محاضرات فى الايديولوجية المقارنة

هوية الكتاب

اسم الكتاب: محاضرات فى الايديولوجية المقارنة

المؤلف : الاستاذ محمد تقی مصباح

المترجم: محمد عبدالمنعم الخاقانی

رقم التسلسل : 61

نوع الطبع: افست

عدد الصفحات: 192

الطبعة: الأولى عدد النسخ: 10000

المطبعة: سلمان الفارسي - قم

تاريخ النشر: 1361/9/8 ه_. ش

الناشر: مؤسسة فى طريق الحق (در راه حق)

العنوان: ایران - قم - خیابان ارم - کوچه آقازاده

(ص. ب 5)

محرر الرقمي: محمد مبين روزبهاني

ص: 1

محاضرات في الايديولوجية المقارنة

اشارة

للأستاد محمدتقی مصباح

ترجمه إلى اللغة العربية: محمد عبدالمنعم الخاقاني

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحيم

«و نريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الارض و نجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين»(1) يمر العالم الإسلامي في الوقت الراهن بمرحلة خطيرة من تاريخه يُجابه فيها تيارات متعارضه، و تغزوه فئات شرقية وغربيّة تسيطر على زا و يا منه حيناً، وترجع منهزمة خائبة حيناً آخر. و تستهدف كيانه بكل امكانياتها سافرة حيناً، و محتجبة تحت ستار الحماية و الإعانة حيناً آخر. وقد تمزّق العالم الإسلامي فالتجأت كتلة منه إلى معسكر، وكتلة أخرى إلى معسكر آخر ؛ وبقيت ثالثة متذبذبة بين هذا وذاك ورابعة ككرة تتداولها ايدي اللاعبين.

و إنّ من أخطر ما يهدد كيانه كعالم يملك ثقافة عريقة و حضارة أصيلة و إيديولوجية مستقلة لهو الخطر الفكري والعقائدي الذي طالما تمارس الدول الاستعمارية توجيهه نحو عقول المسلمين و قلوبهم بكافة الوسائل و الأجهزة والحيل و القا الدعايات. و من المأسوف عليه انهم صادفوا بعض النجاح في شعوب نسيت هوياتها و خسرت أنفسها و افتتنت بالحضارات الاجنبية و استبدلت بجواهرها النفيسة خرزات ملونة و مزوّقة فشجعهم ذلك على جمع خيلهم و رجلهم لغزو سائر البلاد و الشعوب. إلى ان منّ الله العزيز بنصر الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني اطال الله بقائه إلى ظهور الإمام الثاني عشر عجل الله فرجه الشريف. فانفتحت بها نوافذ الامل على الشعوب المضطهدة، فنهضت بالرجوع إلى ذواتها، وأشخصت أبصارها نحو

ص: 3


1- سورة القصص، الآية 5

هذه الثورة الإلهيّة ترجو الاقتباس من أنوارها للتعرف على مسيرها السويّ نحو السعادة و الفلاح.

و إنّ من أثقل ما وقع على كواهل الناهضين بأعباء هذه الثورة العظيمة لهو السعي وراء تعريف الإسلام بأصوله وفروعه؛ و تجليته عن أصداء التحقت به من آراء وبدع و اهواء وصيغ أجنبية، مما شوّه وجهه الجميل، و أحدث عمائم دون نوره المُشرق.

و من الطبيعي أن هذا الواجب يتجه قبل كلّ أحد إلى المعاهد العلمية الدينية، وخاصّةً الحوزة العلميّة ب_«قم» المشرفة. فعلى حَمَلة العلم ورجال الفلسفة و أمناء الدين، أن يسعوا بكل طاقاتهم نحو تحقيق هذا الواجب الذي لا بديل له ولا عديل.

و لقد منّ المولى تعالى على مؤسستنا (مؤسسة في طريق الحق) بالتوفيق لسلوك خطوات في هذا السبيل من إلقاء دروس و نشر كراسات و كتب حسب ما ساعدتها الظروف. و لعلّ من أسدّها ما ألقاه الأستاذ «محمد تقي مصباح» تحت العنوان «دروس في الإيديولوجية المقارنة» و قد خرج بعض حلقاتها و سوف تلحقها حلقات أخرى بعون الله تعالى. وقد طلبنا من الأخ الفاضل الشيخ محمد عبد المنعم الخاقاني أن يترجمها إلى العربية ليستفيد منها سائر إخواننا فى الأقطار الإسلامية، ونكون بذلك قد أدينا بعض ديوننا للإسلام والمسلمين، راجين أن يتقبله المولى بقبول حسن و يرضى عنا وليه صاحب الامر عجل الله فرجه الشريف وجعلنا من أعوانه و أنصاره. آمين

«مؤسسة فى طريق الحق»

ص: 4

القسم الأوّل فى البحوث التمهيديّة

ص: 5

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين. والصلوة والسلام على سيدنا محمد و آله الطاهرين. لاسيما بقيّة الله فى الأرضين عجّل الله تعالى فرجه وجعلنا من أعوانه وأنصاره، ومن علينا برضاه. آمین

ص: 6

بسم الله الرحمن الرحيم

المحاضرة الأولى

موضوع الدراسة:

إن موضوع دراستنا هذه هو توضيح الإيديولوجية الإسلامية و تحديد موقفها تجاه «الماركسية» و أبنائها الشرعيين و اللاشرعيين. و لمّا كان الفهم والتفهيم يتمان عن طريق اللغة بوساطة الكلمات فلابد لنا إذن قبل الدخول في صميم البحث من شرح معاني المصطلحات المستعملة في هذا المضمار لنضمن سير التفاهم بصورة صحيحة. ونؤكد - بشكل خاص- على الكلمات التي تستعمل بمعان مختلفة ولها اصطلاحات متعدّدة، فلابد من تعيين المعنى المقصود هنا لنتجنب سوء التفاهم و لئلا نقع في مغالطة.

مفهوم الإيديولوجية:

نواجه في مطلع هذه الدراسة اصطلاح «الإيديولوجية» وهي كلمة أجنبية، ونشعر بالأسف لكوننا مضطرين لاستعمال هذه و بقيّة الكلمات الأجنبية، لتكون بيننا و بين الطرف الآخر في البحث لغة مشتركة.

إن «الإيديولوجيّة» كلمة مركبة من ايده + لوجية و معناها اللغوي هو علم العقيدة، مثل الفيسيولوجي (علم وظائف الأعضاء) و البيولوجي (علم الحياة) و السيكولوجي (علم النفس). و لكن كلمة «الإيديولوجيّة» تطلق أيضاً على العقيدة نفسها و محتوى التفكير.

إنّ للإيديولوجية معنيين اصطلاحيين أحدهما أعم من الآخر:

ص: 7

اولهما مطلق «النظام الفكري والعقائدي» الشامل للأفكار «النظريّة»(1) أي الأفكار المبينة للواقعيات الخارجية و التي لا ترتبط -بشكل مباشر - بسلوك الإنسان، والأفكار «العملية»، أى الأفكار المتعلّقة بسلوك الإنسان والمحتوية على «الوجوب» و «المنع».

وثانيهما يختص «بالنظام الفكري المحدد لشكل سلوک الإنسان».

فعند ما تستعمل «الايديولوجيّة » في مقابل «الرؤية الكونيّة»، فالمقصود منها حينئذ، هو المعنى الخاص، لأنّ الرؤية الكونية عبارة عن «النظرة الكلية التي تدور حول ما هو موجود»(2) و تتكوّن من «الأفكار النظرية»؛ وبهذا المعنى تصبح «الايديولوجية» في مقابلها، لأنها تتكوّن فقط من مجموعة من «الافكار العملية» التي تحدّد الشكل العام لسلوك الإنسان.

و بناء على هذا فالاعتقاد «بوجود الله» يصبح جزء من الرؤية الكونية، لأنه لا يتعلّق بالأعمال مباشرة، و مفهومه ليس فيه «وجوب» و لا «منع». و إذا استعملنا «الإيديولوجيّة» بمعناها العام، فستكون شاملة لمثل هذا الاعتقاد أيضاً؛ أما إذا استعملنا

ص: 8


1- ينبغي الالتفات إلى أنّ كلمة «النظري» مشترك لفظي، فتارة تستعمل في مقابل «البديهي» من الإدراكات، و بهذا تطلق «الإدراكات النظرية» على الإدراكات التي لابد من إثباتها بالدليل والبرهان، و تارة أخرى تستعمل كلمة «النظري» في مقابل «العملي» من الإدراكات، ويقصد بها حينئذ تلك الإدراكات التي لا تتعلّق بشكل مباشر بعمل الإنسان، و المقصود هنا هو المعنى الثاني.
2- يختلف اصطلاح «الرؤية الكونية» عن «معرفة الكون»، و من الفروق بينهما، أنّ «معرفة الكون» لا تشمل «معرفة الله» و «معرفة الإنسان»، بينما تشمل «الرؤية الكونية» العلاقات بين «الله» و «الانسان» و «الكون».

بمعناها الخاص، فلن تكون شاملة له. وعلى العكس من هذا، فإنّ الاعتقاد «بوجوب عبادة الله» ليس جزء أمن الرؤية الكونية، و إنما هو جزء من الإيديولوجية ؛ لأنه يحتوي على مفهوم «الوجوب» و يتعلّق مباشرة بسلوك الإنسان و أعماله.

ضرورة الإيديولوجيّة والرؤية الكونية

إن حياة الإنسان لا تنطبع بالطابع «الإنساني» مالم تكن مشيَّدة على إيديولوجية سليمة ورؤية كونية واقعية، و يحتاج إثبات هذا إلى بيان الفرق بين حياة الإنسان و حياة سائر الحيوانات. و حسب ما انتهت إليه معلوماتنا نحن البشر فإن جميع الحيوانات تشترك فى هذه الجهة ، و هى أنّ حياتها مبنيّة على أساس «الغرائز»، وغرائزها المختصة هي التي تحدّد شكل حياتها. فنحن نلاحظ ان الطيور - عادةً - تميل إلى بناء أو كارها و الاقتران و وضع البيض حسب غرائزها الخاصة، ثمّ تحضن هذه البيوض فترة من الزمن حتى تفقسها الفِراخُ وعندئذ تسرع الأمهات إلى تغذيتها وتعلّمها الطيران، حتّى إذا أتقنته تركتها لنفسها لتبدأ حياتها المستقلة. والطيور التي تختص بوضع البيض لا تخطر في بالها فكرة الولادة، و لا تشغلها فكرة بناء وكر تحت الأرض و لافى أعماق البحار.

العام يلمع ماما الله تعليمة و لكلّ نوع من ذوات الاثداء والزواحف و الحيوانات المائية لون معين من الغرائز، و هو يحدّد الشكل الخاص لحياتها .

ت لثالحال أما الإنسان فمع أنه يتمتع بغريزة الغذاء و غريزة الدفاع و الغريزة الجنسيّة ، و لكن حياته ليست متقوّمة بهذه الغرائز فحسب، و إنما تنهض قوته العقلية بالدور الأساسي فيها، وتخضع كلّ رغباته الغريزية لقيادة العقل الواعية، وتتبلور إرادة الإنسان حسب

ص: 9

توجيهات العقل ؛ ومن هنا يتضح مدى حاجته للإدراكات العقلية.

و صحیح أنّ الإنسان يستطيع بحكم ما يتمتع به من حرّية و اختيار ان يُشيح بوجهه عن إرشادات العقل ليصبح تابعاً لغرائزه الحيوانية، ولكنّه أيضاً انّ حياته في هذه الحال لن تكون إنسانية، وإنما هي في الواقع حياة حيوانية.

إذن لكي تكون لنا حياة إنسانية حقيقية، لابد أن نفهم ما أعمالنا ؟ ولاي شيء نحن عاملون ؟ و أمن الواجب أن نعمل هذا أم لا؟ و عندئذ نؤدّي ذلك العمل الذي «يجب» أن نؤديه، و بالطريقة التي «يجب» أن نؤديه بها.

هذه الواجبات و الممنوعات قد تكون متعلقة بأسلوب العمل (التكتيك)، و قد تكون مرتبطة بالمناهج الإستراتيجية، ولكنها على اتي حال تكون مبنيّة على أعمّ و أشمل أساس «واجبات» تشكل الإطار الرئيسى لسلوكنا، أي أنّها تشكّل «إيديولوجيتنا»؛ و من هنا نعرف كيف يكون الظفر بإيديولوجية صحيحة أمراً ضروريّاً.

و الأحكام العمليّة للعقل بدورها قائمة على اساس الأحكام النظرية (كما سيتضح ذلك في فصل «المعرفة» إن شاء الله)، فمثلاً هذا الحكم العملي القائل «تجب عبادة الله» مبني على اساس الحكم النظري القائل «إنّ الله هو خالق العالم والإنسان و الكائنات الموجودة» و مالم يثبت هذا الحكم فانّه لامكان لذلك الحكم العملي . فلابد إذن أن تكون لدينا رؤية كونية واقعية أوّلاً لنستطيع بالتالي أن نشيد عليها إيديولوجية صحيحة.

علاقة الإيديولوجيه بالرؤية الكونية

نواجه هنا هذا السؤال :

ص: 10

اهناك علاقة بين الإيديولوجية و الرؤية الكونيّة أم لا؟ وإذا كانت موجودة فما هو نوعها ؟

يتطلب الجواب العلمي المبسوط على هذا السؤال، ذكر مقدمات طويلة، و لمّا كانت الإطالة غير متناسبة مع هذه الدراسة المضغوطة ، فلذلك آثرنا أن نذكر جواباً يناسب الحال :

فالآراء مختلفة في الجواب عن ذلك السؤال :

فبعض يقول إنّ الرؤية الكونية تولّد -بصورة ذاتية - ايديولوجية خاصة، و اختلاف الإيديولوجيات إنما هو ناشئ من اختلاف الرؤى الكونية.

و يدعي البعض الآخر ان الإيديولوجية لاعلاقة لها إطلاقاً بالرؤية الكونية، و مع أي رؤية كونية يمكن قبول أي إيديولوجية تماماً مثل اختلاف أذواق الناس في اختيار لون ملابسهم؛ فإنه لا علاقة له برؤيتهم الكونية.

و هذان الرأيان -من وجهة نظرنا - غير صحيحين ؛ والحق أن هناك علاقةً بين الإيديولوجية و الرؤية الكونيّة، ولكنّها ليست من قبيل العلاقة بين المعلول و علته التامة، ولا من قبيل العلاق بين المشروط و شرطه الكافي .

و إنما من قبيل علاقة المعلول و المشروط، بعلته الناقصة شرطه اللازم. أي إنّ الإيديولوجيّة محتاجة إلى الرؤية الكونية، لكنّ الرؤية الكونيّة وحدها غير قادرة على تعيين الايديولوج بشكل ذاتي .

و إنما لابد من مقدمات أخرى تضم إليها لكي تستطيع أ تكون إيديولوجيّة معيّنة. و إذا كانت الرؤية الكونية صحيحة المقدمات الملحقة بها صحيحة أيضاً وطريقة تنظيم المقدمات

ص: 11

الاستنتاج صحيحة لامغالطة فيها ؛ فإننا سوف نظفر بإيديولوجية سليمة.

مثلاً من هذه القضية القائلة «إنّ الله موجود لانستطيع منها وحدها أن نستنتج «يجب عبادة الله»، و لكننا من دون أن تكون لدينا القضية الأولى ؛ فنحن لانستطيع إثبات القضيه الثانية.

وينبغي هنا أن نشير إلى ملاحظة مهمة وهي ان الحديث يدور حول العلاقة بين الإيديولوجية باعتبارها نظاماً فكرياً عملياً ذا انسجام داخلي و الرؤية الكونية باعتبارها نظاماً فكرياً نظرياً يتمتع بنفس تلك الخاصة.

أما الإيديولوجيات والرؤى الكونية الملفقة التي انتزعت من كلّ مذهب شيئاً ورصفت بعضه إلى بعض غير مراعية النظام و الانسجام المنطقي والذاتي بينها؛ فإنّ هذا اللون من الإيديولوجيات لا ينتظر منه أن تكون له علاقة منطقية برؤية كونيّة معينة.

الايديولوجية و الرؤية الكونية في القرآن

توجد في القرآن آيات متعدّدة تثبت بجلاء ما للإيديولوجية و الرؤية الكونية من أهمّية، و لعلّ أوضحها تلك الآيات التي تعدّ الأشخاص المحرومين من الإيديولوجيّة والرؤية الكونية الصحيحتين أحطّ وأضلّ من الدوابّ: «إنّ شر الدوابّ عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون»(1) و في آية أخرى من نفس هذه السورة: «إنّ شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون»(2) أي أولئك الاشخاص الذين تكون آذانهم عن سماع الحقائق صماء، و

ص: 12


1- الانفال، 55
2- الانفال، 22

ألسنتهم عن قول الحقائق خرساء، وهم لا يستغلون عقولهم، لكي يدركوا هذه الحقائق. ويقول الله تعالى «و لقد ذرأنا لجهنّم كثيراً من الجن والإنس، لهم قلوب لا يفقهون بها ، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون»(1). فهم مزوّدون بالعقول و الاعين و الآذان، ولكنّهم لا يستغلونها في سبيل معرفة الحقائق فهم أضل من الأنعام ، وهؤلاء هم الغافلون عمّا يجب. وجاء في الحديث : «رحم الله امرءاً عرف نفسه و علم من أين وفي أين وإلى أين». إذن من اراد أن يكون إنساناً حقا فلابد أن يفكر في حقيقته ماهي ؟ و من أين جاء؟ و من اتي مبدأ وجد؟ و في أي وضع هو الآن؟ و نحو أي مقصد و منزل هو متّجه ؟ ولابد أن يعرف ماذا يجب عليه أن يعمل ، لكي ينال السعادة، أي أن تصبح له رؤية كونية واقعية و إيديولوجيّة صحيحة.

يستنتج من هذا، أنّ قيمة الإنسان من وجهة نظر القرآن ترتبط ارتباطاً وثيقاً بإيديولوجيته ورؤيته الكونيّة. أي إنّ الإنسان الذي يفكّر و يُعمل قواه المدركة فيظفر برؤية كونية و إيديولوجية صحيحتين ثمّ يجعلها أساساً لسلوكه الحرّ المختار (و هو الإنسان المؤمن) - هذا هو الذي يتمتع بقيمة إيجابية.

الذى يتمتع بقيمة إيجابية . يلعب الصالات أما الشخص المحروم من الإيديولوجية الصحيحة إما بسبب قصور قواه المدركة و إما نتيجة لممانعة الطاغين (و هو الإنسان المستضعف)(2) فهو لاقيمة له، وأمّا الشخص الذي يكف نفسه عن التفكير و استغلال قواه المدركة (و هو الإنسان الغافل) أو الذي

ص: 13


1- الاعراف، 179
2- جاء في الآية 98 من سورة النساء: «الآ المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان لايستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً».

يتعصب أو تحمله دوافع أخرى على رفض الإيديولوجية الحقيقية (و هو الكافر) فإنّهما يتصفان بقيمة سلبية.

المواضيع الاساسية في الرؤية الكونية

إن المواضيع التي تطرح للبحث في الرؤية الكونية متفاوتة من حيث التقدم و التأخر و من جهة كونها جذرية و فرعية، و من الطبيعي أن تكون للمواضيع الأساسية أولوية خاصة. ولهذا، فنحن نتناول هنا بعض المواضيع الأهم من غيرها نسبيّاً، وهي ذات قيمة متميزة ونقسمها إلى ثلاثة أقسام:

1 - معرفة الوجود

2 - معرفة الإنسان

3 - معرفة السبيل

ففي فصل معرفة الوجود نتناول بالبحث بعض المواضيع التي تؤهلنا لنكسب رؤية عامة عن الكون و الوجود (بقطع النظر عن ألوان الظواهر الخاصة) و ليتضح لنا انّ الوجود أهو مساو للمادة و ظواهرها المتنوّعة، أم ليست المادة إلا جانباً واحداً من جوانب الوجود ؟ و على الفرض الثاني أهناك رابطة بين عالم المادة و ما وراء المادة ام لا؟

إنّ الجواب على هذه الأسئلة يؤدّي إلى معرفة الله.

و نتناول في فصل معرفة الإنسان موضوع حقيقة الإنسان فنتسائل :

أيكون الإنسان هذا البدن المادي المحسوس، أم هو بالإضافة إلى ذلك يملك روحاً غير مادية و لامحسوسة؟ و على الفرض الثاني، اتبقى الروح بعد الموت و تلاشى البدن، أم لا؟ و أمن الممكن أن يبعث الإنسان حيّاً مرّة أخرى، أم لا؟ و أخيراً حياة

ص: 14

الإنسان، اهي محدودة، ام خالدة؟ ثم أتوجد علاقة بين حياتيه، أم لا؟

إنّ الجواب على هذه الأسئلة يقودنا إلى معرفة «المعاد».

ثم ندرس في الفصل الثالث مواضيع تربط مبدأ الانسان بمعاده و تبيّن دور الخالق في هداية الإنسان نحو سعادته الأبدية.

و بفضل الحلول الموضوعة لتلك الأسئلة سوف نصل إلى نتيجة مؤداها أننا نملك سبيلاً مضمونة لمعرفة المنهج الصحيح للحياة الفردية و الاجتماعية، و سلوك هذه السبيل لا يوفر لنا السعادة الدنيوية المحدودة و السريعة، فحسب. وإنّما يوفر لنا بالإضافة إليها السعادة الأبدية و الخالدة. إنّ هذه السبيل هي «الوحي» الذي ينزل على الأنبياء من قبل الله، والذي يوضع في متناول أيدي الناس بوساطة هؤلاء. و هي سبيل مضمونة الصحة من قبل الله تعالى.

و كما أنّ هذا الفصل الذي أسميناه بمعرفة السبيل» يربط بین مبدأ الانسان و آخرته، بين التوحيد و المعاد ؛ فإنّه أيضاً يشكّل الحلقة الوسطى بين مواضيع الرؤية الكونية والايديولوجية. أي إننا في ضوء حلّ هذا الموضوع (موضوع النبوة) فقط نستطيع أن نحل مشاكل الإيديولوجية بصورة مضمونة، و ان نعرف المنهج السليم لحياتنا ؛ ذلك المنهج الذي يؤمن لنا السعادة في هذا العالم وفي العالم الآخر الخالد.

وقد اتضح لنا ضمناً، أنه لماذا اعتبرت هذه المسائل الثلاث (التوحيد، النبوة، المعاد) «أصول الدين»، أي الجذور العميقة للإيديولوجية الإسلامية ؛ وكيف ان هناك رابطة طبيعية ومنطقية تربط بينها . و نشير هنا إلى أنّ «العدل» من فروع التوحيد، و انّ

ص: 15

«الإمامة» من فروع «النبوّة»، وقد أسماهما الشيعة «بأصول المذهب» لغرض تمييز عقائدهم من سائر المذاهب الكلامية الأخرى . و بهذا البيان اتضح لنا كيف ان هذه المواضيع أساسية ومهمة .

وأما ما قلناه من ان لها قيمة رفيعة أيضاً فلأنّ حلّ هذه المسائل يضمن للإنسان سعادة لانهائية، و من هنا فإنّه لا يمكن مقارنة قيمة أي علم معها على الإطلاق.

قد يقال : إنّه لا تكون لهذه المسائل تلك القيمة الرفيعة، إلاّ إذا كنا منذ البدء مطمئنين إلى أننا سوف ننتهي إلى نتيجة إيجابية ؛ و امّا الشخص الذي ليس مطمئنا إلى حلها، فمن الافضل بالنسبة إليه أن يقتفى أثر العلوم التى توفّر له نتائج يمكن الاطمئنان إليها، ولا يضيع عمره في تحقيق مسائل لا يأمل أن يجد لها حلاً يقينياً.

و لكنّ هذا غير صحيح لأنّ قيمة الاحتمال ليست مقصورة على «النسبة المئويّة» للاحتمال ، وإنّما هي متعلقة أيضاً بعامل آخر وهو كمية الشئ المحتمل، فالذي يعيّن قيمة الاحتمال هو حاصل ضرب النسبة المئوية للاحتمال في مقدار المحتمل.

مثلاً لو فرضنا أنّ احتمال الربح في عمل إنتاجي هو 20% و في عمل آخر 10% و لكننا نعلم لو أن العمل الثاني حقق الربح لكان ربحه عشرة أضعاف العمل الأول، ففي فرض مثل هذا، لا يكفي ان نأخذ النسبة المئوية للاحتمال بعين الاعتبار. و نقول إن قيمة احتمال الربح في العمل الأول أعلى لأنّ نسبة الاحتمال المئويّة ضعف العمل الثاني ؛ وإنّما لا بدهنا من ضرب النسبة المئوية للاحتمال في مقدار الربح المحتمل. وبمجرد القيام بهذه

ص: 16

العملية، فإننا سوف نتيقن أن قيمة احتمال الربح في العمل الثاني هو خمسة اضعاف العمل الأوّل، لأنّ حاصل ضرب 10×10٪ هو خمسة أضعاف حاصل ضرب 1×20٪.

إذن في موضوع حديثنا أيضاً لكي نقيم التحقيق في المسائل الأساسية للرؤية الكونيّة لابد أن نضرب احتمال الوصول إلى نتيجة قطعية في المقدار المحتمل ، ولمّا كان المقدار المحتمل لانهائيّاً فالنسبه المئوية للاحتمال مهما كانت ضئيلة (1/n) فإنّ حاصل الضرب سوف يكون لانهائيّاً لأنّ المضروب فيه لانهائي : (∞ × 1/n = ∞) -

فاحتمال الوصول إلى نتائج قطعيّة في المسائل الاساسية للرؤية الكونية مهما فرضناه في البدء ضعيفاً فإنّ ذلك لا يقلل من قيمته، وتكون قيمة هذا الاحتمال الضعيف جداً أرفع بكثير من قيمة احتمال 100٪ في بقية المسائل، و ذلك لأنّ كميّة المحتمل لانهائية فمصبُّ الاحتمال هو السعادة الإنسانية الخالدة و حاصل ضرب اللانهاية فى أي كسر مهما فرض ضئيلاً سوف يكون بالتأكيد لانهائيا .

ص: 17

المحاضرة الثانية

ألوان الرؤية الكونية

يمكن تقسيم الرؤية الكونية من حيث اسس المعرفة و اساليبها إلى أربعة أقسام:

1 - الرؤية الكونية العلميّة

2 - الرؤية الكونيّة الفلسفيّة

3 - الرؤية الكونية الدينية

4 - الرؤية الكونية العرفانية

و قد سبق لنا التعرّف على مفهوم «الرؤية الكونية»، ولابد هنا من إيضاح هذه المفاهيم : «العلم»، «الفلسفة»، «الدين»، «العرفان» لكي نتبين الفرق بين هذه الرؤى.

مفهوم العلم

لكلمة العلم معنى لغوي معروف، و لها اصطلاحات متعدّدة أهمها ما ياتي :

1 - الاعتقاد اليقيني، وذلك في مقابل الظنّ و الشك.

2 - مجموعة المسائل التي لها موضوع عام مشترک، و هي تدور حول محور واحد، مثل علم الطبّ الذي موضوع مسائله هو صحة و مرض الإنسان، أو علم الصرف و النحو الذي موضوعه هو الكلمة و الكلام. و العلم بهذا المعنى يشمل الفلسفة أيضاً؛ و ذلك لأنّ الفلسفة عبارة عن مجموعة من المسائل التي تبحث عن أحكام الوجود الكلية.

3 - مجموعة المسائل التي يمكن إثباتها بالأسلوب التجريبي، مثل العلوم الفيزيائية والكيميائية والفسيولوجية. و

ص: 18

هذا الاصطلاح أخصّ من الاصطلاح الثاني، ولايشمل الفلسفة؛ لأنّ مسائل الفلسفة كما سوف يجيئ ليست تجريبية. والمقصود من «العلم» الذي يستعمل في هذه الأيام في مقابل «الفلسفة»، هو الاصطلاح الثالث؛ و هو يشمل الفرضيات و النظريات التي يؤمل في إثباتها بوساطة التجربة و إن لم تخضع للتجارب الدقيقة لحد الآن، او لم تصل يد الإنسان إلى وسائل تجربتها في الوقت الراهن، مثل الفرضيات الفلكية وفرضيات علم الأحياء. و المقصود من الرؤية الكونية العلميّة، هو تلك الرؤية الكونية التي تستخرج كما يظنّ أتباعها من نتائج العلوم التجريبية.

مفهوم الفلسفة

الفلسفة كلمة معربة من أصل يوناني و هو «فيلاسوف» الذي هو بمعنى محبّ العلم والحكمة؛ فيكون معنى الفلسفة حينئذ هو حبّ العلم . و لهذه الكلمة اصطلاحان :

1 - الاصطلاح القديم الذي يشمل كل العلوم الحقيقية (و ذلك في مقابل العلوم الاعتبارية كعلم النحو و القانون). و الفلسفة بهذا المعنى، تنقسم إلى قسمين: النظرية والعلمية. فالفلسفة النظرية شاملة للعلوم الطبيعية و ما بعد الطبيعة و الرياضيات، أمّا الفلسفة العملية، فهي تضم الأخلاق و تدبير البيت و السياسة، و لكلّ منها أسلوبه الخاص.

2 - والاصطلاح الحديث الذي تكون فيه الفلسفة في مقابل العلم (بمفهومه الحديث)، وحينئذ تكون الفلسفة مختصة بالمواضيع غير التجريبية (مابعد الطبيعة، أو الميتافيزيقا)؛ وفي الواقع، فإنّها تطلق عندئذ على ذلك القسم من الفلسفة القديمة الذي كان

ص: 19

يسمى «بالعلم الكلّي» أو «الإلهيّات» أو «الفلسفة الأولى»، و هو القسم الثاني من الفلسفة النظرية الباحث عن احكام الوجود الكلية والذي لا اختصاص له بنوع من الموجودات؛ و لعله يشمل أحياناً كل الموجودات، من قبيل الوحدة و الكثرة، الواجب و الممكن، العلة و المعلول، الثابت والسيال، و...

والمقصود من الرؤية الكونية الفلسفية في مقابل الرؤية الكونية العلميّة، هو ذلك اللون من الرؤية الكونية الذي يتم إثباته بالطريقة العقليّة (= الطريقة غير التجريبية).

مفهوم الدين

إنّ كلمة الدين في اللغة تعني الشريعة و الطاعة و الجزاء، و هي تطلق على مجموعة العقائد و المسائل الاخلاقية والأحكام و القوانين الفردية والاجتماعية، فالأديان السماوية، هي تلک الشرائع الموحاة إلى الانبياء من قبل الله تعالى. وعلى هذا، فإنّ المسائل الدينية يتم إثباتها اعتماداً على الوحي و اخبار جهة يعتمد عليها (أثورتى). والمقصود من الرؤية الكونية الدينية هو تلک الرؤية المنتهية إلى الوحي الإلهي.

مفهوم العرفان

العرفان في اللغة هو بمعنى المعرفة، ويطلق اصطلاحاً على المعرفة الحاصلة عن طريق المشاهدة القلبية لا بوساطة العقل ولا بفضل التجربة الحسيّة ، فالعارف الذي قد حقق تقدماً في سيره العرفاني ينظر إلى عالم الوجود على انه مظاهر لنور البارى جلّ و علا، وكأنّ كل ظاهرة من ظواهر العالم مرآة تعكس الجمال الأحديّ، و هو لايرى وجوداً استقلاليّاً لأي موجود ماعدا الذات الإلهيّة المقدّسة. ونحن نعتقد بأنّ هذا اللون من المعرفة لا يحصل

ص: 20

إلا في ظل العمل المخلص بأحكام الدين، وفي الواقع فإنّه الثمرة الرفيعة و النهائية للدين الحقيقي. وهذا هو النور المعنوي الذي يفيضه الله سبحانه على قلوب أحبّائه، و المقصود من الرؤية الكونية العرفانيّة هو ذلك التفسير للعالم و الوجود المبني على اساس هذه المعرفة القلبية ولا يعتمد إطلاقاً على الاستدلالات العقلية ولا التجريبية.

فما هو الرأي الحق إذن؟

بالتأمل في المواضيع الأساسية للرؤية الكونية، يمكننا أن نفهم أنها لاعلاقة لها بالمواضيع العلمية، وأنها لا يمكن إثباتها بالأسلوب العلمي (= الأسلوب التجريبي)؛ وذلك لأنّ كل علم يدور البحث فيه حول أحكام و قوانين تتعلق بموضوع معين.

فالفيزياء مثلا تبحث عن الأعراض الظاهرة للمادة والطاقة، و تدرس الكيمياء تركيب العناصر المادية وتحليلها والعلاقات الداخلية بينها، و تتناول الفسيولوجيا البحث في أجسام الموجودات الحيّة.

أما علم النفس فهو يدرس أحوال و أعراض النفس الإنسانية، و كل من هذه العلوم يبحث عن قوانين خاصة بموضوعه و من الواضح أنّ مسائل علم النفس مثلاً لا يمكن حلها بالقوانين الفيزيائية، أو الكيميائية، و انّ الاحكام الفسيولوجية لايمكن تعميمها لتشمل المادّة التي لاحياة فيها. و هذا لا يعني نفي أنه ف العلاقة بين المادة والروح، ولا يعني في اثناء العمليات الفسيولوجيّة لايتم فعل و انفعال فيزيائيان أو كيميائيان، ولكنّه على اتي حال توجد لكل موضوع قوانين مختصة به ولا يمكن

تعميمها لكل الوجود.

ص: 21

و علاوة على هذا فإنّ الأسلوب العلمي و هو الأسلوب التجريبي لا يمكن استعماله إلا في مورد الظواهر القابلة للتجربة الحسية. و أما في المواضيع التي هي من قبيل الله، والوحي، و الحياة بعد الموت فإنّه لا يمكن فيها الاستفادة من الأسلوب التجريبي لأنها ليست أشياء يمكن إدخالها إلى المختبر و لا يمكن أن توضع تحت مشرط التشريح، ولا يستطيع أن أت علم يحكم إثباتاً ولانفياً بشأن ما هو خارج عن منطقة نفوذه و تجربته. و لهذا فإنّه لا يتوقع من العلوم التجريبية أن تحل المسائل الأساسيّة للرؤية الكونية ولا يمكنها أن تصوغ رؤية كونية علمية.

فالرؤية الكونية من جهة أنها مفهوم عام عن العالم و الروابط بين ظواهره و من جهة كون مواضيع مسائلها الاساسية خارجة عن مجال التجربة - هي نظرة فلسفية لابد للحصول عليها من استخدام الأسلوب العقليّ (وليس التجريبي). والعلوم التجريبية بمفردها لا تنهنى بحل مسائلها ؛ ولكن تقدم العلوم التجريبية يعين شيئاً ما في حلّ مسائل الرؤية الكونية، و ذلك حيث تصبح بعض النتائج القطعية للعلوم مقدمات (صغريات) للبراهين الفلسفيّة؛ إلا أنّ هذا العون لا يسلب المسألة ماهيتها الفلسفية و لا يغير الأسلوب العقلي إلى الأسلوب التجريبي و العلمي.

مثلاً نفرض أنه قد أثبت علم الفيزياء كون المادة آتية من تراكم الطاقة والطاقة هي لون من ألوان الحركة، إذن يستنتج من هذا أنّ العالم المادي لايحتوي في صميمه إلا على الحركة، عندئذ يمكننا أن نجعل هذا الموضوع العلمي مقدمة لبرهان فلسفي ينتج لنا أنّا العالم المادي بحاجة إلى خالق أو محدث لأنّ الحركة

ص: 22

حادثة، وكلّ حادثة محتاجة إلى مُحدث. و نحن نلاحظ أنّ هذا البرهان الذي توجد فيه مقدّمة علميّة إنّما هو برهان فلسفي لموضوع ميتافيزيقي .

و هناک مثال آخر و هو: لو أثبت علم النفس التجريبي أنه أحياناً مع توفر كل ما يلزم للإحساس فإنّ الإنسان لا يرى ما هو أمام عينيه، أو لا يسمع الصوت الذي يهزّ طبلة أذنه. فإنّه يمكننا ان نستنتج من هذا الأمر كون حقيقة الإدراك غير التأثير والتأثر الفيزيائي أو الفسيولوجي ، وإنما الإدراك في الواقع - هو عمل الروح المجرّد، و لكن هذا أيضاً استنتاج عقلي و فلسفي قد تمّ بمساعدة العلم، و ليس هو استنتاجاً علميّاً قد تم إثباته بالطريقة التجريبية.

و الحاصل أنّ الرؤية الكونية نظراً لماهية مسائلها وطريقة إثبات تلك المسائل - نظرة فلسفيّة و ليست علميّة، ولا واقعية للرؤية الكونية العلمية بمعنى أن تكون هناك رؤية كونية مبنية على أساس نتائج العلوم، ويتم إثباتها بالأسلوب التجريبي.

و من ناحية أخرى قد يتصوّر أن مواضيع الرؤية الكونية يمكن تفسيرها على أساس ما جاء به الوحي و نطقت به الكتب السماوية فحسب، وعلى هذا، تصبح لدينا رؤية كونية دينية عن الفلسفة، و ليست هي بحاجة إليها. ولكن هذا الرأي ليس مصيباً أيضاً، لأنه لا يمكن حلّ مسألة على اساس الوحي مالم تكن مسألة وجود الله (صاحب الوحى) و مسالة وجود النبي (حامل الكتاب السماوي)؛ قد أثبتنا من قبل، و من الواضح إثبات هاتين المسألتين يحتاج إلى البرهان العقلي. وبالإضافة إلى هذا فالكتب السماوية (مثل القرآن الكريم) قد أوردت

ص: 23

برهاناً عقليّاً لكثير من مسائل الرؤية الكونية كما جاء في الآية (22) من سورة الأنبياء لإثبات التوحيد، قال تعالى: «لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا»، و كما جاء في الآيتين (27-28) من سورة (صلی الله علیه و آله و سلم) لإثبات المعاد، قوله تعالى: «و ما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً، ذلك ظنُّ الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار. ام نجعل الذین آمنوا و عملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار». و ورود هذه البراهين فى القرآن لا يسلب منها حقيقتها الفلسفية؛ إذن لا يمكن أن توجد رؤية كونية دينية مستقلة عن الفلسفة.

و أمّا الرؤية الكونية العرفانية،

فأولاً : إنّ الرؤية الشهودية للعارف شخصية محضة، ولا يمكن نقلها للآخرين. وعلى هذا، لا يمكن إثبات تفسير للعالم قائم على هذا اللون من الشهود للآخرين.

ثانياً : انّ السلوك العرفاني يحتاج إلى معرفة الدين الحقيقي، و الدين بدوره مبني على أسس لابد من إثباتها بالأسلوب العقلى و الفلسفي ؛ و من هنا يصبح العرفان محتاجاً إلى الفلسفة. وعلاوة على هذا فإن العرفان يفتقر إلى الفلسفة من نواح أخرى لانريد أن نطيل بذكرها.(1)

إذن المواضيع الأساسية للرؤية الكونية هي أمور فلسفية لابد من إثباتها بالطريقة العقلية، ولا وجود إطلاقاً لرؤية كونية مستقلة عن الفلسفة.

ص: 24


1- يراجع كتاب: «عصارة لبعض البحوث الفلسفية» صفحة 16، 180 للمؤلف .

المحاضرة الثالثة

اشارة

موضوع البحث

يعتقد أصحاب المذهب الماركسي أن فلسفتهم (المادية الديالكتيكية) هي الفلسفة الوحيدة التي تستطيع أن تقدّم للناس رؤية كونيّة مدعمة بالأدلة المحكمة، و يصفون هذه الفلسفة مفتخرين «بالفلسفة العلميّة»؛ وذلك في مقابل «الفلسفة الميتافيزيقية» التي يتناولونها ساخرين، متخيلين أنه كما يكون الطابع «العلميّ» علامة على اعتبار وقيمة فلسفة المادية الديالكتيكية ؛ فإنّ طابع «الميتافيزيقية» علامة على سقوط وإدانة الفلسفات الأخرى.

و قد أوضحنا في الفصل الماضي، أنّ الطابع العلمي لا يكون صفة مد مدح الفلسفة ما ،ليس هذا فحسب، و إنما هو علامة على ضحالة و جهل و خداع مؤسسي تلك الفلسفة، حيث أرادوا استغلال الشهرة الحسنة للعلم ليخدعوا بها الذين لا يعلمون.

و نريد أن نعرف هنا : أتكون صفة «الميتافيزيقية» لفلسفة ما علامة على نقصها وسقوطها ، أم لا؟

نجد أنفسنا مضطرين لشرح معنى «الميتافيزيقية» ليتضح الموضوع تماماً.

مفهوم الميتافيزيقية

الميتافيزيقية ماخوذة من أصل يوناني هو «متاتافوسيكا» أي : «ما بعد الطبيعة»، وحوّلت كلمة «فوسيكا» إلى الفيزيقا، و حذف منها حرف الإضافة (تا) فأصبحت الميتافيزيقا .

و قد استعمل أوّل مرة - حسب ما يعتقد مؤرخو الفلسفة - في قسم خاص من فلسفة أرسطو يأتي -حسب ترتيب الكتاب - بعد

ص: 25

قسم الطبيعة؛ و لعلّ هذا الترتيب قد لوحظ فيه حال متعلّمي الفلسفة، فيبدؤون معهم بالبحوث الأقرب إلى الحسّ كي يأنس إليها الذهن و يستعد تدريجياً للبحوث الانتزاعيّة البعيدة عن الحسّ ، و لو أنّ هذه البحوث - من جهات أخرى مقدمة على الدراسات الطبيعية، ونظراً لهذا فقد فضّل بعض الفلاسفة المسلمين إطلاق اسم «ما قبل الطبيعة» عليها .

و على أتى حال، فإنّ «الميتافيزيقا» اسم لجانب من الفلسفة (باصطلاح القديم)، و هو الذي يدرس الأحوال العامة للوجود من قبيل: الوحدة والكثرة، الوجوب و الإمكان، العلة و المعلول، المادي و المجرّد، الحادث والقديم، بالقوة أو بالفعل، و مايشبه هذه ؛ ويسمّى أيضاً بالعلم الكلى والفلسفة الأولى والإلهيات، و هو نفس ما يعرف اليوم باسم الفلسفة في مقابل العلم (بالاصطلاح الحديث)، وعلى هذا تكون الميتافيزيقا مرادفة و مساوية للفلسفة (بشكل مطلق و بدون أي صفة أو مضاف إليه).

والمقصود من قولنا، انّ المسائل الفلسفية أو الميتافيزيقية، المتعلقة بالأحكام العامة للوجود هو أن هذه المسائل ليست ناظرة إلى نوع خاص من الموجودات ولا إلى ماهيّة معيّنة . وإنّما هي تبحث عن ألوان الوجود وأنحائه؛ ولو أن هذه البحوث تؤدي إلى تقسيم الوجود إلى وجود واجب و وجود ممكن، إلى وجود و وجود معلول، و لكنّ البحث عن الوجوب والإمكان، عن العلية و المعلولية على اية حال ليس بحثاً عن أحوال ماهيّة خاصة مثل الإنسان أو الشجر أو الحديد، وإنّما هو بحث شامل لجميع هذه او لأنواع مختلفة منها.

و بناءاً على هذا فإنّ الدراسة الفلسفية و الميتافيزيقية

ص: 26

لا تختص بالموجودات غير الطبيعية أو ماوراء الطبيعة، فمثلاً مصداق العلة قديكون موجوداً طبيعياً وقد يكون موجوداً غير طبيعي ؛ إذن ميزة البحث الميتافيزيقي هو أنه لا ينظر إلى نوع خاص من الموجودات. فالدراسة التي تنظر إلى الوجود الصرف بقطع النظر عن التخصصات الماهوية هي دراسة ميتافيزيقية، و كل قانون يشمل الوجود كله هو قانون ميتافيزيقي.

و من هنا يتضح لنا ان أصول الديالكتيك إذا ثبت كونها قوانين عامة شاملة للعالم كله فستكون أصولاً ميتافيزيقية، و البحث فيها سيكون بحثاً ميتافيز يقيّاً ! و عندئذ لن يكون هناك تقابل بين الميتافيزيقا و الديالكتيك، أي انه لا يمكن القول بأن الفلسفة إما أن تكون ميتافيز يقيّة، أو ديالكتيكية، وإنما الفلسفة هي دائماً ميتافيزيقية و حتى الديالكتيك بعنوان أنه فلسفة(1) هو مصداق من مصاديق الميتافيزيقا، و الإشكال فقط فى أنّ فلسفة كهذه أهي صحيحة أم لا؟

و يتصوّر البعض أنّ كلمة «الميتافيزيقا» تعني ماوراء الطبيعة و هي مرادفة ل_«ترانس فيزيک» (أي ما فوق الطبيعة)، و وجه تسمية الفلسفة بهذا الاسم، هو أنّ الحديث فيها يجري عن الله والمجردات، و في الحقيقة فإنّه تسمية الكل باسم الجزء ، و هذا مثل تسميتها بالإلهيات أيضاً.

و هذا التوّهم فضلاً أنه ليس صحيحاً في حد ذاته، فهولا يفسر لنا كيفية التقابل بين الميتافيزيقا و الديالكتيك للاسباب

ص: 27


1- سوف يأتي في فصل «الديالكتيك» أنّ الماركسيين يسمون الديالكتيك أحياناً علماً و أحياناً فلسفة و أحياناً منطقاً !

التالية :

أولاً لا تستطيع التسمية أن تغيّر ماهية المسائل الفلسفية و لا يمكنها ان تجعلها محصورة في حدود المجرّدات، فلو أنّ احداً أنكر وجود الله أو وجود المجردات و زعم انه يملك دليلاً على ما يقول، فإنّ هذا سيكون بحثاً فلسفيّاً وميتافيز يقيّاً ودائراً حول الإلهيات.

ثانياً : لو فرضنا أنّ معنى الميتافيزيقا هو ما وراء الطبيعة، و قصرنا البحوث الميتافيز يقيّة على البحوث التي تثبت وجود ما وراء الطبيعة، ففي هذه الصورة تكون الميتافيزيقية في مقابل المادية التي تؤمن فقط بوجود المادة و الأمور المادية، وتنكر الموجودات غير المادية. و ليس في مقابل الديالكتيك الذي لا ملازمة بينه و بين الماديّة، كما نلاحظ كثيراً من الديالكتيكيين القائلين بوجود الله من قبيل «هيجل» أب الديالكتيك.

و ينظر بعض العلماء الغربيين إلى الميتافيزيقا ، نظرةً مُريبة، و السبب في ذلك يعود إلى الفلسفة النقدية ل_«كانت» . فقد كان يعتقد في موضوع «المعرفة» كما سوف يجيئ انّ العقل النظري قاصر عن إثبات المسائل الميتافيزيقية، و هو يسميها ب_«المسائل جدلية الطرفين»، و يطلق على محاولة العقل النظري الفاشلة لحلّها اسم «الديالکتيک»، و انتهى هذا الميراث المشؤوم إلى أتباعه، و أفادت منه المذاهب المادية كثيراً حتى جاء دور «أوجست كنت» اب علم الاجتماع ومؤسس المذهب الوضعي (بوزيتو يسم) فاستغله أفضل - وللدقة نقول أشنع - استغلال و اعتقد بأنّ المعرفة التي ليست هي من معطيات الحس المباشرة لا يمكن الاعتماد عليها، و انتهى بالوضعيين المطاف إلى القول

ص: 28

بصراحة أنّ المفاهيم المتافيز يقيّة ليست «مفاهيم» بالمعنى الحقيقي، و الألفاظ التي تحكي عنها، إنما هي ألفاظ فارغة من المعنى تماماً !(1)

حقيق و الحقيقة أنه لا النظرية النقدية لكانتْ ، يمكن أن تكون عذراً للماركسيين ولا الاتجاه الحسّي المفرط عند الوضعيين، لأنه :

أولاً : يرفض الماركسيون نظرية كانت في المعرفة ولا يوافقونه على معقولاته الذهنيّة الموجودة قبل التجربة.

ثانياً: لو فرضنا أنهم قد تبنوّها في المسائل الميتافيزيقية، فإنّ ذلك لا ينتج نفي ما وراء الطبيعة، وكلنا يعلم أنّ كانتْ كان مؤمناً بوجود الله، وهو يظنّ أنّ إثبات هذا الموضوع يتم عن طريق العقل العمليّ.

و يُدين الماركسيون أيضاً نظرية المعرفة عند الوضعيين و يهاجمون شعارهم القائل «حقق لى حتى أقبل منك». ولولا هذا الهجوم و تلك الإدانة، فإنّهم لا يستطيعون ان يشيدوا الأصول الفلسفية لمذهبهم، ولا يستطيعون ان يتنبأوا تلك التنبؤات الغيبية للمجتمع و التاريخ.

إذن سخريتهم من الميتافيزيقا، لابد من جعلها في حساب ، دعاياتهم و شعاراتهم الحزبية التي يحاولون بوساطتها تشويه المسائل الإلهيّة أمام الاذهان البسيطة غير المسلّحة بالوعي.

و لانريد في هذه المقدمات استقصاء المذاهب الفلسفية و الحكم بشأنها، و سوف نتناولها بالبحث في فصل «نظرية المعرفة»، وإنّما نذكر بعض الملاحظات بصورة مجملة :

ص: 29


1- الغريب أن صاحب كتاب «دين اركان الطبيعة» قد حاول فيه نسبة التفكير الوضعي إلى «القرآن الكريم»!

1 - إنّ الاتجاه الحسّي و الاعتماد فقط على التجارب الحسية و التقليل من قيمة الإدراكات العقلية والتحليلات الذهنية، إنما هو إتجاه سطحي قصير النظر يعود بالإنسان القهقرى إلى حدود الحيوانية، و يمكننا مشاهدة هذا اللون من الاتجاه في طول التاريخ بين العامة المتصفة بسطحيّة النظر والمحرومة من الرشد العقليّ الكافي. فبنو إسرائيل مثلاً بعد أن رأوا كل تلك المعجزات التي تحققت على يد موسى (علیه السّلام) - تلك المعجزات التي كانت كل واحدة منها كافية لتمزيق حجب الظلام المسدولة أمام أبصار الباحثين عن الحق - فإنّهم في طريق عودتهم من مصر صادفوا في الطريق معبداً للاصنام، فاستيقظ في أنفسهم حبُّ الربّ المحسوس الملموس، فأصروا على موسى قائلين:

الرّد الإجمالي علی المنکرین

«اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة»(1). وقالوا لموسى (علیه السّلام) صراحة: «لن نؤمن لك حتّى نرى الله جهرة(2)» ومن ثم فقد عبدوا العجل متأثرين بهذه الدوافع.

و استغل فرعون سطحيّة هؤلاء في التفكير و تغاضى عن آيات موسى (علیه السّلام) و معجزاته الواضحة ، و لكى يضلل الناس فقد أمر وزيره «هامان»، كى يبنى له صرحاً شاهقاً يصعده ليرى أهناك إله في السماء: «لعلّي أطلع إلى إله موسى»(3).

و نلقى اليوم أيضاً في عصر الانفتاح العلمي و ازدهار المعرفة التجريبية العالم الفلاني ذا الاتجاه الحسّي أيضاً يبحث عن الروح تحت مِشرَط التشريح، و يعدّ بعض روّاد الفضاء عدم

ص: 30


1- سورة الاعراف - الآية 138 .
2- سورة البقره - الآية 55.
3- 30 سورة القصص - الآية 38.

وجدانهم الله سبحانه فيما وصلوا إليه من فضاء، دليلاً على صدق المذهب المادي. و لم يستطع التقدم الذي أحرزوه في العلوم التجريبية أن يضيف شيئاً إلى نضجهم العقلي، لكى يدركوا أنّ الشيئ المجرّد اذا كان موجوداً فانّه لا يمكن ان يناله مشرط التشريح ؛ ولا يمكن أيضاً أن يرى في الفضاء الوسيع من قبل روّاد الفضاء .

قلمه و إذا بنينا على إنكار كلّ مالا نشاهده تحت الميكروسكوب (المجهر) أو بوساطة التلسكوب (المنظار) أو برؤيته في المختبر أوفي الفضاء، فكيف نستطيع قبول كثير من الحقائق العلمية اللامحسوسة من قبيل الامواج الكهربائية المغناطيسية؟ و بأي حس من الحواس قد شاهدناها ؟

2- إذا اختار احد أن يحكم فقط على أساس الحس و التجربة، فلابد له من السكوت إزاء ما وراء الحس، و أن لا يحكم بشأنها إثباتاً ولا نفياً؟ وحينئذ لا يحق له ان ينفي احتمال وجود ما وراء الطبيعة. قال الإمام الصادق (علیه السّلام) مخاطباً احد الزنادقة الحسين : أقمتَ بتفتيش كل نقاط الأرض والسماء ثم ما وجدت الله فيها ؟ فأجاب: كلاً. فقال له الإمام: إذن كيف يمكنك أن تنكره؟

فأصحاب الاتجاه الحسّي إذن لا يحق لهم إنكار وجود الله او الروح أو الوحي الإلهي أو الحياة الخالدة بعد الموت، و لابدلهم من قبول الاحتمال بشأنها. و بالنظر إلى القانون الذي مرعلينا فيما مضى (∞ × 1/n = ∞) فإنّ هذا الاحتمال مهما كان ضعيفاً، فإنّ قيمته تفوق قيمة العلوم اليقينية بالنسبة إلى الاشياء المحدودة.

إذن لابد لهم من تنظيم سيرهم بشكل يصونهم من الضرر اللانهائي المحتمل.

ص: 31

و الخلاصة أنّ عقل الإنسان يدفعه لمعرفة الإيديولوجية الصحيحة و الرؤية الكونيّة الواقعية ، هذا من ناحية ؛ و من ناحية أخرى: فمن باب مراعاة احتمال واقعية الدين، هذا الاحتمال الذي مهما كان ضعيفاً، فإنّه لا يمكن إهماله لأنّ محتمله لانهائي، فعلى فرض أنّ شخصاً لم يوفّق للعلم اليقيني في هذا المضمار فإنّه يجب عليه على أقل تقدير ان ينفّذ البرامج العملية للدين حدَّ الإمكان، وأن لا يواجه العقائد الدينية بالنفي و الإنكار.

هناك مجموعة من القضايا الميتافيزيقية التي لا يمكن إدراكها بوساطة الحس؛ و مع ذلك فلا يوجد عاقل يستطيع ،إنكارها من قبيل «التناقض مستحيل» اي انه من المستحيل مثلاً أن يكون شئ ما موجوداً في لحظة معيّنة وفي مكان خاص و في نفس الوقت لا يكون موجوداً. و كذا من المستحيل أن تكون قضيّة ما مع المحافظة على جميع خصوصياتها صادقة وكاذبة في نفس الوقت؛ و حتّى إذا كان هناك شخص تُحدّثه نفسه بإنكار هذه القضيّة البديهيّة، فإنّه يكون قد قبلها بصورة لاشعورية لأنه لا يستطيع أن يوافق على أنّ اعتقاده هذا صحيح و خطأ نفس الوقت، و انه معتقد بهذا وغير معتقد في وقت واحد.

و نحن نعرف أخطاءنا في الإدراكات معتمدين على هذه القضية البديهية، فمثلاً عند ما نغمس يدنا اليمنى في ماء ساخن جداً و نغمس اليسرى في ماء بارد جداً، ثمّ نخرجهما و نغمسهما معاً في ماء دافي فان اليد اليمنى تحسّ بالماء انه بارد، و اليد اليسرى تحسّ به أنه ساخن؛ ولكنّنا بحكم هذه القضية البديهية القائلة، أنه لا يمكن ان يكون شي واحد ساخناً و غير ساخن في نفس الوقت نفهم أنّ أحد إدراكاتنا أوكليهما مخطئ.

ص: 32

و يتضح بهذا أنّ لدينا قضايا لا يمكن إنكارها، و هي ليست حسيّة، ولابد أن يكون لدى الإنسان قوة مدركة أخرى غير الحسّ تدرک هذه، وبمساعدة هذه القوة الباطنية نستطيع أن نتعرف على اخطاء حواسنا. إذن كيف يمكننا أن نحصر المعرفة اليقينية في تلك المعرفة الحاصلة من طريق الحسّ و التجربة الحسيبه ؟

4 - بإمكان الإدراك الحسي إذا كان صحيحاً ومطابقاً للواقع ان يُرينا وجود شي ما في ظروف زمانية ومكانية خاصة، ونحن لانملك حسّاً يستطيع أن يُريَنا وجود أشياء كانت قد وجدت قبل آلاف السنين، أوسوف توجد بعد آلاف السنين، أوهي موجودة في المجردات الأخرى . و من ناحية أخرى فنحن نلاحظ أن لدينا قضايا غير محدودة بزمان ولا بمكان، من قبيل هذه القضية «إنّ مجموع زوايا المثلث يساوي قائمتين»، وليس من الممكن أبداً أن يوجد مثلث مكوّن من ثلاثة خطوط مستقيمة بالضبط بينما تكون زواياه أقل أو أكثر من مائة و ثمانين درجة.

ولو فرضنا أننا قد جربنا مثلثاً أو عدة مثلثات في الخارج، فوجدناها مصدقة لهذا القول أي : انّ مجموع زوايا كل منها يساوي مائة و ثمانين درجة، أيكون هذا الإدراك الحسي المحدود هو الملهم لنا بأنّ أيّ مثلث و في كل زمان و مكان يوجد فهو متصف بهذا الحكم ؟

من البديهي أنّ الحس وحده عاجز عن هذه النظرة الماضوية و المستقبلية، إذن من أتي طريق قد ثبت لنا هذا الحكم الكلّى الذي يرفض أي استثناء؟

و العلماء التجريبيون في مختلف العلوم يحاولون أن يظفروا بقوانين كلية كهذه، ولو أنهم لا يحالفهم التوفيق في اكثر الموارد،

ص: 33

و لكنهم إذا ظفروا بقانون كلّي او أكثر في علم من العلوم فمن اتي طريق قد حصلوا على هذا القانون الكلّى ؟

أيوجد عالم واحد يستطيع ان يجرب كل الموارد المتعلقة بقانون ما، و یدرک نتيجة ذلك بحسّه ؟

بديهي أنّ عمر الإنسان محدود ، و لهذا فهو لا يستطيع ان يجرب الظواهر التي سبقت حياته و لا الظواهر التي ستعقب حياته، و ولا قدرته على التجربة محدودة، أيضاً من حيث الظروف المكانية و وسائل الاختبار، فهو لا يستطيع أن يجرب كل الظواهر المقارنة للظاهرة المدروسة، إذن فكيف يستطيع أن يثبت لنا قانوناً علميّاً كلياً، ويتنبأ بالحوادث القادمة على أساسه بشكل قاطع ؟

الواقع أنّ الإدراكات التجريبية، إنما تظهر بصورة قانون علمي كلّي ضروري إذا اكتشف علاقة العلية بين ظاهرتين؛ مثل علاقة العلية بين ظاهرة الحرارة وظاهرة التمدد في الفلزات. أما في حالة عدم اكتشاف علاقة العليّة، فإنّه لا يمكن صياغة قانون كلّي، و لا يمكن التنبوء بأي حادثة بشكل يقيني، واكتشاف علاقة العلية بين ظاهرتين يعتمد على التسليم بقانون العلية الذي هو أصل ميتافيز يقي.

قديتصور أن أصل العلية أيضاً قانون تجريبي وقد حصلنا عليه بوساطة التجارب الحسية المتكرّرة، فعلى أساس هذه التجارب، لاحظنا تعاقب او تزامن ظاهرتين بكثرة فاكتشفنا علاقة العلية بينهما .

ولكنّه لابد لنا أن نتنبه إلى أنّ معنى العلية هو غير التعاقب و التزامن، و نحن نعرف كثيراً من الظواهر المتعاقبة أو المتزامنة و ليس بينها رابطة العليّة، مثل تعاقب الليل و النهار و تزامن حدوث

ص: 34

النور و الحرارة في المصباح الكهربائي ؛ مع ان واحداً من هذه ليس علة للآخر.

وعلاوة على هذا، فإنّ الظاهرتين المتزامنتين لكونها تتحققان معا، فإنّه لا يمكن اعتبار إحداهما بعينها علة و الأخرى معلولاً لإنهما بالنسبة إلى التزامن متساويتان.

و على هذا، فمعنى العلية هو غير التعاقب و التقارن بين الظواهر، وأصل العلية - كما سوف يأتي توضيح ذلك – هو أصل ميتافيز يقى لم يحصل عن طريق الحس ولا التجربة، و من هنا يتضح أنّ العلوم التجريبية محتاجة إلى الأصول الميتافيزيقية لتصوغ القوانين الكلية الضرورية، و محاولات العلماء لكشف علل الظواهر مبنيّة على تسليمهم السابق باصل العلية.

ص: 35

المحاضرة الرابعة

اشارة

موضوع البحث

يمكن تلخيص نتائج مامرّ من حديث فيما ياتي :

1 - تتوقف قيمة الإنسان الحقيقية على كونه متمتعاً بإيديولوجية صحيحة.

2 - الإيديولوجية الصحيحة تحتاج إلى رؤية كونيّة واقعية.

3 - إنّ المسائل الأساسية للرؤية الكونية، هي أمور فلسفية و ميتافيزيقية لابد من إثباتها بالطريقة العقلية.

ضرورة البحث الفلسفيّ والمتافیزیقي

و قد يقال بشأن هذه النتائج : نحن نعرف أناسا مسلّحين بإيد يولوجية صحيحة و قدضحوا بالكثير في سبيلها و لازالوا يضحون من دون أن يربطوا بينها و بين مسائل الرؤية الكونية. وكذا يوجد أناس في الماضي والحاضر مزوّدون برؤية كونية صحيحة، و لكنّهم لم يظفروا بها عن طريق الفلسفة، بل و نشاهد بينهم علماء مخالفين للفلسفة ومناضلين لها. و من جهة ثانية هناك أناس كانت لهم أقدام راسخة في الفلسفة وقد قاموا بتحقيقات فلسفية دقيقة ولكنّهم لم يظفروا بإيد يولوجية صحيحة ونلاحظ أيضاً وجود أشخاص معترفين بصحة إيديولوجية ما ؛ ولكن معرفتهم و وعيهم لم يحملهم على الالتزام في مقام العمل. إذن أليس من الأفضل أن نُشيح بوجوهنا عن هذه المسائل النظرية و الآكاديمية، و أن نعتنق تلك الأساليب التي بإمكانها أن تبعث فينا روح الالتزام و المسؤولية فتتحقق نتائج واقعية تقود المجتمع نحو الرقي و التكامل ؟

هذه الإشكالات و مايشبهها، قد أثيرت كثيراً من قبل بعض

ص: 36

الاشخاص أو الفئات، في أحاديثهم أوفي كتاباتهم، ولعلّ منشأ بعضها هو نقص الاطلاع وضعف الوعي ، و لعل بعضاً من هؤلاء مغرض وله أهداف منحرفة أخرى، لسنا هنا بصدد البحث عنها و المهم بالنسبة الينافي هذا المجال هو توضيح الموضوع ليتمكن أصحاب النية الطيبة الذين يتحدثون بهذا الحديث نتيجةً لضعف الوعي - ليتمكن هؤلاء من انتشال أنفسهم من الأخطاء، و تفويت الفرصة على أصحاب الدوافع المنحرفة الذين يحاولون الوقوف في وجه النضج الفكري للناس، لكي يتمكنوا من خدا عهم وفرض أفكارهم المنحرفة عليهم فتتحقق أهدافهم.

و قبل أن نعالج الجوانب المختلفة لهذا الإشكال، نذكر بأنّ هناک سیلا من الدعايات المكثفة ضد الفلسفة قد انبعث في العقود الأخيرة في بلادنا، و قدساهم في ذلك بعض ذوى النيات الطيبة، وهم يتوهمون أو يوهمون بأنّ من الخواص الذاتية للفلسفة و العرفان انهما يدفعان الإنسان إلى اللامبالاة تجاه المسائل الاجتماعية، و يغرقان القوى الفكرية البناءة في مجموعة من المواضيع التي لا عائد منها و وجدت فئات تعلن عن نفسها أنها حامية الفكر ونصيرة الحرّية؛ ومع هذا فهي تحرّم قراءة الكتب الفلسفية وخاصةً تلك الكتب التي تهاجم الماركسية، متعلّلة بانّ هذه الكتب «مخدّرة» للفكر و الشعور.

ويكفي في مقابل هذه الدعايات أن نتساءل:

قبه النقي من الذي قاد النهضات الإسلامية فى العالم والثورة الإسلامية في إيران؟

الم يكن السيد جمال الدين الأسدآبادى (المعروف بالأفغاني) فيلسوفاً وعارفاً ؟

ص: 37

أما كان القائد العظيم للثورة الإسلامية في ايران - الذى نسال الله ظله على رؤوس المسلمين في العالم حتى ظهور ولي العصر عجّل الله فرجه الشريف - أستاذاً للفلسفة والعرفان ؟

ألم يكن الاستاد الشهيد مرتضى المطهري فيلسوفاً ؟

ألم يكن آية الله الشهيد السيد محمد باقر الصدر فيلسوفاً؟

و ألم يكن...

أجل، فليخسأ الخائنون...

و يوجد سؤال من ناحية أخرى:

رد شبهات حول ضرورة الفلسفة

ألم يكن هناك فيلسوف على الأقل ضمن قيادة الثورات الأخرى في العالم، ولاسيما الثورات العقائدية؟

ألم يستفيدوا من البحوث الإيديولوجية و الفلسفية في سبيل إنجاح ثوراتهم ؟ اما حرروا كتباً عديدة في مجال فلسفتهم ؟

و في بلادنا ، الم تنشر الفئات السياسية المحاربة للإسلام عشرات من الكتب الفلسفية؟

ايبقى شك بعد هذا كله في أننا لترسيخ أسس ثورتنا الإسلامية بحاجة إلى التفكير الفلسفي، وعلى الأقل لردّ شبهات الآخرين؟

و أمّا الجواب على أصل الإشكال، فقد وردت فيه أمور تحتاج إلى بحوث مفصلة، و لكننا نكتفي بتوضيح بعض الملاحظات بقدر الضرورة ورعاية للاختصار:

أ - إنّ قبول إيديولوجية معيّنة ليس ملازماً دائماً للمعرفة و الوعي، فما أكثر الاتجاهات التي تكونت نتيجةً لتقليد الآباء والأجداد أو الافراد ذوي الشهرة او الفئات و الأمم المعروفة، او نتيجة لموافقة أفكار معينة لمطالب و رغبات النفس -أعم من

ص: 38

كونها صحيحة و منطقية و مشروعة أوغير صحيحة ولا مشروعة،- أو أنّها فُرضت على الناس بوساطة كثافة الدعاية و مخاطبة العواطف و الإحساسات.

و من الواضح أنّ مثل هذا القبول لا تلازمه رؤية كونية و لا معرفة منطقية لأسسها .

أما الذين يهدفون إلى تكوين إنسان واع ويحاولون هدايته إلى كماله الإنساني، فهم لا يستطيعون الاعتماد على هذه الأساليب التي مر ذكرها ؟ وكلنا يعلم أنّ القرآن الكريم قدهاجم بشدّة مثل هذه الأساليب، و للمثال نذكر الآية (170) من سورة البقرة:

«وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولوكان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون» .

ويقول الله تعالى في الآية (116) من سورة الأنعام:

«وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلاّ الظَّنَّ وإن هم إلا يخرصون».

ويقول تعالى في الآية (23) من سورة النجم :

«إن يتبعون إلا الظنَّ و ما تهوى الأنفس وقدجاء هم من ربّهم الهدى».

و بالإضافة إلى هذا فإنّ العقيدة التي ليست مبنية على أساس محكم من استدلال، تكون مقاومتها ضعيفة أمام شبهات المذاهب الأخرى ولا تملك أي ضمان للبقاء ؛ و كذا الظفر بإيد يولوجية صحيحة من دون سلوك الطريق المنطقي الذي يمكن الاعتماد عليه، إنّما هو أمر يحدث صدفة ؛ و الاكتفاء بالوسائل التي قد توصل الإنسان صدفة إلى الواقع مع توفّر السبل المنطقية هو امر يستهجنه العقل.

ص: 39

ب - إنّ الفلسفة - كما اشرنا إلى ذلك محاولة عقلية لحلّ المسائل الميتافيزيقية و معرفة الاحكام العامة للوجود. و الدافع الفطري لذلك، هو غريزة حبّ الاطلاع و البحث عن الحقيقة عند الإنسان، و يتضح ممّامر علينا من بحوث، انّ هذا الأمر ضرورة لا يمكن تجنبها، ولاسيما في زماننا حيث نعايش هذه الأوضاع الاجتماعية المتميّزة، و لعله يمكن القول بأن الفلسفة في هذا العصر ، تقوم بدور دفاعي عن الإيديولوجية الإسلامية ودور هجومي بالنسبة إلى الإيديولوجيات المعادية للإسلام أو المنحرفة أو المرقعة، و يفوق هذا الدور دورها الإيجابي الذي توفّر الاستنارة للناس.

و بديهي أن استقلال العقل في سبيل حل المسائل الأساسية للرؤية الكونية، لا يعنى تبنّي فلسفة خاصة و لا آراء فيلسوف او مذهب فلسفي معين، ولا يدعي احد أنّ كل ما هو موجود باسم الفلسفة أوكل آراء فيلسوف ما أو مذهب فلسفي معين هو صحيح مائة بالمائة ولا يقبل أي مناقشة .

ولكن اختلاف المذاهب الفلسفية أو اختلاف الآراء بين أتباع المذهب الواحد في بعض المسائل العميقة والبعيدة عن البديهيات لا يمكن اعتباره دليلاً على بطلان الأسلوب العقلي و الفلسفي، كما أنّ اختلاف أتباع الأديان أو اختلاف علماء العلم الواحد (مثل علم الفقه) لايعد دليلاً على بطلان الدين بشكل أساسي ولا على بطلان أصل ذلك العلم. وإنّما لابد أن يكون هذا الاختلاف دافعاً قوياً للعلماء الواعين و المفكرين الملتزمين، لكي يبذلوا جهودهم أكثر و يجدوا ويثبتوالتتضح المسائل وتحلّ المشكلات و ليصلوا إلى نتائج أكثر اطمئناناً. ولا ينبغي اخذ

ص: 40

الاختلاف عذراً للكسل وطلب الراحة ، ولاعده دافعاً لسوء الظن بالقوة العقلية التي منّ الله بها علينا ولا بالمحاولات الفلسفية الدقيقة والتحليلات الذهنية العميقة.

ج - إن قصة العداء للفلسفة قصة طويلة، و لها عمق تاريخي في الدول الأوربية والدول الإسلامية؛ وليس بإمكاننا في هذا المجال المحدود ان نتناول عوامل ذلك و دوافعه. وإنّما نرى من الضرورى الإشارة إلى أنه بقطع النظر عن عبيدي القوة و الربح و الجاه و المنصب و بغض النظر عن عدواة الجاهلين لما يجهلون (الناس اعداء ماجهلوا) فإنّ كثيراً من المخالفات التي يُبديها أفراد مخلصون وبعضهم من العلماء المسلمين، لم تكن في الحقيقة إلا مخالفات لآراء شائعة باسم الفلسفة، أي إنّها مخالفة المذهب فلسفي خاص، و إلا فإنّ هؤلاء العلماء المخلصين يستخدمون الأسلوب الفلسفي في كتبهم العقائدية و لو أنهم لا يطلقون عليها اسم الفلسفة.

فالادلة التي يذكرها هؤلاء مثلاً في الكتب الكلاميّة لإثبات الصانع أو التوحيد او حتى لإثبات المعاد، هي بعينها الأدلّة يذكرها الفلاسفة الإلهيّون في كتبهم الفلسفية، وفي كثير من الأحيان هي نفسها الأدلة الواردة في الكتاب والسنة.

و ممّا يستحق الالتفات أنّ أعداء الفلسفة يقدمون أدلّة فلسفية لرد آراء الفلاسفة، و في الواقع فإنّها فلسفة تردّ فلسفة أخرى ؛ و لو أنهم لا يسمون آراء هم فلسفة ولا يعتبرون عملهم تفلسفاً ، وينقل في هذا المجال عن ارسطو أنه قال : الفلسفة لا تردّ إلا بالفلسفة.

د - لقد بيّنا فى حديثنا عن العلاقة بين الإيديولوجية و الرؤية الكونية، أنّ الرؤية الكونية لا تؤدّي بذاتها، و من دون ان نضم

ص: 41

إليها مقدمات اخرى إلى إيديولوجيّة معيّنه، كما لا تُثبت مقدّمة بديهية ويقينيّة نتيجة البرهان من دون أن نضم إليها مقدّمة أخرى. و على هذا فلا ينبغي لنا أن نتوقع من كل شخص مزوّد برؤية كونية واقعية ان تكون له إيديو لوجيّة صحيحة أيضاً، لأنه من المحتمل ان لا يكون قد فكر في علاقتها بالإيديولوجية. وقد لا يكون ملتفتاً إلى المقدمات التي يجب ضمها إلى مسائل الرؤية الكونية، لكي تمنحنا إيديولوجية صحيحة أونتيجة لعوامل أخرى لم يستطع أولم يشأ أن يعرف و يتبنى إيديولوجية صحيحة.

ه_ - لعله قد حدث لنا عدّة مرّات أن رأينا اننا نملك علماً واضحاً بحسن عمل و لكننا لا نعمله؛ أونملك علماً بقبح عمل و لكننا نقدم عليه ؛ و و هذا ان معرفة الحسن والقبح ليست شرطاً كافياً (علة تامة) للعمل . و لكنّه لا يجوز لنا ان نستنتج من هذا أنّ العلم و الوعي لادور له في السلوك الصحيح؛ لأنّ عدم كونه شرطاً كافياً لا يمكن أن يكون دليلاً على أنه ليس شرطاً لازماً .

فنحن اذا أردنا أن يكون لنا سلوك صحیح و معقول، سلوک يؤدّي بنا إلى السعادة الخالدة والكمال النهائي للإنسان، فلابد لنا من رؤية كونية حقيقية و إيديولوجيّة صحيحة؛ و لكن معرفة مسائل الرؤية الكونية و الإيديولوجية لاتد فعنا بصورة ضرورية لا تقبل التخلّف نحو السلوك الصحيح ، لأنّ أداء العمل الصحيح يحتاج الى الإرادة الصلبة المدرّبة على مقاومة الرغبات النفسية، و الوساوس الشيطانية، و الميول الحيوانية، و العادات و الصفات القبيحة التي قد تكون راسخة في أنفسنا منذ زمن بعيد؛ بالإضافة إلى الوعي والمعرفة الكافية. و بعبارة أخرى: فإنّنا بحاجة إلى التربية وصياغة الذات علاوة على التعليم و كسب المعارف

ص: 42

اللازمة.

و يشير القرآن في موارد كثيرة إلى هذه الحقيقة، و هي عدم التلازم الخارجي بين العلم و العمل؛ منها قوله تعالى في الآية (14) من سورة النمل بحق أصحاب فرعون: «وجحدوا بها و استيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوّاً».

و يحكي عن لسان بشأن فرعون نفسه حيث يقول تعالى موسی الآية (102) من سورة الإسراء : «لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا ربُّ السماوات و الأرض».

و من جهة أخرى ينقل فى الآية (38) من سورة القصص عن فرعون قوله : «يا أيها الملأ ما علمتُ لكم من إله غيرى».

إذن لا يبقى مجال للشك في أن الميول المنحطة و الجواذب النفسية الخاصة من قبيل عبادة الشهوة أو المال أو الجاه، قد تكون مانعة من قبول الحق او العمل به مع وجود العلم القطعي بحقيته ؛ و لكن هذا على أي حال يجوز أن يحملنا على التقليل من قيمة العلم و المعرفة و دورها فى صياغة الإنسان المضحى والمسؤول ؛ ولا يستطيع أحد انكار أنّ من أكبر عوامل انخداع و انحراف شبابنا ضعف الوعي و قلة الاطلاع بالنسبة إلى أصول الإيديولوجية الإسلامية.

و - هناك موضوع مهم و لكنه مع الأسف لم ينل الاهتمام اللائق به، و هو أنّ هوى النفس لا ينحصر تاثيره في مقام العمل و إنّما هو مؤثر بشكل لاشعوري في مرحلة العلم ؛ فليست نادرة تلك الموارد التي -قبل القيام بجمع الوثائق اللازمة للتحقيق و الحكم حول موضوع ما - يقوم القلب بإصدار رأيه و فتواه و يدفع صاحبه دون ان يشعر إلى الجهة التي يميل إليها. و لعله ليس من

ص: 43

النادر وجود أشخاص تفرغوا للبحث و التحقيق في مسائل الرؤية الكونية و الإيديولوجيّة وقاموا بمحاولات في هذا الصدد، و لكن قلوبهم من قبل قدعيّنت لهم الرؤية الكونية و الإيديولوجية المطلوبتين ؛ و هم مع ذلك يتخيلون أن التحقيقات العلمية هي التي قادتهم إلى اختيار تلك الرؤية الكونية و هذه الإيديولوجية.

و نستطيع ان نجد مثالاً واضحاً لهذا التأثير في أولئك الأشخاص الذين يتجهون إلى الاستفادة من القرآن الكريم و الحديث الشريف ولكنهم لا يهتمون بعشرات الآيات و الروايات ذوات الدلالة الواضحة الصريحة لأنها تخالف ما يريدون فيفتشون هنا و هناك عن آية من المتشابهات أو رواية ضعيفة السند و يجعلونها دليلاً على ما يقولون: «فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه».(1)

ويوجد في المسائل العقلية والفلسفية اتجاهات منحرفة من هذا القبيل ؛ اي أنه يوجد أشخاص قد اختار وا لأنفسهم منذ البدء إيديولوجية او رؤية كونيّة خاصة حسب ما تهواه انفسهم، ثمّ يكرسون جهودهم لتفسير ذلك فلسفيّاً ويسمون هذا ب_ «تعيين اتجاه الفكر».

إذن من يطلب الحقِّ و يبحث عن الحقيقة، لابد أن يخلّي ذهنه من الأحكام المسبقة و يطهر قلبه من كلّ هوى و أخلاقي لئلا ينساق لاشعورياً نحو الأحكام المخطئة. و لعله يمكن أن يستأنس الأنسان في هذا الموضوع بالآية (29) من سورة الانفال حيث يقول تعالى : «إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً». أي: قوّة للتميز بين الحق و الباطل.

ص: 44


1- سورة آل عمران : الآية (7)

و تذكر في هذا الصدد قصة ذلك الفقيه الذي عندما أراد دراسة احكام ماء البئر أمر بأن يملأوا بئر منزله، لئلا يؤثر نزوعه إلى سهولة الحكم في استنباطه بصورة لاشعورية. إنّ هذا لنموذج رفيع للتقوى فى الفكر.

و بهذا، فقد تبيّن لنا ضرورة البحث الفلسفي، لتوضيح أسس الرؤية الكونية ؛ و لم يبق أي عذر للتحلل من هذه المسؤولية الضخمة. و لذلك فسوف نحاول بعون الله أن نعالج أهم المسائل و أكثرها ضرورة مما يعيننا في هذا السبيل؛ و نختار الأسلوب الذي يمكنه ان يوصلنا إلى المعارف اللازمة في أقصر فترة فنبني قاعدة محكمة لعقائدنا و نحول دون انحراف الآخرين فكرياً و عقائدياً، ونكون بذلك قد ساهمنا في تقدم هذه الثورة الإسلامية العظيمة و إنجاحها، حتى تصل إلى استثبات النظام الاسلامي الحقيقي الذي لاخلل فيه. وقد دفعنا في حدود استطاعتنا الهجمات الإيديولوجية للقوى العظمى التي هي مقدمة يقيناً الهجمات سياسية وعسكرية؛ بل نستطيع - بعد أن نكسب القدرة الكافية أن نشن هجماتنا ضد المذاهب المنحرفة في كل أرجاء العالم، فننشر الرؤية الكونية والإيديولوجية الإسلامية في مختلف بقاع العالم لنكوّن أرضيّة للثورة الإسلامية العالمية.

نسأل الله أن يجعلنا ممن يليق لخدمة صاحب الأمر - عجل الله فرجه الشريف - و ان نكون من جملة انصاره الحقيقيين إن شاء الله .

ص: 45

القسم الثاني فى علم المعرفة

ص: 46

الفلسفة العلمية

يؤكد المذهب الماركسي على ضرورة الفلسفة ويعدها لازمة لتوضيح أسس الرؤية الكونية، و هو يزعم أنّ الفلسفة الصحيحة هي تلك الفلسفة المبنيّة على نتائج العلوم التجريبية ؛ وذلك بان نأخذ القوانين العلميّة ونعممها على كل الوجود فتتكوّن مجموعة من القوانين العامة الشاملة التي تضمّ كل أجزاء الطبيعة الحية و الميتة، وتتناول المجتمع والتأريخ و الفكر الإنساني، وهذه الفلسفة هي المادية الديالكتيكية.

و قبل القيام بتقييم لهذا الزعم ، لابد لنا من توضيح للمقصود من الفلسفة العلمية و الكلمة المشابهة لها .

الف - لاحظ بعض العلماء الغربيين كثرة التخصصات في العلوم التجريبية مما يسبب بعد المتخصصين عن غير موضوع تخصصهم، فاقترح إيجاد علم يدرس نتائج العلوم المختلفة و ينسقها، ورأى من المناسب تسمية هذا العلم «بالفلسفة العلمية».

ب - من العلوم التي استقلت أخيراً علم المناهج «متدلوجي» الذي يشرح أسلوب التحقيق في كلّ علم من العلوم، ويطلق على هذا العلم أحياناً أحياناً اسم «الفلسفة العلميّة».

ج - و هناک اصطلاح آخر قد يختلف «بالفلسفة العلمية» و هو اصطلاح «فلسفة العلم». و لتوضح المقصود من فلسفة العلم نقول : إنّ لكلّ علم موضوعاً و مسائل و مقدمات (مبادي) خاصة. فموضوع العلم هو ذلك العنوان الكلّي الذي تعود إليه موضوعات جمیع مسائل ذلك العلم، مثل العدد بالنسبة إلى علم الحساب، و المقدار (= الكمية المتصلة) بالنسبة إلى علم الهندسة. قد تكون موضوعات المسائل أحياناً أجزاء موضوع العلم، مثل أعضاء و

ص: 47

اجهزة الجسم الإنساني فهذه كلها أجزاء للبدن، وبدن الإنسان من حيث الصحة و المرض هو موضوع علم الطبّ؛ ففي هذه الحال تكون العلاقة بين موضوع العلم و موضوعات مسائله، هي علاقة الكلّ و الجزء و ليست علاقة الكلي والجزئي.

فمسائل العلم عبارة عن تلك القضايا التي تكون موضوعاتها أجزاء أو جزئيات لموضوع ذلك العلم، ونحن نحتاج لإثباتها إلى استخدام الأسلوب الخاص بذلك العلم. ففى الفلسفة مثلاً نستخدم الأسلوب العقلي، و في العلوم التجريبية، الأسلوب التجريبي، و في العلوم التاريخية و النقلية (مثل علم الفقه)، نستخدم جمع الوثائق و التحقيق في قيمتها، والبحث عن القرائن المتوفّرة والكشف عن مدلولها و محتواها.

و تكون استدلالات كل علم - حسب ما يناسبه من أسلوب - مبنيّة على أصول عامة تؤخذ مفروضة الصحة، ولا يستطيع هذا العلم نفسه وبأسلوبه الخاص أن يثبت صحتها و أن يدرجها ضمن مسائله و تسمى هذه الأصول العامة «بالمبادئ». فإن كانت هذه الأصول مشتركة بين جميع العلوم سمّيت «بالأصول المتعارفة» و إن اختصت بعلم واحد أو عدة علوم سمّيت «بالأصول الموضوعة» والأصول المتعارفة بديهية ولا تحتاج إلى إثبات من قبيل «كون التناقض مستحيلاً» اما الأصول الموضوعة فلابد من إثباتها في علم آخر. و في الماضي كان المنطق هو المتكفّل ببيان علاقة العلوم ببعضها، و محلّ إثبات الأصول الموضوعة لكلّ علم، ولكنّه أخيراً ظهر علم خاص يهدف لهذا الغرض و يقيم مبادئ العلوم، وقد أطلق عليم اسم «فلسفة العلم».

ص: 48

و الآن نتسائل: ما هو المقصود من الفلسفة العلمية الماركسية؟

لاريب انّ الماركسيين لا يقصدون بالفلسفة العلمية مناهج العلوم و لا فلسفة العلوم ولا ذلك العلم الذي يؤمن الانسجام بين سائر العلوم ، لأنّ فائدة علم كهذا ليس إلا تنظيم نتائج العلوم تبيين العلاقات التي تربطها ؛ بل مقصود هم هو: كما اننا نحصل في كل علم تجريبي على قانون كلّي من استقراء الموارد الجزئية و نُثبت صحة ذلك القانون بالتجربة العملية، فكذلك نحن نستطيع أن نظفر بقانون كلّي يشمل العالم كله، وذلك بدراسة القوانين العلمية و أن نثبت ذلك بالطريقة التجريبية. و على أساس هذا القانون الشامل يمكن التنبوء بالحوادث الاجتماعية و التاريخيّة القادمة.

فمن التشابه بين جدول «مندلیف» في الكيمياء ومراحل تطوّر الأنواع في نظرية «داروين» يستنبط قانون تكامل او تحول الطبيعة بصفته قانوناً فلسفيّاً عاماً ؛ ثمّ يعمم على المجتمع و التاريخ ، ويتنبأ على أساسه بتحقق المجتمع الشيوعي (المجتمع اللاطبقي الحديث) الذي يزعمون أنه آخر مراحل تكامل المجتمع، و يكون هذا بشكل قاطع على أساس أنه قانون علمي فلسفي. و كلّ من يُمعن النظر في الكتب الماركسية يعلم ان الهدف الأصيل من كل هذه البحوث والتفلسفات إنما هو تغذية دعاياتهم الحزبية.

وسوف ندرس - بعون الله - هذه الفلسفة العلمية حسب ادعائهم ؛ و نرى من الواجب علينا هنا أن نشير إلى أنّ الفلسفة العلمية تعبير غير متلائم و لاموفّق ، و هو يدل على عجز مبتكر يه عن تمييز الفلسفة من العلم أو على خداعهم ؛ لان الفلسفة والعلم

ص: 49

(حسب المحاضرة الثانية)

حسب الاصطلاح (الحديث متميّزان تماماً من حيث الموضوع و من حيث الأسلوب فموضوعات العلوم التجريبية مأخوذة من المحسوسات بينما المفاهيم الفلسفية حاصلة من التحليل العقلي.(1)

طريقة إثبات المسائل العلميّة فهى طريقة تجريبية و مبنية على الإدراكات الحسية و إن كانت في إثبات كليتها و ضرورتها محتاجة إلى الأصول العقلية و لكن هذه الأصول مقبولة هناك بصفتها أصولاً موضوعة، بينما طريقة إثبات المسائل الفلسفيّة طريقة عقلية مبنيّة على البديهيات العقلية؛ ولا يمكن إثبات ولانفي المسائل الفلسفية بالتجربة الحسية. فمسألة وجود الله او الروح المجرّد أو الوحى أو الحياة الأبدية لا يمكن إثباتها و لانفيها اعتماداً على التجربة الحسية.

و تعمیم قوانين علم ما لتشمل الموارد الأخرى و استنباط قوانين عامة تشمل العالم كله من القوانين المتشابهة في العلوم (على فرض كونها قوانين علمية و ليست فرضيات) إنما هو خداع آخر لا ينطلي على اصحاب النظر. فالقوانين الفسيولوجية مثلاً لا يمكن تعميمها لتشمل المادة و الطاقة اللتين هما موضوع علم الفيزياء وعلم الكيمياء ؛ ولا يمكن أيضاً تعميم قوانين علم النفس لتشمل الموجودات من غير الأحياء. و من قبيل هذه المغالطات ماجرت عليه عادة مفكري الماركسية باستنباط قانون تحوّل و تكامل الطبيعة، ثمّ تعميمه ليتناول التاريخ و الفكر الإنساني ؛ و

ص: 50


1- في فصل «علم المعرفة» يجري البحث حول المعقولات الأولية و الثانوية و الاختلافات الأساسية بينها، و بهذا سيتضح الموضوع بشكل أكبر.

سوف نفضح في الفصول القادمة بعون الله ما في هذا من خداع و مغالطات.

ولابد من الإشارة في هذا المجال إلى ملاحظة أخرى، وهي الطابع «العلمي» قد اكتسب قيمة فائقة نتيجة لهيمنة العلوم التجريبية ؛ وقد يوهم الاشتراك اللفظي بعض الناس الذين لاخبرة لهم بأنّ الشيء الذي لا ينطبع بهذا الطابع إنما هو أمر لاقيمة له، لأنّ الشي مالم يكن «علمياً» فهو لابد منتسب إلى الجهل»!

فينبغي الالتفات إلى أن العلمي بالاصطلاح الحديث، مساو للتجريبي ؛ وأغلب المسائل التي توصف اليوم بأنها علميّة إنما هي فرضيات لم يفرغوا من إثباتها (كما في مسائل علم الاجتماع مثلاً).

فهذا الطابع الذي ليس له قيمة ذاتيّة عندما يلصق على واجهة فلسفة ما فإنّه لا يكسبها أية قيمة ؛ و بطريق أولى لا ينقص فقدانه قيمة فلسفة ما . ويستطيع فقط أن يخدع الجاهلين وقليلي الخبرة.

و ملخص ما مرّ من حديث: أنّ الطابع العلمي عند ما يضاف إلى الفلسفة، فإنّه يصبح ترقيعاً قبيحاً لا يرفع قيمتها، ولا ينبغي عده صفة مدح. أما كون فلسفة ما ليست علميّة فليس ذلك نقصاً، ولا يجوز لنا أن نتصوّر كون الفلسفة الإلهيّة غير يقينيّة؛ ولا يمكن الاعتماد عليها ، لأنها ليست علمية ولا تجريبية، وذلك لسببين :

اولاً : انّ المسائل العلمية اليقينية نادرة جداً؛ و يتم إثبات القوانين العامة للعلم – حتى في تلك الموارد على ضوء الأسس الفلسفية والعقلية.

ثانياً : انّ المسائل الفلسفية يمكن إثباتها بالطريقة العقلية و على اساس بديهيات العقل إثباتاً يقينياً لا يرقى إليه الشك؛ فتكون

ص: 51

قيمتها اليقينية أرفع بكثير من قيمة المسائل العلمية التي يتم إثباتها بوساطة التجربة. وسيجي - بعون الله - توضيح هذا كله في الفصول القادمة.

ص: 52

المحاضرة الخامسة

اشارة

موضوع البحث

ثبت من حديثنا السابق ضرورة دفع العقل لمعرفة أصول الرؤية الكونية ومسائلها الأساسية. و لما كان البحث قائماً حول لهال قدرة العقل على معرفة هذه الأمور، رأينا من الضروري،- قبل الدخول في صميم البحث و حل المسائل المهمة في الرؤية الكونية - أن نتناول مسائل «علم المعرفة» التي تشكل اليوم جانباً مهماً من الفلسفة الحديثة يطلق عليه اسم «إبيستمولوجي».(1)

مفهوم المعرفة

و هو مفهوم بديهي، ليس فقط لا يحتاج إلى تعريف، وإنّما لا يمكن إطلاقاً تعريفه، لاننا عندما نفتش عن تعريف لشي ما ؛ فنحن نبحث عن موضّح نستطيع بوساطته أن «نعرف» ذلك الشي المطلوب، إذن نحن على علم سابق بمعنى المعرفة، أي نحن «نعرفها» من قبل. وكل التعبيرات التي تذكر على اساس أنها تعريف للمعرفة و الإدراك و الوعي و امثالها، إنّما هي شرح لفظي او تعيين لبعض مصاديق المعرفة التي يتناولها علم من العلوم، أو يقصد منها بيان رأي صاحب التعريف حول المسائل و الخواص و اللوازم التي تطرح للبحث في هذا الموضوع. كما نلاحظ ذلك فى بعض الكتب المنطقية التي تعرّف «العلم» بأنه «حصول صورة الشي في الذهن»، لكي يعلم من ناحية أنّ العلم المقصود في المنطق، هو العلم الحصولي و ليس العلم

ص: 53


1- Epistemologi

الحضوري:(1) ويعلم من ناحية اخرى ان مسائل علم المنطق تدور حول محور «التصور والتصديق» ولا تختص بالتصور وحده ولا بالتصديق بمفرده. كما نلاحظ ذلك أيضاً في محاولة بعض الفلاسفة تعريف مطلق العلم و المعرفة المقصودة في الفلسفة بانّها «الاضافة والنسبة التي هي بين العالم و المعلوم».

و قد رُفض هذا التعريف من قبل المحققين ؛ وعرفها بعضهم بأنها «حضور شي لدى موجود مجرّد،» أو «حضور مجرد لدى موجود مجرّد» و ذلك ليبينوا أن رأيهم في الإدراك و المعرفة أنها أمر مجرد و ليس مادياً، ويكونون فى الواقع قد ذكروا رأيهم في مسألة من المسائل الفلسفية المتعلقة بالمعرفة ضمن تعريفهم للمعرفة.

و إذا كان من الواجب أن نذكر توضيحاً لمعنى كلمة المعرفة ؛ فالأفضل أن نقول : إنّ معرفة شي ماهي عبارة عن «حضور نفس ذلك الشئ أوصورته الجزئية أو مفهومه الكلي لدى القوة المدركة»؛ و نذكر هنا بأنه لتحقق المعرفة لا توجد ضرورة لأن يكون «العارف» دائماً غير «المعروف»، وإنّما من الممكن في بعض الموارد من قبيل إدراك النفس (= أنا المدرك) لذاتها، أن لا توجد مغايرة بين المدرك و المدرّك؛ وفي هذه الموارد تكون «الوحدة» في الواقع اكمل مصاديق «الحضور».

ما هو الدافع للمعرفة؟

يميل الإنسان إلى المعرفة بصورة غريزية و من دون تاثير

ص: 54


1- سوف يأتي في الدروس القادمة معنى العلم الحضوري والعلم الحصولي.

العوامل الخارجية، ويستطيع أي انسان أن يجد هذا الميل الطبيعي في اعماق ذاته.. وغريزة حبّ الاطلاع وطلب المعرفة و البحث عن الحقيقة هي التي شادت القصر الرفيع للفلسفة ورفعت دعائمه. و كما أنّ إشباع اي غريزة يستتبع لذة معيّنة، فإنّ إشباع هذه الغريزة أيضاً يفجّر لذة خاصة؛ حتى ادّعى بعضهم أنّ لذة العلم أرفع و أنقى من كلّ لذة، و وُجد أناس في الماضي ويوجد بعضهم في الوقت الراهن، و قد أغمضوا أعينهم عن كل لذات الحياة، لكي يتفرغوا لتحصيل العلم.

و نحن نعلم أن قوّة التهييج في جميع الغرائز ليست متساوية في كل الناس؛ فيختلف مقدارها الطبيعي باختلاف الناس، و تختلف عوامل تفتحها أيضاً بينهم ؛ فالذين يتمتعون بدافع غريزي قوي و تتوفّر لهم عوامل لتنميته تصل فيهم قوة التهييج إلى حدّ الكمال.

و لا ننكر أنه توجد غرائز و دوافع اخرى تؤثر في كسب العلم، و من جملتها تأمين احتياجات الحياة حيث يتطلب ذلك معرفة الطبيعة و سبل استغلالها، و لكنه ليس صحيحاً حصر الدافع للمعرفة و كسب العلم والحكمة في تأمين الحاجات المادية. و الذين يدعون هذا الحصر، إما أن تكون فيهم غريزة البحث عن الحقيقة ضعيفة و يقيسون الآخرين على أنفسهم؛ و إما أنهم يحرفون الحقيقة عن عمد لتحقيق أغراض سياسية وحزبية خاصة. و الذين يطلبون العلم لغرض استغلال الطبيعة يختارون علماً يتلاءم هذا الهدف ويدققون في مدى واقعيّة معلومات هذا العلم حسبما تقتضيه حاجاتهم منه .

أما الذين يحملهم دافع البحث عن الحقيقة على كسب العلم

ص: 55

و الحكمة، فهم لا يعرفون حداً للبحث العلمي و يحاولون الحصول مهما أمكن على معارف أدق و أقرب إلى اليقين؛ بل هم يطلبون معارف يستحيل عليها الخطأ (ذات يقين مضاعف). ولاشك أنّ عدد هؤلاء في كل عصر قليل. و لكنّ الجهود الجبارة لهوءلاء في تلك العصور هي التي اوجدت الفلسفة و نمتْها، و هناك مجالات كثيرة تنتظر هذه الجهود لحلّ كلّ المسائل الفلسفيّة الدقيقة.

و يمكن تلخيص ما مر بأنّ أهم دافع للمعرفة و حل المسائل الأساسيّة للرؤية الكونيّة هو جعل الحياة إنسانية (تانيس(الحياة) و بعبارة أخرى ؛ يتوقف عليها صيرورة هذا الموجود إنساناً بالفعل؛ و هناك شي آخر يدفعنا لمعرفة الإيديولوجية الصحيحة و الرؤية الكونية الواقعية و هو الأمل في سعادة ابدية و الخوف من شقاء خالد.

موضوع المعرفة

لعله لا يتذكر احدنا زماناً قد شكّ فيه بوجود الأشياء الخارجيّة، (علاوة على أنّ أنفسنا لا يمكن الشك فيه)، وجود فضلاً عن ان يصل الدور إلى أن نعتقد بأن الوجود ليس إلا حلماً و خيالاً ولا وجود لشي غيرنا وغير خيالا تنا !

ولا يوجد إنسان عاقل إلى الحد الذي انتهت إليه معلوماتنا - يتصرف تصرفاً منبعثاً من هذا الزعم مع أنه من الناحية النظرية قد وجد الشكاكون والمنكرون للواقعيات الخارجية. أي حتى المثاليون الراديكاليون (المتطرفون) يعيشون أيضاً مثل الآخرين، يأكلون الطعام يلبسون الملابس ويدرؤون عن انفسهم الأخطار؛ و بديهي انهم لولم يقوموا بذلك، لما امتدت حياتهم طويلاً. وفي

ص: 56

الواقع فإنّ نظريّة هؤلاء الفلسفيّة لم تكن منسجمة مع حياتهم العمليّة، أي ان سلوكهم يكذب دعواهم. و أما أنّهم لماذا تبنوا هذه النظرية المنحرفة ، فلذلك أسباب سوف نشير إلى بعضها فيما بعد.

و هذا الاعتقاد الارتكازي العام بوجود الواقعيات الخارجية هو نفسه الذي يعبر عنه أحياناً ب_«فطريّة الاعتقاد بالوجود العيني»، و المقصود هنا من كلمة «الفطريّ» هو القبول الارتكازي العام، و لكلمة «الفطريّ» اصطلاحات أخرى و استعمالات مختلفة لسنا الآن بصدد بيانها.

إنّ الواقع الخارجي - الذي هو مورد قبول كل أفراد الإنسان عمليّاً، و مورد قبول الأكثرية القريبة من الإجماع نظرياً- هو موضوع المعرفة. أي انّ الإنسان بحكم مالديه من غريزة حب الاطلاع و البحث عن الحقيقة، يريد أن يعرف هذا الواقع الخارجي و يحيط به علماً، ولكنّ الجوّ يساعد على النشاط الفلسفيّ حتّى لاؤلئك المنكرين لوجود الواقع الخارجي نظرياً و الشاكين فيه أيضاً أو الذين يذعنون بالواقع الخارجي و لكنهم يقولون بعدم إمكان معرفته ؛ وذلك لأنّ المثاليين لا ينكرون وجود النفس (= أنا المدرك) و المُثل و الصور الإدراكية، فهذه المُثل و العلاقات بينها قد وفرت لهم أرضيّة للنشاط الفلسفي. و موضوع المعرفة عند المثاليين هو النفس ومثلها؛ إلا أن يدعي أحد أنه حتى هذه الأمور أيضاً لا وجود لها ، و اذا فرضنا انّ إنساناً قد وجد بهذا الشكل فإن لم تكن له نيّة خبيثة فلابد من التعجيل بإرساله إلي الطبيب النفسي، وإن كانت أقواله وسيلة لتنفيذ نياته الخبيثة، فلابد من تعريضه للعقوبة حتّى يعرف الواقع الخارجي عمليّاً.

ص: 57

مسير المعرفة

تحصل لنا الإدراكات البدائية عادة بوساطة الحواس الظاهرة ؛ فهذه الحواس نوافذ للإنسان تنفتح على العالم الخارجي، ونحن نحيط علماً بوجود كثير من الظواهر المادية التي تحدث حولنا عن طريقها. كما نحيط علماً بالظواهر النفسيّة من قبيل: الحبّ و الأمل و الخوف والنفور في أعماقنا. ونعبر و نعبّر أحياناً عن هذا الإدراك الداخلي ب_«الحسّ أو التجربة الباطنية». أما ظاهرة الكلام فهي لا تستلزم عند سماع الأصوات العلم بوجود الأصوات ذاتها فحسب، و إنما تستلزم ايضاً العلم بمعانيها و محتواها و بمقاصد الآخرين و بوجود الأشياء التي لا يتعلّق بها إدراكنا بصورة مباشرة. و اختراع الخط و الكتابة أتاح لنا الفرصة ليس فقط لرؤية الخطوط على الورق أو الأشياء الأخرى باعيننا، وإنّما لمعرفة ما تعبّر عنه هذه الخطوط من معان وماتحكي عنه من حقائق .

و نحن نملك أيضاً قوى إدراكيّة أخرى تصوّر مدركاتنا الحسّية (الاعم من الظاهريّة و الباطنية) و تخزن هذه الصور و تستدعيها للحضور في الذهن عند اللزوم ، ولو لم تكن هذه القوى لما استطعنا أن نستعيد شيئاً و أن نعرف أنّه هو ذلك الشئ الشئ السابق نفسه قد ادركناه مرّة أخرى. والأهم من الجميع تلك القوة أو القوى الباطنية الأخرى التي نملكها والتي تستطيع أن تستخرج من النماذج الجزئيّة مفاهيم كلّية ثمّ تجرى عليها عمليات واسعة النطاق سوف نشير إلى جانب منها فيما بعد.

فلو لم تكن لدينا قوة صياغة المفاهيم لما استطعنا إطلاقاً إدراك أي أمر كلّي، و في النتيجة سوف لن يكون لدينا قانون علميّ ؛ إذن حياة العلوم و الدراسات الفلسفية منوطة بوجود هذه

ص: 58

القوى.

و تتم خلال حدوث الإدراكات الحسية عشرات الأفعال و الانفعالات الفيزيائية والكيميائية والفسيولوجية التي لا علم لنا بها بصورة ذاتية. وكذا فى حالة تحقق الإدراكات الخيالية (الصور الذهنية الجزئية) و الإدراكات العقلية (المفاهيم الكلية)؛ فإنّ نشاطات كثيرة وسريعة تتم في الذهن دون أن نلتفت إليها؛ ولا يبدأو عينا بها إلا عند ما تحصل لنا صورة إدراكية خاصة ؛ وفي غير هذه الحال لانكون مطلعين على المقدمات التي توجد هذه الإدراكات، أمّا عندما ندقق فى كيفية ظهورها بوساطة التجارب العلمية والتعمّق الباطني، كما يفعل العلماء التجريبيون بالظواهر الفيزيائية الكيميائية و الفسيولوجيّة وعلماء النفس بالظواهر النفسية ؛ فعندئذ قد نلتفت إلى تلك المقدمات.

و ادعى بعض الناس ألواناً أخرى من الإدراك ليست عامة ؛ و بعض هذه الإدراكات يحصل حسب ما يدعي هؤلاء بدون مقدّمة مثل «التليبائي» الذي يبحث عنه علماء النفس، و الإلهام والوحى الذي يقول أنبياء الله و أولياؤه أنه يصل إليهم من قبل الله، والعلوم الباطنية التي تحصل بفضل الممارسات والرياضات الخاصة كما يدعي بعض المرتاضين و من الواضح ان صحة هذه الادعاآت يمكن إثباتها فقط بالأدلة العقلية أو التجريبية ؛ وإلا فإنّ هذه الإدراكات لا يمكن نقلها للآخرين لانها تتميز بناحية شخصيّة. و حسب ما وصل إليه علمنا لم يستطع العلماء التجريبيون على الرغم من محاولاتهم الكثيرة أن يقدموا تفسيراً علميّاً لهذا اللون من الإدراكات؛ مع أنهم يسلمون بواقعيتها نتيجةً لما وجدوا من آثارها و علائمها.

ص: 59

ولادة علم المعرفة

كل واحد منا على علم -قل اوكثر- بأخطائنا الحسية، مثلاً نرى الأشياء الكبيرة من بعد صغيرة ، ونرى العصا المستقيمة التي يغطس نصفها في الماء بصورة منكسرة، و نحسّ بالماء الدافئ بارداً عند ما تكون يدنا ساخنة، ونشعر به حاراً عند ماتكون يدنا باردة؛ و لما كنا على علم يقيني بأنّ الشي الواحد لا يمكن أن يكون كبيراً وصغيراً في نفس الوقت ؛ وأنّ العصا الواحدة لا يمكن أن تكون مستقيمة و منكسرة في وقت واحد، وان المقدار المعيَّن من الماء لا يمكن أن يكون بارداً و ساخناً في زمن واحد، فقد عرفنا أنّ واحداً من هذين الإدراكين الحسّيّين او كليهما مخطئ؛ وفي الواقع نحن قد عرفنا وجود الخطأفي الإدراك الحسي بمساعدة إدراك عقلي بديهي يقضي بعدم إمكان اجتماع صفتين متضادتين أو متناقضتين في شي واحد.

ويحدث الخطأ أيضاً في الأفكار والتحليلات الذهنية المتعلقة بالقوى العقلية و اوضح دلیل علی ذلك اختلاف الآراء بين العلماء والفلاسفة و كثيراً ما يحدث لنا الاعتقاد بموضوع مدعمين ذلك بالدليل، ثمّ نعرف بعد ذلك أنّ الدليل لم يكن صحيحاً فيتغيّر اعتقادنا أساسه.

ويساهم تقدم العلوم التجريبية واختراع الوسائل العلمية أيضاً في إلفات الإنسان إلى أخطاء كثيرة تحدث في الإدراكات الحسية و في أحكام الإنسان بالنسبة إلى المحسوسات؛ مثلاً نحن نرى كل جسم شيئاً متصلاً لافواصل بين أجزائه ولكنّه قد ثبت بمساعدة الوسائل العلميّة الحديثة وجود فواصل و فراغات نسبية بين

ص: 60

اجزاء الجسم الواحد ؛ وحتى في أعماق الذرّات توجد أيضاً فواصل كبيرة نسبياً بين البروتونات والإلكترونات. وثبت أيضاً وجود أمور مادية عديدة فيما حولنا مع أنّ حواسنا لاقدرة لها على إدراكها من قبيل الفيروسات و المكروبات و الامواج الصوتية التي لا تتناسب ذبذباتها مع طاقتنا السمعية او الاضواء تحت الحمراء أو فوق البنفسجيّة التي لا تراها أعيننا او الأمواج الكهربائية المغناطيسية و كثير غيرها .

و الأهم من هذا كلّه، أنّ الدراسات العلمية قد أوضحت أن أجهزتنا الحسّية لا تدرك الأشياء الخارجية ذاتها، و إنما هي تدرك آثاراً منها تنتقل إلى هذه الاجهزة(1)، و تطرأ على هذه الآثار تغييرات مختلفة نتيجة للتأثير والتأثر الفيزيائي الكيميائي و الفسيولوجي الذي يحدث فيها.

ولا يُعير الأشخاص العاديون اي اهمية للاخطاء التي تقع في الإدراك مع علمهم بانّ كثيراً من إدراكاتهم لا تطابق الواقع، وذلك لأنّ هذه الأخطاء ليست هي بشكل يؤثر على حياتهم العمليّة او يخل بمسيرها . أمّا العلماء والفلاسفة الجديدوا النظرو الباحثون عن الدقائق فهم دائماً في صدد معرفة الأخطاء و علل حدوث الخطأ في الإدراك وسبل تمييز ذلك من الحقيقة، وقد قدموا في هذا المضمار بحوثاً متنوعة سوف يشار إلى جانب منها في المستقبل.

و سارت هذه البحوث في طريق التنظيم حتى كونت في القرون الأخيرة علماً خاصاً بذلك يعرف باسم «علم المعرفة»

ص: 61


1- إنّ نسبة الإدراك إلى الأجهزة الحسية هو لون من التسامح.

(ابيستمولوجي).

دراسة علمية وفلسفية حول المعرفة

توجد ألوان مختلفة للبحث حول المعرفة والمواضيع المرتبطة بها، فبعضها يدور حول التأثيرات و التأثرات الفيزيائية والكيميائية التي تحدث أثناء حصول الإدراك من قبيل سقوط الضوء على الأجسام و انعكاسه الفيزيائي في أجهزة الرؤية عندنا، و دراسة العوامل التي نرى على أساسها الألوان المتنوّعة، وعلاقة البعد و القرب برؤيتنا الشي صغيراً أو كبيراً وأمثال هذه، أو كيفية حدوث الأمواج الصوتية وانتقالها إلى طبلة الأذن و تاثير بعد و قرب منشأ الصوت من جهاز السمع، و تأثير الحواجز المختلفة في كيفية الإدراك او كيفية انتقال الحرارة من الأجسام إلى البدن و الارتباط بأعصاب اللامسة وإحساس الحرارة والبرودة أو التحليل والتركيب في المواد الكيميائية أثناء الشم أو الذوق او غيرهما ؛ و بديهي أنّ هذه البحوث تتعلّق بتطبيق القوانين الفيزيائية و الكيميائية الخاصة على الظواهر التي تحدث أثناء الإدراكات الحسّية، وهي مسائل علميّة تُدرس بالأسلوب التجريبي.

والبعض الآخر من البحوث يتعلّق بالأجهزة الحسية والجهاز العصبي والمخ والافعال الفسيولوجيّة التي تحدث مقارنة او بعد التأثير و ألتأثر الفيزيائي والكيميائي ، وتاثير الأشياء الخارجية من قبيل : دراسة العلاقة بين ألوان الإدراكات الحسّية و أقسام المخ المختلفة؛ إنّ هذه أيضاً مسائل علميّة تُدرس باسلوب تجريبي خاص.

و هناك لون آخر من البحوث يتعلّق بالمعرفة، فيدرس أنواع الظواهر النفسية وكيفية ارتباطها ببعضها من قبيل: تخزين

ص: 62

الإدراكات واستعادتها، وكيفية عمل الحافظة و طريقة تداعي المعاني التي يبحثها علم النفس وعلاقة ذلك بالجهاز العصبي و المخ التي يبحثها علم النفس الفسيولوجي ؛ إنّ هذه أيضاً مواضيع(1) علمية يتم بحثها بأسلوب خاص.

كل فئة من هذه المسائل المختلفة تتعلّق بعلم خاص و تتبع قوانين معينة، وليس من الممكن ان تُثبت القوانين الفيزيائية أو الكيميائية الظواهر الفسيولوجيّة ولا القوانين الفسيولوجية تستطيع أن تفسّر الظواهر السيكولوجية؛ و لكن هذه المسائل جميعاً تتميز بخاصة مشتركة و هى كونها جميعاً علميّة ولابد من دراستها بالأسلوب التجريبي.

و توجد مجموعة أخرى من المسائل الدائرة حول المعرفة، و تختلف تماماً هي عن هذه المسائل ؛ ولابد من معالجتها بأسلوب آخر من قبيل هذه الأمور: ما هي حقيقة الإدراك ؟ و إلى أي حد يمكن أن يكون مطابقاً للواقع ؟ و بأية كيفية توجد الإدراكات العقليّة و الميتافيز يقيّة؟ وكيف تكتشف العلاقات الخارجيّة؟ و الإدراكات القيميّة والأخلاقية من اي لون من الإدراكات هي ؟ و كيف توجد ؟ و ما هو المعيار في صحتها وعدم صحتها ؟

والمقصود من علم المعرفة هو دراسة مثل هذه الأمور التي لابد من معالجتها بالأسلوب التعقلي؛ اي انها مسائل فلسفية و ميتافيزيقية و ليست علميّة ولا تجريبية، وكل محاولة لحل هذه المسائل اعتماداً على القوانين العلمية و بالأسلوب التجريبي،

ص: 63


1- لابد من الالتفات إلى أنّ بعض المدارس في علم النفس (ذات الاتجاه الاستبطاني) لا تستخدم أسلوب التجربة الحسية، ولهذا فإنّه لا يمكن عدها «تجريبية» إلا إذا وسعنا مفهوم التجربة فأصبحت تشمل التجربة الباطنية .

فهي محاولة عقيمة تشبه محاولة حل المسائل النفسية بوساطة القوانين الفيزيائية او الكيميائية، بل هي أضل منها وأقبح . ولكنّ الماركسيين كما فعلوا في فلسفتهم وأطلقوا عليها اسم «الفلسفة العلميّة» ؛ فإنّهم يحاولون في مثل هذه المسائل أن يستخدموا نتائج العلوم التجريبية، ولكن محاولة اللجوء إلى قوانين علم الفيزياء أو علم الاحياء أو ما يشبهها في هذا المجال لا تنتهي - كما سوف نرى - إلا إلى عبث محض. و هذه المحاولات كلّها ، إما أن تكون ناشئة من الجهل و الضحالة؛ وإما أن يكون المقصود منها المغالطه وخداع العامة.

ص: 64

المحاضرة السادسة

الواقع الخارجي

إنّ أوّل مسألة تطرح للبحث في علم المعرفة هي : أيوجد واقع خارجي وراء إدراكاتنا أم لا؟

و بعبارة أخرى : أيكون الوجود منحصراً فقط في الموجودات المدركة و ما تملك من صور إدراكية، أم هناك وراء المدركين و صورهم و مفاهيمهم الإدراكية (التي هي مدركات بالذات لا بالوساطة) أشياء موجودة يتعلّق بها الإدراك، فتصبح مدركات بالوساطة و بالعرض؟

و طرح هذه المسألة يثير الاستغراب عند الذين لا ألفة لهم بتاريخ الفلسفة ؛ و و لعلهم لا يصدقون بوجود اشخاص يشكون في وجود متعلقات للإدراك، أي واقعيات خارج ظرف الإدراك؛ لأنّ وجود الواقع الخارجي كما اشرنا من قبل «فطريّ» بمعنى من المعاني، وكلّ إنسان يندفع ذاتياً لكي يتعرف عليه و يفيد منه : فعند ما يرى شيئاً فإنه يعده واقعاً خارج ذهنه، وعندما يسمع صوتاً فهو يعتقد بوجود صوت خارجي و وجود منشئه، وعندما يشعر بالجوع فهو يقدم على الاستفادة من الطعام «الخارجي»، وعندما يحس بلذعة البرد فهو يسرع إلى لبس الملابس «الخارجية» او الاستفادة من وسائل التدفئة الخارجية ؛ وهي التي لها وجود خارج إدراكه حسب اعتقاده و هو ايضاً عندما يتكلم أو يُنصت إلى كلام أحد أو يقرأ كتاباً أو يكتب مقالة فإنّه يقوم بذلك كله لمخاطب ومتحدث وكتابة وقارئ خارجي، ولا يخطر في ذهنه عادةً أنه لعل هذه الأمور جميعاً موجودة فقط في ذهنه و

ص: 65

ظرف إدراكه؛ و لكن تاريخ الفلسفة يسرد لنا أسماء أشخاص ذوي مكانة كانوا يعيشون في اليونان قبل زهاء خمسة و عشرين قرناً مضت و هم ينكرون الواقع الخارجي و يسمون أنفسهم ب_«السوفسطائيين» أي «الحكماء»، واصلها في اليونانية «سوفیست» و قد تُرجمت إلى اللغة العربية فأصبحت «السوفسطيّ» ثمّ أخذت منها كلمة «السفسطة».

السوفسطائية و المرحلة الأولى من مذهب الشك:

لانملک معلومات واسعة حول آراء و أفكار السوفسطائيين، و ما ينقل عنهم لا يرسم لنا صورة واضحة عنهم بحيث نستطيع على ضوئها أن ننسب إليهم افكاراً دقيقة معينة، ولا تسمح لنا بإصدار حكم بشأنهم ؛ والأصعب من ذلك هو معرفة علة أو علل وجود هذه الطريقة الفكرية المنحرفة.

يقول مؤرخو الفلسفة : كانت سوق المنازعات السياسية و المشاجرات القانونية رائجة في تلك البرهة من التاريخ؛ و كان المتعلمون يتسابقون في هذا الميدان و يحاول كل منهم إحراز قصب السبق. واقتضت هذه الظروف وجود مدرسة تعلم فنون المناظرة والمجادلة و طريقة الفوز على الخصم؛ وهكذا وجد المذهب الذي يعلّم اساليب البحث والمناظرة و السفسطة والمغالطة، ويستطيع الأشخاص الذين يدرسون في هذه المدرسة؛ أن يثبتوا أو ينفوا أي موضوع ؛ وهذا هو الأمر الذي كان مطلوباً لأصحاب مهنة المحاماة في المحاكم و لأصحاب السياسة اللعوب. وكأنّ الاستغراق في المغالطة و السفسطة قد دفعهم في النهاية لثلا تكون لهم عقيدة ثابتة، وشيئاً فشيئاً انساقوا إلى اعتبار الحقائق تابعة لفكر الإنسان. وينقل عن اساتذة هذا المذهب

ص: 66

قولهم: «الإنسان هو مقياس كل شي» و بقطع النظر عن فكره لا توجد أي حقيقة إطلاقاً !

ويقال إنّ أحد السوفسطائيين البارزين و هو «جورجياس» قد كتب كتاباً يزعم فيه أنّه لا وجود لأتي واقع ؛ وإذا كان موجوداً فهو غير قابل للمعرفة ؛ وإذا أمكنت معرفته فلا يمكن أن يعرف للآخرين!

و قد اعتبر بعض الفلاسفة السوفسطائيين - بمقتضى إطلاق هذا الكلام - منكرين لمطلق الوجود، و حتى وجودهم أنفسهم و وجود أفكارهم وأرائهم. وقد قيل في ردّهم: إنّ هذه الإدعاآت و الشكوك و الإنكار واقعيّات ؛ وهذا بنفسه ينقض ما يدعون.

و لكنّه فضلا عن انّه من المستبعد أن تصدر من إنسان عاقل مثل هذه الأقوال البديهية البطلان فإنّ أقوالاً أخرى تنقل عنهم من قبيل: الإنسان هو مقياس كلّ شي»؛ هذه الأقوال صالحة أنهم لا ينكرون وجود انفسهم بل لا ينكرون لتكون شاهدا على أيضاً وجود الناس الناس الآخرين؛ فلعل بحوثهم كانت مركزة على المسائل الأخلاقية والقانونية والاعتبارية، ولعلّ مقصودهم هو نفس ذلك الشئ الذى يطرحه بعض المثاليين الغربيين بعد أكثر من عشرين قرناً: و هو أنّ الواقع منحصر في المدرك والمدرك بالذات، (و هي الصور الذهنية الموجودة لدى الأنا المدركة).

و على أي حال، فإنّ أخطاء الحواسّ والفكر و اختلاف آراء و أفكار و أذواق الناس و حتى اختلاف العلماء والفلاسفة كان يمكن استغلالها لترويج السوفسطائية؛ وتعتبر الأغراض السياسية والاتجاهات الإلحادية وطلب الربح و الجاه من جملة دوافع أصحاب هذا المذهب. ولكنّه لا ريب أنّ مثل هذه الأفكار كانت

ص: 67

خطراً مميتاً يهدد فكر الإنسان وتكامله و رقيه المادي والمعنوي والأخلاقي ؛ ولهذا كان لابد من مقاومته بأفضل و أسرع صورة.

و أوّل شخص نهض ضدَّ السوفسطائيين و قاومهم بشدّة، هو سقراط ؛ وقد أطلق على نفسه اسم «فيلاسوف» أي محبّ الحكمة؛ و لعله اختار هذا الاسم تعريضاً بهم من ناحية و لأنه كان شديد التواضع من ناحية أخرى، ثم أخذت منها كلمة ««الفلسفة» بمعنى حبّ الحكمة، و كلمة «الفيلسوف» أيضاً. و يطلق على المذهب الواقعي اسم «رئاليسم» و هو المذهب الذي يؤمن بوجود الواقع الخارجي و إمكانية معرفته. ثمّ انتشر هذا المذهب على نطاق واسع أفلاطون و تلميذه و ذلك على يد أرسطو، واستطاع أن يقضي تقريباً على المذهب السوفسطائي ولكن أفكار وأسس هذا المذهب المنقرض استطاعت بعد حين من الزمن أن تظهر بحلة جديدة أكثر منطقية في مذهب المشككين بزعامة «پیرون».

و لم يكن هذا منكرا للواقع الخاجي، لأنه لم يجد اتي دليل على نفي ذلك وإنّما هو كان يلقي بعض الشبهات ليستدلّ بها على عدم إمكانية العلم والاعتقاد اليقيني بوجود الواقع، ولكنّ هذا المذهب أيضاً لم يلق رواجاً، و استطاعت الفلسفة الواقعية أن تدعم نفوذها في الأوساط الفلسفية..

المرحلة الثانية من مذهب الشك:

انصرفت الفلسفة الأوربية بكاملها لخدمة الكنيسة في القرون الوسطى، و قد كانوا يدينون و يمنعون دراسة اي فكر لا ينسجم مع آراء زعماء الكنيسة. و من البديهي في ظل هذه الظروف أن لا يتوقف نضج الفلسفة فحسب، وإنّما تجف شجرتها تماماً و لهذا

ص: 68

السبب تدفّقت سيول الشك بعد عصر النهضة و اكتشافات كپلر و کپرنیک و غاليلو التي تتناقض مع نظريات زعماء الكنيسة و اكتسحت الشجرة الجافّة لفلسفة القرون الوسطى، و ذلك لأنّ قسماً من مواضيع الفلسفة المدرسية (اسکولاستيك) التي كانت تتلقى على اساس كونها حقائق يقينية قدفند. ولم تكن هناك فلسفة مثمرة تستطيع إشباع رغبة الباحثين حينذاك؛ ومن هنا أثر هذا في انفسهم أثراً سيئاً فظنوا أنه لعل بقيّة المواضيع أيضاً من هذا القبيل، وبهذا بدأت في الغرب المرحلة الثانية لمذهب الشك.

و استمر هذا الوضع حتّى شمّر «ديكارت» عن ساعديه لتجديد بناء الفلسفة الغربيّة ، فانتزع لقب «أبوالفلسفة الحديثه». وقد بدأ من وجود الشكّ والفكر، وظنّ أنّه اثبت بهذا وجود الشاك والمفكّر أي الروح الإنساني الذي خاصيّته الذاتية هي التفكير. ثم ادعى أنّ لهذا الروح مجموعة من الأفكار الفطرية و من جملتها مفهوم «الامتداد» و بهذا اثبت وجود الجسم الذي خاصيّته الذاتية هي الامتداد.

و كان ديكارت يعتبر الوزن والشكل والحركة خواص أوّليّة للأجسام و هذه لها وجود واقعى أما اللون والطعم والرائحة والصوت و امثالها فكان يعدّها من الخواص الثانوية للاجسام، و يعتبرها تابعة لكيفية تركيب أجهزتنا الحسية و هي لذلك مثل انفعالاتنا النفسية، و هذه الخواص الثانوية لاوجود لها في الخارج كما يقول.

ان آراء ديكارت مليئة بنقاط الضعف، ولكنّها نفخت الروح في الفلسفة الأوربية و استطاعت ان تهيمن على كثير من الفلاسفة، نذكر من جملتهم مالبرانش و اسبينوزا و لايبنيتس.

ص: 69

المرحلة الثالثة من مذهب الشك:

و من ناحية أخرى فقد تناول الفلاسفة المعاصرون والمتأخّرون عن ديكارت أفكاره بالنقد والتمحيص ، و من جملة ذلك نظريته بالنسبة إلى الخواص الأولية ؛ فتولّى نقدها «باركلي» قائلاً : كما ان الخواص الثانوية تتوقف على ذهن المدرک فکذلک الخواص الأولية، فمثلاً يتفاوت الإحساس بالثقل بين الناس، و لهذا فلا يمكن القول بأنّ له وجود اً خارجياً ، وكذا وصف القول بوجود الجوهر المادي و الجسمي بأنه من قبيل الرجم بالغيب؛ و لهذا فقد اندفع إلى القول بأنّ طريق المعرفة منحصر في التجربة الحسية. و من الواضح أنّ الإدراك الحسي لا يتعلّق إلا بالأعراض من قبيل : اللون والطعم والرائحة وأمثالها ووجود هذه الأعراض أيضاً لا يمكن قبوله إلا في حدود أذهاننا، لأننا لا نملك سبيلاً يثبت لنا جوهراً خارج أذهاننا يصلح لأن يكون موضوعاً لهذه الأعراض.

و واصل «هيوم» الاتجاه التجريبي لباركلي و انكر الجوهر النفسانى أيضاً وفسّر أصل العلية بتعاقب الظواهر؛ و فسّر الضرورة الموجودة في هذا الأصل بعادتنا الذهنيه ، و اعتبر وجود أي شيء قابلاً للشك من وجهة النظر الفلسفيّة ماعدا الظواهر الذهنيّة ؛ وبهذا بدأت المرحلة الثالثة من مذهب الشكّ في الفلسفة الغربية.

هذه هي أهم السيول التي تفجرت في تاريخ الفلسفة الغربية و في اثنائها أنكر الواقع الخارجي اوشك فيه .

و يطول بنا الحديث لوأردنا التحقيق في الشبهات التي يتعلّل بها المشككون، ولا توجد ضرورة لننفق وقتنا المحدود في بيان آراء أصحاب الشكّ وردّها؛ وخاصةً بالنظر إلى أنّ هذه الشبهات تتعلق بمعرفة الواقع ، وهي موضوع مسألتنا القادمة. مضافاً إلى أنّ

ص: 70

الماركسيين - الذين هم الطرف الأساسي في بحثنا يقفون موقفاً مضاداً تماماً لموقف المثاليين و المشككين ونكتفى فقط بذكر ملاحظة واحدة وهي ان أهم عذر يتعلل به السوفسطائيون و المثاليون هو وجود الخطأ في الإدراكات الحسية والافكار ولكننا عند ما ندقق في خطأ حسّي أو فكري فنحن نلاحظ أن قبول ذلك يتضمن عدة اعترافات :

أ - وجود المخطئ.

ب - وجود قوة مدركة عند المخطئ .

ج - وجود الصورة الإدراكية التي يفرض خطؤها ؛ أي انها ليست مطابقة للواقع.

د - وجود الواقع الذي لم تنطبق عليه هذه الصورة المخطئة.

ه_ - وجود العلم بخطأ هذه الصورة.

و - وجود العلم المسبق بأنّ الخطأ والصواب لا يجتمعان، وإلاّ فإنّ من الممكن كون الإدراك المفروض أنه غير صحيح صحيحاً أيضاً.

و بالالتفات الى هذه الاعترافات يمكن استخلاص النتائج الآتية :

1 - ان وجود أفراد الإنسان المدركين وقواهم المدركة والصور الموجودة فى أذهانهم، كل هذه لا يمكن إنكارها .

2 - لابد من الاعتراف بوجود واقع لم يطابقه الإدراك المخطئ، وإلا فلا يوجد معنى للخطأ حينئذ ؛ لأن معنى وقوع الخطأ في إدراك شى، إنّما هو عدم مطابقة هذا الإدراك لذلك «الواقع» .

3 - لا يمكن قبول إنكار مطلق العلم و ادّعاء الشكّ في كلّ شيئ، لأنّه في نفس مورد الخطأ هذا توجد عدة علوم : العلم بوجود

ص: 71

المخطئ ، العلم بوجود قوته المدركة، العلم بوجود الصورة الإدراكية في ذهنه، العلم بكون هذه الصورة مخطئة، العلم بوجود الواقع الذي لا تنطبق عليه هذه الصورة، واخيراً العلم بانه ليس من الممكن أن يكون هذا الإدراك المخطئ حقيقة في نفس الوقت، أي العلم باستحالة التناقض .

و الآن نتناول المثالية (ايداليسم) و الواقعية (رآليسم) بشي من التوضيح:

مفهوم الواقعية والمثالية

كلمة «رئاليسم» مأخوذة من هذا الاصل res (= الشي، الواقع)، و هي تعني «الاتجاه الواقعي» أما كلمة «ايده آليسم» فمأخوذة من هذا الأصل idein (= الرؤية) وإنّ لها معاني مختلفة، لأنّ كلمة «ايده» هي بمعنى «صورة المرئي» لغوياً ، فتارة تستعمل بمعنى التصور(1) الذهني و أخرى بمعنى المثال العقلي (المثال الافلاطونى) ، وثالثة بمعنى الكمال المطلوب وغيرها.

و لكل واحدة من هاتين الكلمتين (رئالیسم و ایده آلیسم) اصطلاحات متنوعة، ولابد من الالتفات إليها لكي لانقع في الخطأ ولنصون أنفسنا من سوء التفاهم .

الواقعية والمثالية، فى الاخلاق والفنّ

قبل أن نقتحم عالم المعانى الفلسفية لكلمتي الواقعية والمثالية، لابد أن نذكر بأنهما تستعملان ايضاً فى غير الفلسفة، فالواقعية في الاخلاق مثلاً تعني أن القيم الأخلاقية تابعة للواقعيات الموجودة و لرغبات الناس الحالية. و في مقابلها

ص: 72


1- كلمة «النصور مأخوذة من الصورة» ومعناها تكوين الصورة في الذهن.

المثالية في الاخلاق، و هي تعني أنّ القيم تعبّر عن المُثْل العليا والكمالات السامية، ولو أنها لا تتمتع بوجود خارجي، أو ان الرغبة العامة لا تميل إليها ؛ ولهذا يجب على المثاليين ان يبذلوا قصارى جهود هم لتحقق هذه الكمالات أو على الأقل ليقتر بوا منها ؛ ولابد من تكثيف المحاولات ليربّي الناس على احترامها. وعلى هذا فإنّ كل من يدعو إلى القيم الرفيعة والمُثل الأخلاقية، فهو يعد «مثالياً» بالمعنى الأخلاقي، و إن كان «واقعيّاً» في المجال الفلسفي.

و لهاتين الكلمتين استعمال خاص في الفنّ والادب: فالواقعية تطلق على تلك المدارس الفنّية و الادبية التي تصور في فنّها أونثرها اوشعرها مناظر الطبيعة والآثار الواقعية. و في مقابلها تطلق المثالية على تلك المدارس التي تجسّم المناظر الخيالية والأمور غير الواقعية وترسم عالماً من الآمال والمثل. وواضح ان هذه الاصطلاحات لا علاقة لها بالفلسفة فمثلاً قد يكون أحد الفنانين التشكليين أو الشعراء أو الكتاب واقعياً و لكنه «مثالي» من الناحية الفلسفية، أو بالعكس قد يكون الفنّان او الاديب مثالياً و لكنه «واقعي» من الناحية الفلسفية.

ص: 73

المحاضرة السابعة

الواقعية والمثالية في الفلسفة

إنّ لهاتين الكمتين معاني مختلفة في الفلسفة، و أهمها ما يأتي :

أ - من المسائل التي وقع فيها البحث بين الفلاسفة منذ أقدم الأزمنه هذه المسألة: كيف نحصل على المفاهيم الكلية مثل: الإنسان، الشجر، الحديد...؟ و ما هي كيفية انطباقها على الأشياء الخارجيّة؟ و إزاء هذه، أيوجد شي خارج الذهن، أم كل ماله وجود خارجي فهو هذه الاشياء الجزئية ؛ و أما المفاهيم الكلية فهي ألفاظ أو رموز ذهنيّة تصلح لان تطلق على أفراد كثيرة بناء على اعتبار الناس لها و اتفاقهم عليها ؟ و بعبارة أخرى: «الكلّي الطبيعي» أهو موجود في الخارج أم لا؟

إنّ هذه المسألة لأعمق من ان يجاب عليها بجواب سطحي ؛ لأنّها تشكل الحجر الأساسي للبحوث الماهوية وتتصل من ناحية بمسألة أصالة الماهية أو أصالة الوجود. و من ناحية أخرى تتصل بالدراسات الوضعية (بوزيتو يسم) و دراسات التحليل اللغوى (لینگویستیک) الشائعة في هذه القرون الأخيرة؛ ولهذا يصبح التحقيق فيها بحاجة إلى دراسة فلسفيّة مفصلة و دقيقة ليس بإمكاننا في هذا المجال القيام بها.

و على أي حال، فإنّ الأشخاص المعتقدين بأن المفاهيم الكلية لها ما بازاء في الخارج و بعبارة أخرى : إِنّ للكلي الطبيعي وجوداً واقعيّاً، يطلق عليهم اسم «الواقعيين»؛ أما الذين كانوا ينكرون الوجود الواقعي للكلي الطبيعي، فيعرفون ب_«الاسميين» (نوميناليست) أي انّهم يقولون بأصالة التسمية؛ ونذكر هنا بأنّ

ص: 74

كلتا الفئتين تسلّم بأنّ الإدراكات الجزئيّة لها ما بإزاء في الخارج، و كان اختلافهم فقط في ما يتعلق بالمفاهيم الكلية.

اما سقراط و أفلاطون، فكانا يعتقدان بأنّ المفاهيم الكلية لها ما بإزاء في الخارج ؛ و هي الموجودات المجردة التي هي فوق الزمان والمكان. وقد شاهدتها الروح الإنسانية قبل تعلّقها بالبدن؛ و عندما ندرك هذه الأشياء الجزئية التي هي بمنزلة الظل لتلك المجردات، فإنّ الروح تتذكر تلك الحقائق المجردة و بهذا الشكل يتحقق إدراك الكليات؛ و يسمّي أفلاطون هذه الموجودات المجرّدة باسم «ايده» التي ترجمت إلى اللغة العربية بكلمة «مثال» و جمعها «مثل» و يستعمل هذا اللفظ بعينه في اللغة الفارسيّة؛ و بهذه المناسبة فقد سمّيت نظريته بالمثالية «ایدآلیسم».

فمثالية أفلاطون إذن لا تعني إنكار الواقع الخارجي ؛ وإنما علاوةً على اعترافه بأنّ للإدراكات الجزئية ما بإزاء عينيّاً، فهو قائل قة لها بأن للمفاهيم الكلية أيضاً ما بإزاء عينياً. و لكنه كان يعتبر هذه مجرّدة و متعالية على المادة والماديات، ولهذا فإنّ مثالية أفلاطون من جملة المدارس الواقعية وليست متعارضة معها .

و من المتيقن وجود اشكال أخرى للواقعية و أشهرها نظريه أرسطو القائلة أنّ الكلّي الطبيعي يوجد بوجود أفراده في الخارج، أمّا مفهومه الذهنى فهو يحصل بتجريد الإدراكات الجزئية.

ب - مرّ علينا في الفصل الماضي، ان بعض الفلاسفة يعتقد بأن الواقع ينحصر بوجود المدرك والمدرَك؛ والمدرك ينحصر أيضاً في المفاهيم والصور الإدراكية الموجودة في ظرف الإدراك. ولا وجود لشى وراء هذه الصور الذهنية؛ أي انها

ص: 75

لا تحكي عن واقع تنطبق عليه هذه الصور ماعدا الموجودات المدركة الاخرى و توصف هذه النظرية أيضا

ب_«المثالية » ويعدّ «باركلي» ممثل هذا المذهب بين الفلاسفة المحدثين (منذ ديكارت فما بعد). و يحتمل أن يكون هذا هو مقصود السوفسطائيين القدماء (أوعلى الأقل مقصود بعض منهم)؛ و إن كان باركلي ينفي انتسابه إليهم و كانه ينسب إليهم إنكار مطلق الواقع أو إنكار مطلق العلم بالواقع.

و تقف في مقابل هذا المذهب سائر المذاهب الفلسفية الأخرى القائلة بوجود واقعيات خارجية أخرى غير الموجودات المدركة؛ هذه الواقعيات هي متعلقة الإدراك و هي معلومة بالعرض و لابد من اعتبار هذه المذاهب جميعاً الواناً من «الواقعية» سواء أكانت مثل المادية التي تحصر الواقع الخارجي بالمادة و خواصها ، أم كانت تقول بوجود المجردات وما وراء الطبيعة بالإضافة إلى وجود المادة والأمور المادية.

إن استعراض شبهات باركلي و نقدها يحتاج إلى مجال أوسع، و أخت إشكال يرد عليه أنه لا يحق له نفي ما وراء الذهن ؛ و أقصى ما يستطيع أن يقوله هو الشك مثل هيوم. و ذلك لان التجربة لا تستطيع أن تنفي ما وراءها ، والفرض يقول إنّ التجربة تتمّ فقط في داخل الذهن و في ظرف الإدراك؛ و على هذا فالفيلسوف التجريبي (آمپريست) لا يحق له إنكار ما وراء الذهن، بل يحق له فقط أن يقول إن تجربتي لا تتعلّق مباشرةً بما هو خارج عن الذهن، و حسب ما اؤمن به من مذهب تجريبي (آمپريسم)

ص: 76

فإنني لا استطيع أن أعتقد بما وراء الذهن. و إذا كان الاعتقاد بالجوهر المادى لوناً من الرجم بالغيب حسب هذا المذهب، فلابد ان يعتبر الإنكار ايضاً لوناً آخر من الرجم بالغيب على أسس هذا المذهب نفسه ! و أما دراسة نظرية هيوم و نقدها فهو يتوقف على حل سائر مسائل المعرفة و لهذا نحجم الآن عن تناولها.

ج - منذ اواخر القرن الثامن عشر وحتى منتصف القرن التاسع عشر، ظهر مذهب فلسفی خاص في آلمانيا ؛ وهو يهدف إلى إثبات الإرادة الحرّة للإنسان و فرض سلطتها على القوانين الطبيعيّة الجبرية العمياء وقد بدأ هذا المذهب منذ «فيخته» تلميذ كانت ثمّ أكمله «شلينج» و «هیجل» و «شوبنهاور»، كل منهم بآرائه الخاصة. بآرائه الخاصة.

وقد لاحظ هؤلاء انّ الطبيعة وقوانينها لا تصلح لأن تنبثق عنها الإرادة الحرّة، فانصر فوا للبحث عن منبع آخر، فاستفادوا من آراء اهل العرفان السابقين و من أفكار ديكارت و كانت الفلسفية؛ و اتجهوا إلى القول بأصالة الروح وقالوا : إنّ منبع الوجود هو روح مطلق غير متعيّن، وفسّروا عالم الكثرة و من جملته العالم الطبيعي، على اعتبار أنه مثل محدودة و معيّنة لذلك الروح ؛ وكلّ واحد منهم قد فسّر ظهور الكثرة بشكل خاص و تفصیل ذلک يُبعدنا عن هدفنا الاصيل.

و من بين هؤلاء «هيجل» الذي نال شهرة طبّقت الآفاق و أنصاراً كثيرين لاسيما بعد ان اصبح ديالكتيكه الملهم للماركسية، و شيدت الفلسفة المادية الديالكتيكية على اساسه .

يعتبر هيجل الروح المطلق مفكراً يوجد افكاره دائماً في ذهنه حسب النظام الثلاثي : الأطروحة (تز)، الطباق (آنتي تن)، التركيب

ص: 77

(سنتز)؛ و كل موجودات العالم إنّما هي أفكاره. والعالم الطبيعي هو نفسه المثال المطلق الذي تغرّب عن نفسه ثم يتركب معه، و من هذا التركيب يوجد الإنسان الذي يتكامل فيعود مرة أخرى إلى المثال المطلق بصورة مجتمع ودولة.

بهذا الشكل فهيجل لا يقول بالتباين بين المثال والمادة، و لابين عالم الذهن و عالم الخارج ؛ و هو يعتبر القوانين المسيطرة على العالم هي نفسها القوانين المنطقية على الظواهر الذهنية. و لهذا السبب فقد اعتبرت مثاليّته مثالية خالصة ومحضة.

و هو يعتقد أنّ حركة العالم الخارجية، كة العالم الخارجية، هي نفسها الحركة الذهنيّة الحاصلة في الروح المطلق، و هو يتصور أن مثالاً إيجابياً يُبرز مثالاً آخر سلبيّاً هو ضدّه أونقيضه ؛ و بالتركيب بينهما يوجد مثال ثالث أشمل منهما وأكمل. و كان يظنُّ انّ العلاقة بین هذه المُثل هي علاقة منطقيّة، اي مثل العلاقة القائمة بین مقدمات البرهان (الصغرى والكبرى) و نتیجته، و هو يُحلّ هذه العلاقة مكان العلاقة العينيّة و الوجودية بين العلة والمعلول التي يقول بوجودها الفلاسفة بين الأشياء الخارجية.

و كان هيجل يقول : لكي نكشف العلاقة المنطقية بين الظواهر أو المُثل الذهنية للروح المطلق، لابد من معرفة العلاقة بين المقولات أو المفاهيم الكلية؛ و من هنا يجب أن نبدأ هنا أن نبدأ من مقولة تتصف هي بكونها أكثر المفاهيم كلّية وبديهية و إطلاقاً، و هذه المقولة هى مقولة «الوجود» (= Being) .

فليس لهذا المفهوم أتي تعين إطلاقاً، أي إنّه «ليس» شيئاً خاصاً، و من هذا المفهوم نحصل على مفهوم «العدم» الذي هو نقيضه ؛ ثمّ يمتزج هذان الأطروحة (تز) و الطباق (آنتي تز)، و

ص: 78

حسب تعبيره «يمرّكل منها من أعماق الآخر» فيتركبان وينحل تناقضهما في مفهوم «الصيرورة» الذي يتضمّن بوضوح المفهومين معاً.

ثم يصبح هذا المفهوم الجديد «أطروحة» و يوجد منه مفهوم سلبي هو «الطباق» وبالتركيب بينهما يتحقق مفهوم إيجابي ثالث المفاهيم هو «التركيب»؛ و يستمر هذا التيار حتى توجد جميع الذهنية حسب هذا النظام الثلاثي (ترياد).

وليس بإمكاننا هنا أن نناقش نظريات هيجل، و سوف نتعرف بعون الله في الفصول القادمة ولا سيما في فصل «الديالكتيك» على آرائه بشكل أوسع، وعلى نقاط الضعف منها إلى حدما أيضاً. ونشير هنا فقط إلى أهم مواقف المذهب الواقعي تجاه مثالية هيجل، وهي :

1 - إنّ حيثية الوجود الخارجي والعيني ليست هي حيثية الوجود الذهني والمثالي ؛ والعلاقات بين الموجودات الخارجية هي من قبيل علاقات العلية والمعلوليّة، و ليست هي من قبيل العلاقات الذهنيّة والمنطقية. وعلى هذا فلا يمكن جعل العلاقات المفهومية والقوانين المنطقية ممثله للعلاقات الخارجية والقوانين الوجودية، فضلاً عن ان تكون هي بعينها .

2 - لا يمكن أن يكون هناك وجود عيني بدون تعين؛ وحتى المفاهيم الذهنية فإنها من حيث كونها وجوداً ذهنياً فإنّ لها وجوداً متعيّناً، ومن حيث المفهوم ايضاً كل مفهوم له تعين مفهومي خاص يفصله عن المفاهيم الأخرى، ولاسيما المفاهيم المضادة والمناقضة له ؛ و لهذا فإنّه لا يمكن ان يمرر مفهوم من اعماق المفهوم الآخر، ولا يمكن أيضاً ان يتحد احد هما بالآخر، فضلاً

ص: 79

عن ادعاء أنّ بين مفهوم الوجود والعدم علاقةً منطقية وضرورية !

3 - إنّ العدم والنفي لا طريق له إلى صميم الواقع، ولا يمكن اعتبار أتي موجود مركباً من النفي و الإثبات حقيقة؛ وإذا وقعنا على بعض عبارات الفلاسفة الواقعيين التي توهم شيئاً من القبيل، فإنّ مقصودهم كون ذهن الإنسان ينتزع من محدودية الوجود مفهوم «العدم».

المثالية والماديّة

اتضح لنا مما سبق أهم معاني المثالية؛ و رأينا أنّ المعنى الأول لا يعني ابداً إنكار الواقع الخارجيّ، ولا يتناقض هذا مع أي معنى من معاني الواقعية. أما المعنى الثاني لها، فهو يتضمن إنكار الواقعيات اللاذهنيّة ويقف في مقابل الواقعية، و في المعنى الثالث، يتم إنكار وقوع التباين بين الذهن والخارج؛ و تعتبر فيه الواقعيات الخارجيّة نفس المُثل الذهنية و تابعة للقوانين المنطقية. و اخيراً فإنّ أي واحد من هذه المعاني لا يتناقض مع «المادية» التي هي بمعنى اصالة المادة وإنكار الواقعيات غير المادية؛ بل المادية في الواقع هي إحدى الاتجاهات الواقعية(1) التي تحصر الواقع الخارجي فى المادة والأمور المادية.

و لكن الماركسيين يُسقطون من الحساب اختلاف معاني المثالية أوّلاً ، وثانياً فهم يجعلون المثالية في مقابل المادية؛ وثالثاً

ص: 80


1- كتب لينين: لابد أن نذكر أنه هنا، قد استعملت كلمة الواقعية في مقابل المثالية ؛ و لكنّي لا أستعمل لهذا المعنى إلا ما استعمله إنجلز، و هو كلمة «المادية» فهي الكلمة الوحيدة التي أراها صحيحة في هذا المجال (الترجمة الفارسية للمادية والمذهب التجريبى النقدي : صفحة 81).

يجعلون المثالية مساوية للاعتقاد بوجود الله ويوهمون الناس بأنّ إبطال المثالية يؤدّى بشكل ذاتي إلى نفى وجود الله أيضاً.

كتب إنجلز: إنّ المسألة الأساسية والخطيرة في كل الفلسفات ولاسيما المعاصرة، هي عبارة عن مسألة علاقة التفكير بالوجود(1).

ثم يضيف : وينقسم الفلاسفة الى معسكرين كبيرين حسب إجابتهم على هذه المسألة؛ فالذين يدعون أنّ الروح كانت موجودة قبل الطبيعة، وفي النهاية فهم يقبلون أن العالم «مخلوق» (لابد من القول ان خلق العالم عند الفلاسفة، مثلاً عند هيجل، يتخذ شكلاً اكثر غموضا و إهمالاً من المسيحيّة) هؤلاء يشكلون المعسكر المثالي .

أما الذين يعدون الطبيعة هي المبدأ الأساسي فقد انضموا إلى المذاهب المادية المتنوّعة»(2).

و كتب موريس كنفورت: «يوجد دائماً للمثالية عالم ارفع و أكثر واقعية؛ و هو العالم اللامادي الذي هو مقدم على العالم المادي ؛ و يكون هذا العالم المادي تابعاً لعلة و منبع أزلي. أما المادية فهي تقف على الجانب الآخر ولا تعتقد إلا بعالم واحد، و هو العالم المادي.

والمقصود من المثالية في الفلسفة هوذلك الاتجاه القائل أن وراء الواقع المادي واقعاً أرفع و هو الواقع الروحي ؛ و ولابد أن نصل

ص: 81


1- لودفيج فویرباخ و نهاية الفلسفة الكلاسيكية الالمانية : صفحة 23.
2- المصدر السابق : صفحة 25.

في نهاية التحليل إلى أنّ الواقع المادي لا يمكن تفسيره إلا على أساس ذلك الواقع الروحي.

إنّ هذا الخلط بين المصطلحات وجعل المثالية في مقابل المادية حيث لا يوجد له وجه صحيح، يحتمل أن يكون ناتجاً من عدم الدقة والتساهل والاستعجال في إصدار الاحكام ؛ وتوجد هذه الظاهرة بكثرة في احاديث زعماء الماركسية. ويحتمل أن يكون مقصوداً و متعمَّداً، و ذلك لهدف المغالطة والخداع ؛ فيردون لوناً من المثالية (كمثالية باركلي مثلاً) ويستنتجون من هذا انّ جميع ألوان المثالية إذن مردودة. و يمكن ان يعتذر الماركسيون بانّ للمثالية عندنا معنى خاصاً جديداً يشمل كل المذاهب الفلسفية ماعدا المادیة، و لكلّ أحدٍ الحق في وضع اصطلاح جديد.

و لكنّ هذا العذر لا يكون مقبولاً إلا في حالة واحدة، وهي إذا ما تناولوا نظريات كل مذهب من المذاهب الفلسفية التي جمعوها تحت هذا الاسم العام بالدرس والتحليل؛ أما أن يردّوا بعضاً منها ليصوّر وا للناس ان جميع المذاهب التي أدرجت تحت هذا العنوان قد اصبحت باطلة فذلك ما لا يمكن قبوله.

و مما يزيد سوء الظن عندنا أنّ مفكّرى الماركسية المعاصرين لم يستدركوا أخطاء أسلافهم ولم يدققوا في استنتاجاتهم ؛ وإنّما هم يقتفون أثر الذين تقدموا عليهم، فيتورطون في أخطاء صارخة هي إلى الشعوذة اقرب منها إلى البرهان والاستدلال !

فنحن نقرأ في كتاب اعدته مجموعة تتكون من أحد عشر

ص: 82

محققاً و أكاديمياً من الاتحاد السوفيتي :

«... ولم ينشا الإنسان و وعيه إلا في درجة معينة من تطور الطبيعة كنتاج رفيع لها، في حين وجدت الطبيعة ذاتها بشكل خالد. ولم يوجد ولايمكن أن يوجد اي «وعي ما فوق الإنسان» أي «وعي مطلق» أية «روح مطلقة» وعلى هذا فالفلسفة المادية تُعلّم انّ الطبيعة، أنّ المادة هي السابقة، و انّ الروح، أنّ الوعي هو اللاحق»(1)

يشير هذا الحديث إلى انّ الطبيعة التي لاحياة فيها ولا شعور مقدمة على وجود الإنسان؛ ثم يضاف إلى ذلك مباشرة أنه «لا وجود للشعور والروح المطلق، بل من المستحيل أن يكون موجوداً»، كأنّ النتيجة المنطقيّة لكون شعور الإنسان مؤخّراً عن وجود الطبيعة هو أنه لا وجود على الإطلاق للروح المطلقة، بل من «المستحيل» وجودها !

لابد ان يسأل هؤلاء العلماء : منَ الذي فرضتموه طرفاً مقابلاً لكم في هذا البحث؟

إن أجبتم بأنّ الافلاطونيين هم الطرف المقابل، فلا يغيبنّ عن بالكم أنّ الافلاطونيين لا ينكرون تأخر الشعور الحسّي لدى الإنسان عن الطبيعة؛ وإنّما هم يدعون أنّ للروح المجرد قبل تعلقه بالبدن لوناً آخر من الإدراك الحضوري. و أما ما تُثبته العلوم التجريبية، فهو كون الإدراك الحسي الذي يتم بوساطة الأجهزة الحسية للإنسان متأخراً عن الطبيعة التي لاحياة فيها ولا شعور، ولا تستطيع العلوم التجريبية أن تنفي تقدم موجود غير مادي ولا إدراكه الحضوري

ص: 83


1- الترجمة العربية المادية الذي لكدكة. ضعة دمشق، صفحة 15.

للأمور المجرّدة، لانّ هذه الأمور خارجة عن منطقة نفوذ التجربة الحسّية. و إذا أمكن ردّ هذا الادعاء، فلابد ان يكون قائماً على أساس الأصول الميتافيزيقية التي ترفضها فلسفتكم أيها الماركسيون.

و إن فرضتم أنّ الطرف المقابل لكم هو باركلي و أتباعه، فلابد ان نلتفت إلى انهم ينكرون وجود المادة والطبيعة ويعتبرونها مثلاً ذهنية؛ إذن مع أشخاص كهؤلاء كيف تستطيعون أن تناقشوا مسألة ما إذا كانت المادة متقدمة أم الروح ؟

و إذا كان لكم معهم حديث، فلابد أن يتجه إلى أصل «وجود» المادة الخارجيّة الذي تعجزون أنتم عن إثباته(1) كما يعجز هو عنه.

و إن وجهتم نقاشكم نحو أتباع هيجل، فهؤلاً لم يقولوا بتباين اصلاً بين الذهن والخارج، بين المثال والمادة، و إنما كانوا يعتبرونهما وجهين لعملة واحدة، والتقدم الذي كانوا ينسبونه للمثال لم يكن من قبيل التقدم الزماني.

و علاوةً على هذا ، فكيف يمكن اعتبار تاخر الشعور أو الروح الإنسانی دليلاً على عدم الشعور أو الروح المطلق ؟ و أي منطق يجيز مثل هذا الاستنتاج ؟

والأفظع من الجميع القول باستحالة وجود الروح المطلق و من أشخاص يصفون فلسفتهم ب_«العلمية» و يعتبرونها مؤسسة على دعائم من العلم التجريبي ! بينما مفهوم «الاستحالة» مفهوم ميتافيزيقي لا يمكن إثباته بالتجربة الحسية ولابأي جهاز علمي إلا إذا كانت المختبرات السوفيتية قد توصلت إلى اكتشاف جديد

ص: 84


1- سياتي مزيد من التوضيح لهذا الموضوع في الدروس القادمة بعون الله.

تستطيع بفضله الحصول على المفاهيم الميتافيز يقية من التجارب الحسية !

و هناک سؤال أخير ، و هو: ماذا يعني ان يطرح شخص مادّي هذا السؤال : «أتكون المادة متقدمة أم الروح»؟ مع أنه ينكر اساساً وجود اللامادي، ويعتبر الروح والشعور والتفكير أموراً مادية ؟

و يصبح طرح هذا السؤال بالنسبة إليه في الواقع مثل ما لوقيل: أتكون المادّة بكاملها متقدّمة أم بعضها متقدّماً على بعض ؟! حتى إذا كان طرح هذا السؤال صحيحاً فهو لا علاقة له أبداً بمسألة المثالية.

والحاصل أنّ المسألة الاساسية بين المادية والمثالية (حسب اصطلاحهم العام)، هي : أيكون للمادة وجود خارجي، أم لا؟ و إذا كان لها وجود خارجي، أهناك شي موجود غير المادة ام لا ؟ أما تقدّم أو تأخُر الروح والشعور فلا علاقة له بهذه المسائل؛ وكذا لا علاقة له بمسألة الواقع الخارجي التي هي موضوع حديثنا هنا، و ذلك لأنّ بحثنا ينصب على اصل الواقع، ولا يتعرّض لتقدم أو تأخر واقع ما على واقع آخر.

ص: 85

المحاضرة الثامنة

العلم بالواقع

عرفنا أنّ الوجود ليس مساوياً للمدرک و صوره و مفاهیمه الذهنيّة ؛ وإنّما توجد واقعيّات خارجية مستقلة عن الإدراك بحيث تحكى عنها هذه الصور الإدراكيه.

أما هنا فنواجه أما منا هذا السؤال :

أتكون الصور والمفاهيم الذهنية رموزاً فقط للواقعيات الخارجيّة، أم أنّها تكشف عنها حقيقةً، والواقعيات الخارجية موجودة في ظرف الواقع بنفس الشكل الذي هي موجودة به في ظرف إدراكنا ؟

و بعبارة أخرى : ايمكن التعرّف على الواقع الخارجي بصورة حقيقية أم لا؟

و بعبارة ثالثة : أيكون المعلوم بالذات (الصور الإدراكية) مطابقاً بالدقة للمعلوم بالعرض (الواقع الخارجي)، أم لا؟

منذ زمن موغل في القدم وجد بعض الفلاسفة المعتقدين بأنّ الواقع الخارجي لا يمكن معرفته معرفة حقيقية، ولا تستطيع إدراكاتنا فقط أن تقودنا إلى أصل وجوده؛ و اختلاف الادراكات يكون علامة إلى حدّما على اختلاف المدركات، ولكنّ العلاقة بين هذين لا تتجاوز العلاقة بين العلامة والرمز من ناحية ؛ والشي الذي جعلت له تلك العلامة و ذلك الرمز من ناحية أخرى. و خلاصة القول : فإنّ الواقعيّات الخارجية كما هي موجودة في الخارج تبقى مجهولة بالنسبة إلينا.

ص: 86

وقد وجد فى الفترة الأخيرة بعض المتحمّسين لهذه النظرية(1) و هم يذكرون شواهد لها من العلوم التجريبية، ولاسيما علم الفيزياء ؛ و يسمى هذا الاتجاه (و هو الذي يعتبر مطلق الواقع الخارجي مجهولاً) باسم «آغنوستي سيسم»(2) و هو مأخوذ من كلمة «آغنوس» منفي «غنوس» الذي تُرجم إلى اللغة العربية، فكان «الغنوصي» ويطلق على أتباع هذا المذهب اسم «اللاادريين».

و توجد فئة أخرى من الفلاسفة الماضين والمحدثين تعتقد بأنه لامطابقة الإدراك للواقع الخارجي يمكن إثباتها ولاعدم مطابقته له ؛ وعلى هذا فلا يمكن قبول أحد الطرفين بصورة يقينية، و هذا هو مذهب المشككين المعروف باسم «سبتي سيسم»(3)، ويمثله من القدماء «پیرون» و من المحدثين «هيوم».

و يقف في مقابل هاتين الفئتين الفلاسفةُ الجزميون (دجماتيست) و هم يعتقدون بأنّ الواقع الخارجي يمكن أن يعرف معرفةً حقيقية، ويمكن فى الجملة الحصول على معرفة مطابقة للواقع ؛ ولكنهم يختلفون في سعة المعرفة الحقيقية مما سنتاوله في البحوث القادمة إن شاء الله .

ص: 87


1- كتب إدينجتون : إنّ علم الفيزياء لا يملك أي وسيلة لدراسة ماوراء الرموز، و من الناحية العلمية في هذا العصر ينتهي إدراك ظواهر العالم المادي في الحد الأقصى إلى معرفة المعادلات التي تسيطر على هذه الرموز ؛ و لا علاقة له بمعرفة ماهية ذلك الشي الذي يظهر في لباس هذا الرمز (العلم والعالم اللامرئى ، ترجمة مصطفى مفيدى صفحة 33 ،32)
2- تستعمل هذه الكلمة أحياناً بمعنى التوقف عن كلّ تصديق و نفى أي لون من ألوان العلم، حتى العلم بوجود الواقع الخارجي.
3- تستعمل أحياناً هذه الكلمة في معنى عام يشمل مذهب السوفسطائيين و مذهب اللا أدر یين.

و يحسن الالتفات إلى أنّ كلمة «دجماتيسم» يستعملها كانت بحق كل فلسفة ليست نقديّة، بينما هي تستعمل اليوم بمعنى قبول الاعتقاد بلادليل نتيجةً للتعصب؛ و لهذا لابد من التمييز بين هذين المعنيين والمعنى الأول.

وهناك ملاحظة ينبغي ذكرها، و أنّ بعض الفلاسفة المحدثين يلحق في الواقع بالفئة الأولى ولو أنهم يدعون المعرفة الحقيقية، وذلك لأنهم إما أن يعرفوا العلم الحقيقى بشكل يخرج من موضوع بحثنا، و إما ان يتضح لنا خلال البحث والاستدلال أنهم لم يكونوا صادقين منذ البدء فيما يدّعون .

وللمثال، نشير إلى نظرية «النسبية الذاتية» القائلة : انّ كلّ معرفة و إدراك فهو تابع لخصوصيات الشخص المدرک و ظروف الإدراك الخاصة ؛ وحتّى أنّه من الممكن ان يختلف إدراك أيّ فرد مع الأفراد الآخرين ؛ و مع ذلك فإن معرفة الجميع تكون علماً حقيقتاً !

و من الواضح أنه لا يمكن اعتبار مثل هذه النظرية في زمرة النظريات القائلة بالمعرفة الحقيقية، أي المعرفة المطابقة تماماً للواقع الخارجي ؛ و ذلك لأنه من البديهي أنّ جميع العلوم المختلفة بشي واحد معيّن لا يمكن أن تكون كلها مطابقة لذلك الشي مائة بالمائة ؛ وعلى هذا فإما أن يكون صاحب هذه النظرية منكراً لإمكانية المعرفة الكاشفة عن متعلّقها، وإما أن يكون شاكاً في هذا المجال. و على اي حال فإنه لا يمكن عده من جملة الفلاسفة الجزميين.

فلننظر إلى الماركسيين لنعرف إلى أي فئه هم ينتمون كما يعلنون، و ألى أي حدهم صادقون كما يدعون؟

ص: 88

مدّعی المارکسیة في العلم بالواقع و نقده

فالماركسيون يزعمون أنه من الممكن معرفة جميع الواقعيات الخارجية (و هي في رأيهم منحصرة بالماديات)، وأنه لا وجود فى هذا العالم لشي لا يمكن معرفته؛ و أنّ نظريّة المعرفة الماركسية هي النظرية الوحيدة التي تستطيع إثبات القيمة الواقعية للمعرفة الإنسانية.

كتب استالين قائلاً:

«على العكس من أصول المثالية التي تنكر إمكانية التعرّف علی أصول و قوانين الدنيا، وليس للعلم عندها قيمة ولا وقع ؛ و لا تعتقد بالحقيقة العينيّة (أبجكتف) و تتصوّر الدنيا مليئة ب_«الذوات المستقلة» التي لا يمكن معرفتها بوساطة العلم. فإنّ المادية الفلسفية لماركس تعتبر الدنيا وقوانينها قابلة للمعرفة، و هي تقول بان معرفتنا بالقوانين الطبيعية التي تحصل من التجربة العمليّة هي معرفة معتبرة وحقيقة عينية وواقعية ولا وجود لشي في هذا العالم لا يمكن معرفته. و إذا كانت هناك أمور نجهلها لحد اليوم فسوف يأتي اليوم الذي تكتشف فيه، وتعرف بفضل الوسائل العلمية و العمليّة.(1)»

و يقول لنين:

«إنّ المادية توافق بصورة عامة على كون الموجود الحقيقي العينى (أبجكتف)؛ أي المادة، مستقلاً عن الشعور و الإحساسات و التجربة ... و لكنّ الشعور ليس شيئاً سوى انعكاس من الوجود، وفي أفضل صورة يكون انعكاساً كاملاً إلى حدّ النهاية (2)»

ص: 89


1- الترجمة الفارسية للمادية الديالكتيكية والمادية التاريخية : صفحة 22-23 .
2- نفس المصدر السابق: صفحة 21. و توجد في ترجمة أخرى عبارة «مقارباً للصحة» مكان عبارة «كاملاً إلى حدّ النهاية».

و نقرأ في كتاب «المادية الديالكتيكيّة» الذي قامت بتأليفه فئة مكوّنة من أحد عشر عالماً سوفيتياً :

«إنّ جوهر الحقيقة، إنّ المعرفة لا تكون حقيقية موضوعيّاً إلاّ إذا عكست بأمانة ما هو موجود باستقلال عن الوعي العاكس(1)»

كتب لنين:

«إن اعتبار الإحساسات مصوّرة للعالم الخارجي، و قبول الحقيقة العينيّة، والوقوف إلى جانب النظرية المادية للمعرفة ؛ كل هذه التعبيرات تشير إلى معنى واحد(2)»

و هو يقول ايضا :

«كلُّ من يقرأ «آنتى دور ينج» و «لودفيج فویرباخ» مع قليل من الدقة فإنّه سيصادف كثيراً من أحاديث إنجلز عن الاشياء و انعكاساتها فى مخ الإنسان و شعوره و فكره؛ ولا يقول إنجلز عن الإحساسات و الأفكار أنّها «كاشفة» عن الأشياء، لأنّ المادية المحققة لابد أن تصنع مكان كلمة «كاشف» كلمة «تصوير» أو انعکاس»(3).

ويقول أيضاً:

«من التهريج أن يدعى بأنّ الماديين يقولون إن الأشياء بذاتها والتي تظهر بمظاهر متعاقبة لا يمكن معرفتها إلا بشكل غير واضح»(4).

و كتب روجيه غارودي:

ص: 90


1- الترجمة العربية للكتاب المذكور، طبعة دمشق، صفحة 326.
2- الترجمة الفارسية لكتاب المادية والمذهب التجريبي النقدي : صفحة 206.
3- نفس المصد السابق : ص 47.
4- وايضا : ص 192.

«إنّ ما تؤكده المادية هو:

1 - ان اللون والصوت و الرائحة هي خصائص موضوعية للمادة مستقلة عن وعي الإنسان و حواسه.

2 - ان إحساساتنا تستطيع أن تقدم لنا عنها انعكاساً صحيحا»(1).

و كتب لنين أيضاً: «لا يتكلم إنجلز عن الرموز و لا عن الهير وغليفات، بل عن النسخ، عن الصور الفوتو غرافية، عن الصور طبق الأصل، عن انعكاسات الأشياء كما في المرآة»(2).

يفهم بوضوح من هذه الكلمات، ان الماركسيين يعتبرون المادة قابلة للمعرفة بصورة كاملة، و انّ اللون و الصوت و الرائحة و سائر الإدراكات الحسية موجودة في الخارج كما نحس بها، و بشكل عام فهم يعتبرون الإدراك نسخة مطابقة للأصل، ويخالفون الرمزية بعنف.

وينقل لنين قول العالم الفسيولوجي الشهير «هلمولتز»:

«لا يمكن ان تكون التصوّرات التي نشكلها عن الأشياء سوى رموز، إشارات طبيعية للأشياء، إشارات نتعلم استخدامها لتنظيم حركاتنا و اعمالنا؛ وحين نتعلم ان نفك هذه الرموز بصورة صحيحة، فإننا نصبح قادرين بمساعدتها على توجيه أفعالنا بشكل تحصل معه النتيجة المطلوبة»

ثم يضيف لنين:

ص: 91


1- النظرية المادية فى المعرفة صفحه 175.
2- الترجمة العربية لكتاب «الماديه و المذهب التجريبي المقدي»، ترجمة منير مشبک، طبعة دمشق، صفحه 231.

«إنّ هلمولتز ينزلق هنا نحو الذاتية، نحو إنكار الواقع الموضوعى والحقيقة الموضوعية(1)».

و نقرأ في كتاب المادية الديالكتيكية الذي ألفه فريق مكوّن من أحد عشر أكاديمياً سوفيتياً :

كان ما ذهب إليه «غى مغلولتز» عبارة عن خطيئة كبرى، تنسخ نقطة انطلاق المادية القائلة بوجود الأشياء خارج إحساساتنا. اما بليخانوف الذي عرض في أحد مؤلّفاته نظرات مادية صحيحة على العموم، فلم يسمّ الإحساسات انعكاسات أو صوراً، أو نُسخا للأشياء المادية ، بل اعتبرها رموزاً هيروغليفية لها ؛ و نظراً للأهمية القائمة التي تتمتع بها هذه القضية عالج لينين في كتابه «المادية ومذهب النقد التجريبي» نظرية الرموز أو الهيروغلوفية، معالجة خاصة .

إنّ نظريّة الرموز أو الهير و غلوفية تحمل إلى نظرية المعرفة عدم الثقة بدلائل اعضاء الحس؛ إنها تحمل على الشكّ بوجود الاشياء خارجاً تا ؛ لأنّ الرموز، لانّ الشارات أو الهيروغلوف ممكنة حتى بالنسبة إلى ما لا وجود له في الواقع»

ثم يضيفون :

«تكشف أعضاء الحس لنا الحقيقة الموضوعية، وبمساعدة هذه الأعضاء نتعرّف عليها ؛ هذا ما يعترف به أي إنسان لم تضلله الفلسفة المثالية. يقول لنين: «إنّ نظرية الرموز لا تنسجم مع مثل هذه النظرة المادية %100 كما رأينا . و ذلك لأنها تشكك بالحسّ، تشكّك بما تدلّنا عليه أعضاؤنا الحسّية»... وعلى هذا

ص: 92


1- نفس المصدر السابق، صفحه 232.

فلا يمكننا أن نكون منطقتين حتى النهاية في نظرية المعرفة المادية إذا لم ندافع عن النظرية القائلة بأنّ الإحساسات هي صور و نُسخ و انعكاسات الاشياء و الظواهر القائمة في العالم المادي. لإشاراتها الاصطلاحيّة، لاهيروغليفيتها»(1).

و يقول روجيه غارودي :

«انطلاقاً من هذه الواقعة التي لا تقبل الجدل (انّ الشكل الذاتي للإحساس البشري يرتبط ببنية حواسنا وحتى بالحالة للأعضاء) حاولوا ان يبرروا، باسم مثالية فيزيولوجية، التفسير القائل انّ كيفية الإحساس لا تتعلّق بطبيعة المحرّض الآتي من العالم الخارجي ؛ بل بطبيعة الجهاز العصبي ... إذا كان صحيحاً أنّ الشكل الذاتي للإحساس يتعلّق ببنية حواسنا وبالحالة العامة لأعضائنا، فذلك لا يمنع من ان ينعكس فيه محتوى موضوعي لا يتعلق ببنية حواسنا ولا بحالة اعضاء الإنسان بصورة عامة ففي حادث الإحساس توجد لحظة موضوعية، ولحظة ذاتية لا يمكن عزلها او اعتبارها ممتازة اعتباطاً».

ثم يضيف :

«فإذا كان صحيحاً أنّ الأحساس ليس سوى إشارة دون أي شبه مع الموضوع، وإذا امكن بالتالي أن يتناسب مع عدة مواضيع مختلفة أو مواضيع وهمية كما يتناسب مع مواضيع واقعية، فإن التآلف البيولوجي مع الوسط يكون عندئذ مستحيلاً إذ لا تسمح لنا الحواس بأن نتوجه بيقين بين المواضيع و بأن نجيب إجابة فعالة. في حين انّ الممارسة البيولوجيّة كلّها للإنسان والحيوانات تظهر لنا

ص: 93


1- الترجمة العربية للمادية الديالكتيكية، صفحة 163 - 164 .

درجات كمال التآلف المتفاوتة في الكبر.(1)»

في هذا الكلام، ضمن الاعتراف بالعلاقة بين الإدراك الحسي و نوعية تركيب الأجهزة الحسية والوضع العام للشخص، يحاول المؤلف إثبات مطابقة المحتوى الداخلي للإدراك للواقع الخارجي عن هذا الطريق ؛ وهو يتلخص في أنه لو لم تكن مطابقة لما وجدت منا استجابات عمليّة ملائمة للإدراكات الحسية، فمثلاً بدل أن نأكل لقمة من الطعام فإننا نبتلع قطعة من الصخر أو نلقي بأنفسنا وسط النار لنقضي على وجودنا ! بينما قد أجيب على هذا الإشكال من قبل «هلمولتز» و قرأنا فيما نقل عنه لنين قوله : «وحين نتعلم أن نفك هذه الرموز بصورة صحيحة فإننا نصبح قادرين بمساعدتها على توجيه أفعالنا بشكل تحصل معه النتيجة المطلوبة».

و يجب علينا ان نضيف أنه لا يلزم من هذه النظرية أن يتعلق أحد الرموز بأشياء مختلفة وحتى متوهمة، لكي تخلّ بوضع الحياة؛ ولا يلزم منها أيضاً بأتي وجه من الوجوه إنكار الواقع الخارجي.

ومن الأفضل أن نذكر في هذا المجال، حديث الدكتور «أرانى» حول «المعرفة الحقيقيه»، لنتبيَّن درجة صدق الماركسيين أو خداعهم ؛ ومدى انسجام احاديثهم أو تناقضها ! فهو يقول :

«لابد ان نعرف أوّلاً، مفهوم المعرفة من وجهة النظر المادية؛ إنّ المعرفة هي عبارة عن الارتباط بين الفكر وشي آخر. وبعبارة أخرى: هى التأثير المتبادل بين جزأين من الطبيعة، أحد هما

ص: 94


1- الترجمة العربية لكتاب النظرية المادية فى المعرفة : صفحة 33 - 35 .

الفكر، والثاني شي آخر».

ثم يواصل حديثه :

«إذن ما اعظم حماقة تلك المذاهب المخالفة لنا إذا كانت تتوقع أن يكون الفكر و الأشياء تؤثر في بعضها من دون أن يكون لاحد الأطراف تأثير أو من دون أن يكون هو متأثراً ؛ ومعنى هذا أن لا يقوم الفكر بالتصرف فيما تأثر به من الاشياء والخلاصة فإنّ هذا التصرّف هو المعرفة ؛ وإذا لم يوجد أحدهما فإنّ الآخر سوف لن يوجد أيضاً. وهؤلاً الذين يحثون الخطى وراء عين الحقيقة والحقيقة المطلقة والمفاهيم الفارغة الأخرى مثلهم مَثَل مَن يطلب أن تتم عمليّة المعرفة مثل عمليّة الهضم التي تتم دون ان تدخل المعدة مادة غذائية، ودون أن تترك المعدة فى هذه المواد الغذائية أثراً ؛ ومن هنا يتّضح انّ التركيب الخاص للمجموعة العصبيّة يؤثر تأثيراً معيّناً في عملية المعرفة، لأنّ هذا التأثير هو بنفسه المعرفة.

ونحن نعلم أن أعصاب الإنسان والحيوانات تؤدي وظائفها بشكل مختلف فرائحة ما تثير الاشمئزاز في نفس الإنسان، ولكنّها تجتذب الحيوان، ولون مافي نظر بعض الحيوانات يختلف عنه في نظر حيوانات أخرى. وقد يعجب إنسان بأحد الأصوات و لكن إنساناً آخر يرى ذلك الصوت نفسه نشازاً؛ و قد تبدو درجة حرارية معينة باردة احياناً ، وهي بنفسها تبدو ساخنة أحياناً أخرى.

وملخص الحديث أنّ لتركيب المجموعة العصبية تأثيراً في المعرفة ؛ ولكنّه لا يجوز لنا أن نستنتج من هذا أنه مادامت الاعصاب مؤثرة في المعرفة إذن لا يمكن معرفة عين الحقيقة، وذلك - كما ذكرنا من قبل - لان مفهوم كلمة المعرفة تشمل

ص: 95

ايضاً هذا التاثير الخاص(1)».

لابد هنا من توجيه السؤال إليهم : إنّه بعد الإصرار الشديد على مطابقة الإدراك مائة بالمائة للواقعيات الخارجية وردّ نظريّة «هلمولتز» التي أسموها ب_«المثالية الفسيو يولوجية» تبعاًل- «فویرباخ» بعد هذا كله ماهو التفاوت بين تلك النظرية ونظرية المعرفة الماديّة ؟ أهناك شي تثبته اكثر مما تثبته تلك؟

أجل! إنّ تخيل كون الإدراك ظاهرة مادية واعتبارها نتيجة فقط للفعل والانفعال الحاصلين في الأمور المادية لا يستطيع ان يعطي نتيجة سوى اعتبار البحث وراء عين الحقيقة، والحقيقة المطلقة عملاً عبثاً لا معقولاً! لأنه لا يمكن غض النظر عن تأثير المخ والجهاز العصبي وسائر أوضاع الشخص المدرك في الأثر الذي يأتيه من الخارج.

و يجب ان نضيف في هذا المجال أنّ الماركسيين علاوةً على العوامل الشخصية المؤثرة في الإدراك فهم يعتبرون الوضع الاقتصادي والعامل الطبقي أيضاً مؤثرين في المعرفة؛ ويعدون الاتجهات المختلفة للفلاسفة نابعة من مواقعهم الطبقية.

ولكنّ هذه النظرية تلحق الضرر باصحابها أيضاً لانها تقضى بأنّ معرفة ماركس وإنجلز وسائر زعماء الماركسية وأتباعها، كانت نابعة أيضاً من موقعهم الطبقي ومن ظروفهم الاقتصادية الاجتماعية الخاصة، ولايمكن ان تعكس الواقع الخارجي بصورة صحيحة !

و في ختام هذا البحث نود أن نذكر ملاحظة تتلخص في

ص: 96


1- المادية الديالكتيكية للدكتور أرانى : صفحه 32 - 33 .

النظرية الرمزية في الإدراكات الحسية تخفض من قيمة مطلق المعرفة في جميع المذاهب القائلة بأصالة الحس؛ ولكنّها لا تمس بسوء تلك النظرية القائلة بأصالة العقل والتي لا تعتبر الإدراكات العقلية تابعة للإدراكات الحسية. وأتباع مثل هذه النظرية يستطيعون توضيح نظر ياتهم الفلسفية على أساس البديهيات العقلية وإثبات القيمة المطلقة لها. وسوف يتضح هذا الموضوع في البحوث القادمة بإذن الله تعالى بشكل أفضل.

ص: 97

هذه أهم الأسئلة التي تطرح في علم المعرفة. وقد أجابت عنها المذاهب الفلسفيّة المختلفة بإجابات متفاوتة.

وقبل ذكر الأجوبة التي أعطيت لهذه الأسئلة أو يمكن ان تعطى لها، يحسن بنا أن نوضح السوأل كي لانقع في سوتفاهم أو مغالطة .

لقد استعملت كلمة ( المعرفة) في كلّ هذه الأسئلة. وصحيح أننا قد قلنا في المحاضرة الخامسة أن مفهوم المعرفة بديهى لا يحتاج إلى تعريف، ولكنّه لمّا كان بعض المذاهب الفلسفية قد اتخذ لنفسه اصطلاحاً خاصاً، ولاسيما بملاحظة الكلمات المختلفة فى اللغات المتنوّعة للحكاية عن ذلك، لذا يلزمنا أن نؤكد على أن مقصودنا من المعرفة هو مطلق الوعي والاطلاع سواء كان بوساطة ام بغير وساطة ولا يختص بالمعرفة الحسية والتجريبية ولا بأي لون خاص آخر.

نعم إذا كان هناك اشخاص يرون أن وسائل المعرفة منحصرة بالحس والتجربة فإنّ المعرفة ستكون من وجهة نظرهم - مساوية للإدراك الحسّى والتجريبي إذن يجب قبل الدخول في صميم البحث أن نعرف اوّلاً أتكون وسائل المعرفة منحصرة بالحسّ والتجربة، وبالنتيجة تصبح المعرفة الإنسانية محدودة بالمعرفة الحسيّة والتجريبية، أم هناك ألوان أخرى من المعرفة تحصل من طرق أخرى ؟ ولهذه المسألة أهمية كبيرة من ناحية أخرى، لأنّ وسائل المعرفة إذا كانت محدودة بالحسّ فسيصبح الواقع الذي يمكن إثباته منحصراً بالموجود المادي المحسوس فقط ، و يتعذر علينا تماماً إثبات واقع آخر وراء المادة والماديات.

ص: 98

(المحاضرة التاسعة)

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة:

بعد الاعتراف بالواقع الخارجي المستقل عن إدراك الإنسان، و بعد الاعتراف بإمكان معرفته، فإنّنا نواجه هذه الأسئله :

مقدمة فی بیان الاسئلة حول الکلیات

أتكون كل الواقعيات قابلة للمعرفه، أم بعض الواقعيات الخارجية ليست قابلة للمعرفة، أو على الأقل لا يمكن نفي احتمال وجود واقع لا تتيسر معرفته ؟

وهذه الواقعيات التي نستطيع معرفتها اهي تعرف معرفة كاملة أم نعرف منها وجهاً واحداً أوعدة وجوه معينه تتناسب مع وسائل الإنسان في المعرفة، أو على الأقل هناك احتمال لأن تبقى بعض الجهات مجهولة لهذا الواقع المعلوم؟

و معرفتنا بهذا الوجه الخاص أهي مطابقة تماماً للواقع الخارجي أم تلك المعرفة المحدودة هي نسبيّة أيضاً، أو على الأقل لا نملك دليلاً على مطابقتها للواقع ؟

أم أن معارف الإنسان مختلفة : بعضها حقيقة مطلقة وبعضها نسبية ؟

وفي هذه الحال يطرح سؤال آخر وهو: أى معرفة صحيحة تماماً ومطابقة للواقع ، وأيها خطأ او صحيحة بشكل نسبي ؟

وكون المعرفة حقيقة مطلقة أهو خاص بلون خاص من المعرفة كالحاصل بواسطة وسائل معيّنة، أم يشمل كل ألوان المعرفة فكلّها فيها خطأ وحقيقة؟ وأخيراً ماهو المعيار لمعرفة الحقائق من الأخطاء، والإدراكات المطابقة للواقع من الادراكات غير الصحيحة أو نصف الصحيحة ؟

ص: 99

وسائل المعرفة:

يوجد اختلاف واسع بين الفلاسفة منذ العهد اليوناني القديم حول وسائل المعرفة ، وأهم ما وقع فيه الخلاف يدور حول محورين : احدهما القيمة، حيث يكون السؤال: أيهما أكبر قيمةً : المعرفة الحسيّة أم المعرفة العقلية ؟ و بعبارة أخرى: أيما قابل للاعتماد اكثر الحس أم العقل؟

والمحور الثانى الاصالة، حيث يكون السؤال : ما هو الأصل في المعرفة الإنسانية، أهو الحس، والعقل ليس إلا وسيلة لتعميم الإدراكات الحسيّة ، ام أنّ العقل أيضاً وسيلة أصيلة ومستقلة ؟ ولكنّه على أي حال لم يكن هناك اختلاف حول اعتبار الحسّ والعقل وسيلتين للمعرفة.

أمّا في العصور الأخيرة فقد ظهرت في أوربا مذاهب فلسفية مثل (الوضعية)(1) أفرطت كثيراً في الاتجاه الحسي حتى كأن وسائل المعرفة قد انحصرت في الحسّ والتجربة ولا وجود لوسيلة أخرى هي «العقل»!

وعلى هذا فهى ترفض الفلسفة بعنوان أنها «مجموعة من المعارف العقلية والميتافيزيقية».

وللوضعيّة اتجاهات مختلفة من حيث الشدّة والحدة. والاتجاه المعتدل منها لا ينكر وجود العقل بعنوان كونه قوة لإدراك المفاهيم المنطقيّة والرياضية وهو يحاول إعادة المفاهيم الفلسفية للمفاهيم المنطقية، ولكن أتباع فلسفة التحليل اللغوى (لینگویستیک) يعتقدون أنّ المفاهيم العقلية تتمتع فقط بناحية

ص: 100


1- الوضعية مذهب أشاد أسسه أغوست كنت الفرنسي، وهو يفوه على أساس الاكتفاء بالتجربة الحسية المحضة.

لفظية صرفة، وهي في الحقيقة رموز للإدراكات الحسية والتجريبيه وليس التفكير والتعقل إلا حديثاً ذهنياً (حديثاً مع النفس) وكلاماً غير ملفوظ ، وتعود البحوث الفلسفية إلى توضيح الاصطلاحات ويصرّح بعض الوضعيين المحدثين أن المسائل الميتافيزيقية «ألفاظ جوفاء»! لأنّ اللفظ الذي له معنى من وجهة نظره - هو الحاكي عن أمر حسي، والكلام الذي له معنى هو ذلك الذى يمكن إثبات صحته أو عدمها بالتجربة، ولما كانت المسائل الفلسفية محرومة من إذن ألفاظ هذه الخاصية فهي لا معنى لها !

ومن الواضح أن دراسة كلّ هذه المسائل ونقد كلام أصحاب المذاهب المختلفة يحتاج إلى مجال واسع وبحث مفصل، ولمّا كانت دراستنا هذه موجهة بصورة خاصة إلى الماركسية - والماركسيون يرون أنفسهم أنهم من المخالفين للوضعيين - لهذا لانشعر بحاجة إلى تطويل البحث.

ونشير فقط إلى بعض الملاحظات المهمة وهي تتضمّن أصول هذه البحوث :

1 - المعرفة بمعناها العام(1) أوسع بكثير من المعرفة الحسية والعقلية، وهي تشمل ألوان العلوم الحضورية والوحي و الإلهام والمشاهدات العرفانية، ونحن نعلم أنه قد وجدت منذ العهود القديمه اتجاهات عرفانية وإشراقية بين بعض الفلاسفة، وحتى في العصور المتأخّرة ظهر بعض الفلاسفة فى أوربا من قبيل برجسون

ص: 101


1- نستعمل المعرفة أحياناً بمعنى خاص وتكون في مقابل (العلم) ، ويذكر بعض الفروق بينهم، فالمقصود هو أي لون من العلم والوعي والاطلاع.

وهم يعتبرون المعرفة الحقيقية مقصورة على المشاهدات العرفانيه ولكن لما كانت هذه المعرفة شخصية غير قابلة للانتقال الى الآخرين فلهذا لا يمكن الاعتماد عليها في المناقشات العلمية والفلسفية.

ولهذا يتناولون عادة في علم المعرفة «الحسّ والعقل» باعتبارهما «وسيلتي المعرفة»

2 - المقصود من الإدراك الحسي هوذلك اللون من المعرفة الحاصل للإنسان بواسطة اجهزة الحسّ كالعين والأذن، ويطلق عادة على إدراكات الحواس الظاهريّة، وقد استعملها «کندیاک» بهذا المعنى، وقد يوسع معناها أحياناً ليشمل الإحساسات الباطنية وقد استعملها «جون لوك» بهذا المعنى الواسع، وأحياناً يوسع كثيراً حتى يشمل أي لون من الإدراك الشخصي والجزئى، فيتناول بهذا العلم الحضوري أيضاً(1)، ولكن الحسّ والإحساس لا يستعمل إطلاقاً في الكليات و ينسب دائماً إدراك المفاهيم الكلية ل_«العقل».

3 - يستعمل العقل في الفلسفة بمعان مختلفة، منها ما له علاقة ببحثنا :

أ - تلك القوّة المدركة للمفاهيم التصوّرية الكلية.

ب - القوّة المدركة للتصديقات الكلية او خصوص التصديقات البديهية.

ج - القوّة المدركة للمفاهيم القيمية أو للخير والشر (العقل العملي). وخاصة الإدراك العقلي (بأي واحد من المعاني

ص: 102


1- ليرجع من يشاء إلى كتاب «أصول الفلسفة وأسلوب الواقعية» (ج 2، ص 20 - 21)

السابقة) في مقابل الإدراك الحسي هوأنه كلي.

4 - للتجربة أيضاً اصطلاحات متعددة وأهمها ما يأتي :

أ - المشاهدة المتكرّرة لظاهرة بحيث يحصل إجمالاً العلم بوجود علّة ملازمة لتلك الظاهرة، وتطلق التجربة بهذا المعنى في المنطق الكلاسيكي فى مقابل الحس والحدس والاستقراء: أي يقصد بالحسّ إدراك الظاهرة فقط بواسطة جهازها الحسّى الخاص، بينما الحدس يقصد به معرفة علّتها من دون حاجة إلى تكررها، ويقصد بالاستقراء تجميع أفراد كلي مادون معرفة العلة، أما التجربة فهي تفيد العلم الإجمالي العلة بوجود عن طريق تكرّر الظاهرة.

ب مطلق المشاهدة الحسية والوجدانية أو مطلق الإدراك المباشر وبلا وساطة(1)، والتجربة بهذا المعنى تكون مرادفة للمشاهدة تقريباً .

ج - المعرفة التفصيلية لعلة ظاهرة ما بواسطة الوضع والرفع أو تغيير ظروفها وخصوصية التجربة بهذا المعنى أنه قد لوحظ في مفهومها «العمل»، و يقصد بها هذا المعنى عندما تترجم بها كلمة «پراتیک».

ومن الواضح أن إثبات حكم عن طريق التجربة بالمعنى الأول والثالث هو في الواقع لون من الاستدلال العقلي، ويقصد غالباً من التجربة التي يؤتى بها قرينة للحسّ هي التجربة بالمعنى الثاني التي تختص أحياناً بالتجارب الخارجية (الحس

ص: 103


1- المقصود من الإدراك بلا وساطة هنا هو ذلك الإدراك الذي لا يحصل بواسطة التفكير والاستدلال ولا بواسطة التعبد ولا الاعتماد على إخبار الآخرين.

الظاهري) وقد تعمّم لتشمل التجارب الداخلية (الحس الباطني) أيضاً، ولابد أن نضيف هنا أنهم قد يستعملون «الحس» في مورد التصوّرات ، و «التجربة» في مورد التصديقات.

5 - بالالتفات إلى خاصية الإدراك العقلي وهي كليته يتضح لنا أن جذور التفكير الوضعي والتشكيك في وجود قوة خاصة باسم «العقل» وإدراك معيّن باسم «الادراك العقلي» أو إنكارهما كل هذا لا بد أن يبحث عنه في مسألة وجود «الكلي الطبيعي» وكيفية إدراكه، التي كانت منذ أقدم الأزمنة مورد بحث الفلاسفة بل اساس كثير من مناقشاتهم الفلسفية، وتعود الوضعية في الواقع إلى مذهب أصالة التسمية (نوميناليسم) وهي نفس ذلك الاتجاه القديم يتجسّم اليوم بشكل اكثر حدة فى المذهب الوضعي ولاسيما في بعض فروعه(1) وهم يقولون :

إن الإدراك الحقيقي هو ذلك الإدراك والمعرفة الحاصلة بفضل الحواس وهي تبقى بعد انقطاع ارتباط أجهزة الحس بالخارج في قوة الحافظة، وأقصى ما يوجد هو أن الإنسان يصوغ رمزاً واحداً بصورة «لفظ» للمدركات المتشابهة، وعند ما يفكّر أو يتحدث فمكان أن يتذكر أو يذكر كل المدركات المتشابهة فهو يتوسل بهذا الرمز اللفظي، فالإدراك الكلّي في الواقع هو التوجه للفظ يجعل مرآة لعدة مدركات متشابهة وكلُّ المفاهيم المستعملة في العلوم التحصليه من قبيل الذرّة والجُزيء والنبات والحيوان إنما هي من هذا القبيل، واما الألفاظ التي لا تحكي عن مثل هذه المصاديق المحسوسة والمتحققة كالعلة والمعلول والضرورة

ص: 104


1- أشرنا في المحاضرة السابقة إلى هذا الموضوع.

والإمكان وسائر المفاهيم الميتافيزيقية فهي في الحقيقة الفاظ لا معنى لها.

نقد التفکیر الوضعي فی إدراک الکلیات

والحاصل: انّ الإدراك العقلي في مورد الكليات التي لها مصداق و ما بإزاء عيني (المعقولات الاولى هو في الواقع ادراک رمز لفظي لأشياء متشابهة، وأما الكليات التي ليس لها ما بازاء عيني (المعقولات الثانية فهي الفاظ فارغة لا معنى لها، ولا يتعلّق بها أي إدراك، لأنّها لا معنى لها و ليس لها مفاد واقعي .

وقد اتخذ الوضعيون المنطقيون سبيلاً وسطاً واعترفوا بلون من الإدراك الذهني للمفاهيم المنطقية (المعقولات الثانية المنطقية) وألحقوا بها أيضاً المفاهيم الرياضية والفلسفية، وهم في الحقيقة يخلطون بين المعقولات الثانية المنطقية التي لامصداق لها أصلاً في الخارج والمعقولات الثانية الفلسفية التي لها مصداق في الخارج وعروضها فقط يكون في الذهن، ولهذا الخلط نظائر كثيرة في تاريخ الفلسفة وقد أوجد مشكلات كثيرة، وسوف تتضح بعون الله ما في هذا الإشكال مع بيان لأنواع المعقولات وكيفية حصولها .

ولنا مع الفئة الأولى موقف يتلخص في هذه النقاط :

أوّلاً: أن ادعاء كون المفاهيم الميتافيزيقية ألفاظاً فارغة لا معنى لها هو ادّعاء جزافي، ولوكان الأمر كذلك للزم أن لا يكون هناک فرق بينها و بين الألفاظ المهملة التي لم توضع اصلاً لاي معنى، ولا يتفاوت إثباتها ونفيها، بينما كلّ عاقل يعلم أن أثبات «العلة» لظاهرة ماليس مساوياً لنفيها، وحتى أولئك الذين

ص: 105

ينكرون أصل العلية فهم ينفون معنى لا يتمتع بالصحة في نظرهم. والحاصل : أنّ إثبات العليّة وإنكارها لهما مفهومان متناقضان، لا ان أحد هما لا معنى له .

ثانياً: يمكن أن نتصور وضع لفظ واحد لعدة أشياء أوعدة أشخاص بصورتين :

إحد اهما أن نأخذ بعين بعين الاعتبار موجودين أو أكثر ونوجد علاقة بينها وبين اللفظ، كما في تسمية عدة أشخاص باسم واحد، ففي هذه الصورة يكون اللفظ المفروض خاصاً بتلك الأشياء والأشخاص المعينين، ولا يكون له في هذه الحالة معنى لانهائي.

الصورة الثانية هي أن نأخذ بعين الاعتبار عدة افراد ثم نضع اللفظ لجهة مشتركة بينها و بين امثالها ونظائرها، وفى هذه الصورة يصبح اللفظ دالاً على أفراد بغير نهاية، ولكننا نعلم أن الأفراد جميعاً لم يلاحظوا في الوضع، بل لوحظ فرد اوعدد من الأفراد اللفظ بعنوان أنّها «نموذج» ثم وضع - حسب الفرض - ل_«كلّ أفراد النوع» او ل_«كلّ الأمثال والنظائر» أول_ «كل موجود مركب من هذه العناصر والأجزاء أو الأجهزة المعينة».

ومن الواضح أنّ المعاني الكلية ليست من قبيل الصورة الأولى بسبب أنها ليست محدودة من حيث كمية الأفراد والمصاديق، وعلى هذا لابد أن تلاحظ أثناء وضع اللفظ مفاهيم من قبيل «كلّ، جمیع، فرد، نوع، موجود، أمثال و...».

وفي هذه الحال يكون السؤال عن هذه المفاهيم : ماهو معنى «الفرد»؟ وإلى أي معنى يرمز هذا اللفظ ؟ و باي صورة كان معناه فإنّه لابد أن يكون مفهوماً كلياً يقبل الصدق على مصاديق غير محدودة اذن لابد أن نلتزم بانّ

ص: 106

ذهننا يستطيع - من دون أن يتصوّر الأفراد كلاً على حدة - أن يأخذ بعين الاعتبار جهة مشتركة بينها بحيث تكون في عين الوحدة قابلة للصدق على افراد غير محدودين، وهذا هو إدراك «المعنى الكلّي» لا «اللفظ».

النتيجة: أنّ إدراك المعانى الكلية لا يمكن تفسيره بإدراك الالفاظ الذهنية، وإنما يوجد للمعاني الكلية لون من الإدراك الخاص والإنسان يملك قوة إدراك خاصةً تدرك هذه المفاهيم الكليّة وهى «العقل».

ثالثاً: أنّ أكثر المفاهيم المستعملة في العلوم «التحصلية» لم تأت بصورة مباشرة من معطيات الحس، من قبيل: القوة، المادة، الطاقة، المغناطيس، الكهربائية، و... لأنّ معطيات الحواس تشكّل اللون والرائحة والصوت وما إليها، والحواس لا تقدم لنا مثل هذه المفاهيم، بل تنتزع هذه المفاهيم بوساطة قوّة مدركة خاصة من المعطيات الحسية. والقوة التي تنتزع هي ما نطلق عليه اسم «العقل».

رابعاً: كل عاقل يدرك ولو بشكل ارتكازي قضيّة «استحاله اجتماع النقيضين»، وهذه القضية كما أشرنا إلى ذلك مراراً - هي الخلفية لكل الادراكات اليقينية، بينما مفاهيمها التصوّرية مفاهيم ميتافيزيقية وهى عند الوضعيين فاقدة لاي معنى إذن كيف يمكن أن تُدرك بديهيّاً قضيّة لا معنى لها ؟ وكيف يمكن أن تكون الخلفية لسائر القضايا اليقينية ؟!

خامساً: أنّ المفاهيم المنطقية التي تلاحظ كثيراً في أحاديثهم لاشك أنها ليست فارغة ولا فاقدة للمعنى، فالبحث مثلاً

ص: 107

عن التصوّر والتصديق، أو القياس والاستقراء، أو القضية الموجبة والسالبة، والكلّية والجزئية لا يمكن اعتبارها غيرذات معنى ولاغير ذات فائدة، بينما هذه المفاهيم لا مصداق لها في الخارج، ولا يمكن عدها بأي وجه من الوجوه رمزاً للمدركات الحسية.

إذن لابد أن تكون هناك قوة مدركة أخرى تدرك هذه المفاهيم، وهي التي نسميها ب_«العقل».

النتيجة:

لا يمكن إنكار وجود قوة مدركة و وسيلة أخرى للمعرفة غير الحس. ثم ننظر ماذا يملك العقل من إدراكات، وما هي كيفية إدراكه لها ؟ اهو مستقل في عمله ولا يحتاج إلى سائر وسائل المعرفة، أم أن عمله يتوقف على عمل وسائل أخرى ويحتاج إليه ؟

وعلى فرض الحاجة إلى سائر وسائل المعرفة فما هي كيفيّة هذه الحاجة؟ أهي مثل حاجة النجار إلى الخشب حيث يجزئه و يركبه ، أم مثل حاجة الحس للمادة الخارجية لكي تدرك صورة منها، وهذه الصوره غير المادة الخارجيّة من حيث الوجود ؟

وهذه هي نفسها مسألة «أصالة الحس أو العقل» التي سبقت الإشارة إليها .

ص: 108

(المحاضرة العاشرة)

اشارة

مقدمة:

اعترف الفلاسفة منذ أقدم الازمنة بوجود نوعين من المعرفة (الذهنيّة - والعينيّة) .

مقدمة فی المعرفة الذهنیة و العینیة

فالمعرفة الذهنية تختص بالمفاهيم المنطقية، والمعرفة العينية تشمل كل العلوم الحقيقية (غير الاعتبارية)، وكانت الفلسفة (بمعناها العام) تمتد لتشمل كل هذه بأجمعها.

وعلى أساس هذا التقسيم تنقسم المفاهيم العقلية إلى فئتين الاولية والثانوية: فالمعقولات الأولى كانوا يربطونها بالفلسفة والعلوم، والمعقولات الثانية يربطونها بالمنطق، وبقي هذا التقسيم الثنائي كما في السابق لدى الفلاسفة الغربيين، ونستطيع أن نجد نماذج من هذا في أحاديث الفلاسفة الغربيين المعاصرين، وكما أشرنا إلى ذلك من قبل . فالوضعيون المنطقيون يحاولون إلحاق المفاهيم الرياضية بالمفاهيم المنطقية، وبعبارة اخرى فإنهم يحاولون إظهار المعرفة الفلسفيّة بعنوان انها معرفة ذهنيّة.

أما الفلاسفة الإسلاميون فقد قسموا المفاهيم غير المنطقية إلى فئتين :

فئة أسموها ب_«المعقولات الأولى الفلسفية» التي يبحث الفما با عنها فى العلوم الخاصة، وفئة أخرى اطلقوا عليها اسم «المعقولات الثانية الفلسفية» وهي تبحث في «الفلسفة الأولى».

إذن تنقسم المفاهيم الكليّة عندهم إلى ثلاث فئات:

1 - المعقولات الأولى (وهي منطقة نفوذ العلوم).

2 - المعقولات الثانية الفلسفيّة (وهى منطقة نفوذ الفلسفة).

3 - المعقولات الثانية المنطقية (وهى منطقة نفوذ علم

ص: 109

المنطق).

واحدى فوائد التقسيم الثلاثي هي أنه يستطيع توضيح الفرق الأساسي بين البحث الفلسفي والبحث العلمي (بالمعنى الخاص)، وأنه يبين إلى حد ما حدود كل منهما، ولو أنّه لا ينبغي تلقى العمل في تحديدهما وتعيين مصاديق كلّ منهما على أنه عمل تام كامل بل توجد هناك موارد مبهمة تحتاج إلى بحوث دقيقة وعميقة أكثر .

والملاحظة التي نراها لازمة في هذا المضمار هي أنّ هذا التقسيم الثنائي أو الثلاثي للمعقولات لا يشمل المفاهيم الاعتبارية (بالمعنى الأخص) كالملكية والزوجية والرئاسة ...، وتعود هذه المفاهيم في الواقع إلى استعمال مجازي للمفاهيم الأخرى.

واما المفاهيم القيمية والأخلاقية (الحسن والقبح) فلها قصة أخرى لعلنا نتناولها - بعون الله - في نهاية هذا البحث.

انواع المعقولات:

لمّا كانت خاصة الإدراكات العقلية هي كليتها فلهذا نستطيع أن نعد «المعقول » مساوياً . ل_«الكلّي».

وهنا نتناول المفاهيم الكلية بالبحث فنيين أنواعها وكيفية حصولنا عليها .

وقبل الدخول في انواع المعقولات نذكر هذه الملاحظة: وهي أننا - كما ذكرنا في المحاضرة السابعة - فإنّ كيفية الإدراك العقلي ليست مورد اتفاق جميع الفلاسفة العقليين، فأتباع افلاطون يعتقدون بكون المعقولات موجودات مجرّدة، ولها - بصرف النظر عن إدراك الإنسان أو أي موجود عاقل آخر - وجود عيني

ص: 110

وخارجى(1).

ولكننا نؤيّد النظرية القائلة أنّ وجود المفاهيم العقلية ليس مستقلاً عن الإدراك، والبحث الفنّي حول هذا الموضوع يحتاج إلى مجال أوسع.

قلنا إنّ المفاهيم الكلية (بغض النظر عن الاعتباريات بالمعنى الأخص و المفاهيم القيمية) تنقسم إلى ثلاثة أنواع :

النوع الأوّل:

المعقولات الأولى او المفاهيم الماهوية التي تحصل بعد الإدراكات الجزئية في جهاز الذهن الخاص بالمفاهيم، مثل مفهوم الإنسان، الحيوان، النبات وأمثالها، ومن هنا قيل: «لا يتحقق شيئ في العقل مالم يتحقق قبل ذلك في الحس».

ولكن هذا الكلام لا يكون صحيحاً إلا إذا كان المقصود من «المدركات الحسيّة» هو مطلق المدركات الجزئية والشخصيّة بحيث تشمل المعلومات الحضورية، لأن قسماً من المفاهيم ليس له مصداق حسي بالمعنى المعروف ولم يأت من تجريد المدركات الحسية، وإنما هو مأخوذ من المعلومات الحضوريّة مثل مفهوم النفس والمفاهيم المأخوذة من حالات النفس وقواها.(2)

و يعرفون عادةً هذه المفاهيم (المعقولات الأولى) بانها :

«تلك المفاهيم التي عروضها واتصافها معاً في الخارج».

ص: 111


1- يمكن ملاحظة نظير هذا الاتجاه في نظرية أصحاب معرفة الظواهر (من قبيل أدموند هوسرل) حيث يعتبرون الذات والماهية لأي شي موجوداً مثالياً خارج ظرف الزمان، و يمكن معرفتها بالشهود (Wesensschau)
2- سوف يأتي توضيح هذا الموضوع في المحاضرة الرابعة عشرة.

النوع الثاني:

المعقولات الثانية المنطقية، وهي تعرف بأنها :

«تلك المعقولات التي عروضها واتصافها معاً في الذهن».

أمّا كيفية وجود هذه المفاهيم فيكون بهذه الصورة: وهي ان الذهن بعد ان يستوعب المفاهيم المفاهيم الأخرى فإنّه يعود ينظر فيها، وبعبارة أخرى فإنّه يجعلها موضوعاً و يحلّلها، ثم يأخذ مفاهيم من قبيل: التصور والتصديق، الذاتي والعرضي، القضية، العكس المستوي، عكس النقيض، القياس وسائر المفاهيم المنطقية. ومن هنا فإنّ مصاديق هذه المفاهيم هي المفاهيم الأخرى التي لاوجود لها إلاّ في الذهن، فمثلاً المفهوم الذهني ل_«الإنسان» هو الذي يتصف ب_«الكلية» و «الذاتية» وأمثالهما ، لا الإنسان الخارجي.

النوع الثالث:

المعقولات الثانية الفلسفية التي تعرف بأنها :

«تلك المعقولات التي عروضها في الذهن واتصافها في الخارج».

من قبيل : العلة والمعلول، الواجب والممكن و...، لأنه صحيح أنّ الأشياء الخارجية هي التي تتصف بهذه الصفات، ولكن هذه الصفات ذاتها ليست أموراً عينية تعرض موصوفاتها في الخارج، أي أنها ليس لها «ما بإزاء خارجي».

هذه المفاهيم من جهة أنّ عروضها ذهني فهي تشبه المفاهيم المنطقية، ومن جهة أنّ اتصافها في الخارج فهي تشبه المفاهيم الماهويّة، ولهذا فهي تشتبه على البعض مع النوع الاول من المعقولات، وتشتبه على البعض الآخر مع النوع الثاني من المعقولات، وكما أشرنا في المحاضرة الماضية فإنّ الوضعيين

ص: 112

المنطقيين قد ألحقوا المفاهيم الفلسفية بالمفاهيم المنطقية، وهذا في الواقع خلط بين هاتين الفئتين من المعقولات.

وكذا «كانت» فقد عدّ المقولات الاثنى عشرة من خواص ،الذهن ومن جملتها مفهوم العليّة الذي هو مفهوم فلسفي فقد عده من جملة المفاهيم الذهنية ولهذا أنكر العلية في الخارج، وهذا في الواقع لون آخر من الخلط بين المفاهيم الفلسفية والمنطقية(1).

ومن ناحية أخرى : فقد نشأت مشكلات فلسفيّة كثيرة من جرّاء الخلط بين المفاهيم الماهوية والمفاهيم الفلسفية، ونذكر نموذجاً لذلك اختلافهم في أنّ «الإمكان» حقيقي أم اعتباري.

إذن لابد من معرفة الفرق بين أنواع المعقولات بصورة دقيقة لثلاً نبتلى بمثل هذه الاشتباهات ولكي نستطيع توضيح هذه المغالطات الناشئة من الخلط والاشتباه.

و يعتبر تشخيص المفاهيم المنطقية من بين الأنواع الثلاثة للمعقولات أسهل من سائر الأنواع، لأنه بأدنى تأمل يمكن معرفة هذه الخاصية وهى «انّها لا تنظر إلى خارج الذهن بل هي تبين صفات و خصوصيّات المفاهيم الذهنيّة»، ولهذا كان عنوان الثانية» مناسباً تماماً لهذه المفاهيم، لأنه مالم توجد مفاهيم في الذهن فإنّه لا مجال لوجود المفاهيم المنطقية .

ولكن تمييز المعقولات الأولى من المعقولات الثانية الفلسفيّة ليس بهذه السهولة، حتى أن بعض كبار الفلاسفة قد زلت أقدامهم أحياناً في تشخيص وتمييز بعضها من البعض الآخر.

وكذا عنوان «الثانية» للمفاهيم الفلسفية فهو ليس عنوانا

ص: 113


1- سوف يأتي توضيح هذا الموضوع في المحاضرة القادمة.

مناسباً تمام المناسبة، لأن هذا العنوان يوهم ان المفاهيم الفلسفية مثل المفاهيم المنطقية لابد أن تنتزع من مفاهيم أخرى من حيث كونها مفاهيم ذهنية، بينما ليس الأمر كذلك، وإنما هذه المفاهيم تنتزع من المعلومات الحضوريّة بنشاط ذهني خاص في المرحلة الأولى، ثمّ تصبح المفاهيم الماهوية أوتلك الفئة من المفاهيم الفلسفية التي انتزعت في المرحلة الأولى وسيطة في المراحل الأخرى ليلتفت الذهن إلى الوجودات الخارجية وعلاقاتها فينتزع مفاهيم فلسفيّة أخرى.

واذا كان عنوان «الثانية» مناسباً لهذه المفاهيم الحاصلة في المراحل اللاحقة، فإنّه غير مناسب ولا معبّر عن جميع المفاهيم الفلسفية، ومن الأفضل الاكتفاء في توضيحها بعنوان «الفلسفية».

ولكي يتضح الفرق بين المعقولات الأولى والمعقولات الفلسفية لابد من التعمّق أكثر في كيفية حصولها :

قلنا سابقاً ان وجود أي مفهوم كلي يكون مسبوقاً بإدراك جزئي وشخصي ، أي لا يصبح الإنسان مستعداً لإدراك المفهوم الكلي إلا بعد إدراكه للمصداق الجزئي، سواء ادرك هذا المصداق الجزئي بواسطة الحواس الظاهرية أم بواسطة الحواس الباطنية والمشاهدات الحضوريّة، إذن عندما تظفر النفس (أنا المدرك) بعلم جزئي بشيئ خاص فإنّ ذلك ينعكس في مرتبة من الذهن بشكل مفهوم كلي يختلف عن الإدراك الجزئي ولا يحكي عن شيئ خاص بصورة منحصرة بل يكون قابلاً للانطباق على أفراد غير محدودة مثلاً بعد ان نعرف عدداً من أفراد الإنسان يصوغ ذهننا مفهوماً كلياً لا يعكس فرداً خاصاً من الإنسان بل يقبل الانطباق على أفراد بغير نهاية وبخصائص ومشخصات متنوعة وفي مختلف

ص: 114

الأزمنة والأمكنة، ونستطيع أن نشبه هذا اللون من المفاهيم الكلية ب_«القالب الخالي» حيث ينطبق على المدركات الجزئية بصورة متساوية، وهو يعيّن فقط حدودها، ومن هنا قالوا : «الماهية من حيث هي ليست إلا هي»، وهي لا تقتضي الوجود أو العدم، ولا الوحدة أو الكثرة، ولا بقية الأمور المتقابلة، ويسمّى هذا اللون من المعقولات بالمفاهيم الماهوية أو المعقولات الأولى.

ولا ينتهي نشاط الذهن في صياغة المفاهيم من المدركات الجزئيّة والشخصيّة عند هذا الحد، بل يستطيع الذهن الذهن أن مفهوماً لذات «الوجود» من دون أن يجعل له حداً، وهو مفهوم «الوجود» ، ويستطيع أيضاً أن يصوغ مفاهيم لعلاقات الموجودات وشؤونها دون أن ياخذ بعين الاعتبار حدودها الماهوية، مثل العلية والمعلولية، الوجوب والإمكان و...، بل يستطيع أن يعكس اللا وجود أو فقدان الصفة الوجودية بصورة مفهوم عدمي، مثل مفهوم الاحتياج، الانتهاء ..... وهذه المفاهيم ونظائرها ممّا ينتزع بعضه بواسطة البعض الآخر تشكّل «المعقولات الفلسفية».

والفرق الأساسي المفاهيم الماهوية مبينة لحدود الموجودات، أمّا المفاهيم الفلسفيّة فهى تبين انحاء الوجود وأطواره بغض النظر عن الحدود الماهويّة للموجودات ووجود هاتين الفئتين من المفاهيم منوط بلونين من العمل الذهنى .

بينها وبين المفاهيم الماهوية هو أنّ واهم فرق بينها في كيفية الوجود هو أن حصول المفاهيم الماهوية ليس مشروطاً إلا بتقدم إدراك جزئي واحد أو أكثر من ذلك، أما حصول المفاهيم الفلسفية فهو - علاوة على الشرط المذكور - محتاج إلى تحليل ذهني خاص يتم عادةً نتيجة لمقارنة

ص: 115

معلومين حضور تين او نحوين من الوجود العيني ببعضهما .

كما يحدث فى مقارنة النفس بحالاتها التي تعرض عليها حيث والاحتياج، ثمّ مفهوم الجوهر والعرض، ولو لم تتمّ هذه المقارنة لما وجدت مثل هذه المفاهيم حتى لو تكررت الإدراكات الجزئية مئات المرات، ولهذا كانت المفاهيم الفلسفية «مزدوجة» مثل: الواجب والممكن، العلّة والمعلول، الواحد والكثير، بالقوة وبالفعل، المجرّد والمادّي، الثابت والسيال و...، فكل زوج من ، يرتبط بتقسيم خاص للموجود المطلق الذي هو موضوع الفلسفة .

واخيراً فهناك لون آخر من النشاط الذهني يجري على المفاهيم الذهنية من حيث كونها مفاهيم ذهنيّة، لامن جهة أنها مرآة للخارج، أي أنّ الذهن يلاحظ المفهوم بشكل مستقل (لا بصوره مرآة) ثم ينتزع مفاهيم من قبيل التصوّر، الكلى، الجنس، النوع ... وهذه هي المفاهيم المنطقية.

هذه الفئة من المفاهيم كما أشرنا إلى ذلك من قبل متميّزة تماماً، ومجال البحث فيها أيضاً معيّن بدقة، حيث يبحث عنها في علم المنطق فقط، وكلّ بحث منطقي فهو يقتصر على دراسة هذه المفاهيم، وعلى هذا فإذا تطرق الحديث في علم المنطق عن مفاهيم أخرى كالمفاهيم الماهوية او الفلسفية فهو حديث استطرادى وتطفّلي وعلى سبيل العارية، كما إذا بحث في علوم أخرى عن المنطقية فإنه سيكون بحثاً منطقياً قد جيء به هنا على سبيل العارية لمناسبة ما.

ولكن مثل هذه الملازمة الواضحة ذات الطرفين لا يمكن الظفر بها في سائر المفاهيم بصورة دقيقة لأنّ بعض المفاهيم

ص: 116

الانتزاعيّة متآخمة للمفاهيم الماهوية إلى الحد الذي يشتبه الأمر على أصحاب النظر أنفسهم، من قبيل «الكل، الجزء»، «المساواة أو الكبر أو الصغر» ممّا يبدو لأول وهلة أنه مأخوذ من المدركات الحسية، بينما الحسّ لا يستطيع أن يدرك سوى اللون او الشكل أو سائر الخواص المحسوسة للجسم، و نحن لانملك أي حسّ لإدراك مثل هذه المعاني، وحتّى مفهوم المادة والطاقة فإننا لا نحصل عليه بصورة مباشرة من طريق الحواس.

ومن ناحية أخرى فإنّه لم يعيَّن حد دقيق للفلسفة والعلوم المختلفة بحيث يكون مورد اتفاق جميع الفلاسفة والعلماء، وإنّما استمرت الخلافات حول الفلسفة الأولى (الميتافيزيقا) أهي تشمل بحث معرفة الله، ومعرفة المعاد وما من هذا القبيل أم أنّ كل واحد من هذه المواضيع علم مستقل، ولو انه يشارك الفلسفة الأولى فى الأسلوب.

كما أنّ الخلاف قائم في أنّ علم الاخلاق وعلم الجمال وعلم النفس أهي من العلوم الفلسفيّة أم لا ! والعلوم (بالمعنى العام) أيكون تصنيفها على أساس أساليب البحث أم حسب الموضوعات ام على أساس الغايات والنتائج؟

والشي الوحيد الذي يمكن التأكيد عليه بشكل قاطع هو ان أكثر المعقولات الفلسفيّة كلّية مما لا اختصاص له بنوع معين من الموجودات يبحث عنه فى الفلسفة الأولى، وهي نفسى تلك المسائل التي سمّيت منذ الأزمان الغابرة ب_« الأمور العامة».

وأمّا التعيين الدقيق لمنطقة نفوذ الفلسفة والعلوم وتعيين محلّ البحث من المعقولات الفلسفيّة الخاصة فذلك يتوقف على كيفية تعريفنا للفلسفة والعلم وإلى حدّ تتسع دائرة كل منهما، فمثلاً إذا

ص: 117

كانت حدود العلم منحصرة بالمفاهيم التجريبية غير الانتزاعيّة فستصبح كلّ هذه المفاهيم متعلّقة بالفلسفة، وحينئذ تغدو كل فئة من المفاهيم الانتزاعيّة الخاصة متعلقة بفلسفة خاصة، أو فليجعل لها مثل الرياضيات علم خاص (يكون برزخاً بين الفلسفة والعلوم التجريبية).

ونرى من اللازم علينا هنا أن ننتبه على ملاحظة تتلخص في أنه على الرغم من هذا الإبهام الحاصل في تعيين الحد الدقيق بين المفاهيم الماهوية والفلسفية، فإنّه لا يوجد اي غموض في تعيين الحدّ للمفاهيم المنطقيّة (ولهذا لا يوجد تفسير يمكن قبوله لألحاق البحوث الفلسفية بالبحوث المنطقية) أو بالعكس، ولكنّه مع الأسف الشديد قد تورّط فى هذا الاشتباه عدة من الفلاسفة الغربيين ولاسيما منذ عصر «هيجل» فما بعد، فبدا الاضطراب والحيرة في فلسفتهم، ونحن لانستطيع في هذا المجال المحدود ان نشبع هذه الأمور تحقيقاً.

ص: 118

(المحاضرة الحادية عشرة)

اشارة

مقدمة:

أن أثبتنا أنّ وسائل معرفة الإنسان ليست منحصرة بالحسّ وإنما لابد من عد العقل وسيلة أخرى للمعرفة نواجه هذا السؤال :

مقدمة فی دور العقل فی المعرفة

أيكون عمل العقل تجريد وتعميم الإدراكات الحسية فقط، ام أنّ له إدراكاً مستقلاً؟

و بعبارة أخرى : ماهو الأصل في المعرفة اهو الحسّ أم العقل له أصالة ايضاً ؟

القلعة عادة ينقسم الفلاسفة في الجواب على هذا السؤال إلى فئتين هما: «أصحاب أصالة الحس» أو «الحسّيون»، و«أصحاب أصالة العقل» أو «العقليّون».

ولكن هذا التقسيم يتمّ أحياناً: حول محور قيمة الإدراكات، فيسمَّى الأشخاص الذين يعتبرون المعرفة الحسية أكثر قيمة ب_ «الحسيين»، و الأشخاص الذين يولون الإدراكات العقلية قيمة أعظم ب_«العقليين»(1).

أمّا المسألة الأولى فيقال فى تفصيلها احياناً: ان الأصل في التصوّرات هو الحس، وكلّ التصورات العقلية (الكلية) تنتهي إلى تصوّرات حسية، ولكنّه في الإدراكات التصديقية تكون للعقل أصالة أيضاً و بعبارة أخرى :

فإنّهم يقولون بأصالة الحسّ في التصوّرات ولكنهم يقسمون

ص: 119


1- و يوجد لأصالة العقل اصطلاح آخر حيث يستعمل في مقابل أصالة الذوق والشهود العرفاني.

التصديقات إلى مجموعتين :

نظریة أصالة العقل في التصوّرات و تطورها

إحداهما «تجريبية»، والأخرى «تعقلية»، ويخصون كلّاً منهما بمنطقة نفوذ معيّنة.

فالفلاسفة القائلون بأصالة التجربة و يكون التصديقات العقلية تابعة للتجربة أيضاً فإنّهم يسمون ب_«التجربتين».

أمّا الفلاسفة القائلون باصالة للعقل في مجاله الخاص به فيطلق عليهم اسم «التعقليين».

وكذا يقال في تفصيل المسألة الثانية بأن القيمة تكون للحسّ والتجربة في الأمور المادية والطبيعية، وللعقل في الأمور المتعلقة بما وراء الطبيعة .

ولا يفوتنا أن ننبه هنا بأنّ للفلاسفة يسمون ب_«العقليين» و (التعقليين) آراء ونظريات مختلفة، ولهذا يجب دراسة كلّ نظريّة منها على حدة، ولكي لايطول البحث فقد اصطفينا للدراسة ثلاثة نماذج من القائلين بأصالة العقل في التصوّرات ثم ننتقل إلى دراسة نظريات الحسيّين.

أصالة العقل في التصوّرات

نظرية أفلاطون:

أشرنا في المحاضرة السابعة إلى أن إدراك الكليات في رأي أفلاطون هو عبارة عن تذكر الإدراكات التي ظفرت بها روح الإنسان قبل التعلّق بالبدن وذلك عند ما كانت تعيش مع الحقائق المجرّدة.

وحسب هذه النظرية لايكون للإدراكات الحسية أي تأثير في ظهور المفاهيم العقلية، بل أقصى ماينسب عندئذ للحسّ من تاثير هو أنّه يُعِدّ النفس لتذكر الإدراكات العقلية، وعلى هذا يصبح العقل

ص: 120

مستقلاً ومستغنياً عن الحس فى إدراك التصوّرات الكلية، وإن كان محتاجاً للحس في تذكرها.

إن قبول نظرية افلاطون يتوقف على التسليم بعدة أمور أخرى: أحدها أنّ كلّ ماهيّة تتحقق في هذا العالم المادي لها فرد مجرد عالم ماوراء الطبيعة يتمتّع بجميع كمالات تلك الماهية، وكل فرد من الافراد المادية إنّما هو ظلّ لذلك الفرد المجرّد و يكتسب منه كمالاته دون أن ينقص منه شي، ولهذا يطلق على ذلك الفرد المجرد اسم «ربّ النوع» للأفراد المادية(1).

الثاني : ان روح الإنسان قد كان موجوداً في عالم فوق عالم الطبيعة قبل تعلقة بالبدن .

الثالث : انّ روح الانسان قد شاهد وأدرك الحقائق المجرّدة في ذلك العالم.

الرابع: انّ الإدراكات الحسية التي تحصل بوساطة الأجهزة الحسيّة تُعِدّ النفس لتتذكر المعلومات السابقة.

وعلى اساس هذه المقدمات فقد اعتقد أفلاطون بانّ إدراك الكليات وتصور المفاهيم العقلية إنّما هو تذكر الإدراكات التي كانت تتمتع بها الروح الإنسانية بالنسبة للحقائق المجرّدة (المُثل) و ذلك قبل تعلقها بالبدن.

و لكن هذه الأمور الأربعة قابلة للمناقشة، و على فرض أنها صحيحة فنحن لا نستطيع أيضاً أن نعد تذكر الإدراكات السابقة نفسَ التصوّرات الكلية، وذلك لأنّ إدراك الروح حسب

ص: 121


1- إن أرباب الأنواع هي «مُثُل» أفلاطون التي تكون مجردة تماماً وليس لها أتي صفة مادية من قبيل الامتداد واللون وغيرهما و يجب أن لا تختلط هذه بالموجودات المثالية والبر زخية التي لها صفات مشتركة مع الماديات.

الفرض - لكلّ واحدة من الحقائق المجرّدة إنّما كان إدراكاً شخصيّاً لموجود عيني متميز ومجرّدُ أن يكون ذلك الموجود متمتعاً بكمالات جميع أفراد النوع لا يوجب أن نعتبر إدراكه إدراكاً للكلّي بالنسبة إلى النوع لانّ معنى الإدراك الكلّي هو أنّ الذهن يدرك قالباً مفهوميّاً يقبل الانطباق على كل واحد من الأفراد، و من الواضح أن إدراك حقيقة مجرّدة تتمتع بكمالات جميع افرادالنوع لا يقبل الانطباق على كلّ فرد من افراد ذلك النوع .

إذن لا يمكن اعتبار مثل هذا الإدراك إدراكاً كلياً و مفهوماً عقلياً للأنواع المادية.

و من الضروري أن نذكر بأنّ نظرية أفلاطون لا يمكن تطبيقها إلا في المفاهيم الماهوية، ولا يمكن الاستفادة منها في المفاهيم الفلسفية و المنطقية (المعقولات الثانية) أبداً .

نظریه دیکارت:

يقسم ديكارت التصوّرات إلى ثلاث فئات:

1 - التصوّرات التي تحصل من طريق الحواس، من قبيل اللون و الطعم و... وتسمى هذه ب_«التصوّرات العارضة»(1).

2 - التصوّرات الحاصلة من تركيب تصوّرات أخرى مثل تصوّر فرس ذي أجنحة، وتسمى هذه ب_«التصوّرات الجعلية»(2)

3 - التصوّرات التي أودعها الله في طبيعة عقولنا، ولا دخل للحس والتجربة فيها من قبيل تصور الله (الكامل المطلق) والنفس

والامتداد، و كذا مفاهيم العدد و الشكل والحركة والزمان،

ص: 122


1- Ideas adventitious
2- Ideas factitious

وتسمى هذه ب_«التصوّرات الفطرية»(1). و من هنا فقد اعتبر ديكارت من «اصحاب أصالة العقل الفطريّ».

و قد اشكل عليه معاصروه بأنّ هذه التصوّرات لو كانت فطرية للزم ان يكون الأطفال متمتعين بها ، و لكن ديكارت كتب في جوابهم :

ليس المقصود من كونها فطريّة هو أنها موجودة فينا «بالفعل» منذ بداية وجودنا، وإنّما المقصود هو أنها موجودة فينا «بالقوة» و يمكن أن تتحوّل إلى الفعلية من دون أن يؤثر الحس فيها، كما يقال: «إنّ بعض الأشخاص كريم بطبيعته» فإنّ هذا لا يعني أنه كان مستغرقاً فى العطاء والجود منذ ولادته.

ثم جاء بعده «ليبنتس» و شبّه الإدراك الفطري بالصورة الواقعة على عدسة الكامرا ولكنّها لم تظهر بعد.

وأضاف بانّ ظهور الإدراكات الفطرية وانتقالها إلى الفعلية يتوقف على التجربة.

وقد كانت نظرية ديكارت تبدو أنها تشبه نظرية أفلاطون في البدء(2) و لكنّها بهذا التفسير تقترب نحو نظرية أرسطو (العقل الهيولاني)، ولو أنّ ديكارت قبل تأثير الحس والتجربة على أساس أنها العامل لانتقال الإدراكات الفطرية إلى الفعلية لم يصبح هدف هجوم التجريبيّن.(3)

ص: 123


1- Ideas Innate
2- كتب ديكارت في القسم الخامس من كتابه «التأملات»: «لست أظنُّ أنني أتعلم شيئاً جديداً، وإنما أنا أتذكر ذلك الشي الذي كنت أعلمه من قبل، أي انني ألتفت إلى اشياء في ذهني لم أكن ملتفتاً إليها سابقاً».
3- ليرجع من يشاء إلى الفصل الأوّل من كتاب جون لوك «التحقيق في الفهم البشري».

نظرية كانت:

يعتقد كانت بانّ المعرفة مركبة من عنصرين : مادة المعرفة من متعلّق المعرفة و هي تحصل بوساطة الحواس، وتكون ! متأخرة عن التجربة(1)، وصورة المعرفة التي هي من لوازم الفاعل للمعرفة (الذهن)، و ليس لها وجود خارجي.

و تنقسم صورة المعرفة - التي هي من طبيعة الذهن و متقدّمة على التجربة(2)- إلى فئتين : صورة الحساسية، وصورة الفاهمة.

فلكل معرفة تجربيّة خاصة قيد زماني و مكاني، ولكن الزمان والمكان لا يعرفان من طريق الحسّ والتجربة، وإنما هما من صور الحساسية «المتقدمة» و منهما يأتي موضوع العلوم الرياضية : فموضوع علم الهندسة هو (الامتداد) من المكان، و موضوع علم الحساب (العدد) من الزمان!

و لكلّ حكم كمية وكيفية و نسبة وجهة، و لكل من هذه الأربعة ثلاثة اشكال فيصبح المجموع اثنتي عشرة مقولة.

ولمّا كانت هذه المقولات غير حاصلة من طريق الحس والتجربة فهي إذن من لوازم الذهن ذاته و من صور الفاهمة «المتقدّمة».

ص: 124


1- Apostoriori
2- Apriori

جدول الاحكام

جدول المقولات

المثال

من حيث الكم

كلية / وحدة / كل الناس يموتون

جزئية / كثرة / بعض الناس فلاسفة

شخصيّة / جملة / سقراط حکیم

من حيث التكيف

موجبة / إثبات / الإنسان يموت

سالبة / سلب / ليست النفس بميتة

معدولة / حدٌ / النفس لا مادية

من حيث النسبة

حملية / جوهر / الله عادل

شرطية (متصلة) / علية / إذا كان الله عادلاً / فإنه يعاقب الأشرار

شرطيّة / تبادل / اليونان أو الرومان /

منفصلة / تبادل/ هم اعظم شعب في العصر القديم

من حيث الجهة

احتمالية / إمكان / السيارات قد تكون / مأهولة

حتميّة / وجود / الارض كروية

يقينية /ضرورة / من الضروري أن يكون الله عادلاً

ص: 125

و يعتقد كانت أنّ نشاط العقل النظري لابد أن يحدّد بمنطقة نفوذ التجربة (العلوم)، ولكن عقلنا يحلّق عالياً ويريد أن يُصدر حكمه فيما وراء التجربة أيضاً، ومن هنا فهو يتصوّر ثلاثة أسس «متقدمة» لجميع الإدراكات التجريبية، وهي عبارة عن:

النفس، العالم، الله. وهو يسمّيها ب_ «المفاهيم العقلية المتقدمة».

إذن يعتبر كانت هذه المفاهيم ذهنية، اي انها تحصل بدون تدخل الحسّ والتجربة وبصورة «متقدمة»، : المكان، الزمان، الوحدة، الكثرة، التمامية، الإثبات، النفي، الحد، الجوهر، العلة، التبادل، الإمكان، الوجود، الضرورة، النفس، العالم، الله. وعلى هذا فهو قائل بلون من «اصالة العقل» في التصوّرات، وذلك في مقابل القائلين ب_«اصالة الحس».

وتوجد إشكالات كثيرة على نطريّة كانت، وليس من الميسور لنا استعراضها جميعاً في هذا المجال، ونكتفي بذكر بعض الملاحظات فقط :

1 - يتضح لنا من التأمل في جدول المقولات أنّ كانت قد تكلّف كثيراً في تنظيمها،(1) كما نلاحظ ذلك في جعله مفهوم «التمامية» إلى جانب مفهومي الوحدة والكثرة، ومفهوم «الحد» إلى جانب الإثبات والنفي، ومفهوم «التبادل» إلى جانب الجوهر والعلة.

2 - ليس صحيحاً استنباط مقولة (الجوهر) من القضية

ص: 126


1- كان كانت لم يستطع صياغة صورة ثالثة للزمان والمكان لكي يكون جهاز المفایم المتقدمة أكثر انسجاماً !

الحملية. وفي هذا المثال (الله عادل) لا يمكن اعتبار «الله» جوهراً وقد عرض عليه «العدل».

3 - إنّ الكلية والجزئية من المعقولات الثانية المنطقية المتعلّقة بعلم المنطق، اما الوحدة والكثرة والضرورة والإمكان والجوهر والعلة وما إليها فهي من المعقولات الفلسفية المتعلقة بالفلسفة الأولى (الميتافيزيقا) ، ولا يمكن جعل الفئتين مشمولتين لحكم واحد، كما أنّه لا يمكن استنباط المفاهيم الفلسفية (من قبيل الوحده والكثرة) من المفاهيم المنطقية (من قبيل الكلية والجزئية)، وهو ما وقع فيه كانت من الخلط بين هاتين الفئتين من المعقولات.

4- إذا كانت مفاهيم العقل المتقدمة (النفس، العلم، الله) من لوازم الذهن فإنّه لا يمكن اعتبار البحث عنها خارجاً عن نطاق العقل، كما أنّ حل المسائل الرياضية ليس خارجاً عن طاقة العقل، فى نفس الوقت الذى ليست هي بحاجة إلى التجربة باعترافه هو، وإذ لم تكن من لوازم الذهن فلابد من بيان كيفية ظهورها، وتفسير سبب تسميتها ب_«المتقدمة»، ولا يوجد تفسير مقبول لهذا الموضوع.

5 - إذا فرضنا أنه يمكن الحصول على موضوعات للمعارف الحقيقية الرياضيّة من صور الحسّاسيّة (الزمان والمكان)، فلابد أنه يمكن أيضاً الحصول على موضوعات للمسائل الفلسفية من صور الفاهمة (من قبيل الجوهر، العلة، الوجود، الضرورة و...) ثمّ إثبات أحكام تتمتع بقيمة تعادل قيمة الأحكام الرياضية، بينما كانت لا يعترف بمثل هذه القيمة للأحكام الفلسفية، وهو يسميها ب_«الجدليّة الطرفين»، ويعدّ محاولة العقل النظري لحل المسائل

ص: 127

الميتافيز يقيّة عقيمة وعابثة وهو يسميها ب_«الديالكتيك» إمعانا في السخرية والتحقير.

6 - لوكانت «العلّة» مفهوماً ذهنيّاً لا مصداق له في الخارج لما تيسر لنا إثبات الوجود الخارجي الطبيعي، لأنّ ماندركه ليس إلا صورنا الادراكية، وبفضل أصل العلية فقط نحن نستطيع إثبات وجود الأشياء العينية المؤثرة في حصول الصور الإدراكية، أما إذا لم نسلّم بوجود العلية في الخارج واعتبرناها من خواص الذهن فكيف نستطيع ان نقول بأن بين الإدراكات الذهنية والأشياء العينية تأثيراً وعلية في صميم الواقع ، وعن طريق العلم بالمعلول- (الصور الإدراكية) يحصل لنا علم بالعلة (العالم الخارجي)؟!

7 - إنّ المفاهيم الفلسفية التي لم تأت عن طريق الحسّ والتجربة غير منحصرة بما ذكره كانت، ولا يوجد مجال لسائر المعقولات الثانية في جهاز المفاهيم «المتقدمة» لكانت.

ص: 128

(المحاضرة الثانية عشرة)

اشارة

مقدمة:

ابتدء السوفسطائيون بطرح مسألة أصالة الحسّ في اليونان القديمة، أن يبين ذلك فلسفياً، ونقلت عنه جملة مشهورة هي :

«لا يوجد شي في العقل إلا إذا كان قدوجد في الحس قبل ذلك». و في أواخر القرون الوسطى اتجه «ويليام الأكامي» نحو اصالة الحسّ ، و لحق به في العصور الحديثة كل من «هابس» و «غاساندي» ثمّ «جون لوک» و «کندیاک» و نالت رواجاً أكبر بصورة تدريجية حتى انتهى الأمر إلى ظهور المذهب الوضعي .

و كان جون لوك الفيلسوف الإنجليزي التجريبي(1) أول شخص تناول مسائل المعرفة بالبحث والدراسة بصورة مباشرة، وقد كتب في مدة تناهز العشرين عاماً كتابه المعروف (التحقيق في الفهم البشري) و قد خصص الفصل الأول منه لنقد نظرية «الأفكار الفطرية» وردّ ديكارت، ثم تناول في الفصول الأخرى بيان كيفية ظهور التصوّرات والتصديقات.

و كان يعتبر التجربة الحسيه منشأ المعارف، ولكنّه هذا المفهوم ليشمل التجربة الباطنيّة (= المراقبة كان يوسع الداخلية)(2) ايضاً.

اما كندياك فقد كان يعد الحس الظاهري المنشأ الأصلي للمعرفة، و هو يقبل التجربة الباطنية على أساس أنها إحساس

ص: 129


1- Empirist
2- Reflexion

متعلق بإحساس آخر ويعترف كل من هذين بوجود ما وراء الطبيعة و يقولان بصحة الاستدلال العقلي لإثبات وجود الله، و في الواقع فإنّهما يعتبران «منشأ» المعرفة منحصراً بالتجربة الحسية، و لكنهما لا يحصران - في النتيجة - مجال المعرفة في حدود التجربة الحسية، ويعتقدان بأنّ العقل بما يكتسبه من الحسّ من مدد يستطيع أن يصل إلى معرفة وجود ماوراء الطبيعة و أن يقدم دليلاً لإثبات ذلك.

نظرة أصالة الحسّ و تطورها

و لأصحاب أصالة الحسّ أيضاً نظريات مختلفة، و نحن نتناول أوّلاً بالبحث نظرية جون لوك لأنّها أشهر من البقية وأكثر اعتدالا ، ثم نشير إلى نظرية كندياك التي تعتبر أكثر إفراطا من سابقتها، و بعد ذلك نمر بصورة سريعة على نظريتي «باركلي» و «هيوم» في التصوّرات.

أصالة الحسّ في التصوّرات

نظرية جون لوک:

يعتقد جون لوك أنّ ذهن الإنسان فى بدء وجوده يشبه صفحة بيضاء لم يخط فيها شي ثم تأتي التجارب الظاهرية و الباطنية لتوجد فيه التصوّرات البسيطة، و بعد ذلك يقوم الذهن بالتحليل و التركيب و المقارنة و التجريد والتعميم للمعطيات الحسية، و بهذه الصورة فهو ينتزع مفاهيم جديدة ولو لم تكن هذه المعطيات الحسية لم تحصل هذه المفاهيم للعقل.

و التصوّرات البسيطة إمّا أن تحصل عن طريق الحسّ الظاهري و تتعلّق حينئذ بالكيفيات الأولية للأجسام كالا متداد و الحركة، أو بالكيفيات الثانوية لها كاللون والطعم والرائحة، واما ان تحصل عن طريق الحس الباطنى (المشاهدة الداخلية) و

ص: 130

تتعلّق عندئذ بأفعال النفس وقواها، كتصوّر الحافظة والإرادة، و إما أن تحصل عن طريق تعاون الحسّ الظاهري والباطني كتصوّر اللذة والألم و الوجود و الوحدة والعدد.

ثم تاتي التصوّرات الاكثر تعقيداً من التصوّرات البسيطة كتصوّر الجوهر و النسبة الذي يشمل ايضاً تصوّر العلية و الغائية فمثلاً عندما نحس في شي ثقل الوزن و النعومة و البرودة و اللون الرمادي فإننا نسمي التصوّر المركب من جميع هذه الأمور ب_«جوهر الرصاص».

و من المقارنة بين شيئين توجد الإضافات المختلفة من قبيل الكبر و الصغر، الأبوة و البنوة. أما مفهوم العلة و المعلول فهو من الإضافات التي تحصل نتيجة المقارنة بين حادثتين تحدثان متعاقبتين بشكل منتظم.

و هو يرى أنّ الحسّ الظاهري و الباطني غير كاف لوجود التصوّرات المركبة، ويعتقد أن قوة الفاهمة ايضاً تؤثر في وجودها، و بمساعدة هذه القوّة نحن نفهم انّ الكيفيات التي تقبل التغيير تحتاج إلى شي ينسب إليه هذا التغيير و هو «الجوهر»، كذا نفهم انّ التعاقب المنتظم لظاهرتين لا يمكن أن يكون بدون رابطة العلية.

و الواقع أن جون لوك قد وفق إلى حد بعيد في ردّ نظرية «الأفكار الفطرية» لديكارت (و ذلك حسب ظاهر کلام ديكارت و بغض النظر عن جوابه للاعتراضات الموجهة إليه).

و ادعاؤه المبنى على أنّ ذهن الإنسان ليس فيه اي تصوّر بالفعل منذ البداية يمكن قبوله أيضاً.(1)

ص: 131


1- يمكن أن يفهم هذا الموضوع من الآية (78) - سورة النحل : (والله أحرجكم بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً و جعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشکرون).

ولكن هذا لايرة نظرية (العقل الهيولاني) أي الاستعداد الخاص للذهن الإنساني لإدراك المعاني العقلية (كما ذكر ذلك ارسطو)، بل لا يمكنه حتى نفي وجود هذه المفاهيم في أعماق الذهن و العلم اللاشعوري بها (كما يحصل ذلك الصورة المنعكسة فى عدسة الكاميرا و لم تظهر بعد، أوفي الخطوط الموجودة في الأحجار القيمة التي لم تمسها يد ثم تظهر بعد التصفية و الصقل، كما مثل به ليبنتس).

و من جهة أخرى فإنّه لا يوجد معيار واضح لتقسيم كيفيات الأجسام و خواصها إلى «الأولية» و «الثانوية» (كما فعل دیکارت) مع إنكاركون تصوّر الكيفيات الأولية أمراً فطرياً .

و كذا لا يمكن قبول الادعاء المتضمن لكون المفاهيم التي هي من قبيل الوجود و الوحدة ناشئة من تعاون الحسّ الظاهري و الباطني، ويبدو أن جون لوك لما لم يستطع أن ينسب وجود هذه إلى أي واحد من الحواس الظاهرية و الباطنية فقد لجأ المفاهيم لاعتبارها معلولة التعاون بين الحسّ الظاهري والباطني !

و ليس من الصحيح أيضاً اعتبار مفهوم الكبر و الصغر و سائر الإضافات و النسب من المركبات ولعلّه لهذا السبب اعتبر جون لوک في الطبعة الرابعة من كتابه هذه المفاهيم «عدلاً» و «قسيماً» للتصوّرات المركبة لا «قسماً» لها.(1)

ص: 132


1- قسم جون لوك في الطبعة الأولى من كتابه التصوّرات المركبة إلى ثلاثة أقسام (الجواهر، الحالات، الإضافات)، و لكنه في الطبعة الرابعة نظم التصوّرات بهذه الصورة: التصوّرات البسيطة، التصوّرات المركبة، الإضافات، التصوّرات الكلية.

و الاهم من ذلك هو أنه يعتبر العلية من قبيل الإضافة و النسبة التي تحصل من ملاحظة تعاقب ظاهرتين بصورة منتظمة، بينما مفهوم العلية يحكي عن التأثير العيني و الخارجي لموجود ما في ظهور موجود آخر، و صحیح ان بین عنوانی «العلّة» و «المعلول» تضايفاً، كما يوجد التضايف بين «العالم» و المعلوم»، «القادر» و «المقدور» وسائر المفاهيم المتضايفة، ولكنّ الحديث في أننا من أين عرفنا حقيقة التاثير و التأثر الخارجي بين شيئين، وبأي قوة انتزعنا مفهوم العلة و المعلول، حتّى يصل الدور إلى النسبة بين هذين المفهومين . يبدوأنّ جون لوك يريد إلقاء معرفة حقيقة العلية على عاتق قوة الفاهمة، و لهذا فقد عد وجودها ضرورياً لظهور التصوّرات المركبة، ولكنّنا نعلم من جهة أخرى أنّ هذا معناه الاعتراف بأصالة العقل !

نظرية کندیاک:

*نظرية کندیاک:(1)

إنّ أوّل فيلسوف فرنسي قبل نظرية أصالة الحسّ هوكندياك، و قد خطا خطوة أوسع من جون لوك، فاعتبر التجربة منحصرة في الإحساس الظاهري، و حتى وجود قوى النفس و افعالها كالحافظة و الإرادة فقد اعتبرها معلولة للإحساس الظاهري، و لهذا لم يشعر بحاجة إلى لون آخر من التجربة يتعلق بقوى النفس و افعالها، وعلى العكس من جون لوك الذي كان يعتبر الإدراك ممكناً للجسم، فقد اعتقد كندياك بأن الروح المجرد فقط هو الذي يستطيع التفكير و

ص: 133


1- Condillac.

الإحساس، وعد الأجهزه الحسية «عللاً إعدادية»(1) للإحساس فحسب.

و كان يعتقد كندياك بأنّ الحسّ الظاهري وحده يستطيع أن يكون منشأ ظهور الإدراكات والقوى النفسانية : فبقاء الإحساس إلى زمان ظهور الإحساس الجديد يكون لنا الحافظة؛ و التفات النفس إلى هذين يكون قوة المقارنة؛ وإدراك جهات الاشتراك و الامتياز بينهما يكوّن الحكم الإيجابي و السلبي ؛ و تكرار المقارنة و الحكم يوجد الاستدلال، و كذا خاطرة الإحساس المطبوع توجد الرغبة والرغبة الغالبة توجد الإرادة. إذن جميع أنواع القوى النفسانية و افعالها وليد الإحساسات الظاهرية، وكلّ الحياة النفسية إنما هي إحساس قد تغير شكله !

فالقسم الأساسي من نظرية كندياك الذي هو موافق لنظرية جون لوك توجّه إليه نفس الإشكالات الموجهة إلى نظرية لوک .

و الاختلاف الأصلي بين هاتين النظريتين يمكن تلخيصه في نقطتين :

إحداهما تجرّد الإدراك، والأخرى إنكارقوى النفس وأفعالها ، و إعادة هذه إلى الإحساسات الظاهرية و العادات الحاصلة من تكرارها.

أمّا تجرّد الإدراكات فهو مورد تأييدنا، وسوف يأتي توضيح في المحاضرات القادمة بإذن الله تعالى، و امّا إعادة كل الحياة النفسية إلى الإدراك الحسي مع تغيير شكله فهو ادعاء مثير للاستغراب، و الحد الاقصى هو أنه يمكن قبول الإحساس

ص: 134


1- Cause Occasionelle

الظاهري بعنوان كونه شرطاً و أرضيّة لتحقق بعض الأفعال و الانفعالات النفسية وليس مولّداً لها، فضلاً عن اعتباره مولداً لقوى النفس ذاتها ! و أفضل تفسير يمكن أن يقدَّم في هذا المجال ليرفع الغرابة عن ذلك هو أنه أراد إعادة جميع الشؤون النفسية إلى أمر واحد بحيث يتناسب مع وحدة النفس و بساطتها و ذلک هو «الإحساس». و لكن الحقيقة أنه لا يمكن بأي وجه من الوجوه إنكار الاختلاف الواضح بين قوى النفس و أفعالها و انفعالاتها المتنوّعة، والتعلّل بأنّ هذا جمع بين بساطة النفس وتعدد قواها و شؤونها لا يصلح عذراً لمثل هذه التكلفات، وإنما الحل يتم من طريق معرفة مراتب النفس، تلك السبيل التي سلكها الفيلسوف الإسلامي الكبير صدر المتألهين الشيرازي وحقق فيها نجاحاً باهراً.

و نذكر في هذا المجال بانّ إنكار تجرّد الإدراكات من قبل جون لوك، و إنكار التجربة الباطنية و استقلال قوى النفس و أفعالها بالنسبة إلى الإحساسات الظاهرية من قبل كندياك، قد مهدا الطريق لإنكار النفس المجرّدة بل لإنكار مطلق ما وراء الطبيعة، و تهيئة الظروف لظهور المادية الفلسفية، و هو نفس ذلك الشئ الذي حدث فى فرنسا بعد کندیاک.

نظرية باركلي:

خلافاً لجون لوك القائل بانتزاع المفاهيم الكلية من الموارد الجزئية (عن طريق حذف جهات الافتراق بينها) فقد اعتقد بارکلی بأن الموجود هو الصورة الجزئية التي يمكن جعلها (علامة) للجزئيات الأخرى لتشابهها، إذن الألفاظ الكلية إنما هي أسماء

ص: 135

تستعمل في مسميات متعدّدة، و على هذا فقد دبّت الحياة من جديد في مذهب قديم يسمَّى بأصالة التسمية (نوميناليسم).

و هو يعتقد بانّ «الانتزاع» ليس صحيحاً سواء أكان بمعنى فصل الجهة المشتركة بين عدة أشياء عن المشخصات و المميزات الفردية مثل انتزاع المفهوم العام للحركة من الحركات المختلفة ام كان بمعنى الحصول على مفهوم جديد بواسطة مفاهيم سابقة، أي لا يوجد إطلاقاً مفهوم كلى يصلح ليكون مورد الإدراك الذهني، والذي يدرك إنما هو أمر جزئي شخصي دائماً ويجعل علامة على عدة أشياء متشابهة .

و يصل باركلي إلى هذه النتيجة و هي أن كثيراً من المسائل العويصة في الفلسفة قد حصلت نتيجةً لسوء استعمال الكلمات و تركيبها، وفي الواقع فإنّ كثيراً من المسائل الفلسفية ليست صادقة ولا كاذبة وإنّما هي تركيب لا معنى له !

إنّ هذا الحكم الذي حكم به باركلي على بعض المسائل الفلسفية أخذه بعد ذلك الوضعيون و عمموه على جميع مسائل الفلسفة الأولى (الميتافيزيقا) كما أشرنا إلى ذلك فيما مضى و من جملة الألفاظ التي قد أسي استعمالها من وجهة نظر بارکلی - لفظ «الوجود» المبين ل_«المدرک و المدرَک»، و لكن هؤلاء قد تخيّلوا أنه مفهوم مستقل عن الإدراك، و لهذا فقد خصص بحثاً مفصلاً ل_«مساواة الوجود للمدرك و المدرَک»، وعد هذا واحداً من أصول فلسفته .

و هو ينكر أيضاً مفهوم «الجوهر» بعنوان أنّه أمر واحد يكون موضوعاً للأعراض المتنوّعة، ويصل إلى هذه النتيجة و هي أنّ الجوهر ليس شيئاً سوى مجموعة من الأعراض المختلفة، و هو يعتبر

ص: 136

الاعتقاد بوجود الجوهر المادي ناتجاً من القول بالمفاهيم الانتزاعيّة .

و يطرح باركلي سؤالاً في مقابل ديكارت ولوك القائلين بوجود واقعي للكيفيات الأولية (من قبيل الامتداد و الحركة)، و يتلخص هذا السؤال في أنه إذ كانت الكيفيات الثانوية موجودة فقط في ظرف الإدراك فلماذا يقبل وجود الكيفيات الاولية خارج ظرف الإدراك ؟

و اعتقد هو بنفسه أنّ جميع ماندركه إنّما هو موجود فقط في أذهاننا. ويضيف : لو فرضنا أنّ الجوهر المادي موجود لما كان يستطيع ان يصبح علة لظهور التصوّرات الذهنية، لأنه لا يوجد تشابه بين الأمور المادية و الأمور الروحية.

إذن علة ظهور التصوّرات و الإدراكات التي هي وحدها الأشياء الحقيقية إنما هي إرادة الله، و لكن هذا لا علاقه له ببحثنا الذي بين ايدينا الآن.

أما مسألة «المفهوم الكلّي» فقد درسناها في المحاضرة التاسعة و أثبتنا انها ليست من قبيل وضع اللفظ لمعان متعددة (الاشتراك اللفظي)، وإنّما الألفاظ الكلية تدلّ على مفاهيم تقبل الانطباق على مصاديق غير متناهية، إذن هذه المفاهيم تصبح مدلولة للألفاظ بوصف الكلية، وهي تدرك بهذا الوصف.

أما «مساواة الوجود للمدرك و المدرك» فإن كان المقصود به ان المفهومين متساويان كما يقتضي ذلک ظاهر كلامه فبطلانه واضح لأن مفهوم الوجود عندنا يمكن ان يجتمع مع نفي كون الشي مدركاً و مدركاً، وعلاوة على هذا ف_«الوجود» مفهوم نفسي و «الإدراك» مفهوم إضافي يحكي عن

ص: 137

علاقة بين المدرک و المدرک، و من البديهي أن المفهوم النفسي لا يمكن أن يكون عين المفهوم الإضافي؛ و إن كان المقصود به هو التساوي في المصداق، أي انّ كلّ موجود لابد أن يكون على الأقل متعلّق العلم الإلهي فالجواب أنّ هذا التساوي لا تقتضيه ضرورة منطقية بل يحتاج إلى برهان، وعلاوة على ذلك فإنّ هذا لا يجعل استعمال «الوجود» في غير معنى «الإدراك» من قبيل سوء الاستعمال فيتهم الفلاسفة الإلهيون بالمغالطة، و إنما لابد من اعتبار استعماله بمعنى الإدراك مغالطة.

و أما كون مفهوم الجوهر انتزاعيّاً فإن أوجب إنكار الجوهر المادي فهو يوجب بالتأكيد إنكار الجوهر النفسي، لأنّ هذين مشتركان في كونهما جوهراً، بينما يعتقد باركلي بوجود النفس بعنوان أنها جوهر تتحقق فيه الأعراض والكيفيات المختلفة.

و أما كون الجوهر المادّي (على فرض وجوده) لا يمكن أن يكون علة للتصوّرات الذهنية لانه لا توجد سنخيّة بين الامور المادية و الأمور الروحيّة، فلابد أن نقول : إن قاعدة السنخية بين أنّ العلة لابد أن تكون واجدة لكمال المعلول، بمعنى أن المعلول حتى تستطيع توجده، هذا خاص بالعلّة المفيضة للوجود ، و لا يشمل العلل المادية التي هي من قبل العلل الإعدادية، و أمّا بمعنى أنّ هناك مناسبات بين العلل الإعدادية والا ثار الناشئة منها، فهي ليست قابلة للتعيين قبل التجربة، أي ان العقل لا يستطيع بذاته أن يفهم ماهي تأثيرات الشي المادي الفلاني و على أي شي تقع تأثيراته؟ و علاوة على هذا فتأثير الجوهر المادي يكون على البدن و هو أيضاً جوهر مادي، و الروح بوساطة اتحادها و ارتباطها بالبدن تصير مستعدة لإدراك الصور

ص: 138

الإدراكية.

و الواقع أن قبول اصل العلية وضرورتها و لزوم السنخية بين العلة و المعلول هو بنفسه اعتراف بأصالة العقل، لأنّ هذه المعاني لا يمكن ان تدرك بالحسّ.

و في نهاية المطاف نذكر بأنّ أقصى ما يستطيع أن يقوله باركلي حسب أسسه هو الشكّ في وجود العالم المادي وليس إنكاره بصورة يقينية(1).

نظرية هيوم:

يُعتبر هيوم فيلسوفاً آخر من فلاسفة إنجلترا التجريبيين و قد أدرك بدقة لوازم القول بأصالة التجربة وكان وفيا في الالتزام بها .

و كان قد فهم أنّ أسلافه لم يكن واحد منهم «تجريبياً خالصاً»، وعلى الاقل فإنّهم سلّموا لاشعورياً بأنّ «أصل العلية» قانون کلی ضروريّ، بينما لا يمكن إطلاقاً الحصول على قانون كلّى ضرورى من التجربة، كما أنه لا يمكن معرفة العلية بمعنى الارتباط الوجودي بوساطة الحسّ، و استفاد من كلام لوك الذي يعتبر منشأ تصور العلية هو التعاقب المنتظم بين ظاهرتين، و أعلن بصراحة أننا لانحس في مورد العلة و المعلول بشئ سوى التعاقب المتكرّر بين ظاهرتين، و لا نستطيع أن نثبت أكثر من هذا في تصوّرنا للعليّة، امّا الضرورة التي نؤمن بها في العلاقة العلة و المعلول فهي في الواقع ضرورة نفسيّة تحصل نتيجة لعادة الذهن في

ص: 139


1- لا توجد علاقة مباشرة بين المناقشات الأخيرة و موضوعنا الحالي (أصالة الحسّ أم العقل في التصورات)، و قد تطرقنا إليها لتكملة الموضوع.

إدراك الظواهر المتعاقبة، وليس شيئا اكثر من ذلك.

ثم بيّن بعد ذلك لازم هذا القول و هو عدم صحة الاستدلال على وجود الله عن طريق العليّة، وأضاف أنه لا يمكن حتى إثبات وجود العالم الخارجي ايضاً، لأنّ إثبات ذلك يتوقف على التسليم برابطة العلية على أساس أنها رابطة عينيّة، ولا يمكن إثبات مثل هذه الرابطة إطلاقاً.

ثمّ عمّم الشبهة الواردة فى الجوهر المادي إلى الجوهر النفسي قائلاً : كما أن الجوهر الجسماني ليس شيئاً سوى مجموعة من الأعراض الجسمانية فالجوهر النفساني أيضاً ليس شيئاً سوى مجموعة من الأعراض النفسانية، وبهذا فقد انتهى مذهب اصالة التجربة إلى نهايته الطبيعية! و الملاحظة التي ينبغي الالتفات إليها هي أنه يكتفي في جميع الموارد بالتشكيك، ولم يقدم أبداً على نفي ما وراء التجربة الحسيّة بصورة قاطعة، و كانت نتيجة بحوثه على أساس أصالة التجربة الحسية هي أنه لا يمكن إثبات شي سوى «الظواهر»، و من هنا فقد سمّي مذهبه ب_«أصالة الظاهرة» أو «فنومنيسم»(1)

و ما يتعلّق ببحثنا هذا من نظريات من نظريات هيوم هو أنه يقسم الإدراكات إلى ثلاث فئات:

1 - الصور الانطباعية (المرتسمة) أو التأثرات impressions

2 - المعاني Ideas

3 - النسب relations

ص: 140


1- (Phenomenism). و لابد من الالتفات إلى أنّ هذه النظرية تختلف عن نظرية أدموند هوسرل المعروفة باسم «فنومنولوجيسم»، و هو يقبل وجود الذوات و الماهيات بما أنّها فوق الزمان والمكان، ويعتبر معرفتها من طريق الشهود و الوجدان.

ف_«الصور الانطباعية» هي تلك الإدراكات الجزئية الحاصلة بوساطة الحسّ الظاهري أو الباطني .

«المعاني» هي الصور الشاحبة التي لاحياة فيها و هي تقبل الانطباق على مشابهاتها لإبهامها وعدم وضوحها.

و «النسب» هي تلك العلاقات القائمة بين المعاني و الانطباعات، و هي تتبع القوانين الثلاثية لتداعي المعاني (التشابه، التقارن الزماني و المكاني، التعاقب أو العلية)، وليس للعقل من عمل سوى تركيب المعاني وربطها ببعضها.

والحاصل : أنّ هيوم - على العكس من لوك الذي يعترف بالمفاهيم العقلية - يفسر المفاهيم العقلية بأنها إدراكات جزئية شا - حبة لاحياة فيها، و تدلّ عليها ألفاظ كليّة، و هو يعيد المعقولات الثانية و من جملتها مفهوم العلية إلى «النسب».

و لننظر هنا : ايمكن اعتبار المعقولات الأولى من قبيل الإدراكات الجزئية الفاقدة للحياة أم لا؟

و الأخرى : ايمكن إعادة جميع المعقولات الثانية إلى النسب أم لا ؟

و الثالثة: بأي قوة يتم إدراك النسب و ماهي كيفية إدراكها ؟

بالنسبة إلى المسألة الأولى فقد اوضحنا من قبل(1) أن إدراك الكليات ليس من قبيل إدراك الجزئيات، ولا من قبيل ادراک علامة واحدة لعدة أشياء متشابهة، و إنما هولون خاص من الإدراك الذي لابد أن يتمّ بوساطة قوة خاصة تسمى «العقل».

أمّا بالنسبة إلى المسألة الثانية فنقول : ليس صحيحاً إعادة

ص: 141


1- ليرجع من شاء إلى المحاضرة التاسعة.

جميع المعقولات الثانيه إلى النسب، فمفهوم الوجود او الوحدة أو التصوّر أو التصديق لا يمكن اعتباره من قبيل النسب و الإضافات.

وقد مرّعلينا في نقد نظرية لوك أنّ مفهوم العلة و المعلول ليس من قبيل النسب .(1) و إذا كانت المقارنة بين شيئين شرطاً الإعداد الذهن لانتزاع بعض المعقولات الثانية فإنّ ذلك لا يعني كون المفاهيم الانتزاعية ذاتها من قبيل النسب و الإضافات.

و نعقب على المسالة الثالثة فنقول : ليست النسب أموراً تتعلّق بها التجربة الحسيّة حتّى تدرك أوّلاً بصورة حيّة وواضحة ثم تصبح بعد ذلك مبهمة وشاحبة، وإلا فإنّه لا يمكن اعتبارها قسماً ثالثاً .

و كذا لا يمكن تفسير إدراكها بانه «تركيب للمعاني و الصور الانطباعية»، فكما أننا لا نحصل على نسبة «الأخوّة» من تركيب صورتي حسن و حسین، کذلک، لا نحصل على مفهوم «النسبة» ذاته من تركيب عدة معان وصور.

وعلى هذا فاما أن يعتبر هيوم هذه المفاهيم (و كذا مفهوم النسبة ذاته) ألفاظاً لا معنى لها (!) و إمّا أن يعترف بأنّ الإنسان يملك لوناً آخر من الإدراك ليس هو من قبيل الإدراكات الحسية هذا ولا التجريبية، و معنى هو رفع اليد عن اصالة الحسّ في التصوّرات.

و من الواضح أن تبنّي الشق الثاني (الذي هو مورد تأييد نا) لا يعني إنكار لزوم تحقق الإدراكات الحسية و التجريبية (بمعناها العام) قبل تحقق الإدراك العقلي، وإنما يعني ان الإدراك الكلّي ليس هو ذلك الإدراك الحسي الذي قد تغيّر شكله.(2)

ص: 142


1- يراجع لهذا الموضوع المحاضرة الثانية عشرة.
2- يحسن الرجوع إلى المحاضرة التاسعة.

و توجد إشكالات أخرى على رأي هيوم الخاص بالعلية و لكننا نغض النظر عنها هنا لضيق المجال.

ص: 143

المحاضرة الثالثة عشرة

أصالة الحسّ في نظرية المعرفة الماركسية

إن النظرية الماركسية في المعرفة تفتقد الانسجام و الدقة اللازمة، و كلام زعماء هذا المذهب متناقض و غير منسجم في هذا المجال - كما هو متناقض فى المجالات الأخرى - وقدلا - - حظنا نماذج منها في المحاضرة الثامنة.

و الذي يمكن الحصول عليه من مجموع كلماتهم حول التصوّرات هو أنهم يقسمون التصوّر إلى قسمين: إحساس، و مفهوم. فالإحساس هو الانعكاس المباشر للواقع المادي في المخ، المفهوم هو المبين لعلاقات الأشياء وخصائصها المشتركة، و الحاصل نتيجةً لوضع الكلمات: أي أنهم يقولون في الواقع ب_(أصالة التسمية) (Nominalism) و لكنهم يفرون من قبول لوازمها .

فالماركسيون الذين يعدون فلسفتهم ناشئة من العلم يحاولون حل مشكلات المعرفة معتمدين على بعض المسائل العلمية، فهم يتوسلون مثلاً لتوضيح العلاقة بين الإحساس و المفهوم بتجارب «بافلوف» حول المنبهات الشرطية وغير الشرطية.

و قدبينا في المحاضرة الخامسة الفرق بين البحث العلمي و البحث الفلسفيّ فيما يخص مسألة المعرفة، وأوضحنا أنّ المسائل الفلسفيّة في المعرفة لا يمكن حلها عن طريق البحث العلمي. ونشير هنا إلى بعض مغالطات الماركسيين في هذا المضمار، و نشير إلى بعضها الآخر في المحاضرات القادمة إن شاء الله.

و نذكر هنا بعض النماذج من أحاديثهم :

ص: 144

يقول لنين :

«إن اعتبار الإحساسات مصوّرة للعالم الخارجي، وقبول الحقيقة العينية، والوقوف إلى جانب النظرية المادية للمعرفة، كل هذه التعبيرات تشير إلى معنى واحد»(1)

ويقول أيضاً:

«... و لا يتكلم إنجلز عن الرموز ولاعن الهير وغليفات، بل عن النسخ، عن الصور الفوتوغرافية، عن الصور طبق الاصل، عن انعكاسات الأشياء كما في المرآة»(2).

و يقول روجيه غارودي :

«... فالنظرية المادية فى المعرفة ستكون نظرية انعكاس»(3).

و يقول كارل ماركس اوّل رسالة له حول فوير باخ :

«إنّ النقص الاساسي الموجود - في جميع المذاهب المادية السابقة - و من جملتها ماديّة فوير باخ - هو أنها تنظر إلى الشي، إلى الواقع و الحسيّات على اساس أنها موضوع أو مشاهدة لا على أساس أنه نشاط حسّي إنساني»(4)

و مقصوده أنّ الإحساس ليس هو انفعالا محضاً و إنما هولون من النشاط الإنساني.

و يقول لنين:

«... إنّ الإحساس في الواقع هو العلاقة المباشرة بين الشعور

ص: 145


1- الترجمة الفارسية لكتاب «المادية والمذهب التجريبي النقدي»ص 2.6.
2- الترجمة العربية لكتاب «المادية والمذهب التجريبي النقدي» لمنير مشابک، ص 231.
3- النظرية المادية في المعرفة ، ص 31.
4- ملحق الترجمة الفارسية لكتاب لود فيج فوير باخ، ص 87.

و العالم الخارجي، أي أنّه تبديل للطاقة الحركية الخارجية إلى واقع شعوري».(1)

و يقول روجيه غارودي :

«ورغم أن تحليل جميع تحوّلات الطاقة الفيزيائية أو الفيزياء الكيميائية للمحرّض إلى طاقة فيز يولوجية ما يزال بعيداً عن الاكتمال، فإنّ علوم الطبيعة تتيح لنا منذ الآن أن نظهر كَمْ كان سيّئاً طرح مشكلة الكيفيات الأولى والثانية... إنّ العلوم الطبيعية تظهر لنا اليوم أنّ الخصائص التي كان يسميها لوك «الكيفيات الثانوية» تتعلّق بالموضوع كالكيفيات الأولى على السواء. فالسبب الذي يوقظ الإحساس باللون الأزرق يختلف موضوعيّاً عن السبب الذي يوقظ فينا الإحساس باللون الاحمر .(2)

ثم يطرح هذا السؤال :

«ماهي العلاقة بين هذه الصورة الشبكيّة والفكرة التى تتكوّن عن الموضوع في وعينا ؟»

ويجيب عنه قائلاً.

«تلک هي المشكلة التي ستسمح التي ستسمح لنا نظرية المنعكس البافلوفية بحلها».

ثم ينقل هذا الكلام من بافلوف :

«لولم يكن الحيوان متآلفاً تمام التآلف مع الوسط الخارجي لزال من الوجود بسرعة أكبر أو أقلّ. ولو كان الحيوان يبتعد عن غذائه بدلاً من أن يتجه نحوه، ولو كان يرمي بنفسه في النار بدلا

ص: 146


1- الترجمة الفارسية لكتاب «الماديّة والمذهب التجريبي النقدي» ص 64 .
2- النظرية المادية في المعرفة، ص 173 - 174 .

من أن يبتعد عنها لهلك».(1)

و يقول آفاناسيف :

«الاستجابة هي ردّ فعل الموجود الحي في مقابل التأثيرات الخارجيّة. و الاستجابة إمّا أن تكون شرطيّة أو غير شرطيّة، فالاستجابة غير الشرطية خاصية يتمتع بها كل موجود حتى سواء أكان موجوداً راقياً أم دانياً، و هي ليست مكتسبة بل تنتقل إلى الجيل اللاحق فمثلاً عند ما تمسّ يد الإنسان جسما حارقاً فإنها تبتعد عنه بسرعة، هذا نموذج من الاستجابة غير الشرطية.

و جمع الاستجابات غير الشرطية يكوّن لنا الغرائز (الغريزة الجنسية و الغذائيّة و غير هما) التي تنهض بدور فعال في حياة الموجود الحي وتكامله.

فالحيوانات الراقية تتمتع بالاستجابات الشرطية وهي تتصف بانها موقتة و سريعة الزوال، و توجد فى ظروف خاصة، فمثلاً إذا أعطى الكلب مدة من الزمن غذاء مقروناً بصوت الجرس فسوف نصل إلى وقت يُظهر الكلب فيه نفس الاستجابة التي كان يُظهرها أمام الغذاء وذلك في مقابل دق الجرس، فيسيل له لعابه .

فههنا وجد ارتباط عابر و موقت في الكلب بين صوت الجرس و كونه علامة على الغذاء، وعلى هذا المنوال توجد الاستجابات الشرطية.

ثم تصبح الاستجابات الشرطية - التي لها اهمية حياتية للموجود الحي - ثابتةً وتتحوّل الى استجابات غير شرطية. و عندئذ تقوم على أساس هذه الاستجابات ارتباطات موقتة جديدة،

ص: 147


1- النظرية المادية في المعرفة ، ص 181 - 184 .

يتحول بعضها بدوره إلى ثابت و راسخ، و على هذا ففي أثناء تكامل الموجودات الحيّة يزداد محتوى النفسانيات ثراء باستمرار و يصل في نهاية المطاف إلى مرحلة تصبح فيها المادة التي تحسّ قادرة على التفكير.

وللإنسان تفكير انتزاعي، أي انه يعمم تأثيرات الواقع الخارجي و يصوغها في مفاهيم، ثم يبين هذه المفاهيم بالكلمات، فكلّ كلمة تبين شيئاً معيناً، و لها مع ذلك الشي ارتباط لا ينفصم ، و لهذا فإنّ الإنسان يجيب على الكلمة أيضاً مثل ما يفعل مع التأثيرات المباشرة لذات الاشياء.

ففي المراحل البدائية من حياة الإنسان كان يستعمل علامات الأشياء ذاتها للدلالة على الأشياء، ويسمى بالنظام الأول للعلامات، وتقوم الكلمات عندئذ بدور ثانوي في تعريف الأشياء و كونها علامة لها .

ثم وجد نظام يُظهر فيه الإنسان نفس ردّ الفعل فى مقابل الكلمة، ويسمى بالنظام الثاني للعلامات، و هو لا يتوفّر إلا في الإنسان فقط.

إن بين هذين النظامين للعلامات، ارتباطاً عضويّاً، وقد هيّأ هذا الامر الإنسان لكي يعرف الواقع من كل جوانبه و بصورة عميقة، و بهذا فقد اصبح واضحاً أنّ شعور الإنسان يتميّز بشكل كيفي من نفوس الحيوانات، و من أين يأتي هذا التميز ؟ إنّه ينشأ من كون نفوس الحيوانات حصيلة التكامل البيولوجى فقط، اما شعور الإنسان فهو نتيجة التكامل التاريخي والاجتماعي».(1)

ص: 148


1- أصول الفلسفه الماركسية (الترجمة الفارسية)، تأليف آفاناسیف، ص 54 - 55. و يراجع في هذا الموضوع الترجمة العربية لكتاب «النظرية المادية في المعرفة» ص 184 - 243 ، و كذا «نظرية المعرفة» تأليف ...ک فورت ص 9 - 16.

و يقول كارل ماركس:

«اللغة هي الواقع المباشر للفكر».(1)

و يقول موریس کر نفورت:

«كما أنّ نشاط الإنسان يتكامل فكذا علاقاته بالعالم المحيط به فإنّها تزداد ثراء. فالإنسان قد امتدت يده إلى إدراك متعال و إلى مجال أوسع من الإدراك ياتي بعده و هو الكلام الذي هو انتقاله من الإدراكات الحسية الانضمامية إلى المفاهيم الانتزاعيّة العامة .... و نذكر هنا بأنّ هذه المفاهيم ليست نفس الصور، فمثلاً مفهوم لون ما أو شكل ما ليس هو نفس صورة ذلك اللون أو الشكل الذي لنا دور في تخيله.

رق مثاليه فرصت والفلاسفة التجربيون القدماء ولاسيما بركلي و هيوم يخلطون بين المفاهيم والصور، بينما الدقة تحملنا على التمييز بينهما، فالصور استمرار للإحساس بينما المفاهيم علامة على تكامل القدرة على الكلام و هي تبين أمراً منتزعاً من الواقع وتجعل التعميم ممكناً ... والمفاهيم تأخذ شكلها فقط عندما تصاغ في الكلمات و تركيباتها ... الا يعني هذا انّ التفكير هو أ الكلمات وانّ التفكير إنّما هو «حديث مع النفس»؟

كلا... فالإنسان يستطيع أن يصل إلى نتائج حول الأشياء من دون أن يصب أفكاره التى فى اعماقه في قوالب لفظية، ولكنه إذا ظنّ الإنسان أنّ لديه مفاهيم لأشياء ليس عنده كلمات لها، أو افكاراً لا يستطيع ان يبينها لغوياً فهو يخدع نفسه... فالنشاط

ص: 149


1- الترجمة العربية لكتاب «النظرية المادية في المعرفة»، ص 722.

الفكري للمخّ ليس شيئاً سوى إيجاد الارتباط بالعالم الخارجي، و هذا النشاط لايتم بشكل مقدّم على اللغة ولا بصورة منفصلة عنها، وإنّما يتم بوساطتها فقط وبصورة دقيقة»(1)

ثم يتحدث عن أقسام المفاهيم فيقول :

«إنّ اوّل المفاهيم و أكثرها بدائيةً هي تلك المفاهيم التابعة من المواجهة العملية وبلا وساطة مع الناس الآخرين ومع الأشياء المحيطة بنا ...

و خاصيّة هذه المفاهيم البدائية أنها تتمتع بمحتوى حسّي انضمامي، وذلك لانها تنطبق على أشياء يمكن إدراكها بالحسّ بصورة مباشرة ...

أيمكننا أن نكوّن مفاهيم لا تنطبق بشكل مباشر على اي شيئ قابل للإدراك؟ نعم، نحن نستطيع و نفعل ذلك أيضاً ... مثلاً كل ألوان المفاهيم الاجتماعية والسياسية، المفاهيم الأخلاقية والقانونية، المفاهيم العلميّة، ومفاهيم علم الجمال والفلسفة كلّها من هذا القبيل. فمفا هيمنا لا تنحصر في انعكاسات الخصائص المشتركة للأشياء الخارجية التي تواجه حواسنا.

فأفراد الانسان يصوغون مفاهيم و نظرات عامة حول حياتهم الاجتماعية . وصياغة مثل هذه المفاهيم و تجسمها في كلمات والاستفادة منها كلّ ذلك إنما هو حصيلة ارتباط الإنسان الفعّال بالطبيعة الخارجية والافراد الآخرين... إنّ كلمة «الانتزاعي» تستعمل في مثل هذه المفاهيم(2)».

ص: 150


1- نظرية المعرفة، تأليف م. ک. فورت، ص 42-56
2- نظرية المعرفة، تأليف م. ک. فورت، ص 70-71

نظرة نقديّة:

إنّ الحديث عن هذه الأمور وأمثالها لطويل ولكننا نكتفي هنا بذكر بعض الملاحظات:

1 - إن زعماء الماركسية لكى يتجنبوا الطريق المسدود الذي تؤدّي إليه شبهات المثاليين فقد اعتبروا الإحساس «اتصالاً مباشراً» بالعالم الخارجي، وقد فسروه بانه «انعكاس» الاشياء والظواهر المادية كما تنعكس الصورة في المرآة.

ولكن لما كان هذا التفسير الميكانيكي مبتلى بإشكالات واضحة و هو عاجز عن توضيح «المفاهيم الانتزاعية» بالخصوص فقد حاولوا أن ينسبوا دوراً لنشاط المخ والمجموعة العصبية في ظهور الإحساس و دوراً للنشاطات الاجتماعية في ظهور المفاهيم الكلية والانتزاعيّة، غافلين عن أنّ الالتزام بهذه الامور علاوة على كونه لا يحل لنا مشكلاً فإنه يوجد سداً هائلاً في طريق إثبات القيمة الواقعيّة للمعرفة، كما راينا ذلك في المحاضرة الثامنة و سوف نزيد هذا الموضوع توضيحاً و ذلك في فصل «قيمة المعرفة» بإذن الله.

2 - إنّ الماركسيين على أساس موقفهم المادي لا يجدون بدأ من اعتبار الإحساس والفكر ظواهر مادّية، و قد قدموا تفاسير «علميّة» - كما يسمونها - يشرحون بها كيفية وجودها، و من هنا حاولوا تفسير الإحساس بأنه «تبديل الطاقة الفيزيائية إلى طاقة فيسيولوجية و من ثمّ إلى طاقة نفسية»، و ألقوا مهمة توضيح ذلك علميّاً على عاتق قانون «تبدل الطاقات من بعض إلى بعض».

ولكنّنا نعلم جميعاً أنّ العلوم لم تُثبت وجود طاقة خاصة باسم

ص: 151

الطاقة الفسيولوجيّة أو السيكولوجيّة، و لهذا اضطر «روجيه غارودي» للاعتراف بأننا لم نظفر لحد الآن «بتحليل كامل» في هذا الشأن!

3 - يدعي الماركسيون انه ليس فقط الكيفيات الأولية (التي هي موضوعات العلوم الرياضية والميكانيكية) تتمتع بوجود خارجي عيني و إنما الكيفيات الثانوية (من قبيل اللون والطعم والرائحة) ايضاً موجودة في الخارج كما تنعكس في حسنا. و يستدلّون على هذا الادعاء بأنّ العلوم الطبيعية قد أثبتت كون السبب الذي يوجد فينا الإحساس باللون الازرق يختلف عن السبب الذي يوجد فينا الإحساس باللون الاحمر و هم يُثبتون تطابق الصور الإدراكية مع الواقع الخارجي عن طريق تلاؤم الاستجابات العلمية مع الحركات الخارجية.

و لكن الواقع أن اختلاف عوامل الإحساس، و تلاؤم الاستجابات العلمية مع الحركات الخارجيّة لا يستطيعان أن يُثبتا لنا مطابقة الإدراك للواقع العيني.

وذلك لأنّ الدليل الاوّل يُثبت لنا ضرورة العوامل المختلفة للإحساس بالألوان المتنوّعة أمّا أنّ للأجسام الخارجية كيفيات تنعكس بعينها في إحساسنا وأنّ الألوان المختلفة مثلاً موجودة في الاجسام حقيقةً فهذا ممّا لا يُثبته هذا الدليل.

و كذا الدليل الثانى فهو يُثبت لنا فقط ان إدراكاتنا للأشياء الخارجية هي بشكل يمكننا أن نرفع بها حاجاتنا الضرورية، و لكن هذا لا يعني أن في الاجسام الخارجية توجد كيفيات كالحلاوة والملوحة والبياض والسواد كما ندركها نحن، ويكفى أن يكون كل واحد من هذه الإحساسات رمزاً لنوع واحد من الواقعيات

ص: 152

الخارجيّة .

4 - إن أهم قسم من كلامهم الذي يرتبط بشكل مباشر ببحثنا الحالي هو تحليلهم لكيفية وجود المفاهيم الكلية (الإدراكات العقلية)، ويعود ذلك كما أشرنا إليه من قبل - إلى قبول اصالة التسمية (نوميناليسم). و إنكار الإدراك العقلي هو الشيء المشترك بين أصحاب اصالة التسمية القدماء و باركلي والوضعيين المحدثين، ولكن الماركسيين يتحاشون التصريح بهذا الموضوع و يفرون من قبول لوازمه.

فمن جهة يقول كارل ماركس «اللغة هي الواقع المباشر للفكر» ومعنى هذا أننا عند التفكير ندرك الألفاظ والكلمات، و لمّا كانت الالفاظ رموزاً اعتباريّة للجهات المتشابهة بين الأشياء و الظواهر و بوساطتها نحن نلتفت إلى الظواهر المتشابهة ذاتها، إذن متعلق الفكر بلا وساطة هى الالفاظ فقط.

و هذا بعينه القول ب_«أصالة التسمية».

و من ناحية أخرى يُجيب موريس كرنفورت بالنفي على هذا السؤال : «أليس التفكير حديثاً مع النفس؟»

و لكن الفرق الذي يذكره بين التفكير والحديث مع النفس ليس شيئاً يستطيع ان يبين لنا اختلافاً أساسياً بين النظرية الماركسية ونظرية الوضعيين وأصحاب أصالة التسمية، وذلك لأنه في نفس الوقت الذي يعترف بأنّ «الفرد يستطيع ان يصل إلى نتائج حول الأشياء من دون أن يصوغ أفكاره في قوالب لفظية» فهو يؤكد ان النشاط الفكري للمخ يتمّ بصورت دقيقة بوساطة اللغة فقط !

والطريف ان السيد موريس كرنفورت يتهم باركلي و هيوم

ص: 153

بأنهما لم يجعلا فرقاً بين المفاهيم والصور (بين المفاهيم الكلية والإدراكات الخيالية)، مع ان كلام ماركس حول المفاهيم لم يأت بشيء أكثر مما يفيده كلام باركلي.

والملاحظة التي ينبغي أن نعطف لها الاذهان هي أنّ «الكلمات» لا تدلّ دائماً على الجهات المشتركة بین الأشياء و الظواهر، و إنما الكلمات على قسمين: بعضها وضع الأشياء و ظواهر خاصة (الأسماء الخاصة)، و بعضها الآخر موضوع لمفاهيم كلية (الألفاظ العامة).

والكلام في القسم الثاني : أتكون هذه الالفاظ دالة على «مفاهيم» متحققة في الذهن و هي تقبل الانطباق على مصاديق متعدّدة (إلى مالانهاية) ام انّها تدل بشكل مباشر على الأشياء الخارجية المتعدّدة؟ وصرف القول بأنها الفاظ تدلّ على الجوانب المشتركة بين الأشياء و الظواهر وتجعل التعميم ممكناً لا يحل لنا أي مشكلة ، لأننا نتسائل حينئذ عن أصل البحث حول الكليات:

أيكون لهذه «الجوانب المشتركة» واقع في الخارج أم في الذهن ام انّها ليست سوى الفاظ ؟ و إذا كان لها واقع في الذهن باسم «المفهوم» فما هي كيفية إدراك هذا الواقع، و ما هي وسائل ذلك، و ماهي علاقته بالإدراك الحسي؟

أجل! لقد سلك الماركسيون كما يدعون طريق التحليل «العلمي» لهذا، و استفادوا من تجارب بافلوف، وقد نقلت هذه التجارب باهتمام شديد في جميع الكتب التي ألفت أخيراً الشرح نظرية المعرفة الماركسيّة، و أولَوْها عنايةً خاصة على أساس أنّها المفتاح لحلّ كثير من مشكلات المعرفة، و نحن نقلنا أقصر العبارات في هذا المجال عن آفاناسيف لنرى كيف تستطيع هذه

ص: 154

التجارب ان تحلّ لنا مشكلات علم المعرفة.

والواقع أنّ نتائج هذه التجارب إذا كانت يقينية فهي تستطيع فقط ان تبيّن لنا ارتباط مسائل المعرفة المشهورة ب_«النفسيّة الجسمية» (و هي التي تبين ارتباط الظواهر الفسيولوجية و السكولوجية)، ولكنها لا تستطيع أن تقدّم لنا أي عون في حلّ المسائل الفلسفيّة للمعرفة، لأنها على فرض كونها تستطيع أن تفسّر كيفية انتقال الذهن من اللفظ إلى المعنى بوساطة الفعل المنعكس الشرطي فإنّ هذا التفسير يشمل الأسماء الخاصة و العامة بصورة متساوية، ولا يوجد فيه التفات خاص إلى الألفاظ الكلية، إذن يبقى هذا السؤال على حاله دون جواب: «كيف ندرك المفاهيم الكلية و ما هی وسائل ذلك؟»

و سوف نصل في النهاية إلى ان جوابه هو انّ الألفاظ الكلية تدرك بالمخ أيضاً، ويصبح فرقها مع الأسماء الخاصة هو كون الألفاظ الكلية دالّة على مصاديق متعدّدة.

لخيال و معنى هذه الجملة الأخيرة هو قبول أصالة التسمية التي يأنف منها هؤلاء، مع أن قبول هذا لا يحتاج إلى تجارب بافلوف ! و إذا فرضنا أنهم قبلوا هذا فسوف ترد عليهم كل الإشكالات التي وردت على الوضعيين.

و اما إذا قالوا إنّ للمفهوم الكلي واقعاً ذهنياً، والالفاظ العامة تدلّ على ذلك الواقع الذهني فلابد أن يسلّموا حينئذ بأنّ الإنسان يملك قوة إدراك خاصة تدرك المفاهيم العقلية، ثم يضع الألفاظ العامة لتلك المفاهيم الكلية يحتاج إلى الألفاظ والكلمات و الاحاديث. و في هذه الصورة لايبقى مجال للتشبث بتجارب بافلوف لتوضيح المفاهيم الكلية و الانتزاعيّة، ولامجال

ص: 155

للتأكيد عندئذ على أنّ النشاط الفكري للمخ لا يتم إلا بوساطة اللغة فقط وبصورة دقيقة.

و يسقط أيضاً ما قاله ماركس: «اللغة هي الواقع المباشر لفكر»! و هذا هو شأن ذلك التحليل العلمي ومصيره !!

5 - و آخر ملاحظة نشير إليها تتعلّق بالفرق الذي يقول به موريس كرنفورت بين المفاهيم البدائية (المعقولات الأولى) و المفاهيم الانتزاعيّة (المعقولات الثانية)، واعتباره المفاهيم الانتزاعية حصيلة ارتباط الإنسان الفعّال بالطبيعة وبأفراد الإنسان الآخرين.

و نعقب على هذا الموضوع فنقول : إن اكتشاف المفاهيم الانتزاعيّة لم يكن اكتشافاً لسركان مخفيّاً عن الآخرين، وتفسيره لكيفية وجودها ليس تفسيراً صحيحاً حتّى على أساس الأصول الماركسية، وذلك لأننا نعلم أنّ الماركسيين يعدون وجود جميع أنواع المفاهيم حصيلة العمل الاجتماعي و الارتباط الفعّال بالطبيعة، و على هذا لايمكن تعليل خاصية المفاهيم الانتزاعية بأمر لا يختص بها من وجهة نظر الماركستين انفسهم.

فيبقى هذا السؤال: كيف يصوغ الإنسان مفاهيم لا تتمتع بالمحتوى الحسي والانضمامي، و هي غير قابلة للانطباق على الأشياء الخارجية ؟ و مع هذا الوصف أيمكن الادعاء بأنّ جميع المفاهيم تتبع من الإدراكات الحسية ؟

هنا وقايا ملاك بمله تارة و نرى من اللازم هنا أن تُنبه على أن موريس كرنفورت يعتبر «المفاهيم الانتزاعيّة» شاملة للمفاهيم الفلسفية والمفاهيم العلمية و المفاهيم القانونية والسياسية و الأخلاقية، وعلى هذا تصبح المفاهيم العلمية - من وجهة نظره هو - غير قابلة للانطباق على

ص: 156

المحسوسات مع انها ناشئة من التجارب الحسية !

و نشير في الختام إلى أن نظرية المعرفة الماركسية تقوم على أساس كون الإدراك امراً مادياً، و لمّا كنا قد خصصنا فصلاً مستقلاً لهذه المسالة سوف يأتى (إنشاء الله تعالى) لهذا فإننا لانتعرض ههنا للإشكالات الواردة على اعتبار الإدراك شيئاً مادياً و منسوباً إلى المخ.

ص: 157

(المحاضرة الرابعة عشرة)

إزالة الإبهام عن موضوع البحث:

لقد اتضح بنقدنا ودراستنا لنظريات الفلاسفة الحسيين والعقليين أننا لا نقبل أي نظرية منها بصورة تامة ولو أنّ في بعضها توجد عناصر مقبولة . ولأنّ كلّ مسألة لا يمكن ان يكون لها جواب واضح و دقيق إلا إذا كان مفهومها واضحاً لا إبهام فيه، لهذا نجد أنفسنا مضطرين لرفع الإبهام عن موضوع البحث و تحديد محلّ النزاع بدقة.

فمن جهة نرى بعض الفلاسفة من قبيل أصحاب «أصالة التسمية» يعتبرون إدراك الكليات تصوّر الألفاظ مشتركة تصلح أن تكون علامة ورمزاً لجزئيات متعدّدة، وعلى هذا فهم يرفضون اساساً وجود إدراك خاص باسم الإدراك العقلي، و كذا الماركستون فلابد من اعتبارهم اتباعاً لأصحاب أصالة التسمية، لأنّ قول ماركس «اللغة هي الواقع المباشر للفكر» يعني أن محتوى الفكر ليس إلا الكلمات.

و تعود نظرية هيوم أيضاً إلى إنكار المفهوم العقلي وذلك لأنه يعتبر الادراك الكلي هو نفس إدراك الجزئي قد فقد لونه و أصبح مبهما.

و من البديهي أنه لا يمكن البحث مع هؤلاء عن أن الإدراك العقلي اهو اصيل أم لا؟ بل لابد من طرح المسألة معهم بهذه الصورة: أيملك الإنسان بشكل حقيقي قوة مدركة خاصة باسم «العقل» وظيفتها إدراك المفاهيم الكلية أم لا ؟ كما طرحنا هذا في المحاضرة التاسعة و ذلك في مقابل «الوضعيين»، ثمّ أجبنا بالإيجاب واثبتناه بالدليل.

ص: 158

وعلى هذا فإذا سمّى هؤلاء ب_«أصحاب أصالة الحس» فهذا يعني أنهم لا يؤمنون بأي قوة إدراكية أخرى ما عدا الحس، ويقف مقابل هؤلاء المؤمنون بالقوة العقلية أيضاً و هم «أصحاب أصالة العقل»، و يصبح امثال جون لوک - حسب هذا - الاصطلاح من أصحاب أصالة العقل، لأنه لا ينكر وجود العقل ولا المفاهيم العقلية، وقصارى الأمر أنه يعتبرها ناشئة من الحس.

و حينئذ يصل الدور إلى القائلين حقيقةً بوجود المفاهيم الكلية فيكون السؤال : أتكون المفاهيم العقلية حاصلة من تغيير التصوّرات الحسية (بالتحليل والتركيب والتجريد والتعميم) و ليس العقل إلا عبارة عن تلك القوة أو القولى الذهنية التي تنهض بهذا التغيير أم ان الإدراك العقلي لون مستقل من الإدراك يحصل ب_«العقل» و لو أنّ حصوله مشروط بتقدم الإدراك الحضوري أو الحسي أو الخيالي، ولكنّ المفهوم الكلّي على أي حال ليس هو تصوّر الجزئى و قد تغير؟

و هنا يصبح قد استعمال كلمة «الأصالة» صحيحاً مع أن استعمالها في مورد الحسّ ليس هو بعينه في مورد العقل، وذلك لأنّ أحداً لم يدع كون الإدراك الحسّي حاصلاً من تغيير الإدراك العقليّ، إذن يغدو معنى أصالة الحسّ هو أنّ العقل لاعمل له سوى التصرّف في الإدراكات الحسية وتغييرها، أمّا اصالة العقل فهى لا تعني ان الحس لاعمل له سوى التصرف في الإدراكات العقلية، بل تعني انّ الإدراك العقلي ليس هو نفس الإدراك الحسي و قد تغيّر، و يعتبر جون لوک - حسب هذا الاصطلاح من- «الحسّيين».

و في الأثناء اتضحت ملاحظة أخرى وهي انّ المقصود من

ص: 159

«التصوّرات» في عنوان البحث هو «المفاهيم الكلية» فقط، و ذلك لأنه لا مكان لبحث، في مورد التصوّرات الجزئية، عن اصالة العقل أو عدم أصالته.

و يمكن أن نطرح المسألة ايضاً بشكل ثالث: أيكون العقل في إدراكه محتاجاً إلى الحسّ باي شكل من الأشكال أم لا؟ ولكنه بالالتفات إلى أنّ أغلب أصحاب أصالة العقل يقبلون نوعاً من الحاجة إلى الحسّ ولو أنّه لتحقق الفعلية(1) أو لتذكر(2) المدركات السابقة، إذن طرح المسألة بهذا الشكل لا يحقق فائدة مهمة .

والحاصل أن تعبير «أصالة الحسّ أم العقل» يستعمل بثلاثة معان:

1 - ايكون هناك لون آخر من الإدراك - غير الإدراك الحسّي - يسمّى بالادراك العقلي ام لا؟

2 - بعد الاعتراف بوجود الإدراك العقلى، أيكون قد حصل عن طريق التصرّف في الإدراك الحسّي، و هو نفسه الإدراك الحسي قد تغير شكله فيسمى بالإدراك العقلي أم لا؟ و بعبارة أخرى ما هي نسبة الإدراك الحسي إلى الإدراك العقلي، أهي شبيهة بنسبة القطعة الخشبيّة إلى الكرسي الذي يصنع من تقطيعها و تركيبها، أم هي تشبه نسبة الكيفية الخارجيّة إلى الصور الحسّية الحاصلة في قوتنا المدركة! و كما أنّ الكيفية الخارجية ذاتها لا تنتقل إلى حسّنا، ولا تظهر -مع تغيير شكلها - بصورة إدراك حسّي، فكذا الصورة الحسية نفسها فإنّها لا تنتقل إلى عقلنا، و

ص: 160


1- في نظرية ليبنتس المنقولة في خاتمة نظرية ديكارت المشروحة في المحاضرة الحادية عشرة.
2- في نظرية أفلاطون المذكورة في المحاضرة الحادية عشرة.

لا تظهر - مع تغيير شكلها - بصورة إدراك عقلي، وإنما أقصى ما يستطيع ان يقدمه الإدراك الحسي هو ان يهيىء الأرضيَّة لتحقق الإدراك العقلي؟

3 - الفعقل حاجة ما إلى الحسّ ام لا ؟

وقد أجيب عن السؤال الأول في المحاضرة التاسعة، و طرح السؤال الثالث لا يحقق لنا فائدة ذات بال، وعلاوةً على ذلك فسوف يتضح الجواب الصحيح عليه في أثناء البحث، ويبقى علينا أن ندير بحثنا الحالي حول السؤال الثاني.

***

و من ناحية أخرى نلاحظ أنّ بعض الحسّيين (من قبيل جون لوک) ياخذ التجربة الحسية بمعناها العام الذي يشمل ايضاً مدركات الحسّ الباطني، بل وحتى قوّة الحافظة و الإرادة وسائر القولى و الأفعال النفسيّة تصبح مشمولة للتجربة الحسية، بينما يعتبر البعض الآخر (من أمثال كندياک) التجربة الحسية مختصة بالحس الظاهري.

و من هنا فإنّه يجب توضيح المعنى الدقيق ل_«الحس» المذكور فى السؤال.

ولابد أن نقول في هذا الصدد: إنّ تعميم التجربة الحسية لتشمل الإدراكات الباطنية ولا سيّما أمثال الإرادة وقوّة الحافظة يُخرج المسألة من حدود التصوّرات ، لأنّ مثل هذه الإدراكات هي من قبيل العلم الحضوري الخارج عن مقسم التصوّر والتصديق، ولا علاقة لمسألة «اصالة الحسّ ام العقل» فى التصوّرات وحتّى في التصديقات بالعلوم الحضوريّة و الشهودية.

إذن لابد أن يكون المقصود من الحس هو نفس المعنى

ص: 161

المعروف (القوّة المدركة التي تقوم بوظائفها عن طريق ارتباط الاجهزة الحسّية بالعالم المادّي فقط)، و الحد الأقصى أنه يمكن تعمیم حكمه ليشمل سائر التصوّرات الجزئية (مثل التصوّر الحاصل من المدركات الباطنية، و له حكم التصور الخيالي بالنسبة للكيفيات المحسوسة) كتصوّرنا لخوفنا السابق الذي لا يقبل الانطباق على أي خوف آخر.

والواقع انّ اطلاق التجربة الحسّية على المدرّكات الحضوريّة ناشيء من الخلط بين العلم الحضوري والعلم الحصولي، وليس هذه اوّل مرّة يغفل فيها الفلاسفة الغربيون عن الفرق الاساسي بينهما، وسوف نوضح هذا بشكل اكبر في المستقبل بعون الله.

امّا بالنسبة إلى «العقل» فلسنا بحاجة إلى توضيح المقصود منه و الكل يعرف أنّ المقصود منه هي تلك القوّة الخاصة المدركة للمفاهيم الكلية، التي هي أعم من المعقولات الأولى والمعقولات الثانية الفلسفية و المنطقية، وكلّ معنى آخر يستعمل فيه العقل لا علاقة له بهذا البحث.

التحقيق في المسألة:

الآن وقد اتضح موضوع البحث تماماً ننتقل إلى الجواب الصحيح عن هذا السؤال: أيكون الادراك العقلي - أي إدراك المفاهيم الكلية - لوناً من الإدراك المستقل أم هو نفس الإدراك الحسّي قد تغير شكله ؟

وننبه - قبل الجواب - على أنّ المدركات العقلية تنقسم إلى ثلاث فئات: المعقولات الأولى أو المفاهيم الماهويّة، المفاهيم الفلسفيّة، المفاهيم المنطقية.

أمّا المفاهيم المنطقية التي ليس لها ما بإزاء في الخارج

ص: 162

ولا مصداق فهي بلاشك غير قابلة للانتزاع من المدركات الحسية، و لا وجود لمثل هذا الفرض في حقها بأي وجه من الوجوه، فهي ليست حاصلة من تحليل وتركيب ولا من تجريد و تعميم الصور الجزئية، و ذلك لأننا لا نملك حسّاً يدرك شيئاً يسمَّى ب_«الذاتي» أو «العرضيّ » أو «القياس» أو «الاستقراء» ! و كذا لا يمكن القول بانّ الحسّ يدرك صورة مركبة، ثمّ من تحليلها نحصل على هذه المفاهيم! أو بالعكس تحصل هذه المفاهيم من تركيب الصور الحسّية التي يدرك كل واحد منها بوساطة الحسّ.

ولا يمكن القول أيضاً أنّ الحسّ يدرك المصداق الجزئى لهذه المفاهيم ثمّ نحصل على المفاهيم الكلية بوساطة التجريد والتعميم، وخاصةً عندما نلاحظ أنّ مصداق مثل هذه المفاهيم لا يوجد إلا في الذهن، بينما الإدراك الحسي لا يتعلّق إلا بالاشياء المادية والظواهر الموجودة خارج الذهن.

وعلى هذا فإنه يجب اعتبار إدراك المفاهيم المنطقية لوناً خاصاً من الإدراك العقلي الذي لم يأت من تغيير الإدراكات الحسية.

ونحن نعلم ان العقل يحتاج إلى المفاهيم الماهوية لكي يدرك المفاهيم المنطقية و مالم تحصل المعقولات الأولى فى الذهن فإنّ العقل لا يستطيع أن ينتزع منها المفاهيم المنطقية، و لكنّ المفاهيم المنطقية لم تأت من تغيير المفاهيم الماهوية، و ذلك لأنّ مفهوم «الإنسان» أو «الشجر» أو «الحديد» و أمثالها لم تتحوّل بوساطة تغيير ذهني إلى مفهوم «الكلي» أو «النوع» او «الذاتي» و امثالها.

أما المعقولات الفلسفية فهي و إن كانت أوصافاً لأشياء

ص: 163

عينيّة، ولكن هذه الأوصاف ليس لها وجود عيني بغض النظر عن الذهن، فمثلاً إذا كان الإنسان غير موجود أولم يكن له جهاز خاص لصياغة المفاهيم فإنّه لن يحصل على مفهوم «الإمكان» أو «المعلول» أو «الاحتياج» و أمثالها. و المتحقق في الخارج هو الموجود المتصف بالإمكان والمعلولية والاحتياج، لاان هذه الأوصاف لها تحقق عيني أيضاً.

و من ناحية أخرى فإنّ أيّ حسّ من حواسنا لا يستطيع أن يدرك المصاديق الجزئية لهذه المفاهيم، كما أنه لا يمكن لهذه المفاهيم، كما أنّه لا يمكن اعتبارها مركبة من الصور الجزئية اعتبارها مركبة من الصور الجزئيّة أو الحسّية لها .

إذن إدراك هذه المفاهيم مستقل أيضاً عن ، الإدراك الحسّي ولا ينافي هذا كون حصول هذه المفاهيم للعقل مشروطاً بتحقق لون من الإدراك الجزئي والشخصي او حتى مشروطاً بلون آخر من المفاهيم العقلية، و ذلك لأنّ كون الإدراكات السابقة شرطاً لا يعني أنها تتحوّل بتغييرها تغييراً خاصاً إلى المفاهيم الفلسفية.

والدليل الواضح لهذا هو انّ هذه المفاهيم لو كانت حصيلة تغيير المفاهيم الحسيّة لكان لها ما بإزاء في الخارج مثلها، بينما المفاهيم الفلسفيّة ليس لها مابازاء عيني.

والمفاهيم الماهوية وحدها التي يمكن ان يتوهم في حقها أن تكون حاصلة من تجريد وتعميم المدركات الحسية وتنقسم هذه المفاهيم بدورها إلى قسمين: قسم منها يكون مصداقه قابلاً للإدراك الحسي من قبيل مفهوم البياض والسواد والحلاوة والحموضة والقسم الآخر لا يكون مصداقه قابلاً للإدراك الحسي، و هذا القسم ينقسم أيضاً إلى فئتين فرعيّتين :

إحداهما تلك المفاهيم التي و إن كان مصداقها لايدرك

ص: 164

بالحسّ ولكننا نعتقد - لأسباب - بأنّ مصداقها موجود في عالم المحسوسات من قبيل مفهوم المادة والقوة والميدان.

والثانية تلك المفاهيم التي ندرك مصداقها بلون من الإدراك الداخلى (العلم الحضوري) مثل مفهوم الإرادة والحب والبغض، وحتى مفهوم «النفس».

أمّا القسم الاخير فبكل بساطة نستطيع أن نسلّم أنه لا يحصل نتيجة تغيير الإدراكات الحسية، و ذلك لأنّ المصداق الجزئي لمثل هذه المفاهيم ليس قابلاً للإدراك بوساطة الحواس الظاهرية، إلا إذا عممنا اصطلاح «الحس» ليشمل العلم الحضوري، وعندئذ يخرج عن موضوع بحثنا كما مرّ علينا توضيح ذلك في مقدمة هذا البحث.

و أما المفاهيم التي نؤمن أنّ لها مصداقاً في عالم المحسوسات ولو أننا لا نملك حسّاً يستطيع إداركه، فهي مفاهيم لا يمكن اعتبارها أيضاً من الإدراكات الحسية التي تغير شكلها، لأنّ الغرض هو أننا لا نملك حسّاً يدرك مصداقها، فكيف يمكن القول ان هذه المفاهيم آتية من تجريد المدركات الحسية و تعميمها ؟!

و يبقى نوع واحد من المفاهيم الماهوية التي لها مصداق محسوس كالأبيض والاسود والبارد والساخن والمثلث والمربع، أتوجد هذه المفاهيم من تغيير المدركات الحسية، أم الإدراك الحسّي شرط لحصولها فقط؟

عندما ندرك بوساطة الحواس الظاهرية لون أوشكل الأشياء الخارجية اوشيئاً من كيفياتها الأخرى نظفر بصورة جزئية له تبين كيفيته المحدودة والمعينة ولو أننا لا نلتفت إلى الصورة ذاتها

ص: 165

بشكل مستقل، مثل حالة الشخص الذي يتملّى صورته المنعكسة فى المرآة و هو غير ملتفت إلى المرآة ذاتها ولا إلى الصورة المنعكسة فيها .

ولهذا فنحن نتخيل اننا قد ظفرنا بنفس الكيفية الخارجية في ظرف وجودها (وليس في ظرف إدراكنا نحن)، بينما الواقع اننا لا طريق لنا للظفر بالخارج بشكل مباشر، وكلُّ ماندركه من الأمور الخارجيّة فهو بوساطة الصور الإدراكية فقط.

وصحيح أنه يتم في هذه الحال بعض الافعال و الانفعالات في الأجهزة الحسية والمجموعة العصبية والمخّ ، ولكن هذه الافعال والانفعالات تهيّئ الأرضيّة الصالحه فقط لإدراك هذه المفاهيم و سنثبت ذلك في محله و أما نفس الإدراك فهو نشاط نفسي محض، وعلى العكس ممّا يدعيه الماديون فالإدراك ليس أمراً مادياً يفرزه المخ كما يفرز الكبد الصفراء، و ليس هو طاقة متغيّراً شكلها ، وإنّما هو شيئ مجرّد غير مادي مشروط تحققه بمجموعة من الافعال والانفعالات الفسيولوجيّة والفيزيائية الكيميائية.

و بعد تحقق صورة حسية اوعدة صور حسّية متشابهة يحصل لنالون آخر من الإدراك يفتقد خصائص الإدراك الحسي ، و هو بقبل الانطباق على افراد لامحدودة.

و كما أنّ الإدراك الحسّى لم يأت من انتقال الكيفية الخارجية ولا من تغييرها، فكذا الإدراك العقلي فانّه أيضاً لا يحصل من انتقال الصورة الحسية ولا من تغييرها، لأنه في نفس الوقت الذي توجد فيه الصورة الحسية بكل خصائصها في ظرف «الحس» يمكن أن يوجد مفهومها الكلّي في ظرف «العقل» دون ان ينقص شيئ من الإدراك الحسي .

ص: 166

و يتضح من هذا أنّ القول بأنّ الصورة الحسية يتغير شكلها فتتحوّل إلى «المفهوم» ليس إلا قولاً باطلاً.

والنتيجة التي تستخلص من هذا: ان العلاقة بين المفهوم العقلى والصورة الحسّية تشبه العلاقة بين الصورة الحسية والكيفية الخارجية ولا تشبه العلاقة بين الكرسي والقطعة الخشبية، حيث إنّ القطعة الخشبية لا تبقى على صورتها الأولى أن الأولى بعد تتبدل إلى كرسي .

و إذا عبّر عن هذه العلاقة باسم «التجريد» او «الانتزاع» - كما هو شائع بين الفلاسفة فلابد من اعتباره تسامحاً في التعبير وإلا فالمفهوم العقليّ لا يقتطع حقيقة من الصور الحسية. و بهذا يتضح أيضاً الجواب عن السؤال الثالث (أللعقل حاجة ما إلى الحسّ أم لا ؟)، و ذلك لانّ هناك فئة واحدة فقط ،(لا؟ من المفاهيم العقلية تحتاج إلى الإدراك الحسي، وحاجتها إليه بعنوان انه شرط لتحقق الإدراك العقلى ؛ و هي عبارة عن تلک المفاهيم التي لها مصداق يمكن إدراكه بالحس.

و أمّا المفاهيم التي لها مصداق خارجي و لكنه لايمكن إدراكه بالحسّ فهي حاصلة عادةً من تركيب عدة مفاهيم أخرى، مثل مفهوم (الجسم» الذي معناه «الجوهر الذي له أبعاد ثلاثة»، فهو يحصل في الواقع من تركيب هذه المفاهيم المذكورة ، وهو يعرف من طريق التحليل وإعادته إلى المفاهيم الاصلية، ولما كان من الممكن أن تكون بعض مفاهيمه الأصليّة محتاجة إلى الإدراك الحسّي، إذن يمكن القول أنّ بعض هذه الفئة من المفاهيم تحتاج إلى الحس بالوساطة لابشكل مباشر.

والقسم الآخر من المفاهيم الماهوية هو عبارة عن المفاهيم

ص: 167

المأخوذة من الوجدانيات والمبينه للحدود الماهوية للمشهودات والمدركات الباطنيّة، مثل مفهوم الإرادة والحبّ فمثل هذه المفاهيم مأخوذ مباشرة من العلوم الحضورية ومحتاج إليها، و لكنه غير محتاج بأي وجه من الوجوه إلى الإدراك الحسي ، ولا حتى بالوساطة.

امّا المفاهيم الفلسفية المبينة لأطوار الوجود و شؤونه (والعدم بالتبع) فهي تأتي من العلوم الحضورية في المرحلة الأولى ولا حاجة بها إلى الحسّ ، لأنّ الوجود لا يعرف إلا عن طريق العلم الحضوري، و لكنّه يمكن الاستفادة في المراحل اللاحقة من العلوم الحصوليّة، وتفصيل كيفية حصول ذلك يحتاج إلى مجال أوسع مما هو متوفّر لنا الآن.

و أما المفاهيم المنطقية فهى تحصل - كما أشرنا إليه مراراً - من إعادة النظر في سائر المفاهيم الذهنيّة ولا علاقة لها مباشرة بالحسّ، ويحتاج هذا المفهوم إلى الحس في مورد واحد فقط و هو إذا ما كان المعقول الأوّل محتاجاً للحس، و من هناك يمكن القول أنّ المفهوم المنطقى يرتبط بالإدراك الحسي بوساطة المعقول الأول في بعض الموارد.

ص: 168

(المحاضرة الخامسة عشرة)

اشارة

مقدمة:

استعرضنا لحد الآن مسألة «اصالة الحسّ أم العقل» في مورد التصورات و انتهينا إلى هذه النتيجة القائلة ان جميع تصوّراتنا ليست ناشئة من «الحسَ»، وللمفاهيم الكلية إدراك مستقل يحصل بوساطة قوّة مدركة خاصة تسمّى «العقل».

أصالة الحس أو العقل فی التصدیقات

كثير من المفاهيم الكلية لايحتاج إطلاقاً إلى الصورة الحسيّة، وبعضها فقط يحتاج إلى الإدراك الحسي على أساس أنه شرط و مهيئ لتحقق الإدراك العقلي.

ونوجه هنا هذا السؤال: أتكون أصالة الحس ام العقل في التصديقات تابعة للتصوّرات بحيث إنّ كل شخص يقول بأصالة الحسّ في التصوّرات يُضطر للالتزام بأصالة الحس في التصديقات وكلّ إنسان يقول باصالة العقل هناك لايجد مفرّاً من القول بها هنا، ام لا توجد مثل هذه الملازمة، فمن الممكن - مثلاً - ان يقول شخص باصالة الحسّ في التصوّرات ولكنه يقول بأصالة العقل في التصديقات؟

و أخيراً الاصل في التصديقات أهو الحسّ أم للعقل أصالة أيضاً ؟

قبل الدخول في صميم الجواب عن هذه الاسئلة يلزمنا أن نتحدث قليلاً عن التصديقات ولو أنّ مكان البحث في أغلبها هو في علم المنطق، و لهذا فنحن نتناول الموضوع بإيجاز و بمقدار الحاجة لهذا البحث.

ص: 169

ملاحظات حول التصديقات:

1 - الذهن ظرف للإدركات الحصولية (الصور الجزئية والمفاهيم الكلية)، و يجب أن لا ينسب إليه أي علم حضوري (معرفة الواقعيات بدون وساطة).

و لكن قوى الذهن تستطيع أن تلتقط منها صوراً جزئية و مفاهيم كلية فنحصل على التصوّرات. و لما كان العلم الحضوري مرافقاً دائماً للانعكاسات الذهنية، فلهذا تختلط فيما بينها في كثير من الاحيان والتمييز يحتاج إلى دقة و تأمل. فمثلاً عندما نحس بالخوف فهذه حالة نفسية ندركها بالعلم الحضوري، و وجودها ملازم للعلم بها، ولكن انعكاسها الذهني شيء آخر يظهر بشكل تصوّر جزئي أو مفهوم كلي.

2 - إنّ التصور الذهني لا يستطيع بمفرده أن يبين لنا الواقع الخارجي، ومهما كان العلم الحضوري بسيطاً ولا يقبل التحليل فإنّه عند ما ينعكس في الذهن يظهر بشكل «قضيّة» تشمل عدداً من التصوّرات، والواقع أن الذهن يحلّل ذلك الإدراك الحضوري البسيط إلى عدة إدراكات حصولية، و على الاقل إلى تصوّرين هما الماهية والوجود ثمّ يحمل الوجود على الماهية، فمثلاً يكون الانعكاس الذهني للإحساس بالخوف بشكل بحيث عند ما يفرغ في القالب اللفظي يظهر بصورة «أنا خائف » او «الخوف موجود» و امثالهما، والجملة الأخيرة تبيّن تحليل الإحساس بالخوف إلى مفهوم ما هويّ (الخوف) و مفهوم فلسفي (الوجود)، وواضح أنّ مفهوم «الخوف» لا يمكن بمفرده أن يبيّن لنا واقع الخوف الموجود إلا إذا كان مصحوباً بالعلم الحضوري، أي بالإحساس بالخوف ذاته، وفي هذه الحال يكون نفس العلم الحضوري هو الذي يمكن

ص: 170

اعتباره من إحدى الجهات - كشفاً للواقع الموجود (ولو أنه من ناحية أخرى عين الواقع)، و ليس هو التصوّر المقارن له .

3 - كل قضية تشتمل على «تصورين» أو أكثر، و على العكس مما يظنّه بعض المنطقيين الاوربيين ف_«القضية» ليست مجموعة من «التصوّرات» فحسب ولا هي مكونة من تصوّرين فقط ، و كذا حقيقة «التصديق» ليست هي الانتقال من تصوّر إلى آخر حسب قانون تداعي المعاني(1)، و إنما «القضية» عبارة عن تصوّرين أو اكثر مرتبطين ببعضهما بحيث يخرجان بصورة علم واحد يبين الواقع الخارجي أونفس الأمر.

فمثلاً عند ما نرصف عشرات من التصوّرات إلى جانب بعضها من دون أن تكون بينها رابطة فإنّها لا تشكل قضية، وحتى إذا فرضنا وجود تصوّر ين أو أكثر، و كانا بشكل بحيث ينتقل الذهن من أحدهما إلى الآخر حسب قانون تداعي المعاني، كما ننتقل من تصور «الليل» إلى تصور «النهار»، فإنّ ذلك لا يكون لنا قضية أبداً .

4 - جاء في المنطق الكلاسيكى ان العلاقة بين أركان القضية لابد ان تكون بإحدى صورتين : إمّا حملية أوشرطية، وقد أضاف المنطقيون المحدثون علاقات أخرى، ولكن هذه جميعا يمكن اعادتها إلى العلاقة الحمليّة (اتحاد الموضوع والمحمول)، و يطلب نصر علم المنطق.

5 - إن العلاقة الحملية تبين في الواقع إيمان الشخص باتحاد الموضوع والمحمول، و هو إيمان يطهر بصورة «حكم»، و هو أيضاً

ص: 171


1- هذاه اشارة الى رأى جون ستيوارت ميل

نفس حقيقة «التصديق»، ولكن «التصديق» يطلق أحياناً على مجموعة من التصوّرات مضافاً إليها الحكم (و هذه هي القضية، و المنطقية)، وعلى هذا لابد من اعتبار كلمة «التصديق» من المشتركات اللفظية.

6 - توجد اختلافات بين المنطقيين حول عدد أجزاء القضايا، و حول «القضية السالبة» ألها «حكم سلبي» أم انها تفيد «سلب الحكم» فقط ، ولكن هؤلاء جميعاً متفقون على أن القضية الحملية لا تتحقيق بدون المحمول والموضوع.

والنظرية التي تنال تأييدناهي أنّ كلّ قضية تحتاج إلى موضوع ومحمول و نسبة بينهما وحكم بثبوت هذه النسبة أوعدم ثبوتها.

اما الإشكالات التي يطرحها بعض كبار المفكرين حول بعض القضايا (مثل الهليّات البسيطة) فهي خارجة عن موضوع بحثنا بما أنه بحث منطقي ، و لابد أن يطلب تفصيل هذه الأمور في المجالات المخصصة لذلك.

7 - إنّ رابطة الاتحاد بين الموضوع والمحول ينظر إليها أحياناً على مستوى «الإمكان» أي نفي ضرورة الخلاف (نفي كونها ممتنعة و مستحيلة)، و ينظر إليها أحياناً أخرى على مستوى «الوجوب» أي إثبات الضرورة (بالإضافة إلى نفي ضرورة الخلاف) و أحياناً أخرى لا نلتفت إلى أي من الضرورتين، ونلاحظ فقط وجود الرابطة الحالية، ففي الصورة الأولى تكون القضية «ممكنة»، و في الصورة الثانية «ضرورية» و في الصورة الثالثة تسمّى «وجوديّة».

8 - يكون موضوع القضية أحياناً تصوّراً جزئياً حاكياً عن موجود معين، و احياناً أخرى يكون مفهوماً كلياً يقبل الانطباق على

ص: 172

مصاديق لاحد لها، و فى الصورة الثانية قد يكون احياناً مفهوما ما هو ياً، أي له «ما بازاء» فى الخارج، و مفهوماً فلسفياً أحياناً أخرى اى له «موصوف» خارجی فحسب، و مفهوماً منطقياً في حالات أخرى، حيث لا يكون له حتى موصوف خارجي، وهي تصدق فقط على المفاهيم الذهنية.

9 - قد يكون الاتحاد بين الموضوع والمحمول بحسب الوجود مع اختلاف مفهوميها وفى هذه الصورة يسمّى حمل المحمول على الموضوع ب_«الحمل الشائع»، ويتحدان احياناً في المفهوم أيضاً ويلا حظ بشكل اساسي هذا الاتحاد المفهومي، وفي هذه الصورة يسمّى الحمل ب_«الحمل الأولى»

ولا يمكننا فى هذا البحث الاستطراديّ الجواب على هذه الأسئلة:

ايكون هذا التقسيم حاصراً؟

و هذا الحمل الأولي أهو «قضيّة» حقيقة أم لا؟

ثم اهي تنتج فائدة أم لا؟

10 - قد تفيد القضية احياناً تحقق ذات الموضوع فقط، و بعبارة أخرى فإنّ محمول القضية هو مفهوم «موجود»، و أحياناً أخرى تفيد تحقق صفة للموضوع، ففي الصورة الأولى تسمى القضيه ب_«الهليّة البسيطة» و في الصورة الثانية ب «الهليّة المركبة»، ولكن بعض المنطقيين الغربيين يعتبر مفهوم الوجود «معنى حرفياً» يبيّن العلاقة بين الموضوع والمحمول، و ينكر «الوجود المحمولي» ولا يفرّق بين الوجود الرابط والوجود المحموليّ ، وفي النتيجة فهو لا يعتبر «الهليّة البسيطة » قضيّة !

11 - تقسم القضايا في المنطق الكلاسيكي إلى قسمين:

ص: 173

البديهيّه والنظرية، فالبد يهيّات قضايا لا يحتاج التصديق بها إلى تفكير و تأمل، والنظريات (= غير البديهيات) قضايا يحتاج التصديق بها إلى التفكير والاستدلال.

و تقسم البديهيات أيضاً إلى البديهيات الاولية والبديهيات الثانوية، فالبديهيات الأولية قضايا لا يتوقف التصديق بها على أيّ شيئ ماعدا تصوّر الموضوع والمحمول، ولكن الحكم في القضايا البديهية الثانوية يتوقف على استعمال الحس واستخدام التجربة وأمثالهما. وقسموا البديهيات الثانوية حسب الاستقراء إلى ستة أقسام: الحسّيات، الوجدانيات، الحدسيات، الفطريات، التجربيات، المتواترات.

والواقع أنّ البديهيات الأولية فقط تستحق أن نسميها ب «البديهية» و أمّا البديهيات الثانوية فالحد الأقصى لها هو أن تكون قريبة للبديهيات، وكلّها يحتاج إلى نوع من البرهان.

و من بين البديهيات الأولية تسمّى قضية «استحالة اجتماع النقيضين» ب «أمّ القضايا»، واعتبروا سائر البديهيات الأولية أيضاً محتاجة إليها ، ولو أنهم قد بينوا كيفية احتياج سائر البديهيات إلى هذه القضية بأشكال مختلفة، ولم يكن بيان المنطقيين في هذا الباب بشكل واحد.

وقد عدّ بعض المنطقيين قضية «استحالة ارتفاع النقيضين» و أصل الهوهوية (ضرورة ثبوت أيّ شيء لذاته و استحالة سلبه عن نفسه) أيضاً من الأصول الأولية، و قد اعتبر بعضهم اصل الهوهوية مقد ماً على سائر الأصول، ولا ينتظر من هذا البحث المضغوط أن يتناول بالتفصيل دراسة هذه المسائل.

12 - تسمّى القضية ب_«التحليلية» إذا كان مفهوم الموضوع

ص: 174

فيها مشتملاً على مفهوم المحمول، و بعبارة أخرى : فإننا نحصل على مفهوم المحمول من تحليل مفهوم الموضوع، وتسمّى القضية فيما عدا هذه الصورة ب_«التركيبية»، والتصديق باتحاد الموضوع والمحمول فى القضايا التحليلية ضروريّ، و بعبارة أخرى: إنّ هذه القضا يا بديهية، أمّا القضايا التركيبية فيوجد فيها اختلافان: الأوّل: ايوجد بين القضايا التركيبية قضايا بديهية أم كلّها نظرية؟

الثاني: اتحتاج القضايا التركيبية كلّها إلى «التجربة» بحيث تكون جميعاً من القضايا المصطلح عليها ب «ماتاخر»(1) أم يوجد بينها قضايا مستغنية عن التجربة أي من القضايا المصطلح عليها ب «ما تقدم»(2)؟

يعتقد كانت بأنّ القضايا التركيبية تنقسم إلى قسمين: المقدمة على التجربة، والمؤخّرة عنها، و هو يعتبر القضايا الرياضيّة من قبيل القضايا التركيبية المستغنية عن التجربة ولكن الوضعيّين يحاولون إعادة جميع القضايا المستغنية عن التجربة إلى القضايا التحليلية.

و أمّا النظرية التى تنال تأييدنا فهى انّ هناك قضايا تركيبيَةً مستغنيةً عن التجربة، ولا تنحصر هذه في الرياضيات بل تشمل الأمور الميتافيز يقيّة أيضاً، وعلى العكس من نظرية كانت الذي اعتبر حل المسائل الميتافيزيقية خارجاً عن طاقة العقل النظري، فإنّ أمثال هذه داخلة في نطاق العقل النظري.

ص: 175


1- Apriori
2- Apostorior

توضيح محلّ النزاع:

ما المقصود من أصالة الحسّ أو العقل في التصديقات ؟

من الواضح أن هذا السؤال «ايكون الأصل في التصديقات الحس امّ العقل؟» لايعني أنّ التصورات التي تشكل اران القضيّة أهى كلّها مأخوذة من الحسّ أم انّ بعضها يدركه العقل بصورة مستقلة ؟ و ذلك لأنّ هذا هو بنفسه مسألة أصالة الحسّ أم العقل فى التصورات. و إنما معناه : أيكون التصديق باتحاد الموضوع والمحمول متوقفاً دائماً على الحسّ أم ان عقلنا يحكم احياناً باتحادهما من دون أن يستعين بالحس؟

إذن تعود هذه المسالة إلى هذا الموضوع : ألدينا قضايا مقدمة على التجربة الحسية و مستقله عنها ، أم كل القضايا مؤخرة عن التجربة ومحتاجة إلى الحسّ ؟

وعلى هذا يصبح القائلون بأصالة الحس في التصديقات هم أولئك الذين ينكرون البديهيات الاولية، لأنّ المفروض أنّ العقل فى هذه القضايا يحكم باتحاد الموضوع والمحمول و ثبوت المحمول للموضوع بمجرّد تصورها، ولا يحتاج التصديق بذلك إلى أي شيئ ماعدا تصورهما ، ولو ان تصورهما يحتاج إلى الحسّ بشكل ما .

و كل من يعترف بالبديهيات الاولية ولو أنه يحصرها في قضية واحدة (مثل استحالة اجتماع النقيضين) فهو من أصحاب أصالة العقل فى التصديقات.

ولابد أن ينكر القائل بأصالة الحسّ في التصديقات الحمل الأولي أيضا، ولكن الحسيين عندما يواجهون مثل هذه القضايا فهم يدعون أنها ليست قضايا في الواقع ، لانها لا تفهمنا شيئاً جديداً.

ص: 176

والمأزق العسير الذي يواجهه الحسيّون هو في الرياضيات، و ذلك لانهم بشأن القضايا الميتافيزيقية يستطيعون أن يدعوا بأنها غير قابلة للإثبات أو أن يعتبروها - مثل الوضعيين - ألفاظاً لا معنى لها (!) ولكنهم لا يجرؤون ان ينسبوا مثل هذا القول للمسائل الرياضية، و من هنا فهم يبذلون قصارى جهدهم ليعيد وا القضايا الرياضيّة إلى «القضايا التحليلية».

التحقيق في المسألة:

لقد اتضح من حديثنا أنّ مسألة أصالة الحسّ أم العقل في التصديقات ليست تابعة لمسألة أصالة الحسّ أم العقل في التصورات فحتى لو فرضنا أن شخصاً قال بأصالة الحسّ في التصورات فإنّه يستطيع أن يقول بأصالة العقل في التصديقات.

و الآن نقدّم الجواب على السؤال الأساسى : أيكون الحس هو الاصل في التصديقات أم للعقل اصالة أيضاً؟

وجو ابنا على هذا السؤال واضح، ای نحن نملک قضایا لا يحتاج التصديق بها إلى استعمال الحس ولا التجربة، بل يستطيع العقل مستقلاً أن يثبت الرابطة بين الموضوع والمحمول، و ليست هذه القضايا منحصرة بالبديهيات بل كثير من القضايا النظرية العقليّة يتمّ إثباتها بالاستعانة بالبديهيات العقلية، دون أن يتدخل في إثباتها الحسّ ولا التجربة.

و من جملتها تلك القضايا المتعلّقة بعلم المنطق ، وهي التي موضوعها ومحمولها من المعقولات الثانية المنطقية، أي من المفاهيم التي ليس لها مصداق خارجي، و انما مصداقها هو المفاهيم الذهنية الأخرى، و ذلك لأنه من الواضح كون الحسّ عاجزاً من إثبات العلاقة بين مفاهيم ليس لها مصداق خارجي.

ص: 177

و كذا الهليات البسيطة التى هى انعكاسات ذهنية للمعلومات الحضور ية من قبيل القضايا التي تحكي عن وجود الحالات النفسية كالخوف والامل والحبّ والبغض، وذلك لأنّ الحسّ بالمعنى الاصطلاحي لادخل له في وجود هذه المعلومات.

وفي الحمل الأولي والقضايا التحليلية التي يشتمل فيها مفهوم الموضوع على مفهوم المحمول ايضاً لادخل للحس فيها.

و بهذا الشكل لا تحتاج القضايا الميتافيزيقية - التي موضوعها و محمولها من المعقولات الفلسفيّة - إلى استعمال الحس و استخدام التجربة، لأنّ التجربة الحسية تعجز عن إثبات الرابطة بين مفهومين لم يؤخذا من طريق الحسّ، بل القضايا الرياضيّة أيضاً مستغنية عن الحس، والاستعانه بالاشكال الهندسية و ماهو من هذا القبيل إنّما هو لإعداد الذهن لتصوّر الموضوع والمحمول بشكل صحيح.

والأهم من كل ذلك أنّ القضايا التجريبية عندما يراد صياغتها بشكل قانون كلّي وضروري فإنّها تحتاج إلى الأصول الميتافيزيقية، وفي النتيجة فهي تحتاج إلى العقل، وذلك لأنّ الاستقراء لا يستطيع أن يثبت لنا حكماً كلياً ضرورياً بصورة ذاتيّة كما هو ثابت في محله - ولا ينفي احتمال وجود الفرد الاستثنائي.

بل و حتّى القضايا الشخصية من قبيل الحكم بوجود لون اوشکل خاص أيضاً عندما نريد أن تتصف بالضرورة لابد :

أولاً :

أن يتم إثبات وجودها الخارجي بوساطة أصل العلية وفروعه.

ص: 178

ثانياً :

أن يُنفى احتمال عدمها بوساطة أصل استحالة التناقض.

و على هذا فهناك أصالة لأحكام العقل في مورد التصديقات، بل الاحكام العقلية البديهية تشكل في الواقع الخلفية للاحكام الحسّية ايضاً .

ص: 179

(المحاضرة السادسة عشرة)

نطاق كلّ لون من الوان المعرفة؟

لكون المعرفة مختلفة و متنوّعة فنحن نواجه هذا السؤال :

اكل واقع يمكن معرفته بأي لون من ألوان المعرفة أم لكل لون من المعرفة مجال خاص بها ؟ و إذا كان هناك واقع يمكن إثباته بعدة طرق من المعرفة فأيّها أفضل؟

بديهي أنّ أفضل ألوان المعرفة هو العلم الحضوري الذي ينكشف فيه الواقع بدون أي وساطة، ولكن حدود ذلك عند الافراد العاديين تنحصر في النفس وقواها و أفعالها و انفعالاتها، و من المؤكد أنّ الجميع يتمتعون بلون من المعرفة الحضورية بالنسبة للخالق المانح للوجود ، و يسمّى أحياناً ب_«المعرفة الفطرية»، ولكن هذه المعرفة تبدو ضعيفة في الأفراد العاديين وفي الحالات الاعتيادية، ولا يُلتفت إليها ولا يُتعمق فيها إلا نادراً، و قوتها وتكاملها تتبع تكامل الروح و تقليل العلاقات المادية والارتباطات الدنيوية وتقوية التوجهات القلبية.

والافعال و انفعالات النفسية التي يتعلّق بها العلم الحضوري تشمل أيضاً الصور الإدراكية، وهي تلك الصور الجزئية والمفاهيم الكلية التي يتعلّق بها العلم الحضوري من حيث إنّها موجودة في النفس، ولكن متعلقاتها التي هي الواقعيات الخارجة عن النفس فلا يتعلّق بها العلم الحضوري الذي لاوساطة فيه، و تعرف في الأفراد العاديين دائماً بوساطة الصور الإدراكية.

إذن يطرح السؤال حول هذه المعلومات بهذه الصورة: أتكون كل الواقعيات التي تعرف بالعلم الحصولي قابلة للإدراك الحسي

ص: 180

والعقلي أم لكل واحد من الحسّ و العقل مجال خاص به ؟

من الواضح أنّ اتي واقع لامادى لايمكن معرفته بالحسّ، والطريق إلى المعرفة الحصولية للمجرّدات ينحصر بالمعرفة العقلية التي تتم بوساطة المفاهيم الكلية الفلسفية، و كذا الحقائق المنطقيّة فهى ليست قابلة للمعرفة الحسّية، ولكنّه ليس صحيحاً أيضاً القول بأن كل واقع مادّي يمكن معرفته بالحس، وذلك لأننا نعلم أنّ قوانا الحسيه معدودة، و مدى إدراكها محدود و مقيد بالظروف الخاصة المحيطة بها، وبعبارة أخرى : نحن نستطيع فقط أن نعرف مظاهر معيّنة من الأشياء المادّية بوساطة حواسنا و ذلك في ظروف معينة، ولا يمكننا إطلاقاً أن ندعي بأن جميع شؤون الواقعيّات المادّية قابلة للمعرفة الحسّية و يعد العلماء مثل هذا الادعاء أمراً طفوليّاً يتسم بالغباء.

و من ناحية أخرى فنحن نعلم ان كثيراً من الحقائق العلمية لا طريق للحسّ إليها بصورة مباشرة، وعند ما ندقق فيها نجد أنها تعرف بوساطة المفاهيم الانتزاعيّة، ولابد من عد مفهوم المادّة و الطاقة وأمثالهما من هذا القبيل، إذن ينحصر مجال الإدراك الحسّي بمظاهر من الواقعيات المادية تتناسب مع حواسنا، ولا نستطيع ان نعرف هذه المظاهر بوساطة الحسّ مالم تتوفر شروط عديدة لتحقق الإدراك الحسي، و سائر معارفنا إمّا أن تكون حاصلة بسبب العقل فقط، أو إنّها تحصل بتعاون الحس والعقل.

و إحدى خصائص المعرفة العقليّة أنّها كلّية، إذن المعارف الحصوليّة الجزئية إما أنها انعكاسات ذهنيّة من المدركات الحضوريّة كالقضايا الحاكية عن وجود الحالات النفسية الخاصة، و إمّا أنها حاصلة بالتجربة الحسية كالقضايا الحاكية عن وجود أمر

ص: 181

محسوس بدون وساطة، و لكنّه ليس صحيحاً أنّ كلّ قضيّة كليّة إنّما تدرك من طريق العقل فقط ، و ذلك لأنه من الممكن كون موضوع هذه القضايا مفهوماً ما هويّاً ماخوذاً من المحسوسات بلاوساطة، و واضح أنّ هذه المفاهيم لا تحصل إلا إذا سبقها إدراك واحد او عدة إدراكات حسّية، ولكن الحاجة إلى الحسّ لا تنحصر فقط في تهيئة الظروف الملائمة لإدراك المفهوم الكلى للموضوع والمحمول، بل من الممكن أن يكون التصديق بها متوقفاً على التجربة الحسية. فمثلا نحن لانستطيع أبدأ بعد تصور مفهوم «الفلز» و استخدام القوة العقلية أن نحكم بان «كل فلز يتمدد بالحرارة» و إنما مثل هذا التصديق يحتاج إلى التجربة الحسية.

و على هذا تنقسم الهليّات المركبة التي موضوعها يحكي عن أمر محسوس إلى قسمين: أحدهما يضم القضايا التي محمولاتها من المفاهيم الفلسفية، من قبيل هذه القضية «الجسم ممكن الوجود»، و في هذه الصورة لايحتاج التصديق بها إلى التجربة الحسّية و يمكن تسمية مثل هذه القضايا ب_ «القضايا الفلسفية بعد التجربة»، أي تلك القضايا التي تجعل الموضوعات التجريبية مورد التحليل الفلسفي.

الثاني: يضمّ القضايا التي محمولاتها من قبيل المفاهيم الماهوية المحسوسة مثل هذه القضية «الفلزات تتمدد بالحرارة»، فهذه القضايا تجريبية صرفة وهي تشكل المسائل العلمية، و لكن التجربة الحسية وحدها كما أشرنا إلى ذلك من قبل - لا تستطيع ان تثبت لنا القضية الكلية بصورة قطعيّة لا تتخلّف، وذلك لاننا لا نستطيع أبداً ان نُخضع جميع أفراد ماهية ما في كل الأزمنة والأمكنة للتجربة الحسّية، وإنّما نظفر بضرورتها و كليتها بعد

ص: 182

استخدام الأصول العقلية (مثل اصل العلية و فروعه)، اذن تتصل هذه المعارف بفضل التعاون القائم بين الحس والعقل.

إن النتائج التي نظفر بها من هذا البحث هي كما يأتي :

1 - إن مجال العلم الحضوري في الأشخاص العاديين يكون في النفس و قواها و أفعالها و انفعالاتها، و في هذا اللون من المعرفة فقط ينكشف فيه الواقع للإنسان بلاوساطة.

3 - تدرك الحقائق المنطقية بوساطة العقل فقط.

3 - و كذا الحقائق الفلسفية فهي تُعرف بوساطة العقل، ولو أنّ من الممكن أن يكون موضوعها من المفاهيم الماهوية التي لها مصداق محسوس، و في هذه الصورة يغدو الإدراك الحسّى شرطاً لازماً لتصوير الموضوع.

4 - إنّ معرفة الواقعيات المجرّدة (= اللامادية) تدخل في نطاق العقل أيضاً.

5 - تُعرف القضايا الشخصية المتعلّقة بالأمور المحسوسة بوساطة الحسّ ، و لكن إثبات وجودها الخارجي و نفي احتمال الخطأ في الحسّ لا يستغني عن الأصول العقلية.

6 - إنّ القضايا الكلية التي موضوعها و محمولها من المفاهيم القابلة للانطباق على المحسوسات تعرف عن طريق التجربة الحسية، ولكن تصوّر الموضوع والمحمول فيها يحتاج إلى العقل، و كذا كليتها وضرورتها فهى تتوقف على الأصول العقليّة ، و هذه القضايا هي التي تشكل مسائل العلوم التجريبية.

7- إنّ إثبات ضرورة أيّ قضيّة و حتى القضايا الشخصية المحسوسة يتوقف على أصل استحالة التناقص، و على هذا لا يستغنى أتي تصديق ضروري عن العقل.

ص: 183

8 - لا تدرك الواقعيات المادية إطلاقاً بشكل كامل و من كلّ الجوانب بالإدراك الحسي، و كلّ حاسّة من حواسنا تستطيع فقط و في ظروف خاصة أن تعرف وجهاً معيّنا منها، و كذا التجارب العلميّة فهي تستطيع أن تلم بخواص جديدة منها بتقدم العلم واكتشاف وسائل اكثر دقة، ولكنه لا يمكن الادعاء أبداً أنّ الواقعيات المادية قد عُرفت بشكل كامل و من كل الجوانب، و لا يوجد فيها شيىء إلا وقد عُرف.

بهذا نكون قد أجبنا عن بعض الأسئلة المطروحة في المحاضرة التاسعة، وسوف نجيب بعون الله عن الأسئلة الأخرى المحاضرات الآتية بعون الله .

توضيح الموضوعين:

و نجد من الواجب علينا في خاتمة هذا البحث ان نوضّح موضوعين :

1 - يشيع بين المتجدّدين ان فلاسفة العصور القديمة و القرون الوسطى لما كانوا يستفيدون من الأسلوب العقلي والقياسي في حل المسائل العلمية و الفلسفية لم يُحرموا فقط من إحراز نجاح باهر وإنما قدموا لنا آراء و نظريات غير صحيحة سيطرت على الفكر البشري قروناً مديدة و وقفت حائلاً دون اكتشاف الحقائق العلمية و تمتع المجتمع الإنساني بثمراتها، و لكنه منذ عهد النهضة الاوربية «رنسانس» حيث أحلّ علماء اوربا الأسلوب التجريبي والاستقرائي مكانَ الأسلوب العقلي والقياسي فقد أحرزت الإنسانية تقدّماً هائلاً، واستعادت قافلة العلم ماكان قد ضاع من يدها و بدأت تطوى سبيل التكامل بسرعة لتعوّض عمّا كان قد فاتها .

ص: 184

و قد نسب بعض المتجدّدين المسلمين هذا النجاح الذي أحرزه الغربيون إلى معرفتهم بالثقافة الإسلامية، وراحوا ينسبون الأسلوب التجريبي - بكل فخر واعتزاز - إلى العلماء المسلمين الذين استلهموا القرآن الكريم و نهضوا لمقاومة الثقافة اليونانية واستخدموا الأسلوب الاستقرائي والتجريبي.

و نحن في الوقت الذين نعترف فيه بالتاثير الضخم الذي تركته الثقافة الإسلاميّة و علوم المسلمين في الثقافة الغربية، وكذا ما للتجارب العلمية من اهمية، فإننا نذكر ان لاستخدام الأسلوب التجريبي تاريخاً موغلاً في القدم، و كما ينقل مؤرخو الفلسفة فإنّ وكما أرسطو قد اعد بمساعدة الإسكندر المقدوني حديقة كبيرة كان ينمّي فيها مختلف النباتات ويربي فيها انواع الحيوانات، و كان يعكف على المشاهدة والتجربة بشأنها ، و لعله في ذلك الزمن لم یکن هناك عالم تتوفّر له هذه الفرص و الإمكانيات، وعلاوة على هذا فإنّه يعتبر الحسّيات والتجريبيات نوعين من البديهيات والمقدمات للبرهان، و على هذا فلابد أن نقول إنّ السبب في نقص آرائه العلمية يكمن في عجز وسائل التجربة المتوفّرة عند ذاك، لا في الاعتقاد بعدم القيمة للأسلوب التجريبي .

و من المناسب في هذا المجال أن نضيف هذه الملاحظة هي أنّ بعض الفلاسفة القدماء حاول أن يسد النقص الموجود في الوسائل التجريبيّة والمعلومات العلمية بالنظريات، وذلك إرضاءً لحس البحث وحبّ الاطلاع في انفسهم، وقد استفاد أحياناً من الأسلوب العقلي لإثبات ذلك، و بهذا فقد مزجوا الدراسات العلميّة بالفلسفيّة و ألحقوا بهما معاً أفدح الأضرار، و لكنه - على أي حال - ليس صحيحاً ان ننسب إليهم أنهم لم يكونوا يعتبرون

ص: 185

الأسلوب التجريبي او انّهم لم يكونوا يستعملونه، والأشد خطاً من ذلك هو الظنّ بأنّ عمل الفلسفة هو إعطاء الفرضيات فقط، وعمل العلم هو إثباتها بوساطة التجربة !!

و في أثناء هذا لابد أن نعلم ان جميع الفلاسفة لم يكونوا معرمين بجميع فروع العلم والفلسفة، و كان بعضهم - مثل سقراط - يولي المسائل الأخلاقية أهمية فائقة، وأرسطو هو الوحيد بين فلاسفة اليونان الذي نال الشهرة في جميع فروع العلم والفلسفة و لقب باسم «المعلم الاول».

إذن عدم اهتمام بعض الفلاسفة بالمسائل العلمية والتجريبية لا ينبغي عده من باب نفي قيمة الأسلوب التجريبي. والشيىء الوحيد الذي يمكن قوله هو أنّ بعض الفلاسفة لمّا لاحظ كثرة أخطاء الحسّ فإنّه لم يُعر المسائل العلمية والتجريبية أهمية، بل انصرف لدراسة المسائل الميتافيزيقية والرياضية.

و نؤكّد مرّة أخرى على أنّ المسائل العلمية بالاصطلاح الخاص (= التجريبية) لا يمكن حلها إلا بالاسلوب التجريبي، ولو أنّ الحصول على قانون علميّ كلّي وضروري يتوقف على مساعدة العقل، ولكنّ العقل بمفرده لا يستطيع أن يثبت لنا أبداً اي موضوع تجريبي.

2 - ظنّ بعض الكتاب الذين لا يتمتعون باطلاع واسع أنه لا يمكن أيضاً حل المسائل الميتافيزيقية و مسائل معرفة الله بالأسلوب العقلي، وكلّ محاولات الفلاسفة المسلمين لحل هذه المسائل بالأسلوب العقلي والقياسي إنما هي محاولات عقيمة مقتبسة من فلاسفة اليونان وهي لا تلائم أسلوب القرآن، وذلك لأن القرآن قد حثّ البشرية باستمرار على التأمل في الظواهر الطبيعية،

ص: 186

وهذا علامة أنه لا يعتبر الأسلوب العقليّ صحيحاً بل يعتبر الأسلوب التجريبي هو الطريق الصحیح الوحيد للمعرفة.

ملاحظة حول الأسلوب التعقلي و التجریبي

وقد انساق بعض الغافلين إلى القول بأن المسائل الدينية تجريبية من أساسها، والطريق لإثباتها هي التجارب العلمية، و حتى الاحكام والقوانين الإسلامية فهى مما يمكن قبوله مادامت تؤيدها التجارب العملية، ويستنتجون أنّ قوانين الإسلام محدودة بالظروف الزمانية والمكانية الخاصة، وذلك لأنّ نتائج التجربة لا تؤيدها دائماً، وبهذا يجعلون أنفسهم مصداقاً للآية الكريمة «نؤمن ببعض و نكفر ببعض». ولسنا في هذا المجال بصدد تصحيح كلّ هذه الاخطاء، و لهذا فسوف نكتفي بذكر بعض الملاحظات التي ترتبط ببحثنا :

أ - ان المسائل الفلسفية والميتافيزيقية - كما أشرنا إلى ذلك مراراً - مسائل عقليّة لا يمكن اثباتها إلا بالأسلوب العقلي.

ب - قد يتركب البرهان العقلي من البديهيات الاولية أو من القضايا النظرية المعتمدة على البديهيات، و قد تكون بعض المقدّمات مأخوذة من القضايا التجريبيّة (مثل برهان الحركة)، و لكن الاستفادة من المقدمات التجريبية في البرهان العقلي لا تعني الاستفادة من «الأسلوب التجريبي» (نحتاج هنا إلى شيئ من الدقة والتأمل).

ج_ - قد لا تذكر بعض مقدمات البرهان في الكلام لوضوح الموضوع، وبالتعبير الفنّي قد تكون بعض مقدمات البرهان «مطوية»، و من هنا فقد تخيّل بعض الغافلين أن البرهان متكون من مقدمة واحدة (!) أو أنه استفيد فيه من الأسلوب التجريبي.

د - لم يستخدم القرآن الكريم إطلاقاً الأسلوب التجريبي في

ص: 187

مسائل التوحيد و معرفة الله، و كلّ البراهين المشار إليها في هذا الكتاب السماوي مذكور على اساس ا العقلى و لو انه قد استفيد فيها من مقدمات تجريبية، و ذلك لان الاستفادة من المقدمات التجريبية - كما أشرنا إليه من قبل - لا يعني استخدام الأسلوب الاستقرائي والتجريبي، وعلاوة على هذا فإنّ إعطاء القيمة للأسلوب التجريبي لا يعنى سلب القيمة منالأسلوب العقلي.

ملاحظة اُخری حول أسلوب الرهنة في القرآن

ه_ - ليست المواضيع المذكورة في القرآن الكريم من لون واحد، و توجد مواضيع بينها هي عقليّة محضة، وإذا ذكر لها برهان فسيكون على أساس الأسلوب القياسي، من قبيل قوله تعالى : «لو كان فيهما آلهة الاّ الله لفسدتا» حيث يكون «الاستثناء» مطوّياً في هذا القياس الاستثنائي، وتقديره ( لكنهما لم تفسدا) و يلاحظ أيضاً وجود أمور تجريبية في القرآن الكريم، والهدف من ذكرها هو الفات الناس إلى النعم الإلهية التي لا تعد ، وذلك لإثارة حسّ تقديم الشكر فيهم (لعلكم تشكرون)، أودفعهم للالتفات الى مقدمات البرهان ليضموا اليها الكبرى العقلية ويستنتجوا، أو إيقاظ الفطرة وحثّ الإنسان على الاهتمام بالمعرفة الفطرية ، أو ... ، وكلّ واحد من هذه لا يعني الاستفادة من الأسلوب التجريبي لإثبات مسائل معرفة الله.

كما ان هناك فئة أخرى من الآيات القرآنية الكريمة التي تتعلّق بالأحكام والقوانين الإسلامية، وهي تنقسم بدورها إلى عدة أقسام فرعية :

فبعضها بذاته يقع مورد قبول العقل من قبيل «انّ الله يأمر بالعدل والإحسان»، و بعضها الآخر يستطيع العقل ان يدرك الحكمة منه بمساعدة التجربة من قبيل : «وزنوا بالقسطاس

ص: 188

المستقيم ذلك خير و أحسن تأويلا»، و «قل فيهما إثم كبير و منافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما»، والبعض الآخر «تعبّدي» لا توجد مقدمات برهانه في متناول يد الإنسان من قبيل تفاصيل الأحكام العبادية والمالية والقوانين المدنية و الجزائية، كما أن النتائج الأخروية لا يمكن تجربتها في هذا العالم. ولم يجعل القرآن في اي مورد قبولها مشروطاً بالتجربة، وإنما طالب عباد الله بالإيمان والتسليم المطلق بدون اعتراض على أوامره، و كلمة «الإسلام» تدل على هذا المضمون.

و في خاتمة المطاف نوصي إخوتنا الصادقين في إسلامهم ان يتلقوا الإسلام الحقيقي من «العارفين الحقيقيين للأسلام»، و لا يخدعتهم ضجيج أدعياء «معرفة الإسلام» و «ليسلكوا الطريق الذي سار فيه السالكون اليقظون»، ولا يلتفتوا إلى ما يقترحه الغافلون والضالون او المنافقون و أعداء الاسلام، وليعلموا أنّ مثل هذه الاساليب الترقيعية لمعرفة الإسلام يكمن فيها أعظم الأخطار التي تهدد كيان الإسلام والمسلمين.

ص: 189

فهرست الموضوعات

المحاضرة الأولى:

مقدمة الناشر ... 3

مفهوم الايديولوجية ... 7

ضرورة الايديولوجية والرؤية الكونية ... 9

علاقة الايديولوجية بالرؤية الكونية ... 10

الايديولوجية والرؤية الكونية في القرآن ... 12

المواضيع الأساسية في الرؤية الكونية ... 14

المحاضرة الثانيه:

ألوان الرؤية الكونية ... 18

مفهوم الفلسفة ... 19

مفهوم الدين ... 20

مفهوم العرفان ... 20

الفلسفة العلمية ... 25

المحاضرة الثالثة:

مفهوم المتافيزية ... 31

الرّد الإجمالي على المنكرين ... 36

المحاضرة الرابعة:

ضرورة البحث الفلسفي والمتافيزيقي ... 42

ردّ شبهات حول ضرورة الفلسفة ... 44

المحاضرة الخامسة:

مفهوم المعرفة ... 53

ما هو الدافع للمعرفة؟ ... 54

موضوع المعرفة ... 56

ص: 190

مسير المعرفة ... 58

ولادة علم المعرفة ... 60

الدراسة العلمية والفلسفية حول المعرفة ... 62

المحاضرة السادسة:

الواقع الخارجي ... 65

السوفسطائية المرحلة الأولى من مذهب الشكّ ... 66

المرحلة الثانية من مذهب الشك ... 68

المرحلة الثالثة من مذهب الشكّ ... 70

مفهوم الواقعية و المثالية ... 72

الواقعية والمثالية فى الأخلاق والفنّ ... 72

المحاضرة السابعة:

الواقعية والمثالية في الفلسفة ... 74

المثالية والمادية ... 80

المحاضرة الثامنة:

العلم بالواقع ... 86

مدعى الماركسية في العلم بالواقع و نقده ... 89

المحاضرة التاسعة:

مقدّمة فى بيان الاسئلة حول المعرفة ... 98

وسائل المعرفة ... 100

نقد التفكير الوضعي في إدراك الكليات ... 105

المحاضرة العاشرة:

مقدمة فى المعرفة الذهنية والعينينة ... 109

أنواع المعقولات و بيان الفرق بينها ... 110

المحاضرة الحادية عشرة:

مقدمة في دور العقل في المعرفة ... 119

ص: 191

نظرية أصالة العقل في التصورات وتطوّرها ... 120

نظرية افلاطون و نقدها ... 120

نظرية ديكارت و نقدها ... 122

نظرية كانت و نقدها ... 124

المحاضرة الثانية عشرة:

نظرية أصالة الحس وتطوّرها ... 130

نظرية جون لوك و نقدها ... 130

نظرية كندياک و نقدها ... 133

نظرية باركلي و نقدها ... 135

نظرية هيوم و نقدها ... 139

المحاضرة الثالثة عشرة :

أصالة الحس فى نظرية المعرفة الماركسية ونقدها ... 144

المحاضرة الرابعة عشرة :

إزالة الإبهام عن أصالة الحسّ أو العقل في التصورات ... 158

التحقيق في المسألة ... 162

المحاضرة الخامسة عشرة :

أصالة الحسّ أو العقل فى التصديقات ... 169

ملاحظات حول التصديقات ... 170

توضيح محلّ النزاع ... 176

التحقيق في المسألة ... 177

المحاضرة السادسة عشرة :

نطاق كل لون من ألوان المعرفة ... 180

ملاحظة حول الأسلوب التعقلي و التجريبي ... 187

ملاحظة أخرى حول أسلوب البرهنة في القرآن ... 188

ص: 192

ص / س / الخطأ / الصواب

8 / 17 / استعملنا / استعملناها

13 / 17 / يجعلها / يجعلهما

19 / 17 / العملية / العلمية

25 / 18 / يختلف / يختلط

25 / / 19 / ولتوضح / ولتوضيح

26 / 24 / علیم / عليه

32 / 8 / بالاصطلاح / باصطلاح

35 / 23 / «دين اركان الطبيعة» / «الدين عماد الطبيعة»

39 / 10 / المجردات / المجرات

41 / 3 / لكونها / لكونهما

42 / 14 / مناضلين / محاربين

45 / 19 / استدلال / الاستدلال

46 / 9 / توفر / توفرفيه

47 / 8 / عدواة / عداوة

49 / 13 / بحقيته / بأحقيته

49 / 14 / يجوز / لا يجوز

51 / 12 / استjبات / استتباب

60 / 1 / بأخطائنا / بأخطائه

61 / 16 / الجديد والنظر / الحديد والنظر

70 / 7 / وكذا وصف القول... بانه / وكذا القول ... فانه

78 / 7 / المنطقية على / المنطقية المهيمنة على

ص: 193

ص / س / الخطأ / الصواب

79 / 10 / منها / فيها

82 / الاخير / 3- / 1-

92/ 6 / انطلاق / انطلاقة

93 / 4 / لاشاراتها / لا إشاراتها

93 / 7 / بالحالة للاعضاء / بالحالة العامة للاعضاء

94 / 1 / كمال التآلف / كمال هذا التآلف

98 / 21 / بواسطة / بوساطة

99 / 12 / كان / أکانن

100 / 5 / أیما / أيهما

102 / 8 / بواسطة / بوساطة

103 / الاخير وما قبله / بواسطة / بوساطة

103 / 14 / بواسطة / بوساطة

105 / 16 / هذا الاشكال / هذا من الاشكال

114 / 17 / بواسطة (تكرر الخطأ فى هذا السطر مرتين) / بوساطة

115 / 15 / بواسطة / بوساطة

120 / 11 / للفلاسفة / للفلاسفة الذين

123 / التجريبين / التجربيين

134 / توضیح / توضیحه

136 / 6 / بواسطة / بوساطة

137 / 5 / اذ / اذا

ص: 194

ص / س / الخطأ / الصواب

141 / 10 / شا - حبه / شاحبة

144 / 5 / لا - حظنا / لاحظنا

145 / 11 / اول / فى اول

153 / 22 / بصورت / بصورة

155 / 22 / الكلية يحتاج / الكلية لكي يتفاهم مع الآخرين، لا أن ادراك المفاهيم الكلية يحتاج

159 / 222 / يحصل / يحصل

160 / 2 / لبحث / للبحث

164 / 9 / السطر كله زائد

165 / 15 / الغرض / الفرض

171 / الاخير / هذاه / هذه

172 / 2 / ... القضية) ، والمنطقية)، / القضية المنطقية) ،

175 / الحسيين عندما يواجهون مثل هذه / (كله زائد)

176 / 5 / اران / اركان

176 / 17 / تصورها / تصورهما

176 / 23 / الحيين / الحسيين

177 / الاخير / عاجزاً من / عاجزاً عن

180 / 16 / وانفعالات / والانفعالات

188 / 6 / منا / من

ص: 195

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.