بطاقة تعريف: القزويني الحائري، السيد محمدحسن الموسوي، 1257 - 1339.
عنوان واسم المؤلف: فدك: هدی الملة الی ان فدک نحلة/ السيد محمدحسن الموسوي القزويني الحائري؛ تقدیم عبدالفتاح عبدالمقصود، تحقیق باقر المقدسي.
تفاصيل المنشور: قاهره: دارالمعلم للطباعه، 1397ق.= 1977م.= 1356.
مواصفات المظهر: 231 ص.
الصقيع: مطبوعات النجاح بالقاهره؛ 16.
لسان: العربية.
ملاحظة: الطبعة الثانية.
عنوان : فاطمه زهراء (سلام الله علیها)، 8؟ قبل الهجرة - 11ق.
عنوان : فدک (عربستان سعودي)
المعرف المضاف: عبدالمقصود، عبدالفتاح، 1912 - 1993م.
المعرف المضاف: مقدسي، باقر
ترتيب الكونجرس: BP27/25/م8ف4 1356
تصنيف ديوي: 297/973
رقم الببليوغرافيا الوطنية: 2871584
ص: 1
ص: 2
ص: 3
بسم الله الرحمن الرحيم
شاء لي الأخ الكريم: السيد مرتضي الرضوي ان أحوز شرف الإدلاء بكلمة «أكابد» تدبيجها لتكون بمثابة تقديم لهذا الكتاب الذي ما أراه في حاجة قط إلي تقديم...
و أقول: «أكابد» و أنا اعني ما أقوله، بكل ما تنطوي عليه حروف اللفظة من مضمون، لأن تناول موضوع «فدك» من قريب أو من بعيد، هو معاناة حقة، تشق علي المتناول أي مشقة، و كل مشقة... و كيف لا و إن المتصدي له- و لأمثاله من أمهات المسائل التاريخيه الإسلامية التي تنضح بالمبادي، و تثير الجدل، و لا يتعذر أن تتفرق عندها الآراء شيعا- لأشبه بمن يحاول أن يجتاز هوة سحيقة، متنقلا بين حافتيها علي خيط أدق من الشعره، و أحد من الشفرة، لو أمن راكبه أن ينقطع فيهوي به من حالق لما سلم من نكاية الجروح!...
و لست أغالي.. فلي في هذا المجال تجربة قديمة، خرجت منها مغموزا في رأيي، معطونا في عقيدتي، من رهط- سامحهم الله! يرون في كل إعمال فكر، و نقاش حر، و التزام بمنطق العقل، في معالجه بعض الأحداث البانية لتاريخ الإسلام، خروجا عن الجادة السوية... و لم تكن تهمتي يومئذ التي بي ألصقوها، و من أجلها غمزوني و طعنوني، سوي أنني- في كتابي: «الإمام علي ابن ابي طالب»- قد عمدت إلي استقراء الوقائع و استنبائها ما تكن من مغازيها. و إلي تحصيل أقوال الرجال الذين صنعوها، أو أسهموا فيها، أو عايشوها...
فلما أن قادني البحث والتقصي إلي رأي ارتأيته في سلوك بضعة نفر من أصحاب
ص: 4
رسول الله صلي الله عليه و سلم و معاصريه، أقروا هم به، و أعلنوه، قبل المئات العديدة من السنين من تناولي إياه و نظري فيه، هاجمني من ذلك الرهط من الكتاب المحدثين من استهواه نزغ الهجوم، فشنأني شانئون، و تخرص متخرصون، و رماني رماة بالتطاول الآثم علي مقام طائفة رائدة- كأبي بكر و عمر و عثمان و معاوية وابن العاص و غيرهم- من ذوي القدمة أو البلاء أو المكانة في المجتمع الإسلامي المتقدم، مشهود لهم- و لا أدري ممن- بالعصمة!... و يشهد الله أنني، و إن عرضت لهم، لم أعرض بهم... و إن تناولت جوانب من حياة بعضهم، فتناولي لم يكن افتئاتا عليهم، و لا هضما لهم أو لغيرهم من صانعي التاريخ الإسلامي إبان فجره.. إنما قد رسمت صورهم بريشة ناقد لا حاقد. و ذكرت سيرهم مقرونة بالحق كما تبينته، و كما قادني إليه اجتهاد بحثي... ما تأولت علي أحد منهم غير رأيه. و لا تقولت غير قوله. و لا أخذتهم فرادي و جمعا إلا بالمعلوم المشهور من نصوص أحاديثهم و دعاواهم، و ضروب فعالهم و سلوكهم التي حفظتها لنا بطون الأسفار...
فكيف الام؟
و بأية حجة بحق علي أن أوثم، و ما من إثم اقترفته في حق أولئك «المعصومين!» يوجب التأثيم؟.
لئن كنت أشرت- و لا أنكر- إلي هنة في تصرف هذا الفرد منهم، أو تصرف ذاك، فإنني كما سبق القول، لم أكن إلا ناقلا عنهم ذكر بعض ما فعلوه أو قالوه، واعترفوا بفعله و بقوله، بالسلوك الصريح واللسان المبين، و هم في معرض اعتزاز و إدلال، أو بمقام تعليل و تدليل...
لكنه منطق الشنآن...
غير أنني الآن أتناسي ما كان، و أقتحم ما أرادني الأخ، «الرضوي» علي اقتحامه، فأجتاز الهوة من حافه إلي حافة، علي ذلك الخيط الدقيق كالشعرة،
ص: 5
الحديد كالشفرة، لعلي أستطيع ان أدلي بكلمة حق، يشرفني كل التشريف أن تتصدر صفحات هذا الكتاب الجليل، الذي يؤكد ذلك الحق الذي سلبته الزهراء...
لقد وجدتني و أنا أتامل: كتاب «فدك» إنما كنت أتأمل حشدا من الأسانيد لإثبات ما ليس بحاجة إلي إثبات!!
ثم وجدتني أيضا أتساءل: كيف السبيل إلي مقدمه تليق بأن تتصدر صفحاته، و تطالع قارئه بما ينبغي أن يقال فيه؟...
ان التقديم لهذا الكتاب في حاجة إلي سعة كتاب!...
و لا عجب...
فليست تكفي بضعه أسطر، و لا بضع صفحات للتعريف به حق التعريف، و إلقاء ضوء علي جوانبه يضعه تحت الأعين علي هيئة تقترب من نطاق التفهم الهادي ء، و في إظار من حديث عقلي ميسر، يخاطب الذين ينكرون اتجاهه، أو يواكبونه علي السواء...
ذلك أن أرض فدك- نحله كانت أو ميراثا- هي حق خالص لفاطمة لا يمكن المماراة فيه.
والذين يمعنون النظر في نقاش أبي بكر للزهراء، لا يغيب عنهم أن الخليفة الأول لم ينكر علي سيدة نساء العالمين دعوة النحلة، لكنه لم يقبلها بسبب افتقارها إلي سلامة العدد والنوعية في شهود التأييد.
و قد يري راؤون ألا تثريب علي الشيخ إذ فعل، لأنه أنما أبي الأخذ بشهادة منقوصة، او أبي الاعتداد بحيجة شهادة الزوج والأولاد.
و لقد يري راؤون أيضا ألا تثريب عليه، إذ قد عدا مقام فاطمة و علي والحسنين- و إنهم لأهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا-
ص: 6
فمال بهم إلي مرتبة من عداهم من المسلمين، الذين تجوز فيهم التهمة، و ترقي إليهم الشبهات...
لا تثريب عليه في الحالين (1) ، كما يذهب ذاهبون، إن نحن أخذنا بنظرة يومنا هذا إلي الأمور، فرأينا أبابكر في الأولي يمتثل حرفية القانون، و في الثانية يلتزم جادة المساواة، أخذا بمقولة الا تنهض الشهادة إلا برجلين، أو برجل و امرأتين كنص الآيه الكريمة واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل و امرأتان ممن ترضون من الشهداء» (2) ... ثم سيرا علي نهج التسوية في التعبات بين المسلمين عامة، و خاصة، تطبيقا لحديث رسول الله حين جاءه من تشفع عنده في سارقة ذات شرف، فأبي و قال: «لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها».
والرأي أن الأصل في فدك أنها ملك خالص لرسول الله، يجوز أن تكون قد بقيت له حتي وفاته، و يجوز أن يكون قد أنحلها ابنته قبل الوفاة...
فإن كانت له فإنها خليفة بأن تؤول لفاطمة بحق الميراث.
فإن طعن بحديث: «لا نورث (3) ..» و قيل بل تسري عليهما قاعدة الصدقة
ص: 7
حق أن نتساءل: و لماذا لم يعمل النبي فيها حديثه هذا فيتصدق بها و هو يعد علي قيد الحياة؟...
لقد ثبت أنه صلوات الله عليه، كان يملك قبيل وفاته سبعة دنانير، خاف أن يقبضه الله و هي في حوزته فأمر أهله أن يتصدقوا بها، و ألح عليهم... فلما أن أنساهم أمرها تلهفهم عليه، لم تنسه هو حشرجته، فطاردهم بسؤاله عن المال حتي جاءوه به. و عندئذ وضعه في كفه و قال:
«ما ظن محمد بربه لو لقي الله و عنده هذه!».
ثم أمر فتم التصدق بها علي الفقراء...
فهل يمكن القول بأن رسول الله- الذي لم يغفل عن الدنانير علي قلتها- يغفل أمر الأرض و هي أكثر الكثر؟
أم يمكن القول بأن الصدقة مقصورة علي المال السائل، أو المال المنقول، مصداقا لقول الله في محكم التنزيل:
«والذين يكنزون الذهب والفضة و لا ينفقونها في سبيل الله...؟
كلا لم يتصدق محمد بفدك لأنها لا تقع في مجال تطبيق ذلك الحديث المنقول عن أبي بكر، فلم تكن ملكا له، بل كانت ملكا لسواه... ملكا لابنته الزهراء، لم ينازعها في ملكها أحد من الناس كما هو ثابت في التاريخ.
و مع ذلك فالحديث في هذه القضية بطول و يطول إلي ما يفيض عن حدود مقدمة تلم الماما بموضوع الكتاب.
و لعل الله أن يهيي ء لنا فسحة قابلة لإسهاب يفي بمناقشة تتناول المسألة بالتفصيل.
الاسكندرية: ديسمبر 1975 م عبدالفتاح عبدالمقصود
ص: 8
هو آية الله الملك العلام: السيد محمد حسن الموسوي القزويني نجل العلامة الجليل السيد محمد باقر الشهير ب(الحاج أقامين) ابن العالم التحرير ميرزا مهدي أخ المرجع الديني صاحب (الضوابط).
يتصل نسبه من جهة أبيه إلي الإمام موسي بن جعفر عليهماالسلام، و من جهة الأم إلي الامام السبط الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام. وجده لوالديه العلامة السيد محمد المجاهد ابن صاحب (الرياض).
ولد في كربلاء المشرفة سنة 1296 هجرية يوم عرفة، و نشأ فيها بين أسرته العريقة.
تلقي مبادي ء العلوم في كربلاء علي أساتذة قديرين، و تفوق علي علمي الفقه والأصول.
هاجر إلي النجف الأشرف في سن الثانية والعشرين من عمره الشريف سنة 1319 ه لبلوغ درجة الاجتهاد، حيث النجف الأشرف حاضرة العلم و معقل الفقه والاجتهاد، فأخذ يرتاد حلقات الدروس العالية، و اختص بعدد من شيوخ العلم و أساطين الفن.
تتلذ علي يد المحقق الخراساني في الفقه، و لازمه مدة عشر سنوات إلي أن توفي أستاذه رحمه الله، و كتب محاضراته في الفقه والأصول بدقة و إتقان. و تتلذ- أيضا- عند الفقيه الأعظم السيد محمد كاظم الطباطبائي- طاب ثراه-
ص: 9
و لازمه ما يقارب خمس سنوات، كما تتلذ عند العالم التحرير الشيخ هادي الطهراني في أصول الفقه فترة و جيزه حتي أدركت أستاذه الوفاة، و تتلذ- كذلك- عند آية الله شيخ الشريعة المتوفي سنة 1339 هجرية.
هاجر من النجف الأشرف إلي سامراء: بعد سنة من وفاة أستاذه المحقق الخراساني صاحب (الكفاية) أي في سنة 1329 هجرية، و كان ذلك في عهد الإمام الميرزا محمد تقي الشيرازي زعيم الثورة العراقية. و كانت سامراء- يومئذ- حاضرة للعلم والفضيلة، و مكث هناك ثلاث سنوات جمع- خلالها- قسما من تقريرات أستاذه (الآخوند) في الفقه والأصول و كتب- أيضا- شرحا مزجيا علي متن (اللمعة الدمشقية) طبع منه كتاب الطهارة. و بقي- هناك- محورا للعلم والتدريس. و عندما نشبت الحرب العالمية و انعكست أوضاعها علي الحوزات العلمية قفل راجعا إلي سقط رأسه كربلاء المشرفة، و ذلك بعد وفاة والده المقدس سنة 1330 هجرية.
الف: (هدي الملة إلي أن فدكا نحلة) طبع في النجف الأشرف 1352 هجرية و (البراهين الجلية في دفع تشكيكات الوهابية) طبع في النجف الأشرف أيضا. و (المناهج الحائرية في نقض كتاب الهداية السنية) أو (التحفة الإمامية في دحض حجج الوهابية) و كتاب (الإمامة الكبري والخلافة العظمي) (1) ، في ثمانية أجزاء، طبع الجزء الأول في النجف الأشرف سنة 1377 هجرية. و بقيت الأجزاء الأخري مخطوطه- و قد ألف هذا الكتاب برغبة من أستاذه المحقق الخراساني ردا علي كتاب «منهاج السنة» لعبدالحليم بن تيمية.
توفي المؤلف السعيد في كربلاء المشرفة يوم 28 من رجب سنة 1380 هجرية و دفن في مدرسة «البقعة» و شيعته العيون بالدموع، والقلوب بالحسرات، و أصيب الإسلام بفقده ثلة و خساره لا تعوض، ولكن آثاره الخالدة، و خدماته الإسلامية و دفاعه عن الدين و أهل بيت سيد المرسلين أبقته حيا خالدا علي مر العصور.
ص: 10
باقر المقدسي
ليسانس في اللغة العربية والعلوم الإسلامية
من كلية الفقه في النجف الأشرف
ص: 11
بسم الله الرحمن الرحيم
توفي النبي صلي الله عليه و سلم و استولي أبوبكر و حزبه علي الخلافة الإسلامية، و امتنع الهاشميون و شيعتهم من الانقياد للحزب الحاكم فرأي الحاكمون تقوية أنفهسم و إضعاف الجبهه المعارضة لهم بكل وسيلة فوضعوا اليد علي أهم مواردهم الاقتصادية و هي «فدك»، و ما أفاء الله علي رسوله في المدينة و ما بقي من سهم رسول الله بخيبر و سهم ذي القربي.
و كانت الزهراء فاطمة صاحبة النصيب الأكبر في هذا... و من هنا تقدمت للطلب بحقها في ثلاث دعا و متلاحقة هي: دعوي النحلة، دعوي الميراث، دعوي سهم ذي القربي، ولكن القوم أخذوا الاحتياطات الكافية لصدها عن حقها، والغاصب للخلافة مع تلك النصوص المتكاثرة يسهل عليه غصب ما سواها مهما كان بيد الزهراء من مستمسكات و بينات، و مهما كان لديها من شهود إثبات.
و نحن بعد أربعة عشر قرنا ليس من السهل علينا معرفة ملابسات هذه الدعاوي الثلاثة نظرا لقلة ما بأيدينا من أخبار تلك المحاكمات، و سببه أمران، الأول: لأن الخصم والحكم كانت السلطة نفسها، والثاني: لأن المورخين أعرضوا عن ذكر أمثال هذه الأمور و اخفوا معالمها إما رغبة او رهبة، فلم يصل إلينا من أخبارها الا النزر اليسير مع تلاعب الايدي و الأهواء فيها، ولكننا مع هذا كله سنبذل الجهد للكشف عن الحقيقة، و لمعرفة ذي الحق في المنازعات التي جرت بين الزهراء و غاصبيها، اعتمادا علي الأخبار الواردة في هذا الباب، و استنادا إلي القواعد الشرعية الحاكمة في هذه المنازعات، و اننا نستعرض الدعاوي الثلاثة للزهراء حسب ترتيبها التاريخي.
و كانت تدور دعوي النحلة حول فدك بأن رسول الله أنحلها إياها في حياته، و هي قرية تبعد عن المدينة مسافة يومين أو ثلاثة، أرضها زراعية خصبة، فيها عين
ص: 12
فوارة و نخيل كثيرة (1) يقدر نخيلها بنخيل الكوفة في القرن السادس الهجري (2) .
أما وارادتها فقدروا فيها نصابه الأول 24 ألف دينار في السنة، والثاني 70 ألف (3) ، و يمكن توجيه النصيبين باختلاف السنين في كمية الثمر.
كان جماعة من اليهود يسكنون فدك و يستثمرونها حتي السنة السابعة للهجرة، فلما حارب النبي صلي الله عليه و سلم يهود خيبر لنقضهم عهود المصالحة المبرمة بينهم و بين رسول الله و فتح حصونهم و بقي حصنان (4) أو ثلاثه (5) منها لم تفتح، حاصرهم رسول الله فلما اشتد بهم الحصار، راسل أهلها النبي صلي الله عليه و سلم، علي أن يؤمنهم علي حياتهم و ينزلوا له عن حصونهم و أراضيهم. فقبل النبي صلي الله عليه و آله بعرضهم هذا، فانجلوا عن حصونهم و تركوها للمسلمين.
و الانتصار الذي أحرزه المسلمون يوم خيبر ارعب أهل فدك كما أن الا تفاقية الاخيرة بين النبي صلي الله عليه و سلم و أهل الحصون فتحت بابا للأمل عندهم. و لذا لما جاءهم رسول النبي صلي الله عليه و سلم بعد ذلك- يدعوهم إلي الإسلام- أبو أن يسلموا، ولكنهم استعدوا أن يقدموا نصف أرضهم للنبي صلي الله عليه و سلم مع الاحتفاظ لأنفسهم بالنصف الآخر علي ان يعملوا في أرضهم و أرض رسول الله، و متي ما شاء النبي أن يجليهم عن أرضهم فعل، شريطة أن يعوضهم عن أتعابهم و أرضهم. فصارت فدك ملكا لرسول الله بنص القرآن الكريم «و ما أفاء الله علي رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل و لا ركاب ولكن الله يسلط رسله علي من يشاء والله علي كل شي ء قدير»، فكان يتصرف في فدك حسبما يشاء إلي أن نزل «و آت ذاالقربي حقه» فاستوضح رسول الله من جبرائيل مراد الآية فقال له: اعط فاطمة فدكا لتكون بلغة لها
ص: 13
و لأولادها و ذلك عوض ما بذلته أمها خديجة من أموال و جهود في سبيل الإسلام.
فدعا النبي صلي الله عليه و سلم فاطمة و أعطاها فدكا و انتهت بهذا ملكية النبي صلي الله عليه و سلم لفدك و صارت ملكا للزهراء تتصرف فيها تصرف المالك بملكه. و بقي الأمر هكذا حتي توفي النبي (ص) و استولي أبوبكر علي الخلافة الإسلامية فوضع اليد علي فدك و انتزعها من يد الزهراء فابتدأ النزاع بينها و بينه فطالبته بفدك علي أنها نحلة و عطية من أبيها. فطلب أبوبكر منها إقامة البينة علي دعواها مع أنها صاحبة اليد، والتصرف واليد حجه و امارة علي الملكية، و ليس علي صاحب اليد البينة، بل البينة علي غير صاحب اليد و هو المدعي، و صاحب اليد يكون مدعي عليه «و يدل علي أن اليد لها لفظ الإيتاء في الآية (1) - والاقطاع والإعطاء في الأخبار، فإنها ظاهرة في التسليم والمناولة كما يشهد لكون اليد لها دعواها النحلة و هي سيدة النساء و أكملهن، و شهادة أقضي الأمة (علي) بها لأن الهبة لاتتم بلا إقباض، فلو لم تكن صاحبة اليد لما ادعت النحلة، و لرد القوم دعواها بلا كلفة و لم يحتاجوا إلي طلب البينة» (2) ، «علي أن البينة طريق ظني مجعول لإثبات ما يحتمل ثبوته و عدمه، فلا مورد لها مع القطع واليقين المستفاد في المقام من قول سيدة النساء التي طهرها الله تعالي و جعلها بضعةه من سيد أنبيائه، لأن القطع طريق ذاتي إلي الواقع لا بجعل جاعل فلا يمكن رفع طريقتيه أو جعل طريق ظاهري علي خلافه، فالمفروض بالزهراء أنها صادقة و قد شهد الله و رسوله لها بالصدق و لا يسلم إسلام أي أحد أن يقول: الزهراء كاذبة.
والخليفة الأول كان يعلم تمام العلم بأنها صادقة، ولكنه مع هذا طالبها بالبينة، و جعلها مدعية بعد أن كانت صاحبة اليد والتصرف، و أنها مدعي عليها ولكن الحق مع القوة.
و دعوي القوي كدعوي السباع
من الظفر والناب برهانها
ص: 14
فاضطرت حينئذ أن تقيم البينة علي نحلتها، و هنا روايات متعددة تشعر بأن الزهراء احضرت الشهود عند أبي بكر عدة مرات و كانوا يختلفون من حيث العدد و في كل مرة يردها بطريقة خاصة ففي المرة الأولي قدمت عليا و أم أيمن، فقال لها أبوبكر أبرجل و امرأة تستحقينها؟ و في رواية قد علمت يا بنت رسول الله أنه لا يجوز الا شهادة رجل و امرأتين. والزهراء تعلم تماما بأن المحاكمات العادية تحتاج إلي شهادة رجلين أو رجل و امرأتين، ولكن قضيتها لم تكن كسائر المحاكمات إذ ليس لها خصم في دعواها حتي تحتاج إلي ما تحتاجه سائر الخصومات، بل هي قضية شخصية عائلية كانت تحتاج إلي شاهد و أحد يصدق قولها- إذ المفروض بأبي بكر أن يكون حاكما و قاضيا، لا أن يكون طرفا في النزاع و خصما لها. ولكن الخليفة جعل نفسه خصما و حكما في آن واحد.
فالتجأت الزهراء حينئذ أن تقدم شهودا أكثر...
ففي المرة الثانية قدمت عليا و أم أيمن و أسماء بنت عميس والحسنين (1) . و هنا صار الخليفة و صاحبه امام أمر واقع فحاولا التخلص من الموقف والتهرب من الحق فالتجأوا إلي لمغالطة فجرحا الشهود قائلين: أما علي فزوجها، والحسنان ابناهما و هم يجرون إلي أنفسهم، و أسماء بنت عميس كانت تحت جعفر بن أبي طالب فهي تشهد لبني هاشم، و أما أم أيمن فامرأة أعجمية لا تفصح.
و جاء المتأخرون من أتباع أبي بكر و عمر والمدافعين عنهما فأعطوا الموضوع صبغة علمية
قال ابن حجر في الصواعق «إن في قبول شهادة الزوج لزوجته خلافا بين العلماء و أن شهادة الفرع والصغير غير مقبولة (2) أي لأنهم يجرون إلي أنفسهم، و لم يكن لهم
ص: 15
من حجة و مدرك سوي سيرة الشيخين والحمد لله الذي جعل الشيخين من جملة المشرعين فيجب الاقتداء بهم.
و علي فرض صحة قولهم في الزوج والفرع، فان عليا والحسنين ليسوا موضع تهمة، و لم يشهدوا زورا ليجروا إلي أنفسهم، فهم من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا، و هم من باهل بهم رسول الله نصاري نجران، و هم من نزلت في حقهم عدة سور و آيات. و هم الذين شهد النبي لهم بالجنة، و فضائلهم لا تحصي، فهل يسلم إسلام أحد أن يتهمهم بالباطل والكذب علي رسوله، و الاجحاف بحق المسلمين من أجل أنفسهم؟
و هل يشك أحد في صدق علي و إيمانه و ورعه و هو القائل «والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها علي أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته، و إن دنياكم عندي أهون من ورقة في فم جرادة تقضمها، ما لعلي و لنعيم يفني و لذة، لا تبقي»، و كل الناس يعرفون عليا بالصدق و لا يناقض فعله قوله.
و أما ماقيل عن الحسنين بأنهما كانا طفلين لا يعتمد علي شهادتهما (1) فالجواب عنه هو أن صغر سنهما لا يؤثر في صدق قولهما و قبول شهادتهما، لأن النبي صلي الله عليه و سلم قبل بيعتهما، والبيعة عقد من العقود و شرطها البلوغ، فهل تري أن النبي صلي الله عليه و آله كان لا يعلم بهذا الشرط؟ أم أنه علم به، ولكن قبل بيعتهما، لأن لهذا حكما خاصا؟ والشهادة دون البيعة بمراتب و إذا قبلت بيعتهما فبالأحري أن
ص: 16
تقبل شهادتهما مع أن سنهما عند الشهادة كان أكبر بكثير من سنهما عند البيعة.
و أما أسماء بنت عميس المرأة التي شهد النبي صلي الله عليه و سلم بأنها من أهل الجنة فقد اتهموها بحب بني هاشم فأسقطوا شهادتها، فهل الحب مسقط للشهادة؟ و هل المفروض بالإنسان أن يشهد له أعداؤه حتي يثبت حقه؟.
و أم أيمن المرأة الثانية التي شهد النبي صلي الله عليه و سلم بأنها من أهل الخير و أهل الجنة... فقد أسقطوا شهادتها زاعمين أنها أعجمية لا تفصح، فهل من شروط الشهادة: العربية والفصاحة؟ و هل الصدق عند العرب فقط؟ و أن بقية المسلمين لا تقبل شهادتهم؟ و إلي هذا الموقف أشار شريف مكة قائلا:
ثم قالت فنحلة لي من والد
ي المصطفي فلم ينحلاها
فأقامت بها شهودا فقالوا
بعلها شاهد لها و ابناها
لم يجيروا شهادة ابني رسول
الله هادي الأنام إذ ناصباها
لم يكن صادقا علي و لا فاطم
ة عندهم و لا ولداها
كان أتقي لله منهم عتيق
قبح القائل المحال وشاها
و أخيرا رجع الشهود علي أعقابهم يجرون أذيال الخيبة متألمين من رد شهادتهم و تجريح القوم إياهم، مما حدا بالآخرين الذين يعلمون بإعطاء النبي فدكا للزهراء أن يحجموا عن الشهادة، كأبي سعيد الخدري وابن عباس الذين رويا أن النبي أعطي فاطمة فدكا و ذلك خوفا من أبي بكر و أعوانه لما رأوه من شدتهم علي أهل البيت، و علما بأن شهادتهم ستره، كما ردت شهادة علي والحسن والحسين و أم أيمن و أسماء بنت عميس.
ولكن الزهراء لم تكف عن مطالبتها بفدك آملة نجاح مساعيها و هادفة إقامة الحجة علي غاصبيها فأعادت الكرة عليه ثالثة، و في هذه المرة لما رأي أبوبكر إلحاحها الشديد أراد أن يوصد الباب في وجهها و يقطع عليها خط العودة لتكف عن الطلب
ص: 17
فقال لها «إن هذا المال لم يكن للنبي و إنما كان مالا من أموال المسلمين يحمل النبي به الرجال و ينفقه في سبيل الله، فلما توفي وليته كما كان يليه» (1) ، إذن ففدك علي رأي أبي بكر ليست ملكا للنبي صلي الله عليه و سلم حتي يعطيها لمن يشاء بل هي ملك للمسلمين، و معني ذلك أن الزهراء لو أقامت سبعين بينة و شاهدا علي أن النبي صلي الله عليه و سلم أنحلها فدكا لا يعطيها أبوبكر إياها بحجة أنها ليست للنبي و ليس له أن يعطيها لفاطمة. و هذا خروج علي حكم الله إذ يقول: «و ما أفاء الله علي رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل و لا ركاب ولكن الله يسلط رسله علي من يشاء والله علي كل شي ء قدير».
فالله تعالي جعل فدكا لرسول الله، و أبوبكر يأبي ذلك و إذا صح ما قاله الخليفة أن هذا المال لم يكن للنبي و إنما كان مالا من أموال المسلمين فلماذا لم يرد الزهراء من أول و هلة بهذا الكلام؟ و لماذا طالبها بالبينة؟ ثم لماذا اتهم الشهود؟!
و لما بلغ الأمر إلي هذا الحد انسحبت الزهراء من الميدان، و ذهبت تشكو حالها إلي ابن عمها علي عليه السلام؟ قائلة «هذا ابن أبي قحافة يبتزني نحلة أبي، و بلغة إبني، لقد أجهد في خصامي، و ألد في كلامي».
و كانت تدور دعوي الميرات حول ثلاثة أشياء: فدك، ما أفاء الله علي رسوله في المدينة، ما بقي من سهم رسول الله بخيبر (2) .
أولا- فدك- طالبت الزهراء بفدك إرثا بعد ما أخفقت في الحصول عليها نحلة، و لصاحب الحق أن يسلك أي طريق مشروع يوصله إلي حقه حتي إذا تعددت الدعاوي عنده، و هذا شي ء يقره الشرع والقانون المدني، فعلي اعتبار أن فدك مما أفاء
ص: 18
الله به علي رسوله فإذا لم تنتقل في حياته إلي الزهراء حسب زعم أبي بكر، فلا بد أن تنتقل إليها بعد وفاته بالميراث، لأنها الوريثة الشرعية الوحيدة لأبيها رسول الله علي رأي الشيعة، أو أن العباس يشاركها علي رأي السنة القائلين بالتعصيب.
ثانيا- ما أفاء الله علي رسوله في المدينة، أو ما كان لرسول الله بالمدينة، او ما يعبر عنه بصدقة النبي صلي الله عليه و آله بالمدينة- إذ كانت النبي صلي الله عليه و سلم أموال في المدينة أفاءها الله عليه، و هي الحوائط السبعة التي و هبها مخيريق اليهودي من بني النضير يوم أحد لرسول الله.
قال السمهودي في وفاء الوفا 2/ 153، قال المجد، قال الواقدي: كان مخيريق أحد بني النضير حبرا عالما فآمن بالنبي صلي الله عليه و سلم، و جعل ماله- و هو سبع حوائط- لرسول الله.
و قال: روي ابن زباله عن محمد بن كعب أن صدقات رسول الله كانت أموالا لمخيريق اليهودي فلما كان يوم أحد قال لليهود: ألا تنصرون محمدا فوالله إنكم لتعلمون أن نصرته حق، قالوا: اليوم السبت، قال: فلا سبت لكم، و أخذ سيفه فمضي مع النبي صلي الله عليه و سلم فقاتل حتي أثخنته الجراح، فلما حضرته الوفاة قال: أموالي إلي محمد يضعها حيث يشاء، و كان ذا مال، فهي عامة صدقات النبي صلي الله عليه و سلم.
و أمواله هذه التي أوصي بها هي بساتينه السبع، و هي: الدلال، و برقة، والصافية، والمثيب، و مشربة أم ابراهيم، و الأعواف، و حسني، و أوقفها النبي صلي الله عليه و سلم علي خصوص فاطمة و كان يأخذ منها لأضيافه و حوائجه، و عند وفاتها أوصت بهذه البساتين و كل ما كان لها من مال إلي أميرالمؤمنين عليه السلام.
و قال: مخيريق سابق اليهود، و سلمان سابق فارس. و بلال سابق الحبشة،... و قال في «مجمع البحرين» مادة حسن: الحسني أحد الحيطان الموقوفة علي فاطمة عليهاالسلام.
ص: 19
فظهر من هذه الروايات أن النبي صلي الله عليه و سلم أعطي فاطمة الحوائط السبعة و أوقفها عليها، ولكن أبابكر استولي علي فدك، فطالبت الزهراء بها ميراثا من أبيها رسول الله مع أن النبي صلي الله عليه و سلم أوقفها عليها في حياته تماما كفدك التي أنحلها إياها أبوها في حياته، ولكنها طالبت بها ميراثا بعد أن لم تستطع الحصول عليها عن طريق النحلة.
ثالثا- ما بقي من سهم رسول الله بخيبر- لقد أثبت القرآن الكريم حقا لله و لرسوله في الغنيمة فقال «واعلموا أنما غنمتم من شي ء فأن لله خمسه و للرسول و لذي القربي واليتامي والمساكين وابن السبيل» و من جملة ما غنمه المسلمون أموال يهود خيبر، فأخذ النبي صلي الله عليه و سلم سهمه و سهم الله و سهم ذي القربي و أعطي المسلمين سهامهم. روي الطبري في تاريخه 3/ 19 قال: «كانت المقاسم علي أموال خيبر علي الشق، و نطاه، والكتيبة، فكانت الشق و نطاه في سهام المسلمين، و كانت الكتيبة خمس الله عز و جل و خمس النبي و سهم ذوي القربي واليتامي والمساكين وابن السبيل» فالنبي صلي الله عليه و سلم قدعين لنفسه و لذويه حصن الكتيبة و ميزه عن سهام المحاربين، فملك النبي و ذووه حصن الكتيبة بأشخاصهم. و للزهراء في خمس خيبر حقان، حق من حيث أنها شريكة رسول الله صلي الله عليه و سلم، و حق من جهة ميراثها لحقه و قد استولي أبوبكر علي خمس خيبر كله فمنعها الحقين.
والجدير بالذكر أن ما بقي من سهم رسول الله بخيبر لم يخص فاطمة وحدها بل يعم ورثة رسول الله جميعا و لهذا طالبت زوجات النبي صلي الله عليه و سلم أبابكر بحقهن من سهم رسول الله، فقد روي ياقوت الحموي عن عروة ابن الزبير أن أزواج رسول الله أرسلن عثمان بن عفان إلي أبي بكر يسألن مواريثهن من سهم رسول الله، فقال أبوبكر: سمعت رسول الله يقول: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» إنما هذا المال لآل محمد لنائبتهم وضيقهم، فإذا مت فهو إلي ولي الأمر من بعدي.
و نحن نلاحظ أن زوجات النبي صلي الله عليه و سلم لم يطالبن بفدك و لا الحوائط السبعة ميراثا
ص: 20
لأنهن يعلمن علم اليقين بأنها لفاطمة عليهاالسلام، و ما طلبتها بهما عن طريق الإرث ذريعة للحصول عليهما و إلا فقد ملكتهما فاطمة في حياة رسول الله صلي الله عليه و سلم.
و علي كل حال إن دعوي الميراث كما ذكرنا، كانت تدور حول هذه الأشياء الثلاثة، و طالبت الزهراء بها منفردة و مجتمعة، و كانت تأتيه حينا مع عمها العباس و آونة وحدها.
فمرة طالبت بفدك وحدها، و ثانية طالبت بسهم رسول الله وحده، و ثالثة طالبت بفدك و سهم رسول الله معا. و رابعة طالبت بفدك و سهم رسول الله و ما أفاء الله عليه في المدينة مجتمعة.
و في كل مرة كان أبوبكر يردها بحديث خاص عن النبي صلي الله عليه و سلم انفرد باستماعه.
فمرة يقول لها: إني سمعت رسول الله يقول: إن النبي لا يورث (1) .
و مرة يقول لها: إن رسول الله قال: لا نورث، ما تركناه صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال- أو في هذا المال (2) .
و مرة يقول لها: سمعت رسول الله يقول إنما هي طعمة أطعمنيها الله، فإذا مت كانت بين المسلمين (3) ، أو إنما هي طعمة أطعمنيها الله في حياتي، فإذا مت فهي بين المسلمين (4) .
و مرة يقول لها: حدثني رسول الله أن الله يطعم النبي الطعمة ما كان حيا، فإذا قبضه الله إليه رفعت (5) .
ص: 21
و مرة يقول لها إني سمعت رسول الله يقول: إذا أطعم الله نبيا طعمه ثم قبضه كانت للذي بعده، فلما وليت رأيت أن أرده علي المسلمين (1) .
أو سمعت رسول الله يقول: إن الله إذا أطعم نبيا طعمه فهي للذي يقوم بعده (2) .
و مرة يقول لها- سمعت رسول الله يقول: نحن معاشر الأنبياء لا نورث ذهبا و لا فضة و لا دارا و لا عقارا، و إنما نورث الكتاب والحكمة والعلم والنبوة، و ما كان لنا من طمعه فلولي الأمر بعدنا أن يحكم فيه بحكمه.
و هكذا حلول التأكيد علي أن النبي لا يورث و ما تركه صدقة، و معني ذلك أن الأموال التي كانت تحت يد الرسول كانت طعمة له في حياته و كان يتصرف فيها باعتباره ولي أمر المسلمين لا أنها ملكه الشخصي، و سيكون أمرها من بعده الي ولي الأمر الذي يقوم بعده، و لا تصل إلي ورثته لأنه ما كان يملكها. و قد رأي أبوبكر باعتباره ولي الأمر أن يردها إلي المسلمين، و هنا يناقض الحديث الذي رواه عن النبي صلي الله عليه و سلم «إنما هي طعمة أطعمنيها الله فإذا مت كانت بين المسلمين» ففي هذا الحديث يخبر النبي صلي الله عليه و سلم أنها للمسلمين من بعده. و في ذاك الحديث يخبر النبي بأنها لولي الأمر من بعده يحكم فيها بحكمه. و قد رأي ردها إلي المسلمين لا إعطاءها للمسلمين، فكأن النبي صلي الله عليه و سلم كان قد أخذها من المسلمين و أبوبكر ردها عليهم.
و إذا كانت تركة النبي صلي الله عليه و سلم طعمة له في حياته و أمرها إلي ولي الأمر أو إلي المسلمين من بعده، فماذا تجدي احتجاجات الزهراء و استدلالاتها بثبوت التوارث بين الأنبياء و أولادهم، فهي إن قدمت سبعين دليلا علي أن الأنبياء يورثون لا تحصل
ص: 22
علي شي ء من تركة أبيها، و إذن فهذه محاوله من الخليفة في صد الزهراء عن حقها في الميراث بعد أن اثبتته في خطبتها و مجادلاتها مع الرجال تماما، كما كان في أمر النحلة، فهناك بمجرد أن أكملت شهود الإثبات، اتهم الشهود و سد باب النحلة بقوله: إن هذا المال لم يكن للنبي صلي الله عليه و سلم و إنما كان مالا من المسلمين.
و هنا لما فندت مزاعم الخليفة في عدم التوارث بين الأنبياء و أولادهم سد باب الإرث بقوله سمعت رسول الله يقول: «إنما هي طعمة أطعمنيها الله في حياتي، فإذا مت فهي بين المسلمين. و ما كان لنا من طعمة فلولي الأمر بعدنا أن يحكم فيها بحكمة».
و ماذا تقول الزهراء حينئذ؟ أنقول حاشا النبي أن يقول هذا؟ فما دليلها علي ذلك؟ أو تقول للخليفة: أنت تكذب علي رسول الله، فما حجتها؟
لذا انسحبت من الميدان مهيضة الجناح، تذرف دموع اليأس، شاكية حالها إلي أبيها رسول الله قائلة:
قد كان بعدك أنباء و هنبثة
لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
إنا فقدناك فقد الأرض و ابلها
واختل قومك فاشهدهم فقد نكبوا
أبدي رجال لنا نجوي صدورهم
لما مضيت و حالت دونك الترب (1) .
و قد أجاد الشاعر الكبير فتادة بن إدريس شريف مكة و صفه مطالبه الزهراء بإرثها من أبيها، و جواب القوم لها و احتجاجها عليهم قائلا:
وأتت فاطم تطالب بالإرث
من المصطفي فما ورثاهما
ليت شعري لما خولفت سنن القر
آن فيها والله قد أبداها
رضي الناس إذ تلوها بما لم
يرضي فيها النبي حين تلاها
نسخت آية المواريث منها
أم هما بعد فرضها بدلاها
ص: 23
أم تري آية المودة لم تأ
ت بود الزهراء في قرباها
ثم قالا أبوك جاء بهذا
حجة من عنادهم نصباها
قال: للأنبياء حكم بأن لا يورثوا
في القديم و انتهراها
أفبنت النبي لم تدر إن كا
ن نبي الهدي بذلك فاها
بضعة من محمد خالفت ما قا
ل حاشاها مولاتنا حاشاها
سمعته يقول ذاك و جاءت
تطلب الإرث ضلة و سفاها
هي كانت لله أتقي و كانت
أفضل الخلق عفة و نزاها
أو تقول النبي قد خالف القر
آن ويح الأخبار ممن رواها
سل بإبطال قولهم سورة النمل
وسل مريم التي قبل طاها
فهما ينبئان عن إرث يحيي
و سليمان من أراد انتباها
فدعت و اشتكت إلي الله من
ذاك و فاضت بدمعها مقلتاها
قال ابن أبي الحديد في شرح النهج 16/ 330 «واعلم أن الناس يظنون أن نزاع فاطمة
أبابكر كان في أمرين: في الميراث و النحلة، و قد وجدت في الحديث أنها نازعت في
أمر ثالث و منعها أبوبكر إياه أيضا، و هو سهم ذوي القربي.
تقدمت الزهراء إلي أبي بكر بدعوي ثالثة و هي المطالبة بسهم ذوي القربي من خمس الغنائم المنصوص عليه في القرآن الكريم بقوله: «واعلموا أنما غنمتم من شي ء فأن الله خمسه و للرسول و لذي القربي واليتامي والمساكين وابن السبيل» (1) .
فقد فرض الله تعالي في هذه الآية لذوي القربي حقا في الخمس قصره عليهم.
كما أن النبي صلي الله عليه و سلم كان يخص أقاربه بسهم من الخمس و يخص نفسه بسهم آخر، و لذا قسم أموال خيبر و أعطي المسلمين حقهم، و جعل الكتيبة خمس الله و خمس النبي و سهم ذوي القربي واليتامي والمساكين وابن السبيل» ذكره الطبري في تاريخه 3/ 19
ص: 24
و روي أحمد في مسنده 1/ 320 أن نجدة الحروري سأل ابن عباس عن سهم ذي القربي، فقال: هولنا، لقربي رسول الله، قسمه رسول الله لهم.
و في صحيح مسلم عن يزيد ين هرمز كتب إليه: إنك سألتني عن سهم ذي القربي الذين ذكرهم الله، من هم؟ و إنا كنا نري أن قرابة رسول الله هم نحن فأبي ذلك علينا قومنا (1) .
و روي أحمد في مسنده 1/ 83 أن النبي لم يقسم لبني عبدشمس و لا لبني نوفل من الخمس شيئا كما كان يقسم لبني هاشم و بني المطلب، و أن أبابكر لم يكن يعطي قربي رسول الله كما كان رسول الله يعطيهم.
و قال الزمخشري في الكشاف في تفسير آية الخمس: «و عن ابن عباس أنه- اي الخمس- علي ستة اسهم، لله و لرسوله سهمان، و سهم لأقاربه، حتي قبض صلي الله عليه و سلم. فأجري أبوبكر الخمس علي ثلاثة. و كذلك روي عن عمر و من بعده من الخلفاء».
قال أيضا: «و روي أن أبابكر قد منع بني هاشم من الخمس و جعلهم كغيرهم من يتامي المسلمين و مساكينهم و أبناء السبيل منهم».
و روي ابن أبي الحديد عن أبي بكر الجوهري أن أبابكر منع فاطمة و بني هاشم سهم ذوي القربي و جعله في سبيل الله في السلاح والكراع (2) .
فتقدمت الزهراء مطالبة بسهم ذوي القربي، و للزهراء في الخمس حقان: حق من جهه ميراثها لسهم أبيها رسول الله، و حق من جهة سهم ذوي القربي، و أنها شريكة رسول الله في الخمس، و قد منعها الرجل الحقين معا.
فطالبت أبابكر بسهم ذي القربي و استدلت بآية «واعلموا أنما غنمتم من شي ء فأن لله خمسه و للرسول و لذي القربي...» الخ.
ص: 25
فقال لها الرجل: أنا أقرأ من كتاب الله الذي تقرئين منه، و لم يبلغ علمي منه أن هذا السهم من الخمس يسلم إليكم كاملا.
قالت: أفلك هو و لأقربائك؟
قال: لا-
بل أنفق عليكم منه، و أصرف الباقي في مصالح المسلمين.
قالت: ليس هذا حكم الله تعالي،
قال: هذا حكم الله... الخ (1) .
و بعد هذه المواقف الثلاثة تأكدت الزهراء أن هناك خطه مدبرة ضدها و ضد علي عليه السلام و بني هاشم، فهجرت أبابكر بعد أن غضبت عليه و علي صاحبه عمر الذي سانده ضدها، و ماتت و هي واجده عليهما بعد ما أوصت بدفنها ليلا و أن لا يحضر اجنازتها و لا الصلاة عليها.
هذه خلاصة لما جي بين أبي بكر و فاطمة عليهاالسلام من منازعات في الأيام القلائل التي عاشتها الزهراء بعد أبيها، و لم ينته النزاع بانتهاء حياة الزهراء، بل بقي مستمرا عبر التاريخ الإسلامي، بين ورثة الزهراء في الحق و ورثه أبي بكر في الحكم، و بين أنصارهما من جهة أخري.
و للتعريف بصورة مفصلة علي ما جري بين أبي بكر والزهراء حول النحلة و الإرث و سهم ذي القربي علينا أن نقرأ هذا الكتاب الذي ألفه علم من أعلام الشريعة: آية الله الفقيد السيد محمد حسن الموسوي القزويني.
و سماه «هدي الملة إلي أن فدك نحلة» فإنه خير كتاب في هذا المضمار، والذي يزيد من اعتباره أنه حاكم أبابكر علي ضوء القواعد الشرعية و الأخبار المروية في كتب إخواننا السنة، و قد طبع الكتاب سنة 1352 ه في المطبعة الحيدرية في النجف الأشرف، و تفضل علينا مشكورا فضيلة الأستاذ الكبير مرتضي المدرسي الجهار و هي من مكتبته الخاصة في طهران بنسخه مصححة و مزيدة علي يد مؤلفها الفقيد
ص: 26
السعيد، و ذلك خدمة الدين و حفاظا علي التراث الإسلامي الخالد (1) .
و طلب مني الأستاذ الجليل السيد مرتضي الرضوي صاحب مكتبة النجاح تحقيق الكتاب لإعادة طبعه مضيفا إلي خدماته الإسلاميه والعلمية في عالم الثقاقة و النشر خدمة جديدة.
و إنني استجابة صديقي الحميم «السيد مرتضي الرضوي» و تقديرا للكتاب و صاحبه، قمت بتحقيق هذا الكتاب الشريف و إخراج رواياته و أخباره.
و كل قصدي التقرب إلي الله بإرضاء حبيبته و ابنة حبيبه فاطمة زهرا عليهاالسلام التي يرضي الله لرضاها.
باقر المقدسي
ص: 27
ص: 28
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، و صلي الله علي سيدنا محمد و آله الطاهرين.
أما بعد: فقد سألني بعض إخواني المؤمنين أن أحرر له ما يتعلق بفدك حال حياة رسول الله، و ما جري عليها من الخلاف والنزاع بعد وفاته صلي الله عليه و سلم حسبما نطقت به السير والتواريخ والصحاح والسنن، فأجبته إلي ذلك، مع ضيق المجال، و كثرة الاشتغال، و عدم ميل الناس إلي العلم بحقيقة الحال.
فنقول: و نحن نمسك القلم عن جميع ما روثه الرواة، و سطره المورخون و أغضينا عما لقيت سيدتنا فاطمة في سبيل فدك من الذل والهوان، و غير ذلك مما يؤلم القلوب و يجرح العواطف فاكتفينا بالإشارة إلي بعض ما ثبت في التواريخ المسلمة، والصحاح المعتبرة، ليكون ذلك تبصرة لمن له البصيرة.
الذي يظهر من الكتب المعتبرة أن فدك من القري التي لم تفتح عنوه (1) و لم تؤخذ بالحرب، و إنما أخذها رسول الله صلي الله عليه و سلم وحده (2) - فهي له من دون أن تدخل في غنائم المسلمين- و هذا بإجماع الأمة المرحومه- لم يخالف فيه أحد من العلماء.
قال الشيخ الإمام شهاب الدين أبوعبدالله الحموي الروبي في «معجم
ص: 29
البلدان» باب الفاء والدال: «فدك بالتحريك و آخره كاف قرية بالحجاز، بينها و بين المدينة يومان، و قيل ثلاثة، أفاءها الله علي رسوله صلي الله عليه و سلم في سنة سبع صلحا، و ذلك: أن النبي صلي الله عليه و سلم لما نزل خيبر و فتح حصونها، و لم يبق إلا ثلاث و اشتد بهم الحصار، راسلوا رسول الله يسألونه أن ينزلهم علي الجلاء (1) - و فعل، و بلغ ذلك أهل فدك، فأرسلوا إلي رسول الله صلي الله عليه و سلم أن يصالحهم علي النصف من ثمارهم و أموالهم، فأجابهم إلي ذلك، فهي مما لم يوجف عليها بخيل و لا ركاب فكانت خالصة لرسول الله.
و روي ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح «نهج البلاغة» عن أبي بكر الجوهري عن الزهري قال: بقيت بقية من أهل خيبر تحصنوا، فسألوا رسول الله أن يحقن دماءهم و يسيرهم ففعل، فسمع ذلك أهل فدك فنزلوا علي مثل ذلك، و كانت للنبي صلي الله عليه و سلم خاصة لأنه لم يوجف عليها بخيل و لا ركاب (2) .
ص: 30
قال أبوبكر الجوهري: و روي محمد بن إسحاق أيضا أن رسول الله لما فرغ من خيبر قذف الله الرعب في قلوب أهل فدك فبعثوا إلي رسول الله فصالحوه علي النصف من فك فقدمت عليه و أرسلهم بخيبر أو بالطريق أو بعد ما قام بالمدينة، فقبل ذلك منهم، و كانت فدك لرسول الله خالصة له، لأنه لم يوجف عليها بخيل و لا ركاب. (1) .
ص: 31
ص: 32
قولهم: إنه لم يوجف عليها (1) ، أي أن فدك لم يسرع إليها بالخيل والركاب، و لم تؤخذ بالحرب، و إنما أخذها رسول الله- بالصلح- و لم يشاركه في أخذها أحد من المسلمين.
قال الله تعالي: «و ما أفاء الله علي رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل و لا ركاب ولكن الله يسلط رسله علي من يشاء والله علي كل شي ء قدير».
«ما أفاء الله علي رسوله من أهل القري فلله و للرسول و لذي القربي واليتامي والمساكين وابن السبيل كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم» (2) .
الفي ء مشتق من فاء يفي ء إذا رجع، والمراد به ما أفاء الله علي رسوله أي حصل و رجع إليه من غير قتال و لا إيجاف أي إسراع بخيل و لاركاب و ما هذا شأنه فهو للرسول صلي الله عليه و سلم خاصه حال حياته، يصرفه في حوائجه بإجماع الأمة، و يكون لذي القربي بعد وفاته بصريح الآية، فلهم التصرف فيه دون غيرهم فلا يدخل في بيت المال، و لا يرجع إلي المسلمين، بل حكمه معلوم من القرآن (3) .
ص: 33
روي في معجم البلدان في قصة فدك عن كتاب الفتوح للبلاذري: أنه لما جاءت فاطمة إلي أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله في سهمه بخيبر و فدك قال: يا بنت رسول الله سمعت رسول الله يقول: إانما هي طعمة اطعمنيها الله في حياتي، فإذا مت فهي بين المسلمين (1) .
ص: 34
و يزيف هذه المقالة أن فدك إن كانت أكله و طعمه فقط لم يجز له التصرف بأزيد من ذلك فيما هذا شأنه، والحال أن رسول الله صلي الله عليه و سلم تصرف في أموال بني النضير، التي هي مما لم يوجف عليها بخيل و لا ركاب فأعطي منها المهاجرين و جعل باقيها وقفا و صدقة، و منها الحوائط السبعة، و لا وقف إلا في ملك بإجماع الأمة.
و روي أبوداود في سننه في باب صفايا رسول الله من كتاب «الخراج» عن أبي الطفيل قال: جاءت فاطمة إلي أبي بكر تطلب ميراثها من النبي صلي الله عليه و سلم فقال أبوبكر: سمعت رسول الله يقول: إن الله عز و جل إذا أطعم نبيا طعمة فهي للذي يقوم بعده، و نحوه في كنزالعمال 3/ 130.
و عند ما خطبت خطبتها في مسجد أبيها رسول الله قال لها أبوبكر: إني سمعت رسول الله يقول: نحن معاشر الأنبياء لا نورث ذهبا و لا فضة و لا دارا و لا عقارا، و إنما نورث الكتاب والحكمه والعلم والنبوة، و ما كان لنا من طعمة فلولي الأمر بعدنا أن يحكم فيه بحكمه، و قد جعلنا ما حاولتيه في الكراع والسلاح.
قال الشيخ السمهودي في كتابه تاريخ المدينة المسمي ب«خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفي» (1) : «قال الواقدي إن النبي صلي الله عليه و آله و سلم وقف الحوائط السبعة (2) » ثم روي عن الزهري أنها من أموال بني النضير إلي أن قال: قلت
ص: 35
و يؤيده ما في سنن أبي داود عن رجل من أصحاب النبي صلي الله عليه و آله و سلم فذكر قصة بني النضير إلي أن قال: فكانت «نخل بني النضير لرسول الله خاصة أعطاها الله إياه فقال «ما أفاء الله علي رسوله منهم» الآية فاعطي أكثرها المهاجرين و بقي منها صدقة رسول الله الذي في أيدي بني فاطمة.
ص: 36
و يدل علي ما استظهرناه من التواريخ المعتبرة زيادة علي ما نطقت به الكتب المتقدمة من اختصاص فدك برسول الله و إنها ملكه الشخصي كسائر أملاكه من غير حظ للمسلمين فيها، الذي ذكره ابن حجر في «الصواعق» ص 23 والشيخ السمهودي في «تاريخ المدينة» و كذلك ما اشتملت عليه الصحاح والسنن من رواية مالك بن أوس بن الحدثان في شأن فدك، أن عمر قال:
إني أحدثكم عن هذا الأمر، إن الله كان قد خص رسوله في هذا الفي ء بشي ء لم يعطه أحدا غيره، فقال: و ما أفاء الله علي رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل و لا ركاب ولكن الله يسلط رسله علي من يشاء والله علي كل شي ء قدير» فكانت هذه خالصة لرسول الله، فما اختارها دونكم (1) و لا استأثر بها عليكم، لقد أعطاكموها و ثبتها فيكم (2) حتي بقي منها هذا المال (3) و كان ينفق منه علي أهله سنتهم ثم يأخذ ما بقي فيجعله فيما يجعل مال الله عز و جل، فعل ذلك في حياته ثم توفي النبي صلي الله عليه و آله و سلم فقال أبوبكر أنا ولي رسول الله فقبضها و قد عمل فيها بما عمل به رسول الله (4) .
قلت: قوله «فكانت هذه خالصة لرسول الله» نص علي أن فدك كانت
ص: 37
من جملة أملاك رسول الله، و ما هذا شأنه يرجع إلي ورثته من بعده لأن ما تركه الميت فلو ارثه بالضروره من الدين، و كونها فيئا المسلمين موقوف علي برهان ساطع و دليل قاطع.
تشهد الرواية السابقة عن «الصواعق المحرقة» بأن أبابكر إنما تصرف في فدك حسب اعتقاده أنه ولي رسول الله، فقبضها، و عمل فيها بما عمل به رسول الله كيلا يقع الخلاف في العمل بين الولي والنبي صلي الله عليه و آله و سلم، و يشهد بذلك أيضا ما رواه العلامة السمهودي في تاريخه قال: كانت فاطمة تسأل أبابكر نصيبها مما ترك رسول الله من خيبر و فدك و صدقته بالمدينة فأبي أبابكر عليها ذلك و قال: لست تاركا شيئا كان رسول الله يعمل به، إلا إذا عملت به، فإني أخشي إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ (1) . قوله أن أزيغ: أي أعدل عما فعله رسول الله في فدك من صرف حاصلاتها في حوائجه الشخصية والمصالح النوعية الراجعة إلي المسلمين، فلو كانت رواية أنها طعمة صحيحة و أنها راجعة إلي الأمة (2) و كونها من حقوقها، لكان اللازم جعلها (3) علة للتصرف في فدك، لا جعل السبب لصحة التصرف فيها قوله (4) : لست تاركا شيئا كان رسول الله يعمل به، الذي هو اجتهاد و دراية من أبي بكر، لا رواية عن النبي صلي الله عليه و آله و سلم.
ص: 38
لو كانت رواية أبي بكر (عن النبي) أن فدك طعمة و إذا مت فهي للمسلمين صحيحه، فكيف يجوز لعمر رفع اليد عن فدك و تسليمها إلي علي والعباس و هي للمسلمين و لهم فيها حق، و علي عليه السلام لم يقبضها من عمر إلا علي وجه الميراث لا علي أنه واحد من المسلمين، و لذا كان هو والعباس يختصمان في فدك و في إرث رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و أن العباس يقول: هي ملك لرسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و أنا وارثه، و علي عليه السلام يأبي عليه ذلك و يقول: إن النبي صلي الله عليه و آله و سلم جعلها في حياته لفاطمة.
و قال ابن حجر (1) : ذكر البخاري بسنده أن فاطمة والعباس أتيا أبابكر يلتمسان ميراثهما: أرضه من فدك، و سهمه من خيبر الخبر...
قال العلامة السمهودي في تاريخ المدينة، و ياقوت الحموي في المعجم، واللفظ للأول: أنه ذكر المجد في ترجمة فدك أنها هي التي وقعت الخصومة فيها و هي التي قالت فاطمة عليهاالسلام ثم إن رسول الله نحلنيها.
فقال أبوبكر: أريد بذلك شهودا
فشهد لها علي فطلب شاهدا آخر فشهدت لها أم أيمن فقال:
ص: 39
قد علمت يا بنت رسول الله، إنه لا يجوز إلا شهادة رجل و امرأتين.
ثم أدي اجتهاد عمر بن الخطاب بعده لما ولي الخلافة و فتحت الفتوح أن يدفعها إلي علي والعباس و كان علي يقول أن النبي صلي الله عليه و آله و سلم جعلها في حياته لفاطمة، و كان العباس يأبي ذلك فكانا يتخاصمان إلي عمر فيأبي أن يحكم بينهما و يقول: أنتم أعرف بشأنكما أما أنا فقد سلمتها إليكما (1) .
قلت: ما معني إباء عمر أن يحكم بين علي والعباس والحال أنهما يدعيان الميراث (والنحلة) و يختصمان في فدك من هذه الجهة فلو كانت مالا من أموال المسلمين (2) لما جاز له رفع اليد عما يقتضي رفعها تفويت الحق والوقوع في خلاف الواقع فكيف يجوز ذلك؟ أم كيف يجوز التسليم إلي من لا يري للمسلمين نصيبا فيها؟ فهذا الاجتهاد خال عن السداد و إيقاع للمال في التلف.
والمحمل الصحيح هو: أن يكون وضع اليد من عمر إبتداء علي فدك لمحض المتابعة لأبي بكر أو أنه كان رأيه في فدك مطابقا لرأي أبي بكر ثم بعد ذلك عدل عن رأيه و أدي اجتهاده ثانيا إلي أن يرد فدك إلي ورثة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم هذا هو المحمل الصحيح و إلا فلا محمل غيره.
ص: 40
تضافرت النصوص في الصحاح والسنن والسير، والتواريخ المعتبرة أن فدك (كانت) خاصة خالصه لرسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و مع ذلك لامعني لإنكار أبي بكر أن هذا المال ليس ملكا لرسول الله و إنما كان فيئا للمسلمين محتجا» بأني كان النبي صلي الله عليه و آله و سلم يحمل به الرجال و ينفقه في سبيل الله، فإنه يتوجه عليه سؤال البينة علي دعواه الفي ء لا طلب البينة من فاطمة، و لا يصح الاعتذار بأنه ولي رسول الله إذ ليس للولي التصرف الإبتدائي في أموال المولي عليه من غير تعيينه.
لا يجوز لولي الأمر من بعد الرسول صلي الله عليه و آله و سلم أن يعمل في فدك (1) حذو إرادته بل يجب تركها لأهلها من ذوي قرابة الرسول لأنهم ملاكها بصريح قوله تعالي: «ما أفاء الله علي رسوله من أهل القري فلله و للرسول و لذي القربي» فهم يتصرفون فيها طبق إرادتهم.
المرء يفعل في أمواله ما يشاء، و لا يكون لوليه ذلك من بعده في الزائد علي ما أوصي به، والنبي صلي الله عليه و آله و سلم لم يوصي بشي ء في فدك بالضرورة و إلا لم يقع الخلاف فيها- و قد وقع- حتي عده الشهرستاني في «الملل والنحل» من الإختلافات الواقعة بعد وفاة النبي صلي الله عليه و آله و سلم قائلا:
ص: 41
«الخلاف السادس في أمر فدك التوارث عن النبي صلي الله عليه و آله و سلم و دعوي فاطمة وراثه تارة و تمليكا أخري (أي عن طريق النحلة)».
قال في معجم البلدان: و في فدك اختلاف كثير في أمره بعد النبي صلي الله عليه و آله و سلم و أبي بكر و آل رسول الله (1) و من رواه خبرها من رواه بحسب الأهواء و شدة المراء.
قلت: مع هذا الإختلاف الكثير كيف تطمئن النفس بالرواية المنسوبة إلي أبي بكر في دفع فاطمة «عن ميراثها بحجة»: أن النبي صلي الله عليه و آله و سلم قال: نحن «معاشر الأنبياء لا نورث». أم كيف يذعن بأن تركة النبي صلي الله عليه و آله و سلم صدقة في قبال القطع و الإذعان بأن ما تركه الميت فلو ارثة.
و عمل رسول الله في فدك بما يراه من صرف حاصلاتها في ذوي قرابته و ما يفضل عنهم يصرفه في الجهاد (2) يحتاج إلي الإثبات و علي تقديره (3) ، لا يكون ذلك شاهدا علي كون فدك فيئا للمسلمين، فلم لا يكون صرف المحصول في ذوي القرابة و الأهل شاهدا علي أن فدك ملك شخصي للنبي صلي الله عليه و آله و سلم يرثونها منه صلي الله عليه و آله و سلم (4) .
ص: 42
صريح جميع المسطورات التاريخية و غيرها من الصحاح: «كالبخاري»، و «مسلم»، و «سنن أبي داود» و كتب المناقب أن فاطمة لم تسكت عن فدك ما دامت في الحياة بل كانت تأتي مرة بعد أخري حتي في مسجد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم بمرأي من المسلمين و تدعي كون فدك لها تارة بعنوان النحلة من أبيها رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و تقيم البينة علي دعواها، و أخري بعنوان: الوراثة و تحاجج مع أبي بكر بالسنة مختلفة.
تارة بقولها لأبي بكر: أنت ورثت رسول الله أم أهله؟
قال: بل أهله كما في مسند أحمد (1) .
و أخري بقولها: يا أبابكر أفي كتاب الله أن ترثك ابنتك و لا أرث أبي؟ كما في «سيرة الحلبي». و ثالثة بقولها: يا ابن أبي قحافة أترث أباك و لا أرث أبي «لقد جئت شيئا فريا» كما في خطبتها التي حكاها بتمامها و ضبط أسانيدها ابن أبي الحديد المعتزلي (2) تركنا ذكرها طلبا للاختصار و هي أيضا مذكورة في كتاب «بلاغات النساء» لابن طيفور البغدادي.
و رابعة: مجيئها مع علي عليه السلام إلي أبي بكر والاحتجاج معه بالقرآن من قوله تعالي: و ورث سليمان داود» و قوله تعالي: «رب هب لي
ص: 43
من لدنك وليا يرثني و يرث من آل يعقوب، و قوله: «يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين» كما في مختصر كنزالعمال المطبوع في حاشية المسند لأحمد.
و خامسة: ما رواه ابن أبي الحديد عن أبي بكر الجوهري، عمن رواه قال: دخلت فاطمة علي أبي بكر بعد ما استخلف فسألته ميراثها من أبيها فمنعها، فقالت له لئن مت اليوم من كان يرثك؟ قال: ولدي و أهلي، قالت: فلم ورثت أنت رسول الله دون ولده و أهله؟ قال فما فعلت يا بنت رسول الله، قالت: بلي إنك عمدت إلي فدك و كانت صافية لرسول الله فأخذتها و عمدت إلي ما أنزل الله من السماء فرفعته عنا (1) إلي غير ذلك من جهات الكلام و أطوار المنازعة والخصام و وجوه الاحتجاج علي أبي بكر.
المستظهر من التواريخ، والسير، والصحاح، كما سيتلي عليك أن فدك كانت نحلة و عطية من النبي صلي الله عليه و آله و سلم لفاطمة، و أنه صلي الله عليه و آله و سلم دفعها إليها في حياته، و يوم وفاته كانت في يد فاطمة.
و لما تولي أبوبكر الخلافة أرسل من ينتزع فدك من فاطمة فنازعته في ذلك و لما طلب منها البينة علي النحلة قيل عليه أنه الغريم لها فتكون عليه البينة، و لا تطلب البينة من ذي اليد علي ما في يده بالضرورة من الدين.
ص: 44
و اما شهادة علي، و أم أيمن، فهي علي وجه التبرع و الاستظهار و الزام أبي بكر لفاطمة بالإشهاد.
ان عليا عليه السلام شهد لفاطمة بان النبي صلي الله عليه و آله أعطاها فدك فاسقطوا شهادته (1) و شهد أبوبكر أن ميراث محمد صلي الله عليه و آله و سلم في ء للمسلمين فقبلوا شهادته، و لم يعلم الوجة في الاسقاط والقبول في المقامين.
قيل إن فاطمة (ع) ادعت الميراث أولا ثم ادعت النحلة ثانيا، و ليس كذلك بل الأمر بالعكس.
قال في سيرة الحلبي (2) إن طلب فاطمة ارثها من فدك كان بعد ان ادعت أن النبي صلي الله عليه و آله و سلم أعطاها فدكا و قال لها هل لك بينة؟ فشهد لها علي كرم الله وجهه و أم أيمن: ان فاطمة عليه السلام أتت أبابكر بعد وفاة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و قالت:
إن فدك نحلة أبي أعطانيها حال حياته، و أنكر عليها أبوبكر فقال: أريد بذلك شهودا فشهد لها علي عليه السلام.
فطلب شاهدا آخر فشهدت لها أم أيمن، فقال:
ص: 45
- قد علمت يا بنت رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم انه لا يجوز إلا شهادة رجل و امرأتين.
قال صاحب المعجم في فدك: و هي التي قالت فاطمة رضي الله عنها إن رسول الله نحلنيها، فقال أبوبكر (رضي الله عنه) أريد لذلك شهودا و لها قصة.
و قال ابن أبي الحديد المعتزلي في الشرح (16/ 214) أنه قال أبوبكر الجوهري.
و روي هشام بن محمد عن أبيه قال: قالت فاطمة لأبي بكر: ان أم أيمن تشهد لي أن رسول الله اعطاني فدك، فقال لها يا بنت رسول الله: والله ما خلق الله خلقا أحب إلي من رسول الله أبيك و لوددت ان السماء وقعت علي الأرض يوم مات أبوك، والله لأن تفتقر عائشة أحب إلي من أن تفتقري أتراني أعطي الاحمر و الأبيض حقة و أظلمك حقك و أنت بنت رسول الله.
ان هذا المال لم يكن للنبي صلي الله عليه و آله و سلم و إنما كان مالا من أموال المسلمين (1) .
ص: 46
يحمل النبي صلي الله عليه و آله و سلم به الرجال و ينفقه في سبيل الله، فلما توفي رسول الله وليته كما كان يليه. قالت: والله لا كلمتك أبدا، قال: والله لا هجرتك أبدا، قالت: والله لادعون الله عليك، قال: والله لأدعون الله لك.
فلما حضرتها الوفاة اوصت انه لا يصلي عليها فدفنت ليلا و صلي عليها عباس بن عبدالمطلب، و كان بين وفاتها و وفاة أبيها اثنتان و سبعون ليلة (1) .
قلت: الذي يظهر من هذه الرواية و ما يضاهيها من الروايات التي
ص: 47
سنذكرها ان أبابكر لم يكن بريئا من التهمة عند فاطمة و الا لم يكن وجه للغضب، والوجد إلي هذا الحد، الا أن فاطمة عرفت أن السياسة الوقتية اقتضت، انتزاع فدك عنها، و عدم تصديقها في دعواها.
قال ابن أبي الحديد: و سألت علي بن الفارقي، مدرس المدرسة الغريبة ببغداد فقلت له: أكانت فاطمة صادقة؟ (1) قال نعم:
قلت فلم لم يدفع إليها أبوبكر فدك و هي عنده صادقة؟ فتبسم ثم قال كلاما لطيفا مستحسنا مع ناموسه و حرمته و قلة دعابته، قال: لو أعطاها اليوم فدك بمجرد دعواها لجاءت اليه غدا وادعت لزوجها الخلافة و زحزحته عن مقامه، ولم يكن يمكنه الاعتذار والموافقة بشي ء، لأنه يكون قد سجل علي نفسه انها صادقة فيما تدعي كائنا ما كان من غير حاجة الا بينة، و لا شهود.
قال المعتزلي: و هذا الكلام صحيح و ان كان أخرجه مخرج الدعابة والهزل (2) .
قلت: و عسي ان يكون الصواب ما فهمه علي بن الفارقي المدرسي غير انه قد يؤدي الاجتهاد والتأويل إلي الخطا والوقوع في خلاف الواقع.
من رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم لفاطمة عليهاالسلام
صرح في «كنزالعمال» و في مختصره المطبوع في الهامش من كتاب
ص: 48
المسند لأحمد بن حنبل في مسألة صلة الرحم من كتاب «الأخلاق» عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزل «و آت ذاالقربي حقه (1) » قال النبي صلي الله عليه و آله و سلم: يا فاطمة لك فدك. قال: رواه الحاكم في تاريخه.
و في تفسير الدر المنثور للسيوطي (2) أنه أخرج البزار و أبويعلي وابن أبي خاتم وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت هذه الآية «و آت ذاالقربي حقة» أقطع رسول الله فاطمة فدكا (3) .
ص: 49
و قال للشيخ سليمان القندوزي النقشبندي الحنفي (1) أنه أخرج الثعلبي في تفسيره:
قال علي بن الحسين لرجل من أهل الشام: أنا ذوالقربي التي أمر الله أن يؤت حقه.
قال ابن أبي الحديد المعتزلي و قد روي من طرق مختلفة غير طريقها أبي سعيد الذي ذكره صاحب الكتاب أنه لما نزل قوله تعالي «و آت ذاالقربي حقه» دعا النبي صلي الله عليه و آله و سلم فاطمة فأعطاها فدك (2) .
قال في «الصواعق المحرقة» في الباب الثاني ص 32 أن أبابكر انتزع من
ص: 50
فاطمة فدك و أنه كان رحيما و كان يكرة أن يغير شيئا تركه رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم فاتته فاطمة فقالت له إن رسول الله أعطاني فدك.
فقال: هل لك بينة؟ فشهد لها علي و أم أيمن، فقال لها فبرجل و امرأة تستحقينها؟.
قلت: فإذن لا معني لإنكار كون فدك في يد فاطمة عليهاالسلام، و لم نرأن المنكر لذلك اعتمد علي حجة قوية سوي الاجتهاد والاستبداد بالرأي في قبال الكتاب والسنة.
ذكر العلامة السمهودي في وفاء الوفا (1) أنه روي الحافظ ابن شبة عن نمير بن حسان قال: قلت لزيد بن علي (هو أخو الإمام الباقر) و أنا أريد ان اهجن أمر أبي بكر: إن أبابكر انتزع فدك من فاطمة فقال ان أبابكر كان رجلا رحيما، و كان يكره أن يغير شيئا فعله رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم فاتته فاطمة عليهاالسلام فقالت: إن رسول الله أعطاني فدك.
فقال لها: هل لك علي هذا بينة؟ فجاءت بعلي فشهد لها، ثم جاءت بأم أيمن فقالت: ألستما تشهدان (يعني أبابكر و عمر) أني من أهل الجنة؟ قالا بلي، قالت: فأنا أشهد ان رسول الله أعطي فاطمة فدك.
و نحوه، حديث المعتزلي في شرح النهج رواية عن أبي بكر الجوهري (2) .
ص: 51
فعلي ذلك لا يكون الأخذ بقول فاطمة اعتمادا علي مجرد الدعوي لأن قولها (أي أم أيمن) الستما تهشدان أني من أهل الجنة، أخذ اقرار و اعتراف من أبي بكر و عمر علي قبول شهادتها و أنها صادقة حتي إذا شهدت حصل للحاكم القطع واليقين من شهادتها، و مع حصول العلم لا يمكن الرد عليها.
و في «سنن أبي داود» انه إذا علم الحاكم صدق شهادة الواحد يجوز ان يقربه. ثم ذكر لذلك حديث شهادة خزيمة بن ثابت للنبي صلي الله عليه و آله و سلم علي الأعرابي، و قيام شهادته مقام شهادة رجلين عدلين (1) . بل و يتم نصاب الشهادة بعد شهادة أبي بكر و عمر، و هما: اثنان علي تمامية كلام أم أيمن و مطابقتها (2) للواقع، بل و لا يتوقف علي إكمال النصاب بعد إقرار المدعي، و هو: أبوبكر من جانب المسلمين بأن كل ما تقوله أم أيمن صحيح لا يرد عليها.
وليس لأحد ان يقول كيف يسلم أبوبكر فدك إلي فاطمة و هو يروي
ص: 52
عن النبي صلي الله عليه و آله أن ما تركه و خلفه صدقة و يدخل في ملك الأمة، و ذلك اذ لا منافاة بين الصدقة والنحلة، فان النحلة إنما هي حال الحياة (1) والصدقة تكون بعد الوفاة فلو سلمها إليها (2) فإنما سلمها علي ما كانت عليها من جهة النحلة دون الإرث حتي ينافي الرواية.
الذي يفصح عن أن فدك كانت في يد فاطمة عليهاالسلام و تحت تصرفها و أنها انتزعت عنها، كلام أميرالمؤمنين (3) - بلي كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء فشحت عليها نفوس و سخت عنها نفوس قوم آخرين و نعم الحكم الله، و ما أصنع بفدك و غير فدك والنفس مظانها في غد جدث.
قال ابن أبي الحديد في الشرح: يقول عليه السلام: لا مال لي و لا اقتنيت فيما مضي مالا و إنما كانت في أيدينا فدك فشحت عليها نفوس قوم أي بخلت، و سخت عنها نفوس قوم آخرين أي سامحت و أعفت، و ليس يعني ههنا بالسخاء إلا هذا، لا السخاء الحقيقي لانه عليه السلام و أهله لم يسمحوا بفدك الا غضبا و قسرا، ثم قال و نعم الحكم الله الحكم الحاكم، و هذا الكلام كلام شاك متظلم، ثم ذكر مال الناس و أنه لا ينبغي أن يكترث بالقينات و الأموال فإنه يصير عن قريب إلي دار البلي و منازل الموتي (4) .
ص: 53
قلت: فظهر من مجموع كلماته عليه السلام عن إنكار كون فدك في يد علي و فاطمة و الا لزمت المنازعة والخصومة في طول المدة من علي و فاطمة و سائر بني هاشم، والحال أن الخصوم تنازلوا لأبي بكر و عمر، و ذلك لأن أهل البيت لم يقصروا عن الدعوي والمشاجرة من زمان أبي بكر إلي زمان عمر، و إنما أخرتهم السلطة والغلبة و عدم الإصغاء إلي الدعوي من علي و فاطمة، و لذا وقعت الشكاية من علي إلي الله تعالي.
و أما قول قائلهم أن فدك لو كانت ملكا لفاطمة فكيف عمل بها علي فيها معاملة من كان قبله من الخلفاء؟
فالجواب عنه: أن المرء يفعل في أمواله ما يشاء من وجوه المصالح الشخصية والنوعية، و لقد قال عليه السلام مجيبا عن هذة الشبهة، و ما أصنع بفدك و غير فدك والنفس مظانها في غد جدث، و هو القبر (1) . ثم قال: و إنما هي نفسي أروضها بالتقوي (لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر و تثبت علي جوانب المزلق). يعني أن إعراضي عن الدنيا من فدك و غيرها رياضة لنفسي لئلا تنغمس في حب الدنيا و جمع المال، فهذة الرياضة إنما أعملها لتأتي نفسي آمنة يوم الفزع الأكبر.
الثقفي عن إبراهيم بن ميمون قال حدثنا عيسي بن عبدالله بن محمد بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن جده عن علي عليه السلام، ثم قال: جاءت فاطمة إلي أبي بكر و قالت:
ان أبي أعطاني فدك و علي و أم أيمن يشهدان، فقال ما كنت لتقولي علي أبيك إلا الحق قد أعطيتكها، و دعا بصحيفة من أدم فكتب لها فيها فخرجت فلقيت عمر، فقال: من أين جئت يا فاطمة؟ قالت: جئت من عند أبي بكر اخبرته ان رسول الله اعطاني فدك و ان عليا و أم أيمن يشهدان لي بذلك فأعطانيها و كتب لي بها، فأخذ عمر الكتاب ثم رجع إلي أبي بكر فقال: أعطيت فاطمة فدك و كتبت بها لها؟ قال نعم، فقال: ان عليا يجر الي نفسه، و أم أيمن إمراة و بصق في الكتاب فمحاه و خرقه (1) .
ص: 55
ص: 56
قلت: إن صح الحديث ففيه من عمر اجتهاد في خرقه الكتاب غير أنه خروج عن طاعة امامه أبي بكر و تجاسر علي أميرالمؤمنين حيث طعن فيه، والحال ان عمر هو الذي أقر لعلي يوم الغدير بأنه ولي كل مؤمن و مؤمنة. نص عليه فخرالدين الرازي الأشعري في تفسيره 3/ 236 وابن كثير الدمشقي في البداية والنهاية 7/ 349 و لفظه: قال عمر بن الخطاب هنيئا لك يا ابن أبي طالب اصحبت مولاي و مولي كل مؤمن و مؤمنة. و رواء أيضا محب الدين الطبري في الرياض النضرة في مناقب العنترة 2/ 169.
قال ابن أبي الحديد و عامة المورخين و اللفظ للأول أنه روي محمد بن زكريا الغلابي عن شيوخه عن أبي المقدام هشام بن زياد مولي آل عثمان قال: لما ولي عمر بن عبدالعزيز رد فدك علي ولد فاطمة و كتب إلي و اليه علي المدينة أبي بكر. عمرو بن حزم يأمره بذلك فكتب اليه إن فاطمة ولدت في آل عثمان و آل فلان و فلان فعلي من أرد منهم؟ فكتب اليه: أما بعد فاني لو كتبت إليك آمرك ان تذبح شاة لكتبت إلي اجماه أم قرناء، أو كتبت
ص: 57
إليك ان تذبح بقرة لسألتني ما لونها؟ فاذا ورد عليك كتابي هذا فأقسمها في ولد فاطمة من علي والسلام (1) .
قال ياقوت الحموي في معجم البلدان في ترجمة فدك أنه لما كانت سنة مانتين و عشر امر المأمون بدفعها- أي فدك- إلي ولد فاطمة، و أمر ان يسجل لهم بها، فكتب السجل و قري ء علي المأمون فقام دعبل و أنشد:
أصبح وجه الزمان قد ضحكا
برد مأمون هاشما فدكا
و مثل ذلك في تاريخ المدينة للسمهودي (2) ، و رواه ابن أبي الحديد في الشرح عن أبي بكر الجوهري، قال السمهودي: فلما ولي عمر بن عبدالعزيز
ص: 58
الخلافة كتب إلي عاملة بالمدينة يأمره برد فدك إلي وله فاطمة، فكانت في أيديهم أيامه فلما ولي يزيد بن عبدالملك قبضها فلم تزل في يد بني امية حتي ولي أبوالعباس السفاح الخلافة فدفعها إلي الحسن (1) بن الحسن بن علي بن أبي طالب فكان هو القيم عليها يفرقها في ولد علي، فلما ولي المصنور و خرج عليه بنوحسن قبضها منهم فلما ولي ابنه المهدي أعادها عليهم ثم قبضها موسي الهادي و من بعدة إلي أيام المأمون فجاءه رسول بني علي فطالب بها فأمر ان يسجل لهم بها فكتب السجل و قري ء علي المأمون فقام دعبل و أنشد:
أصبح وجه الزمان قد ضحكا
برد مأمون هاشما فدكا
كتب المأمون إلي قثم بن جعفر عامله علي المدينة «أنه كان رسول الله أعطي ابنته فاطمة فدك و تصدق عليها بها و ان ذلك كان أمرا ظاهرا معروفا عند آله عليه السلام، ثم لم تزل فاطمة تدعي منه بما هي اولي من صدق عليه و انه قد رأي ردها إلي ورثتها و تسليمها إلي محمد بن يحيي بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، و محمد بن عبدالله بن الحسين
ص: 59
ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ليقوما بها لأهلهما (1) .
ص: 60
عبارة السجل تنطق بأن فدك كانت في يد فاطمة و أن ذلك أمر معروف عند أهل البيت عليهم السلام و أن فاطمة كانت مدعية و هي الصديقة في أن فدك لها بلا معارض فلا معني لانتزاع فدك منها و مطالبتها بالبينة أو منعها عن إرث أبيها صلي الله عليه و آله و سلم و هذا المعني يمنع عن كون فدك فيئا للمسلمين.
ليس في الشرع سؤال البينة من ذي اليد و إنما تكون البينة علي غيره (1) .
ص: 61
والمقدار المعلوم من التواريخ المعتبرة والصحاح والسنن أن أبابكر ادعي أن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم جعل أمر فدك إلي ولي الأمر من بعده و قال: قال رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم إنما يأكل آل محمد و ذريته في هذا المال يعني مال الله، فاللازم أن يقيم هو علي دعواه البينة.
لا وجه لسماع دعوي أبي بكر أن هذا المال يرجع إلي بيت المال من غير شاهد و لا بينة، أتري أنه يسمع دعوي أبي بكر أن مال أبي هريرة مثلا تكون من بعده صدقة لولا البينة، بل ضرورة الشرع علي عدم سماع أمثال هذه الدعاوي في الأموال في قبال الوارث الذي هو رب المال بضرورة
ص: 62
الشرع، و مع ذلك علي أي وجه صحيح يحمل سؤال أبي بكر الشاهد من فاطمة عليهاالسلام، و لذلك انقطعت الحجة عن أبي بكر علي انتزاعه فدك و إرجاعها إلي بيت المال.
لو قيل ان أبابكر قضي في فدك بمقتضي علمه فأدخلها في بيت المال، قلنا إن حكم الحاكم بمقتضي علمه أمر مرغوب عنه في الشريعة لقوله صلي الله عليه و آله و سلم «إنما أقضي بينكم بالبينات و الأيمان» و كلمة إنما تفيد الحصر فلا ترتفع الخصومة الا بالبينة، و لذا طلب أبوبكر البينة من فاطمة حيث اجتهد و رأي أنها المدعية و إن أخطأ في اجتهاده فإن فاطمة عليهاالسلام ممن تكون لها اليد المتصرفة في فدك حسبما عرفت. فلا تكون بحسب القواعد الشرعية مدعية (حتي تجب عليها إقامة البينة بل هي مدعي عليها) (1) .
ثم أقول: إن كان أبوبكر جازما و قاطعا بكون فدك ملكا للمسلمين لرواية رواها من رسول الله (2) فبأي وجه صحيح سأل الاشهاد من فاطمة، و كيف تجدي الشهادة غير المفيدة للقطع في قبال اليقين بالخلاف. أم كيف
ص: 63
يعقل انصراف القاطع عن قطعه سيما مثل أبي بكر الذي يكون مدرك يقينه بحسب دعواه السماع من رسول الله.
ثم أقول: أنه يحصل العلم للحاكم المنصف من دعوي فاطمة التي هي الصديقة و سيدة نساء العالمين و مشهود لها بالطهارة من الرجس (1) ، و كذلك من شهادة علي و أم أيمن التي شهد لها النبي صلي الله عليه و سلم و سلم بالجنة فلا حاجة إلي إكمال نصاب البينة.
ص: 64
ص: 65
لا إشكال و لا شبهة في أن الزوجات (1) ادعين ملكية الحجرات من غير شاهد و لا بينة و مع ذلك صدقهن أبوبكر في ادعائهن، و فاطمة أولي بقبول قولها أن فدك نحلة أبيها، لأنها مأمونة عن الكذب بآية التطهير و آية المباهلة و أنها الحجة الإلهية لإثبات الرسالة فتكون معصومة و مصونة عن الخطأ (2) .
ص: 66
الغرض الذي شرحت لأجله البينة هو تقوية الظن بصدق المدعي، والعدالة إنما اعتبرت في الشاهد لأنها تكون مؤثرة في قوة الظن، و من هذه الجهة جاز علي رأي أن يحكم الحاكم بعلمه من غير شهادة، لأن علمه أقوي من الظن الحاصل بالبينة، و لما كان الإقرار أقوي من البينة و أبلغ في تأثير غلبة الظن من الشهادة، قدم شرعا علي الشهادة لقوه الظن، فأولي ان يقدم العلم علي الجميع لسقوط حكم الضعيف في جنب القوي، فلا يحتاج مع العلم إلي ما يورث الظن من البينات والشهادات.
الثابت من الشرح الاكتفاء بالشاهد واليمين، و هو مذهب الخلفاء الأربع. و في «كنزالعمال» للمتقي الحنفي في الفصل الثالث من كتاب «الشهادات» 3/ 178 أن رسول الله و أبابكر و عمر و عثمان كانوا يقضون بشهادة الواحد واليمين. و في الكنز أيضا عن علي عليه السلام قال: نزل جبرائيل علي النبي صلي الله عليه و آله و سلم باليمين مع الشاهد.
و في صحيح مسلم 5/ 128 باب وجوب الحكم بشاهد و يمين من، كتاب الأقضية عن ابن عباس أن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم قضي بشاهد و يمين، قال
ص: 67
النووي في الشرح جمهور علماء الإسلام من الصحابة والتابعين، و من بعدهم من علماء الأمصار علي أنه يقضي بشاهد و يمين في الأموال، و به قال أبوبكر و علي، و عمر بن عبدالعزيز، و مالك بن أنس، والشافعي، و أحمد و فقهاء المدينة و سائر علماء الحجاز، و جاءت في ذلك أحاديث كثيرة، فإذن لا وجه لكلام أبي بكر لفاطمة جيئيني برجل آخر أو امرأة أخري (1) .
فإن قال قائل: إن براءة أبي بكر عن التهمة ترفع الشبهة عن دعواه: أن تركه رسول الله صدقة! قلنا له: ان براءة علي عليه السلام عن التهمة ترفع الشبهة عن شهادته فتكون فدك نحله حال حياة رسول الله لفاطمة عليهاالسلام من دون ان تكون من التركة الداخلة في الصدقة، و قد علم بالضرورة والعيان من السير والتواريخ أن للنبي صلي الله عليه و آله و سلم عطايا و مواهب حال حياته، و منها فدك بشهادة علي عليه السلام المبرا عن الاتهام، و لأنه أعرف بمواقع الشهادة من غيره للحصر المستفاد من الرواية المتفق عليها عن النبي صلي الله عليه و آله و سلم أنه قال: أقضاكم علي عليه السلام، لو كان في كلامه أثر للتهمة لما قدم هو بنفسه علي الشهادة، و حيث أقدم عليها علم صدق شهادته، فلا تدخل حينئذ فدك في التركة حتي تكون إرثا لفاطمة عليهاالسلام، أو تلحق ببيت المال و تكون صدقة تصرف في مصالح المسلمين.
ادعت فاطمة أن فدك نحلة و شهد لها علي عليه السلام و أم أيمن، و لم يعتن أبوبكر بدعواها ولكنه ترك السيف والبغلة والعمامة في يد أميرالمؤمنين بمحض ادعائه النحلة من غير بينة، فلو قيل إن أبابكر قضي في
ص: 68
المذكورات بعلمه، قلنا لزم علي أبي بكر البيان حسما لمادة الشبهة سيما بعد ما نازع عليا العباس في التركة (1) . و لما لم يبين أبوبكر جهة الفرق توجه نحوه السؤال: بمه؟ ولمه؟
قال سبحانه: «أفمن كان علي بينة من ربه و يتلوه شاهد منه»، والمراد بالشاهد هو علي عليه السلام». قال السيوطي في «الدر المنثور» 3/ 324 في تفسير هذه الآية من سورة هود أنه أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه و أبونعيم في المعرفة عن علي عليه السلام، قال: ما من رجل من قريش إلا نزل فيه طائفة من القرآن، فقال له رجل: ما نزل فيك؟ قال: أما تقرأ سورة هود، أفمن كان علي بينة من ربه و يتلوه شاهد منه، رسول الله صلي الله عليه و آله علي بينة من ربه، و أنا التالي الشاهد منه.
الحمويني في «فرائد السمطين» أخرج بسنده عن ابن عباس. و بسنده عن زادان هما عن علي كرم الله وجهه قال: إن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم كان علي بينة من ربه و أنا التالي الشاهد منه.
و أيضا في «الدر المنثور» أنه أخرج ابن مردويه و ابن عساكر عن علي
ص: 69
عليه السلام في الآية، قال: إن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم علي بينة من ربه و أنا الشاهد منه.
و أخرج ابن مردويه من وجه آخر عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم أفمن كان علي بينة من ربه أنا، و يتلوه شاهد منه: علي عليه السلام (1) .
فعلي ذلك يجب علي الأمة قبول شهادة علي عليه السلام الذي جعله الله تعالي شاهدا منه، و معني قبولها الحكم بمقتضي كلامه من غير توقف و ترقب انضمام شاهد آخر إليه، و إلا لم تكن مزية لشهادة علي عليه السلام من بين المسلمين، و نص الآية الشريفة بضميمة السنن المروية، إن لشهادة علي مزية وجهة اختصاص من بين الشهادات و ليست الا قبولها وحدها و ترتيب الأثر الشرعي عليها، و هل أبابكر لم يلتفت إلي هذه الخصوصية، و لذا رد شهادة علي عليه السلام و لم يحكم لفاطمة عليهاالسلام علي طبقها؟!
و ذلك قوله تعالي: «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا»، ففي جميع الصحاح، والسنن، و كتب المناقب للعامة والخاصة
ص: 70
أن النبي صلي الله عليه و آله جلل الحسن والحسين و علي و فاطمة كساء، ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي و خاصتي، أذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا، فنزلت الآية إجابة لدعاء النبي صلي الله عليه و آله و سلم فقالت أم سلمة و أنا معهم يا رسول الله؟ قال صلي الله عليه و آله و سلم قفي مكانك إنك إلي خير (1) .
ففي «الصواعق المحرقة» ص 76 الحديث الحادي والعشرون، أخرج الطبراني في الأوسط عن أم سلمه قالت: سمعت رسول الله يقول علي مع القرآن والقرآن مع علي عليه السلام، لا يفترقان حتي يردا علي الحوض، و قد روي الجمهور أن النبي صلي الله عليه و آله و سلم قال: الحق مع علي و علي مع الحق يدور معه حيثما دار (2) .
قلت: فعلي ذلك يكون علي عليه السلام عدلا للقرآن، و برهانا ساطعا للإنس والجان، والراد عليه راد علي القرآن، و حكم الراد علي القرآن معلوم
ص: 71
شرعا، و كذلك التخلف عنه عليه السلام، فإنه تخلف عن الحق الذي يدور مدار أقواله و أفعاله، فهذا يدل علي وجوب الاقتداء به عليه السلام في الأمور و كونه مأمونا عن الخطأ، فكيف ترد شهادته في فدك و أنها نحلة فاطمة عليهاالسلام، والحال أن الوصول إلي الحق لا يكون إلا منه عليه السلام.
قال عز من قائل: «والذين آمنوا بالله و رسوله أولئك هم الصديقون». روي أحمد بن حنبل: أنها نزلت في علي عليه السلام، و لقد قال عليه السلام علي منبر الكوفة: أنا الصديق الأكبر، و في «الصواعق المحرقة» ص 76 الحديث الثلاثون، أخرج ابن النجار عن ابن عباس أن النبي صلي الله عليه و آله و سلم قال: الصديقون ثلاثة: حزقيل مؤمن آل فرعون، و حبيب النجار صاحب ياسين و علي بن أبي طالب، قال الحادي والثلاثون أخرج أبونعيم وابن عساكر عن أبي ليلي أن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم قال: الصديقون ثلاثة حبيب النجار مؤمن ياسين، قال يا قوم اتبعوا المرسلين، و حزقيل مؤمن آل فرعون الذي قال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله، و علي بن أبي طالب.
فإذا كان علي عليه السلام بنص الآية والرواية صديق هذه الأمة كيف جاز لأبي بكر و عمر الرد عليه والإنكار لشهادته؟ أم كيف طلبا من فاطمة عليهاالسلام البينة علي أن فدك لها من رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، والحال أنها صديقة و أنها طاهرة عن الذنوب بصريح آية الطهارة و كذلك آية المباهلة لأن الله تعالي أقام بها و ببعلها و ابنيها الحجة علي النصاري و بالضرورة من الدين أنه لا خطأ
ص: 72
لله تعلي في حججه و آياته و براهينه (1) .
آية المباهلة دلت علي أن عليا نفس رسول الله لإجماع المفسرين علي أن المراد من أنفسنا علي عليه السلام، كما أن المراد من أبنائنا: الحسن والحسين و (المراد) من نسائنا: فاطمة عليهاالسلام، فجعله الله نفس رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم (2) .
ص: 73
و ليس المراد من النفسية الاتحاد بحسب الحقيقة، بل المراد المساواة في الأوصاف الكمالية التي منها الزعامة الدينية والحجية، و منها صدق المقالة، و حقيقة الشهادة، فلا يجوز الرد عليه كما لا يجوز الراد علي النبي صلي الله عليه و آله و سلم و لقد قال رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم: علي مني و أنا من علي، رواه الترمذي و احمد وابن ماجه و غيرهم. و قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح (1) .
ففي «الصواعق المحرقة» ص 77، الحديث الرابع والثلاثون، أخرج
ص: 74
الدارقطني في الأفراد عن ابن عباس أن النبي صلي الله عليه و آله قال: علي باب حطة في بني إسرائيل من دخل فيه كان مؤمنا و من خرج عنه كان كافرا.
و روي أحمد و غيره من العلماء في الصحاح والسنن متواترا أن النبي صلي الله عليه و سلم قال: مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا و من تخلف عنها هلك و قد أجمع العلماء علي أن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم قال: إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله و عترتي (أهل بيتي) ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا و أنهما لن يفترقا حتي يردا علي الحوض.
قلت: لفظها «لن» لتأييد النفي أو لتأكيده، واللازم كون الحق والقرآن مع علي عليه السلام لا ينفكان عنه، و إذا كان الحق والقرآن في جانبه عليه السلام، فأي وجه للإنكار عليه و منع فاطمة عن فدك مع شهادة علي عليه السلام لها، بل و أي خروج عن باب حطة أعظم من الإنكار عليه ورد شهادته و هو أحد الثقلين و عدل القرآن، و أي فرق بين الإنكار علي علي عليه السلام، و فاطمة عليهاالسلام و بين الإنكار علي القرآن.
قال الله تبارك و تعالي: «إنما وليكم الله و رسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون». أجمعت الأمة علي نزولها في علي عليه السلام، و ذلك مذكور في كتبهم المعتبرة، لما تصدق بخاتمه علي المسكين في الصلاة بمحضر من المسلمين (1) .
ص: 75
و قد أثبت الله تعالي الولاية لذاته المقدسة و شرك فيها رسوله صلي الله عليه و آله و سلم و علي ابن أبي طالب: و ولاية الله تعالي عامة فكذلك ولاية النبي صلي الله عليه و آله و سلم والولي (1) .
المراد من الولي الأولي بالتصرف كما في هذه الآية دون المعاني الآخر المتوهمة كالمحبة والنصرة والإلزام بمقتضي الحصر اشتراط كون الولي الناصر
ص: 76
مؤتيا للزكاة حال الركوع، و فساده ظاهر، والحاصل أن الآية مشتملة علي موصوف و وصفين أحدهما الولي والآخر: الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون، فإن حملنا الولي علي معني المحب أو الناصر، و أريد من الموصوف أعني الذين آمنوا معني خاصا و هو علي بن أبي طالب، نحو ما قاله أهل السنة والجماعة بطل الحصر لعدم إنحصار الولي بمعني الناصر أو المحب فيه و إن أريد من الولي الولاية العامة لزم ثبوت الولاية كذلك لكل مؤمن علي كل مؤمن، و إن أريد من الولي معني الناصر و من الموصوف عموم المؤمنين. بطل التوصيف لهم بإيتائهم الزكاة حال الركوع، فإن الوداد والمحبة ثابتة لهم و إن لم تكن لهم صفة إيتاء الزكاة حال الركوع لقوله تعالي: إنما المؤمنون إخوة و قوله تعالي: إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا، و قوله تعالي: المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض.
أما إذا أريد من الولي الأولي بالتصرف و من الموصوف خصوص علي عليه السلام استقام الحصر والوصف معا.
و في مسند أحمد بن حنبل 4/ 372 بسنده إلي زيد بن أرقم قال: نزلنا مع رسول الله بوادي غدير خم فخطبنا فقال: ألستم تعلمون أني أولي بكل مؤمن من نفسه؟ قالوا بلي، قال من كنت مولاه فعلي مولاه (1) .
ص: 77
قال ابن حجر في «الصواعق المحرقة»: إنه حديث صحيح لا مرية فيه و أنه رواه ستة عشر صحابيا الخ.
و في رواية أحمد بن حنبل: أنه سمعه من النبي صلي الله عليه و آله و سلم ثلاثون صحابيا و شهدوا به لعلي عليه السلام لما نوزع أيام خلافته، و أكثر أسانيدها صحاح و حسان (1) .
ص: 78
قلت: المولي في الحديث يراد منه الأولي بالتصرف لتقدم قوله صلي الله عليه و آله و سلم ألست أولي بالمؤمنين من أنفسهم (1) ، الصريح في إرادة الرئاسة العامة في الدين والدنيا، فكما أن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم هو الأولي بنفس الأمة منهم، فكذلك علي بن أبي طالب من بعده، للزوم الاتحاد بين المنزل والمنزل عليه فيما يقع علي جهته التنزيل نظير قولك: زيد كالأسد، بل التنزيل في الحديث أصرح منه في المثال في الدلالة علي إثبات الولاية المطلقة لعلي عليه السلام، فكيف ترد الشهادة، ممن هو كرسول الله أولي بالمؤمنين من أنفسهم، فهل ترد شهادة النبي صلي الله عليه و آله و سلم.
كلا... فكذلك من هو مثله صلي الله عليه و آله و سلم بجهة الولاية:
في مسند أحمد بن حنبل و غيره من الصحاح من طرق عديدة أن رسول الله آخي بين أصحابه، فجاء علي عليه السلام فقال: يا رسول الله آخيت بين.
ص: 79
بين أصحابك و تركتني و لم تؤاخ بيني و بين أحد، فقال صلي الله عليه و آله و سلم: إنما تركتك لنفسي أنت أخي و أنا أخوك في الدنيا والآخرة (1) .
قال فضل بن روزبهان في كتابه «ابطال الباطل»: حديث المواخاة مشهور معتبر معول عليه و لا شك أن عليا أخو رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و محبه و حبيبه، و كان رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم شديد الحب له، و هذا كله يؤخذ من صحاحنا و من مذهبنا.
قلت: فعلي ذلك فالنبي صلي الله عليه و آله و سلم بقوله لعلي عليه السلام: أنت أخي و أنا أخوك في الدنيا والآخرة، إنما يريد المواخاة الخاصة لا مطلق المواخاة و إلا فالمؤمنون أخوة (كلهم)، فكلام النبي صلي الله عليه و آله و سلم يقضي بإرادة المواخاة والمشابهة في جميع مراتب الكمالات الربانية سوي النبوة، فإذا كان علي عليه السلام مساويا لرسول الله صلي الله عليه و آله و سلم في الحسب والشرف والفضائل الكمالية مضافا إلي المساواة في النسب، فبأي عذر عند الله من يكذب أخو رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم في شهادته علي أن فدك نحلة لفاطمة عليهاالسلام، و في دعواه الميراث بعد وفاة فاطمة عليهاالسلام. و أي فضل يبقي لعلي عليه السلام. و أي فضل يبقي لعلي عليه السلام بعد الرد لشهادته و لقد حصلت له عليهاالسلام من الله تعالي و رسوله صلي الله عليه و آله و سلم
ص: 80
فضائل لا تعدو و لا تحصي، منها الأخوة، و منها النفسية، بصريح آية المباهلة، و منها المشابهة في الولاية كما عرفت، و منها العصمة لآية التطهير، و منها كون علي عليه السلام من رسول الله بمنزلة هارون من موسي، دل علي أن عليا يستحق من رسول الله ما كان يستحقه هارون من موسي، فهل يكذب هارون في قوله و فعله، كلا لأنه الحجة الباقيه بنص من القرآن، فكذلك علي عليه السلام بصريح آية الولاية، و أحاديث الأخوة، و آية المباهلة، و أن عليا نفس رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم.
و هذه النصوص من الله تعالي، و من رسوله صلي الله عليه و آله و سلم، أما كان فيها حاجز لأبي بكر عن منعه عليا عليه السلام، و فاطمة عليهاالسلام من فدك خصوصا و انتزعها عن أهل البيت عموما؟!
أما السؤال: فهو أن آية الشهادة (1) هل هي عامة لجميع الموارد، فتدل علي لزوم كون الشاهد رجلين أو رجلا و امرأتين أو شاهد مع يمين المدعي أم لا؟
و أما الجواب: فهو أن الآية علي عمومها مخصصه بغير الموارد المنصوصه الخارجة بنص من الله تعالي، أو من رسوله صلي الله عليه و آله و سلم و علي عليه السلام و فاطمة عليهاالسلام ممن تكون عصمتهم معلومة لآية التطهير و كون فاطمة عليهاالسلام حجة من الله لإثبات الرسالة بآية المباهلة، فهي حينئذ صديقة والعصمة رافعة للتهمة
ص: 81
و توجب العلم الضروري بصدق المدعي فهي شهادة من الله و تزكية للمدعي، إذن فالرد عليه رد علي الله في تزكيته لهؤلاء، و يدل علي ما ذكرنا ما في الصحاح جميعا من تصويب الله شهادة خزيمة بن ثابت لرسول الله صلي الله عليه و آله و سلم علي الأعرابي في بيع ناقته، و قول خزيمة: إني علمت أنها لك يا رسول الله حيث علمت صدقك و عصمتك (1) . و لولا العصمة والقطع بعدم التهمة لما كانت شهادة خزيمة وحدها كافية، فالعصمة و ارتفاع التهمة هي الباعثة علي الاعتماد علي دعوي المدعي، و لقد روي البخاري في صحيحه في باب من تكفل عن ميت دينا، و في كتاب الخمس في باب ما قطع النبي صلي الله عليه و آله و سلم من البحرين أنه لما قدم مال البحرين علي أبي بكر أمر مناديا فينادي: من كان له دين أو عدة علي رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم فليأتني، قال جابر: فأتيت أبابكر فأخبرته بأن النبي صلي الله عليه و آله و سلم قال: لو أتي مال البحرين أعطيتك ثلاث حثيات، قال: فأعطاني.
و ذكر جلال الدين السيوطي في تاريخ الخلفاء في فصل خلافة أبي بكر
ص: 82
و ما وقع في خلافته أنه أخرج الشيخان، يعني مسلم والبخاري عن جابر قال: قال لي رسول الله: لو جاء مال البحرين أعطيتك هكذا و هكذا و هكذا (1) . فلما جاء مال البحرين بعد وفاة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم قال أبوبكر من كان له عند رسول الله دين أو عده فليأتنا، فجئته فأخبرته فقال: خذ فأخذت، فوجدتها خمسائة فأعطاني ألفا و خمسمائه.
قال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري في باب من يكفل عن ميت دينا أن هذا الخبر فيه دلالة علي قبول خبر العدل من الصحابة، و لو جر ذلك نفعا لنفسه لأن أبابكر لم يلتمس من جابر شاهدا علي صحة دعواه.
قلت: فلأن كان الأمر كذلك و جاز لأبي بكر أن يعطي جابرا من أموال المسلمين ما وعده رسول الله بدون بينة تقوم علي دعواه و صدقه أبوبكر فيه (2) ، فعلي عليه السلام و فاطمة عليهاالسلام أولي بالتصديق من جابر، فلو فرض أنه لم يكن لعلي عليه السلام و فاطمة عليهاالسلام شرافة غير شرافة الصحبة مع النبي صلي الله عليه و آله و سلم، لكنت في تصديقهما بلا بينة علي دعواهما، لقوله تعالي: «كنتم خير أمة أخرجت للناس» و قوله: «و جعلناكم أمة وسطا» (3) .
قال الطحاوي: أما تصديق أبي بكر جابرا في دعواه، فلقوله: «من كذب علي متعمدا فليتبوا مقعده من النار»، فهو وعيد، و لا يظن أن مثل جابر يقدم عليه.
ص: 83
قلت: فعلي عليه السلام و فاطمة عليهاالسلام أولي بأن لا يقدما علي الوعيد لو كان لاحقا بدعواهما علي رسول الله: أنه أعطي فاطمة فدكا، فالفرق يزاحمه الشرع.
صريح القرآن «يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم (1) . هو كون الحجرات ملكا لرسول الله صلي الله عليه و آله و سلم
و ذكر الحميدي في الجمع بين الصحيحين من المتفق علي من مسند عبدالله ابن زيد بن عاصم الأنصاري عن النبي صلي الله عليه و آله و سلم أنه قال: ما بين بيتي و منبري روضة من رياض الجنة الخ. و لم يقل صلي الله عليه و آله و سلم ما بين بيت عائشة أو بيوت زوجاتي و منبري.
و ذكر الطبري و غيره من أرباب السير والتواريخ: أن النبي صلي الله عليه و آله و سلم قال فإذا غسلتموني و كفنتموني فضعوني علي سريري هذا، في بيتي هذا- مشيرا إلي بيت عائشة- و هو آخر كلامه من الدنيا (2) .
ص: 84
ادعت الأزواج ملكية البيوتات، و صدقهن أبوبكر من غير بينة و لا شهادة أحد لهن فيما ادعين، فيكف ملكت جميع النسوة الحجرات التي للنبي صلي الله عليه و آله و سلم بنص الآية الشريفة، و لم تملك فاطمة عليهاالسلام فدكا.
التواريخ ساكتة عن أن النبي صلي الله عليه و آله و سلم أعطي الحجرات للزوجات و قسمها بينهن علي نحو، التمليك بل حالهن حال سائر النساء الجالسات في بيوت أزواجهن، فإنه صلي الله عليه و آله و سلم لما هاجر إلي المدينة اشتري المربد و بني فيه الحجر حين لم تكن عائشة و لا حفصة و لا واحدة من نسائه، و بعد أن تزوج بواحدة أسكنها حجرة. فصارت تسمي باسمها باعتبار الاختصاص علي جاري العادة من تسمية بيوت دار الرجل بحجرة الزوجة فلانة، و حجرة الأمة فلانة، كما في قوله تعالي: «لا تخرجوهن من بيوتهن و لا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة (1) ». فإن من المعلوم أن البيوتات للأزواج لا للمطلقات و إلا فلو كانت لهن لما جاز إخراجهن عن ملكهن، و إن أتين بفاحشة، أقصي الأمر إقامة الحد عليهن. و لا حجة لمن ادعي أن الحجرات ملك للزوجات سوي قوله تعالي: و قرن في بيوتكن (2) .
ص: 85
و من المعلوم أن المراد من البيت في الآية، (المسكن) فإن المحرم عليهن و علي غيرهن من النسوة التبرج والخروج عن محلهن، كما يخرجن النساء في الجاهلية، و هذا لا يقتضي كون المقر والمحل ملكا لهن (1) .
ص: 86
ذكر العالمة السمهودي في كتابه: تاريخ المدينة المسمي: بوفاء الوفا بأخبار دار المصطفي (1) . أن فاطمة ابنة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم أن يقسم لها ميراثها مما ترك رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم مما أفاء الله عليه، فقال لها أبوبكر إن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم قال: «لا نورث ما تركناه صدقة»، فغضبت فاطمة فهجرت أبابكر، فلم تزل مهاجرته حتي توفيت، و عاشت بعد رسول الله ستة أشهر كما جاء في البخاري و مسلم و غيرهما.
و في سيرة الحلبي 3/ 389 أنها رضي الله عنها قالت لأبي بكر: من يرثك؟ قال: أهلي و ولدي، فقالت: فما لي لا أرث أبي، فقال لها: سمعت رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم يقول: لا نورث، فغضبت رضي الله عنها من أبي بكر و هجرته إلي أن ماتت.
و في سنن أبي داود كما في تاريخ المدينة للعلامة السمهودي من حديث عروة بن الزبير الذي أخبرته عائشة به قال:
و رواه ابن شبه و لفظه: إن فاطمة أرسلت إلي أبي بكر تسأله ميرثها من رسول الله مما أفاء الله علي رسوله.
ص: 87
و فاطمة حينئذ تطلب صدقة النبي صلي الله عليه و آله و سلم بالمدينة و فدك و ما بقي من خمس خيبر، فقال أبوبكر أن رسول الله قال: لا نورث ما تركناه صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال (يعني مال الله) (1) .
و حكي ابن أبي الحديد المعتزلي في الشرح عن أبي بكر الجوهري: أنه لما بلغ فاطمة إجماع أبي بكر علي منعها فدك لاثت خمارها و أقبلت في لمة حن حفدتها و نساء قومها (ما تخرم مشيتها مشية رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم) حتي دخلت أبي بكر، و قالت فيما قالت في خطبتها: ثم أنتم الآن تزعمون أن لا إرث لي أفحكم الجاهلية تبغون و من أحسن من الله حكما لقوم يوقنون، إيها معاشر المسلمين... أأبتز إرث أبي؟ أبي الله أن ترث يا ابن أبي قحافة أباك و لا أرث أبي لقد جئت شيئا فريا (2) .
ص: 88
قال صاحب كتاب سيرة الحلبي 3/ 391 من تاريخه أن فاطمة بنت رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم جاءت إلي أبي بكر و هو علي المنبر، فقالت: يا أبابكر أفي كتاب الله أن ترثك ابنتك و لا أرث أبي؟ فاستعبر أبوبكر باكيا، ثم نزل فكتب لها بفدك، ودخل عليه عمر فقال: ما هذا؟ فقال كتاب كتبته لفاطمة بميراثها من أبيها، فقال عمر من ماذا تنفق علي المسلمين و قد حاربتك العرب كما تري، ثم أخذ عمر الكتاب فشقه.
قلت: قوله كتاب كتبته لفاطمة بميراثها من أبيها ناطق بأن الذي رده إلي فاطمة هو ميراثها الذي منعه عنها ابتداء، فكيف يجتمع المنع أولا، والإعطاء ثانيا من باب الإرث؟ أم كيف يجتمع ذلك مع ما رواه من حديث «لا نورث، ما تركناه صدقة».
الآيات القرآنية الخاصة (1) : قال الله تعالي- حاكيا عن زكريا «و إني خفت الموالي من ورائي، و كانت امرأتي عاقرا، فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا».
ص: 89
و قال عز من قائل (أيضا): حكاية عن زكريا: «قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة» (1) ، و قال تعالي حكاية عن دعائه: «رب لا تذرني فردا و أنت خير الوارثين (2) .
و قال سبحانه: «و ورث سليمان داود» (3) .
لفظ الميراث متي ما استعمل لغه و عرفا يراد منه المال، و كذلك لفظ الإرث، فإن له ظهورا عرفيا في إرث المال لا إرث العلم والمعرفة، فلو قيل فلان و ارث فلان، أريد به أنه و ارثه في المال لا أنه وارثه في علمه إلا مع القرينة كما في قوله تعالي: و اورثنا بني إسرائيل الكتاب.
و قوله تعالي: ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا، و قوله صلي الله عليه و آله و سلم العلماء ورثة الأنبياء فلو كان سؤال زكريا من الله تعالي أن يرزقه و ارثا في علمه و نبوته لزم أن يقول هكذا: يرثني في علمي و يرث من آل يعقوب النبوة، لعدم تمامية المجاز بلا قرينة. و إطلاق الكلام شاهد علي أن السؤال من الله تعالي الذرية والنسل ليقوموا بعده في ماله، لقوله: و إني خفت الموإلي من ورائي والموالي هم بنو عمه فخاف منهم عن أن يتصرفوا في أمواله و يصرفوها في خلاف المشروع، و لذا قال فخرالدين الرازي في
ص: 90
التفسير، أن المراد بالميراث في الموضعين، هو وراثة المال، و هذا قول ابن عباس والحسن و ضحاك، و لم ينقل كون المراد وراثة النبوة إلا عن أبي صالح الخ.
قلت: و هذا هو الظاهر المعقول الوارد في الشرع، أما كونه هو الظاهر فلأن الصحابه و غيرهم لم يفهموا من الحديث الذي تفرد به أبوبكر، لا نورث ما تركناه صدقة، سوي وراثة المال دون وراثة العلم، وإن هو عندهم إلا تأويل لا يصار إليه، و أما أنه هو المعقول فلأن العلم والنبوة لا يكونان من الأوصاف التي تحصل للإنسان بالإرث و إن لزم أن يكون جميع أولاد آدم عليه السلام علماء أنبياء (1) ، و كذلك اولاد خاتم الأنبياء، و ليس كذلك بالبداهة.
و إما أنه الوارد في الشرع، فلما رواه المحدث الشهير محمد بن جرير الطبري في التفسير عن قتاده أن رسول الله كان إذا قرأ هذه الآية، و إني خفت الموالي، و أني علي يرثني و يرث من آل يعقوب. قال صلي الله عليه و آله و سلم: رحم الله زكريا ما كان عليه من ورثته (2) .
و روي عن الحسن قال: قال رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم رحم الله أخي زكريا ما كان عليه من ورثة ماله حين يقول: فهب لي من لدنك وليا يرثني و يرث من آل يعقوب (3) .
و قال فخرالدين الرازي في تفسير قوله تعالي: و ورث سليمان داود،
ص: 91
اختلفوا فيه، فقال الحسن: المال لأن النبوة عطيه مبتدء» و لا تورث (1) .
قلت: أراد بذلك أن الموت يوجب انتقال المال من الأب إلي، الولد كما هو معني الإرث حقيقة، و ليس كذلك في النبوة، لأن الموت لا يكون سببا لنبوة الولد و لا يتصور انتقال العلم من محل إلي محل آخر، فافترقا من هذه الجهة.
روي صاحب كتاب كنزالعمال 4/ 134 عن أبي جعفر عليه السلام قال: جاءت فاطمة عليهاالسلام إلي أبي بكر تطلب ميراثها، و جاء عباس بن عبدالمطلب يطلب ميراثه، و جاء معهما علي عليه السلام، فقال أبوبكر: قال رسول الله: لا نورث ما تركناه صدقه، فقال علي: (قال تعالي) و ورث سليمان داود، و قال زكريا: (رب هب لي من لدنك وليا) يرثني و يرث من آل يعقوب. قال أبوبكر هو هكذا و أنت تعلم مثل ما أعلم، فقال علي عليه السلام: هذا كتاب الله ينطق فسكتوا.
قلت في هذه الرواية و غيرها من الحكايات المشتملة علي مجي ء فاطمة عليهاالسلام إلي أبي بكر لأجل المطالبة بفدك، بل و مجي ء علي عليه السلام و العباس عند أبي بكر و عمر، بل و حكاية استشهاد عمر بالسبعة من الصحابة علي أن تركه النبي صلي الله عليه و آله و سلم تكون صدقه دلالة واضحة علي عدم وقوع التأويل
ص: 92
في الآية الشريفة مجملها علي إرادة وراثة العلم والنبوة، و لذا لم يؤول أبوبكر و لم يرفع اليد عن نص القرآن و ما هو ناطق به من وراثة المال، و إنما رد علي علي عليه السلام، و فاطمة عليهاالسلام، والعباس بحديث تفرد به و لم يروه غيره من قول النبي صلي الله عليه و آله و سلم: نحن معاشر الأنبياء لا نورث، و أجابه علي عليه السلام بأن القرآن ينطق بما يدعيه هو، و إنه إنما يعلم من رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم ما نطق به القرآن و شهد به من توريث الأنبياء أولادهم، فالخصوم في طول مدة مخاصمتهم متفقون علي صريح القرآن، و إنما جاء التأويل من أهل التأويل الذين يقولون برأيهم ما يشاؤون في مقابل النص الجلي و أبوبكر كان أعرف بنص القرآن من هؤلاء المتأولين، و لذا قبل ظهور القرآن فيما استند إليه علي عليه السلام من توريث الأنبياء أولادهم، و إنما دافع عنه برواية تفرد بها بزعمه أنها تخرج مخرج التخصيص والمعلوم خلافه.
قال العلامة الزمخشري في الكشاف في الجزء الثالث والعشرين في ذيل قوله تعالي: إذ غرض عليه بالعشي الصافنات الجياد (1) . روي أن سليمان غزا أهل دمشق و نصيبين فأصاب ألف فرس، و قيل ورثها من أبيه و أصابها أبوه من العمالقة.
و قال البيضاوي في ذيل الآية المزبورة: و قيل أصابها أبوه من العمالقة فورثها منه فاستعرضها، فلم تزل تعرض عليه حتي غربت الشمس، و عقل عن العصر. و قاله أيضا الزمخشري في الباب الثاني والتسعين من كتاب «ربيع الأبرار».
ص: 93
و قال البغوي في تفسيره: الموسوم بمعالم التنزيل في تفسير سورة مريم في قوله تعالي: يرثني و يرث من آل يعقوب، قال الحسن: يرثني من مالي.
الشاهد الأول- كلام المفسرين ممن سمعت، حتي أنه لم ينقل إرادة وراثة النبوة إلا عن أبي صالح، لكنه في موضع واحد، قال محمد بن جرير الطبري صاحب التاريخ في تفسيره، قال: حدثنا أبوكريب قال: حدثنا جابر بن نوح عن إسماعيل عن أبي صالح قوله: يرثني و يرث من آل يعقوب يقول: يرث مالي و يرث من آل يعقوب النبوة.
و يتوجه علي أبي صالح سؤال: الفرق أولا و أنه تعالي لم يقل يرث من يعقوب لتتوهم إرادة النبوة، بل الآية: و يرث من آل يعقوب و هم أقارب زكريا (1) .
الشاهد الثاني- أن زكريا دعا ربه أن يجعل المسئول رضيا يرضاه الله تعالي و يرضاه عباده، و هذا الدعاء يوافق كلام من لم يؤول بل حمل الميراث علي ظاهره من المال دون العلم لأنه متي سأل ربه أن يهب له وارثا في علمه و نبوته أدخل في سؤاله كونه «رضيا»، لأن من يطلب كونه يرث النبوة
ص: 94
لا يكون غير رضي، فلا معني لاشتراطه علي الله تعالي ثانيا، فهذا السؤال حينئذ نظير من يقول: اللهم ابعث لنا نبيا كاملا بالغا عاقلا.
فإن قالوا: أن يحيي عليه السلام قتل قبل زكريا، فلو حمل الإرث علي المال لما استجاب الله تعالي دعاء زكريا، والحال أنه سبحانه استجاب دعاءه حيث يقول عز من قائل: يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيي. قلنا أن ذلك الإشكال بعينه متوجه في صورة إرادة وراثة العلم والنبوة لأن يحيي عليه السلام قتل قبل زكريا، فلم تصل النبوة البعديه إليه بالوراثة و لو مجازا من أبيه زكريا عليه السلام.
قال الله تعالي: و ورث سليمان داود، و هذا يراد منه الإرث في المال أو الاعم منه و من الجاه والملك، كما في تفسير الفخر الرازي، و ذلك بدلالة قوله تعالي: و آتيناه من كل شي ء (1) ، و لا يختص بالعلم والنبوة لأن سليمان كان نبيا علي بني إسرائيل حال حياة داود من غير احتياج إلي الإرث منه، و ذلك لقوله تعالي: ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما و علما (2) .
و قوله تعالي حكاية عن سليمان: يا أيها الناس علمنا منطق الطير (3) . إلي غير ذلك من دلائل نبوته عليه السلام حال حياة داود نظير نبوة هارون عليه
ص: 95
السلام في زمان أخيه موسي عليه السلام، و قال سبحانه: و لقد آتينا داود و سليمان علما، و قالا الحمد لله الذي فضلنا علي كثير من عباده المؤمنين (1) .
يذكر السيد المؤلف هنا القسم الثاني، اي الآيات القرآنية العامة التي تتحدث عن التوارث بين المسلمين، و منها قوله تعالي: «و أولو الارحام بعضهم أولي ببعض في كتاب الله» و قوله تعالي: «إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا علي المتقين».
و قد ذكرت الزهراء عليهاالسلام في خطبتها آيتي داود و زكريا أولا كدليل علي توريث الأنبياء، و احتجت ثانيا بآيات الإرث العامة، و آية الوصية كدليل عموميتها و شمولها لها، إذ لم يخصصها كتاب و لا سنة. و قد قال صلي الله عليه و سلم: من ترك مالا فلورثته. أخرجه الشيخان في كتاب الفرائض من صحيحيهما.
قال الله تعالي: «للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون، و للنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا (2) .
و قال سبحانه: «يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين (3) »، أجمعت الأمة علي عموم القرآن و عمومه في الإرث قطعي، و لا يخرج عنه إلا بمخرج قطعي لا بمثل حديث: لا نورث. فحيث تحقق أن زكريا
ص: 96
موروث، و كذلك داود تحقق أن النبي صلي الله عليه و آله و سلم أيضا موروث لإجماع الأمة علي عدم الفرق بين الأنبياء من هذه الحيثية، و لأن من زعم أن زكريا و غيره من الأنبياء لا يورثون، إنما بني في زعمه علي أن النبي صلي الله عليه و آله و سلم نص علي أن معاشر الأنبياء لا يورثون، و لما نهض القرآن بأقوي بيان علي أن زكريا موروث، و كذلك داود، دل علي أن النبي صلي الله عليه و آله و سلم موروث، و أنه صلي الله عليه و آله و سلم مكذوب عليه بهذا الحديث.
قال ابن حجر في ص 20 من الفصل الخامس من «الصواعق المحرقة»: اختلفوا في ميراث النبي صلي الله عليه و آله و سلم فما وجدوا عند أحد في ذلك علما، فقال أبوبكر: سمعت رسول الله يقول: إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة. و في تاريخ الخلفاء للسيوطي في فصل خلافة أبي بكر ص 28 أنه أخرج أبوالقاسم البغوي، و أبوبكر الشافعي في فرائده، وابن عساكر عن عائشة قالت: اختلفوا في ميراثه صلي الله عليه و آله و سلم فما وجدوا عند أحد في ذلك علما، فقال أبوبكر: سمعت رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم يقوم: إنا معاشر الأنبياء لا نورث، و مثل ذلك في منتخب كنزالعمال في باب خلافة أبي بكر.
قلت: و ليس عمر ممن سمع الحديث من النبي صلي الله عليه و آله و سلم، و إنما كان يرويه من أبي بكر، كما في منتخب كنزالعمال في الباب المذكور أيضا، أنه قال عمر لعلي عليه السلام والعباس، حدثني أبوبكر و حلف بالله إنه لصادق، أنه سمع النبي صلي الله عليه و آله و سلم يقول: إن النبي لا يورث، و إنما ميراثه في فقراء المسلمين والمساكين (1) .
ص: 97
قال أحمد بن عبدالحليم ابن تيميه في 2/ 179 من كتابه منهاج السنة، أن مجرد قول القائل: قال رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم ليس حجة باتفاق أهل العلم، و لو كان حجة لكان كل حديث قال فيه واحد من أهل السنة: قال رسول الله حجة.
قلت: و لعله أراد بذلك عدم حجية الخبر الواحد الظني في قبال أصول المذهب، فإن المذهب انعقد علي وجوب الأخذ بالكتاب الناطق عموما و خصوصا بالإرث من غير إخراج للنبي صلي الله عليه و آله و سلم، فلو كان خارجا لكان ذلك معلوما مقطوعا به بين الأمة، و ثابتا بالنصوص المتواترة القطعية
ص: 98
لا برواية واحدة لم يروها أحد من الصحابة غير أبي بكر، والضرورة قائمة علي أنه لو أدعي أبوهريرة أو غيره علي أبي بكر و قال: إني سمعت من رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم أنه قال: أن دار أبي بكر لأبي هريرة، أو في ء للمسلمين: لما سمع منه ذلك، و لم يرجع إلي محصل، و حال أبي بكر في دعواه علي فاطمة عليهاالسلام حال أبي هريرة ما لم تقم الشهادة، لو قيل: نعتبر حديث «لا نورث» حيث ادعي به أبوبكر فيخرج مخرج القطعي.
قلنا: إن روايته حيث صدرت في مقام الخصومة والمنازعة كان هو المدعي لفاطمة عليهاالسلام.
فإن قيل: أن أبابكر غير متهم في روايته: إن ما تركناه صدقة.
قلنا: إن فاطمة عليهاالسلام غير متهمة في دعواها، و كذلك علي في شهادته لفاطمة عليهاالسلام و في قوله: بلي كانت في أيدينا فدك.
أن المتأمل المنصف متي ما راجع الكتب المعتبرة من الصحاح والسنن والتواريخ يقطع بأن أبابكر لم يكن بريئا من التهمة عند علي و فاطمة والعباس، و ذلك لما أسمعناك من حديث «كنزالعمال» (1) . و احتجاج علي عليه السلام علي أبي بكر بالآيتين الفاطقتين بتوريث الأنبياء عليهم السلام و كذلك طول مطالبة الإرث من فاطمة عليهاالسلام في حياتها، و من علي عليه السلام والعباس من زمان أبي بكر و عمر إلي زمان عثمان، و كذلك
ص: 99
احتجاج فاطمة علي أبي بكر قائلة: أنت ورثت رسول الله أم أهله؟ كما في مسند أحمد (1) ، و أنها لما علمت إصرار القوم علي منعها فدكا هجرت أبابكر و عمر و غضبت عليهما حتي دخلا عليها لأجل الاسترضاء، فلم ترضي عنها كما في كتاب الإمامة والسياسة لابن قتيبه ص 14 إلي أن ماتت و أوصت أن لا يصلي عليها أحد من هؤلاء الذين آذوها و غصبوا حقها، حتي أنها أوصت أن لا تدخل عليها عائشة بنت أبي بكر.
ففي تاريخ المدينة للعلامة السمهودي أن فاطمة قالت لأسماء: إذا أنامت فغسليني أنت و علي و لا تدخلي علي أحدا، فلما توفيت حاءت عائشة لتدخل فقالت أسماء: لا تدخلي، فشكت إلي أبي بكر و قالت أن هذه الخثعمية تحول بيننا و بين بنت رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، فجاء أبوبكر فوقف علي الباب فقال: يا أسماء ما حملك علي أن منعت أزواج النبي صلي الله عليه و آله و سلم أن يدخلن علي ابنة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم فقالت: أمرتني أن لا يدخل عليها أحد، قال أبوبكر: فاصنعي ما أمرتك، ثم انصرف، و غسلها علي و أسماء (2) .
و قال ابن أبي الحديد في الشرح 16/ 280: أنه قال البلاذري في تاريخه أن فاطمة عليهاالسلام لم تر متبسمة بعد وفاة النبي صلي الله عليه و آله و سلم و لم يعلم أبوبكر و عمر بموتها، والأمر في هذا أوضح و أشهر من أن نطنب في الاستشهاد عليه عليه و نذكر الروايات فيه.
و قال النقيب أبوجعفر يحيي بن محمد البصري: أن عليا و فاطمة والعباس
ص: 100
ما زالوا علي كلمة واحدة يكذبون رواية «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» و يقولون أنها مختلقة، قالوا: كيف كان النبي صلي الله عليه و آله و سلم يعرف هذا الحكم غيرنا و يكتمه عنا و نحن الورثة و نحن أولي الناس بأن يؤدي هذا الحكم إليه؟
قلت: و مما يدل علي كذب الرواية عند هؤلاء لا في صحيح مسلم في باب ما يصرف الفي ء الذي لم يوجف عليه بقتال.
و في البخاري في كتاب الخمس، و كتاب المغازي، و في الصواعق المحرقة في باب خلافة أبي بكر من رواية مالك بن أوس المشتملة علي نسبة عمر إلي علي والعباس، أنهما كانا يعتقدان ظلم من خالفهما- أعني الشيخين- ففي الحديث أنه أقبل عمر علي علي والعباس و قال: لما توفي رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم قال أبوبكر: أنا ولي رسول الله (1) فجئتما أنت تطلب ميراثك من ابن أخيك (2) و يطلب هذا (3) ميراث امرأته من أبيها، فقال أبوبكر: قال رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم: لا نورث ما تركناه صدقة، فرأيتماه كاذبا آثما غادر اخائنا والله يعلم إنه لصادق بار راشد تابع للحق. ثم توفي أبوبكر فقلت: أنا ولي رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و ولي أبي بكر فرأيتماني كاذبا آثما غادرا خائنا الحديث (4) .
ص: 101
قوله: فرأيتماه كاذبا آثما غادرا خائنا شهادة قطعية من علي والعباس علي أن قوله: لا نورث باطل مكذوب علي رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم.
ص: 102
قال ابن تيمية الحنبلي في ص 169 من الجزء الثاني من «منهاج السنة» أن القوم ليسوا معصومين، بل هم مع كونهم أولياء الله و من أهل الجنة لهم ذنوب يغفرها الله لهم.
أقول: هذا إيقاع القوم في المحذور الأشد، أعني تحتم المعصية علي الصحابة و لم يدر انه متي جاز أن يغفر الله لهم بعد إيقاعهم الأذي والوجد علي فاطمة عليهاالسلام جاز أن يغفر لغيرهم من أهل المعاصي من غير تفاوت، فإنه تعالي يغفر الذنوب جميعا، ولكن هذا الغفران من الله تعالي لا يصحح اجتراء العبد عليه تعالي و صدور المعصية منه، و لهذا الكلام مقام آخر و إلا فأي منقبة لفاطمة أثبتها رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم بقوله: إن الله تعالي يغضب لغضب فاطمة و يرضي لرضاها.
روي ابن أبي الحديد في الشرح، و كذلك غيره من الرواة، أن فاطمة طلبت فدك من أبي بكر فقال: اني سمعت رسول الله يقول: إن النبي لا يورث من كان النبي صلي الله عليه و آله و سلم يعوله فأنا أعوله.
و في حديث كنزالعمال المروي في باب خلافة الصديق من قول عمر: حدثني أبوبكر أنه سمع النبي صلي الله عليه و آله و سلم يقول: إن النبي لا يورث و إنما ميراثه في الفقراء والمساكين.
صريح الروايتين خلوهما عن قول: ما تركناه صدقة و اشتمالهما فقط علي
ص: 103
أن الذي سمعه أبوبكر من النبي صلي الله عليه و آله و سلم قوله صلي الله عليه و آله و سلم: لا نورث. والزيادة من قول أبي بكر: من كان النبي يعوله فأنا أعوله. و من قول عمر: و إنما ميراثه في الفقراء والمساكين، و ذلك اجتهاد منهما، فكأنهما فهما من نفي التوريث خصوص كون التركة صدقة، والحال أن نفي التوريث أعم من كون التركة صدقة لأنه يعم صورة عدم وجود التركة حتي يورث كما هو كذلك، فإن أمواله صلي الله عليه و آله و سلم بينما ما هي صدقة حال حياته صلي الله عليه و آله و سلم كما في حوائطه السبعة و غيرها من أموال بني النضير، و بينما هي منقولة عنه صلي الله عليه و آله و سلم علي وجه التمليك للغير، كالسيف والعمامة والبغلة والعصا بالنسبة إلي علي عليه السلام والبيوتات للزوجات و فدك لفاطمة عليهاالسلام، حسبما شهد بذلك علي و أم أيمن، و كانت تحت تصرفهما كما في «الصواعق المحرقة»، فلم يبق لرسول الله صلي الله عليه و آله و سلم مال حتي يورث (1) .
قال الفخر الرازي في التفسير مذهب أكثر المجتهدين: أن الأنبياء لا يورثون، والشيعة خالفوا فيه.
ص: 104
روي: أن فاطمة لما طلبت الميراث و منعوها عنه واحتجوا عليها بقوله صلي الله عليه و آله و سلم: نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة، فعند هذا احتجت فاطمة بعموم قوله تعالي: يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين، و كأنها أشارت إلي أن عموم القرآن لا يجوز تخصيصه بخبر الواحد الخ (1) .
قلت: إن فاطمة عليهاالسلام احتجت علي أبي بكر بالآية، عمومها و خصوصها، و أن الرواية غير صحيحة عندها، والعجب من أنه كيف نسب الفخر الرازي الخلاف إلي الشيعة، و لم ينسبه إلي علي والعباس و فاطمة و الأزواج و ذوي قرابة الرسول صلي الله عليه و آله و سلم فإنهم جميعا خالفوا أبابكر في حديث ما تركناه صدقة و تمسكوا بعموم القرآن و خصوصه في موروثيه داود و زكريا والشيعة، حيث أن مذهبهم مذهب أهل البيت و عنهم يأخذون، أنكروا علي أبي بكر هذا لحديث تصديقا للعترة النبوية، إذ أمر النبي صلي الله عليه و آله و سلم بالتمسك بهم و عدم التجاوز عنهم والعدول إلي غيرهم.
قال الفخر الرازي في ذيل تفسير قوله تعالي: يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين، أن المحتاج إلي معرفة هذه المسألة ما كان إلا فاطمة و علي والعباس، و هؤلاء كانوا من أكابر الزهاد والعلماء و أهل الدين، و أما أبوبكر فإنه ما كان محتاجا إلي معرفة هذه المسألة البتة لأنه ما كان ممن يخطر بباله أنه يورث من الرسول صلي الله عليه و آله و سلم، فكيف يليق بالرسول أن يبلغ هذه
ص: 105
المسألة إلي من لا حاجة له إليها و لا يبلغها إلي من له إلي معرفتها أشد الحاجة (1) .
قلت: و تفصيل ما أجمله الفخر الرازي، هو أن القرآن إنما ورد لبيان ما يجب علي العباد الأخذ به أو الانتهاء عنه. و كان الغرض منه و من بعث الرسول هو الإنذار والتخويف من محارم الله تعالي، كما في قوله تعالي: فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات (2) . و قال سبحانه مخاطبا به النبي صلي الله عليه و آله: و أنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم (3) .
و قال تعالي: و إنه لذكر لك و لقومك و سوف تسألون (4) .
و قوله سبحانه: و أنذر عشيرتك الأقربين (5) .
و تقتضي هذه الآيات وجوب تبليغ النبي صلي الله عليه و آله و سلم حكم عدم الإرث إلي
ص: 106
علي و فاطمة والعباس و سائر نسائه، و لا يجوز له صلي الله عليه و آله و سلم التأخير عن بيان الحكم المختص بهم لهم، فكيف يجوز علي النبي صلي الله عليه و آله و سلم أن لا يبين الحكم الجاري فيما بينه و بين وراثه، و يتركهم في خلاف الواقع، و يبينه لرجل آخر أجنبي عنهم و عن إرثهم؟ أفلم نكن بيان الحكم لهم من الإنذار الواجب عليه صلي الله عليه و آله و سلم بنص القرآن؟ أو لم يكن تركه من الإغراء بالجهل و الإيقاع في الضلال؟ فأي قدح أعظم من كتمان النبي صلي الله عليه و آله و سلم لذلك في إنذاره و تبليغه و وصاياه، فلا يعرف أهله و عشيرته أنهم لا يرثونه، والعقل لا يجوز ذلك بعد أن لم يكن من الأسرار المكنونة.
اللازم لذي العقل والعقلاء أن يكون تبليغ الحكم جاريا مجي المتعارف و لا تجدي الاتفاقات القهرية، مثلا لو لم يكن أبوبكر حاكما و واليا لم يفد تعريف النبي صلي الله عليه و آله و سلم له حديث ما تركناه صدقة و إعلامه إياه فائدة أصلا، و لم يكن حجة قاطعة، أما عند الخليفة والحاكم علي فرض كونه غير أبي بكر فلأن شهادة الواحد الغير المنصوص علي عصمته و تطهيره من الله تعالي لا تقبل، و ما عند المدعي عليه فلإنكاره ذلك مضافا إلي كونه ليس حجة عليه و له إنكاره شرعا إذا رجع إلي التداعي في المال، فحيئنذ لا يجدي الحديث و يكون إظهاره لأبي بكر بلا فائدة و رسول الله ما ينطق عن الهوي.
فلئن قيل: أن النبي صلي الله عليه و آله و سلم لما كان يعلم وقوع التشاح من بعده بين أبي بكر و بين وراثة لزمه البيان و إظهار الحق حسما لمادة الخلاف و النزاع كما لو لم يكن أبوبكر إماما، إذ ليس بيانه صلي الله عليه و آله و سلم للحكم العاجل منوطا بإمامة من بعده بنحو الأجل، و لما لم يبين الحكم لأهل بيته علي منه عدم اختصاصهم بحكم خاص في باب الإرث، و أنهم يرثون من رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم كغيرهم فلا وقع لما أظهره أبوبكر و عمر من حديث عدم توريث الأنبياء،
ص: 107
و أنهما إنما غلبا علي علي عليه السلام و فاطمة بواسطة السلطة كغيرها من السلطات اللاحقة.
قد جرت العادة علي ضبط الأخبار خلفا عن سلف، سيما ما يتعلق بالأديان والمذاهب خصوصا عند أهلها، فإنهم مهتمون بذلك غاية الاهتمام فيرون الواجب عليهم ضبط أحوال أنبيائهم، و ضبط خصائصهم و ما يجري من بعدهم، كما ضبطت التواريخ والكتب الدينية ما يتعلق بشأن النبي صلي الله عليه و آله و سلم من أوله إلي آخره، و كذلك المعلوم جريان العادة من يوم وفاة آدم إلي هذا الزمان علي أنه يرث الميت الأقرب إليه فالأقرب من غير اختصاص بأهل ملة أو نحلة، و إنا متي راجعنا المليين و أهل النحل لما وجدنا من يظهر منه الحكم بعم وقوع التوارث بين الأنبياء و أولادهم و الأقرب من أرحامهم، و أن تركة زكريا و داود عليهماالسلام رجعت لا إلي (1) يحي و سليمان علي خلاف القرآن، و كيف يعقل أن يخفي حكم عدم توريث الأنبياء علي سائر من في العالم من أرباب الملل والنحل و غيرهم و لم يسمعوا بذلك مع أنه أمر مهتم به عندهم و سمع بذلك أبوبكر وحده من بين الناس أن ذلك لأمر مريب.
دلت الكتب المعتبرة عند أهل السنة والجماعة حسبما ذكر جملة منها علي أن فاطمة أتت إلي أبي بكر مرارا والتمست (2) منه ميراثها فدكا، و احتجت
ص: 108
عليه. و هذا المجي ء تارة وحدها، و أخري مع عمها العباس، حتي أنها لما رأت الإصرار من أبي بكر و عمر علي أخذ فدك و هضمها حقها، هجرتهما و غضبت عليهما، و قالت: لا أكلمكما إلي أن ماتت، و هذا موافق لما في «الصواعق المحرقة» ص 9، و صحيح البخاري في باب فرض الخمس، و في باب غزوة خيبر عن عروة بن الزبير عن عائشة.
و مسلم في الجزء الأول ص 154، والجمع بين الصحيحين للحميدي، و كتاب «الإمامة والسياسة، لابن قتيبة الدينوري ص 14، و كتاب «تاريخ المدينة» للعلامة السمهودي 2/ 157. و غير ذلك من الكتب التاريخية كشرح ابن أبي الحديد المعتزلي 4/ 104، و تاريخ البلاذري، و كتاب أبي بكر الجوهري، و في ذلك كله دلالة واضحة علي أن رواية أبي بكر لم تحسم المادة و أن فاطمة لم تقنع بكلام أبي بكر، و لذا أصرت في الإنكار عليه حتي إذا رأت إصراره علي ما قاله و ما فعله غضبت عليه و هجرته بعد أن أغلظت عليه الخطاب إلي أن ماتت لستة أشهر من وفاة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم.
قال الرازي في مقام الجواب عن معارضة الحديث بكلام فاطمة مع أنها معصومة: إنا لا نعلم أنها أصرت علي المطالبة بعد أن روي أبوبكر ذلك، و إنما طالبت بالميراث قبل استماع الحديث و ذلك لا يقدح في عصمتها (1) .
ص: 109
قلت: إن ذلك لا يليق صدوره من مثلها و خلاف للإنصاف، فإنه إن أراد الرازي أن فاطمة تركت المطالبة بسبب السلطة فهو مسلم لكنه لا يجدي في نفي حقها شرعا، و إن كان مراده أنها تركت المطالبة بسبب وقوفها علي الخطأ و إذعانها بصحة ما رواه أبوبكر و ما فعله، فهذا شي ء مردود بما عرفت من صراحة الكتب المذكورة في أن فاطمة غضبت علي أبي بكر و هجرته حتي ماتت لستة أشهر من وفاة النبي صلي الله عليه و آله و سلم.
قيل: إنه إذا كان أبوبكر مصرا علي الإنكار علي فاطمة في منعها عن الإرث بلا حجة قاطعة، فما بال الصحابة و ما الموجب لترك النكير عليه و رضاهم بما حكم به مع خطئه عن الحق؟
قلت: إنا نقتصر فعلا في الجواب علي ما حكاه ابن أبي الحديد المعتزلي في الشرح (1) عن أبي عثمان الجاحظ قال: قال أبوعثمان في كتاب العباسية: و قد زعم أناس أن الدليل علي صدق خبرهما- يعني أبابكر و عمر- في منع الميراث و براءة ساحتهما ترك أصحاب رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم النكير عليهما. ثم قال: قد يقال لهم: لئن كان ترك النكير دليلا علي صدقهما ليكونن ترك
ص: 110
ص: 111
ص: 112
النكير علي المتظلمين والمحتجين (1) عليهما، والمطالبين لهما دليلا علي صدق دعواهم، أو استحسان مقالتهم، و لا سيما و قد طالت المناجاة، و كثرت المراجعة و الملاحاة، و ظهرت الشكية، و اشتدت الموجدة، و قد بلغ ذلك من فاطمة عليهاالسلام حتي أنها أوصت ألا يصلي عليها أبوبكر، و لقد كانت قالت له حين أتته طالبه بحقها، و محتجة لرهطها: من يرثك يا أبابكر إذا مت؟ قال: أهلي و ولدي، قالت: فما بالنا لا نرث النبي صلي الله عليه و آله و سلم، فلما منعها ميراثها و بخسها حقها، و اعتل عليها (و جلح في أمرها (2) ) و عاينت التهضم (3) ، و آيست من التورع، و وجدت نشوة الضعف، و قلة الناصر، قالت: والله لأدعون الله عليك، قال: والله لأدعون الله لك، قالت: والله لا أكلمك أبدا، قال: والله لا أهجرك أبدا. فإن يكن ترك النكير علي أبي بكر دليلا علي صواب منعها، إن في ترك النكير علي فاطمة عليهاالسلام دليلا علي صواب طلبها (و أدني ما كان يجب عليهم في ذلك تعريفها ما جهلت، و تذكيرها منا نسيت، و صرفها عن الخطأ، و دفع قدرها عن النداء و أن تقول هجرا، أو تجور عادلا، أو تقطع واصلا (4) ). فإذا لم تجدهم أنكروا علي الخصمين جميعا فقد تكافأت الأمور و استوت الأسباب، (والرجوع إلي أصل حكم الله في المواريث أولي بنا و بكم و أوجب علينا و عليكم) (5) الخ.
ص: 113
قلت: و ذلك لقول الله تعالي: «و ما اختلفتم فيه من شي ء فحكمه إلي الله، الشوري آية 10، والقرآن حكم عدل و قول فصل، يقول بعمومه و خصوصه بالإرث و أنه ورث سليمان داود و أن زكريا سأل ربه بقوله: فهب لي من لدنك وليا يرثني و يرث من آل يعقوب.
ثم إن عليا أيام خلافته في الكوفة كتب جهرا لعثمان بن حنيف مصارحا بقوله: بلي كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء، فشحت عليها نفوس قوم و سخت عنها نفوس قوم آخرين، و لم ينكر أيضا عليه أحد، و يكفي كلامه هذا في الإنكار علي أبي بكر و يبطل بذلك حديث أبي بكر عن النبي صلي الله عليه و آله و سلم و إسناده إليه صلي الله عليه و آله و سلم نفي الإرث عنه صلي الله عليه و آله و سلم.
أن عليا والعباس لم يقبلا من أبي بكر حديث: «إنا معاشر الأنبياء لا نورث»، و لذا تخاصما في فدك و حضرا عند عمر و من بعده عند عثمان،
ص: 114
قال الشيخ ملا علي المتقي الحنفي في «كنزالعمال» في خلافة الصديق: أخرج أحمد والبزار، و قال حسن إلاسناد عن ابن عباس، قال: لما قبض رسول الله و استخلف أبوبكر، خاصم العباس عليا في أشياء تركها رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم فقال أبوبكر: شي ء تركه رسول الله فلم يحركه فلا أحركه، فلما استخلف عمر اختصما إليه، فقال شي ء لم يحركه أبوبكر فلا أحركه، فلما استخلف عثمان اختصما إليه، فسكت عثمان و نكس رأسه، قال ابن عباس: فخشيت أن يأخذه أبي فضربت بيدي بين كتفي العباس فقلت يا أبت أقسمت عليك إلا سلمته له (1) .
ص: 115
و لا يخفي علي أحد أن الخبر متضمن لأمور، منها: دوام المطالبة والمنازعة والمشاجرة.
إن نساء النبي صلي الله عليه و آله و سلم أبين أن يعملن بما رواه أبوبكر من نفي التوريث، و لذا أورد البخاري في صحيحه و غيره في غيره. أن عائشة قالت: أرسلت أزواج النبي صلي الله عليه و آله و سلم عثمان إلي أبي بكر يسألنه (1) ثمنهن مما أفاء الله علي رسوله فكنت أنا أردهن، فقلت لهن: ألا تتقين الله؟ ألم تعلمن (2) أن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم كان يقول: «لا نورث ما تركناه صدقة».
ص: 116
و روي ابن حجر حديث البخاري بطوله في «الصواعق المحرقة» ص 23
و أقول: إن حديث إرسال زوجات النبي صلي الله عليه و آله و سلم إلي عثمان و رواحه هو إلي أبي بكر، أو قبوله منهن الرواح و عدم ردعه لهن صريح في أن عثمان أيضا أنكر علي أبي بكر رواية: نفي الميراث، و كذلك حكاية، إقطاع عثمان فدكا لمروان، كما في «تاريخ المدينة» للسمهودي، والمرقاة، و تاريخ أبي الفداء و غيرها، بل هو الظاهر الجلي من رواية أبي داود، أن سياسة الوقت ربما تحت الإنسان علي المساعدة مع ذي السلطان و لو لخوف الفتنة.
ذكر صاحب كتاب «سيرة الحلبي في 3/ 391 من تاريخه» أن فاطمة بنت رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم جاءت إلي أبي بكر و هو علي المنبر فقالت: يا أبابكر أفي كتاب الله أن ترثك ابنتك و لا أرث أبي؟ فاستعبر أبوبكر باكيا، ثم نزل فكتب لها بفدك، و دخل عليه عمر فقال: ما هذا؟ فقال كتاب كتبته
ص: 117
لفاطمة بميراثها من أبيها، قال: مماذا تنفق علي المسلمين و قد حاربتك العرب كما تري؟ ثم أخذ عمر الكتاب فشقه (1) .
و نحو ذلك ما رواه ابن أبي الحديد في الشرح عن طريق له إلي علي عليه السلام قال: جاءت فاطمة إلي أبي بكر و قالت: إن أبي أعطاني فدك و علي و أم أيمن يشهدان لي، فقال: ما كنت لتقولي علي أبيك إلا الحق، قد أعطيتكها و دعا بصحيفة من أدم فكتب لها فيها، فخرجت فلقيت عمر فقال: من أين جئت يا فاطمة؟ قالت: جئت من عند أبي بكر، أخبرته أن رسول الله أعطاني فدك، و أن عليا و أم أيمن يشهدان لي بذلك فأعطانيها و كتب لي بها، فأخذ عمر منها الكتاب. ثم رجع إلي أبي بكر فقال: أعطيت فاطمة فدك و كتبت بها لها؟ قال: نعم، قال: إن عليا يجر إلي نفسه و أم أيمن إمرأة و بصق في الكتاب فمحاه و خرقه (2) .
ص: 118
قلت: إن الأحاديث المذكورة تكون من طرق أهل السنة، و هي الحجة عليهم، و فعل عمر إن صح كان أشد اجتراء منه علي ولي أمره وردا عليه و فسخا لعزيمته. و أبوبكر هذا هو الذي نصبه عمر علما يوم السقيفة حتي قال له علي عليه السلام: احلب حلبا لك شطره، اشدد له اليوم أمره ليرده عليك غدا. ذكره ابن قتيبة في الإمامة والسياسة في باب خلافة أبي بكر و إباء علي عليه السلام عن البيعة، و هذا التجاسر من عمر علي أبي بكر بشق كتابه، كتجاسره بكبس بيت فاطمة و هجومه بمن معه علي علي عليه السلام، و إخراجه قهرا إلي بيعة أبي بكر. و أعظم من ذلك تجاسره علي رسول الله في مرضه الذي توفي فيه إذ قال: إيتوني بدواة و قرطاس لأكتب لكم كتابا لن تضلوا بعدي أبدا، فقال عمر: إن رسول الله قد غلبه الوجع حسبنا كتاب الله، و كثر اللغط بينهم، فقال النبي صلي الله عليه و آله و سلم: قوموا عني لا ينبغي عندي التنازع.
قال ابن عباس: الرزية كل الرزية ما حال بيننا و بين كتاب رسول الله.
ص: 119
قال القاضي عياض في الشفاء و في بعض طرق الخبر: إن النبي يهجر. و في روايه: هجر، و يروي: أهجر، و يروي: أهجر.
قلت: و جميع ذلك مروي في (كتاب) البخاري و سملم و غيرهما من كتب الحديث، و علي كل تقدير فإنه يتوجه علي النكير في الجرأة علي رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، والخلافة بحضرته مع أن عصمته صلي الله عليه و آله و سلم مانعة عن نسبة الهجر والهذيان إليه. قال سبحانه: «و ما ينطق عن الهوي إن هو إلا وحي يوحي (1) ».
قال القاضي عياض في الشفاء: إنه لا يصح منه خلف و لا اضطراب في عمد و لا سهو، و لا صحة و لا مرض، فما معني الحديث في وصيته، و كيف اختلفوا بعد أمره لهم أن يأتوه بالكتاب؟
قلت: أم كيف تري الصحابة أنهم اختلفوا بحضرة رسول الله و تجاسروا عليه عند قوله: إيتوني بدواة و كتف، و لم يختلفوا و لم ينازعوا عندما قيل
ص: 120
عنه صلي الله عليه و آله و سلم أنه قال: مروا أبابكر أن يصلي بالناس، و تلقوه عنه صلي الله عليه و آله و سلم بالقبول، و ذلك عندما اشتد به الوجع فلم يستفهموه أنه قال ذلك أم لا، و لم ينسبوا إليه صلي الله عليه و آله و سلم الهجر والهذيان، و هذه مسألة لم أعرف من يتفضي عنها.
قال ابن أبي الحديد في الشرح 16/ 230، واعلم أن الناس يظنون أن نزاع فاطمة أبابكر
كان في أمرين، في الميراث والنحلة، و قد وجدت في الحديث أنها نازعت في أمر ثالث
و منعها أبوبكر إياه أيضا، و هو: سهم ذوي القربي.
قال ابن أبي الحديد المعتزلي في الشرح: أنه قال أبوبكر الجوهري: أخبرني أبوزيد عمر بن شبة قال: حدثني هارون بن عمير، قال: حدثنا الوليد ابن مسلم، قال: حدثني صدقة أبومعاوية عن محمد بن عبدالله عن محمد بن عبدالرحمن بن أبي بكر عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك أن فاطمة عليهاالسلام أتت أبابكر، فقالت: لقد علمت الذي ظلفتنا (1) عنه أهل البيت من الصدقات، و ما أفاء الله علينا من الغنائم في القرآن من سهم ذوي القربي، ثم قرأت عليه قوله تعالي: «واعلموا أنما غنمتم من شي ء فأن لله خمسه و للرسول و لذي القربي (2) ».
فقال أبوبكر: بأبي أنت و أمي و والد ولدك، السمع والطاعة لكتاب
ص: 121
الله، و لحق رسول الله، و حق قرابته، و أنا أقرأ من كتاب الله الذي تقرئين منه، و لم يبلغ علمي منه أن هذا السهم من الخمس يسلم إليكم كاملا، قالت: افلك هو و لأقربائك؟ قال- لا- بل أنفق عليكم منه و أصرف الباقي في مصالح المسلمين.
قالت: ليس هذا حكم الله تعالي، قال هذا حكم الله فإن كان رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم عهد إليك في هذا عهدا أو أوجبه لكم حقا صدقتك و سلمته كله إليك و إلي أهلك، قالت: إن رسول الله لم يعهد إلي في ذلك بشي ء إلا أني سمعته يقول لما أنزلت هذه الآية: أبشروا آل محمد فقد جاءكم الغني، قال أبوبكر لم يبلغ علمي من هذه الآية أن أسلم إليكم هذا السهم كله كاملا، ولكن لكم الغني الذي يغنيكم و يفضل عنكم، و هذا عمر بن الخطاب و أبوعبيدة بن الجراح فاسأليهم عن ذلك و انظري هل يوافقك علي ما طلبت أحد منهم.
فانصرفت إلي عمر فقالت له مثل ما قالت لأبي بكر، فقال لها مثل ما قاله لها أبوبكر، فعجبت فاطمة عليهاالسلام من ذلك، و ظنت أنهما كانا قد تذاكرا ذلك واجتمعا عليه (1) .
ص: 122
قلت: هذا الحديث فيه شواهد علي مطالب، أولها: أن أبابكر إنما منع فاطمة عليهاالسلام سهمها و سائر بني هاشم سهامهم لا لعهد إليه من رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و إنما عمل بذكل لرأي رآه، و ذلك لقوله: و لم يبلغ علمي من هذه الآية أن أسلم إليكم (هذا السهم كله كاملا)، فكان قد زعم أن الآية لا دلالة فيها علي إعطاء ذي القربي سهامهم، و هذا خطأ منه في الرأي لدلالة الآية علي كون سهم ذي القربي ملكا لهم لا فيئا للمسلمين. كما أن آية الصدقات، أعني قوله تعالي: إنما الصدقات للفقراء والمساكين (1) دالة علي أن الزكاة ملك للذكورين في الآية، و قد أجمعت علماء المذاهب علي فساد الاجتهاد في قبال النص، و لذا ردت فاطمة علي أبي بكر قائلة له: ليس هذا حكم الله و إن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم قال: أبشروا آل محمد فقد جاءكم الغني، بل النبي صلي الله عليه و آله و سلم لما علم بأن المال لذوي قرابته بشرهم بالغني فلا يحتاجون إلي ما في أيدي الناس و أوساخهم.
ثانيها: إن فاطمة عليهاالسلام ظنت أنهما كانا قد تذاكرا ذلك و اجتمعا عليه يدل علي أن أبابكر و عمر كانا متهمين عند فاطمة، و أنهما اجتمعا علي منعها و منع قرابتها سهامهم من الفي ء، و يشهد علي ذلك قول عمر في رواية مالك بن أوس المروية في «الصواعق» ص 23 و غيرها حين التفت إلي علي عليه السلام والعباس قائلا: و أنتما تزعمان أن أبابكر فيها ظالم فاجر، ثم قال في حق نفسه: و أنتما تزعمان إني فيها ظالم فاجر، و في رواية البخاري و مسلم و جامع الأصول أنه قال عمر لعلي والعباس حين قال: قال أبوبكر قال رسول الله «لا نورث ما تركناه صدقة» فرأيتماه كاذبا آثما غادرا خائنا
ص: 123
والله يعلم إنه لصادق بار راشد تابع للحق. ثم توفي أبوبكر فقلت: أنا ولي رسول الله و ولي أبي بكر فرأيتماني كاذبا آثما غادرا خائنا والله يعلم أني لصادق بار تابع للحق فوليتها الخ. و روي أن ابن أبي الحديد عن أحمد بن عبدالعزيز الجوهري مثل ذلك بأسانيده (1) .
قلت: و هذا اليقين من علي والعباس في حق الشيخين، و من فاطمة قبلهما لما غضبت علي الشيخين و هجرتهما، إنما هو لمكان القرآن و نصوصه و دلالتها علي صحة دعوي الجميع، و أن النبي صلي الله عليه و آله و سلم لم يكن تاركا لشي ء من أحكام القرآن فكيف ينسب إليه خلافة، و أنه قال «لا نورث» و لم يظهره لوراثه و أهل قرابته.
ثالثهما: أن أبابكر و عمر أسقطا سهم ذي القربي، والحال أن الله تعالي أثبته في القرآن بقوله: واعلموا أنما غنمتم من شي ء فأن لله خمسه و للرسول و لذي القربي واليتامي والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله و ما أنزلنا علي عبدنا يوم لفرقان يوم التقي الجمعان والله علي كل شي ء قدير (2) .
قال الفخر الرازي في التفسير: يعني إن كنتم آمنتم بالله فاحكموا بهذه القسمة، و يدل علي أنه متي لم يحصل الحكم بهذه القسمة لم يحصل الإيمان بالله تعالي إلخ.
قلت: العجب من أبي بكر و عمر أنهما مع صراحة الآية في حجية قول فاطمة عليهاالسلام و إدعائها سهم ذي القربي علي أبي بكر، كيف يسألانها
ص: 124
إقامة الحجة علي دعواها؟ و أي حجة و عهد أقوي و أتم من القرآن الذي هو الناطق بالصواب؟ و أي ذنب أعظم من ترك الحكم بما أنزل الله علي رسوله صلي الله عليه و آله و سلم؟
ثم أقول: الآية صريحة في أن لذي القربي حقا في الخمس، و أن أول من أنكره أبوبكر، ثم من بعده عمر، فالمروي في جامع الأصول من سنن أبي داود 3/ 146، والنسائي عن يزيد بن هرمز قال:
إن نجدة الحروري حين حج في فتنة ابن الزبير أرسل إلي ابن عباس يسأله عن سهم ذي القربي، لمن يراه؟ فقال له: لقربي رسول الله، قسمه صلي الله عليه و آله و سلم لهم، و قد كان عمر عرض علينا من ذلك عرضا رأيناه دون حقنا، فرددناه عليه و أبينا أن نقبله. روي الحديث أحمد بن حنبل في مسنده 1/ 320 و مسلم في صحيحه 5/ 197، والسيوطي في الدر المنثور 3/ 186
فالرواية مع أنها صحيحة عندهم صريحة في أن عمر منع عن ذي القربي حقهم الذي أعطاهم النبي صلي الله عليه و آله و سلم بأمر من الله تعالي. ولكن في صحيح النسائي في أوائل كتاب قسم الفي ء، أن عمر بن عبدالعزيز بعث بسهم الرسول صلي الله عليه و آله و سلم و سهم ذي القربي إلي بني هاشم الخ. و هذا صريح في أن ابن عبدالعزيز لم يرض بحكم أبي بكر و عمره و في الصحيح المزبور أنه كتب عمر بن عبدالعزيز إلي عمر بن الوليد: «و قسم أبوك لك الخمس كله، و إنما سهم أبيك كسهم رجل من المسلمين و فيه حق الله و حق رسوله و حق ذي القربي واليتامي والمساكين وابن السبيل».
ص: 125
روي العلماء: أن أبابكر أغضب فاطمة عليهاالسلام و آذاها إلي أن هجرته و صاحبه عمر حتي ماتت، بل الأخبار في ذلك بلغت حد التواتر، بل و في أنها أوصت بأن تدفن ليلا حتي لا يصلي عليها أحد غير علي بن أبي طالب (1) و صرحت بذلك و عهدت فيه عهدا بعد أن كان أبوبكر و عمر استأذناها (2) للدخول عليها ليعوداها فأبت أن تأذن لهما، فلما طالت عليهما المدافعة رغبا إلي علي عليه السلام و جعلاه واسطة (3) .
فكلمها علي عليه السلام في ذلك و ألح عليها، فأذنت لهما في الدخول ثم أعرضت عنهما «عند دخولهما» و لم تكلمهم، فلما خرجت قالت لأميرالمؤمنين: هل صنعت ما أردت؟ قال: نعم، قالت: فهل أنت صانع ما آمرك به، قال: نعم، فإني أنشدك الله أن لا يصليا علي جنازتي و لا يقدما علي قبري (4) و أنه عليه السلام بعد دفنها محا أثر القبر حتي لا يهتديا إليه (5) .
ص: 126
و من صحاح أخبارهم علي عقب فاطمة و هجرها لأبي بكر و عمر، ما في كتاب الإمامة والسياسة لابن قتيبة: أن فاطمة قالت لهما: إني أشهد الله و ملائكته أنكما أسخطتماني و ما أرضيتماني، و لئن لقيت النبي صلي الله عليه و آله و سلم لأشكونكما إليه (1) .
و في سيرة الحلبي 3/ 399: غضبت فاطمة من أبي بكر و هجرته إلي أن ماتت، فإنها عاشت بعد رسول الله ستة أشهر (2) .
و في رواية البخاري في باب فرض الخمس من صحيحه، و مسلم في صحيحه 5/ 154، أن أبابكر أبي أن يدفع إلي فاطمة شيئا فوجدت علي أبي بكر في ذلك، فهجرته فلم تكلمه حتي توفيت و عاشت بعد النبي صلي الله عليه و آله و سلم ستة أشهر، فلما توفيت دفنها زوجها علي عليه السلام ليلا ولم يؤذن بها أبابكر.
و مثل ذلك ما رواه العلامة السمهودي في «وفاء الوفا» بأخبار دار المصطفي
ص: 127
2/ 157 قال: و في الصحيح (عن عروة بن الزبير عن عائشة) قالت: فغضبت فاطمة عليهاالسلام فهجرت أبابكر، فلم تزل مهاجرته حتي توفيت و عاشت بعد رسول الله ستة أشهر (1) .
و نحو ما ذكرنا في غضب فاطمة عليهاالسلام علي أبي بكر و استمرارها علي الوجد والغضب والهجر إلي الوفاة، أخبار «كنزالعمال»، و منتخبه، و روايات «جامع الأصول» و «مسند أبي داود»، و ما أخرجه ابن أبي الحديد المعتزلي عن أبي بكر الجوهري في شرح نهج البلاغة 4/ 104، و في رواية أخري ذكرناها في السابق أن فاطمة قالت لأبي بكر: والله لأكلمتك أبدا، والله لأدعون الله عليك، فلما حضرتها الوفاة أوصت أن لا يصلي عليها فدفنت ليلا، و صلي عليها عباس بن عبدالمطلب (2) و إن عليا بعد دفنها محا أثر القبر.
قال ابن قتيبة في ص 14 من كتاب «الإمامة والسياسة» أنه قال عمر لأبي بكر: انطلق بنا إلي فاطمة عليهاالسلام فإنا قد أغضبناها، فانطلقا جميعا فأستأذنا علي فاطمة فلم تأذن لهما، فأتيا عليا فكلماه فأدخلهما عليها، فلما قعدا عندها حولت وجهها إلي الحائط فسلما عليها فلم ترد عليهماالسلام، فتنكلم أبوبكر فقال: يا حبيبة رسول الله، والله إن قرابة رسول الله أحب إلي من قرابتي، و إنك لأحب إلي من عائشة ابنتي، ولوددت يوم مات أبوك
ص: 128
إني مت و لا أبقي بعده أفتريني أعرفك و أعرف فضلك و شرفك و أمنعك حقك و ميراثك من رسول الله، إلا أني سمعت أباك رسول الله يقول: «لا نورث ما تركناه صدقة»، فقالت: أرأيتكما إن حدثتكما حديثا من رسول الله تعرفانه و تعقلانه؟ قالا: نعم، فقالت: نشدتكما الله. ألم تسمعا رسول الله يقول: رضا فاطمة من رضاي و سخط فاطمة من سخطي، فمن أحب إبنتي فاطمة فقد أحبني، و من أرضي فاطمة فقد أرضاني، و من أسخط فاطمة فقد أسخطني؟ قالا: نعم سمعناه من رسول الله، قالت: فإني أشهد الله و ملائكته أنكما أسخطماني و ما أرضيتماني و لئن لقيت النبي صلي الله عليه و آله و سلم لأشكونكما إليه، فقال أبوبكر: أنا عائذ بالله تعالي من سخطه و سخطك يا فاطمة، ثم انتخب أبوبكر يبكي حتي كادت نفسه أن تزهق و هي تقول: لأدعون الله عليك في كل صلاة أصليها، ثم خرج باكيا، فاجتمع إليه الناس فقال لهم: يبيت كل رجل منكم معانقا حليلته مسرورا بأهله، و تركتموني و ما أنا فيه لا حاجة لي في بيعتكم أقيلوني بيعتي إلخ (1) .
انظر أيها المنصف إلي قول أبي بكر: أقيلوني فإنه ينبي ء عن عجزه و عدم تمكنه من إرضاء فاطمة، فكيف بإدارته شؤون الأمة، فإنه كان يري من جانب أن تسليم فدك إلي علي و فاطمة خلاف السياسة و خلاف رضاء، عمر كما يشهد بذلك ما ذكر من خبر شق عمر كتاب أبي بكر في رد فدك (2) .
ص: 129
و يروي من جانب آخر عدم تمكنه من إرضاء فاطمة، و أنه صار موردا لغضبها و سخطها عليه فضاق به الأمر، فاستقال من الإمارة و لا يجديه ذلك نفعا بعد إغضابه فاطمة إلا رفع يده عن فدك و لم يكن له أن يستقيل لو كان منصوبا من الله تعالي (1) ، فإن استقالته حينئذ تكون كاستقالة النبي صلي الله عليه و آله و سلم من النبوة. نعم: لإمام الجماعة أن يستقيل ولكن ذلك حيث أنه إمام الجماعة غير منصوص عليه من الله تعالي، فلا يتوهم مقايسة المسألة بالقاضي و إمام الجماعة للصلاة، فإن من يكون له منصب معين من الله تعالي لا يجوز له الاستقالة منه لأي غرض كان أو حاجة دعت اليها، و لذا لا يجوز لأحد من المنصوبين من قبل النبي صلي الله عليه و آله و سلم أو ولي الأمر من بعده الإعراض عن المنصب المعين له والإستقاله عنه، إلا برضاء النبي صلي الله عليه و آله و سلم أو الولي.
و إني إلي الآن كلما تأملت في قول أبي بكر: أقيلوني، لم أعرف له وجها محصلا فإنه إن كان صادقا كان ذلك إزراء بخلافته سيما مع إنضمامه إلي قوله فلست بخيركم. رواه ابن حجر المكي في صواعقه ص 7، وابن قتيبة في الإمامة والسياسة ص 34، و ابن أبي الحديد في الشرح 4/ 169، و الا فلا يصح أيضا. و كيفما كان فالذي يفصح عن وقوع أبي بكر في الندم علي ما عامل به فاطمة و أدخل عليها من الوجد والغضب والأذي كلامه حين موته- لوددت
ص: 130
إني لم أكشف عن بيت فاطمة (1) - ذكره في منتخب «كنزالعمال» المطبوع في حاشية المسند لأحمد في باب الإمارة و خلافة الصديق، و ذكره المسعودي في مروج الذهب 2/ 194، واليعقوبي في تاريخه 2/ 195، وابن أبي الحديد في الشرح 1/ 130، وابن تيمية الحراني في منهاج السنة 4/ 220، و فضل بن روزبهان في إبطال الحق (2) .
ثم إن أبابكر لما كان واليا مطاعا عند المسلمين لا يتصور في حقه الوقوع في المحذور حتي يلتجي ء إلي الاستقالة من الخلافة لأجل فدك، فإنه كان له أن يعطي فدك لفاطمة من باب الولاية، كما أنه أعطي المنقول من تركة رسول الله مثل السيف والعصا واللباس والبغلة و غيرها لعلي و فاطمة، و أعطي الحجرات للنساء، كذلك و خلي بينهن و بين مساكنهن، فإن كان ذلك لعهد من النبي صلي الله عليه و آله و سلم، فأي عهد وقع منه إلي أبي بكر أو غيره فيذلك و لم يقع في فدك؟ مع أن الحديث المروي في نفي الإرث عامة يشمل فدك و غير فدك، و إن كان من باب الولاية العامة كما قيل، فإعطاء فدك إلي فاطمة
ص: 131
عليهاالسلام بعد هذه الاحتجاجات أولي من إعطاء غيرها لغيرها، و كان موفقا للإحسان و مخالفا للإساءة والسخط والبغضاء، و لذا قال قاضي القضاة حاكيا قول الشيعة:
و قد كان الأجمل أن يمنعهم التكرم مما ارتكبوا منها، فضلا عن الدين (1) .
و لنعم ما قالوه في هذا المقام فإن الإحسان والتكرم موجب لأن
ص: 132
يعامل أبوبكر فاطمة في فدك مثل ما عامل النبي صلي الله عليه و آله و سلم به زينب ابنته في التماسه من المسلمين أن يردوا إليها المال الذي بعثته لفداء زوجها أبي العاص، حيث أسر يوم بدر، و قال صلي الله عليه و آله و سلم للمسلمين: إن رأيت أن تطلقوا لها أسرها و تردوا عليها ما بعثت به من الفداء فافعلوا، فقالوا نعم يا رسول الله، نفديك بأنفسنا و أموالنا، فردوا عليها ما بعثت به من الفداء و أطلقوا أباالعاص بغير فداء، و هذا من مسلمات الحديث.
قال ابن أبي الحديد المعتزلي في الشرح عند بيان غزوة بدر: «قرأت علي النقيب أبي جعفر يحيي بن أبي زيد البصري العلوي هذا الخبر (1) ، فقال أتري أبابكر و عمر لم يشهدا هذا المشهد؟ أما كان يقتضي التكرم والإحسان أن يطيبا قلب فاطمة بفدك و يستوهباها من المسلمين؟ أتقصر منزلتها عند رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم عن منزلة زينب أختها و هي سيدة نساء العالمين، هذا إذا لم يثبت لها حق لا بالنحلة و لا بالإرث.
ص: 133
فقلت له: فدك بموجب الخبر الذي رواه أبوبكر قد صار حقا من حقوق المسلمين، فلم يجز له أن يأخذه منهم.
فقال: و فداه أبي العاص قد صار حقا من حقوق المسلمين و قد أخذه رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم منهم.
فقلت: رسول الله صاحب الشريعة: والحكم حكمه و ليس أبوبكر كذلك
فقال: ما قلت هلا أخذه أبوبكر من المسلمين قهرا يدفعه إلي فاطمة عليهاالسلام، و إنما قلت: هلا استنزل المسلمين عنه و استوهبها منهم لها كما استوهب رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم من المسلمين فداء أبي العاص؟ أتراه لو قال لهم: هذه بنت نبيكم قد حضرت لهذه النخيلات أفتطيبون عنها نفسا، أكانوا يمنعونها ذلك؟
فقلت له: قد قال: قاضي القضاة أبوالحسن عبدالجبارين أحمد نحو هذا قال: إنما لم يأتيا بحسن في شرح التكرم، و إن كان ما أتياه عندنا حسنا في الدين.
قلت: إن ذلك لم يكن حسنا أيضا في الدين، و ليس قوله هذا إلا لحسن ظنه بهما، و إلا فقواعد الشرع علي الخلاف، و ذلك لما روته العامة في كتبهم المعتبرة إلي أن بلغت حد التواتر اليقيني، من أن الله تعالي يغضب لغضب فاطمة، و يرضي لرضاها، و هو من أحاديث الحاكم في «المستدرك» والعلامة المناوي في «كنوز الدقائق» في حرف الألف، و أبوبكر و عمر سمعا بالحديث من النبي صلي الله عليه و آله و سلم و شهدا بذلك عند فاطمة حسبما عرفت من كتاب «الإمامة والسياسة» لابن قتيبة، فإن فيه قالت فاطمة لهما: نشدتكما الله
ص: 134
ألم تسمعا رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم يقول: رضا فاطمة عليهاالسلام من رضاي و سخط فاطمة من سخطي، فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني. و من أرضي فاطمة فقد أرضاني، و من أسخط فاطمة فقد أسخطني؟ قالا: نعم سمعنا من رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، قالت: فإني أشهد الله و ملائكته أنكما أسخطتماني و ما أرضيتماني و لئن لقيت النبي صلي الله عليه و آله لأشكونكما إليه.
و في صحيح البخاري في باب مناقب فاطمة عليهاالسلام أن رسول الله قال: فاطمة بضعه مني، فمن أغضبها فقد أغضبني (1) . و في الصواعق المحرقة لابن حجر الهيتمي انه أخرج أحمد والترمذي والحاكم عن ابن الزبير أن النبي صلي الله عليه و آله و سلم قال: إنما فاطمة بضعه مني يؤذيني ما أذاها و ينصبني ما أنصبها، (و رواه الحاكم في المستدرك 3/ 159 وابن حنبل في مسنده 4/ 5).
و في صحيح مسلم (باب مناقب الصحابة): إنما فاطمة بضعه مني يؤذيني ما أذاها و يسرني ما أسرها.
و في الشفاء للقاضي عياض: إنها بضعه مني يغضبني ما يغضبها.
و في الترمذي: إنها بضعه مني يريبني ما أرابها و يؤذيني ما آذاها، و رواه صحيحا ابن تيميه الحنبلي في المنهاج (و محب الدين الطبري في ذخائر العقبي والبخاري في كتاب النكاح و مسلم في صحيحه في باب مناقب الصحابة (2) ).
ص: 135
أقول: كيف يكون والجمع والتوفيق، بين هذه الأحاديث و بين ما سبق من الأقوال في غضب فاطمة علي أبي بكر و هجرها إياه و عدم الإذن منها في حضوره لجنازتها والصلاة عليها.
و لقد تصدي كثير من الناس للجواب عن ذلك بما لا يكون جوابا للإشكال حقيقة، و إنما هو تقرير للشبهة واقعا:
أحدها أن غضب فاطمة عليهاالسلام علي أبي بكر لا يكون لأمر ديني، و إنما هو غضب يحصل للإنسان قهرا عند عدم رعاية جانبه، و هذا في الحقيقة ليس بغضب، بل هو تغيير للخاطر، و تألم في القلب بواسطة عدم حصول شي ء يلاثم الطبع.
و هذا الوجه باطل لأن هذا القسم من الغضب الذي هو تألم الخاطر
ص: 136
لا يصدر عن المؤمن، فضلا عن فاطمة عليهاالسلام الممجدة بآية التطهير و آية المباهله و سورة هل أتي، و كونها سيدة نساء العالمين. و من الباطل أن يميل الإنسان إلي أن يحكم الحاكم له بغير حكم الله تعالي، فلو كان ما حكم به أبوبكر حقا من رسول الله لما جاز لمسلم أن يغضب عليه.
والظاهر من حال فاطمة و طلبها أنها كانت تطلب حقها، و لما منعت حقها و لم تجد إلي حمل القوم في ذلك علي الصحة سبيلا، غضبت علي أبي بكر ذلك الغضب إلي حين وفاتها، فهذا غضب لأمر ديني لا لأمر دنيوي، و لو كان لعوارض بشرية لزال عنها الغضب بعد الاسترضاء منها.
ثم أقول: لا يجوز الحكم يخروج هذا الغضب عن عموم كلام رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم: إن الله يغضب لغضب فاطمة عليهاالسلام و يرضي لرضاها، لأن النبي صلي الله عليه و آله و سلم لم يحكم بخروجه عن الحكم العام، و لو حكم بالخروج لما بقيت لفاطمة عليهاالسلام منقبة، فإن الله يغضب لغضب كل مؤمن من دون اختصاص بفاطمة عليهاالسلام منقبه، فإن الله يغضب لغضب كل مؤمن من دون اختصاص بفاطمة عليهاالسلام و تخصيصها من بين المسلمين بهذه المزية شاهد علي أن الله تعالي يغضب لغضب فاطمة مطلقا من أي جهة كان، فجعل سبحانه الإطاعة في رضاها، والمثوبة علي الأخذ بخاطرها، و ذلك كرامة من الله تعالي لرسوله صلي الله عليه و آله و سلم، و أوجب من حقه صلي الله عليه و آله و سلم المودة لأهل بيته صلي الله عليه و آله و سلم بصريح القرآن، و أن من حقوقه التسالم لفاطمة عليهاالسلام و حفظها عن تألم القلب و اشمئزاز الخاطر، فهي بضعة النبي صلي الله عليه و آله و سلم و إغضابها إغضابه، و من المعلوم أن النبي صلي الله عليه و آله و سلم لا يغضب بالباطل، فإذا غضب كان غضبه حقا موجبا لغضب الله، و حكم المغضوب عليه من الله الضلال البعيد والخلود في النار.
ص: 137
قال ابن تيمية الحنبلي في منهاج السنة 2/ 17 مجيبا عن إشكال غضب فاطمة علي أبي بكر و عمر أن حديث فاطمة بضعة مني يريبني ما يريبها و يؤذيني ما يؤذيها، و ارد في مورد خطبة علي عليه السلام ابنه أبي جهل في حياة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم فأسخطه ذلك.
ففي الخبر المعتبر أن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم قال: أن بني هشام بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب، فلا إذن، ثم لا إذن، ثم لا إذن لهم، إن يحب ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي و ينكح ابنتهم، فإنما هي ابنتي بضعة مني، يريبني ما يريبها و يؤذيني ما يؤذيها (1) .
ص: 138
قال: و معلوم قطعا أن خطبة ابنة أبي جهل علي فاطمة عليهاالسلام رابها و آذاها، والنبي صلي الله عليه و آله و سلم رابه ذلك و آذاه، فإن كان هذا وعيدا لا حقا بفاعله، لزم أن يلحق هذا الوعيد علي بن أبي طالب، و إن لم يكن وعيدا لاحقا بفاعله، كان أبوبكر أبعد عن الوعيد من علي.
قلت: إن رواية خطبة علي عليه السلام ابنة أبي جهل لا أصل لها، و لا هي مذكورة في كتب الإمامية من طرقهم، و هذا أمر واضح، لأن الإمام عندهم هو المعصوم، العالم بجميع الأحكام، الملتفت إليها، الغير الذاهل عنها، أو الناسي ء لشي ء منها، و لذا تري أن علماء هذا المنصب قاطبة أنكروا علي من ذكر هذا الخبر و رموه بأنه مناف لأصول المذهب المأخوذ من أهل بيت العصمه الذين أذهب الله عهمه الرجس و طهرهم تطهيرا.
نعم هذا الخبر موافق لمذهب النواصب الخوارج الذين أرادوا بذلك القدح في علي عليه السلام أو واحد من أهل البيت، والرواية التي أوردوها
ص: 139
كما ذكرنا لا دلالة فيها علي أن عليا عليه السلام خطب ابنة أبي جهل، و إنما بنوهاشم هم الذين أقدموا علي ترويج ابنتهم من علي عليه السلام و استأذنوا في ذلك رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم فلم يأذن لهم و أسخطه ذلك، و ليس في الخبر ما يشعر بهفوات ابن تيمية.
ثم أقول: علي تقدير صدور الخطبة من علي عليه السلام أن عليا لم يفعل محرما و لم يقع موقع الشكاية من فاطمة و لا موردا لسخطها، لأن التزويج أمر مشروع بالكتاب والسنة، و علي أصول أهل السنة أن عليا عليه السلام قبل ذلك لم يعلم بأنه مخالف لرضاء فاطمة و موجب لسخط رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، فلو خطب علي عليه السلام ابنة أبي جهل فقد فعل بمقتضي قوله تعالي: «فانكحوا ما طاب لكم من النساء»، إلا أنه لما علم بسخط النبي صلي الله عليه و آله و سلم و توجه النهي نحوه، الذي لم يكن متوجها قبل ذلك، ترك الخطبة من حينه طاعة لله و لرسوله صلي الله عليه و آله و سلم و تحصيلا لرضاء فاطمة عليهاالسلام.
و أين هذا من فعل أبي بكر و عمر، و إغضابها لفاطمة بعد علمهما بالتحريم و كونه إثما عظيما فلا تصح المقايسة؟
قال أهل السير والتواريخ أن عمر بن عبدالعزيز لما استخلف قال: أيها الناس إني قد رددت فدك علي ولد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و ولد علي بن ابي طالب، فكان أول من ردها، فلم تزل في أيديهم إلي أن مات عمر بن عبدالعزيز.
و قال ابن أبي الحديد حاكيا عن أبي بكر الجوهري: أنه لما ولي عمر بن
ص: 140
عبدالعزيز الخلافة كانت أول ظلامة ردها أنه دعا حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، و قيل: بل دعا علي بن الحسين عليه السلام فردها عليه، و كانت بيد أولاد فاطمة مدة ولاية عمر بن عبدالعزيز (1) .
قلت: كان الواجب علي أبي بكر أن يعامل فاطمة مثل ما عامل به عمر ابن عبدالعزيز، فيرد فدك إليها إما من باب الولاية، و إما من باب الاستحقاق بموجب الشرع، و أقل ما يلزم عليه أن يستحلفها علي دعواها أن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم أعطاها فدك في حياته، فإن عليا عليه السلام و أم أيمن شهدا لها، و بقي ربع الشهادة فكان عليها الحلف لا ردها بعد الشاهدين.
تمت بحمد الله الرسالة الفدكية علي يد مؤلفها محمد حسن الموسوي
الطباطبائي في شهر ربيع الأول من شهور سنة 1352
ص: 141
ص: 142
ص: 143
هدي المله إلي أن فدك نحله
تحقيق
باقر المقدسي
ليسانس في اللغة العربية والعلوم الإسلامية
من كلية الفقه في النجف الأشرف
ص: 144
بسم الله الرحمن الرحيم
اكتفي السيد المؤلف من أخبار فدك بهذا القدر، و بقيت هناك أخبار أخر أحببت أن أضيفها إلي كتابه إتماما للفائدة.
1- خطبة الصديقة فاطمة في مسجد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم.
2- الأهداف التي استهدفتها الزهراء عليهاالسلام من مواقفها الصلبة
3- الأسباب التي جعلت القوم يتصلبون أمام مطاليب فاطمة عليهاالسلام.
4- الغاية التي من أجلها أوصت الزهراء بدفنها ليلا.
5- تاريخ فدك في عصر الخلفاء الراشدين و عصر الأمويين والعباسيين
لقد ذكر الخطبة مجموعة من العلماء مع اختلاف يسير بين بعض كلماتها أو جملاتها، و أنا أوردها في المتن علي رواية الطبرسي في الاحتجاج، و أذكر في الهامش الاختلاف المذكور عن نسخة مصححة اجتمع علي تصحيحها و انتقائها من نسخ متعددة: السيد عبدالحسين شرف الدين، والشيخ محمد تقي صادق، و عرضت علي الشيخ محمد السماوي فقال: إن كان للزهراء خطبة فهي هذه، و قد حصلت عليها من مكتبة الخطيب المغفور له الشيخ مسلم الجابري النجفي، و قد علمت عليها بحرف (خ). كما ذكر الخطبة علامة الأدب أحمد بن أبي طاهر البغدادي المتوفي سنة 280 ه في «بلاغات النساء» ص 14
ص: 145
المطبعة الحيدرية. والأستاذ عمر رضا كحالة في «أعلام النساء» 3/ 1208 طبعة دمشق. وابن أبي الحديد في «شرح نهج البلاغة» 4/ 93 عن الجوهري.
قال الشيخ الطبرسي في كتاب «الاحتجاج» (1) : روي عبدالله بن الحسن بإسناده عن آبائه عليهم السلام، أنه لما أجمع أبوبكر و عمر علي منع فاطمة
ص: 146
فدكا و بلغها ذلك، لاثت خمارها (1) علي رأسها، و اشتملت بجلبابها، و أقبلت في لمة (2) من حفدتها (3) و نساء قومها، تطأ ذيولها (4) ، ما تخرم (5) مشيتها مشية رسول الله، حتي دخلت علي أبي بكر و هو في حشد (6) من المهاجرين والأنصار و غير، فنيطت دونها ملاءة (7) ، فجلست، ثم أنت أنة أجهش القوم لها بالبكاء، فارتج المجلس، ثم أمهلت هنيهة حتي إذا سكن نشيج القوم و هدأت فورتهم افتتحت الكلام بحمد الله والثناء عليه والصلاة علي رسوله، فعاد القوم في بكائهم، فلما أمسكوا عائت في كلامها فقالت:
الحمد لله علي ما أنعم (8) ، و له الشكر علي ما ألهم (9) ، والثناء بما قدم
ص: 147
من عموم نعم ابتداها- و سبوغ آلاء أسداها، و تمام منن أولاها (1) ، جم عن الاحصاء عددها، و ناي عن الجزاء امدها (2) ، و تفاوت عن الإدراك أبدها، و ندبهم لاستزادتها بالكشر لا تصالها، و استحمد إلي الخلائق بإجزالها، و ثني بالندب إلي أمثالها.
و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له (3) كلمة جعل الإخلاص تأويلها، و ضمن القلوب موصولها، و أنار في التفكر (4) معقولها، الممتنع من الأبصار رؤيته، و من الألسن صفته، و من الأوهام كيفيته (5) . ابتدع الأشياء لا من شي ء كان قبلها، و أنشاها بلا احتذاء أمثله امتثلها، كونها بقدرته، و ذرأها بمشيئته، من غير حاجة منه إلي تكوينها، و لا فائدة له في تصويرها، إلا تثبيتا لحكمته، و تنبيها علي طاعته، و إظهارا لقدرته، و تعبدا لبريته، و إعزازا لدعوته، ثم جعل الثواب علي طاعته، و وضع
ص: 148
العقاب علي معصيته، ذيادة لعباده من نقمته، و حياشة (1) لهم إلي جنته.
و أشهد أن أبي محمدا عبده و رسوله، اختاره (2) قبل أن أرسله، و سماه قبل أن اجتباه، واصطفاه قبل أن ابتعثه، إذ الخلائق بالغيب مكنونة، و بستر الأهاويل مصونة، و بنهاية العدم مقرونه، علما من الله تعالي بمايل (3) الأمور، و إحاطه بحوادث الدهور، و معرفة منه بمواقع المقدور.
ابتعثه الله (4) إتماما لأمره، و عزيمة علي إمضاء حكمه، و إنفاذا لمقادير حتمه، فرأي الأمم (5) فرقا في أديانها. عكفا علي نيرانها، عابدة لأوثانها، منكره لله مع عرفانها فأنار الله بأبي محمد صلي الله عليه و آله و سلم ظلمها، و كشف (6) عن القلوب بهمها، و جلي عن الأبصار غممها، و قام في الناس بالهداية، و أنقذهم من الغواية، و بصرهم من العماية، و هداهم إلي الدين القويم، و دعاهم إلي الطريق المستقيم.
ثم قبضه الله إليه قبض رأفة و اختيار (7) . و رغبة و إيثار، فمحمد عن
ص: 149
تعب هذه الدار في راحة، قد حف بالملائكة الأبرار، و رضوان الرب الغفار، و مجاورة الملك الجبار، صلي الله علي أبي نبيه، و أمينه، و خيرته من الخلق و صفيه، والسلام عليه و رحمةالله و بركاته.
ثم التفت إلي أهل المجلس و قالت: أنتم (1) عباد الله نصب أمره و نهيه،
ص: 150
و حمله دينه و وحيه، و أمناء الله علي أنفسكم، و بلغاؤه إلي الامم، زعيم حق له فيكم، و عهد قدمه إليكم، و بقية استخلفها عليكم، كتاب الله الناطق، والقرآن الصادق، والنور الساطع، والضياء اللامع، بينة بصائره، منكشفه سرائره، متجلية ظواهره، مغتبطة به أشياعه، قائد إلي الرضوان اتباعه، مؤذ إلي النجاة استماعه.
به تنال حجج الله المنورة، و عزائمه المفسره، و محارمه المحذرة، و بيناته الجالية، و براهينه الكافية، و فضائله المندوبة، و رخصه الموهوبة. و شرائعه المكتوبة، فجعل الله الإيمان تطهيرا لكم من الشرك، والصلاة تنزيها لكم عن الكبر، والزكاة تزكية للنفس، و نماء في الرزق، والصيام تثبيتا للإخلاص، والحج تشييدا للدين، والعدل تنسيقا للقلوب، و طاعتنا نظاما للملة، و إمامتنا أمانا من الفرقة، والجهاد عز للإسلام، والصبر معونة علي استيجاب الأجر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مصلحة للعامة، و بر الوالدين وقاية من السخط، و صلة الأرحام منسأة في العمر، و منماة للعدد، والقصاص حقنا للدماء، والوفاء بالنذر تعريضا للمغفرة، و توفية المكاييل والموازين تغييرا للبخس، والنهي عن شرب الخمر تنزيها عن الرجس، و اجتناب القذف حجابا عن اللعنة، و ترك السرقة إيجابا للعفة، و حرم الله الشرك إخلاصا له بالربوبية، فاتقوا الله حق تقاته، و لا تموتن إلا و أنتم مسلمون، و أطيعوا الله فيما أمركم به و نهاكم عنه، فإنه إنما يخشي الله من عباده العلماء.
ثم قالت (1) : أيها الناس... اعلموا أني فاطمة، و أبي محمد، أقول عودا
ص: 151
و بدوا، و لا أقول ما أقول غلطا، و لا أفعل ما أفعل شططا، «لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم»، فإن تعزوه و تعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم، و أخا ابن عمي دون رجالكم، و لنعم المعزي إليه صلي الله عليه و آله و سلم، فبلغ الرسالة، صادعا بالنذارة، مائلا عن مدرجة المشركين، ضاربا ثبجهم، آخذا باكظامهم، داعيا إلي سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة يجذ الأصنام، و ينكث الهام، حتي انهزم الجمع و ولوا الدبر، و حتي تفري الليل عن صبحه، و أسفر الحق عن محضه، و نطق زعيم الدين، و خرست شقاشق الشياطين، و طاح و شيظ النفاق، و انحلت عقد الكفر والشقاق، و فهتم بكلمة الإخلاص (1) في نفر من البيض الخماص.
ص: 152
و كنتم علي شفا حفرة (1) من النار مذقه الشارب، و نهزة الطامع، و قبسة العجلان، وموطي ء الاقدام، تشربون الطرق، و تقتاتون القد، أذله خاسئين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم فأنقذكم الله تبارك و تعالي بأبي محمد بعد اللتيا واللتي، و بعد أن مني ببهم الرجال و ذؤبان العرب، و مردة أهل الكتاب، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله، أو نجم قرن للشيطان (2) ، أو فغرت فاغرة من المشركين، قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفي ء حتي يطأ صماخها باخمصه، و يخمد لهبها بسيفه، مكدودا (3) ، في ذات الله، مجتهدا في أمر الله، قريبا من رسول الله، سيدا في أولياء الله، مشمرا ناصحا، مجدا كادحا لا تأخذه في الله لومة لائم.
ص: 153
و أنتم في رفاهية من العيش، و ادعون فاكهون آمنون، تتربصون بنا الدوائر، و تتوكفون الأخبار، و تنكصون عند النزال، و تفرون من القتال.
فلما اختار الله لنبيه دار أنبيائه (1) ، و مأوي أصفيائه، ظهرت فيكم حعسكة النفاق، و سمل جلباب الدين، و نطق كاظم الغاوين، و نبغ خامل الأقلين (2) ، و هدر فنيق المبطلين فخطر في عرصاتكم، و أطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفا بكم، فألفاكم لدعوته مستجيبين، و للغرة فيه ملاحظين، ثم استنهضكم فوجدكم خفافا، و أحمشكم فألفاكم غضابا، فوسمتم غير إبلكم، و وردتم غير مشربكم، هذا والعهد قريب، والكلم رحيب والجرح لما يندمل، والرسول لما يقبر، ابتدارا زعمتم خوف الفتنة، ألا في الفتنة سقطوا و إن جهنم لمحيطة بالكافرين.
فهيهات منكم. و كيف بكم، و أني تؤفكون، و كتاب الله بين أظهركم (3) ،
ص: 154
اموره ظاهرة، و أحكامه زاهرة، و أعلامه باهرة، و زواجره لائحه، و أوامره واضحة، و قد خلفتموه وراء ظهوركم، أرغبة عند تدبرون، أم بغيره تحكمون، بئس للظالمين بدلا، و من يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه و هو في الآخرة من الخاسرين.
ثم (1) لم تلبثوا إلا ريث أن تسكن نفرتها، و يسلس قيادها، ثم أخذتم تورون و قدتها و تهيجون جمرتها (2) ، و تستجيبون لهتاف الشيطان الغوي، و إطفاء أنوار الدين الجلي، و إهمال سنن النبي الصفي، و تشربون حسوا في ارتغاء، و تمشون لاهله و ولده في الخمره الضراء، و تصبر منكم علي مثل حد المدي، و وخز السنان في الحشي.
و أنتم الآن تزعمون (3) أن لا ارث لي من أبي، افحكم الجاهليه تبغون؟
ص: 155
و من أحسن من الله حكما لقوم يؤمنون. أفلا تعلمون؟ بلي قد تجلي لكم كالشمس الضاحيه اتي ابنته» أيها المسلمون... أأغلب علي إرثي» يابن أبي قحافه أفي كتاب الله أن ترث أباك و لا أرث أبي، لقد جئت شيدا فريا، أفعلي عمد تركتم كتاب الله و نبذتموه وراء ظهوركم، إذ يقول «و ورث سليمان داود» و قال فيما اقتص من خبر يحيي بن زكريا: «إذ قال رب هب لي من لدنك وليا يرثني و يرث من آل يعقوب».
و قال: «و أولوا الأرحام بعضهم أولي ببعض في كتاب الله».
و قال: «يؤصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين».
و قال «إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا علي المتقين» و زعمتم (1) أن لا حظوة لي و لا إرث من أبي، أفخصكم الله بآية أخرج
ص: 156
أبي منها، أم هل تقولون أهل ملتين لا يتوارثان؟ أو لست أنا و أبي من أهل ملة واحدة، أم أنتم أعلم بخصوص القرآن و عمومه من أبي وابن عمي؟
فدونكها مخطومة مرحولة، تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله، و الزعيم محمد، و الموعد القيامة، و عند الساعة يخسر المبطلون، و لا ينفعكم إذ تندمون، و لكل نبأ مستقر، و سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه و يحل عليه عذاب مقيم، ثم رمت بطرفها نحو الأنصار فقالت (1) :
ص: 157
يا معشر الفتية، و أعضاء الملة، و حضنة الإسلام، ما هذه الغميزة في حقي والسنة عن ظلامتي، أما كان رسول الله أبي يقول: «المرء يحفظ في ولده» سرعان ما أحدثتم، و عجلان ذا إهالة، و لكم طاقة بما أحاول، و قوة علي ما أطلب و أزاول.
أتقولون مات محمد، فخطب جليل، استوسع وهنه، و استنهر فتقه، و انفتق رتقه، و أظلمت الأرض لغيبته. و كسفت الشمس والقمر. و انتثرت النجوم لمصيبته، و أكدت الآمال، و خشعت الجبال، و أضيع الحريم، و أزيلت الحرمة عند مماته، فتلك والله النازلة الكبري، والمصيبة العظمي التي لا مثلها نازلة، و لا بائقة عاجلة، أعلن بها كتاب الله جل ثناؤه في أفنيتكم، و في ممساكم و مصبحكم، هتافا و صراخا، و تلاوة و ألحانا، و لقبله ما حل بأنبياء الله و رسله، حكم فصل، و قضاه حتم، و ما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفتن مات أو قتل انقلبتم علي أعقابكم، و من ينقلب علي عقبيه فلن يضر الله شيئا و سيجزي الله الشاكرين.
أيها (1) بني قيلة: أأهضم تراث أبي، و أنتم بمرأي مني و مسمع، و منتدي و مجمع، تلبسكم الدعوة، و تشملكم الخبرة (2) ، و أنتم ذوو العدد والعدة، والأداة والقوة، و عندكم السلاح والجنة، توافيكم الدعوة فلا تجيبون،
ص: 158
و تأتيكم الصرخة فلا تغيثون، و أنتم موصوفون بالكفاح، معروفون بالخير والصلاح، والنخبة التي انتخبت، والخيرة التي اختيرت لنا أهل البيت، قاتلتم العرب، و تحملتم الكد والتعب، و ناطحتم الأمم، و كافحتم البهم، لا نبرح أو تبرحون نأمركم فتأتمرون.
حتي إذا دارت بنا رحي الإسلام، و در حلب الأيام، و خضعت نعرة الشرك، و سكنت فورة الإفك، و خمدت نيران الكفر، و هدأت دعوة الهرج، و استوسق نظام الدين، فأني جرتم بعد البيان، و أسررتم بعد الإعلان، و نكصتم بعد الإقدام، و أشركتم بعد الإيمان، بؤسا لقوم نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم، و هموا بإخراج الرسول و هم بدأوكم أول مرة، أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين.
ألا و قد أري (1) أن قد أخلدتم إلي الخفض، و أبعدتم من هو أحق بالبسط
ص: 159
والقبض، و ركنتم إلي الدعة، و نجوم من الضيق بالسعة، فمججتم ما وعيتم، و دسعتم الدي تسوغتم، فإن تكفروا أنتم و من في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد.
ألا و قد قلت ما قلت علي معرفة مني بالخذلة التي خامرتكم، والغدرة التي استشعرتها قلوبكم ولكنها فيضة النفس، و نفثة الغيظ، و خور القناة، و بثة الصدر و تقدمة الحجة، فدونكموها فاحتقبوها دبرة الظهر، نقبة الخف، باقية العار، موسومة بغضب الجبار و شنار الأبد، موصولة بنار الله الموقدة التي تطلع علي الأفئدة، فبعين الله ما تفعلون، و سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، و أنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فاعملوا إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون.
ص: 160
فأجابها أبوبكر و قال: يا بنت رسول الله لقد كان أبوك بالمؤمنين عطوفا كريما، رؤوفا رحيما، و علي الكافرين عذابا اليما، و عقابا عظيما، فإن عزوناه وجدناه أباك دون النساء. و أخا لبعلك دون الأخلاء، آثره علي كل حميم، و ساعده في كل أمر جسيم، لا يحبكم إلا كل سعيد، و لا يبغضكم إلا كل شقي بعيد، فأنتم عترة رسول الله الطيبون، والخيرة المنتجبون، علي الخير أدلتنا، و إلي الجنة مسالكنا.
و أنت يا خيرة النساء، و ابنة خير الأنبياء، صادقة في قولك، سابقة في وفور عقلك، غير مردودة عن حقك، و لا مصدودة عن قصدك، والله ما عدوت رأي رسول الله، و لا عملت إلا بإذنه، و إن الرائد لا يكذب أهله، فإني أشهد الله و كفي به شهيدا أني سمعت رسول الله يقول نحن معاشر الأنبياء لا نورث ذهبا و لا فضة و لا دارا و لا عقارا، و إنما نورث الكتاب والحكمة والعلم والنبوة، و ما كان لنا من طعمه فلولي الأمر بعدنا أن يحكم فيه بحكمه، و قد جعلنا ما حاولتيه في الكراع والسلاح يقاتل به المسلمون، و يجاهدون الكفار، و يجالدون المردة الفجار، و ذلك بإجماع من المسلمين، لم انفرد به وحدي، و لم أستبد بما كان الرأي فيه عندي. و هذه حالي و مالي هي لك و بين يديك لا تزوي عنك، و لا تدخر دونك، و أنت سيدة أمة أبيك، والشجرة الطيبة لبنيك، لا يدفع مالك من فضلك، و لا يضوع فرعك و أصلك، و حكمك نافذ فيما ملكت يداي، فهل ترين أني أخالف في ذلك أباك؟
فقالت عليهاالسلام:
ص: 161
سبحان الله ما كان أبي رسول الله عن كتاب الله صادقا (1) ، و لا لأحكامه مخالفا، بل كان يتبع أثره، و يقفو سوره. أفتجمعون إلي الغدر اعتلالا عليه بالزور. و هذا بعد وفاته شبيه بما بغي له من الغوائل في حياته. هذا كتاب الله حكما عدلا و ناطقا فصلا يقول: «يرثني و يرث من آل يعقوب»، و يقول: «و ورث سليمان داود». فبين عز و جل فيما وزع من الاقساط. و شرع من الفرائض والميراث. و أباح من حظ الذكران و الإناث. ما أزاح به علة المبطلين. و أزال التظني (2) والشبهات في الغابرين. كلا بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان علي ما تصفون.
فقال أبوبكر:
صدق الله و رسوله و صدقت ابنته. أنت معدن الحكمة. و موطن الهدي والرحمة. و ركن الدين. لا أبعد صوابك. و لا أنكر خطابك. هؤلاء المسلمون بيني و بينك. قلدوني ما تقلدت. و باتفاق منهم أخذت ما أخذت. غير مكابر و لا مستبد. و لا مستأثر. و هم بذلك شهود.
فالتفتت فاطمة إلي عامة الناس و قالت:
معاشر الناس. المسرعة إلي قيل الباطل. المغضية علي الفعل القبيح الخاسر. أفلا يتدبرون القرآن أم علي قلوب أقفالها. كلا بل ران علي قلوبكم ما أسأتم من أعمالكم. فأخذ بسمعكم و أبصاركم. لبئسما تأولتم. و ساء ما به شرتم. و شر ما منه اعتضتم. لتجدن والله محملا ثقيلا. و غبه وبيلا. إذا
ص: 162
كشف لكم الغطاء. بان لكم ما وراء الضراء. و بدا لكم من ربكم ما لم تكونوا تحتسبون. و خسر هنالك المبطلون. ثم عطفت علي قبر النبي و قالت:
قد كان بعدك أنباء و هنبثة
لو كنت شاهدها لم تكثرا الخطب
إنا فقدناك فقد الأرض وابلها
واختل قومك فاشهدهم فقد نكبوا
و كل أصل له قربي و منزلة
عند الإله علي الأدنين مقترب
أبدت رجال لنا نجوي صدورهم
لما مضيت و حالت دونك الترب
تجهمتنا رجال واستخف بنا
لما فقدت و كل الأرض مغتصب
و كنت بدرا و نورا يستضاء به
عليك ينزل من ذي العزة الكتب
و كان جبريل بالآيات يؤنسنا
فقد فقدت و كل الخير محتجب
فليت قبلك كان الموت صادفتا
لما مضيت و حالت دونك الكثب
أبدي رجال لنا نجوي صدورهم
لما مضيت و حالت دونك الترب
قال الراوي فما رأينا يوما أكثر باكيا و لا باكية من ذلك اليوم (1) .
ثم انكفأت إلي الدار و أميرالمؤمنين يتوقع رجوعها إليه، و يتطلع طلوعها عليه، فلما استقرت بها الدار قالت لأميرالمؤمنين:
ص: 163
يا ابن أبي طالب اشتملت شملة (1) الجنين. و قعدت حجرة الظنين. نقضت قادمة الأجدل. فخانك ريش الأعزل هذا ابن أبي قحافة يبزني نحلة أبي. بلغه ابني. لقد أجهد في خصامي. و ألفيته الألد في كلامي. حتي حبستني قيلة نصرها. والمهاجرة وصلها. و غضت الجماعة دوني طرفها، فلا دافع و لا مانع. خرجت كاظمة و عدت راغمة. أضرعت خدك يوم أضعت جدك. افترست الذئاب و افترشت التراب. ما كففت قائلا. و لا أغنيت طائلا، و لا خيار لي. ليتني مت قبل هنيئتي. و دون ذلتي، عذيري الله منه عاديا و منك حاميا. ويلاي في كل شارق. ويلاي في كل غارب. مات العمد و وهن العضد. شكواي إلي أبي و عدواي إلي ربي. اللهم إنك أشد قوة و حولا، و أشد بأسا و تنكيلا. فقال أميرالمؤمنين:
ص: 164
لاويل لك. بل الويل لشانئيك (1) . نهنهي (2) عن وجدك يا ابنة الصفوة. و بقية النبوة. فما و نيت عن ديني. و لا أخطات مقدوري. فإن كنت تريدين البلغة (3) فرزقك مضمون. و كفيلك مأمون. و ما أعد لك أفضل بما قطع عنك فاحتسبي الله.
فقالت: حسبي الله و أمسكت.
قال الشاعر مشيرا إلي خطبتها و رجوعها إلي أميرالمؤمنين:
لم أنسها يوم وافت قبر والدها
خير البرية من عرب و من عجم
و افت و قد غص بالأنصار مسجده
والبغي قام بجمع فيه مزدحم
فأسدلوا دونها الأستار فابتدأت
لله تهدي بإفصاح من الكلم
كأنها هي بالآيات تفرغ عن
فم النبي أبيها في بيان فم
لم يهضموا فاطما إلا و قد علموا
بأن حيدر منهم غير منتقم
ثم أنثنت عن خطاب القوم راجعة
لبيتها تطأ الأذيال بالقدم
قالت أباحسن ماذا القعود فقم
و حكم السيف في الأعناق والقمم
ترضي بأن طغاة البغي تهضمني
و أنت تعلم ليس الهضم من شيمي
تبزني نحلتي من بدين أبي قحا
فة حيث لم يبصر لدي حمي
فقال فاطم صبرا نهنهي شجنا
و اطوي الجوانح أن تهجع علي الكظم
أن الكفيل لمأمون و رزقك في
حكم الكتاب جلي غير منكتم
و إرثك إن أضاعته العدا حنقا
فلم يضع لك أجرا باري النسم
ص: 165
هناك مجموعة أهداف لتصلب الزهراء في مواقفها.
أولا- أرادت الزهراء استرجاع حقها المغصوب، و هذا أمر طبيعي لكل إنسان غصب حقه أن يطالب به بالطرق المشروعة.
ثانيا- كان الحزب الحاكم قد استولي علي جميع الحقوق السياسية والاقتصادية لبني هاشم، و ألغي جميع امتيازاتهم المادية والمعنوية، فهذا عمر بن الخطاب يقول لابن عباس: أتدري ما منع قومكم (أي قريش) منكم بعد محمد صلي الله عليه و آله و سلم؟ كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة فتبجحوا علي قومكم بجحا بجحا، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت و وفقت (1) ، هذا بالنسبة للخلافة.
و بالنسبة للأموال فقد منعوا بني هاشم فدك والميراث والخمس أي سهم ذوي القربي- و اعتبروهم كسائر الناس.
و كان بنوهاشم و في مقدمتهم علي عليه السلام لا يقدرون علي المطالبة بحقوقهم المغصوبة بأنفسهم، فجعلت الزهراء من نفسها مطالبة بحق بني هاشم و حقها، و مدافعة عنه اعتمادا علي فضلها و شرفها و قربها من رسول الله، و استنادا إلي أنوثتها حيث النساء أقدر من الرجال في بعض المواقف. و معلوم أن الزهراء إذا استردت حقوقها استردت حينئذ حقوق بني هاشم معها.
ص: 166
ثالثا- استهدفت الزهراء من مطالبتها الحثيثة بفدك فسح المجال أمامها للمطالبة بحق زوجها المغلوب علي أمره، والواقع أن فدك صارت تتمشي مع الخلافة جنبا إلي جنب كما صار لها عنوان كبير وسعة في المعني فلم تبق فدك قرية زراعية محدودة بحدودها في عصر الرسول، بل صار معناها الخلافة والرقعة الإسلامية بكاملها.
و مما يدل علي هذا تحديد الأئمة لفدك، فقد حدها علي عليه السلام في زمانه بقوله: حد منها جبل أحد، و حد منها عريش مصر، و حد منها سيف البحر، و حد منها دومة الجندل (1) ، و هذه الحدود التقريبية للعالم الإسلامي آنذاك.
أما الإمام الكاظم فقد حدها للرشيد بعد أن ألح عليه الرشيد أن يأخذ فدكا فقال له الإمام: ما آخذها إلا بحدودها، قال الرشيد و ما حدودها؟ قال الحد الأول عدن، والحد الثاني سمرقند، والحد الثالث أفريقية، والحد الرابع سيف البحر مما يلي الخزر و أرمينية، فقال له الرشيد فلم يبق لنا شي ء فتحول في مجلسي (2) ، أي أنك طالبت بالرقعة الإسلامية في العصر العباسي بكاملها.
فقال الإمام: قد أعلمتك أني إن حددتها لم تردها.
ففدك تعبير ثاني عن الخلافة الإسلامية، والزهراء جعلت فدكا مقدمة للوصول إلي الخلافة، فأرادت استرداد الخلافة عن طريق استرداد فدك
ص: 167
و مما يدل علي هذا تصريحات الزهراء في خطبتها بحق علي و كفاءته و جهاده، فهي القائلة في خطبتها الكبيرة التي ألقتها في مسجد رسول الله: فأنقذكم الله بأبي محمد بعد اللتيا واللتي، و بعد أن مني ببهم الرجال و ذؤبان العرب و مردة أهل الكتاب، «كلما أو قدوا نارا للحرب أطفأها الله» أو نجم قرن للشيطان، أو فغرت فاغرة من المشركين، قذف أخاه (أي عليا) في لهواتها، فلا ينكفي حتي بطأ صماخها بأخمصه، و يخمد لهبها بسيفه، مكدودا في ذات الله، مجتهدا في أمر الله، قريبا من رسول الله، سيد أولياء الله، مشمرا ناصحا، مجدا كادحا، و أنتم في رفاهية من العيش و ادعون فاكهون آمنون، تتربصون بنا الدوائر و تتوكفون الأخبار، و تنكصون عن النزال و تفرون من القتال.
و تقول أيضا: ألا و قد أري والله أن قد أخلدتم إلي الخفض و أبعدتم من هو أحق بالبسط والخفض «و هو أميرالمؤمنين».
و كان لإشادة الزهراء بفضل علي عليه السلام في خطبتها أثر بالغ في نفوس الأنصار حتي هتف قسم منهم باسمه، فاستشعر أبوبكر الخطر من هذه البادرة، و شق عليه مقالتها فصعد المنبر و قال:
«أيها الناس ما هذه الرعة إلي كل قالة، أين كانت هذه الأماني في عهد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم ألا من سمع فليقل، و من شهد فليتكلم، إنما هو ثعالة: شهيده ذنبه، مرب لكل فتنة، هو الذي يقول كروها جذعة بعد ما هرمت، يستعينون بالضعفة، و يستنصرون بالنساء كأم طحال أحب أهلها إليها البغي، ألا إني لو أشاء أن أقول لقلت، و لو قلت لبحت، إني ساكت ما تركت.
ثم التفت إلي الأنصار فقال: قد بلغني يا معشر الأنصار مقالة سفهائكم،
ص: 168
و أحق من لزم عهد رسول الله أنتم. فقد جاءكم فآويتم و نصرتم، ألا إني لست باسطا يدا و لا لسانا علي من لم يستحق ذلك منا، ثم نزل (1) .
قال ابن أبي الحديد: قرأت هذا الكلام علي النقيب أبي يحيي جعفر بن يحيي بن أبي زيد البصري و قلت له بمن يعرض؟ فقال بل يصرح، قلت لو صرح لم أسألك، فضحك و قال: بعلي بن أبي طالب عليه السلام قلت: هذا الكلام كله لعلي بقوله؟ قال نعم، إنه الملك يا بني، قلت: فما مقالة الأنصار؟ قال هتفوا بذكر علي فخاف من اضطراب الأمر عليهم، إنتهي.
لهذا قلت إن الزهراء اتخذت من فدك ذريعة للوصول إلي استرداد خلافة علي عليه السلام، و إلا فما الذي حداها و هي تطالب بميراثها أن تشيد بمواقف الإمام و أحقيته بالخلافة حتي أثارت الأنصار فهتفوا بذكر علي؟ و ما الذي حدا أبابكر أن يذكر عليا بسود في خطبته كقوله إنما هو ثعالة شيهده ذنبه، مرب لكل فتنة (2) .
ص: 169
و أما خطبتها الثانية: فكلها منصبة علي معاتبتها للمهاجرين والأنصار لابتعادهم عن علي و تسليمهم الخلافة إلي غيره مع كفاءته و جدارته و عدم لياقة الغير بالقيام بها. ثم قدمت الشواهد والأدلة علي صحة قولها، و أخيرا نبهتم إلي ما سينتظرهم من ذل و هوان سبب ما قدمت أيديهم.
روي عبدالله بن الحسن بن الحسن عن أمه فاطمة بنت الحسين الشهيد (1) عليهم السلام قالت: لما اشتد بفاطمة بنت رسول الله الوجع و ثقلت في
ص: 170
علتها، اجتمع عندها نساء من المهاجرين والأنصار، فقلن لها: كيف أصبحت من علتك يا بنت رسول الله؟ فحمدت الله و صلت علي أبيها ثم قالت:
أصبحت والله عائفة لدنيا كن، قالية لرجالكن، لفظتهم بعد أن عجمتهم، و شنأتهم بعد أن سيرتهم، فقبحا لفلول الحد، واللعب بعد الجد، و قرع الصفاة، و صدع القناة، و خطل الآراء، و زلل الأهواء، و لبئسما قدمت لهم أنفسهم ان سخط الله عليهم و في العذاب هم خالدون، لا جرم والله لقد قلدتهم ربقتها، و حملتهم أوقتها، و شنت عليهم غارتها، فجدعا و عقرا و بعدا للقوم الظالمين.
و يحهم أتي زعزعوها عن رواسي الرسالة، و قواعد النبوه والدلالة، و مهبط الروح الأمين والطبن بأمور الدنيا والدين، ألا ذلك هو الخسران المبين.
و ما الذي نقموا من أبي الحسن؟ نقموا منه والله نكير سيفه، و قلة مبالاته بحتفه، و شدة و طأته، و نكال وقعته، و تنمره في ذات الله، و تالله لو مالوا عن المحجة اللائحة، و زالوا عن قبول الحجة الواضحة، لردهم إليها و لمحلهم عليها، و لساربهم سيرا سجحا لا يلكم خشاشه، و لا يكل سائره. و لا يمل راكبه، و لأوردهم منهلا مميزا صافيا رويا فضفاضا، تطفح ضفتاه و لا يترنق جانباه، و لأصدرهم باطنا و نصح لهم سرا و إعلانا و لم يكن يحكي من الغني بطائل، و لا يحظي من الدنيا بنائل، غير ري الناهل، و شبعة الكافل، و لبان لهم الزاهد من الراغب، والصادق من الكاذب.
و لو أن أهل القري آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء
ص: 171
و الأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون، والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا و ما هم بمعجزين.
ألا هلم فاستمع و ما عشت أراك الدهر عجبا، و أن تعجب فعجب قولهم، ليت شعري إلي أي سند استندوا، و علي أي عماد اعتمدوا، و بأي عروة تمسكوا، و علي أي ذرية قدموا و احتنكوا، لبئس المولي و لبئس العشير، و بئس للظالمين بدلا.
استبذلوا والله الذنابي بالقوادم، والعجز بالكاهل، فرغما لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون.
و يحهم أفمن يهدي إلي الحق أحق أن يتبع، أم من لا يهدي إلا أن يهدي فما لكم كيف تحكمون.
أما لعمري لقد لقحت فنظرة ريثما تنتج، ثم احتلبوا مل ء القعب دما عبيطا، و ذعافا مبيدا، هنالك يخسر المبطلون، و يعرف التالون غب ما أسس الأولون، ثم طيبوا عن دنياكم نفسا و اطمئنوا للفتنة جاشا، و أبشروا بسيف صارم، و سطوة معتل غاشم. و بهرج شامل دائم، و استبداد من الظالمين، يذع فياكم زهيدا و جمعكم حصيدا، فيا حسرة لكم، و أني بكم، و قد عميت عليكم، أنلزمكموها و أنتم لها كارهون.
قال سعيد بن غفلة: فأعادت النساء قولها علي رجالهن فجاء إليها قوم من المهاجرين والأنصار معتذرين و قالوا: يا سيدة النساء لو كان أبوالحسن ذكر لنا هذا الأمر من قبل أن يبرم العهد، و يحكم العقد، لما عدلنا عنه إلي غيره، فقالت: إليكم عني فلا عذر بعد تعذيركم، و لا أمر بعد تقصيركم.
ص: 172
رابعا- أرادت الزهراء عليهاالسلام بمنازعة أبي بكر إظهار حاله و حال أصحابه للناس، و كشفهم علي حقيقتهم، ليهلك من هلك عن بينة، و يحيي من حي عن بينة، و إلا فبضعة الرسول أجل قدرا و أعلي شأنا من أن تقلب الدنيا علي أبي بكر حرصا علي الدنيا، و لا سيما أن النبي صلي الله عليه و آله و سلم أخبرها بقرب موتها و سرعة لحاقها به، و لذا لم ينهها علي عليه السلام عن منازعة أبي بكر في فدك و هو القائل: و ما أصنع بفدك و غير فدك، والنفس مكانها في غد جدث، و لم تكن الزهراء أقل من علي تقي و زهدا في الدنيا. ثم إن عليا عليه السلام كان بإمكانه أن يعوض الزهراء عن ما غصب منها بما يملكه من الأموال و يمنعها من الهوان فإن مما يملك إرثي البغيبغة و أبي ينزز و هما أكثر قيمة من فدك، و قد جعلهما عليه السلام قبل وفاته وقفا علي الفقراء، و كان واردهما السنوي 470 ألف درهم.
و أيضا هذا هو السبب في حمل علي الزهراء علي بغلة، والمرور بها علي دور المهاجرين والأنصار، و مطالبتهم بنصرتها مع علمها بخذلانهم، كل ذلك لاطلاع الناس أبد الدهر علي حقيقة الأمر، و إظهار حال الغاصبين و حال أصحابهم.
كان الحاكمون قد اغتصبوا الخلافة من أهلها الشرعيين و استولوا علي مقاليد الأمور، والذي يغتصب الخلافة يسهل عليه أن يغتصب ما سواها، والذي يتحدي الله والرسول لا يصعب عليه أن يتحدي فاطمة و عليا والهاشميين. فعملوا علي تقوية حكمهم و إضعاف الجبهة المعارضة، و إرغامها بكل وسيلة، و إبعادها عن جميع الامتيازات المادية والمعنوية.
ص: 173
أما الامتيازات المعنوية فقد أذابوها.
باستيلائهم علي الحكم و منعهم بني هاشم أن تجتمع فيهم النبوة والخلافة (1) .
و أما الامتيازات المادية فهي منبثقة عن الامتياز في الفضل والشرف والحقوق فعمدوا إلي إهدارها والقضاء عليها لئلا يبقي لمعارضيهم أي فضل و شرف رسمي ينهض بهم للمطالبة بحقهم و يؤهلهم للخلافة.
لذا وضعوا اليد علي فدك والميراث و سهم ذي القربي «الخمس» أي أنهم استولوا علي الموارد الاقتصادية المهمة لمناوئيهم لينشغلوا بمعيشتهم عن التفكير في السياسة والمنازعة في الخلافة، كما أرادوا إشغال معارضيهم بالأمور الجانبية دون التوغل في أعماق القضية الحقيقية و هي الخلافة الإسلامية.
قال ابن أبي الحديد: قلت لمتكلم من متكلمي الإمامية يعرف بعلي بن تقي من بلدة النيل (2) : و هل كانت فدك إلا ثخلا يسيرا و عقارا ليس بذلك الخطير فقال لي: ليس الأمر كذلك بل كانت جليلة جدا و كان فيها من النخل نحوما بالكوفة الآن (3) . و ما قصد أبوبكر و عمر بمنع فاطمة عنها إلا ألا يتقوي بحاصلها و غلتها علي المنازعة في الخلافة، و لهذا أتبعا ذلك بمنع فاطمة و علي و سائر بني هاشم و بني المطلب حقهم في الخمس. فإن الفقير الذي لامال له تضعف همته و يتصاغر عند نفسه، و يكون مشغولا بالاحتراف والاكتساب عن طلب الملك والرئاسة (4) .
ص: 174
و قال الإمام الصادق للمفضل بن عمر: لما بويع أبوبكر أشار عليه عمر أن يمنع عليا و أهل بيته الخمس والفي ء و فدكا فإن شيعته إذا علموا ذلك تركوه، و أقبلوا إليك رغبة في الدنيا، فصرفهم أبوبكر عن جميع ما هو لهم (1) .
و ثمة سبب آخر و هو إرادة التظاهر بالقوة أمام أهل البيت و سد الطريق أمامهم، و قطع أي أمل في نفوسهم للوصول إلي غايتهم.
قال ابن أبي الحديد قال لي علوي من أهل الحلة يعرف بعلي بن مهنا ذكي ذو فضائل: ما تظن قصد أبي بكر و عمر بمنع فاطمة فدك؟ قلت: ما قصدا؟ قال: أرادا ألا يظهر لعلي و قد اغتصباه الخلافة رقة ولينا و خذلانا، و لا يري عندهما خورا، فاتبعا القرح بالقرح (2) .
و قال ابن أبي الحديد أيضا: سألت علي بن الفارقي مدرس المدرسة الغربية ببغداد فقلت له: أكانت فاطمة صادقة (3) ؟ قال نعم، قلت: فلم لم يدفع إليها أبوبكر فدك و هي عنده صادقة؟
فتبسم ثم قال كلاما لطيفا مستحسنا مع ناموسه و حرمته و قلة دعابته، قال: لو أعطاها اليوم فدك بمجرد دعواها لجاءت إليه غدا و ادعت لزوجها الخلافة و زحزحته عن مقامه و لم يكن يمكنه الاعتذار والموافقة بشي ء لأنه يكون قد سجل علي نفسه أنها صادقة فيما تدعي كائنا ما كان، من غير حاجة إلي بينة و لا شهود.
ص: 175
ثم قال ابن أبي الحديد: و هذا كلام صحيح و إن كان أخرجه مخرج الدعابة والهزل (1) .
و من جملة أسباب وضع اليد علي فدك هو الاستعانة بحاصلاتها الضخمة في حرب المرتدين و غيرهم و رغم كيان السلطة الحاكمة، و لذا قال عمر لأبي بكر لما كتب بفدك لفاطمة:
من ماذا تنفق علي المسلمين و قد حاربتك العرب كما تري (2) .
كان المسلمون قد سمعوا النبي صلي الله عليه و آله و سلم يتحدث عن فاطمة الزهراء و فضلها و قربها من الله و ورعها، و أنها بضعة منه، و أنها سيدة نساء العالمين، و هي ممن باهل النبي بها نصاري نجران، و ممن أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا، و ممن وجبت مودتهم، و ممن نزل في حقهم سورة هل أتي، و جميع الأحاديث التي وردت في فضل أهل البيت تشملها، منها قوله صلي الله عليه و آله و سلم في علي و فاطمة والحسنين «أنا حرب لمن حاربهم و سلم لمن سالمهم» (3) .
ص: 176
و قال في حق فاطمة خاصة: «إن الله يغضب لغضبك و يرضي لرضاك» (1) .
و قال: «فاطمة بعضة مني يؤذيني ما آذاها، و يريبني ما رابها (2) .
و قال: «فاطمة بعضة مني يغضبني ما يغضبها» (3) .
و قال: «رضا فاطمة من رضاي، و سخط فاطمة من سخطي، فمن أحب ابنتي فاطمة فقد أحبني، و من أرضي فاطمة فقد أرضاني، و من أسخط فاطمة فقد أسخطني» (4) .
فالنبي الكريم يرضي لرضي فاطمة و يسخط لسخطها، والذي يؤذي فاطمة يؤذي رسول الله، والذي يؤذي رسول الله يؤذي الله، والله تعالي يقول: «إن الذين يؤذون الله و رسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة و أعد لهم عذابا مهينا» (5) .
كل هذا سمعوه من الله والرسول، و اشتهر بين الناس غضب الزهراء و سخطها علي الرجلين، و أنهما آذياها، فهجرتهما بعد منعهما حقها، حتي قال عمر لأبي بكر: انطلق بنا إلي فاطمة فإنا قد أغضبناها. كل ذلك بغية
ص: 177
كسب رضاها و إسكات الجماهير عن التحدث عن غضب الزهراء علي الرجلين.
و بعد محاولات كثيرة تمكنوا من الدخول عليها، ولكنهم لم يستطيعوا كسب رضاها فخرجوا منها خائبين».
ولكن الزهراء خافت أن يعذيعا بأنهما دخلا عليها و أرضياها، و ارتفع عن نفسها ما كان من الغضب عليهما، فأرادت أن تؤكد غضبها و سخطها عليهما، فعهدت إلي علي عليه السلام أن لا يصليا علي جنازتها و لا يحضرا تشييعها، و لا يقدما علي قبرها. كما أوصت بدفنها ليلا، فقالت في وصيتها: و أوصيك أن لا يشهد جنازتي أحد من هؤلاء الذين ظلموني، و لا تترك أحدا يصلي علي منهم. و لا من أتباعهم، و ادفني ليلا إذا هدأت العيون و نامت الأبصار.
و نفذ علي عليه السلام وصاياها، فغسلها و صلي عليها و دفنها ليلا، و عفي موضع قبرها حتي لا يقوما عليه، و لم يعلمهما بوفاتها، فعاتباه علي ترك إعلامهما بشأنها و عدم إحضارهما الصلاة عليها، فأخبرهما بأنه فعل ذلك بوصية منها.
و هذا الاحتجاج صريح منها علي فعل الرجلين، و تأكيد منها علي استمرار غضبها عليهما و إخفاء قبرها مع عظم شأنها دليل آخر علي سخطها و عدم رضاها.
قال نظام العلماء التبريزي في كتابه «الشهاب الثاقب»: إني تحدثت مع رجل من إخواننا السنة في المدينة المنورة، فسألته قائلا: لمادا دفنت
ص: 178
الزهراء ليلا و لم يعملوا لها تشييعا عظيما، و هي ابنة رسول الله؟ فقال لي المدني: لقد صار للزهراء يوم وفاتها تشييع عظيم.
قال: فقلت له أسألك عن نافع من القراء، كم حضر تشييعه يوم وفاته؟ قال: لا أدري ولكن ما يزيد علي خمسمائة إنسان، قال: فقلت له و هل معروف موضع قبره أم لا؟ قال نعم مدفون في البقيع و قبره معلوم.
فقلت له: فإذا كانت الزهراء قد صار لها تشييع عظيم و حضرها الآلاف من أهل المدينة، فكيف لم يعلموا موضع قبرها و محل دفنها؟ قال لا أدري، بل أنت قل لي ما السبب؟
قال نظام العلماء: فقلت له إن سببه لأنها هي أوصت بدفنها ليلا، و عدم إخبار الناس بوفاتها.
قال المدني و ما سبب ذلك؟ قلت: لأن الرجلين كانا قد ظلماها بعد أبيها و أغضباها، فسخطت عليهما فأوصت بعدم إخبارهما بوفاتها، لئلا يحضرا تشييعها و دفنها والصلاة عليها، و لا يمكن منع الرجلين و حدهما من حضورها، فأوصت بدفنها ليلا و إخفاء قبرها احتجاجا علي موقفهما منها بعد أبيها (1) .
و هذا المعني أشار إليه شريف مكة بقوله:
ص: 179
قل لنا أيها المجادل في القول
عن الغاصبين إذ غصباها
أهما ما تعمداها كما قلت بظلم
كلا و لا اهتضماها
فلماذا إذ جهزت للقاء الله
عند الممات لم يحضراها
شيعت نعشها ملائكة الرحمن
رفقا بها و ما شيعاها
كان زهدا في أجرها أم عنادا
لأبيها النبي لم يتبعاها
أم لأن البتول أوصت بأن لا
يشهدا دفنها فما شهداها
أم أبوها أسر ذاك إليها
فأطاعت بنت النبي أباها
كيف ما شئت قل كفاك فهذي
فرية قد بلغت أقصي مداها
أغضباها و أغضبا عند ذاك
الله رب السماء إذ أغضباها
و كذا أخبر النبي بأن الله
يرضي سبحانه لرضاها
لا نبي الهدي أطيع و لا
فاطمة أكرمت و لا حسناها
و حقوق الوصي ضيع منها
ما تسامي في فضله و تناهي
تلك كانت حزازة ليس تبري
حين ردا عنها و قد خطباها
و تأكيدا لغرض الزهراء فاطمة عليهاالسلام في إظهار سخطها و عدم رضاها علي الرجلين بإخفاء قبرها، استمر الأئمة علي عدم إظهار قبرها من عهد الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام إلي عهدنا الحاضر، و إلا فالإمام أميرالمؤمنين والحسن والحسين و عقيل و عمار، و أبوذر، والعباس كانوا ممن حضروا دفنها في جوف الليل.
و قد قام بعض المسلمين القائلين بصحة خلافة الشيخين بمحاولات يائسة
ص: 180
للدفاع عن الشيخين في هذه القضية، والتجأوا إلي الكذب والتلفيق عملا بالرأي القائل: الغاية تبرر الواسطة، فمنهم قاضي القضاة عبدالجبار عند استعراضه اعتراضات الشيعة علي الرجلين يقول: «و مما يذكرونه أن فاطمة عليهاالسلام لغضبها علي أبي بكر و عمر أوصت ألا يصليا عليها، و أن تدفن سرا منهما فدفنت ليلا».
ثم يرد عليهم قائلا: «و أما أمر الصلاة فقد روي أن أبابكر هو الذي صلي علي فاطمة عليهاالسلام و كبر عليها أربعا، و هذا أحد ما استدل به كثير من الفقهاء في التكبير علي الميت، و لا يصح أيضا أنها دفنت ليلا، و إن صح ذلك فقد دفن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم ليلا، و فدن عمر ابنه ليلا، و قد كان أصحاب رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم يدفنون بالنهار و يدفنون بالليل، فما في هذا مما يطعن به، بل الأقرب في النساء أن دفنهن ليلا أستر و أولي بالسنة» (1) .
و قد رد عليه السيد المرتضي علم الهدي بقوله: «و أما قوله أن أبابكر هو الذي صلي علي فاطمة عليهاالسلام و كبر أربعا و أن كثيرا من الفقهاء يستدلون به في التكبير علي الميت- و هو شي ء ما سمع إلا منه، و إن كان تلقاه عن غيره- فمن يجري مجراه في العصبة، و إلا فالروايات المشهورة و كتب الآثار والسير خالية من ذلك، و لم يختلف أهل النقل في أن عليا عليه السلام هو الدي صلي علي فاطمة إلا رواية نادرة شاذة وردت بأن العباس رحمه الله صلي عليها.
و روي الواقدي بإسناده في تاريخه عن الزهري قال: سألت ابن عباس
ص: 181
متي دفنتم فاطمة عليهاالسلام؟ قال دفناها بليل بعد هدأة، قال: قلت فمن صلي عليها؟ قال علي.
و روي الطبري عن الحارث بن أبي أسامه عن المدائني عن أبي زكريا العجلاني أن فاطمة عليهاالسلام عمل لها نعش قبل وفاتها فنظرت إليه فقالت سترتموني ستركم الله.
قال أبوجعفر محمد بن جرير الطبري: والتثبت في ذلك أنها زينب (أي بنت رسول الله) لأن فاطمة دفنت ليلا و لم يحضرها إلا علي والعباس والمقداد والزبير.
و روي القاضي أبوبكر أحمد بن كامل بإسناده في تاريخه عن الزهري قال: حدثني عروة بن الزبير أن عائشة أخبرته أن فاطمة بنت رسول الله عاشت بعد رسول الله ستة أشهر، فلما توفيت دفنها علي ليلا و صلي عليها، و ذكر في كتابه هذا أن عليا، والحسن والحسين عليهم السلام دفنوها ليلا و غببوا قبرها.
و روي سفيان بن عيينة عن عمرو بن عبيد عن الحسن بن الحنفية، أن فاطمة دفنت ليلا.
و روي عبدالله بن أبي شيبة عن يحيي بن سعيد القطان عن معمر عن الزهري مثل ذلك.
و قال البلاذري في تاريخه: إن فاطمة عليهاالسلام لم تر متبسمة بعد وفاة النبي صلي الله عليه و آله و سلم و لم يعلم أبوبكر و عمر بموتها.
ص: 182
والأمر في هذا أوضح و أشهر من أن نطنب في الاستشهاد عليه و نذكر الروايات فيه.
فأما قوله: «و لا يصح أنها دفنت ليلا، و إن صح فقد دفن فلان و فلان ليلا» فقد بينا أن دفنها ليلا في الصحة أظهر من الشمس، و أن منكر ذلك كالدافع للمشاهدات، و لم يجعل دفنها ليلا بمجرده هو الحجة، ليقال: لقد دفن فلان و فلان ليلا، بل يقع الاحتجاج بذلك علي ما وردت به الروايات المستفيضة الظاهرة التي هي كالتواتر، أنها أوصت بأن تدفن ليلا حتي لا يصلي الرجلان عليها، و صرحت بذلك و عهدت فيه عهدا بعد أن كانا استأذنا عليا في مرضها ليعودها، فأبت أن تأذن لهما، فلما طالت عليهما المدافعة رغبا إلي أميرالمؤمنين عليه السلام في أن يستأذن لهما و جعلاها حاجة إليه، و كلمها عليه السلام في ذلك و ألح عليها، فأذنت لهما في الدخول ثم أعرضت عنهما عند دخولهما و لم تكلمهما، فلما خرجا لأميرالمؤمنين عليه السلام هل صنعت ما أردت؟ قال نعم، قالت فهل أنت صانع ما آمرك به؟ قال نعم، قالت: فإني أنشدك الله ألا يصليا علي جنازتي، و لا يقوما علي قبري.
و روي أنه عفي قبرها، و علم عليه، ورش أربعين قبرا في البقيع، و لم يرش علي قبرها حتي لا يهتدي إليه، و أنهما عاتباه علي ترك إعلامهما بشأنها و إحضارهما الصلاة عليها.
فمن ها هنا احتججنا بالدفن ليلا، و لو كان ليس غير الدفن بالليل من غير ما تقدم عليه و ما تأخر عنه لم يكن فيه حجة» (1) .
ص: 183
قال ابن أبي الحديد: مؤيدا السيد المرتضي بما قال في رده علي قاضي القضاة قائلا: «و أما إخفاء القبر. و كتمان الموت، و عدم الصلاة، و كل ما ذكره المرتضي فيه فهو الذي يظهر و يقوي عندي، لأن الروايات به أكثر و أصح من غيرها» (1) .
و قال في 16/ 253 «لست أعتقد أنها انصرفت راضية كما قال قاضي القضاة، بل أعلم أنها انصرفت ساخطة و ماتت و هي علي أبي بكر واجدة.
و روي ابن أبي الحديد في 16/ 232 عن داود بن المبارك قال: أتينا عبدالله بن موسي بن عبدالله بن حسن بن الحسن و نحن راجعون من الحج في جماعة، فسألناه عن مسائل و كنت أحد من سأله، فسألته عن أبي بكر و عمر فقال: سئل جدي عبدالله بن الحسن بن الحسن عن هذه المسألة فقال: «كانت أمي صديقة بنت نبي مرسل، فماتت و هي غضبي علي إنسان، فنحن غضاب لغضبها، و إذا رضيت رضينا».
لما توفي النبي صلي الله عليه و آله و سلم قبض (2) أبوبكر فدكا و انتزعها من يد الزهراء.
ص: 184
و لما تولي عمر بن الخطاب أمسك فدك و عمل فيها عمل أبي بكر (1) .
تحدث ياقوت الحموي في معجم البلدان عن فدك و مطالبة الزهراء بها- إلي أن قال- «ثم أدي اجتهاده (أي عمر بن الخطاب) بعده (أي بعد أبي بكر) لما ولي الخلافة و فتحت الفتوح و اتسعت علي المسلمين أن يردها إلي ورثة رسول الله، فكان علي بن أبي طالب والعباس يتنازعان فيها فكان علي يقول: إن النبي صلي الله عليه و آله و سلم جعلها في حياته لفاطمة، و كان العباس يأبي ذلك و يقول: هي ملك لرسول الله و أنا وارثه، فكانا يتخاصمان إلي عمر فيأبي أن يحكم بينهما و يقول: أنتما أعرف بشأنكما، أما أنا فقد سلمتها إليكما.
و مثله في لسان العرب لابن منظور قال: «و كان علي والعباس يتنازعانها و سلمها عمر إليهما، فذكر علي أن النبي صلي الله عليه و آله و سلم كان جعلها في حياته لفاطمة و ولدها، و أبي العباس ذلك».
فالذي يظهر من كلام ياقوت الحموي و ابن منظور أن عمر رد فدكا علي علي والعباس، ولكن لدي التحقيق يتبين أن الذي رده عمر عليهما و كانا يتنازعان فيها- هو: الحوائط السبعة التي و هبها مخيريق اليهودي من بني النضير لرسول الله، و هي المعبر عنها بصدقة النبي بالمدينة. و ما أفاء الله علي رسوله بالمدينة، لا فدك، و ذلك بدلائل:
1- كان النزاع المزعوم بين علي والعباس في الصوافي التي أفاءها الله علي رسوله من بني النضير لا في فدك، و إليك الرواية التي ذكرها ابن أبي
ص: 185
الحديد في الشرح 16/ 221. والسمهودي في وفاء الوفا 2/ 158، عن مالك ابن أوس بن الحدثان، أن عليا والعباس استأذنا بالدخول علي عمر فأذن لهما، فلما دخلا قال عباس: يا أميرالمؤمنين اقض بيني و بين هذا- يعني عليا- و هما يختصمان في الصوافي التي أفاء الله علي رسوله من أموال بني النضير الخ. و ذكره البخاري في صحيحه.
2- ذكر الفخر الرازي والشيخ الطبرسي في تفسيريهما (1) و غيرهما أن أموال بني النضير التي حصل عليها النبي صلي الله عليه و آله و سلم في حربه معهم قسمها رسول الله بين المهاجرين و لم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة، و هم أبودجانة سماك بن خرشة، و سهل بن حنيف، والحارث بن الصمة. و لم يبق من أموال بني النضير التي حصل عليها في حربه معهم شي ء في يد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم.
3- قال السمهودي في وفاء الوفا 2/ 153 قال المجد: قال الواقدي كان مخيريق من بني النضير حبرا عالما فآمن بالنبي صلي الله عليه و آله و سلم و جعل ماله و هو سبع حوائط لرسول الله.
ثم قال و روي ابن زبالة: عن محمد بن كعب أن صدقات رسول الله كانت أموال لمخيريق اليهودي... و كان ذا مال فهي عامة صدقات النبي صلي الله عليه و آله و سلم- إلي أن قال- و أوقفها النبي صلي الله عليه و آله و سلم علي خصوص فاطمة و كان يأخذ منها لأضيافه و حوائجه، و عند وفاتها أوصت بهذه البساتين و كل ما كان لها من مال إلي أميرالمؤمنين.
ص: 186
و قال الشيخ الطريحي في مجمع البحرين في مادة حسن- الحسني أحد الحيطان الموقوفة علي فاطمة. فالحوائط السبعة هي من أموال بني النضير- أي من أموال مخيريق الذي وهبها للنبي صلي الله عليه و آله و سلم- ثم إنها عامة صدقات النبي، و أن النبي أوقفها علي خصوص فاطمة عليهاالسلام.
4- إن بعض الروايات تصرح بأن أبابكر و عمر أمسكا فدكا و أموال خيبر و لم يعطياها إلي أحد، و دفع عمر صدقة رسول الله بالمدينة إلي علي والعباس.
روي مسلم في باب قول النبي «لا نورث، ما تركناه صدقة» من كتاب الجهاد، أن فاطمة سألت أبابكر بعد وفاة رسول الله أن يقسم لها ميراثها مما ترك رسول الله مما أفاء الله عليه.
فقال لها أبوبكر: إن رسول الله قال: لا نورث، ما تركناه صدقة، و كانت فاطمة تسأل نصييها مما ترك رسول الله من خيبر، و فدك، و صدقته بالمدينة، فأبي أبوبكر عليها ذلك و قال: لست تاركا شيئا كان رسول الله يعمل به إلا عملت به، إني أخشي أن تركت شيئا من أمره أن أزيغ.
فأما صدقته بالمدينة (1) فدفعها عمر إلي علي والعباس فغلبه عليها علي، و أما خيبر و فدك فأمسكهما عمر و قال: هما صدقة رسول الله، كانتا لحقوقه التي تعروه و نوائبه و أمرهما إلي من ولي الأمر.
قال: فهما علي ذلك إلي اليوم (2) .
ص: 187
و قد صرح الفضل بن روزبهان بأن الذي رده عمر علي علي والعباس هو سهم بني النضير.
قال: فلما انتهي أمر الخلافة إلي عمر بن الخطاب حصل في الفي ء سعة، و كثرت خمس الغنائم و أموال الفي ء والخراج، فجعل عمر لكل واحدة من أزواج النبي صلي الله عليه و آله و سلم عطاءا من بيت المال، و رد سهم بني النضير إلي علي والعباس و جعلها فيهم ليعملوا بها كيف شاؤوا.
ثم قال: و قد ذكر في صحيح البخاري أن عليا و عباسا تنازعا في سهم بني النضير و رفعا أمرها إلي عمر بن الخطاب (1) .
فتبين مما سبق أن المال الذي رده عمر إلي علي والعباس كان من أموال بني النضير، و كان صدقة رسول الله بالمدينة، و كان علي يقول: إن النبي صلي الله عليه و آله و سلم قد جعلها في حياته لفاطمة، و لم يقل أنحلها و لا أعطاها لفاطمة، و هذه الصفات الثلاثة تجتمع في الحوائط السبعة، بالإضافة إلي رواية البخاري و مسلم و أحمد التي تؤكد علي أن خيبر و فدك أمسكهما عمر و قال: هما صدقة رسول الله و أمرهما إلي من ولي الأمر.
و يؤكده قول السيد المرتضي- لما وصل الأمر إلي علي بن أبي طالب كلم في رد فدك فقال: إني لأستحي من الله أن أرد شيئا منع منه أبوبكر و أمضاه عمر- أي أمضي المنع عمر (2) .
ص: 188
5- ذكر بعض المؤرخين أن فدك أقطعها عثمان بن عفان لمروان ابن الحكم، و لم يذكر أحد من المورخين و لا أحد من أئمة أهل البيت و أتباعهم أن عثمان أخذ فدك من علي ثم أقطعها عثمان، فلابد أنها انتقلت إليه من أبي بكر و عمر، و عثمان أضيق إستا من أن يأخذ فدكا من علي و يعطيها لمروان.
6- قول علي في رسالته إلي ابن حنيف: بلي كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء فشحت عليها نفوس قوم و سخت عنها نفوس قوم آخرين، و نعم الحكم الله. و هذا القول يناسب ما نذهب إليه بأن فدكا غضبت من أهل البيت بعد رسول الله و لم ترد إليهم أيام الخلفاء الثلاثة.
7- قال السيد المرتضي: روي محمد بن زكريا الغلابي عن شيوخه عن أبي المقدام هشام بن زياد مولي آل عثمان قال: لما ولي عمر بن عبدالعزيز رد فدك علي ولد فاطمة، و كتب إلي و اليه علي المدينة أبي بكر بن عمرو بن حزم يأمره بذلك الخ، ثم قال: قال أبوالمقدام فنقمت بنوأمية ذلك علي عمر بن عبدالعزيز و عاتبوه فيه، و قالوا له: هجنت فعل الشيخين، و خرج إليه عمر بن قيس في جماعة من أهل الكوفة فلما عاتبوه علي فعله قال: إنكم جهلتم و علمت. و نسيتم و ذكرت: إن أبابكر محمد بن عمرو بن حزم حدثني عن أبيه عن جده أن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم قال: فاطمة بضعة مني يسخطها ما يسخطني (1) و يرضيني ما أرضاها، و إن فدك كانت صافية علي عهد أبي بكر و عمر، ثم صار أمرها إلي مروأن فوهبها لعبدالعزيز أبي فورثتها أنا و إخوتي
ص: 189
عنه، فسألتهم أن يبيعوني حصتهم منها، فمن بائع و واهب حتي استجمعت لي فرأيت أن أردها علي ولد فاطمة.
قالوا: فإن أبيت إلا هذا فأمسك الأصل و اقسم الغلة، ففعل (1) .
فنقمة بني أمية علي عمر بن عبدالعزيز و عتابهم له و قولهم له: هجنت فعل الشيخين، دليل علي أنه خرج علي فعل الشيخين، و أن الشيخين طول حياتهما لم يردا فدكا علي أهل البيت، و لو أن عمر ردها عليهم لاستدل بفعله عمر بن عبدالعزيز علي صحة ردها علي ولد فاطمة.
ثم قول عمر بن عبدالعزيز إن فدك كانت صافية علي عهد أبي بكر و عمر ثم صار أمرها إلي مروان، دليل علي عدم وصولها بيد أهل البيت في عهد الشيخين.
و بالإضافة إلي هذا فقد تخلص عمر بن عبدالعزيز من لومهم و عتابهم بأن ادعي أنها استجمعت لهو ملكها، ثم رأي أن يردها علي ولد فاطمة.
فظهر من مجموع ما تقدم أن الشيخين أمسكا فدك و لم يرداها إلي أحد من أهل البيت لا وراثة و لا تولية. و أن الذي رده عمر علي علي والعباس هو صدقة رسول الله بالمدينة، والمعبر عنها بما أفاء الله علي رسوله في المدينة- أي الحوائط السبعة- لا فدك.
كما قال الحموي و ابن منظور: و هي التي كان علي بن أبي طالب والعباس يتنازعان فيها، فكان علي يقول: إن النبي صلي الله عليه و آله و سلم جعلها في حياته
ص: 190
لفاطمة (1) (كما سبق في رواية السمهودي عن ابن زبالة عن محمد بن كعب: أن النبي صلي الله عليه و آله و سلم أوقفها علي خصوص فاطمة) و كان العباس يأبي ذلك و يقول: هي ملك لرسول الله و أنا وارثه، فكانا يتخاصمان إلي عمر فيأبي أن يحكم بينهما و يقول: أنتما أعرف بشأنكما أما أنا فقد سلتها إليكما (2) . و كان نزاع علي والعباس صوريا أرادا من عمر أن يحكم لأحدهما علي الآخر حتي يحتجا عليه بما حكم، فإن حكم لعلي فقد أقر بأن النبي صلي الله عليه و آله و سلم جعلها لفاطمة في حياته فكيف غصبها منها أبوبكر و أعانه عمر علي ذلك؟! و إن حكم للعباس أقر بالميراث و قد أنكره أبوبكر برواية لا نورث و ساعده عمر علي ذلك، و لذا لم يحكم بينهما عمر لئلا يقع في أحد المحذورين.
و تخاصم علي والعباس عند عمر يشبه تخاصم الملكية عند داود في النعاج و طلب الحكم بينهما بالحق، و إنما أرادا أن يفهما داود وجوب التثبت في الحكم و عدم التسريع فيه.
فعلي ما تحقق كانت فدك بيد الشيخين و لم يرداها علي أهل البيت، و كان أبوبكر يأخذ نحلتها فيدفع إليهم ما يكفيهم و يقسم الباقي، و كان عمر كذلك، ثم كان عثمان كذلك، ثم كان علي كذلك» (3) .
و يروي أن عثمان بن عفان لما استخلف أقطعها لمروان بن الحكم.
ص: 191
قال الحافظ ابن حجر في الصواعق المحرقة: «إنما أقطع عثمان فدك لمروان لأنه تأول أن الذي يختص بالنبي صلي الله عليه و آله و سلم يكون للخليفة بعده، فاستغني عثمان عنها بأمواله فوصل بها بعض قرابته».
و أما علي عليه السلام فلم يسترجع فدك إلي أهل البيت أيام خلافته، و كان الإمام لما وصل الأمر إليه قد كلم في رد فدك فقال: إني لأستحي من الله تعالي أن أرد شيئا منع منه أبوبكر و أمضاه عمر (1) .
و هو القائل: بلي كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء، فشحت عليها نفوس قوم و سخت عنها نفوس قوم آخرين، و نعم الحكم الله (2) .
و أجاب السيد المرتضي قاضي القضاة عن هذا الأمر قائلا: «الوحه في تركه عليه السلام رد فدك هو الوجه في إقراره أحكام القوم و كفه عن نقضها و تغييرها، لأنه كان في انتهاء الأمر إليه في بقية من التقية قوية» (3) .
ص: 192
و أجاب الإمام الكاظم عليه السلام عن عدم استرجاع علي عليه السلام فدكا- قال: لأنا أهل البيت لا يأخذ لنا حقوقنا ممن ظلمنا إلا هو (يعني الباري عز و جل) و نحن أولياء المؤمنين، إنما نحكم لهم و نأخذ حقوقهم ممن ظلمهم و لا نأخذ لأنفسنا (1) .
و أجاب الصادق عليه السلام: لأن الظالم والمظلومة قد كانا قدما علي الله و أثاب الله المظلومة و عاقب الظالم، فكره أن يسترجع شيئا قد عاقب الله عليه غاصبه و أثاب عليه المغصوب منه (2) .
و إذا لم يردها أميرالمؤمنين أيام خلافته علي أهل البيت، فمن المستبعد أن يبقيها في يد مروان علي تقدير وجودها عنده، لأن الإمام قد خطب في اليوم الثاني من خلافته قائلا: «ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان، و كل مال أعطاه من مال الله، فهو مردود في بيت المال، فإن الحق القديم لا يبطله شي ء، ولو وجدته قد تزوج به النساء و ملك به الإمام لرددته، فإن في العدل سعة، و من ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق (3) .
و هذه من جملة قطائع عثمان فكيف يستبقيها في يد مروان. و إذا كان الإمام قد أخذها من مروان و لم يردها إلي أهل البيت فماذا فعل بها:
1- يحتمل أنه عمل بها الشيخين (4) .
ص: 193
2- يحتمل أنه كان ينفق غلاتها في مصالح المسلمين برضي منه و من أولاده (1) «فلما ولي الأمر معاوية بن أبي سفيان أقطعها مروان بن الحكم (2) ثم ارتجعها منه لموجدة وجدها عليه (3) و روي أن معاوية أقطع مروان بن الحكم ثلثها و أقطع عمرو بن عثمان بن عفان ثلثها، و أقطع يزيد بن معاوية ثلثها، و ذلك بعد موت الحسن بن علي عليهماالسلام فلم يزالوا يتداولونها حتي خلصت كلها لمروان بن الحكم أيام خلافته، فوهبها لعبدالعزيز ابنه، فوهبها عبدالعزيز لابنه عمر بن عبدالعزيز، فلما ولي عمر بن عبدالعزيز الخلافة كانت أول ضلامة ردها دعا حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، و قيل: بل دعا علي بن الحسين عليه السلام فردها عليه (4) ».
و قيل إن مروان وهبها لعبدالعزيز ابنه فورثها عمر بن عبدالعزيز و إخوته، فسألهم أن يبيعوه حصتهم منها، فمن بائع و واهب حتي استجمعت لعمر بن عبدالعزيز فردها علي ولد فاطمة (5) .
ص: 194
«و كانت بيد أولاد فاطمة عليهاالسلام مدة ولاية عمر بن عبدالعزيز، فلما ولي يزيد بن عاتكة (أي ابن عبدالملك) قبضها منهم، فصارت في أيدي بني مروان كما كانت يتداولونها، حتي انتقلت الخلافة عنهم.
فلما ولي أبوالعباس السفاح ردها علي عبدالله بن الحسن بن الحسن.
ثم قبضها أبوجعفر لما حدث من بني حسن ما حدث.
ثم ردها محمد المهدي ابنه علي ولد فاطمة عليهاالسلام.
ثم قبضها موسي الهادي بن المهدي و هارون أخوه.
فلم تزل في أيديهم حتي ولي المأمون فردها علي الفاطميين (1) .
«فلم تزل في أيدي الفاطميين» حتي كان في أيام المتوكل فأقطعها عبدالله ابن عمر البازيار، و كان فيها إحدي عشرة نخلة غرسها رسول الله بيده، فكان بنوفاطمة يأخذون تمرها، فإذا قدم الحجاج أهدوا لهم من ذلك التمر فيصلونهم، فيصير إليهم من ذلك مال جزيل جليل. فصرم عبدالله بن عمر البازيار ذلك التمر، و وجه رجلا يقال له بشران بن أبي أمية الثقفي إلي المدينة فصرمه، ثم عاد إلي البصرة ففلج (2) .
و لما استخلف المنتصر بن المتوكل أمر برد فدك إلي ولد الحسن والحسين (3) .
ص: 195
و انتهي تاريخ فدك بعد مد و جزر، و بعد أخذ ورد حتي صارت قاعا صفصفا و قطع آخر غرس فيها، و معلوم أن الأرض غير المستقرة لا يعتني بتعميرها و لا تشجيرها.
و قد صارت لفدك أهمية كبيرة في تاريخ المسلمين فهي تتمشي مع الخلافة الإسلامية جنبا إلي جنب. و نستطيع أن نعرف اتجاه الخلفاء و موقفهم من العلويين بموقفهم من فدك.
ص: 196
ص: 197
كانت هذه جولة بين الروايات والأخبار لمعرفة أسباب النزاع المحتدم بين الزهراء من جهة و بين أبي بكر و عمر من جهة أخري، و ذلك للتعرف علي ملابساته و غاياته، و لا نهدف من وراء هذه الجولة سوي معرفة الحق و كشف الالتباس، و إلا فلبست فدك موجودة حاليا بين أيدينا كي ندفعها إلي من يستحقها، كما أن أطراف النزاع قد وفدوا علي ربهم و هو أعرف بحالهم.
و إن غرضنا من هذا العرض هو التأكيد علي مذهب أهل البيت و أتباعهم القائلين بعدم عصمة الصحابي من الذنب و عدم نزاهته من الخطأ. و إذا ثبت خطأهم مع الزهراء في فدك فقد يثبت خطأهم مع علي في أمر الخلافة التي صارت سببا لانقسام المسلمين و اختلافهم مما سبب إضعافهم أمام خصومهم.
و إننا نأمل من وراء هذه الدراسات والبحوث أن نوجد تقاربا و تفاهما أكثر بين الفرقتين المسلمتين الكبيرتين: السنة والشيعة، و لعلنا نستطيع رأب الصدع، و لم الشمل، إذ نحن في هذا العصر أحوج مانكون إلي الاتحاد والاجتماع مقابل الثالوث البغيض المعادي للإسلام والمسلمين والمتربص بنا الدوائر: الاستعارية والصهيونية- الإلحاد.
فلنرجع جميعا إلي الوثام والحب اللذين كانا قائمين بين المسلمين أيام رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم قبل أن تحزب الأحزاب و تتعد البطائن و تؤلف الجماعات للاستيلاء علي الحكم والمال، و إذا كان بعض الأقدمين ينتفعون من هذا الاختلاف، فأية فائدة للمسلمين اليوم في ذلك؟ بل إن النفع في الاختلاف اليوم هو من نصيب أعداء الإسلام والمسلمين، فإلي كتاب الله و سيرة رسول الله و هدي أهل بيته الطاهرين و أصحابه الميامين والسلام عليكم أجمعين.
ص: 198
أضاف سيدنا المؤلف رحمه الله تعالي هذا الفصل
في فضائل الامام أميرالمؤمنين عليه السلام
و شيعته، و ما ورد في خصومهم و مناوئيهم
ص: 199
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله و سلام علي عباده الذين اصطفي محمد و أهل بيته الطيبين الطاهرين
كان يبدو لنا أن نفصل هذا الملحق عن الكتاب حيث لا صلة له بموضوع الكتاب، غير أن إلحاقه به كان من قبل المغفور له سيدنا المؤلف قدس الله روحه الطاهرة و هو يحرص كل الحرص علي طبعه و نشره خوف الإهمال و خوف ضياعه و تلفه. و تفاءلت بكتاب الله في طبع هذا الملحق بالكتاب فكانت هذه الآية الكريمة:
«و لقد جئناهم بكتاب فصلناه علي علم هدي و رحمة لقوم يؤمنون»
و نسأل الله أن يتقبل مساعينا، و ولائنا لأهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا، والله من وراء القصد؟
القاهرة: 5 شعبان المعظم 1396 ه
السيد مرتضي الرضوي
ص: 200
إذا جمعنا مبتدآت السور في القرآن الكريم و حذفنا منها الحروف المتكررة بقي منها
الحروف التالية: أ ل م ص ر ك ه ي ع ط س ح ق ن أي أربعة عشر حرفا و تكون
مجموعها جملة: صراط علي حق نمسكه.
صراط علي حق نمسكه و علي ذلك براهين ساطعة:
البرهان الأول- قوله تعالي: «إنما وليكم الله و رسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون» أجمع المفسرون علي نزول الآية في علي عليه السلام لما تصدق بخاتمه علي المسكين بمحضر من المسلمين، و قد أثبت الله تعالي لعلي عليه السلام تلك الولاية العامة الثابتة لذاته المقدسة، و شركه معه و مع رسوله صلي الله عليه و آله و سلم في تلك الولاية المطلقة (1) .
ص: 201
البرهان الثاني: قوله سبحانه: «يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك و إن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس» و قد فسرها أهل العلم بأنها نزلت في علي عليه السلام يوم غدير خم، فأخذ رسول الله بيد علي عليه السلام، و نصبه علما و إماما للناس. ففي «الدر المنثور» لجلال الدين السيوطي 2/ 398 أنه أخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه و ابن عساكر عن
ص: 202
أبي سعيد الخدري قال: نزلت الآية علي النبي صلي الله عليه و آله و سلم يوم غدير خم في علي ابن أبي طالب.
و أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: كنا نقرأ علي عهد رسول الله «يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك» أن عليا مولي المؤمنين «و إن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس».
و مجمل دلك أن واقعة غدير خم كانت في مرجع رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم عام حجةالوداع، و غدير خم محل افتراق قبائل العرب، و كان النبي صلي الله عليه و آله و سلم يعلم أنه آخر عمره بإخبار من الله تعالي، و أنه لا يجتمع العرب بعد هذا عنده مثل هذا الاجتماع، فأوجب الله تعالي الوصية مثل سائر الأنبياء، و أن لا يترك الأمة سدي، فيأخذوا مشرقا و مغربا، و أمره تعالي أن يجعل عليا وصيه و خليفته من بعده، فقام صلي الله عليه و آله و سلم بينهم خطيبا في رمضان تلك العرصة: ثم أخذ بيد علي عليه السلام فرفعها حتي ظهر بياض إبطيهما و هو علي منبر من الأقتاب فقال: ألست أولي بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلي يا رسول الله، قال: «من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه، و عاد من
ص: 203
عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، و أدر الحق معه كيفما دار».
قال الحافظ ابن حجر الهيثمي (1) : «زعموا أن من النص التفصيلي المصرح بخلافة علي عليه السلام قوله يوم غدير خم (موضع بالجحفة) عند مرجعه من حجةالوداع بعد أن جمع الصحابة و كرر عليهم: ألست أولي بكم من أنفسكم ثلاثا، و هم يجيبون بالتصديق والاعتراف، ثم رفع يد علي و قال: «من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، و عاد من عاداه، و أحب من أحبه، و ابغض من أبغضه، وانصر من نصره، و أخذل من خذله، و أدر الحق معه حيث دار».
قال: إنه حديث صحيح لامرية فيه و قد أخرجه جماعة كالترمذي والنسائي و أحمد، و طرقه كثيرة جدا و من ثم رواه ستة عشر صحابيا. و في رواية لأحمد أنه سمعه من النبي صلي الله عليه و آله و سلم ثلاثون صحابيا، و شهدوا به لعلي عليه السلام لما نوزع أيام خلافته كما مر، و سيأتي و كثير من أسانيده صحاح و حسان، و لا التفات لمن قدح في صحته، ولا لمن رده بأن عليا كان باليمن لثبوت رجوعه منها و إدراكه الجمع مع النبي صلي الله عليه و آله و سلم و قول بعضهم: إن زيادة اللهم وال من ولاه موضوعه مردود، فقد ورد ذلك من طرق صحيحة و صحح الذهبي كثيرا منها».
قلت: إن ابن حجر و إن أنصف في الحديث من حيث السند، ولكنه ليته أنصف من حيث الدلالة، و لم يحمل الحديث و لم يؤوله علي بعض الوجوه الخارجة عن متفاهم الناس، و قد فهمت الصحابة من التولية الولاية
ص: 204
العامة حتي دنا عمر بن الخطاب من علي عليه السلام و قال: طوبي لك يا علي، أصبحت مولي كل مؤمن و مؤمنة، ذكره الشهرستاني في الملل والنحل.
و في رواية أحمد (1) إنه لقيه عمر بن الخطاب، قال هنيئا لك يا ابن أبي طاب، أصحبت و أمسيت مولي كل مؤمن و مؤمنة، و هذا تسليم و رضا و تحكيم لفعل النبي صلي الله عليه و آله و سلم في نصبه لعلي عليه السلام بعد نزول الوحي الإيجابي الفوري كما هو المناسب بشأن الملوك والخلفاء و ولاة العهد، و لقد استشهد بذلك علي عليه السلام في الكوفة، و لولا أنه الإمارة والخلافة من الله تعالي و من رسوله صلي الله عليه و آله و سلم لم استشهد مرارا و هو علي المنبر.
ففي مسند أحمد بن حنبل بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: جمع علي عليه السلام الناس في رحبة مسجد الكوفة فقال: أنشد الله كل أمري ء مسلم سمع رسول الله يقول يوم غدير خم ما سمع لما قام، فقام سبعة عشر رجلا و قالوا: إن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم حين أخذ بيدك قال للناس: أتعلمون أني أولي بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا نعم، قال: من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه، و عاد من عاداه.
و أيضا أحمد بن حنبل أخرج في مسنده عن عبدالملك عن أبي عبدالرحمن عن زادان عن أبي عمر قال: سمعت عليا في الرحبة ينشد الناس فقام ثلاثة عشر رجلا فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه (2) .
ص: 205
و أخرج أبونعيم في «الحلية» و غيره عن أبي الطفيل أن عليا قام فحمد الله و أثني عليه ثم قال: أنشد الله من شهد يوم غدير خم إلا قام، و لا يقوم رجل يقول ثبت أو بلغني إلا رجل سمعت أذناه و وعاه قلبه، فقام سبعة عشر رجلا منهم خزيمة بن ثابت ذوالشهادتين، و سهل بن سعد، و عدي بن حاتم، و عقبة بن عامر، و أبوأيوب الأنصاري، و أبوسعيد الخدري، و أبوشريح الخزاعي، و أبوقدامة الأنصاري، و أبويعلي الأنصاري، و أبوالهيثم بن التيهان، و رجال من قريش، فقال علي عليه السلام هاتوا ما سمعتم، فقالوا: نشهد أنا أقبلنا مع رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم من حجةالوداع، نزلنا بغدير خم، ثم نادي بالصلاة فصلينا معه، ثم قام فحمد الله و أثني عليه، ثم قال: أيها الناس ما أنتم قائلون؟ قالوا: قد بلغت، قال اللهم اشهد ثلاث مرات.
ثم قال: أوشك أن أدعي فأجيب، و إني مسئول و أنتم مسئولون.
ثم قال: أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله و عترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا فانظروا كيف تخلفوني فيهما، و إنهما أن يفترقا حتي يردا علي الحوض، نبأني بذلك اللطيف الخبير.
ثم قال: إن الله مولاي و أنا مولي المؤمنين، ألستم تعلمون أني أولي بكم من أنفسكم؟ قالوا بلي، قال ذلك ثلاثا ثم أخذ بيدك يا أميرالمؤمنين فرفعها
ص: 206
و قال: من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم من والاه، و عاد من عاداه.
فقال علي صدقتم و أنا علي ذلك من الشاهدين (1) .
ثم إن أحاديث استشهاد الأمير عليه السلام بحديث الغدير ذكرها الأساطين من علمائهم، منهم أحمد بن حنبل أحد الأئمة الأربعة في المسند (2) .
و منهم أبونعيم الحافظ في حلية الأولياء 5/ 26، والخطيب البغدادي في تاريخه 4/ 236، والمحب الطبري في الرياض النضرة 2/ 17، و ابن كثير في البداية والنهاية: 7/ 346، و ابن الأثير في أسدالغابة في ترجمة علي عليه السلام 4/ 28 و برهان الدين الحلبي في السيرة الحلبية 3/ 308.
ثم أقول: و في هذا الحديث شواهد عديدة علي أن عليا عليه السلام منصوب من الله تعالي للإمارة والخلافة من يوم غدير خم، منها قوله صلي الله عليه و آله و سلم: إني تارك فيكم، فإنه صلي الله عليه و آله و سلم أوجب علي الأمة قاطبة من بعده اتباع أهل بيته في جميع الأقوال والأفعال الدينية.
و هذه المنقبة لا تثبت إلا لمن تكون له الزعامة الكبري، والإمامة العظمي، و يكون عدلا للقرآن، و لا تعني بالإمارة الحقة إلا تفويض الأمور
ص: 207
الدينية إلي من يستحقها، و هو محصور في أهل البيت بصريح الحديث»
و منها قوله صلي الله عليه و آله ألست أولي بكم من أنفسكم، فإنه نص صريح في إرادة رئاسة الدين والدنيا، فإن الأولي بنفس الأمة منهم هو النبي صلي الله عليه و آله و سلم فيكون كذلك الإمام من بعده و هو محصور في علي للحديث.
و منها استشهاد علي عليه السلام بمن سمع ذلك من النبي صلي الله عليه و آله و سلم بلا واسطة ليكون أثبت في الشهادة و أقوي في قيام الحجة علي الأمة، و إلا فعلي عليه السلام غير منكور عليه الفضل، والمنقبة عند عامة المسلمين لا ينكر فضله و مناقبه، و إن له عليه السلام من العلم والكمال والشجاعة والقرب من النبي صلي الله عليه و آله و سلم، و أنه كاشف غمه عليه السلام و صهره، و من وجبت علي الناس مودته بصريح القرآن، و غير ذلك مما لا يدانيه إنكار أحد من العرب سيما قريش، فإن الوصية لهم أهم.
فبديهة العقل حاكمة علي من له أدني فهم و دراية بأن نزول النبي صلي الله عليه و آله و سلم في زمان و مكان لم يكن نزول المسافر فيهما متعارفا، حيث كان الهواء في غاية الحرارة حتي أن الرجل يستظل بدابته و يضع الرداء تحت قدميه من شدة الرمضاء، ثم صعوده صلي الله عليه و آله و سلم علي منبر من الأقتاب و إنشاؤه خطبة مفصلة، ثم إخباره صلي الله عليه و آله و سلم بأنه قددنا أجله، ثم أخذ الإقرار والاعتراف منهم بأن النبي صلي الله عليه و آله و سلم أولي بهم من أنفسهم مكررا و تصديقهم له صلي الله عليه و آله و سلم عقيب كل مرة، ثم الأخذ بيد لعي و رفعه لها علي يديه حتي يراه كل أحد، ثم الدعاء له بالنصر، و علي أعدائه بالخذلان، كما هو المناسب لشأن الملوك و نصبهم لولاة العهد.
و كل عاقل يعرف أن مجرد إبلاغ المحبة والمودة لأهل البيت لا يحتاج
ص: 208
إلي هذا الحد من التأكيد والمبالغة، لولا إرادته صلي الله عليه و آله و سلم إكمال الدين بنصب أميرالمؤمنين (1) .
البرهان الثالث: عدة من الأحاديث النبوية منها- أن عليا هو الصديق الأكبر، و فاروق هذه الأمة، يفرق بين الحق والباطل. رواه عن النبي صلي الله عليه و آله و سلم ملا علي المتقي في كنزالعمال 6/ 156، و ابن ماجة في سننه 1/ 30، والحاكم في المستدرك 3/ 113، والمحب الطبري في الرياض النضرة 2/ 155، و أخطب خوارزم في مناقب علي عليه السلام.
و منها قول رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم علي بن أبي طالب باب حطة فمن دخل منه كان مؤمنا و من حرج عنه كان كافرا، رواه ملا علي المتقي النفي في كنزالعمال 6/ 153 و أخرجه الديلمي و الدارقطني، و رواه السيوطي في الجامع الصغير، و هو الحديث الرابع والثلاثون من أحاديث ابن حجر في «الصواعق» في فضل علي عليه السلام.
و منها الحديث المروي عن النبي صلي الله عليه و آله و سلم من قوله لعمار بن ياسر: يا عمار أن رأيت عليا قد سلك واديا و سلك الناس واديا غيره، فاسلك مع علي ودع
ص: 209
الناس، إنه لن يدلك علي الردي و لا يخرجك عن الهدي، رواه ملا علي متقي الحنفي في الكنز 6/ 156، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 3/ 186 و 187.
و منها ما أخرجه الحاكم في المستدرك 3/ 21 من قول النبي صلي الله عليه و آله و سلم من أطاع عليا فقد أطاعني، و من عصي عليا فقد عصاني، و من قوله صلي الله عليه و آله و سلم في 3/ 124 من المستدرك: من فارقك يا علي فارقني و من فارقني فقد فارق الله (1) .
الشيعة أحق بالأمن يوم الفزع الأكبر لعدم تخلفهم عن أهل بيت العصمة من ابتداء أمرهم و حين بايعوا عليا بغدير خم، فلم يتعدوا عنه، بل تمسكوا به و بذريته حسبما أمرهم بذلك النبي صلي الله عليه و آله و سلم الصادع بالحق (2) .
فقال: مثل
ص: 210
أهل بيتي فيكم كسفينة نوح، من ركبها نجا و من تخلف عنها هلك.
و قال صلي الله عليه و آله و سلم: إني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله، و عترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبدا.
و هذه الأحاديث كلها مذكورة في الصحاح و كتب المناقب، فالشيعة غير نائهين في صراط الديانة: حيث أنهم عرفوا الحق عن مصدره، فلا يقاسون بمن قال النبي صلي الله عليه و آله و سلم لهم- لما اشتد به الوجع في مرضه الذي مات فيه- ائتوني بدواة و قرطاس لأكتب لكم كتابا لن تضلوا بعدي أبدا، فاختلفوا فقال بعضهم: احضروا له ما طلب و منع آخرون و كثر اللغط والغوغاء و كان عمر فيمن منع عن إحضار الدواة والقرطاس قائلا كلاما معناه أن النبي صلي الله عليه و آله و سلم قد غلب عليه الوجع أو أنه يهجر، فنسب ذلك الهجر إلي النبي صلي الله عليه و آله و سلم لما علم بأنه صلي الله عليه و آله و سلم يريد بذلك إبرام العهد لعلي عليه السلام و إحكام الوصية بالكتاب، حتي وقعت الأمة بتلك الحيلولة في الضلالة، و لذا قال حبر الأمة ابن عباس: الرزية كل الرزية ما حال بيننا و بين كتاب رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و لعل الاختلاف الواقع بين المسلمين إلي يومنا هذا مستند إلي منع المانع عن الكتابة، و هي مفسدة عظيمة، غير مرتفعة و لا قابلة للرفع إلي قيام الحجة و ظهور الحق علي يده.
إن الشيعة حازت هذه المنقبة و فازت بها من زمن النبي صلي الله عليه و آله و سلم بتمسكهم بعلي عليه السلام و متابعتهم له صلي الله عليه و آله و سلم في الأحكام، أصولا و فروعا، و لذا
ص: 211
ورد في شأنهم قوله تعالي: «أن الذين آمنوا و عملوا الصالحات أولئك هم خير البرية».
قال في الصواعق المحرقة (1) : إن هذه الآية لما نزلت قال رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم لعلي: يا علي أنت و شيعتك خير البرية: تأتي يوم القيامة أنت و شيعتك راضين مرضيين.
قال: و أخرج الدارقطني أن النبي صلي الله عليه و آله و سلم قال: يا أباالحسن، أما أنت و شيعتك في الجنة.
قال الدارقطني: لهذا الحديث عندنا طرق كثيرة.
ثم أخرج عن أم سلمة قالت: كانت ليلتي و كان النبي صلي الله عليه و آله و سلم عندي فأتته فاطمة، فتبعها علي عليه السلام، فقال النبي صلي الله عليه و آله و سلم: ياعلي أنت و أصحابك في الجنة، أنت و شيعتك في الجنة.
و قال: أخرج الطبراني أنه صلي الله عليه و آله و سلم قال لعلي: أول أربعة يدخلون الجنة أنا و أنت والحسن والحسين، و ذرياتنا خلف ظهورنا، و أزواجنا خلف ذرياتنا، و شيعتنا عن أيماننا و شمائلنا.
و أخرج الديلمي- يا علي إن الله قد غفر لك و لذريتك و لولدك و لأهلك و لشيعتك و لمحبي شيعتك، فأبشر فإنك الأنزع البطين، و أنت و شيعتك تردون علي الحوض رواء مرويين مبيضة وجوهكم.
والغرض بيان فساد ما توهم من أن اسم الشيعة من العناوين الخاصة
ص: 212
الحادثة في الأزمنة المتأخرة و إظهار أن هذا العنوان من الفضائل المحمودة الثابتة للشيعة من زمن النبي صلي الله عليه و آله و سلم مبشرا بذلك صلي الله عليه و آله و سلم إلي أقوام يبايعون عليا عليه السلام في غدير خم علي أنه الإمام المفترض الطاعة، و لا يعدلون عنه و لا ينكثون بيعته، و هم الذين افترقوا عن الذين قال لهم رسول الله: ائتوني بدواة و قرطاس لأكتب لكم كتابا لن تضلوا بعدي أبدا فلم يأتوه و لم يرضوا منه ذلك الكلام، و لعلهم رأو الكتابة خلاف السياسة فأوقعوا أنفسهم في أشد المحذور من جهة تعيين الخليفة، حتي أنهم أعرضوا عن الحضور لدفن النبي صلي الله عليه و آله و سلم كما في منتخب «كنزالعمال» في باب الخلافة أن أبابكر و عمر لم يحضرا دفن النبي صلي الله عليه و آله و سلم.
روي ابن أبي الحديد عن تاريخ الطبري أن الصحابة تركوا تجهيز النبي صلي الله عليه و آله و سلم إلي ثلاثة أيام حتي اخضر بطنه صلي الله عليه و آله و سلم، و ذلك لما رأوا أن أمر الخلافة أشد و أعظم، فاجتمعت الصحابة في السقيفة واختلفوا في الإمارة، و قالت الأنصار: منا أمير، و قال المهاجرون: منا أمير، و لم ينفعهم اتفاق آرائهم علي أبي بكر بعد أن أجمعوا علي الخطأ و رفض الحق بترك إحضارهم لرسول الله صلي الله عليه و آله و سلم الدواة والقرطاس، و نسبوا إليه الهجر والهذيان، و أكثروا من التنازع و اللغو بمحضر النبي صلي الله عليه و آله و سلم.
فكيف يعتمد عقال علي أمثال هؤلاء الجماعة و يثبع راءهم مع هذا الخطأ الواضح؟
ص: 213
قال الله تبارك و تعالي في سورة الاسراء مخاطبا لرسول الله صلي الله عليه و آله و سلم: «و ما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن و نخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا».
قال الفخر الرازي في التفسير الكبير أنه قال سعيد بن المسيب: رأي رسول الله بني أمية ينزون علي منبره نزو القردة فساءه ذلك و هذا قول ابن عباس في رواية عطاء (1) .
و قال في تفسير سورة القدر أن رسول الله رأي في منامه بني أمية يطأون منبره واحدا بعد واحد فشق ذلك عليه فأنزل الله «إنا أنزلناه في ليلة القدر» إلي قوله «خير من ألف شهر» يعني ملك بني أمية.
و قال جلال الدين السيوطي في الجزء الرايع من تفسيره الدر المنثور في تفسير الآية أنه أخرج ابن جرير عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: رأي
ص: 214
رسول الله بني فلان ينزون علي منبره نزو القرده فساءه ذلك فما استجمع ضاحكا حتي مات، و أنزل الله «و ما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس، و أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر أن النبي صلي الله عليه و آله و سلم قال: رأيت ولد الحكم ابن أبي العاص علي المنابر كأنهم القردة و أنزل الله في ذلك: «و ما جعلنا الرؤية التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة» يعني الحكم و ولده.
و أخرج ابن أبي حاتم عن يعلي بن مرة قال: قال رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم أريت بني أمية علي منابر الأرض و سيملكونكم فتجدونهم أرباب سوء، واهتم رسول الله لذلك فأنزل الله «و ما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس».
و أخرج ابن مردويه عن الحسين بن علي عليه السلام أن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم أصبح و هو مهموم فقيل مالك يا رسول الله، فقال إني رأيت في المنام كان بني أمية يتعاورون منبري هذا، فقيل يا رسول الله لا تهتم فإنها دنيا تنالهم فأنزل الله «و ما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة».
و أخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه والبيهقي في الدلائل و ابن عساكر عن سعيد بن المسيب، قال: رأي رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم بني أمية علي المنابر فساءه ذلك فأوحي الله إليه إنما هي دنيا أعطوها فقرت عينه، و هي قوله: «و ما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس» يعني بلاء للناس.
و أخرج ابن مردويه عن عائشة أنها قالت لمروان بن الحكم سمعت رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم يقول لأبيك وجدك إنكم الشجرة الملعونة في القرآن (1) .
ص: 215
و قال فضل بن روزبهان أحد علماء السنة أن الآية نزلت في رؤيا رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و أنه رأي في الرؤيا أن أولاد مروان ينزون علي منبره.
و عن الثعلبي في تفسيره بإسناده تارة إلي سعيد بن المسيب و أخري إلي سهل بن سعد قال: رأي رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم بني أمية ينزون علي منبره نزو القردة فساءه. فما استجمع ضاحكا حتي مات، فأنزل الله في ذلك «و ما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس» الآية.
و عن أبي هريرة أنه قال: رأي رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم بني الحكم أو بني العاص ينزون علي منبره كما تنزو القردة فأصبح كالمتغيظ فما رؤي رسول الله مستجمعا ضاحكا بعد ذلك حتي مات.
و في تفسير علي بن محمد الخازن أن النبي صلي الله عليه و آله و سلم رأي في المنام أن ولد الحكم بن (أبي العاص) ابن أمية يتداولون منبره كما يتداول الصبيان الكرة فساءه ذلك.
قال: فإن اعترض معترض علي هذا التفسير و قال السورة مكية والواقعة كانت بالمدينة، أجيب بأنه لا إشكال فيه فإنه لا يبعد عن أن النبي صلي الله عليه و آله و سلم رأي ذلك بمكة ثم كان ذلك حقيقة بالمدينة.
قوله تعالي: والشجرة الملعونة في القرآن، يعني و ما جعلنا الشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس، وقد عرفت تفسير النبي صلي الله عليه و آله و سلم للشجرة الملعونة ببني أمية، و هو المناسب أيضا لتوصيفها بكونها ملعونة و كونها فتنة و بلاء للناس، و إلا فشجرة الزقوم علي ما قيل في تفسيرها لا ذنب لها حتي تلعن، و كونها فتنة و بلاء للناس إنما هو في الدنيا لأنها محل البلاء، و شجرة الزقوم في الآخرة و لا فتنة و لا بلاء هناك.
ص: 216
قلت: تضافرت النصوص و تكاثرت الأحاديث علي تفسير الآية ببني أمية و كونهم المقصودين بالشجرة الملعونة في القرآن و فسرها بهم العلامة الزمخشري في الكشاف.
قال ابن حجر الهيتمي في رسالته «تطهير الجنان» المطبوعة في حاشية صواعقه و بسند رجاله رجال الصحيح أنه صلي الله عليه و آله و سلم رأي كان بني الحكم ينزون علي منبره و ينزلون فأصبح كالمتغيظ و قال مالي رأيت بني الحكم ينزون علي منبري نزو القرد.
و في تفسير الثعلبي بإسناده عن عمر بن الخطاب في قوله تعالي «الذين بدلوا نعمة الله كفرا و أحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها و بئس القرار» قال صلي الله عليه و آله و سلم: هما الأفجران بنوالمغيرة و بنوأمية، فأما بنوالمغيرة فكفيتموهم يوم بدر، و أما بنوأمية فمتعوا إلي حين.
فانظر أيها المنصف إلي ما صدر عن الوحي الإلهي في حق بني أمية و يكفيك من ذلك ما في رسالة تطيهر الجنان المذكورة قال- فعن ابن عمر أن النبي صلي الله عليه و آله و سلم قال ليدخلن الساعة عليكم رجل لعين فوالله ما زلت أتشوف داخلا و خارجا حتي دخل الحكم، و أنه صلي الله عليه و آله و سلم قال: لكل شي ء آفة و آفة هذا الدين بنوأمية.
و قال صلي الله عليه و آله و سلم: شر العرب بنوأمية. و أخرج الحاكم علي شرط الشيخين عن أبي بردة قال كان أبغض الناس إلي رسول الله بنوأمية (1) .
ص: 217
و بسند رجاله رجال الصحيح أن النبي صلي الله عليه و آله و سلم قال إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا كان دين الله دخلا، و مال الله دولا، و عباد الله خولا.
و أخرج الحاكم و صححه أنه صلي الله عليه و آله و سلم قال: إن أهل بيتي سيلقون بعدي من أمتي قتلا و تشريدا، و إن أشد قوما لنا بغضا بنوأمية و بنوالمغيرة و بنومخزوم.
ص: 218
قال: و إن مروان سب الحسين بن علي عليه السلام، فغضب و قال: فوالله لعنك الله علي لسان بنيه صلي الله عليه و آله و سلم و أنت في صلب أبيك.
و عن ابن الزبير قال: و رب هذه الكعبة لعن الله الحكم و ما ولد علي لسان نبيه.
و في رواية البزار: لقد لعن الله الحكم و ما ولد علي لسان نبيه صلي الله عليه و آله و سلم.
و لما أدخل مروان علي رسول الله قال: هذا الوزغ بن الوزغ الملعون ابن الملعون (1) - رواه الحاكم و صححه و إن الحكم استأذن علي النبي فعرف صوته فقال ائذنوا له فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين و من يخرج من
ص: 219
صلبه يتشرفون في الدنيا و ما لهم في الآخرة من خلاق.
و عن محمد بن زياد قال: لما بايع معاوية لابنه يزيد قال مروان: سنة أبي بكر و عمر، و قال عبدالرحمن بن أبي بكر سنة هرقل و قيصر، فقال له مروان: أنت الذي أنزل الله فيك: والذي قال لوالديه أف لكما، فبلغ ذلك عائشة فقالت كذب والله ما هو به ولكن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم لعن أبامروان و مروان في صلبه.
قال ابن حجر: أنه جاء بسند رجاله رجال الصحيح أن عمرو بن العاص صعد المنبر فوقع في علي عليه السلام ثم فعل مثله المغيرة بن شعبة فقيل للحسن اصعد المنبر لترد عليهما فامتنع إلا أن يعطوه عهدا أنهم يصدقونه إن قال حقا فأعطوه ذلك. فصعد المنبر فحمد الله و أثني عليه ثم قال أنشدك الله يا عمرو و يا مغيرة أتعلمان أن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم لعن السائق والقائد أحدهما معاوية؟ قالا: بلي. ثم قال أنشدك يا معاوية و يا مغيرة ألم تعلما أن النبي صلي الله عليه و آله و سلم لعن عمرا بكل قافية؟ قال اللهم بلي. ثم أنشدك الله يا عمرو و يا معاوية ألم تعلما أن النبي صلي الله عليه و آله و سلم لعن قوم هذا؟ قال بلي. قال الحسن فإني أحمد الله الذي جعلكم فيمن تبرأ من هذا- يعني عليا- انتهي ما في الصواعق و حاشيتها.
قال الدميري في «حياة الحيوان» إن الحكم هذا كان يرمي بالداء العضال و كذلك أبوجهل من قبل (1) ، ثم أقول مختصرا إن تأسيس معاوية و بني مروان لسب علي عليه السلام و أهل بيته، أهل بيت الوحي والرسالة الذين
ص: 220
أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا غير قابل للانكار والجحود عند أولي المعرفة والدراية و ليست من الذنوب المغفورة، و إلا فليكن براءة الشيعة عمن أحرزوا عداوته لأهل البيت عليه السلام أيضا من الذنوب المغفورة، بل لا تكون ذنبا لأجل الاجتهاد والتأويل، فالضرورة قاضية بكفر من سبب النبي صلي الله عليه و آله و سلم و علي عليه السلام من النبي صلي الله عليه و آله و سلم لقوله صلي الله عليه و آله و سلم: علي مني و أنا منه، و قوله يا علي أنت مني بمنزله هارون من موسي، مضافا إلي امتناع أن يغفر الله لمن سب رسول الله و تبرأ منه، فقوله صلي الله عليه و آله و سلم من آذي عليا فقد آذاني، و من آذاني فقد آذي الله، و في (صحيح) مسلم أنه قال علي عليه السلام:
ص: 221
والذي خلق الحبة و برأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي إلي أن لا يحبني إلا مؤمن و لا يبغضني إلا منافق.
و عن أحمد في المسند عن جابر بن عبدالله: ما كنا نعرف المنافقين إلا ببغضهم عليا، و معلوم أن المنافق لا إيمان له لأنه يظهر بلسانه ما ليس في قلبه، و من لا إيمان له لا يغفر الله له.
و في «ينابيع المودة» في الباب الثالث والأربعين أخرج أبونعيم الحافظ و الحمويني عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم «من سره أن يحيا حياتي و يموت مماتي و يسكن جنة عدن التي غرس فيها قضيبا ربي فليوالي عليا و ليوالي وليه و ليقتد بالأئمة من ولده من بعده فإنهم عترتي خلقوا من طينتي و رزقوا فهما و علما و ويل للمكذبين بفضلهم من أمتي القاطعين فيهم صلتي لا أنالهم الله شفاعتي (1) . ثم إن الأمر الأعجب إعطاء جمع من المسلمين المقادة بيد معاوية الذي قال رسول الله في حقه: لا أشبع الله بطنه، رواه ابن حجر عن مسلم عن ابن عباس، و قال صلي الله عليه و آله و سلم: إذا رأيتم معاوية علي منبري فاقتلوه.
و قال صلي الله عليه و آله و سلم إن معاوية في تابوت من نار في أسفل درك من جهنم ينادي يا حنان يا منان، فيقال له: «الآن و قد عصيت قبل و كنت من المفسدين».
ص: 222
و قال صلي الله عليه و آله و سلم: يطلع من هذا الفج رجل من أمتي يحشر علي غير، ملتي فطلع معاوية.
و ذكر أبوالفداء في كتاب «المختصر في أخبار البشر» في وقائع سنة خمس و أربعين أنه قال القاضي جمال الدين بن واصل، و روي ابن الجوزي بإسناده عن الحسن البصري أنه قال: أربع خصال كن في معاوية لو لم يكن فيه إلا واحدة لكانت موبقة و هي: أخذه الخلافة بالسيف من غير مشاورة و في الناس بقايا الصحابة و ذوو الفضيلة. و استخلافه ابنه يزيد و كان سكيرا خميرا يلبس الحرير و يضرب بالطنابير. و ادعاؤه زياد و قد قال رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم الولد للفراش و للعاهر الحجر. قتله حجر بن عدي و أصحابه، فياويلا له من حجر و أصحاب حجر.
و روي عن الشافعي أنه أسر إلي الربيع أنه لا يقبل شهادة أربعة من الصحابة و هم: معاوية، و عمرو بن العاص، والمغيرة (بن شعبة) و زياد (ابن أبيه).
قد قيل تمويها علي الجهلة بأن أفعال معاوية صادرة عن اجتهاد يعذر فاعلها فيها و لم يدروا أنه لا اجتهاد في مقابل النص الجلي أعني الإمام المفترض الطاعة و لذا حكموا بضلالة الخوارج و أهل الردة و مانعي الزكاة و لم ينفعهم اجتهادهم، و كيف ينتفع معاوية باجتهاده و قد قال رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم علي ما روته جميع كتب المخالف والمؤالف: يا عمار تقتلك الفئة الباغية، و قال أيضا صلي الله عليه و آله و سلم: يا علي تقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، والمراد من الناكثين أصحاب الجمل، و من القاسطين معاوية و متابعيه أهل البدعة والضلالة، قال سبحانه: «و أما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا».
ص: 223
ما روته جميع كتب المخالف والمؤالف يا عمار تقتلك الفئة الباغية، و قال أيضا صلي الله عليه و آله و سلم: يا علي تقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، والمراد من الناكثين أصحاب الجمل، و من القاسطين معاوية و متابعيه أهل البدعة والضلالة قال سبحانه «و أما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا».
والمراد من المارقين الخوارج الذين مرقوا عن الدين و خرجوا عنه، والوجه في خروجهم عنه خروجهم علي علي عليه السلام، و ذلك حاصل لأهل الشام سواء بسواء، سيما بعد قول النبي صلي الله عليه و آله و سلم: «اهتدوا بهدي عمار، و إن عمارا مع الحق والحق مع عمار يدور معه حيثما دار»، و سيما بعد ما صح عن النبي صلي الله عليه و آله و سلم من طرق عديدة عن العامة أنه قال صلي الله عليه و آله و سلم: إن عليا لن يخرجكم من باب الهدي إلي باب الردي، قال الشيخ سليمان القندوزي في «ينابيع المودة» أنه أخرج الحمويني بسنده عن الأعمش عن إبراهيم النخعي عن علقمة والأسود قالا: أتينا أباأيوب الأنصاري فقلنا يا أباأيوب، أن الله أكرم نبيه صلي الله عليه و آله و سلم وصفي لك من فضله أخبرنا بمخرجك مع علي تقاتل أهل لا إله إلا الله، فقال أبوأيوب: أقسم لكما بالله لقد كان رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم معي في هذا البيت الذي أنتما فيه و علي عليه السلام جالس عن يمينه و أنا عن يساره و أنس في البيت، و ما في البيت غيرنا، إذ حرك الباب فقال صلي الله عليه و آله و سلم لأنس: افتح لعمار الباب، و دخل عمار فسلم علي النبي صلي الله عليه و آله و سلم فرد عليه السلام و رحب به، ثم قال يا عمار ستكون بعدي في أمتي هنات، حتي يختلف السيف فيما بينهم، و حتي يقتل بعضهم بعضا، و حتي يتبرأ بعضهم من بعض، فإذا رأيت ذلك فعليك بهذا الأصلع عن يميني- يعني عليا- فإن سلك الناس كلهم واديا و سلك علي واديا، فاسلك وادي علي و خل عن الناس
ص: 224
يا عمار إن عليا لا يردك عن هدي و لا يدخلك علي ردي، يا عمار طاعة علي طاعتي، و طاعتي طاعة الله... انتهي
ثم إن قتلة عثمان أيضا أصحاب رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و هم مجتهدون، فاللازم أن يكونوا معذورين في قتله، و هل يحكم بمعذوريته عائشة والزبير و طلحة و أهل الشام دون قتلة عثمان، والحال أن فيهم عمارا الذي هداه هدي الرسول، و طلحة و هي من العشرة المبشرة (عندهم) و لذا رماه مروان يوم الجمل (بسهم) حتي قتله حيث رأي دخوله في من قتل عثمان، و مع ذلك كيف يكون الجميع من القاتل والمقتول في الجنة، و أين ذلك من قول النبي صلي الله عليه و آله و سلم كما في صحيح البخاري: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض».
والحاصل أنه ما الفرق بني حنيفة الذين منعوا الزكاة عن أبي بكر لشبهة أن الزكاة لا يجب دفعها إلي غير النبي صلي الله عليه و آله و سلم من بعده، بل الواجب تصدي المالك للدفع لقوله تعالي: «و آتوا حقه يوم حصاده» من غير تعرض لوجوب الدفع إلي الإمام فهذه شبهة قوية لهم و مع ذلك لم يعتن أبوبكر بمقالتهم فأي فرق بين هذه الشبهة و شبهة معاوية حتي تسمي الطائفة الأولي بالمرتدين دون الطائفة الثانية.
والحال أن مالك بن نويرة رئيس بني حنيفة كان مؤمنا صحابيا بشهادة عمر وابنه (عبدالله) و أبي قتادة، بل و شهادة أبي بكر، إذ قال لعمر- مجيبا علي اعتراضه- إن خالدا تأول و أخطأ، و مع ذلك قتله خالد بن الوليد و واقع امرأته ليلة قتله من غير عدة و هذا من المسلمات الأولية، و عمر ممن لم يرض بالقتل و أظهر أن قتله و قومه بغير حق، و بالغ في الاقتصاص عن
ص: 225
خالد، ورد علي بقية قومه أساري بني حنيفة في أيامه خلافته، و هل بين الطائفتين فرق؟
و ذكر سبط ابن الجوزي في «تذكرة خواص الأمة» أنه لما طعن أبوالعادية عمارا بالرمح و سقط أكب عليه آخر فاحتز رأسه ثم أقبلا إلي معاوية يختصمان فيه كل يقول: أنا قتلته، فاقل لهما عمرو بن العاص: والله أن تختصمان إلا في النار، فقال معاوية: ما صنع قوم بذلوا أنفسهم دوننا تقول لهم هذا؟
فقال عمرو: والله كذلك و أنت تعلمه، و إني والله وددت أني مت قبل هذا اليوم
و نقطع الكلام علي هذا المقدار و لله الحمد و نسأله أن يجعله تعالي خالصا لوجهه الكريم.
قد تم الكتاب في 9 ربيع الثاني سنة 1394 هجرية.
ص: 226
صورة

ص: 227
صورة

ص: 228
صورة

ص: 229
صورة

ص: 230
صورة

ص: 231
صورة

ص: 232