سرشناسه : شمس الدين، محمدمهدي، 1931 - 2001م.
Shams al - din, Muhammad Mahdi
عنوان و نام پديدآور : دراسه واعيه لقضيه الغدير (في ضوء المنهج الاجتماعي التاريخي)/تاليف محمدمهدي شمس الدين.
مشخصات نشر : تهران: مشعر، 1386.
مشخصات ظاهري : 32 ص.
شابك : 3000 ريال:978-964-540-049-9
وضعيت فهرست نويسي : فيپا
يادداشت : عربي.
يادداشت : بالاي عنوان: المنهج الاجتماعي التاريخي في دراسه نصوص الخلافه.
يادداشت : كتابنامه.
عنوان ديگر : المنهج الاجتماعي التاريخي في دراسه نصوص الخلافه.
موضوع : علي بن ابيطالب(ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق. -- اثبات خلافت.
موضوع : غدير خم.
موضوع : اسلام و اجتماع.
رده بندي كنگره : BP223/5/ش8د4
رده بندي ديويي : 297/452
شماره كتابشناسي ملي : 1083870
ص:1
ص:2
ص:3
ص:4
ص: 5
بسم الله الرحمن الرحيم
يستقبل الشيعة اليوم الثامن عشر من شهر ذي الحجّة في كلّ عام ببُشر وابتهاج؛ لأنّه يحمل إليهم ذكرى اليوم التاريخي الذي حدّد فيه النبيّ (ص) شكل الحكم الذي سيوجّه المسلمين بعده، وعيّن فيه للمسلمين الرجل الذي سيخلفه في عمله التطويري العظيم، وهو (عليّ بن أبي طالب (ع)).
اليوم الذي أعلن فيه الوحي كمال الدِّين بتعيين عليّ أميراً للمؤمنين بعد النبيّ (ص) وذلك هو قوله تعالى:
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْاسْلَامَ دِيناً(1).
ص: 6
وموقف الشيعة من ذكرى الغدير يرمز إلى نقطة بارزة من نقاط الخلاف بين الشيعة وبين فريق آخر من المسلمين، وهي مسألة النصّ في الخلافة.
فيرى الشيعة أنّ الخلافة بعد النبيّ (ص) لا تكون إلّا لمن نصَّ عليه النبيّ، بينما يرى الفريق الآخر من المسلمين أنّ النصّ ليس شرطاً لصحّة الخلافة بعده.
ويرى الشيعة- تمشيّاً مع موقفهم الأوّل- أنّ النبيّ (ص) نصَّ على عليّ بن أبي طالب (ع) ليتولّى مهامّ الحكم بعده، بينما يرى الفريق الآخر من المسلمين أنّ نصّاً من هذا القبيل لم يصدر من النبيّ على الإطلاق.
ويسوق الشيعة نصوصاً كثيرة رواها غيرهم من المسلمين، وهي ناطقة بصحّة دعواهم، بينما يؤوّل الفريق
ص: 7
الآخر من المسلمين هذه النصوص بما يرى أنّه يسلبها قيمتها الاستدلاليّة.
ويستطيع الباحث الذي يريد أن يعالج المسألة على صعيد علمي أن يتّبع أحد منهجين للبحث:
يستطيع أن يتّبع المنهج التاريخي فيعرض جميع النصوص التي يدور حولها الجدل، ثمّ يحاول استنطاق هذه النصوص على ضوء العقل والمنطق، وبروح علمي موضوعي، ثمّ يستخلص النتيجة النهائية لبحثه.
ويستطيع أن يتّبع المنهج الاجتماعي التاريخي، فيستعرض الظروف الاجتماعية والنفسيّة التي تحيط بالمسألة التي يُراد تكوين رأي صحيح عنها، مستعيناً بالمسلّمات الاجتماعيّة والنفسيّة، والنصوص التاريخيّة التي
ص: 8
تنير له بعض المنعطفات التي تواجهه خلال البحث.
ويبدو لي أنّ اتّباع المنهج الثاني يجعل الباحث أكثر موضوعيّة في المسائل ذات العلاقة الحميمة بما يعتقده الباحث- كمسألتنا- أمّا المنهج الأوّل فإنّه قد لا يوفّر لبعض الباحثين قدراً كافياً من الانفصال عن موضوع بحثهم حيث إنّه يقضي عليهم باستنطاق نصوص تاريخيّة من القريب جدّاً أن تؤثّر عقيدتهم الخاصّة على فهمهم لها.
على أنّ المنهج الأوّل- وهو يقوم على الفهم الشخصي للنصّ التاريخي- يفتح باب الجدل على مصراعيه حتّى في الحالات التي يكون النصّ فيها شديد الوضوح؛ لأنّ لكلّ إنسان أن يدّعي فهماً معيّناً للنصّ.
وهذا ما يجعلني أفضل اتّباع المنهج الاجتماعي- التاريخي في بحثي هذا.
ص: 9
الإسلام هو الدِّين الذي أرسل الله تعالى به نبيّه محمّداً (ص) إلى جميع امم الأرض. وهو الدِّين الذي ختمت به رسالات السماء إلى الناس فلن يتلقّى عالمنا من قبل الله تعالى بعده رسالة غيره حتّى تتبدّل الأرض غير الأرض والسماوات.
وهو الدِّين الذي تضمّنت مبادؤه الحلول الحكيمة لجميع المعضلات التي تواجه الإنسان في حياته الدُّنيا. فمعضلات الروح والجسد، ومشاكل الفرد والاسرة والمجتمع، قدّم الإسلام لها الحلول الواقعيّة الكفيلة بأن تقدِّم للإنسان لو اتّبعها سعادةً وتقدّماً وازدهاراً لجميع قوى الخير فيه.
ص: 10
هذه الحلول التي لم تصل المجتمعات التي لا تؤمن بالإسلام إلى البعض القليل منها إلّا في هذا العصر، وبعد مآسي كثيرة وكفاح دامٍ خاضته الجماعات المظلومة لانتزاع حقوقها المغتصبة.
وإذن فهو ثورة شاملة، لم يعرف لها في شمولها وعمقها واتّساعها نظير في جميع ما شهدته الإنسانية من ثورات شاملة عبر العصور.
وهذه حقيقة يؤمن بها جميع المسلمين سواءً في ذلك الشيعة أو الفريق الآخر الذي يخالفهم في مسألة الخلافة.
وقد كانت البيئة الاجتماعية التي انطلقت فيها الدعوة الإسلاميّة هي المجتمع العربي الجاهلي.
والملامح البارزة في هذا المجتمع هي أنّه كان مجتمعاً أُمّياً ينتج أدباً رفيعاً، ولكنّه لم يشارك في ثقافات عصره بشي ء.
ص: 11
وكان مجتمعاً يخضع لنظام في الاجتماع هو القبليّة ليست النظرة القوقعيّة الضيّقة إلى الكون والحياة والإنسان إلّا إحدى نتائجه السيّئة.
ويخضع لنظام في الاقتصاد يعتبر النهب والسرقة مصدراً معتَرفاً به من مصادر الثروة.
ويخضع لنظام في الاسرة يعتبر الانثى مصدراً للعار، ويغلو بعض أقسامه في هذا الاتّجاه فيعتبر وأد الانثى عملًا نبيلًا.
ويخضع لنظام في القضاء يعتمد في أفضل صوره على الكهانة.
وتطغى فيه الفردية العنيفة حاملة مع حسناتها كلّ سيّئاتها.
ويدين معظمه بوثنيّة غليظة جافّة عاجزة عن أن تقدِّم لصاحبها المتعة الفنّية فضلًا عن أن تنمّي فيه الضمير
ص: 12
الديني بكلّ طهره وسموّه ونقائه.
هذه بعض الملامح البارزة للمجتمع العربي قبل الإسلام، وقد يختلف الباحثون الحياديّون في هذه النقطة أو تلك ولكنّهم لا يختلفون في جميع النقاط.
وقد كان على الإسلام أن يحوّل هذا المجتمع تحويلًا شاملًا ليتسنّى له أن يتخطّى حدوده إلى المجتمعات الاخرى.
كان على الإسلام أن يقضي على نظام القبيلة ليكوِّن من العرب امّة.
وكان عليه أن يفتح قلب العربي وعقله للعالم كلّه بعد أن كانت القبيلة هي كلّ عالمه.
وكان عليه أن يجعل العربي مؤمناً بالمغزى الاجتماعي للثروة فيدفعه إلى المساهمة بجهده الخاصّ في بناء اقتصاد المجتمع بعد أن كان يفتخر باللصوصيّة.
ص: 13
وكان عليه أن يردّ إلى الانثى اعتبارها الإنساني، ويرفعها إلى مرتبة الرجل في كلّ ما تصلح له من الشؤون بحسب تكوينها الجسدي والعقلي والنفسي، بعد أن كانت في نظر العربي سبّة وعاراً «وشيئاً» من الأشياء.
وكان عليه أن يجعله مؤمناً بأنّ العدوان على الغير جريمة يُعاقب عليها بعد أن كانت مصدر فخر.
وكان عليه أن يكبح جماح الفرد بالمقدار الذي يكفل للمجتمع أن يستقرّ وينمو بسلام.
وكان عليه أن يكوِّن له ضميراً دينيّاً، وأن يعدَّه ليكون حامل الرسالة إلى جميع الشعوب.
وبالجملة، كان على الإسلام أن ينسف جميع قيم الحياة المتعارفة في المجتمع العربي الجاهلي، ويُعيد بناء هذه الحياة من جديد على قيم للحياة لم يعهدها العربي الجاهلي على الإطلاق.
ص: 14
وهنا يأتي دور التساؤل عن المدى الزماني الذي يستغرقه هذا التحوّل الشامل لجميع مظاهر حياة الإنسان سواءً منها النفسي الشعوري، أو الحركي المادّي؟
أجدني مرغماً على القول بأنّ المدى الزماني لن يكون قصيراً بحال من الأحوال، فإنّ عمليّة التحوّل الاجتماعي ليست عملية كيمائيّة تتمّ في لحظات أو ساعات، وليست عملية نموّ تستغرق شهوراً أو سنين، وإنّما هي عمليّة إماتة قيم يمدُّها بأسباب الحياة كلُّ ما حولها من مظاهر الحياة الاجتماعية والنفسيّة، وتجاهد في سبيل إماتتها عقيدة عزلاء، وعمليّة إحياء قيم يكافحها كلّ ما يحيط بها من مظاهر الحياة الاجتماعية والنفسيّة، وتجاهد في سبيل بعثها عقيدة عزلاء.
ولكي نكوِّن فكرة صحيحة عن المدى الزماني الذي يستغرقه التحوّل الاجتماعي يجب أن نُدخل في حسابنا
ص: 15
مسألة الرواسب النفسيّة. فمن الحقائق الاجتماعيّة النفسيّة أنّ العقائد والنُّظم التي توارثتها الأجيال تتحوّل في نفوس أتباعها، مع الأيّام، إلى طاقة شعوريّة فلا يعود للعقل كبير سلطان عليها، وتتحكّم في معتنقها تحكّماً يكاد يكون تامّاً، ولا يكون من السهل حينئذ نقضها بالجدل المنطقي، فإذا جاءت عقيدة أُخرى غريبة تحاول فرض نفسها على الفرد والمجتمع كافحت العقيدة القديمة كفاحاً هائلًا في سبيل البقاء تعينها في معركتها كلّ القيم والاصول الاجتماعيّة والأعراف العامّة. فإذا قدِّر للعقيدة الجديدة أن تتغلّب، تستمرّ الاخرى في كفاحها سرّاً من أجل البقاء، وحينئذ فإمّا أن تدفع العقيدة القديمة من لا تزال مستحكمة فيهم من أفراد المجتمع إلى القيام بثورة عارمة تحطّم جميع انتصارات العقيدة الجديدة، وإمّا أن تتقمّص الأشكال المادّية لقيم العقيدة الجديدة بطريقة تجعل القائمين على أمر العقيدة المنتصرة غافلين عنها، هذا إذا لم يأخذوا أنفسهم
ص: 16
باتّباع منهج صارم في توطيد أركان العقيدة الجديدة بحيث يقطعون عن العقيدة القديمة كلّ سُبل الحياة.
وإنّ هذا ليحملنا على القول بأنّ المدى الزماني للتحوّل الاجتماعي لابدّ أن يكون طويلًا جدّاً.
فلابدّ أن تنقضي عقود من السنين قبل أن ينقرض الجيل الذي شبّ، وتكيّفت حياته وفقاً لقيم العقيدة القديمة، ولابدّ أن تنقضي عقود من السنين قبل أن ينقرض الجيل الذي نشأ في رعاية الجيل الأوّل هذا الجيل الذي لا ريب في أنّه قد تلقّى إيحاءات قويّة بالقيم القديمة من الجيل الأوّل، ولابدّ أن تنقضي عقود من السنين قبل أن ينقرض الجيل الثالث الذي تعرّض لإيحاءات لا يمكن تجاهل خطرها من الجيل السابق الذي نشأ في رعايته، وحينئذ يمكن القول بأنّ الجيل التالي يتمتّع بقيم جديدة
ص: 17
ثابتة لا تتعرّض لرفض لا شعوري من قيم مخالفة لها.
ولابدّ أن تكون قيادة المجتمع الذي يُراد تحويله- طيلة هذه العقود من السنين- في يد أشخاص جعلهم استيعابهم للعقيدة الجديدة بكلّ عمقها واتّساعها، وجعلتهم إحاطتهم بجميع أبعادها، قادرين على أدائها للمجتمع خالصة من كلّ تحريف وضلال.
وجعلهم خلوص عقولهم ونفوسهم من كلّ عنصر غريب عن العقيدة الجديدة قادرين على الإحساس بكلّ عنصر غريب يتلصّص إليها ليتقمّص أشكالها المادّية، ثمّ يقوِّضها من الداخل.
وجعلهم إخلاصهم لها، وفناؤهم فيها، قادرين على أن يواجهوا العالم كلّه لو تكتّل ضدّهم، غير مستعدّين للتنازل عن ذرّة منها ولو كلّفهم ذلك وجودهم ذاته.
ولابدّ أن يأخذ هؤلاء القادةُ أنفسَهم باتّباع منهج صارم يسدّ على العقيدة القديمة جميع منافذ التعبير عن نفسها،
ص: 18
ويعمل على تغلغل العقيدة الجديدة في كلّ مظاهر الحياة الاجتماعية والفردية في الوسط البشري الذي يُراد نشر العقيدة فيه.
وحينئذ تتمّ للتحوّل الاجتماعي الحقيقي الحاسم شروطه الضروريّة، وحينئذ يولد المجتمع من جديد.
وبعد أن نعلم أنّ الإسلام رسالة يُراد منها أن تحوّل حياة المجتمعات الإنسانية وفقاً لقيم جديدة على هذه المجتمعات، رسالة أعلنت الحرب على كلّ ما تبثّه الديانات والمبادئ المريضة والهابطة في نفوس الناس من تضليل وانحراف في جميع العصور.
وبعد أن نعلم أنّ النبيّ (ص) لم يقدّر له أن يبقى حيّاً إلى الوقت الذي يرى فيه الجيل الجديد من المسلمين وقد بلغ من العمر مرحلة يصلح فيها لتحمّل التبعات، بل توفّاه الله والجيل القديم الذي خرج أكثره من الوثنية بدافع
ص: 19
الرغبة أو الرهبة، لا بدافع الإيمان الواعي بالرسالة، هو الذي يكوِّن المجتمع الإسلامي.
وبعد أن نعلم أنّ المجتمع الإسلامي المتكوِّن من أشخاص لا تزال رواسب العقائد القديمة تعمل عملها المدمِّر فيهم، والآخذ نفسه بالسير وفق هذه العقيدة الجديدة هذا المجتمع يعيش في بحر من البغضاء، يحيط به أعداؤه من العرب والفرس والروم وغيرهم.
بعد أن نعلم هذه الامور نتساءل:
مَن هو المسؤول عن اندحار العقيدة الإسلاميّة أمام الوثنية الجاهلية والقيم الجاهلية؟ ومَنْ هو المسؤول عن إخفاقها في تحويل المجتمع تحويلًا كاملًا وفقاً لقيمها الجديدة؟
إنّ الجواب المنطقي الذي لا أخال أحداً يجادل فيه هو أنّ المسؤول عن كلّ ذلك هو صاحب الدعوة ذاته إذا كان إخفاقها يرجع إلى تفريط منه في حفظها، وصيانتها، والاحتياط لها.
ص: 20
وهنا نقف أمام مسألة الحكم في الإسلام وجهاً لوجه.
فما هو الموقف الذي يقضي العقل بنسبته إلى النبيّ (ص) في هذه المسألة على ضوء ما عرفناه آنفاً من طبيعة الإسلام، وواقع المجتمع الذي انطلق فيه، وشروط التحوّل الاجتماعي الذي يهدف الإسلام إلى تحقيقه.
إنّه صاحب رسالة هذه أهدافها وهذه مشاكلها، يحتضنها مجتمع هذا واقعه، وهو رئيس دولة هذه ظروفها، فلابدّ أن يحتاط لرسالته ولدولته، ويمعن في الاحتياط، ولابدّ أن يوفّر لهما كلّ ما يستطيعه من الضمانات التي تهي ء لهما أن يأخذا حظّهما من الحياة والنموّ والانتشار، فهل الموقف الذي يقضي العقل بنسبته إليه هو أن يترك رسالته ودولته في رعاية مجتمع كهذا، وفي محيط دولي كهذا بلا أن يعهد برعايتها إلى خلف يثق به، ويأمن له، ويأمل الخير لرسالته ودولته منه؟ وحينئذ فما الذي يضمن له سكوت أعداء
ص: 21
رسالته ودولته عنهما، وما الذي يجعله مطمئنّاً إلى أنّهم لن يكيدوا لهما بكلّ ما يملكون من وسائل الكيد؟ بل ما الذي يؤمنه من أن ينتقض المجتمع العربي نفسه على رسالته ودولته، هذا المجتمع الذي لا تزال القيم الجاهلية حيّة في أعماقه كأقوى ما تكون الحياة، فيقضي عليهما ويرجع إلى قيمه الجاهلية التي لا يزال يحبّها، ويأنس بها، ويسكن إليها.
ولو حدث هذا أو ذاك نتيجة لتصرّفه هو وإهماله هو فما الذي يرفع عنه- أمام الله وأمام التاريخ- مسؤولية اندحار العقيدة الإسلاميّة أمام الوثنيّة الجاهلية والقيم الجاهليّة؟
أو أنّ الموقف الذي يقضي العقل بنسبته إليه وهو الإنسان الذي اختاره الله للنبوّة وخصّه بالرسالة، وهو الإنسان الذي أمر بالوصيّة وحضّ عليها، وهو الإنسان الذي كان يكره أن يسافر ثلاثة ولا يؤمّروا عليهم أحدهم،
ص: 22
وهو الإنسان الذي فصّل التبعات وحدّدها- إنّ الموقف هو أن يكون قد وعى أهداف رسالته، ومشاكلها، ومحيطها الاجتماعي، وظروف دولته السيّئة، فاحتاط لكلّ ذلك بأن عهد بمركز القيادة بعده إلى مَن يؤمن بحسن قيامه على الدعوة والدولة.
أجدني مضطرّاً إلى القول بأنّ العقل يقضي عليه بالتزام الموقف الثاني، ولا أخال أحداً يخالفني في هذا بعد أن يحيط بجميع أبعاد المسألة وحدودها، وإلّا فإنّه يجعل نفسه أوعى لمسؤوليّاته من النبيّ (ص) حيث إنّه لا يرضى بأن يغيب عن أهله أو ماله مدّة دون أن يعهد بهم إلى من يثق به، ويأمن له، ويؤمل الخير منه.
ولو عذرنا النبيّ في ترك النصّ على مَن يتولّى مهمّة الحكم والتبليغ بعده، واختلقنا من المبرّرات ما يصلح أن
ص: 23
يكون عذراً له في هذا الأمر، فهل تنحلّ المشكلة عند هذا؟
الحقّ أنّ المشكلة لا تنحلّ أبداً، بل تبقى قائمة كما هي، ولكنّها تنقلنا إلى مجال آخر.
فإذا كان لدى النبيّ (ص) من العذر ما يحُول بينه وبين تعيين خلف له، فهل الموقف الذي يقضي العقل بنسبته إلى النبيّ (ص) هو أن يترك للمسلمين تشريعاً يبيّن لهم فيه نظام الحكم الذي يتّبعونه في تعيين خلف له؟ أو أنّ ما يقضي بنسبته إليه هو أن يترك المسلمين بلا تعيين حاكم وبلا نظام يتّبعونه في تعيين الحاكم؟
في الباحثين من غير الشيعة من يذهب إلى الثاني معلّلًا ذلك بأنّ النبيّ لم يشأ أن يقيّد المسلمين بتشريع منه قد لا يصلح لهم في مستقبل الأيّام.
ولكن هذا القول كفيل بأن يجعل من تصرّف النبيّ مهزلة بين أصحاب الرسالات وقادة المجتمعات، فما الذي منع النبيّ (ص) من أن يسنَّ للمسلمين تشريعاً في الحكم،
ص: 24
ثمّ يضع له من الضوابط ما يكفل له أن يكون مرناً لا يستعصي على التحوير حينما تتغيّر الحياة ويتبدّل الأحياء؟
بل ما الذي منع النبيّ من أن يسنّ تشريعاً وقتيّاً للحكم يضمن لدولته التماسك، ولرسالته اطّراد الانتشار والتغلغل إلى ما بعد مضيّه إلى الله بعقود من السنين، حيث تثبت أركان الدولة ويستحكم سلطان الرسالة؟ وهو عندما يصرّح بأنّ هذا تشريع موقّت تقضي به الضرورة فإنّه يترك للمسلمين حريّة التصرّف بعد زوال الأسباب الموجبة للتشريع الموقّت؟
وإذن فلا يسعنا أن نحترم عقولنا ثمّ نسلّم بأنّ النبيّ (ص) ترك رسالته ودولته وهذه مشاكلهما وظروفهما دون أن يستخلف أحداً، ودون أن يترك تشريعاً ينظّم هذه المسألة الحيويّة لوجود الرسالة والدولة، واستمرارهما في الحياة.
وإذن، فلابدّ أن يكون النبيّ قد استخلف، أو أن يكون
ص: 25
قد ترك نظاماً للاستخلاف.
ولكن من الثابت تاريخيّاً عند جميع المسلمين أنّه (ص) لم يترك نظاماً في هذه المسألة، ولم تحدّثنا الآثار بشي ء من هذا النظام، فلابدّ إذن أن يكون قد ترك خليفة له يرعى شؤون الإسلام ودولة الإسلام.
وهكذا يقودنا المنهج الاجتماعي التاريخي الذي اعتمدناه في بحثنا هذا، في حتمية لا فكاك منها، إلى التسليم بوجهة نظر الشيعة في هذه المسألة.
وإذا كان منهج البحث قد قاد خطانا إلى هذه النتيجة وهي: أنّ النبيّ (ص) لابدّ أن يكون قد ترك خليفة له، فإنّ لنا أن نتساءل في هذه المرحلة من البحث عمّن يكون هذا الذي عهد إليه النبيّ (ص) بمهمّة الحكم بعده؟
ص: 26
لقد قلنا في تحديد القادة الذين يجب أن يتولّوا أمر الدعوة إنّهم لابدَّ أن يكونوا أشخاصاً جعلهم استيعابهم للعقيدة الجديدة بكلّ عمقها واتّساعها، وإحاطتهم بجميع أبعادها، قادرين على أدائها للمجتمع، خالصةً من كلّ تحريف وضلال.
وجعلهم خلوص عقولهم ونفوسهم من كلّ عنصر غريب عن العقيدة الجديدة قادرين على الإحساس بكلّ عنصر غريب عن العقيدة الجديدة يتلصّص إليها ليتقمّص أشكالها المادّية، ثمّ يقوِّضها من الداخل.
وجعلهم إخلاصهم لها، وفناؤهم فيها قادرين على أن يواجهوا العالم كلّه لو تكتّل ضدّهم، غير مستعدّين للتنازل عن ذرّة منها، ولو كلّفهم ذلك وجودهم ذاته.
هذا هو التحديد الذي قدّمناه للقادة.
فمن الذي يجمع هذه الخصائص كلّها، والذي يجوز أن يعهد إليه النبيّ (ص) بأمر القيادة بعده؟
ص: 27
الحقّ أنّه لا يتبادر إلى الذهن عند هذا التساؤل غير عليّ بن أبي طالب.
فهو القائد الذي يشهد منطق العقل، ومنطق التاريخ، ومنطق النبيّ نفسه، بأنّه الإنسان الذي جمع هذه الخصائص كلّها، وكان فيها فريداً.
لقد كان عليٌّ بعد رسول الله (ص) أعلم الناس بالإسلام وأكثرهم استيعاباً لأبعاده، وأعمقهم فهماً له، وتمرّساً بأسراره.
وهذه حقيقة لا ينكرها باحث موضوعي لا يجعل لعاطفته سبيلًا على عقله، فقد اعترف بها الصحابة المعاصرون له، وتابعهم على ذلك من تلاهم من التابعين وتابعيهم، ثمّ تلقّف المحدّثون والمؤرِّخون هذه الصفة فأثبتوها لعليّ دون أن يناقشوا فيها، وقد وردت النصوص النبويّة الكثيرة التي تشهد لعليّ بهذه المنزلة؛ فقد روى المسلمون عن النبيّ (ص) قوله في عليّ: «أنا مدينة العلم
ص: 28
وعليٌّ بابها»(1))، وقوله فيه: «أقضاكم عليّ»(2))، وقوله فيه: «إذا سلك الناس وادياً وسلك عليّ وادياً فتمسّكوا بعليّ»(3)).
وقد كان معلّمه الأول والأوحد هو حامل الشريعة ومبلِّغها نفسه (ص) أعانه على أن يستوعب منها ما استوعب صحبةٌ طويلة بدأت والنبيّ بعدُ لم يُبعث، وانتهت بوفاته (ص) وقد تفرّد عليّ (ع) بهذه الميزة التي اختصّه بها رسول الله (ص) فقال: علّمني رسول الله ألف باب من العلم(4).
وكان عليّ هو الإنسان الوحيد بين معاصريه في خلوص عقله وروحه من كلّ أثر للثقافة الجاهليّة، ولقيم الحياة الجاهليّة، فقد بدأت صحبته للنبيّ وعمره ستّ سنوات ولم
ص: 29
يفارق النبيّ (ص) إلّا حين وفاته (ص)، فتفتّح عقله على قيم الإسلام، وشريعة الإسلام، ومبادئ الإسلام، ولم تلوِّث روحه أيّة عقيدة غريبة عن القيم الجديدة، أمّا معاصروه فقد صيغت حياة المتقدِّمين في السنّ منهم- في أوّلها- وفقاً لقيم الجاهليّة، ثمّ جاء الإسلام فحاول محوها، ولذلك كان عليّ فريداً بين معاصريه في هذه المزيّة.
وقد جعله استيعابه التامّ للعقيدة الإسلاميّة، وخلوص عقله وروحه من كلّ مبدأ غريب عنها- جعله ذلك أخلص الناس لها، وأمضاهم عزماً في الدفاع عن مبادئها.
ولقد عاش عليّ في غمار الدعوة الإسلاميّة، وصاحبها في مختلف أطوارها، وهو أوّل من استجاب للإسلام من الرجال على وجه الأرض، فكان شابّاً حين قبل الدعوة، وكانت في بدايتها، ومضى معها في النموّ حتّى أدركها وقد انتشرت في أنحاء الأرض، ودانت لها الجزيرة كلّها، فاضطهد باضطهادها، وأصبحت جزءاً من تفكيره، وعلامة
ص: 30
مميّزة لحياته في جميع أطوارها ومظاهرها.
لقد رأينا أنّ المنهج الاجتماعي التاريخي يلزم الباحث بالمصير إلى ما يراه الشيعة بلزوم النصّ، ولزوم أن يكون المنصوص عليه هو عليّ بن أبي طالب إن كان يوجد نصّ من هذا القبيل.
الحقّ أنّ النصوص المصرّحة والملمّحة باستخلاف عليّ تكاد تخرج عن حدّ الإحصاء.
والظاهر أنّ السرّ في كثرتها وتواترها هو أنّ النبيّ (ص) أراد أن يكون مصير الحكم الإسلامي من بعده أمراً مفروغاً منه، فاستغلّ كلّ فرصة للتعبير عن هذه الحقيقة، وما أكثر ما وقف النبيّ يفهم المسلمين بأنّ عليّاً هو صاحب الأمر من بعده، وأنّه خليفته ووصيّه.
ص: 31
ولقد وفّق النبيّ في هذا إلى حدٍّ بعيد، والشاهد على هذا قول الزبير بن بكّار:
«كان عامّة المهاجرين وجلّ الأنصار لا يشكّون أنّ عليّاً هو صاحب الأمر بعد رسول الله»(1).
ويحاول بعض المؤلّفين أن يغمزوا في هذه النصوص الكثيرة بعدم صحّة إسنادها، وهي محاولة نعجب لهم كيف يرتكبونها، لأنّها تقضي عليهم بأن يطرحوا معظم التراث التشريعي الذي يتعلّق بالأحكام الشرعيّة، فإنّ الحكم على هذا العدد العظيم من الرُّواة بالضعف والكذب يحتمّ طرح كلّ ما رووه، على أنّ هؤلاء يكتفون في غير هذه المسألة برواية واحدة، فلماذا لا يقنعون فيها بهذا العدد العظيم من الروايات مع أنّها مسألة تاريخيّة حكم الواقع فيها.
ص: 32
[1] ( 1) المائدة: 3.
[2] ( 1) بحار الانوار: 10/ 119؛ احتجاج: 1/ 78
[3] ( 2) مستدرك 17/ 241؛ بحار: 39/ 68؛ احتجاج: 2/ 353
[4] ( 3) اربعون حديثاً لمنتجب الدين بن بابويه، ص 60-( ... فاسلك وادي علي)
[5] ( 4) بحار: 41/ 328؛ الأمان: 68؛ دلائل الإمامة: 105.
[6] ( 1) بحار: 28/ 325، شرح نهج البلاغة ابن ابي الحديد: 6/ 21.
[7] محمد مهدي شمس الدين، دراسة واعية لقضية الغدير في ضوء المنهج الإجتماعي التاريخي، 1جلد، نشر مشعر - تهران، چاپ: 1، تابستان 1386.