الموسوی، یاسین.
الحَیرة فی عصر الغیبة الصغری/ تألیف یاسین الموسوی. - کربلاء: العتبة الحسینیة المقدسة، 1429ق. = 2008م.
269 ص. – (قسم الشؤون الفکریة والثقافیة فی العتبة الحسینیة المقدسة؛ 19).
المصادر فی الحاشیة.
1. محمد بن الحسن (عج)، الامام الثانی عشر ، 256 ق. – الغیبة. 2. محمد بن الحسن (عج)، الإمام الثانی عشر، 256ق. – ولادة – شبهات وردود. 3. الحسن بن علی (ع)، الإمام الحادی عشر، 232 – 260ق. – نظریة حول محمد بن الحسن (عج). 4. الشیعة – عقائد – شبهات وردود. 5. المهدویة - انتظار.6. النواب الاربعة. 7. الفتن والملاحم – احادیث. ألف. عنوان.
96 ح 8 م / 4 / 224 BP
مکتبة العتبة الحسینیة المقدسة
ص: 1
الحیرة فی عصر الغیبة الصغری
ص: 2
الحیرة فی عصر الغیبة الصغری
تألیف السید یاسین الموسوی
إصدار
قسم الشؤون الفکریة والثقافیة فی العتبة الحسینیة المقدسة
ص: 3
جمیع الحقوق محفوظة
للعتبة الحسینیة المقدسة
الطبعة الثانیة
1429ه- -- 2008م
العراق: کربلاء المقدسة - العتبة الحسینیة المقدسة
قسم الشؤون الفکریة والثقافیة - هاتف: 326499
Web: www.imamhussain-lib.com
E-mail: info@imamhussain-lib.com
ص: 4
الحمد لله الذی منّ علینا بنعمة العلم والمعرفة،وله الشکر علی ما أولانا من نعمة الإیمان والعمل،والصلاة والسلام علی سید الأنام والامام الهمام الرسول الأمجد أبی القاسم محمد وعلی آله الأطهار الأئمة الأخیار الذین ورثوا علم جدهم ونهجوا نهجه وساروا علی دربه، الحافظین لدینه والمدافعین عن شریعته.
أما بعد:
لقد بادر قسم الشؤون الفکریة والثقافیة فی العتبة الحسینیة المقدسة بالإتصال بعلم من الأعلام، واستاذ من الأساتذة الکرام، فی الحوزة العلمیة المبارکة وهو غنی عن التعریف، سماحة الحجة السید یاسین الموسوی (دام عزه)، فوجد عنده مبتغاه، وعثر علی بحث طالما احتاجته الأمة للوقوف علی نظر أهل البیت علیهم السلام بخصوص الفترة التی غاب فیها الإمام الحجة عجل الله فرجه الشریف والتی المؤمنون فیها فی حیرة من أمرهم وقد ابدع السید المؤلف فی عرض هذه الفترة وحیثیاتها،کما تناول السید الجلیل التفاصیل الضروریة التی لابد من معرفتها،کبیانه لزمان وقوع المؤمنین
ص: 5
فی هذه الحیرة واسبابها وکیفیة انجلائها، وهذا من خلال عرضه الروایات الصادرة عن أهل البیت علیهم السلام، کما تعرض السید الباحث لبیان دور الأئمة علیهم السلام فی مرحلة التمهید فکان بیانا رائعاً، ینم عن خبرة ودرایة تامة، وقلم انیق وفکر عمیق، فلذا حرص قسمنا علی طبع ونشر هذا الکتاب المتکون من جزئین وهما «الحیرة فی عصر الغیبة الصغری» و«الحیرة فی عصر الغیبة الکبری».
فنسأل الله تعالی أن یوفق سیدنا الجلیل لخدمة الإسلام والمسلمین من خلال رفده المکتبة الإسلامیة بأبحاثه الغنیة.
الشیخ علی الفتلاوی
رئیس قسم الشؤون الفکریة والثقافیة
فی العتبة الحسینیة المقدسة
4 شوال 1429ه-
ص: 6
ص: 7
ص: 8
وُصِفَ عصر الغیبة فی الروایات الشریفة بأنه عصر الحَیرة والتمحیص والامتحان وهی من أهم السمات التی أکدت روایات المعصومین علیهم السلام حینما تحدثوا عن عصور الغیبة، بعدما یغیب الإمام علیه السلام وتبدأ المرحلة الحرجة من حیاة الشیعة، وکان عصر الغیبة الأطول زمناً فی حیاة الأمة من جمیع عصور الرسالة فلو قارنا المدة الزمنیة التی کان المعصوم علیه السلام حاضراً فیها بین الأمة والناس، وبین المدة الزمنیة التی غاب فیها المعصوم علیه السلام بشخصه عن شیعته وموالیه، لوجدنا الفارق بین المدتین کبیراً جداً.
ففی حین أن مدة عصر الحضور الزمنیة لا تزید علی (273) سنة تقریباً، (لأنَّ أبتداء الغیبة کان فی سنة 260 من هجرة النبی الأکرم صلی الله علیه وآله وسلم, وأضف إلیها فترة بدایة البعثة النبویة وهی (13) سنة، منها ثلاث سنوات کانت الدعوة النبویة سریة فإننا نجد المدة قد طالت فی عصر الغیبة فاستمرت من سنة (260) للهجرة وإلی یومنا هذا. وما زلنا نعیشها ونحن فی سنة (1429) للهجرة ولا نعلم متی یأذن الله عزَّ وجل لفرج ظهوره عجل الله فرجه الشریف. وعلیه فقد استمرت لحدّ هذا الوقت أکثر من ألف سنة، وبالمقارنة بین الفترتین الزمنیتین تتضح حقیقة ان عصر الغیبة یکون هو الأطول فی حیاة البشریة.
ص: 9
ومع أن هناک مجموعة کبیرة من الروایات قد تحدَّثت عن التمحیص والامتحان بمفهومیهما الدینیین الأوسع، بما لا یتقید بالأزمنة الثلاثة:
الماضی والحاضر والمستقبل؛ وبما یشمل عَصْرَی الحضور والغیاب.
فإننا نری أن هناک أیضاً مجموعة من الأخبار الشریفة تحدثت عن الامتحان والتمحیص فی عصر الغیبة فقط، وصرحت أن من خواص وممیزات عصر الغیبة هو الامتحان والتمحیص.
وقد تحدثت هذه الأخبار عن سبب هذه الحیرة إلی غیاب الإمام المعصوم علیه السلام عن شیعته وموالیه.
وکما ظهر فی مجموعة من الأخبار التی نصت علی الحَیرَة... أن هذه الحَیرة لم تختص بأولئک الذین عاشوا بدایة الغیبة الصغری، بل قالت تلک الأخبار إن الحَیرة سوف تبقی مستمرة إلی أن یظهر -- روحی فداه --، فیملأ الأرض عدلاً وقسطاً وتقر عیون شیعته ومحبیه برؤیته نعم ربما کانت الصدمة شدیدة علی بعض أولئک الأوائل الذین صدموا بواقع جدید لم یألفوه وکانت المحنة أصعب فی بدایتها.
أن غیبته محنة یمتحن الله (عزَّ وجل) بها عباده، لیمیز المخلص منهم عن غیره، وقد روی الشیخ الطوسی (رحمه الله) فی کتابه الغیبة بإسناده عن الإمام موسی علیهما السلام بن جعفر علیهما السلام:
«.. إذا فقد الخامس من ولد السابع من الأئمة فاللهَ اللهَ فی أدیانکم، فانه لابد لصاحب هذا الأمر من غیبة یغیبها حتی یرجع عن هذا
ص: 10
الأمر من کان یقول به.. إنَّما هی محنة من الله امتحن بها خلقه، لو علم آباؤکم وأجدادکم دیناً اصحّ من هذا الدین لاتبعوه..»(1).
ففی بدایة الغیبة أخذت الحَیرة شکلها الواضح، فأنکر الشکّاکون وجود الإمام الثانی عشر، وقد أخبر المعصومون علیهم السلام بذلک کما فی الخبر الذی رواه الشیخ النعمانی وهو من الذین عاصروا بدایات الغیبة الکبری وشاهدوا الأحداث العظمی من الحَیرة والردّة والفتنة بإسناده عن أمیة بن علی القیسی قال: قلت لأبی جعفر محمَّد بن علی الرِّضا علیهما السلام:
مَنْ الخَلَفُ بعدک؟.
فقال:
ابنی علی، وابنا علی.
ثُمَّ اطرق ملیاً، ثُمَّ رفع رأسه، ثُمَّ قال:
إنَّها ستکون حَیْرَة.
قلت: فإذا کان ذلک فإلی أین؟.
فقال:
إلی المدینة.
فقلت: أی المدن؟.
فقال:
مدینتنا هذه، وهل مدینة غیرها)
وبتقادم الزمن وطول فترة الغیبة فقد نحی التشکیک منحیً آخر، وتوسعت دوائره حتی وصلت إلی التشکیک بتفاصیل العقیدة المهدیة، مع أن دائرة التشکیک قد تحطمت عند مسألة وجود الإمام المهدی عجل الله فرجه الشریف ولیس لها أثر فی العقیدیة الشیعیة، وذلک لتجذر هذه العقیدة الصحیحة فی نفوس الشیعة، مما صعّب مهمة التشکیک علی المنحرفین؛ لأنَّهم إذا طرحوا مثل هذا الإستفهام أمام الناس فإنَّهم سوف یخسرون قوة التأثیر علی القواعد الشیعیة.
لذلک آثروا -- علی مر العصور -- أن یتجنبوا إثارة الشک فی شخص المهدی عجل الله فرجه الشریف، وإنما حاولوا إن یثیروا الشک فی نفوس المؤمنین من خلال طرحهم مختلف الإستفهامات والآراء الانحرافیة حول تفصیلات العقیدة بالإمام المهدی علیه السلام کالأطروحة الانحرافیة القائلة بأنه غائب عن مجتمعه لا یؤثر فی الأحداث التی تمر بالأمة وأنه لا فائدة سیاسیة، ولا أجتماعیة من وجوده -- أعوذ بالله تعالی من هذه المقالة --.
ومع ذلک فلم یخلُ ماضی وحاضر الغیبة من منحرف متجرّئ مشکّک بوجود الإمام المهدی عجل الله فرجه الشریف، أو مدّعٍ بالباطل بأنه المهدی.
ومن نافلة القول فان بعض مسائل العقیدة المهدیة عند الإمامیة ما زالت تنتظر مَنْ یوضّحها، ویظهرها بالثوب البیانی الجدید الذی یتناسب مع طبیعة المستوی الثقافی عند غیر الإمامیین.
ومِنْ تلک المسائل المهمة التی تحتاج إلی بحث، وتوضیح ما یمکن تسمیته بظاهرة الحَیرَة التی برزت فی المجتمع الشیعی بعد وفاة الإمام العسکری علیه السلام.
ص: 13
ولعل السبب المرکزی الذی عاق ظهور هذه الظاهرة الاجتماعیة فی مسرح البحوث الثقافیة یعود لوضوح (بما یسانخ البداهة) الأسباب الواقعیة لهذه الظاهرة، والتی سوف نذکرها فی طیات هذا البحث إن شاء الله تعالی.
وما کنا نخوض هذا الموضوع الواضح البدیهی الطبیعی لولا تصدی بعض الجهلة -- ومَنْ یختبئ وراءه من دعاة الضلال -- بإثارة شبهة مقابل البدیهیة، وطرح المسألة بتلبیسها اللاموضوعی المتلخّص بفکرة: أن الشیعة وقعوا فی حَیرة بعد وفاة الإمام العسکری علیه السلام، ثم استدل ببروز هذه الحَیرة علی عدم وجود الإمام المهدی عجل الله فرجه الشریف، وذلک لأن الإمام لو کان موجوداً ومولوداً لما احتار الناس ولرجعوا إلیه بشکل عادی.
ونظراً لتفاهة الشبهة فإننا لا نری ضرورة الوقوف الطویل عندها، وإنَّما نتعرض إلیها بالنقاش والبحث العلمی بالمقدار الذی تحتاج إلیه هذه الشبهة مِن البحث والتحقیق، لرفع اللبس عند من یمکن أنْ تنطلی علیه مثل هذه الشبهة من غیر المطّلعین علی تاریخنا الناصع، وعقیدتنا الصادقة الثابتة بالأدلة العقلیة والنقلیة.
ونلفت الانتباه فی هذه المقدمة إلی ملاحظتین مرکزیتین:
الملاحظة الأولی: تتعلق بسُقم المنهج الفکری الذی أعتمده صاحب الشبهة، عند عرضه لعقیدة أهل البیت علیهم السلام بالإمام المهدی عجل الله فرجه الشریف، وکان کُلَّما أعوزه الدلیل استعان بالکذب، والافتراء، واختراع قواعد لم یقلها أحد قبله، ونسبها إلی الفلسفة مرة، وإلی التاریخ أخری، وإلی الشیعة الإمامیة مرة ثالثة، ولم
ص: 14
یستحِ من نفسه حینما یرسل تلک الأکاذیب إرسال المسلَّمات، وینسبها إلی کتب وصفحات محددة أحیاناً وعامة أخری، وکأن حاله حال من یضحک فی عبِّه وهو یتصور أنه لا من قارئ، ولا مراجع.
وقد سجلنا الهوامش الکثیرة علی ما نشره مما سودت یداه، ولکننا آلینا التعرض إلیها ونشرها فی فرصة ثانیة، وفی بحث مستقل أخر لیبقی هذا البحث مختصاً بشرح ظاهرة اجتماعیة من تاریخنا بشکل مستقل عما ذکره فلان وفلان، لأنَّنا لم نخصص هذا البحث الذی بین یدیک لمناقشة معروض معین، وإنَّما جاء بشکله علی النسق العام للمشارکة فی تأصیل مواضیع العقیدة المهدویة.
وجاءت هذه الإحالة بسبب فنی وهو: إنَّنا إذا أردنا أنْ ندخل بمناقشة معروض تلک الکتابات فعلینا أن نبتدئها بمناقشة المنهج، ثُمَّ الأسلوب، ثُمَّ المادة المعروضة؛ وهذه الإطالة تخرجنا عن خصوصیة هذا البحث المتعرض لمسألة الحَیرَة فی الفترة التاریخیة المحددة بوفاة الإمام العسکری علیه السلام.
الملاحظة الثانیة: إن صاحب الشبهة قد بنی نتائج کثیرة علی دعواه:
أ . حدوث نوع من الشک والحَیْرَة والغموض بعد وفاة الإمام العسکری علیه السلام عند الشیعة.
ب . وهذا یعنی: عدم وجود ولد له.
ج . وبما أنهم یشترطون توارث الإمامة بصورة عمودیة، وعدم جواز انتقالها إلی أخ أو أبن عم؛ مما اضطرهم إلی افتراض وجود ولد له من أجل أنْ یعالجوا الخلل العقائدی الذی حدث بعد وفاة الإمام العسکری.
ص: 15
د . وکان ظهور القول بوجود ولد له بعد فاصل زمنی طویل بین وفاة الإمام العسکری علیه السلام, وبین القول بأنَّ له ولد قد ولد فی حیاته، وأعلن عن ولادته لأصحابه وثقاة شیعته.
ویلاحظ علی مجموع مقولات هذا المدعی التی نقلناها فی الأسطر المتقدمة بالجمع بین عباراته التی کتبها، بأنَّها تعتمد علی المغالطة، والادعاء الکاذب، وذلک:
1 -- إن حقیقة وجود ولد للإمام العسکری علیه السلام ولد له فی حیاته وقد سمّاه باسم رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، کانت من المسلّمات القطعیة عند جمیع ثقات أصحاب الإمام العسکری، وقد أظهره إلی جمیع أولئک الأصحاب الثقات، ورأوه، وتعّرفوا علی شخصه الشریف عجل الله فرجه الشریف بحضور أبیه علیه السلام.
فأین الفاصل الزمنی القصیر فضلاً عن الطویل الذی ادعاه؟!!.
2 -- إذا کان ما ادعاه صحیحاً فی أنَّ الإمامیة هم الذین وضعوا شرط توارث الإمامة بصورة عمودیة، ولم یجوزوا انتقالها إلی أخ أو ابن عم، وحینما افتقدوا من یرث الإمام العسکری علیه السلام اضطروا لأن یدعوا له ولداً ویخترعوا موضوع الغیبة.
فإنَّنا نتسائل هنا: ألم یکن رفع شرط توارث الإمامة بصورة عمودیة، وتحویلها إلی الأخ وابن العم أهون بکثیر من خلق مسألة جدیدة لم یألفها الشیعة من قبل وهو موضوع الغیبة؟!.
فإنَّ الشیعة ألفوا وراثة الإمامة من أخ إلی أخ کما حصل ذلک بالنسبة إلی الإمام الحسین الذی ورث الإمامة من أخیه الإمام الحسن علیه السلام، ولم تکن هذه
ص: 16
الطریقة غریبة بشکل مطلق عن الشیعة؛ بینما لو نظرنا إلی الغیبة لوجدناها جدیدة علی الحیاة الدینیة العملیة الشیعیة، فإنَّهم لم یألفوا غیبة إمام من الأئمة السابقین من قبل بهذا الشکل الجدید.
وهذا وحده کافٍ لیکون برهاناً علی صحة عقیدة الشیعة الإمامیة بأنَّ الإمامة منصب الهی محدد ومعین قبل أنْ یخلق الله تبارک وتعالی الخلق أجمعین، ولذلک فهم لم یعملوا بالأسهل وهو القول بإمامة الأخ، بل عملوا بالأشق والأصعب وهو إمامة الغائب، لان المسألة لا تخضع لإرادة الإنسان وذوقه، وإنَّما هی خاضعة لإرادة الله سبحانه وتعالی. حیث شاءت أرادته أن یختم النبوة بمحمد صلی الله علیه وآله وسلم وإمامة علی والأئمة من ولده بالاسم والوصف وتختم الإمامة بالمهدی المنتظر علی طبق ما تقول به الشیعة من التسلسل للأئمة علیهم السلام.
3 -- وقد شاءت إرادة الله (سبحانه وتعالی) من الأزل قبل أنْ یخلق الخلق أن تکون لخاتم الأئمة المهدی المنتظر غیبتان: أحداهما أطول من الأخری، کما أخبر بها الأنبیاء السابقون، وأخبر بها أیضاً النبی الأکرم محمَّد صلی الله علیه وآله وسلم والأئمة المعصومون من علی علیه السلام، وحتی الإمام العسکری علیه السلام.
4 -- وإذا کان حصر العدد للائمة علیهم السلام باثنی عشر فقط من صنع متکلّمی الشیعة -- کما ادعاه هذا المدعی -- فما هی الحاجة لحصر الأئمة بالعدد اثنی عشر؟ وذلک لأنهم یعلمون مسبقاً بان الإمامة إلی آخر الدنیا لا یمکن أن یقوم بها اثنا عشر رجل فقط بشکل عادی مألوف کسیرة البشر العادیین، وهم یعلمون أیضاً بعملهم هذا سوف یضیقون علی أنفسهم موسعاً، وکانوا اقدر علی تجاوز هذه الصعوبة لو
ص: 17
ادعوا بأنَّ الإمامة خاضعة للوراثة النسبیة کما هی علیه عند الزیدیة أو الاسماعیلیة، وبذلک فسوف لا یقعون فی هذا المأزق المطبّ الذی یمکن أن یعرفه أصغر متکلم، وحکیم، ومنطقی... ألا یدل هذا الأمر علی أن المسألة خارجة عن إرادتهم وقدرتهم، وأنها أمر فوقانی صادر من الله تعالی لا یمکنهم أن یختاروا غیره، وعلیهم أن یطیعوه ویمتثلوه وإن کان غیر عادی ومألوف وخاضع للقوانین الإلهیة الغیبیة؟!.
5 -- وأخیراً فلو سلّمنا بوقوع الحَیرة عند الشیعة فإننا لا نُسلّم باستمرار الحَیرة إلی مدة طویلة، بل نقطع بأنَّ الحَیرة انتهت بعد فترة زمنیة قصیرة عندما علم من لم یعلم بوجود الإمام الثانی عشر الذی خلف والده علیه السلام، وقد تمّت المعرفة بأسالیب طبیعیة متنوعة منها: إن الإنسان الحائر رأی الإمام علیه السلام وجهاً لوجه وتعّرف علیه کما کان علیه الحال مع آبائه علیهم السلام.
ومنها: صدور المعجزة من الإمام عجل الله فرجه الشریف للإنسان الحائر کما کانت تصدر المعاجز سابقاً من آبائه علیهم السلام.
وغیر ذلک من الأسالیب الطبیعیة التی سوف تجدها مذکورة فی طیات هذا البحث.
ثُمَّ إننا نقطع بان الحَیرة لم تشمل أحداً من فقهاء أصحاب الإمام العسکری علیه السلام الذین التقوه، وإنَّما أصابت بعض عامة الشیعة وهذا أمر طبیعی یأتی تفصیله فی خلال البحث.
ص: 18
ص: 19
ص: 20
إن وقوع الحَیرة بین بعض قطاعات المجتمع الشیعی بعد وفاة الإمام العسکری علیه السلام أمر یُسلِّم به التاریخ الثابت المسجل لتلک المرحلة من تاریخ الأئمة علیهم السلام ولا نحتاج إلی ذکر الشواهد والأدلة التاریخیة لإثباته، ولکن الشیء الذی یحتاج إلی تحقیق وبحث هو معرفة أربعة مواضیع مهمة تتعلق إلی حدٍ مّا ببعض أصول العقیدة المهدویة:
من المتسالم علیه بین الجمیع عدم وجود ربط بین الحَیرة التی وقع بها بعض الناس، وبین وجود الإمام المهدی وولادته علیه السلام.
فلا یوجد بین القضیتین ترابط عللی أو شرطی.فعدم علم إنسان بوجود شیء لا یکشف کشفاً تاماً ولا ناقصاً علی عدمه، لاختلاف القضیتین من حیث المحمول ومن حیث الموضوع؛ فهؤلاء الملاحدة الذین لم یرزقوا نور المعرفة بالله تبارک وتعالی، وأسمائه، وصفاته، وینکرون وجوده جلّ جلاله، لم یضر جهلهم به، ولم یؤثر أبداً علی حقیقة وجوده، وانه (تبارک وتعالی) موجود حیٌ مدبِّر للخلق.
ص: 21
وهکذا فإن جهل الجاهلین بالمعارف والعلوم سواء أکانت الدینیة، أو الإلهیة، أو الطبیعیة لا یضرّ بحقیقة وجود تلک العلوم.
وأخال أنّ المسألة واضحة بشکل کبیر لا تحتاج إلی أکثر مما بیناه:و هو عدم وجود ترابط بین جَهْل مَنْ جَهِل من عامة الناس بولادته عجل الله فرجه الشریف، وبین حقیقة أنه ُوِلَد فی حیاة أبیه وبقی معه خمس سنوات، وقد صلَّی علی جنازة أبیه بعد وفاته، کما نصَّت علی ذلک الأخبار الکثیرة المتواترة.
ویمکن للدارس الاجتماعی الذی یرید إنْ یتعرف علی أسباب ظاهرة اجتماعیة مرت بتاریخ أُمَّة، أو جماعة أن یتعرف من البدایة علی مدی تأثیر تلک الظاهرة فی حیاة الأُمَّة التی عانت من مؤثرات الظاهرة --- موضع الدراسة ---.
ومِنْ الطبیعی أنْ یکون لحجم الظاهرة الاجتماعیة دور فی التأثیر السلبی، أو الایجابی علی العقیدة، أو الفکرة الموجودة وراء تلک الظاهرة، ولکن یبقی الدور التأثیری السلبی، أو الایجابی لحجم الظاهرة الاجتماعیة علی العقیدة, أو الفکرة التی یختبئ وراء تلک الظاهرة، إنَّما هو دور ثانوی یعکس مقداراً من صور التأثیر الفعلی. وهناک أدوار أولیة، وکبری لعوامل قد لا تتأثر من قریب، أو بعید بالعامل الکَمِّی لظهور الظاهرة.
فلا یمکن للباحث الاجتماعی أنْ یستفید من الحجم الکَمِّی لعقیدة دینیة, أو فکریة، أو اجتماعیة فی مجتمع من المجتمعات الإنسانیة علی صحة تلک العقیدة, أو خطئها.
ص: 22
والذی یظهر من مجموع الأخبار التی تعرضت لقضیة حَیْرَة الناس وتِیههم بعد غیاب الإمام المعصوم علیه السلام.
أن هناک مضاعفات لابد وان تظهر بسبب هذه الغیبة؛ وقد تشکلت هذه المضاعفات علی نحوین، ظهرا فی تاریخ الإمام الثانی عشر عجل الله فرجه الشریف وما زلنا نعیش النحو الثانی فی عمق مستقبل الغیبة وظهر النحو الأول من هذه المضاعفات علی شکل الصدمة التی أصابت الأمة بعد وفاة الإمام الحسن العسکری علیه السلام، عندما أصبح الناس بلا إمام هدی ظاهر ناطق بالحق منهم علیه السلام وواجهوا المرحلة الجدیدة التی لم یألفوها من قبل، وهی (مرحلة غیبة المعصوم).
وکان هذا الامتحان الذی مرّ به المؤمنون صعباً للغایة، ویمکننا أن نرسم بعض صور وملامح صعوبات هذا الامتحان من خلال ما جاء فی بعض الأخبار الشریفة التی أشارت إلی هذه المحنة العظیمة بغیاب الإمام عجل الله فرجه الشریف، وانقطاع الاتصال به ویفترض علی کل باحث یرید إن یرسم صورة هذه الظاهرة الاجتماعیة التی مرّ بها الشیعة أن یدرسها من خلال معرفة حقیقة العلاقة الوجدانیة والحیاتیة بین الأمة والإمام علیه السلام، کما کان یعرفها أولئک الناس الذین عاصروا المعصومین علیهم السلام، لا کما هی علیه الحالة فی العصور المتأخرة عن النص، والتی ما زلنا نعیش فی أحضان إحدی فتراتها.
علینا أن نعرف الفوارق الحقیقیة بین طبیعتی العلاقتین: تلک التی کانت تتجذر وتتحرک بضمیر الإنسان الشیعی فی عصر النص، والأخری التی تربّی علیها الإنسان فی عصر الغیبة.
ص: 23
فقد صار طبیعیاً أن لا یُحسَّ الإنسان الذی ولد فی عصر الغیبة بالصدمة والمحنة لغیاب المعصوم عجل الله فرجه الشریف؛ لان وجدانیاته، وفهمه لطبیعة العلاقة بالإمام علیه السلام قد تجوهرت علی أساس غیبة الإمام عجل الله فرجه الشریف، وصعوبة الوصول إلی شخصه الشریف. ولو أن خسارة فقدان الإمام علیه السلام موجودة فی العصور المتقادمة للغیبة بمقدار الخسارة نفسها التی وجدت عند غیبته عجل الله فرجه الشریف فی بدایة الغیبة کما سوف یأتی بیانها أنشاء الله تعالی.
وأما بالنسبة إلی أولئک الذین عاشوا أواخر حیاة الإمام العسکری علیه السلام، وأوائل إمامة الإمام المهدی عجل الله فرجه الشریف؛ فان القضیة اختلفت تماماً عندهم، فإنّهم عاشوا مع أئمة معصومین ظاهرین علیهم السلام یلتقون بهم، ویحدثونهم، ویسألونهم، ویتعاملون معهم بالعلن والأمور الحیاتیة الأخری بشکل عادی وطبیعی، ولم یعتادوا إن یتعاملوا مع إمام من الأئمة علیه السلام بالطریقة التی فرضت علیهم فی التعامل مع الإمام المهدی عجل الله فرجه الشریف حتی إنهم منعوا من التصریح باسمه الشریف فی المحافل العامة کما وردت بذلک الأخبار الکثیرة.
لقد انصاغت شخصیة الإنسان الشیعی من خلال طبیعة علاقته مع إمامه الظاهر بشکل جذری، بحیث یصعب علیه تصور ان الإمام علیه السلام موجود، ولکنه غائب عنه فی آن واحد. ولذلک فقد یصاب بنوبة لاوعی -- وان کانت مؤقتة وآنیة -- فینطق شعوره الباطنی، فتتناغم مع دوافع اللاشعور، فتتولد عوارض انفصام مؤقت لشخصیته، وتبرز علی شکل مواقف مرتجلة غیر منضبطة مع القواعد الأصلیة التی رکزها فی عقله الشعوری الذی بناه طبق الأسس العلمیة الصحیحة.
ص: 24
وقد تُخَیِّم هذه العوارض، أو الحالة المرضیة لمرحلة ما، أو مدّة من الزمن علی تصرفاته وأقواله من مظاهر التعبیر التی لا یؤمن بها ولا یعتقد بها.
وقد یکون هذا التحلیل النفسی معبراً تماماً عمّا انتاب کثیراً من الناس الذین صُدموا بواقع المرحلة الجدیدة من الإمامة وهی (ظاهرة الغیبة).
وهذا بالفعل ما حصل أیضاً فی المرحلة الأولی من إمامة الإمام موسی بن جعفر سلام الله علیهما.مما أوقع بعض کبار أصحاب الإمام الصادق علیه السلام فی الحَیرة، وانتابتهم نوبة اللاشعور هذه ونعرض القصة التالیة للتمثیل المیدانی لما وقع فی عصر الإمام الکاظم علیه السلام.
روی الکشی فی رجاله بإسناده عن هشام بن سالم قال: کُنَّا بالمدینة بعد وفاة أبی عبد الله علیه السلام أنا ومؤمن الطاق، أبو جعفر، والناس مجتمعون علی أن عبدالله صاحب الأمر بعد أبیه، فدخلنا علیه أنا وصاحب الطاق، والناس مجتمعون عند عبدالله وذلک أنهم رووا عن أبی عبدالله علیه السلام أنَّ الأمر فی الکبیر ما لم یکن به عاهة.
فدخلنا نسأله عمّا کُنَّا نسأل أباه، فسألناه عن الزکاة فی کم تجب؟ قال:
فی مأتین خمسة.
قلنا: ففی مائة؟ قال:
درهمان ونصف.
قلنا: لا والله ما تقول المرجئة هذا.
فرفع یده إلی السماء، فقال:
لا والله ما أدری ما تقول المرجئة.
ص: 25
قال: فخرجنا من عنده ضلاّلاً، لا ندری إلی أین نتوجه أنا وأبو جعفر الأحول، فقعدنا فی بعض أزقة المدینة باکین حیاری لا ندری إلی مَنْ نقصد، وإلی من نتوجه؟ نقول: إلی المرجئة، إلی القدریة، إلی الزیدیة، إلی المعتزلة، إلی الخوارج.
قال: فنحن کذلک؛ إذ رأیت رجلاً شیخاً لا اعرفه یومئ ألیّ بیده، فخفت أن یکون عیناً من عیون أبی جعفر، وذلک انه کان له بالمدینة جواسیس ینظرون علی مَنْ اتفق شیعة جعفر علیه، فیضربون عنقه؛ فخفت أن یکون منهم.
فقلت لأبی جعفر: تنحّ، فإنِّی خائف علی نفسی وعلیک، وإنَّما یریدنی لیس یریدک، فتنحَّ عنِّی لا تهلک وتعین علی نفسک.
فَتَنَحَّی غیر بعید، وتبعت الشیخ وذاک إنِّی ظننت إنی لا اقدر علی التخلص منه.
فما زلت اتبعه حتَّی ورد بی علی باب أبی الحسن موسی علیه السلام، ثُمَّ خلاّنی، ومضی؛ فإذا خادم بالباب، فقال لی: ادخل رحمک الله!.
فدخلت، فإذا أبو الحسن علیه السلام، فقال لی إبتداءً:
لا إلی المرجئة، ولا إلی القدریة، ولا إلی الزیدیة، ولا إلی المعتزلة، ولا إلی الخوارج، إلیَّ، إلیَّ، إلیَّ.
قال: فقلت له: جعلت فداک مضی أبوک؟. قال:
نعم.
قلت: جعلت فداک! مَنْ لنا بعده؟. فقال:
إنشاء الله أن یهدیک هداک.
ص: 26
قلت: جعلت فداک! إنَّ عبد الله یزعم أنَّه مِنْ بعد أبیه. قال:
یرید عبدُ الله أنْ لا یُعَبْد الله.
قال: قلت له: جعلت فداک! فَمَنْ لنا بعده؟. فقال:
إن شاء الله إن یهدیک هداک أیضاً.
قلت: جُعِلت فداک أنت هو؟ قال لی:
ما أقول ذلک.
قلت فی نفسی لم أُصِب طریق المسألة، قال: قلت: جعلت فداک علیک إمام؟ قال:
لا.
فدخلنی شیء لا یعلمه ألا الله إعظاماً له، وهیبةً أکثر ممّا کان یحل بی من أبیه إذا دخلت علیه؛ قلت جعلت فداک أسألک عما کان یُسأل أبوک؟. فقال:
سل تُخبَرْ، ولا تُذِعْ، فان أذعت فهو الذبح.
قال: فسألته، فإذا هو بحر، قال: قلت: جُعِلتْ فداک شیعتُک، وشیعةُ أبیک ضلّال فأُلقی إلیهم، وأدعوهم إلیک، فقد أخذتَ علیَّ بالکتمان؟. قال:
مَنْ أنِسْتَ منهم رُشداً فألقِ علیهم، وخذ علیهم بالکِتمان، فإن أذاعوا فهو الذبح؛ وأشار بیده إلی حلقه.
قال: فخرجت من عنده، فلقیت أبا جعفر، فقال لی: ما وراءکَ؟.
قال: قلت: الهدی؛ قال: فحدثْتُه بالقصة، ثُمَّ لقیتُ المفضلَ بن عمر، وأبا بصیر قال: فدخلوا علیه وسلّموا، وسمعوا کلامه، وسألوه ثُمَّ قطعوا
ص: 27
علیه؛ ثُمَّ قال: ثُمَّ لقیت الناس أفواجاً، قال: فکان کل من دخل علیه قطع علیه، إلا طائفة مثل عمار وأصحابه، فبقی عبد الله لا یدخل علیه أحد إلا قلیلٌ من الناس قال: فلما رأی ذلک سأل عن حال الناس، قال: فأُخبر إن هشام بن سالم صدّ عنه الناس.
قال هشام: فأقعد لی بالمدینة غیر واحد لیضربونی(1).
ومن خلال هذا المثال وغیره من الأمثلة الکثیرة التی یمکننا أن نجمعها من شتات الأخبار والروایات الشریفة، یمکننا تأکید الحقیقة المتقدمة بتفسیر ظاهرة الحَیْرَة التی وقعت فی بدایة الغیبة، ونقول بأنَّ دوافع وأسباب هذه الظاهرة لم یکن وراءها عدم وجود إمام معصوم، وإنَّما هی نوع من الأمراض النفسیة الطبیعیة التی تصیب بعض الناس نتیجة الصدمة التی تعود إلی الخطأ فی تقدیراتهم الشخصیة فلا علاقة لها بأصل العقیدة والفکرة، فحَیرة بعض أصحاب الصادق علیه السلام بعد وفاته لم تظهر بسبب عدم وجود إمام معصوم، وإنَّما کانت بسبب عدم معرفتهم بالإمام علیه السلام ولذلک فإنَّهم عادوا إلی صوابهم بعدما وفّقهم الله تعالی لمعرفة الإمام علیه السلام.
وهذا بالفعل ما حصل لأولئک الناس الذین أصابتهم الحَیْرَة بعد وفاة الإمام العسکری علیه السلام؛ فإنَّها لم تصلهم جرّاءَ الضیاع لعدم وجود المعصوم، وإنَّما نشأت من جهلهم بالإمام علیه السلام؛ ولذلک فإن الحَیرة ارتفعت عنهم عندما عرفوا الإمام.
ص: 28
ویؤکد هذا التحلیل أن أولئک لم ینکروا وجود الإمام صلوات الله وسلامه علیه، ولم یشکّکوا فیه.
وبالطبع فإننا لا نؤمن بتفّرد هذا العامل لتفسیر الحَیْرَة التی وقعت بعد وفاة الإمام الحسن العسکری علیه السلام، وإنما هناک عوامل أخری متنوعة دعت إلی حَیرة الناس، وقد تکون بعض تلک العوامل راجعة إلی ضعف شخصیة الحائر العادی أمام الخوف الذی خیّم علی الشیعة فی تلک الفترة، فأفقده الوعی، فلم یبحث عن الحقیقة، وإنما جعله مستسلماً لدوّامة الإرباک، ذلک الخوف الذی وصفه أبو نصر هبة الله بن محمَّد بن بنت أم کلثوم بنت أبی جعفر العَمْری النائب الثانی للإمام عجل الله فرجه الشریف فی عصر الغیبة الصغری، ضمن خبر طویل: (.. إن الأمر کان حاداً جداً فی زمان المعتضد، والسیف یقطر دماً کما یقال..)(1).
لکن یبقی العامل الأول هو الأعمق فی ایجاد تلک الظاهرة الاجتماعیة التی برزت فی المجتمع الشیعی بعد وفاة الإمام الحادی عشر علیه السلام, وسمیَّت بالحَیْرَة.
وأفضلُ وَصْفٍ وجدناه فی کتابات معاصری هذه الحَیرة هو ما کتبه الشیخ أبو زینب محمَّد بن إبراهیم النعمانی (الذی عاش تلک الفترة من المحنة، وکتب فی مقدمة کتابه (الغیبة) قائلاً:
أما بعد: فإنَّا رأینا طوائف من العصابة المنسوبة إلی التشیع، المنتمیة إلی نبیَّها محَّمد وآله صلّی الله علیهم ممَّن یقول بالإمامة التی جعلها الله برحمته دین الحق، ولسان الصدق، وزیناً لمن دخل فیها، ونجاةً، وجمالاً لمن کان من أهلها، وفاز
ص: 29
بِذِمَّتِها، وتَمَسَّکَ بِعُقْدَتِها، ووفی لها بشروطها من المواظبة علی الصلوات، وإیتاء الزکوات، والمسابقة إلی الخیرات، واجتناب الفواحش، والمنکرات، والتَنَزُّه عن سائر المحظورات، ومراقبة الله تقدَّس ذکْره فی الملأ والخلوات، وتَشَغّل القلوب، وإتعاب الأنفس والأبدان فی حیازة القربات؛ قد تفرقت کلمتها، وتَشَعَّبَتْ مذاهبها، واستهانت بفرائض الله عزَّ وجل، وحنَّت إلی محارم الله تعالی، فطار بعضها علواً، وانخفض بعضها تقصیراً، وشکّوا جمیعاً إلا القلیل فی إمام زمانهم، وولیّ أمرهم، وحجَّة ربَّهم التی اختارها بعلمه کما قال جلَّ وعزَّ:
((وَرَبُّکَ یَخْلُقُ مَا یَشَاءُ وَیَخْتَارُ مَا کَانَ لَهُمُ الْخِیَرَةُ))(1)((مِنْ أَمْرِهِمْ))(2).
للمحنة الواقعة بهذه الغیبة التی سبق من رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ذکرها، وتقدَّم من أمیر المؤمنین علیه السلام خبرها، ونطق فی المأثور من خطبه، والمرویَّ عنه من کلامه وحدیثه بالتحذیر من فتنتها؛ وحَمَلَ أهلُ العلمِ والروایة عن الأئمة من ولده علیه السلام واحداً بعد واحد أخبارها حتی ما منهم أحدٌ إلا وقد قدّم القول فیها، وحقق کونها، ووصف امتحان الله تبارک وتعالی اسمه خلقه بها بما أوجبته قبائح الأفعال، ومساوی الأعمال، والشّحُ المطاع، والعاجل الفانی المؤثر علی الدائم الباقی، والشهوات المتبعة، والحقوق المضَّیعة التی اکتسبت سخط الله عزَّ وتقَّدس, فلم یزل الشک, والارتیاب قادحین فی قلوبهم؛ کما قال أمیر المؤمنین علیه السلام فی کلامه لکمیل ابن زیاد فی صفة طالبی العلم وحملته:
ص: 30
«أو مُنْقاداً لأَهْلِ الحقِّ لا بَصیَرةَ لَهُ یَنْقَدِحُ الشَّکُ فی قَلبْهِ لأوَّلِ عارِضٍ منْ شُبْهَةٍ».
حتَّی أدّاهم ذلک التِیه، والحَیرة، والعَمی، والضلالة، ولم یبق منهم إلا القلیل النزر الذین ثبتوا علی دین الله، وتمسکوا بحبل الله، ولم یحیدوا عن صراط الله المستقیم، وتحقق فیهم وصف الفرقة الثابتة علی الحقَّ التی لا تزعزعها الرَّیاح، ولا یضرُّها الفتن، ولا یغرُّها لمع السراب، ولم تدخل فی دین الله بالرِّجال، فتخرج منه بهم.
کما روینا عن أبی عبد الله جعفر بن محمَّد علیه السلام أنَّه قال:
«مَنْ دخل فی هذا الدین بالرِّجال، أخرجه منه الرِّجال کما ادخلوه فیه؛ ومَنْ دَخَلَ فیه بالکتاب والسنة زالت الجبال قبل أن یزول».
ولعمری ما أُتی مَنْ تاه، وتحیّر، وافتتن، وانتقل عن الحق، وتعلق بمذاهب أهل الزخرف والباطل إلاّ مِنْ قِلَّة الروایة والعلم، وعدم الدَّرایة والفهم فإنَّهم الأشقیاء لم یهتمُّوا لطلب العلم، ولم یُتعبوا أنفسهم فی اقتنائه وروایته من معادنه الصافیة؛ علی أنَّهم لو رووا، ثُمَّ لم یدروا؛ لکانوا بمنزلة من لم یرو.وقد قال جعفر بن محمَّد الصادق علیهما السلام:
«اعرفوا منازل شیعتنا عندنا علی قدر روایتهم عنَّا وفهمهم منَّا».
فإنَّ الروایة تحتاج إلی الدرایة، و(خَبَرٌ تَدْرِیه خَیْرٌ من ألف خبر ترویه).
وأکثر مَنْ دخل فی هذه المذاهب إنَّما دخله علی أحوال:
فمنهم: مَنْ دخله بغیر رویَّة ولا علم، فلمَّا اعترضه یسیر الشبهة تاه.
ص: 31
ومنهم: مَنْ أراده طلباً للدنیا وحطامها، فلَّما أماله الغواة والدنیویّون إلیها مال، مؤثراً لها علی الدین، مغترّاً مع ذلک بزخرف القول غروراً من الشیاطین الذین وصفهم الله عزَّ وجل فی کتابه فقال:
((شَیَاطِینَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ یُوحِی بَعْضُهُمْ إِلَی بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا))(1).
والمغترُّ به فهو کصاحب السراب الذی یحسبه الظمآنُ ماءً، یلمحه عند ظمائه لمعة ماء فإذا جاء لم یجده شیئاً کما قال الله عزَّ وجل(2).
ومنهم: مَنْ تَحَلَّی بهذا الأمر لریاء، والتَّحسُن بظاهره، وطلباً للرئاسة، وشهوة لها، وشغفاً بها؛ من غیر اعتقاد للحق ولا إخلاصٍ فیه؛ فسلب الله جماله، وغیَّر حاله، وأعدَّ له نکاله.
ومنهم: مَنْ دان به علی ضعف من أیمانه، ووهنٍ من نفسه بصحة ما نطق به منه، فلَّما وقعت هذه المحنة التی آذننا أولیاء الله صلَّی الله علیهم بها مذ ثلاثمائة سنة تَحَیَّر، وَوَقَفَ کما قال الله عزَّ وجل من قائل:
((کَمَثَلِ الَّذِی اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَکَهُمْ فِی ظُلُمَاتٍ لا یُبْصِرُونَ))(3).
ص: 32
وکما قال:
((کُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِیهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَیْهِمْ قَامُوا))(1).
ووجدنا الروایة قد أتت عن الصادقین علیهم السلام (بما أمروا به مَنْ وَهَبَ اللهُ عَزَّ وجل له حظَّاً من العلم، وأوصله منه إلی ما لم یوصل إلیه غیره من تبیین ما اشتبه علی إخوانهم فی الدِّین، وإرشادهم فی الحَیرة إلی سواء السبیل، وإخراجهم عن منزلة الشک إلی نور الیقین)(2).
وقد نقل فی الباب العاشر من کتابه الغیبة بعض الروایات التی ظنَّها تتحدث عن هذه الحَیرة التی مرَّ بها الأصحاب، والتی یمکن حمل بعضها إن لم یکن کلها علی الحیرة التی ابتدأت بغیبته عجل الله فرجه الشریف ولا تنتهی إلا باشراقة نور وجهه عجل الله فرجه الشریف.
وکان من الطبیعی له أن یحمل تلک الروایات علی الظاهرة الجدیدة فی المجتمع الشیعی، لأنه عاش بدایة المحنة. ولو بقی حیاً إلی یومنا هذا لحملها علی معناها الأوسع وهو یعیش بدایة المحنة التی کبرت بطول الزمن الذی مرَّت به.
ومن تلک الروایات التی نقلها فی هذا الباب، ما رواه عن شیخه (محمَّد بن همام قال: حدثنی أبو عبد الله محمَّد بن عصام قال: حدَّثنا أبو سعید سهل بن زیاد الآدمی قال: حدَّثنا عبد العظیم بن عبد الله الحسنی، عن أبی جعفر محمَّد بن علی الرِّضا علیهم السلام انه سمعه یقول:
ص: 33
(إذا مات ابنی علی بدا سراج بعده، ثُمَّ خفی، فویل للمرتاب، وطوبی للغریب الفارّ بدینه، ثم یکون بعد ذلک أحداث تشیب فیها النواصی ویسیر الصُّم الصّلاب) (1).
ثُمَّ قال: أیُّ حَیرة أعظم من هذه الحَیرة التی أخرجت من هذا الأمر الخلق الکثیر، والجمَّ الغفیر، ولم یبقَ علیه ممن کان فیه إلا النزرُ الیسیر، وذلک لشک الناس، وضعف یقینهم، وقلة ثباتهم علی ما ابتلی به المخلصون الصابرون، والثابتون، والراسخون فی علم آل محمَّد علیهم السلام، الرَّاوون لأحادیثهم هذه، العالمون بمرادهم فیها، الدَّارون لما أشاروا إلیه فی معانیها الذین انعم الله علیهم بالثبات وأکرمهم بالیقین)(2).
ولا مانع من حمل بعض تلک الروایات التی استشهد بها الشیخ النعمانی علی الحَیرة فی الغیبة الصغری بإعتبارها تتحدث عن تلک المرحلة من الغیبة، کالروایة المتقدمة عن الإمام الجواد علیه السلام. فإنَّ من الطبیعی جداً أن یُحَذَّر الأئمة السابقون علیهم السلام شیعتهم من الأحداث الضخمة التی سوف تصیبهم فی بدایة وقوع الغیبة، والتی تسبب لهم الإرباک الکبیر، والحَیرة، والفتنة؛ بل إنها سببت لبعض الناس أن أخرجتهم من الحق إلی التِیه والضلال.
بل إنْ جمیع تلک الروایات قد شملت الحالة فی بدایتها حینما تحدثت عن الظاهرة فی طول الغیبة کما سوف یأتی الحدیث عنها فی (القسم الثانی).
ص: 34
وفی کلام الشیخ النعمانی (رحمه الله) شیء من المبالغة فی توسعة المتحیّرین، فإنَّنا نتحفّظ بشکل کبیر علی ما ذکره قدس سرَّه، وذلک: لعدم وجود انعکاس واضح لها فی المجتمع الشیعی، فکل ما نقله فی تاریخ تلک الفترة عن هذه الظاهرة لم یتعدَّ النصوص الثلاثة التی ننقلها (وهی مقولات: النعمانی، والصدوق، والکلام المنسوب للأشعری) وهی لا تصلح للاستدلال علی ضخامة سعة دائرة الحَیرة بالسعة التی ذکروها، وذلک لأسباب عدَّة أهمها:
أ -- إن کل واحد منهم یتحدث عن ظروف عاشها هو نفسه، ولم یقم أحد منهم بمسح میدانی یستقرئ جمیع التجمعات الشیعیة، أو حتی أکثرها، وبالخصوص إذا أخذنا بعین الاعتبار الصعوبات الجغرافیة، وعدم توفر وسائل الاتصال التی تمکّنهم من هذا الجرد.
أضف إلی ذلک: أنَّهم کانوا یعملون بجهد شخصی، ولیس کفریق عمل ولذلک فسوف تکون نتائج بحثهم ضَیَّقة بحدود الدائرة الضیقة، والمحدودة التی کانوا یعیشون فیها فکیف یمکننا الحصول علی نتیجة کبیرة؟.
ب -- یمکن بنظرة تأملیة أن نعرف أن الشیخ أبا زینب لم یکن بصدد البحث بخصوصیات هذه الظاهرة، وإنما صدمته بشذوذها وانحرافها فراح یجابهها بانفعال ملحوظ مما یجعل الباحث الموضوعی یشکک بما ذکره (قدس سره) بسعة دائرة الانحراف، ولذلک سار کلامه رحمه الله تعالی علی صورة المنهج الخطابی الذی یهوّل الأشیاء ویفخِّمها، وقد ثبت فی علم المنطق أنه لا یصلح هذا المنهج للاستدلال والبرهنة، وإنما ینفع فی العرض لکسب الجمهور، وإقناع عامة الناس ممن یکون بعیداً عن استخدام القوانین.
ص: 35
ج -- وبالمقابل فإن هناک کمّاً هائلاً من القرائن التی تؤکد إن المناخ العام الذی سیطر علی الجو العقائدی للأمة سار بشکل طبیعی، کما کان علیه الوضع العام للمؤمنین قبل وفاة الإمام العسکری علیه السلام، وإنَّ کُلَّ ما کان قد حدث مِنَ التحیُّر إنَّما کان محصوراً بدائرة ضَیِّقة من الانحراف والشذوذ؛ وهذا یتناقض کلیّاً مع إدِّعاء سعة الدائرة.
فلهذه الأسباب، وغیرها تحصل القناعة الموضوعیة القائلة بضرورة التحفظ من النتیجة التی قد یستفید منها البعض من کلمات الأساطین الذین مرّ ذکرهم. فلا إشکال من وجود بعض التضخیم والتهویل.
وهذا بالضبط ما یمکن أن یقال بالنسبة لما جاء فی کلمات الشیخ الصدوق المتوفی سنة 381 ه- وهو متأخر نسبیاً عن عصر الشیخ أبی زینب (رحمه الله) حیث قال فی مقدمة کتابه (کمال الدین):
(إن الذی دعانی إلی تألیف کتابی هذا: أنَّی لمَّا قضیت وطری من زیارة علی بن موسی الرِّضا (صلوات الله علیه) رجعت إلی نیسابور، وأقمتُ بها، فوجدت أکثر المختلفین إلیّ من الشیعة قد حیّرتهم الغیبة، ودَخَلَتْ علیهم فی أمر القائم علیه السلام الشبهة، وعدلوا عن طریق التَّسلیم إلی الآراء والمقاییس، فَجَعَلْتُ أبذل مجهودی فی إرشادهم إلی الحق، وردَّهم إلی الصواب بالأخبار الواردة فی ذلک عن النبیَّ والأئمة (صلوات الله علیهم) حتی وَرَدَ إلینا من بخاری شیخٌ من أهل الفضل، والعلم، والنباهة ببلد قم طالما تَمَنَّیْتُ لقاءه، واشتقت إلی مشاهدته لِدِیِنِه، وسَدیِد رأیه، واستقامة طریقته وهو الشیخ نجم الدین أبو سعید محمَّد بن الحسن بن محمَّد
ص: 36
بن أحمد بن علی بن الصَّلت القمی -- أدام الله توفیقه -- وکان أبی یروی عن جده محمَّد بن أحمد بن علی بن الصلت -- قدس الله روحه -- ویصف علمه، وعمله، وزهده، وفضله، وعبادته.
وکان أحمد بن محمَّد بن عیسی فی فضله، وجلالته یروی عن أبی طالب عبد الله بن الصلت القمی -- رضی الله عنه -- وبقی حتی لقیه محمَّد بن الحسن الصفار، وروی عنه.
فَلَّما أظفرنی الله (تعالی ذکْره) بهذا الشیخ الذی هو من أهل هذا البیت الرَّفیع شکرتُ الله (تعالی ذکْره) علی ما یسّر لی من لقائه، وأکرمنی به من إخائه، وحبانی به من وُدِّه، وصفائه؛ فبینما هو یحدثنی ذات یوم إذ ذَکَرَ لی عن رجل لقیه ببخاری من کبار الفلاسفة، والمنطقیین کلاماً فی القائم علیه السلام قد حَیَّره، وشککه فی أمره لطول غیبته، وانقطاع أخباره ؛ فذکرتُ له فصولاً فی إثبات کونه علیه السلام ماذا أثبت له؟ ورویت له أخباراً فی غیبته عن النبی والأئمة علیهم السلام سَکَنَتْ إلیها نَفْسُهُ، وزال بها عن قلبه ما کان دَخَلَ علیه من الشک، والارتیاب، والشبهة، وتَلَقَّی ما سمعه من الآثار الصحیحة بالسمع، والطاعة، والقبول، والتسلیم؛ وسألنی أن أُصَنِّفَ [له] فی هذا المعنی کتاباً، فأجبته إلی ملتمسه، ووعدته جَمْعَ ما ابتغی؛ إذا سهَّل الله لی العود إلی مستقری ووطنی بالری.
فبینا أنا ذات لیلة أفکر فیما خَلَّفْتُ ورائی من أهلٍ، وولدٍ، وأخوانٍ، ونعمة إذ غلبنی النوم، فرأیتُ کَأنَّی بمکة أطوف حول بیت الله الحرام، وأنا فی الشوط السابع عند الحجر الأسود أستلمه، واقبّله، وأقول (أمانَتِی أدَّیْتُها ومِیثاِقی تعاهَدْتُهُ
ص: 37
لِتَشْهَدَ لی بالمُوافاة) فأری مولانا القائم صاحب الزَّمان -- صلوات الله علیه -- واقفاً بباب الکعبة، فأدنو منه علی شغل قلب، وتقسم فکر، فَعلِمَ علیه السلام ما فی نفسی بَتَفرُّسِهِ فی وجهی، فَسَلَّمْتُ علیه، فَرَدَّ عَلَیّ السلام، ثُمَّ قال لی:
لم لا تُصَنَّّفَ کتاباً فی الغیبة حتی تکفی ما قد هَمَّکَ؟.
فقلت له: یا بن رسول الله قد صَنَّفْتُ فی الغیبة أشیاءَ. فقال علیه السلام:
لیس علی ذلک السبیل؛ آمُرُکَ أنْ تُصَنِّفَ [ولکن صنف خ.ل] الآن کتاباً فی الغیبة، واذکر فیه غیبات الأنبیاء علیهم السلام.
ثُمَّ مَضَی(صلوات الله علیه)؛ فانتبهتُ فَزِعاً إلی الدعاء، والبکاء، والبث، والشکوی إلی وقت طلوع الفجر؛ فلما أصبحتُ ابتدأت فی تألیف هذا الکتاب ممتثلاً لأمر ولیَّ الله، وحجته، مستعیناً بالله،ومتوکلاً علیه، ومستغفراً من التقصیر؛ وما توفیقی إلا بالله علیه توکلت والیه أنیب) (1).
فهو یصرح بأنه یعالج مشکلة واجهته فی منطقة بعیدة عن عواصم التشیع، بل إنها تقع ضمن دوائر النفوذ السُنّی سیاسیاً وفکریاً من التأریخ آنذاک، کما إنَّ رئیس المحدثین (قدس سره) قد تکلم عن أولئک الذین اختلفوا إلیه من الشیعة، ولم یذکر غیرهم من الذین لم یکن قد التقی بهم لأنَّه لم یکن بصدد ذلک؛ وکل هذا یؤکد النقاط التی بینّاها سابقاً.
وهذا لا ینفی الحقیقة القائلة بحدوث الحَیرة بعد وفاة الإمام العسکری علیه السلام، بل إنَّ النصوص التاریخیة تثبته، وإنما یرتکز التحفظ علی سعة دائرة الانحراف فقط.
ص: 38
مِنْ تلک النصوص التی تُثَبَّت وقوع الحَیرةَ بعد وفاة الإمام العسکری علیه السلام. عند بعض الناس هی النصوص التی تحدثت عن هذه الحَیرةَ التی سوف یبتلی بها المؤمنون عند تمحیصهم، فنحن نعلم أن النبی صلی الله علیه وآله وسلم والأئمة علیه السلام قد جاهدوا من أجل حفظ الأمة من الوقوع بانحرافات الحَیرة، وفتنها، وکذلک فقد بَیَّنُوا وقوع الغیبة قبل اُن تقع بعشرات السنین، وقد جاء ذلک فی الأخبار الکثیرة التی تحدثت عن الغَیبة، وعن الحَیرة بشکل عَام؛ ومن تلک الأخبار:
1 . ما رواه الشیخ الصدوق فی کمال الدین بإسناده إلی الأصبغ بن نباتة قال: (أتیت أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب علیه السلام، فوجدته مفکراً ینکُتُ فی الأرض؛ فقلت: یا أمیر المؤمنین! مالی أراک مفکراً تنکت فی الأرض أرغبةً فیها؟. قال:
لا، والله ما رغبتُ فیها، ولا فی الدنیا یوماً قط، ولکنَّی فکرتُ فی مولود یکون من ظهری الحادی عشر من ولدی هو المهدی یملأها عدلاً کما ملئت ظلماً، وجوراً، تکون له حَیرة وغَیبة یضلُّ فیها أقوام، ویهتدی فیها آخرون.
فقلت: یا أمیر المؤمنین، وأنَّ هذا لکائن؟. فقال:
نعم، کما أنَّه مخلوق، وأنَّی لک بالعلم بهذا الأمر؛ یا أصبغ! أولئک خیار هذه الأمة مع أبرار هذه العترة.
قلت: وما یکون بعد ذلک؟ قال:
ثُمَّ یفعل الله ما یشاء، فان له أرادات، وغایات، ونهایات)(1).
ص: 39
2 . وروی أبو القاسم علی بن محمَّد بن علی الخزاز القمّی الرازی عن علی بن محمَّد الدقاق قال: حدَّثنا أحمد بن محمَّد بن یحیی العطار قال: حدثنا أبی، عن جعفر بن محمَّد بن مالک الفزاری قال: حدَّثنی أحمد بن محمَّد المدائنی، عن أبی غانم قال: سمعت أبا محمَّد الحسن بن علی علیه السلام یقول:
فی سنة مائتین وستین تفترق شیعتی.
وفیها قُبِضَ أبو محمَّد علیه السلام، وتفرقت شیعته وأنصاره. فمنهم من انتمی(1) إلی جعفر، ومنهم من تاه وشک، ومنهم مَنْ وقف علی الحیرة، ومنهم من ثبت علی دینه بتوفیق الله عزَّ وجل)(2).
3 . وقد خرج من الناحیة المقدسة ( عجل الله فرجه الشریف) بما یتعلق بظاهرة الحَیرَة فی بدایة الغیبة الصغری بما رواه الشیخ الطبرسی (رحمه الله) عن النائب الأول الشیخ أبی عمرو عثمان بن سعید العَمْری (رحمه الله) وجاء فی التوقیع الشریف:
بسم الله الرحمن الرحیم؛ عافانا الله من الفتن، ووهب لنا ولکم روح الیقین، وأجارنا وإیاکم من سوء المنقلب. انه أنُهی إلیَّ ارتیاب جماعة منکم فی الدین وما دخلهم من الشک والحَیرة فی ولاة أمرهم, فَغَمَّنا ذلک لکم لا لنا،
ص: 40
وساءنا فیکم لا فینا؛ لإنَّ الله معنا، فلا فاقة بنا إلی غیره، والحق معنا، فلن یوحشنا من قَعَدَ عنا. ونحن صنایع ربنا والخلق بعد صنایعنا.
یا هؤلاء مالَکُمْ فی الرَّیب تترددون, وفی الحَیرة تنعکسون؟! أو ما سمعتم الله یقول:
((یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَطِیعُوا اللَّهَ وَأَطِیعُوا الرَّسُولَ وَأُولِی الأَمْرِ مِنْکُمْ))(1).
أَوَما علمتم ما جاءت به الآثار مما یکون ویحدُثُ فی أئمتکم علی الماضین, والباقین منهم علیهم السلام؟.
أَوَما رأیتم کیف جعل الله لکم معاقل تأوون إلیها، وأعلاماً تهتدون بها من لدن آدم علیه السلام إلی أن ظهر الماضی علیه السلام. کُلَّما غاب عَلَمٌ بَدا عَلَمٌ, وإذا أفَلَ نَجْمٌ طَلَع نَجْمٌ؛ فلَمَّا قَبَضَه الله إلیه ظننتم إنَّ الله أبْطَلَ دینه، وقطع السبب بینه وبین خلقه. کلا ما کان ذلک, ولا یکون حتی تقوم الساعة، ویظهر أمر الله وهم کارهون.
وأنَّ الماضی علیه السلام مضی سعیداً فقیداً علی منهاج أبائه علیهم السلام (حذوَ النعلِ بالنعلِ)، وفینا وصیّتُه، وعلمُه، ومَنْ هو خَلقُهُ، ومَنْ یَسُدَّ مَسَدَّهُ. ولا ینازعنا موضعه إلا ظالم، آثمٌ؛ ولا یَدَّعیه دوننا إلا کافرٌ جاحدٌ؛ ولولا أنَّ أمر الله تعالی لا یُغْلَب، وسِرَّهُ لا یَظْهَر، ولا یُعْلَن، لظهر لکم مِنْ حَقِّنا ما تبین [تبهر.خ.ل] منه عقولکم، ویزیل شکوککم، ولکنَّه ما شاء الله کان، ولکلِّ أجل کتاب.
ص: 41
فاتقوا الله، وسلِّموا لنا، وردُّوا الأمر إلینا، فعلینا الإصدار، کما کان منَّا الإیراد، ولا تحاولوا کشف ما غُطّی عنکم، ولا تمیلوا عن الیمین وتعدلوا إلی الیسار، واجعلوا قصدکم إلینا بالمودة علی السُّنَّةِ الواضحة، فقد نصحت لکم، واللهُ شاهدٌ علَیَّ وعلیکم، ولولا ما عندنا من محبَّة صاحبکم، ورحمتکم، والإشفاق علیکم لُکُنّا عن مخاطبتکم فی شغل مما قد امْتَحنا به من منازعة الظالم الُعُتل الضَّال، المتتابع فی غِّیه، المضاد لربِّه، المُدَّعی ما لیس له، الجاحد حقَّ مَنْ افترض الله طاعته، الظالم الغاصب.
وفی ابنة رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وعلیها لی أُسْوَةٌ حسنة، وسیرتدی الجاهل رداء عمله، وسیعلم الکافر لمن عقبی الدار.
عصمنا الله وإیاکم من المهالک، والأسواء، والآفات، والعاهات کلّها برحمته انه ولی ذلک، والقادر علی مایشاء، وکان لنا ولکم ولیاً، وحافظاً. والسلام علی جمیع الأوصیاء، والأولیاء، والمؤمنین ورحمة الله وبرکاته وصلّی الله علی النبی محمَّد وآله وسلّم تسلیماً)(1).
4 . وقد جاء ذکر الحَیرة فی ضمن عدة روایات منها: ما رواه الصدوق فی کمال الدین قال: حدَّثنا الحسین بن أحمد بن إدریس (رضی الله عنه) قال: حدثنا أبی قال: حدَّثنا محمَّد بن إسماعیل قال: حدَّثنی محمَّد بن إبراهیم الکوفی قال: حدَّثنا محمَّد بن عبد الله الطهوی قال: قصدت حکیمة بنت الإمام محمَّد علیه السلام بعد
ص: 42
مُضی أبی محمَّد علیه السلام، أسألها عن الحجة وما قد اختلف فیه الناس من الحَیرة التی هم فیها؛ فقالت لی: اجلس؛ فجلست، ثُمَّ قالت: یا محمد؛ إنَّ الله تبارک وتعالی لا یُخْلی الأرض مِنْ حُجَّةٍ ناطِقَةٍ، أو صامِتَةٍ، ولم یجعلها فی أخوین بعد الحسن والحسین علیهم السلام تفضیلاً للحسن والحسین, وتنزیهاً لهما أنْ یکون فی الأرض عدیلهما, إلا أنَّ الله تبارک وتعالی خَصَّ وُلْدَ الحسین بالفضل علی وُلْدِ الحسن علیهم السلام، کما خَصَّ وُلْدَ هارون علی ولد موسی علیه السلام. وان کان موسی حُجَّةً علی هارون، والفضل لوُلْدِهِ إلی یوم القیامة، ولابدَّ للأمة مِنْ حَیرة یرتاب فیها المبطلون، ویخلص فیها المحقِّون، کیلا یکون للخلق علی الله حجة، وان الحَیرة لابد واقعة بعد مضی أبی محمد الحسن علیه السلام.
فقلت: یا مولاتی هل کان للحسن علیه السلام وَلَد؟.
فتبسمت، ثُمَّ قالت: إذا لم یکن للحسن علیه السلام عَقِبٌ فَمَنْ الحُجَّةُ مِنْ بَعْدِهِ، وقد أخبرتُک أنَّه لا إمامة لأخوین بعد الحسن والحسین علیهم السلام.
فقلت یا سیدتی حدثینی بولادة مولای, وغیبته علیه السلام.
قالت: نعم... الخ)(1).
ثُمَّ قَصَّتْ للراوی حکایة مولد المهدی المنتظر عجل الله فرجه الشریف.
ومن ذلک ما رواه الثقة الثبت الشیخ محمَّد بن جریر بن رستم الطبری فی کتابه (دلائل الإمامة) قال: حدَّثنی أبو المفضل محمَّد بن عبد الله, قال: اخبرنا أبو
ص: 43
بکر محمَّد بن جعفر بن محمَّد المقرئ، قال: حدَّثنا أبو العباس محمَّد بن شابور [سابور خ.ل]، قال: حدَّثنی الحسن بن محمَّد بن حمران [حیدان خ.ل] السراج القاسم قال: حدثنی احمد بن الدینوری السراج المُکنَّی بأبی العباس الملقب بأستاره، قال: انصرفت من أردبیل إلی دینور أرید أن أحج. وذلک بعد مضی أبی محمد الحسن بن علی علیه السلام بسنة أو سنتین، وکان الناس فی حَیرة، فاستبشر أهل دینور بموافاتی، واجتمع الشیعة عندی، فقالوا: اجتمع عندنا ستة عشر ألف دینار من مال الموالی، ونحتاج أن نحملها معک، وتسلمها بحیث یجب تسلیمها.
قال: فقلت: یا قوم هذه حَیرَة، ولا نعرف الباب فی هذا الوقت.
قال: فقالوا: إنَّما اخترناک لحمل هذا المال لما نعرف من ثقتک، وکرمک، فاعمل [فاحمله، خ.ل] علی أن لا تخرجه من یدیک إلا بِحُجَّة.
قال: فُحُمِلَ إلیَّ المالُ فی صرر باسم رجل رجل، فحملت ذلک المال، وخرجت؛ فلَّما وافیت قریمسین، وکان أحمد بن الحسن مقیماً بها، فصرتُ إلیه مُسَلِّماً, فلمَّا لقینی استبشر بی، ثُمَ أعطانی ألف دینار فی کیس، وتخوت ثیاب من ألوان معکمة [ معتمة خ.ل] لم أعرف ما فیها، ثُمَّ قال لی أحمد: احمل هذا معک، ولا تخرجه عن یدک إلا بِحُجَّةٍ.
قال: فقبضت المال، والتخوت بما فیها من الثیاب؛ فلما وردتُ بغداد لم یکن لی هِمَّةٌ غیر البحث عَمَّنْ أُشِیَر إلیه بالنیابة، فقیل لی: إنَّ ههنا رجلاً یعرف بالباقطانی یدعی بالنیابة، وآخر یُعْرَف بإسحاق الأحمر یدعی بالنیابة، وآخر یعرف بأبی جعفر العَمْری یدعی بالنیابة.
ص: 44
قال: فبدأت بالباقطانی، وصُرْتُ إلیه فوجدته شیخاً، مهیباً، له مروءة ظاهرة، وفرس عربی، وغلمان کثیر، ویجتمع الناس [عنده] یتناظرون.
قال: فدخلتُ علیه وسَلَّمْتُ علیه، فَرَحَّبَ، وَقَّرب، وَسرَّ، وَبَّر.
قال: فأطلت القعود إلی أن خرج أکثر الناس، قال: فسألنی عن حاجتی، فَعَرَّفْتُهُ انّی رجل من أهل دینور، ومعی شیء من المال أحتاج أن أُسَلِّمَهُ.
فقال لی: احمله.
قال: فقلت: أرید حُجَّة.
قال: تعود إلیَّ فی غد.
قال: فعدتُ إلیه من الغد، فلم یأت بحُجَّة، وعدت إلیه فی الیوم الثالث فلم یأت بحُجَّة.
قال: فصرت إلی إسحاق الاحمر؛ فوجدته شاباً، نظیفاً، منزله أکبر من منزل الباقطانی، وفرسه، ولباسه، ومروءته أسری، وغلمانه أکثر من غلمانه، ویجتمع عنده من الناس أکثر ممّا یجتمع عند الباقطانی؛ قال: فدخلتُ وسلَّمْتُ، فَرَحَّبَ، وقَرَّب، قال: فصبرت إلی أن خَفَّ النَّاسُ، قال: فسألنی عن حاجتی، فقلت له: کما قلت للباقطانی، وعدت إلیه ثلاثة أیام, فلم یأت بحجة.
فصرت إلی أبی جعفر العَمْری، فوجدته شیخاً متواضعاً، علیه مبطنة بیضاء، قاعد علی لبِد، فی بیت صغیر، لیس له غلمان، ولا من المروءة، والفرس ما وجدت لغیره: قال: فَسَلَّمْتُ، فَرَدَّ الجواب، وأدنانی، وبسط منَّی، ثُمَّ سألنی عن حالی، فعرفته أنِّی وافیت من الجبل، وحملت مالاً:
ص: 45
قال: فقال: إن أحَبَبْتَ أنْ یصل هذا الشیء إلی من یجب أن یصل إلیه تخرج إلی سُرَّ مَنْ رأی، وتسأل عن دار ابن الرضا، وعن فلان بن فلان الوکیل -- وکانت دار ابن الرضا عامرة بأهلها -- فإنَّک تجد هناک ما ترید.
قال: فخرجت من عنده، ومضیت نحو سُرَّ مَنْ رأی، وصرتُ إلی دار ابن الرضا، وسأَلْتُ عن الوکیل، فذکر البواب انه مشتغل فی الدار، وإنَّه یخرج آنفاً:
فقعدتُ علی الباب انتظر خروجه، فخرج بعد ساعة، فقمتُ، وسلمتُ علیه، وأخذ بیدی إلی بیت کان له، وسألنی عن حالی، وما وردتُ له، فَعَرَّفْتُهُ أنِّی حملت شیئاً من المال من ناحیة الجبل، واحتاج أن أُسَلِّمَهُ بحُجَّة.
قال: فقال: نعم، ثُمَّ قَدَّمَ إلیّ طعاماً، وقال لی: تغدَّ بهذا، واسترح، فإنَّک تعب، وإنّ بیننا وبین صلاة الأولی ساعة، فإنّی أحمل إلیک ما ترید.
قال: فأکَلْتُ، ونُمْتُ؛ فَلَّما کان وقت الصلاة نهضتُ، وصلَّیْتُ، وذهبتُ إلی المشرعة، فأغتسلتُ وانصرفت إلی بیت الرجل، ومکثت إلی أن مضی من اللیل ربعه، فجاءنی بعد أن مضی من اللیل ربعه، ومعه درج فیه.
بسم الله الرحمن الرحیم؛ وافی أحمد بن محمَّد الدینوری، وحمل ستة عشر ألف دینار، وفی کذا وکذا صرة، فیها صُرَّة فلان بن فلان کذا وکذا دینار، وصُرَّة فلان بن فلان کذا وکذا دینار -- إلی إن عَدَّدَ الصُّرَر کُلَّها -- وصُّرَّة فلان بن فلان الذراع ستة عشر دیناراً.
قال: فوسوس لی الشیطان، فقلت: إنَّ سیدی أعلم بهذا مِنَّی، فما زلت اقرأ ذکر صُرَّة صُرَّة، وذِکْرَ صاحبها حتی أتیت علیها عند أخرها، ثُمَّ ذکر:(قد
ص: 46
حمل من قرمیسین من عند أحمد بن الحسن المادرائی أخی الصَّواف کیساً فیه ألف دینار، وکذا وکذا تختاً من ثیاباً، منها ثوب فلانی، وثوب لونه کذا؛ حتی نسب الثیاب إلی أخرها بأنسابها وألوانها.
قال: فحمدتُ الله، وشکرتُه علی ما مَنَّ به علیَّ مِنْ إزالة الشک عن قلبی، وأمر بتسلیم جمیع ما حمَلْتُهُ إلی حیث یأمرنی أبو جعفر العَمْری.
قال: فانْصَرَفْتُ إلی بغداد, وصرت إلی أبی جعفر العَمْری؛ قال وکان خروجی، وانصرافی فی ثلاثة أیام.
قال: فلما بصر بی أبو جعفر -- ره -- قال: لمَ لمْ تخرج؟.
فقلت: یا سیدی مِنْ سُرَّ مَنْ رأی انصرفت؛ قال: فأنا أُحَدِّث أبا جعفر بهذا. إذ وردت رقعة إلی أبی جعفر العَمْرِی من مولانا صاحب الأمر(صلوات الله علیه)، ومعها درج مثل الدَّرج الذی کان معی فیه ذکر المال والثیاب، وأمر أن یُسَلَّمَ جمیع ذلک إلی أبی جعفر محمَّد بن أحمد بن جعفر القطان القمی.
فلبس أبو جعفر العَمْری ثیابه، وقال لی: احمل ما معک إلی منزل محمد بن احمد بن جعفر القطان القمی.
قال: فحملت المال، والثیاب إلی منزل محمد بن احمد بن جعفر القطان, وَسَلَّمْتُها إلیه، وخرجت إلی الحج.
فلَّما انصرفت إلی دینور اجتمع عندی الناس، فأخرجت الدَّرج الذی أخرجه وکیل مولانا (صلوات الله علیه) إلیَّ وقرأته علی القوم فلَّما سمع بذکر الصرة باسم الذراع سقط مغشیاً علیه، وما زلنا نعلله حتی أفاق، فلما، أفاق
ص: 47
سجد شکراً لله عزَّ وجل، وقال: الحمد لله الذی مَنَّ علینا بالهدایة، ألان علمت أن الأرض لا تخلو من حجة، هذه الصُرَّة دفعها -- والله -- إلیّ هذا الذراع، لم یقف علی ذلک إلا الله عزَّ وجل.
قال: فخرجتُ، ولقیت بعد ذلک أبا الحسن المادرائی وعرفته الخبر، وقرأت علیه الدُرْجَ فقال: یا سبحان الله ما شَکَکَت فی شیء فلا تشکنّ فی أن الله عزَّ وجل لا یُخلی أرضه من حُجَّة.
اعلم أنَّه لمَّا غزا اذکوتکین یزید بن عبد الله بشهر زور [بسهورد.خ.ل]، وظفر ببلاده، واحتوی علی خزائنه؛ صار إلیّ رجل، وذکر: إنَّ یزید بن عبد الله جعل الفرس الفلانی، والسیف الفلانی فی باب مولانا علیه السلام.
قال: فجعلت انقل خزائن یزید بن عبد الله إلی اذکوتکین أولاً فأولاً، وکنت أدافع بالفرس، والسیف إلی أن لم یبقَ شیء غیرهما، وکنت ارجو أن أُخَلِّصَ ذلک لمولانا علیه السلام، فلَّما اشتدت مطالبة اذکوتکین إیای، ولم یمکنی مدافعته، جعلت فی السیف، والفرس فی نفسی ألف دینار، ووزنتها، ودفعتها إلی الخازن، وقلت له: ادفع هذه الدنانیر فی أوثق مکان، ولا تخرجن إلیّ فی حال من الأحوال، ولو اشتدت الحاجة إلیها؛ وسلمت الفرس، والسیف [الفصْلَ، والفرس. خ. ل].
قال: فأنا قاعد فی مجلسی بالرَّی أُُبرم الأمور، وأوفی القصص، وآمر، وأنهی، إذ دخل أبو الحسن الأسدی، وکان یتعاهدنی الوقت، بعد الوقت وکنت اقضی حوائجه، فلما طال جلوسه، وعلیّ بؤس کثیر، قلت له: ما حاجتک؟.
قال: احتاج منک إلی خلوة.
ص: 48
فأمرت الخازن أن یهیء لنا مکاناً من الخزانة، فدخلنا الخزانة، فأخرج إلیّ رقعة صغیرة من مولانا علیه السلام فیها: (یا أحمد بن الحسن الألف دینار التی لنا عندک ثمن الفرس، والسیف [الفصل] سَلِّمْها إلی أبی الحسن الأسدی).
قال: فخررتُ لله عزَّ وجل ساجداً شکراً لما مَنَّ به عَلیَّ، وعرفت انه حجّة [خلیفة خ.ل] الله حقاً، لأَّنه لم یکن وَقَفَ علی هذا أحَدٌ غیری، فأضفت إلی ذلک المال ثلاثة آلاف دینار أخری سروراً بما مَنَّ الله علیّ بهذا الأمر)(1).
ص: 49
ص: 50
ص: 51
ص: 52
لقد وقعت الحَیرة بعد وفاة الإمام العسکری علیه السلام کما اخبر عنها الأئمة علیهم السلام من قبل وقوعها. ومع أنها أصابت کمیة کبیرة من الناس، فإنها بقیت محرّمة وبعیدة عن کثیرین لم تصلهم الفتنة برحمة من الله سبحانه ورضوانه، وقد حصّنهم إیمانهم وتقواهم من الوقوع فیها.
ومع ذلک فالفتنة لم تطل مدتها، وإنما انقشعت فی بدایات الغیبة الصغری، ولم تتجاوز المدة السنوات الست الأولی من الغیبة علی أکثر تقدیر، أو دونها کما فی خبر الدینوری المتقدم حیث حدد الحَیرة بسنة أو سنتین بعد مضی أبی محمَّد الحسن بن علی علیه السلام. وقد حددت الروایة التی رواها الکلینی فی الکافی والنعمانی فی الغیبة مدّة الحَیرة بزمن اقصر من الستة سنوات.
قال النعمانی: واخبرنا محمد بن یعقوب قال: (حدثنا علی بن محمد، عن عبد الله بن محمد بن خالد، قال: حدثنی نصر بن محمد بن قابوس، عن منصور بن السندی، عن ابی داود المسترق، عن ثعلبة بن میمون، عن مالک الجهنی، عن الحارث بن المغیرة، عن الاصبغ بن نباتة، قال: أتیت أمیر المؤمنین علیا علیه السلام ذات یوم، فوجدته مفکراً ینکث فی الأرض! فقلت: یا أمیر المؤمنین! تنکث فی الأرض، أرغبة مکنک فیها؟.
ص: 53
فقال:
لا والله ما رغبت فیها، ولا فی الدنیا ساعة قط، ولکنّ فکری فی مولود یکون من ظهری، الحادی عشر من ولدی، هو المهدی الذی یملأها قسطاً، وعدلاً کما ملئت ظلماً وجوراً، تکون له حَیرة وغَیبة یضلّ فیها أقوام، ویهتدی فیها آخرون.
فقلت: یا أمیر المؤمنین! فلم تکون تلک الحیرة، والغیبة؟ فقال:
سبت من الدَّهر.
فقلت: ان هذا لکائن؟. فقال:
نعم، کما انه مخلوق.
قلت: ادرک ذلک الزمان؟. فقال:
أنیّ لک یا اصبغ! بهذا الأمر؟! اولئک خیار هذه الامة مع أبرار هذه العترة.
فقلت: ثم ماذا یکون بعد ذلک؟ فقال:
ثُمَّ یفعل الله ما یشاء، فان له إرادات، وغایات، ونهایات)(1).
وروی الکلینی فی الکافی الشریف هذه الروایة بلفظ قریب قال:(علی بن محمد عن عبد الله بن محمد بن خالد قال: حدثنی منذر بن محمد بن قابوس، عن منصور بن السندی، عن أبی داود المسترق، عن ثعلبة بن میمون، عن مالک الجهنی، عن الحارث بن المغیرة، عن الأصبغ بن نباتة قال: أتیت أمیر المؤمنین علیه السلام
ص: 54
فوجدته متفکراً ینکت فی الأرض، فقلت: یا أمیر المؤمنین مالی أراک متفکراً تنکت فی الأرض أرغبة منک فیها؟. فقال:
لا والله ما رغبت فیها، ولا فی الدنیا یوماً قط، ولکنَّی فکرت فی مولود یکون من ظهری، الحادی عشر من ولدی هو المهدی الذی یملأ الأرض عدلاً وقسطاً کما ملئت جوراً وظلماً، تکون له غیبة وحیرة، یضل فیها أقوام، ویهتدی فیها آخرون.
فقلت: یا أمیر المؤمنین وکم تکون الحیرة والغیبة؟ قال:
ستة أیام أو ستة أشهر أو ست سنین.
فقلت: وان هذا لکائن؟ فقال:
نعم، کما انه مخلوق، وأنَّی لک بهذا الأمر یا اصبغ! أولئک خیار الأمة مع خیار أبرار هذه العترة.
فقلت: ثم ما یکون بعد ذلک؟ فقال:
ثم یفعل الله ما یشاء، فان له بداءات، وإرادات، وغایات، ونهایات(1).
وقد احتمل العلامة المجلسی (رحمه الله) عدة معانٍ یمکن تصورها من التردد بین (ستة أیام، أو ستة أشهر, أو ست سنین) فی بیان تحدید (مدة الحَیرة والغیبة)
ص: 55
فقال: قوله علیه السلام (ستة أیام) لعله مبنی علی وقوع البداء فی هذا الأمر، ولذا ردَّد علیه السلام بین أمور، وأشار بعد ذلک إلی احتمال التغییر بقوله: (ثم یفعل الله ما یشاء). وقوله (فان له بداءات).
أو یقال: إن السائل سأل عن الغیبة والحیرة معاً، فأجاب علیه السلام بأنَّ زمان مجموعهما أحد الأزمنة المذکورة، وبعد ذلک ترتفع الحیرة، وتبقی الغیبة، ویکون التردید باعتبار اختلاف مراتب الحَیرة إلی إن استقر أمره علیه السلام فی الغیبة)(1).
والملفت فی کلام العلامة المجلسی الإشارة التی أومأ بها إلی ظاهرة الحَیرة النسبیة:
أ . إن الحیرة لم تطبق أضراسها علی الجمیع، وإنما ابتلی بها بعض الناس دون غیرهم.
ب . إن الحَیرة التی ابتلی بها باقی الناس کانت مؤقتة، وکانت حالاتها متباینة فمنهم من ظهرت له الحقیقة بشکل سریع ورجع إلی الحق، ومنهم من احتاج إلی مدّة أطول لیبحث ویتحقق وقد وفقه الله عزَّ وجل إلی ذلک بعد مدّة لیست بالطویلة. وهناک روایات کثیرة تبین حالات اؤلئک الناس، وزوال الحَیرة عنهم، ورجوعهم إلی الهدی بعدما تبین لهم.
وکان من الطبیعی إن لم یُصَبْ خیار أصحاب الإمام العسکری علیه السلام بعد وفاته بالحَیرة مثل احمد بن إسحاق، أو عثمان بن سعید العَمْری، أو احمد بن إدریس القمی المعروف بالمعلم، أو محمَّد بن علی بن بلال الثقة، ومحمد بن الحسین
ص: 56
بن أبی الخطاب الزیات الکوفی، ومحمد بن الحسن الصفار، فإننا لم نجد فی جمیع المصادر والکتب التی ذکرت هذه الحَیرة اسماً واحداً لأحد من أصحاب الإمام العسکری علیه السلام أو من وجهاء الشیعة وفقهائها بانه احتار، او شملته تلک الحَیرة.
ویعود سبب عدم تمکن الحَیرة من أولئک العلماء الی أمور أهمها:
1 . أنهم کانوا قد رووا عن الأئمة الطاهرین علیه السلام أن الإمامة المعصومة سوف تختتم بالمهدی المنتظر ابن الإمام العسکری علیه السلام.
2 . وکذلک رووا عن السادة المعصومین علیه السلام أن الإمام المهدی سوف یحتجب عن شیعته.
3 . کما أنَّهم رووا: أن الله (عزَّ وجل) سوف یمتحن شیعته بغیبته، وأن له غیبتین: إحداهما أطول من الأخری.
4 . وکذلک فقد رووا عن آبائه السابقین علیهم السلام کثیراً من التفاصیل التی سوف تقع من حین ولادته إلی یوم ظهوره، فحکومته عجل الله فرجه الشریف.
5 . أضف إلی ذلک فإنَّهم کانوا یعلمون بولادته علم الیقین، إما بإخبار الإمام العسکری علیه السلام لهم بولادته، أو برؤیته، ومشاهدته کما وقع ذلک للکثیرین منهم.
لذلک لم یفاجأوا بوفاة الإمام العسکری علیه السلام ووقوع الغیبة، فإنهم قد رووا ذلک من قبل وقوعها بأسانیدهم الصحیحة عن الأئمة السابقین علیهم السلام وکان من أولئک الأصحاب من عاصر الإمام الرضا، والإمام الجواد، والإمام الهادی، والإمام العسکری علیه السلام، ونعطیک مثالاً عن ذلک هو أحد أصحاب الإمام
ص: 57
العسکری علیه السلام الذی عاصر من الأئمة الرضا والجواد والهادی علیهم السلام واسمه الفضل بن شاذان المتوفی سنة 260 ه- فی حیاة الإمام العسکری علیه السلام وقد ترحم علیه(1)؛ یعنی انه لم یَطُل به العمر لیُدرک بدایات عصر غیبة الإمام الحجة القائم بن الحسن المهدی عجل الله فرجه الشریف، ومع ذلک فقد عُدَّ من کتبه کتاب الغیبة(2) وکتاب (القائم)(3) وقد روی روایات کثیرة فی ولادة الحجة عجل الله فرجه الشریف وفی غیبته، ومن ذلک قال:
1 . حدثنا عبد الرحمن بن أبی نجران، عن عاصم بن حمید، عن أبی حمزة الثمالی، عن أبی جعفر علیه السلام قال:
«قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم لأمیر المؤمنین علیه السلام: یا علی! إن قریشاً ستظهر علیک ما استبطنته، وتجتمع کلمتهم علی ظلمک وقهرک. فإن وجدت أعواناً فجاهدهم، وان لم تجد أعواناً فکفَّ یدک، واحقنْ دمک فإن الشهادة من ورائک.
واعلم أن ابنی ینتقم من ظالمیک وظالمی أولادک، وشیعتک فی الدنیا, ویعذبهم الله فی الآخرة عذاباً شدیداً.
ص: 58
فقال سلمان الفارسی: من هو یا رسول الله؟.
قال: التاسع من ولد ابنی الحسین الذی یظهر بعد غیبته الطویلة، فیعلن أمر الله، ویظهر دین الله، وینتقم من أعداء الله، ویملأ الأرض قسطاً وعدلاً کما ملئت جوراً وظلماً.
قال: متی یظهر یا رسول الله؟.
قال: لا یعلم ذلک إلا الله، ولکن لذلک علامات منها: نداء من السماء، وخسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بالبیداء)(1).
2 . حدثنا صفوان بن یحیی قال: (حدَّثنا أبو أیوب إبراهیم بن زیاد الخزاز قال: حدثنا أبو حمزة الثمالی، عن أبی خالد الکابلی قال: دخلت علی مولای علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب علیهم السلام فرأیت فی یده صحیفة کان ینظر إلیها ویبکی بکاءً شدیداً، قلت: فداک أبی وأمی یا ابن رسول الله ما هذه الصحیفة؟. قال:
هذه نسخة اللوح الذی أهداه الله تعالی إلی رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم کان فیه اسم الله تعالی، ورسوله، وأمیر المؤمنین، وعمی الحسن بن علی، وأبی علیهم السلام، واسمی، واسم ابنی محمَّد الباقر، وابنه جعفر الصادق، وابنه موسی الکاظم، وابنه علی الرِّضا، وابنه محمَّد التقی، وابنه علی النقی، وابنه الحسن الزکی، وابنه حجة الله القائم بأمر الله، المنتقم من أعداء الله، الذی یغیب غیبة طویلة ثم یظهر، فیملأ الأرض قسطاً وعدلاً کما ملئت جوراً وظلماً)(2).
ص: 59
3 . حدثنا فضالة بن أیوب (رضی الله عنه) قال: (حدَّثنا أبان بن عثمان قال: حدَّثنا محمَّد بن مسلم قال: قال أبو جعفر علیه السلام: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم لعلی بن أبی طالب علیه السلام:
«أنا أولی بالمؤمنین من أنفسهم، ثُمَّ أنت یا علی أولی بالمؤمنین من أنفسهم، ثُمَّ الحسن أولی بالمؤمنین من أنفسهم، ثُمَّ الحسین أولی بالمؤمنین من أنفسهم، ثُمَّ علی بن الحسین أولی بالمؤمنین من أنفسهم، ثُمَّ محمَّد بن علی أولی بالمؤمنین من أنفسهم، ثم جعفر بن محمد أولی بالمؤمنین من أنفسهم، ثُمَّ موسی بن جعفر أولی بالمؤمنین من أنفسهم، ثُمَّ علی بن موسی أولی بالمؤمنین من أنفسهم، ثُمَّ محمَّد بن علی أولی بالمؤمنین من أنفسهم، ثُمَّ علی بن محمَّد أولی بالمؤمنین من أنفسهم، ثُمَّ الحسن بن علی أولی بالمؤمنین من أنفسهم، ثُمَّ الحجة بن الحسن الذی تنتهی إلیه الخلافة والوصایة, ویغیب مدة طویلة, ثُمَّ یظهر ویملأ الأرض عدلاً وقسطاً کما ملئت جوراً وظلماً»(1).
4 . قال الشیخ الجلیل الاقدم الفضل بن شاذان (نور الله تعالی مرقده): (حدَّثنا الحسن بن محبوب رضی الله عنه، عن مالک بن عطیة، عن أبی حمزة ثابت بن أبی صفیة ثابت بن دینار، عن أبی جعفر علیه السلام قال:
قال الحسین بن علی بن أبی طالب علیهما السلام لأصحابه قبل أن یقتل بلیلة واحدة: إنَّ رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم قال لی: یا بُنی إنَّک ستساق إلی العراق، تنزل فی ارض یقال لها عمورا، وکربلا، وإنَّک تستشهد بها, ویستشهد معک جماعة.
ص: 60
وقد قرب ما عَهد إلیَّ رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وإنِّی راحل إلیه غداً, فمن أحبَّ منکم الانصراف فلینصرف فی هذه اللیلة فإنِّی قد أذنتُ له وهو منِّی فی حل.
وأکَّد فیما قاله تأکیداً بلیغاً, فلم یرضوا, وقالوا: واللهِ ما نفارقک أبدا ًحتی نَرِدَ موردک.
فلَّما رأی ذلک قال: فابشروا بالجنة، فو الله إنَّما نمکث ما شاء الله تعالی بعد ما یجری علینا، ثُمَّ یخرجنا الله وإیاکم حین یظهر قائمنا فینتقم من الظالمین. وأنا وانتم نشاهدهم فی السلاسل, والأغلال, وأنواع العذاب, والنکال.
فقیل له: مَنْ قائمکم یا ابن رسول الله؟. قال:
السابع من ولد ابنی محمَّد بن علیّ الباقر، وهو الحجَّة بن الحسن بن علیّ بن محمَّد بن علیّ بن موسی بن جعفر بن محمَّد بن علیّ ابنی،وهو الذی یغیب مدَّة طویلة, ثم یظهر ویملأ الأرض قسطاً وعدلاً کما ملئت جوراً وظلماً)(1).
5 . وقال الشیخ أبو محمَّد الفضل بن شاذان (طیب الله مضجعه): (حدَّثنا صفوان بن یحیی -- رضی الله عنه -- قال: حدثنا إبراهیم بن أبی زیاد، عن أبی حمزة الثمالی، عن أبی خالد الکابلی قال: دخلت علی سیدی علیّ بن الحسین بن علیّ بن أبی طالب علیهم السلام فقلت: یا ابن رسول الله اخبرنی بالذین فرض الله طاعتهم، ومودتهم، وأوجب علی عباده الاقتداء بهم بعد رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم.
ص: 61
فقال:
یا کابلی: إنَّ أُولی الأمر الذین جعلهم الله عزَّ وجل أئمة الناس, وأوجب علیهم طاعتهم: أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب علیه السلام، ثُمَّ الحسن عمِّی، ثُمَّ الحسین أبی، ثُمَّ انتهی الأمر إلینا وسکت.
فقُلت له: یا سیدی: روی لنا عن أمیر المؤمنین علیه السلام: (إنَّ الأرض لا تخلو من حُجَّة لله تعالی علی عباده)؛ فَمَنْ الحجة, والإمام بعدک؟. قال:
ابنی محمَّد واسمه فی صحف الأولین باقر، یبقر العلم بقراً، وهو الحجة والأمام بعدی، ومن بعد محمَّد ابنه جعفر واسمه عند أهل السماء الصادق.
قلت: یاسیدی فکیف صار اسمه الصادق وکلکم صادقون؟. قال:
حدَّثنی أبی عن أبیه عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم قال: إذا ولد ابنی جعفر بن محمد بن علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب فسموه الصادق فان الخامس من ولده الذی اسمه جعفر یدّعی الإمامة اجتراءً علی الله جل جلاله وکذباً علیه فهو عند الله (جعفر الکذاب) المفتری علی الله تعالی والمُدَّعِی ما لیس له بأهل، المخالف لأبیه، والحاسد لأخیه، وذلک الذی یروم کشف سرّ الله عزَّ وجل عند غیبة ولیّ الله.
ثم بکی علیُّ بن الحسین علیه السلام بکاءً شدیداً، ثُمَّ قال:
کأنِّی بجعفر الکذاب وقد حَمَلَ طاغیة زمانه علی تفتیش أمر ولیِّ الله، والمغَّیب فی حفظ الله، والتوکیل بحرم أبیه، جهلاً منه برتبته، وحرصاً علی قتله إن ظفِر به، وطمعاً فی میراث أخیه، حتی یأخذه بغیر حق.
ص: 62
فقال أبو خالد: فقلت: یا ابن رسول الله وأنَّ ذلک لکائن؟!.
فقال:
إی وربِّی إنَّ ذلک مکتوب عندنا فی الصحیفة التی فیها ذکر المحن التی تجری علینا بعد رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم.
فقال أبو خالد: فقلت: یا ابن رسول الله؛ ثُمَّ یکون ماذا؟ قال:
ثُمَّ تمتد الغیبة بولیّ الله الثانی عشر من أوصیاء رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، والائمة بعده.
یا أبا خالد: إن أهل زمان غیبته القائلین بإمامته، والمنتظرین لظهوره أفضل من أهل کل زمان،فإنَّ الله تبارک وتعالی أعطاهم من العقول، والأفهام، والمعرفة ما صارت به الغیبة [عندهم] بمنزلة المشاهدة، وجعلهم فی ذلک الزمان بمنزلة المجاهدین بین یدی رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم بالسیف؛ أولئک المخلصون حقاً، وشیعتنا صدقاً، والدعاة إلی دین الله عزَّ وجل سراً وجهراً.
وقال علیه السلام:
انتظار الفرج من أعظم [أفضل] الفرج)(1).
6 . وقال الشیخ أبو محمد الفضل بن شاذان علیه الرحمة والغفران:
(حدثنا محمد بن عبد الجبار رضی الله عنه قال: قلت لسیدی الحسن بن علی علیهم السلام: یا ابن رسول الله جعلنی الله فداک أُحِبُّ أن أعلم مَنْ الإمام، وحجة الله علی عباده مِنْ بعدک؟.
ص: 63
قال علیه السلام:
إنَّ الإمام, والحُجَّةَ بعدی ابنی، سمیّ رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، وکَنِیُّهُ الذی هو خاتم حُجج الله، وآخر خلفائه.
فقلت: مِمَّنْ هو یا بن رسول لله؟.
قال:
من ابنة ابن قیصر ملک الروم، إلا انه سیولد, فیغیب عن الناس غیبة طویلة, ثُمَّ یظهر, ویَقتل الدجال، فیملأ الأرض قسطاً وعدلاً کما ملئت جوراً وظلماً، فلا یحلُّ لأحد أن یسمِّیه باسمه, أو یکنِّیه بکنیته قبل خروجه صلوات الله علیه)(1).
7 . وقال الشیخ أبو محمد الفضل بن شاذان (علیه رحمة الله الملک المنّان) (حدَّثَنا أحمد بن إسحاق بن عبد الله الأشعری رضی الله عنه قال: سمعت أبا محمّد الحسن بن علی العسکری سلام الله علیه یقول:
الحمد لله الذی لم یخرجنی من الدنیا حتی أرانی الخلف بعدی، أشبه الناس برسول الله صلی الله علیه وآله وسلم خَلْقاً وخُلُقاً، یحفظه الله تبارک وتعالی فی غیبته، ثُمَّ یُظهره، فیملأ الأرض قسطاً وعدلاً کما ملئت ظلماً وجوراً)(2).
8 . وقال الشیخ الفضل بن شاذان (رحمه الله تعالی): (حدَّثنا إبراهیم بن محمَّد بن فارس النیشابوری قال:
ص: 64
لما هَمَّ الوالی عمرو بن عوف بقتلی وهو رجل شدید النصب، وکان مولَعاً بقتل الشیعة، فأُخْبِرْتُ بذلک، وغلب علیَّ خوفٌ عظیم، فودَّعتُ أهلی، وأحبَّائی، وتوجهتُ إلی دار أبی محمَّد علیه السلام لأودعه، وکنتُ أردتُ الهرب.
فلمَّا دخلتُ علیه رأیتُ غلاماً جالساً فی جنبه, وکان وجهه مضیئاً کالقمر لیلة البدر، فَتَحَیَّرْتُ من نوره، وضیائه، وکِدتُ أن أنسی ما کنت فیه من الخوف، والهرب. فقال:
یا إبراهیم! لا تهرب، فإنَّ الله تبارک وتعالی سیکفیک شرَّه.
فازداد تحیّری، فقلتُ لأبی محمَّد علیه السلام: یا سیدی! جعلنی الله فداک، مَنْ هو، وقد اخبرنی بما کان فی ضمیری؟!. فقال:
هو ابنی، وخلیفتی من بعدی، وهو الذی یغیب غیبة طویلة ویظهر بعد امتلاء الأرض جوراً وظلماً، فیملأها عدلاً وقسطاً.
فسألتُه عن اسمه، قال: هو سمّی رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، وکَنِیُّهُ، ولا یحلُّ لأَحد أن یسمِّیه باسمه، أو یکنِّیه بکنیته إلی أن یُظهر الله دولته وسلطنته، فاکتم یا إبراهیم ما رأیت، وسمعتَ منّا الیوم إلا عن أهله.
فصلَّیْتُ علیهما، وآبائهما، وخرجتُ مستظهراً بفضل الله تعالی، واثقاً بما سمعتُه من الصاحب علیه السلام فبشَّرنی عمِّی علیُّ بن فارس بأن المعتمد قد أرسل أبا احمد أخاه، وأمره بقتل عمرو بن عوف، فأخذه أبو أحمد فی ذلک الیوم، وقطَّعه عضواً عضواً والحمد لله رب العالمین)(1).
ص: 65
إن الشک لم یدخل قلوب أصحاب الإمام العسکری علیه السلام أبداً ولدیکم آثارهم، وأخبارهم التی امتلأت بها کتب الطائفة المحقّة (حماها الله تعالی من الأشرار)، وفتّشوا فیها فسوف لا تجدون اسماً واحداً من المعروفین منهم قد شک، وإنما نجد الحَیرة قد أصابت غیرهم.
فهم بعیدون عن الشبهة، والضلالات، والشکوک، والحَیرة، ولذلک فإننا عندما نقرأ خبر عبد الله بن جعفر الحمیری القمی(1) ومراجعته لأبی عمرو عثمان بن سعید العَمْری (رحمه الله) یسأله عن لقائه بالإمام الحجة عجل الله فرجه الشریف فان أول
ص: 66
ما یقوله انه یؤکد عدم دخول الشک وبکل مراتبه إلی قلبه وإنما أراد أن یستأنس بالحدیث عنه، وعن رؤیته سماعاً من لسان نائبه الأول فی عصر الغیبة الصغری، فکان مقام سؤال الحمیری للعَمْرِی مقام محبٍّ عارفٍ متیقن بإمامته:
روی الکلینی فی الکافی الشریف عن محمد بن عبد الله، ومحمد بن یحیی جمیعاً، عن عبد الله بن جعفر الحمیری قال: اجتمعت أنا والشیخ أبو عمرو (رحمه الله) عند أحمد بن إسحاق، فغمزنی أحمد بن إسحاق أن اسأله عن الخلف، فقلت له: یا أبا عمرو إنی أرید أن أسألک عن شیء، وما أنا بشاک فیما أرید أن أسألک عنه. فان اعتقادی، ودینی أن الأرض لا تخلو من حجة إلا إذا کان قبل یوم القیامة بأربعین یوماً، فإذا کان ذلک رفعت الحجة، وأغلق باب التوبة فلم یکن ینفع نفساً إیمانها لم تکن أمنت من قبل أو کسبت فی أیمانها خیراً، فأولئک أشرار من خلق الله عزَّ وجل، وهم الذین تقوم علیهم القیامة، ولکنی أحببت أن أزداد یقیناً وان إبراهیم علیه السلام سأل ربه (عزَّ وجل) أن یریه کیف یحیی الموتی قال: أولم تؤمن، قال بلی ولکن لیطمئن قلبی، وقد اخبرنی أبو علی أحمد بن إسحاق، عن أبی الحسن علیه السلام قال: سألته، وقلت: مَن أعامل، وعمَّن آخذ، وقول مَن اقبل؟.
فقال له: العَمْرِیُ ثقتی، فما أدّی إلیک عنّی فعنِّی یؤدّی، وما قال لک عنِّی فعنِّی یقول، فاسمع له، وأطعْ، فإنه الثقة المأمون.
وأخبرنی أبو علی إنه سأل أبا محمد علیه السلام عن مثل ذلک، فقال له: العَمْری وابنه ثقتان، فما أدَّیا إلیک عنِّی فعنِّی یؤدّیان، وما قالا لک فعنِّی یقولان، فاسمع لهما وأَطِعْهما فإنهما الثقتان المأمونان.
ص: 67
فهذا قول إمامین قد مضیا فیک.
قال: فخرَّ أبو عمرو ساجداً، وبکی، ثُمَّ قال: سَلْ حاجتک.
فقلت له: أنت رأیت الخلف من بعد أبی محمَّد علیه السلام؟(1).
فقال: إی والله، ورقبته مثل ذا -- وأومأ بیده --.
فقلت له: فبقیت واحدة، فقال لی: هات.
قلت: فالاسم؟.
قال: محرَّم علیکم أن تسألوا عن ذلک، ولا أقول هذا من عندی فلیس لی أن أُحلِّل، ولا أُحرِّم، ولکن عنه علیه السلام فإن الأمر عند السلطان، أن أبا محمد مضی ولم یخلّف ولداً، وقُسِّمَ میراثه، وأخذه من لاحق له فیه، وهو ذا عیاله یجولون لیس أحد یجسر أن یتعرف إلیهم، أو ینیلهم شیئا،ً وإذا وقع الاسم وقع الطلب، فاتقوا الله، وأمسکوا عن ذلک.
قال الکلینی رحمه الله: وحدثنی شیخ من أصحابنا - ذهب عنی اسمه - أن أبا عمرو سأل عن أحمد بن إسحاق عن مثل هذا فأجاب بمثل هذا)(2).
وذیل الروایة یؤید ما أشرنا إلیه فی توضیح سبب سؤال الحمیری للعمری عن رؤیته لبقیة الله الأعظم عجل الله فرجه الشریف حیث روی الکلینی عن شیخ من أصحابنا
ص: 68
واقعة أخری حدثت بین أحمد بن إسحاق، والعَمْری، وکان العَمْری (رحمه الله) قد استفهم من أحمد بن إسحاق عن رؤیته الإمام عجل الله فرجه الشریف، ومن المستحیل أن یکون العَمْری غیر عارف بالجواب فهو الشاهد علی رؤیة الإمام الحجة عجل الله فرجه الشریف بعد ولادته والقیّم علی عقیقته، وقد صرّح کراراً بأنه قد رآه فی مواطن کثیرة.. وإنما کانت مسائلته العَمْری تعبّر عن شوقه لسماع أخبار الحبیب من لسان أحد مقرَّبیه، ومشاهدیه کما تحدث هذه الحالة مع الکثیرین الذین یزورون الأحبّة البعیدین، ثُمَّ یعودون فإنَّهم یسألون من قبل الأحباب عن أخبار الأحبة، وما شاهدوه من أحوالهم.
وکان طبیعیاً أن لا یَحارَ فقهاء الشیعة، ولا یتفاجؤن بقوانین الغیبة، وظروفها لأسباب متعددة منها:
أنهم رَوَوا ذلک سابقاً، وقد ألفوا فیه الکتب التی نصّت علی ضرورة الغیبة التی تلازم حیاة الإمام الثانی عشر عجل الله فرجه الشریف إلی أن یقوم بالحق، ویشهر سیفه حینما یقضی الله (عزَّ وجل) بذلک. ومن تلک الکتب:
1. کتاب الغیبة لأبی الفضل العباس بن هشام الناشری المتوفی سنة عشرین ومائتین قال النجاشی: (أبو الفضل الناشری الأسدی عربی، ثقة، جلیل فی أصحابنا، کثیر الروایة، کُسر اسمه فقیل عُبَیس. له کتب منها... کتاب الغیبة... ومات عُبَیس (رحمه الله) سنة عشرین ومائتین أو قبلها بسنة(1).
ص: 69
وعدّه الشیخ الطوسی من أصحاب الإمام الرضا علیه السلام(1).
2. کتاب الغیبة للفضل بن شاذان وقد تقدم الحدیث عنه.
3. کتاب الغیبة والحَیرة لأبی العباس عبد الله بن جعفر الحمیری وقد تقدم الحدیث عنه.
4. کتاب الغیبة لأبی بکر محمد بن القاسم البغدادی قال النجاشی: (متکلم، عاصر بن همّام له کتاب فی الغیبة)(2).
وذکر اقا بزرک الطهرانی انه توفی سنة332(3).
5. کتاب الغیبة لأبی محمد عبد الوهاب المادرائی قال النجاشی: عبد الوهاب المادرائی، أبو محمد، له کتاب فی الغیبة(4).
6. کتاب الغیبة لأبی الحسن علی بن محمد بن ریاح السوّاق قال النجاشی: (علی بن محمد بن علی بن عمرو بن ریاح بن قیس بن سالم.... أبو الحسن السواق... کان ثقة فی الحدیث واقفاً فی المذهب، صحیح الروایة، ثبتاً، معتمدا علی ما یرویه، وله کتب منها... کتاب الغیبة..)(5).
ص: 70
وقال الشیخ فی رجاله: (علی بن محمد بن ریاح النحوی، روی عنه ابن همّام)(1).
7. کتاب الغیبة وکشف الحَیرة لمحمد بن أحمد الصفوانی قال النجاشی: (محمد بن أحمد بن عبد الله بن قضاعة بن صفوان بن مهران الجمال، مولی بنی أسد، أبو عبد الله، شیخ الطائفة، ثقة، فقیه، فاضل،... له کتب منها... کتاب الغیبة وکشف الحَیرة... اخبرنی بجمیع کتبه شیخی أبو العباس احمد بن علی بن نوح عنه)(2).
وقال الطوسی فی الفهرست: (محمَّد بن أحمد بن عبد الله بن قضاعة، یکنّی أبا عبد الله الصفوانی، من ولد صفوان بن مهران الجمال صاحب الإمام الصادق علیه السلام، وکان حفظة، کثیر العلم، جید اللسان)(3).
8. کتاب الغَیبة وکشف الحَیرة لأبی الحسن سلامة بن محمد الأرزنی المتوفی سنة 339ه- قال النجاشی: (سلامة بن محمد بن إسماعیل بن عبد الله بن موسی بن أبی الأکرم أبو الحسن الأرزنی خال أبی الحسن بن داود شیخ من أصحابنا، ثقة، جلیل، روی عن ابن الولید، وعلی بن الحسین بن بابویه، وابن بطة، وابن همام، ونظرائهم، وکان أحمد بن داوود تزوج أخته، وأخذه إلی قم، فولدت له أبا
ص: 71
الحسن محمد بن أحمد، ورحل به معه إلی بغداد بعد موت أبیه، وأقام بها مدة، ثُمَّ خرج سنة ثلاث وثلاثین إلی الشام وعاد إلی بغداد، ومات بها ودفن بمقابر قریش.
له کتب منها کتاب الغَیبة وکشف الحَیرة، کتاب المقنع فی الفقه، کتاب الحج عملاً، ومات سلامة سنة تسع وثلاثین وثلاثمائة.
أخبرنا محمَّد بن محمَّد والحسین بن عبید الله، وأحمد بن علی قالوا: حدثنا أبو الحسن محمَّد بن أحمد بن داوود، عن سلامة بکتبه)(1).
9. کتاب الغَیبة وذکر القائم لأبی محمد الحسن بن محمد بن یحیی المعروف بابن أخی طاهر عدّ النجاشی من کتبه کتاب (الغَیبة) وذکر القائم عجل الله فرجه الشریف، وانه مات فی شهر ربیع الأول سنة ثمانٍ وخمسین وثلاثمائة،ودفن فی منزله بسوق العطش)(2).
10. کتاب الغَیبة لأبی عبد الله محمد بن إبراهیم النعمانی قال النجاشی: (محمد بن إبراهیم بن جعفر أبو عبد الله الکاتب، النعمانی، المعروف بأبی زینب، شیخ من أصحابنا، عظیم القدر، شریف المنزلة، صحیح العقیدة، کثیر الحدیث، قدم بغداد، وخرج إلی الشام، ومات بها.
له کتب منها کتاب الغَیبة، کتاب الفرائض، کتاب الرد علی الإسماعیلیة.
رأیت أبا الحسین محمَّد بن علی الشجاعی الکاتب یقرأ علیه کتاب الغیبة تصنیف محمد بن إبراهیم النعمانی بمشهد العتیقة، لأنه کان قرأه علیه، ووصّی لی
ص: 72
ابنه أبو عبد الله الحسین بن محمَّد الشجاعی بهذا الکتاب, وبسائر کتبه والنسخة المقروءة (المقروة) عندی)(1).
وهو مطبوع، مشهور، متداول من مصادر کتابنا هذا.
11. کتاب الغَیبة لأبی الحسن أحمد بن محمَّد قال النجاشی: (أحمد بن محمَّد بن عمران بن موسی، أبو الحسن، المعروف بابن الجندی أستاذنا رحمه الله ألحقنا بالشیوخ فی زمانه، له کتب... کتاب الغیبة)(2).
12. کتاب الغیبة لأبی إسحاق إبراهیم بن إسحاق الاحمری عدّ النجاشی والطوسی من کتبه کتاب الغیبة(3).
وقال النجاشی: قال أبو عبد الله بن شاذان: حدثنا علی بن حاتم قال: أطلق لی أبو أحمد القاسم بن محمَّد الهمدانی عن إبراهیم بن إسحاق وسمع منه سنة تسع وستین ومائتین(4).
13. کتاب الغَیبة لحنظلة بن زکریا قال النجاشی: (حنظلة بن زکریا بن حنظلة بن خالد بن العیار التمیمی، أبو الحسن القزوینی... له کتاب الغَیبة. اخبرنا الحسین بن عبید الله، قال: حدثنا أبو الحسن یبن تمام عنه به)(5).
ص: 73
14. کتاب القائم لأبی الحسن علی بن مهزیار الأهوازی قال الشیخ النجاشی:
(أبو الحسن دَورَقی الأصل، مولی، کان أبوه نصرانیاً فأسلم، وقد قیل إن علیاً أیضاً اسلم وهو صغیر، ومنّ الله علیه بمعرفة هذا الأمر، وتفقّه، وروی عن الرضا, وأبی جعفر علیهما السلام، واختص بأبی جعفر الثانی [ علیه السلام ], وتوکّل له, وعظم محله منه, وکذلک أبو الحسن الثالث علیه السلام، وتوکّل لهم فی بعض النواحی، وخرجت إلی الشیعة فیه توقیعات بکل خیر, وکان ثقة فی روایته لا یُطعن علیه, صحیحاً اعتقاده.
وصنف الکتب المشهورة وهی مثل کتب الحسین بن سعید وزیادة کتاب الوضوء، کتاب الصلاة، کتاب الزکاة، کتاب الصوم، کتاب الحج، کتاب الطلاق، کتاب الحدود، کتاب الدیات، کتاب العتق والتدبیر، کتاب التجارات والإجازات، کتاب المکاسب، کتاب التفسیر، کتاب الفضائل، کتاب المثالب، کتاب الدعاء، کتاب التجمل والمروة، کتاب المزار، کتاب الرد علی الغلاة، کتاب الوصایا، کتاب المواریث، کتاب الخمس، کتاب الشهادات، کتاب فضائل المؤمنین وبرهم، کتاب الملاحم، کتاب التقیة، کتاب الصید والذبائح، کتاب الزهد، کتاب الاشربة، کتاب النذور والإیمان والکفارات، وزاد علی کتب الحسین بن سعید کتاب الحروف، کتاب القائم، کتاب البشارات، کتاب الأنبیاء، کتاب النوادر، رسائل علی بن أسباط.
ص: 74
أخبرنا محمد بن محمد, والحسین بن عبید الله، والحسین بن أحمد بن موسی بن هدیة، عن جعفر بن محمد عن محمد بن الحسن بن علی، عن أبیه عن جده بکتبه جمیعها وروی کتب علی بن مهزیار أخوه إبراهیم.
أخبرنا أبو عبد الله القزوینی قال: حدثنا أحمد بن محمد بن یحیی قال: حدثنا عبد الله بن جعفر، عن إبراهیم، عن أخیه علی بها.
فأما روایة العباس بن معروف، فاخبرنا بها علی بن أحمد، عن محمد بن الحسن، عن محمد بن الحسن الصفار، عن العباس عن علی بکتبه کلها)(1).
وقال الشیخ الطوسی فی الفهرست: (علی بن مهزیار الأهوازی رحمه الله، جلیل القدر، واسع الروایة، ثقة، له ثلاثة وثلاثون کتاباً..)(2).
وعدّه الشیخ الطوسی من أصحاب الإمام الرضا علیه السلام(3) ومن أصحاب الإمام الجواد علیه السلام(4)، ومن أصحاب الإمام الهادی علیه السلام(5).
15. کتاب الغَیبة لأبی الحسن علی بن الحسن بن علی بن فضّال قال النجاشی: (علی بن الحسن بن علی بن فضّال بن عمر بن أیمن مولی عِکْرَمة بن رِبْعِی الفیاض أبو الحسن.
ص: 75
کان فقیه أصحابنا بالکوفة، ووجههم، وثقتهم، وعارفهم بالحدیث، والمسموع قوله فیه.
سُمع منه شیء کثیر، ولم یُعثر له علی زلة فیه، ولاما یشینه، وقلّ ما رَوی عن ضعیف.. وقد صنف کتباً کثیرةً منها.. کتاب الغیبة، کتاب الملاحم.. کتاب البشارات)(1).
ولا یخفی أن هذه الکتب الثلاثة تتعلق جمیعها بأحوال الإمام المهدی علیه السلام.
وقال الطوسی: (ثقة کوفی کثیر العلم واسع الروایة والأخبار، جید التصانیف..)(2).
وعدّه فی رجاله من أصحاب الإمام الهادی علیه السلام(3)وأصحاب الإمام العسکری علیه السلام(4) وقد توفی سنة 224ه-(5)، أی قبل ولادة الإمام المهدی عجل الله فرجه الشریف بحوالی (30) ثلاثین سنة.
16. الغَیبة لأبی إسحاق إبراهیم بن صالح الأنماطی قال النجاشی: (إبراهیم بن صالح الأنماطی یکنّی بأبی إسحاق، کوفی، ثقة... قال لی أبو العباس: أحمد بن علی بن نوح: انقرضت کتبه فلیس اعرف منها إلا کتاب الغیبة..)(6).
ص: 76
وقال الطوسی: (إبراهیم بن صالح الأنماطی یکنی أبا إسحاق، ثقة، ذکر أصحابنا أن کتبه انقرضت، والذی اعرف من کتبه کتاب الغَیبة.
أخبرنا به الحسین بن عبید الله قال: حدثنا أحمد بن جعفر، قال: حدثنا حمید بن زیاد، قال: حدثنا عبد الله بن احمد بن نهیل، عن إبراهیم بن صالح الأنماطی)(1).
وقیل: انه ألَّف کتابه الغیبة قبل ولادة الإمام المهدی عجل الله فرجه الشریف بأکثر من مائة سنة.
وطبقَتُه فی الحدیث تساعد علی ذلک والله تعالی العالم.
17. کتاب الغَیبة لأبی الحسن علی بن الحسن الطائی الجرمی قال النجاشی: (علی بن الحسن بن محمد الطائی الجرمی المعروف بالطاطری وإنما سمی بذلک لبیعه ثیاباً یقال لها الطاطریة.
یکنّی أبا الحسن، وکان فقیهاً، ثقة فی حدیثه... له کتب منها... الغیبة)(2).
عدّه الشیخ الطوسی من أصحاب الإمام الکاظم علیه السلام(3).
18. کتاب الغَیبة لأبی الحسن علی بن عمر الأعرج الکوفی قال النجاشی: له کتاب الغیبة(4).
ص: 77
19. کتاب الغیبة لأبی علی الحسن بن محمد بن سماعة قال النجاشی: (الحسن بن محمد بن سماعة، أبو محمد الکندی الصیرفی من شیوخ الواقفة، کثیر الحدیث، فقیه، ثقة،... وله کتب منها... الغیبة... البشارات.. .
وقال حُمید: توفی أبو علی، لیلة الخمیس لخمس خلَون من جمادی الأولی لسنة ثلاث وستین ومائتین بالکوفة. وصلّی علیه إبراهیم بن محمد العلوی، ودفن فی جُعْفیّ)(1).
وقال الطوسی: (الحسن بن محمد بن سماعة الکوفی، واقفی المذهب الا انه جید التصانیف، نقی الفقه، حسن الاعتقاد، وله ثلاثون کتاباً منها... کتاب البشارات.. کتاب الغَیبة، ومات ابن سماعة لسنة ثلاث وستین ومائتین فی جمادی الأولی..)(2).
وذکره فی رجاله ضمن أصحاب الإمام الکاظم علیه السلام(3).
20. کتاب الغَیبة 21. کتاب الرجعة 22. کتاب القائم للحسن بن علی بن أبی حمزة البطائنی (عدّ النجاشی هذه الکتب الثلاثة له من جملة کتبه)(4).
ص: 78
ص: 79
ص: 80
ولم تظهر الغیبة بوسائلها فجأة فی حیاة الأمة، أو بتعبیر أدق فی حَیاة الفقهاء، وإنما مَدَّت جذورها من زمان الأئمة المتأخرین علیهم السلام، فقد بدأت من حیاة الإمام الجواد علیه السلام الذی تسلَّم منصب الإمامة وکان له من العمر أقل من تسع سنوات، لیعتاد الناس علی الحقیقة العقائدیة القائلة: إنَّ منصب الإمامة إلهی غیبی یتناسب مع قوانین الغَیب، وغیر ملزم بالقوانین الاجتماعیة العادیة.
وقد کان للتجربة التی مرَّ بها المؤمنون بإمامة الإمام الجواد علیه السلام رد فعل إیجابی، فإنَّ فقهاء الأمة کانوا ومازالوا دائماً بمستوی فهم أسرار الغیب وقوانینه.
وحینما نرید أن نصوِّر أدوار الأئمة المتأخرین علیه السلام الممهدة لطرح الإمام المهدی عجل الله فرجه الشریف فی بدایة إمامته بتهیئة الأجواء النفسیة، لتحمل واستیعاب مظاهر أطروحات الإمامة الجدیدة الخاتمة بما یجعلها طبیعیة، ومقبولة نفسیاً وذهنیاً من قبل القواعد الشیعیة للإمام عجل الله فرجه الشریف فعلینا أن نتعرض للموضوع بِطَرْقِ جمیع خصوصیاته.
وهو یحتاج إلی تحلیل تاریخی، وعلمی کبیر بما یستوعب کل النقاط البحثیة من جوانبها المختلفة.
ص: 81
مما یستلزم أن یفرد له بحث مستقل قد یوفق له بعض من یوفقه الله تعالی، ومع ذلک فإنَّنا نؤثر أن نتعرض للموضوع علی شکل رؤوس أقلام بما یملأ نقاط الفراغ، ویُکَوِّن إجابات سریعة للأسئلة التی تطرح أمام البحث.
وبشکل مجمل فإنَّنا یمکننا أن نتصور من خلال الروایات والآثار الصحیحة، أنَّ لإمامة کل إمام من الأئمة الثلاثة المتأخرین علیهم السلام دوراً معین شارک فی بناء الأرضیة النفسیة، والذهنیة لدی القواعد الشیعیة لاستیعاب المظاهر الجدیدة للإمامة فی عصر الغیبة الصغری، بما ساهم من رفع المفاجأة لحدوث الغیبة.
و بسبب التراث الروائی عن المعصومین علیهم السلام، یمکننا أن نلاحظ توثیق التصویر التمهیدی، بین إمامة الإمامین الجواد والمهدی علیهما السلام من خلال محورین أساسیین:
فهناک روایات شریفة رواها أصحاب الأثار والأخبار الصحیحة، توضح بما لا لبس فیه من أن هناک علاقة وثیقة بین إمامة الإمام الجواد علیه السلام الذی شاء الله عزَّ وجل أن تکون بصغرٍ من سنّه (صلوات الله علیه)، وبین إمامة الإمام المهدی عجل الله فرجه الشریف الذی سوف یتصدی للإمامة بصغرٍ من سنّه أیضاً..ومن تلک الروایات ما رواه الشیخ المفید فی الإرشاد، قال: (أخبرنی أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن یعقوب، عن علی بن إبراهیم بن هاشم، عن أبیه، وعلی بن
ص: 82
محمد القاسانی جمیعاً، عن زکریا بن یحیی بن النعمان قال: سمعت علی بن جعفر بن محمد یحدث الحسن بن الحسین بن علی بن الحسین فقال فی حدیثه: لقد نصر الله أبا الحسن الرضا علیه السلام لما بغی علیه إخوته، وعمومته.
وذکر حدیثاً طویلاً حتی انتهی إلی قوله، فقمتُ وقبضتُ علی ید أبی جعفر محمد بن علی الرضا علیه السلام، وقلت له: اشهد أنَّک إمام عند الله.
فبکی الرضا علیه السلام، ثم قال:
یا عم ألم تسمع أبی وهو یقول: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: بأبی ابن خیرة الإماء النوبیة الطیبة، یکون مِنْ ولده الطرید الشرید، الموتور بأبیه، وجده، صاحب الغیبة، فیقال مات أو هلک أی واد سلک؟.
فقلت: صدقت جعلت فداک)(1).
ص: 83
ونجد اهتمام الأئمة علیهم السلام بتثقیف جماهیرهم علی قبول الإمامة المعصومة خالیة من کل التصورات الساذجة التی تفرضها الظروف المادیة علی غیرهم، لأنَّ آل محمد علیهم السلام لا یقاس بهم أحد.
ولذلک فلیس للسنّ مدخل فی إمامة الإمام منهم علیهم السلام، واشتد التأکید علی إظهار هذه القضیة بالخصوص فی إمامة الإمام الجواد علیه السلام.
وهذا ما تحدثت عنه الأخبار الشریفة ومنها ما رواه الکلینی فی الکافی:
1 . روی بسند صحیح عن محمد بن یحیی، عن أحمد بن محمد، عن صفوان بن یحیی قال: قلت للرضا علیه السلام: قد کنَّا نسألک قبل أن یهب الله لک أبا
ص: 84
جعفر علیه السلام، فکُنْتَ تقول: یهبُ الله لی غلاماً، فقد وهبه الله لک فأقرَّ عیوننا، فلا أرانا الله یومک فإن کان کون فإلی من؟.
فأشار بیده إلی أبی جعفر علیه السلام وهو قائم بین یدیه.
فقلت: جعلت فداک هذا ابن ثلاث سنین؟!. فقال:
وما یضرُّه من ذلک، فقد قام عیسی علیه السلام بالحُجَّة وهو إبن ثلاث سنین؟!(1).
2 . وروی عن الحسین بن محمد، عن الخیرانی، عن أبیه قال: کنت واقفاً بین یدی أبی الحسن علیه السلام بخراسان، فقال له قائل: یا سیدی إن کان کون فإلی مَنْ؟. قال:
إلی أبی جعفر ابنی.
فکأنَّ القائل استصغر سِنَّ أبی جعفر علیه السلام، فقال أبو الحسن علیه السلام:
إن الله تبارک وتعالی بعث عیسی بن مریم رسولاً نبیاً صاحب شریعة مبتدأة فی أصغر من السنّ الذی فیه أبو جعفر علیه السلام(2).
ص: 85
3 . وروی بسند صحیح عن محمد بن یحیی، عن أحمد بن محمد، عن معمر بن خلاد قال: سمعت الرضا علیه السلام وذکر شیئاً فقال:
ما حاجتکم إلی ذلک؟! هذا أبو جعفر قد أجلسته مجلسی، وصیّرته مکانی.
وقال:
إنا أهل بیت یتوارث أصاغرنا عن أکابرنا القُذَّةَ بالقُذَّةِ(1).
4 . وروی عن الحسین بن محمد، عن معلّی بن محمد، عن علی بن أسباط قال: رأیت أبا جعفر علیه السلام وقد خرج علیّ فأخذت النظر إلیه وجعلت أنظر إلی رأسه ورجلیه لأصف قامته لأصحابنا بمصر؛ فبینا أنا کذلک حتی قعد، فقال:
یا علی! إن الله احتج فی الإمامة بمثل ما احتج به فی النبوة،
فقال:
((وآتَیْنَاهُ الْحُکْمَ صَبِیَّا))(2)و((لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ))(3)((وَبَلَغَ أَرْبَعِیْنَ سَنَةً))(4).
ص: 86
فقد یجوز ان یؤتی الحکمة وهو صبی، ویجوز أن یؤتاها وهو ابن أربعین سنة(1).
5 . وروی عن سهل بن زیاد، عن علی بن مهزیار، عن محمد بن إسماعیل بن بزیغ قال: سألته -- یعنی أبا جعفر علیه السلام -- عن شیءٍ من أمر الإمام، فقلت: یکون الإمام ابن اقل من سبع سنین؟.
فقال:
نعم واقل من خمس سنین.
فقال سهل: فحدَّثنی علی بن مهزیار بهذا فی سنة إحدی وعشرین ومائتین(2).
6 . وروی عن محمَّد بن یحیی، عن أحمد بن محمَّد، عن علی بن سیف، عن بعض أصحابنا، عن أبی جعفر الثانی علیه السلام قال: قلت له: إنهم یقولون فی حداثة سنِّک. فقال:
إن الله تعالی أوحی إلی داود أن یستخلف سلیمان وهو صبی یرعی الغنم، فأنکر ذلک عُبّاد بنی إسرائیل وعلماؤهم، فأوحی الله إلی داود علیه السلام أن خذ عصی المتکلمین، وعصی سلیمان، واجعلهما فی
ص: 87
بیت، واختم علیها بخواتیم القوم، فإذا کان من الغد فمن کانت عصاه قد أورقت وأثمرت فهو الخلیفة، فأخبرهم داود، فقالوا: قد رضینا وسلمنا(1).
وهناک مجموعة من الروایات تبین الثقافة العمیقة والکبیرة التی کانت تتمتع بها عموم القواعد الشیعیة لمفاهیم الإمامة، ومدی رسوخ تلک الحقائق الدینیة فی وجودهم.
فهم یعلمون أنَّ الإمامة منصب الهی لیس للبشر دخل فیه، ویمکننا أن نتبرک ببعض الروایات التی توضح هذه الحقیقة منها:
أ . مارواه الکلینی عن: (الحسین بن محمَّد، عن محمَّد بن أحمد النهدی، عن محمد بن خلّاد الصیقل، عن محمد بن الحسن بن عمار قال: کنت عند علی بن جعفر بن محمد جالساً بالمدینة، وکنت أقمت عنده سنتین اکتب عنه ما یسمع من أخیه -- یعنی أبا الحسن علیه السلام -- إذ دخل علیه أبو جعفر محمد بن علی الرضا علیه السلام المسجد -- مسجد الرسول صلی الله علیه وآله وسلم -- فوثب علی بن جعفر بلا حذاء ولا رداء فَقَبَّلَ یَدَهُ وَعَظَّمَهُ، فَقَالَ لَهُ أبو جعفر علیه السلام:
یَا عَمِّ إِجْلِسْ رَحِمَکَ اللهُ.
فَقَالَ: یَا سَیِّدِی کَیْفَ أَجْلِسُ وَأَنْتَ قَائِمٌ؟!.
فَلَمَّا رَجَعَ عَلِّیُ بْنُ جَعْفَرْ إِلَی مَجْلِسِهِ جَعَلَ أصحابهُ یُوَبِّخُونَهُ، وَیَقُولُونَ: أَنْتَ عَمُّ أَبیِهِ وَأَنْتَ تَفْعَلُ بِهِ هَذَا الْفِعْل؟.
ص: 88
فقال: اسکتوا؛ إذا کان اللهُ (عزّوجل) -- وَقَبَضَ عَلیَ لِحْیَتِهِ -- لَمْ یُؤَهِّلَ هَذِهِ الشَیْبَةَ وَأَهَّلَ هذا الفَتْی، وَوَضَعَهُ حَیْثُ وَضَعَهُ، أَُنْکِرُ فَضْلَهُ؟! نَعُوذُ بِاللهِ مِمَّا تَقُولُونَ بَل أنَا لَهُ عَبْدٌ)(1).
ب . وروی الکشی باسناده عن علی بن جعفر بن محمَّد -- یعنی ابن الإمام الصادق علیه السلام -- قال: قال لی رجل أحسبه من الواقفة: ما فعل أخوک أبو الحسن؟.
فقلت: قد مات.
قال: وما یدریک بذاک؟.
قلت: أُقتسمت أمواله، وأنکحت نساؤه، ونطق الناطق من بعده.
قال: ومن الناطق من بعده؟.
قلت: ابنه علی.
قال: فما فعل؟.
قلت له: مات.
قال: وما یدریک أنه مات؟.
قلت: قسمت أمواله، وأنکحت نساؤه، ونطق الناطق من بعده.
قال: ومن الناطق من بعده؟.
قلت: أبو جعفر، ابنه.
قال: فقال له: أنت فی سنِّک، وقدرک، وابن جعفر بن محمد، تقول هذا القول، فی هذا الغلام؟!.
ص: 89
قال: قلت: ما أراک إلا شیطاناً.
قال: ثُمَّ أخذ بلحیته، فرفعها الی السماء: ثُمَّ قال: فما حیلتی إنْ کان الله رآه أهلاً لهذا، ولم یر هذه الشیبة لهذا أهلاً(1).
ج . ومنها ما رواه المجلسی (رحمه الله) عن کتاب (عیون المعجزات) قال:
(لمَّا قبض الرضا علیه السلام کان سنُّ أبی جعفر علیه السلام نحو سبع سنین، فاختلفت الکلمة من الناس ببغداد وفی الأمصار، واجتمع الرَّیان بن الصَّلت، وصفوان بن یحیی، ومحمَّد بن حکیم، وعبد الرحمن بن الحجاج، ویونس بن عبد الرحمن، وجماعة من وجوه الشیعة، وثقاتهم فی دارعبد الرحمن بن الحجاج فی برکة زلول یبکون، ویتوجعون من المصیبة، فقال لهم یونس بن عبدالرحمن: دعوا البکاء! مَنْ لهذا الأمر، وإلی من نقصد بالمسائل إلی أن یکبر هذا؟ یعنی أبا جعفر علیه السلام.
فقام إلیه الرَّیان بن الصَّلت، ووضع یده فی حلقه، ولم یزل یلطمه، ویقول له: أنت تظهر الایمان لنا، وتبطن الشک والشرک، إن کان أمره من الله (جلَّ وعلا) فلو انه کان ابن یوم واحد لکان بمنزلة الشیخ العالم وفوقه، وإنْ لم یکن من عند الله، فلو عمَّر ألف سنة فهو واحد من الناس، هذا مما ینبغی أن یفکَّر فیه.
فأقبلت العصابة علیه تعذله وتوبخه.
وکان وقت الموسم، فاجتمع من فقهاء بغداد، والأمصار، وعلمائهم ثمانون رجلاً، فخرجوا إلی الحج، وقصدوا المدینة لیشاهدوا أبا جعفر علیه السلام، فلمَّا وافوا أتوا دار جعفر الصادق علیه السلام لأنها کانت فارغة، ودخلوها، وجلسوا علی بساط
ص: 90
کبیر، وخرج إلیهم عبد الله بن موسی فجلس فی صدر المجلس، وقام مناد، وقال: هذا ابن رسول الله فَمَنْ أراد السؤال فلیسأله، فَسُئِلَ عن أشیاء أجاب عنها بغیر الواجب، فورد علی الشیعة ما حیَّرهم، وغمَّهم، واضطربت الفقهاء، وقاموا، وهمُّوا بالانصراف، وقالوا فی أنفسهم: لو کان أبو جعفر علیه السلام یکمل جواب المسائل لما کان من عبد الله ما کان، ومن الجواب بغیر الواجب.
ففتح علیهم باب من صدر المجلس، ودخل موفق، وقال: هذا أبوجعفر!.
فقاموا إلیه بأجمعهم، واستقبلوه، وسلَّموا علیه، فدخل صلوات الله علیه، وعلیه قمیصان، وعمامة بذؤابتین، وفی رجلیه نعلان، وجلس، وأمسک الناس کلُّهم، فقام صاحب المسألة، فسأله عن مسائله، فأجاب عنها بالحق.
ففرحوا، ودعوا له، وأثنوا علیه، وقالوا له: إنَّ عمَّک عبد الله أفتی بکیت وکیت.
فقال:
لا اله إلا الله، یا عم! إنه عظیم عند الله أن تقف غداً بین یدیه، فیقول لک: لِمَ تُفْتی بما لم تعلم، وفی الأُمَّة مَنْ هو أعلم منک)(1).
واحتفظ التاریخ بعدَّة مؤشرات عن دور إمامة الإمام الهادی علیه السلام بالتمهید لعصر الغیبة، وبما یجعلها أن تُکوِّن الرکائز الأساسیة التی ابتنی علیه نظام الإمامة
ص: 91
فی عصر الغیبة الصغری. آخذةً فترة (الغَیبة الصغری) المرحلة الانتقالیة المؤقتة للدخول إلی الواقع الجدید الذی صاغ مفهوم الإمامة عند الشیعة الإمامیة بما یتناسب مع تأیید التغیر الجوهری بطریقة التواصل والاتصال بالإمام علیه السلام، وکیفیة تصدّی الإمام علیه السلام لأداء وظائف الإمامة مع تغییب شخصیته لا شخصه فی الحیاة العامة للأمة.
فهناک أمرٌ غیبی سوف یقع قریباً بعد عشرات السنین وبوفاة الإمام الحسن العسکری ( علیه السلام)، یتلخص بما یلی:
1 . أن یتصدی للإمامة شخص له من العمر ما یقارب الخمس سنوات فقط.
أما لماذا کان الأمر الالهی کذلک؟.
فالسر الالهی الغیبی یکون أهمّ الأجوبة عن هذا السؤال.
2 . و یمنع الناس من الاتصال به مباشرة.
3 . و یحدد نواباً أربعة فقط لیقوموا بمهماته التواصلیة مع الشیعة.
فاذا مات النائب الرابع، انقطع الاتصال کلیاً به صلوات الله علیه.
4 . ومع کل ذلک یبقی الإمام الغائب إماماً کباقی الأئمة بکل الوظائف والحقوق.
5 . وهذا الوضع الجدید یختلف کلیاً عن من کان علیه الوضع فی حیاة الأئمة السابقین علیهم السلام.
6 . لذلک کان إلزاماً أن تدخل الشیعة فی مرحلة انتقالیة فکانت الغیبة الصغری.
ص: 92
7 . و لذلک کان من أدوار الإمامین الهادی والعسکری علیهم السلام أن یُعِدّوا الشیعة لدخول هذه المرحلة الجدیدة، کان منها بما یخص الإمام الهادی علیه السلام رکائز خمس تتبعناها بما یلی:
أ . إن الإمام الهادی علیه السلام کان صغیراً بالسن مثل الإمام المهدی عجل الله فرجه الشریف.
ب . تأصیل الاحتجاب طریقة للتواصل مع الإمام عجل الله فرجه الشریف.
ج . تقنین نظام الوکالة.
د . حجبه لولده الإمام العسکری علیه السلام.
ه- . إعلانه علیه السلام عن خصوصیات حفیده المهدی عجل الله فرجه الشریف.
تصدی الإمام الهادی علیه السلام للإمامة وکان صغیر السنّ بحیث کان یقارب سنّه سنّ الإمام الجواد علیه السلام الذی تصدی به للإمامة.فقد کان عمر الإمام الجواد علیه السلام یوم نطق بالإمامة سبع سنین وأشهراً(1)، وقیل: انه علیه السلام کان له من العمر یوم وفاة أبیه علیه السلام وقیامه بالإمامة سبع سنین وأربعة أشهر ویومین(2).
وقد کان عمر الإمام الهادی علیه السلام یوم نطق بالإمامة وقام مقام أبیه علیه السلام ست سنین وخمسة أشهر(3) کما نقل عن الحسن بن علی بن هلال، عن محمد بن
ص: 93
إسماعیل بن بزیع قال: قال لی ابو جعفر علیه السلام:
یفضی [یقضی خ.ل] هذا الامر إلی ابی الحسن وهو ابن سبع سنین.
ثُمَّ قال:
نعم واقل من سبع سنین، کما کان عیسی علیه السلام(1).
ویعوزنا النص الخاص الوارد عن المعصومین علیهم السلام علی صغر سنّ الإمام الهادی علیه السلام عکس ما وجدناه من النَّص علی ابیه الإمام الجواد علیه السلام، ولعله یعود السبب إلی تعوّد الشیعة علی الظاهرة التی کانت جدیدة فی حیاة الإمام الجواد، ولکنَّها أصبحت طبیعیة فی حیاة الإمام الهادی علیه السلام، وبذلک فقد تمهدت الامور لتثبیت امامة الإمام المهدی عجل الله فرجه الشریف وهو ابن خمس سنین.
فإلیه علیه السلام یعود انشاء الطریقة الجدیدة التی حدّدت فیها کیفیة اتصال الشیعة بالإمام المعصوم.
وکان الهدف من هذه الطریقة التوضیح لعامة الأُمَّة أنَّ طُرَقَ الالتقاء بالإمام علیه السلام قد تغیرّت نسبیاً، وأنَّها لابد وان تتَغیر کلیاً فی المستقبل حینما تحین إمامة خاتم الائمة علیه السلام، وقد رکزت الطریقة الجدیدة علی تثبیت قاعدة احتجاب الإمام المعصوم علیه السلام عن الأُمَّة، عکس ما کان متعارفاً علیه عند الأئمة السابقین علیهم السلام.
ص: 94
وهناک أکثر من نصٍّ یؤکد استعمال الإمام الهادی علیه السلام أسلوبه الجدید بتوضیح طریقة إرتباط الأُمَّة بالإمام علیه السلام، واحتجاب الإمام عن الأمة ولو بنسب مختلفة.
ومن تلک النصوص ما قاله المسعودی صاحب (مروج الذهب) فی کتاب اثبات الوصیة:
وروی أنَّ أبا الحسن صاحب العسکر احتجب عن کثیر من الشیعة الا عن عدد یسیر من خواصه، فلَّما أفضی الأَمر إلی أبی محمَّد علیه السلام کان یکلم شیعته الخواص، وغیرهم من وراء الستر إلا فی الأوقات التی یرکب فیها إلی دار السلطان.
وأنَّ ذلک إنَّما کان منه، ومن أبیه قبله مدَّة لِغَیْبَةِ صاحب الزمان لتألف الشیعة ذلک، ولاتنکر الغیبة، وتجری العادة بالاحتجاب، والاستتار)(1).
وبقراءة نصوص المکاتبات التی ثبَّتها المؤرخون، التی جرت بینه وبین شیعته، نجدها تؤکد حقیقة احتجاب الإمام الهادی عن عامَّة أصحابه بحیث احتاجوا إلی طریقةٍ أُخری للاتصال به علیه السلام.
فمع أنَّ التاریخ ملیء باسماء الرجال، والرواة الذین التقوا بالأئمة السابقین، ودرسوا عندهم وحضروا حلقات دروسهم، وتخرج الکثیر من مدارسهم علیهم السلام. ویکفینا ما قاله الحسن الوشا وقد سأله أحمد بن محمد بن عیسی أن یجیزه روایة کتاب القلاء، بن رزین القلا وأبان بن عثمان الاحمر: (لو علمت
ص: 95
أنَّ هذا الحدیث یکون له هذا الطلب لاستکثرت منه، فإنِّی أدرکت فی هذا المسجد تسعمائة شیخ کلٌّ یقول حدَّثنی جعفر بن محمَّد علیه السلام)(1).
وهذا الإمام موسی بن جعفر الکاظم علیه السلام قد امتلأت بطون الکتب بمناظراته لأصحاب الأدیان، والمذاهب؛ وجلوسه مجالس الفتیا، والاحکام، ونشر علوم آل محمد، ویکفی فی ذلک ما قاله الشیخ المفید (رحمه الله) فی حقِّه: (وقد روی الناس من أبی الحسن موسی علیه السلام فاکثروا، وکان أفقه أهل زمانه.. وأحفظهم لکتاب الله، وأحسنهم صوتاً بالقرآن...)(2).
وامتلأت کتب الأصحاب، وغیرهم بمجالس الإمام الرِّضا علیه السلام، ومناظراته؛ ویکفی من ذلک حضوره المجلس الذی عقده المأمون لاختبار الإمام الرِّضا علیه السلام، وقد جمع أصحاب الأدیان والمذاهب. روی الصدوق فی التوحید قال:
حدثنا أبو محمَّد جعفر بن علی بن أحمد الفقیه القمی ثُمَّ الإیلاقی رضی الله عنه قال: أخبرنا أبو محمَّد الحسن بن محمَّد بن علی بن صدقة القمی قال: حدثنی أبو عمرو محمَّد بن عمر بن عبدالعزیز الأنصاری الکجی قال: حدثنی مَنْ سمع الحسن بن محمَّد النوفلی ثُمَّ الهاشمی یقول:
لمَّا قدم علی بن موسی الرضا علیه السلام إلی المأمون أمر الفضل بن سهل أن یجمع له أصحاب المقالات مثل الجاثلیق، ورأس الجالوت، ورؤساء الصابئین، والهربذ الأکبر، وأصحاب زردهشت، وقسطاس الرَّومی، والمتکلمین لیسمع کلامه، وکلامهم.
ص: 96
فجمعهم الفضل بن سهل، ثُمَّ أَعْلَمَ المأمون باجتماعهم، فقال: أدخلهم علیّ.
ففعل، فرحب بهم المامون، ثُمَّ قال لهم: إنِّی إنَّما جمعتکم لخیر، وأحببت أن تناظروا ابن عمِّی هذا المدنی القادم علیَّ، فإذا کان بکرة فاغدوا علیَّ، ولا یتخلف منکم أحد.
فقالوا السَّمع، والطاعة یا أمیر المؤمنین، نحن مبکرون إنْ شاء الله.
قال الحسن بن محمَّد النوفلی: فبینما نحن فی حدیث لنا عند أبی الحسن الرِّضا علیه السلام إذ دخل علینا یاسر الخادم، وکان یتولی أمر أبی الحسن علیه السلام، فقال: یا سیدی إنَّ أمیر المؤمنین یقرئک السلام، فیقول: فداک أخوک إنَّه اجتمع إلیَّ أصحاب المقالات، وأهل الادیان، والمتکلمون من جمیع الملل، فرأیک فی البکور علینا إن أحببت کلامهم، وإن کرهت کلامهم فلا تتجشم، وإنْ أحببت أن نصیر الیک خفَّ ذلک علینا.
فقال أبو الحسن علیه السلام:
أبلغه السلام، وقل له: قد علمتُ ما أردت، وأنا صائر الیک بکرة إن شاء الله.
قال الحسن بن محمَّد النوفلی: فلمَّا مضی یاسر التفت إلینا، ثُمَّ قال لی:
یا نوفلی أنت عراقی، َورِقَّة العراقی غیر غلیظة، فما عندک فی جمع ابن عمک علینا أهل الشرک، وأصحاب المقالات؟.
فقلت: جعلت فداک یرید الامتحان، ویحب أنْ یعرف ما عندک، ولقد بنی علی أساس غیر وثیق البنیان، وبئس والله ما بنی.
ص: 97
فقال لی:
وما بناؤه فی هذا الباب؟.
قلت: إنَّ أصحاب البدع، والکلام خلاف العلماء، وذلک إنَّ العالم لاینکر غیر المنکر، وأصحاب المقالات، والمتکلمون، وأهل الشرک أصحاب إنکار ومباهتة، وإنْ احْتَجَجْتَ علیهم إنَّ الله واحد، قالوا: صحح وحدانیته. وإن قلت: إنَّ محمَّداً صلی الله علیه وآله وسلم رسول الله، قالوا: أثبت رسالته، ثم یباهتون الرجل، وهو یبطل علیهم بحجته، ویغالطونه حتی یترک قوله، فاحذرهم جعلت فداک.
قال: فتبسم علیه السلام، ثُمَّ قال لی:
یا نوفلی أتخاف أنْ یقطعوا علیَّ حُجتی؟.
قلت: لا، والله ما خِفت علیک قطّ، وإنِّی لأرجو أن یظفرک الله بهم إنْ شاء الله. فقال لی:
یا نوفلی أتحب أنْ تعلم متی یندم المأمون؟.
قلت: نعم. قال:
إذا سمع احتجاجی علی أهل التوراة بتوراتهم، وعلی أهل الانجیل بانجیلهم، وعلی أهل الزبور بزبورهم، وعلی الصابئین بعبرانیتهم، وعلی الهرابذة بفارسیتهم، وعلی أهل الروم برومیتهم، وعلی أصحاب المقالات بلغاتهم، فإذا قطعتُ کلَّ صنف، ودحضتُ حجَّته، وتَرَکَ مقالته، ورجع إلی قولی، عَلِمَ المأمون أنَّ الموضع الذی هو بسبیله لیس هو بمستحق له، فعند ذلک تکون الندامة منه، ولا حول ولا قوة الا بالله العلیِّ العظیم.
ص: 98
فلمَّا أصبحنا أتانا الفضل بن سهل، فقال له: جعلت فداک ابن عمِّک ینتظرک، وقد اجتمع القوم، فما رأیک فی إتیانه؟
فقال له الرضا علیه السلام:
تَقَدَّمْنِی فإنی صائر إلی ناحیتکم إن شاء الله.
ثم توضّأ علیه السلام وضوء الصلاة، وشرب شربة سویق، وسقانا منه، ثُمَّ خرج، وخرجنا معه حتی دخلنا علی المأمون، فإذا المجلس غاصٌّ بأهله، ومحمَّد بن جعفر فی جماعة الطالبیین والهاشمیین، والقواد حضور؛ فلما دخل الرِّضا علیه السلام قام المأمون، وقام محمَّد بن جعفر، وقام جمیع بنی هاشم، فمازالوا وقوفاً والرِّضا علیه السلام جالس مع المأمون حتی أمرهم بالجلوس فجلسوا، فلم یزل المأمون مقبلاً علیه یُحَدِّثَهُ ساعة.
ثم التفت إلی جاثلیق(1)؛ ثُمَّ ذکر باقی المناظرة وهی طویلة جداً تبین انتصارات الإمام الرِّضا علیه السلام علی جمیع أصحاب المقالات، والبدع، والأدیان، والمذاهب، وخذلان المأمون، وقبوله الهزیمة.
ومن تلک المجالس ما رواه الصدوق (رحمه الله) فی التوحید باسناده عن الحسن بن محمَّد النوفلی یقول:
قدم سلیمان المروزی متکلم خراسان علی المأمون فأکرمه، ووصله، ثُمَّ قال له: إنَّ ابن عمَّی علیّ بن موسی قدم علیَّ من الحجاز, وهو یحب الکلام, واصحابه، فلا علیک أنْ تصیر الینا یوم الترویة لمناظرته.
ص: 99
فقال سلیمان: یا أمیر المؤمنین إنَّی أنْ أسأل مثله فی مجلسک فی جماعة من بنی هاشم, فینتقص عند القوم إذا کَلَّمَنِی, ولایجوز الاستقصاء علیه؟.
قال المأمون: إنَّما وَجَهَّتُ إلیک لمعرفتی بقوتک، ولیس مرادی إلأ ان تقطعه عن حُجَّة واحدة فقط.
فقال سلیمان: حسبُک یا أمیر المؤمنین. إجمع بینی وبینه، وَخلِّنی، وإیَّاه، وألزم. فَوَجَّهَ المأمونُ إلی الرِّضا علیه السلام, فقال: إنَّه قدم علینا رجل من اَهل مرو، وهو واحد خراسان من أصحاب الکلام، فإنْ خَفَّ علیک أنْ تتجشّم المصیر إلینا فَعَلْتَ.
فنهض علیه السلام للوضوء، وقال لنا:
تَقَدَّمُونِی.
وعمران الصابیء معنا، فصبرنا إلی الباب فأخذ یاسر، وخالد بیدی فأدخلنی علی المأمون, فلمَّا سَلَّمْتُ قال:این أخی ابو الحسن أبقاه الله؟.
قلت:خلفته یلبس ثیابه، وأمرنا أن نتقدم: ثُمَّ قلتُ: یا أمیر المؤمنین إن عمران مولاک, معی, وهو بالباب.
فقال: مَنْ عمران؟.
قلتُ: الصابیء, الذی أسلم علی یدیک.
قال: فلیدخل.
فدخل, فرحَّبَ به المأمون, ثُمَّ قال له: یا عمران لَمْ تَمُتْ حتَّی صرْتَ مِنْ بنی هاشم؟!.
ص: 100
قال: الحمد لله الذی شَرَّفَنِی بکم یا أمیر المؤمنین.
فقال له المأمون: یا عمران هذا سلیمان المروزی متکلِّم خراسان.
قال عمران: یا أمیر المؤمنین إنَّه یزعم أنَّه واحد خراسان فی النظر، وینکر البَداء.
قال: فَلِمَ لا تناظره؟.
قال عمران: ذلک إلیه فدخل الرِّضا علیه السلام, فقال:
فی أیِّ شیء کنتم؟.
قال عمران: یا ابن رسول الله, هذا سلیمان المروزی.
فقال سلیمان: أترضی بأبی الحسن, وبقوله فیه؟.
قال عمران: قد رضیت بقول أبی الحسن فی البَداء علی أن یأتینی فیه بحجَّة أحتج بها علی نظرائی من أهل النظر)(1) والمناظرة طویلة, انتهت بانتصار الإمام الرضا علیه السلام, وهزیمة خصمه سلیمان متکلم خراسان، وأضطر المامون أن یعلن هزیمته ویقول فی نهایة المطاف بعدما انقطع, وخسر سلیمان: یا سلیمان هذا أعلم هاشمی، ثُمَّ تَفْرَّق القوم.
ومن ذلک ایضاً مارواه المؤرخون من حدیث سلسلة الذهب. نذکر منها ما نقله الأربلی فی کشف الغمة قال: حدَّث المولی السعید إمام الدنیا عماد الدین محمَّد بن أبی سعد بن عبدالکریم الوزان، فی محرم سنة ست وتسعین وخمسمائة قال: أورد صاحب کتاب تاریخ نیسابور فی کتابه: أنَّ علیَّ بن موسی الرضا علیه السلام لما
ص: 101
دخل إلی نیسابور فی السفرة التی فاز فیها بفضیلة الشهادة کان فی مهد علی بغلة شهباء، علیها مرکب من فضة خالصة، فعرض له فی السوق الإمامان الحافظان للاحادیث النبویة أبو زرعة، ومحمَّد بن أسلم الطوسی رحمهما الله, فقالا: أیُّها السید بن السادة، أیُّها الإمام، وابن الأئمة، أیُّها السلالة الطاهرة الرضیَّة، أیُّها الخلاصة الزاکیة النبویة بحق آبائک الأطهرین، وأسلافک الأکرمین إلا ما أریتنا وجهک المبارک المیمون، ورویت لنا حدیثاً عن آبائک عن جدِّک نذکرک به.
فاستوقف البغلة، ورفع المظلة، وأقرَّ عیون المسلمین بطلعته المبارکة المیمونة، فکانت ذِآبتاه کذآبتی رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم, والناس علی طبقاتهم، وکانوا بین صارخ، وباک، وممزق ثوبه، ومتمرغ فی التراب، وُمَقبِّل حزام بغلته، ومطول عنقه إلی مظلة المهد، إلی ان انتصف النهار, وجرت الدموع کالأنهار، وسکنت الاُصوات, وصاحت الائمة والقضاة: معاشر النَّاس اسمعوا، وعُوا، ولا تؤذوا رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فی عترته، وانصتوا.
فأملی علیه السلام هذا الحدیث، وعُدَّ من المحابر أربع وعشرون الفاً سوی الدوی والمستملی أبو زرعة الرازی, ومحمَّد بن اسلم الطوسی رحمهما الله.
فقال علیه السلام:
«حدَّثنی أبی موسی بن جعفر الکاظم، قال: حدَّثنی أبی جعفر بن محمَّد الصادق، قال: حدَّثنی أبی محمَّد بن علی الباقر، قال: حدَّثنی أبی علی بن الحسین زین العابدین, قال: حدَّثنی أبی الحسین بن علی شهید أرض کربلاء, قال: حدَّثنی أبی أمیر المؤمنین علیّ بن ابی طالب شهید أرض الکوفة، قال: حدَّثنی أخی وابن عمِّی محمَّد
ص: 102
رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم قال: حدَّثنی جبرئیل علیه السلام، قال: سمعت ربَّ العزَّة سبحانه وتعالی یقول:
کلمة لا اله الا الله حِصنی, فَمَنْ قالها دخل حصنی، ومن دخل حِصنی أمِنَ مِنْ عذابی، صدق الله سبحانه، وصدق جبریل، وصدق رسوله, وصدق الأئمة علیهم السلام.
قال الاستاذ ابو القاسم القشیری رحمه الله: إنَّ هذا الحدیث بهذا السند بلغ بعض أمراء السامانیة, فکتبه بالذهب، وأوصی أن یدفن معه، فلمَّا مات رؤی فی المنام، فقیل: ما فعل الله بک؟.
فقال: غفر الله لی بتلفظی بلا اله الا الله, وتصدیقی محمَّداً رسول الله مخلصاً، وإنِّی کتبت هذا الحدیث بالذهب تعظیماً واحتراماً»(1).
وکان الإمام الجواد علیه السلام یناظر, ویفتی, وروی الکلینی بسندٍ صحیح عالٍ عن علی بن ابراهیم، عن أبیه قال: استأذن علی أبی جعفر علیه السلام قوم من أهل النواحی من الشیعة فأذن لهم, فدخلوا, فسألوه فی مجلس واحد عن ثلاثین ألف مسألة, فاجاب علیه السلام, وله عشر سنین(2).
ولکننا لم نجد ذلک فی حیاة الإمام الهادی علیه السلام، بل العکس من ذلک فإنه کان علیه السلام لایسعی علیه للجلوس إلی العلماء, ولایجیب علی اسألتهم العلمیة مشافهةً کما کان علیه الحال فی حیاة آبائه المعصومین علیهم السلام، بل إنَّه یجیبهم بالرَّسائل؛ ومن ذلک ما نقله المؤرخون فی الحادثتین التالیتین:
ص: 103
الحادثة الاولی روی الشیخ ابن شهرآشوب فی المناقب والشیخ الطوسی فی التهذیب عن جعفر بن رزق الله قال: قدم إلی المتوکل رجل نصرانی فجر بامرأة مسلمة, وأراد أنْ یقیم علیه الحدَّ, فأسلم؛ فقال یحیی بن أکثم: قد هدم إیمانه شرکه، وفعله.
وقال بعضهم: یضرب ثلاثة حدود، وقال بعضهم: یفعل به کذا وکذا.
فامر المتوکل بالکتاب الی ابی الحسن الثالث علیه السلام, وسؤاله عن ذلک.
فلما قدم الکتاب کتب ابو الحسن علیه السلام: یضرب حتی یموت.
فأنکر یحیی بن أکثم, وأنکر الفقهاء فقهاء العسکر ذلک, وقالوا: یا أمیر المؤمنین سله عن هذا, فانهّ َشیئ لم ینطق به کتاب, ولم تجئ به السنة.
فکتب الیه: ان فقهاء المسلمین قد انکروا هذا, وقالوا: لم تجئ به السنة, ولم ینطق به کتاب.
فکتب الیه یسأله:
بسم الله الرحمن الرحیم
((قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَکَفَرْنَا بِمَا کُنَّا بِهِ مُشْرِکِینَ فَلَمْ یَکُ یَنْفَعُهُمْ إِیمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِی قَدْ خَلَتْ فِی عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِکَ الْکَافِرُونَ))(1).
قال: فأمر المتوکل, فضرب حتی مات(2).
ص: 104
والحادثة الثانیة ما جری فی أجوبته إلی یحیی بن اکثم، والقصة طویلة ننقل منها ما یرتبط بالموضوع، فقد روی الشیخ ابن شهرآشوب فی المناقب عن أبی عبد الله الزیادی قال:
لما سُمَّ المتوکل نذر لله أنْ یرزقه الله العافیة أنْ یتصدق بمال کثیر، فلمَّا عوفی اختلف العلماء فی المال الکثیر، فقال له الحسن حاجبه: إنْ أتیتک یا أمیر المؤمنین بالصَّواب، فمالی عندک؟.
قال: عشرة آلاف درهم، وإلا ضربتک مائة مقرعة.
قال: قد رضیت.
فأتی أبا الحسن علیه السلام, فسأله عن ذلک, فقال:
قل له یتصدق بثمانین درهماً.
فأخبر المتوکل، فسأله ما العلَّة؟. فأتاه فسأله قال:
إنَّ الله تعالی قال لنبیِّه:
((لَقَدْ نَصَرَکُمُ اللَّهُ فِی مَوَاطِنَ کَثِیرَةٍ))(1).
فعددنا مواطن رسول الله فبلغت ثمانین موطناً، فرجع الیه فأخبره, ففرح, فأعطاه عشرة الآف درهم.
ص: 105
وقال المتوکل لابن السکِّیت: إسأل ابن الرضا مسألة عوصاء بحضرتی، فسأله, فقال: لِمَ بعث الله موسی بالعصا؟ وبعث عیسی بإِبراء الأکمه, والأبرص, وإحیاء الموتی؟ وبعث محمَّداً بالقرآن والسیف؟.
فقال أبو الحسن علیه السلام:
بعث الله موسی بالعصا, والید البیضاء فی زمان الغالب علی أهله السحر, فأتاهم من ذلک ما قهر سحرهم, وبهرهم, وأثبت الحجَّة علیهم.
وبعث عیسی بإبراء الأکمه, والأبرص، وإحیاء الموتی بإذن الله فی زمان الغالب علی أهله الطِّب, فأتاهم من إبراء الأکمه, والأبرص, وإحیاء الموتی بإذن الله, فقهرهم, وبهرهم.
وبعث محمَّداً بالقرآن, والسیف فی زمان الغالب علی أهله السیف, والشعر, فأتاهم من القرآن الزاهر, والسیف القاهر ما بهر به شعرهم، وقهر سیفهم، وأثبت الحجَّة علیهم.
فقال ابن السکِّیت: فما الحجِّة الآن؟.
قال:
العقل یعرف به الکاذب علی الله فیکذب.
فقال یحیی بن أکثم: ما لابن السکیت ومناظرته, وإنَّما هو صاحب نحو, وشعر ولغة.
ورفع قرطاساً فیه مسائل, فأملی علیُّ بن محمَّد علیه السلام علی ابن السکِّیت جوابها وأمره أنْ یکتب... ثم قال بعد أنْ ذکر جواب الإمام الهادی علیه السلام: فلمَّا
ص: 106
قرأ ابن اکثم قال للمتوکل: ما نحب أن تسال هذا الرجل عن شیء بعد مسائلی هذه، وإنَّه لایرد علیه شیء بعدها إلا دونها، وفی ظهور علمه تقویة للرافضة)(1).
وفی الحادثتین ما یومیء إلی الطریقة الخاصة التی انتهجها الإمام الهادی علیه السلام فی کیفیة علاقاته, وارتباطه مع المحیط الخارجی من مجتمعه.
فمع أنَّ السُّنَّة التی جرت سابقاً تقتضی مشارکة الإمام علیه السلام مجالس فقهاء العامة, والإجابة علی الأسئلة التی ترد تلک المجالس، ولکننا نجد الإمام علیه السلام قد قاطع تلک المجالس ولم یحضرها، وکانت طریقته واضحة لدی الجمیع حتی السلطان، بحیث کان المتوکل ملتفتاً إلی موقف الإِمام الهادی علیه السلام من حضور المجالس العامة, فاشترط علی ابن السکیت ان تکون الاسئلة بحضوره، مع أنَّ الموضوع کان مختلفاً مع باقی آبائه علیه السلام، حیث کانوا یحضرون تلک المجالس إذا دُعوا إلیها بشکل طبیعی، ولایحتاج إلی شرط مسبق، ولعل سبب مجیئهم علیه السلام وحضورهم تلک المجالس کان لأجل توضیح الحقائق للعامَّة، وإفحام الخصم، وإقامة الحُجَّة علی منکری إمامتهم.
ونجد فی روایات أُخری أنَّه علیه السلام کان قد لزم داره، وأمَّا مَنْ أراد مِنَ الناس لقاءه فإنَّهم کانوا یلتقون به إذا رکب، ومن ذلک ما نقله الأربلی فی کشف الغمة قال: إنّ هبة الله بن أبی منصور الموصلی قال: کان بدیار ربیعة کاتب لها نصرانی یسمَّی یوسف بن یعقوب، وکان بینه وبین والدی صداقة, قال: فوافانا, فنزل عند والدی, فقال له والدی: فیم قَدِمْتَ فی هذا الوقت؟.
ص: 107
قال: دعیت إلی حضرة المتوکل، ولا أدری ما یراد منَّی إلا أنَّی اشتریت نفسی مِنَ الله بِمائة دینار، وقد حَمَلْتُها لعلیِّ بن محمَّد الرضا علیهم السلام معی.
فقال له والدی: قد وَفِّقْتَ فی هذا.
وخرج إلی حضرة المتوکل, وجاءنا بعد أیام قلائل فرحاً, مسروراً, مستبشراً، فقال له والدی: حدثنی حدیثک.
قال: صِرتُ إلی سُرَّ مَنْ رأی, وما دخلتها قط, فنزلتُ فی دار، وقلت: یجب أنْ أُوصِلَ هذه المائة دینار إلی ابن الرِّضا قبل مصیری إلی دار المتوکل، وقبل أن یعرف أحد قدومی، وعرفت أنَّ المتوکل قد منعه من الرّکوب, وأنَّه ملازم لداره، فقلت: کیف أصنع، وأنا رجل نصرانی یسأل عن دار ابن الرضا لا آمن أن ینذر بی, فیکون ذلک زیادة فیما أَحاذره، قال: ففکرت ساعة فی ذلک.
فوقع فی قلبی أن أرکب حماری, وأخرج فی البلد, فلا أمنعه حیث یذهب لَعَلِّی أقف علی معرفة داره من غیر أن اسأل أحد.
فجعلت الدنانیر فی کاغذ، وجعلتها فی کُمِّی، ورکبتُ، وکان الحمار یتخرق فی الشوارع, والأسواق یمرُّ حیث یشاء، إلی أن صرتُ إلی باب دار، فوقف الحمار، فجهدت أن یزول, فلم یزل، فقلت للغلام: سل لِمَنْ هذه الدار؟.
فسأل, فقیل: دار ابن الرضا.
فقلت: الله اکبر, دلالة والله مقنعة.
قال: فإذا خادم أسود قد خرج، فقال: أنْتَ یوسف بن یعقوب؟.
قلت: نعم.
ص: 108
قال: فانزل؛ فاقعدنی فی الدهلیز، ودخل، فقلت: هذه دلالة أخری؛ من این عرف اسمی، واسم أبی، ولیس فی البلد مَنْ یعرفنی، ولادخلته قط؛ فخرج الخادم، فقال: المائة دینار التی فی کُمَّک فی الکاغذ هاتها، فناولته إیَّاها، وقلت: هذه ثالثة.
وجاء, فقال: ادخل؛ فدخلت, وهو وحده.
فقال:
یا یوسف ما آن لک؟.
فقلت: یا مولای قد بان لی من البرهان ما فیه کفایة لمن اکتفی.
فقال:
هیهات إنَّک لاتُسلم، ولکن سیُسلِم ولدک، فلان, وهو من شیعتنا.
یا یوسف! إنَّ أقواماً یزعمون أنَّ ولایتنا لاتنفع أمثالک، کذبوا والله إنَّها لتنفع، إمض فیما وافیت له فانک ستری ما تحب.
فمضیت إلی باب المتوکل, فنلت کُلَّ ما اردتُ, وانصرفت.
قال هبة الله: فلقیتُ ابنه بعد هذا, وهو مُسلِم, حسن التشیع, فأخبرنی. أنَّ أباه مات علی النصرانیة، وإنَّه أسلم بعد موت أبیه، وکان یقول أنا مؤمن ببشارة مولای علیه السلام(1).
والقصة التالیة توضح ابتعاد الإمام علیه السلام عن الالتقاء بالناس, وعدم السماح لهم بلقائه حتی فی رکوبه إلی السلطان.
ص: 109
(قال أبو هاشم الجعفری: إنه ظهر برجل من أهل سُرَّ مَنْ رأی بَرَص، فتنغّص عیشه، فأشار الیه أبو علی الفهری بالتعرض لأبی الحسن، وأنْ یسأله الدعاء.
فجلس له یوماً فرآه، فقام الیه, فقال:
تنح عافاک الله.
-- وأشار الیه بیده -- تنح عافاک الله -- ثلاث مرات -- فانخذل، ولم یجسر أن یدنو منه، فانصرف، ولقی الفهری، وعرَّفه ما قال له، قال: قد دعا لک قبل ان تسأله, فاذهب, فإنَّک ستعافی، فذهب، واصبح، وقد برا)(1).
وقد نجد فی روایة أُخری أنَّ الإمام الهادی علیه السلام عَلَّمَ محمَّد بن الفرج طریقة غیر عادیة لمعرفة ما یراد معرفته من الإمام علیه السلام دون أن یسعی للالتقاء به.
(روی الأربلی عن محمَّد بن الفرج قال: قال لی علیُّ بن محمد: إذا أرَدْتَ أن تسأل مسألة فاکتبها، وضع الکتاب تحت مصلاک، ودعه ساعة ثُمَّ اخرجه، وانظر فیه.
قال: ففعلت, فوجدت جواب المسألة موقعاً فیه)(2).
ومع ان هذه الروایة غیر منحصرة بعصر الإمام الهادی علیه السلام, وانما هی تشمل جمیع عصور الائمة علیه السلام الباقیة, ولکنَّها أیضاً تکشف عن معالجة الإمام الهادی علیه السلام للخلل الذی سوف یقع فی عصر الغیبة، بعدما یفقد الناس إمامهم الظاهر، ولایجدون من یلجأون إلیه، ولو أنَّ القضیة لاتخلو من ضرورة توفر الشروط الخاصة غیر الطبیعیة.
ص: 110
ولترسیخ هذه الظاهرة الجدیدة لطریقة تعامل الإمام علیه السلام مع أتباعه، فقد عمل الإمامان الهادی علیه السلام, والعسکری علیه السلام علی تعمیق نظام الوکالة، والوکلاء فی الأُمَّة، وذلک لما سوف یقوم به هذا النظام من مَلء فراغ القیادة، وإدارة أمور الناس الذی تولده عملیة احتجاب الإمام علیه السلام عن قواعده.
وبتعبیر آخر: إنَّ هرم النظام السیاسی، والاجتماعی الجدید یبنی عند احتجاب المعصوم -- سواء فی حضوره, أو غیبته علیه السلام -- علی نظام الوکالة والوکلاء.
مع ملاحظة أنْ نظام الوکالة لم یحدث فی عصر الإمام الهادی علیه السلام، وإنَّما کان موجوداً فی حیاة آبائه الائمة المعصومین علیهم السلام، ولکنَّه تکثّف, وأخذ أبعاداً جدیدة, وأوسع دائرة فی شکله الجدید فی حیاة الإمام الهادی علیه السلام، والعسکری علیه السلام إلی إنْ یتکامل هذا النظام بصیاغة جدیدة فی حیاة الإمام المهدی علیه السلام.
وقد توسع النظام الوکلائی فی حیاة الائمة الثلاثة الهادی والعسکری والمهدی علیهم السلام، فشملت دائرة الوکالة نوعین من المهمات التی یوکلها الیهم المعصوم علیه السلام:
النوع الاول الوکالة المحددة وقد ابتنی النوع الاول من الوکالة علی المهمات نفسها التی کان یعطیها الائمة السابقون علیهم السلامإلی وکلائهم فی عصورهم المتقدمة بإیصال الأموال، وفتاوی الأئمة، ومکاتیبهم، ومواقفهم، وغیر ذلک مما هو متعارف فی النظم الاداریة والاجتماعیة, والمالیة, والسیاسیة.
ص: 111
وقد استمر هذا النوع من الوکالة فی الحیاة الاجتماعیة، والمالیة، والسیاسیة فی دائرة حرکة الأئمة الثلاثة سلام الله علیهم، وقد رأینا مجموعة من الوکلاء قد قاموا بتلک المهمات الضروریة حینما أوکل الإمامان الهادی علیه السلام والعسکری علیه السلام القیام بتلک المهمات الیهم.
وقد کانت تُعْطَی صلاحیات هذا النوع من الوکالة: محدودة للوکیل بحجم الضرورة التی تحتاج الیها الحاجة التی تفرض التوکیل.
ونجد فی مجموعة من النصوص المرتبطة بهذا النوع من الوکالات انهّ لیس من الضروری ارتباط هؤلاء الوکلاء مباشرة بالإمام علیه السلام، بل یمکنه ان یتصل بوکلاء آخرین، وقد یُعَیَّنون من قبل الوکلاء الآخرین، وقد یرجع الإمام بعض وکلاء المناطق إلی وکیل آخر طبق ما یراه الإمام علیه السلام من المصالح.
روی الطوسی: (أخبرنی ابن أبی جید، عن محمَّد بن الحسن بن الولید، عن الصَّفار، عن محمَّد بن عیسی قال:
کتب أبو الحسن العسکری علیه السلام إلی الموالی ببغداد، والمدائن، والسواد, وما یلیها:
قد أقَمْتُ أبا علی بن راشد مقام علی بن الحسین بن عبد رّبه, ومَنْ قبله من وکلائی، وقد أوجبت فی طاعته طاعتی، وفی عصیانه الخروج إلی عصیانی، وکتبت بخطی.
وروی محمَّد بن یعقوب رفعه إلی محمَّد بن فرج قال: کتبت الیه اسأله عن علی بن راشد، وعن عیسی بن جعفر [بن عاصم]، وعن ابن بند.
ص: 112
وکتب إلیَّ: ذَکَرْتَ ابن راشد رحمه الله فإنَّه عاش سعیداً، ومات شهیداً، ودعا لابن بند, والعاصمی، وابن بند ضرب بعمود, وقتل؛ وابن عاصم ضرب بالسیاط علی الجسر ثلاثمائة سوط, ورمی فی الدجلة)(1).
کما أنَّنا نجد عدم ضرورة التدقیق فی الشروط الذاتیة بهؤلاء الوکلاء کالتشدید بالعدالة، والعلم، والفقه، وإنَّما یلاحظ فیهم امتلاکهم الکفاءة والشروط الموضوعیة التی توفر قدرتهم الطبیعیة لأداء المهمة التی یراد منهم القیام بها من خلال الوکالة الممنوحة لهم.
وهذه الحقیقة تفسر وجود وکلاء للائمة علیه السلام مذمومین، ولذلک لم یعدّ کثیر من الفقهاء (الوکالة) سبباً لتوثیق صاحبها, وعدالته، لإمکان أن یکون الوکیل قد وکَّلَه الإمام علیه السلام بقضیة خاصة لاتحتاج إلی صفة العدالة, او الوثاقة کما فی الخبر الذی رواه الکلینی بسند صحیح وعالٍ جداً عن ابراهیم بن هاشم قال: کنت عند أبی جعفر الثانی علیه السلام إذ دخل علیه صالح بن محمَّد بن سهل, وکان یتولی له الوقف بقم، فقال: یا سیدی اجعلنی من عشرة الآف فی حل، فإنی انفقتها. فقال له:
أنت فی حل.
فلَّما خرج صالح، قال أبو جعفر علیه السلام:
أحدهم یثب علی أموال حقِّ آل محمَّد، وأیتامهم، ومساکینهم، وفقرائهم، وأبناء سبیلهم؛ فیأخذه, ثُمَّ یجیء، فیقول؛ اجعلنی فی حل؛ أتراه ظنَّ إنِّی أقول: لا أفعل، والله لیسألنَّهم اللهُ یوم القیامة عن ذلک سؤالا حثیثا(2).
ص: 113
أو کان ذلک الرجل وکیلاً للامام علیه السلام ثقة فی حال وکالته، ولکنَّه انحرف بعد ذلک, فخرج الذَّمُ بحقِّه کما وجدناه فی وکلاء الإمام الکاظم علیه السلام الذین وقفوا علیه, ولم یعترفوا بوفاته طمعاً بالأموال التی کانت تحت أیدیهم، قال الشیخ الطوسی وقد عدّ بعض وکلاء الائمة المذمومین: (ومنهم علی بن أبی حمزة البطائنی، وزیاد بن مروان القندی، وعثمان بن عیسی الرَّواسی، کلّهم کانوا وکلاء لابی الحسن موسی علیه السلام، وکان عندهم أموال جزیلة، فلَّما مضی ابو الحسن موسی علیه السلام وقفوا طمعاً فی الأموال، ودفعوا إمامة الرِّضا علیه السلام، وجحدوه)(1).
وروی عن محمَّد بن یعقوب، عن محمَّد بن یحیی العطار، عن محمَّد بن أحمد، عن محمَّد بن جمهور، عن أحمد بن الفضل، عن یونس بن عبدالرحمن قال: (مات أبو إبراهیم علیه السلام, ولیس من قوَّامه أحد إلا وعنده المال الکثیر، وکان ذلک سبب وقفهم، وجحدهم موته، طمعاً فی الأموال.
کان عند زیاد بن مروان القندی سبعون ألف دینار، وعند علی بن أبی حمزة ثلاثون ألف دینار، فلَّما رأیتُ ذلک، وتَبَیَّنْتُ الحقَّ، وعرفت من أمر أبی الحسن الرِّضا علیه السلام ما علمتُ تَکَلَّمْتُ، ودعوتُ النَّاس الیه، فبعثا الیَّ، وقالا ما یدعوک إلی هذا؟ ان کنت ترید المال, فنحن نُغنیک, وضمنا لی عشرة آلاف دینار, وقالا [لی]: کُفَّ.
فأبیت, وقلت لهما: إنّا روینا عن الصادقین علیهم السلام انَّهم قالوا:
ص: 114
إذا ظهرت البدع فعلی العالم أنْ یظهر علمه, فإنْ لم یفعل سلب نور الایمان.
وما کنتُ لأدعَ الجهاد، وأمر الله علی کل حال. فناصبانی, وأضمرا لی العداوة)(1).
کما روی عن محمد بن الحسن الولید، عن الصفار, وسعد بن عبد الله الاشعری جمیعاً، عن یعقوب بن یزید الانباری، عن بعض أصحابه قال:
مضی أبو إبراهیم علیه السلام, وعند زیاد القندی سبعون ألف دینار، وعند عثمان بن عیسی الرَّواسی ثلاثون ألف دینار وخمس جوار، ومسکنه بمصر.
فبعث الیهم أبو الحسن الرضا علیه السلام أن احملوا ما قبلکم من المال، وما کان اجتمع لأبی عندکم من أثاث, وجوار، فإنِّی وارثه، وقائم مقامه، وقد اقتسمنا میراثه, ولاعذر لکم فی حبس ما قد اجتمع لی، ولوارثه قبلکم، وکلام یشبه هذا.
فأما ابن أبی حمزة فإنَّه أنکره، ولم یعترف بما عنده، وکذلک زیاد القندی.
وأما عثمان بن عیسی فانَّه کتب الیه: إنَّ أباک صلوات الله علیه لم یمت, وهو حی قائم، ومن ذکر أنَّه مات فهو مبطل، واعمل علی أنَّه قد مضی کما تقول: فَلَمْ یأمرنی بدفع شیء إلیک؛ وأمَّا الجواری فقد أعتقتهن، وتزوجتُ بهنَّ(2).
ص: 115
وقد یکون لوکیل الائمة علیه السلام فی القضایا المحدودة مقامٌ، ومرتبة علیا یحمد علیها، کما ورد المدح الکثیر فی حق بعضهم، وحفظ التاریخ لنا من تلک المدائح بعض ما قاله الإمام الهادی علیه السلام فی بعض وکلائه.
قال الشیخ الطوسی (رحمه الله): ذکر عمرو بن سعید المدائنی -- وکان فطحیاً -- قال: کنت عند أبی الحسن العسکری علیه السلام بصریا اذ دخل أیوب بن نوح، ووقف قدَّامه، فأمره بشیء، ثُمَّ انصرف، والتفتَ الیَّ ابو الحسن علیه السلام, وقال:
یا عمرو! إنْ أحببت أنْ تنظر إلی رجل من أهل الجنة فانظر إلی هذا(1).
وقال الطوسی عند عدِّهِ وکلاء الائمة علیه السلام الممدوحین:
ومنهم علیّ بن جعفر الهمدانی، وکان فاضلاً مرضیاً من وکلاء أبی الحسن, وأبی محمد علیهم السلام.
روی أحمد بن علی الرازی، عن علیِّ بن مخلد الایادی قال: حدَّثنی أبو جعفر العَمْرِی (رضی الله عنه), قال: حجَّ أبو طاهر بن بلال، فنظر إلی علیِّ بن جعفر وهو ینفق النفقات العظیمة، فلمَّا انصرف کتب بذلک إلی ابی محمَّد علیه السلام, فوقع فی رقعته:
قد کنا أمرنا له بمائة الف دینار، ثُمَّ أمرنا له بمثلها, فأبی قبوله إبقاءً علینا، ما للناس والدخول فیما لم ندخلهم فیه.
قال: ودخل علی أبی الحسن العسکری علیه السلام فأمر له بثلاثین الف دینار)(2).
ص: 116
النوع الثانی النیابة الخاصة ویختلف أسلوب النیابة الذی انشأ فی عصر الإمام الهادی علیه السلام والإمام العسکری علیه السلام عمّا کان علیه فی عصر الائمة السابقین علیه السلام ببناء النیابة الخاصة التی أُرید منها أنْ تتصدی للقیام بجمیع مهمات الإمام علیه السلام الاجتماعیة, والسیاسیة, والفکریة, والفقهیة, ولکن لیس بالشکل المستقل عن الإمام علیه السلام, وإنمَّا بشکله النیابی، ولذلک فهو یجیب علی جمیع الاسئلة الفکریة, والفقهیة، إما بعد مراجعته للامام علیه السلام بعد ان تقدم الاسئلة للنائب، أو یکون عارفاً بطریقة غیبیة, فیعرّف الإمامُ علیه السلام الجوابَ للنائب قبل وقوع الحادثة, والمسألة، فیجد السائل الجواب من الإمام حاضراً علیه.
وهناک قضایا غیبیة کثیرة ذکرها المؤرخون تحدثت عن هذه الظاهرة فی حیاة النواب الخاصِّین منها:
1 -- ما أخبر به الصدوق قال: واخبرنا محمد بن علی بن متیل قال: قال عمِّی جعفر بن محمَّد بن متیل:
دعانی أبو جعفر محمَّد بن عثمان السَّمان المعروف بالعَمْری رضی الله عنه، فأخرج الیّ ثویبات معلَّمة، وصُرّة فیها دراهم، فقال لی: یحتاج أن تصیر بنفسک إلی واسط فی هذا الوقت, وتدفع ما دَفَعْتُ الیک إلی أول رجل یلقاک عند صعودک من المرکب الی الشط بواسط.
قال: فتداخلنی من ذلک غمّ شدید، وقلت: مثلی یرسل فی هذا الأمر, ویحمل هذا الشیء الوتح؟(1).
ص: 117
قال: فخرجتُ إلی واسط، وصعدتُ من المرکب فأَوَّلُ رجل یلقانی سألته عن الحسن بن محمَّد بن قطاة الصیدلانی وکیل الوقف بواسط, فقال: أنا هو، مَنْ أنْتَ؟.
فقلتُ: أنا جعفر بن محمَّد بن متیل.
فعرفنی, باسمَّی وسلّم علیَّ، وسلَّمْتُ علیه، وتعانقنا، فقلت له: أبو جعفر العَمْری یقرأ علیک السلام، ودفع الیَّ هذه الثویبات، وهذه الصُّرة لأُسلِّمها الیک.
فقال: الحمد لله, فإنَّ محمَّد بن عبد الله الحائری قد مات، وخرجتُ لاصلاح کفنه، فحلُّ الثیاب, وإذا فیها ما یحتاج الیه من حبر، وثیاب، وکافور فی الصُّرة، وکری الحمالین, والحفار، قال: فشیعنا جنازته, وانصرفت(1).
2 -- ومنها ما نقله الشیخ الطوسی عن ابن نوح قال: أخبرنی أبو نصر هبة الله بن محمَّد قال: حدثنی [أبو] علیّ بن ابی جید القمِّی رحمه الله قال: حدَّثنا أبو الحسن علی بن أحمد الدلال القمی قال:
دخلت علی أبی جعفر محمَّد بن عثمان رضی الله عنه یوماً لأسلِّم علیه، فوجدتُه, وبین یدیه ساجة, ونقّاش ینقش علیها، ویکتب آیاً من القرآن، وأسماء الأئمة علیهم السلام علی حواشیها.
فقلت له: یا سیدی ما هذه الساجة؟.
فقال لی: هذه لقبری تکون فیه أوضع علیها، أو قال: أسند علیها, وقد عرفت منه، وانا فی کل یوم أنزل فیه فأقرأ جزءاً من القرآن (فیه) فأصعد.
ص: 118
وأظنه قال: فأخذ بیدی، وأرانیه، فإذا کان یوم کذا وکذا، من شهر کذا وکذا، من سنة کذا وکذا صرت إلی الله عزَّ وجل، ودفنتُ فیه، وهذه الساجة (معی).
فلَّما خرجتُ من عنده أثبتُّ ما ذکره، ولم أزل مترقباً به ذلک، فما تأخر الأمر حتی اعتل أبو جعفر، فمات فی الیوم الذی ذکره, من الشهر الذی قاله, من السنة التی ذکرها، ودفن فیه.
قال أبو نصر هبة الله: وقد سمعتُ هذا الحدیث من غیر [أبی] علی, وحدَّثتنی به أیضاً أم کلثوم بنت أبی جعفر رضی الله عنهما(1).
3 -- ومنها ما نقله الصدوق عن أبی جعفر محمَّد بن علیّ الأسود قال:
دفعت الیّ أمرأة سنة من السنین ثوباً، وقالت: احمله إلی العَمْرِی رضی الله عنه.
فحملته مع ثیاب کثیرة، فلما وافیت بغداد، أمرنی بتسلیم ذلک کلّه إلی محمَّد بن العباس القمِّی، فسلَّمته ذلک کلّه ما خلا ثوب المرأة، فوجَّه الیَّ العَمْرِی رضی الله عنه, وقال: ثوب المرأة سلِّمه إلیه.
فذکرت بعد ذلک أنّ امرأةً سَلَّمْتْ الیَّ ثوبا،ً وطلبته فلم أجده، فقال لی: لاتغتم فإنَّک ستجده، فوجدته بعد ذلک، ولم یکن مع العَمْری رضی الله عنه نسخة ما کان معی)(2).
ص: 119
وقد یکون أحیاناً الجواب من النائب نفسه، ولکنه ینبِّه إلی أنَّ الجواب استخرجه شخصیاً من کنوز علومهم علیه السلام. کما فی القضیة التی نقلها الصدوق عن محمَّد بن ابراهیم بن اسحاق الذی کان حاضراً عند النائب الثالث الحسین بن روح، وقد نقلها الشیخ الطوسی عن جماعة, عن الصدوق:
(قال محمَّد بن ابراهیم بن اسحاق (رضی الله عنه), فعدتُ إلی الشیخ أبی القاسم بن روح قدس الله روحه من الغدو وأنا أقول فی نفسی: أتراه ذکر ما ذکر لنا یوم أمس من عند نفسه؟ فابتدأنی, فقال لی: یا محمَّد بن ابراهیم! لأن أخر من السماء فتخطفنی الطیر, أو تهوی بی الریح فی مکان سحیق أحبُّ الیَّ من أن أقول فی دین الله عزَّ وجل برأیی، أو من عند نفسی، بل ذلک عن الأصل، ومسموع عن الحجَّة صلوات الله علیه وسلامه)(1).
وسوف تظهر أهمیة انتخاب الوکیل الخاص من خلال أهمیة موقعه من التشریع والإمامة، ولذلک فقد امتاز هؤلاء النواب بمیزات لم تتوفر لغیرهم، حتَّی أنَّهم کانوا فی مقام کبیر من العلم, والتقوی التی یمکن أن یقال بأنَّ لها بعض مراتب العصمة؛ فمن المقطوع به أنّ النائب الخاص قد حصل علی العصمة التشریعیة(2) بل أعلی درجاتها.
وکان الإمام الهادی علیه السلام أول من أسس أساس النیابة الخاصة للائمة علیه السلام بمعناها الأوسع الذی استمرت علیه، وتجلَّت بصورتها الأبهی فی حیاة خاتم الائمة
ص: 120
علیه السلام الإمام المهدی عجل الله فرجه الشریف, ولم تکن مصادفة انتخاب الإمام الهادی علیه السلام لهذا الموقع المهم الشیخ عثمان بن سعید رحمه الله تعالی، والذی استمرت نیابته فی حیاة الإمام العسکری علیه السلام، وکان أوَّلَ نواب الإمام المهدی عجل الله فرجه الشریف الخاصین. وانما کان بتخطیط الهی مقصود: ان یکون النائب الاول والنائب الثانی (وتمثل مدة نیابتهم اکثر المدة الزمنیة لفترة الغیبة الصغری) هما نائبا الإمامین الهادی والعسکری علیهما السلام وبذلک یمکن تحقیق عدَّة أهداف لمستقبل عصر الغیبة:
أولاً: ترسیخ حقیقة النیابة الخاصة فی الواقع الشیعی.
ثانیاً: تخفیف أزمة الصَّدمة باحتجاب الإمام المهدی عجل الله فرجه الشریف عن قواعده الشیعیة, بل حتَّی عن خواص اصحاب أبیه علیه السلام وجدِّه علیه السلام.
ثالثاً: الحفاظ علی أسرار الإمامة من التسرب إلی الأعداء, والمخالفین.
وغیر ذلک من الأهداف العظمی التی تحققت بمشروع النیابة الخاصة الواحدة, واتصالها من حیاة الإمام الهادی علیه السلام, فالإمام العسکری علیه السلام، وتختم بالغیبة الصغری للامام المهدی عجل الله فرجه الشریف.
قال الشیخ الطوسی وهو یذکر السفراء الممدوحین:
(فأوَّلُهم مَنْ نَصَّبَهُ أبو الحسن علی بن محمَّد العسکری، وأبو محمد الحسن بن علی بن محمَّد ابنه علیهم السلام, وهو الشیخ الموثوق به, أبو عمرو عثمان بن سعید العَمْری رحمه الله, وکان أسدیاً، وإنما سُمِّی العَمْرِی:
لما رواه أبو نصر هبة الله بن محمَّد بن أحمد الکاتب إبن بنت أبی جعفر العَمْرِی رحمه الله، قال:
ص: 121
أبو نصر کان أسدیاً، فنسب إلی جدِّه، فقیل العَمْری.
وقد قال قوم من الشیعة: إنَّ أبا محمَّد الحسن بن علی علیه السلام قال:
لایجمع علی امرئ بین عثمان وابو عمرو.
وُامر بکسر کنیته، فقیل العَمْری، ویقال له العسکری ایضاً، لأنه کان من عسکر سُرَّ مَنْ رأی، ویقال له: السمّان، لأنَّه کان یَتَّجِر فی السمن تغطیة علی الأمر)(1).
وقد نصَّ الطوسی علی أنَّ بدایة تعیین عثمان بن سعید لهذا المنصب الخطیر کان بأمر الإمام الهادی علیه السلام قال:
(أخبرنی جماعة عن أبی محمد هارون بن موسی، عن أبی علی محمَّد بن همام الاسکافی، قال: حدَّثنا عبد الله بن جعفر الحمیری، قال: حدَّثنا احمد بن اسحاق بن سعد القمی قال:
دخلتُ علی أبی الحسن علیّ بن محمَّد (صلوات الله علیه) فی یوم من الأیام, فقلتُ: یاسیدی أنا أغیب، وأشهد، ولایتهیأ لی الوصول الیک إذا شهدت فی کل وقت، فقولَ مَنْ نقبل؟ وأمرَ مَنْ نمتثل؟.
فقال لی (صلوات الله علیه):
هذا ابو عمرو الثقة الامین ما قاله لکم فعنِّی یقوله، وما أدَّاه الیکم, فعنِّی یؤدّیه.
فلمَّا مضی ابو الحسن علیه السلام, وصلتُ إلی ابی محمَّد ابنه الحسن العسکری علیه السلام ذات یوم، فقلت له علیه السلام مثل قولی لابیه فقال لی:
ص: 122
هذا أبو عمرو, الثقة, الامین, ثقة الماضی, وثقتی فی المحیا والممات، فما قاله لکم فعنِّی یقوله، وما أدّاه إلیکم فعنِّی یؤدّیه.
قال: أبو محمد هارون: قال أبو علی: قال أبو العباس الحمیری: فکنَّا کثیراً ما نتذاکر هذا القول, ونتواصف جلالة محل ابی عمرو)(1).
وتجد تأکید الإمام العسکری علیه السلام علی وحدة النیابة فی الروایة التی رواها الطوسی:
(عن أحمد بن علی بن نوح أبو العباس السیرافی قال: أخبرنا أبو نصر هبة الله بن محمَّد بن أحمد المعروف بابن برینة الکاتب قال: حدَّثنی بعض الأشراف من الشیعة الإمامیة أصحاب الحدیث, قال: حدَّثنی أبو محمَّد العباس بن أحمد الصائغ, قال: حدثنی الحسین بن أحمد الخصیبی, قال: حدَّثنی محمَّد بن إسماعیل, وعلی بن عبد الله الحسنیان قال:
دخلنا علی أبی محمد الحسن علیه السلام بِسُرَّ مَنْ رأی، وبین یدیه جماعة من أولیائه, وشیعته، حتی دخل علیه (بدر) خادمه، فقال: یا مولای بالباب قوم شعث غُبْر، فقال له:
هؤلاء نفر من شیعتنا بالیمن.
فی حدیث طویل یسوقانه إلی أن ینتهی إلی أن قال الحسن علیه السلام لبدر:
فامض فإتنا بعثمان بن سعید العَمْری.
فما لبثنا إلا یسیراً حتی دخل عثمان.
ص: 123
فقال له سیدنا ابو محمد علیه السلام:
امض یا عثمان فإنَّک الوکیل، والثقة المأمون علی مال الله، واقبض من هؤلاء النفر الیمنیین ما حملوه من المال.
ثم ساق الحدیث إلی أن قالا: ثم قلنا بأجمعنا: یا سیدنا! والله إنَّ عثمان لمن خیار شیعتک، ولقد زدتنا علماً بموضعه من خدمتک، وانه وکیلک، وثقتک علی مال الله تعالی، قال:
نعم: واشهدوا علی أنَّ عثمان بن سعید العَمْری وکیلی، وإن ابنه محمَّداً وکیل ابنی مهدیکم)(1).
ومع وجود الترابط والوحدة فی وکالة عثمان بن سعید, وابنه محمَّد بن عثمان للأئمة الثلاثة (الهادی, والعسکری, والمهدی) علیهم السلام کما رأینا ذلک واضحاً فی الروایات المتقدمة. فقد برزت النیابة واضحة بصلاحیتها الواسعة، بحیث عَبَّر الإمام العسکری علیه السلام عن النائب عثمان بن سعید انه (خلیفة الإمام) کما فی الروایة التی رواها الطوسی:
(عن جعفر بن مالک الفزاری البزاز, عن جماعة من الشیعة منهم علیّ بن بلال، وأحمد بن هلال، ومحمَّد بن معاویة بن حکیم، والحسن بن أیوب بن نوح فی خبر طویل مشهور قالوا جمیعاً:
اجتمعنا إلی أبی محمد الحسن بن علی علیهما السلام نسأله عن الحُّجة من بعده، وفی مجلسه علیه السلام أربعون رجلاً، فقام الیه عثمان بن سعید بن عمرو العَمْری فقال له: یا بن رسول الله أُرید أنْ اسألک عن أمر أنْتَ أعلم به منِّی.
ص: 124
فقال له:
اجلس یا عثمان.
فصاح علیه السلام بعثمان، فقام علی قدمیه فقال:
اخبرکم بما جئتم؟.
قالوا: نعم: یابن رسول الله.
قال:
جئتم تسألونی عن الحُّجة من بعدی.
قالوا: نعم.
فإذا غلام کأنه قطع قمر أشبه الناس بأبی محمَّد علیه السلام, فقال:
هذا امامکم من بعدی، وخلیفتی علیکم، أطیعوه, ولا تتفرقوا من بعدی، فتهلکوا فی أدیانکم، الا وانکم لاترونه من بعد یومکم هذا حتی یتم له عمر، فاقبلوا من عثمان ما یقوله، وانتهوا إلی أمره، واقبلوا قوله، فهو خلیفة امامکم، والأمر إلیه)(1).
وقد ورد قریب هذا المعنی فیما رواه:
(عن أبی نصر هبة الله بن محمَّد بن أحمد الکاتب بن بنت أبی جعفر العَمْری (قدس الله روحه وأرضاه)، عن شیوخه أنَّه:
لما مات الحسن بن علی علیهما السلام حضر غسله عثمان بن سعید رضی الله عنه وارضاه، وتولَّی جمیع أمره فی تکفینه، وتحنیطه، وتقبیره، مأموراً بذلک للظاهر من الحال التی لایمکن جحدها، ولا دفعها الا بدفع حقائق الأشیاء فی ظواهرها.
ص: 125
وکانت توقیعات صاحب الأمر علیه السلام تخرج علی یدی عثمان بن سعید، وابنه ابی جعفر محمَّد بن عثمان إلی شیعته، وخواص أبیه أبی محمَّد علیه السلام بالأمر، والنهی، والأجوبة عمَّا یسأل الشیعة عنه إذا احتاجت إلی السؤال فیه، بالخط الذی کان یخرج فی حیاة الحسن علیه السلام، فلم تزل الشیعة مقیمة علی عدالتهما إلی ان توفی عثمان بن سعید (رحمه الله ورضی عنه), وغسَّله ابنه ابو جعفر، وتولَّی القیام به، وحصل الأمر کله مردوداً إلیه، والشیعة مجتمعة علی عدالته، وثقته، وأمانته، لما تقدم له من النَّص علیه بالأمانة، والعدالة، والأمر بالرجوع الیه فی حیاة الحسن علیه السلام، وبعد موته فی حیاة أبیه عثمان (رحمة الله علیه)(1).
وکذلک تجده فی الروایة التی رواها بسند صحیح:
(عن جماعة، عن ابی القاسم جعفر بن محمَّد بن قولویه، وأبی غالب الزراری، وأبی محمد التلعکبری، کلّهم عن محمّد بن یعقوب الکلینی رحمه الله تعالی، عن محمَّد بن عبد الله, ومحمَّد بن یحیی، عن عبد الله بن جعفر الحمیری, قال: اجتمعتُ انا, والشیخ ابو عمرو عند أحمد بن اسحاق بن سعد الاشعری القمی، فغمزنی أحمد بن اسحاق أنْ أسأله عن الخَلَف.
فقلتُ له:
یا أبا عمرو! إنِّی أرید أن اسألک، وما انا بشاک فیما أرید أن اسألک عنه، فإنَّ اعتقادی, ودینی أنَّ الأرض لاتخلو من حجَّة إلا إذا کان قبل یوم القیامة بأربعین یوماً، فإذا کان ذلک وقعت الحجَّة، وغلق باب التوبة.
((لا یَنْفَعُ نَفْسًا إِیمَانُهَا لَمْ تَکُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ کَسَبَتْ فِی إِیمَانِهَا خَیْرًا))(2).
ص: 126
فأولئک أشرار من خلق الله عزَّ وجل، وهم الذین تقوم علیهم القیامة، ولکن أحببت أن أزداد یقیناً فإن إبراهیم علیه السلام سأل ربه أن یریه کیف یحی الموتی فقال:
((أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَی)) (1).
وقد أخبرنا أحمد بن إسحاق أبو علی، عن أبی الحسن علیه السلام قال: سألته, فقلت له: لمن أعامل, وعمَّن آخذ، وقولَ مَنْ أقبل؟.
فقال له: العَمْری ثقتی، فما أدَّی إلیک, فعنِّی یؤدی، وما قال لک فعنِّی یقول، فاسمع له واطع، فإنَّه الثقة المأمون.
قال:وأخبرنی أبو علی انه سأل أبا محمد الحسن بن علی عن مثل ذلک فقال له:
العَمْری، وابنه ثقتان، فما أدیّا إلیک فعنِّی یؤدیان، وما قالا لک فعنِّی یقولان، فاسمع لهما، واطعهما، فانهما الثقتان المأمونان، فهذا قول إمامین قد مضیا فیک.
قال: فخر ابو عمرو ساجداً, وبکی، ثم قال: سل.
فقلتُ له: أنت رأیت الخَلَفَ مِنْ أبی محمد علیه السلام؟.
فقال: إی والله, ورقبته مثل ذا, وأومأ بیدیه.
فقلت له: فبقیت واحدة.
ص: 127
فقال لی: هات.
قلت: فالاسم.
قال: محرَّم علیکم أن تسألوا عن ذلک، ولا أقول هذا من عندی، ولیس لی ان أحلِّلَ، وأُحَرِّم, ولکن عنه علیه السلام، فان الأمر عند السلطان أن أبا محمد علیه السلام مضی، ولم یخلف ولداً، وقسم میراثه، وأخذه من لا حق له، وصبر علی ذلک وهو ذا عیاله یجولون ولیس أحد یجسر أن یتعرف إلیهم، أو ینیلهم شیئاً، وإذا وقع الاسم وقع الطلب، فاتقوا الله وامسکوا عن ذلک.
فقال الکلینی: وحدثنی شیخ من أصحابنا ذهب عنِّی اسمه: إنَّ أبا عمرو سأل عن أحمد بن إسحاق عن مثل هذا، فأجاب بمثل هذا، وقد قدمنا هذه الروایة فیما مضی)(1).
ونجد التأکید علی حقیقة أنَّ أمر النائب هو أمر الإمام علیه السلام کما فی الخبر الصحیح الذی رواه الطوسی:
(عن محمَّد بن همام قال: حدثنی محمد بن حمویه بن عبدالعزیز الرازی فی سنة ثمانین وما ئتین قال: حدثنا محمد بن ابراهیم بن مهزیار الاهوازی انَّه خرج الیه بعد وفاة ابی عمرو: والابن وقاه الله لم یزل ثقتنا فی حیاة الآب (رضی الله عنه وأرضاه, ونَضَّر وجهه) یجری عندنا مجراه، ویسدّ مسدّه، وعن أمرنا یأمر الابن, وبه یعمل، تولاه الله، فانتهِ إلی قوله، وعرف معاملتنا ذلک(2).
ص: 128
وقد اخبر الشیخ الطوسی:
(عن هبة الله بن محمّد ابن بنت ام کلثوم بنت ابی جعفر العَمْری (رضی الله عنه) عن شیوخه قالوا: لم تزل الشیعة مقیمة علی عدالة عثمان بن سعید, ومحمَّد بن عثمان (رحمهما الله تعالی) إلی ان توفی ابو عمرو عثمان بن سعید (رحمه الله تعالی), وغَسَّله ابنه ابو جعفر محمد بن عثمان، وتولی القیام به، وجعل الأمر کلَّه مردوداً الیه، والشیعة مجتمعةً علی عدالته، وثقته، وامانته لما تقدم من النَّص علیه بالامانة, والعدالة، والأمر بالرجوع إلیه فی حیاة الحسن علیه السلام، وبعد موته فی حیاة أبیه عثمان بن سعید؛ لایختلف فی عدالته، ولا یرتاب بأمانته، والتوقیعات تخرج علی یده إلی الشیعة فی المهمات طول حیاته بالخط الذی کانت تخرج فی حیاة أبیه عثمان، لایعرف الشیعة فی هذا الأمر غیره، ولایرجع إلی أحد سواه.
وقد نقلت عنه دلائل کثیرة, ومعجزات الإمام ظهرت علی یده، وأمور أخبرهم بها عنه زادتهم فی هذا الأمر بصیرة، وهی مشهورة عند الشیعة، وقد قدمنا طرفاً منها فلا نطول باعادتها. فان فی ذلک کفایة للمنصف ان شاء الله تعالی)(1).
وتبرز الروایة التالیة وحدة النیابة المتصلة للائمة الثلاثة علیهم السلام مع النواب الاربعة للحجَّة.. بالاضافة إلی أهمیة الموقع الالهی الذی جلسوا فیه، وأقاموا به الحجَّة, والدین، وانَّهم کانوا یقومون بما أمروا به, ولا مدخل لذاتیاتهم بأیة مسألة عملوا، بما یوضح قداسة شخصایتهم، وأعلی مراتب کمالهم إضافة إلی سعة دائرة نیابتهم.. روی الشیخ الطوسی:
ص: 129
(عن ابن نوح قال: اخبرنی ابو نصر هبة الله ابن بنت ام کلثوم بنت أبی جعفر العَمْری قال: کان لأبی جعفر محمَّد بن عثمان العَمْری کتب مصنفة فی الفقه مما سمعها من أبی محمد الحسن علیه السلام، ومن الصاحب علیه السلام, ومن أبیه عثمان بن سعید, عن أبی محمد, وعن أبیه علی بن محمد علیهما السلام فیها کتب ترجمتها کتب الاشربة.
ذکرت الکبیرة ام کلثوم بنت ابی جعفر (رضی الله عنها) انها وصلت إلی أبی القاسم الحسین بن روح رضی الله عنه عند الوصیة الیه, وکانت فی یده.
قال أبو نصر: واظنُّها قالت: وصلت بعد ذلک إلی أبی الحسن السَّمری (رضی الله عنه)(1).
ویدخل ضمن تخطیط الإمام الهادی علیه السلام لتهیئة الأرضیة النفسیة الشیعیة للتفاعل مع کیفیة طرح إمامة حفیده الإمام المهدی عجل الله فرجه الشریف المملوءة بالکتمان والسرّ، أنَّه علیه السلام أراد للقاعدة الشعبیة أن تعیش حالة غیاب الإمام المعصوم عنها ولو بشکل مخفف لأجل أن لا تباغتها الغیبة فجأةً، وکانت تلک التجربة تحققت بحجب الإمام الهادی علیه السلام ولده العسکری علیه السلام. فقد جاءت فی مجموعة من الأخبار أنَّ کثیراً من الناس کانوا لایعلمون بوجود الإمام الحسن العسکری علیه السلام فی حیاة أبیه الإمام الهادی علیه السلام، بل کان هناک من الناس من لم یعلم بوجوده الا بعد وفاة أبیه علیه السلام.
ص: 130
روی الکلینی باسناده عن علی بن محمَّد, عن بشار بن أحمد بن عبد الله بن محمَّد الاصفهانی قال: قال أبو الحسن علیه السلام:
صاحبکم بعدی الذی یصلی علیَّ.
قال: ولم نعرف أبا محمد قبل ذلک.
قال: فخرج أبو محمد فصلَّی علیه(1).
وروی عن محمَّد بن یحیی, وغیره، عن سعد بن عبد الله، عن جماعة من بنی هاشم منهم الحسن بن الحسن الافطس: انَّهم حضروا یوم توفی محمَّد بن علی بن محمَّد، باب أبی الحسن یعزُّونه, وقد بسط له فی صحن داره, والناس جلوس حوله، فقالوا: قدّرنا ان یکون حوله من آل أبی طالب، وبنی هاشم، وقریش مائة وخمسون رجلاً سوی موالیه وسائر الناس.. اذ نظر إلی الحسن بن علی قد جاء مشقوق الجیب، حتی قام عن یمینه ونحن لانعرفه, فنظر الیه أبو الحسن علیه السلام بعد ساعة، فقال:
یا بنی أحدِثْ لله عزَّ وجل شکراً, فقد اَحدثَ فیک أمراً.
فبکی الفتی، وحمد الله، واسترجع، وقال: الحمد لله رب العالمین، وأنا اسأل الله تمام نعمة لنا فیک، وانا لله وإنّا إلیه راجعون.
فسألنا عنه, فقیل: هذا الحسن ابنه.
وقدرنا له فی ذلک الوقت عشرین سنة, أو أرجح, فیومئذ عرفناه، وعلمنا أنه قد أشار إلیه بالإمامة، وأقامه مقامه(2).
ص: 131
فهذه جماعة من بنی هاشم ومنهم الحسن بن الافطس یصرحون بأنه لم یعرفوا الإمام الحسن علیه السلام قبل وفاة أخیه ابی جعفر محمَّد بن علی علیه السلام.. فما هو السبب وراء هذا الإخفاء؟ هل هو الخوف علی أبی محمَّد علیه السلام من السلطان؟.
أم أنَّه یرید للأمَّة أنْ تستوعب فکرة إخفاء شخص الإمام عنها؟.
ومهما یکن السبب فإن من الواضح أنَّ الإمام الهادی علیه السلام کان یبغی وراء ذلک الإخفاء لشخص ولده عن الحضور، هو تعمیق الحالة الجدیدة التی لابد وأن یکون علیها الناس حینما تحین إطلالة فجر إمامة المهدی عجل الله فرجه الشریف. ومع أنَّ الإمام الهادی علیه السلام لم یُعمِّم إخفاءَ, وحجبَ شخصِ ولده العسکری علیه السلام قبل وفاة ابنه محمد علیه السلام عن جمیع الناس, وإنَّما کان هناک من الناس من یلتقی بأبی محمد علیه السلام بمناسبات متعددة کما سوف نراه فی بعض الأخبار.. ولکنَّه کان یظهر من مناقب ولده أبی جعفر محمد علیه السلام والاهتمام به، ولم یعرفوا حقیقة الأمر إلا بعد وفاة أبی جعفر علیه السلام، وإعلان الإمام الهادی علیه السلام أنَّ الإمام بعده إنَّما هو ولده الحسن علیه السلام، وبطبیعة الحال فإنَّ الإمامة منصوصة علی أشخاص الأئمة الإثنی عشر قبل أنْ یخلق الله السموات والارض لاتبدیل لأَمره، وکان من الأزل اسم الإمام العسکری هو الإمام الحادی عشر، ومن المستحیل التحویل والتبدیل.
وإنَّما البَداء کان فی إظهار أمر الإمام العسکری علیه السلام حسب. فیبدو أنَّ الإمام الهادی علیه السلام کان یحجب معرفة أنَّه الإمام بعده علی کثیر من الناس، متعمداً بذلک، بل کان یصرح بفضائل ومناقب ابنه الآخر محمَّد کثیراً بحیث تصور البعض أنَّه قد نصَّ علیه کما روی الطوسی:
ص: 132
(عن سعد عن علی بن محمد الکلینی، عن اسحاق بن محمد النخعی، عن شاهویه بن عبد الله الجلاب, قال: کنتُ رویت عن أبی الحسن العسکری علیه السلام فی أبی جعفر ابنه روایات تدل علیه، فلما مضی أبو جعفر قلقت لذلک، وبقیت متحیراً لا اتقدم ولا أتأخر، وخفتُ أنْ اکتب الیه فی ذلک فلا أدری ما یکون.
فکتبت الیه اسأله الدعاء, وان یفرِّج الله تعالی عنَّا فی أسباب من قِبَلِ السلطان کُنّا نغتم بها فی غلماننا.
فرجع الجواب بالدعاء، ورد الغلمان علینا. وکتب فی آخر الکتاب:
أردت ان تسأل عن الخلف بعد مضیّ أبی جعفر، وقلقت لذلک، فلا تغتم.
((فانَ اللهَ لا یُضِلُّ قَوْمَاً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُم حَتَّی یُبَیِّنَ لَهُم مَا یَتَّقُون)).
صاحبکم بعدی ابو محمد ابنی، وعنده ما تحتاجون الیه، یقدم الله ما یشاء ویؤخر ما یشاء.
((مَا نَنْسَخُ مِنْ آیَةٍ أَوْ نَنْسِهَا نَأتِ بِخَیْرٍ مِنْهَا أَو مِثْلِهَا)).
قد کتبت بما فیه بیان, وقناع لذی عقل یقظان)(1).
(وروی عن سعد بن عبد الله الاشعری قال: حدَّثنی أبو هاشم داود بن القاسم الجعفری, قال: کنتُ عند أبی الحسن العسکری علیه السلام وقت وفاة ابنه أبی جعفر، وقد کان أشار إلیه، ودلَّ علیه, وإنِّی لأفکر فی نفسی, وأقول هذه قصة [أبی] إبراهیم علیه السلام, وقصة اسماعیل، فأقبل علیّ أبو الحسن علیه السلام, وقال:
ص: 133
نعم یا أبا هاشم! بدا لله فی أبی جعفر، وصیَّر مکانه أبا محمَّد، کما بدا له فی اسماعیل بعد ما دلَّ علیه أبو عبد الله علیه السلام, ونصَّبه, وهو کما حدثتک نفسک وان کره المبطلون؛ أبو محمد ابنی الخلف من بعدی، عنده ما تحتاجونه الیه، ومعه آلة الإمامة, والحمد لله)(1).
ومن المقطوع به أنَّ الإمام الهادی علیه السلام لم ینصَّ علی أبی جعفر علیه السلام قبل وفاته, ولا بعد وفاته، وإنَّما جاء ذلک من بیان الإمام الهادی علیه السلام فضل ولده محمَّد (رضوان الله علیه) بالشکل الذی ولّد فی ذهن بعض الرواة أنَّ قول الإمام الهادی علیه السلام إنَّما هو نصّ منه علیه السلام علی ولده محمَّد (رضوان الله).
نعم قد یکون فی حصول هذا الخطأ وقتها فی العقل العام مصلحة کان الإمام علیه السلام یحقق بها توضیح المنهج الجدید، وحفظ سلامة الإمام علیه السلام. ومما یؤکد عدم نصّ الإمام الهادی علیه السلام علی ولده موقفه المصحح للخطأ الذی سیطر علی ذهن العامة کما ورد ذلک فی مجموعة من الاخبار منها:
ما رواه الکلینی عن علی بن محمَّد عن جعفر بن محمَّد الکوفی, عن بشار بن أحمد البصری, عن علی بن عمر النوفلی, قال: کنت مع أبی الحسن علیه السلام فی صحن داره، فمرَّ بنا محمَّد ابنه، فقلت له: جعلتُ فداک هذا صاحبنا بعدک؟.
فقال:
لا صاحبکم بعدی الحسن(2).
ص: 134
(وروی عن علی بن محمَّد، عن ابی محمَّد الاسبارقینی، عن علی بن عمرو العطار قال: دخلت علی أبی الحسن العسکری علیه السلام, وأبو جعفر ابنه فی الأحیاء, وأنا أظن أنَّه هو، فقلت له: جعلت فداک مَنْ أخَصُّ مِنْ ولدک؟.
فقال:
لاتخصُّوا أحداً حتی یخرج إلیکم أمری.
قال: فکتبت إلیه بعد: فیمن یکون هذا الأمر؟.
قال: فکتب الیّ فی الکبیر من ولدی.
قال: وکان أبو محمَّد أکبر من أبی جعفر)(1).
وروی الطوسی: (عن سعد عن أحمد بن عیسی العلوی من ولد علی بن جعفر.
قال: دخلت علی أبی الحسن علیه السلام بصریا فسلَّمنا علیه، فإذا نحن بأبی جعفر, وأبی محمد قد دخلا, فقمنا إلی أبی جعفر لنسلم علیه، فقال ابو الحسن علیه السلام:
لیس هذا صاحبکم، علیکم بصاحبکم.
وأشار إلی ابی محمَّد علیه السلام)(2).
ومع ذلک کان الإمام الهادی علیه السلام مهتماً جداً بحجب ولده عن الظهور, والاعلان أمام الناس إلا نادراً للمصلحة التمهیدیة التی یرید من ورائها بناء الذهنیة
ص: 135
الشیعیة المستوعبة لفکرة احتجاب الإمام، وعدم ظهوره أمام موالیه، ولعل الروایات التی نصَّت علی مسألة البداء علی الإمام العسکری، بعد وفاة أخیه محمَّد علیه السلام إنَّما تشیر إلی قضیة انقضاء مرحلة السرِّ من إعلان إمامته, وحجبه عن موالیه وعن الناس الآخرین, وإنَّ بیوم وفاة أبی جعفر علیه السلام تحقق الوعد الالهی بإعلان إمامة العسکری علیه السلام أمام الجمیع.
فلیس فی الروایات ما یدل علی تغیر الإمامة من أبی جعفر علیه السلام إلی أبی محمَّد علیه السلام.. ولیس فیها نص علی الأول.. واِنَّما تحدثت النصوص علی تبشیر الإمام الهادی علیه السلام شیعته برفع الستار عن شخص الإمام العسکری علیه السلام، وبذلک الیوم قد عرفه من لم یعرفه من قبل، وعلم بوجوده من لم یعلم بوجوده سابقاً (کما رأینا ذلک فی الاخبار المتقدمة)..
فجاء البیان من الإمام الهادی علیه السلام للسماح للشیعة ان یتناقلوا خبر أبی محمَّد علیه السلام، والنصوص علیه، وأنَّه الإمام بعد أبیه، خصوصاً أنَّ الفترة تلک کانت قبل وفاته علیه السلام بأربعة أشهر، کما هو مُثَبَّت فی الخبر الذی رواه الکلینی بإسناده:
(عن علی بن محمَّد، عن محمَّد بن أحمد النهدی، عن یحیی بن یسار القنبری.
قال: أوصی أبو الحسن علیه السلام إلی ابنه الحسن قبل مضِّیه بأربعة أشهر، واشهدنی علی ذلک, وجماعة من الموالی)((1).
ص: 136
وقد مهد الإمام الهادی علیه السلام لحفیده الإمام المهدی علیه السلام بنفس الاسلوب الذی سلکه آباؤه علیهم السلام بالدعوة إلی خاتمهم, وقائمهم، فلم یکن دور الإمام الهادی علیه السلام جدیداً بالدعوة إلی المهدی علیه السلام، وإنما جاءت امتداداً لما قام به النبی الأکرم صلی الله علیه وآله وسلم والأئمة المعصومین علیهم السلام، ومع أنّ التأریخ لم یحفظ من تراث الإمام العاشر إلا روایات قلیلة جداً فی مواضیع مختلفة فإنَّنا نجد أنَّ هناک مجموعة تشکل نسبة مهمة منها تحدثت عن الإمام المهدی علیه السلام.
والشیء المهم فی هذه الروایات أنَّها کانت قریبة زمناً للحدث المنتظر الضخم فی تاریخ البشریة, وهو قرب امامة إلامام الحجَّة عجل الله فرجه الشریف، وکان بیان الإمام الهادی علیه السلام واضحاً وصریحاً علی أنَّ المهدی عجل الله فرجه الشریف هو حفیده, وهو القائم الذی یملأ الارض قسطاً وعدلاً, وهو المنقذ المنتظر... ومن تلک الروایات المرویة عنه علیه السلام:
1. القائم حفید الإمام الهادی علیه السلام روی الصدوق عن أحمد بن زیاد بن جعفر الهمدانی رضی الله عنه, قال: حدَّثنا علی بن إبراهیم، قال: حدَّثنا عبد الله بن أحمد الموصلی، قال: حدَّثنا الصقر بن أبی دلف قال: سمعت علیَّ بن محمَّد بن علیَّ الرِّضا علیهم السلام یقول:
إنَّ الإمام بعدی الحسن ابنی، وبعد الحسن ابنه القائم الذی یملأ الأرض قسطاً وعدلاً کما ملئت جوراً وظلماً(1).
ص: 137
ورواه الخزاز عن محمَّد بن عبد الله بن حمزة قال: حدثنا الحسن بن حمزة قال: حدثنا علی بن إبراهیم...إلی اخره(1).
2. الإمام الهادی علیه السلام یمنع من ذکر الإمام المهدی عجل الله فرجه الشریف باسمه روی الکلینی عن علی بن محمَّد, عن من ذکره، عن محمَّد بن أحمد العلوی, عن داوود بن القاسم الجعفری(2).
ورواه الخزاز عن محمد بن علی بن السندی، قال: حدثنا محمد بن الحسن قال: حدثنا سعد قال: حدثنا محمد بن أحمد العلوی، عن أبی هاشم داوود بن القاسم الجعفری..(3).
ورواه الصدوق عن محمد بن الحسن رضی الله عنه قال: حدثنا سعد بن عبد الله قال: حدثنا ابو جعفر محمَّد بن أحمد العلوی، عن أبی هاشم داوود بن القاسم الجعفری قال: سمعت أبا الحسن صاحب العسکر علیه السلام یقول:
الخلف من بعدی ابنی الحسن فکیف لکم بالخلف من بعد الخلف؟.
فقلت: ولم جعلنی الله فداک؟.
فقال:
لإنَّکم لاترون شخصه, ولایحل لکم ذکره باسمه.
قلت: فکیف نذکره؟.
ص: 138
قال:
قولوا الحجة من آل محمد صلی الله علیه وآله وسلم(1).
3. الإمام الهادی علیه السلام ینبه انه عجل الله فرجه الشریف یکون اماماً وله من العمرخمس سنین روی المسعودی عن عبد الله بن جعفر الحمیری عن علی بن مهزیار قال: قلت لابی الحسن علیه السلام وقد نصّ علی أبی محمد: یا سیدی أیجوز أن یکون الإمام ابن سبع سنین؟. قال:
نعم وابن خمس سنین(2).
4. الإمام الهادی علیه السلام یخبر بخفاء ولادة الإمام الحجة عجل الله فرجه الشریف روی الصدوق باسناده عن إسحاق بن محمَّد بن أیوب، عن أبی الحسن علی بن محمّد علیهما السلام أنَّه قال:
صاحب هذا الأمر مَنْ یقول الناس: إنَّه لم یولد بعد(3).
وهذا ما أخبر به آباؤه علیهم السلام، فقد روی عن الإمام الباقر علیه السلام انَّه قال:
القائم مَنْ تخفی ولادته علی الناس(4).
وروی الصدوق باسناده عن عبد الله بن عطاء قال: قلت لأبی جعفر علیه السلام: إنَّ شیعتک بالعراق کثیرون، فوالله ما فی أهل بیتک مثلک، فکیف لا تخرج؟.
ص: 139
فقال: یا عبد الله بن عطاء!.
قد امکنت الحشو من أُذنیک، والله ما أنا بصاحبکم.
قلت: فَمَنْ صاحبنا؟.
قال:
انظروا من تخفی علی الناس ولادته فهو صاحبکم(1).
5. الإمام الهادی علیه السلام یذکر غیبة القائم عجل الله فرجه الشریف روی الطبرسی فی الاحتجاج قال: وروی عن علی بن محمَّد الهادی علیه السلام أنَّه قال:
لولا من یبقی بعد غیبة قائمکم علیه السلام من العلماء الداعین الیه، والدَّالین علیه، والذابین عن دینه بحجج الله, والمنقذین لضعفاء عباد الله من شباک إبلیس, ومَرَدَتِه, ومن فخاخ النَّواصب، لما بقی أحد إلا ارتدَّ عن دین الله، ولکنَّهم الذین یمسکون أزمَّة قلوب ضعفاء الشیعة کما یمسک صاحب السفینة سکانها، أُولئک هم الأفضلون عند الله (عزَّ وجل)(2).
6 . الإمام الهادی علیه السلام یذکر علامات ظهوره عجل الله فرجه الشریف منها: روی الصدوق عن أبیه رضی الله عنه قال: (حدَّثنا عبد الله بن جعفر الحمیری، عن محمَّد بن عمر الکاتب، عن علی بن محمَّد الصیمری، عن علی بن مهزیار قال:
ص: 140
کتبت إلی أبی الحسن صاحب العسکر علیه السلام أسأله عن الفرج فکتب الیّ:
إذا غاب صاحبکم عن دار الظالمین فتوقعوا الفرج)(1).
وروی الصدوق أیضاً عن أبیه (رضی الله عنه) قال:
(حدَّثنا سعد بن عبد الله قال: حدَّثنا محمَّد بن عبد الله بن أبی غانم القزوینی قال: حدَّثنی إبراهیم بن محمَّد بن فارس قال: کنتُ أنا, وأیوب بن نوح فی طریق مکة, فنزلنا علی وادی زبالة, فجلسنا نتحدث, فجری ذکر ما نحن فیه وبُعْد الأمر علینا، فقال أیوب بن نوح: کتبت فی هذه السنة أذکر شیئاً من هذا، فکتب الیّ:
إذا رفع عَلَمُکم من بین أظهرکم, فتوقعوا الفرج من تحت اقدامکم)(2).
وروی العیاشی عن علی بن عبد الله بن مروان، عن أیوب بن نوح قال: قال لی أبو الحسن العسکری علیه السلام وأنا واقف بین یدیه بالمدینة ابتداءً من غیر مسألة:
یا أیوب! أنَّه ما نَّبأ الله مِنْ نبی إلا بعد أنْ یأخذ علیه ثلاث خصال: شهادة أن لا اله الا الله، وخلع الأنداد من دون الله، وأن لله المشیة یقدِّم ما یشاء, ویؤخر ما یشاء، أما أنَّه إذا جری الاختلاف بینهم لم یزل الاختلاف بینهم إلی ان یقوم صاحب هذا الأمر(3).
ص: 141
بقراءة دقیقة لدور إمامة الإمام الهادی علیه السلام تتجلی وحدة المواقف عند الإمامین العسکریین علیهما السلام حتی لَیظهر واضحاً أنَّ موقف الإمام العسکری إنَّما هو تکثیف لما قام به أبوه الإمام الهادی علیه السلام بالتمهید لولده الإمام المنتظر عجل الله فرجه الشریف. ومن هذا المنطلق فإننا نلفت الی ذکر أهم الموشرات التی استخدمها الإمام العسکری علیه السلام للتمهید لإمامة ولده المهدی عجل الله فرجه الشریف. وهی اربعة مؤشرات تختزن الدور العظیم الذی مهدّ لمرحلة الغیبتین:
وبسبر الروایات التی تحدثت عن طریقة اتصال وارتباط النَّاس بالإمام العسکری علیه السلام نجدها تؤکد الطریقة التی انشأها أبوه الإمام الهادی علیه السلام، وتکثِّف حالة احتجاب المعصوم علیه السلام عن القاعدة الشیعیة بجسمه، ولکنه لایتخلی عن جماهیره بروحه، واهتمامه بواسطة الطرق الغیبیة التی أعطاها الله عزَّ وجل له, أو بالطرق العادیة ولکن ضمن الشروط الأمنیة التی لاتتعارض مع الاحتجاب.
وقد قرأنا روایة المسعودی السابقة التی قالت: (إنَّ أبا الحسن صاحب العسکر احتجب عن کثیر من الشیعة إلا عن یسیر من خواصِّه؛ فلمَّا أفضی الأمر إلی أبی محمَّد علیه السلام کان یکلَّم شیعته الخواص, وغیرهم من وراء الستر إلا فی الأوقات التی یرکب فیها إلی دار السلطان.
ص: 142
وأنَّ ذلک إنَّما کان منه, ومن أبیه قبله، مقدمة لغیبة صاحب الزَّمان لتألف الشیعة ذلک, ولاتنکر الغیبة, وتجری العادة بالاحتجاب والاستتار)(1).
وقد نقلنا بعض الأخبار التی نصَّت علی أنَّ کثیراً من أصحاب الإمام الهادی علیه السلام لم یتعرفوا علی ولده العسکری إلی یوم وفاة أخیه أبی جعفر محمَّد علیه السلام, المعروف ب-(السید محمَّد) و(سبع الدِّجیل).
ومن ذلک ایضاً ما رواه الکلینی, عن علی بن محمَّد, عن بشار بن أحمد، عن عبد الله بن محمَّد الأصفهانی قال: قال أبو الحسن علیه السلام:
صاحبکم بعدی الذی یصلِّی علیَّ.
قال: ولَم نعرف أبا محمَّد قبل ذلک، قال: فخرج أبو محمَّد فصلَّی علیه(2).
وقد ساعدت أَزْمَةُ الوضع الأمنی الإمام العسکری علیه السلام لتکثیف احتجابه، وقلَّة الالتقاء به، ولذلک فقد روی الراوندی، عن علیِّ بن جعفر الحلبی قال: اجتمعنا بالعسکر, وترصَّدنا لأبی محمَّد علیه السلام یوم رکوبه, فخرج توقیعه:ألا لا یُسَلِّمَنَّ عَلَیَّ أحَدٌ، ولایشیر إلیَّ بیده، ولایومیء أحدُکم, فإنَّکم لاتأمنون علی أنفسکم.
قال: وإلی جانبی شاب. قلت: من [أین] أنت؟.
قال: من المدینة.
قلت: ما تصنع هاهنا؟.
ص: 143
قال: اختلفوا عندنا فی أبی محمَّد, فجئت لأراه، واسمع منه، أو أری منه دلالته لیسکن قلبی، وإنِّی من ولد أبی ذر الغفاری.
فبینا نحن کذلک, اذ خرج أبو محمَّد علیه السلام مع خادم له, فلمَّا حاذانا نظر إلی الشاب الذی بجنبی فقال:
غفاریٌ أنت؟.
قال: نعم.
قال:
ما فَعَلَتْ أُمُّک حمدویه؟.
قال: صالحة.
ومرّ؛ فقلت للشاب: أکُنْتَ رأیته قط، وَعَرَفْتَهُ بوجهه قبل الیوم؟!.
قال: لا.
قلت: فیقنعک هذا؟.
قال: ومن دون هذا(1).
وروی الراوندی عن أبی سلیمان قال: حدَّثنا أبو القاسم بن أبی حلیس قال: کنتُ أزور العسکر فی شعبان فی أوله، ثُمَّ أزور الحسین علیه السلام فی النصف. فلمَّا کان فی سنة من السنین وردت العسکر قبل شعبان، وظننت أنِّی لا أزوره فی شعبان؛ فلمَّا دخل شعبان، قلت: لا أدع زیارة کنتُ أزورها، وخرجتُ إلی العسکر، وکنتُ إذا وافیتُ العسکر أُعلمهم برقعة، أو برسالة.
ص: 144
فلمَّا کان فی هذه المرَّة, قلت: أجعلها زیارة خالصة لا أخلطها بغیرها، وقلتُ لصاحب المنزل أحبُ أنْ لاتعلمهم بقدومی.
فلمَّا أقمت لیلة جاءنی صاحب المنزل بدینارین وهو یبتسم متعجباً, ویقول: بعث إلیَّ بهذین الدینارین, وقیل لی: ادفعهما إلی الحلیسی، وقل له مَنْ کان فی حاجة الله کان الله فی حاجته(1).
وقال الشیخ الطوسی بعدما تحدث عن العَمْری: (وکان الشیعة إذا حملوا إلی أبی محمَّد علیه السلام ما یجب حمله من ألأموال أنفذوا إلی أبی عمرو, فیجعله فی جراب السمن وزقاقه, ویحمله إلی أبی محمَّد علیه السلام تقیة وخوفاً)(2).
وفی الروایة التالیة یَظْهَرُ أسلوب الإمام العسکری علیه السلام بشکل أوضح حیث انقطع عن اصحابه بالاتصال المباشر، واللقاءات حتی مع العَمْری: (وکیله، وثقته)، وکان یتصل بالمراسلة, وبطریقة مملوءة بالکتمان والسریة، وممّا یدل علی هذه الحقیقة ماورد فی مجموعة من الأخبار.
منها: ما رواه الشیخ ابن شهر آشوب، عن أبی هاشم الجعفری، عن داود بن الأسود قال: دعانی سیدِّی أبو محمَّد علیه السلام, فدفع إلیَّ خشبة کأنَّها رِجْل باب, مدوَّرة, طویلة, ملء الکف, فقال:
صر بهذه الخشبة إلی العَمْری.
فمضیتُ، فلمَّا صرتُ فی بعض الطریق عَرَضَ لی سَقَّاء, معه بغل, فزاحمنی البغل علی الطریق, فنادانی السَّقاء: صح علی البغل.
ص: 145
فرفعت الخشبة التِّی کانت معی, فضربت بها البغل, فانشقَّت, فنظرت إلی کسرها, فإذا فیها کتب, فبادرت سریعاً, فرددت الخشبة إلی کَمِّی, فجعل السَّقاء ینادینی، ویشتمنی، ویشتم صاحبی، فلما دنوتُ من الدَّار راجعاً استقبلنی عیسی الخادم عند الباب الثَّانی.
فقال: یقول لک مولای أعزَّه الله: لِمَ ضَرَبْتَ البغل، وکسرتَ رِجْلَ الباب؟!.
فقلت له: یاسیدی! لَمْ أعلم ما فی رِجْلِ الباب.
فقال: ولِمَ احتجت أنْ تعمل عملاً تحتاج أنْ تعتذر منه؟! إیَّاک بعدها أنْ تعود إلی مثلها. وإذا سَمَعْتَ لنا شاتماً فامض لسبیلک التی أُمِرْتَ بها، وإیَّاک أن تجاوب مَنْ یشتمنا، أو تُعَرِّفَهُ مَنْ أنْتَ، فإنَّا ببلد سوء، ومصر سوء، وامض فی طریقک، فإنَّ أخبارک وأحوالک ترد الینا, فاعلم ذلک(1).
و یتضح من هذا تعمیق أسلوب المراسلة والمکاتبة.
کما إننَّا وجدنا الإمام العسکری علیه السلام قد استبدل اللقاء بأصحابه, ومن عنده مسألة لدیه بأسلوب الکتابة، وظهر ذلک فی حیاته بشکل أکثر ممَّا کان علیه فی حیاة أبیه الإمام الهادی علیه السلام, وبعدما استقرَّینا الروایات التی رُوِیَتْ عنه علیه السلام, وقد وجدنا أکثرها قد نصَّ علی أنَّها خرجت من مکاتبة ولیست مشافهة، ولذلک اهتم أصحابه علیه السلام بمعرفة خطِّه الشریف لیطمأنّوا بما یصلهم من مکاتباته علیه السلام بأنَّها صادرة منه.
ص: 146
روی الکلینی بسند صحیح عالٍ جداً, عن محمَّد بن یحیی, عن أحمد بن إسحاق, قال: دخلتُ علی أبی محمَّد علیه السلام, فسألته أن یکتب لأنظر إلی خطِّه، فأعرفه إذا ورد.
فقال:
نعم.
ثُمَ قال:
یا أحمد! إنَّ الخط سیختلف علیک من بین القلم الغلیظ إلی القلم الدقیق فلا تَشُکَّنَّ.
ثُمَّ دعا بالدَّواة، فکتب، وجعل یستمد إلی مجری الدواة.
فقلت فی نفسی، وهو یکتب: استوهبه القلم الذی کتب به، فلمَّا فَرَغَ من الکتابة أقْبَلَ یحدِّثنی، وهو یمسح القلم بمندیل الدَّواة ساعة، ثُمَّ قال: هاک یا أحمد، فناولنیه.
فقلتُ: جعلت فداک إنِّی مُغَتم لشیء یصیبنی فی نفسی، وقد أردتُ أن أسأل أباک، فلم یقض لی ذلک.
فقال:
وما هو, یا أحمد؟.
فقلت: یا سیدی, روی لنا عن آبائک أن نوم الأنبیاء علی أقفیتهم، ونوم المؤمنین علی أیمانهم، ونوم المنافقین علی شمائلهم، ونوم الشیاطین علی وجوههم.
ص: 147
فقال:
کذلک هو.
فقلت: یاسیدی, فإنِّی أجهد أن أنام علی یمینی، فما یمکننی، ولایأخذنی النوم علیها.
فَسَکَتَ ساعة، ثُمَ قال:
یا أحمد؛ ادن منِّی.
فدنوت منه، فقال: ادخل یدک تحت ثیابک، فأدخلتُها, فأخرج یده من تحت ثیابه, وادخلها تحت ثیابی، فمسح بیده الیمنی علی جانبی الأیسر، وبیده الیسری علی جانبی الأیمن ثلاث مرات.
فقال أحمد: فما أقدر أن أنام علی یساری منذ فعل ذلک بی علیه السلام, وما یأخذنی نوم علیها أصلا(1).
ونجد فی مجموعة من الأخبار التی تحدثت عنه علیه السلام أنْ النَّاس کانت قد اعتادت علی الاتصال به بواسطة الکتابة، ولم تقتصر الکتابة علی مَنْ شَقَّت علیه المسافة، فقد کان الرجل من نزلاء (سُرَّ مَنْ رأی) إذا أصابته حاجة إلیه، أو مسألة فإنَّه لا یفکر بالذهاب الیه، وإنَّما کان یکتب له علیه السلام بذلک.. ومن ذلک ما رواه الکلینی عن إسحاق بن محمَّد النخعی قال: حدَّثنی عمر بن أبی مسلم, قال: قدم
ص: 148
علینا بسُرَّ مَنْ رأی رجلٌ من أهل مصر یقال له: (سیف بن اللیث)؛ یتظلم إلی المهتدی فی ضیعة له قد غصبها إیَّاه شفیع الخادم، وأخرجه منها؛ فأشرنا علیه أن یکتب إلی أبی محمَّد علیه السلام یسأله تسهیل أمرها.
فکتب إلیه أبو محمَّد علیه السلام:
لا بأس علیک، ضیعتک تُرَدّ علیک، فلا تتقدم إلی السلطان، والقَ الوکیل الذی فی یده الضیعة، وخوِّفه بالسلطان الأعظم ربِّ العالمین.
فلقیه، فقال له الوکیل الذی فی یده الضیعة: قد کتب إلیَّ عند خروجک من مصر أن اطلبک، وأردَّ الضیعة علیک.
فردَّها علیه بحکم القاضی ابن أبی الشوارب، وشهادة الشهود، ولم یحتج إلی ان یتقدم إلی المهتدی، فصارت الضیعة له، وفی یده، ولم یکن لها خبر بعد ذلک.
قال: وحدَّثنی سیف بن اللیث هذا قال: خَلَّفْتُ ابناً لی علیلاً بمصر عند خروجی عنها، وابناً لی آخر أسنّ منه کان وصیی، وَقیِّمی علی عیالی، وفی ضیاعی، فکتبتُ إلی أبی محمَّد علیه السلام أسأله الدعاء لابنی العلیل.
فَکَتَبَ إلیَّ:
قد عوفی ابنک المعتل، ومات الکبیر وصیُّک, وقیُّمک، فاحمد الله، ولاتجزع، فیحبط أجرک.
فورد علیَّ الخبر: أنَّ ابنی قد عوفی من علتِّه، ومات الکبیر یوم وَرَدَ عَلَیَّ جواب أبی محمَّد علیه السلام(1).
ص: 149
فمع أنَّ الرجل المصری قد قدم سُرَ مَنْ رأی، ولکنَّه لم یستطع الإتصال بالإمام العسکری علیه السلام إلا بالکتابة.
وروی الأربلی عن هارون بن مسلم, قال: ولد لابنی أحمد ابن؛ فکتبت الی أبی محمَّد, وذلک بالعسکر الیوم الثانی من ولادته, أساله أن یسمِّیه، ویکنِّیه؛ وکان محبتی أن أسمِّیه جعفراً، وأکنِّیه بأبی عبد الله، فوافانی رسوله فی صبیحة الیوم السابع, ومعه کتاب: سمَّه جعفراً، وکَنِّهِ بأبی عبد الله، ودعی لی(1).
وروی الراوندی(2) عن علی بن زید [یزید خ.ل] المعروف بابن رمش قال: اعتلَّ ابنی أحمد، وکنتُ بالعسکر, وهو ببغداد, فکتبتُ إلی أبی محمَّد أسأله الدعاء.
فخرج توقیعه:
أو ما علم علیّ أنَّ لکلِّ أجل کتاب؟.
فمات الابن(3).
وهو صریح بإنَّ الکتابة کانت فی سامراء، فمع أنَّه کان بالعسکر, أی سامراء, فإنَّه اتصل به علیه السلام کتابة, لا مشافهةً.
ص: 150
ولشدِّة, تکتّمه, واحتجابه, فکان مَنْ یرید رؤیته, أولیعرف الحقَّ بالإمامة, فإنَّه کان یجلس علی الطریق الذی یمّر به یوم رکوبه الذی عُیِّن من قبل السلطان، فیراه ویعرف ما یرید معرفته.
وهناک روایات کثیرة فی هذا المضمون منها ما رواه الراوندی والاربلی عن علیِّ بن محمَّد بن الحسن قال: وافَتْ جماعة من الأهواز من أصحابنا, وکنتُ معهم, وخرج السلطان إلی صاحب البصرة، فخرجنا لننظر إلی أبی محمَّد علیه السلام, فنظرنا إلیه ماضیاً معه, وقعدنا بین الحائطین بسُرَّ مَنْ رأی ننظر رجوعه, فرجع فلمَّا حاذانا، وقَرُبَ منَّا وَقَفَ، وَمدَّ یده إلی قلنسوته, فأخذها عن رأسه, وأمسکها بیده، وأمرَّ یده الأُخری علی رأسه، وضحک فی وجه رجل منَّا.
فقال الرَّجل مبادراً: أشهدُ انَّک حجَّةُ الله، وخیرته.
فقلنا: یا هذا ما شأنک؟. قال: کنتُ شاکّاً فیه، فقلت فی نفسی: إن رجع، وأخذ القلنسوة عن رأسه, قلت: بإمامته(1).
وروی الاربلی عن یحیی بن المرزبان قال: التقیتُ رجلاً من أهل السیب سیماه الخیرُ وأخبرنی أنَّه کان له ابن عم ینازعه فی الإمامة، والقول فی أبی محمَّد وغیره، فقلت: لا أقول به, أو أری علامة؟.
ص: 151
فَوَرَدْتُ العسکر فی حاجة, فأقبل أبو محمَّد، فقلتُ فی نفسی متعنتاً: إنْ مدَّ یده إلی رأسه, فکشفه، ثُمَ نظر إلیَّ, وَرَدَّه، قلت به.
فلمَّا حاذانی مدَّ یده إلی رأسه, فکشفه، ثُمَ برق عینیه فیَّ, ثُمَّ رَّدها، ثُمَّ قال: یا یحیی, ما فعل ابن عمَّک الذی تنازعه فی الإمامة؟.
فقلت: خَلَّفْتُهُ صالحاً. فقال: لا تنازعه ومضی(1).
ومنها ما رواه الراوندی، عن محمَّد بن ربیع الشیبانی قال: ناظرتُ رجلاً من الثَّنویة بالأهواز, ثُمَ قدِمتُ سُرَّ مَنْ رأی, وقد علق قلبی بشیء من مقالته، وإنِّی لجالس علی باب أحمد بن الخضیب إذ أقبل أبو محمَّد علیه السلام من دار العامَّة یوم الموکب، فنظر إلیَّ, وأومأ بسبابته (أحد, أحد, فرد, فَوَحِّدْهُ), فسقطتُ مغشیاً علیَّ(2).
وروی عن أبی بکرالفهفکی قال: أردتُ الخروج من (سُرَّ مَنْ رأی) لبعض الأُمور, وقد طال مقامی بها، فغدوتُ یوم الموکب، وجلست فی شارع أبی قطیعة بن داود اذ طلع أبو محمَّد علیه السلام یرید دار العامَّة, فلمَّا رأیته, قلت فی نفسی أقول له: یاسیدی إنْ کان عندک الخروج مِنْ (سُرَّ مَنْ رأی) خیراً لی، فأظهر التبّسم فی وجهی.
ص: 152
فلمَّا دنا منِّی تبسَّم تبسماً بیِّناً جیداً، فخرجتُ من یومی، فاخبرنی [بعض] أصحابنا إنَّ غریماً لی کان عندی مال قدم یطلبنی, ولو ظفر بی لهتکنی, لإنَّ ماله لم یکن عندی [شاهداً] (1).
وقد یکون لاحتجاب الإمام العسکری علیه السلام, وصمته أثر بوسوسة الشیطان فی نفوس بعض الناس من الموالین, وغیرهم الذین لاتطمئن قلوبهم -- لقلة إیمانهم -- إلا بکثرة الدلائل والمعاجز، وقد کتب الإمام العسکری علیه السلام یشکو من هذه الظاهرة الانحرافیة.. .
فقد روی الصدوق (رحمه الله) عن محمَّد بن الحسن رضی الله عنه قال: حدَّثنا عبد الله بن جعفر الحمیری قال:
(حدَّثنا أحمد بن إسحاق قال: خرج عن أبی محمَّد علیه السلام إلی بعض رجاله فی عرض کلام له:
ما مُنِیَ أحدٌ من آبائی علیهم السلام بما مُنِیتُ به من شکّ هذه العصابة فیّ، فان کان هذا الأمر امراً اعتقدتموه، ودِنتم به إلی وقت، ثم ینقطع فللشکّ موضع وان کان متصلاً ما اتصلت أمور الله عزَّ وجل فما معنی هذا الشک)؟(2).
وروی الأربلی عن القاسم الهروی قال: خرج توقیع عن أبی محمد علیه السلام إلی بعض بنی أسباط قال: کتبتُ إلیه أخبره عن اختلاف الموالی، وأسأله إظهار دلیل، فکتب الیّ:
ص: 153
وإنَّما خاطب الله عزَّ وجل العاقل، ولیس أحد یأتی بآیة، ویظهر دلیلاً أکثر مما جاء به خاتم النبیِّین، وسیِّد المرسلین، فقالوا: ساحر، وکاهن، وکذاب، وهدی الله من اهتدی، وغیر أن الأدلة یسکن الیها کثیر من الناس وذلک ان الله عزَّ وجل یأذن لنا, فنتکلم؛ ویمنع, فنصمت؛ ولو أحبَّ أن لایظهر حقاً ما بعث النبیین مبشّرین، ومنذرین یصدعون بالحق فی حال الضعف، والقوة، وینطقون فی أوقات لیقضی الله أمره، وینفذ حکمه الناس فی طبقات شتی، المستبصر علی سبیل نجاة متمسک بالحق، وتعلق بفرع أصل غیر شاک، ولا مرتاب؛ لایجد عنه ملجأً، وطبقة لم تأخذ الحق من أهله، فهم کراکب البحر یموج عند موجه، ویسکن عند سکونه.
وطبقة استحوذ علیهم الشیطان شأنهم الرَّد علی أهل الحق، ودفع الحق بالباطل، حسداً من عند أنفسهم.
فَدَعْ مَنْ ذَهَبَ یذهب یمیناً وشمالاً، فالرَّاعی إذا أراد أن یجمع غنمه جمعها فی أهون السعی.
وذَکَرْتَ ما اختلف فیه موالیّ، فإذا کانت الرِّفعة، والکبر فلاریب، ومَنْ جلس مجالس الحکم فهو أولی بالحکم.
أَحِسِنْ رعایة مَنْ استرعیت، وإیَّاک والإذاعة، وطلب الریاسة، فإنَّهما یدعوان إلی الهلکة.
ذَکَرْتَ شخوصک إلی فارس، فاشخص خار الله لک، وتدخل مصر إنْ شاء الله آمناً، واقرأ من تثق به من موالیّ السلام، ومُرْهُمْ بتقوی الله العظیم، وأداء الامانة، واعلمهم أنَّ المذیع علینا، حرب لنا.
ص: 154
قال: فلما قرأتُ: (وتدخل مصر إنْ شاء الله آمناً), لم أعرف معنی ذلک, فقدمت بغداد, وعزیمتی الخروج إلی فارس، فلم یتهیأ ذلک، فخرجت إلی مصر(1).
وروی الصدوق عن أبیه، ومحمَّد بن الحسن رضی الله عنهما قالا: حدَّثنا عبد الله بن جعفر الحمیری قال: حدَّثنا أحمد بن إسحاق قال: دخلتُ علی مولانا أبی محمد الحسن بن علی العسکری علیه السلام, فقال:
یا أحمد, ما کان حالکم فیما کان فیه الناس من الشک، والارتیاب؟.
فقلت له: یا سیدی لمَّا ورد الکتاب لم یبق منَّا رجل، ولا أمراة، ولا غلام بلغ الفهم إلا قال بالحق. فقال:
أحمد الله علی ذلک؛ یا أحمد: أما علمتم أنَّ الارض لاتخلو من حجة, وأنا ذلک الحُجَّة.
-- أو قال:
أنا الحجَّة(2)---.
وکان للامام العسکری علیه السلام القدم المعلی لتهیئة الأجواء لإمامة ولده الإمام المهدی عجل الله فرجه الشریف انطلاقاً من موقعه التسلسلی الذی سوف یلتزم النَّص علی التالی من بعده وهو ولده عجل الله فرجه الشریف. ومع أنَّ نفس النبیّ الأکرم صلی الله علیه وآله وسلم قد نصَّ
ص: 155
کثیراً، وکذلک الصدیقة الطَّاهرة علیها السلام والأئمة العشرة علیه السلام من أمیر المؤمنین علیه السلام والأئمة من ولده علیه السلام قد نصّوا بروایات کثیرة جداً علی الإمام المهدی المنتظر عجل الله فرجه الشریف, ولکنَّه کان لدور الإمام الحادی عشر موقعه الخاص, والمتمیز فی کیفیة النَّص علی الإمام الذی یأتی من بعده.
فالإمام العسکری علیه السلام عاش المرحلة وأثَّر فیها، وقد یتطلب من الإمام العسکری علیه السلام مواقف عملیة تؤکد النَّص علی الإمام المهدی علیه السلامأکثر بکثیر من المعصومین الآخرین علیهم السلام لان الإمام العسکری علیه السلام کان حاضراً فعلیاً بعصر تقدیم المهدی عجل الله فرجه الشریف للأمة, ولذلک کان علیه هو نفسه الذی یقوم بإعلان الغیبة, والتعریف بدخول البشریة المرحلة الجدیدة الخطرة, والأطول زمناً من کل ما مرَّت من مراحل, وأدوار؛ ولذلک نجد التنوع بإعلان الإمام العسکری, والنَّص علی ولده الحجة المنتظر عجل الله فرجه الشریف، وهناک عدَّة مظاهر تشکل قواعد فقْرات اعلانیة واقعیة استخدمها الإمام العسکری لإعلانه إمامة ولده الإمام المهدی عجل الله فرجه الشریف. یمکننا أنْ نُعنوِن أهمّ بیاناتها بعشر فقرات بیانیة وهی:
روی الراوندی عن علی بن إبراهیم بن هاشم، عن أبیه، عن عیسی بن صبیح قال: دخل الحسن العسکری علیه السلام علینا الحبس، وکنتُ به عارفاً، فقال لی:
لک خمس وستون سنة وشهر ویومان.
ص: 156
وکان معی کتاب دعاء علیه تاریخ مولدی, وإنِّی نظرتُ فیه, فکان کما قال. وقال:
هل رزقت ولداً؟.
قلت: لا
فقال:
اللّهم ارزقه ولداً یکون له عضداً، فنعم العضد الولد.
ثم تمثل علیه السلام:
من کان ذا عضد یدرک ظلامته
ان الذلیل الذی لیست له عضد |
قلت: ألک ولد؟. قال:
إی والله سیکون لی ولد یملأ الارض قسطا ًوعدلا،ً فأمَّا الآن فلا.
ثُمَ تمثل:
لعلک یوماً أنْ ترانی کأنَّما
بنیّ حوالی الأسود اللوابد
فان تمیماً قبل أن یلد الحص
أقام زماناً وهو فی الناس واحد(1)
وروی الصدوق عن محمَّد بن محمَّد بن عصام رضی الله عنه قال: حدَّثنا محمَّد بن یعقوب الکلینی، قال: حدثنی علان الرازی قال: أخبرنی بعض أصحابنا: إنه لمَّا حملت جاریة أبی محمَّد علیه السلام قال:
ستحملین ذکراً واسمه محمَّد، وهو القائم من بعدی(2).
ص: 157
ومع أنَّ المفروض فی ولادة المهدی عجل الله فرجه الشریف أنْ تکون سِرَّاً لایطلَّع علیها أحد، کما أخبر بذلک آباؤه علیهم السلام.
بالاضافة إلی مانقلناه سابقاً. فقد ورد ذلک فی مجموعة من الروایات منها:
1 . ما رواه الصدوق عن علی بن أحمد الدقاق ومحمَّد بن أحمد الشیبانی رضی الله عنهما قالا: حدَّثنا محمَّد بن أبی عبد الله الکوفی، عن موسی بن عمران النخعی، عن عمِّه الحسین بن یزید, عن حمزة بن حمران, عن أبیه حمران بن أعین, عن سعید بن جبیر قال: قال علی بن الحسین سیِّد العابدین علیهم السلام:
القائم منّا تخفی ولادته علی النَّاس حتَّی یقولوا: لم یولد بعد, لیخرج حین یخرج ولیس لأحدٍ فی عنقه بیعة (1).
2 . وروی الصدوق عن أحمد بن هارون الفامی، وعلی بن الحسین بن شاذویه المؤدب, وجعفر بن محمَّد بن مسرور، وجعفر بن الحسین رضی الله عنهم قالوا: حدَّثنا محمَّد بن عبد الله بن جعفر الحمیری، عن أبیه عن أیوب بن نوح, عن العباس بن عامر القصبانی.
وحدَّثنا جعفر بن علی بن الحسن بن علی بن عبد الله بن المغیرة الکوفی, قال: حدثنی جدَّی الحسن بن علی بن عبد الله, عن العباس بن عامر القصبانی,
ص: 158
عن موسی بن هلال الضّبی, عن عبد الله بن عطاء قال: قلت لأبی جعفر علیه السلام: إنَّ شیعتک بالعراق کثیرون، فو الله ما فی أهل بیتک مثلک, فکیف لا تخرج؟.
فقال:
یا عبد الله بن عطاء قد أمْکنْتَ الحشوَ من أُذنیک، والله ما أنا بصاحبکم.
قلت: فَمَنْ صاحبنا؟.
قال:
انظروا مَنْ تخفی علی النَّاس ولادته, فهو صاحبکم(1).
3 . وروی الصدوق عن محمد بن موسی بن المتوکل رضی الله عنه, قال: حدَّثنا محمَّد بن یحیی العطار، عن محمَّد بن عیسی بن عبید، عن محمَّد بن أبی عمیر، عن سعید بن غزوان، عن أبی بصیر, عن أبی عبد الله علیه السلام قال:
صاحب هذا الأمر تعمی ولادته علی [هذا] الخلق لئلا یکون لأحد فی عنقه بیعة إذا خرج(2).
4 . وروی الصدوق عن أبیه, ومحمَّد بن الحسن رضی الله عنهما, قالا: حدَّثنا سعد بن عبد الله، عن محمَّد بن عبید، ومحمَّد بن الحسین بن أبی الخطاب، عن محمَّد بن أبی عمیر، عن جمیل بن صالح، عن أبی عبد الله علیه السلام قال:
یبعث القائم ولیس فی عنقه بیعة لأحد(3).
ص: 159
5 . وروی النعمانی (رحمه الله) فی غیبته عن محمَّد بن یعقوب, قال: حدَّثنا عدَّة من أصحابنا، عن سعد بن عبد الله عن أیوب بن نوح, قال: قلت لأبی الحسن الرضا علیه السلام: إنّا نرجو أنْ تکونَ صاحبَ هذا الأمر، وأنْ یسوقه الله الیک عفواً بغیر سیف، فقد بویع لک، وقد ضُرِبَتْ الدراهم باسمک. فقال:
ما منّا أحد اختلفت الکتب إلیه, وأُشیر إلیه بالأصابع, وسئل عن المسائل، وحُمِلَتْ إلیه الأموال إلا اغتیل, أو مات علی فراشه حتی یبعث الله لهذا الأمر غلاماً منَّا, خفی المولد، والمنشأ, غیر خفی فی نسبه(1).
6 . وروی الخزاز عن أبی عبد الله الخزاعی, قال: أخبرنا محمَّد بن أبی عبد الله الکوفی، عن سهل بن زیاد الادمی، عن عبدالعظیم بن عبد الله الحسنی, قال: قلت لمحمَّد بن علی بن موسی: إنِّی لأرجوک أن تکون القائم مِنْ أهل بیت محمَّد الذی یملأ الارض قسطاً وعدلاً کما ملئت جوراً وظلماً, فقال علیه السلام:
یا أبا القاسم ما منَّا إلا قائم بأمر الله، وهادی إلی دین الله، ولکن, القائم الذی یطهر الله (عزَّ وجل) به الأرض من أهل الکفر، والجحود، ویملأها عدلاً, وقسطاً، هو الذی یخفی علی الناس ولادته، ویغیب عنهم شخصه، ویحرم علیهم تسمیته, وهو سمّی رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، وکُنِیُّهُ، وهو الذی تُطوی له الأرض، ویذلُّ له کل صعب؛ یجتمع إلیه من أصحابه عدد أهل بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً من أقاصی الأرض, وذلک قول الله عزَّ وجل:
ص: 160
((أَیْنَ مَا تَکُونُوا یَأْتِ بِکُمُ اللَّهُ جَمِیعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَی کُلِّ شَیْءٍ قَدِیرٌ))(1).
فإذا إجتمعت له هذه العدة من أهل الاخلاص أظهر أمره، فإذا أکمل له العقد وهی عشرة آلاف رجل خرج بإذن الله, فلا یزال یقتل أعداء الله حتی یرضی الله تبارک وتعالی.
قال عبدالعظیم: قلت له: یا سیدی وکیف یعلم أنْ الله قد رضی؟. قال:
یلقی فی قلبه الرحمة(2).
ولکن الإمام العسکری أبی إلاّ أن یُشهد علی ولادته سیِّدةً جلیلة من عظیمات آل محمد وهی السیدة حکیمة بنت الإمام الجواد، کما روت هی ذلک فی خبر ولادته عجل الله فرجه الشریف, ونقله عنها الثقات.
1 . روی الصدوق عن محمَّد بن الحسن بن الولید رضی الله عنه قال: حدَّثنا محمَّد بن یحیی العطار قال: حدَّثنا أبو عبد الله الحسین بن رزق الله قال: حدَّثنی موسی بن محمَّد بن القاسم بن حمزة بن موسی بن جعفر بن محمَّد بن علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب علیهم السلام, قال: حدثتنی حکیمة بنت محمَّد بن علی بن موسی بن جعفر بن محمَّد بن علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب علیهم السلام, قالت: بعث الی أبو محمَّد الحسن بن علی علیهما السلام, فقال:
یا عمَّة اجعلی إفطارک [هذه] اللیلة عندنا, فإنَّها لیلة النصف من شعبان, فإن الله تبارک وتعالی سیُظهر فی هذه اللیلة الحجَّة, وهو حجته فی أرضه.
ص: 161
قالت: فقلت له: ومَنْ أمُّه؟.
قال لی:
نرجس.
قلت له: جعلنی الله فداک ما بها أثر؟. فقال:
هو ما أقول لک.
قالت: فجئتُ, فلمَّا سَلَّمْتُ, وجلستُ, جاءت تنزع خفی، وقالت لی: یا سیدتی، وسیدة أهلی, کیف أمْسَیْتِ؟.
فقلتُ: بل أنت سیدَّتی, وسیدَّة أهلی.
قالت: فأنکرت قولی، وقالت: ما هذا یا عمَّة؟.
قالت: فقلت لها: یا بنیة إن الله تبارک وتعالی سیهب لک فی لیلتک هذه غلاماً, سیِّداً فی الدنیا والآخرة.
قالت: فخجلت، واستحیت؛ فلمَّا أنْ فرغتُ من صلاة العشاء الآخرة أفطرتُ, وأخذتُ مضجعی، فرقدتُ، فلمَّا أنْ کان فی جوف اللیل, قمت إلی الصَّلاة، ففرغتُ من صلاتی, وهی نائمة لیس بها حادث؛ ثُمَ جلستُ معقبةً، ثُمَ اضطجعتُ، ثُمَ انتبهتُ فزعة وهی راقدة؛ ثُمَ قامَتْ فَصَلَّتْ, ونامت.
قالت حکیمة: وخَرَجْتُ أتفقد الفجر، فإذا أنا بالفجر الأول کذنب السَّرحان، وهی نائمة، فدخلنی الشکوک؛ فصاح بی أبو محمَّد علیه السلام من المجلس، فقال:
لاتعجلی یا عمَّة، فهاک الأمر قد قرب.
ص: 162
قالت: فجلستُ، وقرأتُ الم السجدة, ویس, فبینما أنا کذلک إذ انتبهتْ فَزِعَةً،فوثبتُ إلیها، فقلتُ: اسم الله علیک؛ ثُمّّ قلت لها: أتحسین شیئاً؟.
قالت: نعم یا عمَّة.
فقلتُ لها: اجمعی نفسک، واجمعی قلبک، فهو ما قلتُ لک.
قالت حکیمة: فأَخَذَتْنِی فترة, وأَخَذَتْها فترة، فانتبهتُ بحسِّ سیدی، فکشفت الثوب عنه، فإذا أنا به علیه السلام ساجداً یتلقی الأرض بمساجده، فضممته إلیَّ، فإذا أنا به نظیف، متنظف، فصاح بی أبو محمَّد علیه السلام:
هَلُّمِّی إلَیَّ إبنی یا عمَّة.
فجئتُ به إلیه، فوضع یدیه تحت إلیتیه، وظهره، ووضع قدمیه علی صدره، ثم أدلی لسانه فی فیه، وأمرَّ یده علی عینیه، وسَمْعِهِ، ومفاصله، ثُمَّ قال:
تَکَلَّمْ یا بنی.
فقال:
أشهد ان لا اله الا الله وحده لاشریک له، وأشهد أن محمَّداً رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم.
ثُمَّ صلَّی علی أمیر المؤمنین، وعلی الأئمة علیهم السلام إلی أن وقف علی أبیه، ثم أحجم.
ثم قال أبو محمَّد علیه السلام:
یا عمَّة اذهبی به إلی أمِّه لیسلِّم علیها، وإئتنی به.
فذهبت به, فسلَّم علیها، وردتته، فوضعتهُ فی المجلس؛ ثُمَّ قال:
یا عمَّة إذا کان یوم السابع فاتینا.
ص: 163
قالت حکیمة: فلمَّا أصْبَحْتُ جئت لأسلِّم علی أبی محمَّد علیه السلام، وکشفت الستر لأتفقد سیدی علیه السلام، فلم أره، فقلت: جعلت فداک ما فعل سیدی؟.
فقال:
یا عمَّة استودعناه الذی استودعته أمُّ موسی علیه السلام.
قالت حکیمة: فلما کان فی الیوم السابع جئتُ، فَسَلَّمْتُ، وجلست، فقال:
هَلُّمی إلیَّ ابنی.
فجئتُ بسیدی علیه السلام، وهو فی الخرقة، ففعل به کفعلته الأولی، ثم أدلی لسانه فی فیه کأنه یغذیه لبناً، أو عسلاً، ثُمَّ قال:
تکلم یا بنی.
فقال:
أشهد ان لا اله الا الله.
وثنَّی بالصلاة علی محمَّد، وعلی أمیر المؤمنین، وعلی الائمة الطاهرین (صلوات الله علیهم) أجمعین حتَّی وقف علی أبیه علیه السلام، ثُمَّ تلی هذه الایة:
((وَنُرِیدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَی الَّذِینَ اسْتُضْعِفُوا فِی الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِینَ وَنُمَکِّنَ لَهُمْ فِی الأَرْضِ وَنُرِیَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا کَانُوا یَحْذَرُونَ))(1).
قال موسی: فسألت عقبة الخادم عن هذه؛ فقالت: صدقت حکیمة(2).
ص: 164
روی الصدوق عن محمَّد بن علی ماجیلویه, ومحمَّد بن موسی بن المتوکل, وأحمد بن محمَّد بن یحیی العطار رضی الله عنهم, قالوا: حدَّثنا محمَّد بن یحیی العطار, قال: حدَّثنی اسحاق بن ریاح البصری, عن أبی جعفر العَمْرِی.
قال: لما ولد السید علیه السلام، قال أبو محمَّد علیه السلام: ابعثوا إلی أبی عمرو, فبعث إلیه، فصار إلیه, فقال له: إشتر عشرة الآف رطل خبز، وعشرة الاف رطل لحم؛ وفَرِّقْهُ -- احسبه قال: علی بنی هاشم -- وعقَّ عنه بکذا, وکذا شاة(1).
وروی عن محمَّد بن موسی المتوکل رضی الله عنه قال: حدَّثنی عبد الله بن جعفر الحمیری قال: حدَّثنی محمَّد بن ابراهیم الکوفی: أن أبا محمَّد علیه السلام بعث إلی بعض من سمَّاه لی بشاة مذبوحة, وقال: هذه من عقیقة ابنی محمَّد(2).
روی الطوسی عن محمَّد بن علی الشلمغانی فی کتاب الأوصیاء قال: حدَّثنی حمزة بن نصر غلام أبی الحسن علیه السلام، عن أبیه قال: لمَّا وُلِدَ السَّیِّد علیه السلام تباشر أهل الدار بذلک، فلمَّا نشأ خرج إلیَّ الأمر أنْ أبتاع فی کل یوم مع اللحم قصب مخ.
وقیل: إنَّ هذا لمولانا الصغیر علیه السلام(3).
ص: 165
روی الصدوق عن أبی العباس أحمد بن الحسین بن عبد الله بن مهران الآبی الأزدی العروضی بمرو, قال: حدَّثنا أحمد بن الحسن بن إسحاق القمی, قال: لمَّا وُلِدَ الخلف الصالح علیه السلام وَرَدَ عن مولانا أبی محمَّد الحسن بن علی علیه السلام إلی جدِّی أحمد بن إسحاق کتاب، فإذا فیه مکتوب بخط یده علیه السلام الذی کان ترد به التوقیعات علیه، وفیه:
(ولد لنا مولود، فلیکن عندک مستوراً، وعن جمیع الناس مکتوماً، فإنَّا لم نظهر علیه الا الأقرب لقرابته، والولی لولایته؛ أحببنا إعلامک لیسرک الله به مثل ما سرَّنا به والسلام)(1).
وروی الصدوق عن محمَّد بن علی ماجلویه رضی الله عنه قال: حدَّثنا محمَّد بن یحیی العطار قال: حدَّثنا الحسین بن علی النیسابوری قال: حدَّثنا الحسن بن المنذر، عن حمزة بن أبی الفتح قال: جائنی یوماً، فقال لی: البشارة، ولد البارحة مولود لأبی محمَّد علیه السلام، وأمر بکتمانه.
قلت: وما اسمه؟. قال: سمُّی بمحمَّد، وکنِّی بجعفر(2).
وروی الصدوق عن جعفر بن محمَّد بن مسرور رضی الله عنه قال: حدَّثنا الحسین بن محمَّد بن عامر, عن معلی بن محمَّد البصری قال: خرج عن أبی محمَّد علیه السلام حین قتل الزبیری:
ص: 166
(هذا جزاء مَنْ افتری علی الله تبارک وتعالی فی أولیائه، زعم أنَّه یقتلنی، ولیس لی عقب, فکیف رأی قدرة الله عزَّ وجل.
وولد له ولد، وسمَّاه م ح م د سنة ست وخمسین ومائتین)(1).
وروی الثقة الجلیل الفضل بن شاذان، عن محمد بن علی بن حمزة بن الحسن بن عبید الله بن العباس بن علی بن ابی طالب علیه السلام قال: سمعت الإمام الحسن العسکری علیه السلام یقول:
ولد ولیُّ الله، وحجته علی عباده، وخلیفتی من بعدی مختوناً لیلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسین ومأتین عند طلوع الفجر، وکان أوَّلُ مَنْ غَسَّلَهُ (رضوان) خازن الجنة, مع جمع من الملائکة المقرَّبین, بماء الکوثر, والسلسبیل، ثُمَّ غسَّلَتْهُ عَمَّتی حکیمة بنت محمَّد بن علی الرضا علیهما السلام.
فسأل محمَّد بن علی بن حمزة رضی الله عنه (راوی الحدیث) عن أُمِّهِ علیه السلام.
قال: کانت أُمُّه ملیکة التی یقال لها بعض الأیَّام (سوسن)، وفی بعضها (ریحانة)، وکان (صقیل)، (ونرجس) أیضاً من أسمائهاعلیها السلام(2).
ثم قال المحدث النوری (ره) ومن هذا الخبر یظهر وجه الاختلاف فی اسم أمه المعظمة وانها تسمی بکل واحد من هذه الاسماء الخمسة(3).
ورواه الخاتون آبادی فی أربعینه عن أبی محمَّد بن شاذان(4).
ص: 167
روی الصدوق عن محمَّد بن موسی بن المتوکل (رضی الله عنه), قال: حدَّثنا عبد الله بن جعفر الحمیری, قال: حدَّثنا محمَّد بن أحمد العلوی، عن أبی غانم الخادم قال: وُلد لأبی محمَّد علیه السلام ولد فسمَّاه محمَّداً, فعرضه علی أصحابه یوم الثالث، وقال:
هذا صاحبکم من بعدی, وخلیفتی علیکم, وهو القائم الذی تمتد الیه الأعناق بالانتظار, فإذا امتلأت الارض جوراً وظلماً خرج فملأها قسطاً وعدلاً(1).
وروی الصدوق عن علی بن الحسن بن الفرج المؤذن (رضی الله عنه), قال: حدَّثنا محمَّد بن الحسن الکرخی، قال: (سمعت أبا هارون رجلاً من أصحابنا یقول:
رأیتُ صاحب الزَّمان علیه السلام, ووجهه یضیء کأنَّه القمر لیلة البدر, ورأیت علی سُرَّته شعراً یجری کالخط، وکشفت الثوب عنه, فوجدته مختونا،ً فسألت أبا محمَّد علیه السلام عن ذلک, فقال:
هکذا وُلد، وهکذا ولدنا، ولکنَّا سنمر الموسی علیه لإصابة السَّنة)(2).
ص: 168
روی الصدوق عن محمَّد بن علی ماجیلویه، وأحمد بن محمَّد بن یحیی العطار (رضی الله عنهما) قال: حدَّثنا محمَّد بن یحیی العطار قال: حدَّثنا الحسین بن علی النیسابوری, عن ابراهیم بن محمَّد بن عبد الله بن موسی بن جعفر علیه السلام, عن السیاری قال: حَدَّثتنی نسیم, وماریة, قالتا: إنَّه لمَّا سقط صاحب الزَّمان علیه السلام من بطن أُمِّه جاثیاً علی رکبتیه، رافعاً سبابتیه إلی السماء، ثُمَّ عطس، فقال:
الحمد لله رب العالمین، وصلَّی الله علی محمد وآله، زعمت الظلمة أنَّ حجَّةً الله داحضة, لو أُذن لنا فی الکلام لزال الشک.
قال إبراهیم بن محمَّد بن عبد الله: وحدَّثتنی نسیم خادم أبی محمَّد علیه السلام قالت: قال لی صاحب الزَّمان علیه السلام وقد دخلت علیه بعد مولده بلیلة, فَعَطَسْتُ عنده فقال لی:
یرحمک الله.
قالت نسیم: ففرحتُ بذلک.
فقال لی علیه السلام:
ألا أُبَشِّرُک فی العطاس؟.
فقلت: بلی [یا مولای]. فقال:
هو أمان من الموت ثلاثة ایام (1).
ص: 169
روی الصدوق عن محمَّد بن علی بن ابراهیم بن اسحاق الطالقانی (رضی الله عنه) قال: حدَّثنا الحسن بن زکریا بمدینة السلام قال: حدَّثنا أبو عبد الله محمَّد بن خلیلان قال: حدَّثنی أبی، عن أبیه عن جدِّه، عن غیاث بن أسید [اسد خ.ل] عن محمَّد بن عثمان (قدس الله روحه) انَّه قال:
ولد السیِّد علیه السلام مختوناً, وسمعتُ حکیمة تقول: لَمْ یر بأُمِّه دم فی نفاسها, وهذا سبیل أُمهات الائمة علیه السلام(1).
روی الصدوق عن محمَّد بن الحسن بن أحمد بن الولید (رضی الله عنه), قال:
حدَّثنا الحسن الکرخی قال: حدَّثنا عبد الله بن العباس العلوی, قال: حدَّثنا أبو الفضل الحسن بن الحسین العلوی, قال:
دخلتُ علی أبی محمَّد الحسن بن علی علیه السلام بسُرَّ مَنْ رأی، فهنأته بولادة ابنه القائم علیه السلام(2).
ص: 170
وجاء ذلک فی روایات کثیرة تحدثت عن أسالیب متنوعة بالعرض, نختار قضایا مهمّة:
القضیة الأولی: مؤتمر فقهاء الشیعة وقد جمع الإمام العسکری علیه السلام عظماء الطائفة وفقهاءها قبل وفاته علیه السلام بأیام قلائل لیعلن لهم الإمام المعصوم المنصوب من بعده الذی یقوم مقامه. وکان فیهم أربعین رجلاً, کما فی النص التالی الذی رواه الصدوق عن محمَّد بن علی ماجیلویه (رضی الله عنه), قال: (حدثنا محمَّد بن یحیی العطار, قال: حدَّثنی جعفر بن محمَّد بن مالک الفزاری, قال: حدَّثنی معاویة بن حکیم، ومحمَّد بن أیوب بن نوح، ومحمَّد بن عثمان العَمْرِی (رضی الله عنه) قالوا:
عَرَضَ علینا أبو محمَّد الحسن بن علی علیه السلام, ونحن فی منزله, وکنا أربعین رجلاً, فقال:
(هذا إمامکم من بعدی، وخلیفتی علیکم، أطیعوه, ولا تتفرقوا من بعدی فی أدیانکم فتهلکوا، أَما إنَّکم لاترونه بعد یومکم هذا).
قالوا: فخرجنا من عنده فما مضت إلا أیَّام قلائل حتی مضی أبو محمَّد علیه السلام)(1).
ص: 171
وقد ذکر هذا الاجتماع المهم الشیخ الطوسی (رحمه الله) فی غیبته عن جماعة من الشیعة وهم: علی بن بلال, وأحمد بن محمَّد بن هلال, ومحمَّد بن معاویة بن الحکم, والحسن بن أیوب بن نوح(1).
ویمکننا ان نعدّ هذا الاجتماع هو آخر الاعلانات المهمة الذی هو بمثابة اجتماع ومؤتمر تتویج ابنه المهدی عجل الله فرجه الشریف لمنصب الإمامة.
فی حین لم نعرف بحدوث مثل هذا الاجتماع فی حیاة أحد من الائمة السابقین علیهم السلام.
ویعود السبب فی هذا الی الدور المهم الخاص بالمهدی عجل الله فرجه الشریف. بالإضافة الی التغیر بالإضافة الی التغیّر الکبیر فی طریقة التصدّی لوظائف الإمامة الذی یحدث فی إمامة المهدی عجل الله فرجه الشریف فی غیبته.
القضیة الثانیة: عرضه علی بعض خدمته روی الصدوق عن علی بن أحمد الدقاق، ومحمَّد بن محمِّد بن عصام الکلینی، وعلی بن عبد الله الوراق (رضی الله عنهم), قالوا: حدَّثنا محمَّد بن یعقوب الکلینی, قال: حدَّثنی علی بن محمَّد, قال: حدَّثنی محمَّد والحسن ابنا علی بن ابراهیم فی سنة تسع وسبعین ومائتین, قالا: حدَّثنا محمَّد بن علی بن عبدالرحمن العبدی -- من عبد قیس --, عن ضوء بن علی العجلی، عن رجل من
ص: 172
أهل فارس سمَّاه, قال: أتیت سُرَّ مَنْ رأی، فلزمت باب أبی محمَّد علیه السلام، فدعانی من غیر أنْ أستأذن، فلمَّا دخلتَ، وسلَّمت, قال لی:
یا أبا فلان کیف حالک؟.
ثُمَّ قال لی:
اقعد یا فلان.
ثُمَّ سألنی عن رجال، ونساء من أهلی، ثُمَّ قال لی:
ما الذی أقْدَمَک علیَّ؟.
قلتُ: رغبة فی خدمتک.
قال لی:فقال:
إلزم الدار.
قال: فکنتُ فی الدار مع الخدم، ثُمَّ صرت اشتری لهم الحوائج من السوق, وکنت أدخل علیه من غیر إذن إذا کان فی دار الرَّجال، فدخلتُ علیه یوماً وهو فی دار الرَّجال, فسمعتُ حرکة فی البیت, فنادانی:
مکانک لاتبرح.
فلم أجسر أخرج، ولا أدخل، فَخَرَجَتْ علیَّ جاریةٌ ومعها شیء مغطی، ثُمَّ نادانی:
ادخل.
فدخلت، ونادی الجاریة, فرجعت، فقال لها:
اکشفی عمَّا معک.
ص: 173
فکشفت عن غلام أبیض, حسن الوجه، وکَشَفَتْ عن بطنه, فإذا شعر نابت من لُبَّتِهِ إلی سُرَّتِهِ, أخضر لیس بأسود.
فقال:
هذا صاحبکم.
ثُمَّ أمرها، فَحَمَلَتْهُ، فما رأیته بعد ذلک حتی مضی أبو محمَّد علیه السلام.
قال ضوء بن علی: فقلتُ للفارسی: کم کنت تقدِّر له من السنین؟.
فقال: سنتین.
قال العبدی:فقلت لضوء: کم تقدر له الآن فی وقتنا؟.
قال: أربعة عشر سنة.
قال أبو علی, وأبو عبد الله: ونحن نقدر له ألان إحدی وعشرین سنة(1).
القضیة الثالثة: عرضه علی یعقوب بن منقوش وروی الصدوق عن أبی طالب المظفَّر بن جعفر بن المظفَّر العلوی السمرقندی (رضی الله عنه), قال: حدَّثنا جعفر بن محمَّد بن مسعود, عن أبیه محمَّد بن مسعود العیاشی, قال: حدَّثنا آدم بن محمَّد البلخی قال: حدَّثنی علیُّ بن الحسن بن هارون الدقاق, قال: حدَّثنا جعفر بن محمَّد بن عبد الله بن القاسم بن ابراهیم بن الأشتر, قال: حدَّثنا یعقوب بن منقوش, قال:
دخلتُ علی أبی محمَّد الحسن بن علی علیه السلام, وهو جالس علی دکَّان فی الدار، وعن یمینه بیت، وعلیه ستر مسبل، فقلت له: یا سیدی مَنْ صاحب هذا الأمر؟.
ص: 174
فقال:
إرفع الستر.
فرفعته، فخرج إلینا غلام خماسی, له عشر, أو ثمان, أو نحو ذلک، واضح الجبین، أبیض الوجه، درِّی المقلتین، شثن الکفین، معطوف الرکبتین, فی خدِّه الأیمن خال، وفی رأسه ذؤابة؛ فجلس علی فخذ أبی محمَّد علیه السلام، ثُمَّ قال لی:
هذا صاحبکم.
ثُمَّ وثب، فقال له:
یا بنی ادخل إلی الوقت المعلوم.
فدخل البیت، وأنا أنظر إلیه، ثُمَّ قال:
یا یعقوب؛ انظر إلی مَنْ فی البیت؟.
فدخلت فما رأیتُ أحداً (1).
القضیة الرابعة: عرضه علی موفد المُفَوِّضَة والمُقَصِّرة وروی الطوسی, وغیره عن جعفر بن محمَّد بن مالک, قال: حدَّثنی محمَّد بن جعفر بن عبد الله، عن أبی نعیم محمَّد بن أحمد الانصاری, قال: وجَّه قوم من المُفَوِّضَة والمُقَصِّرَة کامل بن ابراهیم المدنی إلی أبی محمَّد علیه السلام قال کامل: فقلت فی نفسی: أسأله لا یدخل الجَّنة إلاّ مَنْ عَرَفَ معرفتی، وقال بمقالتی، قال:
فلمَّا دخلتُ علی سیدی أبی محمَّد علیه السلام نظرت إلی ثیاب بیاضٍ, ناعمة علیه، فقلت فی نفسی: ولیُّ الله، وحجَّته یلبس الناعم من الثیاب، ویأمرنا نحن بمواساة الإخوان، وینهانا عن لبس مثله؟!.
ص: 175
فقال متبسماً:
یا کامل.
وحسر عن ذراعیه, فإذا مسح أسود, خشن علی جلده؛ فقال:
هذا لله، وهذا لکم.
فَسَلَّمْتُ, وجلستُ إلی باب علیه ستر مرخیاً، فجاءت الریح، فکشفت طرفه، فإذا أنا بفتی کأنَّه فلقة قمر من أبناء أربع سنین, أو مثلها. فقال لی:
یا کامل بن إبراهیم!.
فاقشعررت من ذلک, وألهمت أن قلت: لبیک یا سیدی. فقال:
جِئْتَ إلی ولیِّ الله، وحجَّتِهِ، وبابه تسأله هل یدخل الجنَّة إلا مَنْ عرف معرفتک، وقال بمقالتک؟.
فقلت: إی, والله. قال:
إذن, والله یقلّ داخلها، واللهِ إنَّه لیدخلها قوم یقال لهم الحقَّیة.
قلت: یا سیدی, ومَنْ هم؟. قال:
قوم من حبِّهم لعلی یحلفون بحقه، ولایدرون ما حقَّه, وفضله.
ثُمَّ سکت (صلوات الله علیه) عنِّی ساعة، ثُمَّ قال:
وجِئْتَ تسأله عن مقالة المُفَوِّضَة؛ کذبوا، بل قلوبنا أوعیة مشیة الله، فإذا شاء شئنا, والله یقول:
((وَمَا تَشَاءُونَ إِلاّ أَن یَشَآءَ اللهُ))(1).
ص: 176
ثُمَّ رجع الستر إلی حالته, فلم أستطع کشفه، فنظر إلیَّ أبو محمَّد علیه السلام متبسماً، فقال:
یا کامل؛ ما جلوسک، وقد أنبأک بحاجتک الحجَّة من بعدی؟.
فقمتُ، وخرجتُ، ولم أعاینه بعد ذلک.
قال أبو نعیم: فَلَقِیتُ کاملاً, فسألته عن هذا الحدیث, فَحَدَّثنی به.
وروی هذا الخبر أحمد بن علی الرازی، عن محمَّد بن علی، عن علیّ بن عبد الله بن عائذ الرازی، عن الحسن بن وجناء النصیبی قال: سمعت أبا نعیم محمَّد بن أحمد الانصاری، وذکر مثله (1).
القضیة الخامسة: عرضه علی إبراهیم النیسابوری وإخبار المهدی عجل الله فرجه الشریف بالمغیبات وروی الفضل بن شاذان فی غیبته, قال: حدَّثنا إبراهیم بن محمَّد بن فارس النیسابوری, قال:
لمَّا هَمَّ الوالی عمرو بن عوف بقتلی, وهو رجل شدید النَّصب، وکان مولعاً بقتل الشیعة - فأُخْبِرْتُ بذلک، وغَلَبَ عَلَیَّ خوفٌ عظیم، فَوَدَعَّتُ أهلی, وأحبائی, وتَوَجَّهْتُ إلی دار أبی محمَّد علیه السلام لأُوَدِّعَهُ, وکنتُ أردت الهرب، فلمَّا دخلتُ علیه رأیت غلاماً جالساً فی جنبه، وکان وجهه مضیئاً کالقمر لیلة البدر، فَتَحَّیرتُ من نوره، وضیائه، وکاد ینسینی ما کنت فیه.
ص: 177
فقال:
یا إبراهیم لاتهرب فإنَّ الله تبارک وتعالی سیکفیک شرَّه.
فازداد تحیُّری, فقلت لأبی محمَّد علیه السلام: یا سیدی, جعلنی الله فداک مَنْ هو, وقد أخبرنی بما کان فی ضمیری.
فقال:
هو ابنی، وخلیفتی من بعدی، وهو الذی یغیب غیبة طویلة، ویظهر بعد امتلاء الأرض جوراً وظلماً، فیملأها عدلاً وقسطاً.
فسألته عن اسمه، قال:
هو سمّی رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، ولا یحلّ لأحد أنْ یسمِّیه باسمه، أو یکنّیه بکنیته إلی ان یظهر الله دولته، وسلطنته، فاکتم یا إبراهیم ما رأیت, وسمعت منَّا إلا عن أهله.
فصلَّیتُ علیهما وآبائهما, وخرجت مستظهراً بفضل الله تعالی, واثقاً بما سمعته من الصاحب علیه السلام، فبشَّرنی عمَّی علیُّ بن فارس بأنَّ المعتمد قد أرسل أبا أحمد -- أخاه -- وأمره بقتل عمرو بن عوف. فأخذه أحمد فی ذلک الیوم، وقطَّعه عضواً, عضوا،ً والحمد لله رب العالمین (1).
القضیة السادسة: عرضه علی وکیله أحمد بن اسحاق وروی الصدوق عن علیِّ بن عبد الله الورَّاق, قال: حدَّثنا سعد بن عبد الله، عن أحمد بن اسحاق بن سعد الأشعری, قال: دخلتُ علی أبی محمَّد الحسن بن علی علیه السلام, وأنا أُرید ان أسأله عن الخلف من بعده، فقال لی مبتدءاً:
ص: 178
یا أحمد بن اسحاق إنَّ الله تبارک وتعالی لم یُخْلِ الارض منذ خلق آدم علیه السلام، ولایخلیها إلی أن تقوم الساعة من حجَّة لله علی خلقه، به یدفع البلاء عن أهل الارض، وبه ینزل الغیث، وبه یخرج برکات الأرض.
قال: فقلت له: یا ابن رسول الله؛ فَمَنْ الإمام, والخلیفة بعدک؟
فنهض علیه السلام مسرعا،ً فدخل البیت، ثُمَّ خرج وعلی عاتقه غلام کأنَّ وجهه القمر لیلة البدر، من أبناء الثلاث سنین، فقال:
یا أحمد بن اسحاق, لولا کرامتک علی الله عزَّ وجل، وعلی حججه ما عرضت علیک ابنی هذا، انه سمی رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم, وکَنِیُّهُ الذی یملأ الارض قسطاً وعدلاً کما ملئت جوراً وظلماً.
یا أحمد بن إسحاق؛ مَثَلَهُ فی هذه الامة مَثَلُ الخضر علیه السلام, ومَثَلَهُ مَثَلُ ذی القرنین، والله لیغیبن غیبة لاینجو فیها من الهلکة إلا مَنْ ثَبَّتَهُ الله عزَّ وجل علی القول بإمامته، ووفَّقه فیها للدعاء بتعجیل فرجه.
فقال أحمد بن اسحاق: فقلت له: یا مولای, فهل من علامة یطمئن الیها قلبی؟. فنطق الغلام علیه السلام بلسان عربی فصیح، فقال:
أنا بقیة الله فی أرضه, والمنتقم من أعدائه, فلا تطلب أثراً بعد عین, یا أحمد بن إسحاق.
فقال أحمد بن إسحاق: فخرجتُ مسروراً فرحاً، فلمَّا کان من الغد عدت إلیه، فقلت له: یا ابن رسول الله لقد عظم سروری بما مَنَنْتَ به علیَّ فما السُّنَّةُ الجاریة فیه من الخضر, وذی القرنین؟.
ص: 179
فقال:
طول الغیبة, یا أحمد.
قلت: یا ابن رسول الله, وان غیبته لتطول؟. قال:
إی وربی, حتَّی یرجع عن هذا الأمر أکثر القائلین به، ولایبقی إلا مَنْ أخذ الله عزَّ وجل عهده لولایتنا، وکتب فی قلبه الإیمان, وأیدَّه بروح منه.
یا أحمد بن اسحاق, هذا أمر من أمر الله، وسرٌّ من سرِّ الله، وغیب من غیب الله، فخذ ما آتیتک، واکتمه، وکن من الشاکرین، تکن معنا غداً فی علیین(1).
روی الراوندی عن علاّن، عن ظریف أبی نصر الخادم, قال: دخلتُ علی صاحب الزَّمان علیه السلام, وهو فی المهد فقال لی:
عَلَیَّ بالصَّنْدَلِ الأحمر.
فأتیته به، فقال:
أتعرفنی؟.
قلت: نعم، أنت سیدی, وابن سیدی. فقال:
لیس عن هذا سألتک.
فقلت: فَسِّرْ لی. فقال:
أنا خاتم الأوصیاء، وبی یرفع الله البلاء عن أهلی, وشیعتی(2).
ص: 180
روی الراوندی عن السیدة حکیمة (رضوان الله علیها) قالت: دخلت علی أبی محمَّد علیه السلام بعد أربعین یوماً من ولادة نرجس, فإذا مولانا صاحب الزَّمان علیه السلام یمشی فی الدار, فلم أر لغة أفصح من لغته، فتبسم أبو محمَّد علیه السلام, فقال:
إنا معاشر الأئمة ننشأفی الیوم کما ینشأ غیرنا فی السنة.
قالت: ثم کنت بعد ذلک أسأل أبا محمَّد علیه السلام عنه(1).
وربما یثار سؤال مهم یتعلق بالسبب الذی دعی أنْ تکون ولادة الإمام المهدی عجل الله فرجه الشریف متأخرة فی حیاة أبیه العسکری علیه السلام, فاحتاج إلی تمهید له فیتقدّم مَنْ یُمَهِّد له, وهما جدّاه الإمام الجواد علیه السلام والإمام الهادی علیه السلام, بینما کان یمکن أنْ یطوّل الله عزَّ وجل عمر الإمام العسکری علیه السلام إلی أنْ یبلغ المهدی عجل الله فرجه الشریف من حیث السن العمر الطبیعی الذی یقوم به عادة الآخرون من الناس بالمهمات القیادیة... .
وربما یقال أکثر من ذلک, وهو: أنَّ وصول السیدة نرجس (رضوان الله علیها) إلی بیت الإمامة کان فی عهد الإمام الهادی علیه السلام؛ فلو کان المهدی عجل الله فرجه الشریف قد ولد فی حیاة جدّه الإمام الهادی علیه السلام لکان له من العمر ما یجعله
ص: 181
مستغنیاً عن ضرورة قیام الإمامین السابقین (الجواد والهادی علیهما السلام), بالإمامة بصغر السن.. خصوصاً اننا معاشر الشیعة نؤمن أنَّ جمیع فواصل حیاة الائمة علیهم السلام مرسومة من قبل الله عزَّ وجل قبل أنْ یأتوا إلی هذه الدنیا.. فما هو الدَّاعی لهذا العمر الصغیر بالذات؟.
وربما یجاب علی هذا السؤال بجوابین:
الجواب الاول: یُعالَج السؤال من وجهة عملیة طبیعیة بدراسة الظروف التی من المقرر أنْ یولد فیها الإمام المهدی عجل الله فرجه الشریف، فإنَّه وُلِدَ فی ظروف الإرهاب, والقمع العباسی، وبالخصوص فإنَّ السلاطین، وأعوانهم کانوا یعلمون بما سمعوه, وتعلّموه من الرِّوایة عن النبی صلی الله علیه وآله وسلم هلاک الظلم والطغیان فی الارض سوف یکون علی ید الثانی عشر من الائمة علیهم السلاموهو المهدی عجل الله فرجه الشریف.
وبالطبع فهم مطمئنّون جداً بانَّ دولتهم تشکل جزءاً من حلقات الظلم، بل أبرزها فی هذه الأرض، وبالتالی فسوف یقع قضاء سلطانهم وکیانهم علی ید هذا الإمام الثانی عشر علیه السلام, ولذلک فقد اشتدّوا بالبحث عنه، لأجل القضاء علیه، وقد عینوا الجواسیس التی کانت تطوف حول بیت الإمام العسکری علیه السلام،وبذلوا الهدایا، والأموال من أجل الوصول الیه..
وقد نقل التاریخ من تلک الاعمال العدوانیة شیئاً کثیراً لامجال لنقْلهِ هنا..
ولذلک ولأجل التخلص من المتابعات الأمنیة عولجت مشکلة إرهاب الدولة العباسیة للشیعة بإخفاء (المنقذ) عن الأنظار من یوم ولادته إلی یوم ظهوره؛ وهذا الأسلوب الإلهی لم یکن بِدْعاً، ولا جدیداً فی حرکة الأنبیاء والأوصیاء، وإنَّما هو
ص: 182
موجود فی حیاة کثیر من الأنبیاء والأوصیاء، وأبرزه ما ظهر فی حیاة النبی موسی علیه السلام، وولادة النبی عیسی علیه السلام من غیر أب، وهو ما یُرشد إلیه المنصوص فی ما أخبر النبی والمعصومون علیهم السلام شَبَهَهُ عجل الله فرجه الشریف بالسابقین من الأنبیاء علیهم السلام. وسوف یکون صغر السن مطلوباً, وضروریاً من أجل الحفظ علی سلامة المولی ( عجل الله فرجه الشریف).
والجواب الثانی: إنَّ السرَّ الإلهی فی صغر سنِّه علیه السلام باطن سرّ الله (عزَّ وجل) بطول عمره الشریف؛ وإنّ إدراک أسرار الله تعالی خاص بأهل سرِّه وقد خلق الله تعالی الوجود أسراراً فی أسرار دون أن یستثنی منها شیئاً أو أحداً، ولکنَّه جعل بعضها معلوماً عند بعض خلقه, مجهولاً عند غیرهم، یختص برحمته من یشاء، فالحیاة سرٌّ، والوفاة سرٌّ، والروح سرٌّ، والرزق سرٌّ، والسماء سرٌّ، والجنة والنار سرٌّ، وإن أراد أحد أنْ یَعدَّ أسرار الله تعالی فإنَّه سوف یعجز ولایقدر أنْ یحصیها.
ص: 183
ص: 184
ص: 185
ص: 186
إستخدم الأئمة علیهم السلام أسلوب إرجاع الأُمَّة إلی العلماء، وأمروا شیعتهم بالرجوع إلیهم فی الأمور المتنوعة فی حیاتهم؛ فأرجعوهم إلیهم بالفتوی، کما أرجعوهم إلیهم بالقضاء، وحلِّ خصوماتهم, بل عَمَّتْ أمورهم الحیاتیة المتنوعة، فأعطوهم مقام النیابة، والوکالة العامة، عن المعصوم علیه السلام.
وکثیراً ما وجدنا المعصوم علیه السلام یحتجب عن شیعته، وموالیه، ویأمر کلَّ مَنْ یراجعه بالرجوع إلی أحد أصحابه (رضوان الله علیهم) مِمَّنْ حَمَل حدیثهم، وتربّی فی مدرستهم علیهم السلام؛ أما لماذا؟
فقد یکون السبب الکامن وراء هذا الموقف هو الدَّواعی الأَمنیة، والظروف الصعبة التی کان یعیشها الائمة علیهم السلام من قبل السلطات الجائرة فی عصور التقیة، أو أنَّهم علیهم السلام کانوا یطلبون من وراء ذلک تعوید الفقهاء بشکل خاص والأُمَّة عموماً علی الطریقة الجدیدة للتعامل مع الإمام علیه السلام لیتأهّلوا نفسیاً, وعملیاً عندما یعیشون تحت ظلّ إمامة الإمام الثانی عشر عجل الله فرجه الشریف فی ظروف الغیبة الصغری, أو الغیبة الکبری، ولهذا نجد التأکید علی هذا المنهج یشتدّ ظهوراً کُلَّما تقدم التاریخ, وقرب زمن ولادة صاحب الأمر ( عجل الله فرجه الشریف).
ص: 187
وأهم ما یبرز أمامنا فی عصر الإمامین العسکریین علیهما السلام هو التأکید علی إرجاع الأُمَّة إلی الفقهاء.
ومع إنَّنا نعلم أنَّ منهج الإرجاع إلی العلماء, وإعطائهم الموقع القیادی النیابی عن المعصوم علیه السلام قد أسَّسه الأئمة السابقون علیهم السلام کما جاء ذلک فی روایات کثیرة منها:
مارواه الکلینی عن محمَّد بن یحیی، عن محمَّد بن الحسین، عن محمَّد بن عیسی، عن صفوان بن یحیی، عن داوود بن الحصین، عن عمر بن حنظلة قال: سألت أبا عبد الله علیه السلام عن رجلین من أصحابنا بینهما منازعة فی دین، أو میراث، فتحاکما إلی السلطان، وإلی القضاة أیحل ذلک؟. قال:
مَنْ تحاکم إلیهم فی حق، أو باطل؛ فإنَّما تحاکم إلی الطاغوت، وما یحکم له فإنَّما یأخذ سحتاً، وإن کان حقاً ثابتاً له، لإنَّه أخذه بحکم الطاغوت، وقد أمر الله أن یکفر به قال الله تعالی:
((یُرِیدُونَ أَن یَتَحَاکَمُواْ إِلَی الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن یَکْفُرُواْ بِهِ)) (1).
قلت فکیف یصنعان؟. قال:
ینظران إلی مَنْ کان منکم ممَّنْ قد روی حدیثنا، ونظر فی حلالنا وحرامنا، وعرف أحکامنا، فلیرضوا به حکماً فإنِّی قد جعلته علیکم حاکماً، فإذا حکم بحکمنا فلم یقبله منه فإنَّما استخف بحکم الله، وعلینا ردّ، والرادّ علینا الرادّ علی الله وهو علی حدِّ الشرک بالله.
ص: 188
قلت: فإنْ کان کلُّ رجل اختار رجلاً من أصحابنا, فرضیا أن یکونا الناظرین فی حقهما، واختلفا فیما حکما، وکلاهما اختلفا فی حدیثکم؟.
قال:
الحکم ما حکم به أعدلهما، وأفقههما، وأصدقهما فی الحدیث، وأورعهما، ولایلتفت إلی ما یحکم به الآخر.
قال: قلت: فإنهما عدلان مرضیان عند أصحابنا لایفضل واحد منهما علی الآخر.
قال: فقال:
ینظر إلی ماکان من روایتهم عنَّا فی ذلک الذی حکما به المجمع علیه من أصحابک, فیؤخذ به مِنْ حکمنا، ویترک الشاذ الذی لیس بمشهور عند أصحابک، فأنَّ المجمع علیه لاریب فیه، وإنَّما الأُمور ثلاثة: أمر بَیِّنٌ رُشْدهُ فیُتَّبع، وأمر بَیِّنٌ غَیُّهُ فیُجتَنب، وأمرٌ مشکل یُرَدُّ علمه إلی الله، وإلی رسوله، قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: حلال بَیِّنٌ, وحرام بَیِّنٌ، وشبهات بَین ذلک, فمن ترک الشبهات نجا من المحرمات، ومن أخذ بالشبهات ارتکب المحرمات، وهلک من حیث لایعلم.
قلت: فان کان الخبران عنکما مشهورین, قد رواهما الثقات عنکم؟.
قال:
ینظر، فما وافق حکمه حکم الکتاب والسنة، وخالف العامة فیؤخذ به، ویترک ما خالف حکمه حکم الکتاب والسنة, ووافق العامة.
ص: 189
قلت: جعلت فداک أرایْتَ إنْ کان الفقیهان عرفا حکمه من الکتاب، والسنة، ووجدنا أحد الخبرین موافقاً للعامة، والآخر مخالفاً لهم، بأی الخبرین یؤخذ؟. قال:
ما خالف العامَّة, ففیه الرَّشاد.
فقلت: جعلت فداک فإنْ وافقهما الخبران؟. قال:
ینظر إلی ما هم إلیه أمیل حکامهم وقضاتهم فیترک، ویؤخذ بالآخر.
قلت: فإنْ وافق حکامهم الخبرین جمیعاً؟.
قال:
إذا کان ذلک فأرجه حتی تلقی إمامک، فان الوقوف عند الشبهات خیر من الاقتحام فی الهلکات(1).
ونعلم أیضاً أن الأئمة المتقدمین علیهم السلامقد أرجعوا شیعتهم إلی فقهاء أصحابهم لیأخذوا منهم معالم دینهم، کما جاء ذلک بروایات کثیرة ننقل لک بعض ما ورد منها:
1 . روی الصدوق باسناده عن أبان بن عثمان: ان أبا عبد الله علیه السلام قال له:
ان أبان بن تغلب قد روی عَنِّی روایة کثیرة، فمما رواه لک فأروه عنی)(2).
ص: 190
2 . وروی الکشی بالاسناد عن ابن أبی عمیر، عن شعیب العقرقوفی، قال: قلت لأبی عبد الله علیه السلام: رُبَّما احتجنا أنْ نسأل عن الشیء, فَمَنْ نسأل؟.
قال:
علیک بالاسدی، یعنی أبا بصیر(1).
3 . وروی الکشی عن حمدویه بن نصیر قال: حدَّثنی محمَّد بن الحسین بن أبی الخطاب، عن الحسن بن محبوب السَّراد، عن العلاء بن رزین، عن یونس بن عمار قال:
قلت لأبی عبد الله علیه السلام: إنَّ زرارة قد روی عن أبی جعفر علیه السلام: إنَّه لایرث مع الأُم, والأَب, والابن, والبنت؛ أحد من الناس شیئاً إلا زوج, أو زوجة؟.
فقال أبو عبد الله علیه السلام:
أما ما رواه زرارة عن أبی جعفر علیه السلام فلا یجوز أن تَرُدَّهُ.
وأما فی الکتاب فی سورة النساء فإنَّ الله عزَّ وجل یقول:
((یُوصِیکُمُ اللَّهُ فِی أَوْلادِکُمْ لِلذَّکَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَیَیْنِ فَإِنْ کُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَیْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَکَ وَإِنْ کَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَیْهِ لِکُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَکَ إِنْ کَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ یَکُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ کَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ)) (2).
ص: 191
یعنی أُخوة الأب، وأم, وأخوَّة الأب، والکتاب, یایونس؛ قد ورث ههنا مع الأبناء, فلا تورث البنات إلا الثلثین(1).
4 . وروی الکشی بالإسناد عن الحَجَّال، عن یونس بن یعقوب قال: کُنَّا عند أبی عبد الله علیه السلام, فقال:
أما لکم مِنْ مَفْزَعٍ, أما لکم من مستراح تستریحون إلیه، ما یمنعکم من الحارث بن المغیرة النصری(2).
5 . وروی الکشی عن محمَّد بن قولویه, عن سعد بن عبد الله عن محمَّد بن عیسی عن أحمد بن الولید، عن علی بن المسَّیب قال: قلتُ للرِّضا علیه السلام: شقتی بعیدة، ولستُ أصل الیک فی کل وقت، فممَّن آخذ معالم دینی؟. فقال:
مِنْ زکرّیا بن آدم القمی, المأمون علی الدِّین والدنیا.
قال علی بن المسیَّب: فلمَّا انصرفت قدمت علی زکریا بن آدم، فسألته عمَّا احتجت إلیه(3).
6 . وروی الکشی عن صالح بن السندی، عن أُمیة بن علی، عن مسلم بن ابی حیة قال: کنت عند أبی عبد الله علیه السلام فی خدمته، فلمَّا أردتُ أن أفارقه، وَدَّعْتُهُ، وقلتُ له: أحبّ أنْ تزودنی.
ص: 192
قال:
إئت أبان بن تغلب, فإنَّه قد سمع مِنِّی حدیثاً کثیرا،ً فما روی لک عنِّی فأروِ عنِّی(1).
7 . وروی الکشی عن محمَّد بن نصیر, عن محمَّد بن عیسی، وحدَّث الحسن بن علی بن یقطین بذلک أیضاً قال: قلتُ لأبی الحسن الرِّضا علیه السلام: جُعِلْتُ فداک, إنِّی لا أکاد أصل إلیک أسألک عن کل ما احتاج إلیه من معالم دینی، أفیونس بن عبدالرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج الیه من معالم دینی؟.
فقال:
نعم(2).
8 . وروی الکشی عن علی بن محمَّد القتیبی قال: حدَّثنی الفضل بن شاذان قال: حدَّثنی عبد العزیز بن المهتدی، وکان خیر قُمیٍّ رأیته، وکان وکیل الرضا علیه السلام, وخاصته، قال: سألتُ الرِّضا علیه السلام, فقلت: إنِّی لا ألقاک فی کل وقت, فَعَنْ مَنْ آخذ معالم دینی؟.
قال:
خذ من یونس بن عبدالرحمن(3).
ص: 193
9 . وروی الکشی عن جبرئیل بن أحمد قال: سمعت محمَّد بن عیسی, عن عبد العزیز بن المهتدی, قال: قلتُ للرِّضا علیه السلام: إنَّ شُقَّتی بعیدة, فلست أصل إلیک فی کل وقت, فآخذ معالم دینی مِنْ یونس مولی ابن یقطین؟.
قال:
نعم(1).
ولکن کان للإمامین العسکریین علیهما السلام دور الإعلان الرَّسمی للمنهج الرئاسی, والمرجعی الدینی للأُمَّة المبتنی علی أهم فقرتین فی هیکله القانونی:
عدم السماح للمکلَّف العادی بالاستقلال بآرائه الاعتقادیة, والفقهیة، ولزوم الرجوع إلی الفقهاء, والعلماء لمعرفة الصحیح من العقائد، والعمل بفتاواهم فی المسائل الفرعیة.
حَصْرُ المرجعیة الدینیة بکل أبعادها بالعلماء أمناء الله عزَّ وجل علی حلاله وحرامه.
ومع أنَّ مقام العلماء المرجعی کان ثابتاً، ومنصوصاً علیه عند الائمة السابقین علیهم السلامبوجوب الرِّجوع إلیهم, والتحاکم عندهم، ولکنَّه کان یُمَثِّل بشکله
ص: 194
القانونی البدیل المؤقت حینما یصعب الوصول إلی الإمام المعصوم علیه السلام، کما قرأنا ذلک فی مجموعة من الرِّوایات التی نَصّت علی هذا القید منها: صحیحة ابن أبی یعفور:
(قال: قلتُ لأبی عبدالله علیه السلام: إنَّه لیس کلُّ ساعة ألقاک, ولایمکن القدوم، ویجیء الرَّجل من أصحابنا, فیسألنی، ولیس عندی کل ما یسألنی عنه؟.
فقال:
ما یمنعک من محمَّد بن مسلم الثقفی..)(1).
وربَّما یمکن أن یقال: إنَّ الرِّوایات أمرت بالرجوع إلی الإمام علیه السلام، وروایات التوقف، والروایات التی أجاز بها الأئمة فقهاء أصحابهم بالفتوی, ثُمَّ الرِّجوع إلی الإمام علیه السلام. والرِّوایات التی أمرت شیعتهم بلقاء الإمام علیه السلام بعد الحج.قد أرید منها من جملة ما أرید منها هو إعطاء العلماء المقام البدیل لهم علیهم السلام.
وبلفظ آخر: أن یشغل الفقهاء مقام الإمامة, ویملأوا الفراغ القیادی بالحجم المخوَّل لهم من قبلهم علیهم السلام.
وإنَّما جوّز الأئمة علیه السلام الرِّجوع إلی أصحابهم الفقهاء, العلماء, لإنَّهم یفتون بأقوال الأئمة علیهم, أو باستنباط الأحکام من القواعد التی أسّسها الأئمة علیهم السلام لشیعتهم، ولیس لآراء الفقهاء الشخصیة دَخْل فیما یقولون، لذلک روی الکلینی فی الکافی عن محمَّد بن یحیی، عن أحمد بن أبی زاهر، عن علی بن
ص: 195
اسماعیل, عن صفوان بن یحیی، عن عاصم بن حمید، عن أبی اسحاق النَّحوی, قال: دخلت علی أبی عبد الله علیه السلام, فسمعته یقول:
إنَّ الله (عزَّ وجل) أدّب نبیه علی محبته فقال:
((وَإِنَّکَ لَعَلی خُلُقٍ عَظِیمٍ)) (1).
ثُمَّ فَوَّض إلیه, فقال (عزَّ وجل):
((وَمَا آَتَاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا))(2).
وقال (عزَّ وجل):
((مَنْ یُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)) (3).
قال: ثُمَّ قال:
وإنَّ نبیَّ الله فَوَّض إلی علیّ, وائتمنه, فَسَلَّمْتُم, وجحد النَّاس فوالله لنحبکم أنْ تقولوا إذا قلنا, وأنْ تصمتوا إذا صمتنا, ونحن فیما بینکم وبین الله (عزَّ وجل)، ما جعل الله لاحد خیراً فی خلاف أمرنا(4).
وقال الشیخ الکلینی بعد هذا: عِدَّةٌ من أصحابنا، عن أحمد بن محمَّد، عن ابن أبی نجران، عن عاصم بن حمید، عن أبی اسحاق قال: سمعت أبا جعفر علیه السلام یقول؛ ثُمَّ ذکر نحوه).
ص: 196
وروی الشیخ حسن بن سلیمان الحلی فی مختصره لبصائر الدرجات للشیخ الأقدم الثقة سعد بن عبد الله الأشعری بسندٍ صحیح: عن أحمد بن محمَّد بن عیسی، عن الحسین بن سعید, والعباس بن معروف، عن حَّماد بن عیسی، عن ربعی بن عبد الله بن الجارود، عن الفضیل بن یسار قال: (سمعت أبا جعفر علیه السلام یقول:
کلُّ ما لم یَخرُج من هذا البیت فهو باطل)(1).
وروی عن أیوب بن نوح, عن جمیل بن دراج, والحسن بن علی بن عبد الله بن المغیرة الخزاز، عن العباس بن عامر القصبانی، عن الرَّبیع بن محمَّد المکی، عن یحیی بن زکریا الأنصاری، عن أبی عبد الله علیه السلام قال: سمعته یقول:
مَنْ سَرَّه أنْ یستکمل الإیمان, فلیقل القول مِنِّی فی جمیع الأشیاء قولِ آل محمَّد صلی الله علیه وآله وسلم فیما أَسَرُّوا، وفیما أعلنوا، وفیما بَلَغَنِی, وفیما لم یبلغنی)(2).
وروی عن أحمد بن محمَّد، عن علی بن الحکم، عن أبی بکر الحضرمی، عن الحجَّاج بن الصباح قال: قلت لأبی جعفر علیه السلام: إنّا نُحَدِّث عنک بالحدیث, فیقول بعضنا: قولنا قولهم؟. قال:
فما ترید؟! أترید أنْ تکون إماماً یقتدی بک؟! مَنْ رَدَّ القول الینا, فقد سلم)(3).
ص: 197
ومع أنَّ الائمة المعصومین السابقین الذین تقدَّموا الإمام الهادی علیه السلام کانوا قد أسسوا قاعدة الرُّجوع إلی فقهاء أصحابهم, ولکنَّهم لم یعطوها الأهمیة الکبری التی تمَّیزت به فی عصر الإمام الهادی علیه السلام؛ فإنَّها کانت محدودة میدانیاً، ولم تأخذ عمقها التأصیلی فی الحیاة الشیعیة، فقد صدرت النُّصوص مقترنة بظروف خاصة أکدَّت علیها کلماتُ نفس تلک الروایات، وحددت مهمتهم بالدور النیابی للمعصومین علیهم السلامفیما إذا لم یتمکن المکلَّف الشیعی من الوصول إلی إمامه علیه السلام.
وقد یمکن أنْ یقال بإنَّنا رُبَّما نفهم من بعض الروایات المرجعة إلی الفقهاء کمقبولة ابن حنظلة (التی أعطت للفقهاء تنصیباً نیابیاً عنهم علیهم السلام، بمعنی أنَّ الإمام الصادق علیه السلام قد شَرَّع قانون شرعیة منصب الفقهاء بالقضاء. وحینئذ یمکن للمکلَّف أنْ یرجع إلی الفقیه حتی مع عدم وجود العذر من الرِّجوع إلی المعصوم علیه السلام اعتماداً علی الزَّمن المستقبل، عندما یغیب المعصوم علیه السلام ولم یأخذ العنوان المؤقت فی حیاة الإمام الصادق علیه السلام إلا ذریعةً لإنشاء الحکم لیس إلا.
ومع أنَّنا هنا لسنا بصدد البَتّ بهذه المسألة، بل موکلیها إلی محلِّها من أبحاثنا الاختصاصیة المتعلقة بهذه المسألة، ولکننا نؤکد صحة الفهم من تشریع هذه القاعدة (وهی النیابة العامة للفقیه عن الإمام العصوم علیه السلام إما فی القضاء, أو فی الدائرة الأوسع ضمن الأُطروحة المعنونة بولایة الفقیه علی تفصیل ذکرناه فی محلِّه فی غیر هذا البحث) بإنَّ المقصود من ذلک التشریع هو النظر إلی المستقبل الذی رسمه الله عزَّ وجل للبشریة عند غیاب المعصوم علیه السلام عن الأُمَّة ظاهراً, فقد أُعطی الفقهاء منصب النیابة عن المعصومین علیهم السلام کما جاء ذلک فی الروایات المرویة عن الائمة علیهم السلام.
ص: 198
ولکنَّنا نلاحظ شیئاً مُلفتاً للانتباه فی تلک الروایات؛ وهو إنَّ لسان تلک الروایات لم یکن بالصَّراحة, والوضوح بإعطاء مقام النیابة للفقهاء بعکس لسان الروایات التی وردت عن الائمة الثلاثة (العسکریین والحجة المهدی المنتظر علیهم السلام) فإنَّها کانت واضحة، وبَیّنَة جداً بحیث اخترنا عبارة (الإعلان) عن ذلک المنصب، کما تلاحظ ذلک فی روایة الإمام الهادی علیه السلام بتقلید الفقهاء، والتوقیع الشریف الذی خرج من الناحیة المقدَّسة بلزوم الرجوع إلی الفقهاء فی الحوادث الواقعة فی زمن الغیبة، وحرّم الردّ علی الفقهاء لأنَّهم منصوبون فی ذلک المنصب بأمر الحجة عجل الله فرجه الشریف.
فإنَّ تنصیب الأئمة علیهم السلام للفقهاء العدول لم ینشأ من قاعدة مَلْء الفراغ الحاصل بغیاب المعصوم علیه السلام عن الأُمَّة حسب، وإنَّما کان داخلاً فی جملة المخطط الإلهی العام للبشریة الذی تمرّ به فی المرحلة الثانیة من خاتمیة المعصومین علیهم السلام, وتبتدئ من حین بدایة غیبة المعصومین علیهم السلام متفاعلة بشکل طردی بین سعة الولایة للفقیه, ووسع دائرة غیبة المعصوم علیه السلام عن الأُمَّة فلذلک کان دور العلماء فی الأُمَّة بما أوکله المعصوم علیه السلام لهم فی حیاة أوسع مما کان علیه فی حیاة الأئمة السابقین من أبائه علیهم السلام.
ثُمَّ توسعت دائرة المرجعیة للفقهاء فی حیاة الإمام العسکری علیه السلام أکثر مما کانت علیه فی حیاة الإمام الهادی علیه السلام لأنَّ دائرة غیبته عن الأُمَّة قد توسعت, وکبرت، وازدادت علی ما کانت علیه فی حیاة أبیه الإمام الهادی علیه السلام.
ونجد المنصب المرجعی قد وصل إلی شکله الأکمل فی حیاة الإمام المهدی علیه السلام لأنَّ الأُمَّة قد دخلت فی مرحلة جدیدة من حیاتها التاریخیة بدخولها فی الغیبة.
ص: 199
وهذه بعض النصوص التی قنَّنت هذه المادة القانونیة لهذا المرحلة، وهی الأخبار المرویة عن الائمة الثلاثة (الهادی، والعسکری، والمهدی علیهم السلام) التی توضح مجموعها الإعلان التاریخی لحاکمیة، ومرجعیة الفقهاء فی غیبة الإمام الخاتم، الإمام المهدی عجل الله فرجه الشریف:
1 . روی الکشی عن حمدویه، وإبراهیم ابنی نصیر، قالا: حدَّثنا محمَّد بن اسماعیل الرازی،قال: حدَّثنی علی بن حبیب المدائنی، عن علی بن سوید السائی (السابی، النسائی خ.ل)، قال: کتب إلیَّ أبو الحسن (وهو فی السجن): وأما ماذکرت، یاعلی مِمَّنْ تأخذ معالم دینک؟ لا تأخْذُنَّ معالم دینک عن غیر شیعتنا؛ فإنَّک إنْ تعدیتهم أخذت دینک عن الخائنین الذین خانوا الله، ورسوله، وخانوا أماناتهم؛ إنَّهم ائتمِنوا علی کتاب الله (جلَّ وعلا) فَخَرَّبوه، وَبَدَّلُوه؛ فعلیهم لعنة الله، ولعنة رسوله، ولعنة ملائکته، ولعنة آبائی الکرام البررة، ولعنتی، ولعنة شیعتی إلی یوم القیامة(1).
2 . وروی الکشی عن أبی محمَّد جبرائیل بن محمَّد الفاریابی (جبرائیل بن أحمد خ.ل)، قال: حدَّثنی موسی بن جعفر بن وهب، قال: حدَّثنی أبو الحسن الثالث علیه السلام: أساله عمَّنْ آخذ دینی؟.
وکتب أخوه أیضا بذلک؛ فکتب إلیهما: فَهِمْتُ ما ذکرتما، فاصمدا فی دینکما علی کلِّ مُسنًّ فی حبِّنا، وکلِّ کثیر القِدَمِ فی أمرنا، فإنَّهم کافوکما إنْ شاء الله تعالی(2).
ص: 200
3 . وفی الاحتجاج للطَّبرسی، عن تفسیر الإمام العسکری علیه السلام إنَّه قال فی جملة کلامه علیه السلام فی تفسیر الآیة:
((فَوَیْلٌ لِلَّذِینَ یَکْتُبُونَ الکِتَابَ بِأَیْدِیَهُمْ ثُمَ یَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ))(1).
قال: قال رجل للصَّادق علیه السلام: فإذا کان هؤلاء العوام من الیهود لا یعرفون الکتاب إلاّ بما یسمعونه من علمائهم لا سبیل لهم إلی غیره، فکیف ذَمَّهَمْ بتقلیدهم, والقبول من علمائهم؟ وهل عوام الیهود إلاکعوامنا یُقَلِّدون علماءهم؛ فإنَّ لم یجز لأُولئک القبول من علمائهم لم یجز لهولاء القبول من علمائهم؟.
فقال علیه السلام:
بین عوامِّنا، وعلمائنا، وبین عوامِّ الیهود وعلمائهم فرق من جهة، وتسویة من جهة.
أما من حیث أَنَّهم أستووا: فإنَّ الله قد ذَمَّ عوامنا بتقلیدهم علماءهم کما (قد) ذَمَّ عوامَّهم.
وأما من حیث أنهم افترقوا فلا.
قال:
بَیِّنْ لی ذلک یابن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم.
ص: 201
قال علیه السلام:
إنَّ عوامَّ الیهود کانوا قد عرفوا علماءهم بالکذب الصُّراح، وبأکل الحرام، وبالرُّشا، وبتغییر الأحکام عن واجبها بالشفاعات, والعنایات، والمصانعات. وعرفوهم بالتعصُّب الشدید الذی یفارقون به أدیانهم، وأنَّهم إذا تَعَصَّبُوا أزالوا حقوق مَنْ تَعَصَّبُوا له من أموال غیرهم، وظلموهم من أجلهم.
وعرفوهم بأنهم یقارفون المحرَّمات، واضطروا بمعارف قلوبهم إلی أنَّ مَنْ فَعَلَ ما یفعلونه فهو فاسق، لا یجوز أن یُصَدَّق علی الله، ولا علی الوسائط بین الخلق وبین الله؛ لذلک ذمَّهم (الله خ0ل) لمَّا قَلَّدوا مَنْ قد عرفوا، ومَنْ قد علموا، إنَّه لا یجوز قبول خبره، ولا تصدیقه فی حکایته، ولا العمل بما یؤدیه إلیهم عَمَّنْ لم یشاهدوه، ووجب علیهم النَّظر بأنفسهم فی أمر رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم إذ کانت دلائله أوضح من أن تخفی، وأشهر من أن لا تظهر لهم.
وکذلک عوامُّ أمَّتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر، والعصبیة الشدیدة, والتکالب علی حطام الدنیا, وحرامها، وإهلاک من یتعصبون علیه إن کان لإصلاح أمره مستحقاً، وبالترفق (بالتوفیر، بالترفرف خ.ل) بالبر, والإحسان علی مَنْ تَعَصَّبُوا له، وإن کان للإذلال, والإهانة مستحقاً.
فَمَنْ قَلَّد مِنْ عوامِّنا (من خ.ل) مثل هولاء الفقهاء فهم مثل الیهود الذین ذمَّهم الله تعالی بالتقلید لفسقة فقهائهم.
فأمَّا مَنْ کان مِنَ الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدینه، مخالفاً لهواه، مطیعاً لأمر مولاه فللِّعوام أن یقلدوه.
ص: 202
وذلک لا یکون إلا (فی خ. ل) بعض فقهاء الشیعة, لاجمیعهم؛ فإنَّ مَنْ رکب القبائح، والفواحش مراکب فسقة فقهاء العامَّة فلا تقبلوا منهم عنَّا شیئاً، ولا کرامة لهم، وإنَّما کثر التخطیط فیما یتحمل عنَّا أهل البیت لذلک؛ لأنَّ الفسقة یتحملون عَّنا فهم یُحَرِّفُونه بأسره لجهلهم، ویضعون الأشیاء علی غیر (مواضعها و خ.ل) وجوهها, لِقِلَّةِ معرفتهم؛ وآخرین یتعمدون الکذب علینا لیجروا (لیحرزوا خ.ل) من عرض الدنیا ما هو زادهم الی نار جهنم.
ومنهم قوم نُصَّاب لا یقدرون علی القدح فینا؛ یتعلمون بعض علومنا الصحیحة, فیتوجهون به عند شیعتنا، وینتقصون (بنا خ.ل) عند نُصَّابنا, ثُمَّ یضیفون إلیه أضعافه، وأضعاف أضعافه من الأکاذیب علینا التی نحن براء منها, فیتقبله المسلمون (المستسلمون خ.ل) من شیعتنا علی أنَّه من علومنا, فَضَلُّوا, وأضلّوهم (وأضلوا خ.ل).
وهم أضَرُّ علی ضعفاء شیعتنا من جیش یزید علی الحسین بن علی علیهما السلام, وأصحابه؛ فإنَّهم یسلبونهم الأرواح, والأموال، وللمسلوبین عند الله أفضل الأحوال لما لحقهم من أعدائهم.
وهؤلاء علماء السوء, النَّاصبون, المشبهون بأنَّهم لنا موالون، ولأعدائنا معادون؛ یُدْخِلُونَ الشَّکَ، والشُّبْهَةَ علی ضعفاء شیعتنا؛ فیضلونهم, ویمنعونهم عن قصد الحقِّ, المصیب(1).
4 . وروی الشیخ الصدوق فی کمال الدین: عن محمَّد بن محمَّد بن عصام الکلینی (رضی الله عنه), قال: حدَّثنا محمَّد بن یعقوب الکلینی، عن إسحاق بن
ص: 203
یعقوب قال: سألت محمَّد بن عثمان العَمْرِی (رضی الله عنه) أنْ یوصل لی کتاباً قد سألتُ فیه عن مسائل أَشْکَلَتْ عَلَیَّ.
فورد التوقیع بخط مولانا صاحب الزَّمان علیه السلام:
أمَّا ما سألْتَ عنهُ أرشدک الله، وَثَبَّتَکَ مِنْ أمرِ المُنْکِرِینَ لی من أهل بیتنا، وبنی عمنا، فاعلم أَنَّه لیس بین الله عزَّ وجل وبین أحد قرابة، ومَنْ أنکرنی فلیس منِّی، وسبیله سبیل ابن نوح علیه السلام.
إلی أنْ قال علیه السلام:
وأما الحوادثُ الواقعةُ فارجعوا فیها الی رواة حدیثنا، فإنَّهم حُجَّتی علیکم، وأنا حجَّة الله علیهم..)(1).
ص: 204
ص: 205
ص: 206
بعدما عرفنا أنَّه لم تأتِ الغیبة مفاجأة فی حیاة الشیعة العقیدیة, بل سبقت أحداث بدایاتها أخبار النبی صلی الله علیه وآله وسلم والمعصومین علیهم السلام، وما قام به الأئمة علیهم السلام, وخصوصاً الثلاثة المتأخرین الإمام الجواد علیه السلام, والإمام الهادی علیه السلام, والإمام العسکری علیه السلام, من التمهید لها، فقد تلقَّی فقهاء الشیعة الغیبة مسلمِّین للأمر الإلهی, والقدر الربانی.ولکن مع ذلک فقد کان هناک من عامَّة النَّاس مَنْ لم یوفَّق للتعایش مع واقع الحتمیة الالهیة بغیبة المعصوم بما اعتراه من ذهول, وشبه انفصام شخصانی احتاج إلی وقت، وتدبیر الهی لإزالة تلک العوارض, واسترجاع العافیة.
وبالإضافة إلی ما زخرت به العقیدة, والشریعة, وما هو موجود, وحادث فی المخطط الإلهی من عُدَد وقائیة, فقد کانت هناک عِدَّة وسائل علاجیة إستفاد منها فقهاء الشیعة, وأکثریة عامَّتهم.
وکان من أهمّ تلک الوسائل العلاجیة أربعة طرق:
الطریق الأول: التمهید للغیبة الکبری الطویلة بواسطة ایجاد مرحلة انتقالیة هی الغیبة الصغری القصیرة زمنیاً.
ص: 207
الطریق الثانی: الامتیازات الإلهیة الفریدة التی تحلی بها النواب الأربعة.
الطریق الثالث: توفیر اللقاء العام بالإمام المهدی عجل الله فرجه الشریف بواسطة المراسلة والمکاتبة.
الطریق الرابع: السماح فی مواقع الضرورة للقاء بالإمام المهدی عجل الله فرجه الشریف مواجهة.
ومع انَّنا نعتقد ان دور الغیبة الصغری لم یکن علاجیاً، أو وقائیاً، أو تمهیدیاً حسب -- وإنْ دخلت تلک العناوین الثانویة فی ضمن مخطط فلسفة الغیبة الصغری ولکنَّها کانت جزءاً من المشروع الالهی فی حرکة الانسان الخلیفة فی الارض، الداخل تحت قانون الحتمیة الإلهیة فی الحرکة الاجتماعیة, والحرکة الکونیة، وقد سبقت مفاهیم الغیبة الصغری، وفلسفتها، واقعها التاریخی قبل أوانه، حیث کانت جزءاً من قوانین الحتمیة الإلهیة من الأزل.
ومع التسلیم بثبوت هذه الحقیقة العلمیة فإنَّنا نُثَبِّتْ أیضاً أنَّه کان للغیبة الصغری دور کبیر فی تخفیف وطأة فراق الإمام المعصوم علیه السلام، وتحمِل المنع من مقابلته, واللقاء به.
وکانت الغیبة الصغری مرحلة وسطاً بین مرحلتی حضور المعصوم علیه السلام بین الناس، وبین غیابه المطلق کما سوف یؤول إلیه الحال فی الغیبة الکبری.
فقد کان الناس قبل الغیبة الصغری یعرفون اسم الإمام، ومکان سکنه،
ص: 208
وبعض خصوصیاته من خَدَمِهِ وخُلّص أصحابه، حتی فی حیاة الإمامین العسکریین علیهما السلام الذَیْن حاولا أنْ یحتجبا عن الناس, ویبتعدا عن الجمهور، فإنَّ الشیعة کانت تصل الیهم بواسطة الرَّسائل، أو الوکلاء، أو عندما یخرجان إلی دار السلطان.
وکان قد سمح للشیعة أنْ یسمّوهما علیهما السلام باسمهما, ویشیرون الیهما، ویذکرون أخبارهما. نعم وجدناهم, أی الشیعة, قد استخدموا اسلوب الکنایة فی الإشارة إلیهما علیهما السلام, دون التصریح باسمهما, فی بعض الأحیان, مثل التعبیر بالناحیة والغریم، وهو ما یشیر الی الإمام المهدی ( عجل الله فرجه الشریف) أیضاً.
ولکن الموضوع اختلف تماماً مع الإمام المهدی عجل الله فرجه الشریف من بدایة غیبته عجل الله فرجه الشریف، فقد مُنِعَ النَّاسُ مِنْ ذکره باسمه(1)، أو إخبار الغرباء بولادته((2).
أو التحدث عنه((3).
وأهم ما تمَّیزت به الغیبة الصغری هو عدم غیاب الإمام المهدی عجل الله فرجه الشریف غیاباً کلیاً عن الأُمَّة، وإنَّما کان غائباً عنها غیاباً نسبیاً؛ بمعنی إنَّ الإمام الحجَّة عجل الله فرجه الشریف کان حاضراً وسط الأُمَّة یعیش معها, ویصیبه ما یصیبها من آلام, وأفراح، وأحداث, وتغیرات اجتماعیة, وسیاسیة، وکانت الأُمَّة تتصل به علی الدوام ولکن بشکل غیر مباشر، حیث کانوا یتصلون به عجل الله فرجه الشریف بواسطة نوّابه الخاصِّین الأربعة الذین تصدَّوا لهذه المهمَّة الشریفة بالترتیب؛ وکذلک فإنَّ کثیراً من الشیعة کانوا یتَّصلون بالوکلاء المبثوثین فی أصقاع الأرض، أو کان أولئک یتصلون
ص: 209
بالنائب الخاص لیوصل الأموال, والمسائل, والرسائل إلی صاحب الامر عجل الله فرجه الشریف, وکان یخرج الجواب, ویخرج حَلُّ المشکلة من الإمام نفسه عجل الله فرجه الشریف إلی السائل بما تعارف تسمیته بالتوقیع. ویبدو أنَّ اسم التوقیع جاء من إمضاء الإمام عجل الله فرجه الشریف, وتوقیعه فی ذیل الجواب.
إذن إنَّ فرصة الاتصال بالإمام عجل الله فرجه الشریف کانت موجودة فی الغیبة الصغری، وقد حفظ لنا التاریخ کثیراً من تلک الرسائل الشریفة, والقضایا التی خرجت من الإمام علیه السلام إلی السائلین، وطلاب قضاء الحوائج.
ومع أنَّ البحث العلمی, والموضوعی یلزمنا أنَّ ندرس تلک التوقیعات دراسة تأمّلیة لمعرفة جمیع خصوصیاتها، ولکنَّ هذه الدراسة خارجة عن صُلب موضوع هذا البحث ومع ذلک نجد من الضروری أنْ نذکر دور التوقیعات فی رفع الحَیرة لانَّها أکدَّت وجود الإمام عجل الله فرجه الشریف, وحضوره بینهم قریباً کأبیه علیه السلام, وأجداده علیهم السلام، ولکنَّه افترق عنهم علیهم السلام، لشیء واحد وهو أنَّهم علیهم السلامکانوا معلومی المنزل, ویمکن لمن شاء أنْ یصل إلی أیٍّ منهم علیهم السلام فی الظروف العادیة. وهذا ما اختلف علیه: الوضع الاجتماعی عند الإمام الحجة عجل الله فرجه الشریف حیث ابتعد عن النَّاس؛ ولم یسمح لأحد أنْ یلتقی به إلا بإذن خاص یخرج من عنده عجل الله فرجه الشریف.
وربَّما قد یثار إشکال فی صحَّة نسبة تلک التواقیع إلی الإمام المهدی عجل الله فرجه الشریف, فکیف یمکن لصاحب السؤال أنْ یطمئن من صحَّة الجواب, وأنَّه صادر من الإمام المعصوم علیه السلام, ولم یکن مکذوباً علیه؟.
وهنا کان لابد من استخدام أحد أسلوبین:
ص: 210
هو أنْ یُوصَل الشاکّ إلی الإمام علیه السلام نفسه, ویخبره بصحَّة ذلک، کما دلَّت علی هذا جملة من الروایات الموثقة, والصحیحة الیقینیة.
هو أنْ یأتی الجواب خارقاً للعادة بشکل إعجازی, غیر عادی، بحیث یطمئن السائل إلی أنَّ هذا الجواب لایصدر إلا من عند الإمام المعصوم علیه السلام وهذا بالفعل ما نجده فی کثیر من التوقیعات التی أخبرت بقضایا سریة لم یطلِّع علیها أحد، أو أنَّها أخبرت عن قضایا لم تقع، وإنَّما سوف تقع, فوقعت فعلاً.
وقد ثبَّت تلک الوقائع ثقات المؤرخین فی کتبهم, وحفظها لنا التاریخ، ووصلت سلیمة بحمد الله تعالی، وما زالت مسجَّلة فی الکتب الصحیحة, والمعتبرة.
المعجزة فی توقیعات المهدی عجل الله فرجه الشریف ومن تلک التوقیعات الصحیحة التی تحدَّثت عن خوارق العادة، وکانت معجزة، ما رواه الکلینی فی الکافی الشریف:
1 . عن علی بن محمَّد، عن الفضل الخزاز المدائنی مولی خدیجة بنت محمَّد أبی جعفر علیه السلام قال: إنَّ قوماً من أهل المدینة من الطالبیین کانوا یقولون بالحق, وکانت الوظائف ترد علیهم فی وقت معلوم. فلمَّا مضی أبو محمَّد علیه السلام رجع قوم منهم عن القول بالولد، فوردت الوظائف علی مَنْ ثبت منهم علی القول بالولد،
وقطع عن الباقین، فلا یذکرون فی الذاکرین والحمد لله رب العالمین(1).
ص: 211
2 . عن علی بن محمَّد قال: أوصل رجل من أهل السواد مالاً فردّ علیه, وقیل له: اخرج حقَّ وُلْدِ عَمِّک منه وهو أربعمائة درهم، وکان الرَّجل فی یده ضیعة لِوُلْدِ عَمِّه, فیها شرکة قد حبسها عنهم، فنظر فإذا الذی لولد عمِّه من ذلک المال أربعمائة درهم, فأخرجها, وأنفذ الباقی, فقبل(1).
3 . عن القاسم بن العلاء قال: ولد لی عدَّة بنین, فکنت أکتب, وأسأل الدعاء, فلا یکتب إلیَّ لهم بشیء، فماتوا کلُّهم، فلمَّا ولد لی الحسن ابنی کتبتُ أسأل الدعاء, فأُجِبْتُ: یبقی, والحمد لله(2).
4 . وروی عن علیِّ, عن النضر بن صباح البجلی، عن محمَّد بن یوسف الشاشی, قال: خرج بی ناصور علی مقعدتی, فأریته الأطباء, وأنفقت علیه مالاً, فقالوا: لانعرف له دواء، فکتبت رقعة أسال الدّعاء, فوقعَّ علیه السلام إلیَّ:
ألبسک الله العافیة، وجعلک معنا فی الدنیا والاخرة.
قال: فما أتت علیّ جمعة حتی عوفیت, وصار مثل راحتی، فدعوت طبیباً من أصحابنا وأریته إیاه، فقال: ما عرفنا لهذا دواء(3).
5 . وروی عن علیّ بن الحسین الیمانی, قال: کنت ببغداد, فتهیأت قافلة
للیمانیین، فأردتُ الخروج معها، فکتبتُ ألتمس الإذن فی ذلک، فخرج: لاتخرج معهم , فلیس لک فی الخروج معهم خیرة , وأقم بالکوفة.
ص: 212
قال: وأقمتُ, وخَرَجَتْ القافلة فَخَرَجَتْ علیهم حنظلة, فاجتاحتهم.
وکتبت أستاذن فی رکوب الماء, فلم یؤذن لی؛ فسألتُ عن المراکب التی خرجت فی تلک السنة فی البحر, فما سلم منها مرکب، خرج علیها قوم من الهند یقال لهم (البوارح), فقطعوا علیها.
قال: وزرت العسکر, فأتیت الدَّرب مع المغیب ولم أکُلِّم أحداً, ولم أتَعَّرَف إلی أحد, وأنا اصلی فی المسجد بعد فراغی من الزیارة, إذا بخادم قد جاءنی, فقال لی: قم، فقلت له: إذن إلی این؟.
فقال لی: إلی المنزل.
قلت: ومَنْ أنا, لعلک أُرْسِلْتَ إلی غیری؟!.
فقال: لا؛ ما أُرْسِلْتُ إلا إلیک، أنت علی بن الحسین, رسول جعفر بن ابراهیم.
فَمَرَّ بی حتی أنزلنی فی بیت الحسین بن أحمد, ثم سارَّه, فلم أدر ما قال له: حتی أتانی جمیع ما احتاج إلیه، وجلست عنده ثلاثة أیام, واستأذنته فی الزیارة من داخل, فأذن لی فزرت لیلاً(1).
6 . وروی عن الحسن بن الفضل بن زید الیمانی، قال: کتب أبی بخطِّه کتاباً, فورد جوابه. ثُمَّ کتبت بخطی فورد جوابه.
ثُمَّ کتب بخط رجل من فقهاء أصحابنا, فلم یرد جوابه؛ فنظرنا فکانت العلَّة أنَّ الرجل تحوّل قرمطیاً.
ص: 213
قال الحسن بن الفضل: فزرتُ العراق, ووردت طوس, وعزمت أنْ لا أخرج إلا عن بیِّنة من أمری ونجاح من حوائجی, ولو احتجت أن اقیم بها حتی أتصدَّق قال: وفی خلال ذلک یضیق صدری بالمقام، وأخاف أنْ یفوتنی الحج.
قال: فجئت یوماً إلی محمَّد بن أحمد اتقاضاه, فقال لی: صر إلی المسجد کذا وکذ, وأنَّه یلقاک رجل.
قال: فصرت الیه, فدخل علیَّ رجل, فلمَّا نظر الیَّ ضحک, وقال: لا تغتمّ, فإنَّک ستحج فی هذه السنة, وتنصرف إلی أهلک, وولدک سالماً.
قال: فاطمأننت, وسکن قلبی, وأقول ذا مصداق ذلک, والحمد لله.
قال: ثُمَّ وردت العسکر، فَخَرَجَتْ إلیَّ صُرَّةً فیها دنانیر, فرددتها، وکتبتُ رقعة، ولم یشر الذی قبضها منِّی علیّ بشیء, ولم یتکلم فیها بحرف, ثُمَّ نَدِمْتُ بعد ذلک ندامة شدیدة, وقلت فی نفسی: کَفَرْتُ برَدِّی علی مولای؛ وکَتَبْتُ رقعة أعتذر من فعلی، وأبوء بالإثم, واستغفر من ذلک, وأنفذتها، وقمت أتمسح فأنا فی ذلک أفکر فی نفسی، وأقول إنْ رُدَّتْ علیَّ الدَّنانیر لم أُحلِل صرارها, ولم أحدث فیها حتی أحملها إلی ابی فإنَّه أعلم منِّی, لیعمل فیها بما شاء.
فخرج الیَّ الرَّسول الذی حمل الی الصُّرَّة: أسأْتَ إذ لم تعلم الرجل إنَّا ربَّما فعلنا ذلک بموالینا, وربَّما سألونا ذلک یتبرکون به.
وخرج إلیَّ: أخْطَأْتَ فی ردِّک برَّنا, فإذا استغفرتَ الله، فالله یغفر لک؛ فأمَّا
إذا کانت عزیمتک, وعقد نیتک ألا تحدث فیها حدثاً, ولا تنفقها فی طریقک, فقد صرفناها عنک, فأما الثوب, فلابد منه لتحرم فیه.
ص: 214
قال: وکتبتُ فی معنیین, وأردت أن أکتب فی الثالث, وامتنعت منه مخافة أن یکره ذلک؛ فورد جواب المعنیین والثالث الذی طویت, مفسَّراً والحمد لله.
قال: وکنتُ وافقتُ جعفر بن ابراهیم النیسابوری بنیسابور علی أن أرکب معه, وأزامله، فلمَّا وافیت بغداد بدا لی، فاستقلْته, وذهبت أطلب عدیلاً، فلقینی ابن الوجنا بعد أنْ کنت صرتُ إلیه وسألته أنْ یکتری لی فوجدته کارهاً, فقال لی: أنا فی طلبک, وقد قیل لی: إنَّه یصحبک, فأحسن معاشرته, واطلب له عدیلاً, واکترِ له(1).
7 . وروی عن علی بن محمَّد، عن الحسن بن عبد الحمید قال: شککتُ فی أمر حاجز, فجمعت شیئاً, ثُمَّ صرتُ إلی العسکر, فخرج الیَّ لیس فینا شک, ولا فیمن یقوم مقامنا بأمرنا؛ رُدَّ ما معک إلی حاجز بن یزید(2).
8 . عن علیّ، عن عدَّة من أصحابنا، عن أحمد بن الحسن, والعلاء بن رزق الله, عن بدر غلام أحمد بن الحسن, قال: وردتُ الجبل, وأنا لا أقول إلا بالإمامة, أحبّهم جملة, إلی أن مات یزید بن عبد الله, فأوصی فی علته أن یدفع الشهری السمند, وسیفه, ومنطقته, إلی مولاه, فخفت إنْ أنا لم أدفع الشهری إلی اذ کوتکین نالنی منه استخفاف, فقوّمت الدَّابة, والسیف, والمنطقة بسبعمائة
دینار فی نفسی, ولم أطلع علیه أحداً، فإذا الکتاب قد ورد علیَّ من العراق: وَجِّه السبع مائة دینار التی لنا قبلک من ثمن الشهری, والسیف, والمنطقة(3).
ص: 215
9 . وعن علیّ, عمَّن حدَّثه قال: وُلِدَ لی وَلَدٌ, فکتبت أستاذن فی طهره یوم السابع, فورد: (لا تفعل).
فمات فی الیوم السابع, أو الثامن.
ثُمَّ کتبت بموته, فورد: (ستخلف غیره, وغیره, تُسمِّیه أحمد ومن بعد أحمد، جعفراً).
فجاء کما قال.
قال: وَتَهَّیأتُ للحج, وَوَدَّعْتُ النَّاس, وکنت علی الخروج, فورد: (نحن لذلک کارهون, والأمر الیک).
قال: فضاق صدری, واغتممتُ, وکتبتُ أنا مقیم علی السمع, والطاعة , غیر أنَّی مغتم بتخلفی عن الحج.
فوقَّع: لایضیقن صدرک , فإنَّک ستحج من قابل إن شاء الله.
قال: ولمَّا کان من قابل کتبتُ أستأذن فورد الإذن, فکتبت: إنِّی عادلت محمَّد بن العباس, وأنا واثق بدیانته وصیانته، فورد: الأسدی نعم العدیل، فإنْ قدم فلاتختر علیه.
فقدم الأسدی, وعادلته(1).
10 . وعن علیّ بن محمَّد, قال: حمل رجل من أهل آبة شیئاً یوصله, ونسی سیفاً بآبة، فأنفذ ما کان معه, فکتب إلیه ما خبر السیف الذی نسیته (2).
ص: 216
11 . وعن الحسن بن خفیف، عن أبیه قال: بعث بخدم إلی مدینة الرسول صلی الله علیه وآله وسلم, ومعهم خادمان, وکتب إلیَّ (خفیف) أنْ یخرج معهم, فخرج معهم, فلمَّا وصلوا إلی الکوفة شرب أحد الخادمین مسکراً، فما خرجوا من الکوفة حتی ورد کتاب من العسکر بردِّ الخادم الذی شرب المسکر, وعُزِل عن الخدمة(1).
12 . وعن علیِّ بن محمَّد، عن محمَّد بن علیِّ بن شاذان النیسابوری قال: اجتمع عندی خمسمائة درهم تنتقص عشرین درهماً, فأنفت أنْ أبعث بخمسمائة تنقص عشرین درهماً, فوزنت من عندی عشرین درهماً, وبعثتها إلی الأسدی, ولم أکتب مالی فیها, فورد: وصلت خمسمائة درهم, لک منها عشرون درهماً(2).
13 . وروی عن الحسین بن محمَّد الأشعری قال: کان یرد کتاب أبی محمَّد علیه السلام فی الإجراء علی الجنید قاتل فارس, وأبی الحسن وآخر، فلمَّا مضی أبو محمَّد علیه السلام ورد استیناف من الصاحب لأُجراء أبی الحسن, وصاحبه, ولم یرد فی أمر الجنید بشیء قال: فاغتممت لذلک؛ فورد نعیُ الجنید بعد ذلک(3).
14 . وروی عن علیِّ بن محمَّد، عن أبی عقیل عیسی بن نصر قال: کتبَ
علیُّ بن زیاد الصیمری یسأل کفناً, فکتب إلیه: إنَّک تحتاج الیه فی سنة ثمانین.
فمات فی سنة ثمانین, وبعث إلیه بالکفن قبل موته بأیام(4).
ص: 217
15 . وروی عن علیّ بن محمَّد، عن محمَّد بن هارون بن عمران الهمدانی قال: کان للناحیة علَیَّ خمسمائة دینار, فضقت بها ذرعاً, ثُمَّ قلت فی نفسی: لی حوانیت اشتریتها بخمسمائة وثلاثین, دیناراً قد جعلتها للناحیة بخمسمائة دینار, ولم أنطق بها(1).
فکتب إلی محمَّد بن جعفر: اقبض الحوانیت من محمَّد بن هارون بالخمسمائة دینار التی لنا علیه.
16 . وروی عن الحسین بن الحسن العلوی قال: کان رجل من ندماء روزحسنی, وآخر معه, فقال له: هو ذا یجبی الأموال, وله وکلاء, وسمَّوا جمیع الوکلاء فی النَّواحی, وأَنهی ذلک إلی عبید الله بن سلیمان الوزیر، فهمَّ الوزیر بالقبض علیهم, فقال السلطان: اطلبوا أین هذا الرجل, فإنَّ هذا أمر غلیظ.
فقال عبید الله بن سلیمان: نقبض علی الوکلاء؟.
فقال السلطان: لا, ولکن دُسُّوا لهم قوماً لایعرفون بالأموال، فَمَنْ قبض منهم شیئاً قُبِضَ عَلَیه.
قال: فخرج بأن یتقدم إلی جمیع الوکلاء أنْ لایأخذوا من أحد شیئاً, وأنْ یمتنعوا من ذلک، ویتجاهلوا الأمر.
فاندس لمحمَّد بن أحمد رجل لایعرفه, وخلا به, فقال: معی مال أُرید أنْ أُوصله.
فقال له محمَّد: غلطت, أنا لا أعرف مِنْ هذا شیئاً.
ص: 218
فلم یزل یتلطفه, ومحمَّد یتجاهل علیه.
وبثوا الجواسیس, وامتنع الوکلاء کلُّهم, لما کان تقدم الیهم (1).
17 . وروی الصدوق فی کمال الدین قال: حدَّثنی أبی (رضی الله عنه), قال: حَدَّثنا سعد بن عبد الله، عن إسحاق بن یعقوب, قال: سمعتُ الشیخ العَمْری (رضی الله عنه) یقول: صحبت رجلاً من أهل السواد, ومعه مال للغریم علیه السلام, فأنفذه فَرُدَّ علیه, وقیل له: أخرج حقَّ ولد عمَّک منه, وهو أربعمائة درهم.
فبقی الرجل متحیِّراً, باهتاً, متعجباً, ونظر فی حساب المال, وکانت فی یده ضیعة لولد عمِّه قد کان رَدَّ علیهم بعضها, وزوی عنهم بعضها, فإذا الذی نضَّ لهم من ذلک المال أربعمائة درهم، کما قال علیه السلام؛ فأخرجه, وأنفذ الباقی، فقبل(2).
18 . وروی ایضاً قال: حدَّثنی أبی (رضی الله عنه)، عن سعد بن عبد الله، عن علیِّ بن محمَّد الرازی, قال: حدثنی جماعة من أصحابنا: أنَّه بعث إلی أبی عبد الله بن الجنید وهو بواسط غلاماً, وأمر ببیعه, فباعه, وقبض ثمنه؛ فلمَّا
عیر الدنانیر نقصت من التعییر ثمانیة عشر قیراطاً وحبة، فوزن من عنده ثمانیة عشر قیراطاً وحبة, وأنفذها فَرَدَّ علیه دیناراً وزنه ثمانیة عشر قیراطاً وحبَّة(3).
ص: 219
19 . وروی الصدوق قال: حدَّثنا محمَّد بن الحسن (رضی الله عنه)، عن سعد بن عبدالله، عن علیِّ بن محمَّد الرازی, المعروف بعلان الکلینی قال: حدثنی محمَّد بن جبرئیل الأهوازی، عن إبراهیم ومحمَّد ابنی الفرج، عن محمَّد بن ابراهیم بن مهزیار إنَّه ورد العراق شاکاً مرتاداً, فخرج إلیه: قل للمهزیاری قد فهمنا ما حکیته عن موالینا بناحیتکم, فقل لهم: أما سمعتم الله یقول:
((یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آَمَنُوا أَطِیعُوا اللَّهَ وَأَطِیعُوا الرَّسُولَ وَأُولِی الأَمْرِ مِنْکُمْ))(1).
هل أمر إلا بما هو کائن إلی یوم القیامة، أو لم تروا أنَّ الله عزَّ وجل جعل لکم معاقل تأوون إلیها، وأعلاماً تهتدون بها من لدن آدم علیه السلام إلی ان ظهر الماضی [أبو محمَّد] صلوات الله علیه،کُلَّما غاب عَلَمٌ بدا عَلَمٌ، وإذا أفِلَ نَجْمٌ طَلَعَ نَجْمٌ, فَلَمَّا قَبَضَهُ اللهُ إلیه ظَنَنْتُم أنَّ الله عزَّ وجل قد قطع السبب بینه وبین خلقه, کلا ما کان ذلک, ولایکون حتی تقوم الساعة, ویظهر أمر الله عزَّ وجل, وهم کارهون.
یا محمَّد بن إبراهیم: لا یدخلک الشک فیما قدمت له, فإنَّ الله (عزَّ وجل) لایخلی الارض من حجة، ألیس قال لک أبوک قبل وفاته: إحضر الساعة مَنْ یُعَیِّر
هذه الدنانیر التی عندی، فلما ابطئ ذلک علیه، وخاف الشیخ علی نفسه الوحا قال لک: عیِّرها علی نفسک، وأخرج الیک کیساً کبیراً, وعندک بالحضرة ثلاثة أکیاس، وصُرَّة فیها دنانیر مختلفة النقد, فعیِّرتَها, وختم الشیخ بخاتمه, وقال لک:
ص: 220
اختم مع خاتمی فإنْ أعش فأنا أحَقُّ بها، وإنْ أَمُتْ فاتقِ الله فی نفسک أولاً، ثُمَّ فیَّ، فَخَلِّصْنِی, وکن عند ظنِّی بک.
أَخرج رحمک الله الدنانیر التی استفضلتها من بین النقدین من حسابنا, وهی بضعة عشر دیناراً, واسترد من قبلک فإن الزَّمان اصعب مما کان, وحسبنا الله, ونعم الوکیل.
قال محمَّد بن إبراهیم: وقدمت العسکر زائراً, فقصدت الناحیة, فلقیتنی امرأة, وقالت: أنت محمَّد بن ابراهیم؟.
فقلت: نعم.
فقالت لی: انصرف, فإنَّک لاتصل فی هذا الوقت، وارجع اللیلة فإنَّ الباب مفتوح لک, فادخل الدار، واقصد البیت الذی فیه السراج.
فَفَعَلْتُ, وقصدتُ الباب فإذا هو مفتوح, فدخلتُ الدَّار, وقصدتُ البیت الذی وصفَتْه, فبینا أنا بین القبرین أنتحب, وأبکی, إذ سمعت صوتاً, وهو یقول: یا محمَّد! اتق الله, وتب من کل ما أنت علیه, فقد قُلِّدتَ أمراً عظیماً(1).
20 . وروی الصدوق فی کمال الدین قال: وحدَّثنا محمَّد بن الحسن بن أحمد بن الولید (رضی الله عنه)، عن سعد بن عبد الله، عن علیِّ بن محمَّد
الرازی، عن نصر بن الصباح البلخی قال: کان بمرو کاتب کان للخوزستانی -- سماه لی نصر -- واجتمع عنده ألف دینار للناحیة, فاستشارنی, فقلت: ابعث بها إلی الحاجزی, فقال: هو فی عنقک إنْ سألنی الله (عزَّ وجل) عنه یوم القیامة؟.
ص: 221
فقلت: نعم.
قال نصر: ففارقته علی ذلک, ثُمَّ انصرفتُ إلیه بعد سنتین, فلقیته, فسألته عن المال, فذکر: أنَّه بعث من المال بمائتی دینار إلی الحاجزی: فورد علیه وصولها, والدعاء له, وکتب الیه: کان المال ألف دینار, فبعثت بمائتی دینار, فإنْ أحببت أنْ تعامل أحداً, فعامل الأسدی بالرَّی.
قال نصر: وورد علیّ نعی حاجز, فجزعتُ من ذلک جزعاً شدیداً, واغتممت له, فقلتُ له: ولِمَ تغتمُّ, وتجزع, وقد مَنَّ الله علیک بدلالتین؛ قد أخبرک بمبلغ المال, وقد نعی الیک حاجزاً مبتدئا(1).
21 . وروی الصدوق عن أبیه (رضی الله عنه), قال: حدَّثنا سعد بن عبد الله، عن علیِّ بن محمَّد الرازی, قال: حدَّثنی نصر بن الصباح قال: أنفذ رجل من أهل بلخ خمسة دنانیر إلی حاجز, وکتب رقعة, وغَیَّر فیها اسمه؛ فخرج إلیه الوصول باسمه, ونسبه, والدعاء له(2).
والتوقیعات فی هذا المعنی کثیرة جداً لامجال لذکرها جمیعها، ولذلک اخترنا هذه المجموعة ویمکننک أن تراجعها فی مظانَّها إن شئت الزیادة, علماً أنَّ العلماء
الأعلام قد کتبوا فصولاً, والَّفوا کتباً مستقلة, جمعوا فیها تلک التوقیعات الشریفة.
وتلخص لنا من هذا المقطع من البحث:
ص: 222
أ -- إنَّ الغیبة الکبری تشکل جزءاً من النظام الالهی لمستقبل تاریخ البشریة فی مرحلة ضرورة غیاب المعصوم علیه السلام.
ب -- کما کان للغیبة الصغری دورها فی التمهید للغیبة الکبری.
ج -- وقد استطاع فقهاء الشیعة ان یستفیدوا من ظروف هذه الغیبة لتوضیح الحقیقة لبعض العوام , وإزالة الحَیرة منهم , وإرجاعهم إلی سبیل الرشاد.
لم یکن نوّاب الإمام الحجة عجل الله فرجه الشریف الخاصّون الأربعة فی کفاءاتهم الذاتیة کباقی النَّاس، وإنَّما کانوا یتمیزون بصفات إعجازیة فی الوقت الذی کانوا یَظْهَرُون فیه أمام الناس, ومجتمعهم بسلوکهم العادی, وکانوا یمارسون الحیاة العادیة الیومیة, ویعملون بأبسط الأعمال التی لا تثیر انتباه أحد.
وقد حفظ لنا التاریخ أنَّ النائب الأول عثمان بن سعید العَمْرِی کان یمتهن السَّمانة (کان یتّجربالسَّمْن)(1), ولذلک کان یسمی بالسمّان(2), (وکان
الشیعة إذا حملوا إلی أبی محمَّد علیه السلام ما یجب علیهم حمله من الأموال أنفذوا إلی أبی عمرو, فیجعله فی جراب السمن, وزِقاقه, ویحمله إلی أبی محمَّد علیه السلام تقیة, وخوفاً)(3).
ص: 223
وکانت للکرامات التی تظهر علی أیدی نوّاب الإمام الحجة عجل الله فرجه الشریف الخاصّین الأثر الکبیر فی تثبیت حقیقة اتصالهم المباشر بالإمام, لاستحالة أنْ تصدر مثل تلک الکرامات عن غیره، ولإنَّ تلک الکرامات کانت تظهر بالعادة علی أیدی آبائه المعصومین علیهم السلام من قبل، اضافة إلی ذلک فإنَّ ظهور تلک الکرامات علی أیدی النواب الأربعة علیهم السلام تصدّق مدعاهم للنیابة الخاصَّة عن الإمام المهدی عجل الله فرجه الشریف.
وقد رأی کبار فقهاء الشیعة فی عصر الغیبة الصغری تلک الکرامات بأمِّ أعینهم, واستیقنوا بها, وعلموا صدورها عن قلب عالم الإمکان عجل الله فرجه الشریف، ولهذا السبب قال الشیخ الطوسی فی غیبته:
(قال ابو العباس: وأخبرنی هبة الله بن محمَّد أبن بنت أُم کلثوم بنت أبی جعفر العَمْری (رضی الله عنه), عن شیوخه, قالوا: لم تزل الشیعة مقیمة علی عدالة عثمان بن سعید, ومحمَّد بن عثمان (رحمهما الله تعالی) إلی أنْ توفی أبو عمرو عثمان بن سعید (رحمه الله تعالی), وَغَسَّلَهُ ابنه أبو جعفر محمَّد بن عثمان, وتولیَّ القیام به، وجعل الأمر کله مردوداً إلیه، والشیعة مجتمعة علی عدالته, وثقته, وأمانته لما تقدم له من النَّص علیه بالأمانة, والعدالة, والأمر بالرجوع إلیه
فی حیاة الحسن علیه السلام، وبعد موته فی حیاة أبیه عثمان بن سعید؛ لا یختلف فی عدالته, ولا یرتاب بأمانته؛ والتوقیعات تخرج علی یده إلی الشیعة فی المهمات طول حیاته بالخط الذی کانت تخرج فی حیاة أبیه عثمان, لا یعرف الشیعة فی هذا الأمر غیره, ولا یرجع إلی أحد سواه.
ص: 224
وقد نقلت عنه دلائل کثیرة, ومعجزات الإمام ظهرت علی یده, وأمُور أخْبَرَهُم بها عنه، زادتهم فی هذا الأمر بصیرة.وهی مشهورة عند الشیعة(1).
وقال الشیخ الراوندی (المتوفی سنة 573ه-) فی خرائجه:
(وکان بعد ذلک تحمل الأموال إلی بغداد إلی الأبواب [النواب خ.ل] المنصوبین بها, وتخرج من عندهم التوقیعات, أولُّهم [وکیل أبی محمَّد علیه السلام] الشیخ عثمان بن سعید العَمْری، ثُمَّ ابنه أبو جعفر محمَّد بن عثمان، ثُمَّ أبو القاسم الحسین بن روح, ثُمَّ الشیخ أبو الحسن علی بن محمَّد السمری، ثُمَّ کانت الغیبة الطولی.
وکان کل واحد منهم یعرف کمیة المال جملة, وتفصیلا, ویسمون أربابها بإعلامهم ذلک من القائم علیه السلام.
والخبر الذی ذکرناه آنفا یدل علی أنَّ خلفاء بنی العباس خلفاً عن سلف منذ عهد الصادق إلی ذلک الوقت کانوا یعرفون هذا الأمر, ویطَّلعون علی أحوال الأئمة, فقد کانوا یرون معجزاتهم علی ما تقَّدم کثیر منها, [فلهذا کفَّ الخلیفة جعفر عن القوم, وعمَّا معهم, وعمَّا یصل إلیهم من الأموال, ودفع جعفر
الکذاب عن مطالبتهم] ولم یأمرهم بتسلیمها الیه وانه کان یحب ان یخفی هذا الامر ولایشتهر لئلا یهتدی الناس إلیهم.
وقد کان جعفر حمل عشرین الف دینار إلی الخلیفة لما توفی الحسن العسکری علیه السلام فقال: یا أمیر المؤمنین تجعل لی مرتبةَ اخی ومنزلته؟.
ص: 225
فقال الخلیفة: إنَّ منزلة أخیک لیست منَّا إنَّما کانت من الله, ونحن کنّا نجتهد فی حط منزلته, والوضع منه, وکان الله یأبی إلا أنْ یزیده کل یوم بما کان معه من الصیانة، وحسن السمت، والعلم وکثرة العبادة.
وإنْ کنت عند شیعة أخیک بمنزلته, فلاحاجة بک الینا, وإنْ لم تکن عندهم بمنزلته, ولم یکن فیک ما فی أخیک لم نُغنِ عنک فی ذلک شیئاً)(1).
وقد حفظ لنا التاریخ کثیراً منها, نذکر لک بعضاً منها:
1 . قال الصدوق فی کمال الدین: حدَّثنا أبو جعفر محمَّد بن علی الأسود (رضی الله عنه), قال: سألنی علیّ بن الحسین بن موسی بن بابویه (رضی الله عنه) بعد موت محمَّد بن عثمان العَمْری (رضی الله عنه) أنْ أسأل أبا القاسم الرُّوحی أنْ یسأل مولانا صاحب الزَّمان علیه السلام أنْ یدعو الله عزَّ وجل أنْ یرزقه ولداً ذکراً قال: فسألته, فأنهی ذلک.
ثُمَّ أخبرنی بعد ذلک بثلاثة ایام: إنَّه قد دعا لعلیِّ بن الحسین, وإنَّه سیولد له
ولد مبارک ینفع الله به, وبعده أولاد.
قال أبو جعفر محمَّد بن علی الأسود (رضی الله عنه), وسألته فی أمر نفسی أنْ یدعو الله لی أنْ یرزقنی ولداً ذکراً, فلم یجبنی إلیه, وقال: لیس إلی هذا سبیل.
قال: فولد لعلی بن الحسین (رضی الله عنه) محمَّد بن علی, وبعده أولاد, ولم یولد لی شیء.
ص: 226
ثُمَّ قال مصّنف هذا الکتاب (کمال الدین) وهو الشیخ الصدوق المولود بدعاء الإمام الحجة محمَّد بن علی بن الحسین (رضی الله عنه): کان أبو جعفر محمَّد بن علی الأسود (رضی الله عنه) کثیراً ما یقول لی - إذا رآنی اختلف إلی مجلس شیخنا محمَّد بن الحسن بن أحمد ابن الولید (رضی الله عنه) وأرغب فی کتب العلم، وحفظه: لیس بعجب أنْ تکون لک هذه الرغبة فی العلم, وأنت ولدت بدعاء الإمام علیه السلام(1).
2 . وروی الصدوق قال: حدَّثنا أبو الحسین صالح بن شعیب الطالقانی (رضی الله عنه) فی ذی القعدة سنة تسع وثلاثین وثلاثمائة, قال: حدَّثنا أبو عبد الله أحمد بن ابراهیم بن مخلّد, قال: حضرت بغداد عند المشایخ (رضی الله عنهم), فقال الشیخ أبو الحسن علیّ بن محمَّد السمری (قدس الله روحه) إبتداء منه: رحم الله علیَّ بن الحسین بن موسی بن بابویه القمی.
قال: فکتب المشایخ تاریخ ذلک الیوم, فورد الخبر: إنَّه توفی ذلک الیوم.
ومضی أبو الحسن السمری (رضی الله عنه) بعد ذلک فی النصف من شعبان
سنة ثمان وعشرین وثلاثمائة(2).
3 . وقال الصَّدوق: وأخبرنا محمَّد بن علی بن متیل قال: کانت امرأة یقال لها: زینب من أهل آبة, وکانت امراة محمَّد بن عبدیل الآبی, معها ثلاثمائة دینار, فصارت إلی عمِّی جعفر بن محمَّد بن متیل, وقالت: احبّ أنْ أسُلِّمَ هذا المال من یدی إلی ید أبی القاسم بن روح.
ص: 227
قال: فأنفذنی معها أُترجم عنها، فلمَّا دخلت علی أبی القاسم (رضی الله عنه) أقبل یکلِّمها بلسان آبی فصیح, فقال لها: (زینب جونا، خویذا، کوابذا، جون استه) ومعناه کیف أنت؟ وکیف کُنْتِ؟ وما خبر صبیانک؟.
قال: فاستغنت عن الترجمة, وسلَّمت المال, ورجعت(1).
4 . وروی الصدوق قال: وأخبرنا محمَّد بن علی بن متیل قال: قال عمِّی جعفر بن محمَّد بن متیل: دعانی أبو جعفر محمَّد بن عثمان السَّمان المعروف بالعَمْری (رضی الله عنه), فأخرج الیَّ ثویبات معلمة, وصُرَّة فیها دراهم, فقال لی: یحتاج أنْ تصیر بنفسک إلی واسط فی هذا الوقت, وتدفع ما دفعت إلیک إلی أول رجل یلقاک عند صعودک من المرکب إلی الشط بواسط.
قال: فتداخلنی من ذلک غمّ شدید، وقلت: مثلی یرسل فی هذا الأمر, ویحمل هذا الشیء الوتح؟ أی القلیل.
قال: فخرجت إلی واسط, وصعدت المرکب، فأوَّل رجل یلقانی سألته عن
الحسن بن محمَّد بن قطاة الصیدلانی, وکیل الوقف بواسط، فقال: أنا هو، من أنت؟.
فقلت: أنا جعفر بن محمَّد بن متیل.
قال: فعرفنی باسمی، وسلَّم علیَّ، وسلَّمْتُ علیه، وتعانقنا، فقلت له: أبو جعفر العَمْری یقرأ علیک السلام، ودفع إلیَّ هذه الثویبات، وهذه الصُّرَّة لأسلِّمها إلیک.
ص: 228
فقال الحمد لله, فإنَّ محمَّد بن عبد الله الحائری قد مات، وخرجت لإصلاح کفنه، فَحَلَّ الثیاب وإذا فیها ما یحتاج إلیه من حبر، وثیاب، وکافور فی الصُّرَّة، وکری الحمَّالین, والحفار.
قال: فشیَّعنا الجنازة، وانصرفت(1).
5 . وقال الصدوق: وأخبرنا أبو محمَّد الحسن بن محمَّد بن یحیی العلوی ابن أخی طاهر ببغداد طرف سوق القطن فی داره, قال: قدم أبو الحسن علی بن أحمد بن علی العقیقی ببغداد سنة ثمان وتسعین ومائتین إلی علی بن عیسی بن الجراح. وهو یومئذ وزیر فی أمر ضیعة له، فسأله، فقال له: إنَّ أهل بیتک فی هذا البلد کثیر, فإنْ ذَهْبَنا نعطی کُلَّما سألونا طال ذلک أو کما قال.
فقال له العقیقی: فإنِّی أسأله مَنْ فی یده قضاء حاجتی.
فقال له علی بن عیسی: مَنْ هو؟.
فقال: الله عزَّ وجل، وخرج مغضباً.
قال: فخرجت وأنا أقول: فی الله عزاء من کل هالک، ودرک من کل مصیبة.
قال: فانصرفت، فجاءنی الرَّسول من عند الحسین بن روح (رضی الله عنه وأرضاه)، فشکوت الیه، فذهب من عندی، فأبلغه, فجاءنی الرَّسول بمائة درهم عدداً، ووزناً، ومندیل، وشیء من حنوط، وأکفان, وقال لی: مولاک یقرئک السلام, ویقول لک: إذا أهمَّک أمر، أو غمّ فامسح بهذا المندیل وجهک, فإنَّ هذا
ص: 229
مندیل مولاک علیه السلام، وخذ هذه الدراهم، وهذا الحنوط، وهذه الأکفان، وستقضی حاجتک فی لیلتک هذه، وإذا قدمت إلی مصر یموت محمَّد بن اسماعیل من قبلک بعشرة أیام, ثُمَّ تموت بعده فیکون هذا کفنک, وهذا حنوطک, وهذا جهازک.
قال: فأخذتُ ذلک, وحفظته، وأنصرف الرَّسول، وإذا أنا بالمشاعل علی بابی، والباب یُدَّق، فقلت لغلامی خیر: یا خیر, انظر أی شیء هو ذا؟
فقال خیر: هذا غلام حمید بن محمَّد الکاتب أبن عم الوزیر.
فادخله إلیَّ، فقال لی: قد طلبک الوزیر، ویقول لک مولای حمید ارکب إلیَّ.
قال: فرکبت [وخبت الشوارع, والدروب]، وجئتُ إلی شارع الرزازین، فإذا بحمید ینتظرنی، فلمَّا رآنی أخذ بیدی، ورکبنا، فدخلنا علی الوزیر، فقال لی الوزیر: یا شیخ قد قضی الله حاجتک، واعتذرَ إلیَّ، ودفع إلیَّ الکتب مکتوبة مختومة قد فرغ منها.
قال: فأخذتُ ذلک، وخرجتُ.
قال أبو محمَّد الحسن بن محمَّد, فحدَّثنا أبو الحسن علی بن أحمد العقیقی (رحمه الله) بنصیبین بهذا, وقال لی: ماخرج هذا الحنوط الا لعمَّتی فلانة لم یسمِّها, وقد نعیت إلیّ نفسی، ولقد قال لی الحسین بن روح (رضی الله عنه): إنِّی أملک الضیعة, وقد کتب لی بالذی أردت، فقمت إلیه، وقَبَّلْتُ رأسه، وعینیه، وقلت: یا سیدی أرنی الأکفان، والحنوط، والدراهم.
ص: 230
قال: فأخرج إلیَّ الأکفان، وإذا فیها برد حبرة, مسهم, من نسیج الیمن، وثلاثة أثواب مروی، وعمامة، وإذا الحنوط فی خریطة، وأخرج إلیَّ الدراهم، فعددتها مائة درهم، ووزنها مائة درهم.
فقلت: یا سیدی: هب لی منها درهماً أصوغه خاتماً.
قال: وکیف یکون ذلک، خذ من عندی ما شئت.
فقلت: أرید من هذه، وألححت علیه، وقَبَّلْتُ رأسه، وعینیه, فأعطانی درهماً، فشددتهُ فی مندیل، وجعلتهُ فی کُمِّی، فلما صرت إلی الخان, فتحت زنفیلجة(1) معی، وجعلت المندیل فی الزنفیلجة, وقید الدرهم مشدود، وجعلت کتبی, ودفاتری فوقه، وأقمتُ أیاماً, ثُمَّ جئت أطلب الدرهم, فإذا الصُّرَّة مصرورة بحالها, ولاشیء فیها، فأخذنی شبه الوسواس، فصرتُ إلی باب العقیقی، فقلت لغلامه خیر: أُرید الدُّخول إلی الشیخ.
فادخلنی الیه، فقال لی: مالک؟.
فقلت: یا سیدی الدّرهم الذی أعطیتنی إیَّاه ما أصبته فی الصُّرَّة، فدعا بالزنفلیجة، وأخرج الدَّراهم, فإذا هی مائة درهم عدداً، ووزناً، ولم یکن معی أحد اتهمته، فسألته فی ردِّه إلیَّ فأبی، ثُمَّ خرج إلی مصر، وأخذ الضیعة، ثُمَّ مات قبله محمَّد بن إسماعیل بعشرة أیام کما قیل، ثُمّ توفی (رضی الله عنه) وکُفِّنَ فی الأکفان التی دُفِعَتْ إلیه(2).
ص: 231
6 . وقال الصدوق حدَّثنا محمَّد بن ابراهیم بن اسحاق الطالقانی (رضی الله عنه), قال: کنتُ عند الشیخ أبی القاسم الحسین بن روح (قدس الله روحه), مع جماعة فیهم علی بن عیسی القصری، فقام إلیه رجل, فقال له: إنِّی أرید أن أسألک عن شی، فقال له: سل عمَّا بدا لک.
فقال الرجل: أخبرنی عن الحسین بن علی علیه السلام أهو ولی الله؟.
قال: نعم.
قال: أخبرنی عن قاتله، أهو عدو الله؟.
قال: نعم.
قال الرَّجل: فهل یجوز أنْ یسلِّط الله عزَّ وجل عدوَّه علی ولیِّه؟.
فقال له أبو القاسم الحسین بن روح (قدس الله روحه): إفهم عَنِّی ما أقول لک: إعلم أنَّ الله (عزَّ وجل) لا یخاطب الناس بمشاهدة العیان، ولایشافههم
بالکلام، ولکنَّه جلَّ جلاله یبعث الیهم رسلاً من أجناسهم, وأصنافهم بشراً مثلهم، ولو بعث الیهم رسلاً من غیر صنفهم, وصورهم لنفروا عنهم، ولم یقبلوا، منهم.
فلمَّا جاؤوهم، وکانوا من جنسهم یأکلون الطعام، ویمشون فی الأسواق، قالوا لهم: انتم بشر مثلنا، ولا نقبل منکم حتی تأتوننا بشیء نعجز أنْ نأتی بمثله، فنعلم أنَّکم مخصوصون دوننا بما لا نقدر علیه.
فجعل الله (عزَّ وجل) لهم المعجزات التی یعجز الخلق عنها، فمِنْهُمْ: مَنْ جاء بالطوفان بعد الإنذار، والإعذار، فغرق جمیع من طغی، وتَمَرَّدَ.
ص: 232
ومِنْهُمْ: مَنْ أُلْقِیَ فی النار، فکانت برداً، وسلاماً.
ومِنْهُمْ: مَنْ أخْرَجَ من الحجر الصلد، ناقة, وأجری من ضرعها لبناً.
ومِنْهُمْ: مَنْ فُلِقَ له البحر، وفُجِّرَ له من الحجر العیون، وجُعِلَ له العصا الیابسة ثعباناً تلقف ما یأفکون.
ومِنْهُمْ: مَنْ أبرأ الأکْمَهَ والأبْرَصَ، وأحیی الموتی بإذن الله، وأنبأهم بما یأکلون, وما یدَّخرون فی بیوتهم.
ومِنْهُمْ: مَنْ أنشقَّ له القمر, وکلمته البهائم, مثل البعیر, والذئب، وغیر ذلک.
فلمَّا أتوا بمثل ذلک، وعجز الخلق عن أمرهم، وعن أن یأتوا بمثله کان من تقدیر الله (عزَّ وجل)، ولطفه بعباده، وحکمته أنْ جعل أنبیاءه علیهم السلاممع هذه القدرة، والمعجزات فی حالةٍ غالبین، وفی أخری مغلوبین؛ وفی حالٍ قاهرین، وفی أخری مقهورین، ولو جعلهم الله عزَّ وجل فی جمیع أحوالهم غالبین، وقاهرین،
ولم یبتلهم، ولم یمتحنهم لاتخذهم النَّاس آلهة من دون الله عزَّ وجل.
ولما عرف فضل صبرهم علی البلاء، والمحن، والاختبار، ولکنَّه (عزَّ وجل) جعل أحوالهم فی ذلک کأحوال غیرهم لیکونوا فی حال المحنة، والبلوی صابرین، وفی حال العافیة، والظهور علی الأعداء شاکرین، ویکونوا فی جمیع أحوالهم متواضعین غیر شامخین ولا متجبرین، ولیعلم العباد انّ لهم إلهاً هو خالقهم، ومدبرهم، فیعبدوه، ویطیعوا رسله، وتکون حجة الله ثابتة علی مَنْ تجاوز الحدَّ فیهم، وأدَّعی لهم الربوبیة، أو عاند،،أو خالف،وعصی، وجحد بما أتت به الرسل، والأنبیاء علیهم السلام.
ص: 233
((لِیَهْلِکَ مَنْ هَلَکَ عَنْ بَیِّنَةٍ وَیَحْیَا مَنْ حَیَّ عَنْ بَیِّنَةٍ))(1).
قال محمَّد بن إبراهیم بن اسحاق (رضی الله عنه): فعدتُ إلی الشیخ أبی القاسم بن روح قدس الله روحه من الغد، وأنا أقول فی نفسی: أتراه ذکر ما ذکر لنا یوم أمس من عند نفسه.
فأبتدأنی، فقال لی: یا محمَّد بن ابراهیم! لإن أَخِرَّ مِنَ السماء، فتخطفنی الطیر، أو تهوی بی الریح فی مکان سحیق أحبّ إلیَّ مِنْ أنْ أقول فی دین الله عزَّ وجل برأیی، أو من عند نفسی، بل ذلک عن الأصل(2)، ومسموع عن الحجَّة
ص: 234
(صلوات الله علیه وسلامه) (1).
7 . وقال الصدوق: حدَّثنا أبو جعفر محمَّد بن علی بن أحمد بن بزرج، بن عبد الله بن منصور بن یونس بن بزرج صاحب الصادق علیه السلام قال: سمعت محمَّد بن الحسن الصیرفی الدورقی المقیم بأرض بلخ یقول: أردت الخروج إلی الحج، وکان معی مال بعضه ذهب، وبعضه فضة، فجعلت ما کان معی من الذهب سبائک، وما کان معی من الفضة نُقُراً, وکان قد دفع ذلک المال إلیَّ لأُسَلِّمَهُ من
الشیخ(2) أبی القاسم الحسین بن روح (قدس الله روحه)، قال:
فلما نزلت سرخس ضربتُ خیمتی علی موضع فیه رمل، فجعلت أمیِّز تلک السبائک، والنقر، فسقطت سبیکة من تلک السبائک منِّی، وغاضت فی الرَّمل، وأنا لا أعلم.
قال: فلمَّا دخلتُ همدان میَّزْتُ تلک السبائک، والنُّقَرَ مرَّة أخری اهتماماً منِّی بحفظها، ففقدتُ منها سبیکة، وزنها مائة مثقال وثلاثة مثاقیل، أو قال: ثلاثة وتسعون مثقالاً: قال: فسبکت مکانها من مالی بوزنها سبیکة، وجعلتها بین السبائک.
ص: 235
فلمَّا وردتُ مدینة السلام قصدت الشیخ أبا القاسم الحسین بن روح (قدس الله روحه)، وسلمت إلیه ما کان معی من السبائک، والنقر، فمدَّ یده من بین تلک السبائک إلی السبیکة التی کنتُ سبکتها من مالی بدلاً مما ضاع منِّی، فرمی بها الیّ، وقال لی: لیست هذه السبیکة لنا، وسبیکتنا ضَیَّعْتَها بسرخس حیث ضَرَبْتَ خیمتک فی الرَّمل، فارجع إلی مکانک، وانزل حیث نزلت، وأطلب السبیکة هناک تحت الرَّمل، فإنَّک ستجدها, وستعود إلی ههنا, فلا ترانی.
قال: فرجعت إلی سرخس، ونزلت حیث کنت نزلت، فوجدت السبیکة تحت الرَّمل، وقد نبت علیها الحشیش، فأخذت السبیکة، وانصرفت إلی بلدی، فلمَّا کان بعد ذلک حججتُ، ومعی السبیکة، فدخلتُ مدینة السلام، وقد کان الشیخ أبو القاسم الحسین بن روح (رضی الله عنه) مضی، ولقیت أبا الحسن علی
بن محمَّد السمری (رضی الله عنه) فسلَّمْتُ السبیکة إلیه(1).
8 . وقال الصدوق: حدَّثنا الحسین بن علی بن محمَّد القمی المعروف بأبی علی البغدادی قال:
کنت ببخاری، فدفع الیّ المعروف بابن جاوشیر عشرة سبائک ذهباً، وأمرنی أنْ أُسَلِّمها بمدینة السلام إلی الشیخ أبی القاسم الحسین بن روح (قدس الله روحه).
فَحَمَلْتُها معی، فلمَّا بلغت آمویه ضاعت منِّی سبیکة من تلک السبائک، ولم أعلم بذلک حتیَّ دخلتُ مدینة السلام، فأخرجتُ السبائک لأسلِّمها، فوجدتُها قد نقصت واحدة، فاشتریتُ سبیکة مکانها بوزنها، وأضفتُها إلی التسع السبائک؛ ثُمَّ
ص: 236
دخلتُ علی الشیخ أبی القاسم الحسین بن روح (قدس الله روحه)، ووضعتُ السبائک بین یدیه، فقال لی: خذ تلک السبیکة التِّی اشتریتها، وأشار إلیها بیده, وقال: إنَّ السبیکة التی ضَیَّعْتَها قد وصلت إلینا، وهو ذا هی، ثُمَّ أخرج إلیَّ تلک السبیکة التی کانت ضاعت منِّی بآمویه، فنظرتُ إلیها فعرفتها.
قال الحسین بن علی بن محمَّد المعروف بأبی علی البغدادی، ورأیتُ تلک السنة بمدینة السلام امرأة، فسألتنی عن وکیل مولانا علیه السلام من هو؟.
فأخبرها بعض القمیین: انَّه أبو القاسم الحسین بن روح، وأشار إلیها، فدخلَتْ علیه، وأنا عنده، فقالت له: أیُّها الشیخ, أی شیء معی؟.
فقال: ما معک , فألقیه فی الدجلة، ثُمَّ إئتینی حتَّی أخبرک.
قال: فذهبت المرأة، وحَمَلَتْ ما کان معها, فألقته فی الدجلة، ثُمَّ رجعت,
ودخلت إلی أبی القاسم الرُّوحی (قدس الله روحه).
فقال أبو القاسم لمملوکة له: أخرجی إلیّ الحُقَّ.
فأخْرَجَتْ إلیه حقّة، فقال للمرأة: هذه الحقّة التی کانت معک، ورمیت بها فی الدجلة؟ أخبرک بما فیها، أو تخبرینی؟. فقالت له: بل, أخبرنی أنت.
فقال: فی الحقّة زوج سوار ذهب، وحلقة کبیرة, فیها جوهرة، وحلقتان صغیرتان, فیهما جوهر, وخاتمان: أحدهما فیروزج، والآخر عقیق.
فکان الأمر کما ذکر, لم یغادر منه شیئاً، ثُمَّ فتح الحقة، فعرض علیّ ما فیها، فنظرت المرأة إلیه, فقالت: هذا الذی حملته بعینه، ورمیت به فی الدجلة، فغشی علیَّ، وعلی المرأة فرحاً بما شاهدناه من صدق الدلالة.
ص: 237
ثم قال الحسین لی بعدما حدَّثنی بهذا الحدیث:
أشهد عند الله عزَّ وجل یوم القیامة بما حدَّثت به أنَّه کما ذکرته لم أزد فیه، ولم أنقص منه، وحلف بالأئمة الأثنی عشر (صلوات الله علیهم) لقد صدق فیما حدَّث به وما زاد فیه, وما نقص منه(1).
9 . وقال الطوسی قال ابن نوح: أخبرنی ابو نصر هبة الله بن محمَّد قال: حدثنی [أبو] علی بن أبی جید القمی (رحمه الله), قال: حدَّثنا أبو الحسن علیّ بن أحمد الدَّلال القمی, قال: دخلتُ علی أبی جعفر محمَّد بن عثمان (رضی الله عنه) یوماً لأسلِّم علیه، فوجدته, وبین یدیه ساجة, ونقاش ینقش علیها، ویکتب
آیاً من القرآن، وأسماء الأئمة علیهم السلامعلی حواشیها.
فقلت له: یا سیدی ماهذه الساجة؟.
فقال لی: هذه لقبری تکون فیه أوضع علیها، أو قال: أسند إلیها، وقد فرغت (عرفت،عزفت خ.ل) منه، وأنا فی کل یوم أنزل فیه, فأقرأ جزءاً من القرآن (فیه), فأصعد.
وأظُّنه قال: فأخذ بیدی وأرانیه.فإذا کان یوم کذا وکذا من شهر کذا وکذا من سنة کذا وکذا, صرت إلی الله عزَّ وجل، ودفنت فیه, وهذه الساجة (معی).
فلَّما خرجتُ من عنده، أَثْبَتُّ ما ذکره، ولم أزل مترقباً به ذلک, فما تأخر الأمر حتی اعتل أبو جعفر، فمات فی الیوم الذی ذکره, من الشهر الذی قاله, من السنة التی ذکرها, ودفن فیه.
ص: 238
قال أبو نصر هبة الله: وقد سمعت هذا الحدیث من غیر [أبی] علیّ, وحدَّثتنی به أیضاً ام کلثوم بنت أبی جعفر (رضی الله تعالی عنهما)(1).
والأخبار فی ذلک کثیرة لکننا اقتصرنا علی هذا المقدار روماً للاختصار، وفیه کفایة لمن کان له قلب، أو القی السمع وهو شهید فقد کان أولئک النُّواب علیهم السلام فی أوصافهم الذاتیة بمرتبة عالیة من الکمال, والقداسة بحیث أجری الله (عزَّ وجل) علی أیدیهم الکرامات، وثبت لکل عارف عیاناً صدق ادعائهم، وارتباطهم ببقیة الله الأعظم عجل الله فرجه الشریف.
ومع ان طریقة ظهور الإمام علیه السلام للناس, واللقاء بهم قد تغیَّرت منذ بدایة عصر الغیبة الصغری -- بل قد یمکن أن یقال: إنَّ بدایة العصر الجدید من الإمامة قد ابتدأ من حین ولادته عجل الله فرجه الشریف، لذلک فقد إرتأی بعض الأکابر أن یؤرخ بدایة الغیبة من حین ولادته عجل الله فرجه الشریف, ولیس من حین وفاة أبیه الإمام العسکری علیه السلام -- ومع ذلک فإنَّ باب اللقاء به بقی مفتوحاً, ولو نسبیاً, ولکنَّه غیر مغلق علی نحو الإطلاق.
وأوضح أشکال اللقاء به أنَّه کان یتحقق بإستخدام الأسلوب السابق نفسه الذی کان فی عهد أبویه الإمام الهادی علیه السلام, والإمام العسکری علیه السلام بطریقة المکاتبة, والرَّسائل.
ص: 239
وقد استمرَّ النَّاس یتصلون بإمامهم بواسطة الرَّسائل، والکتب، ویسألونه عن کل شیء یحتاجون إلیه، ویأتیهم الجواب منه علیه السلام کما کان فی عهد أبویه علیهما السلام.
ویمکننا أن نوضح هذه الحقیقة بذکر نوعین من الأمثلة:
إنَّ الشیعة قد تعَّودت فی حیاة الأئمة السابقین علیهم السلامأن یختبروا الإمام علیه السلام, فیسألونه عن مقدار الأموال التی یحملونها إلیه، وبعض أسرارهم مما لم یطلِّع علیها أحد غیرهم، وقد استخدموا هذا الاسلوب مراراً مع إمامهم, وقد سجَّل لنا التاریخ، والمؤرخون کثیراً من تلک الحوادث؛ نکتفی بذکر بعض الامثلة:
1 . روی الکلینی عن علی بن محمَّد بن حمویه السویداوی، عن محمَّد بن ابراهیم بن مهزیار, قال: شککتُ عند مضی أبی محمَّد علیه السلام، واجتمع عند أبی مال جلیل, فحمله, ورکب السفینة وخرجت مشیِّعاً معه, فوعک وعکاً شدیدا،ً فقال: یابُنَیَّ: ردّنی، فهو الموت، وقال لی: إتق الله فی هذا المال، وأوصی إلیَّ, فمات.
فقلتُ فی نفسی: لم یکن أبی لیوصی بشیء غیر صحیح، أحمل هذا المال إلی العراق، واکتری داراً علی الشَّط، ولا أخبر أحداً بشیء, وإن وضح لی شیء کوضوحه فی أیام أبی محمَّد علیه السلام أنفذته، وإلا قصفت به.
فقدمت العراق واکتریت داراً علی الشَّط، وبقیت أیاماً, فإذا أنا برقعة مع رسول، فیها:
ص: 240
(یا محمَّد معک کذا، وکذا, فی جوف کذا, وکذا) حتی قصَّ علیَّ جمیع ما معی مما لم أُحِط به علماً.
فَسَلَّمته إلی الرَّسول, وبقیت أیَّاماً لا یرفع لی رأس, واغتممت, فخرج الیّ: قد أقمناک مکان أبیک , فاحمد الله(1).
2 . وروی الکلینی عن علی بن محمد قال:
کان ابن العجمی جعل ثلثه للناحیة, وکتب بذلک, وقد کان قبل إخراجه الثلث دفع مالاً لابنه أبی المقدام لم یطلع علیه أحد فکتب إلیه فأین المال الذی
عزلته لأبی المقدام(2).
3 . وروی الصدوق عن أبیه (رضی الله عنه)، عن سعد بن عبد الله، عن أبی حامد المراغی, عن محمَّد بن شاذان بن نعیم قال:
بعث رجل من أهل بلخ بمال، ورقعة لیس فیها کتابة قد خطّ فیها بإصبعه کما تدور من غیر کتابة، وقال للرَّسول: إحمل هذا المال، فَمَنْ أخبرک بقصته, وأجاب عن الرقعة, فأوصل إلیه المال.
فصار الرجل إلی العسکر، وقد قصد جعفراً, وأخبره الخبر, فقال له جعفر: تقر بالبداء؟.
قال الرجل: نعم.
قال له: فإنَّ صاحبک قد بدا له، وأمرک أن تعطینی المال.
ص: 241
فقال الرَّسول: لا یقنعنی هذا الجواب.
فخرج من عنده، وجعل یدور علی أصحابنا, فخرجت إلیه رقعة قال:
(هذا مال قد کان غرر به، وکان فوق صندوق، فدخل اللصوص البیت، وأخذوا ما فی الصندوق، وسلم المال).
وردت علیه الرقعةَّ وقد کتب فیها کما تدور: وسألتَ الدعاء فعل الله بک، وفعل(1).
وقد کانت الشیعة معتادة علی الرجوع إلی الإمام المعصوم علیه السلام فی جمیع مسائلها وحوائجها الدینیة والدنیویة.
وحتی قد تکون بعض الحوائج الدنیویة خارجة عن مقدور البشر بالشکل العادی، ولکنَّ الشیعة کانت تفزع فی مهمات أمور حیاتها إلی الإمام علیه السلام، وقد استمرت هذه الصورة من الطلب مع الإمام المهدی عجل الله فرجه الشریف حتی فی عصر الغیبة الصغری، کما کان هو الحال فی عهد آبائه علیهم السلام، ولکن باختلاف طریقة العلاقة واللقاء، حتی یعوّض عن اللقاء المباشر بالکتابة الیه بالرسائل.
ومع ان کتب الغیبة قد حفلت بمثل تلک القضایا, ولکننا نختار الیک بعضاً منها:
1 . روی الشیخ الطوسی فی غیبته، عن جماعة، عن الحسین بن علی بن موسی بن بابویه قال:حدثنی جماعة من أهل بلدنا المقیمین کانوا ببغداد فی السنة التی خرجت القرامطة علی الحاج, وهی سنة تناثر الکواکب:
ص: 242
إنَّ والدی (رضی الله عنه) کتب إلی الشیخ أبی القاسم الحسین بن روح (رضی الله عنه) یستأذن فی الخروج إلی الحج.
فخرج فی الجواب: لاتخرج فی هذه السنة.
فأعاد، فقال: هو نذر واجب, أفیجوز لی القعود عنه؟.
فخرج الجواب: إنْ کان لابد, فکن فی القافلة الأخیرة.
فکان فی القافلة الأخیرة , فسلم بنفسه , وقتل من تقدَّمه فی القوافل الأُخر(1).
2 . وروی عن جماعة، عن أبی محمَّد الحسن بن حمزة بن علی بن عبد الله
بن محمَّد بن الحسن بن الحسین بن علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب علیهم السلام قال: حدَّثنا علی بن محمَّد الکلینی, قال: کتب محمَّد بن زیاد الصیمری یسأل صاحب الزَّمان (عجل الله فرجه) کَفَناً یَتَیَمَّنُ بما یکون من عنده، فورد: إنَّک تحتاج إلیه سنة إحدی وثمانین.
فمات رحمه الله فی هذا الوقت الذی حدَّه, وبعث إلیه بالکفن قبل موته بشهر(2).
3 . وروی عن جماعة، عن أحمد بن محمَّد بن عیاش قال: حدَّثنی ابن مروان الکوفی, قال: حدَّثنی ابن أبی سورة قال:
کنت بالحائر زائراً عشیة عرفة, فخرجت متوجهاً علی طریق البر, فلَّما انتهیت إلی المسنّاة جلست إلیها مستریحاً، ثًمَّ قُمْتُ أمشی، وإذا رجل علی ظهر الطریق، فقال لی: هل لک فی الرفقة؟.
ص: 243
فقلت: نعم. فمشینا معاً یحدثنی, وأحدثه، وسألنی عن حالی؛ فأعلمته أنِّی مضیق، لاشیء معی، ولا فی یدی.
فألتفت إلیَّ، فقال لی: إذا دخلت الکوفة، فائت دار أبی طاهر الزراری, فاقرع علیه بابه, فإنَّه سیخرج إلیک، وفی یده دم الأضحیة, فقل له: یقال لک إعط هذا الرَّجل الصُّرَّة الدنانیر التی عند رِجْل السریر.
فتعجّبت من هذا, ثُمَّ فارقنی, ومضی لوجهه لا أدری أین سلک، ودخلتُ الکوفة, وقصدت دار أبی طاهر محمَّد بن سلیمان الزراری, فقرعت علیه بابه کما قال, لی وخرج إلیَّ، وفی یده دم الأضحیة, فقلت له: یقال لک: إعط هذا
الرَّجل الصُّرَّة الدنانیر التی عند رِجْلِ السریر.
فقال: سمعاً, وطاعة؛ ودخل، فأخرج إلیَّ الصُّرَّة, فسلَّمها إلیَّ, فأخذتها, وانصرفت(1).
4 . وروی عن جماعة، عن أبی عبد الله أحمد بن محمَّد بن عیاش، عن أبی غالب الزراری, قال: قدمتُ من الکوفة وأنا شابّ , احدی قدماتی، ومعی رجل من إخواننا قد ذهب علی (أبی عبد الله) اسمه, وذلک فی أیام الشیخ أبی القاسم الحسین بن روح (رحمه الله)، وإستتاره، ونصبه أبا جعفر محمَّد بن علی المعروف بالشلمغانی، وکان مستقیماً لم یظهر منه ما ظهر منه من الکفر والإلحاد، وکان الناس یقصدونه یلقونه لأنَّه کان صاحب الشیخ أبی القاسم الحسین بن روح سفیراً بینهم وبینه فی حوائجهم ومهماتهم.
ص: 244
فقال لی صاحبی: هل لک ان تلقی أبا جعفر، وتحدَّث به عهداً فإنَّه المنصوب الیوم لهذه الطائفة، فإنِّی أرید أن أسأله شیئاً من الدعاء یکتب به إلی الناحیة؟.
قال: فقلت له: نعم.
فدخلنا إلیه، فرأینا عنده جماعة من أصحابنا, فسلَّمنا علیه, وجلسنا؛ فأقبل علی صاحبی، فقال: مَنْ هذا الفتی معک؟.
فقال له: رجل من آل زرارة بن أعین.
فأقبل علیَّ، فقال: من أی زرارة أنت؟.
فقلت: یاسیدی أنا من ولد بکیر بن أعین, أخی زرارة.
فقال: أهل بیت جلیل, عظیم القدر فی هذا الأمر.
فأقبل علیه صاحبی، فقال له: یا سیدنا أُرید المکاتبة فی شیء من الدعاء؟.
فقال: نعم.
قال: فلمَّا سمعت هذا اعتقدت أن أسأل أنا أیضاً مثل ذلک، وکنت اعتقدت فی نفسی ما لم أُبْدِهِ لأحد من خلق الله حال والدة أبی العباس ابنی، وکانت کثیرة الخلاف, والغضب علیَّ، وکانت منِّی بمنزلة؛ فقلت فی نفسی: أسأل الدعاء لی فی أمر قد أهمَّنی, ولا أسمِّیه، فقلت: أطال الله بقاء سیدنا، وأنا أسأل حاجة.
قال: وما هی؟.
قلت: الدّعاء لی بالفرج من أمر قد أهمَّنی.
ص: 245
قال: فأخذ درجاً بین یدیه کان أثبت فیه حاجة الرجل، فکتب: والزراری یسأل الدعاء له فی أمر قد أهمَّه.
قال: ثُمَّ طواه، فقمنا، وانصرفنا.
فلمَّا کان بعد أیام, قال لی صاحبی: ألا نعود إلی أبی جعفر، فنسأله عن حوائجنا التی کنا سألناه؛ فمضیتُ معه، ودخلنا علیه، فحین جلسنا عنده أخرج الدَّرج، وفیه مسائل کثیرة قد أجیب فی تضاعیفها، فأقبل علی صاحبی، فقرأ علیه جواب ما سأل.
ثُمَّ أقبل عَلَیَّ وهو یقرأ, فقال: وأما الزراری وحال الزوج والزوجة فأصلح الله ذات بینهما.
قال: فورد علیَّ أمرٌ عظیم, وقمنا, فانصرفت, فقال لی: قد ورد علیک هذا الأمر؟.
فقلتُ: أعجب منه قال: مثل أی شیء؟.
فقلت: لأنَّه سُّر لم یعلمه إلا الله تعالی وغیری، فقد أخبرنی به.
فقال: أتشک فی أمر الناحیة، أخبرنی الان ما هو؟.
فاخبرته، فعجب منه.
ثُمَّ قضی أن عدنا إلی الکوفة, فدخلت داری, وکانت أم العباس مغاضبة لی فی منزل أهلها، فجاءت إلیَّ، فاسترضتنی، واعتذرت ووافقتنی، ولم تخالفنی حتی فَرَّق الموت بیننا(1).
ص: 246
5 . واخبرنی بهذه الحکایة جماعة عن أبی غالب أحمد بن محمَّد بن سلیمان الزراری (رحمه الله) إجازة, وکتب عنه ببغداد أبو الفرج محمَّد بن المظفر فی منزله بسویقة غالب فی یوم الأحد لخمس خلون من ذی القعدة سنة ست وخمسین وثلاثمائة.
قال: کنت تزوجتُ بأمّ ولدی، وهی أوَّل أمرأة تزوجتها, وأنا حینئذٍ حدث السن، وسنی إذ ذاک دون العشرین سنة، فدخلت بها فی منزل أبیها، فأقامت فی منزل أبیها سنین, وأنا أجتهد بهم فی أن یحولوها إلی منزلی، وهم لایجیبونی إلی
ذلک، فحملت منِّی فی هذه المُدَّة, وولدت بنتاً, فعاشت مدَّة ثُمَّ ماتت, ولم أحضر فی ولادتها, ولا فی موتها, ولم أرها منذ ولدت إلی أن توفیت للشرور التی کانت بینی وبینهم.
ثُمَّ اصطلحنا علی أنَّهم یحملونها إلی منزلی؛ فدخلتُ إلیهم فی منزلهم، ودافعونی فی نقل المرأة إلیَّ، وقدَّر أن حملت المرأة مع هذه الحال، ثُمَّ طالبتهم بنقلها إلی منزلی علی ما اتفقنا علیه، فامتنعوا من ذلک، فعاد الشرُّ بیننا، وانتقلت عنهم، ووَلَدَتْ وأنا غائب عنها, بنتا،ً وبقینا علی حال الشرِّ والمضارمة(1) سنین لا آخذها؛ ثُمَّ دخلتُ بغداد، وکان الصاحب بالکوفة فی ذلک الوقت أبو جعفر محمَّد بن احمد الزجوزجی (رحمه الله)، وکان لی کالعمّ, أو الوالد, فنزلت عنده ببغداد، وشکوتُ إلیه ما أنا فیه من الشرور الواقعة بینی وبین الزوجة وبین الإحماء.
ص: 247
فقال لی: تکتب رقعة، وتسأل الدعاء فیها.
فکتبت رقعة، وذکرت فیها حالی، وما أنا فیه من خصومة القوم لی، وامتناعهم من حمل المرأة إلی منزلی، ومضیت بها أنا, وأبو جعفر (رحمه الله) إلی محمَّد بن علی, وکان فی ذلک الواسطة بیننا وبین الحسین بن روح (رضی الله عنه)، وهو إذ ذاک الوکیل، فدفعناها إلیه, وسألناه إنفاذها، فأخذها منِّی، وتأخر الجواب عنَّی أیاماً, فلقیته، فقلت له: قد ساءنی تأخر الجواب عنِّی، فقال لی: لایسؤوک هذا فإنَّه أحبّ لی، ولک، وأومأ الیَّ أن الجواب إن قرب کان من جهة
الحسین بن روح (رضی الله عنه)، وإنْ تأخر کان من جهة الصاحب علیه السلام، فانصرفت.
فلمَّا کان بعد ذلک، ولا أحفظ المُدَّة، لا أنَّها کانت قریبة، فوجَّه إلیَّ أبو جعفر الزجوزجی (رحمه الله) یوماً من الأیام، فصرتُ إلیه، فأخرج لی فصلاً من رقعة، وقال لی: هذا جواب رقعتک، فان شئت ان تنسخه فانسخه، ورُّده.
فقرأته فإذا فیه: والزُّوج والزوجة, فاصلح الله ذات بینهما.
ونسخت اللفظ, ورددت علیه الفصل، ودخلنا الکوفة، فسهل الله لی نقل المرأة بأیسر کلفة، وأقامت معی سنین کثیرة، ورزقت منِّی اولادا،ً واسأت الیها إساءات، واستعملت معها کل ما لا تصبر النساء علیه، فما وقعت بینی وبینها لفظة شرّ, ولابین أحد من أهلها إلی أن فَرَّق الزَّمان بیننا.
قالوا: قال أبو غالب (رحمه الله): وکنتُ قدیماً قبل هذه الحال قد کتبتُ رقعة, أسأل فیها أنْ یقبل ضیعتی, ولم یکن اعتقادی فی ذلک الوقت التقرَّب إلی
ص: 248
الله (عزَّ وجل) بهذه الحال، وإنَّما کان شهوة منِّی للاختلاط بالنوبختیین، والدُّخول معهم فیما کانوا فیه من الدُّنیا؛ فلم أُجَبْ إلی ذلک، وألححتُ فی ذلک، فکتب إلیَّ: أنْ اختر مَنْ تثق به، فاکتب الضیعة باسمه، فإنَّک تحتاج إلیها، فکتبتها باسم أبی القاسم موسی بن الحسن الزجوزجی ابن أخی أبی جعفر (رحمه الله) لثقتی به، وموضعه من الدیانة والنعمة.
فلم تمضِ الأیام حتی أسرنی الأعراب، ونهبوا الضیعة التی کنت أملکها، وذهب منِّی فیها من غِلاّتی، ودوابّی، وآلتی نحو من ألف دینار، وأقمت فی
أسرهم مدّة إلی أن اشتریت نفسی بمائة دینار، وألف وخمسمائة درهم، ولزمنی فی أجرة الرسل نحو من خمسمائة درهم فخرجت، واحتجت إلی الضَّیعة, فبعتها(1).
مع اننا نعلم بان الإمام المهدی عجل الله فرجه الشریف قد انقطع عن النَّاس، واستتر دونهم، حتی خفیت ولادته عن أکثرهم، ولکنَّه لم یکن ذلک علی نحو کلیّ، وإنَّما کان هو الغالب، ولذلک فقد حضی کثیر من المؤمنین بشرف لقائه فی حیاة أبیه علیه السلام, وبعد ذلک إلی حین إعلان الغیبة الکبری.بل، إنَّ باب اللقاء به بقی مفتوحاً حتی فی الغیبة الکبری, ولیومنا الحاضر, ولکن بشروط غیر عادیة.
قال السید رضی الدین علین بن طاووس (رحمه الله) فی کتابه الشریف (کشف المحجة) فی وصیته لولده:
ص: 249
(و اعلم یا ولدی محمَّد, ألهمک الله ما یریده منک، ویرضی به عنک! إنَّ غیبة مولانا المهدی (صلوات الله علیه) التی حیَّرت المخالف, والمؤالف؛ هی من جملة الحُجج علی ثبوت إمامته، وإمامة آبائه الطاهرین (صلوات الله علی جده محمَّد، وعلیهم أجمعین) لإنَّک إذا وقفت علی کتب الشیعة، وغیرهم مثل کتاب (الغیبة) لابن بابویه، وکتاب (الغیبة) للنعمانی، ومثل کتاب (الشفاء والجلاء)، ومثل کتاب أبی نعیم الحافظ فی (أخبار المهدی، ونعوته، وحقیقة مخرجه، وثبوته)، والکتب التی أشرتُ الیها فی کتاب (الطرائف)؛ وجدتَها، أو اکثرها
تضمنت قبل ولادته أنَّه یغیب علیه السلام غیبة طویلة حتی یرجع عن إمامته بعض مَنْ کان یقول بها فلو لم یغِب هذه الغیبة کان طعناً فی إمامة آبائه، وفیه فصارت الغیبة حجَّة لهم علیهم السلام، وحجَّة علی مخالفیه فی ثبوت إمامته، وصحة غیبته، مع أنَّه علیه السلام حاضر مع الله (جلَّ جلاله)علی الیقین، وإنَّما غاب مَنْ لم یلقه عنهم لغیبتهم عمَّن حضره للمتابعة له، ولرب العالمین).
وقال فی موضع آخر: (فإنْ أدرکتَ یاولدی موافقة توفیقک لکشف الأسرار علیک عرّفتک من حدیث المهدی (صلوات الله علیه) ما لایشتبه علیک، وتستغنی بذلک عن الحجج المعقولات، ومن الروایات، فإنه (صلی الله علیه) حی موجود علی التحقیق، ومعذور عن کشف أمره إلی أن یؤذن له تدبیر الله الرحیم الشفیق، کما جرت علیه عادة کثیر من الأنبیاء، والأوصیاء، فأعلم ذلک یقیناً، وأجعله عقیدة, ودیناً، فإنَّ أباک معرفته أبلغ من معرفة ضیاء شمس النَّهار).
وقال فی موضع آخر بعد تعلیم ولده کیفیة عرض حاجاته علیه علیه السلام:
ص: 250
(واذکر له أنَّ أباک قد ذکر لک أنَّه أوصی بک إلیه، وجعلک بإذن الله (جلَّ جلاله) عبده، وإنّنی علقتک علیه، فإنَّه یأتیک جوابه (صلوات الله وسلامه علیه).
ومما أقول لک یا ولدی محمَّد - ملأ الله (جلَّ جلاله) عقلک، وقلبک من التصدیق لأهل الصدق، والتوفیق فی معرفة الحق - أنَّ طریق تعریف الله (جلَّ جلاله) لک بجواب مولانا المهدی (صلوات الله وسلامه علیه) علی قدرته (جلَّ جلاله ورحمته), فمن ذلک ما رواه محمَّد بن یعقوب الکلینی فی کتاب الوسائل عمَّن سمَّاه قال: کتبت إلی أبی الحسن علیه السلام: إنَّ الرَّجل یجب أنْ یفضی إلی إمامه
ما یجب أن یفضی به إلی ربِّه؟.
قال: فکتب إنْ کانت لک حاجة, فحرِّک شفتیک, فإنَّ الجواب یأتیک.
ومِنْ ذلک مارواه هبة الله بن سعید الراوندی فی کتاب الخرائج عن محمَّد بن الفرج, قال: قال لی علی بن محمَّد علیهما السلام: إذا أردتَ أنْ تسأل مسألة، فاکتبها، وضع الکتاب تحت مصلاک، ودعه ساعة، ثُمَّ أخرجه، وانظر فیه.
قال: ففعلت، فوجدت جواب ما سألت عنه موقعاً فیه.
وقد اقتصرت لک علی هذا التنبیه والطریق مفتوحة إلی إمامک علیه السلام لمن یرید الله (جل شأنه) عنایته به, وتمام إحسانه الیه)(1).
فباب اللقاء به کان مفتوحاً, وما زال مفتوحاً...ولکن لمن شاء الله (عزَّ وجل) له شرف ذلک, لا علی نحو ادعاء المشاهدة الممنوعة والتوهمات, والاکاذیب التی راجت فی زماننا هذا مما أخرجهم عن رِبْقَة الایمان.
ص: 251
وقد حفظ لنا المؤرخون قوائم کثیرة لأسماء بعض اؤلئک الذین عاشوا فی عصر الغیبة الصغری،وقد سبق أن نقلنا بعض الرِّوایات الدَّالة علی ذلک، وهذه عدَّة روایات أخری:
1 . روی الشیخ الأقدم الفضل بن شاذان فی غیبته, قال: حدَّثنا إبراهیم بن محمَّد بن فارس النیسابوری, قال: لما هَمَّ الوالی عمرو بن عوف بقتلی، وهو رجل شدید النَّصب، وکان مولعاً بقتل الشیعة، فأُخبرتُ بذلک, وغلب علیَّ
خوف عظیم؛ فودَّعتُ أهلی، وأحبّائی، وتوجّهتُ إلی دار أبی محمَّد علیه السلام لأودِّعه، وکنت أردتُ الهرب، فلمَّا دخلتُ علیه رأیتُ غلاماً جالساً فی جنبه، وکان وجهه مضیئا کالقمر لیلة البدر، فتحَّیرت من نوره، وضیائه؛ وکاد أن أنسی ما کنت فیه من الخوف، والهرب، فقال: یا إبراهیم! لاتهرب؛ فإنَّ الله (تبارک وتعالی) سیکفیک شَرَّه.
فازداد تحیّری، فقلتُ لأبی محمَّد علیه السلام: یا سیدی! جعلنی الله فداک، مَنْ هو، وقد أخبرنی عمَّا فی ضمیری؟.
فقال: هو إبنی، وخلیفتی من بعدی، وهو الذی یغیب غیبة طویلة، ویظهر بعد إمتلاء الأرض جوراً وظلماً، فیملأها عدلاً،وقسطاً.
فسألته عن اسمه؟.
فقال:هو سمیّ رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وکَنِیُّهُ، ولا یحلّ لأحد أنْ یسمیّه باسمه، أو یکنّیه بکنیته الی أنْ یظهر الله دولتَه، وسلطنتَه؛ فاکتم، یا إبراهیم ما رأیت، وسمعت منّا الیوم إلا عن أهله.
ص: 252
فصلیت علیهما وآبائهما، وخرجتُ مستظهراً بفضل الله تعالی؛ واثقاً بما سمعته من الصاحب علیه السلام، فبشَّرنی علیّ بن فارس: بأن المعتمد قد أرسل أبا أحمد أخاه, وأمره بقتل عمرو بن عوف، فأخذه أبو أحمد فی ذلک الیوم، وقَطَّعَهُ عضواً عضواً، والحمد لله رب العالمین)(1).
2 . وروی الطوسی فی غیبته بإسناده عن محمَّد بن یعقوب، عن أحمد بن
النَّصر، عن القنبری من ولد قنبر الکبیر مولی أبی الحسن الرِّضا علیه السلام قال: جری حدیث جعفر, فشتمه.
فقلت: فلیس غیره, فهل رأیته؟.
قال: لم اره، ولکن رآه غیری.
قلت: ومن رآه؟.
قال: رآه جعفر مرتین، وله حدیث(2).
وحدَّث عن رشیق صاحب المادرای قال: بعث إلینا المعتضد، ونحن ثلاثة نفر، فأمرنا أن یرکب کلُّ واحد منَّا فرساً، ونجنب آخر، ونخرج مُخفِّین لایکون معنا قلیل, ولا کثیر إلا علی السرج مصلّی, وقال لنا: الحقوا بسامرة, ووصف لنا محلَّة, وداراً, وقال: إذا أتیتموها تجدون علی الباب خادماً أسود، فاکبسوا الدَّار، ومَنْ رأیتم فیها، فأتونی برأسه.
ص: 253
فوافینا, سامرة فوجدنا الأمر کما وصفه، وفی الدهلیز خادم أسود, وفی یده تکة ینسجها, فسألناه عن الدَّار, ومن فیها, فقال: صاحبها.
فو الله, ما التفت إلینا, وقلَّ اکتراثه بنا، فکبسنا الدَّار کما أمرنا، فوجدنا داراً سریة, ومقابل الدار ستر, ما نظرت قط إلی أنبل منه, کأن الایدی رفعت عنه فی ذلک الوقت، ولم یکن فی الدار أحد.
فرفعنا الستر, فإذا بیت کبیر, کأنَّ بحراً فیه ماء, وفی أقصی البیت حصیر قد علمنا أنَّه علی الماء، وفوقه رجل من أحسن الناس هیئة قائم یصلِّی، فلم یلتفت إلینا، ولا إلی شیء من أسبابنا.
فسبق أحمد بن عبد الله لیتخطی البیت, فغرق فی الماء وما زال یضطرب حتی مددت یدی إلیه, فخلصته, وأخرجته، وغشی علیه، وبقی ساعة، وعاد صاحبی الثانی إلی فعل ذلک الفعل فناله مثل ذلک, وبقیت مبهوتاً.
فقلت لصاحب البیت: المعذرة إلی الله، والیک، فوالله ما علمت کیف الخبر، ولا إلی من أجیء، وأنا تائب إلی الله.
فما التفت إلی شیء مما قلنا، وما انفتل عمَّا کان فیه، فهالنا ذلک، وانصرفنا عنه.
وقد کان المعتضد ینتظرنا، وقد تقدَّم إلی الحجاب إذا وافیناه أن ندخل علیه فی أی وقت کان.
فوافیناه فی بعض اللیل، فأدخلنا علیه، فسألنا عن الخبر، فحکینا له ما رأینا، فقال: ویحکم لقیکم أحد قبلی، وجری منکم إلی أحد سبب, أو قول؟.
ص: 254
قلنا: لا.
فقال: أنا نفی من جدِّی، وحلف بأشد أیمان له, أنَّه رجل إن بلغه هذا الخبر لیضربَّن أعناقنا.
فما جسرنا أن نحدَّث به إلا بعد موته(1).
3 . وروی الطوسی عن جماعة، عن محمَّد بن علی بن الحسین قال: اخبرنی أبی، ومحمَّد بن الحسن، ومحمَّد بن موسی بن المتوکل، عن عبد الله بن جعفر الحمیری، أنَّه قال: سألتُ محمَّد بن عثمان (رضی الله عنه)، فقلت له: رأیْتَ صاحب هذا الأمر؟.
فقال: نعم، وآخر عهدی به عند بیت الله الحرام، وهو یقول: اللّهُمَّ انجز لی ما وعدتنی.
قال محمَّد بن عثمان (رضی الله عنه)، ورأیته (صلوات الله علیه) متعلَّقاً بأستار الکعبة فی المستجار، وهو یقول: اللهم انتقم لی من أعدائک(2).
4 . وروی عن جماعة، عن أبی محمَّد هارون بن موسی التلعکبری، عن أحمد بن علی الرازی, قال: حدَّثنی شیخ ورد الری علی أبی الحسین محمَّد بن جعفر الأسدی، فروی له حدیثین فی صاحب الزَّمان علیه السلام, وسمعتهما منه کما سمع, واظن ذلک قبل سنة ثلاثمائة، أو قریباً منها, قال: حدَّثنی علیُّ بن إبراهیم الفدکی قال: قال الأودی:
ص: 255
بینا أنا فی الطواف قد طفت ستة، وأرید أن أطوف السابعة، فإذا أنا بحلقة عن یمین الکعبة, وشاب حسن الوجه، طیِّب الرائحة، هیوب، ومع هیبته متقرب إلی النَّاس، فتکلم، فلم أر أحسن من کلامه، ولا أعذب من منطقه فی حسن جلوسه، فذهبت أکلَّمه، فزبرنی النَّاس، فسألتُ بعضهم مَنْ هذا؟.
فقال: ابن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم یظهر للنَّاس فی کل سنة یوماً لخواصِّه، فَیُحَدِّثهم, ویحدثونه.
فقلت: مسترشد أتاک، فأرشدنی هداک الله.
قال: فناولنی حصاة، فحولت وجهی، فقال لی بعض جلسائه: ما الذی دفع الیک ابن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم؟.
فقلت: حصاة، فکشفت عن یدی, فإذا أنا بسبیکة من ذهب، فذهبت وإذا أنا به قد لحقنی، فقال: ثبتَتْ علیک الحجَّة، وظهر لک الحق، وذهب عنک العمی, أتعرفنی؟. فقلت: اللهم, لا.
فقال: أنا المهدی، أنا قائم الزَّمان، أنا الذی أملأها عدلاً کما ملئت ظلماً وجوراً، إنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة، ولا یبقی الناس فی فترة أکثر من تیه بنی إسرائیل(1).
ویمکن لمن أراد الزیادة أنْ یراجع الکتب المؤلفة فی مَنْ رأی الإمام عجل الله فرجه الشریف فی حیاة أبیه علیه السلام، وفی غیبته الصغری، وفی غیبته الکبری، وهی کتب جلیلة وکثیرة.
ص: 256
ومن مجموع تلک الأسباب وغیرها فقد انجلت الحَیْرَةُ عن عموم الشیعة بزمن قصیر لیس بالطویل، وثبت الحق, وآمن الشیعة بأنَّ إمامهم حیّ, وموجود, فإنَّه المذخور لإقامة الحق, وهو الذی سوف یملأ الارض قسطاً وعدلاً بعدما تملأ ظلماً وجوراً، جعلنا الله تعالی من أنصاره وأعوانه.
تمت کتابة البحث جوار حرم السیدة زینب بنت أمیر المؤمنین علیهما السلام فی قریة راویة دمشق الشام.
1 . هناک عدة روایات منعت من ذکره علیه السلام باسمه منها:
أ -- روی الصدوق فی کمال الدین / ج 2، ص 383، باب 37، ح 5، والطوسی فی الغیبة / ص 202، ح 169، والمفید فی الإرشاد ص 3318، والکلینی فی الکافی / ج 1، ص 328، کتاب الحجة / باب الاشارة والنَّص علی أبی محمَّد علیه السلام، ح 13، وغیرهم: والاسناد للصدوق رحمه الله تعالی: حدَّثنا محمَّد بن الحسن رضی الله عنه قال: حدَّثنا سعد بن عبد الله قال: حدَّثنا أبو جعفر محمَّد بن أحمد العلوی، عن أبی هاشم داود بن القاسم الجعفری قال: سمعت أبا الحسن صاحب العسکر علیه السلام یقول:
الخَلَفَ مِنْ بعدی ابنی الحسن, فکیف لکم بالخلف من بعد الخلف؟.
قفلت: ولِمَ جعلنی الله فداک؟.
فقال:
ص: 257
لانَّکم لا ترون شخصه, ولا یحل لکم ذکره باسمه.
قلت: فکیف نذکره؟.
قال:
قولوا: الحجَّة من آل محمد صلی الله علیه وآله وسلم.
ب -- وروی الصدوق فی کمال الدین / ج 2، ص323، باب 45، ح 1، قال: حدَّثنا المظفر بن جعفر بن المظفر العلوی رضی الله عنه, قال: حدَّثنی جعفر بن محمَّد بن مسعود، وحیدر بن محمَّد بن السمرقندی قالا: حدَّثنا أبو النضر محمَّد بن مسعود قال: حدَّثنا آدم بن محمَّد البخلی، قال: حدَّثنا علی بن الحسن الدقاق؛ وابراهیم بن محمَّد قالا: سمعنا علی بن عاصم الکوفی یقول: خرج فی توقیعات صاحب الزمان: ملعون ملعون مَنْ سَمَّانی فی محفل من الناس.
ج -- وروی الصدوق فی کمال الدین / ج 2، ص333، باب 33، ح 1، قال: حدَّثنا الحسین بن أحمد بن ادریس قال: حدَّثنا أبی، عن أیوب بن نوح، عن محمَّد بن سنان، عن صفوان بن مهران، عن الصادق جعفر بن محمد علیهما السلام إنَّه قال:
مَنْ أقرَّ بجمیع الأئمة، وجحد المهدی کان کمن أقرَّ بجمیع الأنبیاء, وجحد محمداً صلی الله علیه وآله وسلم نبوته.
فقیل له: یا بن رسول الله, فمن المهدی من ولدک؟. قال:
الخامس من ولد السابع، یغیب عنکم شخصه, ولایحل لکم تسمیته.
ص: 258
د -- روی الصدوق فی کمال الدین / ج 2، ص 368، باب 34، ح 6 قال: حدَّثنا أحمد بن زیاد بن جعفر الهمدانی رضی الله عنه قال: حدَّثنا علی بن ابراهیم بن هاشم، عن أبیه، عن أبی أحمد محمَّد بن زیاد الأزدی قال: سألت سیدی موسی بن جعفر علیه السلام عن قول الله عزَّ وجل:
((أَسْبَغَ عَلَیْکُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً))(1).
فقال:
النعمة الظاهرة الإمام الظاهر، والباطنة الإمام الغائب.
فقلت له: ویکون فی الأئمة من یغیب؟.
قال:
نعم, یغیب عن أبصار الناس شخصُه، ولایغیب عن قلوب المؤمنین ذکرُه، وهو الثانی عشر منّا، یسهِّل الله له کل عسیر، ویذلِّل له کل صعب، ویُظهِر له کنوز الأرض، ویقرِّب له کل بعید، ویُبیْرُ به کل جبار عنید، ویهلک علی یده کل شیطان مرید، ذلک ابن سیدة الإماء الذی تخفی علی الناس ولادته، ولایحل لهم تسمیته حتی یظهره الله عزَّ وجل, فیملأ الأرض قسطاً وعدلا کما ملئت جوراً وظلما.
قال مصنف هذا الکتاب رضی الله عنه [یعنی الشیخ الصدوق]: لم أسمع هذا الحدیث إلا من أحمد بن زیاد ابن جعفر الهمدانی رضی الله عنه بهمدان عند منصرفی من حج بیت الله الحرام، وکان رجلا ثقة دینا فاضلاً رحمة الله علیه ورضوانه.
ص: 259
ه- -- وروی الصدوق فی کمال الدین / ج2، ص377، باب 36، ح2، قال: حدَّثنا محمَّد بن أحمد الشیبانی [السنانی خ.ل] رضی الله عنه, قال: حدَّثنا محمَّد بن أبی عبد الله الکوفی، عن سهل بن زیاد الادمی، عن عبد العظیم بن عبد الله الحسنی, قال: قلت لمحمَّد بن علی بن موسی علیه السلام: إنی أرجو أن یکون القائم
من أهل بیت محمَّد الذی یملأ الأرض قسطاً وعدلا کما ملئت جوراً وظلماً.
فقال:
یا أبا القاسم ما منَّا إلا وهو قائم بأمر الله عزَّ وجل، وهاد إلی دین الله؛ ولکنَّ القائم الذی یطهِّر الله عزَّ وجل به الأرض من أهل الکفر والجحود، ویملأها عدلا وقسطا هو الذی تخفی علی الناس ولادتُه، ویغیب عنهم شخصُه، ویحرُم علیهم تسمیته، وهو سمیُّ رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وکَنِیُّهُ، وهو الذی تُطوی له الأرض، ویُذلُّ له کلُّ صعب, [و] یجتمع إلیه من أصحابه عدَّة أهل بدر: ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً من أقاصی الأرض، وذلک قول الله عزَّ وجل:
((أَیْنَ مَا تَکُونُوا یَأْتِ بِکُمُ اللَّهُ جَمِیعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَی کُلِّ شَیْءٍ))(1).
فإذا اجتمعت له هذه العدَّة من أهل الاخلاص أظهر الله أمره؛ فاذا کمل له العقد, وهو عشرة آلاف رجل, خرج بإذن الله عزَّ وجل, فلا یزال یقتل أعداء الله حتی یرضی الله عزَّ وجل.
قال عبد العظیم: فقلت له: یا سیدی, وکیف یعلم أنَّ الله عزَّ وجل قد رضی؟.
ص: 260
قال:
یلقی فی قلبه الرَّحمة، فاذا دخل المدینة أخرج اللات والعزی فأحرقهما وهناک.
روایات اخری کثیرة تحرِّم تسمیته عجل الله فرجه الشریف حتی أنَّه ألَّف بعض علمائنا قدس الله تعالی أسرارهم کتبا استدلالیة فی حرمة تسمیته، منها کتاب (شرعیة
التسمیة) للسید الداماد (رحمه الله).
أ -- کما ورد ذلک فی الخبر الذی رواه الصدوق فی کمال الدین/ ج 2، ص433، باب 42، ح 16، قال: حدَّثنا أبو العباس أحمد بن عبد الله بن مهران الآبی الازدی العروضی بمرو، قال: حدَّثنا أحمد بن الحسن بن اسحاق القمِّی, قال: لما ولد الخلف الصالح علیه السلام ورد عن مولانا أبی محمد الحسن بن علی علیهما السلام إلی جدِّی أحمد بن اسحاق کتاب، فاذا فیه مکتوب بخط یده علیه السلام الذی کان ترد به التوقیعات علیه، وفیه: وَلِدَ لنا مولود, فلیکن عندک مستورا, وعن جمیع الناس مکتوما, فإنَّا لم نظهر علیه إلا الأقرب لقرابته, والولی لولایته؛ أحببنا إعلامک لیسُرَک الله به، مثل ما سَّرنا به, والسلام.
ب -- وروی الصدوق فی کمال الدین / ج 2، ص 432، باب 43، ح 11، قال:حدَّثنا محمَّد بن علی ماجیلویه رضی الله عنه قال: حدَّثنا محمَّد بن یحیی العطار, قال: حدَّثنا الحسین بن علی النیسابوری قال:حدَّثنا الحسین بن المنذر, عن حمزة بن أبی الفتح, قال: جاءنی یوما فقال لی: البشارة؛ ولد البارحة فی الدار مولود لأبی محمَّد علیه السلام, وأمر بکتمانه.
ص: 261
قلت: وما اسمه؟.
قال: سُمِّی بمحمَّد وکُنِّی بجعفر.
ج -- وروی الصدوق فی کمال الدین/ ج 2، ص 474، باب 43، ح 25، قال: وقال أبو الحسن علی بن محمَّد بن حباب [الخشاب خ.ل] حدَّثنی أبو الأدیان,
قال: قال عقید الخادم: وقال أبو محمَّد بن خیرویة, التستری, وقال حاجز الوشاء کلّهم حکوا عن عقید الخادم، وقال أبو سهل بن نوبخت: قال عقید الخادم: ولد ولیُّ الله الحجَّة بن الحسن بن علیّ بن محمَّد بن علیّ بن موسی بن جعفر بن محمَّد بن علیّ بن الحسین بن علیّ بن أبی طالب (صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین), لیلةَ الجُمعة, غُرَّةَ شهرِ رمضان, سنة أربعٍ وخمسین ومائتین من الهجرة، ویکُنی أبا القاسم, ویقال: أبو جعفر، ولقبه المهدی, وهو حجة الله (عزَّ وجل) فی أرضه علی جمیع خلقه، وأُمُّه صقیل الجاریة, ومولده بِسُرَّ مَنْ رأی فی درب الراضة, وقد اختلف الناس فی ولادته, فمنهم مَنْ أظهر, ومنهم من کتم, ومنهم من نهی عن ذکر خبره، ومنهم من أبدی ذکره، والله أعلم به.
أ -- وهو أمر متواتر معنویاً ومن تلک الورایات: ما رواه الصدوق فی کمال الدین / ج 2، ص 441، باب 43، ح 14 قال: حدَّثنا أبی ومحمَّد بن الحسن رضی الله عنهما, قالا: حدَّثنا عبد الله بن جعفر الحمیری, قال: کنت مع أحمد بن اسحاق عند العَمْری رضی الله عنه, فقلت للعمری: إنِّی أسألک عن مسألة کما قال الله عزَّ وجل فی قصة ابراهیم:
ص: 262
((قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَی وَلَکِنْ لِیَطْمَئِنَّ قَلْبِی))(1).
هل رأیت صاحبی؟.
فقال لی: نعم, وله عنق مثل ذی -- واومأ بیدیه جمیعا إلی عنقه.
قال: إیاک أنْ تبحث عن هذا, فإنَّ عند القوم أنَّ هذا النسل قد انقطع.
ب -- وروی الشیخ الثفة محمَّد بن ابراهیم النعمانی من أعلام القرن الرابع ومن تلامذة الکلینی صاحب الکافی فی کتابه الشریف المسمّی بالغیبة / ص151، باب10، ح 9، قال:
أخبرنا عبد الواحد بن عبد الله بن یونس قال: حدَّثنا أحمد بن محمَّد بن رباح الزهری، عن أحمد بن علی الحمیری، عن الحسن بن أیوب، عن عبد الکریم بن عمرو الخثعمی، عن محمَّد بن عصام قال: حدَّثنی المفضل بن عمر, قال: کنتُ عند أبی عبد الله فی مجلسه, ومعی غیری, فقال لنا: إیَّاکم التنویه -- یعنی باسم القائم علیه السلام وکنت اراه یرید غیری.
فقال لی: یا أبا عبد الله؛ إیَّاکم والتنویه, والله لیغیبن سبتاً من الدهر، ولیخملن حتی یقال: مات, أو هلک, بأیّ واد سلک، ولتفیض علیه أعین المؤمنین، ولیکفأن کتکفئ السفینة فی أمواج البحر حتی لا ینجو الا من أخذ الله میثاقه، وکتب الإیمان فی قلبه، وأیّدَه بروح منه، ولترفعن اثنتا عشرة رایة, مشتبهة, لایعرف أی من أی.
قال المفضل: فبکیت؛ فقال لی: ما یبکیک؟.
ص: 263
قلت: جعلت فداک کیف لا أبکی, وأنت تقول: ترفع اثنتا عشرة رایة مشتبهة لا یعرف أی من أی.
قال: فنظر إلی کُوَّة فی البیت التی تطلع فیها الشمس فی مجلسه, فقال: أهذه الشمس مضیئة؟.
قلت: نعم، فقال: والله لأمرنا أضوء منها.
ج -- وروی الشیخ النعمانی فی الغیبة / ص152، باب 10، ح10، عن محمَّد بن همَّام قال: حدَّثنا جعفر بن محمَّد بن مالک، وعبد الله بن جعفر الحمیری جمیعاً, قالا: حدَّثنا محمَّد بن الحسین بن أبی الخطاب، ومحمَّد بن عیسی, وعبد الله بن عامر القصبانی جمیعاً, عن عبد الرحمن بن أبی نجران, عن محمَّد بن مسامر، عن المفضَّل بن عمر الجعفی, قال: سمعت الشیخ یعنی أبا عبد الله, یقول: إیَّاکم والتنویه؛ أما والله لیغیبن سبتاً من دهرکم، ولیخملن حتی یقال: مات، هلک، بأی واد سلک؟ ولتدمعن علیه عیون المؤمنین، ولیکفأن تکفأ السفینة فی أمواج البحر، فلا ینجو إلا مَنْ أخذ الله میثاقه، وکتب فی قلبه الإیمان, وأیّدَّه بروح منه، ولیرفعن اثنتا عشرة رایة مشتبهة لا یدری أی من أی.
قال: فبکیت.
ثُمَّ قلت له: کیف نصنع؟.
فقال: یا أبا عبد الله -- ثم نظر إلی شمس داخلة فی الصّفة -- أتری هذه الشمس؟.
فقلت: نعم، فقال: لأمرنا أبین من هذه الشمس.
ص: 264
د -- وروی الشیخ النعمانی فی الغیبة / ص323، باب23، ح3، قال: حدَّثنا عبد الواحد بن عبد الله بن یونس, قال: حدَّثنا محمَّد بن جعفر القرشی, قال: حدَّثنا محمَّد بن الحسین بن أبی خطاب، عن محمَّد بن سنان, عن أبی الجارود, قال: قال لی أبو جعفر علیه السلام: لا یکون هذا الأمر إلا فی أخملنا ذکرا, وأحدثنا سنّاً.
ه- -- وروی فی الغیبة /ص322، باب23 قال: أخبرنا علیُّ بن أحمد، عن عبید الله بن موسی قال: حدَّثنی محمَّد بن الحسین بن أبی الخطاب، عن محمَّد بن سنان، عن أبی الجارود، عن أبی جعفر الباقر علیه السلام انه سمعه یقول:
الأمر فی أصغرنا سنّاً، وأخملنا ذکراً.
ص: 265