عنوان و نام پدیدآور : الرای الآخر في الوحده و التقریب قواعد فقهیه و عقائدیه/ تقریرا لابحاث: محمد السند ؛ بقلم: علي حمود العبادي
مشخصات نشر : قم: باقیات، 2008م.=1429ق.=1387ش.
مشخصات ظاهری : 168ص.
وضعیت فهرست نویسی : در انتظار فهرستنویسی (اطلاعات ثبت)
موضوع : وحدت اسلامی
موضوع : تقریب مذاهب
رده بندی كنگره : BP233/5/ب 9و3 1384
رده بندی دیویی : 297/482
شماره كتابشناسی ملی : 1662958
ص: 1
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ص: 2
الرأي الآخر
في
الوحدة والتقريب
قواعد فقهيّة وعقائديّة
المحقق آية اللَّه الشيخ محمّد السند
بقلم
الشیخ حاج محمود العبادي
ص: 3
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ص: 4
بسم اللّه الرحمن الرحیم
والصلاة والسلام علی صاحب الرسالة الخالدة والدین، الموعود إظهاره علی كافّة البسیطة، وعلی آله وخلفائه، الثقل الثاني الذي امرنا بالتمسّك بهم.
وبعد
فهذه بادرة من الأبحاث حول قواعد نظام التعایش بین المذاهب الإسلاميّة، نرجو من اللّه تعالی استمرار البحث فیها، لنرسم منظومة للتعایش بین الأدیان.
والجدیر بالذكر أنّ هذه القواعد مبثوثة منتشرة في الكتب الكلامیّة والأبواب الفقهية بالعبارة التقلیدیّة، إلّاأنّها لم تُصبّ في قوالب واُطر یضبطها الباحث كمیزان في ظلّ هذه المطارحات الساخنة الراهنة في الساحة الفكریّة والسیاسيّة والاجتماعيّة.
وقد قام بتحریرها ونضدها اللوذعيّ الأریب، الفاضل الشیخ علي حمود العبادي أدام اللّه تأییده، وكانت رغبتي في مواصلة البحث بتوسّع، إلّاأنّ إلحاح بعض الإخوة بتقدیمه
ص: 5
للنشر كعیّنة انطلاق لمواصلة الدراسة في هذا الباب.
قم-عشّ آل محمّد (عَلَيهِم السَّلَامُ)
محمّد السند
25 ذی القعدة الحرام 1428ه_.ق
ص: 6
الحمد للّه ربّ العالمین،
والصلاة والسلام علی سیّد الأنبیاء والمرسلین محمّد وآله الطاهرین
من الواضح أنّ مسألة الوحدة الإسلاميّة، وبالأحری مسألة التعایش المذهبي بین المسلمین، تعدّ أمل وطموح كلّ مسلم یرید الخیر والصلاح لأبنائها؛ إذ أنّ الفرقة والعداوة والبغضاء هي عمل الشیطان، المتمثّل في بؤر العداء ذات النزعة الاستعماریّة، التي تسعی إلی إثارة الفتن والتناحر بین أبناء الاُمّة الإسلاميّة، من خلال إطلاق العنان للنعرات الطائفیّة، كلّ ذلك لأجل تحقیق مآربهم ومصالحهم علی ضوء المقولة المعروفة: «فرّق تسد».
ومن هنا نجد النصوص القرآنیّة طافحة في التأكید علی ضرورة التآلف والتآخي بین المسلمین، محذّرة في الوقت ذاته من الفرقة والاختلاف، كما في قوله تعالی: (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (1).
ص: 7
وقوله: «وَ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ» (1).
وقوله: «وَ أَطِیعُوا اللّه وَ رَسُولَهُ وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِیحُكُمْ وَ اصْبِرُوا إِنَّ اللّه مَعَ الصّابِرِینَ» (2).
وفي هذا المسار سارت بیانات الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) وأهل بیته (عَلَيهِم السَّلَامُ) في التأكید علی أهمّیّة وحدة وتلاحم المسلمین وتآلفهم، وهو ما یكشف عنه ذلك الحشد المتنوّع من الروایات الواردة عنهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) التي جاءت مشفوعة بتحدید الآلیّات والإجراءات الكفیلة بضمان الوحدة والتعایش بین المسلمین.
ولم یقتصر الأمر علی ما ورد عنهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) من نصوص روائیّة في هذا الصدد، بل بادروا (عَلَيهِم السَّلَامُ) إلی تجسید ذلك عملیّاً من خلال سیرتهم مع المسلمین، ولعلّ أوّل بادرة في هذا المسار هو ما قام به الرسول الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) من عملیة المؤاخاة بین المهاجرین والأنصار، وذلك منذ اللحظات الاُولی من وصوله إلی المدینة المنوّرة، في خطوة اولی لجعل الإسلام والوحدة محور حركة المسلمین وقوّتهم.
وبهذا استطاع (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) من القضاء علی العصبیّات الجاهلیّة والنزعات المختلفة، التي كادت تمزّق وحدة الصفّ الإسلاميّ آنذاك.
وهكذا الحال بالنسبة إلی سیرة الأئمّة من أهل البیت (عَلَيهِم السَّلَامُ)-كما هو
ص: 8
واضح-كما نلمس ذلك بوضوح في سیرة الإمام أمیر المؤمنین عليّ بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فعلی الرغم من إقصائه من حقّه في الخلافه، إلّاأنّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) وحرصاً منه علی وحدة المسلمین، كان مشیراً ومعلّماً ومدبّراً وناقداً وناصحاً، ولا تأخذه في اللّه لومة لائم.
وتابع هذه المسیرة من بعده أولاده المعصومین (عَلَيهِم السَّلَامُ) من خلال سیرتهم العملیّة في الحفاظ علی وحدة وتلاحم المسلمین، وهي سیرة ملیئة بالشواهد في هذا المجال و التي لا یسع المقام لاستقصائها.
فإنّهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) علی الرغم من قناعتهم بأحقّیّتهم بالخلافة وصواب خطّهم الفكريّ والفقهيّ، وقناعتهم بخطأ غیرهم ممّن لم یهتدوا بهداهم، فعلی الرغم من ذلك فإنّهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) لا یفرضون قناعاتهم علی أحد، وإنّما أخذوا في مخاطبة العقول والتعامل مع الناس علی وفق برنامج حكیم یعتمد المحبّة والبرهان والدلیل والحكمة والموعظة الحسنة، مؤكّدین في الوقت ذاته علی ضرورة وحدة وتلاحم المسلمین.
ومن هنا نجد كثافة النصوص الروائیّة التي سلّطت الضوء علی إعطاء تعریف للإسلام والمسلم، بحیث لا یلغی الآخرین ولا یخرجهم من دائرة الإسلام، ولا یصادر حریّة الأفكار والعقول.
یقول الإمام أبو جعفر محمد بن عليّ الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) موضّحاً معنی الإسلام: «والإسلام ما ظهر من قول أو فعل، وهو الذي علیه جماعة من الناس من الفِرق كلّها، وبه حقنت الدماء، وعلیه جرت المواریث،
ص: 9
وجاز النكاح، واجتمعوا علی الصلاة والزكاة والصوم والحجّ، فخرجوا بذلك عن الكفر، واُضیفوا إلی الإیمان»(1).
ویقول الإمام أبو عبداللّه الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «الإسلام هو الظاهر الذي علیه الناس، شهادة أن لا إله إلّااللّه، وأنّ محمّداً رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ )، وإقامة الصلاة، وإیتاء الزكاة، وحجّ البیت، وصیام شهر رمضان»(2).
وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): «الإسلام شهادة أن لا إله إلّااللّه، والتصدیق برسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ )، وبه حقنت الدماء، وعلیه جرت المناكح والمواریث، وعلیه جماعة الناس»(3).
وهذه الأحادیث الشریفة والمواقف الواضحة من قِبل أهل البیت (عَلَيهِم السَّلَامُ) تكشف بوضوح عن الموقف الحریص لأئمّة أهل البیت (عَلَيهِم السَّلَامُ) علی وحدة المسلمین، واجتماع كلمتهم.
وعلی نفس الخطّ سار مراجع الدین الكبار من أتباع أهل البیت (عَلَيهِم السَّلَامُ) من أجل تحقیق الوحدة والتعایش بین المسلمین.
إلّاأنّ الشیء الذي یسترعی الالتفات هو وجود بعض القواعد المهمّة، سواء في المجال الفقهيّ أم العقائدي، لم یتعرّض لها ولم تؤخذ بنظر الاعتبار، مع أنّ لهذه القواعد دور كبیر في رسم المعالم
ص: 10
المهمّة في منظومة التعایش بین المذاهب الإسلاميّة، بل بین الأدیان جمیعاً.
ومن هذا المنطلق بادر سماحة الاُستاذ المدقّق الشیخ آیة اللّه محمّد السند حفظه اللّه تعالی في محاولة لتقویم هذه المسیرة، فكانت بادرة موفّقة أشار فیها سماحة الشیخ حفظه اللّه تعالی إلی عدد من القواعد المهمّة التي تمثّل القاعدة التحتیّة التي ینهض علیها نظام التعایش والوحدة بین المسلمین، و التي ینبغي مراعاتها وأخذها بعین الاعتبار لكلّ العاملین والمهتمّین والساعین إلی توحید كلمة المسلمین ووحدة صفّهم.علماً أنّ هذه القواعد مبثوثة في ثنایا الكتب الكلامیّة والأبواب الفقهية، إلّاأنّها لم تتقولب ولم تتأطّر بشكل قواعدي.
وقد تنوّعت هذه القواعد إلی قواعد خاصّة بنظام الوحدة، واُخری خاصّة بنظام التقریب، وإلی قواعد تتعلّق بنظام الانسجام والتوافقات.
ومن الجدیر بالذكر أنّ هذا البحث جاء مشفوعاً بإعطاء نقدٍ تحلیليٍّ والكشف عن بعض الأخطاء ونقاط الضعف التي تعتور هذه المسیرة التي رسم خطوطها العریضة أهل البیت (عَلَيهِم السَّلَامُ).
وممّا ینبغي الإشارة إلیه أنّ هذا البحث كان یمثّل تقریراً لعدد من الأبحاث التي تناولها سماحة الشیخ حفظه اللّه تعالی في هذا المجال، استجابة لدعوات بعض الإخوة المؤمنین الذين التمسوا من سماحته وبإلحاح علی بیان بعض الملاحظات في هذا المجال، وقد قمت-بعونه تعالی وتوفیقه-بتدوینها وترتیبها وإخراجها علی هذا الشكل الماثل بین
ص: 11
یدي القارئ الكریم.
خطّة البحث
انطلقت خطّة البحث بتقسیمه إلی فصول ثلاثة:
تناول الفصل الأوّل التعریف بأقسام الوحدة، وبیان القواعد الخاصّة بنظام الوحدة، والأدلّة علیها.
أمّا الفصل الثاني، فقد اضطلع ببیان نظام التقریب، والحوار والاتّحاد، والتعرّض لأهمّ أهداف التقریب، مع بیان أهمّ القواعد الخاصّة في نظام التقریب.
بینما كرّس الفصل الثالث في البحث عن نظام التنسیق والتوافقات الوقتیّة وغایاته، وامتیازه عن نظام الوحدة ونظام التقریب، مع بیان القواعد الخاصّة به.
وفي الختام أتضرّع إلی اللّه تعالی أن یتقبّل منّي هذا الیسیر، وأن یجعله عملاً صالحاً تقرّ به العیون.
كما أسأله تعالی أن یرفع أجر هذا العمل إلی سیّدنا ومولانا أمیر المؤمنین وسیّد الموحّدین الإمام عليّ بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ).
وآخر دعوانا أنّ الحمد للّه ربّ العالمین
25 ذی القعدة 1428ه_
ص: 12
النظم القرآنیّة في نبذ الفرقة والتنازع.
بادي ذي بدء نقول: إنّ القرآن الكریم طرح ثلاثة نظم تؤمّن في حدّها الأدنی مسألة تجنّب ونبذ الفرقة والتنازع بین المسلمین، بل بین أتباع الدیانات السماویّة، وكذا بین مطلق المذاهب والنِّحل في المجتمعات البشریّة، وهذه الأنظمة هي:
النظام الأوّل: نظام الوحدة.
النظام الثاني: نظام التقریب والحوار والاتّحاد.
النظام الثالث: نظام التنسیق والانسجام والتوافقات.
وسوف نلج في إعطاء لمحة تصوّریّة لكلّ من هذه الأنظمة.
ص: 13
ص: 14
ص: 15
ص: 16
الوحدة: هي الاُصول المشتركة، سواء كانت في المسائل العقدیّة أم في الاُسس التشریعیّة، وقد تعرف بأنّها نظام مبادئ ومنطلقات واُسس.
تقسّم الوحدة إلی عدّة أقسام، منها:
وهي عبارة عن الاُصول المشتركة المتوفّرة بالفعل بین المذاهب الإسلاميّة، أو بین أتباع الدیانات، أو بین المدارس البشریّة.
وهي الوحدة التي یتطلّع إلیها في دائرة أوسع من الاُصول المشتركة.
ص: 17
وهي ما یبحث فیها عن اصول مشتركة في الملّة والنِّحلة الإسلاميّة.
وهي الاُصول المشتركة بین أتباع الدیانات السماویّة.
وهي الاُصول الفطریّة المشتركة بین المدارس البشریّة.
وهي الوحدة التي تنطبق علی نظام التنسیق والانسجام والتوافقات، كما سیأتي.
هنالك عدد من القواعد الأساسیّة المهمّة والمؤثّرة علی صعید نظام الوحدة منها:
ص: 18
من المعلوم أنّ دراسة تاریخ الأدیان والمذاهب وتاریخ رعاتها وحماتها، بات طریقاً فطریّاً؛ لأجل الوقوف علی صحّة وحقّانیّة وسداد ذلك الدین أو المذهب.
ومن هنا نجد أنّ القرآن الكریم یعدّ سیرة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) أحد الدلائل علی صدق وحقّانیّة دعوته، كما في قوله تعالی: «قُلْ لَوْ شاءَ اللّه ما تَلَوْتُهُ عَلَیْكُمْ وَ لا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِیكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ» (1)، حیث یقول النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ )-كما یحكیه القرآن الكریم-إنّي قد عشت معكم هذا العمر الطویل واطّلعتم علی سیرتي، فهل عرفتموني بالكذب یوماً، أم هل ادّعیت یوماً بشیء من نفسي، وهل ما جئت به من كلام معجز هو من نفسي وأنا علی ما تعرفون من الصدق...؟
ص: 19
وهكذا الأمر بالنسبة لرعاة المذاهب الإسلاميّة، سواء العقائديّة أم الفقهية، فانّ دراسة تاریخهم وأحوالهم وسیرتهم تجاه الإسلام والحقّ، تعطي رؤیة واضحة للناقد والباحث تساهم في تحدید موقفه تجاه منهجهم ومدی درجة اعتباره.
وعلی هذا الأساس تتّضح أهمّیّة البحث والتنقیب عن تاریخ صدر الإسلام، وما جری فیه من الأحداث؛لأنّ الجیل الأوّل من الإسلام أصبح كلّ واحد منهم رائداً وقائداً لمناهج وتوجّهات عقائديّة متعدّدة، فلأجل التمییز والوقوف علی أحقّیّة تلك المناهج؛ لا بدّ من دراسة تاریخ ومواقف كلّ واحد من هؤلاء لیتسنّي للمسلم أن یبني عقیدته علی أساس البصیرة والدلائل.
ومن الواضح أنّ منهج البحث والتنقیب في التاریخ منهج فطريّ وتربويّ أكّد علیه القرآن الكریم في مواضع متعدّدة، كما نلمس ذلك فیما یشیر إلیه القرآن الكریم في استعراضه للأحداث التي جرت في صدر الإسلام بشكل مفصّل ودقیق، كما نلاحظ ذلك في حدیثه عن أحوال المسلمین الذين شاركوا في معركة بدر في سورة الأنفال، وفي معركة احُد في سورة آل عمران، وكذلك حدیثه عن أحوال المسلمین في غزوة حنین في سورة البراءة، وفي معركة الخندق في سورة الأحزاب، وغیرها.
فهذا منهج تربويّ یوصي القرآن الكریم به المسلمین؛ لأجل أن
ص: 20
یتقیّدوا بمنهج البحث التاریخي والتنقیب عمّن یؤخذ منه الدین.
وهناك عدد وافر من الروایات النبویّة الشریفة تؤكّد علی هذا المضمون، وترشد إلی ضرورة البحث عن مواقف الأصحاب والتمیز بین المواقف وتمییز من نكص مقابل من ثبت علی الحقّ.
وعلی ضوء هذا، فكیف یتسنّي للباحث عن الحقّ والحقیقة، التعرّف علی حقیقة دینه ومذهبه من دون الوقوف علی تاریخ ذلك الدین أو المذهب ؟ وما هي جذور ومناشئ صیرورته وولادته ؟ وكیف یصدّق ویوثّق حَمَلة التراث ویأمنهم علی دینهم، وهو لا یعرف حالهم ولا سیرتهم ولا مواقفهم ومسالكهم ؟
فقد ورد عن الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) أنّه قال: «من أحبّ عمل قوم اشرك معهم، ومن أحبّ حجراً حُشر معه»(1)، وقد وردت هذه الروایات بألفاظ متعدّدة وبطرق مستفیضة في مصادر الفریقین.
وإطلاق الحدیث الشریف في قوله: «مَن أحبّ عمل قوم...» شامل لكلّ قوم وإن لم یكونوا من المعاصرین لذلك العمل أو الفعل
ص: 21
الذي قام به جماعة أو فرد، ویمتدّ هذا الشمول إلی أعماق التاریخ منذ صدر البشریّة، بل یتّسع لما سیأتي من امم وأقوام لاحقة أنبأ القرأن الكریم عن أحوالهم.
وهذه قاعدة مهمّة وشریفة تؤكّد علی أنّ الإنسان مسؤول عن میوله النفسیّة وهواه وموقفه الفكريّ والثقافي تجاه الاُمم السابقة واللاحقة، وأنّ تضامنه معه، أو قطیعته لهم، هو فعل من أفعاله وأعماله التي تقع في دائرة مسؤولیّته.
فالتضامن هو الالتقاء في الموقف.
وهو خلاف القطیعة، فإنّها تمثّل جانب التباین في الموقف.
وهذا هو معنی التولّي والتبرّي أو الولاء والبراءة، الذي یمثّل عنصراً تربویّاً بالغ الأهمیّة والتأثیر في النفس الإنسانيّة تجاه الفئات والنماذج البشریّة المختلفة، سواء كانت في الماضي أو الحاضر أو المستقبل.
إذن جانب المحبّة یضفي بتأثیره علی الإنسان وعلی صیاغة فكره ومنهجه وسیرته؛لأنّه یعتمد علی نهج وفكر من والاه وأحبّه ومال إلیه.
ومن هنا یتّضح أنّ باب المحبّة، باب بالغ الأهمیّة، لأنّه یفتح للإنسان من صحائف الأعمال ما یتجاوز حدود عمره القصیر إلی
ص: 22
مساحات زمنیّة شاسعة، ولذا یثاب بثوابهم.
إذن فلسفة بقاء المناهج والأفكار الماضیة قائمة علی أساس المحبّة والولاء.
فالقاعدة الشریفة التي أكّدتها الروایات المتظافرة، فیها بشارة من جهة، وإنذار وتحذیر من جهة اخری. فهي بشارة وحثّ علی محبّة الصالحین، وتحذیر وإنذار من محبّة الطالحین والضالّین.
وهذا المنهج القرآنی لا یرمي إلی التربیة علی الأحقاد والكراهیة، ولا یهدف إلی إشعال ضغینة أو سخیمة، بل فلسفته هي أن یتربّي الإنسان علی كیفیّة التمییز بین الموقف الصحیح؛لیتبنّاه، وبین الموقف الفاسد لینبذه، من خلال اطّلاعه علی التاریخ.
وعلی هذا الضوء تتّضح ضرورة البحث والتنقیب عن التاریخ الإسلاميّ، لیتبیّن للمسلم مواقف وأعمال الأقوام والجماعات، لكي یتحمّل مسؤولیّة موقفه إزاء هؤلاء، من محبّة وتضامن، وولاء أو كراهة، وقطیعة أو براءة.
وقد ورد عن أمیر المؤمنین (عَلَيهِ السَّلَامُ) في تفسیر قوله تعالی: «فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِینَ» (1)قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): «إنّما یجمع الناس الرضا والسخط، وإنّما عقر ناقة ثمود رجل واحد، فعمّم اللّه بالعذاب لما عمّوه بالرضا،
ص: 23
فقال سبحانه: «فَأَصْبَحُوا نَادِمِینَ»...»(1).
وعن سماعة، قال: «سمعت أبا عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) یقول في قول اللّه: «قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِی بِالْبَیِّناتِ وَ بِ الذي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِینَ» (2).
قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): وقد علم أنّ هؤلاء لم یقتلوا، ولكن كان هواهم مع الذين قتلوا، فسمّاهم اللّه قاتلین لمتابعة هواهم ورضاهم لذلك الفعل»(3).
من الواضح أنّ المرتبة الاُولی من قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي المیل والمحبّة للمعروف وإنكار المنكر في وعاء القلب.
وعلی ضوء هذا تتّضح أهمّیّة وضرورة البحث في التاریخ الإسلامي، وذلك أنّ المسلم-لكي یتّخذ موقفاً من المعروف والمنكر-لا بدّ أن یطّلع علی العمل، فإن كان عدلاً، فهو معروف یجب علی كلّ إنسان-بحسب قاعدة الأمر بالمعروف-أن یحبّه بقلبه ویأمر الآخرین بالأخذ به، وما كان ظلماً وجوراً یجب علی
ص: 24
الإنسان إنكاره قلباً وینهی عن الإتیان بمثله.
وبعبارة اخری: أنّ قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لها مراتب متعدّدة، ابتداءً من مرتبة القلب، ثمّ مرتبة اللسان، ثمّ مرتبة الید.
ومن الواضح أنّ مرتبة القلب لا تختصّ بأعمال وأفعال الأحیاء، وإنّما تعمّ كلّ مساحات التاریخ، وتشمل امتدادات المستقبل، وهذا من بدائع التشریع الإسلامي؛لأنّ الإنسان في مرتبة روحه وقلبه یشرف علی الدهور والأزمنة الغابرة واللاحقة.
وعلی هذا الأساس، ینبغي تمییز المعروف والمنكر في المواقف والأعمال في صدر الإسلام؛ لكي یقوم المسلم بأداء وظیفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي هي من أعظم فرائض اللّه تعالی حیث تقام بها بقیّة الفرائض.
من الذرائع التي تمسّك بها مانعو البحث في التاریخ الإسلامي هو قوله تعالی: «تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمّا كانُوا یَعْمَلُونَ» (1).
ص: 25
وقوله تعالی: «وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْری ثُمَّ إِلی رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَیُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِیهِ تَخْتَلِفُونَ» (1).
بتقریب: أنّ الآیات القرآنیّة ظاهرة في المنع عن البحث في تاریخ الاُمم السالفة، وما جری فیها من أحداث؛لأنّها قد خلت وانقضت ومضت، وهم یتحمّلون وزر أعمالهم وأفعالهم، ولا یتحمّل من یأتي بعدهم مسؤولیّة ما كانوا یعملون؛لأنّ اللّه تعالی هو الذي یقضي بینهم ویحكم علی ما فعلوه، فلا نحاسب نحن علی أعمالهم، ولسنا مطالبین بتقییمها، ولا بتعیین الصائب منها من الخاطئ، ولا الحقّ من الباطل.
ومن هنا فالآیة توجب غلق باب البحث والتنقیب عمّا حصل في التاریخ الإسلامي، وما قام به من كان یعیش في تلك الحقب الزمنیّة، وغیر ذلك من المبرّرات لمنع دراسة التاریخ.
إنّ التأمّل في الآیة الكریمة یكشف عن أنّها تدلّ علی عكس ما استدلّوا به وما استظهروه منها؛لأنّ هذه الآیات القرآنیّة في صدد إبطال التبعیّة والتقلید للاُمم السالفة من دون فحص وتحقیق، وهذا ما یكشف عنه سیاق الآیات السابقة لها، حیث كانت في بیان جدال
ص: 26
أهل الكتاب مع النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) والمسلمین وإصرارهم علی شریعتهم وما علیه أسلافهم واُممهم السابقة.
وكان الجواب القرآنيّ لدحضهم وإبطال مدّعاهم هو التندید بتقلیدهم لأسلافهم من الاُمم السابقة التي تابعوها من دون فحص وتنقیب.
فالإنسان مطالب بالبحث عن الحجّة والتنقیب عن الأدلّة، ولا یسوغ له الاعتماد علی منهاج أسلافه من دون دلیل وحجّة؛ لأنّ ذلك لا ینفعه بل یضرّه فیما إذا خالف أمر اللّه تعالی.
فالآیة تشیر إلی أنّ الأجیال اللاحقة ممّن كانوا في عهد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ )، یحرم علیهم متابعة من سلف من آباء أهل الكتاب ممّن كان علی ملّة الیهودیّة والنصرانیّة من دون فحص وتدبّر.
وعلی ضوء هذا یتّضح أنّ الآیة المباركة ظاهرة في ضرورة التمحیص والتنقیب والوقوف علی اصول المعرفة الحقّة.
إذن فالآیة المباركة في مقام نبذ التقلید، ولزوم التحرّي والفحص، فلا یحتجّ بالاُمّة التي قد خلت، بل یحتجّ بالدلیل.
وعلی هذا الأساس یتّضح بطلان ما ذهب إلیه البعض من دلالة الآیة علی المنع من البحث في التاریخ.
ومن هنا یظهر البون الواسع بین المعنی الواقعيّ والحقیقيّ الذي
ص: 27
ترمي إلیه الآیة المباركة، وبین المعنی المحرّف الذي ذهب إلیه مانعو البحث عن التاریخ.
أمّا قوله تعالی: «وَ لا تُسْئَلُونَ عَمّا كانُوا یَعْمَلُونَ» فهو في صدد بیان ضرورة ووجوب العمل علی أساس الحجّة والدلیل والبرهان الذي قام لدیه.
أمّا الحجّة والدلیل الذي اعتمده أسلافكم، وعملوا علی أساسه، فأنتم لستم في معرض التساؤل والمساءلة عنه، بل أنتم مسؤولون عن الدلیل والحجّة والبرهان الذي تقدّموه أنتم لا دلیل أسلافكم، ولا تُعذرون بالتقلید والاتّباع.
هناك جملة من التداعیات والآثار السلبیّة لمقولة المنع عن البحث في التاریخ، التي ترسم للاُمم السابقة حصانة عن النقد والفحص والتفتیش والمحاسبة، وتوجب وصف ونعت وتلمیع السابقین بالنعوت الجمیلة، وإضفاء الحجّیّة لهم من دون سبر وغور في الأدلّة، وهذا ینافي الأدلّة السابقة، مضافاً إلی منافاته لضرورة العقل القاضي بنبذ التقلید الأعمی.
ومن هنا نجد أنّ دیدن القرآن الكریم علی استعراض أحوال الاُمم السابقة، الصالحة والطالحة، وما جری من شؤونهم واختلافهم
ص: 28
واختلافهم.
منذ عهد آدم، وما جری بین هابیل وقابیل، وما فعله الفراعنة وأصحاب الاُخدود، قوم عاد وثمود، ونحوهم من الاُمم، حیث استقصی القرآن الكریم صفائح وسجلّات أعمالهم وأفعالهم؛كلّ ذلك لأجل أن یكون عبرة للأجیال اللاحقة، حتّی لا یقعوا مواقع الظالمین وأهل القبائح، وكذلك لأجل التأسّي بأهل الحقّ والصلاح؛ لذا قال تعالی:«لَقَدْ كانَ في قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِیثاً یُفْتَري» (1).
وقوله تعالی: «تِلْكَ الْقُری نَقُصُّ عَلَیْكَ مِنْ أَنْبائِها» (2).
وقوله تعالی: «فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ یَتَفَكَّرُونَ» (3).
ص: 29
وحاصل هذه القاعدة هو أنّ كلّ من تشهّد الشهادتین، كان مسلماً وحقن دمه وعرضه وماله.
هناك عدد من الأدلّة القرآنیّة والروائیّة تدلّ علی أنّ مَن تشهّد الشهادتین فقد حقن دمه وعِرضه وماله، ومن هذه الأدلّة:
الدلیل الأوّل: قوله تعالی:«قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمّا یَدْخُلِ الْإِیمانُ في قُلُوبِكُمْ وَ إِنْ تُطِیعُوا اللّه وَ رَسُولَهُ لا یَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَیْئاً إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِیمٌ» (1).
وهي واضحة الدلالة علی أنّ الإسلام عبارة عن الإقرار بالشهادتین، وبها تحقن الدماء والأعراض والأموال.
من الواضح أنّ الإسلام یختلف عن الإیمان، إذ الإیمان عبارة عن الیقین الثابت في قلوب المؤمنین، المقارن للإقرار اللّسانيّ بالشهادتین، وبذلك یتّضح أنّ الإیمان أعلی مرتبة من الإسلام.
ص: 30
فقد روی الكلیني عن القاسم الصیرفي، قال.«سمعت أبا عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) یقول.الإسلام یحقن به الدم، وتؤدّي به الأمانة، وتستعمل به الفروج والثواب علی الإیمان»(1).
وروی سماعة، قال: قلت لأبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ). أخبرنی عن الإسلام والإیمان أهما مختلفان ؟
فقال: «إنّ الإیمان یشارك الإسلام، والإسلام لا یشارك الإیمان.
فقلت: فصفهما لي.
فقال: الإسلام شهادة أن لا إله إلّااللّه، والتصدیق برسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ )، وبه حقنت الدماء، وعلیه جرت المناكح والمواریث، وعلی ظاهره جماعة الناس.
والإیمان: الهدي وما یثبت في القلوب من صفة الإسلام، وما ظهر من العمل به، والإیمان أرفع من الإسلام درجة. إنّ الإیمان یشارك الإسلام في الظاهر، والإسلام لا یشارك الإیمان في الباطن وإن اجتمعا في القول والصفة»(2).
وقال الفیض الكاشاني في تفسیر الصافي: «الإیمان تصدیق مع ثقة وطمأنینة قلب، ولم یحصل لكم، «وَلَكِن قُولُوا أَسلَمنا،
ص: 31
فإنّ الإسلام انقیاد، ودخول في السلم، وإظهار الشهادة، وترك المحاربة یشعر به»(1).
قال الزمخشريّ-في تفسیر الآیة المباركة آنفة الذكر -:
«الإیمان: هو التصدیق مع الثقة وطمأنینة النفس، والإسلام: الدخول في السلم، والخروج من أن یكون حرباً للمؤمنین بإظهار الشهادتین، ألا تری إلی قوله تعالی: «وَ لَمّا یَدْخُلِ الْإِیمانُ في قُلُوبِكُمْ» ، فاعلم أنّ ما یكون من الإقرار باللسان من غیر مواطأة القلب فهو إسلام، وما واطأ فیه القلب اللسان فهو إیمان»(2).
وقال القرطبي في تفسیره: «وحقیقة الإیمان التصدیق بالقلب، وأمّا الإسلام فقبول ما أتی به النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) في الظاهر، وذلك یحقن الدم»(3).
وبنفس المضمون ما ورد في (إرشاد الساري) للقسطلاني و (صفوة التفاسیر) للصابوني(4).
وقال ابن كثیر في تفسیره: «وقد استفید من هذه الآیة الكریمة:
ص: 32
أنّ الإیمان أخصّ من الإسلام، كما هو مذهب أهل السنّة والجماعة - إلی أن قال:- فدلّ هذا علی أنّ هؤلاء الأعراب المذكورین في هذه الآیة لیسوا بمنافقین؛وإنّما هم مسلمون لم یستحكم الإیمان في قلوبهم، فادّعوا لأنفسهم مقاماً أعلی ممّا وصلوا إلیه، فاُدِّبوا في ذلك».
ثمّ قال: «ولو كانوا منافقین لعنّفوا وفضحوا، كما ذُكر المنافقون في سورة براءة؛وإنّما قیل لهؤلاء تأدیباً: «قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمّا یَدْخُلِ الْإِیمانُ في قُلُوبِكُمْ»، أي:لم تصلوا إلی حقیقة الإیمان بعد»(1).
وقال الطبري في تفسیره لقوله تعالی: «قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا...» :«أسلمنا: بمعنی دخلنا في الملّة والأموال والشهادة الحقّ»(2).
وقال البیضاوي في تفسیره: «إنّ الإسلام انقیاد ودخول في السلم، وإظهار الشهادتین، وترك المحاربة»(3).
قوله تعالی:«وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقی إِلَیْكُمُ السَّلامَ
ص: 33
لَسْتَ مُؤْمِناً» (1)، حیث نزلت هذه الآیة المباركة-باتّفاق المسلمین-في رجل من الكفّار أظهر الإسلام عندما غشیتهم خیول المسلمین فقتلوه.
و الذي یستفاد من الآیة المباركة أنّ من أظهر الإسلام، یحقن دمه ویكون مسلماً لا یجوز قتله، وإن لم یعلم منه الإیمان القلبيّ، فإنّ اللّه تعالی هو الذي یتولّي السرائر، فلا یجوز أن یقتل بحجّة أنّه لیس مؤمناً، أو لا یعلم الإیمان من ظاهره.
ولذا قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) لقاتله-حینما اعتذر بأنّه نطق بالشهادتین خوفاً من السلاح -: «أفلا شققت عن قلبه»(2)، أي لا یلزم من دخوله الإسلام لیحقن الدم والمال أن یكون مؤمناً، بل بمجرّد تشهّده بالشهادتین.
هناك عدد وافر من روایات الفریقین تدلّ علی هذه القاعدة، ومن هذه الروایات:
صحیحة حمران بن أعین، عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال: «الإسلام
ص: 34
ما ظهر من قول أو فعل، وهو الذي علیه جماعة الناس من الفرق كلّها، وبه حقنت الدماء، وعلیه جرت المواریث، وجاز النكاح»(1).
2-روایة سفیان بن السمط، عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال: «الإسلام هو الظاهر الذي علیه الناس، شهادة أن لا إله إلّااللّه، وأنّ محمّداً رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ )، وإقام الصلاة، وأداء الزكاة، وحجّ البیت، وصیام شهر رمضان، ...»(2).
3-عن سماعة، عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال: «الإسلام شهادة أن لا إله إلّا اللّه، والتصدیق برسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ )، به حقنت الدماء، وعلیه جرت المناكح والمواریث، وعلی ظاهره جماعة من الناس»(3).
4-ما روی عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، حیث قال: «قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ):أیّها الناس، إنّي امرت أن اقاتلكم حتّی تشهدوا أن لا إله إلّااللّه، وأنّي محمّد رسول اللّه، فإذا فعلتم ذلك حقنتم أموالكم ودماءكم إلّا بحقّها، وكان حسابكم علی اللّه»(4).
5-عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال-فی جوابه لشخص سأله عن الإیمان-:
ص: 35
«الإیمان ما كان في القلب، والإسلام ما كان علیه المناكح والمواریث، وتحقن به الدماء، والإیمان یشرك الإسلام، والإسلام لا یشرك الإیمان»(1).
6-عن أمیر المؤمنین عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال:«مَن استقبل قبلتنا، وأحلّ ذبیحتنا، وآمن بنبیّنا، وشهد شهادتنا، دخل في دیننا، أجرینا علیه حكم القرآن وحدود الإسلام...»(2).
ونحوها من الروایات(3).
1- أخرج مسلم في صحیحه عن أبي شیبة، قال: «بعثنا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) في سریّة فصبّحنا الحرقات من جهینة، فأدركت رجلاً فقال:
لا إله إلّااللّه، فطعنته، فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ )، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ).أقال لا إله إلّااللّه وقتلته؟
قال:قلت: یا رسول اللّه، إنّما قالها خوفاً من السلاح.
قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ): أفلا شققت عن قلبه حتّی تعلم أقالها أم لا، فما زال یكرّرها حتّی تمنّیت أنّی أسلمت یومئذٍ.
ص: 36
قال: فقال سعد: وأنا واللّه لا أقتل مسلماً حتّی یقتله ذو البطین - یعني اسامة -.
قال: قال رجل: ألم یقل اللّه: «وَ قاتِلُوهُمْ حَتّی لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ یَكُونَ الدِّینُ كُلُّهُ لِلّهِ» (1).
فقال سعد: قد قاتلنا حتّی لا تكون فتنة، وأنت وأصحابك تریدون أن تقاتلوا حتّی تكون فتنة»(2).
2-كذلك أخرج مسلم في صحیحه عن المقداد بن الأسود، أنّه أخبره أنّه قال: یا رسول اللّه، أرأیت إن لقیت رجلاً من الكفّار فقاتلني فضرب إحدی یديّ بالسیف فقطعها، ثمّ لاذ منّي بشجرة فقال: أسلمت للّه، أفاُقتله یا رسول اللّه بعد أن قالها ؟
قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ): لا تقتله.
قال:فقلت: یا رسول اللّه، إنّه قد قطع یدي ثمّ قال بعد أن قطعها ! أفأقتله ؟
قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ): لا تقتله، فإن قتلته فإنّه بمنزلتك قبل أن تقتله، وأنت بمنزلته قبل أن یقول كلمته التي قال»(3).
ص: 37
3-أخرج البخاري في صحیحه عن أنس بن مالك، قال: «قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ): اُمرت أن اقاتل الناس حتّی یقولوا: لا إله إلّااللّه، فإذا قالوها وصلّوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا وذبحوا ذبیحتنا، فقد حرمت علینا دماؤهم وأموالهم إلّابحقّها، وحسابهم علی اللّه»(1).
وفي لفظ آخر: «قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ).اُمرت أن اقاتل الناس حتّی یقولوا: لا إله إلّااللّه، فمن قال لا إله إلّا اللّه فقد عصم منّي نفسه وماله إلّا بحقّه، وحسابه علی اللّه»(2).
ونحو ذلك من الروایات التي وردت بهذا المضمون التي تدلّ علی أنّ مجرّد الإقرار بالشهادتین یدخل قائلها الإسلام، ویحقن دمه وماله(3).
ویستفاد من ذلك.أنّ تحقّق الإسلام یتوقّف علی الإقرار بالشهادتین وإن كان إقراراً صوریّاً، ولم یكن معتقداً به حقیقة وقلباً.
وهذه الروایات واضحة الدلالة علی أنّ ملاك صدق الإسلام هو الشهادتین، التي بها تحقن الدماء والأعراض والأموال.
ص: 38
فهناك الكثیر من موارد سیرة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) تكشف بوضوح هذه الحقیقة، وهي أنّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) كان یتعامل مع كلّ مَن تشهّد الشهادتین معاملة المسلم، وإن لم یدخل الإیمان في قلبه، بل وإن كان (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) عالماً بعدم كونهم جمیعاً معتقدین بالإسلام حقیقة، كما في الآیات الكثیرة النازلة في المنافقین، كما في سورة المنافقین وسورة البراءة والبقرة، وغیرها من السورء، ومع ذلك فكان النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) والقرآن یتعامل معهم معاملة بقیّة المسلمین في حقن دمهم وأموالهم وغیرها من أحكام ظاهر الإسلام، وكذلك قوله تعالی: «قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا...» (1).
حیث أنكر اللّه تعالی علی الأعراب دعواهم الإیمان القلبيّ مع إقرارهم بالشهادتین، ولكن مع ذلك كان النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) یعاملهم معاملة المسلمین لإظهارهم الشهادتین.
ومن هذه الموارد:
1-ما أخرجه ابن شهرآشوب في مناقبه: عن ابن عبّاس، في قوله تعالی: «وَ یَوْمَ یَعَضُّ الظّالِمُ» (2): «نزلت في ابن أبي معیط
ص: 39
واُبيّ بن خلف، وكانا توأمین في الخلّة، فقدم عقبة من سفره وأولم جماعة الأشراف، وفیهم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ )، فقال النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ): لا آكل طعامك حتّی تقول. لا إله إلّااللّه، وأنّي رسول اللّه، فتشهّد الشهادتین، فأكل طعامه»(1).
ومحلّ الشاهد في هذه الروایة أنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) حكم بإسلام الرجل، وعامله معاملة المسلمین من الطهارة ونحوها بمجرّد إظهار الشهادتین، ولذا شرط الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) علی الرجل بأنّه لا یأكل معه إلّا بعد التشهّد بالشهادتین، فرتّب (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) أحكام الإسلام علی الشهادتین فقط.
2-عن النعمان بن سالم: «إنّ عمرو بن أوس أخبره أنّ أباه أوساً قال: إنّا لقعود عند النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) وهو یقصّ علینا ویذكّرنا، إذ أتاه رجل فسارّه، فقال النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ): اذهبوا فاقتلوه.
فلمّا ولّی الرجل دعاه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) فقال: هل تشهد أن لا إله إلّا اللّه ؟
قال: نعم.
قال: اذهبوا فخلّوا سبیله، فإنّما امرت أن اقاتل الناس حتّی یقولوا:
ص: 40
لا إله إلّااللّه، فإذا فعلوا ذلك حرم علَيَّ دماؤهم وأموالهم»(1).
3-ما تقدّم في صحیح البخاری من قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ):إنّ صیانة الدماء والأموال ونحوها من الآثار، مترتّبة علی إظهار الشهادتین، ولا یشترط في ترتیب هذه الآثار الاعتقاد بالإسلام قلباً وحقیقة.
نعم، یشترط في الإیمان، العقد القلبيّ، كما تقدّم.
إلی غیر ذلك من الشواهد علی السیرة المباركة للنبيّ الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ).
بعد أن تبیّن أنّ الدخول في الإسلام یتحقّق بالإقرار بالشهادتین، ینبغي بیان ما یوجب الخروج عن الإسلام.
ویتحقّق الخروج عن الإسلام بأحد الاُمور التالیة:
1-إنكار أحد اصول الإسلام الأساسیّة، كالتوحید والنبوّة والمعاد، سواء كان إنكاره عن عمد أم جهل.
وأجمع المسلمون علی الحكم بكفر من أنكر هذه الاُصول الثلاثة، وقد دلّت علی ذلك جملة وافرة من الآیات المباركة.
أمّا بالنسبة إلی التوحید، فكقوله تعالی:«لَقَدْ كَفَرَ الذينَ قالُوا إِنَّ
ص: 41
اللّه ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلاّ إِلهٌ واحِدٌ وَ إِنْ لَمْ یَنْتَهُوا عَمّا یَقُولُونَ لَیَمَسَّنَّ الذينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِیمٌ» (1).
وأمّا بالنسبة إلی أصل النبوّة، فكقوله تعالی: «وَ إِنْ كُنْتُمْ في رَیْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلی عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّه إِنْ كُنْتُمْ صادِقِینَ*فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النّارَ التي وَقُودُهَا النّاسُ وَ الْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِینَ» (2).
وأمّا بالنسبة إلی أصل المعاد، فكقوله تعالی: «وَ الذينَ كَفَرُوا بِآیاتِ اللّه وَ لِقائِهِ أُولئِكَ یَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِیمٌ» (3).
2-إنكار ضروريّ من ضروريّات الإسلام، فیما إذا استلزم ذلك الإنكار، تكذیب النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) وإنكار رسالته.
والمقصود من الضروريّ في المقام.هو ما علم من الدین بالضرورة، بمعنی أنّ المسلم یعلم به بالبداهة لكونه مسلماً، ولا یحتاج إلی دلیل، كوجوب الصلاة والصوم والحجّ والزكاة، ونحوها.
ص: 42
وعلی هذا الأساس، فلو أنكر واحدة من ضروريّات الدین مع العلم بكون حكمها ضروريّاً في الشریعة المقدّسة، وأنّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) أتی بها، حینئذٍ یكون إنكاره موجباً للارتداد والكفر، والخروج عن الإسلام، وهو في الحقیقة تكذیب للنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) وإنكار لرسالته، وهذا بخلاف ما إذا لم یستلزم إنكاره للضروريّ تكذیباً للنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ )، أو إنكاراً لرسالته الخاتمة، كما إذا أنكر ضروريّاً باعتقاد عدم ثبوته في الشریعة الإسلاميّة، وأنّه لم یأت به النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ )، فإنّ إنكاره هذا لا یرجع إلی تكذیب النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) أو إنكار رسالته، ولا یكون كفراً عند المتأخّرین من كلمات علماء جملة وافرة من المذاهب الإسلاميّة.
فعلی سبیل المثال:لو كان أحد في أوّل إسلامه، وسئل عن الربا، فأنكر حرمته باعتقاد حلّیّته، فإنّه لا یكون إنكاره موجباً لكفره وارتداده، وإن كانت حرمة الربا من ضروريّات الدین لعدم استلزام إنكاره تكذیب النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) أو إنكار رسالته.
وقد تقرّرت قاعدة حرمة المسلم دمه وعرضه وماله المنصوص علیها بألسنة متعدّدة، منها:
1-عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ )، قال: «المسلم أخو المسلم، لا یحلّ دمه ولا ماله إلّامن طیبة نفسه»(1).
ص: 43
2-عن زید الشحّام، عن أبي عبداللّه الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال:«قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ): لا یحلّ دم امرئ مسلم ولا ماله إلّابطیب نفسه»(1).
3-عن أبي هریرة، عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ )، قال: «كلّ المسلم علی المسلم حرام، دمه وماله وعِرضه»(2).
ونحوها من الروایات التي بلغت حدّ التواتر، وهي واضحة الدلالة علی وجوب احترام دم المسلم وعِرضه وماله.
ومن مجموع هذه الروایات یتّضح.
أنّ أدلّة حقن الدماء بالشهادتین قطعيّ لا ظنّي، ومن ثمّ فإنّ رفع الید عن هذا الدلیل القطعي لا بدّ أن یكون بدلیل قطعيّ، فلا یسوغ رفع الید عنها بدلیل ظنّيّ، ولا یسوغ التكفیر واستباحة الدماء لكلّ من تشهّد الشهادتین، بالاعتماد علی دلیل ظنّيّ؛وذلك لما هو مقرّر في قواعد المنهج الفقهي الذي یبحث في اصول فقه الأحكام أنّ العموم القطعي ذي الحكم الخطیر آبّ عن التخصیص بالدلیل الظنّي.
وبعبارة اخری" إنّ عموم الحكم بدخول الإسلام لكلّ من اعتنق الشهادتین، هذا العموم لم یقرّر بدلالة ظنّيّة بل بدلالة قطعيّة،
ص: 44
فالحكم قطعيّ.
مضافاً إلی أنّ ملاك الحكم والمصلحة والمفسدة المترتّبة علیه هي من الخطورة بمكان، والقاعدة تقتضي في مثل ذلك قوّة الدلیل الدالّ علی الحكم، وهذه القاعدة أساسیّة مطّردة في نظام معرفة الأحكام الشرعیّة، أي أنّ قوّة الدلیل لا بدّ أن تتناسب مع أهمّیّة الحكم، فلا یمكن أن ینصب الشارع دلیلاً متوسّطاً-فضلاً عن دونه - علی حكم خطیر مهمّ، بل لا بدّ من توفّر الداعي لنصب وبیان أدلّة قویّة توازي قوّة وأهمیّة الحكم.
والوجه في اعتماد هذه القاعدة هو أنّ أهمّیّة الحكم لا بدّ أن تتناسب طردیّاً مع درجة قوّة الدلیل الذي سیق علیه؛للتناسب الطرديّ في الأهمیّة ودرجة خطورته.
ومن ثمّ كانت الأدلّة المقامة تكویناً وشرعاً علی اصول الدین، أكثر قوّة وبیاناً ودلالة من الأدلّة التي تقام علی الفروع، وكذلك أدلّة الأركان في الدین بالقیاس إلی أدلّة التفاصیل.
وعلی هذا الأساس، فإنّ عدم مراعاة هذه القاعدة في منهاج وطریق معرفة الأحكام یؤدّي إلی الهرج والمرج في الاستنتاج، وفي المعرفة الدینيّة، وفي طریقة التفكیر، ومن ثمّ یتسبّب في الجرأة والاجتراء علی التكفیر واستباحة الدماء والتجاوز علی حرمات
ص: 45
ومقدّسات الدین لمجرّد استدلال واستظهار ظنّيّ، ومن ثمّ حكم الفقهاء تبعاً للروایات أنّ الحدود تدرأ بالشبهات وذلك لخطورة حرمة الدماء في المقاصد الشرعیّة، فلا یجترئ علیها بمجرّد إیهام ظنّيّ.
إذن درجة قدسیّة الأحكام إنّما تستعلم بحسب قوّة الدلیل وأهمّیّة غایة التشریع.
ومن ذلك نخلص إلی أنّ المجترئ علی المسلمین بتكفیرهم واستباحة دمائهم تحت ذریعة الغیرة والحمیّة الدینيّة، هو فعل في الطرف النقیض من قوله وادّعائه الغیرة والحمیّة علی الدین؛لأنّه بفعله هذا قد أخذ بمعول هدّام لتقویض الدین والملّة، إذ أنّ مقتضی قدسیّة الشهادتین هو الالتزام الشدید بآثارهما، لا الاستخفاف بمقتضاهما، والتعویل علی أمر ودلیل ظنّيّ وجعله الأساس في الملّة والدین ممّا یعني تغییر الملّة والدین من الشهادتین إلی ذلك الأصل الظنّي، وجعله المحور والمركز بدل الشهادتین، وهذا من لوازم عدم مراعاة القاعدة المنهجیّة السابقة من جعل الظنّي في مصاف درجة القطعي الیقیني، فإنّه یصاعد بالحكم الظنّي إلی مصاف الحكم القطعي الیقیني ممّا یجعله یكتسب آثار الحكم الیقیني من المركزیّة والاُمومة مع أنّ الحكم الظنّي لیس شأنه
ص: 46
إلّا الفرعیّة والتبعیّة. وهذا ممّا یبیّن خطورة تلك القاعدة وأنّها حافظة لمنظومة أحكام الدین عن الانفراط والتبدّل.
ص: 47
وبین سیرة بني امیّة
وتتمحور هذه القاعدة حول ضرورة التمییز بین السیرة في صدر الإسلام وبین سیرة بني امیّة وبني العبّاس الدخیلة علی دین الإسلام، سواء علی الصعید الاعتقاديّ أم علی صعید قواعد الفقه السیاسيّ والاجتماعيّ والقضائيّ، وغیره من المجالات.
والمقصود من السیرة في صدر الإسلام هو سیرة المسلمین قبل وبعد وفاة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) الجیل الأوّل من المهاجرین والأنصار.
فإنّ هناك فرقاً رئیسیّاً في محاور وجوانب متعدّدة، یجب التركیز علیها، وتنبیه عموم المسلمین تجاهها؛لئلّا ینبذوا شعار سیرة الأوائل، وإن كان تلك الشعارات لم تتنجّز علی صعید الواقع بشكل حقیقيّ تامّ، إلّاأنّه علی الرغم من ذلك فهي تختلف وتتاقطع مع سیرة الأمویّین في كثیر من المحاور المتعدّدة.
ص: 48
وبین سیرة بني امیّة
إنّ شعار سیرة الأوائل للخلافة كان اختیار الحاكم إمّا بالنصّ أو بالشوری، وهو یختلف ویتقاطع كثیراً مع سیرة الأمویّین الذين انتهجوا منهج الملكیّة الوراثیّة للحكم، للاستئثار بالسلطة، مضافاً إلی نهج الاستبداد في ممارسة الحكم.
ومع الأسف نجد أنّ سیاسة بني امیّة ونهجهم لا زال موجوداً بعینه وممارساً من قِبل كثیر من أنظمة الدول العربیّة منذ عهد الأمویّین إلی یومنا هذا.
وهذا الأمر یعدّ من الاُمور التي سنّها رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) في عهده، حیث كان (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) یفتح الباب لاعتراض الناس ونقدهم ورقابتهم للولاة الذين ینصّبهم في البلدان، كما یفتح المجال للشكاوي والاعتراضات التي یبدیها عموم الناس تجاه جهاز الحكم.
فعلی الرغم من عصمته (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) عن الخطأ، إلّاأنّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) أراد من سنّته لذلك هو معاونته ومناصرته في مراقبة الجهاز البشری للحكم الذي
ص: 49
یقوده وما یترتّب علیه من فوائد وثمرات مهمّة نافعة للمسلمین، من قبیل تفاعل الناس مع أنشطة الحكومة والحاكم وقیامهم بالمسؤولیّة، وكذا صیرورة عموم الناس عین مراقبة لاستقامة الذين ینتسبون إلی جهاز الحكم، وغیرها من الفوائد.
وهذه السنّة النبویّة مستمدّة من اصول قرآنیّة، كأصل الشوری والتشاور، لإدارة امورهم الخاصّة بهم دون الاُمور التي هي من شؤون الباري تعالی، كالنبوّة والإمامة، كما في قوله تعالی: «وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِیاءُ بَعْضٍ یَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ یَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ یُقِیمُونَ الصَّلاةَ وَ یُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ یُطِیعُونَ اللّه وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ سَیَرْحَمُهُمُ اللّه إِنَّ اللّه عَزِیزٌ حَكِیمٌ» (1)، ونحوها من الآیات التي تشاركها في المضمون ذاته، التي تؤكّد علی أهمّیّة مراقبة الجهاز الحاكم.
وهذا المنهج لم نجده في سیرة بني امیّة وبني العبّاس.
من الواضح أنّ الشریعة الإسلاميّة أكّدت علی عدم جواز طاعة الحاكم الجائر، كما أشارت إلی ذلك جملة من النصوص القرآنیّة
ص: 50
والروائیّة المتظافرة، منها:
قوله تعالی: «وَ لا تَرْكَنُوا إِلَی الذينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ» (1).
وقوله: «وَ تَعاوَنُوا عَلَی الْبِرِّ وَ التَّقْوی وَ لا تَعاوَنُوا عَلَی الْإِثْمِ وَ الْعُدْوان»ِ(2).
وقوله: «وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ یَدْعُونَ إِلَی الْخَیْرِ وَ یَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ» (3).
وعن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ )، قال: «من رأي منكم سلطاناً جائراً، مستحلّاً لحرم اللّه، ناكثاً لعهد اللّه، مخالفاً لسنّة رسول اللّه، یعمل في عباد اللّه بالإثم والعدوان، ثمّ لم یغیّر بقول أو فعل، كان حقیقاً علی اللّه أن یدخله مدخله»(4).
وقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ): «لا طاعة لمخلوق في معصیة الخالق»(5).
وهذه النصوص الشریفة تحدّد ضوابط طاعة وولایة الحاكم والوالي، و التي من أهمّها هو أن لا تتجاوز طاعة اللّه وطاعة رسوله،
ص: 51
بل في الحقیقة یستفاد من النصوص الآنفة الذكر عدم ولایة للجائر، وعدم الطاعة له.
وفي قبال هذا الأصل العظیم من قواعد الدین، أسّس بنو امیّة ما یلغی هذا الأصل، وذهبوا إلی وجوب طاعة السلطان وإن كان جائراً، متذرّعین بحجّة أنّ السلطان ظلّ اللّه في الأرض.
وأنّ طاعة السلطان واجبة، والخروج علیه مروق من الدین ما لم یظهر الكفر البواح (البیّن).
وقد أخرج السیوطي عدداً من روایاتهم في هذا المقام، منها.
1-«السلطان ظلّ اللّه في الأرض، فمن أكرمه أكرمه اللّه، ومن أهانه أهانه اللّه».
2-«السلطان ظلّ اللّه في الأرض، یأوي إلیه كلّ مظلوم من عباده، فإن عدل كان له الأجر وكان علی الرعیّة الشكر، وإن جار أو حاف أو ظلم كان علیه الوزر وكان علی الرعیّة الصبر، وإذا جارت الولاة قحطت السماء، وإذا منعت الزكاة هلكت المواشي، وإذا ظهر الزنا ظهر الفقر والمسكنة».
3-«السلطان ظلّ اللّه في الأرض، یأوي إلیه الضعیف، وبه ینتصر المظلوم، ومن أكرم سلطان اللّه في الدنیا أكرمه اللّه یوم القیامة».
4-«السلطان ظلّ اللّه في الأرض، فإذا دخل أحدكم بلداً لیس به
ص: 52
سلطان فلا یقیمنّ به».
5-«السلطان ظلّ اللّه في الأرض، فمن غشّه ضلّ، ومن نصحه اهتدی».
6-«السلطان ظلّ الرحمن في الأرض، یأوي إلیه كلّ مظلوم من عباده، فإن عدل كان له الأجر وعلی الرعیّة الشكر، وإن جار وحاف وظلم كان علیه الإصر وعلی الرعیّة الصبر».
7-«السلطان العادل المتواضع ظلّ اللّه ورمحه في الأرض، یرفع له عمل سبعین صدّیقاً».
وغیرها من الروایات(1).
وعلی ضوء ذلك قاموا بإلغاء وتحریم ملفّ المعارضة بكلّ درجاتها، وانتهجوا سیاسة الاستبداد، ومن ثمّ عمدوا إلی تثقیف الاُمّة علی الخنوع والخضوع والسبات وعدم المشاركة في تحدید مصیرها.
وقد نجم جرّاء هذه السیاسة أمر خطیر، وهو تجییر وتوظیف علماء الدین كعلماء بلاط السلطة لخدمة سیاساتهم ومصالحهم، بدلاً من أن یكون العلماء حكّاماً علی السلاطین.
ص: 53
ومن ثمّ نتج من ذلك نهجٌ خطیر من تبعیّة بعض من یتسمّون بعلماء الدین، للحكومات والأنظمة، وفقدهم الاستقلالیّة، وهذا أمر خطیر ابتلیت به الاُمّة، بل هو الطامّة الكبری علی الدین؛ لأنّ العلماء بدل أن یقوموا بمهمّتهم الأساسیّة من حفظ الدین، أصبحوا یحفظون الأنظمة والحكومات ویغیّروا من الدین بما یخدم الحكّام والسلاطین الظلمة.
ومن المؤسف جدّاً هو ما نجده في عصرنا الحاضر من تبنّي واتّباع نهج بني امیّة، كما نلمسه من بعض علماء الدین، وتبنّیهم لمشاریع الأنظمة والحكومات في الأقطار الإسلاميّة لأجل تمریر مخطّطاتهم وأغراضهم السیاسيّة.
ومن أهمّ مخاطر هذه السیاسة هو منح علماء الدین في بلاط السلطة، المشروعیّة لتبعیّة الأنظمة الإسلاميّة لأعداء الإسلام في الغرب، ولو علی حساب ثوابت ومصالح الدین الحنیف، وهذا بدوره یشكّل خطراً كبیراً، لأنّه یؤدّي إلی طمس معالم الشریعة والفرائض والواجبات التي یحیی بها الدین.
في الوقت الذي فتح الإسلام المجال للمسلمین للتعاطف والتواصل مع الكافرین الذين لا یتحرّكون بشكل عدوانيّ ضدّ
ص: 54
الإسلام والمسلمین بالقتال أو الفتنة، كما في قوله تعالی: «لا یَنْهاكُمُ اللّه عَنِ الذينَ لَمْ یُقاتِلُوكُمْ في الدِّینِ وَ لَمْ یُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِیارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَیْهِمْ إِنَّ اللّه یُحِبُّ الْمُقْسِطِینَ» (1).
إلّاأنّه من جانب آخر شدّدت الشریعة الإسلاميّة علی عدم موالاة الكافرین الذين یتحرّكون بشكل عدوانيّ علی المسلمین، وقد تظافرت النصوص القرآنیّة والروائیّة علی ذلك، كقوله تعالی:«إِنَّما یَنْهاكُمُ اللّه عَنِ الذينَ قاتَلُوكُمْ في الدِّینِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِیارِكُمْ وَ ظاهَرُوا عَلی إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ یَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ» (2).
وقوله: «لا یَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِینَ أَوْلِیاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِینَ» (3).
وقوله: «یا أَیُّهَا الذينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِینَ أَوْلِیاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِینَ» (4).
وقوله:«یا أَیُّهَا الذينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِیاءَ
ص: 55
تُلْقُونَ إِلَیْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ قَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ» (1).
وهذه النصوص القرآنیّة تبیّن طبیعة علاقة المسلمین مع الكافرین الذين یكیدون ویخطّطون ضدّ الإسلام، فمثل هذا الصنف من الكفّار لا بدّ أن تكون علاقة المسلمین معهم قائمة علی الحذر والیقظة، ولا یجوز التحالف معهم ضدّ المسلمین، كلّ ذلك لأجل عدم الانهزام والاستسلام أمام الأعداء؛إذ أنّ طبیعة الموالاة تقتضی النصرة والمتابعة والمودّة لأعداء الدین، مضافاً إلی ما تحمله في طیّاتها من الذوبان في هویّة الكافرین وثقافتهم علی حساب الثقافة الدینيّة؛لأنّ ذلك یؤدّي إلی إضعاف شعار الدین، وبالتالي یتسبّب في إضعاف ومهانة المسلمین، وسیطرة الكافرین علیهم في كلّ المجالات، وتمزیق الصفّ الإسلاميّ الواحد، كما في قوله تعالی: «إِنَّ اللّه یُحِبُّ الذينَ یُقاتِلُونَ في سَبِیلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْیانٌ مَرْصُوصٌ» (2) التي تؤكّد علی ضرورة ووجوب تراصّ صفوف المسلمین في مواجهة الأعداء كالبنیان المرصوص الذي لا یمكن فیه الانشقاق والفرقة، لا سیّما وأنّ القتال لا ینحصر بالمواجهة العسكریّة، وإنّما هو شامل لكلّ مجالات المواجهة من الثقافیّة
ص: 56
والسیاسيّة والاقتصادیّة، ونحوها.
«وكذلك قوله تعالی:مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّه وَ الذينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَی الْكُفّارِ رُحَماءُ بَیْنَهُمْ» (1) التي تؤكّد علی ضرورة تلاحم المسلمین وصمودهم وثباتهم الجماعيّ في مواجهة الأعداء، وأنّ أساس التعامل بینهم قائم علی أساس التراحم والتعاطف، والاُلفة والمحبّة.
إلّاأنّ بني امیّة وبني العبّاس قد نهجوا منهج الموالاة مع الكافرین ضدّ المسلمین بشكل سافر وواضح في موالاتهم لأعداء الإسلام، بل وصل الحال عند العبّاسيین إلی قیام الخلیفة العبّاسي بإغراء المغول والتتر بالهجوم علی شمال طبرستان (شمال إیران) للإطاحة بالدولة الإسماعیلیّة(2).
وقد أوغل التتر والمغول في سفك دماء المسلمین في كلّ أرجاء مدن إیران، وفي ذلك الوقت قام قاضي القضاة العبّاسي في بغداد بزیارة سرّیّة إلی المغول في إیران لإغرائهم بالهجوم علی بغداد أیضاً.
والشیء المؤسف هو ما نلمسه بوضوح من وجود نهج بني امیّة وبني العبّاس لدی جملة من حكّام المسلمین في عصرنا الراهن
ص: 57
الذين أعلنوا موالاتهم للكافرین ضدّ المسلمین، علی الرغم من تشدید النهي القرآني عن ذلك.
وهذه السیاسة تبنّاها بنو امیّة بشكل ملحوظ وواضح، وهي سیاسة ترمي إلی إشاعة المنكرات والفواحش والفجور بین المسلمین، وبشكل رسميّ معلن، ومدعوم من قِبل السلطات الحاكمة، لأجل تغطیة ممارسة الحكّام لنزواتهم وشهواتهم من دون اعتراض المسلمین، ومن دون أن یخدش ذلك بصلاحیّتهم في الحكم.
وقد أشار إلی هذا النهج، الإمام الحسین وسیّد شباب أهل الجنّة (عَلَيهِ السَّلَامُ) حینما قال: «یزید شارب الخمور، ورأس الفجور، یدّعي الخلافة علی المسلمین، ویتآمر علیهم بغیر رضی منهم، مع قصر حلم، وقلّة علم، لا یعرف من الحقّ موطئ قدمیه، فاُقسم باللّه قسماً مبروراً، لجهاده علی الدین أفضل من جهاد المشركین» (1).
وهذا النهج نجده الیوم بشكل واضح، مكرّس لدی الحكومات في بلاد المسلمین، وهي سیاسة مدروسة من قِبل أعداء الإسلام؛
ص: 58
لأجل تمزیق المسلمین وإبعادهم عن دینهم الذي هو مصدر قوّتهم وعزّتهم، ومن ثمّ یفسح المجال لهم للسیطرة علی مقدّرات البلاد الإسلاميّة.
ص: 59
لقد أضاء القرآن الكریم هذه الحقیقة من خلال قوله تعالی:«قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ في الْقُرْبی» (1) الذي یصرّح بوجوب مودّة أهل البیت (عَلَيهِم السَّلَامُ) الذين هم أصحاب الكساء والتسعة المعصومین من ذرّیّة الحسین (عَلَيهِم السَّلَامُ).
ومن الجدیر بالذكر أنّ مودّة أهل البیت (عَلَيهِم السَّلَامُ) بدیهیّة ومن الضرورات الإسلاميّة، لأنّ القرآن الكریم بكلّ آیاته یعدّ من الضرورات الإسلاميّة.
فعلی أيّ تفسیر من التفاسیر التي ذكرت في تفسیر قوله تعالی: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ في الْقُرْبی»، فإنّ أصحاب الكساء والتسعة المعصومین (عَلَيهِم السَّلَامُ) هم القدر المتیقّن من عنوان القربی للنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ )، فسواء ارید من ذلك بطون قریش أو فخوذ بنی هاشم، إذ أنّ مفاد الآیة یدلّ علی أنّ مناط المودّة هي القربی للنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ).
ومن الواضح أنّ درجة القربی كلّما كانت أوثق وأقرب كلّما كانت
ص: 60
المودّة أشدّ وأوثق، وكان هو القدر المتیقن به من مفاد الآیة، وعلی ذلك یكون أصحاب الكساء هم الدائرة المركزیّة في مفاد الآیة المباركة.
مضافاً إلی أنّ القرآن الكریم قد بیّن مصادیق أهل البیت بشكل واضح، كما في قوله تعالی: «إِنَّما یُرِیدُ اللّه لِیُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَ یُطَهِّرَكُمْ تَطْهِیراً» (1)، ولم یقتصر الدلیل علی مستوی النصوص القرآنیّة فحسب، بل هناك عدد وافر من الروایات الواردة من طرق الفریقین، التي تؤكّد هذا المضمون، كحدیث الثقلین، والسفینة، ونحوهما.
وقد أجمع المفسّرون علی أنّ المقصود من القربی هم أهل البیت (عَلَيهِم السَّلَامُ).
كما صرّح جملة من مفسّري العامّة بأنّ المراد من قربی النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) هم عليّ وفاطمة والحسن والحسین (عَلَيهِم السَّلَامُ).
حیث أخرج الطبراني وغیره في تفسیر هذه الآیة بالإسناد إلی ابن عبّاس، قال:«لمّا نزلت هذه الآیة «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ في الْقُرْبی» قالوا: یا رسول اللّه، مَن قرابتك هؤلاء الذين وجبت علینا مودّتهم ؟
ص: 61
قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ): عليّ وفاطمة وولداهما»(1).
وقال الهیثمي: رواه الطبراني وفیه جماعة ضعفاء، وقد وثّقوا(2).
وأخرج ابن حنبل في (الفضائل): عن ابن عبّاس، قال: «لمّا نزلت «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ في الْقُرْبی» قالوا: یا رسول اللّه، من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علینا مودّتهم ؟
قال: عليّ وفاطمة وابناهما»(3).
وأخرج الطبراني بسنده عن ابن الطفیل: «أنّ الحسن (كرّم اللّه وجهه) قال في خطبته....أنا من أهل البیت الذين افترض اللّه مودّتهم علی كلّ مسلم، فقال لنبیّنا:«قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ في الْقُرْبی وَ مَنْ یَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِیها حُسْناً»، واقتراف الحسنة مودّتنا أهل البیت»(4).
وروی الحدیث، الهیثمي في (مجمع الزوائد)، وعلّق علیه قائلاً: «رواه الطبراني في الأوسط والكبیر باختصار...، وأبو یعلی باختصار، والبزّار وأحمد ونحوه...، وأسناد أحمد وبعض طرق
ص: 62
البزّار والطبراني في الكبیر، حسان»(1).
وأورده ابن حجر الهیتمي في صواعقه، وقال.«وأخرج البزّار والطبراني عن الحسن (رضي اللّه عنه) من طرق بعضها حسن»(2).
وأخرج مسلم في صحیحه عن سعید بن جبیر: أنّه سئل عن قوله:«إِلاَّ الْمَوَدَّةَ في الْقُرْبی»، فقال سعید بن جبیر: قربی آل محمّد (عَلَيهِم السَّلَامُ)(3).
وممّا یشهد علی ذلك، ما أخرجه الحاكم بسنده إلی أبي هریرة، قال: «نظر النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) إلی عليّ وفاطمة والحسن والحسین، فقال: أنا حرب لمن حاربكم، وسلم لمن سالمكم».
قال الحاكم: هذا حدیث حسن، وأقرّه الذهبيّ علی ذلك في التلخیص(4).
وقال الزمخشري: «وروی أنّها لمّا نزلت قیل: یا رسول اللّه، مَن قرابتك هؤلاء الذين وجبت علینا مودّتهم ؟
ص: 63
قال: عليّ وفاطمة وابناهما.
ثمّ قال: ویدلّ علیه ما روی عن عليّ (رضي اللّه عنه): شكوت إلی رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) حسد الناس لي، فقال: أما ترضی أن تكون رابع أربعة.أوّل من یدخل الجنّة أنا وأنت والحسن والحسین، وأزواجنا عن أیماننا وشمائلنا، وذرّیتنا خلف أزواجنا.
وعن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ): حرّمت الجنّة علی من ظلم أهل بیتي وآذاني في عترتي...»(1).
وقال القرطبي: «وقیل: القربی: قرابة الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) أي لا أسألكم أجراً إلّاأن تودّوا قرابتي وأهل بیتي كما أمر بإعظامهم ذوي القربی.
وهذا قول عليّ بن حسین، وعمرو بن شعیب، والسدّي.
وفي روایة سعید بن جبیر، عن ابن عبّاس: لمّا أنزل اللّه عزّ وجلّ: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ في الْقُرْبی» قالوا: یا رسول اللّه، مَن هؤلاء الذين نودّهم ؟
قال: علیّ وفاطمة وأبناؤهما.
ویدلّ علیه أیضاً ما روی عن عليّ (رضی اللّه عنه)، قال.شكوت إلی النبيّ حسد الناس لي، فقال: أما ترضی أن تكون رابع أربعة: أوّل مَن یدخل
ص: 64
الجنّة أنا وأنت والحسن والحسین، وأزواجنا عن أیماننا وشمائلنا، وذرّیّتنا خلف أزواجنا»الخبر(1).
وقد حثّ النبيّ الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) علی حبّهم وجعل محبّتهم دلیلاً علی محبّته (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ).
فقد روی الحاكم بإسناده إلی ابن عبّاس، قال: «قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ).أحبّوا اللّه لما یغدوكم به من نعمه، وأحبّوني لحبّ اللّه، وأحبّوا أهل بیتي لحبّي»(2).
وقال العیني وابن حجر في معنی الحدیث: «أي:إنّما تحبّونهم لأنّي أحببتهم بحبّ اللّه تعالی لهم، وقد یكون أمراً بحبّهم؛لأنّ محبّتهم لهم تصدیق لمحبّتهم للنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )» (3).
وقال القرطبي في معرض حدیثه عن حدیث الثقلین: «وهذه الوصیّة، وهذا التأكید العظیم یقتضی وجوب احترام أهله وإبرارهم، وتوقیرهم ومحبّتهم، وجوب الفروض المؤكّدة التي لا عذر لأحد في التخلّف عنها، هذا مع ما علم من خصوصیّتهم بالنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) وبأنّهم
ص: 65
جزء منه، فإنّهم اصوله التي نشأ منها، وفروعه التي نشأوا عنه كما قال: «فاطمة بضعة منّي»(1).
وقال ابن كثیر في تفسیره: «ولا ننكر الوصایة بأهل البیت، والأمر بالإحسان إلیهم واحترامهم وإكرامهم، فإنّهم من ذرّیّة طاهرة من أشرف بیت وجد علی وجه الأرض، فخراً وحسباً ونسباً، ولا سیّما إذا كانوا متّبعین للسنّة النبویّة الصحیحة، الواضحة، الجلیّة، كما كان علیه سلفهم، كالعبّاس وبنیه، وعليّ وأهل بیته وذرّیّته»(2).
فالمودّة لأهل البیت (عَلَيهِم السَّلَامُ) تعتبر ضرورة قرآنیّة عند كلّ مسلم، ومن أنكر هذه الضرورة أنكر آیة من آیات الذكر الحكیم، الذي اتّفق المسلمون علی ضرورته وتواتره، فالإنسان مسلم وإن أنكر الدرجة العلیا من ولایة أهل البیت (عَلَيهِم السَّلَامُ)-وهي الإمامة-ووجوب اتّباعهم وطاعتهم، إلّاأنّه لا ینكر مودّتهم ومحبّتهم التي أكّدها القرآن الكریم، فإنّه یبقی علی الإسلام ولا یكون كافراً.
نعم، الذي أنكر هذه المودّة والمحبّة التي هي ضرورة قرآنیّة وإسلامیّة، یكون كمن أنكر ضرورةً من ضروريّات الإسلام، وهو موجب للكفر في حالة العلم بأنّه ضرورة إسلامیّة، ومن ثمّ یكون
ص: 66
إنكاره موجباً لتكذیب النبيّ الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) والقرآن الكریم.
إذن، مودّة ومحبّة أهل البیت (عَلَيهِم السَّلَامُ) درجة من درجات الولایة، وهي من ضروريّات المسلمین كافّة، وضرورة قرآنیّة، وقد حثّ النبيّ الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) المسلمین علی الالتزام بها، كما تقدّم.
وعلی هذا الأساس، فكلّ مسلم لا یؤمن بإمامة أهل البیت (عَلَيهِم السَّلَامُ) ولم ینكر مودّتهم فهو مسلم، لكنّه لیس شیعیّاً إمامیّاً اثنی عشریّاً.
إذن، أصل المودّة بالمعنی العامّ لأهل البیت (عَلَيهِم السَّلَامُ) یعدّ من الضروريّات القرآنیّة والإسلاميّة.
هذا مضافاً إلی جملة الآیات النازلة في فضائل ومناقب أصحاب الكساء، كآیة المباهلة، وآیة التصدّق بالخاتم، وآیة المبیت، وآیة السبق بالإیمان والهجرة، وآیة مفاضلة الإیمان والجهاد علی سقایة الحاجّ وعمارة المسجد الحرام، ونحوها من الآیات والروایات الشریفة التي تدلّ بوضوح علی أنّ لعليّ وفاطمة والحسنین (عَلَيهِم السَّلَامُ) مقاماً وفضائل في الدین الحنیف والشرع المبین، وأنّهم یجب أن یعظَّموا ویجلُّوا، ولهم حرمة واحترام بمقتضی تلك الفضائل وبحسب درجتها.
فالمساس بتلك الكرامة والحرمة والمكانة لهم، تمثّل تجاوزاً
ص: 67
علی المقدّسات القرآنیّة والإسلاميّة.
وعلی هذا یجب علی جمیع المسلمین تشیید هذا الأصل وترویجه والتربیة علیه، لأنّه یكون سبباً للاُلفة فیما بینهم، إذ مقتضی وجود المشتركات، هو وجود صیغة الوحدة والاتّحاد علی ضوء تلك المشتركات.
ص: 68
من القواعد المقرّرة في تعالیم الدین هي قاعدة اشتراط الأمانة والعدالة فیمن یؤخذ عنه، سواء كان راویاً أو فقیهاً أو صاحب سیرة أو مفسّراً للقرآن أو محدّثاً أو حافظاً جامعاً للحدیث، أو من أرباب الجرح والتعدیل، أو تابعیّاً یؤثر عنه جملة من الآثار في أبواب الدین.
وهذه القاعدة من القواعد المهمّة في الدین، وقد قرّرها الكتاب والسنّة والعقل، فمن الكتاب قوله تعالی: «یا أَیُّهَا الذينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا أَنْ تُصِیبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلی ما فَعَلْتُمْ نادِمِینَ» (1)، وهي واضحة الدلالة في التحذیر من الأخذ بقول الفاسق في الموضوعات، فضلاً عن النقل لأحكام الدین، وكذا ما یبلّغه من أحكام الشریعة.
وكذا قوله تعالی:«اِتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّه وَ الْمَسِیحَ ابْنَ مَرْیَمَ وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِیَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاّ هُوَ سُبْحانَهُ
ص: 69
عَمّا یُشْرِكُونَ» (1)، وهي تدلّ علی ذمّ القرآن الكریم لأحبار الیهود والنصاری الذين اشتروا بآیات اللّه ثمناً قلیلاً، وحرّفوا ما أنزل اللّه تعالی من البیّنات، وقد ذمّ اللّه تعالی عوامّ الیهود والنصاری لأخذهم عن علمائهم الذين باعوا دینهم بدنیاهم.
ومن الروایات الدالّة علی ذلك، قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ).«كثرت علَيَّ الكذّابة...»(2).
أمّا حكم العقل والفطرة، فهما قاضيان بقبح الاعتماد علی من لا یؤمَن علی الدنیا، فضلاً عن الدین.
أمّا شرطیّة العدالة فیمن یؤخذ عنه الدین، فمن أبرز مقوّماتها الإیمان باللّه ورسوله وبما جاء به من عنده تعالی والیوم الآخر، والعمل بالواجبات وترك المحرّمات، والأخذ بمقرّرات القرآن والسنّة.
من الواضح أنّ مودّة أهل البیت (عَلَيهِم السَّلَامُ) وترك العداء لهم من أهمّ مقوّمات العدالة، وقد دلّ علی ذلك عدد من النصوص القرآنیّة،
ص: 70
كقوله تعالی:«قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ في الْقُرْبی» - كما تقدّم-مضافاً إلی عدّة من النصوص القرآنیّة الدالّة بوضوح علی لزوم مدح وتعظیم وإجلال أهل البیت (عَلَيهِم السَّلَامُ)، كما في آیة المباهلة، التطهیر، وسورة الدهر، ونحوها، التي ترسم للمسلمین منهجاً تعلیمیّاً، وتبني وصیّة قرآنیّة علی حبّ أهل البیت وإجلالهم.
وعلی هذا، فإنّ عدم الموالاة لأهل البیت (عَلَيهِم السَّلَامُ) فضلاً عن العداء لهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) یعدّ من موجبات الفسق التي تخلّ بعدالة كلّ من یؤخذ عنه الدین، سواء كان راویاً أم غیره.
إذن من شرائط من یؤخذ عنه الدین هو مودّة أهل البیت (عَلَيهِم السَّلَامُ) وترك العداء لهم.
وعلی هذا الأساس، تتّضح ضرورة تنقیح التراث الإسلاميّ وفق هذه القاعدة، وهي اشتراط العدالة المتقوّمة بمودّة أهل البیت (عَلَيهِم السَّلَامُ) وترك مناوءتهم.
ومن هنا یتّضح لزوم الفحص والتنقیب عن سیرة وسلوك وموقف كلّ من یؤخذ عنه الدین-تجاه أهل البیت (عَلَيهِم السَّلَامُ) وفضائلهم وذكرهم-ونبذ كلّ من كان متحاملاً ومبغضاً وناصباً للعداء لأهل البیت (عَلَيهِم السَّلَامُ)، سواء في سیرته أو أقواله وكلماته، فلا یجوز الاعتداد بمثل هؤلاء بقول أو رأي، ولا یحتجّ بهم في الدین.
ص: 71
وعلی هذا الأساس ینبغي الاجتناب أیضاً عن كلّ من یتبنّی مقالة فاسدة تسالم المسلمون علی بطلانها، كما هو الحال في المجسّمة والمجبّرة؛لأنّ التبنّي لمقالة تسالم المسلمون علی فسادها، یعدّ من موجبات الفسق.
ص: 72
لعلّ التجدید لإحیاء عدالة الدین والإصلاح في مدرسة ونهج أهل البیت (عَلَيهِم السَّلَامُ) سبق زمانه، فإنّ اطروحته الإصلاحیّة كانت تختلف عن اتّجاهات الإصلاح، وتیّاراته المعاصرة له، سواء الدینيّة أو القومیّة العربیّة، أو التحرّریّة الوطنیّة، فإنّ مجموع أنشطته الرائدة واتّصالاته وخطاباته، تعطي انطباعاً أنّه انفتح علی.
1-حوار الأدیان.
2-حوار المذاهب.
3-حوار الدول والنُّظُم، وهي أعمدة العولمة الحدیثة، كما أنّ مبادئه التي كان ینطلق منها، هي.
1-الصلح والأمن.
2-الكرامة الإنسانيّة.
3-الاُصول الأخلاقیّة العامّة المشتركة في الفطرة البشریّة.
فهناك سمة ملحوظة في نهج مدرسة أهل البیت (عَلَيهِم السَّلَامُ) أنّه امتاز عن بیئة الحركات الإصلاحیّة الوطنیّة، والقومیّة، والعربیّة، والشیوعیّة، حیث كان یطرح محاور هي أقرب شیء من عولمة العدالة والمساواة، وودة النظام العالمي، فقد كان أسبق من زمانه،
ص: 73
والسرّ في ذلك هو نبع أفكاره من تسویة البشر في العبودیّة للّه تعالی.
فإذا أردنا أن ندرس هذه المعالم في هذه المدرسة الإلهية التي صبغت الحركة الإصلاحیّة، فعلینا أن نقرأ بعض المحاور المهمّة المعلمیّة الموهّلة لهذه المدرسة، للریادة في الإصلاح، والوحدة في افق السلام والعدل والتوحید، وذلك عبر اسس.
ولو مع القناعة المخالفة القطعية التي هي فوق الاجتهاد، وذلك أنّ الكثیر من اطروحات التقریب الوحدویّة بین المذاهب والنِّحل تبني وحدتها في ظلّ أنّ القناعات ظنّيّة واجتهادیّة وقابلة للصواب والخطأ، أومحدودة؛إذ أنّ هناك جدلیّة تقول بأنّه مع التعایش فلا یفتح باب الحوار، وأنّه مع الحوار لا تعایش؛لأنّ الحوار یعدم التعایش، والتعایش یعدم الحوار.إذن الحوار مصدر تشنّج وفتنة، ومع الظنّية فلا تقاطع مع القناعات الاُخری، فلا تضمن الوحدة الاُلفة بین الجماعات المختلفة لو كانت القناعات قطعيّة في أنظار المقتنعین بها، فلم یعطوا ضمانة للوحدة والتعایش والاُلفة المدنيّة لو كانت القناعة غیر ظنّيّة في رؤیة صاحب المذهب أو النِّحلة المعیّنة، وكانت یقینیّة في تصوّره، كما أنّهم لم یعطوا البناء الرصین للوحدة والاُلفة التعایشیّة لو كانت تترتّب علی قناعته النجاة أو الهلاك الاُخرويّ، ولو حسب زعمه وتصوّراته.
ص: 74
بینما یؤمن نهج أهل البیت (عَلَيهِم السَّلَامُ) ویعطي الضمانة بحقن الدماء رغم ذلك، والتعایش الاُلفويّ المدنيّ، ولو كان الاختلاف في البنی القطعية في رؤی الأنظار وبزعم البرهان والضرورة.وهذا ما لا نجده مضموناً ومتوفّراً في أي مذهب أو نحلة اخری؛ذلك لأنّ الدم الإنسانيّ ولو مع اعتناقه الأباطیل، محقون عن القتل والسفك إلّامع عدوانه وإقدامه علی المواجهة المسلّحة.وأمّا الجهاد الابتدائي، فإنّه لأسلمة النظام السیاسيّ لا الإجبار علی أسلمة العقائد.أي لأسلمة النظام العادل لإنقاذ المستضعفین والمضطهدین، وأكبر شاهد علی هذه القاعدة في ضرورة مدرسة أهل البیت (عَلَيهِم السَّلَامُ) أنّ الأسیر لا یقتل بعد وضع الحرب أوزارها وتوقّف الاقتتال، ولو كان وثنیّاً.وهذا الحكم هو تفسیر آیات الأسیر عندهم، وهو ممّا یدلّ علی أنّ الدم الإنسانيّ ممنوع عن سفكه إلّامع عدوانه المسلّح.وهذا ما لا نجده في المذاهب الإسلاميّة الاُخری. بینما نجده في سیرة عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) مع مناوئیه أیضاً. وهذه مفارقة عظیمة في المسار بین مدرسة أهل البیت (عَلَيهِم السَّلَامُ) والمدارس الاُخری، وهو ممّا یؤهّلها لحمل ریادة العولمة المتّحدة الإنسانيّة.
فإنّ من الاُسس الضروريّة التي تبتنی علیها الوحدة؛العدل كما قالت الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) في خطبتها: «بالعدل
ص: 75
تنسیق القلوب»(1)، أي أنّ القلوب لا تتناسق بالوحدة ولا تتّسق، ولا یوجد بینها نسق واحدٍ واُلفة إلّا بالعدل، فإنّه مع الظلم لا یرجی الوئام، بل هو منشأ التشاحن والتدافع والتحارب.والغرابة ممّن یتصوّر بنحو معكوس، وأنّه لأجل الوحدة یلزم أن نفدي ونضحّي بالعدل.
إنّ التأكید علی الوحدة یسدّ الطریق علی المطالبة بالعدل والإنصاف في الحقوق المدنيّة التعایشیّة، والحال أنّه یجب لأجل الوحدة أن نقیم العدل لا أن نغمض الطرف عنه، ولا یسوغ باسم الوحدة بین الأدیان أو المذاهب، مصادرة الحقوق الإنسانيّة، أو التهمة والطعن بالطائفیّة علی من یناشد حقوقه، أو الرمي بالتعصّب علی المطالبة بالاستحقاقات، ولا تدافع بین الوحدة والمطالبة بالعدالة بین الطوائف والمذاهب، فالوحدة مبنیّة علی العدل والعدالة، ولا تبنی علی الحیف والبخس لأحد الطرفین علی الآخر.
إذا اتّضحت أهمّیّة العدل، فلا بدّ من الالتفات إلی أنّ مدرسة أهل البیت (عَلَيهِم السَّلَامُ) قد جعلت من العدل أصلاً، ومن اصول الدیانة، وهو مؤشّر لمدی أهمّیّته علی حذو بقیّة اصول الدین، ممّا یجعل هذا
ص: 76
النهج هو المؤهّل لریادة الوحدة البشریّة.
والعدل ضامنٌ أساس لاستمرار الوحدة وبقائها، وقد أنبأ القرآن الكریم بهذه الخصوصیّة الریادیّة لأهل البیت (عَلَيهِم السَّلَامُ) من أنّهم الوحیدون المؤهلّون لإقامة الوحدة البشریّة دون غیرهم، أنبأ بذلك في ملحمة قرآنیّة في قوله تعالی: «ما أَفاءَ اللّه عَلی رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُری فَلِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِی الْقُرْبی وَ الْیَتامی وَ الْمَساكِینِ وَ ابْنِ السَّبِیلِ كَيْ لا یَكُونَ دُولَةً بَیْنَ الْأَغْنِیاءِ مِنْكُمْ» (1)، فبیّنت الآیة أنّ أموال الأرض وثرواتها، المعبّر عنها بالفیء، هو بید اللّه وبید رسوله وذی القربی تدبیره وإدارة صرفه علی الطبقات المحرومة، وأنّ العلّة في إسناد الصلاحیّة والولایة لهم، هو إقامة العدل في الأرض لكی لا تكون ثروات الأرض دولةً متداولةً في حكر الأغنیاء والاقطاعیّین، فالآیة تنبأ عن ملحمة، وهي أنّ العدالة لم ولن ولا تقام في الأرض إلّاعلی ید قربی النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ )، وبالتالي فلن تكون هناك وحدة بشریّة ینعم بها البشر، إلّابأهل البیت (عَلَيهِم السَّلَامُ).
بأعلی مكانة من تقدیس أتباعهم لهم، فإنّ في مدرسة أهل البیت (عَلَيهِم السَّلَامُ) ینزّه الأنبیاء عن الصغائر، فضلاً عن الكبائر، ولا یوجد نِحلة أو مذهب ینزّههم بهذه
ص: 77
الدرجة، فینزّه موسی (عَلَيهِ السَّلَامُ) بأنزه ممّا ینسبه إلیه الیهود، وینزّه عیسی ومریم بأنزه ممّا ینزّههما النصاری، وهكذا الحال في آدم، ونوح، وإبراهیم، وإسماعیل، وإسحاق، ویعقوب، ویوسف، ویحیی، وبقیّة الأنبیاء (عَلَيهِم السَّلَامُ)، فیعظم جمیع رموز الدیانات الإلهية والسماویّة.
وهذا ما لا تجده في المذاهب الإسلاميّة الاُخری ولا في أتباع الدیانات.فهذه خصیصة فریدة في مدرسة أهل البیت (عَلَيهِم السَّلَامُ) مؤهلّة لریادتها للوحدة الأدیانیّة.
وإلّا كیف یتصوّر وحدة واُلفة بدون محبّة ومودّة، وقد جعل القرآن محور وقطب المحبّة والمودّة هو أهل البیت (عَلَيهِم السَّلَامُ) ومودّتهم في قوله تعالی: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ في الْقُرْبی» (1)، فالقرآن یسطّر ملحمة ونبوءة أنّه لم ولن ولا تتحقّق مودّة تأتلف علیها البشریّة إلّا بمحوریّة المودّة في أهل البیت (عَلَيهِم السَّلَامُ)، فقال تعالی: «إِلاَّ الْمَوَدَّةَ في الْقُرْبی» ، ولم یقل: «إلّا مودّة القربی»، أي جعل أجر الرسالة بحصر المودّة المركزیّة المحوریّة في أهل البیت (عَلَيهِم السَّلَامُ)، فالمجیء بلفظة «فِي» یعطي مفاد الحصر أنّ الآیة في صدد أصل افتراض مودّتهم، بل في مورد حصر المودّة العلیا بهم.
ص: 78
یقول أمیر المؤمنین علیّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) في بیان أهمّیّة مودّتهم لحصول الاُلفة، وبالتالي الوحدة والقوّة والتقدّم التمدّني:
«فاعْتَبِرُوا بِحالِ وَلَدِ إِسْماعِیلَ وَبَنی إِسْحاقَ وَبَنی إِسْرائِیلَ (عَلَيهِم السَّلَامُ). فَما أَشَدَّ اعْتِدالَ الْأَحْوالِ، وَأَقْرَبَ اشْتِباهَ الْأَمْثالِ !
تَأَمَّلُوا أَمْرَهُمْ في حَالِ تَشَتُّتِهِمْ وَتَفَرُّقِهِمْ، لَیالِیَ كَانَتِ الْأَكاسِرَةُ والْقَیاصِرَةُ أَرْباباً لَهُمْ، یَحْتازُونَهُمْ عَنْ رِیفِ الْآفاقِ، وَبَحْرِ الْعِراقِ، وَخُضْرَةِ الدُّنْیا، إِلَی مَنابِتِ الشِّیحِ، وَمَها في الرِّیحِ، وَنَكَدِ الْمَعاش ، فَتَرَكُوهُمْ عالَةً مَساكِینَ إِخْوانَ دَبَرٍ وَوَبَرٍ أَذَلَّ الْأُمَمِ داراً، وَأَجْدَبَهُمْ قَرَاراً، لَایَأْؤونَ إِلَی جَنَاحِ دَعْوَةٍ یَعْتَصِمُونَ بِهَا، وَلَا إِلَی ظِلِّ أُلْفَةٍ یَعْتَمِدُونَ عَلَی عِزِّهَا.فَالْأَحْوَالُ مُضْطَرِبَةٌ، وَالْأَیْدِي مُخْتَلِفَةٌ، والْكَثْرَةُ مُتَفَرِّقَةٌ؛ في بَلَاءِ أَزْلٍ، وَأَطْباقِ جَهْلٍ ! مِنْ بَناتِ مَوْؤُودَةٍ، وَأَصْنامٍ مَعْبُودَةٍ، وَأَرْحامٍ مَقْطُوعَةٍ، وَغارَاتٍ مَشْنُونَةٍ.
فانْظُرُوا إِلَی مَواقِعِ نِعَمِ اللّه عَلَیْهِمْ حِینَ بَعَثَ إِلَیْهِمْ رَسُولاً، فَعَقَدَ بِمِلَّتِهِ طاعَتَهُمْ، وَجَمَعَ عَلَی دَعْوَتِهِ أُلْفَتَهُمْ؛كَیْفَ نَشَرَتِ النِّعْمَةُ عَلَیْهِمْ جَناحَ كَرامَتِها، وَأَسالَتْ لَهُمْ جَدَاوِلَ نَعِیمِها، وَالْتَفَّتِ الْمِلَّةُ بِهِمْ في عَوَائِدِ بَرَكَتِها، فَأَصْبَحُوا في نِعْمَتِهَا غَرِقِینَ، وفي خُضْرَةِ عَیْشِهَا فَكِهِینَ.قَدْ تَرَبَّعَتِ الْأُمُورُ بِهِمْ، في ظِلِّ سُلْطانٍ قاهِرٍ، وَآوَتْهُمُ الْحالُ إِلَی كَنَفِ عِزٍّ غاَلِبٍ، وَتَعَطَّفَتِ الْأُمُورُ عَلَیْهِمْ في ذُرَي مُلْكٍ ثابِتٍ.فَهُمْ حُكّامٌ عَلَی
ص: 79
الْعالَمِینَ، وَمُلُوكٌ في أَطْرافِ الْأَرَضِینَ.یَمْلِكُونَ الْأُمُورَ عَلَی مَنْ كانَ یَمْلِكُها عَلَیْهِمْ، وَیُمْضُونَ الْأَحْكامَ فِیمَنْ كانَ یُمْضِیها فِیهِمْ ! لَا تُغْمَزُ لَهُمْ قَناةٌ وَلَا تُقْرَعُ لَهُمْ صَفاةٌ !
أَ لَاوَإِنَّكُمْ قَدْ نَفَضْتُمْ أَیْدِیَكُمْ مِنْ حَبْلِ الطّاعَةِ، وَثَلَمْتُمْ حِصْنَ اللّه الْمَضْرُوبَ عَلَیْكُمْ، بَأَحْكَامِ الْجَاهِلِیَّةِ.فَإِنَّ اللّه سُبْحَانَهُ قَدْ امْتَنَّ عَلَی جَماعَةِ هذِهِ الْأُمَّةِ فِیَما عَقَدَ بَیْنَهُمْ مِنْ حَبْلِ هذِهِ الْأُلْفَةِ التي یَنْتَقِلُونَ في ظِلِّها، وَیَأْوُونَ إَلَی كَنَفِهَا، بِنِعْمَةِ لَایَعْرِفُ أَحَدٌ مِنَ الْمخْلُوقِینَ لَهَا قِیمَةً، لِأَنَّها أَرْجَحُ مِنْ كُلِّ ثَمَنٍ، وَأَجَلُّ مِنْ كُلِّ خَطَرٍ.
واعْلَمُوا أَ نَّكُمْ صِرْتُمْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَعْراباً، وَبَعْدَ الْمُوالَاةِ أَحْزاباً. ما تَتَعَلَّقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا بِاسْمِهِ، وَلَا تَعْرِفُونَ مِنَ الْإِیمانِ إِلَّا رَسْمَهُ»(1).
فهو یشیر إلی أنّ الفة الاُمّة لا تتمّ إلّابهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) وبموالاتهم، وإلّا فیؤول حال الاُمّة إلی التشتّت أحزاباً، وإلی التعرّب، وأنّ الهجرة عن التعرّب لا تتحقّق إلّابالتعلّق بمودّتهم وموالاتهم (عَلَيهِم السَّلَامُ).
ومن كلّ ما مرّت الإشارة الیه یتبیّن أنّه لا توجد بوتقة جامعة للوحدة، وبیئة ململمة لوحدة الصفّ الإنسانيّ أجمع، كمدرسة
ص: 80
أهل البیت (عَلَيهِم السَّلَامُ)، فلو أجرینا مقارنة لا بهدف التعصّب الطائفي والأدیاني، فلا نجد هذه الخصائص والاُسس لإرساء صرح الوحدة في الأدیان الاُخری، لعدم اعترافها بالنبيّ الخاتم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) كما لا نجدها في المذاهب الإسلاميّة لعدم خطورة أصل العدالة والعدل (حقوق الإنسان) لدیهم، ولعدم إمكان الملاءمة عندهم بین القناعة الضروريّة القطعية، وبین حقن الدماء (الكرامة الإنسانيّة والصلح والأمن)، سواء مع الملل الاُخری أو مع المذاهب الإسلاميّة الاُخری، وهذا بخلاف الحال في مدرسة أهل البیت (عَلَيهِم السَّلَامُ)، وغیرها من الفوارق التي مرّت الإشارة إلیها.ومنه یتّضح أنّ الضمانة الوحیدة للوحدة، وهي العولمة الصحیحة في النظام البشريّ لا توجد إلّا في هذه المدرسة، فلا إقامة لاُصول شعارات البشریّة العصریّة من دون هذه المدرسة، ویظهر أنّ العولمة الوحدویّة الإنسانيّة الحدیثة لا تجد بیئتها إلّا في مدرستهم (عَلَيهِم السَّلَامُ).
ص: 81
ص: 82
ص: 83
ص: 84
التقریب هو عملیّة فتح باب الحوار والمداولة الفكریّة بصورة مستمرّة، وعدم سدّ باب الحوار في جمیع الظروف، لأجل توسعة دائرة الوفاق الفكريّ، وتقلیص دائرة الاختلاف والتفرّق.
وقد یعرّف التقریب أنّه نظام تقنین وترسیم للحقوق.
ومن أهمّ نتائج التقریب هو الاتّحاد، والوصول إلی محاور فكریّة مشتركة.
من الملاحظ أنّ جملة من دعاة الوحدة الإسلاميّة من الفرق والمذاهب الإسلاميّة المختلفة، ومن باب الحرص منهم علی حقن الدماء والحفاظ علی الوحدة فیما بین المسلمین، وحذراً منهم علی عدم وقوع التكفیر بین فرق المسلمین، ذهبوا إلی أنّ كلّ الاختلافات المذهبية العقدیّة-فضلاً عن الأحكام الفرعیّة-مبنیّة
ص: 85
علی اجتهادات واستنباطات ظنّيّة، وتأویلات استظهاریّة، فالمذهبية والتمذهب، رؤیة ظنّيّة، وفهم اجتهاديّ عند جملة من روّاد الوحدة والتقریب.
فأصل المذهبية عندهم مبنيّ علی الظنّ، وقد تابع آخرون هذا التنظیر والتأطیر لهذه القاعدة، وذهبوا إلی أنّ الاختلاف بین الإمام عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) والطرف الآخر، هو اختلاف في فهم الإسلام لیس إلّا.
وعلی أساس هذه القاعدة، قالوا.إنّ الاختلاف ما دام ظنّيّاً، فهو لا یهدّد الوحدة، بخلاف ما لو كان الاختلاف قطعيّاً بحسب قناعة المختلفین؛إذ الاختلاف القطعي مستلزم للتكفیر؛وذلك لأجل إخراج من یخالف القطعي عن دائرة الإسلام.
ومن ثمّ اعترض غیر واحد من المذاهب الإسلاميّة علی علماء الإمامیّة، لا سیّما من یتبنّی منهم شعار الوحدة بین المسلمین، بأنّ الدعوة إلی الوحدة والالتزام بها لا ینسجم مع القول بأنّ إمامة أهل البیت (عَلَيهِم السَّلَامُ) من اصول الدین الاعتقاديّة، وأنّ أدلّتها لیست قطعيّة بتنصیص الوحي الإلهيّ، لأنّ ذلك یستلزم خروج بقیّة فِرق المسلمین عن الإسلام، حسب وجهة النظر الشیعیّة.
ص: 86
إنّ هذا التصوّر والتنظیر بقواعد نظام الدین والمذهب، وتبنّی الوحدة الإسلاميّة، ناشئ من عدم التنقیح العمیق للقواعد الدینيّة الشرعیّة المشتركة المتّفق علیها بین مذاهب المسلمین، ولعدم التفطّن لقواعد المعرفة الدینيّة المتّفق علیها بین المسلمین أیضاً.
فمن الواضح أنّه لیس كلّ اختلاف قطعيّ یترتّب علیه الحكم بكفر المخالف لذلك الأمر القطعي؛لأنّ الخروج عن الإسلام إنّما یكون بإنكار الشهادتین، وإنكار الضروريّ المتّفق علیه بین المسلمین من دون شبهة في البین، فإنّ هذه الضابطة متّفق علیها بین المحقّقین من علماء المذاهب الإسلاميّة، ولا یعتنی بالشذّاذ منهم، كما مرّ تنقیح ضابطة الكفر فیما سبق.
وعلی ضوء ذلك، فإنّ مجرّد الاختلاف القطعي، بل الیقیني، لا یترتّب علیه الحكم بردّة أو كفر المخالف لذلك الأمر المتیقّن، إذ لیس كلّ أمر قطعيّ أو یقیني شرطاً في تحقّق الإسلام.
فإذا اتّضحت هذه القاعدة المهمّة، یتّضح علی ضوئها القول بأنّ الاختلافات المذهبية، وإن كانت مبنیّة علی قناعات قطعيّة عند كلّ أصحاب المذاهب، إلّاأنّها لا توجب هدم أساس الوحدة
ص: 87
بین المسلمین.
ولا ربط للاختلافات القطعية بین المذاهب الإسلاميّة بالحكم بالإسلام وعدمه كما تقدّم، فیمكن أن یكون الاختلاف بین مذهب وآخر اختلاف قطعيّ لا ظنّي، ومع ذلك یحكم بإسلامهما معاً.
فلیس السبیل إلی إرساء الوحدة الإسلاميّة وتشییدها والمحافظة علی بنیتها، متوقّفاً علی القول بأنّ الاختلافات المذهبية اختلافات ظنّيّة، بل نظام الوحدة یتلاءم مع الاختلافات في الرؤی والقناعات القطعية والیقینية.
ومن ثمّ لا تنافي بین تبنّي أيّ مذهب من المذاهب الإسلاميّة أمراً، كأصل اعتقاديّ قطعيّ یمتاز به عن المذاهب الإسلاميّة الاُخری التي تتبنّی اصولاً اعتقاديّةً اخری تتبنّی قطعيّات ویقینیّات وضرورات مذهبیّة اخری تمتاز بها، فإنّ ذلك لا یصدّع الاُصول الاعتقاديّة المشتركة التي یبتني علیها ظاهر الإسلام، فكما أنّ الإمامیّة تتبنّی إمامة أهل البیت (عَلَيهِم السَّلَامُ) كأصل اعتقاديّ، ففي نفس الوقت نلاحظ كذلك جملة من المذاهب الإسلاميّة الاُخری أیضاً تتبنّی إمامة الشیخین وزعامة الصحابة كأصل اعتقاديّ وضرورة مذهبیّة عندهم.
لكنّ ذلك كلّه لا یستلزم تكفیر أحدهما الآخر، وذلك للاتّفاق
ص: 88
بین المسلمین من أهل العلم والتحقیق والتحصیل من علماء المذاهب علی تقسیم الاُصول الاعتقاديّة إلی اصول الدین بحسب ظاهر الإسلام، وإلی اصول الدین بحسب حقیقة الإیمان، وهو ما یعبّر عنها باُصول المذهب.
فالتعدّد المذهبي وإن كان مبنیّاً علی اصول اعتقاديّة یقینیّة إلّاأنّ ذلك الاختلاف یحتضنه صدر الإسلام الرحب.
فهناك فرق بین الإسلام وبین الإیمان، ولذا نجد أنّ كلّ مذهب من المذاهب الإسلاميّة یشترط شروطاً خاصّة في الإیمان تختلف عن شروط الإسلام، وقد أجمعت الفرق والمذاهب الإسلاميّة علی أنّ مناط الرضا الإلهي متقوّم بالإیمان لا الإسلام فقط.
وإلیك بعض الشواهد الدالّة علی ذلك من كلمات أعلام السنّة.
قال الشوكاني: «مدار قبول الأعمال هو الإیمان»(1).
وقال ابن عاشور: «إنّ الإیمان جعله اللّه شرطاً في قبول الأعمال»(2).
وقال المناوي: «إنّ الأعمال بالنیّات وإنّ كلّ من فعل خیراً ریاءً
ص: 89
وسمعةً، لم یستحقّ به من اللّه أجراً»(1).
وفي موضع آخر قال: «إنّ العمل الصالح لا یقبل إلّامع التوحید والإیمان»(2).
إذن مناط ومیزان الرضا الإلهي إنّما هو بالإیمان القلبيّ، ولیس مناطه ظاهر الإسلام فقط، فالرضا الإلهي مرتبط بما یدخل القلب وما یلامسه من اعتقادات، أمّا ظاهر الإسلام فهو یحصل بمجرّد التلفّظ بالشهادتین، ولو مع عدم الاعتقاد القلبيّ، كما تقدّم.
فاللازم في توصیات مشروع الوحدة والتقریب، هو التأكید علی أنّ قطعيّة الخلاف لا تهدم الوحدة، ولا تتناقض مع الحكم بإسلام الآخرین.
وهذه القاعدة بنّاءة ومهمّة في مشروع الوحدة، یجب التأكید علیها والتثقیف علیها ونشرها في أوساط عموم المسلمین، درءاً لنار التكفیر، واستباحة دماء المسلمین وأعراضهم وأموالهم، وهدر حقوقهم الدینيّة.
إذن الحرص علی الوحدة والمحافظة علیها، یتوقّف ویستدعي ترسیخ هذه القاعدة الشریفة، والإقرار علیها درءاً للفتنة بین
ص: 90
المسلمین، وحیطة من نشوب الحروب بین المذاهب الإسلاميّة، علی عكس التنظیر الذي یذهب إلی أنّ الاختلافات بین المذاهب كلّها اختلافات ظنّيّة، فإنّ مثل هذا التنظیر لقاعدة من قواعد الدین، سوف یهدّد الوحدة الإسلاميّة، ولا یؤمّن بناءها ولا بقاءها؛وذلك لأنّ أتباع المذاهب من علماء ونخب، من الذين توصّلوا إلی قناعات قطعيّة-بحسب رؤیتهم-لا یرون أنفسهم فیما یتبنّون من مسار مذهبيّ أنّه مسار ظنّيّ ومنهاج اجتهاديّ، فكیف یرون أنفسهم ملتزمین ببناء الوحدة حینئذٍ علی وفق مقولة أنّ المذهبية والتمذهب رؤیة ظنّيّة.
بل بناءً علی تلك المقولة، یلزم اندفاع أصحاب المذاهب وتحریضهم وإغرائهم إلی نشوء المعاداة والتكفیر لبعضهم البعض.
فأصحاب هذه المقولة من دعاة الوحدة، بقدر ما هم حریصون علی إرساء الوحدة، إلّاأنّهم بهذه الرؤیة قد أخفقوا في ترسیم هذه القاعدة المهمّة من قواعد الوحدة الإسلاميّة.
بل یمكن أن تكون رؤیتهم وتقریرهم لهذه المقولة القائلة إنّ الاختلافات اجتهادیّة ظنّيّة، أن تكون من موجبات الفرقة والنزاع، بدلاً من كونها داعمة للوحدة بین المسلمین.
ومن هنا یتّضح أنّ ما قرّرناه لهذه القاعدة من أنّ الاعتقادات
ص: 91
القطعية والیقینية لكلّ مذهب من المذاهب لا یعني ولا تستلزم تكفیر أحدها للآخر، هو الذي یكون كفیلاً بضمان الوحدة الإسلاميّة؛لأنّها قائمة علی أساس الواقع والحقیقة، كما تقدّم.
وعلی هذا الأساس یتّضح بطلان الكثیر من مقولات التقریب بین المذاهب التي تتّكئ في تبنّیها للوحدة، علی المقولة القائلة بأنّ جمیع الاختلافات بین المذاهب، اختلافات ظنّيّة اجتهادیّة قابلة للصواب والخطأ؛إذ أنّ هذه المقولة لا تضمن الوحدة والاُلفة بین الجماعات المختلفة؛لأنّ جملة من الاعتقادات التي تتبنّاها المذاهب الإسلاميّة، هي اعتقادات قطعيّة حسب رؤیتها تعلو علی درجة الاجتهاد والظنّ في نظر معتنقیها.
وعلی هذا الأساس یتبیّن قوّة ما بیّناه سابقاً من أنّ الضمانة الحقیقیّة للوحدة وحقن الدماء، تكمن فیما قرّرناه من القاعدة السابقة من أنّ الدخول بالإسلام بالتشهّد بالشهادتین، یحقن الدماء، علی الرغم من الإیمان بوجود الاختلافات القطعية.
وممّا ینبغي الإشارة إلیه هو أنّ القاعدة الإسلاميّة، لا سیّما عند مذهب أهل البیت (عَلَيهِم السَّلَامُ) تقول: إنّ الدم الإنسانيّ- فضلاً عن الدم الإسلامي - ولو مع اعتناقه الأباطیل، محقون عن القتل، إلّامع
ص: 92
عدوانه وإقدامه علی المواجهة المسلّحة.
إن قیل: كیف ذلك مع وجود الدعوة للجهاد الابتدائی عند المسلمین ؟
الجواب: أنّ الحكمة من تشریع الجهاد الابتدائي هي لأجل أسلمة النظام السیاسيّ، ولیس لأجل الإجبار علی أسلمة العقائد، فالجهاد الابتدائي هو لإنقاذ المستضعفین المضطهدین المحرومین، لا إكراه الناس علی الدخول بالإسلام والإیمان، ولعلّ من أبرز الشواهد علی ذلك، هو عدم جواز قتل الأسیر بعد وضع الحرب أوزارها، ولو كان وثنیّاً، وهذا یدلّ علی أنّ الدم الإنساني محترم، ولا یجوز سفكه إلّامع العدوان المسلّح، وهذا ما لا نجده في المذاهب الإسلاميّة الاُخری.
إذن، حصر طریق الوحدة بالقول بأنّ الاختلاف بین المذاهب ظنّيّ، هو في الحقیقة سبب للإثارة والفرقة وتأجیج النزاع، أكثر من كونه موجباً لإرساء التآلف والتوحّد؛وذلك لأنّ هذه الرؤیة لا تقدّم معالجة موضوعیّة سلیمة للواقع الراهن عند أتباع المذاهب من كون القناعات والاعتقادات قطعيّة جزمیّة، كما یراها أصحابها، وبالتالي لا یرون مثل هذا الخطاب بذلك الاطار من مقالة الوحدة علاجاً وبناءً یتوخّی بناء التعایش والاُلفة في ظلّ الواقع الراهن والمعطیات
ص: 93
القطعية بالتحامل علی الآخرین ممّن یخالفوهم علی إخراجهم من ربقة الإسلام.
الوحدة التعایشیّة الإسلاميّة لا تتقاطع مع فتح باب الحوار ولو كان في دائرة الاختلافات القطعية والمواضیع الحسّاسة المختلف فیها، فیما إذا كان الحوار بلغة هادئة متوازنة.
وعلی هذا الأساس، فلیس من الصحیح ما یردّده بعض روّاد الوحدة من ضرورة إسدال الستار علی كلّ الملفّات التي نشأ منها التعدّد والاختلاف، والسعي لطيّ تلك المباحث ورمیها في خانة النسیان، بذریعة أنّ الخوض في تلك المباحث، والمداولة في تلك الاُمور الحاصلة في تلك الحقب التاریخیّة، أو التنقیب عن المواقف التاریخیّة، سوف یسبّب إثارة الكراهیة والحسّاسیّة وتأجیج للصراع الداخليّ، ولذا قالوا.خیر وسیلة لدرء الفتنة هو إخماد الحدیث عن تلك المواضیع، والتركیز علی نقاط الاشتراك؛لأنّه وحده الذي یضمن الوحدة والاُلفة والتلاحم.
إلّاأنّنا نقول: إنّ ما ذكروه وإن كان متّجهاً منطقیّاً في جملة من بنوده، حیث أنّ طبیعة النفس الإنسانيّة كلّما ذكّرت بمناشئ الاُلفة ألفت، وكلّما استذكرت بشیء من مناشئ الفرقة ازدادت نفرة
ص: 94
وتباعداً، إلّاأنّ ذلك لیس هو تمام العلاج السلیم؛وذلك لأنّ هذه المواضیع من الاختلافات في الاعتقاد والتبنّي، قد تنفجر في یوم ما، ومن ثمّ یكون التغافل عنها من رأس، غیر صحیح.
وحاصل ما تقدّم: أنّ الذين تبنّوا الاختلافات بین المذاهب الإسلاميّة، كلّها اختلافات اجتهادیّة، قد انساقوا من حیث یشعرون أو لا یشعرون إلی القول بإنكار وجود ثوابت مذهبیّة خاصّة بكلّ مذهب، أي الثوابت الثابتة بدرجة الیقین من وجهة نظر كلّ مذهب.
ومن هنا نشأ عند البعض تعریف جدید للإیمان، وهو الإقرار القلبيّ بضروريّات الإسلام المشتركة بین المذاهب الإسلاميّة من دون دخل لشیء وراء تلك المشتركات.
والسبب الذي دفعهم لهذا القول هو تصوّرهم بأنّ هذا هو الطریق المؤدّي إلی الإصلاح والوحدة.
إلّاأنّ هذا القول لیس فقط لا یؤدّي إلی الإصلاح والوحدة، بل ینتج نتائج عكسیّة خطیرة تهدّد وحدة النِّحلة الإسلاميّة. والسبب في ذلك هو أنّ مقولة البعض القائلة بأنّ الاختلافات المذهبية راجعة إلی اختلافات اجتهادیّة ظنّيّة، سوف تدفع بطوائف المسلمین إلی امور خطیرة، منها.
1-التغریر والإیهام بطوائف المسلمین، بأن یسلب كلّ طرف
ص: 95
صفة الإسلام عن الطوائف الاُخری؛ نتیجة ما تراه تلك الطائفة وما تتبنّاه من ثوابت عقائديّة خاصّة فوق مرتبة الاجتهاد.
2-الابتعاد عن وحدة النحلة الإسلاميّة، بإیهام أنّ الوحدة لا تتمّ إلّا بإلغاء الثوابت المذهبية الخاصّة.
وعلی هذا الأساس یتّضح الخلل في الكثیر من اطروحات التقریب والوحدة التي تبتني وحدتها علی ضوء المقولة القائلة بأنّ القناعات ظنّيّة واجتهادیّة، وقابلة للصواب والخطأ، أو محدودة.
كما أنّ هناك جدلیّة قائمة تقول بأنّه مع التعایش لا یفتح باب الحوار، أو أنّه مع الحوار لا تعایش؛لأنّ الحوار یثیر الفتن والتشنّجات ممّا یفضي إلی تقویض أرضیّة التعایش.
إلّاأنّ الصحیح، أنّ الحوار لا یتقاطع مع التعایش إذا كان مبنیّاً علی الاُسس الأخلاقیّة الصحیحة في الحوار الهادف العلميّ، وبعیداً عن السیاسات المبرمجة.
وبناءً علی هذا، فإنّ ضمان الوحدة والاُلفة بین المسلمین لا یتوقّف علی حصر الاختلاف في القناعات الظنّية الاجتهادیّة، ونفي الاختلاف في القناعات القطعية.
والسبب الذي دعا هؤلاء إلی الذهاب إلی مثل هذه المقولات هو عدم استطاعتهم بناء رؤیة رصینة للوحدة والاُلفة التعایشیّة، تتكیّف
ص: 96
مع وجود الاختلافات في الرؤی القطعية، التي یترتّب علیها أمر النجاة من الهلاك الاُخرويّ بحسب قناعة كلّ مذهب أو فرقة.
ونظیر هذا الاتّجاه ما ذهبت إلیه العلمانیّة الغربیّة من القول بأنّ السلم المدني لا یمكن مع التوجّه الدیني، إذ الالتزام بالصبغة الدینيّة یؤدّي إلی إثارة الفتن والحروب بین أتباع الأدیان، والسبب في ذلك هو حكم أتباع كلّ دین علی أصحاب الدیانات الاُخری، بالهلاك الاُخرويّ، وهذا یعنی مشروعیّة الحرب-علی حسب فهمهم-ضدّ الطرف الآخر.
والصحیح ما تقدّم من فساد وبطلان مثل هذه المقولات التي تتوهّم التلازم بین التخطئة للآخرین والقناعة بالمخالفة القطعية، وبین هدر الدم؛إذ المجازاة الاُخرویّة هي من صلاحیّة دیّان یوم الدین، أمّا في دار الدنیا فهي هدنة تعایش مدنی بصبغة ونیّة مشتركة.
ص: 97
یمكن تلخیص أهداف وغایات التقریب بالنقاط التالیة:
1-المحافظة علی الضروريّات المشتركة، والحیلولة دون تمرّد أو مصادرة أيّ فئة لتلك الضروريّات المشتركة.
2-حرمة الدم والأموال والأعراض وما قد یعبّر عنه بالحرمة المدنيّة والتعایش السلميّ، والانتصاف في الحقوق المدنيّة.
3-العدالة المدنيّة لكلّ الطوائف الإسلاميّة.
4-اطّلاع المسلمین فیما بینهم علی متبنّیات ومعتقدات ورؤی كلّ مذهب.
5-تعبئة الطاقات للاهتمام بالعمل من أجل حمایة المصالح الإسلاميّة المشتركة، وتظافر الجهود في مواصلة بناء النهضة وما فیه مصلحة الإسلام.
6-الحرمة المدنيّة وعدم التفریط في حقّ المواطَنة للمسلم.
7-عدم التشنّج في لغة الحوار، وعدم إثارة الطرف الآخر.
8-إحیاء دَور الاستشارة والمشاركة في الحكم، ونبذ الاستبداد.
وبعبارة اخری.یجب عدم التسلیم مع الطرف الآخر في الاُمور الخاطئة.
ص: 98
وممّا ینبغي الإشارة إلیه في سیاق الهدف الأوّل والخامس هو وجود هجمة غربیّة تجاه المقدّسات الإسلاميّة، ومحاولة تغییر الأحكام الإسلاميّة الثابتة والنیل من شخصیّة الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ )، والطعن في القرآن الكریم، وقد تعدّدت أسالیبهم في ذلك، وتمكّنوا من التأثیر علی الطبقات المثقّفة من المسلمین، وتزریق الأفكار السامّة في أذهانهم، والتشكیك والإثارات المضادّة تجاه دینهم، بل إنّهم في صدد محاولة جادّة لتصویر الدین الإسلاميّ بالشكل الذي یشبه المسیحیّة والكنیسة، في حصرها في دائرة الطقوس الفردیّة والعلاقة بین الفرد وخالقه، وإنّها علاقة روحیّة لا تمتدّ إلی النظام الاجتماعيّ والسیاسيّ وبقیّة المجالات، ولو أجرینا مسحاً میدانیّاً للأحكام الدینيّة المستهدفة، و التي تعدّ من المسلّمات الإسلاميّة الثابتة عند جمیع المسلمین، لتوفّرنا علی أنّ عدداً كبیراً من هذه المحاولات هدفه طمس الأحكام الإسلاميّة، كما في طعنهم في الحجاب الإسلامي وعفاف المرأة، والاستهانة بالاُسرة وعلائق الأرحام، وغیر ذلك من المحاولات.
وكذلك الطعن في حرمة الربا، وفي حرمة جملة من الفواحش والمنكرات(1)، مضافاً إلی طعنهم بحرمة وقدسیّة القرآن، كما فی
ص: 99
مطالبتهم بحذف آیات الجهاد، بذریعة كون الجهاد یعدّ لوناً من ألوان الإرهاب العدوانيّ.
وكذلك من آلیّات أعداء الإسلام هو خلق طوائف وفرق ومذاهب تنتحل الإسلام، لا سیّما في الآونة الأخیرة، كالقادیانیّة والبهائیّة التي تتبنّی إنكار جملة من ضروريّات الإسلام.
وفي ظلّ هذه الظروف، وانطلاقاً من الواجب الشرعيّ والدینيّ المشترك، یتحتّم التصدّي لهذه الهجمة الثقافیّة والحضاریّة والسیاسيّة، من خلال تنسیق وتوحید المواقف المشتركة لجمیع الفرق الإسلاميّة، والاصطفاف الفكريّ ببلورة متّفق علیها مع المطالبة بقوّة من قِبل الأنظمة الإسلاميّة باتّخاذ مواقف حازمة حیال هذه الممارسات.
ص: 100
قد تجاذب الحدیث عند الباحثین عن سبب ظهور المذاهب في دین الإسلام، وسبب منشأ هذه الظاهرة، وهل أنّ الحال في عهد الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) بحیث كان المسلمون علی شاكلة واحدة ومنهاج واحد، ثمّ بعد وفاته (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) اختلفوا واجتهدوا فتعدّدت اجتهاداتهم واختلفت آرائهم، وبعد ذلك جاءت الأجیال من بعدهم فواصلت تلك الاختلافات والاجتهادات وازدادت كثرةً إلی عصرنا الحاضر ؟
أمّ أنّ ظاهرة التعدّد المذهبيّ كانت في عصر الرسالة وفي حیاة الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) ؟
وإلی جانب هذا التساؤل ینبثق تساؤل آخر یتمحور ویتركّز علی بیان المراد من التعدّد في المذاهب، وهل المراد من التعدّد هو التعدّد في الفروع النظریّة الظنّية ؟ أم أنّ التعدّد في الفروع الیقینية، وإن لم تكن ضروريّة عند الجمیع ؟
أم أنّ التعدّد في المذهبية هو في جملة من المعتقدات غیر
ص: 101
ما اتّفق علیه ؟
وإن كان التعدّد في المعتقدات النظریّة، فهل ینحصر الاختلاف في الظنّيات، أم یشمل المعتقدات الیقینية التي لم تصل إلی درجة البدیهیّة عند الكلّ ؟
وعلی أي تقدیر، لا ریب أنّ المشهود من تعدّد مذاهب المسلمین، حاصل في الفروع، كما هو حاصل في المعتقدات أیضاً، كالمذهب الشیعيّ الإثنی عشريّ، والمذهب المعتزليّ، والأشعريّ، والمذهب السلفيّ، والمذهب الصوفيّ، وغیرها من المذاهب التي یؤول الخلاف فیها إلی المسائل العقدیّة.
ومن الواضح أنّ البحث في الاختلاف العقدي لیس في تحدید الضابطة في الدخول في الإسلام والاتّصاف به، وإنّما یتمركز حول الضابطة وبین الاتّصاف بالإیمان وما به النجاة یوم القیامة.
وعلی ضوء ذلك فإنّ هذا البحث بعینه - وهو البحث عن شرائط الإیمان وما به النجاة یوم القیامة - لم یكن ولیداً ومتولّداً بعد وفاة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ )، وإنّما كان في حیاة الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ )، كما تشیر إلی ذلك الآیات والروایات التي تقسّم المسلمین إلی أصناف متعدّدة، منهم المسلم غیر المؤمن، ومنهم المؤمن، ومنهم المنافق، ومنهم المستضعف، ومنهم أهل الضلال، ومنهم مرجون لأمر اللّه، وغیرها
ص: 102
من الأصناف التي استعرضتها الآیات حول صفات المسلمین الذين كانوا في عهده (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ )، كما في قوله تعالی: «قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمّا یَدْخُلِ الْإِیمانُ في قُلُوبِكُمْ وَ إِنْ تُطِیعُوا اللّه وَ رَسُولَهُ لا یَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَیْئاً إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِیمٌ» (1).
وقوله تعالی: «إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ» (2).
وقوله تعالی: «وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّه إِمّا یُعَذِّبُهُمْ وَ إِمّا یَتُوبُ عَلَیْهِمْ وَ اللّه عَلِیمٌ حَكِیمٌ» (3).
وقوله تعالی: «وَ ما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ في سَبِیلِ اللّه وَ الْمُسْتَضْعَفِینَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ» (4).
وقوله تعالی: «أَمْ حَسِبَ الذينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ یُخْرِجَ اللّه أَضْغانَهُمْ» (5).
وكذا قوله تعالی: «یا أَیُّهَا الذينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي
ص: 103
وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِیاءَ تُلْقُونَ إِلَیْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ قَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ یُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَ إِیّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللّه رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً في سَبِیلِیي وَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَیْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ أَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَیْتُمْ وَ ما أَعْلَنْتُمْ وَ مَنْ یَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِیلِ» (1).
وقوله تعالی: «وَ مَنْ یَعْصِ اللّه وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِیناً» (2).
وهناك أسماء وعناوین وصفات كثیرة ذكرتها الآیات التي تنعت وتصنّف المسلمین في عهد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ).
ومن الواضح أنّ هذه الآیات تشیر إلی وقائع وحوادث وقعت من قِبل بعض المسلمین فیما یرتبط بالولایة للّه ورسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) التي لها دور أساسيّ فیما یرتبط بالعقیدة والإیمان، وأنّ التفریط بهذه الولایة والطاعة للّه وللرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) یوجب الضلال، وغیر ذلك من الآیات التي تصف بعض المسلمین في عهده (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) بأنّهم أهل ضلال.
قد یقال إنّ التحذیر القرآني للمسلمین من موالاة الكفّار بدل المسلمین إنّما هو متوجّه إلی خصوص المنافقین لا المؤمنین.
ص: 104
والجواب: إنّ الآیة واضحة الدلالة علی كون الخطاب موجّه إلی المؤمنین خاصّة لا المنافقین، كما في قوله تعالی: «یا أَیُّهَا الذينَ آمَنُوا» حیث نعتت الآیة المباركة بعض المسلمین بالضلال بعد أن كانوا مؤمنین.
وكقوله تعالی: «وَ مِنَ النّاسِ مَنْ یَقُولُ آمَنّا بِاللّه وَ بِالْیَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِینَ * یُخادِعُونَ اللّه وَ الذينَ آمَنُوا وَ ما یَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما یَشْعُرُونَ*فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللّه مَرَضاً وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِیمٌ بِما كانُوا یَكْذِبُونَ» (1).
ومن الواضح أنّ وصف الذين «فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» هو وصف لبعض المسلمین(2).
وعلی هذا فإنّ ظاهرة الإیمان التي هي درجة أرفع من ظاهرة الإسلام، كانت علی عهد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) بین صفوف المسلمین، ومن ثمّ تعدّدت فئات المسلمین في عهد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ).
وبالتالي یصحّ، بل یتعیّن القول بأنّ المسار المذهبي كان فی عهده (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ )، كما یتبیّن من ذلك أیضاً أنّ اصول الإیمان لا تستند إلی
ص: 105
الاختلاف في الاجتهاد والآراء وتفسیر النصوص الدینيّة، وإنّما ترجع إلی التسلیم القلبيّ بثوابت اصول الإیمان أو عدم التسلیم بها، وتكشف عن أنّ ظاهرة المذهبية لیس منشأها الاجتهاد فقط، وإنّما منشأها الأصليّ هو التسلیم القلبيّ بتلك الاُصول.
وبعبارة اخری: إنّ المذاهب جمیعاً متّفقة علی أنّ للإیمان اصولاً معیّنة تزید علی صرف الإقرار اللساني بالشهادتین، غایة الأمر أنّهم اختلفوا في تحدید تلك الاُصول وتعیینها.
وكذلك اتّفاق المذاهب الإسلاميّة علی أنّ ما به النجاة یوم القیامة یتوقّف علی الإیمان القلبيّ، لا علی الإقرار اللسانيّ فقط.
وممّا تقدّم، یتّضح أنّ البحث في الظاهرة المذهبية لیس هو بحث عن الحكم بصفة الإسلام في دار الدنیا، وإنّما هو بحث عن طریق النجاة في الآخرة.
وبناءً علی هذا یتّضح أنّ سیرة الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) بین المسلمین قائمة علی إعطاء كافّة المسلمین حقوق المسلم التي أقرّتها الشریعة الإسلاميّة، علی الرغم من اختلافهم في صفة الإیمان والنفاق والضلال، وغیر ذلك من الصفات.
فمع وجود مثل هذه الفوارق في توجّهات المسلمین المذهبية في عصر الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ )، نجد أنّ الكلّ یعیشون في بیئة تعایشیّة
ص: 106
واحدة وذات وظائف مشتركة، مقابل حقوق عامّة ثابتة.
وعلی هذا الأساس، تكون سیرة الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) في المسلمین في النظام التعایشيّ بین المسلمین، نموذجاً متّبعاً في الأجیال اللاحقة.
كما أنّه یتبیّن ممّا مضی أنّ الظاهرة المذهبية رغم كون منشأها الاختلاف العقائديّ وفي الاُمور الثابتة، إلّاأنّ ذلك لا یوجب عدم الاشتراك في صفة الإسلام، وكذلك إنّ الاختلاف في الاُمور الثابتة الیقینية لا یوجب القول بأنّ موارد الاختلاف بین المسلمین كلّها اجتهادیّة ولیست ثوابت یقینیّة.
ص: 107
من أهمّ عوامل نجاح عملیّة التقریب بین الطوائف والمذاهب الإسلاميّة هو شمولیّتها لكلّ تلك المذاهب بلا استثناء، فلا یثمر التقریب مع إقصاء مذهب أو طائفة معیّنة.
وبعبارة اخری: إنّه من الظلم استحواذ بعض الطوائف لتمثیل الموقف الإسلامي الرسميّ، وتهمیش وإبعاد الطوائف الاُخری.
ولعلّ السبب في ذلك یبدو واضحاً؛وذلك لأنّ الإقصاء والإبعاد لمذهب أو طائفة عن دائرة الحوار والتقریب بین المذاهب الإسلاميّة، سوف یؤدّي بدوره إلی تكریس الفرقة والمباینة بین الطوائف الإسلاميّة، ویشكّل بذرة إشعال فتیل الفتنة، وعدم الشمولیّة والإقصاء لعدّة من الطوائف هو الذي شاهدنا في ندوات ومؤتمرات الوحدة والتقریب.
وهذه ظاهرة سلبیّة وممارسة لا تطابق الشعارات المرفوعة والأهداف المنادي بها، كما أنّ التمثیل للجمیع لا بدّ أن یكون بنحو متناسب أو متناصف، كما أنّ الجغرافیا المذهبية لا بدّ أن تؤخذ بالحسبان.
ص: 108
العدالة والعدل من الاُسس الضروريّة التي تمثّل القاعدة التحتیّة التي ینهض علیها نظام التعایش والاُلفة، كما قال تعالی: «قُلْ یا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلی كَلِمَةٍ سَواءٍ بَیْنَنا وَ بَیْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّه وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَیْئاً وَ لا یَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّه فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنّا مُسْلِمُونَ» (1) التي ترمي الإشارة إلی أنّ جمیع البشریّة، بما أنّها متساویة النسبة في العبودیّة للّه تعالی المالك للاُمور؛ فلا بدّ أن تحصل التسویة والسواسیة بینهم.
وإنّ الاستعلاء والتسلّط واتّخاذ بعض البشر لبعضهم عبیداً لا یحقّق التسویة والوفاق فیما بینهم.
فلا بدّ أن یكون الجمیع متساوین، ولا امتیاز لبعضهم علی بعض ولا استثناء ولا اختصاص؛لأنّ الأصل في الأشیاء كلّها، أنّها خاصّة للّه تعالی، وأنّ البشر متساوون في العبودیّة له، إلّاما خصّه اللّه تعالی لبعض دون البعض، ولا یخفی أنّ العدل لا یقتصر علی إشباع
ص: 109
الحاجة وتوفیر متطلّبات الناس، وإنّما هو التسویة في جمیع الاختصاصات والموارد، ومن ثمّ لو استأثرت طائفة بنسبة عالیة من الثروات والحقوق دون الطوائف الاُخری؛فلن تستتبّ الاُلفة والتعایش، كما قالت الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ): «بالعدل تنسیق القلوب».
ولذلك یتخوّف الباحثون الاجتماعيّون من انفجار اجتماعيّ في الشعوب الغربیّة، وتذمّر في أوساطهم، كما تشیر إلی ذلك الاستفتاءات والدراسات التي اجریت في هذا المجال في الأعوام الأخیرة.
وسبب ذلك هو ما نلمسه من استئثار الأنظمة الغربیّة لموارد الثروات وحصرها في طبقة معیّنة، علی الرغم من تلبیة تلك الأنظمة لمتطلّبات وحاجیات المعیشة لغالبیّة الشعوب بنسبة متوسّطة بالقیاس إلی الشعوب الشرقیّة.
ص: 110
من أبرز ما أكّدت علیه النصوص القرآنیّة هو كیفیّة تحقیق وتكوین وتشكیل الرؤیة والحكم تجاه الجماعات والأقوام الآخرین، فیما یتعلّق بعقائدها ومتبنّیاتها الفكریّة، ولعلّ أوضح النصوص القرآنیّة التي یسلّط فیها الضوء علی كیفیّة تشكیل الرؤیة لأيّ طرف آخر، هي:
1-قوله تعالی: «إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا أَنْ تُصِیبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ» (1) التي نزلت في الولید بن عقبة بن أبي معیط بعدما بعثه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) في صدقات بني المصطلق، فخرجوا یتلقّونه فرحاً به، وقد كان بین الولید وبینهم عداوة في الجاهلیة، فظنّ أنّهم همّوا بقتله، فرجع إلی رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) وقال إنّهم ارتدّوا ومنعوا الزكاة، في حین أنّ الأمر لم یكن كذلك، فعزم المسلمون لغزوهم، إلّاأنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) بعث إلیهم علیّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) لیثبّت من حالهم، فوجدهم منادین بالصلاة متهجّدین، فسلّموا إلیه (عَلَيهِ السَّلَامُ) صدقاتهم، فرجع (عَلَيهِ السَّلَامُ)،
ص: 111
فنزلت الآیة تحذّر المسلمین من الحكم علی الآخرین من دون علم وبیّنة معتبرة، فیما یتعلّق بعقائدهم ومبانیهم الفكریّة ومعتنقهم وانتمائهم الدینيّ والمذهبي.
2-قوله تعالی: «وَ اعْلَمُوا أَنَّ فِیكُمْ رَسُولَ اللّه لَوْ یُطِیعُكُمْ في كَثِیرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ» (1) التي تشیر إلی أنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) لو لم یثبّت في الأمر- بمقتضی عصمته - وتابع رأیهم، لوقع المسلمون في المشقّة والعنت.
3-قوله تعالی: «وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَیْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَی الْأُخْری فَقاتِلُوا التي تَبْغِي حَتّی تَفِیءَ إِلی أَمْرِ اللّه فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَیْنَهُما بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللّه یُحِبُّ الْمُقْسِطِینَ*إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَیْنَ أَخَوَیْكُمْ وَ اتَّقُوا اللّه لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» (2).
حیث تشیر الآیة المباركة إلی ضرورة اتّخاذ منهج العدل والقسط في الحكم بین الطوائف الإسلاميّة، ومن الواضح أنّ مثل هذا الحكم لا تكفي فیه البیّنة الشرعیّة الظنّية، ولو كانا شاهدین عدلین، بل لا بدّ فیها من تحقیق العلم بالحال؛لأنّه لیس من قبیل الحكم
ص: 112
علی قضیّة فردیّة التي یكتفي فیها بإقامة البیّنة المتمثّلة بشاهدین عدلین، وإنّما هو حكم علی جماعات وأقوام ومجامیع بشریّة، فلا ینهض الطریق الظنّي المعتمد في الشؤون الفردیّة، للحكم علی قضیّة مجتمع أو قبیلة أو جماعة ذات أفراد متعدّدة.
وبعبارة اخری أنّ قوله تعالی: «فَتَبَیَّنُوا أَنْ تُصِیبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ» قاعدة في نظام الحكم والقضاء في شؤون الجماعات والأقوام، وأنّه لا بدّ أن یكون مبنیّاً علی التبیّن، وهو العلم لا البیّنة العادلة الظنّية فضلاً عن خبر الواحد.
ولعلّ السبب في ذلك یبدو واضحاً؛إذ أنّ الحكم في قضیّة تتعلّق بطائفة من الناس لا یكفي فیها البیّنة التي تقام في قضیّة فردیّة؛ وذلك لخطورة المقام؛لأنّه یتعلّق بالجماعات والطوائف، ومن المسائل المرتبطة بالدماء الكثیرة والأعراض والأموال ونحوها، لمجامیع بشریّة متعدّدة فلا یسوغ التساهل والتهاون في مثل هذه الأحكام.
إذن هي النصوص القرآنیّة المباركة تؤسّس لأمر بالغ الخطورة علی صعید تشكیل وتكوین الرؤیة حول الآخرین ومتبنّیاتهم الفكریّة والعقائديّة.
وهذه القاعدة تؤكّد علی ضرورة لزوم تحرّي العلم وتبیّن الحال
ص: 113
في الحكم علی أيّ جماعة، بأيّ حكم من الأحكام، لا سیّما الأحكام التي یترتّب علیها هدر الدماء والأعراض، كالتكفیر والارتداد والتضلیل من دون علم وتبیّن الحال.
وبناءً علی هذه القاعدة، لا یسوغ الحكم علی أي طائفة من الطوائف الإسلاميّة بنسبة عقیدة أو متبنّي فكريّ إلیهم أو باعتناقهم لمقال معیّن وغیرها من الأحكام، علی أساس قول ممّن لا ینتمي إلی تلك الطائفة، أو ممّن لم یكن قوله معتمداً لدیهم، بل لا بدّ من التحقّق فیما ورد في مصادرهم الأساسیّة، وأقوال المشهور من علمائهم، فلا یسوغ الاعتماد علی الأقوال الشاذّة والنادرة التي لا تمثّل المتبنّي الرسميّ لهم.
وهذه ضابطة وقاعدة مهمّة، لیس من الصحیح التفریط بها وتخطّیها؛لأنّ ذلك یفضي إلی إیجاد ذرائع وحجج تستغلّ من قِبل آخرین لإثارة الفتن والنزاعات بین المسلمین بغیة تحقیق أهداف سیاسيّة مغرضة.
وعلی هذا، فكلّ آلیّة ووسیلة لمعرفة عقائد ومتبنّیات الآخرین إذا لم تكن مقنّنة ومنضبطة بضوابط علمیّة ومنطقیّة، كمطلق الظنون وأخبار الآحاد، فإنّها سوف تؤدّي إلی الوقوع في هذه المحاذیر وإشعال الفتن والنزاعات.
ص: 114
وهذه القاعدة تشمل أیضاً الحوار العلميّ، بل تعدّ ركناً من أركانه، فلا یتمّ الحیاد ولا الموضوعیّة العلمیّة إلّابالاعتماد علی أداة العلم والتبیان، لا الظنون والتظنّيّ، إذ لا یثمر مثل ذلك في الوصول إلی الحقیقة.
خلاصة هذه القاعدة ما یلي:
1-عدم جواز نسبة أيّ حكم أو متبنّي عقائديّ أو فقهيّ أو رؤیة دینیّة، إلّامن خلال المصادر المعتبرة لدی تلك الجماعة أو المذهب.
2-یجب اعتماد المشهور لدی كلّ جماعة وطائفة في النسبة إلیهم.
3-لا بدّ من الاعتماد علی العلم الیقیني، فلا تكفي الظنون وإن كانت معتبرة؛لأنّ الحكم علی أيّ مذهب من القضایا ذات الشأن العامّ التي لا یعتمد فیها إلّاعلی الیقین.
ص: 115
هنالك ك قاعدة مهمّة حَریّة بالبحث والدراسة، تتعلّق بكیفیّة التعایش المدنيّ وحقّ المواطَنة والنظام السیاسيّ، أشارت إلیها جملة من النصوص القرآنیّة.
ومن النصوص القرآنیّة التي أضاءت هذه الحقیقة، هي قوله تعالی: «إِنَّ الذينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ في سَبِیلِ اللّه وَ الذينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِیاءُ بَعْضٍ وَ الذينَ آمَنُوا وَ لَمْ یُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلایَتِهِمْ مِنْ شَیْ ءٍ حَتّی یُهاجِرُوا وَ إِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ في الدِّینِ فَعَلَیْكُمُ النَّصْرُ إِلاّ عَلی قَوْمٍ بَیْنَكُمْ وَ بَیْنَهُمْ مِیثاقٌ وَ اللّه بِما تَعْمَلُونَ بَصِیرٌ» (1).
حیث أشارت هذه الآیة المباركة إلی أنّ الولاء السیاسيّ، بمعنی الانتماء والعیش في كنف نظام سیاسيّ معیّن، یتضمّن وینطوي علی تبعیّة مَن یعیش في ذلك النظام إلی مقرّرات وسلطة ذلك النظام، وهو ما قد یعبّر عنه بالتسلیم والانقهار تحت سلطان وقدرة
ص: 116
ذلك النظام.
والولاء السیاسيّ والانتماء والعیش في ظلّ ذلك النظام، یقتضي وجود واجبات ووظائف في مقابل حقوق وامتیازات.
أمّا الواجبات والوظائف العامّة تجاه ذلك النظام السیاسيّ، و التي ینبغی الالتزام بها لكلّ من یعیش في كنف ذلك النظام، فهي من قبیل الدفاع عن الأمن العامّ للمجتمع في ذلك النظام، ودفع الضرائب، والتقیّد بسائر مقرّرات النظام العامّ، ونحوها من الواجبات.
وأمّا الحقوق والامتیازات التي یلزم توفّرها لكلّ من یعیش تحت ظلّ ذلك النظام السیاسيّ، فهي من قبیل استحقاق وتوفّر الحمایة المدنيّة علی المال والنفس والعرض، والانتفاع بالخدمات المدنيّة العامّة، والاستحقاق من المال العامّ كالضمان الاجتماعيّ أو الفیء العامّ، ونحوها من الاستحقاقات.
وهذه الحقوق والواجبات التي یقرّرها النظام السیاسيّ غیر مترتّبة علی مجرّد الولاء الدیني، بمعنی عدم كفایة الانتماء إلی الدین الحنیف في ترتّب آثار الولاء السیاسيّ بل لا بدّ من العیش تحت ظلّ النظام السیاسيّ المتقدّم.
فلو فرضنا أنّ مسلماً كان یعیش في بلاد ونظام الكفر، فلا تثبت
ص: 117
له الحقوق المدنيّة التي یوفّرها النظام الإسلاميّ ما دام ولاؤه السیاسيّ تابع لنظام الكفر، إلّاإذا هاجر إلی بلاد المسلمین لیعیش تحت نظامهم.
كذلك العكس، وهو ما لو كان الكافر من أهل الكتاب أو المهادن یعیش في بلاد المسلمین وتحت ظلّ نظامهم، بمعنی الولاء السیاسيّ، فله جملة من الحقوق المدنيّة والحمایة العامّة.
نعم، لا یثبت للكافر النصرة في الدین والمعتقد، ولو عاش في ظلّ النظام الإسلاميّ، كما أنّه تثبت النصرة في الدین، أي الحمایة للمسلم الذي یعیش في بلاد الكفر في البعد الدینيّ، لا النصرة والحمایة في البعد المعیشيّ المدنيّ.
وهذا ما تشیر إلیه الآیة المتقدّمة: «إِنَّ الذينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ في سَبِیلِ اللّه وَ الذينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِیاءُ بَعْضٍ»، أي تثبت للمسلمین الذين هاجروا وجاهدوا...مطلق الولایة، أي الشاملة للولایة السیاسيّة المدنيّة والولایة الدینيّة.
وذلك بعد تحمّلهم لأعباء الهجرة، سیكون لهم العیش تحت كنف النظام الإسلاميّ، والقیام بالوظائف العامّة، كدفع الضریبة المالیّة وهو الجهاد بالأموال، والدفاع عن الأمن الاجتماعيّ
ص: 118
والدینيّ، وهو الجهاد بالنفس في سبیل اللّه.
وفي مقابل ما تقدّم تشیر الآیة إلی الذين لم یقوموا بما قام به اولئك المهاجرون والمجاهدون كما في قوله تعالی: «وَ الذينَ آمَنُوا وَ لَمْ یُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلایَتِهِمْ مِنْ شَیْ ءٍ حَتّی یُهاجِرُوا» (1)، أي الذين انتموا إلی هذا الدین، ولكن لم یهاجروا ویعیشوا في بلاد المسلمین، وإنّما بقوا في دیار الكفر، فلا یثبت لمثل هؤلاء ما یثبت للمسلمین من حقّ الحمایة وما یرافقها من امتیازات للمسلمین الذين یعیشون في بلاد الإسلام وتحت ظلّ نظام الإسلام.
نعم، یستثنی من ذلك ما في قوله تعالی: «وَ إِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ في الدِّینِ فَعَلَیْكُمُ النَّصْرُ»، أي یجب نصرتهم في الدین، فیما لو اضطهدوا بسبب انتمائهم الدینيّ.
وقد ورد في (تفسیر العیّاشي) عن زرارة، عن أبي جعفر وأبي عبداللّه (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)، قال: «سألتهما عن قوله: «وَ الذينَ آمَنُوا وَ لَمْ یُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلایَتِهِمْ مِنْ شَیْ ءٍ حَتّی یُهاجِرُوا»، قالا: إنّ أهل مكّة لا یرثون أهل المدینة»(2).
وهذا المعنی یقرّره الشیخ الطوسي بقوله: «الولایة عقد النصرة
ص: 119
للموافقة في الدیانة، ثمّ أخبر تعالی عن الذين آمنوا ولم یهاجروا من مكّة إلی المدینة، فقال: «وَ الذينَ آمَنُوا وَ لَمْ یُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلایَتِهِمْ مِنْ شَیْ ءٍ».
وقیل في معناه قولان:
أحدهما: ولایة القرابة، نفاها عنهم لأنّهم كانوا یتوارثون بالهجرة والنصرة دون الرحم. في قول ابن عبّاس والحسن وقتادة والسدّيّ، وعن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ): إنّهم كانوا یتوارثون المؤاخاة الاُولی.
الثاني: إنّه نفي الولایة التي یكونون بها یداً واحدة في الحلّ والعقد، فنفي عن هؤلاء ما أثبته للأوّلین حتّی یهاجروا»(1).
والحاصل: أنّ الولایة المقرّرة في الآیة لا تختصّ بولایة المیراث، بل هي شاملة لولایة النصرة، وولایة الأمن، أي الولاء السیاسيّ.
وعلی ضوء هذا لا یرد الاعتراض بأنّ الآیة منسوخة بقوله تعالی:«وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلی بِبَعْضٍ في كِتابِ اللّه» (2)؛ وذلك لأنّ النسخ لبعض مفاد الآیة لا یستلزم النسخ لجمیع مفادها، فلا یرفع الید عن بقیّة مفاد الآیة.
ص: 120
ویتحصّل من مفاد القاعدة لما نحن فیه من المقام أنّ الآثار والامتیازات ثابتة للشخص لأجل ولائه السیاسيّ وعیشه في ظلّ النظام الإسلاميّ، دون من یعیش في بلاد الكفر، فإنّه لا تثبت له تلك الامتیازات من النصرة والحمایة والأمن، والاستحقاقات من بیت المال.
وهذا المفاد من الآیة لا یتنافی مع آیة: «وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلی بِبَعْضٍ في كِتابِ اللّه» ؛لأنّ مورد كلّ منهما أجنبيّ عن الآخر، فلا تكون آیة اولی الأرحام ناسخة للآیة في المقام، بلحاظ هذا المورد، وإن كانت آیة اولی الأرحام ناسخة لمورد الوراثة فیها.
وممّا یعضد مفاد هذه القاعدة، ما تشیر إلیه آیة الذمّة، والجزیة في أهل الكتاب من أنّهم بانضوائهم تحت النظام الإسلاميّ، یجب علی المسلمین القیام بجملة من الواجبات تجاههم، من قبیل حمایتهم من الاعتداء الخارجيّ، وحمایة نفوسهم وأعراضهم وأموالهم من الظلم الداخليّ، ومنحهم حریّة التدیّن وحریّة العمل والكسب ونحوها من الحقوق.
ویعضد هذه القاعدة قوله تعالی: «فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِیاءَ حَتّی یُهاجِرُوا في سَبِیلِ اللّه فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَ اقْتُلُوهُمْ حَیْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ لا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِیًّا وَ لا نَصِیراً إِلاَّ الذينَ یَصِلُونَ إِلی قَوْمٍ بَیْنَكُمْ
ص: 121
وَ بَیْنَهُمْ مِیثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ یُقاتِلُوكُمْ أَوْ یُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَ لَوْ شاءَ اللّه لَسَلَّطَهُمْ عَلَیْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ یُقاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَیْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللّه لَكُمْ عَلَیْهِمْ سَبِیلاً» (1)، حیث قرّرت أنّ میزان الولاء السیاسيّ یتحدّد علی أساس الهجرة في سبیل اللّه إلی دار الإسلام ونظامه، وكذا من یرتبط بنظام الإسلام بمیثاق، یكون تحت ظلّ ولایة النظام الإسلاميّ.
وكذلك قوله تعالی: «وَ إِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَیْنَكُمْ وَ بَیْنَهُمْ مِیثاقٌ فَدِیَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلی أَهْلِهِ» (2).
ص: 122
علی ضوء ما تقدّم من مفاد هذه القاعدة التي تقول إنّ ترتّب الامتیازات والحقوق التي یوفّرها النظام الإسلامي والخدمات المدنيّة، یكون علی أساس الولاء السیاسيّ لا مجرّد الانتماء الدیني أو المذهبي، فعلی هذا الأساس یجب عدم التفریق بین أفراد المسلمین في الاستحقاقات المدنیة في النظام الإسلامي في البلد الواحد، مهما كان انتماؤه المذهبي، فإنّ أتباع كلّ مذهب، لهم من الحقوق والاستحقاقات المدنيّة في ذلك البلد الذي یعیشون فیه، وإن اختلف النظام السیاسيّ في تلك الدولة في الانتماء المذهبي.
ذهب جملة من المتطرّفین في تفسیر حدیث الفرقة الناجیة - وهو قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ): «إنّ بني إسرائیل تفرّقوا علی إحدی وسبعین فرقة، وإنّ هذه الاُمّة (یعني امّته) ستفترق علی اثنتین وسبعین فرقة، كلّها في النار إلّا فرقة واحدة» (1)-إلی تفسیر معنی ومفاد الحدیث الشریف
ص: 123
بتفسیر خاطئ، حیث قالوا: لمّا كان حدیث الفرقة الناجیة یفید حصر النجاة في فرقة واحدة، وكون بقیّة الفرق الإسلاميّة الاُخری علی ضلال، فإنّ ذلك یقتضي محاربة جمیع الفرق الضالّة وهدر حرمتها، ونفي صفة الإسلام عنها، وإن كانت تنتحل الإسلام وتتشهّد الشهادتین، لأنّها فرق ضالّة مصیرها إلی النّار، كما هو مقتضی تعبیر الحدیث:«أنّها في النار».
إلّاأنّ هذا التوهّم فاسد وباطل، وذلك للنقاط التالیة:
1-إنّ مسائل العقیدة وقواعد الدین لا یمكن استخلاصها من دلیل واحد كآیة، أو حدیث قطعيّ الصدور من دون فهم بقیّة الأدلّة المتعلّقة بذلك الموضوع؛لأنّ الدین منظومة واحدة لا تتجزّأ وهي غیر متدافعة مع بعضها البعض، وعلی هذا، فالنظرة التجزیئیّة الاحادیّة زائغة عن الصراط القویم، وهذا ما ندّد به القرآن الكریم بقوله تعالی:«أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ یَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاّ خِزْيٌ في الْحَیاةِ الدُّنْیا وَ یَوْمَ الْقِیامَةِ یُرَدُّونَ إِلی أَشَدِّ الْعَذابِ وَ مَا اللّه بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ» (1).
ص: 124
2-وجود اختلاف بین أحكام دار الدنیا وبین أحكام دار الآخرة فإنّ الحكم في دار الدنیا قائم علی ظاهر الحال-كما تقدّم-من أنّ الإقرار بالشهادتین یوجب حقن الدماء والأعراض والأموال، والحكم علی مَن تشهّد الشهادتین بالإسلام، ویحكم له ما للمسلمین وعلیه ما علیهم، وإن كان منافقاً.
وأمّا أحكام الآخرة، من النجاة من النّار، وجزاء اللّه وعقابه، فهي أحكام تترتّب علی اعتقاد الإنسان الباطنيّ، وما عقد علیه قلبه، وما استقرّت علیه جوانحه، وما اعتقده ضمیره؛وذلك بحسب ما تواتر لدی المسلمین من الآیات والروایات التي سبقت الإشارة إلیها في البحث السابق بأنّ مَن تشهّد الشهادتین دخل في حظیرة الإسلام.
وهذا المعنی یلتقي مع الألفاظ الواردة في حدیث الفرقة الناجیة التي نسب فیها رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) جمیع الفرق المتفرّقة إلی امّته وهي امّة الإسلام، في حین قصر (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) الحكم الاُخرويّ من النجاة من النار، علی فرقة واحدة منها دون أحكام دار الدنیا.
إذن، الحدیث في صدد الإشارة إلی الأحكام الاُخرویّة دون أحكام الدنیا.
وممّا یؤكّد هذه القاعدة من التفصیل بین أحكام الآخرة وأحكام الدنیا، هو قوله تعالی: «وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا
ص: 125
بَیْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَی الْأُخْری فَقاتِلُوا التي تَبْغِي حَتّی تَفِیءَ إِلی أَمْرِ اللّه» (1).
فقد أطلقت الآیة الكریمة صفة الإیمان علی كلا الطائفتین المتقاتلتین رغم كون إحداهما باغیة لم تفئ إلی أمر اللّه، وهناك آیات اخری تؤكّد المضمون ذاته.
وهنالك فهم آخر لحدیث الفرقة الناجیة، یتركّز فیه جانب التفریط، وهو قول المرجئة القائلین بأنّ كلّ من تشهّد الشهادتین بلسانه یكون ناجیاً یوم القیامة، مع أنّ الحدیث الشریف یكشف بشكل واضح عن وجوب الفحص والبحث عن تلك الفرقة المحقّة الموعودة بالنجاة، والتمسّك بها دون بقیّة فرق المسلمین، كسلوك مرتبط بالآخرة، لأنّ مؤدّی الحدیث النبويّ هو أنّ الاختلاف الواقع لیس في دائرة الظنون والاجتهاد المشروع الموجب للتعذیر، وإنّما الحدیث في صدد الإشارة إلی أنّ اصول الإیمان وأركان المعرفة من الاُمور القطعية والیقینية، وإن لم تكن ضروريّة عند كلّ المسلمین بسبب اختلاف وجهات النظر بین الفرق الإسلاميّة.
فحدیث الفرقة الناجیة یمثّل منهجاً مهمّاً لغایات وأهداف
ص: 126
الوحدة، وهو الحثّ علی ضرورة البحث والتنقیب والحوار لأجل الوصول إلی الحقّ والهدی، وأنّ أفراد الاُمّة الإسلاميّة وإن اشتركوا جمیعاً بتشهّدهم للشهادتین وتعایشوا في ظلّ أمن نظام موحد كافل لهم، إلّاأنّ ذلك بحسب ظاهر الإسلام في النشأة الدنیویّة، أمّا النجاة في الآخرة، فالمیزان فیها هو الإیمان-كما تقدّم -.
فهنالك صفة الإسلام تتحقّق بالإقرار باللسان وتترتّب علیه أحكام المواطنة في دار الإسلام ونظامه، وإلی جوار صفة الإسلام توجد صفة الإیمان التي تتحقّق بالاعتقاد القلبيّ وتترتّب علیها الأحكام الاُخرویّة من النجاة من النار ونحوها.
ص: 127
ص: 128
ص: 129
ص: 130
وحاصل هذا النظام عبارة عن صیاغة مواقف سیاسيّة مشتركة ضمن آلیّات معیّنة، یمكن أن تقع في مجالات متعدّدة كمجال السیاسة بین الدول، وفي المجالات الاجتماعيّة والاقتصادیّة ونحوها.وقد یعرف بأنّه نظام تدبیر سیاسيّ بحسب الظرف الراهن.
یرمي هذا النظام إلی معالجات آنیّة وسریعة لحفظ المصالح المشتركة بین الأطراف، وتبدید النزاعات والتشنّجات الراهنة.
یتمیّز نظام التنسیق عن نظام الوحدة ونظام التقریب في تكفّله لمعالجة سریعة وإیجاد الحلول للأزمات الراهنة التي لا یمكن تأخیر معالجتها بالاعتماد علی نظام الوحدة أو التقریب اللذان یتطلّبان وقتاً مستغرقاً وطویلاً.
ص: 131
من الواضح أنّ نظام التنسیق والتوافقات یتّكئ أیضاً علی بعض المشتركات في نظام الوحدة، ولا یتوقّف علی إنجازات الوحدة في دوائرها الوسیعة.
كما لا یتوقّف هذا النظام علی نظام التقریب، بل یقع في موازاته، فإنّ نظام التنسیق یمكن أن یوجد ویتحقّق وإن لم یكن لنظام التقریب وجود وحیاة.نعم، هناك ثمار وآلیّات مشتركة بین نظام التقریب ونظام التنسیق.
إنّ للوحدة حدّاً أعلی وأدنی، وهذا ما یقرّره عدد من النصوص القرآنیّة، منها:
1-قوله تعالی: «وَ أَطِیعُوا اللّه وَ رَسُولَهُ وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِیحُكُمْ وَ اصْبِرُوا إِنَّ اللّه مَعَ الصّابِرِینَ» (1)، حیث یكشف صدر الآیة عن أنّ الحدّ الأعلی للوحدة التامّة هو الطاعة للّه وللرسول، أي الانقیاد والولاء التامّ للّه ورسوله.
ص: 132
بینما تكفّل ذیل الآیة وهو «وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا» بیان الحدّ الأدنی للوحدة، وهو تحریم التنازع بین المسلمین.
ولعلّ أروع ما تضمّنته الآیة المباركة هو أنّها جاءت مشفوعة ببیان فلسفة وحكمة وسبب حرمة التنازع، وهو أنّ التنازع یؤدّي ویفضي إلی الفشل والضعف وذهاب قوّة المسلمین وقدرتهم، كما هو واضح من تعبیر الآیة ب_«وَ تَذْهَبَ رِیحُكُمْ»، أي تذهب غلّتكم وقوّتكم.
وعلی هذا الضوء، فإنّ الحدّ الأدنی من الوحدة، وهو إیجاد الحلول السریعة والآنیّة لتجنّب حصول الأزمات والنزاعات أو لتكوین موقف متّحد تجاه موضوع معیّن، سواء فیما بین المسلمین أنفسهم أم بین المسلمین وغیرهم، هو ما یسمّی بنظام التنسیق والانسجام والتوافق.
2-قوله تعالی: «وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّه جَمِیعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّه عَلَیْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَیْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَ كُنْتُمْ عَلی شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ یُبَیِّنُ اللّه لَكُمْ آیاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» (1).
فقد أشار صدر الآیة المباركة أیضاً إلی أنّ الحدّ الأعلی للوحدة،
ص: 133
هو الاعتصام بحبل اللّه، بمعنی الولاء والاتّباع للّه ولرسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ).
أمّا ذیل الآیة فقد تصدّي لإبراز وبیان الحدّ الأدنی من الوحدة وهو تجنّب النزاع والفرقة بأيّ شكل من الأشكال، وهذا الحدّ الأدنی من الوحدة یطلق علیه اسم نظام التنسیق والانسجام والتوافق.
إذن، نظام التنسیق والانسجام والتوافق، یمثّل الحدّ الأدنی للوحدة، والتفریط به یؤدّي إلی حصول العداوة بین المسلمین، ویذهب بالنعمة العظیمة التي منّ اللّه تعالی بها علیهم، وهي الاُلفة بین القلوب، كما في تعبیر الآیة ب_« فَأَلَّفَ بَیْنَ قُلُوبِكُمْ».
وهناك عدّة نصوص قرآنیّة اخری تشاركها في المضمون ذاته مؤكّدة علی خطورة التجاوز والتفریط بالحدّ الأدنی للوحدة، وهو نظام التنسیق والانسجام والتوافق، كقوله: «إِذْ یُرِیكَهُمُ اللّه في مَنامِكَ قَلِیلاً وَ لَوْ أَراكَهُمْ كَثِیراً لَفَشِلْتُمْ وَ لَتَنازَعْتُمْ في الْأَمْرِ» (1).
وقوله: «وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّه وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتّی إِذا فَشِلْتُمْ وَ تَنازَعْتُمْ في الْأَمْرِ وَ عَصَیْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ یُرِیدُ الدُّنْیا وَ مِنْكُمْ مَنْ یُرِیدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِیَبْتَلِیَكُمْ وَ لَقَدْ عَفا عَنْكُمْ
ص: 134
وَ اللّه ذُو فَضْلٍ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ» (1)، وهي واضحة الدلالة علی توقّف أو شرطیّة عدم التنازع والفرقة في تحقیق المسلمین للنصر.وفي مقابل ذلك فإنّ معصیة الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) وعدم طاعته، مدعاة للتنازع في الأمر.
فهذه الآیة المباركة تلتقي في التأكید مع ما تقدّم من الآیات، في أنّ الحدّ التامّ أو الأعلی للوحدة، لا یمكن تحقیقه إلّابتمام الطاعة للّه ورسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ).
وبناءً علی ما تقدّم یتّضح أنّ أسباب التنازع والفرقة هو اتّباع الأهواء والمیول، والابتعاد عن اللّه ورسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) كما في قوله تعالی:«وَ ما تَفَرَّقُوا إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْیاً بَیْنَهُمْ وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلی أَجَلٍ مُسَمًّی لَقُضِيَ بَیْنَهُمْ وَ إِنَّ الذينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِیبٍ» (2).
وقوله تعالی: «وَ مَا اخْتَلَفَ الذينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْیاً بَیْنَهُمْ» (3).
وغیرها من الآیات التي تصرّح بأنّ أهمّ أسباب الفرقة والاختلاف
ص: 135
هو البغض واتّباع الهوی.
ممّا ینبغي التذكیر به هو أنّ من أهمّ أسباب النزاع والفرقة بین المسلمین وطوائفهم ومذاهبهم، هو ما یقوم به بعض حكّام الشعوب الإسلاميّة من السعي لإشعال فتیل الفتنة بین المسلمین وإیجاد الفرقة بینهم؛ وذلك لأنّ وحدة الصفّ بین المسلمین واتّحادهم وانسجامهم یقلق ویخیف هؤلاء الحكّام، ویهدّد عروشهم؛إذ الانفتاح بین المسلمین والطوائف الإسلاميّة یحیی مبادئ الإسلام الأصیلة الباعثة علی قوّة المسلمین وإقامة العدالة بینهم، وفتح باب إحیاء فریضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر علی مصراعیها، التي من أهمّ بنودها محاسبة الحكّام ومراقبتهم وصدّهم عن الاستبداد والاستئثار بالثروات، وتحكیم قاعدة الاستشارة والشوری، ومشاركة عموم المسلمین في الحكم.
ومن الواضح أنّ إحیاء هذه القواعد والاُصول الإسلاميّة، یهدّد مشروعیّه حكوماتهم واستمرارها، ویحدّد من إطلاق عنانها في التصرّفات، ومن ثمّ یلجأ هؤلاء الحكّام إلی إثارة الفرقة والنزاع بین المسلمین؛لئلّا یواجهوا بجبهة متّحدة من عموم المسلمین.
ص: 136
هناك إثارات وتساؤلات متعدّدة حیال المذهبية، فالشخص المعتنق للدین الإسلاميّ حین دخوله الإسلام ینقدح في ذهنه تساؤل حول تعدّد المذاهب العقائديّة والفقهية في الدین الواحد، وهل أنّ المذهبية من صلب الدین، أم هي مقحمة في الدین ؟
وقد یتساءل عن الفارق بین الدین والمذهب ؟
وهل أنّ الدین یشتمل علی مذاهب متعدّدة أم لا ؟
وإلی جوار ما تقدّم من تساؤلات، قد یثار تساؤل آخر یتوجّه صوب بیان الفارق بین تعدّد الاجتهادات وتعدّد المذاهب ؟
أو أنّ المذاهب هي نفس الاجتهادات، أم شیء آخر ؟
وهل أنّ ما قام به روّاد مرحلة تأسیس المذهبية العقائديّة أو الفقهية، هو عملیّة اجتهادیّة، أو هي عملیّة تختلف جوهریّاً عن ذلك ؟
وعلی تقدیر كونها لیست اجتهادیّة، وإنّما هي شیء آخر، فهل أنّ حقیقة عملیّة تأسیس المذاهب هو فعل یرتقي إلی درجة التشریع في الدین أم لا ؟ وقد یعبّر عنه كما في جملة من الروایات الواردة
ص: 137
من أهل البیت (عَلَيهِم السَّلَامُ) ب_(المنهاج) إشارة إلی قوله تعالی: «جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً» (1).
وغیر ذلك من التساؤلات التي تثار لدی المتابع والمتصفّح لعنوان الدین والشریعة والملّة والنِّحلة والمذهب والمنهاج والطریقة.
ولكي تتّضح الإجابة علی هذه التساؤلات، ینبغي إعطاء لمحة إجمالیّة تصوّریّة عامّة عن حقیقة المذهبية العقائديّة والمذهبية الفقهية لدی المسلمین.
ص: 138
لا شكّ أنّ هناك مذاهب عقائديّة متعدّدة في الدین الإسلاميّ غیر المذاهب الفقهية، فإنّ تنوّع المسلمین إلی شیعة وسنّة، یعدّ تعدّداً مذهبیّاً عقائديّاً، مضافاً إلی تنوّع المذاهب العقائديّة عند الشیعة والسنّة أنفسهم، فمذهب الشیعة تعدّد إلی مذهب الإمامیّة الإثنی عشریّه، والإسماعیلیّة، والواقفیّة، والزیدیّة، والصوفیّة، وغیرها.
وهكذا الأمر بالنسبة إلی السنّة التي تنوّعت مذاهبهم العقائديّة إلی مذاهب متعدّدة، من قبیل مذهب الأشعریّة، والمعتزلة، والسلفیّة، والمرجئة، والقدریّة، والكرامیّة، ونحوها.
إلّاأنّ الشیء الذي یسترعي الالتفات هو أنّ هناك جامعاً مشتركاً بین جمیع هذه المذاهب العقائديّة، یلتقي في تحدید میزان وضابطة المذهبية العقائديّة.
إنّ میزان المذهبية العقائديّة یتشكّل من ركائز متعدّدة، وهي:
الاُولی: إنّ المسائل الاعتقاديّة مرتبطة بأفعال القلب والجوانح، لا الجوارح.
ص: 139
الثانیة: إنّ المسائل الاعتقاديّة ممّا یتحقّق بها الإیمان الذي به تتحقّق النجاة في الآخرة.
وعلی هذا الأساس، فلیست كلّ مسألة اعتقاديّة مختلف فیها تشكّل مذهباً عقائديّاً، بل المسائل التي تدخل في تحدید دائرة المذهب العقائدي هي المسائل الاعتقاديّة التي تعدّ من أركان الإیمان عند كلّ مذهب، لا تفاصیل العقائد.
الثالثة: المسائل الاعتقاديّة التي تتنوّع علی ضوئها المذاهب، هي من سنخ المسائل المستندة إلی أدلّة یقینیّة قطعيّة، بخلاف غیرها من المسائل الاعتقاديّة التي تستند إلی أدلّة نظریّة، سواء كانت قطعيّة أم ظنّيّة.
الرابعة: إنّ منزلة الأشخاص الذين ارتبطت أو اتّسمت بهم هذه المسائل الاعتقاديّة، هي منزلة تفوق درجة الفقهاء أو الرواة العدول بحسب ذلك المذهب.
وتصل المنزلة عند كلّ مذهب بحسبه إلی درجة الإمامة في الدین، ومن ثمّ یتمتّع هؤلاء بقدسیّة خاصّة لدی أتباع المذهب الذي ارتبط بهم، تفوق منزلة الفقهاء والعلماء.
الخامسة: إنّ عملیّة التأصیل العقائديّ لكلّ مذهب، لیست عملیّة اجتهادیّة استنباطیّة ظنّيّة تتحرّك ضمن دائرة المتغیّرات،
ص: 140
بل هي عملیّة بناء ثوابت تمثّل أركان الإیمان.
ولا یعني كون هذه المسائل من الثوابت، وخروجها عن دائرة الاستنباط الظنّي، أنّها لیست داخلة في دائرة الفحص العلميّ؛لأنّ الفحص والتحرّي العلميّ وتحصیل العلم شامل لاُسّ الدین، وهو معرفة الخالق والإیمان به، وكذا النبوّة والرسالة والمعاد، فضلاً عن غیرها من المسائل الاُخری وإن كانت یقینیّة.
فالبحث في مسألة من المسائل ومناقشتها لا یعني اتّكاءها علی أدلّة ظنّيّة اجتهادیّة.
وبعبارة اخری: إنّ استناد مسألة ما علی أدلّة بدیهیّة، فضلاً عن الأدلّة القطعية والیقینية، لا یعني أنّها خارجة عن مساحة المناقشة والفحص والتحرّي العلمي عن أدلّة تلك المسألة.فالمسألة وإن كانت بدیهیّة، إلّاأنّ البحث عن أدلّتها وإثارتها یفید-علی الأقل - التنبیه وإجلاء الغموض الذي قد یعتورها ولو من بعض جهاتها.
وعلی هذا، یتبیّن أنّ دائرة الفحص العلميّ أوسع من دائرة الاجتهاد النظري الظنّي.
عند التأمّل والتدبّر في الدور الذي قام به الجیل الأوّل، وهم أهل البیت (عَلَيهِم السَّلَامُ) عند أتباعهم، أو ما قام به الصحابة لدی أتباعهم أیضاً،
ص: 141
نجد أنّ هذا الدور لدی أتباع كلّ طرف لا یكون اعتباره علی حدّ اعتبار الرواة للروایة، ولا یقتصر أیضاً علی حدّ اعتبار درجة مكانة الفقهاء وفتاواهم، وإنّما درجة واعتبار الدور الذي قام به هذا الجیل تتخطّي وتتجاوز درجة اعتبار الرواة والفقهاء، بحیث تكون حجّیّتهم واعتبارهم دخیلة في حجّیّة الكتاب والسنّة، وأنّ أمانتهم علی الدین واعتبارهم لدی أتباعهم یتوقّف علیها اعتبار الكتاب والسنّة، وأنّ الخدشة في اعتبارهم یستلزم إبطالاً للكتاب والسنّة؛ لذا كانت حجّتهم ضرورة في الدین عند أتباعهم، ومن ثمّ لا یتقدّم علیهم أحد فیما بعدهم، ولا یسوغ الردّ علیهم بأيّ حال من الأحوال.
وعلی هذا الأساس، یتّضح أنّ ما قام به هؤلاء من دور في الدین عند أتباعهم، هو دور فوق النقد والتخطئة وإن لم یكن دورهم لیس فوق الفحص والتحرّي والبحث.ولا یمكن تجاوزه؛ولذا اطلق علیهم أنّهم الأئمّة في الدین لدی أتباع كلّ فریق.
وهذا یكشف عن ضرورة وجود حلقة تتوسّط بین عموم الناس وبین الكتاب والرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ).
ص: 142
ذكرت عدّة أدلّة لهذه الضرورة، نشیر إلیها باختصار:
من الواضح أنّ الكتاب والسنّة یمثّلان المصدرین الأساسیّن للشریعة، وأنّ حجّیتهما قطعيّة، ثابتة عند جمیع المسلمین، كذلك قامت الأدلّة الإعجازیّة علی أنّ القرآن الكریم كلام اللّه تعالی.
إلّاأنّ الشیء الذي ینبغي التركیز علیه هو أنّ تلك الأدلّة الإعجازیّة، وإن كانت شاملة لكلّ آیة من القرآن الكریم، إلّاأنّ هناك مساحة واسعة من الأدلّة الإعجازیّة المتنوّعة للكتاب، غیر متیسّرة الإدراك لعموم الناس في الأجیال اللاحقة للجیل الأوّل، بل وكذا عموم الناس في الجیل الأوّل.
فلأجل إثبات وبیان هذا المقدار من الموارد الإعجازیّة للقرآن الكریم، الغیر المتیسّرة الفهم لعموم الناس، تحتاج لمن یقوم ببیانها ونقلها للمسلمین، كموارد أسباب النزول أو ملابسات الأحداث لنزول الآیات أو الظروف التاریخیّة والاجتماعيّة المصاحبة
ص: 143
والمزامنة، سواء بلحاظ التدوین والكتابة، أو غیرها من الاُمور الكثیرة.
ومن المعلوم أنّ النقل القطعي لا یتحقّق إلّاعبر التواتر، وهو التظافر في العدد الكمّي والكیفيّ، وهو أمر غیر متوفّر في الجیل الأوّل في كلّ الموارد والمشاهد النبویّة؛لقلّة عدد الناقلین، ولعدم مشاهدة عدد من المسلمین یتحقّق بهم نصاب التواتر.
وهذا یعنی عدم وجود تواتر في النقل لموارد كثیرة صدرت عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ )، كتفسیر وبیان لإعجاز أو مفاد آیات القرآن الكریم غیر المیسّرة الفهم لدی عموم الناس، أو لموارد إعجازیّة أو تشریعیّة صدرت منه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ).
وعلی هذا، فتوجد موارد اخری كثیرة لم یشهدها المسلمون من النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) بالشكل الذي یوفّر القطع في النقل والتأدیة عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ )، وهذه الموارد تعدّ من الثوابت والضرورات الدینيّة، ولیست من المسائل الفرعیّة التي یكفی فیها الظنّ.
وبناءً علی هذا، فلا بدّ من أن یكون القائمون بالتأدیة والنقل عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) لمثل هذه الثوابت، بدرجة من الصدق في النقل تفوق اعتبار الرواة، وتفوق في العلم درجة فقاهة الفقهاء في الضبط العلميّ، أي لا یحتمل فیهم الخطأ والاشتباه بنحو یوصد ویسدّ باب
ص: 144
الشكّ والریبة.
وهذه الحلقة هي الإمامة في الدین، التي من مهامّها تأصیل الثوابت العقائديّة والدینيّة.
وهذا الدلیل ینطلق من ضرورة التفسیر الأوّلی للقرآن والسنّة بحسب أسباب النزول، ومنشأ ودواعي صدور الحدیث النبويّ، ولإثبات ما كان من السیرة النبویّة، ممّا له دور مهمّ في تحدید المعنی الابتدائي الذي تتركّز علیه المراحل الاُخری من مراتب المعاني.
وضرورة هذه المرحلة تناظر مرحلة أصل ألفاظ الكتاب والسنّة؛ لأنّها بمثابة نقل الدلالات والعناصر الدخیلة في الدلالة ممّا هو غیر ملفوظ.
ولا یخفی حجم دور هذه الدلالات في رسم المعالم النهائیّة للمعنی.
وتحقیق وضبط هذه الملابسات الدخیلة في ضروريّات الدین، لا بدّ أن تقوم به مجموعة مأمونة عن الخطأ في الفهم والنقل، وإلّا سوف یتطرّق احتمال الخلاف في ضرورات الدین وثوابت
ص: 145
الشریعة التي اتّكأت وارتكزت علی تلك المعاني الابتدائیّة للآیات والأحادیث الشریفة، ویسری إلی من دونهم ممّن یتلقّون منهم الإدراك والفهم لتلك الآیات والأحادیث من تلك المجموعة.
ومن الواضح أنّ هذه المجموعة غیر بالغة عدداً تلك الكثرة التي یتحقّق فیها القطع في النقل، من ناحیة الكمّ، وكذلك لم یصل نقل هذه المجموعة إلی درجة البداهة في الفهم من ناحیة الكیف المستكشف من توافق الكمّ الهائل.
وعلی هذا، فلا یؤمن احتمال الخلاف، إلّامن خلال اعتبار تلك المجموعة یفوق اعتبار العدول في النقل واعتبار الفقهاء في الفهم والإدراك.
وبهذا تتّضح ضرورة القیام بهذه المرحلة المتوسّطیّة بین النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) والاُمّة.
وهذا الدور المتمیّز في الاعتبار والأهمّیّة إلی درجة الریادة والقیادة في الدین، وهو ما یصطلح علیه بالإمامة في حفظ وبناء معالم الدین.
من المعلوم أنّ للعقائد اصولاً ومبادئ واُسس عامّة تمثّل البنیة
ص: 146
التحتیّة لمنظومة الدین الاعتقاديّة، المتلقّاة من ظاهر الكتاب وسنّة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ).
وتنبثق من هذه الاُصول الاعتقاديّة قواعد اخری تفصیلیّة، ذات مراتب أكثر تفصیلاً، وهذه القواعد التفصیلیّة المترامیة، قد تسالم المسلمون علی كونها من شرائط تحقّق الإیمان، وارتهان النجاة بها، رغم اختلافهم في تعیینها وتحدیدها بحسب اختلاف مذاهبهم.
وعلی هذا الضوء، فإنّ هذه القواعد التفصیلیّة في مراحلها الاُولی، خارجة عن دائرة الاجتهاد؛لأنّ ما یرتهن به الإیمان والنجاة لا بدّ أن یكون في الموضوع بدرجة الضرورة والبداهة عند أتباع كلّ مذهب.
وعلی هذا الأساس، فإنّ القیام ببیان القواعد العقائديّة التفصیلیّة واستخراجها من الكتاب والسنّة، یفوق في اعتبار النقل الموثوق أو الاجتهاد الاستنباطي، وهي درجة المصونیّة عن الخطأ والزلل، وهي التي یصطلح علیها بالعصمة.
وهذا هو أحد أدوار الإمامة في الدین.
ص: 147
لكي یتبیّن میزان وحقیقة المذهبية الفقهية لا بدّ من بیان الفرق بین المذهب الفقهي وبین الاجتهاد في الفقه في دائرة المذهب الواحد.
بمعنی أنّ هناك تساؤلاً یثار حول الفرق بین عملیّة الاستنباط الذي مارسه أبو حنیفة ومالك والشافعي وابن حنبل، وبین عملیّة الاستنباط التي یمارسها الفقهاء من أتباع تلك المذاهب، كفقهاء الأحناف والموالك والشوافع والحنابلة...
إلی جوار ما تقدّم من تساؤل، یثار تساؤل آخر یرمي إلی معرفة السرّ، والسبب في منع وسدّ باب الاجتهاد في عرض اجتهاد أئمّة تلك المذاهب الأربعة.
وعلی فرض وتقدیر أنّ ما مارسه أئمّة المذاهب الأربعة من آراء فقهيّة، هي عملیّة اجتهادیّة بحتة، فعلی هذا التصوّر، فلماذا لا تخضع آراؤهم الفقهية للنقد الاجتهاديّ من قِبل بقیّة الفقهاء من بعدهم ؟
ولماذا صارت آراؤهم الفقهية ثوابت فقهيّة مذهبیّة، مع كون
ص: 148
الآراء الاجتهادیّة المستنبطة من الأدلّة الظنّية في معرض التغیّر والتبدّل ؟
إذ أنّ من المعلوم أنّ أدوات الإحراز والاستكشاف الظنّية قد تصیب وقد تخطئ، فقد یبنی علی رأي استناداً علی دلیل معیّن، ثمّ یظفر بدلیل أقوی من الأوّل، فیبدّل رأیه، وهكذا.
وعلی هذا الأساس، فإنّ السؤال الذي یضغط علی الفكر الإنسانيّ هو.لماذا عادت آراء أئمّة المذاهب الفقهية الأربعة ثوابت دینیّة لا یمكن تخطّیها، ولا یمكن لأيّ فقیه آخر تجاوزها ومناقشتها ؟بل یجب علیه أن یكیّف ذهنیّته ومبانیه الفقهية في تبعیّة آراء أئمّة المذاهب، إلی أن صارت آراؤهم اصولاً ونصوصاً دینیّة ذات قداسة ومكانة خاصّة.
وعلی ضفاف هذا التساؤل، هناك إثارة اخری تستفهم عن السبب في حصر المذاهب الفقهية في أربعة فقط، مع وجود العشرات من الفقهاء المعاصرین لهم ممّن تبعهم بفترة وجیزة؛ كإبراهیم النخعي، وسفیان الثوری، والحكم بن عیینة، والأوزاعي، وعمر بن دینار الأثرم، والحسن البصريّ، والأصمّ وغیرهم ؟
ص: 149
قد ذكرت إجابات تبرّر سبب حصر المذاهب بالأربعة، وحاصل هذه الإجابات هو أنّ غلق باب الاجتهاد وحصر المذاهب الفقهية في أربعة؛هو لأجل الخشیة من تكثّر وانتشار المذاهب المتعدّدة بشكل غیر حاصر.
في قبال ظاهرة سّد باب الاجتهاد وحصر المذاهب في الأربعة خشیة تكثّر المذاهب، نجد أنّ هناك ظاهرة معاكسة اخری في مدرسة أهل البیت (عَلَيهِم السَّلَامُ) وهو فتح باب الاجتهاد علی مدی أربعة عشر قرناً، مع وحدة المذهب الفقهي، ولم یستحدث أيّ مذهب فقهيّ آخر فضلاً عن تكثّرها إلی مذاهب متعدّدة، فما هي البنیة الموجودة في منهاج أهل البیت (عَلَيهِم السَّلَامُ) التي لا یخشی معها من فتح باب الاجتهاد، وعلی العكس فهي مفقودة في المذاهب الاُخری فیخشی من فتح باب الاجتهاد.
فهاتان الظاهرتان؛ظاهرة سدّ باب الاجتهاد لدی السنّة، وظاهرة فتح باب الاجتهاد لدی الشیعة، تضغطان-وبإلحاح-علی الباحثین في الوصول إلی حقیقة الأسباب الكامنة وراءهما.
ص: 150
بناءً علی ما تقدّم من عدم جواز تخطّي وتجاوز ما قام به أئمّة المذاهب الفقهية الأربعة لدی السنّة من استنباط، ولزوم اتّباعهم لكلّ من جاء بعدهم من الفقهاء، یتّضح أنّ الاعتبار والمكانة التي اعطیت لاستنباطات هؤلاء الأربعة، لیست بدرجة اعتبار الحجّیّة الفقهية المعتادة، بل حضیت باعتبار ومكانة القواعد الثابتة في الدین و التي هي خارجة عن دائرة الاجتهاد والاستنباط، وإن اطلق علیها عملیّة استنباط واجتهاد.
وبعبارة اخری: إنّ آراء واستنباطات الأربعة، اعتبرت لدی أتباعهم بمنزلة أقوال الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأئمّة أهل البیت (عَلَيهِم السَّلَامُ) لدی أتباع مذهب أهل البیت (عَلَيهِم السَّلَامُ)، وإن لم یصرّح معتنقو المذاهب الأربعة بما صرّحت الإمامیّة عن أئمّتهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) بكونهم أوصیاء في الدین.
وهكذا الحال بالنسبة لبقیّة المذاهب الفقهية الإسلاميّة كالإسماعیلیّة، والزیدیّة، وغیرهم.
وهذا یعني أنّ تلك المرحلة التي قام بها أئمّة كلّ مذهب، هي حلقة مفصلیّة ضروريّة في بناء المنظومة الدینيّة، تتوسّط بین التشریع لمرحلة فرائض وسنن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ) وبین مرحلة الاستنباط
ص: 151
الظنّي الذي یقوم به المجتهدون من الفقهاء، وهي تكشف عن دور الإمامة في التشریع الفقهي، بمعنی أنّها مرحلة تبیین وتفسیر توقیفي واستخراج تعبّدي للأحكام التفصیلیّة من فرائض اللّه وسنن نبیّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ ).
وبهذا یتّضح أنّ هذه العملیّة التي یقوم بها أئمّة المذاهب لیست عملیّة استنباط ظنّي من الأدلّة، بل هي مرحلة ضروريّة في التشریع لم ینكرها أيّ مذهب من مذاهب المسلمین، لإدراكهم أنّ منظومة التشریع الإسلاميّ تفرض ضرورة وجود هذه الموقعیّة من التشریع في بناء الهیكلیّة التشریعیّة للرسالة الإسلاميّة.
ولتوضیح ضرورة هذه المرحلة، یمكن الاستعانة باللغة القانونیّة، حیث بات واضحاً في علم القانون، أنّ بناء منظومة القانون، إنّما یكون علی شكل هرميّ، بمعنی أنّه ذو مراتب وحلقات ودرجات، فقمّة الهرم القانونيّ تمثّل الاُسس والمبادئ التي تنطلق منها عملیّة الانشعاب والتفریع لما دونه من مراحل وطبقات التقنین، كما هو الحال فیما نشاهده في النظام القانونيّ السیاسيّ للدولة، حیث یبدأ باُولی مراحله التي تمثّل القمّة في الهرم
ص: 152
القانونيّ، وهي الفقه الدستوريّ، ثمّ تلیها المرحلة الثانیة، وهي عملیّة التشریع في المجالس النیابیّة، ثمّ المرحلة الثالثة، وهي مرحلة التشریع الوزاريّ، ثمّ المرحلة الرابعة، وهي تشریع المجالس البلدیّة.
فهذه المراحل الأربع مترتّبة ومتسلسلة بعضها علی بعض، وكلّ مرحلة متولّدة من المرحلة السابقة لها، ولا یمكن الوصول إلی المرحلة الثالثة إلّاعبر المرحلة الثانیة، كما لا یمكن الوصول إلی المرحلة الرابعة إلّابالمرور بالمرحلة الثالثة، فلا یمكن تخطّي كلّ مرحلة ما سبقها من المراحل.
ومن الواضح أنّ ترتّب هذا النظام القانونيّ بهذا الشكل، لیس من طریق الوضع البشریيّ الاعتباريّ، وإنّما هي طبیعة ذاتیّة للقواعد القانونیّة، فإنّ المبادئ العامّة الكلّیّة، كأصل العدالة والحرّیّة والكرامة الإنسانيّة، والثوابت الدینيّة ونحوها، لا یمكن تطبیقها علی الموارد الجزئیّة التفصیلیّة مباشرة، من دون توسّط مراحل تنزیلیّة قانونیّة لتلك الثوابت العامّة، وتتكفّل المراحل المتوسّطة، الموازنة والتركیب والتنسیق بین مجموعات متعدّدة من القواعد، تلتقي وتتشابك في مراحل وطبقات التنزّل.
بمعنی أنّ في كلّ طبقة ومرحلة من مراحل التنزیل القانونیّ
ص: 153
تتطلّب مراعاة ضوابط وقواعد خاصّة تقوم بدور التنسیق بین التشریعات والقواعد الخاصّة بتلك المرحلة.
وتختلف هذه القواعد والضوابط التي تقوم بدور التنسیق بین المجموعات الاُخری من القواعد التشریعیّة من مرحلة إلی اخری.
فعند تنزّل مبدأ العدالة والحرّیّة في المجالات المختلفة كالمجال السیاسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ، وغیرها من المجالات، تظهر لها تداعیات متدافعة ومتزاحمة، وأیضاً نجد أنّهما-مبدأ العدالة والحرّیّة-متدافعان في تنزّل الكرامة الإنسانيّة، وهذا یتطلّب وجود ضوابط للتنسیق بین هذه الاُصول لإیجاد صیاغات تشریعیّة متوسّطة.
ولذا نجد أنّ العمل بمرحلة من مراحل القانون، وهي التشریعات الدستوریّة في القوانین الوضعیّة، لیس من صلاحیّات الحكومة التنفیذیّة، إلّابتوسّط مراحل تشریعیّة اخری، وهو ما تقوم به المجالس النیابیّة لتنزیل وتفصیل القوانین الدستوریّة إلی صیاغات تشریعیّة أكثر تفصیلاً وأضیق دائرةً.
كما أنّ العمل في تشریعات المجالس النیابیّة هي الاُخری لیست من صلاحیّات مدیریّات وشعب الدوائر، إلّابتوسّط تشریعات اخری یقوم بها الوزراء ووكلاؤهم المعتمدین في اللجان المختصّة،
ص: 154
لتفصیل وتنزیل التشریعات النیابیّة إلی تشریعات أكثر تفصیلاً، وهكذا الأمر بالنسبة إلی العمل بالتشریعات الوزرایّة، لیس العمل بها من صلاحیّات عموم الناس إلّابتوسّط التشریعات التي في المجالس البلدیّة الخاصّة بكلّ منطقة.
ومراعاة ترتیب هذه المراحل بعضها علی بعض لیس أمراً ارتجالیّاً واتّفاقیّاً، ولا من طریق المواضعة والتوافق التصالحيّ علی الاصطلاح، وإنّما هو أمر ذاتيّ تقتضیه كلّ طبیعة عامّة ذات مدار وسیع جدّاً، فهذه الطبیعة لا یمكن أن تأخذ طریقها إلی الموارد الجزئیّة الضیّقة المتشخّصة، إلّاعبر عناوین أضیق دائرة، مترامیة ومتعاقبة طولاً في سلسلة التنزّل، بحیث تكون كلّ مرتبة لاحقة أضیق ممّا سبقها، إلی أن تصل إلی إمكانیّة تطبیقها علی الموارد الجزئیّة الخارجیّة.
وهذا تحلیل عقليّ لبیان وجه الاستدلال علی ضرورة المراتب والطبقات والمراحل في التشریع.
هناك عدّة أدلّة لإثبات ضرورة العصمة للوصيّ في الدین، الذي یقوم بدور تنزیل القواعد العامّة التي هي نوع من التشریع في الدین، في مراحله الاُولی من التشریع، ومن هذه الأدلّة:
ص: 155
وحاصل هذا الدلیل هو أنّ الإحاطة بمبادئ التشریع الكامل-وهو التشریع الإلهي-بنحو تامّ ومتناسب بین النسب والتنسیق بین الروابط لتكون موافقة ومتطابقة عمّا علیه في الواقع والحقیقة، لا یمكن، بل یستحیل تحقّقها إلّابنحو خاصّ من العلم، وهو العلم الإلهي اللدنيّ الذي هو أساس ومبدأ العصمة.
إنّ العناوین ذات الطبیعة العامّة تتنزّل وتنحدر إلی عناوین اخری وتصل إلی درجة تترامي وكأنّها عناوین متباینة لا صلة فیما بینها.
وإن هذه الرابطة والصلة بین تلك العناوین المنحدرة من العناوین العامّة، لا یمكن أن یطّلع أو یلمس طبیعة الرابطة والعلاقة فیما بینها، إلّامن زُوّد بالعلم الإلهي، ووقف علی حقائق تلك العناوین.
والشاهد علی ذلك هو ما نلمسه واضحاً في مسیرة البشریّة فی
ص: 156
التقنین للقوانین والدساتیر الوضعیّة، حیث نجدها دائمة التغیّر والتبدّل في مبادئها واُسسها العامّة، فضلاً عمّا دونها من المراحل، وهذا یكشف عن عدم الإحاطة التامّة بمنظومة الاُسس والروابط والنسب بین تلك العناوین، وهو ما یطلق علیه بعدم إدراك المصالح الواقعیّة وعدم الإحاطة بها.
هذا، وما أورد في هذه الدراسة في نظام الوحدة والتقریب ونظام التعایش الإسلامي الإسلامي لیس إلّابادرة في مسیرة التنقیح لمزید من القواعد المنظّمة لعلاقة المسلمین فیما بینهم وفي علاقتهم مع الملل والنحل الاُخری.
و نرجو التوفيق لتحریر جملة من منظومة قواعد دینية ترسم نظاماً لأُصول التعامل الإنساني في العیش العادل فيما بینهم.
ص: 157
ص: 158
القرآن الكریم
1- الاحتجاج / الشیخ الطبرسي، دار الأسوة – قم – ایران.
2-إرشاد الساري/القسطلاني. دار الفكر-بیروت.
3-بحار الأنوار/العلّامة المجلسي: مؤسّسة الوفاء-بیروت.
4-بلغة الفقیه/السیّد محمّد بحرالعلوم: تحقیق: السیّد حسن محمّد تقي آل بحر العلوم، منشورات مكتبة الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)-طهران، الطبعة الرابعة.
5-التاریخ الكبیر/البخاري: المكتبة الإسلاميّة-دیار بكر.
6-التبیان في تفسیر القرآن/الشیخ الطوسي: مطبعة النعمان-النجف الأشرف/1385ه_.
7-تحریر الأحكام/العلّامة الحلّي: تحقیق: الشیخ إبراهیم البهادري، مؤسّسة الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)، الطبعة الاُولی 1420ه.
8-التحریر والتنویر/محمّد طاهر بن عاشور المالكي.
9-تفسیر القرآن العظیم/ابن كثیر: دار المعرفة-بیروت/1412ه_.
10-تفسیر البیضاوي/البیضاوي: دار الفكر-بیروت.
11-تفسیر الصافي/الفیض الكاشاني: دار الفكر-بیروت.
ص: 159
12-تفسیر الصنعاني/الصنعاني: مكتبة الرشد-الریاض.
13-تفسیر العیّاشي/العیّاشي: المكتبة العلمیّة الإسلاميّة-طهران.
14-جامع البیان في تفسیر القرآن/الطبري: دار الفكر-بیروت.
15-الجامع الصغیر/السیوطي: دار الفكر-بیروت.
16-الجامع لأحكام القرآن/القرطبي: دار الكتاب العربي-بیروت، الطبعة الرابعة/2001م.
17-جواهر الكلام/الشیخ محمّدحسن النجفي: تحقیق: عبّاس القوچاني، دار الكتب الإسلاميّة-طهران، الطبعة الثانیة.
18-سنن ابن ماجة/محمّد بن یزید القزویني: تحقیق: محمّد فؤاد عبدالباقي، دار الفكر-بیروت.
19-سنن أبي داوود/بو داود سلیمان بن الأشعث السجستاني: تحقیق: سیّد محمّد اللحّام، دار الفكر-بیروت/1410ه_.
20-صحیح بن حبّان: تحقیق: شعیب الأرنؤوط، مؤسّسة الرسالة، الطبعة الثانیة/1414ه_.
21-صحیح البخاري/البخاري:دار الفكر-بیروت، الطبعة الاُولی /1981م.
22-صحیح مسلم/مسلم بن الحجّاج: دار الفكر بیروت، الطبعة الاُولی.
23-صفوة التفاسیر/الصابوني: دار إحیاء التراث العربي-بیروت.
24-الصواعق المحرقة/ابن حجر: دار الكتب العلمیّة-بیروت، طبعة عام 1420ه_.
ص: 160
25-العروة الوثقی/السیّد الیزدي: جامعة المدرّسین-قم، الطبعة الاُولی /1417ه_.
26-عمدة القارئ/بدر الدین العیني: دار إحیاء التراث العربي-بیروت، الطبعة الاُولی.
27-عیون أخبار الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)/الشیخ الصدوق: تحقیق: حسین الأعلمي، مؤسّسة الأعلمي-بیروت.
28-فتح القدیر/الشوكاني: دار ابن حزم-بیروت، الطبعة الاُولی.
29-فضائل الصحابة/أحمد بن حنبل: مؤسّسة الرسالة-بیروت، الطبعة الاُولی.
30-فیض القدیر/محمّد عبدالرؤوف المناوي: دار الكتب العلمیّة - بیروت، الطبعة الاُولی.
31-الكافي/الكلیني: دار الكتب الإسلاميّة-طهران، الطبعة الرابعة /1362ه_.
32-الكشّاف/الزمخشري: منشورات البلاغة-قم، الطبعة الثانیة.
33-كشف اللثام/الفاضل الهندي: تحقیق: جامعة المدرّسین، الطبعة الاُولی/1416ه_.
34-اللهوف في قتلی الطفوف/السیّد ابن طاووس.
35-مجمع الزوائد/الهیثمي: دار الفكر-بیروت.
36-المحاسن/البرقي: دار الكتب الإسلاميّة-طهران/1370ه_.
37-المستدرك علی الصحیحین/الحاكم النیسابوري: دار الكتب العلمیّة -
ص: 161
بیروت، الطبعة الثانیة.
38 – مسند أحمد بن حنبل / أحمد بن حنبل شيباني، دار صادر - بیروت.
39-المعجم الأوسط/الطبراني: دار الحرمین-القاهرة.
40 -المعجم الكبیر/الطبراني: مكتبة العلوم والحكم-الموصل.
41-مفتاح الكرامة/محمّد جواد العاملي: تحقیق: الشیخ محمّد باقر الخالصي، جامعة المدرّسین-قم المقدّسة، الطبعة الاُولی/1419ه_.
42-مناقب آل أبي طالب/ابن شهرآشوب: المكتبة الحیدریّة-النجف الأشرف/1956م.
43-من لا یحضره الفقیه/الشیخ الصدوق: تحقیق: علی أكبر غفّاري، جامعة المدرّسین-قم المقدّسة، الطبعة الثانیة.
44-نهج البلاغة/الشریف الرضي: دار الذخائر-قم المقدّسة.
45-وسائل الشیعة/الحرّ العاملي: مؤسّسة آل البیت لإحیاء التراث-قم المقدّسة.
ص: 162
كلمة المؤلّف...5
المقدّمة...7
تمهيد...13
الفصل الأوّل
نظام الوحدة
81 - 15
تعريف الوحدة...17
أقسام الوحدة...17
الوحدة الفعليّة...17
الوحدة المنظورة المستقبليّة...171
3- الوحدة في نِحلة الإسلام...18
4- الوحدة الأديانيّة...18
5- الوحدة الإنسانيّة...18
6- الوحدة السياسيّة...18
القواعد الأساسيّة في بناء نظام الوحدة...18
ص: 163
القاعدة الاُولى : ضرورة البحث والتنقيب في التاريخ الإسلاميّ...19
الأدلّة على القاعدة...19
الدليل الأوّل : دراسة التاريخ جزء لا يتجزّأ عن عقيدة... 19
الدليل الثاني : مَن أحبّ عمل قوم اُشرك معهم...21
الدليل الثالث : قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر...24
دليل مانعي البحث في التاريخ الإسلامي...25
الجواب على دليل المانعين...26
تداعيات وسلبيّات القول بالمنع...28
القاعدة الثانية : حرمة دم المسلم وعِرضه وماله...30
الأدلّة على القاعدة :...30
الدليل الأوّل : قوله تعالى : «قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا . . ....30
الدليل الثاني : قوله تعالى : «وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى . . ....33
الدليل الثالث : الروايات...34
من طرق الشيعة...34
من طرق السنّة...36
الدليل الرابع : سيرة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ)...39
ما يوجب الخروج عن الإسلام...41
القاعدة الثالثة : ضرورة التمييز بين السيرة في صدر الإسلام . . .... 48
ص: 164
الفروق الرئيسيّة بين السيرة في صدر الإسلام . . ....49
الفارق الأوّل : في طريق إقامة الحكم...49
الفارق الثاني : منهج النقد والرقابة للحاكم والحكم...49
الفارق الثالث : مشروعيّة طاعة السلطان الجائر...50
الفارق الرابع : الموالاة للمسلمين دون الكافرين...54
الفارق الخامس : استباحة المحرّمات...58
القاعدة الرابعة : مودّة أهل البيت عليهم السلام ضرورة إسلاميّة...60
القاعدة الخامسة : ضرورة تنقيح مصادر التراث الإسلامي...69
مودّة أهل البيت عليهم السلام من جملة مقوّمات العدالة...70
اُسس نظام الوحدة الإسلاميّة وضماناتها...73
الأوّل : ضمان الوحدة...74
الثاني : العدالة والعدل...75
الثالث : تقديس جميع الأنبياء :...77
الرابع : إنّ الوحدة لا تتمّ إلّا بالمحبّة والمودّة...78
الفصل الثاني
في نظام التقريب والحوار والاتّحاد
127 - 83
هل الاختلافات بين المذاهب الإسلاميّة هي اختلافات ظنّيّة ؟...85
ص: 165
الأسباب وراء القول بأنّ الاختلافات بين المذاهب اجتهادات ظنّيّة... 87
أصالة حقن الدم الإنساني...92
هل الحوار يقاطع الوحدة ؟...94
أهداف التقريب...98
أهمّ القواعد في نظام التقريب... 101
القاعدة الاُولى : وجود مذاهب للمسلمين في عصر النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ )... 101
نموذج تعايشي موحّد... 101
معالجة إلتباس... 104
القاعدة الثانية : لزوم شموليّة التقريب لكلّ الطوائف . . .... 108
القاعدة الثالثة : إنّ العدالة أساس نظام التعايش المذهبيّ... 109
القاعدة الرابعة : اُصول واُسس التعرّف على متبنيّات . . .... 111
القاعدة الخامسة : في النظام السياسيّ والمواطَنة... 116
القاعدة السادسة : لزوم إعطاء حقّ المواطَنة للأفراد من دون . . .... 123
حديث الفرقة الناجية والتعايش السلميّ بين المسلمين... 123
الفصل الثالث
نظام التنسيق والتوافقات الوقتيّة
157 - 129
غايات نظام التنسيق والانسجام والتوافق... 131
ص: 166
امتياز نظام التنسيق عن نظام الوحدة ونظام التقريب... 131
علاقة نظام التنسيق مع نظام الوحدة والتقريب... 132
نظام التنسيق يمثّل الحدّ الأدنى للوحدة... 132
بعض ممارسات حكّام المسلمين سبب للفرقة... 136
قاعدة في بيان حقيقة المذهبيّة العقائديّة والفقهيّة... 137
حقيقة المذهبيّة العقائديّة عند المسلمين... 139
ميزان المذهبيّة العقائديّة... 139
حقيقة وموقعيّة عمليّة التأصيل العقائديّ من الدين... 141
بيان ضرورة الحلقة المتوسّطة بين الاُمّة وبين الكتاب . . .... 143
الدليل الأوّل : بيان ثوابت الدين... 143
الدليل الثاني : تحقيق وضبط العناصر الدخيلة في . . .... 145
الدليل الثالث : القيام بدور التفصيل في القواعد الاعتقاديّة... 146
حقيقة المذهبيّة الفقهيّة... 148
السبب في سدّ باب الاجتهاد لدى أهل السنّة... 148
إجابات لا تخلو من تأمّل... 150
فتح باب الاجتهاد لدى مذهب الإماميّة... 150
موقعيّة عمليّة استنباط أئمّة المذاهب الأربعة من الدين... 151
الاستدلال القانونيّ على ضرورة مرحلة الوصاية في الدين... 152
الأدلّة على ضرورة عصمة الوصيّ في الدين... 155
ص: 167
الدليل الأوّل : الإحاطة بالروابط والنسب بين التشريعات ، . . .... 156
الدليل الثاني : إدراك المصالح الواقعيّة ، يتوقّف على.... 156
المصادر...159
المحتويات...163
ص: 168