاه الصادق اهتمامه في المجال المعرفي هو ترسيخ النظرة الصحيحة في طلب الرزق و كسب المعيشة؛ لأنّه يشكل نسبة كبيرة من النشاطات الاقتصادية للفرد.
و نظرا للأهمية المادية لهذا الأمر، توهّم بعض المسلمين من بدء الرسالة بأنّ السعي في طلب الرزق يتعارض مع الاهتمام بالعبادات و الحياة المعنوية للمسلم، و تبعا لهذه النظرة الخاطئة، أهملوا السعي في طلب الرزق و أقبلوا على العبادة و العزلة.
و كذلك جرى هذا الأمر في عصر الإمام الصادق أيضا، فقام الإمام بإزالة هذا التصور الخاطئ و بيّن أنّه لا يجوز ترك العمل بحجة الانقطاع إلى العبادة مثل الصلاة و الصوم، فلمّا أخبروه عن رجل قال: «لأقعدنّ و لأصلينّ، و لأصومنّ و لأعبدنّ اللّه، فأما رزقي فيأتيني». قال الإمام: «هذا أحد الثلاثة الذين لا يستجاب لهم»(2).
فلا يجوز الإعراض عن العمل بدعوى التوكل على اللّه، و انتظار الفرج و الرزق منه سبحانه، بل لا بد من السعي إليه، و إلاّ اعتبر هذا تواكلاّ، لا توكلاّ، فشتّان بينهما، و التوكل لا ينافي العمل و الأخذ بالأسباب؛ لأنّ «الإسلام لا يريد من المسلم العزوف عن الحياة الدنيا و طيباتها فهو يأمر بعمارة الأرض و استخراج خيراتها ليكون المسلمون أهل العزّة و السيادة و القيادة»(3).
و في نصوص أخرى نجد الإمام يعمل على تغيير وجهة نظر الناس الخاطئة في هذا الصدد، ليدركوا أن العمل عبادة يثاب عليها المرء و عند ما سأل عن رجل، فقيل له: أصابته الحاجة. قال: «فما يصنع اليوم؟» قيل: في البيت يعبد ربّه. قال: «فمن أين
ص: 353
قوته؟». قيل: من عند بعض إخوانه. فقال أبو عبد اللّه: «و اللّه للذي يقوته أشد عبادة منه»(1).
فأصبح في ضوء هذا الكلام، العامل الذي يسعى في سبيل رزقه أفضل عند اللّه من المتعبّد الذي لا يعمل إنّما يعيش عالة على المجتمع الإنساني.
انطلاقا من هذا المفهوم، فقد حث الإمام تلاميذه على طلب الزرق عن طريق السعي فيه حتى لا يكونوا عالة على غيرهم، في مثل قوله: «لا تدعنّ طلب الرزق و إن استطعت أن لا تكون كلا فافعل»(2).
و ندرك مدى أهمية هذا الأمر عند الإمام إذ ينهى تلاميذه عن تركه، حتى في الظروف الصعبة بقوله لأحد تلاميذه: «يا هشام إن رأيت الصفّين قد التقيا، فلا تدع طلب الرزق في ذلك اليوم»(3).
و يوصي الناس بالضرب في الأرض لطلب الرزق فيقول: «إن اللّه تبارك و تعالى ليحبّ الاغتراب في طلب الرزق»(4).
و في التطبيق العملي لهذا الشعار النظري نرى بأنه كان يسعى بنفسه لتوفير حاجته من أسباب المعاش؛ و عند ما خرج في يوم صائف شديد الحرّ و قيل له: يا ابن رسول اللّه؟ حالك عند اللّه عزّ و جلّ و قرابتك من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و أنت تجهد نفسك في مثل هذا اليوم!! فقال لمن أنكر عليه ذلك: خرجت في طلب الرزق لأستغني عن مثلك»(5).
و مما ينبغي أن ننظر فيه بإمعان، أنّ الصادق رغم ترغيبه الشديد بالسعي في طلب الرزق، يتحدث عن تكفّل اللّه بالرزق للناس كقوله: «لو كان العبد في حجر لأتاه اللّه برزقه فأجملوا في الطلب»(6) حيث يشير إلى الرزق المقسوم عند اللّه قائلا:
«إن كان اللّه تبارك و تعالى قد تكفل بالرزق فاهتمامك لماذا؟... و إن كان الرزق مقسوما فالحرص لماذا؟. و إن كان الحساب حقا فالجمع لماذا؟...»(7)
غير أنّ الملاحظ لهذا المفهوم في ضوء نصوص الإمام، - للوهلة الأولى - يجد6.
ص: 354
تناقضا بين معطياته الفكرية المتعلقة بطلب المال و بين الرزق المقدّر من اللّه تبارك و تعالى، و لكنّ الإمام نفسه يبيّن هذا التفاوت و يجمع بين الأمرين فيقول ما نصه ليزيل هذا الإشكال:
«الرزق مقسوم، على ضربين: أحدهما واصل إلى صاحبه و إن لم يطلبه، و الآخر معلّق بطلبه، فالذي قسم للعبد على كل حال آتيه و إن لم يسع له، و الذي قسم له بالسعي فينبغي أن يلتمسه من وجوهه، و هو ما أحلّه اللّه له دون غيره، فإن طلبه من جهة الحرام فوجده حسب عليه برزقه و حوسب به»(1).
إذا فالنوع الأول من أنواع الرزق المقسوم هو ما قدّر من جانب اللّه تبارك و تعالى، و هو ما يأتي الفرد دون سعيه و طلبه، و رغم وجود الموانع يصل إلى صاحبه.
و في ضوء هذه النظرة، يركّز الإمام في ذهنية تلاميذه بأنهم ليسوا مستقلين في كسب معيشتهم بل الرزق من اللّه و يتعلق بإرادته، حيث يشير إلى أن الرزق قد يجري بغير حيلة، كقوله: «إن اللّه تعالى وسّع في أرزاق الحمقاء ليعتبر العقلاء، و يعلموا أن الدنيا ليس ينال ما فيها بعمل و لا حيلة(2)».
فقد تجد امرءا كيّسا فطنا من أكثر الناس فهما يفني عمره في طلب قليل من الرزق و لا يتيسّر له ذلك، كما قد نرى أقلّ الخلق عقلا تنفتح عليه أبواب الرزق، «و لو كان السبب جهد الإنسان و عقله لوجب أن يكون الأعقل أفضل في هذه الأحوال، فلما رأينا أن الأعقل أقل نصيبا و أن الأجهل الأخس أوفر نصيبا، علمنا أن ذلك بسبب قسمة القسام كما قال تعالى:
أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا (3) .
أما النوع الثاني من أنواع الرزق فمرهون بالسعي و الطلب، و هو مضمون لطالبه و الذي يجب أن يسعى للحصول عليه عبر مختلف الوسائل المشروعة، و هذا ما بدا واضحا حينما قال رجل لأبي عبد اللّه: «ادع اللّه أن يرزقني في دعة فقال: لا أدعو لك، أطلب كما أمرك اللّه عزّ و جلّ»(4).
لقد طلب هذا الرجل من الإمام الدعاء بالرزق مع العافية عن طلبه، و الراحة في3.
ص: 355
حصوله، فأجابه بأنه لا يدعو له بذلك، بل عليه أن يأخذ بالأسباب، فيكدّ و يسعى لكسب لقمة العيش، و لا يكفي الاعتماد على الدعاء.
من هنا نفهم بأن الإمام يرغّب تلاميذه في طلب الرزق، و يشجعهم على السعي لتأمين معيشتهم، توجه بكلامه من خلال الأسباب الطبيعية لكسب الرزق في حين أنه لما نهى عن الحرص و الطمع فيه توجه بكلامه إلى الوجه المقدر من الرزق، أي ما قد يحصل عليه الإنسان دون سعي منه إليه.
و هكذا، و من خلال هذه النظرة الشاملة، يربّي الإمام تلاميذه على اعتماد التوازن بأن لا يفرطوا في الطلب بالحرص و الطمع، مقابل عدم ترك السعي و الطلب بحجة التقدير الإلهي في الرزق.
من هنا يصبح لزاما على المرء أن يكدّ و يجتهد لكسب معيشته، و ألا يترك أي سعي فيها، على رغم اطمئنانه بتكفل اللّه عزّ و جلّ و التوكل عليه، و يتبلور هذا في تعاليم الصادق حين قال: «لا تدع طلب الرزق من حلّه... و اعقل راحلتك و توكل»(1).
كما أن الضوابط التي عني بها الصادق ذات العلاقة بسعي الإنسان لجلب الرزق و تحصيل المعاش قد تصل بالفرد إلى حد الاعتدال و الاتزان، فيقول في ذلك:
«و ليكن طلبك المعيشة فوق كسب المضيّع، دون طلب الحريص الراضي بالدنيا المطمئن إليها، و لكن انزل نفسك من ذلك بمنزلة المنصف المتعفّف ترفع نفسك عن منزلة الواهي الضعيف تكتسب ما لا بد للمؤمن منه»(2).
كما ذكرنا سابقا، فقد قام الإمام الصادق بتوضيح نظرة الإسلام الشاملة في طلب الرزق، و بذل جهدا كبيرا في تربية الأمة و تنشئتها على الاعتدال و التوازن في هذا الصدد. و لم يقتصر الإمام في نشاطه على هذا الأمر فحسب، بل إنه اهتم بتعليمهم و تذكيرهم بعض السنن الكونية المؤثرة في زيادة الرزق و تقليصه، منطلقا دوما من كتاب اللّه و السّنّة النبوية الشريفة.
و لو تأملنا في النصوص الواردة عن أبي عبد اللّه نجد بأنه يؤمن بعلاقة وثيقة بين سلوك الإنسان و مستوى معيشته، فأطلق في خطاباته الكثير مما يشير إلى هذا التأثير للمبادئ الأخلاقية و العبادية و الاجتماعية على سعة الرزق أو الحرمان منه. و فيما يلي نشير إلى نماذج مما ورد عنه في هذا المجال:
ص: 356
ترسم تعاليم الإمام شبكة مترابطة من العلاقة بين السلوك الأخلاقي و الرزق المقدر للإنسان، و منها تأثير الشكر و القناعة و حسن النية على بسط الرزق كقوله:
«من حسنت نيّته زيد في رزقه»(1)، و قوله: «الشكر زيادة في النعم و أمان من الفقر»(2).
كما أشار كذلك إلى تأثير القناعة في سعة الرزق حينما قال مخاطبا أحد تلاميذه:
«يا حمران انظر من هو دونك في المقدرة، و لا تنظر إلى من هو فوقك في المقدرة، فإن ذلك أقنع لك بما قسم لك، و أحرى أن تستوجب الزيادة من ربّك»(3).
و هكذا أراد الإمام أن يرسخ في ذهنية المسلم بأن الالتزام بالأخلاق الفاضلة له أثر مباشر في تحقيق البركة في الأرزاق و تحقيق الأمن النفسي.
و على صعيد آخر فقد اعتبر الإمام ارتكاب الذنوب و استقلال الرزق من موانع الرزق، فقال: «إن المؤمن لينوي الذنب فيحرم رزقه»(4). كما قال: «من استقلّ قليل الرزق حرم الكثير»(5).
فالذنوب سبب لانقطاع الرزق و حرمان الإنسان من الموارد الطبيعية، فتشتد الفاقة و يعمّ الفقر، فتشلّ الحياة الاقتصادية، كما أن استقلال الرزق قد يؤدي إلى حرمان المسلم من الرزق الذي كان قد هيئ له.
كذلك يبين الإمام العلاقة بين ذل السؤال و الفقر العاجل فيقول: «إياكم و سؤال الناس فإنه ذل في الدنيا و فقر تعجّلونه»(6).
لم يغفل الإمام عن تأثير المبادئ الاجتماعية المتمثلة في أداء حقوق الآخرين في المجتمع، من أداء الأمانة، و حسن الجوار، و إقراء الضيف و الصدقة... إلى ما هنالك من قيم و مثل جعلها اللّه تبارك و تعالى مفتاح الرزق.
و ممّا ورد على لسانه في ذلك، عند ما قال له تلميذه: إني لا أتغدى أو أتعشى إلا
ص: 357
و معي اثنان أو ثلاثة، أو أكثر. قال: «فضلهم عليك أكثر من فضلك عليهم. إذا دخلوا عليك دخلوا بالرزق الكثير»(1).
و من المؤكد أن الصادق لم ينس إلزام نفسه و أهل بيته تأدية الحقوق الاجتماعية و يرى في هذا الأمر تأثيرا بارزا على سعة الرزق كما قال لابنه: «أما علمت أنّ لكلّ شيء مفتاحا و مفتاح الرزق الصدقة»(2).
و هو نفسه يستفيد من هذا المفتاح في حال الضيق و يعبّر عنها بالتجارة المربحة مع اللّه، كما قال: «إنّي لأملق أحيانا فأنا أتاجر مع اللّه بالصّدقة فيربحني و أتّسع»(3).
فهو ينفق إنفاق من لا يخشى الفقر لأنّه يرى العلاج أن يتعامل مع اللّه بعطائه للفقراء.
إن اللّه تبارك و تعالى جعل العلاقة بين العبادات و سعة الرزق من سننه الكونية، و انطلاقا من هذا المفهوم فقد لفت الصادق أنظار تلاميذه إلى هذا الارتباط، كي لا يغفلوه لحظة في سعيهم و جهدهم لطلب المعيشة.
و مما قاله: «لا تتركوا ركعتين بعد العشاء الآخرة، فإنها مجلبة للرزق»(4).
و قد يعلّم الإمام تلاميذه بعض الأذكار التي تؤثر في صيانة المال، كقوله:
«من أعجب بشيء من أمواله و أراد بقاءه، فليقل: ما شاء اللّه، لا حول و لا قوة إلاّ باللّه»(5)
و قد أظهر الإمام تأثير الحج في سعة الرزق عند ما قال له أحد تلامذته: إنّي وطّنت نفسي على لزوم الحج كل عام بنفسي أو برجل من أهل بيتي بمالي، قال: «إن عزمت عليه و فعلت ذلك فأبشر بكثرة المال»(6).
نستخلص مما تقدّم أنّ الإنسان حين يشكل إطاره الفكري على هذا الأساس، فإنه ينظر إلى مفاتيح الرزق بنظرة واسعة، شاملة، فلا يكتفي بأخذ الأسباب المادية في حياته الاقتصادية فقط، بل يأخذ بالأسباب المادية و المعنوية معا، و في كل نشاطاته، فيجتنب بذلك وقوعه في دائرة الحاجة و الحرمان.
ص: 358
تهدف كافة الاقتصاديات الوضعية - من رأسمالية و اشتراكية - إلى تحقيق النفع المادي وحده لأتباعها، «فغاية النشاط الاقتصادي الرأسمالي هو أن يحقق كل فرد أكبر قدر من الربح و الكسب المادي، و غاية النشاط الاقتصادي الاشتراكي هو أن يحقق كل مجتمع أكبر قدر من الرفاهية و الرخاء المادي، فالمادة هي الأساس و الغاية لذاتها من كافة المذاهب الاقتصادية الوضعية»(1).
أمّا النشاط الاقتصادي في الإسلام لا يهدف إلى تحقيق النفع المادي فحسب، بل لتحقيق المنافع المعنوية و الروحية التي تحقّق السعادة الدائمة للإنسان في الدنيا و الآخرة.
من هنا يختلف مفهوم الربح(2) في الاقتصاد الإسلامي مع الاقتصاد الوضعي «فقد اتسع مفهومه في الإسلام فيشمل المفهوم الروحي و المادي معا، و لا ينفصل كل منهما عن الآخر»(3).
فإنّ الإمام الصادق يعترف بأهمية الربح بالنسبة للعمل الاقتصادي و يشجع تلاميذه عليه بما أنّه هو الدافع الحقيقي وراء المعاملات التي أقرّتها الشريعة الإسلامية على اختلاف أنواع هذه المعاملات و أغراضها على نحو ما ذكره أتباعه فقال: قلت لأبي عبد اللّه: إن الناس يزعمون أنّ الربح على المضطر حرام و هو من الرّبا فقال: «و هل رأيت أحدا اشترى - غنيّا او فقيرا - إلاّ من ضرورة؟! قد أحلّ اللّه البيع و حرّم الرّبا و اربح لا ترب»(4).
هكذا يقوّم الإمام نظرة بعض أفراد المجتمع إلى الربح و يذكّرهم بالآية القرآنية التي تفصل بين البيع و الربا و يصرّح بأنّ الربح و السعي وراء حصوله، مشروع، بيد أنّه يجب ألاّ يخرج عن قواعد الشرع الحنيف بما يحقّق مصالح الفرد و الجماعة معا.
ص: 359
و لا نرى جهود الإمام في التشجيع على الربح فحسب، بل نرى اهتمام هذا المفكر التربوي بخلق التوازن القويم بين الاتجاه المادي و الروحي من النشاط الاقتصادي و الربح الحاصل عنه.
فهو يريد أن يوجّه نظرة تلاميذه إلى أن الربح المادي يجب ألاّ يكون هو الأساس الوحيد في المعاملات و إنّما يجب أيضا مراعاة القيم الأخلاقية مع التراحم و التعاطف و مراعاة الحقوق في المجتمع الإسلامي و هنا يتحقق التلازم و الترابط بين الربح المادي و الربح المعنوي.
و لتسليط الضوء على تعاليمه البنّاءة، نقدّم إحدى التطبيقات التي عمل بها الإمام نفسه حتى يرسّخ هذه النظرة السليمة في أفكار الناس و عقولهم؛
حيث روي أن أبا عبد اللّه دعا مولى له، يقال له مصادف فأعطاه ألف دينار، و قال له: تجهّز حتى تخرج إلى مصر، فإنّ عيالي قد كثروا. فتجهّز بمتاع و خرج مع التجار إلى مصر، فلمّا دنوا من مصر استقبلتهم قافلة خارجة من مصر، فسألوهم عن المتاع الذي معهم: ما حاله في المدينة - و كان متاع العامّة -؟ فأخبروهم أنه ليس بمصر منه شيء، فتحالفوا و تعاقدوا على أن لا ينقصوا متاعهم من ربح الدّينار دينارا.
فلمّا قبضوا أموالهم و انصرفوا إلى المدينة دخل مصادف على أبي عبد اللّه و معه كيسان في كل واحد ألف دينار فقال: هذا رأس المال، و هذا الآخر ربح، فقال: «إنّ هذا الربح كثير و لكن ما صنعته في المتاع؟» فحدّثه كيف صنعوا و كيف تحالفوا فقال:
«سبحان اللّه! تحلفون على قوم مسلمين أن لا تبيعوهم إلاّ ربح الدّينار دينارا! ثم أخذ أحد الكيسين فقال: هذا رأس مالي و لا حاجة لنا في هذا الربح ثم قال: يا مصادف مجالدة السيوف أهون من طلب الحلال»(1).
فالإمام لا يسمح لوكلائه بتحقيق الأرباح غير العادية و يمقتهم و يذكّرهم بأنّ قيمة العمل في هذا السفر لم تكن في نظره كافية لأن يعودوا بالربح الذي ليس من حقه، و هذا في الحقيقة غبن للمشتري.
و الواقع أنّ كلام الإمام متفرع من المبدأ الإسلامي العام الذي يحرّم الضرر و الظلم للبائع و المبتاع سواء بسواء.
و من البديهي أنّ عرض السلعة عند ما يكون منحصرا في فئة معينة أو مجموعة خاصة، و لا يوجد أيّ منافس له في السوق، فإنّه يمهد الأرضية للبائع للسيطرة على الأسعار و يبيع سلعته بأكثر حدّ من الربح(2).).
ص: 360
و لكنّ الإمام يعتبر الربح الفاحش في هذه الحالة و الذي يتحقّق عن طريق دفع الثمن إجحافا بحق المشتري و «هو لم يفرض عقوبة للمغالين بالأسعار؛ لأنّه لم يكن على رأس الدولة بل يكفيه أنه رفض ربحا كبيرا جاءه به وكلاؤه... فلم يعالج أمر الأسعار في عنف و لكنّه عالجه من طريق تهذيب الأخلاق ليكون أنجح و أدوم»(1).
و هكذا علّم الصادق بردّ فعله مراعاة حق المشتري و عدم غبنه، مع الالتفات بمفهوم الربح المعنوي الذي يحصل عليه المسلم عن طريق اهتمامه بهذه الحدود الشرعيّة و القيم الأخلاقية.
إنّ النشاط الاقتصادي للفرد المسلم يرمي إلى الخروج من الفقر و تأمين المعاش على حد الكفاية(2)، و لم يتحقّق هذا الهدف إلاّ عن طريق الاهتمام بالكسب و هو «ما يتحرّاه الإنسان مما فيه اجتلاب نفع و تحصيل حظ ككسب المال»(3) و لكنّ الاقتصاد الإسلامي جعل في طرق الكسب بعض الضوابط التي تكفل سلامة الفرد و المجتمع و عدم انحرافهما.
فالكسب و «التملك مباح من حيث المبدأ و لكنّه مقيّد بأن يكون حلالا من مأخذه، حلالا في استخدامه، و حلالا في إنفاقه، فلا يكون من غصب أو سرقة أو غش أو احتكار أو ربا...»(4).
كما أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم حذّر من أقوام لا يهتمون بكسب الحلال فقال: «يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه أمن الحلال أم من الحرام؟»(5).
و من أهم الضوابط التي عيّنها الإسلام في هذا الصدد مبدأ تنظيم الكسب من خلال جهد الإنسان و عمله، و لم يسمح بتحصيل المال بدون عمل، فالجهد البشري هو سبب الملكية و الإنتاج سواء في حالات التفاعل المباشر مع الطبيعة، أم بالتفاعل مع الأشياء في مرحلتها الثانية مرحلة التكييف و التصنيع.
و بالتأمل في النصوص الواردة عن الإمام المربّي، نجد بأنّه يريد أن يرسّخ في ذهنية تلاميذه هذا الترابط و ذلك من خلال تأكيده على عدم جواز إحالة العامل للعمل
ص: 361
إلى عامل آخر، دون أن يكون قد عمل فيه شيئا. فعند ما سئل عن الرجل يتقبل العمل فلا يعمل فيه و يدفعه إلى آخر فيربح فيه، قال الإمام: «لا، إلاّ أن يكون قد عمل فيه شيئا»(1).
و في مجال آخر روى أحد تلاميذه فقال: سألته عن الرجل الخياط يتقبل العمل فيقطعه و يعطيه من يخيطه و يستفضل قال: «لا بأس قد عمل فيه».
فقد أشار الإمام إلى القاعدة التي تقرّر «أن الكسب لا يقوم إلاّ على أساس إنفاق عمل خلال مشروع، فالعمل المنفق هو المبرّر الأساس الوحيد لحصول صاحبه على مكافأة»(2) و هذا من أهم التصورات التي يجب أن تكون في النشاطات المعيشية للفرد المسلم.
و قد يعمّق الإمام في بعض الأحيان المفهوم ذاته بأسلوب آخر فيقول:
«إني لأكره أن أستأجر الرحى وحدها، ثم أؤجرها بأكثر ممّا استأجرتها، إلاّ أن أحدث فيها حدثا»(3).
فالصادق يربّي ضمائر الناس و يجعل تفكيرهم يتّجه إلى أنّ الكسب لا بدّ أن يكون بمقدار ما يبذله الإنسان من سعي و كدح في الحياة، فلن يحصل المال الطيب إلاّ بجهد و عناء و مخاطرة، و لذلك عند ما قيل له:
ما بال المؤمن قد يكون أشحّ شيء؟ قال: «لأنه يكسب الرّزق من حلّه، و مطلب الحلال عزيز، فلا يحبّ أن يفارقه شيئه لما يعلم من عزّ مطلبه»(4).
و من هنا فقد عني الإمام عناية كبيرة بمحاربة الربا الذي يمثل استغلالا فاحشا لحاجة الإنسان، و يؤدي إلى كسب - عائد - مضمون يستأثر به المرابي دون أدنى مشاركة في العمل الجادّ و بناء اقتصاد الأمة.
ف «الربا يجعل المحتاج عبدا للغني و يجعل الغني عبدا للمال، و ذلك انحطاط بالمستوى البشري يتردى فيه الفقير و الغني على السواء»(5).
و هذا ما أكّده الصادق بالإشارة إلى سلبيات الربا الخلقيّة و الاجتماعية و الاقتصادية2.
ص: 362
ليردّ الناس إلى الرشد و الصواب فقال: «إنّما حرّم اللّه عزّ و جلّ الربا لكي لا يمتنع الناس من اصطناع المعروف»(1)، و لو كان الربا حلالا لترك الناس التجارات و ما يحتاجون إليه، فحرّم اللّه الربا لتفرّ الناس عن الحرام إلى التجارات و إلى البيع و الشراء فيفصل ذلك بينهم في القرض»(2).1.
ص: 363
بيّنّا فيما سبق أن التربية الاقتصادية في مدرسة الإمام الصادق ارتكزت على محورين أساسيين: أولهما: تصحيح الجوانب الفكرية و ثانيهما: تعليم الجوانب السلوكية.
و بعد أن تناولنا في حديثنا المحور الأول مركّزين على كيفية توجيه النظرة الصحيحة إلى المال و كسب الرزق و تصويبها و إظهار مقوماتها، فإننا سنشير فيما يلي إلى الجانب السلوكي الذي يمثل الوجه الثاني في هذا المجال.
و يبدو أن السلوك الاقتصادي للإنسان - و إن تعدّدت شعبه و تنوّعت مجالاته - فإنه ينضوي تحت عنوانين كبيرين، و هما: الكسب و الإنفاق أو الإنتاج و الاستهلاك(1)، فالإنسان يكتسب الأموال ثم ينفقها و يعود ثانية لاكتسابها و إنفاقها من جديد، و هكذا في دورة ممتدة بامتداد الحياة.
ص: 364
و المعروف ان أيّا منهما (الكسب و الإنفاق) لا غنى لأحدهما عن الآخر، كما لا تستقيم حياة الإنسان إلاّ بصلاحهما معا. و من ثم فقد أولى الصادق هذين الأمرين اهتماما بالغا في منهجه التربوي، فحاول تكوين الشخصية ذات السلوك القويم فيهما.
و لعلنا نستطيع تلخيص مشاريع الإمام في هذا الصدد و التي سعى إلى ترويجها في المجتمع بما يلي:
يحتل الإنتاج أهمية كبرى في علم الاقتصاد، حيث عرّف بعض العلماء هذا العلم بأنه «علم قوانين الإنتاج»(1).
فأصبح الاقتصاديون المعاصرون يأخذون بتعريف شامل للإنتاج، يدخل تحته إنتاج السلع و الخدمات أيّا كان نوعها، أو مصدرها، طالما أنها نافعة تشبع رغبة لدى المستهلك. لذلك عرّفوا الإنتاج «بأنه خلق المنافع أو زيادتها»(2).
أما تعريف الإنتاج في الاقتصاد الإسلامي فهو: «بذل الجهد الدائب في تثمير موارد الثروة، و مضاعفة الغلة من أجل رخاء المجتمع، و دعم وجوده و قيمه العليا»(3).
و يبدو واضحا من التعريف إن الإنتاج في الإسلام يهدف إلى إشباع حاجات الإنسان المادية و المعنوية، أي إيجاد المنفعة في شكل سلعة اقتصادية، و جعلها صالحة لإشباع الحاجات الإنسانية.
و نرى في هذا الصدد أن الإمام الصادق قد لفت إلى تنوع الطرق و الأساليب التي يمكن أن يعتمدها الإنسان في سبيل الكسب و زيادة المنفعة، كما عرّف لتلاميذه الأشكال المتنوعة للنشاطات الإنتاجية المتوافرة، فقال:
«و كذلك أعطى (الإنسان) علم ما فيه صلاح دنياه كالزراعة و الغراس و استخراج الأرضين و اقتناء الأغنام و الأنعام و استنباط المياه و معرفة العقاقير التي يستشفى بها من ضروب الأسقام، و المعادن التي يستخرج منها أنواع الجواهر و ركوب السفن و الغوص في البحر و ضروب الحيل في صيد الوحش و الطير و الحيتان و التصرف في الصناعات و وجوه المتاجر و المكاسب و غير ذلك مما يطول شرحه و يكثر تعداده مما فيه صلاح أمره في هذه الدار»(4).
ص: 365
فكل الأمور التي ذكرها الإمام في كلامه تنطبق على تعريف العمل المنتج في الفكر الاقتصادي و «هو الذي يهدف إلى إنتاج سلع و خدمات تشبع حاجات الإنسان»(1)، فالإمام يريد أن يبيّن لتلاميذه بأنّ اللّه عزّ و جلّ لم يخلق الموارد في هذا الكون جاهزة للإشباع، إنما جعلها تحتاج لكسب و إنتاج، كي تصبح جاهزة للانتفاع.
و لذلك فرض اللّه على الإنسان السعي المتواصل لإشباع حاجاته، و لفهم أسرار الكون، و الكشف عن موارد الطبيعة و استغلالها الاستغلال الأمثل الذي يحقق الخير و الرفاهية للمجتمع في مجموعه.
إن الإنتاج في الإسلام، وسيلة لغاية سامية، تتمثل في عمارة الكون و تحقيق عبادة اللّه في الأرض، فالمسلم ينتج ليحقق الغاية من وجوده، و ليقوّي جماعة المسلمين، و ليحقّق مقام الخيريّة و الشاهديّة على أمم الأرض جميعا.
على هذا، فإن هناك فرقا جوهريّا بين الإنتاج في الإسلام و الإنتاج في النظم الاقتصادية الأخرى، لأن هذه النظم الوضعية «تقوم على أساس من الفلسفة المادية التي تسعى إلى إشباع رغبات المستهلك و المنتج على السواء بغض النظر عن كون هذه الرغبة أو السلعة أو الخدمة نافعة أو ضارّة بالصّحة و باعثة على الانحلال و الفساد كالخمور و الأفلام الهابطة»(2).
و هذا ما يتعارض مع النشاط الاقتصادي في الإسلام الذي يعتمد على الأصول العقدية و الأخلاقية.
«فالإنتاج في الإسلام لا يهدف إلى السيطرة على السوق و الاحتكار و الاستئثار بخيرات الدنيا، إنّما يهدف لتحقيق الخير و الرفاهية و النفع العام للمجتمع كلّه، طلبا لمرضاة اللّه و التي هب الغاية التي يتوخاها المسلم بكل نشاطه الاقتصادي»(3).
و من ثمّ فلا بدّ أن تتم عملية الإنتاج على أساس ضوابط تنظيمية وفقا لهذه الأهداف، و الإمام الصادق - منذ اثني عشر قرنا - يعلّم تلاميذه أهم المقاييس و الضوابط للإنتاج و يحتّم مراعاتها في أيّ نشاط اقتصادي، تلك القواعد التي ينبغي أن نستفيد منها في التربية الاقتصادية في المجتمع، فقال ما نصّه:
ص: 366
«و أنواع صنوف الآلات التي يحتاج إليها العباد التي منها منافعهم و بها قوامهم و فيها بلغة جميع حوائجهم فحلال فعله و تعليمه و العمل به، و فيه، لنفسه أو غيره...
و ما يكون منه و فيه الفساد محضا، و لا يكون فيه و لا منه شيء من وجوه الصلاح، فحرام تعليمه و تعلمه و العمل به و أخذ الأجر عليه و جميع التقلب فيه من جميع الحركات كلّها إلاّ أن تكون صناعة قد تنصرف إلى بعض وجوه المنافع»(1).
فيشير الإمام بهذا الكلام إلى أن الإنتاج في المجتمع الإسلامي لا بدّ أن يستند إلى أصول و هي:
1 - أصل الحاجة (التي يحتاج اليها)
2 - أصل النفع (التي منها منافعهم)
3 - أصل العمومية (يحتاج إليها العباد...)
4 - أصل الاكتفاء الذاتي (فيها بلغة جميع حوائجهم).
يرى أبو عبد اللّه أن الإنتاج يجب أن يكون بحسب الكمّ و الكيف مقيّدا بالحدود التي تؤشرها هذه الأصول، فهو يعتبر الحاجة إلى شيء، هي السبب الأعمق في إيجاده، كما يعتبر أن الانتفاع به، المبرّر الرئيس لإنتاجه، و لو لا الحاجة إلى شيء و النفع منه، لكان إنتاجه عبثا، و السعي من أجله تضييعا للجهد و المال و الوقت الإنساني الثمين.
و حينما يشير الإمام إلى القاعدة الأولى و هي الحاجة، تخرج منها المنتجات غير الضرورية و التي قد يستغنى عنها، كالبضائع الترفيهية و التجميلية الأرستقراطية، و التي لا تقتصر آثارها السلبية على الحقل الاقتصادي فحسب، بل تتعدّاها إلى القوام الأخلاقي و التربوي في المجتمع.
و عند ما يؤكد على القاعدة الثانية و هي النفع الإنساني، يخرج عن دائرتها كل الأشياء التي تضرّ الحياة البشرية التي يسمّيها القرآن بالخبائث، إضافة إلى السلع غير النافعة و الحاجات غير الضروريّة التي اصطنعها الإعلام في المجتمع، و الذي يزيّن للناس سبل اقتنائها بكل الطرق الخبيثة، فيكبر عندهم الميل للاستهلاك، و يصبحون مستهلكين من الطراز الأول.
أمّا القاعدة الثالثة و هي: العمومية، فتؤكد على استجابة حاجات الجماهير و عامة الناس الذين عبّر الإمام عنهم بالعباد دون أي تخصيص حتى لا يقتصر الإنتاج على الأشياء الخاصة التي يتمتع بها المترفون، و تصير سببا لرخاء فئة خاصة من الأغنياء؛ لأنها تؤدي إلى نفي تقريب مستويات المعاش للجميع.5.
ص: 367
و القاعدة الرابعة تؤكد على أن الهدف من الإنتاج في المجتمع الإسلامي لا بدّ أن يتوخّى إلى حدّ الاكتفاء الذاتي، و وصول المجتمع إلى المستوى الذي لا يحتاج معه إلى غيره على صعيد الحاجات الضرورية، الأمر الذي يؤدي إلى قوام و قوة للمسلمين و يغنيهم عن استيراد منتجات الآخرين، و التذلّل لهم تحت ذريعة الحصول على الضروريات.
و هكذا يظهر اهتمام الصادق بماهية الشيء، المنتج و قصد المنتج من إنتاجه على أساس نظرة الإسلام إلى الإنسان و حياته و غايته، و يسعى إلى تربية المسلم على السلوك الإنتاجي الذي يؤدي إلى إنتاج جميع الضروريات و الطيبات في الحياة من جهة و نزع الدوافع الاقتصادية المادية البحتة من جهة أخرى.
إنّ الإنتاج لا يتمّ إلا بتضافر مجموعة من القوى و العوامل و العناصر المرتبط بعضها ببعض، و التي تسمّى بعناصر الإنتاج «فالشيء يعدّ عنصر إنتاج، إذا أسهم في العملية الإنتاجية و لا يمكن أن يتم الإنتاج بدونه مهما بلغت درجة هذه الإسهامات»(1).
و على هذا فإن عناصر الإنتاج في الاقتصاد الإسلامي ثلاثة هي: الأرض أو الطبيعة، و العمل، و رأس المال.
لقد بيّن علماء الاقتصاد المعاصر مفهوم الإنتاج و عناصره و جعلوهما في نظرية سموها بنظرية الإنتاج، على أنها نظرية جديدة كان لهم الفضل في ابتداعها، و الحق أن علماء المسلمين سبقوا غيرهم في هذا المجال و لم يتكلموا عن الإنتاج فحسب، بل بيّنوا عناصره و طرق استثمار المال فيه، كما تحدّثوا عن العمل و أنواعه و الأحكام المتعلقة بها.
و من أجلّ هؤلاء العلماء جعفر بن محمد الصادق الذي تجلّت في كتاباته و رسائله و وصاياه كثير من التحليلات الاقتصادية التي تحثّ الإنسان على أن يكون عضوا نافعا، فهو يحرص أشدّ الحرص على أن يكون جميع أتباعه عاملين منتجين، فيوجّههم إلى هذا الهدف بأساليب متعددّة حتّى يتحولّوا إلى طاقة إنتاجية تتحقّق بها عمارة الأرض، و فيما يلي نتحدث عن بعض جهوده في تبيين عناصر الإنتاج و حسن الاستغلال منها:
يقصد بالطبيعة «ما خلقه اللّه عزّ و جلّ في هذا الكون من موارد و لم يتدخّل أحد من إيجادها»(2).
ص: 368
و الواقع أنّ الطبيعة هي المصدر المادي الأول للإنتاج و فيها موارد متاحة للإنسان، تكون نافعة له و صالحة لإشباع حاجاته، سواء بطريق مباشر أم غير مباشر، فعناية الفكر الإسلامي بالطبيعة ليس لكونها إحدى أهمّ و أعظم نعم اللّه عزّ و جلّ على عباده فحسب، بل باعتبارها الركن الأساس للنشاط الاقتصادي للإنسان و التي تدخل في تنظيم معاشه. «فالتوظيف الكامل و الفعال للموارد المادية المستمدة من الطبيعة، هدف من أهم أهداف النظام الاقتصادي في الإسلام، لأنّه لا يساعد فقط في توفير الحياة الاقتصادية الطيبة فحسب، بل يمنح الإنسان العزّة و الكرامة»(1).
و ينقسم عنصر الطبيعة إلى فروع عديدة من النعم الإلهية التي تسمّى في علم الاقتصاد بالموارد الطبيعية.
و من أهمها الأرض التي لا يكاد الإنسان يتصور قيام نشاط إنتاجي بدونها؛ لأن اللّه تعالى وزّع موارد الطبيعة الأخرى على ظهر الأرض و في جوفها و من حولها.
فالإمام الصادق وجّه الأنظار إلى أنّ الأرض مستودع الثروة و مصدرها الرئيس الذي جعل فيها كل ما يحتاج إليه البشر من المواد الأولية للإنتاج و وسائل العيش قائلا:
«فكّر في هذه الأشياء التي تراها موجودة معدّة في العالم من مآربهم فالتراب للبناء و الحديد للصناعات و الخشب للسفن و غيرها و الحجارة للأرحاء و غيرها و النحاس للأواني و الذهب و الفضة للمعاملة و الذخيرة و الحطب للتوقد و الرماد للكلس...»(2).
هذه النعم الطبيعية منها ما يكون جاهزا للانتفاع المباشر و منها ما يكون غير جاهز، إلاّ أنه من الممكن تحويل هذه الموارد غير الصالحة للانتفاع إلى موارد مؤهلة يمكن الانتفاع بها.
فالإمام عند ما يتحدث أمام تلاميذه عن الأرض و النبات و المياه و المعادن و خيرات الطبيعة الأخرى لا يريد أن يتكلم عن الأسرار الكونية فحسب، بل يريد أن يدفع أتباعه دفعا إلى استغلال النعم و المنافع الاقتصادية فيها و استصلاح الموارد الطبيعية لتحسين أسباب العيش و تحقيق التقدم و نشره في المجتمع، كما نرى في كلامه عن المعادن حين قال:
«فكر في هذه المعادن و ما يخرج منها من الجواهر المختلفة مثل الجص و الكلس و المرتك (أكسيد الرصاص) و التوتيا (أو أكسيد الزنك) و النحاس و الرصاص و الفضة و الذهب و الزبرجد و الياقوت و الزمرد و ضروب الحجارة و كذلك ما يخرج بها من القار4.
ص: 369
و الموميا و الكبريت و النفط و غير ذلك مما يستعمله الناس في مآربهم، فهل يخفى على ذي عقل أنّ هذه كلها ذخائر ذخرت للإنسان في هذه الأرض ليستخرجها فيستعملها عند الحاجة اليها»(1).
فهو في مجال التربية يدعو إلى عدم استصغار و استحقار أيّة مادة خام من مواد الطبيعة و أي عنصر من عناصرها، إذ ربما تنتهي هذه المادة بعد التحليل العلمي و التجارب الطبيعية في المختبرات إلى مادة غالية الثمن بالغة الأهمية في ميدان العلم فقال:
«اعلم أنه ليس منزلة الشيء على حسب قيمته بل هما قيمتان مختلفتان بسوقين و ربما كان الخسيس في سوق المكتسب نفيسا في سوق العلم، فلا تستصغر العبرة في الشيء لصغر قيمته لو فطن طالبو الكيمياء لما في العذرة، لاشتروها بأنفس الأثمان، و غالبوا بها (غالوا بها)»(2).
هكذا يشجع الإمام تلاميذه على البحث عن كنوز الطبيعة و خيراتها، و استخدام هذه الكنوز و الخيرات في إنتاج حاجات البشر و تنمية هذا الإنتاج لإسعادهم حتى تتحقق بذلك رفاهة اجتماعية عامة.
إن رأس المال يعتبر عنصرا من عناصر الإنتاج في الاقتصاد الإسلامي، و يلاحظ أن لفظ المال أعمّ و أشمل من لفظ رأس المال، إذ المال ما يملك و يقتنى، أما رأس المال فهو أصل المال بلا ربح و لا زيادة حينما يستثمر في عمل ما. قال تعالى: وَ إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ (3).
و على هذا الأساس يمكن تعريفه بأنه «كل ما يستخدم في العملية الإنتاجية من أعيان أو نقود»(4).
و يفهم من هذا التعريف أن كل ما يساهم في الإنتاج بصورة مباشرة كالمباني و الآلات، و بصورة غير مباشرة كالنقود، فإنه يطلق عليه اسم رأس المال.
فالنقود استخدمت في عمل إنتاجي عند ما خصّصت لشراء المواد الأولية أو لرأس المال العينيّ أو لدفع أجور العمال، و أما إذا دفعت لأغراض استهلاكية فلا يطلق عليها اسم رأس المال.
و الإمام الصادق في منهجه التربوي الاقتصادي يحث أتباعه على الإنفاق الإنتاجي
ص: 370
و يفضّله على الإنفاق الاستهلاكي حرصا منه على تكوين و زيادة رأس المال، كما جاء في كلامه: «مشتري العقدة مرزوق و بائعها ممحوق»(1). و العقدة من الأرض: البقعة الكثيرة الشجر(2).
تعبير الإمام بقوله: «مرزوق» يرمي إلى إمكانية تنمية الثروة من العقدة، كما أنه ينهى عن بيع رأس المال المنتج، من غير سبب و ضرورة المحافظة عليه، فيرشد تلاميذه إلى أنّه من الواجب في حال البيع أن يوجّه ثمنه النقديّ إلى شراء أصل إنتاجي آخر، كما روى أحدهم قائلا: «قلت لأبي عبد اللّه: إنّ لي أرضا تطلب منّي و يرغّبونني، فقال لي: «أما علمت أنّ من باع الماء و الطّين ذهب ماله هباء؟!» قلت: إنّي أبيع بالثمن الكثير، و أشتري ما هو أوسع رقعة ممّا بعت، قال: «فلا بأس»(3).
فالإمام يعتبر بيع العقار و تبديد ثمنه في الاستهلاك إضاعة للمال، و ذلك من أجل توسيع قاعدة رأس المال العيني.
و يبرز اهتمام الإمام بالتنمية و استثمار المال في سيرته العملية عند ما يأمر بإضافة ربح العمل إلى رأس ماله بدلا من استغلاله في مجالات أخرى، كما روى عن رجل قال: «ربحت في مال أبي عبد اللّه، الذي كان في يدي، مائة دينار، ثم لقيته، فقلت له: قد ربحت لك هذا المبلغ، ففرح أبو عبد اللّه بذلك فرحا شديدا فقال لي: «أثبتها في رأس مالي»(4).
و يستحسن هنا أن نشير إلى أنّ الإمام قد يعلّم تلاميذه بعض الأساليب لحفظ رأس المال لتقليص عنصر المخاطرة في الاستثمار(5)، على سبيل المثال:
روي أنّ رجلا أتى الإمام بصورة المستنصح له، فقال له: يا أبا عبد اللّه كيف صرت اتخذت الأموال قطعا متفرّقة، و لو كانت في موضوع واحد كانت أيسر لمؤونتها و أعظم لمنفعتها؟ فقال أبو عبد اللّه: «اتخذتها متفرقة فإن أصاب هذا المال شيء سلم هذا المال، و الصرّة تجمع بهذا كلّه»(6).1.
ص: 371
رغم أنّ الإمام يدعو إلى ادّخار(1) الثروة و تكوين رأس المال إلا أنّه في الوقت نفسه ينهى عن الاكتناز و هو حبس المال عن الإنتاج و وضعه بعيدا عن متناول الناس و استفادتهم؛ لأنّ «الدنانير و الدراهم حاكمين و متوسطين بين سائر الأموال، حتى تقدّر الأموال بهما... و من كنزهما فقط ظلمهما و أبطل الحكمة منهما(2)»
فالإمام يرفض إمساك النقود؛ لأنه يخرج المال عن مدار الحركة الاقتصادية فقال ما نصّه: «ما يخلف الرجل بعده شيئا أشدّ عليه من المال الصّامت(3) قيل له: كيف يصنع به؟ قال: يجعله في الحائط و البستان و الدّار»(4).
فهو بهذا التعبير يلزم أتباعه باستثمار المال بشكل تام، و ذلك من خلال تأثيم المكتنزين، و بما أنّ الناس قد يدّخرون النقود التي لا تدرّ عليهم أيّ فائدة إلاّ بدافع الاحتياط من أخطار المستقبل - لحماية أنفسهم أو ورثتهم - ينصح الإمام تلاميذه لتلافي أخطار هذه الحالة بتوفير المال من شراء السلع المنتجة كضمانة لهم عند الحاجة كقوله:
«اتّخذ عقدة أو ضيعة فإنّ الرجل إذا نزلت به النّازلة أو المصيبة فذكر أنّ وراء ظهره ما يقيم عياله كان أسخى لنفسه»(5).
و هكذا حاول أبو عبد اللّه تعميق الفهم لدور رأس المال و يعلّم - في الوقت نفسه - كيفيّة تكوينه و المحافظة عليه و مصادرة الثروة في المجتمع.
إن العمل هو العنصر الهام و الفعال في كلّ طرق الإنتاج، و هو العنصر الإنساني الذي يمثل النشاط الدائب و الحركة المستمرة في سبيل التّقدّم و رفع مستوى المعيشة.
و يعرّف الاقتصاديون العمل بأنّه «كل جهد بدني أو ذهني مقصود و منظم يبذله الإنسان لإيجاد زيادة مادية أو منفعة»(6).
أما مفهوم العمل في الاقتصاد الإسلامي، فيمكن تعريفه بأنّه «كل جهد مشروع،
ص: 372
مقصود و منظّم، بدنيّا كان أو ذهنيّا، أو خليطا منهما يبذله الإنسان لإيجاد منفعة اقتصادية مادية أو معنوية»(1).
و لأهمية العمل و خطورة أبعاده في عملية الإنتاج لم يجعله الإسلام مع عناصر الإنتاج الأخرى على درجة واحدة، و إنّما جعلها على درجات متفاوتة فجعل العمل في أعلى هذه الدرجات.
ذلك لأنّ الإنسان العامل هو الذي يجري على الموارد الطبيعية التغيير و التبديل الذي يؤدي إلى الإنتاج، و هكذا شأن الطاقة الإنسانية بالنسبة لرأس المال - العنصر الثاني للإنتاج - هي التي تقوم بتشغيل الثروة و استثمارها «فالمال ليس المصدر لفعالية الإنسان و لكنّ الإنسان الفعال هو الذي يجعل المال فعالا»(2). «و لهذا علّق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فعالية المال بفعالية الرجل حيث قال: «نعم المال الصالح للمرء الصالح»(3).
فنرى ضرورة العمل للإنسان بحسب النظام التكويني، لقد اقتضت سنة اللّه في خلق العالم، أنّ الأرزاق التي ضمّنها و الأقوات التي قدّرها و المعايش التي يسّرها، لا تنال إلاّ بجهد يبذل و عمل يؤدّى، بحيث يضطر الإنسان لتلبية حاجاته المختلفة بالسعي و الكدح، كما في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (4)«فحقيقة الكدح هي المستقرّة في حياة الإنسان»(5).
فقد أشار الصادق إلى هذه الحقيقة بقوله:
«فانظر كيف كفي الخلقة التي لم يكن عنده - الانسان - فيها حيلة، و ترك عليه في كلّ شيء من الأشياء موضع عمل و حركة لما له في ذلك من الصّلاح»(6).
ثمّ يذكر بعض الأمثلة في كلامه:
«فإنه خلق له الحب لطعامه، و كلّف طحنه و عجنه و خبزه، و خلق له الوبر لكسوته فكلّف ندفه و غزله و نسجه، و خلق له الشجر فكلّف غرسها و سقيها و القيام عليها، و خلقت له العقاقير لأدويته فكلّف لقطها و خلطها و صنعها، و كذلك تجد سائر الأشياء على هذا المثال»(7).سه
ص: 373
و كذلك الإمام يشرح الحكمة البالغة الموجودة في العمل و آثارها الإيجابية للإنسان بقوله:
«لو لا يكون له - الإنسان - في الأشياء موضع شغل و عمل، لما حملته الأرض أشرا و بطرا و لبلغ به كذلك إلى أن يتعاطى أمورا فيها تلف نفسه. و لو كفي الناس كلّ ما يحتاجون إليه، لما تهنأوا بالعيش، و لا وجدوا له لذّة، أ لا ترى لو أنّ امرءا نزل بقوم فأقام حينا بلغ جميع ما يحتاج إليه من مطعم و مشرب و خدمة، لتبرّم بالفراغ، و نازعته نفسه إلى التشاغل بشيء، فكيف لو كان طول عمره مكفيّا لا يحتاج إلى شيء؟ و كان من صواب التدبير في هذه الأشياء التي خلقت للإنسان أن جعل له فيها موضع شغل لكيلا تبرمه البطالة، و لتكفّه عن تعاطي ما لا يناله، و لا خير فيه إن ناله»(1).
و انطلاقا من هذا المفهوم فقد كان الإمام جعفر حريصا على أن تعمل كل الطاقات القادرة في المجتمع الإسلامي حتى لا تصبح كلاّ و عالة على غيرها، كما كتب إلى رجل من أتباعه: «لا تكسل عن معيشتك فتكون كلا على غيرك»(2).
و المكانة التي لها اعتبار خاص للسعي و العمل في مدرسة الصادق تتضح بصورة أكبر من خلال اهتمامه بعرض القدوة الصالحة لتلاميذه، فهو يدعو المسلمين إلى التأسي بسيرة الأنبياء الصالحين في الجهد و السعي و يسرد قصصا من حياة الرسول الأكرم - القدوة العليا - لتلاميذه تشجيعا للعمل و الإنتاج، فيتحدث عن رجل قد ترك التجارة قائلا: «أما علم، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم اشترى عيرا أتت من الشام، فاستفضل فيها ما قضى دينه، و قسّم في قرابته»(3).
كما يؤكد على سيرة آبائه الصالحين من أهل البيت في هذا الصدد فيقول:
«لا تكسلوا في طلب معائشكم فإنّ آباءنا كانوا يركضون فيها و يطلبونها»(4).
و الصادق نفسه يقتدي بهذه السيرة و يحرص على أن يشارك بنفسه في العمل و الإنتاج، و هذه نماذج من سيرته العملية في السعي و الجهد و قد روى أحد أتباعه ما نصّه:
«رأيت أبا عبد اللّه و بيده مسحاة و عليه إزار غليظ يعمل في حائط له، و العرق يتصابّ عن ظهره، فقلت: أعطني أكفك، فقال لي: «إني أحب أن يتأذّى الرجل بحرّ الشمس في طلب المعيشة»(5).4.
ص: 374
و في مجال آخر قال: «دعوني فإني أشتهي أن يراني اللّه أعمل بيدي و أطلب الحلال في أذى نفسي»(1).
و هكذا يريد الإمام أن يكون قوة فاعلة في الحياة بأمر ربه كما يحاول أن يغرس نبتة السّعي و الجهد في نفوس أبناء المجتمع، و يغذيها لتكبر و تنمو فتتحول إلى قوة فاعلة و طاقة إنتاجية تغني المجتمع و تقوّيه.
ما يقصد بالاستهلاك «هو كمية السلع و الخدمات التي تستخدم لإشباع الحاجات الجارية»(2).
يعتبر الاستهلاك الهدف النهائي من الاقتصاد، لأن إشباع الحاجات الإنسانية بواسطة الموارد المتاحة - موضوع علم الاقتصاد - يتمّ من خلال الاستهلاك للسلّع و الخدمات، و في ضوء هذا، تتمّ باقي الوظائف الاقتصادية الرئيسة من إنتاج و تمويل و استثمار و تبادل.
أمّا الاستهلاك في الاقتصاد الإسلامي فهو: «الاستخدام المشروع للسلع و الخدمات في إشباع الحاجات و الرغبات المباحة شرعا»(3).
حيث إنّ كل فرد في المجتمع يعتبر مستهلكا، و إذا كانت فئة من أفراد المجتمع غير منتجة، فلا يوجد بين الأفراد غير مستهلك و لذا لقي موضوع الاستهلاك عناية كبيرة من النظام الاقتصادي، فلم يهمل الإسلام هذا الجانب المهم من حياة الناس إذ إن زيادة الإنتاج وحدها لا تكفي لتوفير الحياة الطيبة.
فلا قيمة لتحسين الإنتاج إذا لم يحسن الناس استهلاك ما ينتجون. لهذا يعتبر الإنفاق أخطر مرحلة من مراحل التعامل مع الثروة و الانتفاع بها.
و يرى الإسلام أنّ سوء استهلاك أو سوء استخدام الثروة و عدم الانتفاع بها انتفاعا دقيقا متوازنا، يساعد على نشر الفقر و تبديد الأموال، و ما يناله المسلم نتيجة سعيه و إنتاجه، عطاء من اللّه و منّة، و لذلك وجب الحمد على هذا الفضل و الإحسان، و من مقتضيات الحمد حسن التصرف في المال و جودة توظيف ما رزقه
ص: 375
اللّه، كما أرشد الإمام الصادق أتباعه إلى هذا الأمر بقوله: «تلقّوا النعم بحسن مجاورتها»(1).
فالمسلم في إطار هذه النظرة يأكل و يشرب و يتمتع بطيبات الحياة ليقوى على عبادة اللّه و ينظّم استهلاكه وفقا لأهداف العاجل و الآجل في الدنيا و الآخرة، و المنفعة هي الخير الذي يحقّقه الفرد من جراء استهلاكه، فيشبع رغائبه المادية و الروحية.
أمّا غير المسلم في النظام الاقتصادي الوضعي فإنه يستهلك لحصول الملذّات المادية و إشباع الشهوات الجسدية فقط، و يقتصر اهتمامه على تحسين و زيادة مستوى معيشته الحاضرة؛ لأنّ الاستهلاك نفسه قيمة اجتماعية، فهو يريد تعظيم إشباع حاجاته من عاجل لا بديل له في الآخرة.
و المنفعة هنا، المنفعة الذاتية أي مقدار ما يحصل عليه الفرد من سدّ الحاجة، «فبمقدار الإشباع من السلعة أو الخدمة المعينة تتحقق المنفعة بغض النظر عن الطريقة التي يحصل بها أو الأسلوب الذي يستعين به للوصول إلى المنفعة»(2).
هكذا يتميز السلوك الاقتصادي للمسلم من غيره؛ لأنّ النظام الاقتصادي الإسلامي يهتم بإشباع حاجات الإنسان مع حصول السمو الروحي و الاطمئنان القلبي، و ألزم كل فرد بحتمية تحقيق التوازن في الاستهلاك بين متطلبات جسده و بين متطلبات روحه، بشكل يمكنه من أداء رسالته على الوجه الأكمل.
من هنا اهتم الإسلام بتنظيم الاستهلاك تنظيما اقتصاديّا مخططا، و رسم للإنسان منهاج الانتفاع و استخدام الثروة بشكل مبرمج و محسوب، لكي لا ينحرف الفرد في تصرفاته، و لكي تتم استفادته من الخيرات و النعم التي أنعم اللّه بها على الإنسان.
فيمكن القول بأن مفهوم ترشيد الاستهلاك الفردي في الإسلام يعني «اتخاذ جميع الإجراءات و التدابير التي من شأنها تنظيم استهلاك الفرد و توجيهه مما يحقق له السعادة الدنيوية و الأخروية بالتزامه بمبادئ الشريعة الإسلامية»(3).
و هذا ما يعبّر عنه الإمام الصادق بالتدبير في المعيشة. فإنّ اهتمامه بقضية الاستهلاك و التربية عليه لا تقلّ عن اهتمامه بقضية الإنتاج و التربية عليه، و أنه ربط القضيتين معا بمنظوره إلى العقيدة الإسلامية.3.
ص: 376
فالمسلم في رأيه مأمور بتدبير معيشته أحسن تدبير، حتى يكون لديه من المال ما ينفقه في وجوه البرّ عليه و على من يعول، و بذا يحقق المال الغرض منه بدوره في تنمية المجتمع الإنساني.
على هذا اعتبر الإمام التدبير نصف العيش كما اعتبره جزءا من الدين بقوله:
«التدبير نصف العيش»(1) و: «من الدين التدبير في المعيشة»(2).
و القصد من التدبير في المعيشة هو التخطيط لما رزق اللّه الإنسان في حياته من المال و النعم، حيث إن مهمة الإنسان في الحياة في هذا الصدد تتمثل في إدارة النعم التي وهبه اللّه إياها، حتى يستخدم طاقته و فنّه في التصّرف فيه و ينظّم عيشه تحت ظلّه.
و الحق أن عملية إنفاق المال لا تقلّ - عند العقلاء - مشقة و احتياجا إلى الحكمة و العقل عن القدر الذي يبذله الإنسان في الحصول عليه و في تثميره، حيث إنّ ترشيد الاستهلاك هو الكسب تماما على حدّ تعبير الإمام الصادق.
كما روي أنّ رجلا قال لأبي عبد اللّه: «بلغني أنّ الاقتصاد و التدبير في المعيشة نصف الكسب فقال الإمام: لا، بل هو الكسب كلّه»(3).
فإنّ الإنسان إذا استهلك جميع ما كسب دون حدّ و قيود، أو أنفق ماله فيما لا يفيد، إنما يعدّ ذلك تضييعا للمال و بعثرة له فيما لا طائل من ورائه و لن يجني صاحبه و كذلك المجتمع من جراء هذا التصرف إلا الخسارة و الضرر، و هذا المقصد بالذات هو ما أكّده الإمام في كلامه بأنّ ترشيد الاستهلاك كلّ الكسب لأنه يضمن عدم ضياع الأموال و يحفظها.
و في هذا السياق أثر عنه قوله: «لا يصلح المرء المسلم إلاّ ثلاثة: التفقّه في الدين، الصبر على النائبة، و حسن التقدير في المعيشة»(4).
فالصادق يعتبر أساس الحياة الطيبة للمسلم على ثلاثة أركان فأحدها حسن التدبير في العيش و ممّا ينبغي بإمعان النظر أنّ جعل هذا الركن إلى جانب الآخر، و المهم من الحياة فهو التفقه في الدين ففي رأيه لا يمكن للإنسان أن يحلّ الإيمان محلّ التدبير و لا يستغني عنه أيّ مؤمن لذلك يربّي الصادق تلاميذه عليها إلى جانب الوعي و المعرفة بالدين.4.
ص: 377
إنّ التربية الاقتصادية الإسلامية تهتم بالإنفاق و تحثّ عليه، ذلك «لأنّه يؤدي إلى الرواج و انتعاش الأحوال، أما الإمساك فيؤدي إلى الكساد و البطالة و ركود الحالة الاقتصادية»(1).
و في إباحة الاستهلاك و الحض على الإنفاق يأتي قول اللّه تبارك و تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناكُمْ (2).
أمّا الإسلام فقد اشترط في إنفاق المال و التصرف فيه، أن يكون في وجوه نافعة و مشروعة، بعيدة عن كل ما حرّم اللّه تعالى.
فإذا التمس المرء كسبه من طرق سليمة، و اجتمع له المال من وجوهه المشروعة، غير مختلط بظلم أحد، أو جائر على حق أحد، كان من المحتم عليه أن ينفقه في وجوه سليمة.
تنفع و لا تضر، فإن فعل غير هذا كان مستأهلا لأن تذهب من يده هذه النعمة و أن تزول، ثم كان له حسابه عند اللّه فيما ضيع من حقوق.
من هنا وجّه الإمام الصادق تلاميذه في تربيته السلوكية إلى القاعدة الرئيسة في جميع النفقات بقوله: «إنما أعطاكم اللّه هذه الفضول من الأموال لتوجهوها حيث وجّهها اللّه، و لم يعطكموها لتكنزوها»(3).
ثم رسم الخطوط الأولى لإنفاق المال في سبل مشروعة مستقيمة يؤدي فيها المال مطالب الحياة الطيبة الكريمة لأصحابه فيسعدهم و يسعد من حولهم. فعند ما سأله رجل عن وجوه النفقات، يبيّن كل وجوه استهلاك المال في حياة المسلم مما هو في سبيل الوجوب و الندب في جدول منظم؛ فقال:
«أما الوجوه التي فيها إخراج الأموال في جميع وجوه الحلال المفترض عليهم و وجوه النوافل كلّها، فأربعة و عشرون وجها، منها سبعة وجوه على خاصة نفسه، و خمسة وجوه على من تلزمه نفسه. و ثلاثة وجوه مما تلزمه فيها من وجوه الدين.
و خمسة وجوه مما تلزمه فيها من وجوه الصلات. و أربعة أوجه مما تلزمه فيها النفقة من وجوه اصطناع المعروف»(4).
ص: 378
فتأتي توجيهاته على مصاديقها من الإنفاق على النفس و الأهل، و ما يستحق أن ينفق الإنسان في العبادات و الحقوق الاجتماعية ممّا يؤدي إلى الارتقاء النفسي و الروحي، و هذا ما ينصه:
«فأما الوجوه التي تلزمه فيها: النفقة على خاصة نفسه فهي مطعمه و مشربه و ملبسه و منكحه و مخدمه و عطاؤه فيما يحتاج إليه من الأجراء على ترميم متاعه أو حمله أو حفظه، و شيء يحتاج إليه من نحو منزله أو آلة من الآلات يستعين بها على حوائجه.
و أما الوجوه الخمسة التي تجب عليه النفقة لمن تلزمه نفسه فعلى ولده و والديه و امرأته و مملوكه لازم له ذلك في حال العسر و اليسر.
و أما الوجوه الثلاثة المفروضة من وجوه الدين فالزكاة المفروضة الواجبة في كل عام و الحج المفروض و الجهاد في إبّانه و زمانه.
و أمّا الوجوه الخمسة من وجوه الصلات النوافل فصلة من فوقه وصلة القرابة وصلة المؤمنين و التنفل في وجوه الصّدقة و البر و العتق.
و أما الوجوه الأربعة فقضاء الدّين و العارية و القرض و إقراء الضيف واجبات في السّنة»(1).
و من الجدير بالذكر أنّ الصادق في ذكر مجموع النفقات التي فرضها الإسلام على الفرد، يلفت نظر السائل و الآخرين إلى إشباع الرغبات المعنوية إضافة إلى إشباع الرغبات المادية.
و ذلك على النقيض من الاقتصاديات الوضعية التي قصرت عنايتها على الجانب المادي دون مراعاة أو التفات إلى الجوانب الأخرى كالقيم و المبادئ الأخلاقية و الروحية في الاستهلاك.
فقد أدخل الإمام في السلّة الاستهلاكية للمسلم ما يسمّيه حق اللّه في المال و ما يذكر في باب التكافل و التضامن في المجتمع الذي «يثير الشعور بالأخوة و المحبة بين الأفراد من جهة و يؤدي إلى الفرح الداخلي العظيم في المنفق من جهة أخرى؛ لأنّه قد أدى حق اللّه في المال الذي استخلفه فيه و طهّر نفسه بالصدقات المندوبة كما طهّر ماله بالصدقات المفروضة»(2).
و هكذا يرى الإمام المعلّم أداء هذه الحقوق من أسباب السعادة للفرد و المجتمعف.
ص: 379
كما ورد على لسانه: «لو أنّ الناس أدوّا حقوقهم لكانوا عائشين بخير»(1).
و يحذّر الأمة من منع هذه الحقوق بقوله: «من منع حقا للّه عزّ و جلّ أنفق في باطل مثليه»(2).
بناء على هذا يركّز الصادق منهجه التربوي أولا على إلزام الناس بأداء ما فرض اللّه عليهم من الزكاة كضريبة اجتماعية و بما أنّ الإنسان قد يتصور أحيانا أن ماله سيفنى بأداء الزكاة و سيزداد بمنعه، هو يؤكد أن اللّه تبارك و تعالى يثيب فاعل الزكاة بالبركة و نماء الأموال، فيقول:
«ما من رجل أدى الزكاة فنقصت من ماله، و لا منعها أحد فزادت في ماله»(3).
ثانيا: يشجع الإمام أتباعه على دائرة أوسع من الواجبات بالتأكيد على الوجوه الخيرة من الصدقة و البرّ و الإيثار حتى لا يغيب عن بالهم، الفقير المحتاج لحظة فيما يمارس من نشاطه الاقتصادي كقوله:
«أ ترون أنّما في المال (مال) الزكاة وحدها؟ ما فرض اللّه في المال من غير الزكاة أكثر، تعطي منه القرابة، و المعترض لك ممن يسألك»(4).
هكذا يوضّح الإمام أنّ في المال حقا غير الزكاة ممّا يجني ثمراته المجتمع الإسلامي، «و هو خلق نوع من الترابط و التماسك و الإحساس الجماعي المشترك ماديّا و معنويّا بين أفراد الجماعة الإسلامية»(5) فهو يراقب تلاميذه بأداء هذه الحقوق و مواساتهم الفقراء و تخفيف العبء عنهم، كما روي أنه خاطب أحد أتباعه بقوله:
«إنك رب مال كثير فتؤدي ما افترض اللّه عليك من الزكاة؟» قال: نعم. قال الإمام: «فتخرج الحق المعلوم من مالك؟» قال: نعم.
قال: «فتصل قرابتك؟ و تصل إخوانك؟» قال: نعم. قال: يا فلان إن المال يفنى، و البدن يبلى، و العمل يبقى و الديان حي لا يموت. ما قدمت فلم يسبقك، و ما أخرت فلن يلحقك»(6).
فبهذا الترغيب و الترهيب يريد الإمام أن يحرّر تلميذه من عبودية المال.8.
ص: 380
و هكذا كانت توجيهات الصادق تحوّل اتجاه الاستهلاك في المسلم و مسار إنفاقه للمال من التسابق على إشباع الرغبات و الاستجابة للنزعات و التفنّن في أساليب الحياة و ألوان البذخ، إلى تحمل الهموم الكبيرة و الإحساس بالمسؤولية إزاء الآخرين.
و لا يكتفي النظام التربوي الاقتصادي في فكر الإمام بمجرد الكلام و طرح النظريات في سبيل تحقيق أهدافه و إنّما يعمد إلى التطبيق العملي لهذه الأمور؛
فكان الإمام يقوم بنفسه بتقديم مساعدات مالية لأهل الحاجة و توزيع ماله عليهم و العمل على إغناء الناس و إزاحة كابوس الفقر عن كواهلهم.
كما روى أحد تلاميذه قال: قلت للإمام: «بلغني أنك كنت تفعل في غلة «عين زياد» شيئا، و أنا أحبّ أن أسمعه منك. قال: فقال لي: نعم كنت آمر إذا أدركت الثمرة أن يثلم في حيطانها الثلم، ليدخل الناس و يأكلوا؛ و كنت آمر في كل يوم أن يوضع عشر ثبنات، يقعد على كل ثبنة عشرة، كلما أكل عشرة جاء عشرة أخرى، يلقي لكل نفس منه مد من رطب. و كنت آمر لجيران الضيعة كلهم - الشيخ و العجوز و الصبي و المريض و المرأة و من لا يقدر أن يجيء - فيأكل منها، لكل إنسان منهم مدّا؛ فإذا كان الجذاذ، أوفيت القوّام و الوكلاء و الرجال أجرتهم، و أحمل الباقي إلى المدينة، ففرقت في أهل البيوتات و المستحقين الراحلتين و الثلاث و الأقل و الأكثر، على قدر استحقاقهم، و حصل لي بعد ذلك أربعمائة دينار. و كانت غلّتها أربعة آلاف دينار»(1).
يقصد من الاستهلاك في الاقتصاد الوضعي، الاستهلاك نفسه أي إشباع رغبات المستهلك، و ما دامت هذه الحاجات مدعمة بالقدرة على الشراء يعنى بها، و يوضع لها حدود، لذلك «لا تتجّه السياسات الاقتصادية الوضعية نحو ترشيد الاستهلاك الفردي للسلع، و الخدمات، إلا انبعاثا من وجود ندرة في عرض بعض السلع، و الخدمات، و عدم قدرة المعروض منها، على مواجهة المطلوب»(2).
أما الاستهلاك في الإسلام فإنه ليس غاية للوجود الإنساني بحد ذاته، و إن كان غاية للنشاط الاقتصادي فالمجتمع المسلم يستهلك ليعيش و لا يعيش ليستهلك، و يهدف الاستهلاك فيه إلى تحقيق غايات أخلاقية و عقدية و إنسانية.
على هذا ركّز تنظيم الإنفاق للمستهلك المسلم و توجيه اختياراته في الاستهلاك وفقا لهذه الأهداف.
ص: 381
فالإسلام و إن كان يبيح الإنفاق بل يأمر به إلا أنه قد جعل له قيودا حتى مع وجود وفرة في المعروض من السلع و الخدمات، فلا يجوز للمسلم أن يتخطّى هذه الحدود.
و قد أكّد الإمام الصادق في مدرسته التربوية على هذا المنهج الاقتصادي الإسلامي لترشيد الإنفاق الفردي و أرشد تلاميذه إلى أسلوب التحديد الكمي و النوعي للاستهلاك ممّا يعرفنا أنّ المسلم لا بدّ أن يتعلّم و يحسن عن طريق الوعي و التربية: ما ذا يستهلك؟ و كم يستهلك؟ و لم يستهلك؟ و في هذا البحث سوف نتناول أهمّ إرشاداته في هذا المجال:
لقد امتازت البرامج الترشيدية في مدرسة الصادق، بأنّها تنظم حياة الفرد اليومية على استهلاك الطيبات و اجتناب الخبائث عبر تفصيل الضوابط الشرعية للاستهلاك.
قال تعالى: وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ (1)
لأنّ الإسلام لا يسمح لأي فرد بأن يصرف ماله على نزواته و فيما حرم اللّه أو يستهلكه في غير موضعه، و لكنه يوجه الفرد لاستهلاكه فيما ينفع، ليحقق الغرض منه.
من هنا تختلف السلع و الخدمات التي يستهلكها المسلم من غيره.
فالإمام الصادق عند ما يوجّه تلاميذه إلى أحكام الحلال و الحرام في إشباع الحاجات الضرورية كالأكل و الشرب يسوق ذهنية الأمة إلى قضية النفع و الضرر أو الصلاح و الفساد للإنسان حتى يربّيهم على أنماط الاستهلاك السليمة و الواعية و هذا ما ينصّه:
«فأما ما يحل و يجوز للإنسان أكله مما أخرجت الأرض فثلاثة صنوف من الأغذية: صنف منها جميع الحب كله من الحنطة و الشعير و الأرز و الحمص و غير ذلك من صنوف الحب و صنوف السماسم و غيرها.
كل شيء من الحب مما يكون فيه غذاء الإنسان في بدنه و قوته فحلال أكله و كل شيء تكون فيه المضرة على الإنسان في بدنه فحرام أكله إلا في حال الضرورة و كذلك من جميع صنوف الثمار و جميع صنوف البقول و النبات....»(2).
و بما أنّ المنفعة و المضرّة ليست مقتصرة على جسد الإنسان فحسب بل تشعل كل النواحي الصحية و النفسية و الاجتماعية.
فإن الإمام يلفت أنظار تلاميذه إلى تأثير بعض السلّع على النواحي العقلية التي تؤدي إلى حرمته، كقوله:
ص: 382
«و ما يجوز من الأشربة من جميع صنوفها، فما لا يغيّر العقل كثيرة فلا بأس بشربه و كل شيء منها يغيّر العقل كثيرة فالقليل منه حرام»(1).
فممّا ينجم عن هذا التوجيه أنّ الاستهلاك لا بد أن يتوجه إلى الطيبات التي بها قوام طاقات الإنسان و قدراته الجسدية و العقلية و الروحية.
و المستهلك عند ما يتخذ قرار إشباع حاجاته لا بدّ له من «تجنب جميع السلع و الخدمات التي يثبت قطعا أنّها ضارة بالصحة أو بالأخلاق، أو تلك التي يتضمن استهلاكه لها انغماسا واضحا في ترف الحياة الدنيا و تبذيرا لا يستحسنه إلا الشيطان»(2).
على صعيد آخر يحاول الإمام في مسيرته التربوية تغيير النمط الاستهلاكي في المجتمع، و الذي يتمثل في إرشاداته إلى عدم اقتصار الإنفاق، على شراء السلع الاستهلاكية البحتة، حتى يدّخر الفرد شيئا من ثمن السلعة، عن طريق مساهمته في العملية الإنتاجية، و هو يعتبر هذا الأمر من الطرق الأساسية للقضاء على الفقر، كما ورد عنه قوله في هذا الصدد: «شراء الحنطة ينفي الفقر، و شراء الدقيق ينشئ الفقر، و شراء الخبز محق»(3).
هذا التوجيه التربوي تضمن إشارة لطيفة إلى مراحل متتالية في تحويل المواد الأولية إلى إنتاج السلعة النهائية، ثم يبيّن بأنّه كلما ازدادت المساهمة في الإنتاج، كلما ابتعد الفرد و المجتمع عن الفقر و هذا بادّخار القيمة المضافة(4) التي حصل عليها الفرد عن طريق مساهمته نفسه.
هكذا نرى بأنّ الإمام في مسيرته التربوية قد اهتمّ بتوجيه الطلب الاستهلاكي إلى الطلب الإنتاجي من جهة و الالتفات إلى قاعدة المصلحة و النفع البشري - بدنا و عقلا و روحا - في نوعية السلع الاستهلاكية من جهة أخرى، حتى لا يذهب تلاميذه فيما لا فائدة من ورائه أو فيه ضرر.).
ص: 383
من أهم الأساليب الحاسمة التي اعتمد عليها الإمام الصادق لترشيد الاستهلاك الفردي هو التأكيد على التحديد الكمي للإنفاق. فهو لم يكتف في تربيته بضبط سلوك المستهلك نوعيّا، إنّما يضبط درجة الكمية التي يسمح للفرد المسلم باستهلاكه من السلع.
فالإسلام أمر أتباعه بالتمتع في هذه الدنيا بالطيبات الحلال، مع ضرورة المحافظة على خط الاعتدال في هذا التمتع.
لأنّ «قضية الاستهلاك في الإسلام ليست كما هي في الفكر المادي المعاصر، قضية إنفاق يتناسب مع الإنتاج، أو مع ما رزقه الإنسان من رزق، بل هي قضية اعتدال في الإنفاق، مهما وسع اللّه سبحانه على الإنسان في الرزق»(1)، أو على حد التعبير القرآني المحكم، في وصف عباد الرحمن المؤمنين:
وَ الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (2) .
و هذا المقصد بالذات هو ما اهتمّ به الإمام في تعاليمه، فأوضح بأنّ المسلم ليس حرا طليقا في إنفاق ماله، يبذله يمنة و يسرة من غير رقيب، و إنّما هو مقيّد و مسؤول عن النفقة فيما أحلّه اللّه، و لذلك يقول الإمام لأحد تلاميذه:
«أ ترى اللّه ائتمن رجلا على مال خوّل له، أن يشتري فرسا بعشرة آلاف درهم، و يجزئه فرس بعشرين درهما؟»...(3)
و هذه المطالبة الصريحة من الإمام بوجوب ترشيد الاستهلاك و تحديده كميّا حتى في حالات الغنى و الرخاء و وفرة الإنتاج فهو لا ينهى عن التوفير لكل فرد، ذلك المستوى اللائق و الكريم من المعيشة الذي يتناسب مع ظروفه و أوضاعه، بل كما برز في تعبيره «يجزئه»، يدعو إلى الاعتدال في الأنماط الاستهلاكية و الحفاظ على النعمة مهما كانت إمكانات الفرد كبيرة.
و لذلك وجدنا من أبرز إرشاداته لتلاميذه التوكيد على وسطية الاستهلاك، أي بالقدر الذي يحقق القصد منه في كل جوانب الحياة. و هذا فيما روى عنه أبان بن تغلب:
«المال مال اللّه، يضعه عند الرجل ودائع، و جوّز لهم أن يأكلوا قصدا، و يشربوا
ص: 384
قصدا، و يلبسوا قصدا، و ينكحوا قصدا، و يركبوا قصدا؛ و يعودوا بما سوى ذلك على فقراء المؤمنين و يلمّوا به شعثهم. فمن فعل ذلك كان ما يأكل حلالا، و يشرب حلالا، و يركب حلالا، و ينكح حلالا؛ و من عدا ذلك كان عليه حراما»(1).
في هذا الكلام نرى تأكيدا على استخلافية المال، ثم الاقتصاد و الاعتدال في وجوه الاستهلاك، إضافة إلى أداء الحقوق الاجتماعية للمسلم فهو يعتبر التجاوز عن هذا الحد، خروجا عن دائرة طاعة اللّه و هو حرام.
و نجد في كثير من التوجيهات التربوية للإمام ما يرسم لنا الطريق في تطبيق الاعتدال و منها:
تأسيسا على ما سبق، أكّدت مدرسة الصادق على ضرورة التدبير في المعيشة للمسلم، و ربما نستطيع أن نقول: إن من معالم حسن التدبير، الالتزام بالتقدير و الرفق في العيش، كما يقول الإمام:
«الرفق في تقدير المعيشة خير من السعة في المال، و الرفق لا يعجز عنه شيء و التبذير لا يبقى معه شيء»(2).
و في هذا الكلام ترغيب في اكتساب «الرفق في تقدير المعيشة أي التوسط بين التقتير و التبذير، و عبارة «لا يعجز عن شيء» يعني لا يضعف و لا يقصر عن شيء من المال لأن القليل من المال يكفي مع التقدير»(3).
و مما ينبغي أن نتأمل فيه، أن الإمام قد يوصي بقضية التقدير في الأسرة، كأنه يرى من الضروري أن تبدأ التربية الاستهلاكية من البيوت.
و قال بصدد أهمية الكيل: «و يقوتهنّ (أي الرجل عياله) بالمدّ، فإني أقوت به نفسي و عيالي. و ليقدّر لكل إنسان منهم قوته، فإن شاء أكله، و إن شاء وهبه، و إن شاء تصدق به»(4).
و التقدير أكثر فضلا عند ما يلزم الإنسان نفسه بها في حال الغنى، و يرمي بها إلى مواساة الناس و تطابق الاستهلاك الفردي مع مستوى الجماهير، كما يقول الصادق:
«فإنا نستكره أن نأكل جيدا و يأكل الناس رديئا»(5).
ص: 385
فهو في سيرته العملية يعمل هكذا حينما يريد أن يعرض القدوة للآخرين، فروي في هذا الصدد أنه عند ما أصاب أهل المدينة قحط و زادت أسعار السلع فيها، قال الإمام لمولاه:
«كم عندنا من طعام؟ قال: عندنا ما يكفينا أشهرا كثيرة. قال: أخرجه و بعه! قال: و ليس بالمدينة طعام. قال: بعه! أشتر مع الناس يوما بيوم. ثم قال:
يا فلان! اجعل قوت عيالي نصفا شعيرا و نصفا حنطة، فإن اللّه يعلم أني واجد أن أطعمهم الحنطة على وجهها، و لكني أحببت أن يراني اللّه قد أحسنت تقدير المعيشة»(1).
من معالم التربية الاقتصادية في مدرسة الصادق التحذير من الإسراف أي «مجاوزة القصد»(2) و هو: «صرف الشيء فيما ينبغي زائدا على ما ينبغي، بخلاف التبذير، فإنه صرف الشيء فيما لا ينبغي»(3).
فالنهي عن الإسراف يمثّل تحديدا كميّا لنفقات المعيشة كما أنّ المنع من التبذير يمثل تحديدا كيفيّا للتصرف في المال، لأن «التبذير، الجهل بمواقع الحقوق و السرف الجهل بمقادير الحقوق»(4).
فالإمام الصادق يريد أن يكوّن الرقابة الذاتية لدى الفرد بحيث يراقب نفسه بنفسه في كل شيء و عن طريق تقوى اللّه، لذلك يرشد تلاميذه بقوله:
«إنّ القصد أمر يحبه اللّه و السرف أمر يبغضه اللّه»... «اتق اللّه و لا تسرف و لا تقتر و كن بين ذلك قواما و إن التبذير من الإسراف»(5).
و قد سعى إلى تحويل هذه المبادئ العامة إلى إجراءات سلوكية في تربية تلاميذه، عبر تبيين مظاهر الاستهلاك الخارجة عن الوسطية، في الحياة اليومية كقوله:
«إنما السرف أن تجعل ثوب صونك(6) ثوب بذلتك»(7).
ص: 386
و قال: «أدنى الإسراف هراقة فضل الإناء، و ابتذال ثوب الصون، و إلقاء النوى»(1).
و من أهم هذه الإجراءات، توجيهه إلى المحافظة الشديدة على الموارد، و عدم السماح بهدرها في الاستهلاك، و قد روي «أنّه نظر إلى فاكهة قد رميت من داره لم يستقص أكلها، فغضب الإمام و قال: ما هذا؟ إن كنتم شبعتم فإن كثيرا من الناس لم يشبعوا، فأطعموه من يحتاج إليه»(2).
يمقت الإمام هذا السلوك الاستهلاكي لما له من تأثير سيئ على الأفراد و المجتمعات؛ لأن فيها ظلما للفقير و المسكين. و عليه، تجيء توجيهاته بأن يعرّف معيارا لمصاديق الإسراف حتى لا يخطئ الناس فيها بقوله:
«ليس فيما أصلح البدن إسراف إنّما الإسراف فيما أتلف المال و أضر بالبدن»(3).
إنّ حالة الحرص و الطمع هي العامل لشقاء الإنسان و غرقه في الملذّات المادية و الدنيوية، فالحريص يطلب الغنى من خارج ذاته و وجوده في حين أن أصل الغنى و حقيقته يجب أن يحصل عليها الإنسان من داخله.
و هذا ما يقصد إليه الصادق في تربيته عند ما يتحدّث عن واقع الإنسان في الحياة بقوله:
«مطلوبات الناس في الدنيا الفانية: الغنى، و الدّعة، و قلة الاهتمام، و العزّ، فأمّا الغنى فموجود في القناعة، فمن طلبه في كثرة المال لم يجده...»(4).
و ذلك لأنّ القناعة هي التي تورث الإنسان الطمأنينة و الهدوء النفسي في الحياة، و الإنسان عند ما تصاب روحه بالحرص، فإنّه لو ملك الدنيا بما فيها فإنه يعيش فقيرا كذلك، و لكنّه إذا عاشت روحه الغنى الذاتي و لم يجد في نفسه طمعا، فلو سلب من جميع ما في الدنيا فإنه يعيش الغنى كذلك.
و هذا ما أشار إليه الإمام في معالجة المشكلة التي شكا فيها رجل إليه: «أنه يطلب فيصيب و لا يقنع و تنازعه نفسه إلى ما هو أكثر منه، و قال: علمني شيئا أنتفع به، فقال أبو عبد اللّه:
ص: 387
«إن كان ما يكفيك يغنيك، فأدنى ما فيها يغنيك، و إن كان ما يكفيك لا يغنيك فكل ما فيها لا يغنيك»(1).
فالإمام يلفت نظر الرجل إلى النظام الحكيم الحاكم على هوية الإنسان و فطرته و يرشده إلى الحدّ المناسب لواقع الوجود الإنساني و هو حد القصد و الاعتدال، فيدعوه إليه و يعلّمه اكتساب الغنى النفسي بجوهره البنّاء و هو الاستغناء بالكفاف.
يعرّف التقتير بأنّه «إنفاق أقل مما ينبغي فيما ينبغي و هو عكس الإسراف إذ إن - التقتير - إنفاق أقل من حد الاعتدال»(2).
فالإمام جعفر عند ما يحذّر من الإسراف و الترف و تبديد الموارد الاقتصادية، فإنّه ينهى في الوقت نفسه عن الشح و البخل و التقتير وفقا لمنهج الاعتدال في الاستهلاك.
فهو يذمّ حرمان النفس من التمتع بالمباحات المتاحة و الطيبات من الرزق مؤكدا على الآية الشريفة: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ (3).
و يحث تلاميذه على الانتفاع بزينة اللّه التي خلقها لعباده في مثل قوله:
«اتخذوا الدابة فإنّها زين... و من سعادة المرء دابة يركبها في حوائجه و يقضي عليها حقوق إخوانه»(4).
و يؤكد المعنى نفسه في حديث آخر فيقول: «ما أنفقت من الطيب فليس بسرف»(5).
و عند التأمل في النصوص الواردة عنه قولا و فعلا يتضّح لنا مدى اهتمامه بالتربية الجمالية لتلاميذه.
و قد يتحدّث عن اللّه بأنّه يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، مؤكّدا بأنها طريق إلى شكر اللّه تعالى حيث يقول:
«إظهار النعمة أحب إلى اللّه من صيانتها فإياك أن تتزّين إلا في أحسن زيّ قومك»(6).
ص: 388
فهو على صعيد سلوكه الشخصي كان هكذا، و هو بصفته أحد المربين الكبار يظهر في المجتمع بشكل رائع و جميل حيث ورد عن سفيان الثوري أنه قال:
دخلت على جعفر بن محمد و عليه جبة خزّ دكناء و كساء خزّ، فجعلت انظر إليه تعجبا، فقال لي: «يا ثوري، ما لك تنظر إلينا؟ لعلك تعجب ممّا ترى» فقلت له:
يا ابن رسول اللّه؟، ليس هذا من لباسك و لا لباس آبائك!
فقال: «يا ثوريّ، كان ذلك زمان افتقار، و كانوا يعملون على قدر إقتاره و افتقاره، و هذا زمان قد أسبل كل شيء عزاليه. ثم حسر ردن جبته، فإذا تحتها جبّة صوف بيضاء يقصر الذيل عن الذّيل و الرّدن عن الرّدن، و قال: يا ثوريّ، لبسنا هذا للّه و هذا لكم، فما كان للّه أخفيناه، و ما كان لكم أبديناه»(1).
فقد أشار الإمام في كلامه إلى تغيّر الأحوال و الشرائط مع مضي الزمن، و أكّد تأثير هذا الأمر على المستوى المعيشي مبيّنا بأنّ الزهد في نعم اللّه ليس فضيلة، إنّما الفضيلة هي في تمتع الإنسان بها في حدود القيم التي رسمها الدين لإثراء سعادته، و منها عدم إغراق الفرد في اللذّات الدنيوية إضافة إلى تعويد نفسه على تحمل الظروف الصعبة قبل وقوعها كالتعود على خشونة الطعام و الملبس.
و قام الإمام بهذه التربية على أكمل وجه عند ما يعرّف الزهد تعريفا دقيقا يتضمن تحذيرا من التباس هذه المرتبة الإيمانية بالتقتير و التقشف، و هذا ما ينص عليه قائلا:
«ليس الزهد في الدنيا بإضاعة المال و لا بتحريم الحلال بل الزهد في الدنيا أن لا تكون بما في يدك أوثق منك بما في يد اللّه عزّ و جلّ»(2).
فالصادق بهذا التوجيه التربوي، يلفت الأنظار إلى أن الزهد حالة نفسانية، تتحقّق باطمئنان الإنسان إلى قدرة اللّه و عطائه، و ليس هو تحريم الحلال و منع الجود و العطاء على نفسه و على الآخرين. و هكذا يربّي الإمام تلاميذه بحدود الاستهلاك السليم: لا إسراف و لا تقتير بل إنفاق بالتقدير و القناعة و هذه هي الرسالة التي تقوم على منهج الاعتدال في تربية الخلق ليصبحوا أنموذجا يحتذى في المجتمع.1.
ص: 389
ص: 390
المبحث الثاني البناء المهني
- مفهوم المهنة و أهميتها
- الجانب المهني في فكر الإمام التربوي
- تصنيف المهن و الحرف في مدرسة الصادق
- أخلاقيات المهن و الحرف في مدرسة الصادق
ص: 391
ص: 392
إن التربية الإسلامية تهدف إلى بناء إنسان مسلم عارف بدينه و يتصرف وفق قواعده و مبادئه، و في الوقت ذاته ترمي إلى تخريج إنسان قادر على أن يعيش حياة كريمة في المجتمع، يقدر أن يعطيه و يسهم في حركة بنائه و دفعه و تطوير الحياة فيه من خلال عمل معين يتقنه و يجيده.
لذلك فإن التربية المهنية جزء من التربية الشاملة في الإسلام، و هي العملية التي تجمع كل القيم العلمية و الاجتماعية و الخلقية حول مهنة معينة و تقدمها للفرد لإعداده للقيام بتلك المهنة.
و من البديهي أن من عوامل تخلف المجتمع افتقاره إلى الكوادر الفنية و المهنية. فتوافر مثل هذه الكوادر يوفر للمجتمع الجانب المادي في نموه و قوته و استمراره؛ و هنا تبرز ضرورة التوجيه التربوي للقدرات و المهن و التكنولوجيا في أي مجتمع يسعى إلى التغيير و التطور.
إذ «إن العمل و التنمية صنوان لا يفترقان، فلا تنمية بغير عمل، و لا يمكن أن نتصور التنمية الحقيقية بغير عمل»(1). فإذا أراد المجتمع أن ينمي نفسه فلا بد أن يأخذ بالاتجاه العملي.
من هنا نجد أن الإمام الصادق قد اهتم بهذا الجانب من التربية في مدرسته؛ لأنها من العوامل التي تدفع الأمم إلى الرقي، و تحافظ على كيانها، بل إنها من الركائز التي يركز عليها الاقتصاد في كل بلد من البلدان. فشجع تلاميذه على دراسة كل مهنة أو فن أو صناعة ممّا يحتاج إليه المجتمع و اكتساب المهارات فيها و تعلم ضوابطها و آدابها و أخلاقياتها، لكي يعدّهم إعدادا مهنيّا لأداء وظيفتهم في الحياة.
ستحاول هذه الدراسة من خلال النصوص الواردة في تعاليم الإمام أن نتناول مدى اهتمام الإمام بالحرف و المهن و مدى ما وصل إليه الاتجاه الحرفي و المهني في تربيته و ما يمكن أن نستفيد من ذلك عند التخطيط التربوي لنهضتنا الحضارية و العمرانية الآنيّة و المستقبلية.
ص: 393
المهنة لغة: الحذق بالخدمة و العمل و الماهن: الخادم و قد مهن القوم أي خدمهم(1).
و في الاصطلاح: «مجموعة من الأعمال المتشابهة التي تنتمي إلى عائلة مهنية واحدة بحيث يستطيع الشخص أن يمارسها بعد تدريب طفيف لتواجد الارتباط بين تلك الاعمال»(2). فلكل مهنة أسسها العلمية، «و من الضروري أن يكون لدى صاحب المهنة معلومات و مهارات متخصصة في المجال الذي يقوم بالعمل فيه، ثم عليه أن يستخدم هذه المعلومات و المهارات في تعلم أو توجيه أو تقديم خدمات لأعضاء المجتمع الذي يعيش فيه»(3).
إن المسلم مطالب بأن يعمل في إطار الدنيا مبتغيا وجه اللّه سبحانه و تعالى، و في هذا الإطار نادى الإسلام بضرورة تدريب الفرد المسلم على الاشتغال بمهنة و تزويده بمهارات مناسبة يكسب منها عيشه. حتى يعتبر أن «بعض المهن و الحرف حسب تدرج أهميتها في حياة البشر إنما هي فروض كفاية لا يجوز أن يخلو منها المجتمع؛ لأنه يعرض أفراده إلى المشقة الحياتية»(4).
و من هنا كان للإسلام دور عظيم في نشر الحرف و المهن و الصناعات بين المسلمين، و يتضح ذلك مما نراه في كثير من مظاهر الحياة الإسلامية.
ص: 394
إنّ اللّه قد فوّض إلى الإنسان عمارة الأرض و جعله يعمل و يسعى فيها و يسير في أرجائها ليعمرها و يستخرج منها أرزاقه. ثم أعطى البشر من الطاقات و الاستعدادت و الإمكانات ما يتناسب مع العمل على الأرض و أداء هذه الرسالة.
على ضوء هذا الأمر جاء في تعاليم الصادق ما يدلّ على هذا التناسق بين خلقة الإنسان و مهمته في الكون فقال: «فأما الإنسان فإنه ذو حيلة و كفّ مهيّأة للعمل فهو ينسج و يغزل و...»(1).
فالإمام يبين بأنّ اللّه تعالى أمد الإنسان بما يحتاج إليه في العمل و هما أمران: قوة الفكر (فإنّه ذو حيلة) و طاقة العمل (كفّ مهيأة)، و يريد سبحانه و تعالى أن يكون الإنسان كادحا عاملا مؤديا دوره في الحياة. و بما أنّ المهن و الحرف وسيلة للإنسان في طلب معاشه، فلا بدّ له من الاشتغال بمهنة أو حرفة حتى يستطيع أن يشبع حاجاته.
و هذا ما أشار إليه الصادق في كلامه، فقال ما نصّه:
«و جعل سبحانه أسباب أرزاقهم - الناس - في ضروب الأعمال، و أنواع الصناعات، و ذلك أدوم في البقاء، و أصح في التدبير.»(2)
و الواقع أنّ «الاشتغال و تحمل المسؤولية هو من ضروريات الحياة الحرة الكريمة في المجتمعات البشرية و من يطمح لينال نصيبا من مزايا المدنية و يأكل لقمته بعز و كرامة عليه أن يكون عضوا نافعا في المجتمع و يأخذ على عاتقه عملا في حدود كفاءته و قدرته لينتفع من نتاج عمله هذا الآخرون مثلما ينتفع هو من نتاج عمل الغير.»(3)
على هذا الأساس يرى الصادق خلق المناخ الثقافي المربّي الذي يوجّه نحو العمل و المهنة أساسا هامّا في أي عملية تغيير و بناء، فهو يرمي إلى هذا الهدف التربوي، و انطلاقا منه قد يعبّر عن العمل بالعزّة فقال لمولى له: «يا عبد اللّه احتفظ بعزّك، فقال:
و ما عزّي؟ قال: غدوك إلى سوقك و إكرامك نفسك»(4)
ص: 395
كما قد يشير إلى دور العمل في احتفاظ الإنسان بموقعه و مكانته بين الناس، فحين قال له أحد تلاميذه: «إنّي هممت أن أدع السوق، و في يدي شيء. فقال:
«إذا يسقط رأيك، و لا يستعان بك على شيء.»(1)
و بما أن البطالة تعتبر آفة اقتصادية تفتك بالمجتمع، فهو يرفع صوته عاليا ليهزّ أعماق المجتمع و يحرّك نواة وعيه و ذلك بهدف التحذير من الوقوع في شباك البطالة و الكسل فيقول:
«من كسل عما يصلح به أمر معيشته، فليس فيه خير لأمر دنياه»(2).
فهو يعتبر السعي في تدبير أمر المعيشة معيار الخير لدى الإنسان في دنياه، فمن كسل عن هذا الأمر فلا خير فيه، و لا يصلح لأمر الدنيا.
و بينما نرى القوانين الوضعية للبطالة ينبثق من خارج الإنسان، فإننا نرى الصادق يعمل على معالجة هذه الظاهرة من ذاتية الإنسان حتى يكون دافع الإنسان للعمل نابعا من داخله لا من الخارج.
و للتغلب على هذه الظاهرة الهدّامة و توجيه ثقافة الناس إلى السعي و الجهد، فإنه ينفي فكرة احتقار بعض الناس لبعض الأعمال و يعلّم أصحابه أن لكل حرفة قيمة اجتماعية، مهما كان نوعها، و أن الهوان و الضعة في الاعتماد على معونة الناس.
قد روي في هذا الصدد أن رجلا أتى أبا عبد اللّه فقال: «إني لا أحسن أن أعمل عملا بيدي، و لا أحسن أن أتجر و أنا محارف محتاج، فقال: اعمل فاحمل على رأسك و استغن عن الناس»(3).
فالإمام يعالج هذه المشكلة بالعمل في حمل المتاع و نقل البضائع و هذا ما لا يحتاج إلى رأس مال كالتجارة و لا إلى الخبرة و الممارسة كما في الصناعات، فهو ينقل ما يريد الآخرون نقله و يأخذ بدله أجرة و بذلك يغنيه عن سؤال الناس؛ لأن الحرفة مهما كانت بسيطة و متواضعة، ترفع قدر الإنسان و تحفظ عليه كرامته من ذل المسألة.
و الأمر الذي يجب إمعان النظر فيه، أن لكل مهنة أخلاقيات خاصة تؤثر على نفس الإنسان و شخصيته، ذلك لأن مهنة الشخص و إجراءاته، هو تكرار أعمال معينة و مميزة تتبدل إلى عادات الشخص و سلوكه و تترك أثرا عميقا على ذات الإنسان.
إن الصادق كعالم تربوي لم يغفل عن هذا، فقد ذكر لأتباعه بعض التأثيرات2.
ص: 396
السلبية لبعض المهن على شخصية الفرد محذرا من تلك الانعكاسات السلبية على نفسية الإنسان و على سلوكه. فقال لأحد تلاميذه عند ما سأله في أي الاعمال أضع ولدي؟ فقال:
«إذا عدلته عن خمسة أشياء فضعه حيث شئت، لا تسلمه صيرفيّا فإن الصيرفي لا يسلم من الربا، لا تسلمه بياع الأكفان فإنّ صاحب الأكفان يسره الوبا إذا كان و لا تسلمه بياع الطعام فإنه لا يسلم من الاحتكار، و لا تسلمه جزّارا فإنّ الجزار تسلب منه الرحمة، و لا تسلمه نخاسا، لأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: شر الناس من باع الناس»(1).
و هذا التوجيه التربوي يتضمن كيفية تأثير بيئة عمل أي فرد في بناء شخصيته الاجتماعية و صفاته الأخلاقية، و مدى اهتمام الإمام بهذا الأمر في تربيته المهنية، مذكرا بمسؤولية الآباء في إرشاد أولادهم عند اختيارهم المهن و الحرف.).
ص: 397
إن المهن و الحرف بصفة عامة متعددة و شاملة بتنوع وجوه المعاش و قدرات الناس، و قد ذكر الإمام الصادق في إرشاداته التربوية بعض هذه المهن و الحرف في مواضيع عديدة و بأساليب مختلفة؛ من خلال اطّلاعنا على النصوص الواردة عنه يمكن القول بأنه أشار إلى ثمانية عشر نوعا من المهن على أساس نوعية العمل التي تختلف باختلاف مجال العمل.
و هذه الأنواع هي: الزراعة و الرعي و التجارة و الصناعة و الإمارة و الإجارة و التعليم و الكتابة و الحساب و الصياغة و السراجة و البناء و الحياكة و القصارة و الجزارة و الصرافة و الخياطة و صنعة صنوف التصاوير.
كما يصنف وجوه المعاملات فيما بين العباد مما يكون لهم فيه المكاسب، بأربع جهات و أوضح بأنّ: «أول هذه الجهات الأربع الولاية و توليه بعضهم على بعض، فالأول ولاية الولاة و ولاة الولاة إلى أدناهم بابا من أبواب الولاية على من هو وال عليه. ثم التجارة في جميع البيع و الشراء بعضهم من بعض، ثم الصناعات في جميع صفوفها. ثم الإجارات في كل ما يحتاج إليه من الإجارات...»(1).
و من أهم الخطوات التي خطاها الإمام في تربيته المهنية هي ربط هذه المهن و الحرف جميعا بالشرع و تحقيق غاياته. فهو يلفت أنظار تلاميذه بأن المسلم لا يقوم على حرفة أو مهنة إلا إذا عرف مواقف الشريعة من تلك الحرفة أو المهنة و ما يجب عليه شرعا في أدائه ذلك العمل و من ثم يظل سلوكه الوظيفي أو المهني في إطار الشريعة و أخلاقياتها السامية.
و هذا ما ورد على لسانه فقال ما نصّه: «كل هذه الصنوف تكون حلالا من جهة و حراما من جهة أخرى، و الفرض من اللّه على العباد في هذه المعاملات الدخول في جهات الحلال منها و العمل بذلك الحلال و اجتناب الحرام منها»(2).
ص: 398
و في المباحث القادمة سوف نتعرض لبعض هذه المجالات التي شجعت الصادق تلاميذه عليها.
إن الزرع هو عطاء الأرض الذي تقدمه للإنسان من أجل أن يحيا و يعيش و يقوى على السير قدما نحو الكمال المطلوب.
«و قد ذكرت هذه المهنة في القرآن الكريم مرات عديدة، فلم تذكر مهنة أو حرفة أو مكوناتها مثلما ذكرت الزراعة في القرآن، و هذا دليل على أهميتها للفرد و المجتمع»(1) و نرى القرآن الكريم يوجهنا إلى حرفة الزراعة ممتنا على الإنسان بتيسيرها له فيقول تعالى:
يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَ الزَّيْتُونَ وَ النَّخِيلَ وَ الْأَعْنابَ وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (2) .
انطلاقا من هذا المفهوم فقد اعتبر الصادق حرفة الزراعة أطيب المهن و أحلّها كسبا فقال:
«إزرعوا و اغرسوا فلا و اللّه ما عمل الناس عملا أحلّ و لا أطيب منه»(3).
و تدعيما لأهمية التقدم الزراعي و دوره في قدرة الشعوب و قوتها و استقلالها، يصف الإمام الزراعة بأنّها «الكيمياء الاكبر»(4).
و يحث الأمة عليها بالتأكيد على استمرار الانتفاع بها للإنسان حتى بعد الموت كصدقة مستمرة، و باعثا به الحافز الديني في العامل المسلم فقال: «ست خصال ينتفع بها المؤمن من بعد موته... و ذكر منها: غرس يغرسه...»(5).
هكذا يتحدث الإمام عن الثواب المستمر لهذا العمل ما دام الغرس أو الزرع مأكولا منه. و رفع الإمام من شأن الفلاحين و المزارعين فاعتبرهم «كنوز اللّه في أرضه، و ما في الأعمال شيء أحب إلى اللّه من الزراعة»(6).
و لم يكتف الصادق بإطلاق التأكيدات اللفظية في هذا المجال، بل زاول الزراعة
ص: 399
بنفسه فتجشم عناءها للتدليل العملي على أهمية هذا الأمر الحيوي و عند ما يتسارع الناس لمعاونته يقول:
«إني لأعمل في بعض ضياعي حتى أعرق و إن لي من يكفيني ليعلم اللّه عزّ و جلّ أني أطلب الرزق الحلال»(1).
تعتبر الثروة الحيوانية البرية منها و البحرية و الجوية ركنا أساسيّا في قائمة الموارد الغذائية التي يحتاج إليها الإنسان و تقوم عليها حياته، و لهذا اعتنى الإمام جعفر بهذه الثروة باعتبارها نعمة كبرى وهبها اللّه للناس عليهم أن يشكروه عليها و يستفيدوا منها غاية الاستفادة.
و من هذا المفهوم فقد حثّ الإمام على تربية المواشي و الأنعام و خاصة أن بعض الناس كانوا ينظرون إليها نظرة فيها كثير من الازدراء و التحقير فقال:
«إذا اتخذ أهل بيت شاة أتاهم اللّه برزقها، و زاد في أرزاقهم، و ارتحل الفقر عنهم مرحلة، فإن اتخذوا شاتين أتاهم اللّه بأرزاقهما، و زاد في أرزاقهم، و ارتحل الفقر عنهم مرحلتين، فإن اتخذوا ثلاثة أتاهم اللّه بأرزاقهم، و ارتحل الفقر عنهم رأسا»(2).
فالإمام يحث تلاميذه على هذا العمل، بذكر تأثيره في محو الفقر و ازدياد الرزق.
إذا كان الإمام الصادق قد رغب في الزراعة و الرعي و أشاد بفضلها، فإنه لم يحصر نشاط الأمة و جهدها فيهما و أبى على أتباعه أن يكتفوا بالزرع أو الرعي وحده، بل شجعهم على أن يعملوا بمختلف الصناعات؛ و الصناعة هي «أن يكون الكسب من الأعمال الإنسانية، إما في مواد بعينها و تسمى الصنائع: من كتابة و تجارة و خياطة و حياكة و فروسية و أمثال ذلك، أو في مواد غير معينة: و هي جميع الامتهانات و التصرفات كالتعليم لأي علم»(3).
و الإمام يذكر بعض أنواعها إذ سألوه عن وجوه اكتساب العباد بقوله:
«كل ما يتعلم العباد أو يعلّمون غيرهم من صنوف الصناعات، مثل الكتابة و الحساب و الصياغة و السراجة و البناء و الحياكة و القصارة و الخياطة و أصناف صنوف التصاوير...»(4).
ص: 400
كما نرى من الإمام إشارة لطيفة لأحد تلاميذه، إلى أن التدبر في ظرائف الخلق الإلهي في الطبيعة و الاستلهام منها، أصبحت منشأ لظهور الصناعات عند البشر فقال:
«فانظر إلى حكمة الخلقة كيف سبقت حكمة الصناعة»(1).
ثم ضرب الإمام مثالا في هذا المجال: «أ لا ترى إلى عمد الفساطيط و الخيم كيف تمدّ بالأطناب من كل جانب لتثبت منتصبة فلا تسقط و لا تميل فهكذا تجد النبات كله له عروق منتشرة في الأرض ممتدة إلى كل جانب لتمسكه و تقيمه... فصارت الحيلة التي يستعملها الصناع في تثبيت الخيم متقدمة في خلق الشجر... فالصناعة مأخوذة من الخلقة»(2).
فنستطيع أن نعدّ أمثلة كثيرة كهذه في الصناعات و التقنيات التي أخذت فكرتها من الطبيعة عبر العصور.
و بما أن الصناعة تعتبر الدعامة الأساسية للإنتاج لأي شعب، على اعتبار أنها من مقومات المجتمع المتحضر، فإن الصادق يدفع تلاميذه إلى العمل في الصناعة بتحويل المواد الخام إلى سلع متنوعة يحتاج إليها الناس حتى ينتفعوا بها.
هذا ما ورد في كلامه عند ما روى عنه أبو حمزة الثمالي بأنه مرّ معه في سوق النحاس فسأل عن أصل النحاس فأجاب الإمام: «أصله فضّة إلا أن الأرض أفسدتها فمن قدر على أن يخرج الفساد منها انتفع بها»(3). هكذا يشير الإمام إلى إمكانية استخراج الموارد الثمينة من المواد المعدنية في الأرض و الانتفاع بها إضافة إلى التعليم و التشجيع على ممارسة مثل هذه العمليات المنتجة و الصناعية في آن.
خلق اللّه سبحانه و تعالى الناس على حالة يحتاج فيها بعضهم إلى بعض، فليس الفرد يملك كل ما يحتاج إليه، بل يملك هذا ما يستغني عنه ذاك و العكس، و يحتاج إلى بعض ما يستغني عنه الآخرون، و من ثم «ألهم اللّه الخلق أن يتبادلوا السلع و المنافع بالبيع و الشراء و سائر المعاملات حتى تستقيم الحياة»(4).
و عند ما جاء الصادق من يرجوه أن يدعو اللّه له ألا يكون رزقه علي أيدي العباد، أجابه: «أبى اللّه عليك ذلك، أبى اللّه ألاّ يجعل رزق العباد بعضهم من بعض، و لكن
ص: 401
ادع اللّه أن يجعل رزقك على يد خيار خلقه، فإنه من السعادة، و لا يجعله على أيدي شرار خلقه، فإنه من الشقاوة»(1).
عليه، فان الناس أسباب الرزق بعضهم بعضا و تعتبر التجارة من أهم مظاهر هذه العلاقة بينهم. و التجارة «الكسب من البضائع و إعدادها لأعواض إمّا بالتقلب بها في البلاد أو احتكارها و ارتقاب حوالة الأسواق فيها»(2).
و قد حث الإمام جعفر تلاميذه على التجارة مرغبا فيها، و كان لا يألو جهدا و لا يدخر نصحا في دفعهم للعمل بالتجارة حتى إنه يذكّرهم أن أكثر أسباب الرزق متعلقة بمهنة التجارة قائلا: «إن تسعة أعشار الرزق في التجارة»(3).
و بما أن الإمام في مسيرته التربوية يريد أن يبعث الدافع الداخلي القوي في أتباعه لممارسة التجارة فإنه يتحدث في إرشاداته عن أثر هذه المهنة في الخبرة العقلية فعلا و تركا، فقال:
«التجارة تزيد في العقل»(4) و يؤكد المعنى ذاته في حديث آخر حيث يقول ما نصّه -: «إن من ترك التجارة ذهب ثلثا عقله»(5).
و لم ينس هذا المفكر التربوي أن يوجّه تلاميذه بحدود التجارة و ضوابطها في الإسلام، فيظهر لنا مدى اهتمامه بهذا الأمر في تربيته المهنية عند ما يعتبر التفقه في الدين أساس التجارة بقوله:
«من أراد التجارة فليتفقه في دينه ليعلم بذلك ما يحل له مما يحرم عليه و من لم يتفقه في دينه ثم اتجر تورط في الشبهات»(6).
إذا على التاجر أن يعرف ما عيّنه اللّه و شرعه في البيع و الشراء و لا يجوز له أن يقدم على أمر حتى يعلم حكم اللّه فيه.
فالصادق يشرح هذه الحدود بالتفصيل لتلاميذه حتى يفرّق لهم بين التجارة المشروعة و غيرها و سيطول الحديث لو ذهبنا ننقل من أحاديثه ما ورد في هذا الصدد من هنا فإننا سنكتفي بالإشارة هنا إلى القليل منها فقال:
«كل بيع ملهوّ به و كل منهي عنه، مما يتقرب به لغير اللّه، أو يقوى به الكفر4.
ص: 402
و الشرك من جميع وجوه المعاصي أو باب من الأبواب يقوى به باب من أبواب الضلالة، أو باب من أبواب الباطل، أو باب يوهن به الحق، فهو حرام محرم، حرام بيعه و شراؤه... إلا في حال تدعو الضرورة فيه إلى ذلك»(1).
ذلك لأن الإسلام فرض على المسلم أن يعمل بحرف و مهن طيبة لا تؤدي إلى الفساد و الضلال، و الإمام في منهجه يريد أن ينمي تقوى اللّه في القلوب لأن خشية المؤمن من عقاب اللّه هي حجر الزاوية في الاشتغال بالحرف و المهن الطيبة.3.
ص: 403
تحتل الأخلاق بصفة عامة مكانة مهمة في تكوين شخصية المسلم مهما كانت مهنته أو حرفته، و قد تحدثنا في البحوث السابقة عن موقع الأخلاق في مدرسة الصادق، بيد أنها قد ركزت بجوار الدعوة الأخلاقية العامة، على بعض الآداب و الأخلاقيات المهمة في حياة الحرفي اليومية. ذلك لأن العمل في الإسلام يعتمد على الناحية الخلقية و التقوى، و على خشية اللّه أكثر مما يعتمد على الالتزام و السيطرة التي توفرها القوانين الوضعية.
فسلطان الخلق و التقوى أقوى من سلطان القانون و خشية اللّه تعالى حارس لا يغفل، و سلطان القانون كثير الغفلة و النسيان، و من جهة أخرى فإن «التنمية الاقتصادية عملية معقدة متعددة الجوانب و تحتاج إلى معالجة شاملة غير أن أحد جوانبها الأساسية هي القيم الأخلاقية التي تسود المجتمع»(1).
مدرسة الصادق بما حوت تعاليمها من أخلاقيات و قيم تدفع تلاميذها إلى هذا الاتجاه في كل الحرف و المهن، و حين تدعو المسلم إلى الامتهان فإنها تدعوه أيضا إلى تكوين مهارات فنية في مهنته و التزام الأمانة و الصدق و إيفاء الكيل و عدم الغش و الكذب و غير ذلك من الأخلاقيات التي سنتناول أهمها واحدة بعد أخرى فيما يلي:
إن المهن و الحرف لا بد أن تقوم على العلم حتى يتمكن الإنسان من السيطرة عليها و يتفهم قوانينها و يشرع في نمائها. لذلك ينبغي أن يستزيد الفرد المسلم من العلم بالقدر الذي يعينه على أداء عمله على الوجه الأكمل.
و معنى هذا «أن الإعداد المهني للفرد يجب أن يكون مسلحا له بالخبرات و المهارات اللازمة لأداء وظيفته في المجتمع»(2).
ص: 404
من هنا أرشد الإمام الصادق تلاميذه إلى أن رجل الحرفة أو المهنة مطالب بالحذق في صنعته فقال:
«كل ذي صناعة مضطر إلى ثلاث خصال يجتلب بها المكسب: أوّلها هو أن يكون حاذقا بعمله...» و تأكيدا على تزويد المحترفين بالمهارات لينجحوا في عملهم يقول: «ما أبالي إلى من ائتمنت خائنا أو مضيعا»(1).
فالإمام في هذا التعليم يعتبر تضييع العمل عدلا للخيانة فيه و من المعلوم أن التضييع قد ينشأ من فقدان المعارف و الفنون اللازمة في أداء العمل.
فلا يجوز لمن لا يجيد العمل لعدم الاختصاص و المهارة فيه أن يقبله و إن طلب منه.
الإتقان هو المعيار الذي نزن به قيمة العمل من حيث السمو و الضعة و يقصد به أداء العمل بإتقان تام بحيث يكون مستوفيا للمواصفات المطلوبة، و تتضاءل درجة الإتقان كلما قلّت هذه المواصفات.
لم يكتف الإمام الصادق بضرورة المهارة و الحذق في العمل بل يؤكد على أدائه على الوجه الأكمل؛ و مما يؤدي إلى الإتقان: الجدية في العمل و التنبه لقيمة الوقت، فهو يحث رجل المهنة على استغلال الفرص و المبادرة إلى السعي الجادّ في البكور، إذ بعث برسالة إلى أتباعه كتب إليهم فيها:
«فعليكم بالجد و الاجتهاد، و إذا صليتم الصبح و انصرفتم، فبكّروا في طلب الرزق و اطلبوا الحلال، فإن اللّه سيرزقكم و يعينكم عليه»(2) في هذا الكلام التفات إلى الجدّية و المحافظة على مواعيد العمل التي تعتبر من أسباب إتقان العمل.
كما أن الإمام جعفرا ينصح العامل ببعض الآداب التي تؤدي إلى تجويد العمل و تحسينه و منها: الاعتدال في العمل أي ترك الإفراط و الإهمال، و ذلك أن «الإفراط في العمل يمتد إلى الإهمال في التنفيذ و ترك يقظة الواجبة لسلامة العمل»(3).
و هذا ما أشار إليه الصادق في تعاليمه فقال ما نصّه: «إياك و خصلتين: الضجر و الكسل، فإنك إن ضجرت لم تصبر على حق و إن كسلت لم تؤد حقا»(4).
ص: 405
فالضجر يفقد الإنسان همته و صبره، فلا يطيق انتظار تحصيل حق، كما أن الكسل يضعف عزيمته و يخفف نشاطه فلا يقوى على تأدية واجب مما يؤدي إلى نفور الناس منه و ابتعادهم عنه.
و في هذه المسيرة يلفت الأنظار إلى نوعية السلع و الخدمات التي تعرض للناس بما أنه مظهر من مظاهر الإتقان في العمل، فعند ما سأل عن شغل أحد تلاميذه، أجابه بقوله: أبيع الطعام، فقد أرشده الإمام قائلا:
«اشتر الجيد، و بع الجيد، فإن الجيد إذا بعته قيل له: بارك اللّه فيك و فيمن باعك»(1) و من الواضح أن الاهتمام بجودة البضاعة يؤدي إلى رضى المشتري و رضى اللّه تعالى، كما أن عدمه يفضي إلى زعزعة الثقة في عمله و انصراف المتعاملين معه عن خدماته أو إنتاجه و إلحاق الضرر به.
على صاحب الحرفة أو المهنة أن يتحرى الصدق فإنه رأس ماله، و الإمام يبين لتلاميذه فضل المهنة التي تقوم على الصدق و يوصي تلاميذه بالالتزام به مذكرا بالمرتبة التي تصل العامل بها يوم القيامة، كما روي عنه في جواب من سأله عن التجارة:
«عليك بصدق اللسان في حديثك، و لا تكتم عيبا يكون في تجارتك، و لا تغبن المشتري المسترسل فإن غبنه لا يحل، و لا ترض للناس إلا ما ترضاه لنفسك، و أعط الحق و خذه... فإن التاجر الصدوق مع السفرة الكرام البررة يوم القيامة»(2)
كما حرص الإمام على التزام تلاميذه بعدم التضليل و الخداع في البيع و الشراء فنهى عن كل ما يؤدي إلى الغش و التدليس، فلا يجوز للبائع أن يكتم شيئا يكرهه المشتري إذا علم به. كما روي أنّه سئل عن الطعام يخلط بعضه ببعض، و بعضه أجود من بعض؟ قال: «إذا رئيا جميعا فلا بأس ما لم يغطّ الجيد الرديء»(3).
فالصدق يستوجب من صاحب الحرفة أو المهنة أن يظهر ما في سلعته من عيوب و لا يخفيها لمن يشتريها. و الإمام يوصي العامل بأن يخبر المشتري بحقيقة السلع حتى بباطنها الذي لم يظهر له، كما روي عن أحد أتباعه «قلت لأبي عبد اللّه: إنّا نعمل القلانس فنجعل فيها القطن العتيق فنبيعها، و لا نبين لهم ما فيها؟ فقال:
«إني أحب لك أن تبين لهم ما فيها»(4).
ص: 406
هكذا يلزم الإمام المسلم بالصدق في كافة معاملاته، في صناعته و في بيعه و أن لا يتبع من الأساليب و الأعمال السيئة ما يظهر سلعته أو خدمته على غير حقيقتها.
من أهم الصفات التي يجب أن يتحلى بها رجل الحرفة أو المهنة هي الالتزام بالأمانة في شغله، و الإمام جعفر يؤكد أن العامل لا بدّ «أن يكون مؤديا للأمانة في صناعته حتى يجلب بها المكسب»(1).
ذلك أنّ صاحب كل مهنة يأتمنه الناس في معاملتهم معه فهم يأمنونه في جودة السلع وكيلها و وزنها كما يأمنونه في سعرها، فعليه أن يكون مراعيا لتلك القيم. و من أهم مظاهرها إيفاء الكيل و إتمامه و المسلم إذا كال أو وزن لا يأخذ أكثر من حقه و لا يعطي الناس أقل من استحقاقهم فإنه إذا طفف في كيله أو وزنه بأن زاد على ما أخذ أو نقص مما أعطى تضعف ثقة الناس به و ينصرفون عن معاملته و ينفضون من حوله و يكسد حرفته أو تجارته و يكسر سوقه، هذا إلى جانب عذاب اللّه الأليم الذي أعدّه له في الآخرة حيث يقول الحق تبارك و تعالى:
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * اَلَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَ إِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ .
و نظرا لخطورة هذا الأمر نرى إيلاء الإمام كبير الاهتمام بترسيخ هذه الأخلاق في نفوس أتباعه في نياتهم و تصرفاتهم حيث يقول في هذا الصدد ما نصه:
«إنو الوفاء، فإن أتى على يدك - و قد نويت الوفاء - نقصان، كنت من أهل الوفاء، و إن نويت النقصان ثم أوفيت كنت من أهل النقصان»(2).
فالإمام يؤكد على صلاح النية و إخلاص القلب لرب العالمين، فلينو المسلم بحرفته أو مهنته الالتزام بحدود اللّه و إن عجز أو أخطأ في أداء عمله على الوجه الأكمل فإن اللّه هو المطلع على خبايا النفوس فيغفر له و يقبل عمله؛ لأن بعد نيته أرجح لديه من عجز وسائله.
إن كل حرفة أو مهنة تقضي حاجة من حاجات الناس، و تقدم خدمات خاصة لهم. و على هذا الأساس فإن التعامل بالحسنى و المودة مع الناس تعتبر من أهم عوامل النجاح لصاحب الحرفة، فهي تنبع من الأخوة الإسلامية التي تؤدي إلى التعاطف و التراحم في العلاقات بين المسلمين. فقد روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:
ص: 407
«رحم اللّه عبدا، سمحا إذا باع، سمحا إذا إشترى، سمحا إذا قضى»(1).
و السماحة تنبع من الأخوة الإسلامية التي تؤدي إلى التعاطف و التراحم في العلاقات بين المسلمين، و مما يدخل في سماحة البيع حسن معاملة المشترين و إرضاء أذواقهم و الإسراع في تلبية طلباتهم التي يؤكد الصادق عليها في وصاياه التربوية للتاجر و الصانع، و هذا ما ينص عليه قائلا:
«كل ذي صناعة مضطر إلى ثلاث خلال يجتلب بها المكسب و هي: «أن يكون حاذقا بعمله، مؤديا للأمانة فيه، مستميلا لمن استعمله»(2).
فالإمام يرى بأنّ التعامل بالحسنى إلى جانب التخصص و الالتزام بالتقوى واجب على كل عامل لما له من الأثر النافع فيه، فربما يكون العامل ذا مهارة دون الالتزام؛
فهو لا يوفّق في كسبه، و ربما يكون العامل ملتزما بالتقوى دون خبرة، فهو كذلك أيضا، فصاحب المهنة لو كان ذا مهارة و الملتزم بالأمانة يحتاج إلى أن يكون قادرا على الدعوة لصناعته و عمله و استمالة الناس إليها، حتى تروج صناعته و يكثر ربحه، و هذا لا يتحقق إلاّ بحسن المعاملة.
هذا هو ما يعنى به في العصر الحديث المتخصصون في التوجيه المهني و يعتبرونه من طرق التسويق.
*** نستنتج من هذه التعاليم أنّ مدرسة الصادق قد ركّزت تربيتها المهنية على تزويد المحترفين بالمهارات المعرفية و السلوكية التي تمكنهم من السيطرة على الحرفة أو المهنة، و بالتالي من زيادة دخلهم و تحسين مستوى معيشتهم.6.
ص: 408
تناولت هذه الدراسة الفكر التربوي عند الإمام الصادق و حاولت قدر الإمكان أن أوضح المعالم العامة للنسق الفكري لديه، و الذي يبرز فيه سمات مدرسته و مميزات منهجه التربوي.
ان الشخصية الإسلامية المتميزة التي سعى الإمام جعفر لايجادها لم تكن مثالية غير واقعية، حيث إنّ التاريخ الإسلامي شهد تربية مثل هذه الشخصية في مدرسته، و الأمر الذي يجب أن لا نغفل عنه تلك الخاصية التي تميّز هذه الشخصية و هي تعود في الأصل إلى تميّز التربية الإسلامية عما سواها من النظريات التربوية بدوافعها و أهدافها.
و قد عبّر الإمام في خطبه و وصاياه و رسائله و حكمه و كل ما فعله عن صورة الإسلام الحقيقية و رسم المنهج الفكري و الأخلاقي و الاجتماعي للأمة من خلال الإسلام.
ممّا لا شك فيه أن التربية الإسلامية، تربية شاملة، متكاملة، متّزنة، معتدلة و الفكر التربوي عند الصادق يتّصف بهذه السمات نفسها، فهو يهتم - كما بيّنا في ما سبق - بالإنسان وليدا و ناشئا و شابا و كهلا و شيخا في موازنة عادلة بين جميع جوانب شخصيته جسميّا و روحيّا و عقليّا، و لم يغفل الصادق أي جزء من تصوره عن الإنسان، فخاطب العقل و سعى لتغذيته و دعا لتنميته، ثم عمل على تغذية الروح و إشباع تطلعاتها إلى جانب دعوته نحو الأخلاق الفاضلة و تحذيره عن الرذائل، و هكذا نظّم علاقة الإنسان بربه و بنفسه و بأفراد مجتمعه.
و نرى في تربية الإمام توازنا عجيبا بين العمل للدنيا و العمل للآخرة و توازنا بين النزعة الفردية و النزعة الجماعية و توازنا بين الضرب في مناكب الأرض سعيا وراء الرزق و بين الترفع على متاع الأرض رجاء الفوز برضوان اللّه في الآخرة....
فإذا أردنا أن نصف المنهج الذي سلكه الإمام في التربية، يمكن القول بأنه المنهج الوسط بين الإفراط و التفريط. كما ذكرنا في تعاليمه من اقتصاد في العبادة و السماحة في المعاملات.
و على الرغم من أن النظام التربوي عند الإمام الصادق فرع من نظام تربوي إسلامي عام، فإن له ميزاته التي تميّزه عن غيره من فروع التربية الإسلامية الأخرى.
ص: 409
و من هذه الميزات التي توصل إليها البحث و التي تعكس المعالم التربوية الخاصة للصادق، ما يلي:
في الوقت الذي كان فيه الإمام الصادق داعيا إلى الحق و مربيا لكافة افراد المجتمع، إلاّ أنه لم يغفل عن تربية جماعة خاصة و كفوءة تكون بحد ذاتها قادرة على تولي هذه الرسالة و النهوض بها.
لذلك كان له خطان تربويان على الصعيد العام و على الصعيد الخاص. عمل بهما الصادق من أجل بناء الأمة و تنمية وعيها العام حتى تمتلك الخصائص التي ذكرها القرآن الكريم و السّنة الشريفة، فحاول الصادق توعية كافة الأمة بجميع مستوياتها إذ سجل له التاريخ، مجموعة ضخمة من الأحاديث تمثّل ثروة من الإرشادات و التوجيهات و قد انتشرت هذه الأحاديث بين أبناء الأمة و لها أثر كبير في ايجاد نهضة أخلاقية في المجتمع آنذاك.
و على الصعيد الخاص سعى الإمام إلى تربية الفئة الواعية عقديّا و عاطفيّا و سلوكيّا، حتى تنتشر بين الأمة كنماذج حيّة للشخصية الإسلامية.
و ممّا لا ريب فيه أن هذه العملية لا تقل أهمية عن عملية بناء الأمة الواعية نظرا لحاجة الأمة المستمرة إلى الكوادر الرسالية و المتحملة بكل جدارة المهام الصعبة التي يلقيها الإمام على عاتقها.
انّ البحوث التربوية الحديثة باتت متفقة على أنّ لشخصية الإنسان وحده تركيبة تستقطب أبعادا ثلاثة هي: أ - البعد المعرفي. ب - البعد الوجداني. ج - البعد السلوكي.
و البعدان الأولان يشكلان البناء التحتي للسلوك و مظاهره، فكل سلوك نتاج تفاعل عناصر المضمون العقائدي الفكري و المحتوى العاطفي الروحي. و ليس السلوك ظواهر منعزلة تدرس بمنأى عن البعدين الأول و الثاني، لأن مواقف الفرد و تصرفاته تتكيف وفق المفاهيم المنبثقة عن القاعدة الفكرية للشخص و حسب طبيعة المشاعر و الأحاسيس التي تتماهى بدورها مع تلك القاعدة الفكرية.
يظهر من هذه الدراسة انّ منهج الإمام الصادق، في تربية الفرد و المجتمعات قد انطلق من تجذير الوعي العقديّ قبل كل شيء الذي يقوم على جملة من التصورات عن الكون و الإنسان و الحياة و يشكل الخلفية و العمق الفكري للفرد، من هنا فقد عني الإمام
ص: 410
جعفر بهذا البعد في شخصية الإنسان من خلال توجيهاته التربوية في المجالات العقدية، و العلمية و العقلية.
ثم سعى لتنمية الحس العاطفي الوجداني بجملة من المفاهيم التي غذاها بايحاءات معنوية روحية. لأنّ المفاهيم العقلية، مهما أوتيت من عمق و دقة، لا تملك أن تبعث في الإنسان الطاقة الكافية ليندفع في اتجاه تمثّل تلك المفاهيم. من هنا كانت قاعدة المعرفة بحاجة إلى إطار معنوي من الأحاسيس و العواطف الوجدانية يشكّل ضمانة التنفيذ لتلك القيم.
و من بعد ذلك وجّه الإمام الفرد إلى مجموعة من القيم السلوكية العملية من خلال إرشاداته في المجالات الخلقية و الاجتماعية و الاقتصادية و غير ذلك.
فترى معالم هذا المنهج ضمن مستوياته الثلاثة تنطوي على مشروع تغييري شامل و عميق يستوعب كل مناحي الوجود البشري.
لم يكتف الإمام الصادق في مدرسته الفكرية بتربية الإنسان الصالح، إنما كان يطمح دوما إلى هدف أرقى يتمثل في تربية الإنسان الذي يمارس دور المصلح فضلا عن أن يكون صالحا.
فالمصلح من يصدر الصلاح و ينقله لغيره بينما الصالح هو الذي يصلح في نفسه و لا يساهم في تغير الواقع نحو الأفضل. فالأول له قوّة ايمانية و الثاني إيمانه أقل قوة و تأثيرا.
و قد اعتمد الإمام في ترسيم برنامجه التربوي على إعداد الشخصية المصلحة الرسالية التي تتحمل المسؤولية في المجتمع، و تؤدي دورا مطلوبا في عملية التغيير الاجتماعي، هذا الفرد يقوم بإصلاح ذاته من النقائص و تكميل الفضائل و اكتسابها، كما يقوم في الوقت نفسه باصلاح المجتمع من أمراضه الوبيلة.
فالمنهج التربوي للصادق هو عملية تنشئة الفرد من عضو عادي في المجتمع إلى فرد مسؤول و قيادي، و هذا يعني اقتران عملية التغيير الفردي و التغيير الاجتماعي في آن واحد.
يمتاز منهج الإمام الصادق في بناء الإنسان الرسالي بأنه منهج ذو عدة مراحل، فهو لا يقفز بالإنسان من القاعدة إلى القمة دون الصعود على سلم متدرج، بل يتناول حالة الإنسان في كل مرحلة، فيعالج هذه الحالة بشكل موضوعي يطابق الواقع. ذلك لأنّه «لا يصلح
ص: 411
دعوة الناس إلى ما يثقل عليهم تركه بادئ ذي بدء، لاعتيادهم على ممارسته أو حاجتهم إليه، بل ينبغي دعوتهم إلى ما يسهل عليهم امتثاله، لخفته على طباعهم و قربه إلى حياتهم لأن امتثال التكليف الشديد يتطلب قوة لا يملكها الإنسان في البداية»(1).
فالمنهج الجيد هو القادر على استيعاب مدى نمو الإنسان باتجاه التكامل المطلوب و من الصعب جدا تحديد المراحل التي يجتازها الإنسان في طريقه للصعود إلى القمة، لأنه تحديد لا يقاس بالزمن و لا بالعمر و لا بأي شيء محسوس آخر، إنه يقاس بمقدار استجابة الإنسان للموجه و للقيم التي يزرعها في نفسه.
و لذلك نرى بأن الإمام يستعمل في عرض إرشاداته، أسلوب التدرج حسب مستويات الناس، و لا يحمل على صاحب الخطوة الأولى ما يحمله على صاحب الخطوة الثانية تقديرا لعقلية المخاطبين و مستواهم و درجة إيمانهم.
من خصائص المنهج التربوي عند الإمام اهتمامه للقيم الأخلاقية، و هيمنة هذه الأخلاق على كافة المجالات التربوية، ذلك أن تطور الإنسان في الميادين العلمية، و العقلية، و الاقتصادية، و التقنية و... الخ من دون سيادة روح الأخلاق عليه، سيفضي إلى طغيان الفرد و انحرافه و تمرده، و إلى إصابة المجتمع أيضا بأضرار جسيمة.
من جهة أخرى، رغم أن التربية الأخلاقية كانت موضع اهتمام الكثير من روّاد التربية و علمائها الذين يشتركون في هذا الجانب مع تربية الإمام الصادق، بيد أن السمة البارزة للمنهج التربوي عند الإمام هي أن الأخلاق تمثل ركنا أساسيّا في مدرسته الفكرية، و لها الهيمنة على سائر المجالات التربوية، أي أنها لا تقع بموازاتها.
و قد ذكرنا في الفصول السابقة نماذج من تأكيدات الإمام بشأن الاهتمام بالقيم الأخلاقية في المجالات العلمية و الاقتصادية و المهنية و غيرها من المجالات.
و لهذا تتميز تربية الإمام بأنها تعمد إلى بناء الإنسان من داخله بناء خلقيّا سليما لا يقوم على التظاهر بالأدب، أو على التكيف السلبي من أجل التعايش الاجتماعي، و إنما هي تجعل المسلم يعود إلى ذات نفسه، و إلى المبادئ الخلقية التي يلتزم بها في جميع أنماط سلوكه مثل الصدق، و الأمانة، و العدل، و الرحمة، و الحلم، و الحرية و غير ذلك من أمهات الفضائل الإسلامية، المرتبطة ارتباطا وثيقا بحقيقة الإيمان.
و لذلك نستطيع أن نقول بأن تربية الإمام الصادق تمتاز بأنها تنطلق من الداخل إلى
ص: 412
الخارج، و تؤكد مدرسته أنّ تحرّر النفس من قيود الهوى و سيطرتها على الشهوات و الغرائز يمثّل الخطوة الأولى في بناء الشخصية الرسالية التي تعيش حال السعادة الحقيقية.
كان التطبيق العملي أحد المقومات الأساسية لتربية الإمام الصادق، فلم تكن تعتمد على مبادئ مجردة و نظريات محضة حتى تبقى حبرا على ورق، بل كانت العملية التربوية و التعليمية عنده تتحول من الناحية النظرية إلى سلوك عملي، فكان التطبيق مقترنا مع الفكرة و القول مرافقا للعمل.
إنّ هذا المنهج المطروح على بساطته و وضوحه ينطلق من الواقع و الحياة فيلبي الحاجات الواقعية للإنسان، حتى تلك التي تنادي بها البحوث الحديثة في علم النفس، كحاجة الانتماء، و الحاجة إلى الحب و التقدير الاجتماعي و من هنا يحاول الإمام معالجة هذه الحاجات في إطار الإيمان باللّه و داخل منظومة الاعتقاد الديني لا خارجها.
فلم يفصل الإمام موضوعات العقيدة عن جوانبها العملية لا في مجال العلم و لا الأخلاق و لا الاقتصاد... و كأن منهجه قد تخطى مرحلة وجود النظرية أصلا و تجاوزها مباشرة إلى التنفيذ.
على هذا لا يكفي أن تصفه بأنه منهج قابل للتطبيق بل نقول: إنه منهج قد طبّق بالفعل على مدى سنوات طويلة و تربّت في ظلّه شخصيات إسلامية مميّزة.
من أهم خصائص المنهج التربوي عند الإمام الصادق تربية الأفراد على روح الشعور بالمسؤولية و ترجيح التكليف على تحصيل الحقوق.
إن ملاحظة الأسس التربوية للإمام في بعدها الاجتماعي، و في تنظيم العلاقات مع الآخرين تدلّنا بوضوح على أن هذا المربي الكبير كان يؤمن بأن صاحب الشخصية الإسلامية المتكاملة ينبغي أن يفكر في أداء وظائفه و واجباته حيال الآخرين قبل أن يفكر في استيفاء حقوقه من الآخرين، و التشديد على واجباتهم (سواء كانوا أفرادا أو مجتمعا) إزاءه، و بعبارة أخرى فإنه يهتم بحقوق المجتمع و الأفراد عليه قبل اهتمامه بتوقعاته منهم.
و ما يعاضد هذا المنحى تأكيدات الإمام على الإرشادات التربوية الخاصة بنظام العائلة و العلاقة مع الجيران و الأصدقاء و توصياته بأصول التكافل و التعاون الاجتماعي، و تجنّب أسباب الاختلاف و الخصام.
و من الجلي أن مثل هذا التوجه التربوي يتباين عن الاتجاهات التربوية الغربية القائمة على اكتساب الحقوق و أصالة منافع الفرد. و لا مراء أن تربية الفرد و المجتمع
ص: 413
على أساس اكتساب الحقوق و المصالح، لن تثمر سوى المزيد من المشكلات للمجتمع و توسيع رقعة الخلافات و الأحقاد و الفوضى، بينما النظام التربوي الذي يخصص الاولوية لأداء التكاليف، و يشدد على النهوض بالواجبات قبل المطالبة بالحقوق، يمكنه تربية إنسان يفكر بمسؤولياته قبل أي شيء، و هذا ما يفضي طبعا إلى انتشار روح المحبة و الأخوة و الإيثار بين أفراد المجتمع.
يمتاز المنهج التربوي للإمام الصادق بأنه يقوم على مبدأ تربوي أصيل يتمثّل في البدء بالنفس، ذلك أنّ الفكر يظل معلقا في الفضاء ما لم يتحول إلى بشر يترجم بسلوكه و تصرفاته و مشاعره مبادئ المنهج و معانيه.
من هنا فقد كانت حياة الإمام ترجمة عملية لإرشاداته، و تجسيدا كاملا لتعاليمه، ليكون عمله النموذج الصحيح الدقيق لمبادئه النظرية، فهو يبدأ بتطبيق المنهج على نفسه ثم يأمر بها أتباعه و يدعو الناس إلى الالتزام به، كمال قال: «إنّي و اللّه ما آمركم إلاّ بما نأمر به أنفسنا»(1).
و كان الصادق على مرأى من الناس و تحت نظر تلاميذه في جميع مجالات الحياة من البيت و الطريق و المسجد و المجتمع.
و هكذا كان مربيا و هاديا بسلوكه الشخصي قبل أن يكون بالكلام الذي ينطق به حتى يربي الأمة عن طريق القدوة، فيعتبر نفسه أوّل الناس و أولاهم بتنفيذ ما يدعو إليه.
و من هنا كانت تربيته ذات أثر فعّال و عميق.
*** نستنتج من هذا كلّه أنّ المنهج التربوي لمدرسة الإمام جعفر بن محمد الصادق، يختزن داخله كل المقومات الضروريّة لصنع الإنسان النموذجي، الّذي يتوفر على كل الكمالات و الذي يعيش التوازن النفسي في أجلى مظاهره، و يقدر على الفعل الإيجابي داخل ساحات البناء الحضاري و التغيير الاجتماعي.
و هذه الذخيرة التراثية التربوية - و التي تستمدّ أهدافها و وسائلها و محتواها من كتاب اللّه و سنة رسوله الكريم - هي صورة أخرى من تجليات عظمة التربية الإسلامية التي تطرح للبشرية خطّ الحياة و السعادة الأبدية.
أسأل اللّه تعالى أخيرا أن يجعل ثواب هذه الدراسة في ميزان حسناتي و حسنات من أحبّ يوم القيامة، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ إِلاّ مَنْ أَتَى اللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ .
و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ص: 414
- فهرس الآيات القرآنية
- فهرس الأحاديث النبوية
- فهرس الأعلام
- المصادر و المراجع
- فهرس المحتويات
ص: 415
ص: 416
السورة رقمها رقم الصفحة سورة البقرة * إنّ اللّه لا يستحى أن يضرب مثلا... \ 26\42
و أقيموا الصّلوة و ءاتوا الزّكوة... \ 43\185
قل من كان عدوّا لّجبريل\ 97\152
و وصّى بهآ إبراهم بنيه و يعقوب\ 132\140
و كذلك جعلنكم أمّة وسطا\ 143\31
إنّ الّذين يكتمون مآ أنزلنا\ 159\210
* لّيس البرّ أن تولّوا وجوهكم\ 177\32
يريد اللّه بكم اليسر و لا يريد بكم العسر\ 185\191
و ما تفعلوا من خير يعلمه اللّه\ 197\311
ربّنآ ءاتنا فى الدّنيا حسنة\ 201\350
حفظوا على الصّلوات و الصّلوة الوسطى\ 238\44
يأيّها الّذين ءامنوا أنفقوا ممّا رزقنكم\ 254\378
مّثل الّذين ينفقون أمولهم فى سبيل اللّه\ 261\43
و من يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا\ 962\200
و أحلّ اللّه البيع و حرّم الرّبوا\ 275\339
و إن تبتم فلكم رءوس\ 279\370
و إن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة\ 280\312
ص: 417
السورة رقمها رقم الصفحة ءامن الرّسول بمآ أنزل إليه من رّبّه\ 285\152
لا يكلّف اللّه نفسا إلاّ وسعها\ 286\216
سورة آل عمران إنّ الدّين عند اللّه الإسلم\ 19\36
و من يبتغ غير الإسلم دينا\ 85\36
كنتم خير أمّة أخرجت للنّاس\ 110\37
و للّه ملك السّموت و الأرض\ 189\347
سورة النساء و اتّقوا اللّه الّذى تسآءلون\ 1\301
فانكحوا ما طاب لكم مّن النّساء\ 3\88
و لا تؤتوا السّفهآء أمولكم\ 5\350
يريد اللّه ليبيّن لكم و يهديكم سنن الّذين\ 26\249
و الّذين ءامنوا و عملوا الصّلحت\ 57\41
* إنّ اللّه يأمركم أن تؤدّوا الأمنت\ 58\39
إنّ الّذين توفّهم الملئكة\ 97\152
و لن تستطيعوا أن تعدلوا بين النّسآء\ 129\88
يأيّها الّذين ءامنوا ءامِنوا باللّه\ 136\153
سورة المائدة و تعاونوا على البرّ و التّقوى\ 2\308
و إذا قيل لهم تعالوا إلى مآ أنزل اللّه\ 140\244
سورة الأنعام و قد فصّل لكم مّا حرّم عليكم\ 119\382
ص: 418
السورة رقمها رقم الصفحة سورة الأعراف قل من حرّم زينة اللّه الّتى أخرج لعباده\ 32\388
قل يأيّها النّاس إنّى رسول اللّه\ 158\35
و إذ أخذ ربّك من بنى ءادم\ 172\112
خذ العفو و أمر بالعرف\ 199\82
سورة الأنفال و أصلحوا ذات بينكم\ 1\328
* إنّ شرّ الدّوآبّ عند اللّه\ 22\235
و لا تنزعوا فتفشلوا و تذهب ريحكم\ 46\322
و أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض\ 75\297، 298
سورة التوبة اتّخذوا أحبارهم و رهبنهم أربابا\ 31\244
* ليأكلون أمول النّاس بالبطل\ 34\348
قل لّن يصيبنآ إلاّ ما كتب اللّه لنا\ 51\162
و المؤمنون و المؤمنت بعضهم أوليآء\ 71\319
خذ من أمولهم صدقة\ 103\185
سورة يونس يأيّها النّاس قد جاءتكم مّوعظة\ 57\38
قل انظروا ما ذا فى السّموت و الأرض\ 101\89
سورة هود فما لبث أن جآء بعجل حنيذ\ 69\82
ص: 419
سورة يوسف نحن نقصّ عليك أحسن القصص\ 3\40
و ما يؤمن أكثرهم باللّه\ 106\107
لقد كان في قصصهم\ 111\40
سورة الرعد و الّذين يصلون مآ أمر اللّه به\ 21\301
سورة إبراهيم مّثل الّذين كفروا بربّهم\ 18\42
سورة النحل ينبت لكم به الزّرع\ 11\399
و أنزلنا إليك الذّكر لتبيّن للنّاس\ 44\28
أفأمن الّذين مكروا السّيّئات\ 45\41
ثمّ إذا مسّكم الضّرّ فإليه تجرون\ 53\145
و اللّه أخرجكم مّن بطون أمّهتكم\ 78\110
من عمل صلحا مّن ذكر أو أنثى\ 97\178
ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة و الموعظة\ 125\38
سورة الإسراء إنّ هذا القرءان يهدى للّتى\ 9\154
و بالولدين إحسانا\ 23\299
و لا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك\ 29\31
ص: 420
قل كلّ يعمل على\ 84\274
سورة الكهف و لا تقولنّ لشاىء إنّى فاعل\ 23، 24\213
سورة مريم و أوصنى بالصّلوة و الزّكوة\ 31\183
سورة النور و ءاتوهم مّن مّال اللّه الّذى ءاتكم\ 33\347
سورة الفرقان و الّذين إذا أنفقوا لم يسرفوا\ 67\340، 384
سورة الشعراء فما لنا من شفعين * و لا صديق حميم\ 100، 101\296
سورة القصص و ابتغ فيمآ ءاتك اللّه الدّار الأخرة\ 77\31
سورة العنكبوت مثل الّذين اتّخذوا من دون اللّه أولياء\ 41\42
و تلك الأمثل نضربها للنّاس\ 34\42
إنّ الصّلوة تنهى عن الفحشآء\ 45\183
ص: 421
سورة الروم و من ءايته خلق السّموت و الأرض\ 22\216
فأقم وجهك للدّين حنيفا\ 30\144
و مآ ءاتيتم مّن رّبا لّيربوا فى أمول النّاس\ 39\19
سورة لقمان و لا تصعّر خدّك للنّاس\ 18\215
أ لم تروا أنّ اللّه سخّر لكم\ 20\335
و إذ قال لقمن لابنه و هو يعظه\ 13\38
سورة الأحزاب لّقد كان لكم فى رسول اللّه أسوة\ 21\39
سورة سبأ و مآ أرسلنك إلاّ كافّة لّلنّاس\ 28\35
سورة فاطر إنّما يخشى اللّه من عباده العلمؤا\ 28\81
و الّذين كفروا لهم نار جهنّم\ 36\41
سورة الزمر قل هل يستوى الّذين يعلمون\ 9\199
و لقد ضربنا للنّاس فى هذا القرءان\ 27\226
ص: 422
سورة فصلت * قل أئنّكم لتكفرون بالّذى خلق\ 9\341
ادفع بالّتى هى أحسن\ 34\331
سنريهم ءايتنا فى الأفاق و فى أنفسهم\ 53\146
سورة الشورى * شرع لكم مّن الدّين ما وصّى به نوحا\ 13\156
سورة الزخرف لّيتّخذ بعضهم بعضا سخريّا\ 32\293
سورة الحجرات إنّما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم\ 10\305، 328
يأيّها النّاس إنّا خلقنكم مّن ذكر و أنثى\ 13\225، 288
سورة ق مّا يلفظ من قول إلاّ لديه رقيب\ 18\152
سورة الذاريات و ما خلقت الجنّ و الإنس إلاّ ليعبدون\ 56\26، 36
سورة النجم و ما ينطق عن الهوى\ 3، 4\28
ص: 423
سورة الحديد و أنفقوا ممّا جعلكم مّستخلفين فيه\ 7\347
سورة الحشر و مآ ءاتكم الرّسول فخذوه و ما نهكم عنه\ 7\28، 339
سورة الصف يأيّها الّذين ءامنوا لم تقولون\ 2، 3\32
سورة الطلاق و من يتّق اللّه يجعل لّه مخرجا\ 2، 3\41، 282
سورة التحريم يأيّها الّذين ءامنوا قوا أنفسكم و أهليكم\ 6\120
سورة الملك ليبلوكم أيّكم أحسن عملا\ 2\274
ألا يعلم من خلق و هو اللّطيف\ 14\27
هو الّذى جعل لكم الأرض ذلولا\ 15\335
سورة القلم و إنّك لعلى خلق عظيم\ 4\257
سورة القيامة و لآ أقسم بالنّفس اللّوّامة\ 2\34
ص: 424
بل الإنسن على نفسه بصيرة\ 14\34
سورة الإنشقاق يأيّها الإنسن إنّك كادح إلى ربّك كدحا\ 6\373
سورة الطارق إن كلّ نفس لّمّا عليها حافظ\ 4\152
سورة الفجر و تحبّون المال حبّا جمّا\ 20\348
سورة الشمس و نفس و ما سوّها\ 7\112
فألهمها فجورها و تقوها\ 8\276
سورة العلق اقرأ باسم ربّك الّذى خلق\ 1-5\27
ص: 425
الحديث الصفحة - أحبّ الأعمال إلى اللّه 179
- إذا التبست عليكم الفتن 155
- استفت نفسك 276
- أفضل الجهاد من جاهد 280
- إن أحبكم إليّ و أقربكم منّي 257، 258
- إنّ شفاعتي يوم القيامة 159
- إن لبدنك عليك حقا 30
- إن الملائكة لتضع أجنحتها 199
- إنّما بعثت لأتمم 257
- الإيمان أن تؤمن بالله 143
- بني الإسلام على خمس 175
- الجالب مرزوق و المحتكر 340
- الحياء خير كلّه 255
- خذوا من العمل ما تطيقون 191
- رحم اللّه عبدا سمحا 408
- شر الناس الذين يبيعون 397
- طلب العلم فريضة على 199
- عوّدوا قلوبكم الترقب 246
- كلّ كلام أو أمر ذي بال 213
- كلكم راع و كلكم مسؤول 297
ص: 426
- كل مولود يولد على الفطرة 145
- قيّدو العلم بالكتابة 222
- ما جمع شيء أفضل من حلم 220
- ما ملأ آدمي وعاء أشدّ 177
- مثل المؤمنين في توادّهم 306
- من أصبح و همّه الدنيا 303
- من سرّه أن يكون 281
- من سلك طريقا إلى الجنة 195
- من غشّنا ليس 340
- من يرد اللّه به خيرا 200
- نعم المال الصالح 373
- وقّروا من تعلمونه 214
- يأتي على الناس زمان 361
ص: 427
أبان بن تغلب: 86، 98، 99، 159، 205، 215، 384.
إبراهيم بن الوليد: 51.
إبراهيم بن رجاء الشيباني: 92.
إبراهيم بن محمد: 55.
ابن أبي العوجاء: 84، 85، 88، 165.
ابن الغضائري: 86.
ابن المثنى: 98.
ابن الواضح: 93.
ابن جريج: 78.
ابن حبان: 79.
ابن حجر العسقلاني: 93، 94، 97، 98، 99، 166، 216.
ابن حجر الهيثمي: 95.
ابن خلكان: 75، 76، 92، 94، 100.
ابن شهاب الزهري: 78.
ابن عدي: 94.
ابن عقدة: 86.
ابن ماجه: 22، 99، 159، 199، 340.
أبو إسحاق إبراهيم بن حبيب الفزاري:
90.
أبو الخطاب: 62.
أبو الربيع الزهراني: 98.
أبو بصير الأسدي: 98.
أبو جعفر المنصور: 55، 67، 125.
أبو حاتم الرازي: 93.
أبو حنيفة: 78، 86، 87، 93، 35، 96.
أبو داود الطيالسي: 97.
أبو زهرة: 48، 57، 59، 61، 63، 75، 79، 80، 84، 86، 88، 91، 96، 100، 109، 164، 217، 219، 222.
أبو سلمة الخلال: 56.
أبو شاكر الديصاني: 88.
أبو عاصم: 97.
أبو عامر العقدي: 97.
أبو عمرو بن العلاء: 86.
أبو مسلم الخراساني: 54.
أبو معمر الهذلي: 98.
أبو نعيم الأصفهاني: 78، 94، 98، 159، 262، 312.
أبو بكر بن عيّاش: 79.
أبو جعفر محمد بن النعمان: 91.
أبي حمزه الثمالي: 215.
أبو داود: 25.
إسحاق بن راهويه: 93.
إسحاق بن عمار: 287.
أسماء بنت عبد الرحمن: 76.
ص: 428
إسماعيل بن جابر: 80.
إسماعيل بن جعفر: 98.
الأصبحي: 92.
الأعرج: 78.
الأعمش: 78.
الأوزاعي: 61.
الباقر: 51، 75، 76، 78، 99، 180، 284، 287، 289.
الترمذي: 24، 97.
الثمالي: 83، 98، 401.
الجاحظ: 65، 67، 93.
الجعد بن درهم: 60، 165.
الجهم بن صفوان: 60، 61.
الحاكم النيسابوري: 94.
الحسن البصري: 59.
الحسن بن علي: 55، 56، 87، 96، 301.
الحسن بن علي الوشّاء: 87.
الحكم بن عتبة: 72.
الذهبي: 75، 76، 79، 87، 93، 94، 97، 98، 99، 119، 125، 129، 177، 187، 248، 310، 377.
السبيعي: 78.
السّفاح: 54.
الشهرستاني: 60، 61، 94، 171.
الغزالي: 44، 122، 186، 210، 220، 261، 263، 264، 295، 372.
الفضيل بن عياض: 92.
القاسم بن محمد: 76، 79.
النسائي: 99.
النفس الزكية: 55، 57.
الوليد بن مسلم: 97.
الوليد بن يزيد: 51.
أم فروة: 76.
أيوب السختياني: 186.
بريد بن معاوية العجلي: 98.
جابر بن حيان: 89، 92، 100، 109، 206.
جابر بن عبد اللّه الخزرجي الأنصاري:
159.
جابر بن يزيد الجعفي: 98.
جورجي زيدان: 100.
حاتم بن إسماعيل: 97.
حسين بن علي: 52.
حمّاد البشير: 283.
حمران بن أعين: 128، 206، 231.
خالد بن يزيد: 69.
خير الدين الزركلي: 95.
روح بن عبادة: 97.
زرارة بن أعين: 163، 206، 207.
زهير بن محمد التميمي: 97.
زيد بن أحزم: 98.
زيد بن علي: 56، 83.
سفيان الثوري: 65، 89، 129، 187، 214.
سفيان بن عيينة: 98.
شعبة بن الحجاج: 97.
عبد الرحمن بن مهدي: 97.
ص: 429
عبد اللّه المحض: 56.
عبد اللّه بن أبي أويس: 92.
عبد اللّه بن المبارك: 65.
عبد اللّه بن النجاشي: 91.
عبد الملك بن مروان: 51، 53، 61، 66.
عبد اللّه بن جندب: 331.
عبيد اللّه بن أبي شعبة: 208.
عثمان الدارمي: 97.
عثمان بن فرقد: 98.
عطاء: 59، 150، 375، 399.
عفان بن مسلم: 98.
علي بن الحسين: 56، 78، 93، 94، 130، 159، 231، 284، 301، 352.
علي بن المديني: 98.
عمر الأشرف: 56.
عمر بن عبد العزيز: 53، 61، 67، 69، 76، 155.
عمرو بن دينار: 78.
عمرو بن سعيد: 53.
عمرو بن عبيد: 60، 232.
عيسى بن موسى: 55.
غيلان الدمشقي: 61.
فريد وجدي: 100.
قيس الماصر: 231.
ماسرجوية البصري: 69.
مالك بن أنس: 81، 93، 94، 96، 214.
محمّد بن إدريس الشافعي: 93.
محمد بن جهضم: 98.
محمد بن مسلم: 98.
محمد بن ميمون الزعفراني: 92.
مروان بن الحكم: 51، 52، 53.
مروان بن محمد: 51، 54، 60، 166.
مسلم بن الحجاج: 94.
مسلم بن عقبة: 52.
معاوية بن أبي سفيان: 51.
معاوية بن عمار الدهني: 97.
معبد الجهني: 61.
مفضل بن عمرو: 89، 129، 167، 247.
مفضل بن قيس: 289.
موسى بن جعفر: 90، 330.
موسى بن عقبة الأسدي: 99.
هشام بن الحكم: 88، 206، 225.
هشام بن عبد الملك: 51، 54، 60، 165.
واصل بن عطاء: 59.
حفص بن غياث: 98.
ياقوت الحموي: 99.
يحيى بن بكير: 97.
يحيى بن سعيد الأنصاري: 86، 97.
يحيى بن سعيد بن فروخ: 98.
يحيى بن معين: 60.
يحيى بن يحيى النيسأبوري: 98.
يزيد بن الوليد 51.
ص: 430
1 - الإبراشي، محمد عطية: التربية الإسلامية و فلسفتها، دار الفكر العربي، القاهرة، د. ت.
2 - ابن أبي حاتم، عبد الرحمن بن إدريس: الجرح و التعديل، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د. ت.
3 - ابن أبي الحديد، عبد الحميد: شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الجيل، بيروت، 1987 م.
4 - ابن الأثير، أبو الحسن علي بن عبد الواحد الشيباني: النهاية في غريب الحديث و الأثر، تحقيق شيخ خليل مأمون شيحا، دار المعرفة، بيروت، د. ت.
5 - ابن الأثير، أبو الحسن علي بن عبد الواحد الشيباني، المختار، دمشق، د. ن، د. ت.
6 - ابن بابويه القمي (الصدوق)، محمد بن علي بن الحسين: الأمالي، مؤسسة البعثة، قم، 1417 ه.
7 - ابن بابويه القمي (الصدوق)، محمد بن علي بن الحسين: التوحيد، تحقيق سيد هاشم الحسيني الطهراني، جماعة المدرسين، قم، 1387 ه.
8 -. ابن بابويه القمي (الصدوق)، محمد بن علي بن الحسين: الخصال: تحقيق علي أكبر غفاري، جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم، د. ت.
9 - ابن بابويه القمي (الصدوق)، محمد بن علي بن الحسين: علل الشرائع، المكتبة الحيدرية، النجف، 1966 م.
10 - ابن بابويه القمي (الصدوق)، محمد بن علي بن الحسين: معاني الأخبار، مؤسسة النشر الإسلامي، تحقيق علي أكبر غفاري، إيران، 1403 ه.
11 - ابن بابويه القمي (الصدوق)، محمد بن علي بن الحسين: من لا يحضره الفقيه، تحقيق علي أكبر غفاري، جامعة المدرسين، قم، ط 2، 1404 ه.
12 - ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة، الهيئة المصرية، القاهرة، د. ت.
13 - ابن تيمية، تقي الدين أحمد: قاعدة جليلة في التوسل و الوسيلة، المكتبة العلمية، بيروت، د. ت.
ص: 431
14 - ابن تيمية، تقي الدين أحمد: حقيقة الصوم، دار الاعتصام، القاهرة، د. ت.
15 -. ابن تيمية، تقي الدين أحمد: الفتاوى، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1398 ه.
16 - ابن حنبل، أبو عبد اللّه أحمد بن حنبل الشيباني: المسند، دار صادر، بيروت، د. ت.
17 - ابن خلدون، عبد الرحمن محمد: المقدمة، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، 1414 ه.
18 - ابن خلكان، شمس الدين أحمد: وفيات الأعيان و أنباء أبناء الزمان، دار صادر، بيروت، د. ت.
19 - ابن سعد، محمد: الطبقات الكبرى، دار صادر، بيروت، 1405 ه.
20 - ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب، منشورات العلمية، قم، د. ت.
21 - ابن عاشور، محمد الطاهر: تفسير التحرير و التنوير، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، ط 1، 2000 م.
22 - ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن عمر الدمشقي: تفسير القرآن العظيم، دار الفكر، بيروت، 1412 م.
23 - ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن عمر الدمشقي: البداية و النهاية، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1993 م.
24 - ابن ماجه، أبو عبد اللّه محمد بن يزيد القزويني: سنن ابن ماجه، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1975 م.
25 - ابن مسكويه، أبو علي أحمد بن محمد بن يعقوب الرازي: تهذيب الأخلاق و تطهير الأعراق، دار مكتبة الحياة، بيروت، د. ن، د. ت.
26 - ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم الأفريقي: لسان العرب، دار صادر، بيروت، د. ت.
27 - ابن النديم، محمد بن إسحاق: الفهرست، د. ن، د. ت.
28 - أبو داود، سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي: سنن أبي داود، دار الفكر، بيروت، د. ت.
29 - أبو زهرة، محمد: الإمام الصادق حياته و عصره آراؤه و فقهه، دار الفكر العربي، القاهرة، 1993 م.
30 - أبو زهرة، محمد: تاريخ المذاهب الإسلامية، دار الفكر العربي، بيروت، 1989
31 - أبو الفوارس الأشتري، أبو الحسين: تنبيه الخواطر و نزهة النواظر (المعروف بمجموعة ورام)، المطبعة الحيدرية، النجف الأشرف، 1969 م.
ص: 432
32 - أبو العينين، علي خليل: الاهتمامات التربوية في فكر الإمام جعفر الصادق، من أعلام التربية العربية الإسلامية، المنظمة العربية للتربية و الثقافة، دول الخليج، 1998 م.
33 - أبو العينين، علي خليل: فلسفة التربية الإسلامية في القرآن الكريم، مكتبة إبراهيم حلبي، المدينة المنورة، 1980 م.
34 - أبو لاوي، أمين: أصول التربية الإسلامية، دار ابن الجوزي، الرياض، السعودية، 1991 م.
35 - الأديب، علي محمد الحسين: منهج التربية عند الإمام علي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1399 ه.
36 - الأزهري، منظور احمد: ترشيد الاستهلاك الفردي في الاقتصاد الإسلامي، دار السّلام، القاهرة، 2002 م.
37 - إسماعيل، محمد محروس: مقدمة في علم الاقتصاد، دار الجامعات المصرية، الإسكندرية، 2000 م.
38 - الإصفهاني، أبو نعيم: حلية الأولياء و طبقات الأصفياء، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1993 م.
39 - أمين، أحمد: الأخلاق، مكتبة الخانجي، مصر، ط 8، 1958 م.
40 - أمين، أحمد: ضحى الإسلام، مكتبة النهضة المصرية، 1987 م.
41 - أمين، أحمد: فجر الإسلام، مطبعة اعتماد، القاهرة، د. ت.
42 - الأمين، حسن: دائرة المعارف الشيعية، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، 1418 ه.
43 - الأمين، محسن: أعيان الشيعة، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، 1406 ه.
الأميني، محمد أمين: الإمام الصادق رمز الحضارة الإسلامية، مطبعة أمين، قم، 1423 ه.
44 - الأندلسي، أحمد بن محمد بن عبد ربه: العقد الفريد، دار الكتاب العربي، بيروت، 1983 م.
45 - الأهواني، أحمد فؤاد: التربية في الإسلام، دار المعارف، القاهرة، 1980.
46 - الآصفي، محمد مهدي: الكلمة الطيبة في القرآن، المشرق، طهران، 2004 م.
47 - الآلوسي البغدادي، أبو الفضل شهاب الدين: روح المعاني، دار الكتب العلمية، بيروت، 2001 م.
ص: 433
48 - الآمدي، عبد الواحد: غرر الحكم و درر الكلم، د. ن، طهران، 1376 ه.
49 - باعلوي الخضرمي، محمد بن أبي بكر: المشروع الروي، دار الكتب، طهران، 1967.
50 - الباقري، محسن: مقومات الشخصية الإسلامية، دار البيان العربي، بيروت، 1990 م.
51 - الباني، عبد الرحمن: مدخل إلى التربية في ضوء الإسلام، المكتب الإسلامي، دمشق، 1400 ه.
52 - البخاري، محمد بن إسماعيل: الأدب المفرد، دار الكتب العلمية، بيروت، 1990 م.
53 - البخاري، محمد بن إسماعيل: صحيح البخاري، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د. ت.
54 - بدري، مالك: التفكر من المشاهدة إلى الشهود، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1981 م.
55 - البدوي، إسماعيل إبراهيم: عناصر الإنتاج في الاقتصاد الإسلامي و الاقتصاد الوضعي، مجلس النشر العلمي، الكويت، 2002 م.
56 - بدوي، زكي: المعجم الاقتصادي، دار الكتاب اللبناني، بيروت، د. ت.
57 - البرقي، أحمد بن محمد: المحاسن، دار الكتب الإسلامية، إيران، د. ت.
58 - البستاني، محمود: دراسات في علم النفس الإسلامي، دار البلاغة، بيروت، 2000 م.
59 - بسيوني، سعيد أبو الفتوح: الحرية الاقتصادية في الإسلام و أثرها في التنمية، دار الوفاء، المنصورة، 1988 م.
60 - البعلي، عبد الحميد محمود: أصول الاقتصاد الإسلامي، دار الداوي، الرياض، 2000 م.
61 - البغدادي، الإسفرايني، عبد القاهر بن طاهر: الفرق بين الفرق، المكتبة العصرية، بيروت، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، 1990
62 - البلاذري، أحمد بن يحيى: أنساب الأشراف، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، 1977 م.
63 - البلاذري، أحمد بن يحيى: فتوح البلدان، دار الكتب العلمية، قم، 1404
64 - البوطي، محمد سعيد: تجربة التربية الإسلامية في ميزان البحث، مكتبة الفارابي، دمشق، 1410 ه.
ص: 434
65 - البيضاوي، ناصر الدين عبد اللّه: أنوار التنزيل و أسرار التأويل، مكتبة مصطفى البابي الحلبي و أولاده، مصر، 1968 م.
66 - البيهقي، أحمد بن الحسين: شعب الإيمان، تحقيق محمد السعيد بسيوني، دار الكتب العلمية، بيروت، 1431 ه.
67 - التستري، نور الدين المرعشي: إحقاق الحق و إزهاق الباطل، مكتبة المرعشي، قم، 1406 ه.
68 - توفيق، محمد: دليل الأنفس بين القرآن و العلم الحديث، دار السّلام، القاهرة، 1998 م.
69 - التومي الشيباني، عمر محمد: من أسس التربية الإسلامية، المنشأة الشعبية للنشر، طرابلس، 1979 م.
70 - التومي الشيباني، عمر محمد: علم النفس الإداري، دار العربية للكتاب، تونس، 1988 م.
71 - الجرجاني، علي بن محمد: التعريفات، دار الكتاب العربي، بيروت، 1992 م.
72 - الجمالي، محمد فاضل: تربية الإنسان الجديد، الدار التونسية، تونس، 1967 م.
73 - الجمالي، محمد فاضل: نحو توحيد الفكر التربوي في العالم الإسلامي، الدار التونسية للنشر، تونس، 1972 م.
74 - الجميلي، رشيد حميد حسن: حركة الترجمة في المشرق الإسلامي في القرنين الثالث و الرابع للهجرة، دار الكتاب، طرابلس، 1982 م.
75 - الجندي، عبد الحليم: الإمام جعفر الصادق، مؤسسة أنصاريان، قم، 1415 ه.
76 - جوزي، بندلي: من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام، دار الروائع، بيروت، د. ت.
77 - الجهشياري،: تاريخ الوزراء و الكتاب، دار الفكر، بيروت، 1988.
78 - حبنكة الميداني، عبد الرحمن: الأخلاق الإسلامية و أسسها، دار القلم، دمشق، 1979 م.
79 - حبنكة الميداني، عبد الرحمن: العقيدة الإسلامية و أسسها، دار القلم، دمشق، 1988 م.
80 - حجازي، عبد الرحمن عثمان: المذهب التربوي عند ابن سحنون، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1986 م.
81 - الحرّاني، أبو محمد الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة: تحف العقول عن آل الرسول، تحقيق علي أكبر غفاري، مؤسسة النشر لجماعة المدرسين، ط 2، 1404 ه.
ص: 435
82 - الحر العاملي، محمد بن الحسين: وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، تحقيق عبد الرحيم الرباني الشيرازي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
83 - الحر العاملي، محمد بن الحسين: الفصول المهمة في معرفة أصول الأئمة، تحقيق: محمد القائيني، دار إحياء التراث العربي، 2003 م.
84 - حسن، حسن إبراهيم: تاريخ الإسلام السياسي و الديني و الثقافي و الاجتماعي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 7، 1964 م.
85 - حسن، أمينة أحمد: النظرية التربوية في القرآن و تطبيقاتها في عصر الرسول، دار المعارف، القاهرة، 1985 م.
86 - حسنين، عبد النعيم: الإنسان و المال، دار الوفاء، المنصورة، 1986 م.
87 - الحسني، هاشم معروف: سيرة الأئمة الإثني عشر، دار القلم، بيروت، 1981 م.
88 - الحسيني الحائري، كاظم: تزكية النفس، دار الحوراء، بيروت، 2005 م.
89 - حسيني زاده، علي: النظرة إلى التعليم الديني، مركز البحوث للحوزة و الجامعة، قم 1424 ه.
90 - الحكيم، محمد باقر: دور أهل البيت في بناء الجماعة الصالحة، المجمع العالمي لأهل البيت، قم، 1997 م.
91 - الحكيمي، محمد رضا: الحياة، مكتب نشر الثقافة الإسلامية، طهران، 1413 ه.
92 - الحلّي، تقي الدين داود: كتاب رجال، المطبعة الحيدرية، النجف الأشرف، د. ت.
93 - الحموي، ياقوت بن عبد اللّه: معجم البلدان، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
94 - الحميري، نشوان: الحور العين، دار آزال، بيروت، 1985 م.
95 - الحنفاوي، أحمد: الحضارة الإسلامية في ظل الخلافة العباسية، دار الكتب طهران، 1999 م.
96 - الحويزي، عبد علي: تفسير نور الثقلين، مؤسسة إسماعيليان، قم، ط 4، 1411 ه.
97 - حيدر، أسد: الإمام الصادق و المذاهب الأربعة، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، 2001 م.
98 - حيدر، أسد: الإمام الصادق و المذاهب الأربعة، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، 2001 م.
99 - الخربوطلي، علي حسن: المهدي العباسي، الدار المصرية، 1984 م.
ص: 436
100 - الخطيب، عبد الكريم: السياسة المالية في الإسلام، دار الفكر العربي، بيروت، د. ت.
101 - الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، دار الكتب العلمية، بيروت، 1997 م.
102 - الخطيب الرازي، فخر الدين: شرح أسماء اللّه الحسنى، مكتبة الكليات الأزهرية، مصر، 1976 م.
103 - الخلال، أحمد بن محمد بن هارون: الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، تحقيق عبد القادر عطا، دار الأنصار، القاهرة، 1974 م.
104 - الخليل، محمد: أمالي الصادق، مؤسسة الوفاء، بيروت، 1985 م.
105 - خليل، عماد الدين: تحليل التاريخ الإسلامي، دار الثقافة، قطر، 1990 م.
106 - خماش، نجدة: خلافة بني أمية في الميزان، ريع الدار السورية، 2001 م.
107 - الخميني، روح اللّه: الأربعون حديثا، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، ط 6، 1998 م.
108 - الخوئي، أبو القاسم: معجم رجال الحديث و تفصيل طبقات الرواة، ط 5، 1412 ه.
109 - الخولي، أمين: مالك بن أنس، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1994 م.
110 - الخياط، عبد العزيز: نظرة الإسلام للعمل و أثره في التنمية، دار السّلام للطباعة، القاهرة، 1989 م.
111 - الخيل، سليمان عبد الرحيم: التربية الإسلامية، مطابع الشريف، الرياض، السعودية، 1412 ه.
112 - الدائم، عبد اللّه: التربية عبر التاريخ، دار العلم للملايين، بيروت، 1973 م.
113 - داود، جرجس: الزندقة و الزنادقة في الأدب العربي من الجاهلية و حتى القرن الثالث، المؤسسة الجامعية للدراسات، بيروت 2004 م.
114 - دراز، محمد عبد اللّه: دراسات إسلامية في العلاقات الاجتماعية و الدولية، دار القلم، الكويت، ط 2، 1974 م.
115 - الدسوقي، فاروق أحمد: مقومات المجتمع المسلم، المكتب الإسلامي، بيروت، 1986 م.
116 - الدسوقي، محمد: دعائم العقيدة في الإسلام، كلية الدعوة الإسلامية، طرابلس، 1990 م.
ص: 437
117 - الدينوري، أبو محمد عبد اللّه بن مسلم بن قتيبة: عيون الأخبار، المؤسسة المصرية العامة للتأليف، د. ت.
118 - ديوي، جون: تجديد في الفلسفة، ترجمة مرسي قنديل، الأنجلو المصرية، القاهرة، د. ت.
119 - ديوي، جون: المبادئ الأخلاقية في التربية، ترجمة عبد الفتاح جلال، الدار المصرية للتأليف و الترجمة، القاهرة، 1966 م.
120 - الذهبي، شمس الدين محمد أحمد بن عثمان: تاريخ الإسلام و وفيات المشاهير و الأعلام، دار الكتاب العربي، بيروت، 1991 م.
121 - الذهبي، شمس الدين محمد أحمد بن عثمان: سير أعلام النبلاء، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1992 م.
122 - الذهبي، شمس الدين محمد أحمد بن عثمان: تذكرة الحفاظ، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
123 - الذهبي، شمس الدين محمد أحمد بن عثمان: ميزان الاعتدال، دار الفكر، بيروت، د. ت، تحقيق علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت، د. ت.
124 - الرازي، فخر الدين محمد: التفسير الكبير، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د. ت.
125 - الراغب الأصفهاني، أبو القاسم الحسين بن محمد بن الفضل: معجم مفردات ألفاظ القرآن، الدار الشامية، بيروت، 1992
126 - رستم، سعد: الفرق و المذاهب الإسلامية منذ البدايات، الاوائل للنشر، دمشق، 2004 م.
127 - رضا، محمد رشيد: تفسير المنار، دار الفكر، بيروت، د. ت.
128 - الزبيدي، محمد مرتضى: تاج العروس و جواهر القاموس، مكتبة الحياة، بيروت، 1994
129 - الزحيلي، وهبة: أخلاق المسلم علاقته بالخالق، دار الفكر، دمشق، 1423 ه.
130 - الزركلي، خير الدين: الأعلام (قاموس تراجم لأشهر الرجال و النساء من العرب و المستعربين المستشرقين)، دار العلم للملايين، بيروت، 1986 م.
131 - الزغلول، أمين: المال و استثماره في ميزان الشريعة، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1986 م.
132 - الزمخشري، محمود بن عمر: ربيع الأبرار و نصوص الأخبار، مطبعة العاني، بغداد، د. ت.
133 - الزنتاني، عبد الحميد: أسس التربية الإسلامية في السّنة النبوية، الدار العربية للكتاب، تونس، ط 2، 1993 م.
ص: 438
134 - الزنتاني، عبد الحميد: فلسفة التربية الإسلامية في القرآن و السّنّة، الدار العربية للكتاب، الجماهير العربية الليبية، 1993 م.
135 - الزهراني، عبد اللّه: الوسطية في التربية الإسلامية، دار طيبة الخضراء، مكة المكرمة، 2003 م.
136 - زيدان، عبد الكريم: الإيمان بالقضاء و القدر و أثره في سلوك الإنسان، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1988 م.
137 - سابق، سيد: التربية العقلية في الإسلام، دامعة الدول العربية، ندوة خبراء أسس التربية الإسلامية، مكة المكرمة، 1400 ه.
138 - سابق، سيد: العقائد الإسلامية، دار الكتاب العربي، مصر، 1968 م.
139 - السباعي، مصطفى: أخلاقنا الاجتماعية، دار السّلام، القاهرة، 1418 ه.
140 - سبحاني، جعفر: الإلهيات على هدى الكتاب و السّنّة و العقل، الدار الإسلامية، بيروت، 1989 م.
141 - السحميراني، أسعد: الأخلاق في الإسلام و الفلسفة القديمة، دار النفائس، بيروت، 1988 م.
142 - سرحان، منير المرسي: في اجتماعيات التربية، مكتبة الإنجلو المصرية، 1991 م.
143 - سعد الدين، محمد منير: دراسات في تاريخ التربية عند المسلمين، دار المحروسة، بيروت، 1992 م.
144 - سعيد، جودت: الإنسان كلاّ و عدلا، دار الفكر، بيروت، 1993 م.
145 - السمعاني، أبو سعد عبد الكريم: الأنساب، دار الجنان، بيروت، 1408 ه.
146 - السندوبي، حسن: رسائل الجاحظ، المطبعة الرحمانية، مصر، د. ت.
147 - السنيدي، سلمان بن عمر: تدبر القرآن، البيان، الرياض، 1423 ه.
148 - سويد، محمد نور الدين: منهج التربية النبوية للطفل، دار ابن كثير، دمشق، 2004 م.
149 - السيد، مجدي فتحي: تاريخ الإسلام و المسلمين في العصر الأموي، دار الصحابة، طنطا، 1998
150 - سيد الأهل، عبد العزيز: جعفر بن محمد، دار الشرق الجديد، بيروت، 1954 م.
ص: 439
151 - سيري، أحمد عبد الرحمن: دراسات في علم الاقتصاد الإسلامي، دار الجامعات المصرية، الإسكندرية، 1988 م.
152 - السيوطي، جلال الدين: الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير، دار الفكر، بيروت، 1401 ه.
153 - السيوطي، جلال الدين: تاريخ الخلفاء، مطبعة السعادة، مصر، 1952 م.
154 - السيوطي، جلال الدين: تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، تحقيق محمد عمر هاشم، دار الكتاب العربي، بيروت، 1985
155 - السيوطي، جلال الدين: الدر المنثور، الفتح، جدة، 1365 ه.
156 - الشاطبي، أبو إسحاق إبراهيم: الموافقات في أصول الشريعة، شرح و تعليق:
عبد اللّه دراز، دار المعرفة، بيروت، 2000 م.
157 - الشافعي، ابن طلحة: مطالب السؤول، دار الكتاب، طهران، 1999 م.
158 - الشافعي النيشابوري، عبد الكريم هوزان: الرسائل القشيرية، دار الكتب الحديثة، القاهرة، 1972 م.
159 - الشاكري، حسين: نشوء المذاهب و الفرق، دار الكتاب، طهران، 1999 م.
160 - الشلبي، أحمد: التربية الإسلامية، النهضة المصرية، القاهرة، 1978 م.
161 - الشلبي، أحمد: موسوعة التاريخ الإسلامي، النهضة المصرية، القاهرة، 1996 م.
162 - الشلبي، أحمد: الاقتصاد في الفكر الإسلامي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1990 م.
163 - شرقاوي، عبد الرحمن: شخصيات إسلامية، أخبار اليوم، القاهرة، د. ت.
164 - الشريف الرضي: نهج البلاغة، تحقيق محمد عبده، دار المعرفة، بيروت، د. ت.
165 - شريف القرشي، باقر: موسوعة الإمام الصادق، دار الأضواء، بيروت، 1992 م.
166 - شريف القرشي، باقر: النظام التربوي في الإسلام، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، 1988 م.
167 - شلتوت، محمود: الإسلام عقيدة و شريعة، دار الشروق، بيروت، 1980 م.
168 - الشهرستاني، محمد بن عبد الكريم، الملل و النحل، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1408 ه.
ص: 440
169 - الصابوني، محمد علي: النبوة و الأنبياء، د. ن، مكة المكرمة، د. ت.
170 - الصالح، صبحي: منهل الواردين شرح رياض الصالحين للإمام النووي، دار العلم للملايين، بيروت، 1973
171 - صبحي، أحمد محمود: الفلسفة الأخلاقية في الفكر الإسلامي، دار النهضة العربية، بيروت، 1992 م.
172 - صبحي، أحمد محمود: نظرية الإمامة لدى الشيعة الإثني عشرية، دار المعارف، مصر، 1969 م.
173 - الصدر، محمد باقر: اقتصادنا، دار الفكر، بيروت، 1969 م.
174 - الصدر، محمد باقر: دور الأئمة في الحياة الإسلامية، تعليق محمد اليعقوبي، دار المحجة البيضاء، بيروت، 2005 م.
175 - الصدر، محمد باقر: المدرسة الإسلامية، دار الزهراء للطباعة و النشر، بيروت، 1980 م.
176 - الصدر، محمد باقر: موجز في أصول الدين، مطبعة شريعة، 2001 م.
177 - الصفدي، صلاح الدين حنبل: الوافي بالوفيات، دار صادر، بيروت، 1970 م.
178 - ضميرية، عثمان جمعة: مدخل لدراسة العقيدة الإسلامية، مكتبة السوادي للتوزيع، جدة، 1996 م.
179 - ضيف، شوقي: العصر العباسي الأول، دار المعارف، القاهرة، د. ت.
180 - طبارة، عفيف عبد الفتاح: روح الدين الإسلامي، دار العلم للملايين، بيروت، 1977 م.
181 - طبارة، عفيف عبد الفتاح: روح الصلاة في الإسلام، دار العلم للملايين، بيروت، 1985 م.
182 - الطباطبائي، محمد حسين: الميزان في تفسير القرآن، مؤسسة النشر الإسلامي، قم،
183 - الطباطبائي، محمد حسين: سنن النبي، المكتبة الإسلامية، قم، 1369 ه.
184 - الطبراني، سليمان بن أحمد: المعجم الأوسط، تحقيق إبراهيم الحسيني، دار الحرمين، د. ت.
185 - الطبرسي، فضل بن حسن: مجمع البيان في تفسير القرآن، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، ط 1، 1415 ه.
186 - الطبرسي، فضل بن حسن: مشكاة الأنوار في غرر الأخبار، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1385 ه.
ص: 441
187 - الطبرسي، فضل بن حسن: مكارم الأخلاق، منشورات الشريف الرضي، ط 6، 1972 م.
188 - الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير: جامع البيان في تفسير القرآن، دار المعارف، مصر، د. ت.
189 - الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير: تاريخ الأمم و الملوك، دار الكتب العلمية، بيروت، 1987 م.
190 - طقوش، محمد سهيل: تاريخ الدولة الأموية، دار النفائس، بيروت، 1996
191 - الطوسي، محمد بن الحسن: الاستبصار، دار الكتب الإسلامية، قم، ط 4، 1406 ه.
192 - الطوسي، محمد بن الحسن: الأمالي، دار الثقافة، قم، ط 2، 1414 ه.
193 - الطوسي، محمد بن الحسن: تهذيب الأحكام، دار الكتب الإسلامية، طهران، ط 4، 1406 ه.
194 - الطهراني، آغا بزرك: الذريعة إلى تصانيف الشيعة، دار الأضواء، بيروت، ط 3، 1983 م.
195 - العاملي، عبد الصاحب الحسيني: الأخلاق عند الرسول و أصحابه، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1969 ه.
196 - العاملي الشامي، زين الدين: منية المريد من آداب المفيد و المستفيد، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1405 ه.
197 - عباس، إحسان: التربية العربية الإسلامية، المجتمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية، عمان، 1990 م.
198 - عبد الباقي، زيدان: العمل و العمال و المهن في الإسلام، مكتبة وهبة، القاهرة، 1987 م.
199 - عبد الباقي، محمد فؤاد: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، دار الحديث، القاهرة، 1408 ه.
200 - عبد السّلام، فاروق: مدخل إلى القياس التربوي و النفسي، دار البشائر، بيروت، 1991 م.
201 - عبد العال، حسن إبراهيم: مقدمة في فلسفة التربية الإسلامية و الطبيعة الإنسانية، عالم الكتب، الرياض، 1405 ه.
202 - عبد العزيز، عمر: الفكر السياسي للإمام الصادق، دار المحجة، بيروت، 1997 م.
ص: 442
203 - عبد اللطيف، نبيل: الإنسان كما فطره اللّه، الهيئة المصرية للكتاب، 2000 م.
204 - عبد اللّه، محمد: دراسات إسلامية من العلاقات الاجتماعية و الدولية، دار القلم، الكويت، 1974 م.
205 - عبد الهلالي، سليم: إيقاظ الهمم، دار ابن الجوزي، السعودية، ط 4، 1419 ه.
206 - عبود، عبد الغني: التربية الاقتصادية، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1992 م.
207 - عبود، عبد الغني: التربية الإسلامية و تحديات العصر، دار الفكر العربي، القاهرة، 1990 م.
208 - عبود، عبد الغني: الفكر التربوي عند الغزالي، دار الفكر العربي، القاهرة، 1982 م.
209 - عبود، عبد الغني: دراسة مقارنة لتاريخ التربية، دار الفكر العربي، بيروت، 1978 م.
210 - عبيدات، سليمان أحمد: الطفولة في الإسلام، جمعية المطابع التعاونية، عمان، 1989 م.
211 - عتر، نور الدين: منهج النقد في علوم الحديث، دار الفكر المعاصر، بيروت، 1992 م.
212 - غرام، محفوظ علي: الأساس العقائدي للتربية، المؤتمر العالمي الخامس للتربية الإسلامية، جمعيات الشبان، القاهرة، 1987 م.
213 - العسقلاني، ابن حجر: لسان الميزان، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، 1986 م.
214 - العسقلاني، ابن حجر: تهذيب التهذيب، دار صادر، بيروت، 1994 م.
215 - العصيمي، فهد: خطة الإسلام في موارد الإنتاج، دار النشر الدولي، الرياض، 1994 م.
216 - عطوي، فوزي: الاقتصاد و المال في التشريع الإسلامي و النظم الوضعية، دار الفكر العربي، بيروت، 1988 م.
217 - عفيفي، محمد عبد اللّه: النظرية الخلقية عند ابن تيميه، مركز ملك فيصل للبحوث و الدراسات الإسلامية، 1988 م.
218 - عمر، أحمد عمر: فلسفة التربية في القرآن الكريم، دار المكتبي، دمشق، 1420 ه.
ص: 443
219 - العوضي، رفعت السيد: في الاقتصاد الإسلامي، سلسلة كتاب الأمة، مؤسسة الخليج، قطر، 1410 ه.
220 - علي، سعيد إسماعيل: اتجاهات الفكر التربوي الحديث، دار الفكر العربي، القاهرة، 1991 م.
221 - علي، سعيد إسماعيل: فلسفة التربية الإسلامية، دار الكتاب، طهران، 1400 ه.
222 - علي، سعيد إسماعيل: مكانة العمل في الفكر التربوي، دار الثقافة، القاهرة، 1979 م.
223 - العلي، صالح حميد: عناصر الإنتاج من الاقتصاد الإسلامي و النظم الاقتصادية المعاصرة، اليمامة للطباعة و النشر، دمشق، 2000 م.
224 - العلي، محمد تيسير: الصلة بالله و أثرها في تربية النفس، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1997 م.
225 - العليمي، بيلي إبراهيم أحمد: السياسة الاقتصادية الإسلامية لترشيد الاستهلاك الفردي، جامعة القاهرة، 2000 م.
226 - عياش السلمي السمرقندي، محمد بن مسعود: التفسير العياشي، المكتبة العلمية الإسلامية، طهران، د. ت.
227 - الغامدي، علي خميس: الإنسان الصالح و تربيته من منظور إسلامي، دار الطيبة، مكة المكرمة، 2003 م.
228 - الغزالي، أبو حامد: إحياء علوم الدين، دار صادر، بيروت، ط 2، 2000 م.
229 - الغزالي، محمد: ركائز الإيمان بين العقل و القلب، دار القلم، دمشق، 1988 م.
230 - الغزالي، محمد: خلق المسلم، دار القلم، دمشق، 1989 م.
231 - الفاروق، التاجي: قاموس مصطلحات المصارف و المال و الاستثمار، مكتبة لبنان، د. ت.
232 - فرحان، إسحاق أحمد: نحو صياغة إسلامية لمناهج التربية و التعليم، قطر، رئاسة المحاكم الشرعية و الشؤون الدينية، 1399 ه.
233 - فرحان، إسحاق أحمد: التربية بين الأصالة و المعاصرة، دار الفرقان، عمان، أردن، 1983 م.
234 - فرّوخ، عمر: تاريخ صدر الإسلام و الدولة الأموية، دار العلم للملايين، بيروت، 1983 م.
235 - فروغي، محمد: تاريخ الأدب العربي، دار العلم للملايين، بيروت، 1992 م.
ص: 444
236 - فروغي، محمد: سير الحكمة في أوربا، نشر زوّار، طهران، 1400 ه.
237 - فضل اللّه، محمد حسين: الحوار في القرآن، مطبعة الصدر، بيروت، 1418 ه.
238 - فضل اللّه، محمد حسين: خطوات على طريق الإسلام، دار التعارف، بيروت، 1986 م.
239 - الفضلي، عبد الهادي: التربية الدينية، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، د. ت.
240 - فلسفي، محمد تقي: الأخلاق من منظور التعايش و القيم الإنسانية، بيروت، 1992 م.
241 - فلسفي، محمد تقي: الطفل بين الوراثة و التربية، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، 1987 م.
242 - فلسفي، محمد تقي: الشاب بين العقل و العاطفة، مؤسسة البعثة، بيروت، 1992 م.
243 - فلسفي، محمد تقي: المعاد بين الروح و الجسد، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، 1993 م.
244 - الفنجري، محمد شوقي: المذهب الاقتصادي في الإسلام، دار عكاظ، الرياض، 1401 ه.
245 - الفياض، عبد اللّه: تاريخ التربية عند الإمامية، الدار المتحدة للنشر، بيروت، 1983 م.
246 - الفيروزآبادي، مجد الدين محمد بن يعقوب: القاموس المحيط، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1987 م.
247 - فينكس، فيليب: فلسفة التربية، دار النهضة العربية، القاهرة، 1965 م.
248 - فهمي، سيف الدين: مبادئ التربية الصناعية، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1967 م.
249 - القرضاوي، يوسف: التربية الإسلامية و مدرسة حسن البناء، بيروت، دار القرآن الكريم، 1400 ه.
250 - القرطبي، أبو عبد اللّه محمد بن أحمد: بهجة المجالس، دار الكتاب العربي، القاهرة، د. ت.
251 - القزاز، محمد سعد: الفكر التربوي في كتابات الجاحظ، دار الفكر العربي، مصر، 1995 م.
252 - القزويني، محمد كاظم: موسوعة الإمام الصادق، مطبعة سيد الشهداء، قم، 1415 ه.
ص: 445
253 - القزويني، أمير علاء الدين: الفكر التربوي عند الشيعة الإمامية، مكتبة الفقيه، الكويت، 1986 م.
254 - قطب، سيد: في ظلال القرآن، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ط 5، 1967 م.
255 - قطب، سيد: خصائص التصور الإسلامي و مقوماته، دار الشروق، بيروت، 1992 م.
256 - قطب، محمد: حول التأصيل للعلوم الاجتماعية، دار الشروق، بيروت، 1418 ه.
257 - قطب، محمد: ركائز الإيمان، دار الشرق، بيروت، 2001 م.
258 - قطب، محمد: لا إله إلا اللّه عقيدة و شريعة و منهاج حياة، دار الشروق، القاهرة، 1995 م.
259 - قطب، محمد: منهج التربية الإسلامية، دار الشروق، بيروت، 1400 ه.
260 - قلعه جي، محمد رواس: مباحث في الاقتصاد الإسلامي، دار النفائس، بيروت، 1412 ه.
261 - القندوزي، سليمان بن إبراهيم: ينابيع المودّة، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1997 م.
262 - القوصي، عبد العزيز: أسس الصحة النفسية، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1988 م.
263 - الكاظم، محسن: تاريخ الفكر الاقتصادي، ذات السلاسل، الكويت، 1989 م.
264 - الكفراوي، عوف محمد: تكاليف الإنتاج و التسعير في الإسلام، مركز إسكندرية للكتاب، القاهرة، 1999 م.
265 - كلشني، مهدي: القرآن و معرفة الطبيعة، دار الأضواء، بيروت، لبنان، 1989 م، منظمة الإعلام الإسلامي، طهران.
266 - الكليني، أبو جعفر محمد بن يعقوب: الكافي (أصول و فروع)، تحقيق علي أكبر غفاري، دار الكتب الإسلامية، طهران، ط 3، 1388 ه.
267 - الكيلاني، ماجد عرسان: الأمة المسلمة، دار الاستقامة، مكة المكرمة، 1995 م.
268 - الكيلاني، ماجد عرسان: فلسفة التربية الإسلامية، مكتبة المنارة، مكة المكرمة، 1987 م.
269 - المازندراني، محمد صالح: شرح أصول الكافي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 2000 م.
ص: 446
270 - المالكي، ابن الصباغ: الفصول المهمة من معرفة الأئمة، دار الأضواء، بيروت، 1988 م.
271 - الماوردي، أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري: أدب الدنيا و الدين، تحقيق مصطفى السقاء، دار الكتب العلمية، بيروت، 1398 م.
272 - متز، آدم: الحضارة الإسلامية من القرن الرابع الهجري، لجنة التأليف و الترجمة، القاهرة، 1957 م.
273 - المتقي الهندي، علاء الدين علي: كنز العمال في سنن الأقوال و الأفعال، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1990 م.
274 - المجلسي، محمد باقر: بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء، بيروت، ط 2، 1983 م.
275 - مجموعة من الباحثين الغربيين: الإمام الصادق كما عرفه علماء الغرب، دار الذخائر للمطبوعات، نقله إلى العربية آل علي، قم، 1988 م.
276 - محمد، قطب إبراهيم: الإطار الأخلاقي لمالية المسلم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1983 م.
277 - اختيار معرفة الرجال، تحقيق محمد باقر الحسيني، مؤسسة آل البيت، قم. د.
ت.
278 - محمود، عبد القادر: الإمام الصادق رائد السنة و الشيعة، المجلس الأعلى لرعاية الفنون و الآداب، القاهرة، 1970 م.
279 - محمود، علي عبد الحليم: التربية الاجتماعية في الإسلام، دار التوزيع و النشر الإسلامي، بور سعيد، 2001 م.
280 - محمود، علي عبد الحليم: التربية الروحية، دار التوزيع و النشر، القاهرة، 1997 م.
281 - محمود، علي عبد الحليم: التربية العقلية، دار التوزيع و النشر الإسلامي، القاهرة، 1996 م.
282 - محمود، علي عبد الحليم: تربية الناشئ المسلم، دار الوفاء، المنصورة، 1992 م.
283 - مدكور، علي احمد: منهج التربية في التصور الإسلامي، دار النهضة العربية، بيروت، 1990 م.
284 - مرسي، سيد عبد الحميد: الشخصية المنتجة، مكتبة وهبة، القاهرة، 1985 م.
285 - مرسي، محمد منير: التربية الإسلامية أصولها و تطورها في البلاد، عالم الكتب، القاهرة، 1993 م.
ص: 447
286 - المزّي، أبو الحجاج يوسف: تهذيب الكمال في أسماء الرجال، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1983 م.
287 - مسعود، سميح: الموسوعة الاقتصادية، شركة المطبوعات للتوزيع، بيروت، 1997 م.
288 - المسعودي، علي بن الحسين: مروج الذهب و معادن الجواهر، دار الفكر، بيروت، ط 5، 1973 م.
289 - مسلم، أبو الحسين بن الحجّاج بن مسلم القشيري النيسابوري: صحيح مسلم، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 2، 2000 م.
290 - مصباح، محمد تقي: الأخلاق في القرآن الكريم، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، 2004 م.
291 - مطاوع، إبراهيم عصمت: أصول التربية، دار المعارف، القاهرة، ط 3، 1983 م.
292 - مطاوع، إبراهيم عصمت: قراءات في التربية و علم النفس، مكتبة الطابع الجامعي، مكة المكرمة، 1986 م.
293 - مطر، سيف الدين علي: التغيير الاجتماعي دراسة تحليلية من منظور التربية الإسلامية، دار الوفاء، القاهرة، 1986 م.
294 - مطهري، مرتضى: التربية و التعليم في الإسلام، دار الهادي، بيروت، 2000 م.
295 - المظفر، كاظم: توحيد المفضل، مؤسسة الوفاء، ط 2، 1404 م.
296 - المظفر، محمد حسين: الإمام الصادق، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم، 1409 م.
297 - معروف، نايف: الخوارج في العصر الأموي، دار الطليعة، بيروت، 1994 م.
298 - معروف، نايف: الإنسان و العقل، دار النفائس، بيروت، 1995 م.
299 - مغنيه، محمد جواد: فقه الإمام جعفر الصادق، نشر قدس، قم، د. ت.
300 - المفيد، محمد بن نعمان: الاختصاص، تحقيق علي أكبر الغفاري، جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم، د. ت.
301 - المفيد، محمد بن نعمان: الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد، المجمع العالمي لأهل البيت، طهران، 1423 ه.
302 - المفيد، محمد بن نعمان: الآمال،: جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم، د. ت.
ص: 448
303 - المقريزي، تقي الدين أحمد بن علي: الخطط المقريزية، إحياء العلوم، لبنان، د. ت.
304 - المقريزي، تقي الدين أحمد بن علي: النقود الإسلامية المسمى بشذور العقود في ذكر النقود، المطبعة الحيدرية، النجف الأشرف، 1387 ه::
305 - مكارم شيرازي، ناصر: الخطوط الأساسية للاقتصاد الإسلامي، دار الصفوة، بيروت، 1994 م.
306 - مكارم شيرازي، ناصر: الأخلاق في القرآن، نشر الجيل الشاب، قم، 2001 م.
307 - مكارم شيرازي، ناصر: مثالهاي زيباي قرآن (أمثال القرآن)، نسل جوان، قم، 1420 ه:
(باللغة الفارسية).
308 - مكرم، عبد العال سالم: أثر العقيدة في بناء الفرد و المجتمع، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1998 م.
309 - المكي الحارثي، أبو طالب: قوت القلوب في معاملة المحبوب، القاهرة، د. ت.
310 - مكي، محمد كاظم: المدخل إلى حضارة العصر العباسي، دار الزهراء، بيروت، 199 م.
311 - منتصر، أمين: نظرية السلوك المستهلك في الاقتصاد الإسلامي، جامعة الأزهر، د. ت.
312 - الموسوي، عباس علي: العلاقات الاجتماعية في الإسلام، دار المرتضى، بيروت، 1988 م.
313 - الموسوي، عبد الرحيم: المنهج الإصلاحي عند الإمام الصادق، دراسات و بحوث مؤتمر الإمام الصادق، المجمع العالمي لأهل البيت، إيران 1423 ه.
314 - موسى، كامل: أحكام العبادات، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 4، د. ت.
315 - ناصر، محمد: قراءات في الفكر التربوي، وكالة المطبوعات للنشر، 1977 م.
316 - الناطور، شحادة علي: دور الموالي في المجتمع الأموي، دار الكندي للنشر، عمان، 1997 م..
317 - نجاتي، محمد عثمان: الحديث النبوي و علم النفس، دار الشروق، بيروت، 2000 م.
318 - نجاتي، محمد عثمان: القرآن و علم النفس، دار الشروق، بيروت، 2001 م.
ص: 449
319 - النجار، عبد المجيد عمر: الإيمان بالله و أثره في الحياة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1977 م.
320 - النجاشي الكوفي، أحمد بن علي: رجال النجاشي، تحقيق محمد جواد الناشئ، دار الأضواء، بيروت، 1408 ه.
321 - النجيحي، محمد لبيب: الأسس الاجتماعية للتربية، دار النهضة العربية، بيروت، 1978 م.
322 - النحلاوي، عبد الرحمن: أصول التربية الإسلامية و أساليبها، دار الفكر المعاصر، بيروت، 1423 ه.
323 - النراقي، محمد مهدي: جامع السعادات، دار التفسير، قم، 1423 ه.
324 - النشمي، عجيل جاسم: الانفصام بين النظرية و التطبيق و دور الفكر الغربي، اللجنة الاستشارية العليا، الكويت، 1995 م.
325 - نشوان، يعقوب حسين: المنهج التربوي من منظور إسلامي، دار الفرقان، بيروت، 1992 م.
326 - النقيب، عبد الرحمن: مدخل لدراسة الاتجاه الحرفي و المهني في التربية الإسلامية، دار الفكر العربي، المنصورة، د. ت.
327 - النووي، أبي زكريا يحيى بن شرف: رياض الصالحين، دار العلم للملايين، بيروت، 1973 م.
328 - النويري، شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب: نهاية الأرب في فنون الآداب، المؤسسة المصرية العامة، القاهرة، د. ت.
329 - نويهض، عادل: معجم المفسرين، من صدر الإسلام حتى العصر الحاضر، مؤسسة نويهض الثقافية، بيروت، 1988 م.
330 - وجدي، محمد فريد: دائرة معارف القرن العشرين، دار المعرفة، بيروت، 1971 م.
331 - الوزير، إبراهيم بن علي: دراسة السنن الإلهية و المسلم المعاصر، دار الشروق، بيروت، لبنان، 1409 ه.
332 - الهيثمي، علي بن أبي بكر: مجمع الزوائد و منبع الفوائد، دار الكتب العلمية، بيروت، 1988 م.
333 - الهيثمي، أحمد بن محمد بن حجر: الصواعق المحرقة على أهل الرفض و الضلال و الزندقة، دار الكتب العلمية، بيروت، 1983 م.
ص: 450
334 - الهندي، السيد مير علي: مختصر تاريخ العرب و التمدن الإسلامي، القاهرة، 1938 م.
335 - الهنيدي، جمال محمد: التربية المهنية و الحرفية في الإسلام، دار الوفاء، المنصورة، 2000 م.
336 - الهيكل، عبد العزيز فهمي: مدخل إلى الاقتصاد الإسلامي، دار النهضة العربية، بيروت، د. ت.
337 - يالجن، مقداد: دور التربية الأخلاقية الإسلامية في بناء الفرد و المجتمع، دار الشروق، بيروت، 1983 م.
338 - يالجن، مقداد: جوانب التربية الإسلامية، مطابع القصيم، الرياض، 1985 م.
339 - يالجن، مقداد: علم النفس التربوي في الإسلام، دار عالم الكتب، رياض، 1997 م، دار المريخ 1981 م.
340 - اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر: تاريخ اليعقوبي، دار صادر، بيروت، 1960 م.
341 - مجلة الاقتصاد الإسلامي، رجب مصطفى: حماية الملكية في النظام الإسلامي و أبعادها التربوية، عدد 290، دبي، الإمارات، 1426 ه.
342 - مجلة الاقتصاد الإسلامي، شحاته، حسين: أصول منهج التربية الاقتصادية في الإسلام، العدد 295، دبي، الإمارات، 1426 ه:.
343 - مجلة الاقتصاد الإسلامي، إرشيد، محمود عبد الكريم: دور القيم و الأخلاق في ضبط الاستهلاك، العدد 293، دبي، 1426 ه:.
344 - مجلة نهج الإسلام: الزحيلي، وهبة: مفهوم المال و الاقتصاد في الإسلام، العدد 49، دمشق، 1992 م.
345 - مجلة الشريعة و الدراسات الإسلامية، سميران، محمد علي: مبدأ الإيثار في المنهج الإسلامي و نظرية تكبير المنفعة في الاقتصاد الوضعي، العدد 53، الكويت.
346 - مجلة الشريعة و الدراسات الإسلامية، العيادي، أحمد صبحي: السياسة النقدية و المالية في الإسلام، العدد 53، الكويت.
347 - مجلة الشريعة و الدراسات الإسلامية، المرزوقي:، عمر بن فيحان: النشاط الاقتصادي من المنظور الإسلامي، العدد 45، الكويت.
348 - مجلة إسلامية المعرفة، علي، سعيد اسماعيل: مركزية القضية التربوية في فهم واقع الأمة و أسباب تخلفها، العدد 29، السنة الثامنة، 2002 م.
ص: 451
الإهداء أ
تقديم 5
شكر و تقدير 7
الإطار العام للدراسة: المقدمة 9
أسباب اختيار الدراسة 10
إشكالية الدراسة 10
صعوبات الدراسة 11
منهج الدراسة و حدودها 11
الدراسات السابقة 12
خطوات الدراسة 12
فصل تمهيدي: التربية من المنظور الإسلامي 15
مفهوم التربية الإسلامية و أهميتها 18
العوامل المؤثرة في التربية 21
مصادر التربية الإسلامية و سماتها 26
أ - مصادر التربية الإسلامية 26
القرآن الكريم 27
السّنة النبوية المطهرة 27
ب - سمات التربية الإسلامية 29
ربانية 29
تكاملية شاملة 29
متوازنة 30
وسطية 31
سلوكية عملية 32
مستمرة 33
سهلة و مرنة 34
ص: 452
عالمية و خالدة 35
أهداف التربية الإسلامية و أساليبها 36
أ - أهداف التربية الإسلامية 36
ب - أساليب التربية الإسلامية 37
التربية بالوعظ و النصح 38
التربية بالقدوة 39
التربية بالقصة 40
التربية بالترغيب و الترهيب 40
التربية بالتشبيه و ضرب الأمثال 41
التربية بالعمل و العادة 43
الفصل الأول دراسة شخصية الإمام الصادق
تمهيد 47
المبحث الأول: المعالم البارزة في عصر الصادق 49
الجانب السياسي 51
الجانب الديني 58
أ - الخوارج 58
ب - المعتزلة 59
ج - الجهمية أو الجبرية 60
د - القدرية 61
ه - المرجئة 61
و - الغالية (من الشيعة) 62
الجانب الاجتماعي 64
الجانب العلمي و الثقافي 69
المبحث الثاني: المعالم البارزة من حياة الإمام الصادق 73
المعالم البارزة من حياة الإمام الصادق 75
ولادته و تسميته 75
نشأته 76
روافد علمه و فكره 78
لمحات من صفاته و أخلاقه 80
ص: 453
أ - الإخلاص 80
ب - عبادته 81
ج - سخاؤه 81
ه - إكرامه للضيوف 82
و - تواضعه و مواساته للضعفاء 83
ز - حضور بديهته 84
ح - هيبته 84
مكانته العلمية و آثاره 86
مؤلفات الإمام جعفر بن محمد الصادق 91
أقوال العلماء في شخصيته 93
رواته و كبار المتخرجين من تلاميذه 96
أبان بن تغلب 99
جابر بن حيان 100
المبحث الثالث: إطار الفكر التربوي في مدرسة الصادق 105
أساسيات التربية عند الإمام 105
أ - اللّه 105
ب - الكون 107
ج - الإنسان 109
طبيعة الإنسان و فطرته 110
حرية الإنسان و إرادته 112
اهتمامات الصادق التربوية بالبعدين الروحي و الجسدي 114
العوامل المؤثرة في التربية عند الإمام 118
تربية الطفل و رعايته في فكر الصادق 120
طرائق التربية و التعليم في مدرسة الصادق 124
أ - طريقة الوعظ 124
ب - طريقة الرسائل 125
ج - طريقة المناظرة و الحوار 127
د - طريقة الإملاء 128
ه - طريقة الوصايا 129
و - طريقة الدعاء 130
ص: 454
الفصل الثاني التربية العقدية و العبادية في مدرسة الإمام الصادق
تمهيد 135
المبحث الأول: البناء العقدي 137
العقيدة و أهميتها 139
موقع العقيدة الإسلامية في فكر الإمام التربوي 141
تكوين العقيدة الصحيحة في منهج الإمام التربوي 143
أ - معرفة اللّه و توحيده 144
دلالة فطرية 144
دلالة حسية 146
دلالة عقلية 148
تعريف اللّه بأسمائه و صفاته 150
ب - الإيمان بالملائكة 152
ج - الإيمان بالكتب السماوية 153
التربية على التمسك بالقرآن الكريم 154
د - معرفة أنبياء اللّه و رسله 155
التربية على اتخاذ الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم قدوة و اتباع سنته 157
ه - المعرفة باليوم الآخر 160
و - المعرفة و الإيمان بالقدر 161
تحصين الأمة من التيارات المنحرفة و الخاطئة 164
أ - مواجهة الإلحاد و الزندقة 164
ب - تحذير الأمة من الأفكار المنحرفة 167
ج - صيانة الناس عن التصورات الخاطئة 169
المبحث الثاني: البناء العبادي 173
مفهوم العبادة و أهميتها 176
الالتزام بالنظرية و التطبيق في فكر الإمام 178
تعليم فقه العبادات في مدرسة الصادق 180
تربية الروح بمظاهر العبادة 182
أ - تقوية الصلة باللّه عن طريق الصلاة 182
ب - تطهير النفس و المال بالزكاة 185
ص: 455
ج - كمال الانقياد و العبودية بالحج 186
د - ضبط الأهواء و الشهوات بالصيام 187
ه - التعليم الذاتي لتلاوة القرآن الكريم 188
و - إظهار الافتقار إلى اللّه بالدعاء 190
التركيز على الاعتدال في العبادة 191
الفصل الثالث التربية العلمية و العقلية في مدرسة الإمام الصادق
تمهيد 195
المبحث الأول: البناء العلمي 197
أهمية العلم و حث الإمام على طلبه 199
مدرسته العلمية و خصائصها 202
مركزها 203
طلابها 203
أنواع علومها 204
مراعاة التخصص في العلوم 205
التأليف و التدوين 206
الإفادات التربوية حول العالم و المتعلم 208
أ - شخصية العالم المعلّم في فكر الصادق 208
المقومات الشخصية للعالم المعلم 209
المقوّمات المهنية للعالم المعلم 212
ب - شخصية المتعلم في فكر الصادق 217
الأساليب التعليمية عند الصادق 224
أ - استخدام الوسائل التعليمية 224
ب - تشجيع الطالب و الثناء عليه 225
ج - التضاد أو المقارنة 226
د - التمثيل و التشبيه 226
ه - تنظيم المعلومات و تقسيمها 227
و - الترقيم و الأعداد 228
ز - أسلوب الاستجواب 228
ح - التعليم العملي 229
ص: 456
ط - التدريب و التقييم 230
المبحث الثاني: البناء العقلي 233
مكانة العقل في مدرسة الصادق 237
العلاقة بين العقل و الدين 240
العلاقة بين العقل و السلوك الأخلاقي 242
سبل تنمية العقل عند الصادق 244
أ - تدريب العقل على حرية التفكير و الابتعاد عن الجمود و التقليد 244
ب - حث العقل على التفكير و النظر و التدبر 246
النظر في حكمة الكون و مخلوقاته 247
النظر في حكمة التشريع 248
النظر في السنن الإلهية 249
ج - تعويد العقل التفكير العلمي 249
الخطوة الأولى الدعوة إلى استخدام الحواس للوصول إلى المعرفة (مرحلة الملاحظة و الاستبطان) 250
الخطوة الثانية: إدراك العلاقة بين الظاهرة و مسبباتها (مرحلة الاستدلال العقلي) 251
الخطوة الثالثة: استخدام التفكير المنطقي (مرحلة الاستنتاج) 252
الفصل الرابع التربية الخلقية و الاجتماعية في مدرسة الإمام الصادق
تمهيد 257
المبحث الأول: البناء الخلقي 259
ماهية الخلق و أقسامه 261
موقع الأخلاق في صرح الإمام الصادق التربوي 264
أهداف التربية الخلقية في مدرسة الصادق 268
مبادىء التربية الخلقية في مدرسة الصادق 271
أ - تكوين بصيرة أخلاقية 271
تعريف السلوك الأخلاقي بظواهره 272
تحديد السلوك الأخلاقي و تمييزه عن غيره 273
تبيين آثار السلوك الأخلاقي و نتائجه 274
ب - تكوين عاطفة أخلاقية 276
التذكير بالوازع الداخلي أو الحس الأخلاقي 276
ص: 457
تحريك عنصري الطمع و الخوف 277
تشجيع الناس على محاسبة النفس (المراقبة الذاتية) 278
ج - تكوين قوة الإرادة 279
الدعوة إلى مخالفة الهوى و جهاد النفس 280
الالتزام بالورع و التقوى 281
تقوية الثقة باللّه و التوكل عليه 281
أساليب التربية الخلقية عند الإمام الصادق 283
أ - الأسلوب العملي المباشر 283
ب - الإفادة من الاهتمامات الفكرية و العاطفية لدى المتلقي 284
ج - أسلوب التعريض أو التلميح 285
د - ردود الفعل السلوكية 286
ه - انتهاز الفرص و الظروف المناسبة 287
و - التنبيه الي الجوانب الخفيّة من العمل 288
ز - التوجيه و الإرشاد من خلال قضاء الحاجات 289
ح - الأوامر و النواهي المباشرة 290
المبحث الثاني: البناء الاجتماعي 291
تنمية روح التعلق بالمجتمع 295
تنمية الشعور بالمسؤولية في المجتمع 297
أ - مسؤولية المسلم في دائرة العلاقات الخاصة 297
العائلة المثالية في فكر الصادق 298
- العلاقة بين الزوجين 298
- العلاقة بين الوالدين و الأبناء 299
العلاقة الطيبة مع الأرحام و الأقارب 300
علاقة الجيران و الأصدقاء 301
ب - مسؤولية المسلم في دائرة العلاقات العامة 303
مبادئ التربية الاجتماعية في فكر الصادق 305
أ - مبدأ التآخي و التعاطف 305
التّزاور 306
التناصف 306
التهادي 306
ص: 458
التصريح بالحب و المودّة 307
الحفاظ على الحشمة 307
ترك ما يكدّر المودّة 307
ب - مبدأ التعاون و التكافل 308
تأصيل خدمة الناس و قضاء حوائجهم 309
الحث على الإقراض و الإمهال 311
الدعوة إلى المواساة و الإغاثة 312
ج - مبدأ الصدق و الأمانة 314
إلزام الناس بأداء الأمانة إلى صاحبها 315
التشجيع على هذا المبدأ من خلال عرض القدوة 315
وضع هذا المبدأ معيار لمعرفة الأشخاص 316
التركيز على النتائج الإيجابية لهذا المبدأ في التعامل الاجتماعي 316
التحذير من الائتمان بالفاسق 316
د - مبدأ الإصلاح الاجتماعي 317
المراقبة و النقد الاجتماعي 319
مواجهة الخلافات و الخصومات الاجتماعية 322
1 - تجنب جذور الخلافات و الخصومات 323
2 - التغافل و حسن الظن 327
3 - إصلاح ذات البين 328
4 - العفو و مقابلة الإساءة بالإحسان 330
الفصل الخامس التربية الاقتصادية و المهنية في مدرسة الصادق
تمهيد 335
المبحث الأول: البناء الاقتصادي 337
مفهوم الاقتصاد و أهميته 339
الجانب الاقتصادي في فكر الإمام التربوي 343
تربية المسلم الاقتصادية في المجال المعرفي 346
أ - تعميق مفهوم المال و الملية 346
حقيقة المال 346
حقيقة الملكية 348
ص: 459
دور المال في حياة الإنسان 349
ب - تصحيح المفاهيم الخاطئة في طلب المعاش 353
الرزق بين التقدير و الطلب 353
ضرورة الوعي بمؤثرات الرزق 356
ج - تقويم النظرة إلى الربح و الكسب 359
التوازن بين الربح المادي و المعنوي 359
العلاقة بين الكسب و العمل 361
تربية المسلم الاقتصادية في المجال السلوكي 364
أ - تربية المسلم على الإنتاج في مدرسة الصادق 365
أهمية الإنتاج و وجوهه 365
أهداف الإنتاج و ضوابطه 366
عناصر الإنتاج و حسن استغلالها 368
ب - تربية المسلم على الاستهلاك في مدرسة الصادق 375
أهمية الاستهلاك و ترشيده 375
تبيين وجوه الإنفاق و الحضّ عليه 378
تحديد الإنفاق و الإلزام به 381
المبحث الثاني: البناء المهني 391
مفهوم المهنة و أهميتها 394
الجانب المهني في فكر الإمام التربوي 395
تصنيف المهن و الحرف في مدرسة الصادق 398
أ - الزراعة 399
ب - الرعي 400
ج - الصناعة 400
د - التجارة 401
أخلاقيات المهن و الحرف في مدرسة الصادق 404
أ - الخبرة و المهارة 404
ب - الاتقان 405
ج - الصدق و تجنب الغش 406
د - الالتزام بالامانة 407
ه - حسن المعاملة 407
ص: 460
الخاتمه (و فيها ميزات التربية للإمام الصادق) 409
الفهارس العامّة
فهرس الآيات الشريفة 417
فهرس الأحاديث النبوية 426
فهرس الأعلام 428
المصادر و المراجع 433
فهرس المحتويات 454
ص: 461