اسم الكتاب... نظرية النبوّة والإمامة والخلافة في الإسلام
المؤلّف… عبد الكريم الحسيني القزويني
الطبعة…الثانية - 1435 ه_. ق - 2014م
الكمية… 0200
المطبعة...گلوردی
الناشر… المؤلف
الترقيم الدولي…978-964-330-777-8
جميع الحقوق محفوظة للمؤلّف
موقع المؤلّف
WWW.QAZVINl.org
المحرر:ولی رادمرد
ص: 1
طبع هذا الكتاب ويوزّع مجاناً و ثوابه لروح المرحوم الحاج ابي يوسف اليحيى
ص: 2
نظرية النبوّة والإمامة والخلافة في الإسلام
تأليف: عبد الكريم الحسيني القزويني
ص: 3
نظرية النبوّة والإمامة والخلافة في الإسلام
ص: 4
بسم الله الرحمن الرحیم
ص: 5
ص: 6
قال الله تعالى:
﴿يَقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبيّاءَ ﴾ (سورة المائدة/ (20)
﴿وَجَعَلْنَهُمْ أَبِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾ (سورة الأنبيّاء/ 73)
﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَتَبِكَةِ إِنِّي جَاعِلُ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ (سورة البقرة 30)
ص: 7
ص: 8
إليك يا رسول الله
أهدي كتابي هذا الذي يتضمّن اليسير من الحديث عن نبوّتك، وعن نبوة الأنبيّاء (عَلَيهِم السَّلَامُ) من قبلك، وعن خلفائك من أهل بيتك الطيّبين، راجياً بذلك شفاعتك وشفاعة أبن ائك لي ولوالديَّ ولزوجتي العلوية الشهيدة، فتقبل يا مولاي هذا المجهود القليل من أحد أبن ائك وخادم رسالتك.
المؤلَف
ص: 9
ص: 10
حمداً لك يا ربّ على ما أنعمت علينا بالإسلام ديناً، وبمحمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) نبيّاً وهادياً وبشيراً ونذيراً، وبالأئمة من آله وأهل بيته أئمّةً وسادةً وقادةً.
أخي القارئ: بين يديك أوراق فيها خواطر ولمحات وأبحاث حول النبوّة والإمامة والخلافة كنت قد كتبت بعض فصولها في فترات زمنية متباعدة، لعلّ بعضها يعود إلى أكثر من عشرين سنة، ولكن خشيت عليها من الضياع والتلف، فلهذا أحببت أن أنشرها كما هي، وبأسلوبها السهل السلس الذي لا تعقيد فيه ولا غموض، ولم أحاول تغييرها؛ لأنها تعطي صورة عن النمط الفكري لمراحل زمنية من حياتي، وقد أضفت إليها أبحاثاً جديدة، ولكنّي وددت نشرها كما هي لتكون لي في المستقبل نواة لكتابة بحث علمي موضوعي حول النبوّة والإمامة والخلافة بصورة أوسع وأشمل وأعمق بإذن الله تعالى.
القارئ العزيز: ستلاحظ أن هذه السطور كُتبت بروح موضوعية وعلمية بحتة، ولعلّ الكثير من أبحاثها بكر لم تطرق في البحث والكتابة من قبل، وكلّ مَن يقرأ هذه الصفحات يتأثر بها إذا كان موضوعياً ويريد التوصّل إلى الحقيقة عن طريق الكتاب والسّنة.
وقد بحثت موضوع النبوّة في فصلها الأوّل بأسلوب سهل ومبتكر وجديد في تقسيمه وعرضه.
ص: 11
وأما الفصل الثاني فقد بحثت فيه الإمامة والخلافة بصورة مدمجة بعضها في بعض؛ لأنّ الإمامة هي صاحبة الخلافة؛ ولأنّ كلّ إمام شرعي هو خليفة وليس العكس ولهذا جاء هذا الفصل فيه دمج بين الإمامة والخلافة.
فيما استعرضت في الفصل الثالث الخليفة والخلافة؛ لأنّهما متلازمان ومترابطان.
وهذا الكتاب هو أول محاولة دراسية في بابها، مبتكرة في فكرها وأسلوبها وعرضها، يستفيد منها الباحث والكاتب والخطيب والمدرّس والمعلّم والطالب؛ لأنّي حاولت ومن خلال هذا الأسلوب والعرض أن تستفيد المدارس من تدريس موادها، وفي عرض فكرها من على المنابر؛ لتكون نواة للخطيب في بحثه للنبوّة والإمامة والخلافة.
وفي الختام نسأل الله العلي القدير أن يجعلنا ممن ينتصر به لدينه ولا يستبدل بن ا غيرنا.
عبد الكريم الحسيني القزويني
ص: 12
ص: 13
ص: 14
الرسالة والرسول
إنّ بعث الرسالة وإرسال الرسل والأنبيّاء (عَلَيهِم السَّلَامُ) من الأمور البديهية العقلية الّتي تتعلّق بالأصل الاعتقادي للإيمان بالله العليّ القدير الحكيم، ومن هنا يحقّ لنا أن نتساءل: لماذا أرسل سبحانه وتعالى الرسَل وأنزل الشرائع والأديان؟
والجواب على هذا السؤال يرتكز على بيان عدة قواعد، وهي كما يلي:
وتعني هذه القاعدة أن الله سبحانه وتعالى لطيف وخبير وقادر وكريم على مخلوقاته، فإذا توفّرت شروط الخلق والابدّاع والإيجاد في الشيء فإنّه بموج لطفه وكرمه وقدرته يمنح ذلك الشيء روح الحياة، ويودع فيه جميع احتياجاته من حياة أو خلق أو تشريع قانون يحميه ويراقبه وما شابه ذلك. فمثلا بالنسبة إلى التشريع وإيجاد النظام، فلو عرضنا هنا سؤالا على الناس وسألناهم: هل تحتاج الحياة إلى النظام؟ وهل يحتاج البشر إلى قانون ينظم حياتهم وأمورهم أو لا؟
لكان الجواب بن عم من مختلف طبقات الناس، وعلى اختلاف أفكارهم وثقافتهم.
فإذا كان الإنسان المخلوق الله العليم الخبير يعلم بأن البشر بحاجة إلى النظام، فكيف بالخالق العظيم؟
وإذا كان الله عالماً باحتياج البشر إلى النظام، وفي الوقت نفسه قادراً على إيجاده؛ لأنه القادرالقدير، وبإمكانه أيضاً إيصاله إلى البشر عن طريق الرسل
ص: 15
والأنبيّاء (عَلَيهِم السَّلَامُ)، فلمّاذا لا يرسل الأنبيّاء والرسل لإيصال النظام إلى البشر وهو اللطيف الخبير الكريم؟
وعليه فإذا لم يرسل الله النظام ولم يوصله إلى البشر عن طريق أنبيّائه ورسله فهذا معناه أنه بخيل، والبخل محال على الله تعالى، الكريم اللطيف الرؤوف، وهو أيضاً مخالف لقاعدة اللطف الإلهي. إذاً بموجب هذه القاعدة لابدّ الله العليّ الكريم أن يرسل الأنبيّاء والمرسلين مبشّرين ومبلّغين ومنذّرين، ولهذا أرسلهم سبحانه وتعالى طبقاً لقاعدة اللطف الإلهي.
وتعني هذه القاعدة بأنّ الله سبحانه وتعالى العادل لا يعاقب أحداً إلا بعد
إصدار الحكم وبيانه وفرضه، ومن بعد ذلك يلزم الناس باتّباعه وتطبيق أحكأمّه، ولا يعاقب أحداً إلا بعد إصدار الحكم وبيانه على لسان أنبيّائه ورسله؛ لأنّه مخالف للعدل الإلهي إذا عوقب إنسان من دون أن يرسل له بياناً، وهذا ما عليه المذاهب الإسلامية؛ كالشيعة الإمامية والمعتزلة.
ولابدّ لنا من توضيح هذه الفكرة بضرب مثال حتّى تتّضح بصورة ملخّصة، و تتركّز بشكلّ أعمق. فمثلا: إذا أرادت حكومة من الحكومات من شعبها تطبيق قانون معيّن فلا بد لها من إعلان ذلك القانون ونشره في الصحف الرسمية، أو عن طريق الإذاعة، فإذا تخلّف أحد عن تطبيقه كان لها الحق في معاقبته.
أما إذا لم يُنشر هذا القانون في الصحف ولم يذع من قبل الإذاعة أو وسائل الإعلام الأخرى، فلا يحقّ لها أن تعاقب المتخلّف عن تطبيقه؛ لأنّها لم تبلغه ولم
ص: 16
تنذره، والعقاب لا يكون إلّا بعد إلقاء الحجّة، وحصول المعذورية، ولهذا قيل بقبح العقاب بلا بيان؛ وذلك استناداً لقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ (1).
قال سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدَّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كلّهَا ثمّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤلاء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئهُمْ بِأَسْمَانِهِمْ فلمّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تبدونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ (2).
العقل يحكم بأنّ أصل الخلقة تكون عبثاً ولهواً إذا لم يكن فيها أفراد صالحون يسعون في الأرض إعمّاراً وبن اءً. فالإنسان - مثلاً - إذا كانت عنده دار وأراد أن يأمنها ويودعها، فهل يسلّمها إلى إنسان يعيث فيها خراباً ودماراً أو يسلّمها إلى إنسان يعمّرها ويحافظ عليها؟ فالجواب معلوم وبديهي وواضح، فإنّه يسلّمها إلى إنسان أمين يحافظ عليها.
فكذلك الخلقة إذا كان سبحانه وتعالى لا يعلم بوجود أفراد صالحين في خارطته الربّانية يسلّمهم الأرض، ويستخلفهم من أجل إعمّارها وبن ائها، فتكون خلقته عبثاً ولغواً، وحاشا لله الحكيم البصير أن يصدر منه العبث واللغو فيخلق
ص: 17
شيئاً عبثاً كما قال تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبن اً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ (1) لأن خلقته مستوحاة من عين حكمته.
ولهذا نرى الملائكة قد استغربوا من هذا المخلوق الجديد الذي سوف یسلّمه الله مفاتيح دار هذه الدنيا؛ لأنّهم يعلمون في قرارة أنفسهم أنّهم هم المخلوق المدلّل المخلص النزيه الذي لا يعصي الله طرفة عين أبداً، وما عداهم من المخلوقات عندهم إمكانية العصيان والسعي في هذه الأرض تدميراً وفساداً، ولهذا قالوا الله تعالى مستفهمين منه من بعد ما قال لهم: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدَّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾ (2).
فهم لا يعلمون بأنّ الله تعالى خلق في خارطته خلقاً آخر ليس من صنفهم، وهو أفضل منهم إن آمن وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين، وهم نسل آدم أبي البشر، وفيهم أفراد صالحون أمناء الله على وحيه وتشريعه، وهم الأنبيّاء والرسل والأوصياء والأئمّة والعلماء العاملون الذين يستحقّون أن يسلّموا مفاتيح هذه الدنيا من أجل إعمّارها وبن ائها، وقد عبّر القرآن الكريم عن هذا المعنى بقوله: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كلّهَا ثمّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤلاء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ (3).
وهذه الأسماء الّتي علّمها الله لآدم هم نسله من الفرد الصالح، منهم الأنبيّاء والمرسلون والأوصياء والأئمة والعلماء والصالحون من الذين كانت الملائكة تجهلهم، ولم تعلم بصلاحيتهم لخلافة الأرض، فلمّا أنبأهم آدم كما قال تعالى:
ص: 18
﴿قَالَ يَا آدَمُ أَنْبن هُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فلمّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمِائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ (1).
وعندها علموا بوجود أفراد صالحين من نسل آدم (عَلَيهِ السَّلَامُ) خلقهم الله تعالى ليكونوا خلفاء من قبله في الأرض من أجل البناء والإعمّار والحكومة بين الخلق، وهم أفضل من جنس الملائكة.
النبوّة لطف الهي على العباد، وهي بمثابة مدرسة ربّانية يرسل الله إليها بعض الخواصّ من عباده الذين اصطفاهم وزكّاهم على البشر، وذلك بموجب العلم الإلهي انّه يوجد أفراد صالحون في خارطته الربّانية، ومطهرون، فيختارهم لهذه المدرسة ليكونوا أساتذة ومعلمين ومرشدين؛ ليزكّوا الناس ويعلّموهم الحكمة والموعظة، داعين إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة، كما قال تعالى مخاطباً نبيّه: ﴿وادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالّتي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ ربَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ (2).
قلنا فيما سبق: إنّ النبوّة مدرسة ربّانية، فكما أن في المدرسة صفوفاً ومراحل و مراتب فكذلك النبوّة الّتي هي مدرسة ربّانية فيها صفوف ومراحل ومراتب،
ص: 19
ولكلّ صفّ ومرحلة أساتذة خاصون بها، وقد قال الله تعالى في بيان ذلك بقوله: ﴿وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيّينَ عَلَى بَعْض﴾ (1).
وقال تعالى أيضاً: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كلّمَ الله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَات (2).
فعلى هذا التفاضل الرباني للأنبيّاء والرسل نقسم الأنبيّاء إلى أقسام أربعة:
إنَّ الأنبيّاء هم حملة شهادة النبوّة، وهم الذين اختصّهم الله بهذه الشهادة وبن زول الوحي عليهم، وعددهم مئة وأربعة وعشرون ألف نبيّ كما يقال، أرسلهم على فترات زمنية معينة إلى أقوأمّهم وعشائرهم، كنبيّ الله شعيب وغيره.
وإنما اختار الله تعالى هذا الرقم من بين سائر البشر؛ لأنّه وجدّهم يستحقون هذه الشهادة، وهم أهل لها، ولهذا خصّهم بها.
وربما يتساءل: لماذا هذا الرقم وهذا العدد من الأنبيّاء؟
والجواب: أنَّ هذا الرقم المذكور هو كاف من الناحية التربوية، فلو فسح المجال لهم لرأينا البشرية تصل إلى مراتب الكمال، وتكون في سيرها وسيرتها كالملائكة على وجه الأرض، ولكن قوى الطاغوت والجبروت في كلّ وقت وزمان تقف دون رسالة الأنبيّاء ودعوتهم الخيّرة.
الرسول هو أوسع دائرة من النبيّ؛ لأنّه يحمل شهادتين:
ص: 20
أ- شهادة النبوّة.
ب- شهادة الرسالة.
فكلّ رسول هو نبيّ ولا عكس، أي ليس كلّ نبيّ رسولاً، وبينهما - كما يقال في علم المنطق - عموم وخصوص مطلق.
ولنضرب مثالاً بسيطاً لتوضيحه: كلّ طالب ثانوية يحمل شهادة الابتدائية، وليس كلّ طالب ابتدائية يحمل شهادة الثانوية.
فيتّضح ممّا ذكر أنّ الرسول هو أشمل من النبيّ؛ لأن الله سبحانه قد خصّه بن زول الوحي بشريعة متكاملة عليه، والنبيّ يأخذ أحكأمّه من الشريعة المنزلة على الرسول، ولم يرَ الله تعالى من يستحقّ هذه الشهادة من مجموع أنبيّائه سوى ثلاثمّة وثلاثة عشر رسولاً كما روي.
وقد ذكر القرآن الكريم أسماء بعضهم، وهم مختارون من عدد الأنبيّاء البالغ مئة وأربعة وعشرون نبيّ.
وهذا القسم هو أشمل من القسمين المذكورين؛ لأنه يحمل ثلاث شهادات:
أ- شهادة النبوّة.
ب- شهادة الرسالة.
ج- شهادة أولي العزم.
فكلّ من أولي العزم هو نبيّ ورسول، ولا عكس كما قلنا، وعددهم ستّة كما يقال، اختارهم الله من بين رسله البالغين ثلاثمّئة وثلاثة عشر رسولاً.
ولم يجد الله من يستحقّ هذه الشهادة من رسله سوى هذا الرقم، ولهذا اختارهم وهم،آدم ونوح، وإبراهيم وموسى وعيسى، ومحمّد صلوات الله
ص: 21
عليهم جميعاً، ويمتاز حامل هذه الشهادة بأن الله تعالى قد خصّه بشريعة ناسخة للشريعة الّتي قبلها، فمثلاً:
1- شريعة نبيّ الله نوح كانت ناسخة لشريعة آدم.
2- شريعة نبيّ الله إبراهيم ناسخة الشريعة نوح.
3- شريعة نبيّ الله موسی ناسخة لشريعة إبراهيم.
4- شريعة نبيّ الله عیسی ناسخة لشريعة موسى.
5- شريعة نبيّنا محمّد ناسخة لشريعة عيسى.
وهذه الشهادة هي أعمق وأشمل من الأقسام الثلاثة المذكورة؛ لأن نبيّها يحمل الشهادات التالية:
أ- شهادة النبوّة.
ب- شهادة الرسالة.
ج- شهادة أولي العزم.
د- شهادة خاتمة النبوّة والرسالة.
فهو نبيّ ورسول ومن أولي العزم وخاتم الأنبيّاء والمرسلين. وقد خصّه الله تعالى بشريعة ناسخة لكلّ الشرائع، ودينه هو خاتم الأديان، وهو الدين الذي ارتضاه لعباده؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ الله الإِسْلَامُ﴾ (1) ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلاَمِ ديناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الخَاسِرين﴾ (2).
وإن الله سبحانه لم يجد من يستحق هذه الشهادة من عدد أنبيّائه ورسله وأولي العزم سوى نبيّنا محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ )، ولهذا خصّه بهذه المنحة الإلهية الفريدة في
ص: 22
تاريخ الأنبيّاء والرسل وأولي العزم، كما قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِی الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبين﴾ (1).
1- النبيّ محمّد بن عبد الله بن عبد المطّلب القريشي الهاشمي، به ختم النبوّة، فهو سيّد الأنبيّاء وخاتم المرسلين. يكنّى أبا القاسم، وكان نقش خاتمه الشريف: (لا إله إلا الله وأن محمّداً رسول الله).
2- مولده: ولد الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) في أمّ القرى مكّة المكرمة عند طلوع الشمس من يوم الجمعة، الثاني عشر أو السابع عشر من ربيع الأول عام الفيل، الموافق (570) ميلادية.
والجدير بالمسلمين أن يهتّموا بهذه الذكرى ويحتفلوا من اليوم الثاني عشر إلى اليوم السابع عشر، وكيف لا ينبغي ذلك وهو الوليد الذي هزّ العالم بالإسلام العظيم الذي ارتضاه الله للبشرية ديناً كما جاء في القرآن الكريم: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلاَمُ ﴾ (2) ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأَسْلَامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الخَاسِرِينَ﴾ (3).
3- أمّه : هي آمنة بن ت وهب بن مناف بن زهرة.
ص: 23
وقد مات أبوه وهو جنين في بطن أمّه، وماتت أمّه وعمره الشريف ست سنوات. اتّفق جدّه عبدالمطّلب مع المرضعة حليمة السعدية من أجل إرضاعه وكفالته، فعاش الرسول الأكرم أيام صباه في البادية، وبدت مه كرامات وكرامات أبهرت قوم حليمة، وفرحوا بوجوده المبارك بين ظهرانيهم.
4- الرسول مع جدّه وع: عاش النبيّ الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) مع جدّه عبد المطّلب ثمّاني سنين، ثمّ كفله عمّه أبو طالب بعد وفاة جدّه، فكان يكرمه ويعظمه ويحميه وينصره ويدافع عنه بما لديه من قوّة. وكان يقول عن الدين الذي بشر به بقوله:
وعرضت ديناً قد علمت بأنه *** من خير أديان البرية دينا
5- زواجه تزوّج الرسول العظيم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) بخديجة الكبرى أمّ المؤمنين وعمره خمس وعشرون سنة، وكانت خديجة من أوفى الناس له ولرسالته، فبذلت جميع ما تملك من أموال من أجل رسالة الله في الأرض.
6- الرسول وعناصر انتصاره: انتصرت رسالة النبيّ محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) بعناصر أربعة، وهي:
أ- عظمة الرسالة وصبر الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ).
ب- استخدام رصيد أبي طالب الاجتماعي من أجل الدفاع والحماية عن حياة الرسول والرسالة.
ج- بذل وعطاء وتسخير أموال خديجة من أجل نصرة الحق والرسالة.
د- كفاح وبطولة الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وبسالته، وصرامة مواقفه الصامدة من أجل
الرسالة والرسول. وقد صور هذا المعنى ابن أبي الحديد المعتزلي بقصيدة رائعة منها:
ولولا أبو طالب وابنه *** لما مثل الدين شخصاً فقاما
ص: 24
فذاكَ بمكة آوى وحامي *** وهذا بيثرب جس الحِماما
تكفّل عبد مناف بأمر*** وأودى فكان علي تماما
فقل في ثبير مضى بعدما *** قضی ما قضاه وأبقى شماما
فللّه ذا فاتحاً للهدى *** والله ذا للمعالي ختام
وما ضر مجد أبي طالب *** جهول لغا أو بصير تعامى
كما لا يضرُّ آياتِ الصبا *** حِ مَن ظن ضوء النهار الظلاما (1)
وهكذا انتصر الإسلام بهذه العناصر المخلصة المذكورة، وكذلك ببقية مواقف الصحابة المؤمنة تمّ النصّر للإسلام وللمسلمين.
7- أولاده: القاسم، وإبراهيم، والطاهر، وزينب، وأمّ كلّثوم، وفاطمة الزهراء (عَلَيهِا السَّلَامُ). وكلّهم ماتوا في حياته ما عدى فاطمة الزهراء (عَلَيهِا السَّلَامُ)، حيث عبّر الإمام الصادق لها قائلاً: «قال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ): إن الله تعالى جعل ذرية كلّ نبيّ من صلبه، وجعل ذريتي من صلب علي بن أبي طالب مع فاطمة ابن تي...» (2).
قال المسعودي: ووجدت في كتاب (الأخبار) لأبي الحسن علي بن محمّد بن سليمان النوفلي، عن صالح بن علي بن عطية الأفقم، قال حدّثنا عبد الرحمن بن العبّاس الهاشمي، عن أبي عون صاحب الدولة، عن محمد بن علي بن عبد الله بن العبّاس، عن أبيه، عن جدّه العبّاس بن عبد المطّلب قال: كنت عند رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) إذ أقبل علي بن أبي طالب، فلمّا رآه أسفَرَ في وجهه، فقلت: يا رسول الله، إنّك لتُسفِرُ في وجه هذا الغلام؟ فقال: «يا عمَّ رسول الله،
ص: 25
والله لله أشدّ حبّاً له منّي؛ إنّه لم يكن نبيّ إلا وذريته الباقية بعده من صُلبه، وإنّ ذريتي بعدي من صلب هذا. إنّه إذا كان يوم القيامة دعي الناس بأسمائهم وأسماء أمّهاتهم؛ ستراً من الله عليهم، إلّا هذا وشيعته فإنّهم يُدّعونَ بأسمائهم وأسماء آبائهم؛ لصحة ولادتهم» (1).
8- عام الأحزان: في عام واحد فقد الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) عنصرين مهمّين من عناصر الانتصار، وهما:
الأول: الرصيد المالي للرسالة، وهي خديجة أمّ المؤمنين، فإنّها ماتت قبل الهجرة بسنة.
الثاني: الرصيد الاجتماعي للرسالة، وهو أبو طالب، فإنّه مات بعد خديجة. وهذان العنصران فقدهما النبيّ الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) في عام واحد فسمّاه عام الأحزان، وعمر النبى آنذاك ست وأربعون سنة.
9- صفاته قبل بعثته: ذكر ابن سعد في طبقاته ما نصّه: «كان رجلاً أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقاً، وأكرمهم، مخالطة، وأحسنهم جواراً، وأعظمهم حلماً وأمانة، وأصدقهم حديثاً، وأبعدهم من الفحش والأذى. وما رؤي مُلاحياً ولا مُمارياً أحداً، حتّى سمّاه قومه الأمين؛ لما جمع من الأمور الصالحة فيه. وما انتقم رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) لنفسه إلّا أن تهتك حرمة الله فينتقم الله، ولا سُئل شيئاً قط فمنعه إلّا أن يسأل مأثمّاً، وما أوتي في غير أحد إلا عفا عنه، وما كان خُلُق أبغض إلى رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) من الكذب» (2).
ص: 26
جاء في كتاب (الطبقات) لابن سعد: سأل الحسين بن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) أباه عن النبيّ(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ )، فقال(عَلَيهِ السَّلَامُ) : «كان يقول: أبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغي حاجته؛ فإنّه من أبلغ سلطاناً حاجة من لا يستطيع إبلاغها إيّاه ثبت الله قدميه يوم القيامة. وكان يخزن لسانه إلّا ممّا يعنيهم، ويؤلّفهم ولا ينفّرهم، ويُكرم كريم كلّ قوم ويولّيه عليهم، ويحذّر الناس ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد بشره؛ يعطي كلّ جلسائه بن صيبه حتّى لا يحسب جليسه أنّ أحداً أكرم عليه منه... من جالسه أو قاومه في حاجة صابره حتّى يكون هو المنصرف، ومَن سأله حاجة لم يردّه إلّا بها أو بميسور من القول. مجلسه مجلس حلم وحياء، وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات... يوقرون فيه الكبير ويرحمون الصغير، ويؤثرون ذا الحاجة ويحفظون أو يحوطون الغريب... كان رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) دائم البشر، سهل الخُلُق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخّاب ولا فحّاش ولا عيّاب... قد ترك نفسه من ثلاث: المراء، والإكثار، وما لا يعنيه،
وترك النّاس من ثلاث: كان لا يذمّ أحداً ولا يعيّره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلّم إلّا فيما رجا ثوابه... ويصبر للغريب على جفوة في منطقه ومسألته... ولا يقطع على أحد حديثه» (1).
10- النبيّ(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) والمؤثّرات في حياته: كانت هناك عدة مؤثّرات في حياة الرسول الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ )، ممّا أدّت إلى رقيّه في عالم الروح والمعنويات وسمو النفس، وبالتالي إلى ارتفاع نفسه وسموها، وأصبحت مؤهّلة لتحمل الرسالة الإسلامية
ص: 27
الخالدة؛ وذلك بما أضافته هذه العوامل من المعاني الروحية الكبرى، وأثرت في حياته الاجتماعية والروحية حتّى منح شهادة خاتم الأنبيّاء والمرسلين، وهي أرقى
وأعظم مراتب النبوّة في تاريخ أنبيّاء الله ورسله(عَلَيهِم السَّلَامُ). وهذه العوامل هي:
أ- رسالته وبعثته: كان النبيّ الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) يتعبّد في غار حراء وإذا بالوحي ينزل عليه بقوله: اقرأ.
النبيّ(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «ما أنا بقارئ».
جبرائيل: ﴿اقْرَأ باسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَق * اقْرَاْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بالقَلَم * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ (1).
وإذا بالنبيّ العظيم يعود إلى بيته وهو يحمل أكبر وأعظم رسالة عرفتها البشرية في تاريخها الطويل، فيعود إلى داره وقلبه معمور بالإيمان، وأعباء الرسالة ترهقه وتتعبه، فاتجه إلى فراشه وإذا بالوحي: ﴿يَا أيّها الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ *وَرَبَّكَ فَكَبَرْ﴾ (2).
وخرج وبيده مشعل الإيمان مبشِّراً برسالة الله في الأرض، الرسالة الّتي كان مطلعها وافتتاحها (اقرأ)، ولم يقل: (اقتل)، ولا: (اعدم)، ولا: (انهب)، ولا: (اسرق)، ولا: (اغصب)... إلى آخره. إنّما قال: ﴿اقْرَاْ بِسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾.
ص: 28
فالرسالة الإسلامية الّتي بعث بها نبيّنا محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) رسالة العلم، ورسالة القلم، ورسالة الخير والحياة.
وهكذا كان المبعث العظيم في السابع والعشرين من شهر رجب، الموافق (610) ميلادية، وعمره الشريف أربعون سنة.
ب- المعراج سفرة ربّانية هادفة: بعد مبعثه الشريف أخذت نفسه تسمو شيئاً فشيئاً وتتجرّد عن عالم المادّة ومغرياتها، وإذا به يبلغ المرتبة الروحية القصوى، وهي الدرجة العليا للإيمان الّتي بها يؤهّل أن يُمنح رسالة الإسلام، وشهادة نبوّة خاتمية الأنبيّاء والمرسلين، وبهذه المرتبة الأعلائية للإيمان يمنح الله لخواص أنبيّائه ورسله، (الرمز الإلهي)، أي الشفرة الإلهية، وهي الرمز السرّي بين الله والخواصّ من أنبيّائه ورسله، فينكشف العالم لهم بأسره، ويكشف أسراره، ويتمتّعون بقوّة ومكنة تسخّر لهم كلّ شيء أرادوا، وتنقاد إليهم المخلوقات طائعة بأمر الله.
هذه الشفرة الإلهية استفاد منها نبيّ الله إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) حينما ألقي في النار، فكانت النار له برداً وسلاماً كما قال تعالى: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ (1).
واستفاد أيضاً من هذه الشفرة نبيّ الله سليمان (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فكانت الريح تجري بأمره كما جاء في القرآن الكريم: ﴿وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرْض الّتي بَارَكْنَا فِيهَا﴾ (2).
وكذلك استفاد من هذه الشفرة الإلهية نبيّ الله موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) حينما تبعه فرعون وجنوده من أجل قتله وقتل بني إسرائيل، فنزل موسى ومن معه من بني إسرائيل إلى
ص: 29
البحر، فانفلق له البحر فعبر هو وأصحابه، وكأنّه سدّ منيع من (الكونكريت المسلّح)، وقد عبّر عن هذا المعنى القرآن الكريم بقوله: ﴿فلمّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كلّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضرب بعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كلّ فِرْق كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثمّ الْآخَرينَ * اضْرِبْ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثمّ أَغْرَقْنَا الْآخَرينَ﴾ (1).
واستفاد من هذه الشفرة الربّانية أيضاً نبيّ الله عيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ)؛ حيث كان يُبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى كما في قوله تعالى: ﴿وَأبرء الأكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وأخى الْمَوْتَى بِإِذْنِ الله ﴾ (2).
وعليه فكيف لا تكون هذه الشفرة الإلهية لنبيّنا محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) الذي سخر الله له جميع مخلوقاته؛ لأنه اختاره خاتماً لأنبيّائه ورسله؟ وإذا بالله العلي القدير يهيّئ لنبيّه محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) مناخاً طبيعياً يشابه مناخ الأرض؛ ليبعثه في سفرة روحية إيمانية
تسمّى المعراج وذلك بعد مبعثه بإحدى عشرة سنة، وقبل هجرته بسنة كما قيل، ويوافق ذلك سنة (621) ميلادية. وقد أسري به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كما قال تعالى في كتابه العزيز: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ المَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إنَّه هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرة﴾ (3).
* * *
ص: 30
ص: 31
ص: 32
اهتم النبيّ محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) بالخلافة اهتماماً كبيراً؛ لأنّ بنيانه يقوم عليها ويُبنى مجتمعه، وأنّها القاعدة الأساسية لحفظ الشريعة وصيانة المجتمع من الانهيار والتشتت والتفرّق، وبدونها لا تقوم للإسلام قائمة.
فهي ضرورة من ضروريات الحياة الإسلامية ولا يمكن الاستغناء عنها؛ فبها يقام ما اعوج من نظام الدين، وبها تتحقّق العدالة الكبرى الّتي ينشدها الله في الأرض (1).
ولهذا نرى أن الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) قرنها ببداية التشريع الإسلامي وبدء نزول الوحي، حيث أُمر بإبلاغ دعوته أهله وعشيرته حينما نزلت هذه الآية: ﴿وَأنذر عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبينَ﴾ (2).
فجمع النبيّ(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) عشيرته على وليمة، وخطب خطبته المشهورة بقوله: «إن الرائد لا يكذب أهله، والله الذي لا إله إلّا هو، إنّي رسول الله إليكم خاصّة، وإلى الناس عامّة... إلى أن قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) : يا بني عبد المطّلب، إنّي والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به؛ قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصّي وخليفتي فيكم؟».
ص: 33
فأحجم القوم عن الجواب إلّا علي بن أبي طالب (1)، فقام وقال: «أنا يا نبيّ الله أكون وزيرك. فأخذ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) برقبة الإمام علي وقال: هذا أخي ووصيَّ وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوه» (2).
ولأهميّتها أيضاً أمر الله تعالى العباد بإطاعة من تسلّم قيادتها إذا كان كامل الأهلية، حيث قال سبحانه: ﴿أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾، فجعل الله طاعة الخليفة الذي يتقلد زمام أمرها من طاعته وطاعة رسوله.
وقد أوجبها الفقهاء على اختلاف مذاهبهم شيعة وسنّة، ولا نستطيع أن نستعرض هنا الآراء بشكلّ مفصّل في هذه الوريقات، وإنّما نلمّح إليها برأي واحد لكلّ من المذهبين.
الذي عليه إجماع الشيعة أنّ الخلافة أو الإمامة هي منصب إلهي بنصّ من النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وبوحي من الله تعالى. يقول الإمام محمّد حسين کاشف الغطاء: «نحن الشيعة نعتقد أنّ الإمامة منصب إلهي كالنبوّة، فكما أن الله سبحانه وتعالى يختار مَن يشاء من عباده للنبوّة والرسالة، ويؤيّده بالمعجزة الّتي هي كالنصّ من الله عليه، فكذلك يختار للإمامة من يشاء، ويأمر نبيّه بالنصّ عليه، وأن ينصّبه إماماً للناس من بعده للقيام بالوظائف الّتي كان على النبيّ أن يقوم بها، سوى أن الإمام لا يُوحى إليه كالنبيّ، وإنّما يتلقّى الأحكام من النبيّ» (3).
ص: 34
والذي عليه إجماع المذاهب السنّية أنها ضرورة من ضروريات الدين إلّا مَن شذّ منها، فيقول الماوردي: الإمامة موضوعة لخلافة النبوّة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، وعقدها ممّن يقوم بها واجب بالإجماع (1).
هذه المصطلحات الثلاثة هي من أهمّ التشريعات الإسلامية الخاصّة الّتي تتعلّق بالله تعالى فقط، ولن يكون لأحد من الخلق الخيّرة في ذلك في تعيين النبيّ أو الإمام أو الخليفة، ولهذا خصّ الله هذا التعيين الثلاثي بن فسه دون سائر التشريعات الإلهية الأخرى الّتي هي بأمر منه سبحانه عن طريق رسله وأنبيّائه(عَلَيهِم السَّلَامُ).
وقد جاءت هذه المصطلحات الثلاثة متميّزة بلفظ الجعل المباشر من قبله تعالى، والقرآن الكريم يشير إلى هذا الجعل بآيات بينات كلّها متصدرة بكلّمة الجعل المنسوب والمرتبط بالله سبحانه، وهي كالتالي:
النبوّة : قوله تعالى: ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نبيّاً﴾ (2).
وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتهما النبوّة﴾ (3).
وقوله تعالى: ﴿وَهَبن ا لَهُ إِسْحَاق وَيَعْقُوبَ وَكلّاً جَعَلْنَا نبيّاً﴾ (4).
وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوّة﴾ (5).
ص: 35
وقوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبيّاء﴾ (1).
الإمامة: قوله تعالى: ﴿وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكلّمَات فَأَتَمهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ (2).
وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أئمّةً يَهْدُونَ بأَمْرنَا﴾ (3).
الخلافة: قوله تعالى: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ﴾ (4).
وقوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ (5).
فإذا كان هذا المنصب الثلاثي مرتبطاً بالإرادة الإلهية والجعل الربّاني، وأنّه عهد الله كما جاء ذلك في القرآن الكريم، فصاحب هذا المنصب لا بد أن يتحلّى بشروط:
أن يكون بعيداً عن الظلم بكلّ ألوانه وأقسأمّه، وألّا يتّصف بالظلم ولا مرتكباً له ولو لفترة زمنية معيّنة، فإذا تلبّس بلون من ألوان الظلم فإنّه لا يستحقّ هذا المنصب الإلهي والعهد الربّاني؛ لقوله تعالى: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ (6).
ص: 36
والتاريخ لم يذكر لنا أنّ هذا العهد الإلهي قد تسلّمه أو ناله أحد من ذوات المنصب الثلاثي وهو قد تلبّس بظلم في مرحلة من حياته مهما كان لونه حتّى الشرك بالله؛ لأنّه لون من ألوان الظلم، وقد عبّر عن هذا المعنى القرآن الكريم بقوله: ﴿يَا بني لاَ تُشْرك بِاللهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ (1).
فنحن لم نسمع بأنّ الله تعالى بعث نبيّاً أو جعل خليفة من خلفائه أو إماماً من أئمّته في الأرض كان مشركاً في يوم من الأيام ثمّ آمن، بل كلّ أنبيّائه وأئمّته وخلفائه من الصفوة المختارة من المؤمنين، فهم منزهون عن الشرك؛ لأنّه لون من ألوان الظلم، ولا ينال عهد الله الظالمين من نبوّة أو خلافة أو إمامة إلهية.
فعلى هذا المعنى لو طالعنا تاريخ الخلافة الإسلامية لم نجد خليفة وهو خالٍ من شوائب الظلم والشرك إلّا الإمام العادل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عَلَيهِ السَّلَامُ) الّذي تربّى في حضن النبوّة والخلافة الإلهية على يد سيّد الأنبيّاء وخاتم المرسلين محمّد بن عبد الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ )، فهو الوحيد الخليفة الشرعي المعصوم من الظلم والشرك، أمّا غيره فالتاريخ يذكر فترات حياتهم قبل الإسلام، حيث كانوا يعبدون الأصنام، ويشركون بالله العليّ العظيم، فهم بعيدون عن هذا المنصب الإلهي.
وهذه هي النظرية الإسلامية في الخلافة الإلهية الّتي ترتكز على دعأمّتين وآيتين من القرآن الكريم:
أ- ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾.
ب- ﴿يَا بني لَا تُشْرِكْ بِالله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾.
ص: 37
وقد صوّر هذه النظرية صاحب تفسير الميزان بقوله: «والخلافة - وهي قيام شيء مقام آخر - لا تتمّ إلّا بكون الخليفة حاكياً للمستخلف في جميع شؤونه الوجودية وآثاره وأحكأمّه وتدابيره بما هو مُستخلف، والله سبحانه في وجوده مُسمّى بالأسماء الحسنى، متّصف بالصفات العليا من أوصاف الجمال والجلال، منزه في نفسه عن النقص، ومقدس في فعله» (1).
وقد أكّد هذا المعنى أيضاً أستاذ علم الأصول ومرجعه المرحوم الإمام الشيخ الآخوند في كتابه (كفاية الأصول) في مبحث المشتقّ، وكونه أعمّ ممّن تلبّس به فعلاً أو في الزمن الماضي، بقوله: «استدلّ الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) تأسّياً بالنبيّ. صلوات الله عليه - كما عن غير واحد من الأخبار بقوله تعالى: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ (2) على عدم لياقة مَن عَبَد صنماً أو وثناً لمنصب الإمامة والخلافة؛ تعريضاً بمَن تصدّى لها ممّن عبد الصنم مدّة مديدة، ومن الواضح توقّف ذلك على كون المشتقّ موضوعاً للأعم، وإلّا لما صحّ التعريض؛ لانقضاء تلبّسهم بالظلم وعبادتهم للصنم حين التصدّي للخلافة.
والجواب: منع التوقّف على ذلك، بل يتمّ الاستدلال ولو كان موضوعاً لخصوص المتلبّس».
ويستمرّ (رَحمَةُ الله) في توضيح كلّأمه قائلاً: «وتوضيح ذلك يتوقّف على تمهيد مقدّمة، وهي: أنّ الأوصاف العنوانية الّتي تؤخذ في موضوعات الأحكام تكون على أقسام:
ص: 38
أحدها: أن يكون أخذ العنوان لمجّرد الإشارة إلى ما هو في الحقيقة موضوعاً للحكم؛ لمعهوديته بهذا العنوان من دون دخل لاتّصافه به في الحكم أصلاً.
ثانيها: أن يكون لأجل الإشارة إلى علية المبدأ للحكم مع كفاية مجرّد صحّة جري المشتقّ ولو في ما مضى.
ثالثها: أن يكون لذلك مع عدم الكفاية، بل كان الحكم دائراً مدار صحة الجري عليه واتصافه به حدوثاً وبقاء.
إذا عرفت هذا فنقول: إنّ الاستدلال بهذا الوجه إنّما يتمّ لو أخذ العنوان في الآية الشريفة على النحو الأخير؛ ضرورة أنّه لو لم يكن المشتق للأعمّ لما تمّ بعد عدم التلبس بالمبدأ ظاهراً حين التصدّي، فلا بدّ أن يكون للأعم؛ ليكون حين التصدّي حقيقة من الظالمين ولو انقضى عنهم التلبّس بالظلم.
إلى أن يقول: «فإن الآية الشريفة في مقام بيان جلالة قدر الإمامة والخلافة، وعظم خطرها ورفعة محلّها، وأنّ لها خصوصية من بين المناصب الإلهية، ومن المعلوم أنّ المناسب لذلك هو ألّا يكون المتقمّص بها متلبّساً بالظلم أصلاً كما لا يخفى.
إن قلت: نعم، ولكن الظاهر أنّ الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) إنّما استدلّ بما هو قضية ظاهرة العنوان وضعاً، ولا بقرينة المقام مجازاً، فلا بدّ أن يكون للأعمّ، وإلّا لما تمّ.
قلت: لو سلم، لم يكن يستلزم جري المشتقّ على النحو الثاني كونه مجازاً، بل يكون حقيقة لو كان بلحاظ حال التلبّس كما عرفت فيكون معنى الآية - والله العالم - من كان ظالماً ولو آناً في زمان سابق لا ينال عهدي أبداً) (1).
ص: 39
وهذه النظرية الإسلامية للنبوّة والإمامة والخلافة قد صوّرها بعض الأئمّة من أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) بالقول: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾، عَني به أن الإمامة لا تصلح لمَن قد عَبَدَ صنماً أو وثناً أو أشرك بالله طرفة عين وإن أسلم بعد ذلك. والظلم وضع الشيء في غير موضعه، وأعظم الظلم الشرك، قال الله عزّوجلّ: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾. وكذلك لا تصلح الإمامة لمَن قد ارتكب من المحارم شيئاً صغيراً كان أو كبيراً وإن تاب منه بعد ذلك، وكذلك لا يقيم الحدّ من في جنبه حدّ.
فإذاً لا يكون الإمام إلا معصوماً، ولا تعلم عصمته إلا بن ص الله عزّوجلّ عليه على لسان نبيّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ )؛ لأنّ العصمة ليست في ظاهر الخلقة فترى كالسواد والبياض وما أشبه ذلك، وهي مغيّبة لا تُعرف إلّا بتعريف علام الغيوب عزّوجلّ» (1).
وهنا سؤال قد يتبادر إلى ذهن القارئ، وهو: أنّ الإسلام يجبُّ ما قبله، أي أنّ الإنسان المشرك إذا أسلم لا يجب عليه قضاء ما فاته من أيّام تكلّيفه من صلاة وصيام وغيرهما من الواجبات؛ لأنّ الإسلام يجبّ ما قبله، فإذا كان مشركاً ثمّ أسلم فإنّه تشمله قاعدة الإسلام يجبّ ما قبله؛ فإذا الشرط الأوّل من شرائط النبوّة والإمامة والخلافة منتفٍ هنا، فما هو الجواب على ذلك؟
الجواب على هذا السؤال هو : صحيح أنّ الإسلام يجب ما قبله، ولكنّ هذه القاعدة تعتبر جارية في الأمور العبادية كالصلاة والصيام وغيرهما من العبادات، أما في الأمور الإدارية والقيادة فإن الله لا يمكّن المشرك منها، ويتجلّى ذلك لنا في أمرين:
ص: 40
الأول: أن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) حينما أعطى أبا بكر آيات البراءة من سورة التوبة لتبليغها المشركين، نزل الوحي على النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ): لن يؤدي عنك إلّا أنت أو رجل منك» (1)؛ باعتبار أنّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) أو الرجل المؤدّي عنه لم يكونا في يوم من الأيّام من المشركين، فهما منزّهان عنه في كلّ لحظة من حياتهما. ومن هنا نستكشف ظاهرة إسلامية هي: أنّ الإسلام لا يرتضي أن يرتقي شخص ما هذا المنصبّ أو أيّ شيء من أمور المسلمين حتّى إمامة صلاة الجماعة إلّا أن يكون طاهراً مطهراً من الزلل، فكيف بقيادة المسلمين وخلافتهم (2)؟!
الثاني: أنّ الرجل الذي يُجرى عليه الحدّ لارتكابه الزني أو شرب الخمر وغيرهما من المحارم ثمّ تاب توبة نصوحة فهل تجوز الصلاة خلفه؟
الجواب على هذا السؤال يحتاج إلى نقل فتاوى فقهاء الإسلام وأعلأمه، وهو كما يلي:
فقد ذكر الإمام الخوئي (قُدِّس سِرُّه) في رسالته ما نصّه: (عدم جواز الائتمام لمن جرى عليه الحد الشرعي) (3).
بل ذهب إلى أكثر من هذا واشترط طهارة المولد (4).
واشترط المرجع الديني الكبير السيّد السيستاني بقوله: (ألّا يكون ممّن جرى عليه الحدّ الشرعى على الأحوط لزوماً) (5).
ص: 41
فإذا كانت الصلاة خلف المحدود عليه بالحدّ الشرعي لا تجوز، فكيف بإمامة وخلافة المسلمين وقيادتهم نحو الخير والكمال؟! والإسلام لا يسلّم القيادة إلا لمن كانت تتجسّد فيه النزاهة الفكرية والعقدية والسلوكية فيه، فالمشرك ملوّث بشركه ولو في لحظة من حياته كما قد رأينا ذلك.
إنّ بعض الأوامر الإلهية والأحكام الشرعية تحتاج إلى مخوّل ومجوّز رسمي خاص في تبليغها وبيان أحكأمّها وإيصالها إلى مرحلة التطبيق العملي، وهذا المخوّل لا يمنحه الله إلا لذوي المراتب الإيمانية العالية، والمناصب الإلهية الخاصّة، فعلى هذا لا يمكن لأحد التصدّي لإيصال بعض الأحكام الإلهية إلا من أذِنَ الله له في ذلك، كما كان ذلك في تبليغ آية البراءة، وذلك حينما نزلت هذه الآية الكريمة: ﴿بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّه وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْض أربَعَةَ أَشْهُر واعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعجزي الله وَأنَّ اللهَ مُخْزي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانَ مِنْ الله وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الحَجِّ الأَكْبَر أَنَّ اللهَ بَريءٌ مِنْ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله وَبَشِّرْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثمّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ (1).
فقد ذكر كثير من المفسّرين أنّ السبب في نزول هذه الآيات، وهي آيات البراءة، هو ما يلي: جاء في تفسير (الدرّ المنثور) للسيوطي: (وأخرج عبد الله بن
ص: 42
أحمد بن حنبل في (زوائد المسند)، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن علي(عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «لما نزلت عشر آيات من براءة على النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ )، دعا أبا بكر ليقرأها على أهل مكّة، ثمّ دعاني فقال لي: أدرك أبا بكر، فحيثمّا لقيته فخذ الكتاب منه. ورجع أبو بكر، فقال: يا رسول الله، نزل فيَّ شيء؟ قال: لا، ولكن جبرائيل جاءني فقال: لن يؤدّي عنك إلّا أنتَ أو رجل منك») (1).
وفي رواية أخرى: (وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، والترمذي وحسّنه، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن أنس (رَحمَةُ الله عَلیهِ) قال: بعث النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) ببراءة مع أبي بكر، ثمّ دعاه فقال: «لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلّا رجل من أهلي» (2)).
وروي هذا بإسناد وطرق كثيرة (3).
ويكشف هذا الحديث أن بعض التبليغات الإلهية تحتاج إلى ترخيص ومجوّز رسمي، وإلى صلاحيات وأهلية خاصّة لتبليغها، ولا يستطيع الإنسان العادي تبليغها إلا بإذن خاصّ كما عليه تبليغ آية البراءة المذكورة، فكذلك إمرّة المؤمنين وحاكميتهم بأمسّ الحاجة إلى هذا المجوّز والمخوّل للحاكمية، وهي أكبر وأشمل من تبليغ آية البراءة. فإذا كانت آيات البراءة لا يجوز تبليغها إلاّ بواسطة نبيّ أو وصي نبيّ كما في لسان الرواية (لن يؤدي عنك إلّا أنت أو رجل منك)، فكيف بحاكمية كلّ المسلمين، ألا تحتاج إلى هذا المخوّل وإلى هذه
ص: 43
الصلاحية الخاصّة؟ بل هي تكون أحوج إلى هذا المجوز وإلى هذه الصلاحية الخاصّة بإذن الحاكمية من قبل الله ورسوله.
نستفيد ممّا تقدّم أن النبوّة والخلافة والإمامة لا تكون باختيار الإنسان
وصلاحيته، وإنّما هي من مختصّات الله العلي القدير، أو إخبار نبيّه الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) بمَن يستحقّ هذا المنصب وأهليته لذلك، ولهذا نرى أنّ النبيّ محمّداً (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) قد أكّد على هذا الجانب من خلال إخبار الأُمّة بخلفاء الله وأئمته الذين ارتضاهم للخلافة في أرضه، وهم الخلفاء والأئمّة المنصوص عليهم من قبل الله تعالى عن طريق نبيّه العظيم، وقد صرّحت كتب الصحاح بذلك، وإليك ما يلي:
أ- جاء في (صحيح الترمذي) ما نصّه: حدّثنا أبو كريب محمّد بن العلاء، حدّثنا عمر بن عبيد الطنافسي، عن سمّاك بن حرب، عن جابر بن سمرّة، قال: قال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ): يكون من بعدي اثنا عشر أميراً». قال: ثمّ تكلّم بشيء لم أفهمه، فسألت الذي يليني، فقال: «كلّهم من قريش». قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح (1).
ب- أخرج أحمد بن حنبل في مسنده عن الشعبي، عن مسروق، قال: كنّا جلوساً عند عبد الله بن مسعود وهو يقرئنا القرآن، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، هل سألتم رسول الله كم تملك الأمة من خليفة؟ فقال عبد الله بن مسعود: ما سألني أحد منذ قدمت العراق قبلك... ثمّ قال: نعم، ولقد سألنا رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) فقال: «اثنا عشر، كعدّة نقباء بني إسرائيل» (2).
ص: 44
ج- ذكر أحمد بن حنبل في مسنده عن جابر بن سمرّة، قال: سمعت رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ )، و يقول في حجّة الوداع: «لا يزال هذا الدين ظاهراً على من ناواه، ولا يضرّه مخالف ولا مطارق حتّى يمضي من أمّتي اثنا عشر أميراً كلّهم من قريش» (1).
د- جاء في (صحيح مس) عن جابر بن سمرّة قال: دخلت مع أبي على النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فسمعته يقول: إن هذا الأمر لا ينقضي حتّى يمضي منهم اثنا عشر خليفة». قال: ثمّ تكلّم بكلّام خفي عليَّ وقال: فقلت لأبي: ما قال؟ قال: كلّهم من قريش». وقد رواه من تسعة طرق (2).
ه_- أخرج مسلم في صحيحه عن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) أنّه قال: «لا يزال الدين قائماً حتّى تقوم الساعة، ويكون عليهم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش » (3).
و- جاء أيضاً في (صحيح مسلم) ما نصّه: لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً كلّهم من قريش» (4).
ز- ذكر مسلم في صحيحه، وأحمد في مسنده، قالا: «لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة كلّهم من قريش » (5).
ح- ورد بهذا النصّ ما ذكره أبو داوود في سننه، ومسلم في صحيحه: «لا يزال هذا الدين منيعاً إلى اثني عشر خليفة كلّهم من قريش» (6).
ص: 45
ط- جاء ما هو مخصّص لهذه الروايات ومقيد لها، ما ذكره الإمام الحافظ القندوزي الحنفي في كتابه (ينابيع المودة) ما نصّه: وفي المودّة العاشرة من کتاب (مودّة القربى) للسيد علي الهمداني - قدس الله سره وأفاض علينا بركاته وفتوحه - عن عبد الملك بن عمير، عن جابر بن سمرّة، قال: كنت مع أبي عند النبیّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ )، وكان يقول: «بعدي اثنا عشر خليفة»، ثمّ اختفى صوته، فقلت لأبي: ما الذي أخفى صوته؟ قال: قال: «كلّهم من بني هاشم» (1).
وإليك جدول بأسماء الخلفاء الذين توصّلوا إليها، وهم كما يلي:
1- أبو بكر.
2 -عمر بن الخطّاب .
3- عثمان بن عفّان.
4- أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عَلَيهِ السَّلَامُ).
5- الإمام الحسن بن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ).
الخلفاء من بني أُميّة
1- معاوية بن أبي سفيان.
2- يزيد بن معاوية.
3- معاوية بن يزيد.
4- مروان بن الحكم.
5- عبدالملك بن مروان.
6- الوليد بن عبد الملك.
ص: 46
7- سليمان بن عبدالملك.
8- عمر بن عبدالعزيز.
9- يزيد بن عبدالملك بن مروان بن الحكم.
10- هشام بن عبدالملك.
11- الوليد بن يزيد بن عبدالملك.
12- يزيد بن الوليد بن عبدالملك.
13- إبراهيم بن الوليد بن عبدالملك.
14- مروان بن محمّد بن مروان بن الحكم.
الخلفاء من بني العبّاس
1- خلافة أبي العبّاس عبد الله السفّاح.
2- خلافة أبي جعفر المنصور.
3- خلافة محمّد المهدي.
4- خلافة موسى الهادي.
5- خلافة هارون الرشيد.
6- خلافة محمّد الامين.
7- خلافة المأمون.
8- خلافة المعتصم.
9- خلافة الواثق.
10- خلافة المتوكلّ على الله.
11- خلافة المنتصر بالله.
ص: 47
12- خلافة المستعين بالله.
13- خلافة المعتز بالله.
14- خلافة المهتدي بالله.
15- خلافة المعتمد على الله.
16- خلافة المعتضد بالله.
17- خلافة المكتفي بالله.
18- خلافة المقتدر بالله.
19 - خلافة القاهر بالله.
20- خلافة الراضي بالله.
21- خلافة المتّقي بالله.
22- خلافة المستكفي بالله.
23- خلافة المطيع الله.
24- خلافة الطائع الله.
25- خلافة القادر بالله.
26- خلافة القائم بأمر الله.
27- خلافة المقتدي بأمر الله.
28- خلافة المستظهر بالله.
29- خلافة المسترشد بالله
30- خلافة الرأشدّ بالله.
31- خلافة المقتفي لأمر الله.
32- خلافة المستنجد بالله.
ص: 48
33- خلافة المستضيء بنور الله.
34- خلافة الناصر لدين الله.
35- خلافة الظاهر بأمر الله.
36- خلافة المستعصم بالله.
37- خلافة المستنصر بالله.
38- خلافة الحاكم بأمر الله.
39- خلافة المستكفي بالله
40- خلافة الحاكم أحمد بن المستكفي بالله.
41- خلافة المعتضد بالله.
42- خلافة المتوكلّ على الله.
43- خلافة المستعين بالله.
44- خلافة المعتضد بالله.
45- خلافة سليمان بن المتوكلّ.
وهنا عدّة نقاط، وهي كما يلي:
1- لو أردنا أن ندرس الروايات الواردة عن النبيّ الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ )، والّتي قد رأيناها تصرّح بأنّ عدد الخلفاء من بعده اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش، فكيف نستطيع أن نطبّق عدد الخلفاء الذين توصّلوا إلى الحكم وعددهم ما يقارب ال_ (65) خليفة من الأمويّين و العبّاسيّين مع العدد الذي حدّده رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ )، وحصره باثني عشر خليفة؟!
ص: 49
2- الرواية الواردة عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) لا تنسجم إلّا مع مذهب أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) القائل بإمامة اثني عشر خليفة، وهي مستوحاة من الرسول الكریم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ).
3- هناك روايات عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) تحدّد الخلفاء من بعده، وهم من بني هاشم، فقد ذكر صاحب كتاب (ينابيع المودة) الحنفي القندوزي فيها ما نصّه: وفي المودة العاشرة في كتاب (مودة القربى) للسيّد علي الهمداني –قدس الله سره وأفاض علينا بركاته وفتوحه - عن عبدالملك بن عمير، عن جابر بن سمرّة، قال: كنت مع أبي عند النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) فسمعته يقول: «بعدي اثنا عشر خليفة». ثمّ أخفى صوته، فقلت لأبي: ما الذي أخفى صوته؟ قال: قال: «كلّهم من بني هاشم» (1).
4- هناك رواية عن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) تصرّح بأنّ الخلافة لعلي وأولاده، فقد روی عباية بن ربعي، عن جابر، قال : قال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ): «أنا سيّد النبيّين، وعلي سيّد الوصيين، وأن أوصيائي بعدي اثنا عشر، أولهم عليّ وآخرهم القائم المهدي» (2).
5- يتّضح من مجموع الروايات عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) أنّ هناك جوا قد وفّره رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) لعلی (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهيّأه للخلافة من بعده، وهو الجو المنسجم مع عبير النبوّة في حديث (بعدي اثنا عشر خليفة)، وقد استفاد من هذا الصرح النبوي الشيخ القندوزي الحنفي، بقوله: (إنّ الأحاديث الدالّة على كون الخلفاء بعده (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) اثني عشر قد اشتهرت من طرق كثيرة، فبشرح الزمان وتعريف الكون والمكان علم أن مراد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) من حديثه هذا الأئمّة الاثنا عشر من أهل بيته وعترته؛ إذ
ص: 50
لا يمكن أن يحمل هذا الحديث على الخلفاء بعده من أصحابه، ولا يمكن أن نحمله على الملوك [الأمويّين]؛ لزيادتهم على اثني عشر، ولظلمهم الفاحش إلّا عمر بن عبد العزيز؛ ولكونهم غير بني هاشم؛ لأن النبيّ(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ )، قال: «كلّهم من بني هاشم» في رواية عبدالملك عن جابر. وإخفاء صوته (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) في هذا القول يرجّح هذه الرواية؛ لأنّهم لا يحسنون خلافة بني هاشم. ولا يمكن أن نحمله على الملوك [ العبّاسيّين]؛ لزيادتهم على العدد المذكور، ولقلة رعايتهم للآية: ﴿قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾، وحديث الكساء.
إذاً لابدّ أن يحمل هذا الحديث على الأئمّة الاثني عشر من أهل بيته وعترته (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ )؛ لأنّهم كانوا أعلم أهل زمانهم وأجلّهم، وأورعهم وأتقاهم، وأعلاهم نسباً، وأفضلهم حسباً، وأكرمهم عند الله، وكان علمهم عن آبائهم متّصلا بجدّهم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) (1).
6- إنّ العدد الّذي عيّنه رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) و رسمه لنا من قبل الله تعالى باثني عشر خليفة وإماماً، لا يجوز لنا أن نزيد فيه أو ننقص؛ لأنّه أمر إلهي عن طريق نبيّه محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ )، وقد قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى﴾ (2).
وهذا ما عليه الأئمّة من أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ)، فقد صرّحوا في روايات عديدة بهذا المعنى، وإليك نماذج منها :
ص: 51
أ- روى صاحب (بصائر الدرجات) قائلاً: حدّثنا أحمد بن محمّد، عن عبد الله محمّد، عن عبد الله الحجّال، عن داوود بن يزيد عمّن ذكره، عن أبي عبد الله الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال: «أترون الأمر إلينا أن نضعه فيمَن شئنا؟! كلّا والله، إنّه عهد من رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) إلى علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) رجل فرجل، إلى أن ينتهي لصاحب هذا الأمر» (1).
ب- روى أيضاً ما نصّه: حدّثنا عبّاد بن سليمان، عن سعد بن سعد، عن صفوان بن يحيى، قال: سألته عن الإمام إذا أوصى الذي يكون من بعده شيئاً فيفوّض إليه يجعله حيث شاء، أو كيف شاء هو؟ قال: «إنّما يقضي بأمر الله». فقلت له: إنّه حكي عن جدّك أنّه قال: «أترون هذا الأمر نجعله حيث نشاء؟! لا والله ما هو إلا عهد من رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) رجل فرجل» (2).
ج- قال أيضاً: حدّثنا الحسين بن محمّد، عن معلّى بن محمّد، عن علي بن محمّد، عن بكر بن صالح الرازي، عن محمّد بن سليمان المصري، عن عثمان بن أسلم، عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبد الله (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إن الإمامة عهد من الله عزّوجلّ معهود لرجل مسمّى ليس للإمام أن يزويها عمن يكون من بعده» (3).
7- هذه هي مدرسة أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ)، إنها تستوحي أفكارها وتعاليمها من الله ورسوله ولا تتعدّى ذلك أبداً على كلّ الأصعدة العقدية والفقهية، بينما نرى مدرسة الخلفاء تصرّح وتعلن أنّ لها الحقّ في أن تشرّع وتضع أحكاماً في قبال أحكام الله ورسوله كما رأينا ذلك جلياًّ؛ حيث إن أبا بكر يوصي بالخلافة من
ص: 52
بعده لعمر، وإن عمر يوصي بالخلافة لستّة من بعده، في ما نرى الأئمّة من أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) يقولون في قضية الخلافة والإمامة: «كلّا والله، إنّه عهد من الله ورسوله رجل فرجل».
وأخيراً نقول كما قال الشاعر:
وحسبُكُم هذا التفاوت بيننا *** وكلّ إناء بالذي فيه ينضحُ
الخلافة والخليفة هما ميراث النبوّة والرسالة وهما القيّمان على استمرارية أحكام أنبيّاء الله ورسله. والخليفة هو الوصي الأمين على تبليغ رسالة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) إلى العباد والبلاد بصورة سليمة وأمينة، فلا بدّ للخليفة أن يتحلى بالكمالات الربّانية والصفات الإيمانية والطاقات الروحية الّتي تجعله في مصاف الأنبيّاء (عَلَيهِم السَّلَامُ)، والمعتمد عليه كلّياً من قبلهم، وهذا لا يكون إلّا إذا كان قريباً من نفسية النبيّ؛ فيكون أمين أسراره، ومحل أماناته، وتحمل آلأمّه وأتعابه، ولهذا كان الأنبيّاء يتوخّون في أوصيائهم وخلفائهم أن يكونوا من أنفسهم حتّى يطمئنّوا إليهم في أداء الرسالة، وهذا ما كان عليه الأنبيّاء السابقون إلى خاتمهم نبيّنا محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ )، فلهذا نرى موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) يجعل له خليفة من أهله حينما أمره الباري تعالى أن يذهب إلى فرعون لتبليغ أمر الله إليه كما يحدّثنا القرآن الكريم بآياته ذلك، حيث قال تعالى: ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَاني * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وزيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * أشدّدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي﴾ (1).
ص: 53
إلى أن يقول في سورة أخرى: ﴿قَالَ سَنَشَدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَتَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً﴾ (1).
وأما بالنسبة إلى نبيّنا محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) فإنّه اعتبر وصيه وخليفته كنفسه في تحمّل المهمّات الّتي تعترض الرسالة الإلهية، وذلك حينما جاء وفد نجران بأساقفته وبطارقته متحدّين رسالة خاتم الأنبيّاء والمرسلين محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ )، فخرج إليهم ومعه مَن له أهلية تبليغ الرسالة وتحمّل المسؤولية الربّانية، وهم أبناؤه الحسن والحسين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)، ونساؤه ابنته فاطمة الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) فقط، ومن كان نفسه نفس الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) وهو وصيه وخليفته من بعده علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فهو نفس رسول الله بالنصّ القرآني.
وإليك الآية الّتي تحدّثنا عن ذلك بقوله تعالى: ﴿فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبن اءَنَا وَأَبن اءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا (2) وَأَنْفُسَكُمْ ثمّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ (3).
ولنا هنا تساؤلات:
1- أليس الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) هو أولى بالحكومة من غيره، فكذلك مَن كان هو نفس الرسول بالنصّ القرآني، فكيف لا يكون أولى بالحكم من غيره؟
2- الخليفة لابدّ أن تكون له امتدادية للرسالة والرسول، ويكون ذا صلة وثيقة بالنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ )، وقد أكّد القرآن الكريم على هذا الارتباط النفسي
ص: 54
والروحي بين الرسول وخليفته ووصيّه، ولهذا نرى إصرار نبيّ الله موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) على مصاحبة أخيه هارون بتبليغ أمر الله لفرعون، وكذا اختيار نبيّنا محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) مصاحبة علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) لمقابلة وفد نجران له خصوصية ربّانية تكشف عن علاقة النبيّ بخليفته الربّاني؛ لأنّ بعض التبليغات الإلهية لا يمكن أداؤها إلا بهذه الصلة الوثيقة، فكذلك إدارة الحكم لا تكون للخليفة إلّا بمثل هذه الصلة. وقد أكّد النبيّ الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) ذلك مراراً وتكراراً في أماكن متعددة، فقد روى أحمد بن حنبل في مسنده أنّه قال في حق علي (عَلَيهِ السَّلَامُ): «فإنّه منّي وأنا منه، وهو وليكم بعدي» (1).
وجاء في كتاب (الكشاف) للزمخشري في حديث عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ): إلى أن يقول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ): «التنهنّ أو لأبعثنّ إليكم رجلاً هو عندي كنفسي...»، ثمّ ضرب بيده على كتف علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) (2).
وذكر صاحب (كتاب الرياض) عن أنس بن مالك أنّه قال: قال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «ما من نبيّ إلا وله نظير في أمّته، وعلي نظيري» (3).
وجاء في كتاب (الخصائص) للنسائي عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) أنّه قال: «علي منّي وأنا منه» (4).
* * *
ص: 55
ص: 56
ص: 57
ص: 58
نظرية الخلافة والخليفة في الإسلام
الإنسان المسلم حينما يريد أن يدرس ظاهرة من ظواهر الإسلام ومفهوماً من مفاهيمه لابدّ له من أن يتوفّر على هذين الشرطين:
ونعني بها أن يتحرّى الحقيقة والواقع، وأن يكون بعيداً عن كلّ أنواع التعصّب.
أن ينطلق في تحرّيه للحقيقة من القرآن الكريم والسّنة الشريفة، حتّى يكون على بينة من أمره فيما يتعلق بأمور دينه ومعتقده.
ونحن حينما نبحث موضوع الخلافة والخليفة ننطلق من هذين الشرطين، ونلتزم بهما حتّى نتوصّل إلى الحقيقة الإسلامية المطلوبة.
الخلافة من المواضيع الإسلامية المهمّة؛ لأنّ الحياة الإسلامية المطلوبة لا يمكن تسييرها وفق الشريعة إلّا عن طريق الخلافة. والانحراف عن الخلافة واختيار الخليفة غير الصالح هو انحراف عن الإسلام الحقيقي، وتأخير للمسيرة الإسلامية عن البناء والتقدم، ولهذا لابدّ لنا من أن نبحث الخلافة والخليفة بصورة موضوعية ونزيهة وبعيدة كلّ البعد عن التعصب بكلّ ألوانه وأشكاله.
ص: 59
هناك أربع فرضيات يمكن تصورها لتعيين الخليفة، وهي كما يلي:
وهذه الفرضية تقول: لابدّ أن يكون تعيين الخليفة عن طريق النصّ القرآني حتّى يكون صريحاً وواضحاً، وعندها لا يمكن للإنسان المسلم أن يحيد عنه بحال من الأحوال. وقد ذكر المفسّرون آيات عديدة تدلّ على ذلك، ونحن نقتصر على آيتين فقط
1- قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ - الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ (1).
فقد ورد في بعض التفاسير أن الولاية في الآية الكريمة هي بمعنى الحكم، فصلاحية الحكم أعطيت من قبل الله تعالى لرسوله الكريم، ومن بعده للإنسان المؤمن الذي يتّصف بهذه الصفات، وهي: الإيمان، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة وهو راكع. وقد نصّت جلّ التفاسير على أنّ هذه الآية نزلت في حقّ علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فهو المعيّن للخلافة والمؤهّل لها بهذا النصّ القرآني. وإليك نصّ الحادثة بن زول هذه الآية من الكتب المعتبرة:
أخرج أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره بإسناده عن أبي ذر الغفاري قال: أما إنّي صلّيت مع رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) يوماً من الأيام الظهر، فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد شيئاً، فرفع السائل يديه إلى السماء، وقال: اللهمّ اشهد أنّي سألت في مسجد نبيّك محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) فلم يعطني أحد شيئاً. وكان عليه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الصلاة راكعاً،
ص: 60
فأومأ إليه بخنصره اليمنى، وفيه خاتم، فأقبل السائل فأخذ الخاتم من خنصره، وذلك بمرأى من النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) وهو بالمسجد، فرفع رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ )، طرفه إلى السماء وقال: «اللهم إن أخي موسى سألك فقال: ﴿قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْري * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَاني * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وزيراً مِنْ
أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * أشدّدْ بِهِ أَزْري * وَأَشْرِكْهُ في أمري﴾، فأنزلت عليه قرآناً: ﴿قَالَ سَنَشْدُّ عَصْدَكَ بأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا﴾، اللهمّ وإنّي محمّد نبيّك وصفيك اللهم واشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واجعل لي وزيراً من أهلي علياً، أشدّد به ظهري».
قال أبو ذر: فما استتمّ دعاءه حتّى نزل جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) من عند الله عزّوجلّ، وقال: يا محمّد، اقرأ: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ (1).
2 - قوله تعالى: ﴿يَا أيّها الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ﴾ (2).
بيان هذه الآية لا يتضح ولا يفهم مرادها إلا بعد ملاحظة النقاط التالية:
أ- الأسلوب القرآني في بيان الأحكام والتشريعات الإلهية الأخرى يختلف عن أسلوب هذه الآية الكريمة؛ وذلك لأن أسلوبه في بيان أحكام الله لم يكن فيه التهديد والإحراج كقوله: ﴿وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ أو ﴿وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ﴾، فجميع الأحكام الإلهية قد بيّنت ونزلت الآيات البينات فيها، ولكنّها
ص: 61
لم تستعمل هذا الأسلوب قط. فمثلاً: تشريع الصلاة والزكاة في قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾، أو بالنسبة إلى الصوم في قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصَّيام﴾، أو بالنسبة إلى الحج في قوله تعالى: ﴿وَلله عَلَى النَّاسِ حِج الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبيلا﴾ وغيرها من الأحكام الشرعية الّتي بينتها الآيات الكريمة لم نجد فيها مثل هكذا أسلوب.
ب- ومن ثمّ نتساءل: أيَّ حكم من أحكام الله لم يبينه الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) حتّى تنزل هذه الآية فيه بهذا الأسلوب؟ فجميع الأحكام الشرعية وواجباتها من صلاة وزكاة؛ وصيام وحج وجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... إلى آخره. قد بينها الرسول الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) قبل نزول هذه الآية. إذاً لماذا نزلت هذه الآية بهذا الأسلوب؟
ج- قلنا: إن جميع الأحكام قد بينها الله سبحانه وتعالى في قرآنه الكريم، وعلى لسان رسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) قبل حجة الوداع الّتي هي آخر حجّة للرسول لأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ )، ولم يبق حكم من أحكام الله إلا وقد بينه وأعلنه الرسول، ما عدا أمر الخلافةوالخليفة، فإنّ الله سبحانه وتعالى قد بيّن مَن يستحقّ الخلافة ولديه الأهلية لها في الآية السابقة الّتي ذكرناها، وهي آية: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾.
ولمّا كانت حجّة الوداع أشرفت حياة النبيّ الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) على الرحيل والارتحال إلى الرفيق الأعلى، حيث نزلت ﴿يَا أيّها الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبَّكَ وَإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ (1)؛ لإعلان
ص: 62
الخليفة وتعينه حتّى يكمل الشوط الإيماني وتختم به أحكام الله، وذلك بتنصيب و تعيين علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) أميراً للمؤمنين وخليفة للمسلمين من بعده.
د- شعر الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) في بيان هذا الأمر الإلهي بحرج ما لم يجدّه في البيانات في الأخرى من الأوامر الإلهية الّتي قد بيّنها؛ وذلك بسبب أنّ علي بن أبي طالب المنصوص عليه بالخلافة هو الذي قد ربّاه منذ صباه، وهو ابن عمّه وزوج ابن ته، كلّ هذه الروابط الّتي تشد علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى نفسه قد تشعر الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) بالحرج في إعلان خلافته؛ لئلا يقول الناس: قد انحاز ومال إلى ربيبه وابن عمّه وزوج ابنته. فأخذ يفكّر في كيفية إعلان ذلك البيان الإلهي، ومتى يكون وقته المناسب؟ وإذا بالآية الكريمة تنزل عليه وهو في طريق عودته من حجة الوداع بمكان يقال له: غدير خمّ: ﴿يَا أيَّها الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾.
أيّها النبيّ العظيم، بلغ الأمر الإلهي في تعيين الخليفة من بعدك الذي هو علي بن طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) وإن كانت تشدّك به أواصر القرابة والرحمية والنفسية الّتي تجعلك تتصوّرأنّه لن يُقبل منك هذا الأمر الإلهي؛ فبلّغ ذلك والله عاصمك من أقاويل المغرضين والحاسدين. فعندها جمع النبيّ الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) الناس في مكان يقال له: غدير خم، وقام خطيباً فيهم قائلاً: «ألا مَن كنت مولاه فهذا علىٌّ مولاه» (1).
ومعناه: ألا مَن كنت أولى به وحاكمه فهذا علي أولى به وحاكمه أيضاً بعدي. وعند هذا البيان الإلهي نزلت هذه الآية الشريفة: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
ص: 63
دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينا﴾ (1).
وذكر اليعقوبي في تاريخه ما نصّه: (وخرج ليلاً منصرفاً إلى المدينة، فصار إلى موضع بالقرب من الجحفة يقال له: غدير خم، لثمّاني عشرة ليلة خلت من ذي الحجّة، وقام خطيباً، وأخذ بيد علي بن أبي طالب(عَلَيهِ السَّلَامُ)، فقال: «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم»؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «فمن كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعادِ من عاداه» (2).
ثمّ قال: «أيّها الناس إنّي فرطكم وأنتم واردي عليّ الحوض، وإنّي سائكلّم؟ حين تردون عليَّ عن الثقلين، فانظروا كيف تخلفوني فيهما»؟.
قالوا: وما الثقلان يا رسول الله؟ قال: «الثقل الأكبر كتاب الله سبب طرفه بيد الله وطرف بأيديكم، فاستمسكوا به ولا تضلوا ولا تبدّلوا، وعترتي أهل بيتي»)(3).
وذكر اليعقوبي أيضاً خطبة حجّة الوداع بتفاصيلها قائلاً: ثمّ قال: «لا ترجعوا بعدي كفّاراً مضلّين، يملك بعضكم رقابَ بعض. إنّي قد خلفت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي. ألا هل بلّغت»؟ قالوا: نعم، قال: «اللهم اشهد») (4).
ثمّ إنّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) لم يكتف بهذا البيان الإلهي، بل طلب من المسلمين مبايعة علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) بعهد ولاية المؤمنين حتّى أنّ عمر بن الخطّاب قال لعلي: بخ بخ لك
ص: 64
يابن أبي طالب! أصبحت مولاي ومولى كلّ مسلم (1).
وبهذا البيان انتهى الشوط الإيماني والتشريع الرّباني، وذلك بتمام التشريع و كمال الدين وإتمام النعمة والحمد لله على ذلك.
وهي القائلة بأن الخليفة يتم تعيينه والنصّ عليه من قبل الرسول الكريم حتّى يكون ملزماً للإنسان المسلم؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (2)، ولأنّه: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْى يُوحَى﴾ (3).
فإذا عيّن الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) الخليفة ونصّ عليه فلا يجوز للإنسان المسلم أن يتعدّاه ويتحدّاه، وعلى هذا الأساس نحن نأخذ حديثين من أحاديث الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) الّتي تدلّ وتنصّ على الخليفة من بعده.
وهذا الحديث من الأحاديث المتواترة والمتّفق عليها بين عامّة المسلمين؛ وذلك ما ذكر ابن الأثير في كامله لما نزلت هذه الآية الكريمة في بداية الدعوة إلى الله: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبينَ﴾ (4).
ص: 65
فجمع النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) لأفراد عشيرته على وليمة، وخطب خطبته المشهورة بقوله: «إن الرائد لا يكذب أهله، والله الذي لا إله إلا هو إنّي رسول الله إليكم خاصّة، وإلى الناس عامة... إلى أن قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ): يا بني عبد المطّلب، إنّي والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به؛ قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه، فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟» (1).
فأحجم القوم عن الجواب إلا علي بن أبي طالب، حيث قال: «أنا يا نبيّ الله أكون وزيرك عليه».
فأخذ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) برقبة علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقال: «هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا» (2).
في هذا الحديث عدة إشارات:
أ- هذا الحديث يكشف عن أنّ الخلافة والخليفة في الإسلام من الضروريات، ممّا دعا النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) للاهتمام بتعيين خليفته مقارناً لبداية الدعوة إلى الله ومصحوباً مع قوله: «قولوا لا إله إلا الله تفلحوا»، وقبل تبليغه بالصلاة والزكاة والصيام والحجّ... إلى آخره.
ب- إن هذا الحديث صريح بتعيين الخليفة لرسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ )، فهو قد عيّن خليفته في حياته وفي بداية دعوته، وهذا ينافي قول الذين يفترون على الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) ويقولون بأنه مات ولم يوص لأحد بالخلافة.
ص: 66
وهو من الأحاديث المتواترة والمشهورة والمتّفق عليها عند الفريقين؛ السّنة والشيعة، وهو المروي عن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) بقوله العلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «يا علي، أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنه لا نبيّ بعدي؟» (1).
ونحن إذا تأملنا هذا الحديث الشريف تتّضح لنا النقطتان التاليتان:
1- ما هي وظيفة هارون إذا غاب نبيّ الله موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن قومه؟
الجواب: أنّه كان يدير شؤونه وحكومته بين الناس.
نقول: كذلك كانت وظيفة الإمام علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) إذا غاب النبيّ الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ )؛ فإنّه كان يدير شؤونه وحكومته، ويحكم الناس على هدى الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) ونهجه وتعاليمه، وهذا بموجب الحديث النبوي المذكور (حديث المنزلة).
2- إنّ هارون كان مؤهلاً لاستخلاف موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ)؛ وذلك لتمتّعه بأهلية القيادة وصلاحية النيابة، ولهذا اختاره موسى نائباً له.
نقول: كذلك علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)؛ فإنّه كان يتمتع بالجدارة والأهلية الكاملة، والكفاءة وصلاحية الخلافة؛ ولهذا اختاره الرسول الأکرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) خليفة من بعده، وأعطاه الصلاحيات الّتي كان النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) يتمتّع بها؛ وذلك لإلقاء الحجّة عليهم، فعقد لعلي محفلاً وموكباً للتهنئة بولاية العهد، فكان المسلمون يدخلون عليه مهنّئين ومباركين له بهذه الولاية، فسارع أبو بكر وعمر مع المهنّئين قائلين: (بخٍ بخٍ لك يابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كلّ مؤمن ومؤمنة) (2).
ص: 67
وهذه الفرضية تقول: إن الشخص المرشّح للخلافة لا يأتي إلى دفّة الحكم إلّا عن طريق الانتخابات، فمن يملك أكثرية الأصوات يكون معيّناً لمنصب الخلافة، وهي طريقة حديثة تستعملها الشعوب الّتي تؤمن بالديمقراطية. ولكن الانتخابات لا تكون في نظرنا صالحة فيما إذا كان هناك شخص منصوص عليه في القرآن الكريم والسّنة النبوية كما رأينا ذلك جليّاً في الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)؛ حيث دلّت الآيات والأحاديث عليه نصّاً وتلميحاً.
ولكننا مع هذا كلّه نتنازل فرضاً ونقول بشرعية من تنتخبه الأكثرية.
ولندرس الآن أيّاً من الخلفاء كانت عملية تعيينه واختياره قد تمّت عن طريق الانتخابات حتّى تكون شرعية؛ بن اءً على الرأي الذي يقول بشرعيتها.
مات الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) وهو بعد لم يُدرج في أكفإنّه ولم يُقبر في ملحودة قبره، بل مسجّى على المغتسل، وعلي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) دائب في تجهيزه، وجمع من الصحابة حوله كما يقول الطبري في تاريخه (1)، وإذا بسقيفة بني ساعدة تنعقد لانتخاب الخليفة الذي يحكم المسلمين، ولكن الدارس لأجواء هذه السقيفة يجد هناك تيارات وأحزاباً ثلاثة:
وهم الذين ناصروا النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) وصحابته حينما هاجروا من مكّة إلى المدينة، وآووهم وقدّموا لهم كلّ ما بوسعهم من إمكانيات، ومهّدوا الأرضية
ص: 68
الصالحة والمناسبة لإقامة الدولة الإسلامية الفتية، وهم ينطلقون في حجّتهم وإدعائهم للخلافة من هذا المنطلق العاطفي غير المدروس، ولهذا عيّنوا سعد بن عبادة وأخرجوه إلى السقيفة وهو مريض غير قادر على الحركة، بالإضافة إلى ضعف الشخصية، وأنّه تكلّم في جماعة الأنصار قائلاً بعد أن حمد الله وأثنى عليه: (يا معشر الأنصار لكم سابقة في الدين، وفضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب؛ إن محمّداً (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) لبث في بضع عشرة سنة في قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمن، وخلع الأنداد والأوثان، فما آمن به من قومه إلاّ رجال قليل، وما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رسول الله، ولا أن يُعِزّوا دينه، ولا أن يدفعوا عن أنفسهم ضيماً عمّوا به، حتّى إذا أراد بكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة، وخصّكم بالنعمة، فرزقكم الله الإيمان به وبرسوله، والمنع له ولأصحابه، والإعزاز له ولدينه، والجهاد لأعدائه، فكنتم أشدّ الناس على عدوّه منكم، وأثقله على عدوّه من غيركم حتّى استقامت العرب لأمر الله طوعاً وكرها، وأعطى البعيد المقادة صاغراً داخراً، حتّى أثخن الله عزّوجلّ لرسوله بكم الأرض، ودانت بأسيافكم له العرب، وتوفاه الله وهو عنكم راض، وبكم قرير عين، استبدوا بهذا الأمر دون الناس.
فأجابوه بأجمعهم: أن قد وفقت في الرأي، وأصبت بالقول، ولن نعدوا ما رأيت، نوليك هذا الأمر؛ فإنّك فينا مقنع، ولصالح المؤمنين رضاً) (1).
ولمّا كان اجتماعهم هذا مرتجلاً وغير مدروس، وغير مبني على قاعدة معيّنة وقناعة كاملة فإنّه وقع الاختلاف والوهن بينهم كما سنرى في حزب الشيخين.
ص: 69
وهذا الحزب يمثل جماعة معيّنة تُعدّ بالأصابع لقلّتها، ولكنّها ذكيّة ومخطّطة تعمل بصمت، ولديها اجتماعات منظّمة في عهد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) من أجل استلام ولمّا الحكم بعد وفاته كما سيتّضح ذلك - ويتّزعم هذا الحزب أبو بكر وعمر.
و امّا سمع أبو بكر وعمر بخبر اجتماع السقيفة أسرعا إليها مع أبي عبيدة بن الجرّاح، وذهل الأنصار من مجيئهم، واستمعوا إلى مقالة الأنصار ورأيهم بالخليفة، فعندها سبق أبو بكر عمر بالكلّام، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: (إنّ الله بعث محمّداً رسولاً إلى خلقه، وشهيداً على أمته؛ ليعبدوا الله ويوحدوه، وهم يعبدون من دونه آلهة شتّى، ويزعمون أنها لهم عنده شافعة، ولهم نافعة، وإنّما حجر منحوت وخشب منحور. ثمّ قرأ: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ هي يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾، وقالوا: ﴿مَا نَعْبُدَهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى﴾.
فعظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم، وخصّ الله المهاجرين الأوّلين من قومه بتصديقه والإيمان به، والمواساة له، والصبر معه على شدّة أذى قومهم لهم وتكذيبهم إياهم، وكلّ الناس لهم مخالف، زارٍ عليهم، فلم يستوحشوا قلّة عددهم وشنف الناس لهم، وإجماع قومهم عليهم، فهم أوّل مَن عَبد الله في الأرض، وآمن بالله وبالرسول، وهم أولياؤه، وعشيرته، وأحقّ الناس بهذا الأمر من بعده، لا ينازعهم ذلك إلا ظالم.
وأنتم يا معشر الأنصار مَن لا يُنكر فضلهم في الدين، ولا سابقتهم العظيمة في الإسلام، رضيكم الله أنصاراً لدينه ورسوله، وجعل إليكم هجرته، وفيكم جلّة
ص: 70
أزواجه وأصحابه، فليس بعد المهاجرين الأوّلين عندنا بمنزلتكم، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، ولا تفتاتون بمشورة، ولا نقضي دونكم الأمور) (1).
وهنا وقع الاختلاف والقيل والقال بين الأنصار أنفسهم وبين الشيخين، فعندها قام الحباب بن المنذر بن الجموح مناصراً لحزب الأنصار، قائلا: (يا معشر الأنصار)، املكوا عليكم أمركم؛ فإن الناس في فيئكم وفي ظلّكم، ولن يجترئ مجترئ على خلافكم، ولن يصدر الناس إلّا عن رأيكم، أنتم أهل العزّ والثروة، وأولوا العدّة والعدد، والمنعة والتجربة، ذووا البأس والنجدة، وإنّما ينظر الناس إلى ما تصنعون، ولا تختلفوا فيفسد عليكم رأيكم، وينتقض عليكم أمركم، فإن أبى هؤلاء إلا ما سمعتم فمنّا أمير ومنهم أمير (2).
وهنا انبرى عمر بن الخطّاب رادّاً على مقالة الحباب بن المنذر بقوله: (هيهات! لا يجتمع اثنان في قرن، والله لا ترضى العرب أن يؤمّروكم ونبيّها من غيركم، ولكن العرب لا تمتنع أن تولّي أمرها من كانت النبوّة فيهم، وولي أمورهم منهم، ولنا بذلك على من أبى من العرب الحجّة الظاهرة والسلطان المبين. من ذا ينازعنا سلطان محمّد وأمارته ونحن أولياؤه وعشيرته، إلّا مدل بباطل أو متجانف لإثمّ أو متورّط في هلكة)(3).
فقام إليه الحباب بن المنذر، فأجابه راداً عليه بصورة عنيفة ومخاطباً الأنصار: (يا معشر الأنصار، املكوا على أيديكم، ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بن صيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم ما سألتموه فاجلوهم عن هذه البلاد،
ص: 71
وتولّوا عليهم هذه الأمور؛ فأنتم والله أحقّ بهذا الأمر منهم، فإنّه بأسيافكم دان لهذا الدين من دان ممّن لم يكن يدين. أنا جذيلها المحكّك، وعذيقها المرجّب، أما والله لئن شئتم لنعيدنها جذعة).
فقام إليه عمر مهدّداً وقائلاً: إذاً يقتلك !الله !
فردّ عليه الحباب بن المنذر بقوله: بل إيّاك يقتل.
ثمّ تطوّر الأمر وكثر النزاع والخصام بين الأنصار وبين الشيخين ومن كان معهم، فقام أبو عبيدة بن الجراح وخاطب الأنصار بقوله: (يا معشر الأنصار، إنكم أوّل مَن نصر وآزر، فلا تكونوا أوّل من بدل وغيّر).
ولمّا كادت الفتنة تأتي لقاحها قام رجل من الأنصار، واسمه بشير بن سعد والد النعمان بن بشير، فقال: (يا معشر الأنصار، إنا والله لئن كنا أولي فضيلة في جهاد المشركين، وسابقة في هذا الدين ما أردنا به إلا رضا ربّنا وطاعة نبيّنا والكدح لأنفسنا، فما ينبغي لنا أن نستطيل على الناس بذلك... إلّا أن محمّداً (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) من قريش، وقومه أحقّ به وأولى وايم الله، لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر أبداً، فاتقوا الله ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم) (1).
وبعد مقالة بشير بن سعد هذه اضطرب الجوّ في السقيفة، ووقع الوهن والاختلاف بين الأنصار، فانتهز أبو بكر الفرصة واستغلّ هذا الجو لصالحه، وذلك بالقيام بعمل يسحب بساط الخلافة من بين أيدي الأنصار، وإذا به يعلن ترشيح اثنين من أعضاء حزبه مع علمه بأنهما سيردان إليه ترشيحه بإصرار، ولهذا توجّه
ص: 72
إلى عمر وأبي عبيدة الجرّاح بقوله: هذا عمر، وهذا أبو عبيدة، فأيّهما شئتم فبايعوا.
فأجابه عمر وأبو عبيدة على الفور بقوليهما : (لا والله لا نتولى هذا الأمر عليك؛ فإنك أفضل المهاجرين، وثاني اثنين إذ هما في الغار، وخليفة رسول الله على الصلاة، والصلاة أفضل دين المسلمين، فمن ذا ينبغي له أن يتقدّمك أو يتولى هذا الأمر عليك. أبسط يدك نبايعك) (1).
فسارع عمر وأخذ بيدي أبي بكر فبايعه، وتبعه أبو عبيدة في المبايعة ومعه بشير بن سعد، ثمّ قام أسيد بن خضير أحد نقباء الأوس مخاطباً الأوس بقوله: (والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرّة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة، ولا جعلوا لكم فيها نصيباً أبداً، فقوموا فبايعوا أبا بكر).
قام بعض الحاضرين وبايع أبا بكر، وزاحموا سعد بن عبادة وهو مريض مسجّى على فراشه فقال بعض أصحابه: اتّقوا سعداً ولا تطؤوه.
فوقف عمر على رأس سعد قائلاً: اقتلوه قتله الله، ولقد هممت أن أطأك حتّى تندر عضدك. فأخذ سعد بلحية عمر قائلا: (والله، لو حصصت منه شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة. أما والله لو أنّ بي قوة ما أقوى على النهوض لسمعت منّي في أقطارها وسكسكها زئيراً يحجرك وأصحابك. أما والله إذاً لألحقنك بقوم كنت فيهم تابعاً غير متبوع) (2).
ص: 73
فالتفت أبو بكر إلى عمر قائلا: مهلاً يا عمر، الرفق هاهنا أبلغ. فأعرض عنه عمر.
ثمّ إنّ سعد بن عبادة امتنع هو وجماعة معه من الأنصار عن مبايعة أبي بكر، وبعد أيّام أعادوا عليه البيعة قائلين له: بايع كما بايع غيرك.
فرفض البيعة أيضاً، وبقي مصراً قائلا: (أما والله حتّى أرميكم بما في كنانتي من نبلي، وأخضّب سنان رمحي، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي، وأقاتلكم بأهل بيتي ومَن أطاعني من قومي، فلا أفعل وايم الله لو أن الجن اجتمعت لكم الإنس ما بايعتكم حتّى أعرض على ربي، وأعلم ما حسابي) (1).
ولمّا وصل إلى أبي بكر نبأ امتناع سعد بن عبادة وجماعته عن البيعة وإصرارهم على ذلك استشار في أمره، فقال عمر: لا تدعه حتّى يبايع.
وأدلى بشير بن سعد برأيه ناصحاً قائلا: (إنّه قد لجّ وأبى، وليس بمبايعكم حتّى يقتل، وليس بمقتول حتّى يقتل معه ولده وأهل بيته وطائفة من عشيرته، فاتر کوه، فلیس ترکه بضاركم، إنما هو رجل واحد.
فأخذ أبو بكر برأي بشير، وقبل مشورته، فترك سعداً لشأنه، فكان لا يصلّي بصلاتهم ولا يجمع معهم، ولا يحجّ ولا يفيض معهم بإفاضتهم، فلم يزل كذلك حتّى مات أبو بكر) (2).
ص: 74
قلنا فيما سبق: إنّ أفراد هذا الحزب كانوا يتمتّعون بذكاء ودهاء وتخطيط، ولكنّهم مع كلّ هذا وقعوا في مفارقات وتناقضات في تصرفاتهم وأقوالهم، فنحن لو استعرضنا ذلك بشكلّ أرقام وحقائق موضوعية بعيدة عن كلّ ألوان التعصب لرأينا أن أفراد هذا الحزب كانوا يخططون في حياة الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) لاستلام الحكم بعد مماته، وهي كما يلي:
النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) جليس الدار والفراش بسبب المرض الذي ألمّ به، والأصحاب تتوافد عليه لزيارته، يستلهمون منه الحكم والمواعظ والوصايا والعهود، وهو على ضعف بدنه وشدّة مرضه لا يترك فرصة إلّا وملأها حكمة وموعظة وعهداً؛ لأنّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) لا يختلف نطقاً في أيّام صحته وأيّام مرضه؛ لأنّه رسول الله وخاتم أنبيّائه وسيّد رسله، فهو كما يقول القرآن الكريم: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ (1).
وقد نصّ على ذلك النووي بقوله: (اعلم أن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) معصوم من الكذب، ومن تغيير شيء من الأحكام الشرعية في حال صحّته وحال مرضه، ومعصوم من ترك بيان ما أمر ببيانه، وتبليغ ما أوجب الله عليه تبليغه) (2).
وبينما كان النبيّ الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) ينشد لأصحابه المحدقين حول فراش مرضه أحاديثه وإرشاداته، ومواعظه وحكمه، ويرسم لهم غداً مشرقاً لا خلف فيه ولا اختلاف إذا ما ساروا عليه ومشوا على دربه.
ص: 75
ولمّا أراد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) أن يحدّد لأصحابه معالم هذا الخطّ بكتاب، كما رواه لنا البخاري في صحيحه بقوله: حدّثنا يحيى بن سليمان قال: حدّثني ابن وهب قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن ابن عبیدالله بن عبد الله، عن ابن عبّاس قال: (لما اشتدّ بالنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ )، وجعه قال: «ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده»، قال عمر: إنّ النبيّ غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا، فاختلفوا، وكثر اللغط، قال: «قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع». فخرج ابن عبّاس يقول: إنّ الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) وبين کتابه) (1).
وإذا بعمر بن الخطّاب ، وهو أحد أفراد هذا الحزب، أحسّ بدهائه وذكائه اَنّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) يريد تعيين الخلافة من بعده لعلي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فانبرى بقوله: إنّ النبيّ غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا.
وذكر أحمد بن حنبل ومسلم في صحيحه أن الرسول (يهجر) (2)، ممّا سبّب هذا القول الاختلاف والتنازع بين الاصحاب، وقد تأثر النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) من قول عمر وما أحدثه من اختلاف بين الصحابة، فزجرهم قائلاً: «قوموا عنّي، ولا ينبغي عندي التنازع».
وهذا أوّل بذر اختلاف بين الصحابة، ومن جرّائه وامتداده نشأت الاختلافات والحروب والفتن، وبذرت نوازع الشرّ بين المسلمين؛ ولهذا نرى الشربين عبد الله بن عبّاس (رَضِیَ اللهُ عَنهُ) يئنّ ويتألم ويحترق قلبه حزناً وألماً، ودموعه تنهمر على لحيته ويقول: إنّ الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) وبين كتابة العهد.
ص: 76
ومن هذا الحديث ينكشف لنا أنّ أفراد هذا الحزب كيف كانوا يخطّطون لاستلام الحكم بعد وفاة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ )، ولهذا منع عمر الرسول الكريم من كتابة الكتاب الذي لا ضلال بعده؛ لأن عمر علم بحسه وفطنته أن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) يريد أن يكتب في هذا الكتاب اسم الخليفة بعده.
وهذا المعنى قد ذكره الكرماني في (شرح صحيح البخاري) بأحد الوجهين بقوله: (إنّه أراد أن يكتب اسم الخليفة بعده؛ لئلّا يختلف الناس ولا يتنازعوا، فيؤدّيهم ذلك إلى الضلال) (1).
ولو كان عمر بن الخطّاب يعلم أن الخليفة الذي يريد الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) تعيينه هو أحد أفراد حزبه لمّا قال مقالته هذه ولكنّه علم بحسّه وتقديره أن الذي يريد تعيينه هو علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ولهذا بادر النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) بقوله: غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا.
ونقل ابن الجوزي عن الغزالي قوله: (ولما مات رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) قال قبل وفاته بيسير: «ائتوني بدواة وبياض لأكتب لكم كتاباً لا تختلفوا فيه بعدي». قال عمر: دعوا الرجل فإنّه ليهجر) (2).
فحرم المسلمين من الوحدة والاتّحاد، وقد قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ (3).
ص: 77
وقال سبحانه وتعالى أيضاً: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن وَلَا مُؤْمِنَة إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مبيناً﴾ (1).
من المفارقات والتناقضات الّتي وقع فيها أفراد هذا الحزب هي أن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) أمر بتجهيز وتنفيذ جيش أسامة قائلا: «نفّذوا جيش أسامة، لعن الله مَن تخلف عن جيش أسامة» (2).
وأسامة هذا هو ابن زيد بن حارثة، وقد أمره الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) بغزو الروم، وهي آخر سرية له في حياته، ولهذا اهتم بها النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) وعبأ لها وجوه الصحابة؛ كأبي بكر وعمر، وأبي عبيدة وسعد وأمثالهم، كما عليه (تاريخ الطبري) و (السيرة الحلبية)، لأربع ليال بقين من صفر سنة إحدى عشرة للهجرة النبوية، فإنّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) دعا أسامة، فقال له: «سر إلى موضع قتل أبيك، فأوطئهم الخيل، فقد وليتك هذا الجيش، فأغز صباحاً على أهل أبنى، وأسرع السير لتسبق الأخبار، فإن أظفرك الله عليهم فأقلّ اللبث فيهم، وخذ معك الأدلّاء، وقدم العيون والطلائع معك» (3).
وهنا نقف قليلاً متسائلين وقائلين:
1- لماذا لم يُنفّذ الأمر النبوي؟ ولماذا هذا التخلف عن أمر رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) المطاع مع تأكيده بصيغة الأمر الدالّ على وجوب التنفيذ فوراً، مثل: «نفذوا جيش
ص: 78
أسامة فاغزوا صباحاً على أهل أبنَى وأسرع السير لتسبق الأخبار، واغد على بركة الله...» إلى ما هنالك من الجمل الدّالة على وجوب التهيئة والإسراع بالتنفيذ، مع اهتمام الرسول الشديد وهو في الحالة المرضية الّتي سببت له الوفاة؟
2- إن تخلّف بعض أفراد هذا الحزب عن تنفيذ جيش أسامة له ارتباط بعدم إتيان الكتاب الذي أمر بإحضاره الرسول الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) ليكتب عهداً لن تضل الأمة بعده، فقال أحد أفراد هذا الحزب معبراً عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) بأنّه: غلبه الوجع، وحسبنا كتاب الله (1).
إنّهم علموا أن تنفيذ جيش أسامة معناه إفساح المجال لعلي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)؛ لأن الساحة تكون خالية منهم، وهو المقصود والمطلوب للنبيّ الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) من تنفيذ جيش أسامة حتّى يخلو الجو لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) من معارضيه، فيتمّ تعيينه وتنصيبه، ولهذا لم ينفذوا جيش أسامة، كما منعوا النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) من قبل أن يكتب الكتاب الذي لا ضلال بعده؛ لأنّهم علموا أن مقصود النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) من كتابة هذا الكتاب هو تعيين الخليفة من بعده مباشرة، كما ذكر الكرماني في شرحه لصحيح البخاري (2).
ومن المفارقات والتناقضات الّتي وقع فيها أفراد هذا الحزب هو الاضطراب والتناقض في اتّخاذ المواقف والتبريرات لأساليبهم، فهم حينما يرون أنّه لا يمكن الحصول على الخلافة إلّا عن طريق الإدّعاء بأنّهم أولياء رسول الله وقرابته وعشيرته، وأن الأُمّة لن ترضى للخليفة إلّا أن يكون من عشيرته ولحمته، نراهم
ص: 79
أسرع الناس للإدعاء بذلك، وفرض أنفسهم من عشيرة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) وقرابته، كما جاء في (تاريخ الطبري) أن عمر بن الخطّاب في سقيفة بني ساعدة قام محتجاً على الأنصار، وراداً عليهم بقوله : (هيهات! لا يجتمع اثنان في قرن، والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيّها من غيركم، ولكن العرب لا تمتنع أن تولّي أمرها مَن كانت النبوّة فيهم، وولي أمورهم منهم، ولنا بذلك على من أبي من العرب الحجّة الظاهرة والسلطان المبين. من ذا ينازعنا سلطان محمّد وأمارته ونحن أولياؤه وعشيرته، إلا مدل بباطل أو متجانف لإثمّ أو متورّط في هلكة) (1).
وبعد ما استلم أفراد هذا الحزب الحكم، وتولّى الخلافة أبو بكر، ومن بعد وفاته خصّها بعمر بن الخطّاب ، واستولى عمر على الخلافة، وحصل على الأمنية الّتي كان يخطط لها من أيّام رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ )، وإذا به نراه يناقض القول الذي خاطب به الأنصار في يوم السقيفة، كما يحدّثنا بذلك ابن أبي الحديد المعتزلي، بقوله: (قال أبو بكر: وحدّثني أبو زيد، قال: حدّثنا هارون بن عمر، بإسناد رفعه إلى ابن عبّاس، قال: تفرّق الناس ليلة الجابية عن عمر، فساركلّ واحد مع إلفه، ثمّ صادف عمر تلك الليلة في مسيرنا، فحادثته، فشكى إليّ تخلّف علي عنه، فقلت: ألم يعتذر إليك؟ قال: بلى. فقلت هو ما اعتذر به. قال: يابن عبّاس، إنّ أوّل مَن ريَّثكم عن هذا الأمر أبو بكر، إنّ قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة والنبوّة. فقلت: لماذا يا أمير المؤمنين؟ ألم تنلهم خيراً؟ قال: بلى ولكنّهم لو فعلوا لكنتم عليهم جحفاً جحفاً) (2).
ص: 80
فلنرى لماذا هذا التناقض والبعد عن الحقيقة والواقع؟ فهم حينما يستدعي القول والادّعاء بأنّ الخليفة لا يستحقّ الخلافة إلّا بالقرابة والعشيرة، فهم أوّل المدّعين والمنادين به كما رأينا في النصّ المذكور سلفاً، وإذا اصطدموا بمن يستحقّ الخلافة بكلّ أبعادها بما فيها القرابة، وهو علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)؛ لأنّه أقرب الناس إلى رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) نسباً وسبباً، فنراهم ينكرون ما احتجوا به على الأنصار، ويقول عمر لابن عبّاس: إن قومكم كرهوا أن يجمعوا فيكم الخلافة والنبوّة.
أليس كلّ هذا التناقض وهذه المفارقات من أجل الحصول على كرسي الخلافة لا غير؟ لأن عمر بن الخطّاب يرى أنّ من يزاحم الخليفة القريب من رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ): ما هو إلّا مدل لباطل، أو متجانف لإثمّ، أو متورّط في هلكة، كما رأينا ذلك في احتجاجه على الأنصار بالسقيفة، وإذا به يستلم الخلافة مع وجود علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) الّذي هو أقرب منه إلى رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ )، فهو أولى بها منه. وأخيراً نحن نحتج على من زاحم عليا (عَلَيهِ السَّلَامُ) بالخلافة بقول عمر: من ذا ينازعنا سلطان محمّد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدل بباطل، أو متجانف لإثمّ، أو متورّط في هلكة (1)؟!
ومن خلال هذا العرض السريع نرى أن بيعة أبي بكر لم تأت عن انتخاب الأمّة لها، وإنّما هي عملية مرتجلة وخطرة قام بها حزب الشيخين، وكان الخطر
محدقاً معهما بإشعال فتنة الحرب بين الأنصار وحزب الشيخين، والرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) بعد مسجّى على المغتسل لم يدرج بأكفإنّه، ولكن الله وقى شرها، وقد عرف
ص: 81
خطورة هذا الموقف الارتجالي عمر بن الخطّاب ، فعبّر عنها بقوله: إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله المسلمين شرّها، فمَن عاد لمثلها فاقتلوه (1).
ولهذا تخلّف عن هذه البيعة عدد من الأنصار مثل سعد بن عبادة، وكثير من الصحابة أمثال: علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) والعبّاس، وسائر بني هاشم، وأسامة بن زيد، والزبير، وسلمان الفارسي، وأبي ذر الغفاري، والمقداد بن عمرو، وعمّار بن ياسر، وحذيفة بن اليمان، وخزيمة بن ثابت، وأبي بريدة الأسلمي، والبراء بن عازب، وأبي بن كعب، وسهل بن حنيف، وقيس بن سعد، وأبي أيوب الأنصاري، وجابر بن عبد الله، وخالد بن سعيد وغيرهم (2)، وهؤلاء هم من خيرة أهل الحل والعقد.
وعلى هذا الأساس كانت بيعة أبي بكر جبراً وقهراً، وحمل الناس على البيعة بالإجبار والإكراه كما ذكر ذلك ابن قتيبة في (تاريخ الخلفاء) (3).
وبهذا الشكلّ نرى الخلافة قد أبعدت عن مستحقها وصاحبها الحقيقي وهو علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فإنّه عبّر عن ذلك بقوله: «أما والله لقد تقمّصها ابن أبي قحافة، وأنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحى، ينحدر عنّي السيل، ولا يرقى إلىّ الطير» (4).
من هذه المفارقة الثالثة يتضح لنا ما يلي:
ص: 82
أ- إن خلافة أبي بكر لم تأتِ عن طريق الانتخاب، بل جوبهت بمعارضة جل الصحابة من ذوي الحل والعقد، بما فيهم العبّاس عم النبيّ صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) كما ذكرنا.
ب- إنّها جاءت عن طريق إجبار الناس وأخذ البيعة بالقهر والإكراه، كما صرّح بذلك ابن قتيبة في (تاريخ الخلفاء) وغيره.
ج- إنّها قدمت المفضول على الأفضل (1)، وبذلك حرموا الإسلام والمسلمين من قيادة الرجل الأفضل الأصلح الأقدر، ممّا أثر على المسيرة الإسلامية السليمة حتّى يومنا هذا.
وأمّا البيعة لعمر بن الخطّاب فإنّها أيضاً لم تأتِ عن الانتخابات والمشورة، وإنّما كانت رغبة أبي بكر بذلك، وقد أراد أبو بكر أن يستعين في تأييد رأيه برأي عبدالرحمن بن عوف وعثمان بن عفّان، فلم يشيرا عليه بالتأييد والتأكيد، كما يحدّثنا الطبري بذلك، وهذا نصّه فيما ذكر ابن سعد عن الواقدي، عن ابن أبي سبرة، عن عبد المجيد بن سهيل، عن أبي سلمة بن عبدالرحمن قال: لمّا نزلت بأبي بكر الوفاة دعا عبدالرحمن بن عوف، فقال: أخبرني عن عمر. فقال: یا خليفة رسول الله، هو والله أفضل من رأيك فيه من رجل، ولكن فيه غلظة فقال أبو بكر: ذلك لأنّه يراني رقيقاً، ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيراً ممّا هو عليه (2).
ص: 83
واستشار أيضاً عثمان بن عفّان، ولكنّه لم يدل برأي، كما حدّثنا بذلك الطبري في تاريخه بقوله: ثمّ دعا عثمان بن عفّان، فقال: يا أبا عبد الله، أخبرني عن عمر. قال: أنت أخبر به (1).
فرأينا استشارته لهذين الشخصين، وأنّهما لم يبديا تأييداً له؛ فأمّا عبدالرحمن فقال واصفاً عمر بأنّ فيه غلظة، وأمّا عثمان فقال: أنت أخبر به. وكلّاهما لا يدلّ على التأييد.
ثمّ نحن نتساءل: لماذا اقتصر أبو بكر على هذين الشخصين فقط، في اختيار الخليفة؟
أولا: هل إنّ أمر الخلافة أمر عادي وبسيط بحيث لا يحتاج إلى مشورة ذوي العقل والإيمان من المسلمين؟
ثانياً: هل الاقتصار على نفرين هو تطبيق للآية الكريمة: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾؟ ثمّ كيف أسرع في كتابة عهده بتعيين عمر بن الخطّاب خليفة على المسلمين؟
ثمّ إنّا نرى كيف أسرع أبو بكر في كتابة عهد تعيين عمر خليفة للمسلمين من بعده وهو مسجّى على فراش الموت، وفي حالة مرضية خطرة، يغمى عليه ساعة بعد ساعة، فدعا عثمان بن عفّان كما في رواية الطبري في تاريخه بقوله: (قال أبو جعفر: وقال الواقدي: حدّثني إبراهيم بن أبي النضرة عن محمّد بن إبراهيم بن حارث، قال: دعا أبو بكر عثمان خالياً، فقال له اكتب بسم الله
ص: 84
الرحمن الرحيم، هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين. أمّا بعد، قال: ثمّ أغمي عليه، فكتب عثمان، أمّا بعد فإنّي قد استخلفت عليكم عمر بن الخطّاب ، ولم آلكم خيراً منه، ثمّ أفاق أبو بكر، فقال: اقرأ عليّ، فقرأ عليه، فكبّر أبو بكر وقال أراك خفت أن يختلف الناس إن افتلتت نفسي في غشيتي. قال: نعم. قال: جزاك الله خيراً عن الإسلام وأهله، وأقرها أبو بكر) (1).
ثمّ إنّه لم يكتف بهذا التعيين والعهد الذي كتبه عثمان، بل أسرع وهو في حالة المرض الذي توفّي فيه، فأشرف على روشنة بيته، كما حدّثنا الطبري بذلك أيضاً، قال: (حدّثنا ابن حميد قال حدّثنا يحيى بن واضح، حدّثنا يونس بن عمر، عن أبي السفر، قال: أشرف أبو بكر على الناس من كنيفه، وأسماء ابنة عميس ممسكته، موشومة اليدين، وهو يقول: أترضون بمن أستخلف عليكم؟ فإنّي والله ما ألوت من جهد الرأي، ولا وليت ذا قرابة، وإنّي قد استخلفت عمر بن الخطّاب ، فاسمعوا له وأطيعوا. فقالوا: سمعنا وأطعنا) (2).
المسلمون لم يستقبلوا بارتياح تعيين عمر خليفة لهم، ولهذا لم يندفعوا لمبايعته، ممّا جعل عمر يحثّ المسلمين على مبايعته، وبيده جريدة نخل، كما يحدّثنا الطبري بذلك في تاريخه، بقوله: (قال: حدّثني عثمان بن يحيى، عن عثمان القرقساني قال: حدّثنا سفيان بن عيينة، عن إسماعيل، عن قيس قال: رأيت عمر بن الخطّاب وهو يجلس والناس معه، وبيده جريدة وهو يقول: أيّها الناس،
ص: 85
اسمعوا وأطيعوا قول خليفة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ )، أنّه يقول: إنّي لم آلكم نصحاً. قال: ومعه مولى لأبي بكر يقال له: شديد معه الصحيفة الّتي فيها استخلاف عمر)(1).
ولنا هنا وقفة تأمل واستيضاح من الصحابي عمر بن الخطّاب ، ونتساءل:
1- لماذا لم يمنع وصية أبي بكر في حال مرضه كما منع وصية رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) حينما أراد أن يكتب للمسلمين عهداً لم يضلوا بعده أبداً، مع أنّه يعلم أنّ النبيّ ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾، فكان يخذل المسلمين بعدم إتيان الدواة والكتاب بقوله: حسبنا كتاب الله، إن الرجل غلبه الوجع (2).
بينما هنا نراه يحثّ المسلمين على تنفيذ وصية أبي بكر الّتي كتبها وهو في حالة مرضية شديدة حتّى كان يغمى عليه وتوفّي على إثرها، ويقول: أيّها الناس، اسمعوا وأطيعوا قول خليفة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ )، فإنّه يقول: إنّي لم آلكم نصحاً، كما رأينا ذلك فى حديث الطبري (3).
أليس من الأجدر والأولى إسلاميّاً وشرعياً كان عليه أن يلتزم بتنفيذ وصية رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ )، وهو الذي أمرنا الله باتّباعه بقوله: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ حتّى ينجي المسلمين من الضلال والضياع كما هو الحال الآن؟
فإذا قال عمر: لأن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) أراد أن يكتب وصيته في حال مرضه الذي توفّي فيه. فنقول: أليست وصية أبي بكر كتبت في حال مرضه الذي توفي فيه، وأنّه حينما طلب من عثمان أن يكتب الوصية بقوله: هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي
ص: 86
قحافة إلى المسلمين، ثمّ أغمي عليه، فكتب من عنده: أما بعد، فإنّي قد استخلفت عليكم عمر بن عمر بن الخطّاب ، فلمّا أفاق أبو بكر أقرّه على ما كتب؟! (1)
فنحن نتساءل هنا:
1- أوصيّة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) أحقّ بالتنفيذ شرعاً وعرفاً أم وصية أبي بكر؟
2- لماذا لم يقل عمر لأبي بكر حسبنا كتاب الله، إن الرجل غلبه الوجع، كما قالها لرسول الله، مع أن السبب واحد، وهو المرض؟
3- هل إن أبا بكر بوصيته هذه يهتم بأمور المسلمين أكثر من اهتمام رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) بأمورهم وحرصاً على وحدتهم؟
4- أيحقّ لأبي بكر أن يوصي بالخليفة من بعده ولا يحقّ ذلك لرسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ )؟ كلّ هذه التساؤلات ينبغي أن نطرحها ونتساءل عنها بروح موضوعية، ونحلل ماذا كان يراد منها؟، طالبين بذلك الحقيقة، بعيدين عن كلّ ألوان التعصّب؛ حتّى نتوصّل إلى الواقع الإسلامي المفروض، وإلى الوحدة الإسلامية المطلوبة.
لمّا طعن عمر واستيقن بوفاته وقُربَ أجله أوصى أن يكون الأمر شورى بين ستّة من صحابة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ )، على أن يجتمعوا وينتخبوا واحداً منهم، كما حدّثنا اليعقوبي في تاريخه بقوله: (وصيّر الأمر شورى بين ستّة نفر من أصحاب رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفّان، وعبدالرحمن بن عوف، والزبير بن العوّام، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقّاص، وقال: أخرجت سعيد بن زيد لقرابته منّي. فقيل له في ابن ه عبد الله بن عمر، قال: حسب آل
ص: 87
الخطّاب ما تحمّلوا منها ! إن عبد الله لم يحسن أن يطلق زوجته. وأمر صهيباً أن يصلي بالناس حتّى يتراضوا من الستّة بواحد واستعمل أبا طلحة زيد بن سهل الأنصاري، وقال: إن رضي أربعة وخالف الاثنان فاضرب عنق الاثنين، وإن رضي ثلاثة وخالف ثلاثة فاضرب أعناق الثلاثة الذين ليس فيهم عبدالرحمن، وإن جازت ثلاثة الأيام ولم يتراضوا بأحد فاضرب أعناقهم جميعاً.
وكان الشورى بقية ذي الحجّة سنة (23)، وصهيب يصلي بالناس) (1).
ولمّا توفّي عمر بن الخطّاب اجتمع الرجال الستّة الذين رُشحوا لمنصب الخلافة من بعده، ليختاروا واحداً منهم ليكون خليفة للمسلمين، وهم:
1 - الإمام علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ).
2- عثمان بن عفّان.
3- طلحة بن عبيد الله.
4- الزبير بن العوام.
5- عبد الرحمن بن عوف.
6- سعد بن أبي وقّاص.
ولمّا اجتمعوا تنازل بعضهم عن ترشيح نفسه لصالح البعض الآخر:
الزبير: تنازل لصالح الإمام علي بن أبي طالب(عَلَيهِ السَّلَامُ).
طلحة: تنازل لصالح عثمان بن عفّان.
سعد: تنازل لصالح عبدالرحمن بن عوف.
فصار المرشّحون ثلاثة:
ص: 88
الإمام علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) وصوت الزبير إلى جانبه.
عثمان بن عفّان: وصوت طلحة إلى جانبه.
عبدالرحمن بن عوف: وصوت سعد إلى جانبه.
ثمّ التفت عبدالرحمن بن عوف إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) لا عارضاً عليه الخلافة بشروط، قائلا: (عليك عهد الله وميثاقه لتعملنّ بكتاب الله وسنّة نبيّه وسيرة الخليفتين) (1).
فأجابه علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) بالرفض قائلا: «تبايعني على كتاب الله وسنّة رسوله واجتهاد رأيي».
ثمّ توجه عبدالرحمن بن عوف هذا إلى عثمان بن عفّان مبايعاً له بالشروط، فقبلها عثمان بكلّ ترحاب، ثمّ ضربها عرض الحائط (2).
وهكذا تمّت البيعة لعثمان بن عفّان بأربع أصوات فقط؛ وهي: صوت عثمان ومعه صوت طلحة، وصوت عبدالرحمن ومعه صوت سعد بن أبي وقاص لا غير.
وهنا لنا ملاحظات وتساؤلات
1- هل يمكن اختيار الخليفة الأصلح للمسلمين بأربع أصوات؟
2- لماذا أوصى الخليفة عمر بضرب أعناق الثلاثة الذين ليس فيهم عبدالرحمن بن عوف؟ لأنّ عمر كان يعرف أنّه لا انسجام بين فكر علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وفكر عبدالرحمن، ولا يمكن لهما أن يتوافقا على شيء، ولهذا قال علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) لعبد الرحمن: «أنت مجتهد أن تزوي هذا الأمر عنّي» (3).
ص: 89
3- لقد وجّهت انتقادات شديدة لهذه العملية، وتحامل القوم في القول على عثمان، وتأثر بقية الصحابة من هذه المسرحية وتألّموا أمثال: سلمان الفارسي، وأبو ذرّ الغفاري، عبد الله بن مسعود، المقداد بن عمرو، وقد ذكر ذلك اليعقوبي في تاريخه عن بعض الصحابة قائلاً: (دخلت مسجد رسول الله، فرأيت رجلاً جاثياً على ركبتيه يتلهّف تلهّف من كأن الدنيا كانت له فسلبها وهو يقول: وا عجباً لقريش ودفعهم هذا الأمر عن أهل بيت نبيّهم، وفيهم أوّل المؤمنين، وابن عمّ رسول الله؛ أعلم الناس وأفقههم في دين الله، وأعظمهم غناءً في الإسلام، وأبصرهم في الطريق، وأهداهم بالصراط المستقيم! والله لقد زووها عن الهادي المهتدي، الطاهر النقي، وما أرادوا إصلاحاً للأُمة، ولا صواباً في المذهب، ولكنّهم آثروا الدنيا على الآخرة، فبعداً وسحقاً للقوم الظالمين!
فدنوت منه فقلت: من أنت يرحمك الله، ومن هذا الرجل؟ فقال: أنا المقداد بن عمرو، وهذا الرجل علي بن أبي طالب) (1).
4- لماذا رفض الإمام اقتراح عبدالرحمن بن عوف بإضافة الالتزام بسيرة الشيخين؟ وذلك لأن الإمام علياً هو المصداق الحقيقي للإنسان المسلم الملتزم، فإنّه يأبى أن يقبل شرط سيرة الشيخين؛ لأنّه يرى ألّا داعي له في الالتزام بسيرتهما ما دام يرى نفسه أعلم الصحابة، وأكثرهم فقهاً، والخلافة في ذلك الوقت كانت الدنيا بأسرها، خصوصاً بعد ما انهارت إمبراطوريتا الفرس والروم، فعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) رفض أن يقبلها مع أهميّتها في قبال ألا يخالف شرطاً اشترط عليه، فرفض الدنيا بأسرها في رفضه إياها إزاء مخالفته لشرط واحد.
ص: 90
لذا رأينا كيف أنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أبى أن يسجّل مخالفة واحدة في صفحة حياته الطويلة مع استعداده الكامل لرفض الخلافة بكلّ صلاحيتها وأمّتيازاتها؛ حتّى لا يقع في محذور مخالفة الشرط الذي اشترط عليه، فلولا هذه الالتزامية في السلوك لما كان يعقل أن يرفض إنسان الدنيا بأسرها في قبال عدم مخالفته لشرط واحد، ولكن تربية الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) الإسلامية الّتي غرسها الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) وأشرف عليها هي الّتي جعلت عند الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) لها هذه المناعة من الانحراف، وهذه الشخصية الإسلامية الملتزمة المعصومة.
5- يحق لنا أن نتساءل أيضاً قائلين: أيحق للصحابي عمر أن يوصي بأن الخلافة شورى بستّة أنفار ولا يحق لرسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) أن يوصي ويكتب كتاباً لن يضلّ المسلمون بعده أبداً؟ ثمّ أيّ حقّ لعمر أن يوصي بالخلافة من بعده في مرضه الذي توفّي فيه ولا يقال له: إنّه غلبه الوجع وحسبنا كتاب الله؟! أيحقّ له كلّ ذلك ولا يحق لرسول الله أن يوصي في مرضه الذي توفّي فيه فيقول: «أتوني بدواة وكتف لأكتب لكم عهداً لن تضلوا بعده أبداً»، فيقال له: إنه غلبه الوجع، وحسبنا كتاب الله؟!
إنّ هذا الأمر عجاب ! وهو جدير بالدراسة والتعمق؛ لخلفياته ورواسبه.
6- شهادة عمر بأهلية على (عَلَيهِ السَّلَامُ) للخلافة
ثمّ إن عمر بن الخطّاب نفسه قد شهد واعترف بأهليّة علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) للخلافة بعد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ )، فقد ذكر ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه ل_(نهج البلاغة) ما هو نصّه:
(قال أبو بكر: وحدّثنا أبو زيد قال: حدّثنا محمد بن حاتم قال: حدّثنا الحرامي قال: حدّثنا الحسين بن زيد، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن ابن
ص: 91
عبّاس قال: مر عمر بعلي وعنده ابن عبّاس بفناء داره، فسلّم، فسألاه: أين تريد؟ فقال: مالي بينبع. قال: علي : « أفلا نصل جناحك ونقوم معك؟» فقال: بلى. فقال لابن عبّاس: «قم معه». فقال: فشبك أصابعه في أصابعي ومضى حتّى خلفنا البقيع، قال: يابن عبّاس: أما والله إن كان صاحبك هذا أولى الناس بالأمر بعد وفاة رسول الله إلا أنا خفناه على اثنين قال ابن عبّاس: فجاء بمنطق لم أجد بداً معه من مسألته عنه، فقلت: يا أمير المؤمنين، ما هما؟ قال: خشيناه على حداثة سنه، وحبّه لبني عبد المطلب)(1).
ونحن بدورنا هنا نتساءل من الخليفة قوله: (خشيناه على حداثة سنه وحبه لبني عبد المطلب)، بعد اعترافه بأهلية علي الا للخلافة وأحقّيته، فنقول له ما يلي:
أ- هل إن جناب الخليفة لم يقرأ القرآن أم تجاهل آياته، حيث يقول تعالى
في حق النبيّ يحيى : يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّة وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَيّا (2)؟ السلام: فإذا كان علي الا أولى بالخلافة بعد النبيّ، والقرآن يؤيده بقوله:
وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبيّاً، فلمّاذا هذا الاعتراض وهذا التخوّف؟!
ب- هل حبّ علي الا لبني عبد المطلب يعتبر جريمة تبعده عن الخلافة؟
أليس رسول الله كان يحبّهم ويودّهم وهو نبيّ ورسول من قبل الله تعالى؟ وهنا يبقى هذا التساؤل بلا جواب وموجب للحيرة والتشكيك في إبعاد علي الله عن الخلافة وهو أهل لها.
ص: 92
وأمّا بيعة الإمام علي الا فهي الوحيدة الّتي تكاملت فيها شروط الانتخابات - كما هي الفرضية الثالثة - من قبل كلّ المسلمين في العالم، ولم يحدث لأي خليفة من الخلفاء المتقدمين هذا الإجماع الانتخابي من قبل مسلمي العالم؛ حيث إنّ الخليفة كان انتخابه منحصراً عند أهل المدينة فقط، ولم يشارك في الرأي ولا في الانتخاب أهل العراق، ولا أهل مصر، ولا أهل اليمن، بينما نجد البيعة لعلي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) قد تمت بانتخاب ومشاركة أهل العراق، وأهل مصر، وأهل اليمن بالإضافة إلى أهل المدينة والحجاز، حيث كان المسلمون من هذه المناطق المذكورة متواجدين في المدينة والحجاز؛ للاعتراض على أعمال وتصرّفات الولاة من قِبل عثمان بن عفّان.
وهذا الشكلّ الانتخابي الإجماعي يشكلّ فرضية لشرعية البيعة لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) ويشكّك في بيعة الخلفاء المتقدّمين على وفق نظرية الفرضية الثالثة، وقد تحدّثت المصادر التاريخية المعتبرة عن إقبال الناس لمبايعة الإمام علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وازدحأمهم على بيعته بشكلّ منقطع النظير؛ لأنه للمرّة الأولى بعد وفاة النبيّ الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) تكون البيعة عامة من قبل المسلمين جميعاً في أقطار العالم آنذاك، وبهذا المقدار من حرية الرأي من أجل اختيار الخليفة للمسلمين.
وقد عبّر عن هذا الشعور والهيجان الانتخابي الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) نفسه بقوله: «فما راعني إلّا والناس كعُرف الضبع إليَّ، ينثالون عليَّ من كلّ جانب، حتّى لقد وطئ الحسنان، وشق عطفاي مجتمعين حولي كربيضة الغنم» (1).
ص: 93
وكلّ هذا الازدحام من أجل مبايعة الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) للخلافة، وبهذا تتحقق الفرضية الثالثة في شرعية البيعة لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ولم تتحقق في غيره.
ويمكن أن نصطلح على هذا الّتي ار بهذه التسمية، وهم الخيرة من الصحابة وأعيانهم الذين اعتقدوا بالله ربّاً، وبمحمّد نبيّاً، وبالإسلام ديناً ورسالة ونهجاً وعملاً، فهم يسيرون في أعمالهم على وفق ما رسمه لهم القرآن الكريم والنبيّ العظيم محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ )، ولهذا نراهم يرفضون أي حكم أو خليفة لا يؤيَّد من قبل الله ورسوله، ومن أجل ذلك ناصروا عليا (عَلَيهِ السَّلَامُ)؛ لأنّهم يعتقدون بأهليّته للخلافة، وأنّه مؤيّد بالكتاب والسّنة النبوية كما دلّت على ذلك الفرضية الأولى والثانية من هذا الكتاب (1).
وانطلاقاً من هذا المفهوم الإسلامي امتنع كثير من صحابة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) من البيعة لأبي بكر؛ لأنّهم كانوا مسبوقين بالنصّ القرآني والنبوي بتعين علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) خليفة للمسلمين من بعده، وإليك النصّوص والمواقف الّتي تدّل على ذلك:
1- نصّ تاريخ الطبري
ذكر الطبري في تاريخه، وصاحب كتاب (تاريخ الخلفاء) أن هناك جماعة من المهاجرين والأنصار قد امتنعوا عن البيعة لأبي بكر؛ لأنّهم يرون أن عليّاً أحقّ بها من غيره. وقد سجّلت لنا المصادر التاريخية أسماء الذين امتنعوا عن البيعة لأبي بكر، وهم من كبار الصحابة وأعيانهم، وإليك أسماؤهم لا على نحو الحصر، وإنّما نماذج منهم، وهم كما يلي:
ص: 94
1- علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) 2 - العبّاس عم النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) 3- سائر بني هاشم 4۔ أسامة بن زيد 5- الزبير بن العوام 6- سلمان الفارسي 7- أبو ذر الغفاري 8- المقداد بن عمرو 9- عمّار بن ياسر 10- حذيفة بن اليمان 11- خزيمة بن ثابت 12 - أبو بريدة الأسلمي 13 - البراء بن عازب 14- عبد الله بن مسعود -15 سهل بن حنيف 16- سعد بن عبادة 17- قيس بن سعد 18- أبو أيوب الأنصاري 19- جابر بن عبد الله الأنصاري 20- خالد بن سعيد، وغيرهم ممن لا يسعنا ذكر أسمائهم كما جاءت في المصادر التاريخية (1).
2- نصّ اليعقوبي في تاريخه
جاء في تاريخ اليعقوبي ما نصّه: (روى بعضهم قال: دخلت مسجد رسول الله فرأيت رجلاً جاثياً على ركبتيه يتلهّف تلهّف من كأن الدنيا كانت له فسُلبت منه، وهو يقول: وا عجباً لقريش ودفعهم هذا الأمر عن أهل بيت نبيّهم، ومنهم أوّل المؤمنين، وابن عمّ رسول الله؛ أعلم الناس وأفقههم في دين الله، وأعظمهم غناءً في الإسلام، وأبصرهم في الطريق، وأهداهم بالصراط المستقيم! والله لقد زووها عن الهادي المهتدي، الطاهر النقي، وما أرادوا إصلاحاً للأُمة، ولا صواباً في المذهب، ولكنّهم آثروا الدنيا على الآخرة، فبعداً وسحقاً للقوم الظالمين! فدنوت منه فقلت: مَن أنت يرحمك الله، ومَن هذا الرجل؟ فقال: أنا المقداد بن عمرو، وهذا الرجل علي بن أبي طالب) (2).
ص: 95
3- نصّ ابن الأثير في تاريخه
جاء في الكامل في التاريخ لابن الأثير، بعد ذكر بيعة أبي بكر في السقيفة وما جرى فيها، ما هو نصّه: (فقالت الأنصار أو بعض الأنصار: لا نبايع إلا علياً. قال: وتخلّف علي وبن و هاشم والزبير وطلحة عن البيعة، وقال الزبير: لا أغمد سيفاً حتّى يبايع علي، فقال عمر: خذوا سيفه واضربوا به الحجر).
ثمّ قال ابن الأثير: (والصحيح: إن أمير المؤمنين علي ما بايع إلّا بعد ستّة أشهر، والله أعلم) (1).
وذكر أيضاً في تاريخه، (قال الزهري: بقي علي وبن و هاشم والزبير ستّة أشهر لم يبايعوا أبا بكر حتّى ماتت فاطمة(عَلَيهَا السَّلَامُ)، فبايعوه) (2).
4- نصّ ابن أبي الحديد المعتزلي
ذكر ابن أبي الحديد في شرحه ل_(نهج البلاغة) عن امتناع جماعة من الأنصار من البيعة لأبي بكر، خصوصاً بعد ما سمعوا مقالة أبي بكر وعمر في سقيفة بني ساعدة، فإنّهما قالا: إنّ العرب تأبى أن تؤمّر إلّا من كانت النبوّة فيهم، وهم أولياء محمّد وعشيرته ولحمته، فهم أحقّ بهذا الأمر.
فقال: جمع من الأنصار: طالما أنَّ الأمر هكذا فإننا لا نبايع إلا عليّاً (3).
5- معارضة خالد بن سعيد بن العاص
كان خالد بن سعيد من عمّال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) على اليمن، فلمّا قُبض
ص: 96
النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) امتنع عن البيعة لأبي بكر كما ذكر ذلك ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه، ما هو نصّه:
(قال أبو بكر: وأخبرنا أبو زيد عن هارون بن عمر، عن محمّد بن سعيد بن الفضل، عن أبيه، عن الحارث بن كعب، عن عبد الله بن أبي أوفى الخزاعي، قال: كان خالد بن سعيد بن العاص من عمال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) على اليمن، فلمّا قبض (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) جاء المدينة وقد بايع الناس أبا بكر فاحتبس عن أبي بكر فلم يبايعه أيامّاً، وقد بايع الناس، وأتى بني هاشم فقال: أنتم الظهر والبطن، والشعار دون الدثار، والعصا دون اللّحا، فإذا رضيتم رضينا، وإذا سخطتم سخطنا...)(1).
ثمّ بعد ذلك حنقها عليه عمر، فلمّا أراد أبو بكر توليته إمارة الجيش الذي استنفر إلى الشام قال عمر: أتولّي خالداً وقد حبس عليك بيعته، وقال لبني هاشم ما قال، وما آمن؟ فانصرف عنه أبو بكر، وولّى أبا عبيدة بن الجرّاح ويزيد بن أبي سفيان.
6- شهادة عمّار بن ياسر
عمّار من كبار الصحابة المؤمنين الصادقين، وقد عبر عنه النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) بقوله: «يابن سميّة تقتلك الفئة الباغية».
فإنّه عارض البيعة لأبي بكر كما روى ذلك المسعودي في تاريخه بقوله: (قام عمّار فى المسجد فقال: يا معشر قريش، أمّا إذا صرفتم هذا الأمر عن أهل بيت نبيّكم هاهنا مرّة، وهاهنا مرّة، فما أنا بآمن من أن ينزعه الله منكم فيضعه في غيركم كما نزعتموه من أهله ووضعتموه في غير أهله) (2).
ص: 97
7- نصّ ابن قتيبة في (الإمامة والسياسة)
ذكر ابن قتيبة أنّ في طليعة المعترضين على بيعة أبي بكر هو الإمام علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وإليك نص بيانه: (فقال علي: «الله الله يا معشر المهاجرين، لا تخرجوا سلطان محمّد في العرب من داره وقعر بيته إلى دوركم وقعور بيوتكم، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقّه، فوالله يا معشر المهاجرين لنحن أحقّ الناس به؛ لأنّا أهل البيت، ونحن أحقّ بهذا الأمر ما دام فينا القارئ الله لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالم بسنن رسول الله، المضطلع بأمر الرعية، المدافع عنهم الأمور السيّئة، القاسم بينهم بالسوية. والله إنّه لفينا، فلا تتبعوا الهوى فتضلوا عن سبيل الله، فتزدادوا من الحقِّ بُعداً» (1).
فقال: بشير بن سعد الأنصاري بعد ما سمع مقالة الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ): لو كان هذا الهلال الكلّام قد سمعته الأنصار منك يا علي قبل بيعتها لأبي بكر ما اختلف عليك اثنان (2).
8- شهادة أبو ذر الغفاري بأحقّية علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) بالخلافة
جاء في (تاريخ اليعقوبي) ما نصّه: (وبلغ عثمان أن أبا ذر يقعد في مسجد رسول الله ويجتمع إليه الناس، فيحدّث بما فيه الطعن عليه، وأنّه وقف بباب المسجد فقال: أيّها الناسّ من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أبو ذرّ الغفاري، أنا جندب بن جنادة الربذي. ﴿إن الله اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾؛ محمّد الصفوة من نوح، فالأوّل من إبراهيم، والسلالة من إسماعيل، والعترة الهادية من
ص: 98
محمّد. إنّه شَرُفَ شريفهم، واستحقّوا الفضل في قوم هم فينا كالسماء المرفوعة، وكالكعبة المستورة، أو كالقبلة المنصوبة، أوكالشمس الضاحية، أوكالقمر الساري، أو كالنجوم الهادية، أو كالشجرة الزيتونية أضاء زيتها، وبورك زبدها، ومحمّد وارث علم آدم وما فُضَل به النبيّون، وعلي بن أبي طالب وصي محمّد، ووارث علمه.
أيّتها الأمّة المتحيّرة بعد نبيّها، أما لو قدمتم من قدم الله، وأخّرتم من أخّر الله وأقررتم الولاية والوراثة في أهل بيت نبيّكم، لأكلّتم من فوق رؤوسكم ومن تحت أقدامكم، ولما عال وليّ الله، ولا طاش سهم من فرائض الله، ولا اختلف اثنان في حكم الله، إلّا وجدتم علم ذلك عندهم من كتاب الله وسنّة نبيّه، فأمّا إذ فعلتم ما فعلتم، فذوقوا وبال أمركم، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) (1).
9- نصّ كتاب محمّد بن أبي بكر إلى معاوية بأحقّية علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) بالخلافة
لقد ذكر نصر بن مزاحم في كتابه رسالة محمّد بن أبي بكر إلى معاوية مندداً فيها بقبح أفعاله ومصرحاً فيها بأهلية علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) للخلافة واختصاصه بها، وإليك نصّها:
(قال نصر: وكتب محمّد بن أبي بكر إلى معاوية: من محمّد بن أبي بكر إلى الغاوي معاوية بن صخر، سلام على أهل طاعة الله ممّن هو سلم لأهل ولاية الله.
أما بعد، فإنّ الله بجلاله وعظمته وسلطانه وقدرته خلق خلقاً بلا عبث ولا ضعف في قوّته، لا حاجة به إلى خلقهم، ولكنّه خلقهم عبيداً، وجعل منهم شقيّاً وسعيداً، وغويّاً ورشيداً، ثمّ اختارهم على علمه، فاصطفى وانتخب منهم
ص: 99
محمّداً (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فاختصه برسالته، واختاره لوحيه ، وائتمنه على أمره، وبعثه رسولاً مصدّقاً لما بين يديه من الكتب، ودليلاً على الشرائع، فدعا إلى سبيل أمره بالحكمة والموعظة الحسنة؛ فكان أوّل مَن أجاب وأناب، وصدّق ووافق، فأسلم وسلّم أخوه وابن عمّه علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فصدّقه بالغيب المكتوم، وآثره على كلّ حميم، ووقاه كلّ هول، وواساه بن فسه في كلّ خوف؛ فحارب حربه، وسالم سلمه، فلم يبرح مبتذلاً لنفسه في ساعات الأزل ومقامات الروع حتّى برز سابقاً لا نظير له في جهاده، ولا مقارب له في فعله.
وقد رأيتك تساميه وأنت أنت، وهو هو السابق المبرّز في كلّ خير؛ أوّل الناس إسلاماً، وأصدق الناس نيّة، وأطيب الناس ذرّية، وأفضل الناس زوجة وخير الناس ابن عمّ. وأنت اللعين ابن اللعين لم تزل أنت وأبوك تبغيان لدين الله الغوائل، وتجتهدان على إطفاء نور الله، وتجمعان على ذلك الجموع، وتبذلان فيه المال، وتحالفان في ذلك القبائل، على هذا مات أبوك، وعلى ذلك خلفته، والشاهد عليك بذلك مَن يأوي ويلجأ إليك من بقية الأحزاب ورؤوس النفاق والشقاق الرسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ )، والشاهد لعلي مع فضله وسابقته القديمة أنصاره الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن، ففضّلهم وأثنى عليهم من المهاجرين والأنصار، فهم معه كتائب وعصائب؛ يجالدون حوله بأسيافهم، ويهريقون دماءهم دونه، يرون الفضل في اتّباعه، والشقاق والعصيان في خلافه، فكيف -يا لك الويل- تعدل نفسك بعلي، وهو وارث رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ )، ووصيّه وأبو ولده، وأوّل الناس له اتّباعاً، وآخرهم به عهداً، يخبره بسرّه، ويشركه في أمره، وأنت عدّوه وابن عدوّه؟ فتمتّع ما استطعت بباطلك، وليمدد لك ابن العاص في غوايتك، فكأن أجلك قد انقضى، وكيدك قد، وهى، وسوف تستبين لمَن تكون العاقبة العليا.
ص: 100
واعلم أنك إنما تكايد ربك الذي قد أمنت كيده، وأيست من روحه، وهو لك بالمرصاد، وأنت منه في غرور، وبالله وبأهل بيت رسوله عنك الغناء، والسلام على من اتبع الهدى)(1).
10- معاوية يعترف بحق علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) بالخلافة
ردّ معاوية بن أبي سفيان على كتاب محمّد بن أبي بكر برسالة وهو يعترف فيها بحق علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأهليته للخلافة، وذلك كما ذكرها المؤرخون وإليك نصّها: (من معاوية بن أبي سفيان إلى الزاري على أبيه محمّد بن أبي بكر، سلام على أهل طاعة الله.
أمّا بعد، فقد أتاني كتابك تذكر فيه ما الله أهله في قدرته وسلطانه، وما أصفى به نبيّه، مع كلّام ألّفته ووضعته، لرأيك فيه تضعيف، ولأبيك فيه تعنيف، ذكرت حقّ ابن أبي طالب وقديم سابقته، وقرابته من نبيّ الله ونصرته له، ومواساته إياه، في كلّ خوف وهول، واحتجاجك عليَّ، وفخرك بفضل غيرك لا بفضلك. فأحمد إلهاً صرف ذلك الفضل عنك وجعله لغيرك، فقد كنّا وأبوك معنا في حياة نبيّنا نرى حقّ ابن أبي طالب لازماً لنا، وفضله مبرزاً علينا، فلمّا اختار الله لنبيّه ما عنده، وأتمّ له ما وعده، وأظهر دعوته، وأفلج حجته، قبضه الله إليه، فكان أبوك وفاروقه أوّل من ابتزّه وخالفه، على ذلك اتّفقا واتّسقا، ثمّ دعواه إلى أنفسهما فأبطأ عنهما، وتلكّأ عليهما، فهمّا به الهموم، وأرادا به العظيم، فبايعهما وسلّم لهما، لا يشركانه في أمرهما، ولا يطلعانه على سرّهما، حتّى قبضا وانقضى أمرهما.
ص: 101
ثمّ أقاما بعدهما ثالثهما عثمان بن عفّان يهتدي بهديهما، ويسير بسيرتهما، فعبته أنت وصاحبك، حتّى طمع فيه الأقاصي من أهل المعاصي، وبطّنتما وظهرتما وكشفتما له عداوتكما وغلّكما، حتّى بلغتما منه منالكما، فخذ حذرك يابن أبي بكر، فترى وبال أمرك، وقس شبرك بفترك تقصر عن أن تساوي أو توازي من يزن الجبال حلمه، ولا تلين على قسر قناته، ولا يدرك ذو مدى أناته؛ أبوك مهّد له مهاده، وبنى ملكه وشاده، فإن يكن ما نحن فيه صواباً فأبوك أوّله، وإن يكن جوراً فأبوك أسّه ونحن شركاؤه، فبهديه أخذنا، وبفعله اقتدينا، رأينا أباك فعل ما فعل فاحتذينا مثاله واقتدينا بفعاله، فعب أباك بما بدا لك أو دع، والسلام على من أناب، ورجع من غوايته وتاب)(1).
11- علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) يرفض البيعة
ثمّ إن القوم جاؤوا لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) طالبين منه البيعة لأبي بكر، فقيل له: بايع، فقال علي (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أنا عبد الله وأخو رسوله، وأنا أحقّ بهذا الأمر منكم، لا أبا يعكم وأنتم أولى بالبيعة لي؛ أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وتأخذونه منّا أهل البيت غصباً. ألستم زعمتم للأنصار أنّكم أولى بهذا الأمر منهم لمّا كان محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) منكم؟ فأعطوكم المقادة، وسلّموا إليكم الإمارة، وأنا أحتجّ عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار، ونحن أولى برسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) حيّاً وميّتاً، فانصفونا إن كنتم تؤمنون، وإلّا فبوؤوا بالظلم وأنتم تعلمون».
فقال عمر: إنّك لست متروكاً حتّى تبايع.
ص: 102
فأجاب علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) بقوله: «احلب حلباً لك شطره، وأشدّد له اليوم أمره يردده عليك غداً. والله يا عمر، لا أقبل قولك ولا أبايع» (1).
فقيل له: بايع وإلّا تضرب عنقك.
فقال الإمام: «إذن تقتلون عبد الله وأخا رسوله» (2).
12- فاطمة الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) تستنكر البيعة
إن النبيّ محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) لم يخلف بعد وفاته إلّا بنتاً واحدة، وهي فاطمة الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ)، وكان (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) يكنيها بأمّ أبيها، وعبّر عنها بقوله: «فاطمة بضعة منّي، فمَن أغضبها أغضبني» (3)، و «فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة» (4).
فإنّها لمّا سمعت ببيعة أبي بكر تأثّرت وانطلقت مستنكرة ذلك منهم؛ لاختيارهم اللّا مشروع، فقد روى سويد بن غفلة بقوله: لمّا مرضت فاطمة الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) علاج المرضة الّتي توفّيت فيها دخلت عليها نساء المهاجرين والأنصار يعدنها، فقلن لها كيف أصبحت من علتك يابن ة رسول الله؟
فحمدت الله وصلّت على أبيها، ثمّ قالت: «أصبحت والله عائفة لدنياكنّ، بعد أن قالية لرجالكنّ، لفظتهم بعد عجمتهم، وسئمتهم بعد أن سبرتهم، فقبحاً لفلول الحدّ واللعب بعد الجدّ، وقرع الصفاة وصدع القناة، وختل الآراء وزلل الأهواء، ﴿ولَبِئْسَ مَا قَدَمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ
ص: 103
خَالِدُونَ ﴾ (1). لا جر لقد قلّدتهم ربقتها وحملتهم أوقتها، وشننت عليهم غاراتها، فجدعاً وعقراً، وبعداً للقوم الظالمين!
ويحهم! أنّى زحزحوها عن رواسي الرسالة، وقواعد النبوّة والدلالة، ومهبط الروح الأمين، والطبين بأمور الدنيا والدين، ألا ذلك هو الخسران المبين. وما الذي نقموا من أبي الحسن؟! نقموا والله منه نكير سيفه، وقلّة مبالاته لحتفه، وشدّة وطأته، ونكال وقعته، وتنمره في ذات الله. وتالله لو مالوا عن المحجّة اللائحة، وزالوا عن قبول الحجّة الواضحة لردّهم إليها، وحملهم عليها، ولسار بهم سيراً سجحاً، لا يكلّم خُشاشه، ولا يكلّ سائره، ولا يمل راكبه، ولأوردهم منهلاً نميراً صافياً روياً، تطفح ضفتاه، ولا يترنّق جانباه، ولأصدرهم بطاناً، ونصح لهم سرّاً وإعلاناً.
ولم يكن يتحلّى من الدنيا بطائل، ولا يحظى منها بن ائل، غير ريَّ الناهل وشبعة الكافل، ولبان لهم الزاهد من الراغب، والصادق من الكاذب. ﴿وَلَوْ أَتَ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَات مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ (2)، ﴿وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاء سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ (3).
ألا هلمّ فاسمع، وما عشت أراك الدهر عجباً! وإن تعجب فعجب قولهم! ليت شعري إلى أيّ سناد استندوا، وإلى أيّ عماد اعتمدوا وبأيّة عروة
ص: 104
تمسّكوا وعلى أيّة ذرية أقدموا وأحتنكوا؟ لبئس المولى ولبئس العشير، وبئس للظالمين بدلاً!
استبدلوا والله الذنابي بالقوادم، والعجز بالكاهل، فرغماً لمعاطس قوم يحسبون أنّهم يُحسنون صنعاً، ﴿أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ (1).ويحهم! ﴿أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أحقّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهدي إلا أنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾.
أما لعمري لقد لقحت فنظرة ريثمّا تنتج، ثمّ احتلبوا ملء القعب دماً عبيطاً، وذعافاً مبيداً، هنالك يخسر المبطلون، ويعرف التالون غبّ ما أسس الأولون، ثمّ طيبوا عن دنياكم أنفساً، واطمئنوا للفتنة جأشاً، وأبشروا بسيف صارم، وسطوة معتد غاشم، وبهرج شامل، واستبداد من الظالمين يدع فيئكم زهيداً، وجمعكم حصيداً، فيا حسرةً لكم! وأنّى بكم وقد عميت عليكم، ﴿أنلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ﴾ (2)».
قال سويد بن غفلة: فأعادت النساء قولها (عَلَيهَا السَّلَامُ) على رجالهنّ، فجاء إليها قوم من المهاجرين والأنصار معتذرين، وقالوا: يا سيّدة النساء، لو كان أبو الحسن ذكر لنا هذا الأمر قبل أن يبرم العهد ويحكم العقد لما عدلنا عنه إلى غيره.
فقالت: «إليكم عنّي، فلا عذر بعد تعذيركم، ولا أمر بعد تقصيركم» (3).
وإلى ما هنالك من عشرات النصّوص والمواقف الّتي أدلى وقام بها أفراد هذا الحزب النبوي، وهو الحزب الوحيد الذي يؤمن ويلتزم بجميع ما جاء به الرسول الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) من قبل الله تعالى، فهو ينطلق في عمله من مفهوم هذه الآية
ص: 105
الكريمة، ويلتزم بها جملة وتفصيلاً، وهي قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن وَلَاَ مُؤْمِنَة إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبيناً﴾ (1).
ويؤمن أيضاً بقوله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ (2).
وأنصاره أيضاً لا يبغضون الأحكام، فيأخذون ببعضها ويتركون الأحكام الأخرى؛ لأن الله تعالى نهى عن ذلك بقوله: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْض الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ ببَعْض فَمَا جَزَاء مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلأَخِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ (3).
هذه الفرضية تقول: إنّ هناك شروطاً وصفات عقلية ومنطقية خاصّة تؤهّل الإنسان للخليفة والخلافة، وهي مستوحاة أيضاً من الكتاب والسّنة.
وهذه الفرضية بشروطها وصفاتها تكون منسجمة مع المنطق الإسلامي المجرّد عن كلّ العواطف الشخصية، والنزعات المذهبية، والأهواء القبلية، والميول النفسية، وعن كلّ شوائب الانحراف عن الكتاب والسّنة النبوية، وبها تعود الأمّة إلى إسلامها ووحدتها المفروضة من قبل الله تعالى، بقوله: ﴿إِنَّ هَذِهِ أمَّتُكُمْ اُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ (4).
ص: 106
وبرجوعنا إلى هذه الفرضية نستطيع أن نكتشف الحقيقة لأهلية الخليفة والخلافة، وبها نبتعد عن الخلافات الّتي فرّقت الأمّة الواحدة وجعلتها مللاً ونحلاً ومذاهب وأهواء؛ لأنّ الأُمّة نظرت للخلافة والخليفة منذ بداية الإسلام نظرة بعيدة عن المنطق وعن الكتاب والسّنة.
أما الشروط الّتي نذكرها ونستعرضها فهي شروط عقلية منطقية، فإذا توفّرت في شخص أهلته للخلافة وفق هذه الفرضية والشروط، وهي كما يلي:
الإيمان شرط أساسي في الخليفة؛ لأنّه به يطبق الإسلام بحذافيره، وبه يبتعد الخليفة عن المعاصي وارتكاب الجرائم، وعلى هذا الأساس فهو شرط ضروري عقلي شرعي. وإذا استعرضنا فضائل الصحابة من كتب الصحاح لأهل السّنة لم نجد من هو أكثر إيماناً من علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وإليك ما جاء في بعض المصادر، وهي كما يلي:
أ- علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) أول من صلّى بعد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ )
جاء في (صحيح الترمذي)، الحديث رقم (3728)، حدّثنا إسماعيل بن موسى، حدّثنا علي بن موسى، حدّثنا علي بن عابس، عن مسلم الملائي، عن أنس بن مالك قال: (بعث النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) يوم الإثنين، وصلّى علي يوم الثلاثاء) (1).
ب- علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) أول من نشأ على الإسلام
وكيف لا يكون علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) كذلك وهو قد تربى في حجر قد تربى في حجر النبوّة والرسالة،
ص: 107
وتعهّد بتربيته رسول الله، والذي يربّيه النبيّ كيف لا يكون كذلك؟ ولهذا لا يقال العلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) أول من أسلم، بل الصحيح هو أوّل إنسان بعد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) نشأ على الإيمان، وتغذّى بالإسلام منذ نعومة أظفاره، فلهذا نشأ علي وترعرع مع الإسلام.
فقد جاء في كتاب (كنز العمّال)، الحديث رقم (32924)، قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) لبنته فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ): «إنّي زوّجتك أقدم أمّتي سلماً، وأكثرهم علماً، وأعظمهم حلماً» (1).
ج- علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) رأس الإيمان
جاء في (كنز العمّال)، الحديث رقم (32920)، عن ابن عبّاس قال: ما أنزل الله تعالى آية ﴿يَا أيّها الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إلّا وعلى رأسها وأميرها (2).
د- إيمان علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) لا يعادله إيمان
روى صاحب (كنز العمّال) في كتابه، الحديث رقم (32993) في حقّ : «لو أن السماوات والأرض موضوعتان في كفّة، وإيمان على في كفّة، لرجح إيمان علي» (3).
ه- علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) عنوان صحيفة المؤمن
وعلى هذا الأساس الإيماني جعل النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) عنواناً خاصاً لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، كما جاء ذلك في (كنز العمّال)، الحديث رقم (32900)، عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) قوله: «عنوان صحيفة المؤمن حُبَّ علي بن أبي طالب» (4).
ص: 108
و- النظر إلى وجه علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) عبادة
روي عن الرسول الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ )، كما جاء في كتاب (كنز العمّال)، الحديث رقم (32895)، أنّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: «النظر إلى وجه علي عبادة» (1).
ز- علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) حبّه إيمان، وبغضه نفاق
جاء في (صحيح الترمذي)، في الحديث رقم (3717) قوله: عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، حدّثنا واصل بن عبد الأعلى، حدّثنا محمّد بن فضيل، عن عبد الله بن عبدالرحمن بن النصّر، عن المساور الحميري، عن أمّه قالت: دخلت على أمّ سلمة فسمعتها تقول: كان رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) يقول: «لا يحبّ علياً، منافق، ولا يبغضه مؤمن» (2).
ح- علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) أحبّ الخلق إلى الله
وكيف لا يكون علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) بهذه المنزلة وهو أحبّ الخلق إلى الله تعالى، كما جاء ذلك في (صحيح الترمذي)، في الحديث (3721) قوله: حدّثنا سفيان بن وكيع، حدّثنا عبد الله بن موسى، عن عيسى بن عمر، عن السدي، عن أنس بن مالك قال: كان عند النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) طير، فقال: «اللهم ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكلّ معي هذا الطير»، فجاء علي فأكلّ معه (3).
امتاز الإمام علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن بقية الصحابة بجهاده وتضحياته
ص: 109
وفدائيته للإسلام، والدفاع عن النبيّ الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) ورسالته العظيمة، وقد منحه الله تعالى منزلة خاصة ميّزته عن بقية الصحابة، وذلك في مواقف عديدة نذكرها باختصار:
أ- مبيته على فراش النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ )
عقد المشركون مؤتمرهم التآمري بدار الندوة في مكّة لقتل النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) والتخلّص منه، فأخبر الله نبيّه محمّداً بذلك، وأخبر النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) عليا (عَلَيهِ السَّلَامُ) بنيّة القوم، وطلب منه المبيت على فراشه، فنزلت هذه الآية في حق علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) ، وهي قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ الله والله رؤوف بالعِبَادِ﴾ (1).
فقد ذكر الرازي في تفسيره: ونزلت في علي بن أبي طالب حينما بات على فراش رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) ليلة خروجه إلى الغار. ويروى أنّه لمّا نام على فراشه قام جبرئيل عند رأسه، وميكائيل عند رجليه، وجبرئيل ينادي: بخ بخ! من مثلك يابن أبي طالب يباهي الله بك ملائكته، فنزلت هذه الآية المذكورة (2).
ب- علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وواقعة بدر
ذكر ابن شهر آشوب في كتابه ما نصّه : علم أن علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) قتل في يوم بدر خمساً وثلاثين مبارزاً دون الجرحى، على قول العامّة، ويقال: قتل بضعة وأربعين رجلاً، ثمّ ذكر أسماء الذين قتلهم الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) (3).
ص: 110
ج- علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وموقفه في واقعة خيبر
كانت للإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) هيبة في نفوس المقاتلين؛ وذلك لمواقفه الصارمة في حروبه مع المشركين وصولاته الفاتحة لحصون الكفر والشرك، ولهذا هدّد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) أهل خيبر بعلي، وكيف يفتح الله على يديه حصن خيبر، ويقلع الباب الّتي عجزت عن فتحها أكف أربعون وأربع، كما يحدّثنا صاحب (كنز العمّال) في كتابه، في الحديث (30120) بقوله: من مسند بريدة بن الخصيب الأسلمي، عن بريدة قال: لمّا كان يوم خيبر أخذ اللواء أبو بكر، فرجع ولم يفتح له، فلمّا كان من الغد أخذ اللواء عمر، ولم يفتح له، ورجع الناس معه (1)، فقال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ): «الأدفعنّ لوائي هذا إلى رجل يحبّ الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، لن يرجع حتّى يفتح عليه».
فبتنا طيبة أنفسنا؛ لأن الفتح غداً، فصلى رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) الغداة، ثمّ دعا باللواء، وقام قائماً، فما بنا من رجل له منزلة من رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) إلّا وهو يرجو أن يكون ذلك الرجل، حتّى تطاولت أنا لها، ورفعت رأسي لمنزلة كانت لي منه، فدعا علي بن أبي طالب، وهو يشتكي عينيه، فمسحها ثمّ دفع إليه اللواء، ففتح له (2).
د- علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وموقفه يوم الخندق
واقعة الخندق من الوقائع الهامة الّتي انتصر الإسلام فيها انتصاراً هائلاً، وخذل أهل الشرك وأتباعه بهذه الواقعة، وما ذلك إلّا بسيف علي أمير
ص: 111
المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وموقفه الحازم، وقد عبّر النبيّ العظيم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) عن هذا الموقف بقوله: «لمبارزة عليٍّ لعمرو بن عبد ود أفضل من أعمال أمّتي إلى يوم القيامة» (1).
ه_- النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) يهدد المشركين بعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ)
اشتهر الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) بقدرته القتالية، وأخذ الناس يتحدّثون في مجالسهم ونواديهم عن شجاعته وبسالته وصولته في ميادين الحرب والقتال، ولهذا صارت له هيبة في نفوس الأعداء والمشركين؛ مما حدا بالنبيّ الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) أن يهدّد المشركين به، كما ذكر هذا المعنى الترمذي في صحيحه، في الحديث رقم (3715) ما نصّه:
حدّثنا سفيان بن وكيع، حدّثنا أبي، عن شريك، عن منصور، عن ربعي بن حراش. حدّثنا علي بن أبي طالب بالرحبة، قال: «لما كان يوم الحديبية خرج إلينا ناس من المشركين، فيهم سهيل بن عمرو، وأناس من رؤساء المشركين، فقالوا: يا رسول الله، خرج إليك ناس من أبنائنا وإخواننا وأرقّائنا، وليس لهم فقه في الدين، وإنّما خرجوا فراراً من أموالنا وضياعنا، فارددهم إلينا. قال: فإن لم يكن لهم فقه في الدين سنفقّههم، فقال النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ): يا معشر قريش، لتنتهنّ أو ليبعثنّ الله عليكم مَن يضرب رقابكم بالسيف على الدين، قد امتحن الله قلبه على الإيمان. قالوا: مَن هو يا رسول الله؟ فقال له أبو بكر: مَن هو يا رسول الله؟ وقال عمر: مَن هو يا رسول الله؟ قال: هو خاصف النعل»، وكان قد أعطى علياً
ص: 112
نعله يخصفها، ثمّ التفت إلينا علي فقال: «إنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: مَن كذب عليَّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار» (1).
و- علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وواقعة حنين
جاء في (كنز العمّال)، في الحديث رقم (30225)، عن أنس قال: لمّا كان يوم حنين قال النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ): «الآن حمي الوطيس»، وكان علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) أشدّ الناس قتالاً بين يديه (2).
ومن الصفات الّتي تؤهّل الإنسان للخلافة بن ظر العقل والمنطق هو العلم، وبه يتقدّم الإسلام، والخليفة كلّما ازداد علمه ازدادت خدماته للإسلام، ولهذا نرى الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) امتاز عن غيره بالعلم والفضيلة، وقد ذكرت كتب الصحاح ذلك عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ )، فقد فقد جاء في (كنز العمّال) في الحديث رقم (32924)، والحديث (32925)، والحديث (32926)، والحدیث (32927)، ومضمون هذه الأحاديث تنبئ أن علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) هو أعلم الصحابة وأكثرهم علماً، وذلك حينما زوّج رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) ابنته فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) من علي، قائلاً لها في الحديث (32925): «أما ترضين أنّي زوجتك أوّل المسلمين إسلاماً، وأعلمهم علماً، فإنّك سيّدة نساء أمّتي كما سادت مريم قومها» (3).
ص: 113
وكما قال في الحديث (32924): «إنّي زوجتك أقدم أمّتي سلماً، وأكثرهم علماً، وأعظمهم حلماً» (1).
وجاء أيضاً عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) كما في الحديث (32889)، والحديث (32890) من (كنز العمّال) ما يدلّ على غزارة علم علي وحكمته، حينما قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ): «أنا دار الحكمة وعلي بابها» (2)، و«أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد العلم فليأتِ الباب»(3).
وذكر صاحب (كنز العمّال)، في الحديث رقم (32977)، عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) اَنّه قال: «أعلم أمّتي من بعدي علي بن أبي طالب» (4).
وجاء في حديث رقم (32981): «علي باب علمي، ومبيّن لأمّتي ما أرسلت به من بعدي» (5).
وجاء في حديث رقم (32982) عن النبيّ الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) «قسمت الحكمة عشرة أجزاء، فأعطي علي تسعة أجزاء، والناس جزءاً واحداً، وعلي أعلم بالواحد منهم» (6).
الإنسان المؤمن ملزم باتباع الحقِّ أين ما كان، ومهما كان، فيكون الحقّ
ص: 114
رائده وهدفه، يسير على نهجه ويتّبع سبيله؛ لأنّ الخليفة في الإسلام أولى من غيره باتباع منهجية الحقّ، والسير على ضوئه ومنهجه.
وقد تجلّى الحقّ في علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأصبح علي مع الحقّ والحقّ معه، وقد عبر الرسول الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) بقوله: «الحق مع ذا الحقّ مع ذا»، يعني علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) (1).
وجاء أيضاً عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) قوله: «تكون بين الناس فُرقة واختلاف فيكون هذا وأصحابه على الحق»، يعني عليا (عَلَيهِ السَّلَامُ) (2).
وروی صاحب (كنز العمّال) أيضاً، في الحديث رقم (32964)، عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ): «سيكون بعدي فتنة، فإذا كان ذلك، فالزموا علي بن أبي طالب، فإنّه الفاروق بين الحقّ والباطل» (3).
وجاء أيضاً عن نبيّنا محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) في الحديث رقم (32970): «يا علي، ستقاتلك الفئة الباغية وأنت على الحق فمن لم ينصرك يومئذ فليس مني» (4). وذكر صاحب (كنز العمّال)، في الحديث رقم (32972): «يا عمّار، إن رأيت علياً قد سلك وادياً، وسلك الناس وادياً غيره، فاسلك مع علي، ودع الناس؛ إنّه لن يدلّك على ردى ولن يخرجك من الهدى» (5).
وذكر الترمذي في صحيحه في الحديث رقم (3714)، أن النبيّ قال: «رحم الله علياً، اللهم أدر الحق حيث دار» (6).
ص: 115
ويستفاد من هذه الأحاديث النبوية في حق علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّ طاعته حقّ، ومخالفته باطل، وقد نهى رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) عن عصيان علي ومخالفته؛ لأنّه عصيان لله ورسوله، ومفارق للحق، فقد أكّد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) ذلك، كما جاء في (كنز العمّال)، في الحديث رقم (32973)، قول رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ): «من أطاعني فقد أطاع الله (عَزَّوجَلَّ)، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع علياً فقد أطاعني، ومن عصى علياً فقد عصاني» (1).
وجاء أيضاً في الحديث رقم (32975) عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) ما نصّه: «مَن فارقك يا علي فقد فارقني، ومَن فارقني فقد فارق الله» (2).
بهذه الصفات والخصال الّتي اختص بها علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) ميّزته عن بقية الصحابة، وانفرد بها دون غيره، وقد أحصاها الرسول الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) بقوله: «إن هذا أوّل من آمن بي، وأوّل مَن يصافحني يوم القيامة، وهذا الصدّيق الأكبر، وهذا فاروق هذه الأمّة، يُفرق بين الحقّ والباطل، وهذا يعسوب المؤمنين والمال يعسوب الظالمين»، قاله لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) (3).
وجاء في حديث عن نبيّنا محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) ما نصّه: «يا علي، أخصمك بالنبوّة ولا نبوة بعدي، وتخصم بسبع ولا يحاجك فيها أحد من قريش: أنت أوّلهم إيماناً بالله، وأوفاهم بعهد الله، وأقسمهم بالسوية، وأعدلهم في الرعية، وأبصرهم بالقضية، وأعظمهم عند الله مزية» (4).
ص: 116
فضلُ الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) ممّا لا يخفى على الصديق والعدو، فهو كالشمس الساطعة في رابعة النهار، وتفضيله على سائر الصحابة أصبح من البديهيات الإسلامية الناصعة الّتي لا يمكن لأحد إغفالها وإخفائها حتّى عند أشدّ الناس عناداً وتعصباً، فهذا عمرو بن بحر بن محبوب الكناني المعروف بالجاحظ المتوفّى سنة (255)، وهو من رؤساء المعتزلة ومتكلّميهم، فهو على شدّة عناده وتعصّبه لا يمكنه الفرار من هذه الحقيقة دون أن يذعن لها ويقرّها برسالته هذه الّتي تثبت هذا المعنى ثبوتاً واضحاً جلياً لا لبس فيه ولا غموض، وإليك نصّها:
قال: هذا كتاب من اعتزل الشكّ والظنّ، والدعوى والأهواء، وأخذ باليقين والثقة من طاعة الله ورسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ )، وبإجماع الأمّة بعد نبيّها (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) ممّا يتضمّنه الكتاب والسّنة، وترك القول بالآراء، فإنّها تخطئ وتصيب؛ لأنّ الأمّة أجمعت أن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) شاور أصحابه في الأسرى ببدر، واتفق على قبول الفداء منهم، فأنزل الله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِنبيّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى﴾ (1).
فقد بان لك أنّ الرأي يخطئ ويصيب ولا يعطي اليقين، وإنمّا الحجّة الله ورسوله وما أجمعت عليه أمّة من كتاب الله وسنّة نبيّها. ونحن لم ندرك النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) ولا أحداً من أصحابه الذين اختلفت الأمة في أحقّهم، فنعلم أيّهم أولى، ونكون معهم كما قال :تعالى: ﴿وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ (2)، ونعلم أيّهم على الباطل فنتجنّبهم، وكما قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أمّهاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ (3).
ص: 117
حتّى أدركنا العلم فطلبن ا معرفة الدين وأهله، وأهل الصدق والحق، فوجدنا الناس مختلفين يبرأ بعضهم من بعض، ويجمعهم في حال اختلافهم فريقان:
أحدهما: قالوا: إن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) مات ولم يستخلف أحداً، وجعل ذلك إلى المسلمين يختارونه، فاختاروا أبا بكر.
والآخرون قالوا: إن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) استخلف علياً، فجعله إماماً للمسلمين بعده.
وادّعى كلّ فريق منهم الحقّ، فلمّا رأينا ذلك وقفنا الفريقين لنبحث ونعلم المحق من المبطل، فسألناهم جميعاً: هل للناس بدّ من وال يقيم أعيادهم، ويجبي زكاتهم ويفرّقها على مستحقّيها، ويقضي بينهم، ويأخذ الضعيفهم من قويّهم ويقيم حدودهم؟
فقالوا: لابدّ من ذلك.
فقلنا: هل لأحد يختار أحداً فيوليه بغير نظر من كتاب الله وسنّة نبيّه؟
فقالوا: لا يجوز ذلك إلا بالنظر.
فسألناهم جميعاً عن الإسلام الذي أمر الله به، فقالوا: إنه الشهادتان، والإقرار بما جاء من عند الله، والصلاة، والصوم، والحجّ بشرط الاستطاعة، والعمل بالقرآن يحلّ حلاله ويحرم حرأمّه.
فقبلنا ذلك منهم لإجماعهم، ثمّ سألناهم جميعاً: هل الله خيرة من خلقهاصطفاهم واختارهم؟
فقالوا: نعم.
فقلنا: ما برهانكم؟
فقالوا: قوله تعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾ (1).
ص: 118
فسألناهم: من الخيرة؟
فقالوا: هم المتّقون.
فقلنا: ما برهانكم؟
:فقالوا: قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ﴾ (1).
فقلنا: هل الله خيرة من المتّقين؟
قالوا: نعم، المجاهدون بأموالهم بدليل قوله تعالى: ﴿فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً﴾ (2).
فقلنا: هل الله خيرة من المجاهدين؟
قالوا جميعاً: نعم، السابقون من المهاجرين إلى الجهاد، بدليل قوله تعالى: ﴿ولاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ﴾ (3).
فقبلنا ذلك منهم لإجماعهم عليه، وعلمنا أنّ خيرة الله من خلقه المجاهدون السابقون إلى الجهاد.
ثمّ قلنا: هل الله منهم خيرة؟
قالوا: نعم.
قلنا: من هم؟
قالوا: أكثرهم عناء في الجهاد، وطعناً وضرباً وقتلاً في سبيل الله، بدليل قوله: تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ﴾ (4)، ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْر تجدُوهُ عِنْدَ الله﴾ (5).
ص: 119
فقبلنا منهم ذلك، وعلمنا وعرفنا أنّ وعلمنا وعرفنا أن خيرة الخيرة أكثرهم في الجهاد عناء، وأبذلهم لنفسه في طاعة الله، وأقتلهم لعدوّه.
فسألناهم عن هذين الرجلين - علي بن أبي طالب وأبي بكر - أيّهما كان أكثر عناءً في الحرب، وأحسن بلاءً في سبيل الله؟
فأجمع الفريقان على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه كان أكثر طعناً وضرباً، وأشدّ قتالاً، وأذب عن دين الله ورسوله.
فثبت بما ذكرناه من إجماع الفريقين، ودلالة الكتاب والسّنة أن علياً أفضل. وسألناهم - ثانياً - عن خيرته من المتقين؟
فقالوا: هم الخاشعون بدليل قوله تعالى: ﴿وَازْلفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيد ** هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكلّ أَوَّابٌ حَفِيظٌ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلب مُنيِب ﴾ (1). وقال تعالى: ﴿وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾ (2).
ثمّ سألناهم: من هم الخاشعون؟
فقالوا هم العلماء، لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾ (3).
ثمّ سألناهم جميعاً: من أعلم الناس؟
قالوا: أعلمهم بالقول، وأهداهم إلى الحقّ، وأحقّهم أن يكون متبوعاً ولا يكون تابعاً، بدليل قوله تعالى: ﴿يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ (4)، فجعل الحكومة لأهل العدل.
ص: 120
فقبلنا ذلك منهم، وسألناهم عن أعلم الناس بالعدل من هو؟
قالوا: أدلّهم عليه.
قلنا: فمَن أدلّ الناس عليه؟
قالوا: أهداهم إلى الحقّ، وأحقّهم أن يكون متبوعاً ولا يكون تابعاً، بدليل قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أحقّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى﴾ (1).
فدلّ كتاب الله وسنة نبيّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) والإجماع أن أفضل [الأمة] بعد نبيّها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)؛ لأنّه إذا كان أكثرهم جهاداً كان أتقاهم، وإذا كان أتقاهم كان أخشاهم، وإذا كان أخشاهم كان أعلمهم، وإذا كان أعلمهم كان أدلّ على العدل، وإذا كان أدلّ على العدل كان أهدى الأمّة إلى الحقّ، وإذا كان أهدى كان أولى أن يكون متبوعاً، وأن يكون حاكماً لا تابعاً ولا محكوماً.
وأجمعت الأمة بعد نبيّها (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) أنّه خلف كتاب الله تعالى ذكره، وأمرهم بالرجوع إليه إذا نابهم أمر، وإلى سنة نبيّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ )، فيتدّبرونهما ويستنبطون منهما ما يزول به الاشتباه، فإذا قرأ قارئهم: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾ فيقال له: أثبتها، ثمّ يقرأ: ﴿إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾، وفي قراءة ابن مسعود (إن خيركم عند الله أتقاكم)، ﴿وَأَزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكلّ أَوَّاب حفيظ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالغَيْب وَجَاءَ بِقَلب منيب﴾ (2).
فدلّت هذه الآية على أن المتقين هم الخاشون.
ص: 121
ثمّ يقرأ، فإذا بلغ قوله: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾ فيقال له: اقرأ حتّى ننظر هل العلماء أفضل من غيرهم [أو] لا؟ فإذا بلغ قوله تعالى: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ علم أن العلماء أفضل من غيرهم.
ثمّ يقال: اقرأ، فإذا بلغ إلى قوله: ﴿يَرْفَعُ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات﴾ (1)، قيل: قد دلّت هذه الآية على أن الله قد اختار العلماء وفضّلهم ورفعهم درجات، وقد أجمعت الأمّة على أن العلماء من أصحاب رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) الذين يؤخذ عنهم العلم كانوا أربعة: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن العبّاس، وابن مسعود، وزید بن ثابت.
وقالت طائفة: عمر.
فسألنا الأُمّة: من أولى الناس بالتقديم إذا حضرت الصلاة؟
فقالوا: إن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) قال : «يوم القوم أقرؤهم». ثمّ أجمعوا على أنّ الأربعة كانوا أقرأ من عمر فسقط عمر.
ثمّ سألنا الأُمّة: أيّ هؤلاء الأربعة أقرأ لكتاب الله وأفقه لدينه؟ فاختلفوا، فأوقفناهم حتّى نعلم.
ثمّ سألناهم: أيّهم أولى بالإمامة؟
فأجمعوا على أنّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: «الأئمة من قريش». فسقط ابن مسعود وزيد بن ثابت، وبقي علي بن أبي طالب وابن عبّاس.
فسألنا: أيّهما أولى بالإمامة؟
ص: 122
فأجمعوا على أن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: «إذا كان عالمان فقيهان من قريش فأكبرهما سنّاً وأقدمهما هجرة». فسقط عبد الله بن العبّاس وبقي علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، فيكون أحقّ بالإمامة؛ لما أجمعت عليه الأُمّة، ولدلالة الكتاب والسّنة عليه (1).
وعلى هذا الأساس جاء في الأثر، كما ذكر ذلك المجلسي وابن شهر آشوب: (اجتمعت الأمّة، ووافق الكتاب والسّنة، على أن الله خيرة من خلقه، وأنّ خيرته من خلقه المتقون؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ ﴾ (2).
وأنّ خيرته من المتّقين المجاهدون؛ لقوله تعالى: ﴿وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً﴾ (3).
وأنّ خيرته من المجاهدين السابقون إلى الجهاد؛ لقوله تعالى: ﴿لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْل الفَتْح وَقَاتَلَ﴾ (4).
وأنّ خيرته من المجاهدين السابقين أكثرهم عملاً في الجهاد، وقد اجتمعت الأمّة على أنّ السابقين إلى الجهاد هم البدريون.
وأن خيرة البدريين عليّ بن أبي طالب، فلم يزل القرآن يصدق بعضه بعضاً بإجماعهم، حتّى دلوا بأن علياً خير هذه الأمة بعد نبيّها) (5).
ص: 123
وما ذكرناه في هذه الوريقات ما هي إلّا نبذة من فضائل مولانا أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)؛ لأنه لا يسعنا ذكرها في هذه الوريقات؛ لأن علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) أكبر من أن تحصى فضائله، وقد أجاد وأحسن وأجمل أحد شعراء القرن الرابع الهجري، وهو الشاعر العبقري الصاحب بن عبّاد، المتولد (326 ه_)، والمتوفّى (385ه_)، فقد أحصى بعض فضائله في قصيدته اللامية الرائعة، مستوحياً تلكم الفضائل من الكتاب والسّنة، وإليك نصّها:
قالت فمَن صاحب الدين الحنيف أجب *** فقلتُ أحمد خير السادة الرُّسل
قالت فمن بعده تُصفي الولاء له *** قلت الوصي الذي أربى على زُحل
قالت فمَن بات من فوق الفراش فدى *** فقلتُ أثبت خلق الله في الوهل
قالت فمن ذا الذي آخاه عن مقةٍ *** فقلتُ مَن حاز ردّ الشمس في الطفل
قالت فمَن زوّج الزهراء فاطمة *** فقلتُ أفضل من حاف ومنتعل
قالت فمَن والد السبطين إذ فرعا *** فقلتُ سابق أهل السبق في مهل
قالت فمَن فاز في بدر بمعجزها *** فقلتُ أضرب خلق الله في القلل
قالت فمَن أسد الأحزاب يفرسها *** فقلت قاتل عمر و الضيغم البطل
قالت فيوم حنين من فرا *** فقلتُ حاصد أهل الشرك في عَجل
قالت فمن ذا دُعي للطير يأكلّه *** فقلت أقرب مرضي ومنتحل
قالت فمن تلوه يوم الكساء أجب *** فقلت أفضل مكسو ومشتمل
قالت فمَن ساد في يوم «الغدير أبن *** فقلتُ مَن كان للإسلام خير ولي
قالت ففي من أتى في (هل أتى) شرف *** فقلت أبذل أهل الأرض للنفل
قالت فمن راكع زگی بخاتمه *** فقلت أطعنهم مذ كان بالأسل
ص: 124
قالت فمن ذا قسيم النار يسهمها *** فقلتُ مَن رأيه أذكى من الشعل
قالت فمن باهل الطهر النبي به *** فقلت تاليه في حل ومرتحل
قالت فمَن شبه هارون لنعرفه *** فقلتُ مَن لم يحل يوماً ولم يزل
قالت فمن ذا غدا باب المدينة قل *** فقلت من سألوه وهو لم يسل
قالت فمن قاتل الأقوام إذ نكثوا *** فقلتُ تفسيره في وقعة الجمل
قالت فمن حارب الأرجاس إذ قسطوا *** فقلت صفين تُبدي صفحة العمل
قالت فمن قارع الأنجاس إذ مرقوا *** فقلتُ معناه يوم النهروان جلي
قالت فمَن صاحب الحوض الشريف غداً *** فقلت من بيته في أشرف الحلل
قالت فمن ذا لواء الحمد يحمله *** فقلتُ من لم يكن في الروع بالوجل
قالت أكلّ الذي قد قلت في رجل *** فقلت كلّ الذي قد قلت في رجل
قالت فمن هو هذا الفرد سمه لنا *** فقلتُ ذاك أمير المؤمنين علي
وأخيراً: رأينا هذه الفرضيات الأربع في الخليفة والخلافة، وكيف أنّها نصّت على خلافة على أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وأشارت إليه بسهمها دون غيره، ورست على شاطئ بحره.
وهذه الفرضيات تكوّن لنا نظرية إسلامية للخلافة والخليفة؛ لأنّها مستوحاة أوّلاً وبالذات من الكتاب والسّنة، وكلّها تشير بأهليّة علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) للخلافة، فإذا كانت هذه الفرضيات الأربع - القرآن الكريم، والسّنة الشريفة، والانتخابات، والعقل - كلّها تشير إلى خلافة علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وتبيّن أهليّته واستحقاقه للخلافة، كما بحثنا ذلك في الفصل الثالث من هذا الكتاب، فلمّاذا هذا الاختلاف في الخلافة، ولمصلحة من؟
ص: 125
ولكن هنا سؤال قد يخطر في بال القارئ الكريم: إذاً لماذا أبعد علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن الخلافة؟
هناك عوامل متعدّدة لانحراف الخلافة عن منصبها وصاحبها الشرعي، وهي كما يلي:
وهذا الحزب تمثّله جماعة من الصحابة ذات الهدف المصلحي؛ فإنّهم خطّطوا لجرّ الخلافة لصالحهم وإن اصطدموا وخالفوا الكتاب والسّنة النبوية؛ وذلك لأنّهم جعلوا دينهم جسراً لدنياهم، وهم دائماً يسعون لمصالحهم ومآربهم أكثر من إيمانهم، ولهذا نراهم يخالفون الإسلام إذا اصطدم بمصلحتهم وأهوائهم، وخير مثال على ذلك اعتراضهم على رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) حينما طلب منهم أن يأتوه بالدواة والكتف ليكتب لهم عهداً لن يضلوا بعده أبداً، فقال أحد أفراد هذا الحزب، وذلك حينما علم أن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) يريد أن يكتب اسم الخليفة من بعده، وهو ليس من أفراد هذا الحزب، فصرخ معترضاً على النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) بقوله: حسبنا كتاب الله، إن الرجل غلبه الوجع (1).
وذلك لجرّ الخلافة إليهم ومنعها عن صاحبها الشرعي.
وهذا العامل أيضاً من العوامل المهمّة لدفع الخلافة عن الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)؛ لأنّه
ص: 126
قتل صناديد المشركين وأبطالهم، وأن بعض الناس آنذاك وحتّى الآن مشدودون إلى قبائلهم أكثر من إيمانهم إذا كانوا ضعيفي الإيمان، والإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) ما ترك قبيلة من القبائل ولا عشيرة من العشائر إلّا وقتل من رجالها المشركين، فأصبحت القلوب له كارهة من حيث يشعرون أو لا يشعرون، وما ذلك إلّا بدافع النزعة الثأرية للعشائر، فهم يطلبونه بالثأر منه فكيف يمكنونه من الخلافة؟! ولهذا كان كثير منهم لا يرغب بوصول علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى كرسي الخلافة.
كثير من الصحابة كانوا متأثرين بقبائلهم وعشائرهم، وكانت هذه النزعة تأخذ حيزاً كبيراً من نفوسهم، ولهذا كانوا ينطلقون من هذا المفهوم لا تجتمع النبوّة والخلافة في بيت واحد!!
فالنزعة القبلية لا تتحمّل الوحي الإلهي الذي جعل النبوّة والخلافة في بيت واحد، وهو بيت بني هاشم، فلهذا بادر بعض المتأثّرين بالنزعة العشائرية قائلين: لن تجتمع النبوّة والخلافة في بيت واحد، ووقفوا بوجه علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) حتّى لا يصل إلى الخلافة؛ لأنه من بني هاشم.
وهذا السبب هو من الأسباب الرئيسة لعزل الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن منصب الخلافة؛ فإنّهم اخترعوا وابتدعوا سنّة الصحابة وجعلوها في قبال سنّة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) أو عدلاً لها؛ وذلك من أجل إضافة القدسية لسائر الصحابة في قبال فضائل الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) حتّى لا يستبان فضله على بقية الصحابة، فيكون هو المستحقّ للخلافة بأفضليته على الجميع، فلذلك بادروا بجعل سنّة الصحابة وفرضوا الحجّية لها.
ص: 127
ودليلنا على ذلك ما جاء في (كنز العمّال) في الحديث (23924)، قول النبيّ الكريم لابنته فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ): «إنّي زوّجتك أقدم أمّتي سلماً، وأكثرهم علماً وأعظمهم حلماً» (1).
فلم يرق هذا النصّ النبوي لبعض الصحابة، فجاؤوا ووضعوا حديثاً من عندهم معارضاً لهذا الحديث كما جاء في سنن أبي داوود في باب التفضيل، في الحديث رقم (4627)، وإليك نصّه (حدّثنا أحمد بن صالح، حدّثنا يونس، عن أبي شهاب قال: قال سالم بن عبد الله: إن ابن عمر قال: كنّا نقول، ورسول الله حي: أفضل أمة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) بعده أبو بكر وعمر ثمّ عثمان) (2).
فجعلوا هذا الحديث الذي هو لا عن الله ولا عن رسوله في قبال قول النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ )، ومن هنا بدأ الانحراف والخلاف ما بين المسلمين، في حين أنّ الله تعالى يقول: ﴿مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (3).
ولكن الصحابي عبد الله بن عمر يقول: (كنّا نقول)، فجعلوه مقابل قول النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ )كما في هذا الحديث، فتبصّر أيّها المسلم.
من العوامل الّتي أدت إلى إقصاء الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن خلافته هو انشغاله بتجهيز وتغسيل جثمان الرسول الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ )، ولم ينتظر الصحابة عودته وحضوره في السقيفة كغيره، فبادروها لعقد الخلافة في سقيفة بني ساعدة، واستغلّوا غيابه وانشغاله بتغسيل وتجهيز الجسد الطاهر، فهم لم يراعوا حقّ علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) حتّى في
ص: 128
الانتخابات، وأقلها مشورته في ذلك، وهذه هي مظلومية هذا الإمام العظيم، وهو عامل من عوامل إبعاده عن الخلافة.
الإنسان المسلم الملتزم بالكتاب والسّنة عليه أن يأخذ باليقين ويترك الشكّ، ولكنّنا هنا نرى بعض المسلمين أخذوا بالشكّ وتركوا اليقين، فمثلاً: إنهم تركوا النصّ القرآني الدال على إمامة علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) كما في آية: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ (1).
فإنّها نصت على ولاية علي(عَلَيهِ السَّلَامُ) وخلافته بصراحة ويقين، كما دلّت على ذلك جل التفاسير المعتبرة (2).
وكذا أيضاً أنّهم تركوا النصّ النبوي الدالّ على الإمامة والخلافة العلي (عَلَيهِ السَّلَامُ). كما في حديث الدار حينما نزلت هذه الآية (3) : ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ (4).
فجمع النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) عشيرته وأقرباءه على وليمة وقام خطيباً فيهم... إلى أن يقول: «... فمن منكم يعينني على هذا الأمر على أن يكون وزيري وخليفتي ووصيي من بعدي».
فلم يقم إلّا علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)لا، فأخذ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) ووصيي من بعدي
بیده قائلاً: «هذا وزيري وخليفتي ووصيي من بعدي» (5).
ص: 129
فهنا نرى كيف أنهم تركوا النصّ القرآني والنصّ النبوي وأخذوا بقول أحدهم في تعيين أبي بكر خليفة، قائلين: إن الله ارتضاه لديننا فكيف لا نرتضيه لدنيانا، في قضية إمامة أبي بكر في صلاة الجماعة كما يقال.
فإن هذا القول هو لا عن الله ولا عن رسوله، وإنّما هو أقوالهم وأفواههم، وبهذه المقالة أنّهم أخذوا بالشك وتركوا اليقين وهذا هو خطّ الانحراف عن الله ورسوله، وهو العامل المهم الذي سبّب إبعاد الخلافة عن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ).
الغريب من هؤلاء كيف استدلّوا على خلافة أبي بكر بإمامته لصلاة الجماعة، وهو استدلال سياسي لا شرعي؛ لأنّه مبني على بناء أوهن من بيت العنكبوت، وهو مرض و عداوة لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) في نفوسهم، وذلك لما يلي:
أ- إن صلاة الجماعة هي من المستحبّات في الشريعة الإسلامية، وإمامها يشترط فيه على وفق مذهب أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) العدالة والقراءة الصحيحة حتّى لو كان ضعيف البدن والإرادة وهي لا تدلّ على أحقّية إمامها بالخلافة، وليس لها أي ارتباط بذلك، بينما الخلافة لها شرائطها الخاصّة من الكفاءة العلمية والإرادة والحزم والجزم بالإضافة إلى النصّ الشرعى الدالّ عليها (1).
ب- لو كان مجرّد إمامة صلاة الجماعة تؤهل إمامها للخلافة لكان سالم مولى أبي حذيفة أولى بها من غيره؛ لأنّه أوّل من صلّى بإمامة الجماعة بالمهاجرين الأوائل في قبا بأمر من النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) قبل مقدم رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) إليها؛ فإنّه أمّ المسلمين هناك جميعاً، وقد روى ذلك عبد الله بن عمر نفسه (2).
ص: 130
ج- لو كانت صلاة الجماعة ترشّح إمامها للخلافة لكان عتّاب بن أسيد أولى وأحقّ من غيره بالخلافة أيضاً؛ لأن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) هو الذي عيّنه وجعله إمام الجماعة في أفضل مسجد وهو المسجد الحرام، وذلك حينما دخل رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) مكّة فاتحاً وقدمه للإمامة في صلاة الجماعة على المسلمين.
د- هناك جماعة من الصحابة أمرهم رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) بإمامة صلاة الجماعة بالمسلمين، ولا أحد منهم ادعى أو يدعي الخلافة لهذا المنصب.
ه_ روى البيهقي في سننه: تجوز الصلاة خلف إمام الجماعة الفاجر؛ لقول النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «صلّوا خلف كلّ برّ أو فاجر» (1).
فلو صحّ هذا الحديث فإنّ معناه إمكان تسليم قيادة الأمّة بيد الفاسق الفاجر، وهذا ممّا لا يقبله العقل ولا يسمح به أي مؤمن بالله ورسوله، والله يقول في كتابه العزيز: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾ (2).
و- مع كلّ ما تقدّم فإنّ إمامة صلاة الجماعة لا تؤهل إمامها للخلافة، إضافة إلى هذا فإن رواية إمامة أبي بكر لصلاة الجماعة مردودة وساقطة بالرواية الثانية القائلة: إن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) في مرضه سمع أنّ أبا بكر تقدّم لصلاة الجماعة، فقام يتوكّأ على عمّه العبّاس وعلى علي بن أبي طالب(عَلَيهِ السَّلَامُ)، وجاء إلى المسجد ونحّي أبا بكر عن إمامة الجماعة وصلّى هو بهم جماعة (3).
وهذه الرواية تعارض تلك، فتكون الرواية الأولى ساقطة من أساسها؛ لأنّ الرواية إذا تعارضت مع رواية أخرى أقوى وأرجح منها تسقط عن الاعتبار، فالرواية الثانية حكت أن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) حينما سمع بأنّ أبا بكر يريد أن يصلّي بالناس
ص: 131
جماعة خرج مسرعاً وهو يتوكّأ على علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) وعمّه العبّاس، فما هو السبب والداعي لأنّ يخرج وهو مريض؟!
فيرجى من القارئ أن يتنبه لهذا الأمر ولهذا الحدث، ويتساءل لم هذا؟
لقد ألف ابن الجوزي كتاباً ينفي فيه صلاة الجماعة بإمامة أبي بكر، وقد قسمه إلى ثلاثة أبواب:
الأوّل: في إثبات خروج النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) إلى الصلاة وتنحية أبي بكر عنها.
الثاني: بيّن فيه إجماع الفقهاء - كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد - على ذلك.
الثالث: تضعيف الروايات القائلة بأن أبا بكر صلّى بالمسلمين واعتبارها شاذّة وضعيفة، وأن القائلين بها هم من أتباع العناد والتعصب والهوى (1).
وقد قال ابن حجر العسقلاني: إن الروايات الّتي وصلتنا عن عائشة أن النبيّ هو الذي صلّى بالناس، وهو الإمام في تلك الصلاة (2).
وعلى فرض صحّة إمامة أبى بكر بالمسلمين فأي ارتباط لها بالخلافة وقيادة المسلمين؟
وقد تنبّه إلى ذلك بعض علماء السلف مثل ابن حزم بقوله: (أمّا من ادّعى أنّه قُدّم قياساً على تقديمه إلى الصلاة فباطل بيقين؛ لأنّه ليس كلّ من استحقّ الإمامة في الصلاة يستحقّ الإمامة والخلافة؛ إذ يستحقّ الإمامة في الصلاة أقرأ القوم وإن كان أعجمياً أو عربياً، ولا يستحقّ الخلافة إلّا القرشي، فكيف والقياس كلّه باطل؟!) (3).
ص: 132
وقد تنبّه أيضاً إلى هذا القياس العالم المصري المعاصر أبو زهرة، فأبطله بقوله: (وقد قال قائلهم: (لقد رضيه رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) لديننا، أفلا نرضاه لدنيانا)، ولكنّه لزوم ما لا يلزم؛ لأنّ سياسة الدنيا غير شؤون العبادة، فلا تكون الإشارة واضحة. وفوق ذلك فإنّه لم يحدث في اجتماع السقيفة الذي تنافس فيه المهاجرون والأنصار في شأن القبيل الذي يكون منه الخليفة أن احتجّ أحد المحتجّين بهذه الحجّة. ويظهر أنّهم لم يعتقدوا ملازمة بين إمامة الصلاة وإمرّة المسلمين) (1).
* * *
ص: 133
ص: 134
*القرآن الكريم
1- تفسير الدر المنثور للسيوطي، الناشر : دار المعرفة - بيروت.
2- تفسير القرآن العظيم لابن كثير القرشي الدمشقي، الناشر: دار إحياء التراث - بيروت.
3- التفسير الكبير للفخر الرازي.
4- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي، تحقيق: محمّد أبو الفضل، الناشر: دار إحياء الكتب العربية للحلبي وشركائه.
5- الميزان في تفسير القرآن للبحاثة السيد محمّد حسين الطباطبائي.
كتب الحديث والأصول
6- أصل الشيعة وأصولها للشيخ محمّد كاشف الغطاء.
7- بحار الأنوار للعلامة المجلسي.
8- بصائر الدرجات للشيخ أبي جعفر الصفار - طبعة طهران.
9- الجامع الصحيح للترمذي، الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت.
10- سنن أبي داوود الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت.
11- صحيح البخاري - شرح الكرماني، الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت.
12- صحيح مسلم بشرح النووي.
ص: 135
13- كفاية الأصول للمحقق الشيخ الآخوند، الناشر: مؤسسة آل البيت لإحياء التراث.
14- كنز العمّال فى السنن والأقوال لعلاء الدين الهندي.
15- مسند أحمد بن حنبل، الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت.
16- المناقب لابن شهر آشوب.
17- نظام الحكم في الإسلام للشيخ باقر شريف القرشي.
18- ينابيع المودة للقندوزي الحنفي.
كتب التاريخ
19- الإمامة والسياسة لابن قتيبة.
20- بدر الكبرى للسيد عبد الكريم الحسيني القزويني.
21- تاريخ الطبري، الناشر: مؤسسة الأعلمي - بيروت.
22- تاريخ اليعقوبي، الناشر: دار صادر - بيروت.
23- الكامل في التاريخ لابن الأثير، الناشر: دار صادر - بيروت.
24- مروج الذهب للمسعودي.
25- الملل والنحل للشهرستاني.
26- موسوعة كتاب الغدير للبحاثة الشيخ الأميني، طبعة بيروت.
27- الوثائق الرسمية لثورة الإمام الحسين للسيد عبد الكريم الحسيني القزويني.
* * *
ص: 136
1- الوثائق الرسمية لثورة الامام الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ).
2- الصوم بحث ودراسة.
3- على ومواقفه البطولية.
4- علي ومدرسته الحربية.
5- مدرسة علم الأخلاق النظري.
6- الشركة في الفقه الاسلامي.
7- كتاب الأسئلة والأجوبة الاسلامية صدر منها حتّى الان سبعة - أعداد.
8- واقعة بدر الكبرى
9- نظرية النبوبة والامامة والخلافة في الاسلام
10- الصلاة واجباتها وأحكأمّها.
11- دروس فى تزكية النفس وتكاملها.
12- مفاهيمنا.
13- مفهوم الشعائر الحسينية.
ص: 137
14- تاريخ المدارس الأخلاقية قديماً وحديثاً.
15- التشيع هو النبع الصافي للإسلام.
16- التشريع الاسلامي وتطور الزمن.
17- أوهام أحمد الكاتب وأساطيره.
18- خرافات عثمان خميس وأوهأمّه.
19- ثلاث مناظرات في مكة المكرمة والمدينة المنورة.
20- التشيع هو المذهب الرسمي للاسلام بالنصّ القرآني والنبوي.
21- النصّائح الوافية لأتباع الوهابية والسلفية.
22- فكرة الامام المهدي فريضة اسلامية بالنصّ القرآني والنبوي.
23- لما ذا الاختلاف بين المذاهب الاسلامية مع وضوح النصّ القرآني والنبوي وقد صدر منها حتّى الآن 15 عدد.
24- شبهات تلفزيونية لابدّ من الاجابة عليها.
25- أحكام المسافر مع زيارة الامام الرضاء (عَلَيهِ السَّلَامُ).
26- مواقف انسانيه هادفة للإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)
27- الدین : نشوئه و تقوية ايمانه و تطور تشريعه مع الزمن.
ص: 138
الإهداء...9
تمهید...11
الفصل الأول : الرسالة والرسول
القاعدة الأولى: اللطف الإلهي...15
القاعدة الثانية: قبح العقاب بلا بيان...16
القاعدة الثالثة: الحكيم لا يصدر منه عبث...17
النبوّة مدرسة ربّانية...19
النبوّة ومراتبها...19
القسم الأوّل: شهادة النبوّة...20
القسم الثاني : شهادة الرسالة...20
القسم الثالث: شهادة أولي العزم...21
القسم الرابع شهادة خاتم الأنبيّاء والمرسلين...22
الرسول قائد رسالة...23
علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) يصف الرسول الأعظم ل(عَلَيهِ السَّلَامُ)...27
الفصل الثاني : النبوّة والإمامة والخلافة
الإسلام والخلافة...33
ص: 139
الخلافة في رأي الشيعة...34
الخلافة في نظر أهل السّنة...35
النبوّة والإمامة والخلافة...35
الشرط الأول: ألا يكون قد تلبّس بظلم...36
الشرط الثاني: أن يكون له مخوّل رسمي من الله ورسوله...42
الشرط الثالث: أن يكون مشمولاً بحديث اثني عشر خليفة من بعدي...44
الشرط الرابع: أن يكون الخليفة نفس الرسول...53
الفصل الثالث : نظرية الخلافة والخليفة في الإسلام
الشرط الأوّل: الموضوعية...59
الشرط الثاني التحري للحقيقة من القرآن والسّنة...59
عليا ل(عَلَيهِ السَّلَامُ) والخلافة...59
الفرضيات الأربع للخليفة...60
الفرضية الأُولى القرآن الكر...60
الفرضية الثانية: السّنة النبوية...65
الحديث الأوّل: حديث الدار...65
الحديث الثاني: حديث المنزلة...67
الفرضية الثالثة: الانتخابات...68
انتخاب الخليفة...68
الأوّل: حزب الأنصار...68
ص: 140
الثاني: حزب الشيخين أبي بكر وعمر...70
اصطدام كلّامي بين سعد وعمر...73
امتناع سعد بن عبادة وجماعته عن بيعة أبي بكر....74
أبو بكر يستشير في أمره...74
المفارقات والتناقضات...75
المفارقة الأولى...75
المفارقة الثانية. ...78
المفارقة الثالثة...79
بيعة عمر بن الخطّاب...83
أبو بكر وكتابه بتعيين عمر خليفة له...84
عمر بن الخطّاب يحث الناس على مبايعته...85
بيعة عثمان بن عفّان...87
بيعة الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) ...93
الثالث: الحزب النبوي...94
الفرضية الرابعة: أهليّة الخلافة والخليفة...106
1- الإيمان...107
2- الجهاد ...109
3- العلم...113
4- الحق...114
رأي الجاحظ في تفضيل علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) ...117
ص: 141
عوامل إقصاء الإمام علي عن الخلافة....126
أولا: تخطيط الحزب المصلحي...126
ثانياً: الثأر لقتلى المشركين...126
ثالثاً: النزعة القبلية...127
رابعاً: جعل سنّة الصحابة معادلة لسنة النبيّ...127
خامساً: انشغال الإمام علي الا بتغسيل النبيّ...128
سادساً: إنّهم أخذوا بالشك وتركوا اليقين...129
إمامة صلاة الجماعة لا تدلّ على أحقّية أبي بكر بالخلافة...130
العلماء ينفون ذلك...132
المصادر...135
كتب المؤلّف...137
الفهرس...139
ص: 142