المؤلف : مروان خليفات
المجموعة : من مؤلفات المستبصرين
سنة الطبع : 1419 - 1998 م
قراءة
في المسار الأموي
أبو سفيان - الحكم - مروان - الوليد بن عقبة
من كتاب الغدير للشيخ الأميني
إعداد: مروان خليفات
ص: 1
ص: 2
مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
الطبعة الأولى: 1419 ه - 1998 م
المطبعة: محمد.
ص: 3
بسم الله الرحمن الرحيم
ص: 4
لم تشهد البشرية حدثا تأريخيا هز أعماق الحياة الإنسانية وأحدث نقلة نوعية في مسار التأريخ كحدث الدعوة الإسلامية وبعثة الهادي محمد صلى الله عليه وآله وسلم داعيا إلى الله سبحانه ومنقذا للبشرية من ظلم الطواغيت وحكم الطغاة.
بزغ نور الإسلام في ربوع مكة يحمل إلى الأرض مبادئ الهدى والعدل والسلام.
فاستفاق طواغيتها على صوت الداعي منذرا بتحطيم تلك البنية الجاهلية البغيضة التي بنوها على الظلم والكفر، وامتهان كرامة الإنسان، وتكريس الجهل والخرافة والفساد. فتصدوا بكل ما يملكون من قوة ووسائل للمقاومة، لإيقاف الزحف الذي راح يدك معاقلهم، ويحطم كبرياءهم ومصالحهم الآثمة.
وكان في طليعة أولئك الطواغيت الوجود الأموي المتمثل بأبرز رموزه في تلك المرحلة (أبو سفيان).
لقد كان لهذا الوجود دور خطير في مواجهة الانطلاقة والمسار
ص: 5
الإسلامي في مرحلة الدعوة والنبوة، كما واصل دوره هذا في مرحلة الخلافة التي تلت عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
وإنه لمن ضرورات فهم تأريخ الأمة والقوى الفكرية والسياسة والاجتماعية المؤثرة فيها أن يدرس المسار الأموي، وتحلل طبيعة بطريقة علمية ونقد موضوعي على امتداد مواقفه التي مارسها رجاله وقادته، وأن دراسة وتحليل معالم ذلك المسار وممارساته في مرحلتي الدعوة والخلافة والسلطة تتطلب دراسة المواقف الأموية الآتية:
1 - الوقوف بوجه الدعوة ومحاربة الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم.
2 - السقوط والتواري.
3 - إعادة تنظيم الصفوف.
4 - التسلل إلى السلطة.
5 - شق الصف وتمزيق وحدة الأمة.
6 - محاربة الخلافة الشرعية.
7 - السيطرة على الدولة والحكم.
8 - العودة إلى محاربة المسار الإسلامي الأصيل المتمثل في علي وآل البيت النبوي عليهم السلام وأتباعهم.
9 - تبديل نظام الحكم.
10 - وضع الأحاديث وتحرف السنة.
ص: 6
11 - إدخال الفساد الأخلاقي والاجتماعي إلى السلطة.
ولكي تكون لدى القارئ صورة واضحة عن هذا المسار فلنتناول بشئ من التفصيل تلك المواقف التأريخية:
1 - الوقوف بوجه الدعوة ومحاربة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: لقد تناول الشيخ الأميني في موسوعته العلمية الكبرى (الغدير) الدور المعادي للرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم الذي مثلته أبرز الشخصيات الأموية في مرحلة الدعوة وهم: " أبو سفيان " و " عقبة بن أبي معيط " و " الحكم بن العاص " وستجد في ما سجله من مواقف ووقائع وحوادث لتلك الشخصيات الأموية صورة متكاملة للدور الأموي في مواجهة الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم فقد كان أبو سفيان أحد أبرز ثلاث شخصيات تصدت لمواجهة الدعوة وهم:
أبو لهب وأبو جهل، وقد تولى أبو سفيان قيادة الشرك والجاهلية في مكة، بعد موت أبي لهب ومقتل أبي جهل " الحكم بن هشام " في معركة بدر حيث اندحرت قوى الشرك والطاغوت، فكان القائد والمخطط والمعبئ لقوى العدوان بعد ذلك في أحد والأحزاب، والصاد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام الحديبية عن البيت الحرام (في السنة السادسة من الهجرة)، كما تولى عمليات التعذيب للمستضعفين من المسلمين، وأحد المخططين لاغتيال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ويستمر أبو سفيان في حربه وصراعه مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طوال
ص: 7
إحدى وعشرين عاما حتى حقق الله النصر لنبيه بفتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة فاضطر تحت ضغط القوة وعزة الإسلام وتعاظم تياره، إلى إعلان إسلامه بعد إقناع من العباس بن عبد المطلب - عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لحقن دمه.
2 - السقوط والتواري: وبفتح مكة سقطت المقاومة الجاهلية وانهار صرح الشرك، ودحر أبو سفيان ومن معه من قادة الضلال، وطهر البيت الحرام من الأصنام والوثنية، وفتح الرسول المنتصر صلى الله عليه وآله وسلم آفاق العفو الرحمة وأطلق شعاره المعروف " اليوم يوم المرحمة اليوم تحمى الحرمة ".
لقد جمع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أولئك الأعداء الذين حاربوه وأخرجوه من دياره، وخططوا لقتله. فخاطبهم بقلبه الكبير، وروحه الهادي، وخلقه العظيم، وهدفه الواسع لاستيعاب البشرية، بقوله: " ما تظنون وما أنتم قائلون. قال سهيل: نظن خيرا ونقول خيرا، أخ كريم وابن عم كريم " (1).
ليفتح أمامهم أبواب التوبة ويهئ لهم الأجواء النفسية للتفاعل مع كلمة التوحيد، ومبادئ الهدى، وليشعرهم بعفو الإسلام وعظيم خلقه.
وهكذا طوقهم رسول الله بالفضل والمن، وأطلق سراحهم، فحملوا اسم (الطلقاء) كما حملوا اسما آخر هو: (مسلمة الفتح). وهكذا توارى
ص: 8
هذا الوجود خلف الستار. إلا أن تلك الفلول المهزومة لم تتفاعل مع روح الرسالة ولم يتغلغل الإسلام في أعماقها فظلت تختزن الماضي، وتحمل الأحقاد على الرسول القائد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى الطليعة التي حققت الانتصار معه صلى الله عليه وآله وسلم وحطمت كبرياءهم وسيادتهم، لا سيما ابن عمه، زوج ابنته، علي بن أبي طالب كما حملوا العداء ذاته لذريته من بعده.
3 - إعادة تنظيم الصفوف: بعد مرحلة السقوط والتواري عن مسرح الأحداث والابتعاد عن الأضواء والواجهة الاجتماعية الذي فرضه الأمر الواقع على الخط الأموي والذي استمر إلى ما بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لعدد من السنين، إذ لم يستطع الوجود الأموي أن يسجل أي حضور في أحداث السقيفة والنزاع على الخلافة لسقوطه من الاعتبار الاجتماعي آنذاك، عدا محاولة أبي سفيان مع الإمام علي التي حاول فهيا التأليب ودفع الموقف إلى المواجهة المسلحة بين المسلمين يوم قال لعلي عليه السلام: " إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا الدم... ثم قال لعلي:
" أبسط يدك أبايعك فوالله لئن شئت لأملأنها عليك خيلا ورجالا فأبى عليه السلام " (1).
ثم زجره قائلا: " والله ما أردت بهذا إلا الفتنة، وإنك والله طالما بغيت للإسلام شرا، ولا حاجة لنا في نصيحتك " (2).
وكان المسلمون الأولون يشعرون بأن الوجود الأموي سيعمل على
ص: 9
تنظيم صفوفه وإعادة نشاطه من جديد، جاء ذلك التشخيص واضحا في الحوار الذي دار بين أبي بكر والحباب بن المنذر والذي نصه: " أمنا تخاف يا حباب...
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد رأى في منامه أن بني أمية " ينزون على منبره...
وتلك رؤيا صادقة تكشف عن أن الموقف الأموي المواجه لن ينتهي بهزيمة الفتح، بل سيعود إلى المواجهة بعد تنظيم صفوفه. وقد تحقق ذلك، وبدأ الحزب الأموي بتنظيم أوضاعه الداخلية، والبحث عن مراكز السلطة والنفوذ لاستعادة مركزه المفقود بعد الفتح، فاستغل ظروف الصراع على الخلافة، بعد السقيفة وتألب الكثيرين على علي عليه السلام ووضع العقاب أمام تسلمه مقاليد الأمور. علي الخصم العقائدي للوجود الأموي، والسيف الذي حطم قوتهم العسكرية، وهو الذي علا كتف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الفتح فحطم أصنامهم، وطهر البيت الحرام منها.
لقد استغلوا تلك الفترة فجمعوا فلولهم ليواصلوا البحث عن أهدافهم، وكانت البداية تنطق من معاوية بن أبي سفيان حين ولاه عمر على الشام، فهو كما وصفه المؤرخون داهية ومخطط، وبلا تورع عما نهى الله عنه، راح يبني الوجود الأموي في الشام، ويستقطب العناصر الموالية، ويركز وجوده.
ثم، أتت الفرصة سانحة لبناء القوة الأموية في خلافة عثمان بن
ص: 10
عفان وبشكل لم يسبق لم مثيل.
4 - التسلل إلى السلطة: لقد كان في تسلم معاوية لولاية الشام، وهي من أهم الولايات في الدولة الإسلامية، فرصة كبيرة للحزب الأموي لأن يركز وجوده، ويبث أفكاره وآراءه، وأن يبني له قوة عسكرية وقاعدة وأنصارا تناسب المرحلة الجديدة، فالشام بعيدة عن مركز الخلافة، وحديثة عهد بالإسلام فلم يطلع أهلها على مرحلة النبوة، ولا على بناة الإسلام والسابقين من الصحابة، كعلي وأبي ذر وعمار وغيرهم، كما كانت بلدا غنيا مكتفيا بموارده، فاستغل معاوية كل ذلك لتنفيذ المخطط والأهداف.
وحين ولي الخلافة عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس استغل الحزب الأموي ذلك، فتسللوا إلى أجهزة الدولة بتعيينه إياهم ولاة وأمراء وقادة جيوش ومتنفذين، ومن خلال ما أعاده لهم من اعتبار، وما آثرهم به من بيت المال على بقية المسلمين، تحول الأمويون إلى حزب حاكم وطبقة رأسمالية مستغلة مستبدة، بعد أن كانوا فئة منبوذة تحمل راية الحرب ضد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان صلى الله عليه وآله يلعن بعض قادتهم ويطرد بعضهم الآخر وينفيه من المدينة، كالحكم بن أبي العاص، كان الرسول يفعل ذلك، ويقول: " لكل أمة آفة، وآفة هذه الأمة بنو أمية ".
وسنجد في دراسة العلامة الأميني رضي الله عنه لسياسة عثمان، وإعادته للاعتبار الأموي توثيقا كافيا لإيضاح التسلل الأموي إلى أجهزة
ص: 11
الدولة وسيطرتهم على مقاليد الأمور في تلك الفترة، مما أثار حفيظة الصحابة والتابعين لهم بإحسان، لا سيما طلائعهم التي ساهمت في حمل الدعوة، وقتال المشركين، وفي مقدمتهم بني أمية في بدر وأحد والأحزاب ويوم الفتح.
ومما يعكس شدة رفض جيل الصحابة والتابعين للتسلط الأموي هو الثورة على عثمان وقتله، والمنع من دفنه، وللمزيد من الإيضاح تراجع كتب التاريخ، كتاريخ الطبري واليعقوبي، وتاريخ المدينة والأخبار الطوال للدينوري والكامل لابن الأثير والإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري وغيرها.
5 - شق الصف وتمزيق وحدة الأمة: من الكوارث المأساوية الكبرى التي أحدثها الأمويون في الأمة الإسلامية هي تمزيق وحدة المسلمين وشق الصف الإسلامي. فقد تبنى الأمويون أمثال مروان بن الحكم ومعاوية بن أبي سفيان تصعيد الموقف في المدينة المنورة بين الخليفة عثمان بن عفان، وبين الصحابة الذي عارضوا سياسة التي اعتمدت الحزب الأموي في السلطة والنفوذ، إضافة إلى الممارسات المالية والقضائية والسلوكية الأخرى التي استنكرها الصحابة، وذكرها المؤرخون من مختلف الاتجاهات والمذاهب في كتبهم، فأدى هذا التصعيد إلى الحيلولة دون إصلاح الأوضاع من قبل الذين سعوا في الإصلاح، وفي مقدمتهم الإمام علي عليه السلام حيث طلب من عثمان العدول عن سياسة والتمسك بالكتاب والسنة، والاستجابة لنداءات الاصلاح
ص: 12
والتغيير، والتخلي عمن حوله كمروان بن الحكم وسعيد والوليد، والتوقف عن اضطهاد الصحابة كعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود، وغيرهم كما اضطهد أبو ذر الغفاري من قبل.
لقد أجج مروان بن الحكم ومعاوية وفئة أخرى من الأمويين نار الموقف حتى قتل عثمان، ووقعت الفتنة، فرفعوا شعار الثأر لدم عثمان، ورأى معاوية في ذلك فرصة سانحة للتمرد على الخلافة الشرعية والانفصال عن الدولة الإسلامية ومحاربة الإمام علي عليه السلام الذي لجأت إليه الأمة، وبايعته بالخلافة بعد مقتل عثمان، ووقف الصحابة من المهاجرين والأنصار يتقدمهم البدريون في ذلك إلى جانبه، واستطاع معاوية أن يعبئ بلاد الشام ضد الخلافة الشرعية لبعدها عن المدينة المنورة مركز الوحي والوعي الإسلامي وعدم تفاعل أهلها مع مرحلة الدعوة، والتعريف على طلائع الإسلام ورجالاته، وجهلهم بمكانة الإمام علي عليه السلام ودوره الفريد من بين جميع الصحابة في تركيز دعائهم الإسلام والدفاع عنه، فاستطاع معاوية أن يضللهم، ويشوه في نفوسهم صورة الإمام علي الناصعة.
لقد أقدم معاوية وهو يقود الحزب الأموي، على شق المسلمين، وإقامة كيان سياسي للأمويين في الشام.
وهكذا استأنف الأمويون الصراع والحرب الدعائية المضللة ضد آل البيت النبوي عليهم السلام تترس معاوية بن أبي سفيان في بلاد
ص: 13
الشام، وكرس كل جهوده لتضليل الرأي العام، واعتمد المال والإغراء بالمناصب والإرهاب أسلوبا لمواجهة الإمام علي عليه السلام فكانت صفين المعركة المسلحة سنة (36 ه) التي انتهت بالتحكيم والخداع، وتثبيت معاوية وانشقاق جيش الإمام علي عليه السلام، وتكون فرقة الخوارج التي اغتالت الإمام عليا في ما بعد، وفشلت في قتل معاوية وعمرو بن العاص.
وبعد استشهاد الإمام علي عليه السلام تولى الإمام السبط الحسن بن علي عليه السلام الإمامة بعده، فرأى معاوية في استشهاد الإمام علي عليه السلام فرصة للإجهاز على الخلافة الشرعية، والاستيلاء على الدولة الإسلامية، فجهز جيشه، وتقدم نحو العراق لمحاربة الإمام الحسن عليه السلام وانتهت هذه المرحلة بصلح الإمام الحسن عليه السلام مع معاوية، وتسليم الخلافة له وفق شروط لم يف معاوية بها.
7 - الاستيلاء على الدولة الإسلامية: استولى معاوية على السلطة وخلا الجو للحزب الأموي، وهكذا بدأ فصل جديد في تأريخ الأمة وأسست الدولة الأموية سنة (41 ه) وامتدت حتى سنة (132 ه) وولي الخلافة فيها معاوية وابنه يزيد ثم معاوية بن يزيد الذي رفض تسلم الخلافة، ورأى أنها حق لآل البيت عليهم السلام وبتنازله انتهت خلافة آل أبي سفيان لتبدأ خلافة آل مروان أخلاف طريد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي استمرت حتى عام (132 ه).
8 - العودة إلى الصراع: وما إن تمكن الأمويون من فرض وجودهم على الدولة والأمة حتى ألغى معاوية كل شرط اشترطه الإمام
ص: 14
الحسن عليه السلام. ومن تلك الشروط عدم ملاحقة أتباع أهل البيت عليهم السلام، وترك سب الإمام علي عليه السلام فقد شن معاوية حربا شعواء على آل البيت وأتباعهم ومن شايعهم، ومنع التحدث بفضائل علي عليه السلام ومناقبه التي لم يحظ أحد من الصحابة بمثلها، ولم يكتف بذلك، بل أصدر أمرا بسب علي عليه السلام على المنابر في جميع البلاد الإسلامية، ومن فوق مآذنهم.
فمعاوية هو أول من سبب الصحابة على المنابر والمآذن، وتبعه الأمويون على ذلك حتى عام (99 ه) في خلافة عمر بن عبد العزيز الذي أوقف السب واستبدله بقوله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي).
والحديث عن الحرب التي شنها الأمويون ضد آل البيت وأشياعهم حديث مفعم بالدم والأسى والشجون. فبعد حروب معاوية مع الإمام علي عليه السلام وولده الإمام الحسن السبط عليه السلام الذي انتهى بالصلح.
وبعدما دس السم الذي أدى إلى استشهاده عليه السلام تتبع معاوية بن أبي سفيان شيعة علي وأتباعه فقتلهم حيثما وجدهم، فقتل حجر بن عدي الذي وصفه الحاكم في المستدرك بقوله: " إنه راهب أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم " (1)، كما قتل: شريك بن شداد الحضرمي، وصيفي بن شداد الشيباني، وعمرو بن الحمق الخزاعي، ورشيد الهجري، وعبد الله بن يحيى الحضرمي، وعبد الرحمن بن حسان العنزي وغيرهم.
ص: 15
وجاء بعد معاوية ابنه يزيد ليواصل الحرب على آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحاب رسول الله، فكانت فاجعة كربلاء التي أدمت قلوب المسلمين، فقد قتل فيها الحسين بن علي عليه السلام سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسبعة عشر من أهل بيته وستون رجلا من أصحابه، استشهدوا جميعا في كربلاء يوم العاشر من محرم الحرام عام (61 ه) مما فجر براكين الثورات ضد الحكم الأموي، فثارت المدينة المنورة فقمعها يزيد بن معاوية واستأصل البدرين، فلم يبق بدري واحد بعد تلك الواقعة المروعة، قال ابن قتيبة الدينوري: " وذكروا أنه قتل يوم الحرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثمانون رجلا، ولم يبق بدري بعد ذلك، ومن قريش والأنصار سبعمئة... " (1).
وحدثت ثورات أخرى كثورة التوابين وثورة المختار.
وتواصل الارهاب الأموي ضد آل البيت عليهم السلام فقتل هشام بن عبد الملك زيد بن علي ابن السبط الحسين بن علي بن أبي طالب سنة (121 ه) ثم قتل ابنه يحيى.
وهكذا تواصل العداء الأموي لآل البيت عليهم السلام حتى سقوط دولتهم سنة (132 ه).
9 - تبديل نظام الحكم: لقد فهم الأمويون أن الدولة والسلطة في الأمة هي ملك لهم، بل وبنوا سياستهم على أساس استعباد الأمة، فقد
ص: 16
فرض يزيد بن معاوية على المسلمين أن يبايعوه على أنهم عبيد له (1) ورفض أن يبايعوه على كتاب الله وسنة ورسوله، وابتدعوا نظرية الوراثة، وحولوا نظام الحكم إلى نظام ملكي وراثي تمتهن فيه الأمة وتسحق إرادتها، سجل السيوطي هذه الحقيقة عن سعيد بن طهمان عن سفينة قال: " قلت لسفينة: إن بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم، قال: كذبوا بنو الزرقاء بل هم ملوك من أشد الملوك، وأول الملوك معاوية " (2). ولذلك شجب الصحابة والتابعون النظام الأموي هذا ورفضوه، كما شجبه الإمام الحسين بن علي عليه السلام ورفضه بشدة عندما قرر معاوية بن أبي سفيان جعل الحكم وراثيا وفرض يزيد حاكما على المسلمين، مما دعاه إلى الثورة على السلطة عندما تسلمها يزيد بعد أبيه وكانت ثورته عام (61 ه).
وكان هذا التغيير مصادرة كبرى لإرادة الأمة ومخالفة لأصول الشريعة، وفرض الحكام الأمويون عليها الواحد تلو الآخر، فقاومتهم الأمة بالقوة والسلاح حتى سقطت دولتهم عام (132 ه).
10 - إدخال الفساد والانحراف الأخلاقي إلى مؤسسة الخلافة:
لقد أجمع المؤرخون والمختصون على أن الحكام الأمويين هم الذين أدخلوا الخلاعة والمجون والفجور وشرب الخمر وممارسة المحرمات
ص: 17
الشاذة إلى مؤسسة الخلافة، حتى أصبحت دار الخلافة مركزا للهو والعبث والفساد، ففقدت الخلافة هيبتها الروحية ومكانتها في النفوس.
فكان الخليفة منهم يذكر باللهو والغناء وشرب الخمر والفجور والظلم وجمع الأموال وامتهان الأمة وسلبها حقوقها ومصادرة إرادتها. أخرج الواقدي من طرق أن عبد الله بن حنظلة الغسيل قال: والله ما خرجنا على يزيد حتى ظننا أن نرمى بالحجارة من السماء، إنه رجل ينكح أمهات الأولاد، والبنات، والأخوات ويشرب الخمر ويدع الصلاة " (1).
وقال الذهبي: " ولما فعل يزيد بأهل المدينة ما فعل، مع شربه الخمر والتباعه المحرمات اشتد عليه الناس وخرجه عليه غير واحد " (2).
ووصفه عبد الملك بن مروان بالخليفة المأفون بقوله: " ألست بالخليفة المأفون، يعني يزيد " (3).
قالت أم الدرداء لعبد الملك بن مروان مرة " بلغني يا أمير المؤمنين أنك شربت الطلاء بعد النسك والعبادة؟ قال: إي والله والدماء قد شربتها " (4).
ووصف الذهبي الوليد بن يزيد بن عبد الملك بقوله: " اشتهر
ص: 18
بالخمر والتلوط فخرجوا عليه لذلك... " (1).
وقال ابن الأثير: إن عبد الملك بن مروان أول من نهى عن الأمر بالمعروف، فإنه قال في خطبته بعد قتل ابن الزبير: " ولا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه " (2).
من تلك اللقطات والمئات من الممارسات المحرمة التي ارتكبها الحكام الأمويون في قصور الخلافة يتضح لنا الدور الأموي في إسقاط الأخلاقية الإسلامية في مؤسسة الخلافة التي أراد لها الله أن تكون قدوة ومنارا للهدى والإصلاح.
11 - وضع الحديث: وفي هذه المرحلة - مرحلة الحكم الأموي - كثر وضع الحديث: والتشجيع عليه من قبل معاوية وبشكل رسمي، كما كثر دخول الإسرائيليات في الحديث والتفسير والعقائد.
ويذكر الباحثون في تاريخ الوضع والوضاع أن الكذب قد بدأ في عصر رسول الله، ولكنه كان عملا فرديا وممارسة من أناس كذابين، أما الوضع بشكله المتبني فقد بدأ عام (41 ه) بدأه معاوية بن أبي سفيان، وأن الوثائق التاريخية التي وردت إلينا تؤكد ذلك، قال أبو جعفر الإسكافي المعتزلي: " إن معاوية وضع قوما من الصحابة وقوما من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي عليه السلام تقتضي الطعن فيه والبراءة
ص: 19
منه، وجعل لهم على ذلك جعلا يرغب في مثله فاختلفوا ما أرضاه، منهم: أبو هريرة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ومن التابعين عروة بن الزبير " (1).
وقال ابن عرفة: " إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت أيام بني أمية تقربا إليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أنوف بني هاشم " (2).
إن دراسة الحوادث والوقائع والمواقف التأريخية التي مارسها حكام أمويون تكشف لنا بوضوح حقيقة الصراع الأموي ضد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وامتداده المتمثل في علي وآله عليهم السلام وسترى وضوح ذلك من خلال الدراسة التي أجراها الشيخ الأميني في شخصيات أموية شملت أبا سفيان ومعاوية ومروان والحكم بن العاص والوليد بن عقبة وغيرهم من العناصر الأموية.
وإذن فلنقرأ ما كتبه العلامة الأميني في ذلك لتتشكل أمامنا معالم الصورة الحقيقية للمسار الأموي.
مركز الغدير
ص: 20
ص: 21
ص: 22
أبو سفيان: صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الأموي القرشي، وهو والد يزيد ومعاوية وغيرهما، له كنية أخرى: أبو حنظلة.
تزوج من هند بنت عتبة المشهورة في مكة، روى حديثا واحدا.
ولد قبل الفيل بعشر سنين وكان تاجرا يجهز التجار بماله وأموال قريش إلى الشام وغيرها من أرض العجم، وكان يخرج أحيانا بنفسه (1).
كان أكثر العرب في الجاهلية يعبدون الأصنام ليقربوهم إلى الله زلفى، فرغم عبادتهم للأصنام وغيرها إلا أنهم كانوا يعتقدون بوجود الخالق، أما أبو سفيان فكان له مذهب خاص وهو الزندقة. قال المقريزي فيه: " وكان كهفا للمنافقين، وأنه كان في الجاهلية زنديقا " (2).
ص: 23
والزنديق كما في لسان العرب (1): " القائل ببقاء الدهر " وقد قالوا ما قال القرآن عنهم (ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر) (2) ونستطيع أن نقول: هو القائل بأزلية العالم ويسمى ملحدا ودهريا، فهذا هو مذهب أبي سفيان في الجاهلية، وقد تعجب من هذا، ولكن سيزداد عجبك إذا عرفت أن هذا الاعتقاد بقي مسيطرا على أبي سفيان حتى بعد إسلامه.
كان أبو سفيان على رأس المحاربين للنبي والإسلام، ومظاهر عدائه كثيرة، فقد مشى (3) مع جمع من رجال قريش إلى أبي طالب قائلين له: إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه، إلخ (4).
وهو أحد المجتمعين بدار الندوة الذين تفرقوا على رأي أبي جهل من أخذ يؤخذ من كل قبيلة شاب فتى جليد نسيب وسط، ثم يعطي كل منهم سيفا صارما فيعمدوا إلى رسول
ص: 24
الله فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه (1).
وقد أنفق على جيش المشركين في أحد أربعين أوقية ذهبا، وكل أوقية اثنان وأربعون مثقالا، وقاد بنفسه جيش المشركين، وقتل (2) من خيار أصحاب رسول الله سبعين ما بين مهاجرين وأنصاري، منهم أسد الله حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه.
وقاتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في يوم الخندق أيضا، وكتب إليه: باسمك اللهم أحلف باللات والعزى وساف ونائلة وهبل، لقد سرت إليك أريد استئصالكم، فأراك قد اعتصمت بالخندق، فكرهت لقائي، ولك مني كيوم أحد، وبعث بالكتاب مع أبي سلمة الجشمي، فقرأه للنبي أبي بن كعب رضي الله عنه فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " قد أتاني كتابك، وقديما غرك - يا أحمق بني غالب وسفيههم - بالله الغرور، وسيحول الله بينك وبين ما تريد، ويجعل لنا العاقبة، وليأتين عليك يوم أكسر فيه اللات والعزى وساف ونائلة وهبل يا سفيه بني غالب ".
ولم يزل يحاد الله ورسوله، حتى سار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لفتح
ص: 25
مكة (1).
لم يكن إسلام أبي سفيان عن رغبة واختيار، بل عن رهبة واضطرار وهذا ما تثبته لنا قصة إسلامه.
فحين توجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لفتح مكة أتى (2) العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه بأبي سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد أردفه، وذلك أنه كان صديقه ونديمه في الجاهلية، فلما دخل به على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سأله أن يؤمنه، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له: " ويلك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟ "، فقال: بأبي أنت وأمي ما أوصك وأجملك وأكرمك! والله لقد ظننت أنه لو كان مع الله غيره لقد أغنى عني شيئا. فقال: " يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ ". فقال:
بأبي أنت وأمي ما أوصك وأجملك وأكرمك، أما هذه ففي النفس منها شئ! فقال له العباس: ويلك اشهد بشهادة الحق قبل أن تضرب عنقك، فشهد وأسلم.
فهذا حديث إسلامه كما ترى، واختلف في حسن إسلامه فقيل:
إنه شهد حنينا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت الأزلام معه يستقسم بها، وكان
ص: 26
كهفا للمنافقين، وإنه كان في الجاهلية زنديقا (1).
أجل، العباس يقول له: " ويلك اشهد بشهادة الحق قبل أن تضرب عنقك، فشهد وأسلم " فقد أسلم تحت التهديد خوفا على حياته وهو مصداق لقوله تعالى: (فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا) (2).
فلم يكن إسلامه عن اطمئنان وقناعة. قال ابن عبد البر بعد أن أورد قوله أبي سفيان: ما أدري ما جنة ولا نار، وله أخبار من نحوه هذا رديئة ذكرها أهل الأخبار، ولم أذكرها، وفي بعضها يدل على أنه لم يكن إسلامه سالما " (3).
وقد قال علقمة فيه (4):
إن أبا سفيان من قبله * لم يك مثل العصبة المسلمة
لكنه نافق في دينه * من خشية القتل على المرغمة
بعدا لصخر مع أشياعه * في جاحم النار لدى المضرمة (5)
ص: 27
ولما هم أبو سفيان أن يسلم كتب ابنه معاوية إليه شعرا ينهاه عن ذلك، وقال:
يا صخر لا تسلمن يوما فتفضحنا * بعد الذين ببدر أصبحوا مزقا
خالي وعمي وعم الأم ثالثهم * وحنظل الخير قد أهدى لنا الأرقا
لا تركنن إلى أمر يكلفنا * والراقصات به في مكة الخرقا
فالموت أهون من قول العداة: لقد * حاد ابن حرب عن العزي إذا فرقا (1)
وكان (2) أبو سفيان يوم بويع أبو بكر يثير الفتن، ويقول: إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا دم، يا آل عبد مناف فيم أبو بكر من أموركم؟ أين المستضعفان؟ أين الأذلان علي وعباس؟ ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش؟ ثم قال لعلي: ابسط يدك أبايعك، فوالله لئن شئت لأملأنها عليه خيلا ورجالا. فأبى علي عليه السلام عليه، فتمثل بشعر المتلمس (3):
ولن يقيم على خسف يراد به * إلا الأذلان عير الحي والوتد هذا على الخسف مربوط برمته * وذا يشج فلا يبكي له أحد
ص: 28
فزجره علي، وقال: " والله ما أردت بهذا إلا الفتنة، وإنك والله طالما بغيت للإسلام شرا، لا حاجة لنا في نصحك (1). وجعل يطوف في أزقة المدينة، ويقول:
بني هاشم لا تطمعوا الناس فيكم * ولا سيما تيم بن مرة أو عدي
فما الأمر إلا فيكم وإليكم * وليس لها إلا أبو حسن علي
فقال عمر لأبي بكر: إن هذا قد قدم وهو فاعل شرا، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستألفه على الإسلام فدع له ما بيده من الصدقة. ففعل، فرضي أبو سفيان وبايعه (2).
تعامل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أبي سفيان بعد أن أعلن إسلامه تعامله مع المؤلفة قلوبهم، فأعطاه من غنائم حنين مائة بعير وأربعين أوقية فضة وأعطى ابنيه يزيد ومعاوية كل واحد مثله ليتألف قلوبهم على الإسلام. غير أن أبا سفيان بقي يحمل في نفسه روح التحامل على الإسلام والكيد له، وقد ظهر ذلك الموقف يوم معركة اليرموك.
ففي خبر عبد الله بن الزبير: إنه رآه يوم اليرموك، قال فكانت الروم إذا ظهرت، قل أبو سفيان: إيه بني الأصفر! فإذا كشفهم المسلمون قال أبو سفيان:
ص: 29
وبنو الأصفر الملوك ملوك * الروم لم يبق منهم مذكور (1)
فحدث به ابن الزبير أباه، فلما فتح الله على المسلمين، قال الزبير:
قاتله الله يأبى إلا نفاقا، أولسنا خيرا من بني الأصفر؟ (2).
وفي كل موقف يفصح أبو سفيان عما في نفسه من رواسب الجاهلية وعقائدها، ولعل أخطر ما صرح به أبو سفيان بعد إسلامه هو نكرانه لعالم الآخرة، ولما فيها من جزاء، نقرأ ذلك فيما نقله إلينا ابن عبد البر في الإستيعاب من (3) طريق ابن المبارك عن الحسن: أن أبا سفيان دخل على عثمان حين صارت الخلافة إليه فقال: صارت إليك بعد تيم وعدي فأدرها كالكرة، واجعل أوتادها بني أمية، فإنما هو الملك ولا أدري ما جنة ولا نار، فصاح به عثمان: قم عني فعل الله بك وفعل.
الإستيعاب (4).
وفي تاريخ الطبري (5): يا بني عبد مناف تلقفوها تلقف الكرة، فما هناك جنة ولا نار.
ص: 30
وفي لفظ المسعودي: يا بني أمية تلقفوها تلقف الكرة، فوالذي يحلف به أبو سفيان ما زلت أرجوها لكم ولتصيرن إلى صبيانكم وراثة.
مروج الذهب (1).
أجل عاش أبو سفيان في الجاهلية زنديقا، وعاش في كنف الإسلام قرابة خمسة عشر عاما حتى استلم عثمان الخلافة فأعلن عن عقيدته التي كتمها بصريح العبارة " لا أدري ما جنة ولا نار "! وهذه العبارة عبارة مرتد في الفقه الإسلامي، لأنه أنكر ضروريا من ضروريات الدين، لكن خليفة المسلمين لم يتخذ أي إجراء ضده، بل نراه يغدق عليه من أموال المسلمين!
قال الأميني: لا أرى لأبي سفيان المستحق للمنع عن كل خير أي موجب لذلك العطاء الجزل من بيت مال المسلمين، وهو - كما في الإستيعاب لأبي عمر عن طائفة - كان كهفا للمنافقين منذ أسلم، وكان في الجاهلية ينسب إلى الزندقة (1)...
وأخرج (2) ابن عساكر في تاريخه (3) عن أنس: أن أبا سفيان دخل على عثمان بعدما عمي فقال: هل هنا أحد (4)؟ فقالوا: لا. فقال:
اللهم اجعل الأمر أمر جاهلية، والملك ملك غاصبية، واجعل أوتاد الأرض لبني أمية.
قال ابن سعد في إسلامه: لما رأى الناس يطؤون عقب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حسده، فقال في نفسه: لو عاودت الجمع لهذا الرجل. فضرب رسول الله في صدره ثم قال: " إذا يخزيك الله " وفي رواية: قال في نفسه: ما أدري لم (5) يغلبنا محمد؟ فضرب في ظهره وقال: " بالله يغلبك ".
ص: 32
الإصابة (1).
أبو سفيان شخصية مريضة قلقة تحن إلى الماضي، فتعصبه لبني أمية، كما ترى في نص ابن عساكر يهجو النبي صلى الله عليه وآله وسلم (2)، تراه يخاطب نفسه: " لو عاودت الجمع لهذا الرجل " يريد محاربة النبي من جديد! " ولهذا الرجل " وكأنه ليس نبيا! " ولم يغلبنا محمد " يسميه باسمه دون إضافة رسول الله أو حبيب الله التي اعتاد عليها المسلمون، ولكنها عبارات سادة قريش التي كانوا يلوكونها بين أشداقهم، تلك هي التي يرددها أبو سفيان، فهو أبو سفيان القديم! انطوت نفسه كما يصرح هو على ما كان يحمله في الماضي!
إذا أقبلت من عند ذي العرش أريد الحساب، فإذا أنا بأبي سفيان معه كأس من ياقوتة حمراء يقول: اشرب يا خليلي، أعار (1) بأبي سفيان، وله الرضا بعد الرضا.
قال الأميني: لقد أعرب عن بعض الحقيقة الحافظ ابن عساكر نفسه بقوله: هذا حديث منكر.
أي منكر هذا يعد أبا سفيان ممن لم يزل الدين به مؤيدا قبل إسلامه وبعده؟ فكأنه غير رأس المشركين يوم أحد، وغير مجهز جيش الأحزاب والمجلب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والرافع عقيرته وهو يرتجز بقوله: أعل هبل، أعل هبل. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ألا تجيبونه؟ قالوا: يا رسول الله ما نقول؟ قال: قولوا: " الله أعلى وأجل " فقال أبو سفيان إن لنا العزى ولا عزى لكم، فقال رسول الله: " ألا تجيبونه؟ " فقالوا: يا رسول الله ما نقول؟ قال: " قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم " (2).
وكأنه ليس من أئمة الكفر الذين نزل فيهم قوله تعالى: " فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون) (3).
ص: 34
وكأنه غير من أريد بقوله عز وجل: (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله) (1).
أخرج نزوله فيه ابن مردويه من طريق ابن عباس، وعبد بن حميد، وابن جرير، وأبو الشيخ من طريق مجاهد، وهؤلاء، وغيرهم من طريق سعيد بن جبير، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ من طريق الحكم بن عتيبة (2).
وكأنه غير المعنى هو وأصحابه بقوله تعالى: " قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين) (3).
وكأنه غير من مشى مع جمع من رجال قريش إلى أبي طالب قائلين له: إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلي بيننا وبينه. إلخ (4).
ص: 35
وكأنه ليس أحد المجتمعين بدار الندوة الذين تفرقوا على رأي أبي جهل من أن يؤخذ من كل قبيلة شاب فتى جليد نسيب وسط، ثم يعطي كل منهم سيفا صارما فيعمدوا إلى رسول الله فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه (1).
وكأنه غير من أنفق على المشركين يوم أحد أربعين أوقية، وكل أوقية اثنان وأربعون مثقالا.
وكأنه غير من استأجر ألفين من الأحابيش من بني كنانة ليقاتل بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سوى من استجاش من العرب (2).
وكأنه غير من لعنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد في صلاة الصبح بعد الركعة الثانية بقوله: " اللهم العن أبا سفيان، وصفوان بن أمية، والحارث بن هشام " (3) وكأنه غير من لعنه رسول الله في سبعة مواطن، لا يتأتى لأي أحد
ص: 36
ردها:
أولها: يوم لقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خارجا من مكة إلى الطائف يدعو ثقيفا إلى الدين، فوقع به وسبه وشتمه، وكذبه وتوعده وهم أن يبطش به، فلعنه الله ورسوله وصرف عنه.
الثانية: يوم العير: إذ عرض لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي جائية من الشام، فطردها أبو سفيان وساحل بها، فلم يظفر المسلمون بها ولعنه رسول الله ودعا عليه، فكانت وقعة بدر لأجلها.
الثالثة: يوم أحد: حيث وقف تحت الجبل ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أعلاه وهو ينادي: أعل هبل، مرارا، فلعنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشر مرات، ولعنه المسلمون.
الرابعة: يوم جاء بالأحزاب وغطفان واليهود، فلعنه رسول الله وابتهل.
الخامسة: يوم جاء أبو سفيان في قريش فصدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله، ذلك يوم الحديبية، فلعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا سفيان، ولعن القادة والأتباع، وقال: " ملعونون كلهم، وليس فيهم من يؤمن "، فقيل: يا رسول الله أفما يرجى الإسلام لأحد منهم فكيف باللعنة؟ فقال: " لا تصيب اللعنة أحدا من الأتباع، وأما القادة فلا يفلح منهم أحد ".
السادسة: يوم الجمل الأحمر.
ص: 37
السابعة: يوم وقفوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في العقبة ليستنفروا ناقته، وكانوا اثني عشر رجلا، منهم أبو سفيان (1).
هذه المواطن السبعة عدها الإمام الحسن السبط - سلام الله عليه (2).
وكأنه غير من عدا على دور المهاجرين من بني جحش بن رئاب بعدما هاجروا وباعها من عمرو بن علقمة، وقيل فيه:
أبلغ أبا سفيان عن * أمر عواقبه ندامه
دار ابن عمك بعتها * تقضي بها عنك الغرامة
وحليفكم بالله رب * الناس مجتهد القسامة
إذهب بها إذهب بها * طوقتها طوق الحمامة (3)
وكأنه غير صاحب البائية يوم أحد يقول فيها:
أقاتلهم وادعي يالغالب * وأدفعهم عني بركن صليب
فبكي ولا ترعي مقالة عاذل ولا تسأمي من عبرة ونجيب أباك وإخوانا قد تتابعوا وحق لهم من عبرة بنصيب
ص: 38
وسلي الذي قد كان في النفس أنني * قتلت من النجار كل نجيب
ومن هاشم قرما كريما ومصعبا (1) * وكان لدى الهيجاء غير هيوب
ولو أنني لم أشف نفسي منهم * لكانت شجا في القلب ذات ندوب فآبوا وقد أودي الجلابيب (2) منهم بهم خدت من معطب وكئيب (3)
أصابهم من لم يكن لدمائهم * كفاء ولا في خطة بضريب (4)
وكأنه غير من كان يضرب في شدق حمزة بن عبد المطلب بزج الرمح قائلا: ذق عقق (5). سيرة ابن هشام (6).
وكأنه غير من داس قبر حمزة برجله وقال: يا أبا عمارة إن الأمر الذي اجتلدنا عليه بالسيف أمسى في يد غلماننا اليوم يتلعبون به. شرح ابن أبي الحديد (7).
وكأنه غير من قال لما رأى الناس يطؤون عقب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
ص: 39
وحسده: لو عاودت الجمع لهذا الرجل. فضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صدره ثم قال: إذا يخزيك الله. الإصابة (1).
وكأنه غير من قال لعثمان يوم تسنم عرش الخلافة: صارت إليك بعد تيم وعدي فأدرها كالكرة، واجعل أوتادها بني أمية، فإنما هو الملك، ولا أدري ما جنة ولا نار.
وكأنه غير من دخل على عثمان بعدما عمي وقال: هاهنا أحد؟ فقالوا: لا. فقال: اللهم اجعل الأمر أمر جاهلية، والملك ملك غاصبية، واجعل أوتاد الأرض لبني أمية.
هذا مجمل حال رجال في العهدين الجاهلي والإسلامي أفبمثله أيد الدين قبل إسلامه وبعد إسلامه؟ أو مثله يتولى سقاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم المحشر إذا أقبل من عند ذي العرش، وهل مستوى العرش معبأ لمثل أبي سفيان هذا ونظرائه؟ إذن فعلى العرش ومن بفنائه السلام (2)!
وإن (3) سألت مولانا أمير المؤمنين عن الرجل فعلى الخبير سقطت، قال في حديث له: " معاوية طليق ابن طليق، حزب من هذه
ص: 40
الأحزاب، لم يزل الله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم وللمسلمين عدوا هو وأبوه حتى دخلا في الإسلام كارهين " (1).
وحسبك ما في كتاب له إلى معاوية بن أبي سفيان من قوله: " يا ابن صخر يا بن اللعين " (2) ولعله عليه السلام يوعز بقوله هذا إلى ما رويناه من أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعنه وابنيه معاوية ويزيد لما رآه راكبا وأحد الولدين يقول والآخر يسوق فقال: " اللهم العن الراكب والقائد والسائق " (3).
ومن كتب له عليه السلام إلى معاوية:
" منا النبي، ومنكم المكذب "، قال ابن أبي الحديد في شرحه (4) يعني أبا سفيان بن حرب، كان عدو رسول الله، والمكذب له، والمجلب عليه.
وجاء في كتاب أمير المؤمنين إلى محمد بن أبي بكر: " قد قرأت كتاب الفاجر ابن الفاجر معاوية " (5).
وقالوا فيه:
ص: 41
ذكر (1) المدائني، عن أبي زكريا العجلاني، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال:
حج أبو بكر رضي الله عنه ومعه أبو سفيان بن حرب، فكلم أبو بكر أبا سفيان فرفع صوته، فقال أبو قحافة: اخفض صوتك يا أبا بكر عن ابن حرب، فقال أبو بكر: يا أبا قحافة إن الله بني بالإسلام بيوتا كانت غير مبنية، وهدم به بيوتا كانت في الجاهلية مبنية، وبيت أبي سفيان مما هدم.
قال المقريزي بعد إيراده هذه الرواية: " فليت شعري بعد هذا بأي وجه يبني بيت أبي سفيان بعد ما هدمه الله تعالى؟! وقال فيه عمرو بن الخطاب مخاطبا رسول الله: أبو سفيان عدوا الله، وقد أمكن الله منه بغير عهد ولا عقد، فدعني يا رسول الله أضرب عنقه (2)! وقال فيه أيضا: إن أبا سفيان لقديم الظلم (3).
وقال الإمام الحسن عليه السلام مخاطبا معاوية: " وأنك يا معاوية وأباك من المؤلفة قلوبهم تسرون الكفر، وتظهرون الإسلام وتستمالون
ص: 42
بالأموال (1) "! ومن كتاب محمد بن أبي بكر إلى معاوية " وأنت اللعين ابن اللعين ".
ويعرفك أبا سفيان قول أبي ذر لمعاوية - لما قال له: يا عدو الله وعدو رسوله - ما أنا بعدو لله ولا لرسوله بل أنت وأبوك عدوان الله ولرسوله، أظهرتهما الإسلام وأبطنتما الكفر (2).
بعد فتح مكة كان أبو سفيان فيها ثم رحل إلى المدينة وبقي فيها إلى أن مات هناك ودفن بالبقيع، وكانت وفاته سنة إحدى وثلاثين، وعمره ثمان وثمانون سنة، وقيل: توفي سنة اثنتين وثلاثين، وقيل: سنة أربع وثلاثين، وقيل: كان عمره ثلاثا وتسعين سنة.
ص: 43
ص: 44
ص: 45
ص: 46
هو الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، القرشي الأموي، أبو مروان بن الحكم، بعد في أهل الحجاز، عم عثمان بن عفان (1) لم يصلنا عنه أية رواية.
كان الحكم ممن حارب الله ورسوله، ووقف في وجه الدعوة الإسلامية مع بقية زعماء قريش.
روى ابن الأثير (2) عن بنت الحكم بن أبي العاص، أنها قالت للحكم: ما رأيت قوما كانوا أسوأ رأيا وأعجز في أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منكم يا بني أمية، فقال: لا تلومينا يا بنية، إني لا أحدثك إلا ما رأيت بعيني هاتين، قلنا: والله ما نزال نسمع قريشا تقول: يصلي هذا الصابئ في مسجدنا فتواعدوا له تأخذوه، فتواعدنا إليه، فلما رأينا سمعنا صوتا ظننا أنه ما بقي بتهامة جبل إلا تفتت علينا فما عقلنا حتى قضى صلاته، ورجع إلى أهله، ثم تواعدنا ليلة أخرى، فلما جاء نهضنا إليه فرأيت الصفا والمروة التقتا إحداهما بالأخرى، فحالتا بيننا
ص: 47
وبينه، فوالله ما نفعنا ذلك ".
بعد أن تم الأمر للمسلمين وفتحوا مكة لم يكن أمام الحكم خيار إلا أن يتظاهر بالإسلام، لينجو بنفسه، ومع أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عفا عن الحكم وأمثاله وسماهم الطلقاء، إلا أن الحكم تمادي في غيه وعض اليد التي مدت له كما سيأتيك، وقد سكن المدينة ثم نفاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف (1).
وقال أبو عمر في الإستيعاب (2): أخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحكم من المدينة وطرده عنها فنزل الطائف وخرج معه ابنه مروان، واختلف في السبب الموجب لنفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إياه فقيل: كان يتحيل ويستخفي ويتسمع ما يسره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى كبار أصحابه في مشركي قريش وسائر الكفار والمنافقين، فكان يفشي ذلك عنه حتى ظهور ذلك عليه، وكان يحكيه في مشيته وبعض حركاته، إلى أمور غيرها كرهت ذكرها، ذكروا: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا مشى يتكفأ وكان الحكم يحكيه، فالتفت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوما فرآه يفعل ذلك فقال صلى الله عليه وآله وسلم: " فكذلك فلتكن ". فكان الحكم مختلجا يرتعش من يومئذ، فعيره عبد الرحمن بن
ص: 48
حسان بن ثابت فقال في عبد الرحمن بن الحكم يهجوه:
إن اللعين أبوك فارم عظامه إن ترم ترم مخلجا مجنونا يمسي خميص البطن من عمل التقى ويظل من عمل الخبيث بطينا (1)
كان النبي يحذر المسلمين من الشجرة الأموية الخبيثة الملعونة فحذر فيما حذر من بيت الحكم، روى ابن الأثير بسنده إلى نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فمر الحكم بن أبي العاص، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ويل لأمتي مما في صلب هذا (2) وقال صلى الله عليه وآله وسلم في الحكم: " كأني أنظر إلى بنيه يصعدون منبري وينزلونه " (3) وقد لعنه النبي وما في صلبه كما سنوافيك مؤذنا بخطر هذا البيت وما يجره على المسلمين من ويلات.
ص: 49
الحكم وما أدرك ما الحكم (1):
كان خصاء الغنم (2)، أحد جيران رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة من أولئك الأشداء عليه صلى الله عليه وآله وسلم المبالغين في إيذائه شاكلة أبي لهب كما قاله ابن هشام في سيرته (3)، وأخرج الطبراني (4) من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر قال: كان الحكم يجلس عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإذا تكلم اختلج، فبصر به البني صلى الله عليه وآله وسلم فقال: " كن (5) كذلك " فما زال يختلج حتى مات.
وفي لفظ مالك بن دينار: مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالحكم فجعل الحكم يغمز النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإصبعه فالتفت فرآه فقال: " اللهم اجعل به وزغا " (6) فرجف مكانه وارتعش. وزاد الحلبي: بعد أن مكث شهرا مغشيا عليه (7).
روى البلاذري في الأنساب (8): إن الحكم بن أبي العاص كان جارا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الجاهلية وكان أشد جيرانه أذي له في
ص: 50
الإسلام، وكان قدومه المدينة بعد فتح مكة وكان مغموصا عليه في دينه، فكان يمر خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيغمز به ويحكيه ويخلج بأنفه وفمه، وإذا صلى قام خلفه فأشار بأصابعه، فبقي على تخليجه وأصابته خبلة، واطلع على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم وهو في بعض حجر نسائه فعرفه وخرج إليه بعنزة (1) وقال: " من عذيري من هذا الوزغة اللعين؟ " ثم قال: لا يساكنني ولا ولده فغربهم جميعا إلى الطائف، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلم عثمان أبا بكر فيهم وسأله ردهم فأبى ذلك وقال: ما كنت لآوي طرداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ثم لما استخلف عمر كلمه فيهم فقال مثل قول أبي بكر، فلما استخلف عثمان أدخلهم المدينة وقال: قد كنت كلمت رسول الله فيهم وسألته ردهم فوعدني أن يأذن لهم فقبض قبل ذلك. فأنكر المسلمون عليه إدخاله إياهم المدينة.
وعن سعيد بن المسيب قال: خطب عثمان فأمر بذبح الحمام وقال: إن الحمام قد كثر في بيوتكم حتى كثر الرمي ونالنا بعضه، فقال الناس: يأمر بذبح الحمام وقد آوي طرداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وذكره مرة أخرى بلفظ أخصر من هذا (2) وذكر بيتين لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت في عبد الرحمن بن الحكم السالفين في لفظ أبي عمر فقال: كان يفشي أحاديث رسول الله، فلعنه وسيره إلى الطائف
ص: 51
ومعه عثمان الأزرق والحارث وغيرهما من بنيه، وقال: " لا يساكنني " فلم يزالوا طرداء حتى ردهم عثمان، فكان ذلك مما نقم عليه.
وفي السيرة الحلبية (1): اطلع الحكم على رسول الله من باب بيته وهو عند بعض نسائه بالمدينة، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالعنزة، وقيل بمدرى (2) في يده وقال: " من عذيري من هذه الوزغة لو أدركته لفقأت عينه "، ولعنه وما ولد، وذكره ابن الأثير مختصرا في أسد الغابة (3).
وأخرج أبو عمر من طريق عبد الله بن عمرو بن العاصي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " يدخل عليكم رجل لعين " وكنت قد تركت عمرا يلبس ثيابه ليقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم أزل مشفقا أن يكون أول من يدخل، فدخل الحكم بن أبي العاص (4).
وقال ابن حجر في تطهير الجنان هامش الصواعق (5): وبسند رجاله رجال الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أنه قال: " ليدخلن الساعة عليكم رجل لعين ". فوالله ما زلت أتشوف داخلا وخارجا حتى
ص: 52
دخل فلان - يعني الحكم - كما صرحت به رواية أحمد (1).
وروى البلاذري في الأنساب (2)، والحاكم في المستدرك (3) وصححه والواقدي كما في السيرة الحلبية (4) بالإسناد عن عمرو بن مرة قال: استأذن الحكم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعرف صوته فقال: " ائذنوا له لعنة الله عليه وعلى من يخرج من صلبه إلا المؤمنين وقليل ما هو، ذوو مكر وخديعة يعطون الدنيا وما لهم في الآخرة من خلاق " (5).
وفي لفظ ابن حجر في تطهير الجنان هامش الصواعق (6): ائذنوا له فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين وما يخرج من صلبه يشرفون في الدنيا، ويترذلون في الآخرة، ذوو مكر وخديعة إلا الصالحين منهم وقليل ما هم ".
وأخرج الحاكم في المستدرك (7) وصححه من طريق عبد الله بن
ص: 53
الزبير قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعن الحكم وولده.
وأخرج الطبراني (1) وابن عساكر والدارقطني في الأفراد من طريق عبد الله بن عمر قال: هجرت الرواح إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجاء أبو الحسن فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " ادن "، فلم يزل يدنيه حتى التقم أذنيه، فبينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم يساره إذ رفع رأسه كالفزع قال: فدع (2) بسيفه الباب فقال لعلي: " إذهب فقده كما تقاد الشاة إلى حالبها " فإذا علي يدخل الحكم بن أبي العاص آخذا بأذنه ولها زنمة (3) حتى أوقفه بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلعنه نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثا ثم قال: " أحله ناحية " حتى راح إليه قوم من المهاجرين والأنصار ثم دعا به فلعنه ثم قال: " إن هذا سيخالف كتاب الله وسنة نبيه، وسيخرج من صلبه فتن يبلغ دخانها السماء ". فقال ناس من القوم: هو أقل وأذل من أن يكون هذا منه قال:
" بلى وبعضكم يومئذ شيعته ". كنز العمال (4).
وأخرج ابن عساكر (5) من طريق عبد الله بن الزبير، قال وهو على المنبر: ورب هذا البيت الحرام والبلد الحرام إن الحكم بن أبي العاص وولده ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفي لفظ: إنه قال وهو يطوف
ص: 54
بالكعبة: ورب هذه البنية للعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحكم وما ولد. كنز العمال (1).
وأخرج ابن عساكر (2) من طريق محمد بن كعب القرظي أنه قال:
لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحكم وما ولد، إلا الصالحين وهم قليل.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وعبد بن حميد والنسائي (3) وابن المنذر والحاكم وصححه عن عبد الله قال: إني لفي المسجد حين خطب مروان فقال: إن الله تعالى قد أري لأمير المؤمنين - يعني معاوية - في يزيد رأيا حسنا أن يستخلفه فقد استخلف أبو بكر وعمر. فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: أهرقلية؟ إن أبا بكر رضي الله عنه والله ما جعلها في أحد من ولده ولا أحد من أهل بيته، ولا جعلها معاوية إلا رحمة وكرامة لولده. فقال مروان: ألست الذي قال لوالديه: أف لكما؟ فقال عبد الرحمن: ألست ابن اللعين الذي لعن رسول الله أباك؟ فسمعت عائشة فقالت: مروان أنت القائل لعبد الرحمن كذا وكذا، كذبت والله ما فيه نزلت، نزلت في فلان بن فلان.
وفي لفظ آخر عن محمد بن زياد: لما بايع معاوية لابنه قال مروان: سنة أبي بكر وعمر. فقال عبد الرحمن: سنة هرقل وقيصر. فقال
ص: 55
مروان: هذا الذي قال الله فيه: (والذي قال لوالديه أف لكما) (1) الآية.
فبلغ ذلك عائشة فقالت: كذب مروان، كذب مروان والله ما هو به ولو شئت أن أسمي الذي نزلت فيه لسميته، ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعن أبا مروان ومروان في صلبه فمروان فضض من لعنة الله. وفي لفظ: ولكن رسول الله لعن أباك وأنت في صلبة فأنت فضض من لعنة الله. وفي لفظ الفائق: فأنت فظاظة (2) لعنة الله ولعنة رسوله.
راجع مستدرك الحاكم (3)، تفسير القرطبي (4)، تفسير الزمخشري (5)، الفائق له (6)، تفسير ابن كثير (7)، تفسير الرازي (8)، أسد الغابة لابن الأثير (9)، نهاية ابن الأثير (10) شرح ابن أبي الحديد (11)
ص: 56
تفسير النيسابوري هامش الطبري (1)، الإجابة للزركشي (2)، تفسير النسفي هامش الخازن (3)، الصواعق لابن حجر (4)، إرشاد الساري للقسطلاني (5)، لسان العرب (6)، الدر المنثور (7)، حياة الحيوان للدميري (8)، السيرة الحلبية (9)، تاج العروس (10)، تفسير الشوكاني (11)، تفسير الآلوسي (12)، سيرة زيني دحلان هامش الحلبية (13). (14).
قال ابن الأثير: " وقد روي في لعنه - أي الحكم - ونفيه أحاديث كثيرة، لا حاجة إلى ذكرها، إلا أن الأمر المقطوع به
ص: 57
أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع حلمه وإغضائه على ما يكره ما فعل به ذلك إلا لأمر عظيم " (1).
يوجد هذا الحديث في المصادر جلها لولا كلها باللفظ المذكور، غير أن البخاري أخرجه في تفسير صحيحه (2) في سورة الأحقاف وحذف منه لعن مروان وأبيه وما راقه ذكر ما قاله عبد الرحمن، وهذا دأبه في جل ما يرويه، وإليك لفظه:
كان مروان على الحجاز استعمله معاوية فخطب فجعل يذكر يزيد ابن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه، فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئا، فقال: خذوه. فدخل بيت عائشة فلم يقدروا عليه (3)، فقال مروان: إن هذا الذي أنزل الله فيه: (والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني). فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن إلا أن الله أنزل عذري.
وقال ابن كثير: وكان الحكم مع ذلك كله يدعو الناس إلى الضلال ويمنعهم عن الإسلام. اجتمع حويطب بمروان يوما فسأله مروان عن
ص: 58
عمره، فأخبره، فقال له: تأخر إسلامك أيها الشيخ حتى سبقك الأحداث. فقال حويطب: الله المستعان والله لقد هممت بالإسلام غير مرة كل ذلك يعوقني أبوك يقول: تضع شرفك، وتدع دين آبائك لدين محدث، وتصير تابعا؟ فسكت مروان وندم على ما كان قال له. تاريخ ابن كثير (1).
أخرج ابن مردويه عن أبي عثمان النهدي، قال: قال مروان لما بايع الناس ليزيد: سنة أبي بكر وعمر... إلى آخر الحديث المذكور.
فسمعت ذلك عائشة فقالت: إنها لم تنزل في عبد الرحمن، ولكن نزل في أبيك: (ولا تطع كل حلاف مهين * هماز مشاء بنميم) (2).
راجع، الدر المنثور (3)، السيرة الحلبية (4)، تفسير الشوكاني (5)، تفسير الآلوسي (6)، سيرة زيني دحلان هامش الحلبية (7). وأخرج ابن مردويه عن عائشة أنها قالت لمروان: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول
ص: 59
لأبيك وجدك - أبي العاص بن أمية -: " إنكم الشجرة الملعونة في القرآن ".
ذكره السيوطي في الدر المنثور (1)، والحلبي في السيرة (2) والشوكاني في تفسيره (3)، والآلوسي في تفسيره (4). وفي لفظ القرطبي في تفسيره (5):
قالت عائشة لمروان: لعن الله أباك وأنت في صلبه، فأنت بعض من لعنة الله. ثم قالت: والشجرة الملعونة في القرآن.
وأخرج ابن أبي حاتم عن يعلى بن مرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
" رأيت بني أمية على منابر الأرض وسيملكونكم فتجدونهم أرباب سوء "، واهتم رسول الله لذلك، فأنزل الله: " (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبير) (6).
وأخرج ابن مردويه عن الحسين بن علي: " إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصبح وهو مهموم فقيل: ما لك يا رسول الله؟ فقال: إني أريت في المنام
ص: 60
كأن بني أمية يتعاورون منبري هذا، فقيل: يا رسول الله لا تهتم فإنها دنيا تنالهم، فأنزل الله (وما جعلنا الرؤيا التي) الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي (1) وابن عساكر (2)، عن سعيد بن المسيب قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بني أمية على المنابر فساءه ذلك، فأوحى الله تعالى إليه: إنما هي دنيا أعطوها.
فقرت عينه وذلك قوله تعالى (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك). الآية.
وأخرج الطبري والقرطبي وغيرهما من طريق سهل بن سعد قال:
رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بني أمية ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك، فما استجمع ضاحكا حتى مات، وأنزل الله تعالى (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك) الآية.
وروى القرطبي والنيسابوري عن ابن عباس: أن الشجرة الملعونة بنو أمية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمرو (3) أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
" رأيت ولد الحكم بن أبي العاص على المنابر كأنهم القردة " فأنزل الله:
(وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة) يعني الحكم وولده.
ص: 61
وفي لفظ: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى في المنام أن ولد الحكم بن أمية يتداولون منبره كما يتداول الصبيان الكرة فساءه ذلك (1).
وفي لفظ للحاكم والبيهقي في الدلائل (2) وابن عساكر (3) وأبي يعلى من طريق أبي هريرة: " إني أريت في منامي كأن بني الحكم بن العاص ينزون على منبري كما تنزو القردة " فما رؤي النبي مستجمعا ضاحكا حتى توفي.
مصادره ما رويناه:
تفسير الطبري (4)، تاريخ الطبري (5)، مستدرك الحاكم (6)، تاريخ الخطيب (7)، تفسير النيسابوري هامش الطبري (8)، تفسير القرطبي (9)، النزاع والتخاصم للمقريزي (10)، أسد الغابة (11) من طريق
ص: 62
الترمذي (1)، تطهير الجنان لابن حجر هامش الصواعق (2) فقال: رجاله رجال الصحيح إلا واحدا فثقة، والخصائص (3) الكبرى، الدر المنثور (4)، كنز العمال (5)، تفسير الخازن (6)، تفسير الشوكاني (7)، تفسير الآلوسي (8) فقال الآلوسي:
ومعنى جعل ذلك فتنة للناس جعله بلاء لهم ومختبرا، وبذلك فسره ابن المسيب، وكان هذا بالنسبة إلى خلفائهم الذين فعلوا ما فعلوا، وعدلوا عن سنن الحق وما عدلوا وما بعده بالنسبة إلى ما عدا خلفاءهم منهم ممن كان عندهم عاملا وللخبائث عاملا، أو ممن كان أعوانهم كيف ما كان، ويحتمل أن يكون المراد: ما جعلنا خلافتهم وما جعلنا أنفسهم إلا فتنة، وفيه من المبالغة في ذمهم ما فيه، وجعل ضمير نخوفهم على هذا لما كان له أولا أو للشجرة باعتبار أن المراد بها بنو أمية، ولعنهم لما صدر منهم من استباحة الدماء المعصومة، والفروج المحصنة، وأخذ الأموال من غير حلها، ومنع الحقوق عن أهلها،
ص: 63
وتبديل الأحكام، والحكم بغير ما أنزل الله تبارك وتعالى على نبيه عليه الصلاة والسلام، إلى غير ذلك من القبائح العظام والمخازي الجسام التي لا تكاد تنسى ما دامت الليالي والأيام، وجاء لعنهم في القرآن إما على الخصوص كما زعمته الشيعة، أو على العموم كما نقول، فقد قال سبحانه وتعالى: (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة) (1) وقال عز وجل: (فهل عسيتهم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم * أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم) (2). إلى آيات أخر، ودخولهم في عموم ذلك يكاد يكون دخولا أوليا... إلى آخر كلامه. راجع.
الأولى: كلمة القرطبي: قال القرطبي بعد روايته حديث الرؤيا: لا يدخل في هذه الرؤيا عثمان ولا عمر بن عبد العزيز ولا معاوية.
لا يهمنا بسط القول حول هذا التخصيص، ولا ننبس بينت شفة في تعميم العموم الوارد في الأحاديث المذكورة وأمثالها الواردة في بني أمية عامة وفي بني أبي العاص جد عثمان خاصة، من قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الصحيح من طريق أبي سعيد الخدري: " إن أهل بيتي سيلقون من بعدي من أمتي قتلا وتشريدا، وإن أشد قومنا لنا بغضنا بنو أمية وبنو المغيرة
ص: 64
وبنو مخزوم " (1).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم من طريق أبي ذر: " إذا بلغت بنو أمية أربعين اتخذوا عباد الله خولا، ومال الله نحلا (2)، وكتاب الله دغلا " (3).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم من طريق حمران بن جابر اليمامي: " ويل لبني أمية - ثلاث مرات - أخرجه ابن مندة كما في الإصابة (4)، وحكاه عن ابن مندة وأبي نعيم السيوطي في الجامع الكبير كما في ترتيبه (5).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم من طريق أبي ذر: " إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا اتخذوا مال الله دولا، وعباد الله خولا، ودين الله دغلا " قال حلام بن جفال (6): فأنكر على أبي ذر فشهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " إني سمعت رسول الله يقول: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر، وأشهد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاله ".
أخرجه الحاكم من عدة طرق وصححه هو والذهبي كما
ص: 65
في المستدرك (1) وأخرجه (2) أحمد، وابن عساكر، وأبو يعلى، والطبراني، والدارقطني من طريق أبي سعيد وأبي ذر وابن عباس ومعاوية وأبي هريرة كما في كنز العمال.
وذكر ابن حجر في تطهير الجنان (3) هامش الصواعق بسند حسنه: أن مروان دخل على معاوية في حاجة وقال: إن مؤنتي عظيمة أصبحت أبا عشرة، وأخا عشرة، وعم عشرة ثم ذهب، فقال معاوية لابن عباس وكان جالسا معه على سريره: أنشدك بالله يا بن عباس أما تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " إذا بلغ بنو أبي الحكم ثلاثين رجلا اتخذوا آيات الله بينهم دولا، وعباد الله خولا، وكتابه دخلا، فإذا بلغوا سبعة وأربعمائة كان هلاكهم أسرع من كذا؟ " قال: اللهم نعم.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم بإسناده حسنه ابن حجر في تطهير الجنان هامش الصواعق (4): " شر العرب بنو أمية، وبنو حنيفة، وثقيف "، وقال:
صح، قال الحاكم: على شرط الشيخين عن أبي برزة رضي الله عنه قال: كان أبغض الأحياء أو الناس إلى رسول الله بنو أمية.
ص: 66
وقول مولانا أمير المؤمنين عليه السلام: " لكل أمة آفة وآفة هذه الأمة بنو أمية ". كنز العمال (1).
فالحكم في هذه العمومات ولا سيما بعد ملاحظة ما أثبتته السير ومدونات التاريخ وغيرها، وبعد الإحاطة بأحوال الرجال وما ارتكبوه وما ارتكبوا فيه، أنت ووجدانك أيها القارئ الكريم.
الثانية: كلمة ابن حجر صاحب الصواعق: قال ابن حجر في الصواعق (2): قال ابن ظفر: وكان الحكم هذا يرمى بالداء العضال وكذلك أبو جهل، كذا ذكره الدميري في حياة الحيوان (3).
ولعنته صلى الله عليه وآله وسلم للحكم وابنه لا تضرهما لأنه صلى الله عليه وآله وسلم تدارك ذلك بقوله مما بينه في الحديث الآخر: إنه بشر يغضب البشر، وإنه سأل ربه أن من سبه أو لعنه أو دعا عليه أن يكون رحمة وزكاة وكفارة وطهارة. وما نقله الدميري عن ابن ظفر في أبي جهل لا تأويل عليه فيه بخلافه في الحكم فإنه صحابي، وقبيح أي قبيح أن يرمى صحابي بذلك، فليحمل على أنه إن صح ذلك كان يرمى به قبل الإسلام. انتهى.
أنا لا أدري أيعلم ابن حجر ماذا يلوك بين أشداقه؟ أهو مجد فيما يقول أم هازئ؟ أما ما اعتذر به من أن لعنته صلى الله عليه وآله وسلم لا تضر الحكم
ص: 67
وابنه. إلى آخره. فقد أخذه مما أخرجه الشيخان في الصحيحين (1) من طريق أبي هريرة، غير أنه حرف منه كلما وزاد فيه أخرى وإليك لفظة:
قال: اللهم إنما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر، وإني قد اتخذت عندك عهدا لم تخلفنيه فأيما مؤمن آذيته أو سببته أو لعنته أو جلدته فاجعلها له كفارة وقربة تقربه بها إليك.
هذا حط من مقام الرسالة لأجل أموي ساقط، وحسبان أن صاحبها كإنسان عادي يثيره ما يثير غيره فيغضب لما لا ينبغي أن يغضب له، ومخالف للكتاب العزيز من قوله سبحانه: (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى) (2).
نعم، هو صلى الله عليه وآله وسلم بشر غير أنه كما قال في الذكر الحكيم: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي) فإن كان في الوحي أن يلعن الطريد وما ولد فماذا ينجيه من اللعن؟ إلا أن يحسب ابن حجر أن الوحي أيضا يتبع الشهوات! كبرت كلمة تخرج من أفواههم.
وكيف يكون اللعن رحمة وزكاة وطهارة وكفارة وقد أصاب موضعه بأمر من الله سبحانه؟
ص: 68
وما يصنع ابن حجر بالصحيح المتضافر من أن سباب المسلم فسوق (1)؟ وكيف يسوغ له إيمانه أن يكون رسول الله سبابا أو لعانا أو مؤذيا لأحد أو جالدا لمسلم على غير حق؟ وكل ذلك من منافيات العصمة والله سبحانه يقول (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا) (2). وجاء في الصحيح:
إنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن سبابا ولا فحاشا ولا لعانا، وقد أبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الدعاء على المشركين، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: " إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة " (3) فهو صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمل في أولئك المشركين الهداية فلم يلعنهم
ص: 69
ولا دعا عليهم، ولما كان لم يرج في الحكم وولده أي خير لعنهم لعنا يبقي عليهم خزي الأبد.
نعم، رواية الصحيحين المنافية لعصمة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم اختلقتها يد الهوى على عهد معاوية تزلفا إليه، وطمعا في رضيخته، وتحببا إلى آل أبي العاص المقربين عنده. ومن أراد الوقوف على أبسط مما ذكرناه في المقام فليراجع كتاب (أبو هريرة) لسيدنا الآية السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي (1).
هبنا - العياذ بالله - ما شينا ابن حجر في أساطيره في نبي العصمة والقداسة، فما حيلة المغفل فيما نزل من الذكر الحكيم في الحكم وبنيه؟ هل فيه ضمير؟ أم يراه أيضا رحمة وزكاة وكفارة وطهارة.
وشتان بين رأي ابن حجر في الحكم وبين ما يأتي من قول أبي بكر لعثمان فيه: عمك إلى النار، وقول عمر لعثمان: ويحك يا عثمان تتكلم في لعين رسول الله وطريده وعدو رسوله؟ وأما ما عالج به داء الحكم فهو يعلم أنه موصوم بما هو أفظع من ذلك، من لعن رسول الله وطرده إياه، وكان الخبيث يهزأ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مشيته حتى أخذته دعوته صلى الله عليه وآله وسلم، وهل تجديد الصحبة وحاله هذه؟ وهل تشمل الصحبة التي هي من أربى الفضائل اللص الذي ساكن الصحابة لاستراق أموالهم وإلقاح الفتن فيهم؟ وهل تشمل المنافقين
ص: 70
الذين كانوا في المدينة يومئذ؟ (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق) (1) فإن طهرت الصحبة أمثال الحكم فهي مطهرة أولئك بطريق أولى لأنه لم يكشف عنهم الغطاء كما كشف عن الحكم على العهد النبوي وفي دور الشيخين، حتى أراد ابن أخيه أن ينقذه من الفضيحة فزيد ضغث على إبالة (2)، ونبشت الدفائن، وذكر ما كاد أن ينسى.
ثم هب أن الصحبة مزيحة لعلل النفس والأمراض القلبية فهل هي مزيلة للأدواء، الجسمانية؟ لم نجد في كتب الطب من وصفها بذلك، ولا تعدادها في صف الأودية المفيدة لداء من الأدواء، ولا لذلك الداء العضال الذي زعم ابن حجر أنه منفي عن الحكم لمحض الإسلام والصحبة، وجوز أن يكون قبل اتصاله بالمسلمين، حيا الله هذا الطب الجديد! إن من الممكن جدا أن يكون هذا الداء العضال من علل طرد الرجل من المدينة، فلم يرد صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون بين صحابته في عاصمة نبوته مخزي مثله.
إذا أنهاك البحث إلى هاهنا وعرفت الحكم ومقداره في أدوار حياته جاهلية وإسلاما، فأقرأ ما جاء به سالم بن وابصة تزلفا إلى معاوية بن مروان بن الحكم من قوله:
ص: 71
إذا افتخرت يوما أمية أطرقت * قريش وقالوا معدن الفضل والكرم فإن قيل هاتوا خيركم أطبقوا معا * على أن خير الناس كلهم الحكم ألستم بني مروان غيث بلادنا * إذا السنة الشهباء سدت على الكظم سبحانك اللهم ما قيمة بشر خيره الحكم؟ وما شأن جدوب غيثها بنو مروان؟ إن هي إلا أساطير الأولين نسجتها يد الغلو في الفضائل (1).
قال ابن تيمية مدافعا عن الحكم: " أما الحكم فهو من الطلقاء، والطلقاء حسن إسلام أكثرهم، وبعضهم فيه نظر، ومجرد ذنب يعزر عليه لا يوجب أن يكون منافقا في الباطن! " (2).
أجل إن للحكم ذنبا " ومجرد ذنب "!، فإيذاء النبي والاستهزاء به وإفشاء أسراره والطلاح على داره... كل هذا " مجرد ذنب " عند الشيخ!! وقال: " وغاية النفي المقدر سنة، وهو نفي الزاني والمخنث، وإذا كان كذلك فالنفي كان في آخر الهجرة، فلم تطل مدته في زمن أبي بكر، وعمر، فلما كان عثمان طالت
ص: 72
مدته " (1).
" ربما تحدث الشيخ عن أعداد كانت في القرون الغابرة لا نعرفها اليوم، أو عن غيب لا نفهمه! وإلا فمدة خلافة أبي بكر وعمر كانت ثلاث عشرة سنة، مع ما كان في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وربما كان سنة أو أقل أو أكثر، فيكون المجموع نحو أربع عشرة سنة " فلم تطل مدته، فلما كان عثمان طالت مدته " بأعجوبة أو بمعجزة!! " (2).
" وغاية النفي المقدر سنة، وهو نفي الزاني والمخنث "، والحكم لم يكن زانيا ولا مخنثا، فالنبي - في عقيدة ابن تيمية - نفي الحكم بغير حق!
أيادي الخليفة عثمان عند الحكم بن أبي العاص (3):
أعطى عثمان صدقات قضاعة للحكم بن أبي العاص عمه، طريد النبي بعدما قربه وأدناه، وألبسه يوم قدم المدينة وعليه فزر (4) خلق وهوى يسوق تيسا والناس ينظرون إلى سوء حاله وحال من معه، حتى دخل دار الخليفة ثم خرج وعليه جبة خز وطيلسان. تاريخ اليعقوبي (5)
ص: 73
وقال البلاذري في الأنساب (1) رواية عن ابن عباس أنه قال: كان مما أنكروا على عثمان أنه ولى الحكم بن أبي العاص صدقات قضاعة (2)، فبلغت ثلاث مائة ألف درهم فوهبها له حين أتاه بها.
وقال ابن قتيبة وابن عبد ربه والذهبي: ومما نقم الناس على عثمان أنه آوى طريد النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحكم ولم يؤوه أبو بكر وعمر وأعطاه مائة ألف (3).
وعن عبد الكريم بن يسار قال: رأيت عامل صدقات المسلمين على سوق المدينة إذا أمسى آتاها عثمان، فقال له: إدفعها إلى الحكم بن أبي العاص، وكان عثمان إذا أجاز أحدا من أهل بيته بجائزة جعلها فرضا من بيت المال، فجعل يدافعه ويقول له: يكون فنعطيك إن شاء الله.
فألح عليه فقال: إنما أنت خازن لنا، فإذا أعطيناك فخذ، وإذا سكتنا عنك فاسكت. فقال: كذبت والله ما أنا لك بخازن ولا لأهل بيتك إنما أنا خازن المسلمين، وجاء بالمفاتيح يوم الجمعة وعثمان يخطب فقال:
أيها الناس زعم عثمان أني خازن له ولأهل بيته وإنما كنت خازنا للمسلمين وهذه مفاتيح بيت مالكم، ورمى بها فأخذها ودفعها إلى زيد
ص: 74
ابن ثابت. تاريخ اليعقوبي (1).
هلم معي نسائل الخليفة في إيواء لعين رسول الله وطريده - الحكم - وبمسمع منه ومرأى نزول القرآن فيه واللعن المتواصل من مصدر النبوة عليه وعلى من تناسل منه عدا المؤمنين، وقليل ما هو، ما هو المبرر لعمله هذا ورده إلى مدينة الرسول؟ وقد طرده صلى الله عليه وآله وسلم وأبناءه منها تنزيها لها من تلكم الأرجاس والأدناس الأموية، قد سأل أبا بكر وبعده عمر أن يرداه، فقال كل منهما: لا أحل عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (2) وقال الحلبي في السيرة (3): كان يقال له: طريد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولعينه، وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم طرده إلى الطائف ومكث به مدة رسول الله ومدة أبي بكر بعد أن سأله عثمان في إدخاله المدينة فأبى، فقال له عثمان: عمي، فقال: عمك إلى النار، هيهات هيهات أن أغير شيئا فعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والله لا رددته أبدا، فلما توفي أبو بكر وولي عمر كلمه عثمان في ذلك فقال له: ويحك يا عثمان تتكلم في لعين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وطريده وعدو الله وعدو رسوله؟ فلما ولي عثمان رده إلى المدينة فاشتد
ص: 75
ذلك على المهاجرين والأنصار فأنكر ذلك عليه أعيان الصحابة، فكان ذلك من أكبر أسباب القيام عليه. انتهى.
ألم تكن للخليفة أسوة في رسول الله؟ والله يقول: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا) (1) أو كان قومه وحامته أحب إليه من الله ورسوله؟ وبين يديه الذكر الحكيم: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأمال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين) (2).
ثم ما هو المبرر لتخصيص الرجل بتلك المنحة الجزيلة من حقوق المسلمين وأعطياتهم؟ بعد تأمينه على أخذ الصدقات المشترط فيه الثقة والأمانة، واللعين لا يكون ثقة ولا أمينا.
ثم نسائل الحكم والخليفة على تقريره لما ارتكبه من حمل صدقات قضاعة إلى دار الخلافة وقد ثبت في السنة أنها تقسط على فقراء المحل وعليها أتت الأقوال. قال أبو عبيدة في الأموال (3): والعلماء اليوم مجمعون على هذه الآثار كلها أن أهل كل بلد من البلدان، أو ماء
ص: 76
من المياه أحق بصدقتهم ما دام فيهم من ذوي الحاجة واحد فما فوق ذلك، وإن أتى ذلك على جميع صدقتها حتى يرجع الساعي ولا شئ معه منها، بذلك جاءت الأحاديث مفسرة. ثم ذكره أحاديث فقال (1):
قال أبو عبيد: فكل هذه الأحاديث تثبت أن كل قوم أولى بصدقتهم حتى يستغنوا عنها، ونرى استحقاقهم ذلك دون غيرهم إنما جاءت به السنة لحرمة الجوار وقرب دارهم من دار الأغنياء. انتهى.
ألم يكن في قضاعة ذو حاجة فيعطي؟ أو لم يكن في المدينة الطيبة من فقراء المسلمين أحد فيقسم ذلك المال الطائل بينهم بالسوية؟ (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليهما) الآية (2). فتخصيصها للحكم لماذا؟ وهلم معي إلى المسكين صاحب المال تؤخذ منه الصدقات شاء أو أبى وهو يعلم مصب تلكم الأموال ومدرها من أيدي أولئك الجبارة أو الجبارة - نظراء الحكم ومروان والوليد وسعيد - وما يرتكبونه من فجور ومجون، وبعد لم ينقطع من أذنه صدى ما ارتكبه خالد بن الوليد سيف.. مع مالك بن نويرة وحليلته وذويه وما يملكه، وكان يسمع من وحي الكتاب قوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) (3)، فهل يرى المسكين أن هذا الأخذ يطهره ويزكيه؟ لا حكم
ص: 77
إلا لله.
نعم، يقول المغيرة بن شعبة - زاني ثقيف - إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرنا أن ندفعها إليهم وعليهم حسابهم (1) ويقول ابن عمر: ادفعوها إليهم وإن شربوا بها الخمر. ويقول: ادفعها إلى الأمراء وإن تمزعوا بها لحوم الكلاب على موائدهم (2). نحن لا نقيم لأمثال هذه الآراء وزنا، ولا أحسب أن الباحث يقدر لها قيمة. فإنها ولائد ظنون مجردة، وقد جاء في أولئك الأمراء بإسناد صححه الحاكم والذهبي من طريق جابر بن عبد الله قال: قال صلى الله عليه وآله وسلم لكعب ابن عجرة: " أعاذك الله يا كعب من إمارة السفهاء ". قال: وما إمارة السفهاء يا رسول الله؟ قال: " أمراء يكونون بعدي لا يهدون بهديي ولا يستنون بسنتي، فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فأولئك ليسوا مني ولست منهم، ولا يردون علي حوضي، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فأولئك مني وأنا منهم وسيردون على حوضي " (3).
فإعطاء الصدقات لأولئك الأمراء من أظهر مصاديق الإعانة على الإثم والعدوان والله تعالى يقول: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا
ص: 78
تعاونوا على الإثم والعدوان) (1).
ثم إن الصدقات كضرائب مالية في أموال الأغنياء لإعاشة الضعفاء من الأمة. قال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام: " إن الله عز وجل فرض على الأغنياء في أموالهم ما يكفي الفقراء، فإن جاعوا أو عروا أو جهدوا فبمنع الأغنياء، وحق على الله تبارك وتعالى أن يحاسبهم ويعذبهم ". الأموال لأبي عبيد (2)، المحلى لابن حزم (3)، وأخرجه الخطيب في تاريخه (4) من طريق علي مرفوعا.
وفي لفظ: " إن الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء فما جاع فقير إلا بما متع به غني، والله سائلهم عن ذلك " نهج البلاغة (5).
هذا هو مجرى الصدقات في الشريعة المطهرة، وهو الذي يطهر صاحب المال ويزكيه، ويكتسح عن المجتمع معرة الآراء الفاسدة من الفقراء المقلقة للسلام والمعكرة لصفو الحياة. ثم الخليفة يدعي (6) إن
ص: 79
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعده رد الحكم بعد أن فاوضه في ذلك، إن كان هذا الوعد صحيحا فلم لم يعلم به أحد غيره؟ ولا عرفه الشيخان وهلا رواه لهما حين كلمهما في رده فجبهاه بما عرفت؟ أو أنهما لم يثقا بتلك الرواية؟ فهذه مشكلة أخرى. أو أنهما صدقاه؟ غير أنهما رأيا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعده أن يرده هو صلى الله عليه وآله وسلم ولم يرده، ولعل المصلحة الواقعية أو الظروف لم تساعده على إنجاز الوعد حتى قضى نحبه، فمن أين عرف الترخيص له في رده؟ ولو كانت هناك شبهة رخصة لعمل بها الشيخان حين فاوضهما هو في ذلك، لكنهما ما عرفا الشبهة ولا علما تلميحا للرخصة بل رأياه عقدة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا تنحل، وفي الملل والنحل للشهرستاني (1): فما أجابا إلى ذلك ونفاه عمر من مقامه باليمن أربعين فرسخا. انتهى. ومن هنا رأى ابن عبد ربه في العقد (2) وأبو الفدا في تاريخه (3) أن الحكم طريد رسول الله وطريد أبي بكر وعمر أيضا، وكذلك الصحابة كلهم ما عرفوا مساغا لرد الرجل وأبنائه، وإلا لما نقموا به عليه ولعذروه على ما ارتكبه وفيهم من لا تخفى عليه مواعيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وللخليفة معذرة أخرى، قال ابن عبد ربه في العقد الفريد: لما رد عثمان الحكم طريد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وطريد أبي بكر وعمر إلى المدينة تكلم
ص: 80
الناس في ذلك، فقال عثمان: ما ينقم الناس مني؟ إني وصلت رحما وقريت عينا. انتهى.
ونحن لا نخدش العواطف بتحليل كلمة الخليفة هذه، ولا نفصل القول في مغزاها وإنما نمر به كراما، وأنت إذا عرفت الحكم وما ولد علمت أن ردهم إلى المدينة المشرفة وتوليهم على الأمور، وتسليطهم على ناموس الإسلام، واتخاذ الحمى لهم جناية كبيرة الأمة لا تغتفر، ولا تقر بها قط عين (1).
ص: 81
ص: 82
ص: 83
ص: 84
هو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي، يكنى أبا عبد الملك، وهو ابن عم عثمان بن عفان بن أبي العاص وكاتبه في خلافته ولم يصلنا عنه حديث (1).
هناك اختلاف كبير حول تاريخ ولادة مروان فقد قيل:
ولد سنة اثنتين من الهجرة، وقال مالك: ولد يوم أحد، وقيل:
ولد يوم الخندق، وقيل: بمكة وقيل بالطائف (2).
ولم ير النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنه خرج إلى الطائف طفلا لا يعقل لما نفى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أباه الحكم،... وكان مع أبيه بالطائف حتى استخلف عثمان، واستكتب عثمان مروان وضمه إليه (3).
ويبدو أن الصحيح في ولادة مروان هو ولادته بعد فتح مكة لثبوت الرواية التي تقول " كان لا يولد لأحد بالمدينة
ص: 85
ولد إلا أتي به إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فدعا له فأدخل عليه مروان... " وسيوافيك الحديث.
فمروان ولد في المدينة وأبوه وأمه لم يهاجرا بل بقيا على شركهما، بعد فتح مكة سكنا المدينة فولد مروان هناك والله أعلم.
أخرج الحاكم في المستدرك (1) من طريق عبد الرحمن ابن عوف وصححه أنه قال: كان لا يولد لأحد بالمدينة ولد إلا أتي به إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فدعا له، فأدخل عليه مروان بن الحكم عند ولادته فقال: هو الوزغ ابن الوزغ، الملعون ابن الملعون.
وذكره الدميري في حياة الحيوان (2)، وابن حجر في الصواعق (3)، والحلبي في السيرة (4). ولعل معاوية أشار إليه بقوله لمروان: يا بن الوزغ لست هناك. فيما ذكر ابن أبي الحديد (5).
ص: 86
بقي مروان مع أبيه في المنفى قرابة أربعة عشر عاما، وعاد مع أبيه بعد أن ردهما عثمان خلافا لفعل النبي والشيخين. فعينه عثمان كاتبا في خلافته وزوجه ابنته أم أبان، فماذا كان بعد ذلك؟
أعطى عثمان مروان بن الحكم بن أبي العاص ابن عمه وصهره من ابنته أم أبان خمس غنائم إفريقية وهو خمسمائة ألف دينار، وفي ذلك يقول عبد الرحمن بن حنبل الجمحي الكندي مخاطبا الخليفة:
أحلف بالله رب الأنام * ما ترك الله أمرا سدى ولكن خلقت لنا فتنة * لكي نبتلي بك أو تبتلى فإن الأمينين قد بينا * منار الطريق عليه الهدى فما أخذا درهما غيلة * وما جعلا درهما في الهوى دعوت اللعين فأدنيته * خلافا لسنة من قد مضى وأعطيت مروان خمس العباد * فهيهات شأوك ممن سعى هكذا رواه ابن قتيبة في المعارف (1)، وأبو الفداء في تاريخه (2)،
ص: 87
وذكر البلاذري الأبيات في الأنساب (1) ونسبها إلى أسلم بن أوس بن بجرة الساعدي الخزرجي الذي منع أن يدفن عثمان بالبقيع، وإليك لفظها:
أقسم بالله رب العباد * ما ترك الله خلقا سدى دعوت اللعين فأدنيته * خلافا لسنة من قد مضى قال: يعني الحكم والد مروان.
وأعطيت مروان خمس العباد * ظلما لهم وحميت الحمى ومال أتاك به الأشعري * من الفئ أنهيته من ترى فأما الأمينان إذ بينا * منار الطريق عليه الصوى فلم يأخذا درهما غيلة * ولم يصرفا درهما في هوى وذكرها ابن عبد ربه في العقد الفريد (2) ونسبها إلى عبد الرحمن، وروى البلاذري من طريق عبد الله بن الزبير أنه قال: أغزانا عثمان سنة سبع وعشرين إفريقية فأصاب عبد الله بن سعد بن أبي سرح غنائم جليلة فأعطى عثمان مروان بن الحكم خمس الغنائم، وفي رواية أبي مخنف:
فابتاع الخمس بمائتي ألف دينار فكلم عثمان فوهبها له فأنكر الناس ذلك على عثمان (3).
ص: 88
وفي رواية الواقدي كما ذكره ابن كثير: صالحه بطريقها على ألفي ألف دينار وعشرين ألف دينار، فأطلقها كلها عثمان في يوم واحد لآل الحكم ويقال: لآل مروان (1).
وفي رواية الطبري عن الواقدي، عن أسامة بن زيد، عن ابن كعب قال: لما وجه عثمان عبد الله بن سعد إلى إفريقية كان الذي صالحهم عليه بطريق إفريقية جرجير ألفي ألف دينار وخمسمائة ألف دينار وعشرين إلف دينار، فبعث ملك الروم رسولا وأمره أن يأخذ منهم ثلاثمائة قنطار كما أخذ منهم عبد الله بن سعد. إلى أن قال: كان الذي صالحهم عليه عبد الله بن سعد ثلاثمائة قنطار ذهب، فأمر بها عثمان لآل الحكم. قلت: أو لمروان؟ قال: لا أدري. تاريخ الطبري (2).
وقال ابن الأثير في الكامل (3): وحمل خمس إفريقية إلى المدينة فاشتراه مروان بن الحكم بخمسمائة ألف دينار فوضعها عنه عثمان، وكان هذا مما أخذ عليه، وهذا أحسن ما قيل في خمس إفريقية، فإن بعض الناس يقول: أعطى عثمان خمس إفريقية عبد الله بن سعد.
وبعضهم يقول: أعطاه مروان بن الحكم، وظهر بهذا أنه أعطى عبد الله خمس الغزوة الأولى، وأعطى مروان خمس الغزوة الثانية التي افتتحت
ص: 89
فيها جميع إفريقية. والله أعلم.
وروى البلاذري وابن سعد: أن عثمان كتب لمروان بخمس مصر وأعطى أقرباءه المال، وتأول في ذلك الصلة التي أمر الله بها، واتخذ الأموال واستسلف من بيت المال وقال: إن أبا بكر وعمر تركا من ذلك ما هو لهما، وإني أخذته فقسمته في أقربائي. فأنكر الناس عليه ذلك (1).
وأخرج البلاذري في الأنساب (2) من طريق الواقدي عن أم بكر بنت المسور قالت: لما بني مروان داره بالمدينة دعا الناس إلى طعامه وكان المسور فيمن دعا، فقال مروان وهو يحدثهم: والله ما أنفقت في داري هذه من مال المسلمين درهما فما فوقه. فقال المسور: لو أكلت طعامك وسكت لكان خيرا لك، لقد غزوت معنا إفريقية وإنك لأقلنا مالا ورقيقا وأعوانا وأخفنا ثقلا، فأعطاك ابن عفان خمس إفريقية وعملت على الصدقات فأخذت أموال المسلمين، فشكاه مروان إلى عروة وقال:
يغلظ لي وأنا له مكرم متق.
وقال ابن أبي الحديد في الشرح (3): أمر - عثمان - لمروان بمائة ألف من بيت المال وقد زوجه ابنته أم أبان، فجاء زيد بن أرقم صاحب بيت المال بالمفاتيح فوضعها بين يدي عثمان وبكى، فقال عثمان:
ص: 90
أتبكي أن وصلت رحمي؟ قال: لا. ولكن أبكي لأني أظنك أنك أخذت هذا المال عوضا عما كنت أنفقته في سبيل الله في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولو (1) أعطيت مروان مائة درهم لكان كثيرا. فقال ألق المفاتيح يا بن أرقم فإنا سنجد غيرك، وأتاه أبو موسى بأموال من العراق جليلة، فقسمها كلها في بني أمية.
وقال الحلبي في السيرة (2): وكان من جملة ما انتقم به على عثمان أنه أعطى ابن عمه مروان بن الحكم مائة ألف وخمسين أوقية (3).
إقطاع الخليفة عثمان فدك لمروان (4):
عد ابن قتيبة في المعارف (5)، وأبو الفداء في تاريخه (6) مما نقم الناس على عثمان إقطاعه فدك لمروان وهي صدقة رسول الله، فقال أبو الفداء: وأقطع مروان بن الحكم فدك وهي صدقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي طلبتها فاطمة ميراثا، فروي أبو بكر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة، ولم تزل فدك في يد مروان وبنيه إلى أن تولى عمر بن عبد العزيز فانتزعها من أهله وردها صدقة.
ص: 91
وأخرج البيهقي في السنن الكبرى (1) من طريق المغيرة حديثا في فدك وفيه: أنها أقطعها مروان لما مضى عمر لسبيله. فقال: قال الشيخ: إنما أقطع مروان فدكا في أيام عثمان بن عفان رضي الله عنه وكأنه تأول في ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أطعم الله نبيا طعمة فهي للذي يقوم من بعده، وكان مستغنيا عنها بماله فجعلها لأقربائه ووصل بها رحمهم، وذهب آخرون إلى أن المراد بذلك التولية وقطع جريان الإرث فيه، ثم تصرف في مصالح المسلمين كما كان أبو بكر وعمر يفعلان.
وفي العقد الفريد (2) في عد ما نقم الناس على عثمان: أنه أقطع فدك مروان وهي صدقة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وافتتح إفريقية وأخذ خمسها فوهبه لمروان.
وقال ابن أبي الحديد في شرحه (3): وأقطع عثمان مروان فدك، وقد كانت فاطمة عليها السلام طلبتها بعد وفاة أبيها صلوات الله عليه تارة بالميراث وتارة بالنحلة فدفعت عنها.
قال الأميني: أنا لا أعرف كنه هذا الإقطاع وحقيقة هذا العمل فإن فدك إن كانت فيئا للمسلمين - كما ادعاه أبو بكر - فما وجه تخصيصها بمروان؟ وإن كانت ميراثا لآل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما احتجت له الصديقة
ص: 92
الطاهرة في خطبتها، واحتج له أئمة الهدى من العترة الطاهرة وفي مقدمهم سيدهم أمير المؤمنين عليه وعليهم السلام، فليس مروان منهم، ولا كان للخليفة فيها رفع ووضع. وإن كانت نحلة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبضعته الطاهرة فاطمة المعصومة - صلوات الله عليها - كما ادعته وشهد لها أمير المؤمنين وابناها الإمامان السبطان وأم أيمن المشهود لها بالجنة فردت شهادتهم بما لا يرضي الله ولا رسوله، وإذا ردت شهادة أهل آية التطهير فبأي شئ يعتمد؟ وعلى أي حجة يعول؟ إن دام هذا ولم يحدث به غير * لم يبك ميت ولم يفرح بمولود فإن كانت فدك نحلة فأي مساس بها لمروان؟ وأي سلطة عليها لعثمان؟ حتى يقطعها لأحد. ولقد تضاربت أعمال الخلفاء الثلاثة في أمر فدك فانتزعها أبو بكر من أهل البيت، وردها عمر إليهم، وأقطعها عثمان لمروان، ثم كان فيها ما كان في أدوار المستحوذين على الأمر منذ عهد معاوية وهلم جرا فكانت تؤخذ وتعطى، ويفعلون بها ما يفعلون بقضاء من الشهوات، كما فصلناه (1)، ولم يعمل برواية أبي بكر (2) في عصر من العصور، فإن صانعه الملأ الحضور على سماع ما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحابوه وجاملوه، فقد أبطله من جاء بعده بأعمالهم وتقلباتهم فيها بأنحاء مختلفة.
ص: 93
بل إن أبا بكر نفسه أراد أن يبطل روايته بإعطاء الصك للزهراء فاطمة، غير أن ابن الخطاب منعه وخرق الكتاب كما جاء في السيرة الحلبية، وبذلك كله تعرف قيمة تلك الرواية ومقدار العمل عليها وقيمة هذا الإقطاع.
مر علينا ما صح من لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أبيه وعلى من يخرج من صلبه. وأسلفنا ما صح من قول عائشة لمروان: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أباك فأنت فضض من لعنة الله.
وأخرج ابن النجيب من طريق جبير بن مطعم قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمر الحكم بن أبي العاص فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " ويل لأمتي مما في صلب هذا " (1).
وفي شرح ابن أبي الحديد (2) نقلا عن الإستيعاب (3): نظر علي عليه السلام يوما إلى مروان فقال له: " ويل لك وويل لأمته محمد منك ومن بيتك إذا شاب صدغاك ". وفي لفظ ابن الأثير: " ويلك وويل أمة محمد منك ومن بنيك ". أسد الغابة (4). ورواه ابن عساكر بلفظ آخر كما في
ص: 94
كنز العمال (1).
وقال مولانا أمير المؤمنين يوم قال له الحسنان السبطان: ".
يبايعك مروان يا أمير المؤمنين ": " أولم يبايعني بعد قتل عثمان؟ لا حاجة لي في بيعته، إنها كف يهودية لو بايعني بيده لغدر بسبته، أما إن له إمرة كلعقة الكلب أنفه، وهو أبو الأكبش الأربعة (2) وستلقى الأمة منه ومن ولده يوما أحمر ". نهج البلاغة (3).
قال ابن أبي الحديد في الشرح (4): قد روي هذا الخبر من طرق كثيرة ورويت فيه زيادة لم يذكرها صاحب نهج البلاغة وهي قوله عليه السلام في مروان: " يحمل راية ضلالة بعد ما يشيب صدغاه وإن له إمرة " إلى آخره.
هذه الزيادة أخذها ابن أبي الحديد من ابن سعد ذكرها في طبقته (5) طبع ليدن قال: قال علي بن أبي طالب يوما ونظر إليه:
" ليحملن راية ضلالة بعد ما يشيب صدغاه، وله إمرة كلحسة الكلب
ص: 95
أنفه ". انتهى. وهذا الحديث كما ترى غير ما في نهج البلاغة وليس كما حسبه ابن أبي الحديد زيادة فيه، ولا توجد تلك الزيادة في رواية السبط أيضا في تذكرته (1). والله العالم.
قال البلاذري في الأنساب (2): كان مروان يلقب خيط باطل (3) لدقته وطوله شبه الخيط الأبيض الذي يرى في الشمس، فقال الشاعر - ويقال: إنه عبد الرحمن بن الحكم أخوه -:
لعمرك ما أدري وإني لسائل * حليلة مضروب القفا كيف يصنع (4) لحى الله قوما أمروا خيط باطل * على الناس يعطي ما يشاء ويمنع (5) وذكر البلاذري في الأنساب (6) في مقتل عمرو بن سعيد الأشدق الذي قتله عبد الملك بن مروان ليحيى بن سعيد أخي الأشدق قوله:
ص: 96
غدرتم بعمرو يا بني خيط باطل * ومثلكم يبني البيوت على الغدر وذكر بن أبي الحديد في شرحه (1) لعبد الرحمن بن الحكم في أخيه قوله:
وهبت نصيبي منك يا مرو (2) كله * لعمرو ومروان الطويل وخالد ورب ابن أم زائد غير ناقص * وأنت ابن أم ناقص غير زائد ومن شعر مالك بن الريب - المترجم في الشعر والشعراء لابن قتيبة (3) - يهجو مروان قوله:
لعمرك ما مروان يقضي أمورنا * ولكنما تقضي لنا بنت جعفر (4) فيا ليتها كانت علينا أميرة * وليتك يا مروان أمسيت ذا حر (5) ابن الحكم والتلاعب بالدين:
إن الذي يستشفه المنقب من سيرة مروان وأعماله أنه ما كان يقيم لنواميس الدين الحنيف وزنا، وإنما كان يلحظها كسياسات زمنية
ص: 97
فلا يبالي بإبطال شئ منها، أو تبديله إلى آخر حسب ما تقتضيه ظروفه وتستدعيه أحواله، وإليك من شواهد ذلك عظائم، وعليها فقس ما لم نذكره:
المورد الأول: إتمام الصلاة في السفر: أخرج إمام الحنابلة أحمد في مسنده (1) من طريق عباد بن عبد الله بن الزبير قال: لما قدم علينا معاوية حاجا، قدمنا معه مكة قال: فصلى بنا الظهر ركعتين ثم انصرف إلى دار الندوة، قال: وكان عثمان حين أتم الصلاة فإذا قدم مكة صلى بها الظهر والعصر والعشاء الآخرة أربعا أربعا، فإذا خرج إلى منى وعرفات قصر الصلاة، فإذا فرغ من الحج وأقام بمنى أتم الصلاة حتى يخرج من مكة، فلما صلى بنا الظهر ركعتين نهض إليه مروان بن الحكم وعمرو بن عثمان فقالا له: ما عاب أحد ابن عمك بأقبح ما عبته به.
فقال لهما: وما ذاك؟ قال: فقالا له: ألم تعلم أنه أتم الصلاة بمكة؟ قال:
فقال لهما: ويحكما وهل كان غير ما صنعت؟ قد صليتهما مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. قالا: فإن ابن عمك قد أتمها وإن خلافك إياه له عيب. قال: فخرج معاوية إلى العصر فصلاها بنا أربعا.
وذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد (2) نقلا عن أحمد والطبراني
ص: 98
فقال: رجال أحمد موثقون.
فإذا كان لعب مروان وخليفة وقته معاوية بالصلاة التي هي عماد الدين إلى درجة يقدم فيها التحفظ على عثمان في عمله الشاذ عن الكتاب والسنة على العمل بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أخضع معاوية لما ارتأه من الرأي الشائن في صلاة العصر، فماذا يكون عبثهما بالدين فيما هو دون الصلاة من الأحكام؟ وإن تعجب فعجب أنه يعد مخالفة عثمان في رأيه الخاص له عيبا عليه يغير لأجله الحكم الديني الثابت، ولا يعد مخالفة رسول الله وما جاء به محظورة تترك لأجلها الأباطيل والأحداث! ومن العجيب أيضا أن ينهى معاوية عن مخالفة عثمان، ولا ينهى من خالف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن مخالفة. أهؤلاء من خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله؟ وأعجب من كل ذلك حسبان أولئك العابثين بدين الله عدولا وهذه سيرتهم ومبلغهم من الدين الحنيف.
المورد الثاني: تغييره السنة في صلاة العيد: أخرج البخاري (1) من طريق أبي سعيد الخدري قال: خرجت مع مروان وهو أمير المدينة في أضحى أو فطر، فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي، فجبذت بثوبه فجبذني، فارتفع
ص: 99
فخطب قبل الصلاة، فقلت له: غيرتم والله. فقال: أبا سعيد قد ذهب ما تعلم فقلت: ما أعلم والله خير مما لا أعلم. فقال: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة فجعلتها قبل الصلاة. وفي لفظ الشافعي: يا أبا سعيد ترك الذي تعلم.
هذا مروان (1):
فهلم معي إلى الخليفة نستحفيه الخبر عن هذا الوزغ اللعين في صلب أبيه وبعد مولده بماذا استباح إيواءه وتأمينه على الصدقات والطمأنينة إليه في المشورة في الصالح العام؟ ولم استكتبه وضمه إليه فاستولى عليه؟ (2) ونصب عينيه ما لهج به النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، وما ناء به هو من المخاريق والمخزيات، ومن واجب الخليفة تقديم الصلحاء من المؤمنين وإكبارهم شكرا لأعمالهم لا الاحتفال بأهل المجانة والخلاعة كمروان الذي يجب الإنكار والتقطيب تجاه عمله الشائن، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " من رأى منكرا فاستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع بلسانه فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان "، وقال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام: " أدنى الإنكار أن تلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرة ".
ص: 100
وهب أن الخيفة تأول وأخطأ لكنه ما هذا التبسط إليه بكله؟ وتقريبه وهو ممن يجب إقصاؤه، وإيواؤه وهو ممن يستحق الطرد، وتأمينه وهو أهل بأن يتهم، ومنحه أجزل المنح من مال المسلمين ومن الواجب منعه، وتسليطه على أعطيات المسلمين ومن المحتم قطع يده عنها؟ أنا لا أعرف شيئا من معاذير الخيفة في هذه المسائل - لعل لها عذرا وأنت تلومها - لكن المسلمين في يومه ما عذروه وهم الواقفون على الأمر من كثب، والمستشفون للحقائق الممعنون فيها، وكيف يعذره المسلمين ونصب أعينهم قوله عز من قائل: (وأعلموا أنما غنمتم من شئ فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله) (1)؟ أليس إعطاء الخمس لمروان اللعين خروجا عن حكم القرآن؟ أليس عثمان هو الذي فاوض بنفسه ومعه جبير بن مطعم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يجعل لقومه نصيبا من الخمس فلم يجعل ونص على أن بني عبد شمس وبني نوفل لا نصيب لهم منه؟ قال جبير بن مطعم: لما قسم رسول الله سهم ذي القربى بين بني هاشم وبني المطلب (2) أتيته أنا وعثمان فقلت: يا رسول الله هؤلاء بنو
ص: 101
هاشم لا ينكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله به منهم، أرأيت بني المطلب أعطيتهم ومنعتنا؟ وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة. فقال: " إنهم لم يفارقوني - أو: لم يفارقونا - في جاهلية ولا إسلام وإنما هم بنو هاشم وبنو المطلب شئ واحد " وشبك بين أصابعه، ولم يقسم رسول الله لبني عبد شمس ولا لبني نوفل من ذلك الخمس شيئا كما قسم لبني هاشم وبني المطلب (1).
ومن العزيز على الله ورسوله أن يعطى سهم ذوي قربى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لطريده ولعينه، وقد منعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقومه من الخمس، فما عذر الخليفة في تزحزحه عن حكم الكتاب والسنة، وتفضيل رحمه أبناء الشجرة الملعونة في القرآن على قربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين أوجب الله مودتهم في الذكر الحكيم؟ أنا لا أدري. والله من ورائهم حسيب (2).
أخرج أئمة الصحاح من طريق أبي سعيد الخدري قال: أخرج مروان المنبر يوم العيد، فبدأ بالخطبة قبل الصلاة، فقام رجل فقال: يا مروان خالفت السنة، أخرجت المنبر يوم عيد، ولم يكن يخرج به،
ص: 102
وبدأت بالخطبة قبل الصلاة، ولم يكن يبدأ بها. فقال مروان: ذاك شئ قد ترك. فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله يقول: " من رأى منكرا فاستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع بلسانه فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ".
وفي لفظ الشافعي في كتاب الأم (1) من طريق عياض بن عبد الله قال: إن أبا سعيد الخدري قال: أرسل إلى مروان وإلى رجل قد سماه، فمشى بنا حتى أتى المصلى، فذهب ليصعد فجبذته (2) إلى فقال: يا أبا سعيد ترك الذي تعلم. قال أبو سعيد: فهتفت ثلاث مرات، فقلت: والله لا تأتون إلا شرا منه.
وفي لفظ البخاري في صحيحه: خرجت مع مروان - وهو أمير المدينة - في أضحى أو فطر، فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي، فجبذت بثوبه فجبذني فارتفع فخطب قبل الصلاة، فقلت له: غيرتم والله. فقال: أبا سعيد قد ذهب ما تعلم. فقلت: ما أعلم والله خير مما لا أعلم، فقال: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة فجعلتها قبل الصلاة (3).
ص: 103
وفي لفظ: قال أبو سعيد: قلت: أين الابتداء بالصلاة؟ فقال: لا يا أبا سعيد قد ترك ما تعلم، قلت: كلا والذي نفسي بيده لا تأتون بخير مما أعلم. ثلاث مرات.
قال ابن حزم في المحلي (1): أحدث بنو أمية تقديم الخطبة قبل الصلاة واعتلوا بأن الناس كانوا إذا صلوا تركوهم، ولم يشهدوا الخطبة، وذلك لأنهم كانوا يلعنون علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فكان المسلمون يفرون وحق لهم، فكيف وليس الجلوس واجبا؟ وقال ملك العلماء في بدائع الصنائع (2): وإنما أحدث بنو أمية الخطبة قبل الصلاة لأنهم كانوا يتكلمون في خطبتهم بما لا يحل، وكان الناس لا يجلسون بعد الصلاة لسماعها فأحدثوها قبل الصلاة ليسمعها الناس، وبمثل هذا قال السرخسي في المبسوط (3).
وقال السندي في شرح سنن ابن ماجة (4): قيل: سبب ذلك أنهم كانوا يسبون في الخطبة من لا يحل سبه، فتفرق الناس عند الخطبة إذا كانت متأخرة لئلا يسمعوا ذلك فقدم الخطبة ليسمعهم.
ص: 104
وقال الشوكاني في نيل الأوطار (1): قد ثبت في صحيح مسلم (2) من رواية طارق بن شهاب عن أبي سعيد قال: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان، وقيل: أول من فعل ذلك معاوية، حكاه القاضي عياض. وأخرجه الشافعي (3) عن ابن عباس بلفظ: حتى قدم معاوية فقدم الخطبة. ورواه عبد الرزاق (4)... فهل رأيت مروان كيف يغير السنة؟ وكيف يفوه ملء فمه بما لا يسوغ لمسلم أن يتكلم به؟ كأن ذلك مفوض إليه، وكأن تركها المنبعث عن التجري على الله ورسوله يكون مبيحا لإدامة الترك، لماذا ذهب ما كان يعلمه أبو سعيد من السنة؟ ولماذا ترك؟ نعم، كان لمروان في المقام ملحوظتان: الأولى أثر ابن عمه عثمان، والآخر أنه كان يقع في الخطبة في مولانا أمير المؤمنين عليه السلام ويسبه فتتفرق عنه الناس لذلك، فقدمها على الصلاة لئلا يجفلوا فيسمعوا العظائم ويصيخوا إلى ما يلفظ به من كبائر وموبقات.
ويستظهر من كلام لعبد الله بن الزبير: كل سنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد غيرت حتى الصلاة (5). إن تسرب التغيير ولعب الأهواء بالسنن لم يكن مقصورا على الخطبة قبل الصلاة فحسب، وإنما تطرق ذلك إلى كثير من
ص: 105
الأحكام كما يجده الباحث السابر أغوار السير والحديث (1).
قال الأميني: إن الثابت في السنة الشريفة أن الخطبة في العيدين تكون بعد الصلاة، قال الترمذي في الصحيح (2): والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغيرهم أن صلاة العيدين قبل الخطبة ويقال: إن أول من خطب قبل الصلاة مروان بن الحكم. انتهى.
وإليك جملة مما ورد فيها:
1 - عن ابن عباس قال: أشهد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه صلى يوم فطر أو أضحى قبل الخطبة ثم خطب.
صحيح البخاري (3)، صحيح مسلم (4)، سنن أبي داود (5)، سنن ابن ماجة (6)، سنن النسائي (7)، سنن البيهقي (8).
(2) عن عبد الله بن عمر قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم أبو بكر ثم عمر يصلون العيد قبل الخطبة، وفي لفظ الشافعي: إن النبي وأبا بكر وعمر
ص: 106
كانوا يصلون في العيدين قبل الخطبة، وفي لفظ للبخاري: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي في الأضحى والفطر ثم يخطب بعد الصلاة.
صحيح البخاري (1)، صحيح مسلم (2)، موطأ مالك (3)، مسند أحمد (4)، كتاب الأم للشافعي (5)، سنن ابن ماجة (6)، سنن البيهقي (7)، سنن الترمذي (8)، سنن النسائي (9)، المحلى لابن حزم (10)، بدائع الصنائع (11).
(3) عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخرج يوم العيد فيصلي بالناس ركعتين ثم يسلم فيقف على رجليه. انتهى.
سنن ابن ماجة (12)، المدونة الكبرى لمالك (13)، سنن البيهقي (14).
ص: 107
4 - عن عبد الله بن السائب، قال: حضرت العيد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصلى بنا العيد ثم قال: " قد قضينا الصلاة فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب ".
سنن ابن ماجة (1)، سنن أبي داود (2)، سنن النسائي (3)، سنن البيهقي (4)، المحلى (5).
5 - عن جابر بن عبد الله قال: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال يوم الفطر فصلى فبدأ بالصلاة قبل الخطبة ثم خطب الناس.
صحيح البخاري (6)، صحيح مسلم (7)، سنن أبي داود (8)، سنن النسائي (9)، سنن البيهقي (10).
6 - عن ابن عباس وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر وأنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي قبل الخطبة. المدونة الكبرى (11).
ص: 108
7 - عن البراء بن عازب قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم النحر بعد الصلاة.
صحيح البخاري (1)، سنن النسائي (2).
8 - عن أبي عبيد مولى ابن أزهر قال: شهدت العيد مع علي بن أبي طالب وعثمان محصور، فجاء فصلى ثم انصرف فخطب.
موطأ مالك (3)، كتاب الأم للشافعي (4) ذكر من طريق مالك شطرا منه.
هذه الأحاديث تكشف عن استمرار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على هذه السنة المرتبة ولم يعز إليه غيرها قط، وعلى ذلك مضى الشيخان ومولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام وعثمان نفسه ردحا من أيامه،
بعد أن قرب عثمان عشيرته وأغدق عليهم الأموال وولاهم المناصب في الدولة والمدن الإسلامية... ثار المسلمون ضده وحاصروه وطلبوا منه ترك الخلافة أو التوبة وسنوافيك بالقصة لترى خبث ابن الحكم.
ص: 109
أخرج (1) الطبري من طريق علي بن عمر عن أبيه، قال: إن عليا جاء عثمان بعد انصراف المصريين، فقال له: " تكلم كلاما يسمعه الناس منك، ويشهدون عليه ويشهد الله على ما في قلبك من النزوع والإنابة، فإن البلاد قد تمخضت عليك، فلا آمن ركبا آخرين يقدمون من الكوفة فتقول: يا علي اركب إليهم، ولا أقدر أن أركب إليهم ولا أسمع عذرا، ويقدم ركب آخرون من البصرة فتقول: يا علي اركب إليهم، فإن لم أفعل رأيتي قد قطعت رحمك واستخففت بحقك ". قال:
فخرج عثمان وخطب الخطبة التي نزع فهيا وأعطى الناس من نفسه التوبة، فقام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال:
أما بعد، أيها الناس فوالله ما عاب من عاب منكم شيئا أجهله، وما جئت شيئا إلا وأنا أعرفه، ولكني منتني نفسي وكذبتني، وضل عني رشدي، ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: " من زل فليتب (2) ومن أخطأ فليتب ولا يتمادى في الهلكة، إن من تمادى في الجور كان أبعد من الطريق "، فأنا أول من اتعظ، أستغفر الله مما فعلت، وأتوب إليه، فمثلي نزع وتاب، فإذا نزلت فليأتني أشرافكم فليروني رأيهم، فوالله لئن ردني إلى الحق عبد لأستنن بسنة العبد، ولأذلن ذل العبد، ولأكونن كالمرقوق، إن ملك صبر، وإن عتق شكر، وما من الله مذهب إلا إليه، فلا
ص: 110
يعجزن عنكم خياركم أن يدنوا إلي، لئن أبت يميني لتتابعني شمالي.
قال: فرق الناس له يومئذ، وبكى من بكى منهم، وقام إليه سعيد بن زيد فقال: يا أمير المؤمنين ليس بواصل لك من ليس معك، الله الله في نفسك، فأتمم على ما قلت.
فلما نزل عثمان وجد في منزله مروان وسعيدا (1) ونفرا من بني أمية ولم يكونوا شهدوا الخطبة، فلما جلس قال مروان: يا أمير المؤمنين: أتكلم أم أصمت؟ فقالت نائلة ابنة الفرافصة امرأة عثمان الكلبية: لا بل اصمت فإنهم والله قاتلوه ومؤثموه، إنه قد قال مقالة لا ينبغي له أن ينزع عنها. فأقبل عليها مروان فقال: ما أنت وذاك؟ فوالله لقد مات أبوك وما يحسن يتوضأ. فقالت له: مهلا يا مروان عن ذكر الآباء، تخبر عن أبي وهو غائب تكذب عليه، وإن أباك لا يستطيع أن يدفع عنه، أما والله لولا أنه عمه وأنه يناله غمه أخبرتك عنه ما لن أكذب عليه. قال: فأعرض عنها مروان، ثم قال: يا أمير المؤمنين أتكلم أم أصمت؟ قال: بل تكلم. فقال مروان: بأبي أنت وأمي والله لوددت أن مقالتك هذه كانت وأنت ممنع منيع فكنت أول من رضي بها وأعان عليها ولكنك قلت ما قلت حين بلغ الحزام الطبيين، وخلف السيل الزبى، وحين أعطى الخطة الذليلة الذليل، والله لإقامة على خطيئة تستغفر الله منها أجمل من توبة تخوف عليها، وإنك إن شئت تقربت
ص: 111
بالتوبة ولم تقرر بالخطيئة، وقد اجتمع إليك على الباب مثل الجبال من الناس. فقال عثمان: فاخرج إليهم فكلمهم فإني أستحي أن أكلمهم.
قال: فخرج مروان إلى الباب والناس يركب بعضهم بعضا فقال: ما شأنكم قد اجتمعتم؟ كأنكم قد جئتم لنهب، شاهت الوجوه، كل إنسان آخذ بأذن صاحبه ألا من أريد (1)؟ جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا اخرجوا عنا، أما والله لئن رمتمونا ليمرن عليكم منا أمر لا يسركم ولا تحمدوا غب رأيكم، ارجعوا إلى منازلكم، فإنا والله ما نحن مغلوبين على ما في أيدينا، قال: فرجع الناس وخرج بعضهم حتى أتى عليا فأخبره الخبر، فجاء علي عليه السلام مغضبا حتى دخل على عثمان فقال: " أما رضيت من مروان ولا رضي منك إلا بتحرفك (2) عن دينك وعن عقلك مثل جمل الظعينة يقاد حيث يسار به؟ والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا نفسه، وأيم الله إني لأراه سيوردك ثم لا يصدرك، وما أنا بعائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك، أذهبت شرفك، وغلبت على أمرك ".
فلما خرج علي دخلت عليه نائلة ابنة الفرافصة امرأته، فقالت:
أتكلم أو أسكت؟ فقال: تكلمي، فقال: قد سمعت قول علي لك وأنه
ص: 112
ليس يعاودك، وقد أطعت مروان يقودك حيث شاء، قال: فما أصنع؟ قالت: تتقي الله وحده لا شريك له وتتبع سنة صاحبيك من قبلك، فإنك متى أطعت مروان قتلك، ومروان ليس له عند الناس قدر ولا هيبة ولا محبة، وإنما تركك الناس لمكان مروان، فأرسل إلى علي فاستصلحه فإن له قرابة منك وهو لا يعصى. قال: فأرسل عثمان إلى علي فأبى أن يأتيه، وقال: " قد أعلمته أني لست بعائد ". فبلغ مروان مقالة نائلة فيه، فجاء إلى عثمان فجلس بين يديه، فقال: أتكلم أو أسكت؟ فقال:
تكلم. فقال: إن بنت الفرافصة، فقال عثمان: لا تذكرنها بحرف فأسوء لك وجهك فهي والله أنصح لي منك، فكف مروان (1).
من طريق أبي عون، قال: سمعت عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث يذكر مروان بن الحكم، قال: قبح الله مروان، خرج عثمان إلى الناس فأعطاهم الرضا، وبكى على المنبر وبكى الناس حتى نظرت إلى لحية عثمان مخضلة من الدموع وهو يقول: اللهم إني أتوب إليك، اللهم إني أتوب إليك، اللهم إني أتوب إليك، والله لئن ردني الحق إلى أن أكون عبدا قنا لأرضين به، إذا دخلت منزلي فادخلوا علي، فوالله لا
ص: 113
أحتجب منك ولأعطينكم [الرضا] (1) ولأزيدنكم على الرضا، ولأنحين مروان وذويه.
قال: فلما دخل أمر بالباب ففتح، ودخل بيته ودخل عليه مروان، فلم يزل يفتله في الذروة والغارب حتى فتله عن رأيه، وأزاله عما كان يريد (2).
واستمرت المفاوضات بين عثمان والثوار المسلمين، وعقد علي بن أبي طالب عليه السلام صلحا بين الثوار والخليفة وافق عليه الطرفان ومما جاء فيه: " يرد - عثمان - كل مظلمة ويعزل كل عامل كرهوه " (3).
ولكن ما حدث بعد هذا؟! أخرج (4) البلاذري (5) من طريق أبي مخنف قال: لما شخص
ص: 114
المصريون بعد الكتاب الذي كتبه عثمان فصاروا بأيلة (1) أو بمنزل قبلها رأوا راكبا خلفهم يريد مصر فقالوا له: من أنت؟ فقال: رسول أمير المؤمنين إلى عبد الله بن سعد، وأنا غلام أمير المؤمنين. وكان أسود، فقال بعضهم لبعض: لو أنزلناه وفتشناه ألا يكون صاحبه قد كتب فينا بشئ، ففعلوا فلم يجدوا معه شيئا، فقال: بعضهم لبعض: خلو سبيله، فقال كنانة بن بشر: أما والله دون أن أنظر في إداوته فلا. فقالوا: سبحان الله أيكون كتاب في ماء؟ فقال: إن للناس حيلا. ثم حل الإداوة فإذا فيها قارورة مختومة، أو قال: مضمومة في جوف القارورة كتاب في أنبوب من رصاص فأخرجه فقرئ فإذا فيه:
أما بعد: فإذا قدم عليك عمرو بن بديل فاضرب عنقه، واقطع يدي ابن عديس وكنانة وعروة، ثم دعهم يتشحطون في دمائهم حتى يموتوا، ثم أوثقهم على جذوع النخل.
فيقال: إن مروان كتب الكتاب بغير علم عثمان، فلما عرفوا ما في الكتاب، قالوا: عثمان محل. ثم رجعوا عودهم على بدئهم حتى دخلوا
ص: 115
المدينة فلقوا عليا بالكتاب وكان خاتمه من رصاص، فدخل به علي على عثمان فحلف بالله ما هو كتابه ولا يعرفه وقال: أما الخط فخط كاتبي، وأما الخاتم فعلى خاتمي، قال علي: " فمن تتهم؟ " قال: أتهمك وأتهم كاتبي. فخرج علي مغضبا وهو يقول: " بل هو أمرك ". قال أبو مخنف:
وكان خاتم عثمان بدءا عند حمران بن أبان ثم أخذه مروان حين شخص حمران إلى البصرة فكان معه.
وفي رواية أن المصريين - وكان معهم محمد بن أبي بكر - حين سألوا الغلام عن أمره فقال لهم مرة: أنا غلام أمير المؤمنين، وقال أخرى: أنا غلام مروان وجهني إلى عامل مصر برسالة... ثم فك الكتاب بمحضر منهم فإذا فيه: إذا أتاك محمد بن أبي بكر وفلان وفلان فاحتل لقتلهم وأبطل كتاب محمد وقر على عملك حتى يأتيك رأيي... ".
ورجع الثوار إلى المدينة ودخل علي وطلحة والزبير وسعد على عثمان فأنكر عثمان الكتاب. تقول الرواية: " وعرفوا أن الخط خط مروان فسألوه أن يدفع إليهم مروان فأبى، وكان مروان عنده في الدار، فخرج أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عنده غضابا وعلموا أنه لا يحلف بباطل، إلا أن قوما قالوا: لن يبرأ عثمان في قلوبنا إلا أن يدفع إلينا مروان حتى نحثه عن الأمر ونعرف حال الكتاب، وكيف يؤمر بقتل رجال من أصحاب رسول الله بغير حق... " (1).
ص: 116
قد مر عليك موقف مروان في حصار الخليفة، فكلما أعلن الخليفة توبته أمام الملأ وبكى وندم على ما كان فعل دخل عليه مروان فلم يزل يفتله في الذروة والغارب حتى فتله عن رأيه وأزاله عما كان يريد، ولا نبالغ إذا قلنا إن ابن الحكم كان ساعيا في قتل الخليفة.
قال الأميني (1):
إن الطريد ابن الطريد، أو قل عن لسان النبي الأمين: " الوزغ ابن الوزغ، اللعين ابن اللعين "، مروان بن الحكم كان يؤثر في نفسيات الخليفة حتى يحوله كما قال مولانا أمير المؤمنين عن دينه وعقله، ويجعله مثل جمل الظعينة يقاد حيث يسار به. فلم يزل به حتى أربكه عند منتقض العهود ومنتكث المواثيق، فأورده مورد الهلكة. وعجيب من الخليفة أن يتأثر بتسويلات الرجل وهو يعلم محله من الدين وموقفه من الإيمان، ومبوأه من الصدق والأمانة، وهو يعلم أنه هو وزبانيته هم الذين جروا عليه الويلات وأركبوه النهابير، وأنهم سيوردونه ثم لا يصدرونه، يعلم ذلك كله وهو بين الناب والمخلب وفي منصرم الحياة، ومع ذلك كله لا يزال مقيما على هاتيك الوساوس المروانية، فيا للعجب.
وأعجب من ذلك أنه مع هذا التأثر يتخذ نصح الناصحين له كمولانا أمير المؤمنين عليه السلام وكثير من الصحابة العدول بأعتاب الناس
ص: 117
ورفض تمويهات مروان الموبقة له ظهريا فلا يعير لهم بعد تمام الحجة وقطع سبل المعاذير أذنا واعية، وهو يعلم أنهم لا يعدون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويدعونه إلى ما فيه نجاته ونجاح الأمة (1).
بعد مقتل الخليفة عثمان قرر ابن الحكم المطالبة بدمه، ولم يرضه أن تكون الخلافة بيد آل أبي طالب لذلك كان من أول المحرضين عليهم، فانضم إلى جيش عائشة ضد الإمام علي عليه السلام.
أخرج ابن سعد وابن عساكر، قال: كان طلحة يقول يوم الجمل:
إنا داهنا في أمر عثمان، فلا نجد [اليوم] (1) شيئا أمثل من أن نبذل دماءنا فيه، اللهم خذ لعثمان مني اليوم حتى ترضى (2).
أخرج ابن عساكر، قال: كان مروان بن الحكم في الجيش - يوم الجمل - فقال: لا أطلب بثاري بعد اليوم، فهو الذي رمى طلحة فقتله، ثم قال لأبان بن عثمان: قد كفيتك بعض قتلة أبيك، وكان السهم قد وقع في عين ركبته، فكانوا إذا أمسكوها انتفخت وإذا أرسلوها انبعثت، فقال:
دعوها فإنها سهم أرسله الله (3).
قال أبو عمر في الإستيعاب (4): لا يختلف العلماء الثقات في أن مروان قتل طلحة يومئذ وكان في حزبه.
وأخرج أبو عمر (5) من طريق ابن أبي سبرة قال: نظر مروان إلى طلحة يوم الجمل فقال: لا أطلب بثاري بعد اليوم. فرماه بسهم فقتله.
وأخرج (6) من طريق يحيى بن سعيد عن عمه أنه قال: رمى
ص: 119
مروان طلحة بسهم، ثم التفت إلى أبان بن عثمان، فقال: قد كفينا بعض قتلة أبيك.
وأخرج (1) من طريق قيس نقلا عن ابن أبي شيبة أن مروان قتل طلحة، ومن طريق وكيع وأحمد بن زهير، بإسنادهما عن قيس بن أبي حازم حديث: لا أطلب بثاري بعد اليوم. وزاد في أسد الغابة (2) ما مر من قول مروان لأبان.
وقال ابن حجر في الإصابة (3): روى ابن عساكر (4) من طرق (5) متعددة: أن مروان بن الحكم هو الذي رماه فقتله، منها: وأخرجه أبو القاسم البغوي بسند صحيح عن الجارود بن أبي سبرة، قال: لما كان يوم الجمل نظر مروان إلى طلحة فقال: لا أطلب ثاري بعد اليوم، فنزع له بسهم فقتله.
وأخرج يعقوب بن سفيان، بسند صحيح عن قيس بن أبي
ص: 120
حازم، أن مروان بن الحكم رأى طلحة في الخيل، فقال: هذا أعان على عثمان، فرماه بسهم في ركبته، فما زال الدم يسيح حتى مات. وأخرجه الحاكم في المستدرك (1).
أخرجه عبد الحميد بن صالح عن قيس، وأخرجه الطبراني (2) من طريق يحيى بن سليمان الجعفي عن وكيع بهذا السند، قال: رأيت مروان بن الحكم حين رمى طلحة يومئذ بسهم فوقع في عين ركبته، فما زال الدم يسيح إلى أن مات.
وأخرج الحاكم في المستدرك (3) من طريق عكراش قال: كنا نقاتل عليا مع طلحة ومعنا مروان، قال: فانهزمنا، فقال مروان: لا أدرك بثاري بعد اليوم من طلحة. فرماه بسهم فقتله.
وقال محب الدين الطبري في الرياض (4): المشهور أن مروان بن الحكم هو الذي قتله، رماه بسهم وقال: لا أطلب بثاري بعد اليوم. وذلك أن طلحة زعموا أنه كان ممن حاصر عثمان واشتد عليه.
وأخرج البلاذري في الأنساب (5)، في حديث عن روح بن زنباع:
أنه قال: رمى مروان طلحة فاستقاد منه لعثمان.
ص: 121
يوجد حديث قتل مروان بن الحكم طلحة بن عبيد الله أخذا بثار عثمان في مروج الذهب (1)، العقد الفريد (2)، مستدرك الحاكم (3)، الكامل لابن الأثير (4)، صفة الصفوة لابن الجوزي (5)، أسد الغابة (6)، دول الإسلام للذهبي (7)، تاريخ ابن كثير (8)، تذكرة السبط (9)، مرآة الجنان لليافعي (10)، تهذيب التهذيب (11)، تاريخ ابن شحنة هامش الكامل (12).
أخرج ابن سعد (13) بالإسناد عن شيخ من كلب، قال: سمعت عبد الملك بن مروان يقول: لولا أن أمير المؤمنين مروان أخبرني أنه قتل طلحة ما تركت أحدا من ولد طلحة إلا قتلته بعثمان.
ص: 122
أخرج الحميدي في النوادر من طريق سفيان بن عيينة، عن عبد الملك بن أبي مروان، قال: دخل موسى بن طلحة على الوليد، فقال له الوليد: ما دخلت علي قط إلا هممت بقتلك لولا أن أبي أخبرني أن مروان قتل طلحة. تهذيب التهذيب (1).
أخرج الطبري في حديث: فقام طلحة والزبير خطيبين - يعني بالبصرة - فقالا: يا أهل البصرة توبة بحوبة، إنما أردنا أن يستعتب أمير المؤمنين عثمان ولم نرد قتله، فغلب سفهاء الناس الحلماء حتى قتلوه، فقال الناس لطلحة: يا أبا محمد قد كانت كتبك تأتينا بغير هذا.
تاريخ الطبري (2).
ذكر المسعودي في حديث وقعة الجمل: ثم نادى علي رضي الله عنه طلحة حين رجع الزبير: " يا أبا محمد ما الذي أخرجك؟ " قال: الطب بدم عثمان. قال علي: " قتل الله أولانا بدم عثمان " (3).
قد مر علينا كيف كان الحكم والد مروان يستهزئ بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ويؤذيه، ويبدو أن الأبن اكتسب الخبث والرذيلة
ص: 123
من والده أثناء إقامته في الطائف، فلما عاد إلى المدينة كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجوار ربه فنظر في بقيته فلم يجد إلا آل بيته، وعلى رأسهم الإمام علي والحسن والحسين عليهم السلام، فكن لهم كل العداء، وأخذ يكيل لهم الشتائم والسباب ولا يفتأ عن سب الإمام علي في كل جمعة وعلى كل منبر وكان (1) كما قال أسامة بن زيد: " فاحشا متفحشا " (2).
الحجر الأساسي في ذلك هو عثمان جرأ الوزغ اللعين على أمير المؤمنين يوم قال له: أقد مروان من نفسك. قال عليه السلام: " مم ذا؟ " قال:
من شتمه وجذب راحلته. وقال له: لم لا يشتمك؟ كأنك خير منه! وعلاه معاوية بكل ما عنده من حول وطول، لكن مروان تبعه شر متابعة، ولم يأل جهدا في تثبيت ذلك كلما أقلته صهوة المنبر، أو وقف على منصة خطابة، ولم يزل مجدا في ذلك، وحاضا عليه حتى عاد مطردا بعد كل جمعة وجماعة في أي حاضرة يتولى أمرها، وبين عماله يوم تولى خلافة هي كلعة الكلب أنفه تسعة أشهر كما وصفها مولانا أمير المؤمنين، ولم تكن هذه السيرة السيئة إلا لسياسة وقتية، وقد أعرب عما في سريرته بقوله، فيما أخرجه الدارقطني من طريقه عنه، قال: ما كان أحد أدفع عن عثمان من علي. فقيل له: ما لكم تسبونه على
ص: 124
المنابر؟ قال: إنه لا يستقيم لنا الأمر إلا بذلك (1).
قال ابن حجر في تطهير الجنان (2) هامش الصواعق وبسند رجاله ثقات: إن مروان لما ولي المدينة كان يسب عليا على المنبر كل جمعة، ثم ولي بعده سعيد بن العاص فكان لا يسب، ثم أعيد مروان فعاد للسب، وكان الحسن يعلم ذلك فيسكت ولا يدخل المسجد إلا عند الإقامة، فلم يرض بذلك مروان حتى أرسل للحسن في بيته بالسب البليغ لأبيه وله، ومنه: ما وجدت مثلك إلا مثل البغلة يقال لها: من أبوك؟ فتقول: أبي الفرس. (3) فقال للرسول: " إرجع إليه فقل له: والله لا أمحو عنك شيئا مما قلت بأني أسبك، ولكن موعدي وموعدك الله، فإن كنت كاذبا فالله أشد نقمة، قد أكرم جدي أن يكون مثلي مثل البغلة ".
إلى آخره.
ولم يختلف من المسلمين اثنان في أن سب الإمام ولعنه من الموبقات، وإذا صح ما قاله ابن معين (4) كما حكاه عنه ابن حجر في تهذيب التهذيب (5) من أن كل من شتم عثمان أو طلحة أو أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دجال لا يكتب عنه وعليه لعنة الله والملائكة
ص: 125
والناس أجمعين. انتهى.
فما قيمة مروان عندئذ؟ ونحن مهما تنازلنا فإنا لا نتنازل عن أن مولانا أمير المؤمنين كأحد الصحابة الذين يشملهم حكم كل من سبهم ولعنهم، فكيف ونحن نرى أنه عليه السلام سيد الصحابة على الإطلاق، وسيد الأوصياء، وسيد من مضى ومن غبر عدا ابن عمه صلى الله عليه وآله وسلم وهو نفس النبي الأقدس بنص الذكر الحكيم، فلعنه وسبه لعنه وسبه وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: " من سب علينا فقد سبني ومن سبني فقد سب الله " (1).
روى الهيثمي في مجمع الزوائد (2) من طريق أبي يحيى قال:
كنت بين الحسن والحسين ومروان يتسابان فجعل الحسن يسكت الحسين، فقال مروان: أهل بيت ملعونون. فغضب الحسن وقال: " قلت أهل بيت ملعونون، فوالله لقد لعنك الله وأنت في صلب أبيك " أخرجه الطبراني (3) وذكره السيوطي في جمع الجوامع كما في ترتيبه (4) نقلا عن ابن سعد وأبي يعلى (5) وابن عساكر (6).
ص: 126
وكان مروان يتربص الدوائر على آل بيت العصمة والقداسة، ويغتنم الفرص في إيذائهم. قال ابن عساكر في تاريخه (1): أبي مروان أن يدفن الحسن في حجرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: ما كنت لأدع ابن أبي تراب يدفن مع رسول الله وقد دفن عثمان بالبقيع. ومروان يومئذ معزول يريد أن يرضي معاوية بذلك، فلم يزل عدوا لبني هاشم حتى مات.
انتهى (2).
أي خليفة هذا يجلب رضاه بإيذاء عترة رسول الله؟ ومن أولى بالدفن في الحجرة الشريفة من السبط الحسن الزكي؟ وبأي كتاب وبأية سنة وبأي حق ثابت كان لعثمان أن يدفن فيها؟ ومن جراء ذلك الضغن الدفين على بني هاشم، كان ابن الحكم يحث ابن عمر على الخلافة والقتال دونها. أخرج أبو عمر من طريق الماجشون وغيره: أن مروان دخل في نفر على عبد الله بن عمر بعدما قتل عثمان فعرضوا عليه أن يبايعوا له قال: وكيف لي بالناس؟ قال: تقاتلهم ونقاتلهم معك. فقال:
والله لو اجتمع علي أهل الأرض إلا فدك ما قاتلتهم، قال: فخرجوا من عنده ومروان يقول:
والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا (3).
ص: 127
لماذا ترك الوزغ سنة الانتخاب الدستوري في الخلافة بعد انتهاء الدور إلى سيد العترة؟ وما الذي سوغ له ذلك الخلاف؟ وحض ابن عمر علي الأمر، وتحريضه على القتال دونه، بعد إجماع الأمة وبيعتهم مولانا أمير المؤمنين؟ نعم: لم يكن من اليوم الأول هناك انتخاب صحيح قط، ورأي حر لأهل الحل والعقد، أنى كان ثم أنى؟ والملك بعد أبي الزهراء لمن غلبا (1)
بعد اشتراك ابن الحكم في موقعة الجمل وقتله لطلحة التحق بركب معاوية بن أبي سفيان وشارك في معركة صفين ضد الإمام علي عليه السلام، بعد ذلك ولاه معاوية على المدينة، واستمرت ولايته عليها تسعة أشهر، وقيل: عشرة أشهر (2) ثم عزله، وكان ابن الحكم ينتظر تحقق نبؤة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه وفي ولده في استيلائهم على الخلافة إذا بلغوا أربعين رجلا (3).
عمل مروان على تثبيت ودعم خلافة يزيد، يزيد المعروف بفسقه وفجوره ومجونه.
ص: 128
كتب (1) معاوية إلى مروان بن الحكم: إني قد كبرت سني، ودق عظمي، وخشيت الاختلاف على الأمة بعدي، وقد رأيت أن أتخير لهم من يقوم بعدي، وكرهت أن أقطع أمرا دون مشورة من عندك، فأعرض ذلك عليهم وأعلمني بالذي يردون عليك.
فقام مروان في الناس فأخبرهم به، فقال الناس: أصاب ووفق، وقد أجبنا أن يتخير لنا فلا يألوا.
فكتب مروان إلى معاوية بذلك فأعاد إليه الجواب بذكر يزيد.
فقام مروان فيهم وقال: إن أمير المؤمنين قد اختار لكم فلم يأل وقد استخلف ابنه يزيد بعده.
فقام عبد الرحمن بن أبي بكر فقال: كذبت والله يا مروان وكذب معاوية، ما الخيار أردتما لأمة محمد، ولكنكم تريدون أن تجعلوها هرقلية كما مات هرقل قام هرقل. فقال مروان: هذا الذي أنزل الله فيه (والذي قال لوالديه أف لكما). الآية، فسمعت عائشة مقالته من وراء الحجاب وقالت: يا مروان يا مروان، فأنصت الناس، وأقبل مروان بوجهه فقالت: أنت القائل لعبد الرحمن أنه نزل فيه القرآن؟ كذبت والله ما هو به ولكنه فلان بن فلان، ولكنك أنت فضض من لعنة نبي الله (2).
وتمت بيعة يزيد ولم تطل مدة خلافته فمات دون أن
ص: 129
يعهد إلى أحد، وبعد موت معاوية بن يزيد - الذي رفض الخلافة وأنكر على آبائه اغتصابهم الخلافة - بويع مروان بن الحكم في الشام بالخلافة وتم الأمر له.
عن داود بن أبي صالح قال (1): أقبل مروان يوما فوجد رجلا واضعا وجهه - جبهته - على القبر، فأخذ مروان برقبته ثم قال: هل تدري ما تصنع؟ فأقبل عليه فإذا أبو أيوب الأنصاري، فقال: نعم إني لم آت الحجر، إنما جئت رسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولم آت الحجر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: " لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن ابكوا على الدين إذا وليه غير أهله ".
أخرجه (2): الحاكم في المستدرك وصححه هو والذهبي في تلخيصه، ورواه أبو الحسين يحيى بن الحسن الحسيني في أخبار المدينة، بإسناد آخر عن المطلب بن عبد الله بن حنطب، كما في شفاء السقام للسبكي (3).
وذكره السيد نور الدين السمهودي في وفاء الوفاء (4) نقلا عن إمام الحنابلة أحمد، قال: رأيته بخط الحافظ أبي الفتح المراغي المدني،
ص: 130
وأخرجه الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (1) نقلا عن أحمد.
قال الأميني: إن هذا الحديث يعطينا خبرا بأن المنع عن التوسل بالقبور الطاهرة إنما هو من بدع الأمويين وضلالتهم منذ عهد الصحابة، ولم تسمع أذن الدنيا قط صحابيا ينكر ذلك غير وليد بيت أمية مروان الغاشم، نعم، الثور يحمي أنفه بروقه (2)، نعم، بعلة الورشان يأكل رطب المشان (3)، نعم، لبني أمية عامة ولمروان خاصة ضغينة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منذ يوم لم يبق صلى الله عليه وآله وسلم في الأسرة الأموية حرمة إلا هتكها، ولا ناموسا إلا مزقه، ولا ركنا إلا أباده، وذلك بوقيعته صلى الله عليه وآله وسلم فيهم وهو (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى * علمه شديد القوى) (4).
فحقيق على مروان أن يرى الأمة الإسلامية أنه يحامي عن التوحيد وقد رام أن يخذلها عن نبيها ويصغره عندها، وكيف يروقه نبي كان هذا هتافه فيه وفي أبيه وجده وأصله وشجرته؟ تلك الشجرة الملعونة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار.
فلا يحق لمسلم أن يحذو حذو تلك الأمة الملعونة ويقول بقولهم ويتخذ برأيهم، ويتبع أثر أولئك الرجال الذين اتخذوا دين الله دخلا،
ص: 131
وعباد الله خولا، وكتاب الله حولا (1).
أجل، لقد ساء ابن الحكم التفاف المسلمين حول النبي ميتا، كيف لا؟ وهو الذي حطم كبرياء بني أمية، وهو الذي نفى أباه ولعنه ومن في صلبه، فالعداء للنبي هو الذي دفع مروان إلى موقفه هذا، ويبدو لي سبب آخر وهو أن التبرك والالتفاف حول القبر الشريف يذكر المسلمين نبيهم وأحاديثه التي لعنت ولاة أمثال مروان، والتي تدعو للقيام على الظلمة وعدم إطاعتهم، وهذا ما يريد ابن الحكم وبنو أمية أن يمحوه من ذاكرة المسلمين.
إنه غادر المدينة طفلا إلى الطائف مع والده وعاد في خلافة عثمان، أجل كيف يروي الإمام عليه السلام عن مروان هذا وعنده والده ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسيد شباب أهل الجنة الحسين عليه السلام؟ فمن كان يستضيء، بالشمس لا يتركها لظلام دامس، وكيف يروي عنه وقد كان يسب جده عليا في كل جمعة وكان ينال من آل البيت ويشتمهم؟ وما هذه العلاقة التي جمعت الإمام بابن الحكم؟ فشتان بين الثرى والثريا وهيهات أن يجتمع النور والظلام.
قال المقريزي في ابن الحكم: " وكان رجلا لا فقه له، ولا يعرف بالزهد، ولا برواية الآثار، ولا بصحبة ولا ببعد همة " (1).
وقد كان الإمام علي بن الحسين سيد علماء عصره، قال فيه الزهري: " ما رأيت قرشيا أفضل من علي بن الحسين " [في أيامه] (2) وقال أيضا: " ما رأيت أحدا كان أفقه منه. وقال ابن وهب عن مالك: لم يكن في أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثل علي بن الحسين " (3).
ص: 133
وقال له نافع بن جبير: " إنك سيد الناس وأفضلهم " (1) وقال فيه الشافعي: " هو أفقه أهل المدينة " (2).
فمن كان أفقه أهل المدينة وأفضلهم فكيف يروي عن ابن الحكم؟!
هلك ابن الحكم في شهر رمضان سنة خمس وستين (3)، وهو معدود فيمن قتلته النساء، فقد تزوج أم خالد بن يزيد ليضع من خالد، وقال يوما لخالد: يا ابن الرطبة! فقال له خالد: " أنت مؤتمن خائن " وشكى خالد ذلك يوما إلى أمه، فقال: لا تعلمه أنك ذكرته لي، فلما دخل إليها مروان قامت إليه مع جواريها، فغمته حتى مات (4).
قال المسعودي: " فمنهم من رأى أنها وضعت على نفسه وسادة، وقعدت فوقها مع جواريها حتى مات، ومنهم من يرى أنها أعدت له لبنا مسموما " (5).
وهكذا رحل عن الدنيا بعد عمر ملئ بالشقاوة والشيطنة، وتسلم ابنه عبد الملك الخلافة من بعده.
ص: 134
ص: 135
ص: 136
الوليد بن عقبة بن أبي معيط، واسم أبي معيط: أبان بن أبي عمرو، واسم أبي عمرو ذكوان بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي، وقد قيل: إن ذكوان كان عبدا لأمية فاستلحقه، والأول أكثر، أمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس أم عثمان بن عفان، فالوليد أخو عثمان لأمه (1)، وكان الوليد يكنى أبا وهب.
الوليد ومن ولده (2):
أما أبوه عقبة بن أبي معيط فكان أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في إيذائه من جيرانه، أخرج ابن سعد بالإسناد من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " كنت بين شر جارين بين أبي لهب وعقبة بن أبي معيط، إن كانا ليأتيان بالفروث فيطرحانها على بابي، حتى أنهم ليأتون ببعض ما يطرحون من الأذى فيطرحونه على بابي " (3).
وقال ابن سعد في الطبقات (4): كان أهل العداوة والمناواة
ص: 137
لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الذين يطلبون الخصومة والجدل أبو جهل، أبو لهب، إلى أن عد عقبة بن أبي معيط، والحكم بن أبي العاص فقال:
وذلك أنهم كانوا جيرانه، والذي كان تنتهي عداوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليهم: أبو جهل، وأبو لهب، وعقبة بن أبي معيط.
وقال ابن هشام في سيرته (1): كان النفر الذين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيته أبو لهب، والحكم بن أبي العاص بن أمية، وعقبة بن أبي معيط.
وقال (2): كان أبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط متصافيين حسنا ما بينهما، فكان عقبة قد جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسمع منه فبلغ ذلك أبيا فأتى عقبة فقال له: ألم يبلغني أنك جالست محمدا وسمعت منه؟ ثم قال: وجهي من وجهك حرام أن أكلمك، واستغلظ له من اليمين إن أنت جلست إليه أو سمعت منه أو لم تأته فتتفل في وجهه. ففعل ذلك عدو الله عقبة بن أبي معيط لعنه الله، فأنزل الله تعالى فيهما: (ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا * يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا * لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا) (3) وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم
ص: 138
في الدلائل بإسناده صححه السيوطي من (1) طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس: أن عقبة (2) بن أبي معيط كان يجلس مع النبي بمكة لا يؤذيه، وكان له خليل (3) غائب عنه بالشام، فقالت قريش: صبا عقبة.
وقدم خليله من الشام ليلا فقال لامرأته: ما فعل محمد مما كان عليه؟ فقالت: أشد مما كان أمرا، فقال: ما فعل خليلي عقبة؟ فقالت: صبا.
فبات بليلة سوء. فلما أصبح أتاه عقبة فحياه فلم يرد عليه التحية، فقال:
ما لك لا ترد علي تحتي؟ فقال: كيف أرد عليك تحيتك وقد صبوت؟ قال: أو قد فعلتها قريش؟ قال: نعم، قال: فما يبرئ صدورهم إن أنا فعلته؟ قال: تأتيه في مجلسه فتبزق في وجهه وتشتمه بأخبث ما تعلم من الشتم، ففعل، فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أن مسح وجهه من البزاق، ثم التفت إليه فقال: " إن وجدتك خارجا من جبال مكة أضرب عنقك صبرا ".
فلما كان يوم بدر وخرج أصحابه أبى أن يخرج، فقال له أصحابه: أخرج معنا، قال: وعدني هذا الرجل إن وجدني خارجا من جبال مكة أن يضرب عنقي صبرا، فقالوا: لك جمل أحمر لا يدرك فلو
ص: 139
كانت الهزيمة طرت عليه. فخرج معهم، فلما هزم الله المشركين وحمل (1) به جمله في جدود من الأرض فأخذه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسيرا في سبعين من قريش وقدم إليه عقبة فقال، أتقتلني من بين هؤلاء؟ قال:
" نعم، بما بزقت في وجهي ". وفي لفظ الطبري: " بكفرك وفجورك وعتوك على الله ورسوله ". فأمر عليا فضرب عنقه فأنزل الله فيه: (ويوم يعض الظالم على يديه). إلى قوله تعالى: (وكان الشيطان للإنسان خذولا).
وقال الضحاك: لما بزق عقبة في وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجع بزاقه على وجهه لعنه الله تعالى، ولم يصل حيث أراد فأحرق خديه وبقي أثر ذلك فيهما حتى ذهب إلى النار.
وفي لفظ: كان عقبة يكثر مجالسة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واتخذ ضيافة فدعا إليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأبى أن يأكل من طعامه حتى ينطق بالشهادتين ففعل، وكان أبي بن خلف صديقه فعاتبه وقال: صبأت يا عقبة، قال: لا ولكن آلى أن لا يأكل من طعامي وهو في بيتي فاستحييت منه فشهدت له، والشهادة ليست في نفسي، فقال: وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمدا فلم تطأ قفاه وتبزق وجهه وتلطم عينه. فوجده ساجدا في دار الندوة ففعل ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف " الحديث.
ص: 140
وقال الطبري في تفسيره: قال بعضهم عني بالظالم عقبة بن أبي معيط لأنه ارتد بعد إسلامه طلبا منه لرضا أبي بن خلف وقالوا: فلان هو أبي.
وروي عن ابن عباس أنه قال: كان أبي بن خلف يحضر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فزجره عقبة بن أبي معيط فنزل (ويوم يعض الظالم على يديه) إلى آخره. قال: الظالم: عقبة وفلان: أبي. وروي مثله عن الشعبي وقتادة وعثمان ومجاهد.
أخرج نزول الآيات الكريمة (ويوم يعض الظالم) إلى قوله:
(خذولا). في عقبة، وأن الظالم هو: ابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل (1)، وابن المنذر، وعبد الرزاق في المصنف (2)، وابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم والفريابي، وعبد بن حميد، وسعيد بن منصور، وابن جرير.
راجع: تفسير الطبري (3)، تفسير البيضاوي (4)، تفسير القرطبي (5)، تفسير الزمخشري (6)، تفسير ابن كثير (7)، تفسير
ص: 141
النيسابوري هامش الطبري (1)، تفسير الرازي (2)، تفسير ابن جزي الكلبي (3)، إمتاع المقريزي (4)، الدر المنثور للسيوطي (5)، تفسير الخازن (6)، تفسير النسفي هامش الخازن (7)، تفسير الشوكاني (8)، تفسير الآلوسي (9).
ولادة الوليد موضع خلاف بين المؤرخين، فمنهم من يقول إنه ولد قبل الفتح ومنهم من يقول إنه ولد بعد الفتح.
عن الوليد - نفسه - قال: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة، جعل أهل مكة يأتونه بصبيانهم، فيمسح على رؤوسهم ويدعو لهم بالبركة، فأتي بي إليه وأنا مخلق فلم يمسني من أجل الخلوق (10).
ص: 142
وهذه الرواية غير صحيحة، فإذا كان عام الفتح مخلقا فكيف بعثه النبي لجمع الصدقات من بني المصطلق (1)؟ فولادة الوليد إذا كانت قبل فتح مكة، وهذا ما يذهب إليه ابن عبد البر في استيعابه (2).
أسلم الوليد يوم فتح مكة مع من أسلموا، أسلم هو وأخوه خالد بن عقبة، قال ابن عبد البر: " أظنه لما أسلم كان قد ناهز الاحتلام " (3) وروى الوليد حديثين (4)، أحدهما الرواية السابقة عن ولادته.
نزل في الوليد عدة آيات قرآنية منها قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) (5).
وسبب نزول هذه الآية: " أن رسول الله بعث الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق فعاد فأخبر عنهم أنهم ارتدوا ومنعوا
ص: 143
الصدقة وكانوا خرجوا يتلقونه وعليهم السلاح، فظن أنهم خرجوا يقاتلونه فرجع فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خالد بن الوليد فأخبره بأنهم على الإسلام فنزلت هذه الآية " (1) قال ابن عبد البر: " لا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن أنها نزلت فيه - أي الوليد - " (2).
وقال ابن كثير: " ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة " (3).
وقد أكد الله فسق الوليد في آية أخرى وهي قوله تعالى: (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون * أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوي نزلا بما كانوا يعملون * وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون) (4).
أخرج (5) الطبري في تفسيره (6) بإسناده عن عطاء بن يسار، قال:
ص: 144
كان بين الوليد وعلي كلام، فقال الوليد: أنا أبسط منك لسانا، وأحد منك سنانا، وأرد منك للكتيبة. فقال علي: " أسكت فإنك فاسق ". فأنزل الله فيهما: (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا) الآية.
وفي الأغاني (1)، وتفسير الخازن (2): كان بين علي والوليد تنازع وكلام في شئ فقال الوليد لعلي: أسكت فإنك صبي وأنا شيخ، والله إني أبسط منك لسانا، وأحد منك سنانا، وأشجع منك جنانا، وأملأ منك حشوا في الكتيبة. فقال له علي: " أسكت فإنك فاسق ". فأنزل الله هذه الآية.
وأخرج الواحدي بإسناده من طريق ابن عباس في أسباب النزول (3)، ومحب الدين الطبري في الرياض (4) عن ابن عباس وقتادة من طريق الحافظين السلفي والواحدي، وفي ذخائر العقبى (5)، والخوارزمي في المناقب (6)، والكنجي في الكفاية (7)، والنيسابوري في تفسيره (8)، وابن كثير في تفسيره قال: ذكر عطاء بن يسار والسدي
ص: 145
وغيرهما: أنها نزلت في علي بن أبي طالب وعقبة - فيه تصحيف لا يخفى - ورواه جمال الدين الزرندي في نظم درر السمطين (1).
وذكره ابن أبي الحديد في شرح النهج (2) وحكى عن شيخه: إنه من المعلوم الذي لا ريب فيه لاشتهار الخبر به، وإطباق الناس عليه.
وأخرجه السيوطي في الدر المنثور (3) وقال: أخرج أبو الفرج في الأغاني، والواحدي، وابن عدي، وابن مردويه، والخطيب، وابن عساكر (4)، من طريق عن ابن أبي حاتم عن السدي عليه السلام مثله، وأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الله بن أبي ليلى عليه السلام. وأخرج ابن مردويه والخطيب وابن عساكر عن ابن عباس، وذكره الحلبي في السيرة (5).
وفي هذه الحادثة يقول حسان بن ثابت:
أنزل الله والكتاب عزيز * في علي وفي الوليد قرانا فتبوا الوليد من ذاك فسقا * وعلي مبوأ إيمانا
ص: 146
ليس من كان مؤمنا عرف الله * كمن كان فاسقا خوانا فعلي يلقى لدى الله عزا * ووليد يلقى هناك هوانا سوف يجزى الوليد خزيا ونارا * وعلي لا شك يجزى جنانا ذكر هذه الأبيات أبو المظفر سبط ابن الجوزي الحنفي في تذكرته (1)، والكنجي الشافعي، في كفايته (2)، وابن طلحة الشافعي، في مطالب السؤول (3) وقال: فشت هذه الأبيات من قول حسان، وتناقلها سمع عن سمع ولسان عن لسان ورواها له ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة (4) وفيه بعد البيت الثالث:
سوف يدعى الوليد بعد قليل * وعلي إلى الحساب عيانا فعلي يجزى بذاك جنانا * ووليد يجزى بذلك هوانا (5)
ص: 147
رب جد لعقبة بن أبان * لابس في بلادنا تبانا (1) وذكرها له نقلا عن شرح النهج الأستاذ أحمد زكي صفوت في جمهرة الخطب (2).
وبعد نزول الآية السابقة صار الوليد لا يعرف إلا بالوليد الفاسق (3).
كان الوليد يستهين بأوامر الرسول ويعصيه علنا حتى دعا عليه نبي الله.
عن علي عليه السلام: أن امرأة الوليد بن عقبة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم تشتكي إليه الوليد، وقالت: إنه يضربها، فقال لها:
ارجعي إليه وقولي له: إن رسول الله قد أجارني، فانطلقت، فمكث ساعة، ثم رجعت فقالت: إنه ما أقلع عني، فقطع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هدبة من ثوبه وقال: اذهبي بها إليه وقولي له:
إن رسول الله قد أجارني، فانطلقت فمكثت ساعة ثم رجعت
ص: 148
فقالت: ما زادني إلا ضربا، فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده ثم قال:
اللهم عليك بالوليد مرتين أو ثلاثا (1).
من للصبية:
لما أخذ عقبة والد الوليد ليضرب عنقه قال: من للصبية يا محمد؟ فقال: " النار، اضربوا عنقه ".
فبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن أبناء عقبة في النار، وقد كان الوليد في بدر صبيا.
جاء في شرح النهج: " أن الوليد بن عقبة بن أبي معيط كان يبغض عليا ويشتمه...
وكان الوليد مذموما معيبا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يهمله ويعرض عنه، وكان الوليد يبغض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويشنؤه وأبوه عقبة بن أبي معيط هو العدو الأزرق بمكة، والذي كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في نفسه وأهله، وأخباره في ذلك مشهورة، فلما ظفر به يوم بدر ضرب عنقه، وورث ابنه الوليد الشنآن والبغض لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهله، فلم يزل عليهما إلى أن مات...
ص: 149
عن مغيرة الضبي قال: مر ناس بالحسن بن علي عليه السلام، وهم يريدون عيادة الوليد بن عقبة، وهو في علة له شديدة، فأتاه الحسن عليه السلام معهم عائذا، فقال للحسن: أتوب إلى الله تعالى مما كان بيني وبين جميع الناس، إلا ما كان بيني وبين أبيك، فإني لا أتوب منه (1).
وقال الوليد لعقيل بن أبي طالب في مجلس معاوية "...
وإن أخاك - يقصد عليا - لأشد هذه الأمة عذابا " (2)!! إن من أسباب بغض الوليد لعلي هو ضربه إياه الحد في ولاية عثمان وقتله أباه. أجل بقي على بغض علي عليه السلام، والنبي يقول: " يا علي لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق " (3).
قلنا إن عثمان قرب بني أمية وخاصة أقرباءه، وأغدق عليهم الأموال، وقسم عليهم الولايات الإسلامية، وكان نصيب الوليد الكوفة، حيث عزل عثمان سعد بن أبي وقاص وولى مكانه الوليد.
ص: 150
ولما قدم الوليد بن عقبة أميرا على الكوفة أتاه ابن مسعود، فقال: ما جاء بك؟ قال: جئت أميرا، فقال ابن مسعود: ما أدري أصلحت بعدنا أم فسد الناس (1)؟! وكانت ولاية الوليد علي الكوفة سنة خمس وعشرين للهجرة، وكان فيها ما كان مما سنذكر بعضه.
هبة الخليفة عثمان للوليد من مال المسلمين (2):
أعطى الوليد بن عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية أخا الخليفة من أمه ما استقرض عبد الله بن مسعود من بين مال المسلمين ووهبه له. قال البلاذري في الأنساب (3): لما قدم الوليد الكوفة ألفي ابن مسعود على بيت المال فاستقرضه مالا وقد كانت الولاة تفعل ذلك ثم ترد ما تأخذ، فأقرضه عبد الله ما سأله، ثم إنه اقتضاه إياه، فكتب الوليد في ذلك إلى عثمان، فكتب عثمان إلى عبد الله بن مسعود: إنما أنت خازن لنا فلا تعرض للوليد فيما أخذ من المال. فطرح ابن مسعود المفاتيح وقال: كنت أظن أني خازن للمسلمين، فأما إذا كنت خازنا لكم فلا حاجة لي في ذلك، وأقام بالكوفة بعد إلقائه مفاتيح بيت المال.
وعن عبد الله بن سنان قال: خرج علينا ابن مسعود، ونحن في
ص: 151
المسجد، وكان على بيت مال الكوفة، وفي الكوفة الوليد بن عقبة بن أبي معيط فقال: يا أهل الكوفة فقدت من بيت مالكم الليلة مائة ألف لم يأتني بها كتاب أمير المؤمنين، ولم يكتب لي بها براءة، قال: فكتب الوليد بن عقبة إلى عثمان في ذلك فنزعه عن بيت المال. العقد الفريد (1).
كانت للوليد أعمال في الكوفة جعلت الناس ينقمون عليه، فحينما قدم الكوفة قدم عليه أبو زبيد - نديمه النصراني - فأنزله دار عقيل بن أبي طالب على باب المسجد، وهي التي تعرف بدار القبطي، فكان مما احتج به عليه أهل الكوفة أن أبا زبيد كان يخرج إليه من داره وهو نصراني يخترق المسجد فيجعله طريقا.
وكان أبو زبيد هذا يسمر عند الوليد ويشرب معه، وقد اقتطع الوليد الحمى - وهي ما بين القصور الحمر من الشام، إلى القصور الحمر من الحيرة والتي كانت بيد مري بن أوس اقتطعها منه وأعطاها لأبي زبيد (2).
وقد اختص الوليد ساحرا يهوديا كان يفن الناس، وكان
ص: 152
يريه كتيبتين تقتتلان فتحمل إحداهما على الأخرى فتهزمها، ثم يقول له: أيسرك أن أريك المنهزمة تغلب الغالبة فتهزمها؟ فيقول: نعم، فجاء جندب الأزدي مشتملا على سيفه، فقال:
أفرجوا لي، فأفرجوا فضربه حتى قتله، فحبسه الوليد قليلا ثم تركه.
وروي أن جندبا لما قتل الساحر حبسه الوليد، فقال له دينار بن دينار: فيما حبست هذا وقد قتل من أعلن بالسحر في دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟ ثم مضى إليه فأخرجه من الحبس، فأرسل الوليد إلى دينار بن دينار فقتله (1).
الأزدي وهو سكران فانتزعا خاتمه من يده وهو لا يشعر سكرا.
قال أبو إسحاق: وأخبرني مسروق أنه حين صلى لم يرم حتى قاء فخرج في أمره إلى عثمان أربعة نفر: أبو زينب، وجندب بن زهير، وأبو حبيبة الغفاري، والصعب بن جثامة، فأخبروا عثمان خبره، فقال عبد الرحمن بن عوف: ما له؟ أجن؟ قالوا: لا ولكنه سكر. قال:
فأوعدهم عثمان وتهددهم، وقال لجندب: أنت رأيت أخي (1) يشرب الخمر؟ قال. معاذ الله، ولكني أشهد أني رأيته سكران يقلسها من جوفه، وأني أخذت خاتمه من يده وهو سكران لا يعقل.
قال أبو إسحاق: فأتى الشهود عائشة فأخبروها بما جرى بينهم وبين عثمان، وأن عثمان زبرهم، فنادت عائشة: أن عثمان أبطل الحدود وتوعد الشهود.
وقال الواقدي: وقد يقال: إن عثمان ضرب بعض الشهود أسواطا، فأتوا عليا فشكوا ذلك إليه. فأتى عثمان فقال: " عطلت الحدود وضربت قوما شهدوا على أخيك فقلبت الحكم، وقد قال عمر:
لا تحمل بني أمية وآل أبي معيط خاصة على رقاب الناس " قال: فما ترى؟ قال: " أرى أن تعزله ولا توليه شيئا من أمور المسلمين، وأن تسأل عن الشهود فإن لم يكونوا أهل ظنة ولا عداوة أقمت على صاحبك
ص: 154
الحد ".
قال: ويقال: إن عائشة أغلظت لعثمان وأغلظ لها، وقال: وما أنت وهذا؟ إنما أمرت أن تقري في بيتك. فقال قوم مثل قوله: وقال آخرون: ومن أولى بذلك منها، فاضطربوا بالنعال، وكان ذلك أول قتال بين المسلمين بعد البني صلى الله عليه وآله وسلم.
وأخرج من عدة طرق: أن طلحة والزبير أتيا عثمان فقالا له: قد نهيناك عن تولية الوليد شيئا من أمور المسلمين فأبيت وقد شهد عليه بشرب الخمر والسكر فاعزله، وقال له علي: " اعزله وحده إذا شهد الشهود عليه في وجهه ". فولى عثمان سعيد بن العاص الكوفة وأمره بإشخاص الوليد، فلما قدم سعيد الكوفة غسل المنبر ودار الإمامة وأشخص الوليد، فلما شهد عليه في وجهه وأراد عثمان أن يحده ألبسه جبة حبر وأدخله بيتا، فجعل إذا بعث إليه رجلا من قريش ليضربه قال له الوليد: أنشدك الله أن تقطع رحمي وتغضب أمير المؤمنين عليك.
فيكف. فلما رأى ذلك علي بن أبي طالب أخذ السوط ودخل عليه ومعه ابنه الحسن، فقال له الوليد مثل تلك المقالة، فقال له الحسن: صدق يا أبت، فقال علي: ما أنا إذا بمؤمن. وجلده بسوط له شعبتان، وفي لفظ:
فقال علي للحسن ابنه: قم يا بني فاجلده، فقال عثمان: يكفيك ذلك بعض من ترى، فأخذ علي السوط ومشى إليه فجعل يضربه والوليد يسبه، وفي لفظ الأغاني: فقال له الوليد نشدتك بالله وبالقرابة، فقال له علي: " أسكت أبا وهب فإنما هلكت بنو إسرائيل بتعطيلهم
ص: 155
الحدود " فضربه وقال: " لتدعوني قريش بعد هذا جلادها ".
قالوا: وسئل عثمان أن يحلق وقيل له: إن عمر حلق مثله، فقال:
قد كان فعل ذلك ثم تركه.
وقال أبو مخنف وغيره: خرج الوليد بن عقبة لصلاة الصبح وهو يميل فصلى ركعتين ثم التفت إلى الناس فقال: أزيدكم؟ فقال له عتاب بن علائق أحد بني عوافة بن سعد وكان شريفا: لا زادك الله مزيد الخير، ثم تناول حفنة من حصى فضرب بها وجه الوليد وحصبه الناس وقالوا:
والله ما العجب إلا ممن ولاك، وكان عمر بن الخطاب فرض لعتاب هذا مع الأشراف في ألفين وخمسمائة. وذكر بعضهم: أن القئ غلب على الوليد في مكانه، وقال يزيد بن قيس الأرحبي، ومعقل بن قيس الرياحي:
لقد أراد عثمان كرامة أخيه بهوان أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وفي الوليد يقول الحطيئة جرول بن أوس بن مالك العبسي:
شهد الحطيئة يوم يلقي ربه * أن الوليد أحق بالعذر نادى وقد نفدت (1) صلاتهم * أأزيدكم؟ ثملا وما يدري ليزيدهم خيرا ولو قبلوا * منه لزادهم على عشر فأبوا أبا وهب ولو فعلوا * لقرنت بين الشفع والوتر حبسوا عنانك إذ جريت ولو * خلو عنانك لم تزل تجري (2)
ص: 156
وذكر أبو الفرج في الأغاني (1)، وأبو عمر في الإستيعاب (2) بعد هذه الأبيات للحطيئة أيضا قوله:
تكلم في الصلاة وزاد فيها * علانية وجاهر بالنفاق ومج الخمر في سنن المصلى * ونادى والجميع إلى افتراق أزيدكم على أن تحمدوني * فما لكم وما لي من خلاق ثم قال أبو عمر: وخبر صلاته بهم وهو سكران وقوله: أزيدكم؟ بعد أن صلى الصبح أربعا مشهور من رواية الثقات من نقل أهل الحديث وأهل الأخبار.
وهكذا جاء في مسند أحمد (3)، سنن البيهقي (4)، تاريخ اليعقوبي (5) وقال: تهوع في المحراب، كامل ابن الأثير (6)، أسد الغابة (7) وقال: قوله لهم: أزيدكم؟ بعد أن صلى الصبح أربعا مشهور من رواية الثقات من أهل الحديث. ثم ذكر حديث الطبري (8) في تعصب
ص: 157
القوم على الوليد وقول عثمان له: يا أخي اصبر فإن الله يؤجرك ويبوء القوم بإثمك. فقال: قال أبو عمر (1): والصحيح عند أهل الحديث أنه شرب الخمر وتقيأها، وصلى الصبح أربعا.
تاريخ أبي الفداء (2)، الإصابة (3) وقال: قصة صلاته بالناس الصبح أربعا وهو سكران مشهورة مخرجة، تاريخ الخلفاء للسيوطي (4)، السيرة الحلبية (5) وقال: صلى بأهل الكوفة أربع ركعات وصار يقول في ركوعه وسجوده: إشرب واسقني. ثم قاء في المحراب ثم سلم وقال:
هل أزيدكم؟ فقال له ابن مسعود رضي الله عنه: لا زادك الله خيرا ولا من بعثك إلينا، وأخذ فردة خفه وضرب به وجه الوليد وحصبه الناس، فدخل القصر والحصباء تأخذه وهو مترنح. إلخ.
وحكى أبو الفرج في الأغاني (6) عن أبي عبيد والكلبي والأصمعي: أن الوليد بن عقبة كان زانيا شريب خمر فشرب الخمر، بالكوفة وقام ليصلي بهم الصبح في المسجد الجامع، فصلى بهم أربع ركعات ثم التفت إليهم وقال لهم: أزيدكم؟ وتقيأ في المحراب وقرأ بهم
ص: 158
في الصلاة وهو رافع صوته:
علق القلب الربابا * بعد ما شابت وشابا وذكره نقلا عن عمر بن شبة (1)، وروى من طريق المدائني عن الزهري أنه قال (2): خرج رهط من أهل الكوفة إلى عثمان في أمر الوليد فقال: أكلما غضب رجل منكم على أميره رماه بالباطل؟ لئن أصبحت لكم لأنكلن بكم، فاستجاروا بعائشة وأصبح عثمان فسمع من حجرتها صوتا وكلاما فيه بعض الغلظة، فقال: أما يجد مراق أهل العراق وفساقهم ملجأ إلا بيت عائشة. فسمعت فرفعت نعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالت: تركت سنة رسول الله صاحب هذا النعل. فتسامع الناس فجاءوا حتى ملأوا المسجد فمن قائل: أحسنت، ومن قائل: ما للنساء ولهذا؟ حتى تحاصبوا وتضاربوا بالنعال، ودخل رهط من أصحاب رسول الله على عثمان فقالوا له: إتق الله لا تعطل الحد واعزل أخاك عنهم، فعزله عنهم.
وأخرج من طريق مطر الوراق قال: قدم رجل المدينة فقال لعثمان: إني صليت الغداة خلف الوليد بن عقبة فالتفت إلينا فقال:
أزيدكم؟ إني أجد اليوم نشاطا، وأنا أشم منه رائحة الخمر. فضرب عثمان الرجل، فقال الناس: عطلت الحدود، وضربت الشهود.
ص: 159
وروى ابن عبد ربه قصة الصلاة في العقد الفريد (1) وفيه: صلى بهم الصبح ثلاث ركعات وهو سكران. الخ.
وجاء في صحيح البخاري (2) في مناقب عثمان في حديث: قد أكثر الناس فيه. قال ابن حجر في فتح الباري (3) في شرح الجملة المذكورة: ووقع في رواية معمر: وكان أكثر الناس فيما فعل به، أي من تركه إقامة الحد عليه - على الوليد: وإنكارهم عليه عزل سعد بن أبي وقاص (4).
قال ابن عبد البر: " أخباره - الوليد - في شرب الخمر ومنادمته أبا زبيد الطائي مشهورة كثيرة ".
وقال: " وله أخبار فيها نكارة وشناعة تقطع على سوء حاله كذلك (5) ".
قال الأميني (6): الوليد هو هذا الذي تسمع حديثه، تراه يشرب الخمر، ويقئ في محرابه، ويزيد في الصلاة من سورة السكر، وينتزع خاتمه من يده فلا يشعر به من شدة الثمل، وقد عرفه الله تعالى قبل يومه
ص: 160
هذا بقوله عز من قائل (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون) (1). ويقولها (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) (2).
فهل من الممكن أن يحوز مثله حنكة الولاية عن إمام المسلمين؟ فيحتنك النفوس ويستحوذ على الأموال، ويستولي على النواميس والأعراض، وتؤخذ منه الأحكام وتلقى إليه أزمة البسط والقبض في حاضرة المسلمين، ويؤمهم على الجمعة والجماعة؟ هل هذا شئ يكون في الشريعة؟ أعزب عني واسأل الخليفة الذي ولاه وزبر الشهود عليه وتوعدهم أو ضربهم بسوطه.
وهب أن الولاية سبقت منه لكن الحد الذي ثبت موجبه وليم على تعطيله ما وجه إرجائه إلى حين إدخال الرجل في البيت مجللا بجبة حبر وقاية له عن ألم السياط؟ ثم من دخل عليه ليحده دافعه المحدود بغضب الخليفة وقطع رحمه، فهل كان الخليفة يعلم بنسبة الغضب إليه على إقامة حد الله وإيثار رحمه على حكم الشريعة؟ فيغض الطرف عنه رضا منه بما يقول، أولا يبلغه؟ وهو خلاف سياق الحديث الذي ينم عن اطلاعه على كل ما هنالك، وكان يتعلل عن إقامة الحد بكل تلكم الأحوال، حتى أنه منع السبط المجتبى الحسن عليه السلام لما علم أنه لا يجنح إلى الباطل بالرقة عليه
ص: 161
وأحب أن يجلده زبانيته الذين يتحرون مرضاته، لكن غلب أمر الله ونفذ حكمه بمولانا أمير المؤمنين الذي باشر الحد بنفسه والظالم يسبه وهو سلام الله عليه لا تأخذه في الله لومة لائم، أو أمر - سلام الله عليه - عبد الله ابن جعفر فجلده وهو عليه السلام يعد كما في الصحيح لمسلم (1) والأغاني (2) وغيرهما.
وهل الحد يعطل بعد ثبوت ما يوجبه، حتى يقع عليه الحجاج، ويحتدم الحوار فيعود الجدال جلادا، وتتحول المكالمة ملاكمة، وتعلو النعال والأحذية، ويشكل أول قتال بين المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعقيرة أم المؤمنين مرتفعة: إن عثمان عطل الحدود وتوعد الشهود.
ويوبخه على ذلك سيد العترة - صلوات الله عليه - بقوله: " عطلت الحدود وضربت قوما شهدوا على أخيك " وهل بعد هذه كلها يستأهل مثل هذا الفاسق المهتوك بلسان الكاب العزيز أن يبعث على الأموال؟ كما فعله عثمان وبعث الرجل بعد إقامة الحد عليه على صدقات كلب وبلقين (3)، وهل آصرة الإخاء تستبيح ذلك كله؟ ليست ذمتي رهينة بالجواب عن هذه الأسئلة وإنما علي سرد القصة مشفوعة بالتعليل والتحليل، وأما الجواب فعلى عهدة أنصار
ص: 162
الخليفة، أو أن المحكم فيه هو القارئ الكريم (1).
بين الوليد والإمام الحسن عليه السلام (2):
قال الإمام الحسن عليه السلام للوليد في مجلس معاوية:
" وأما أنت يا وليد فوالله ما ألومك على بغض علي وقد جلدك ثمانين في الخمر وقتل أباك بين يدي رسول الله صبرا، وأنت الذي سماه الله الفاسق، وسمى عليا المؤمن حيث تفاخرتما فقلت له: أسكت يا علي فأنا أشجع منك جنانا، وأطول منك لسانا، فقال لك علي: أسكت يا وليد فأنا مؤمن، وأنت فاسق. فأنزل الله تعالى في موافقته قوله: (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون). ثم أنزل فيك على موافقة قوله أيضا: (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) ويحك يا وليد مهما نسيت فلا تنس قول الشاعر (3) فيك وفيه:
أنزل الله والكتاب عزيز * في علي وفي الوليد قرآنا فتبوأ الوليد إذ ذاك فسقا * وعلي مبوأ إيمانا ليس من كان مؤمنا عمرك * الله كمه كان فاسقا خوانا سوف يدعي الوليد بعد قليل * وعلي إلى الحساب عيانا فعلي يجزى بذلك جنانا * ووليد يجزى بذلك هوانا
ص: 163
رب جد لعقبة بن أبان (1) * لابس في بلادنا تبانا وما أنت وقريش؟ إنما أنت علج من أهل صفورية، وأقسم بالله لأنت أكبر في الميلاد وأسن ممن تدعى إليه ". شرح ابن أبي الحديد (2):
قال الأميني: وإن شئت فسل الخليفة عثمان عن تأهيله إياه للولاية على صدقات بني تغلب ثم للإمارة على الكوفة، وائتمانه على أحكام الدين وأعراض المسلمين، وتهذيب الناس ودعوتهم إلى الدين الحنيف وإسقاط ما عليه من الدين لبيت مال المسلمين وإبراء ذمته عما عليه من مال الفقراء هل في الشريعة الطاهرة تسليط مثل الرجل على ذلك كله؟ أنا لا أعرف لذلك جوابا، ولعلك تجد عند الخليفة ما يبرر عمله، أو تجد عند ابن حجر بعد اعترافه بصحة ما قلناه، وأنه جاء من طريق الثقات جوابا منحوتا لا نعرف المحصل منه.
قال في تهذيب التهذيب (3): قد ثبتت صحبته وله ذنوب أمرها إلى الله تعالى والصواب السكوت. انتهى.
أما نحن فلا نرى السكوت صوابا بعد أن لم يسكت عنه الذكر الحكيم وسماه فاسقا في موضعين، (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا
ص: 164
يستوون)، ومهم سكتنا عن أمر بينه وبين الله سبحانه فليس من السائغ أن نسكت عن ترتيب آثار العدالة عليه والرواية عنه وهو فاسق في القرآن، متهتك بالجرائم على رؤوس الأشهاد، متعد حدود الله (ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون) (1).
لقد كانت حادثة شرب الوليد الخمر والقئ في المحراب سنة تسع وعشرين وبعدها عزل عن الكوفة وتولى إمارتها سعيد بن العاص، وقد سكن الوليد المدينة ثم نزل الكوفة وبني بها دارا.
بعد مقتل عثمان، كان الوليد من المطالبين بدمه، وكان يتهم عليا في ذلك، وقيل إنه شهد صفين مع معاوية، وكان يحرض معاوية ضد علي في كتبه وأشعاره، من ذلك أن عليا عليه السلام أرسل جريرا يأمر معاوية بأن يدخل في الطاعة، ويأخذ البيعة على أهل الشام.
فبلغ ذلك الوليد فكتب إلى معاوية من أبيات:
أتاك كتاب من علي بخطة * هي الفصل فاختر سلمه أو تحاربه
فإن كنت تنوي أن تجيب كتابه * فقبح ممليه وقبح كاتبه
وكتب إليه أيضا من أبيات:
ص: 165
وإنك والكتاب إلى علي * كدابغة وقد حلم الأديم (1)
وكان علي عليه السلام إذا صلى الغداة يقنت فيلعن الوليد ومعاوية (2).
هلك الوليد في خلافة معاوية، وكان قد نزل الرقة، واستقر بها فمات هناك... ومات أبو زبيد - نديمه النصراني - هناك فدفنا جميعا في موضع واحد، فقال في ذلك أشجع السلمي وقد مر بقبريهما:
مررت على عظام أبي زبيد * وقد لاحت ببلقعة صلود
فكان له الوليد نديم صدق * فنادم قبره قبر الوليد
وما أدري بمن تبدوا المنايا * بحمزة أم بأشجع أم يزيد
قيل: هم إخوته، وقيل: ندماؤه (3).
ص: 166