سرشناسه:صغير، محمد حسين علي، 1939- م.
عنوان و نام پديدآور:تاريخ القرآن/محمد حسين علي الصغير.-
مشخصات نشر: بيروت:دار المورخ العربي، 1999م=، 1420ق=، 1378.
فروست:.- (مؤسسة الدراسات القرآنية؛ 3).
يادداشت:عربي.
يادداشت:كتابنامه: ص. 181-190
موضوع:قرآن-- تاريخ.
موضوع:قرآن-- علوم قرآني.
رده بندي كنگره BP72/ص7ت2
شماره كتابشناسي ملي:1037041
ص: 1
ص: 2
ص: 3
ص: 4
بسم اللّه الرحمن الرحيم هذه دراسة تكتسب أهميتها من أهمية موضوعها الذاتية في التشريع و التأريخ و التراث.
و موضوع هذه الدراسة يتصل بصميم القرآن نصا و مفهوما،و يتعلق بجوانبه الإيحائية و التدوينية و الشكلية أثرا و معاناة و تأريخا،و هو يحوم حول جزئيات متناثرة،يجمع شتاتها،و يوحد متفرقاتها،بعيدا عن الفهم التقليدي حينا،و عن التزمت الموروث حينا آخر،في استيعاب القضايا المعقدة، و ارتياد المناخ المجهول،و سوف لا تلمس فيه للتعصب أثرا،و لا تصطدم بالمحاباة منهجا،الهدف العلمي يطغى فيه على الهوى النفسي،ليلتقي من خلال ذلك الغرض الفني فى النقد و التمحيص،بالغرض الديني في الاستقراء و المعرفة،لم أكن فيه متطرفا حد الإفراط،و لا متسامحا حد التهاون،بل اتخذت بين ذلك سبيلا.
و مفردات هذه الدراسة تتناول«تأريخ القرآن»بكل التفصيلات الدقيقة،و الأبعاد المترامية الأطراف؛ابتداء من ظاهرة وحيه،و مرورا بنزوله،و جمعه،و قراءاته،و شكله،و انتهاء بسلامته و صيانته،فكان أن انتظم عدة فصول هي كالآتي:
الفصل الأول:وحي القرآن؛و قد تكفل بالحديث عن ظاهرة الوحي القرآني،و رعاية الوحي للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شأنه بذلك شأن من تقدمه من الرسل، و كان ميدانا لتفسير الظاهرة و تعليلها نفسيا و علميا و قرآنيا،مع معالجة مجموعة التقولات و الاجتهادات التي تناولت الوحي حينا،و الكشف و الإلهام و الروحية حينا آخر،بما ميّزنا به حالة الوحي عن سواها،و تأثيرها
ص: 5
الخارجي عند النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و كيف يفسر بعض المستشرقين ذلك عنادا و تمويها،فخلص للظاهرة مردودها الخارجي البعيد عن حالات اللاوعي المزعوم،ذلك المردود الذي أعطى نتائج طبيعية لشدة وقع الوحي في استقبال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لحقيقة مستقلة عن كيانه و شعوره و إرادته،تأمر و تنهى و تقرر،و النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يستمع،و ينفذ،و يبلغ،و كان ذلك هو الوحي، و كان هذا الوحي قرآنا عجبا،عبرت العرب عن حيرتها أمام تياره المتدفق، و أخفقت تخرصاتها المتناقضة في وصفه.
الفصل الثاني:نزول القرآن،و قد تناول بالبحث المركز:بداية النزول،و زمن النزول،و النزول التدريجي و الجملي،و أسرار تنجيم القرآن الكريم،و مرحلية النزول،و تأريخية السور القرآنية مكيها و مدنيها،و ضوابط هذين القسيمين،و أسباب النزول و تأريخيته،و ما نزل بمكة و ما نزل بالمدينة،بما يعتبر فصلا نموذجيا مكثفا،أعقبناه بترتيب إحصائي لسور القرآن و عددها،و عدد آياتها،و نزولها الزماني و المكاني.
الفصل الثالث:جمع القرآن،و قد تناول بالبحث الموضوعي:
روايات الجمع في تأريخها و تناقضها،و تتبع شذراتها هنا و هناك و غربلتها، و ذهب إلى أن القرآن كان مجموعا على عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و كانت أدلة جمعه متعاقبة في الروايات المعتبرة،و توافر مصاحف الصحابة،و عملية الإقراء القرآني و التعليم في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و دليل الكتابة و وجود الكتاب، و أدلة أخرى قطعية استنتاجية و روائية،و تساءل عن مصير مصحف أبي بكر (رض)و بحث المواقف المترددة في الأمر،و عقبها بالرأي النهائي، و تحدث عن مصحف عثمان في أطواره كافة،و اعتبره النص القرآني الكامل.
الفصل الرابع:قراءات القرآن،و قد تناول بالبحث الاتجاهات الرئيسية في أسباب و مؤثرات و عوامل نشوء القراءات القرآنية،و ناقش حديث الأحرف السبعة،و عرض موضوع اختلاف القراءات و تعددها منذ عهد مبكر،و كان مصدر القراءات مستهدفا الاتجاهات كافة،باعتبار شكل المصحف العثماني،و طريق الرواية الشفوية عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و اختلاف لهجات العرب،قضايا ذات أهمية متكافئة في نشوء القراءات،ثم بحث
ص: 6
وجوه القراءات،ثم عرض باختصار لعدد القراء و تضارب الآراء في منزلتهم،و حقق القول في السبعة منهم،و اعتماد قراءاتهم كأصل يرجع إليه،و كان الاختلاف في هذه القراءات لا يعدو الشكل غالبا،و لا يتجاوزه إلا نادرا،و وثق القراءات السبع،و فرق بين القراءة و الاختيار،و أورد اعتبار البعض القراءة سنة،و ضعف الشاذ منها،و أبان شروط القراءة المعتبرة في ضوء مقاييس النقد و القبول،و بين الاختلاف في نسبة التواتر في القراءات،أ هو للقراء أم هو للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أشار إلى الفرق بين حجية هذه القراءات،و بين جواز الصلاة فيها.
الفصل الخامس:شكل القرآن،و تناول بالبحث:ما هو المراد من شكل القرآن،و كراهة الأوائل للزيادات التوضيحية في الرسم القرآني، و بداية إعجام القرآن و نقطه على يد أبي الأسود و تلامذته،فكان الرائد الأول،و تبعه الخليل بن أحمد الفراهيدي في ابتداع أشكال الحركات.
و بحث بعد النقط و الحركات مظاهر الهمز و التشديد و الروم و الإشمام،و ما أحدث على الشكل عموما بغية التطوير،و جعلوا لذلك قواعد للتمييز بين النص و محسناته،ثم تناول مسألة الرسم المصحفي،و ما صاحبها من مغالاة و تقديس لا تمت إلى الذائقة الشرعية بصلة،و نفى ادعاء كون الخط المصحفي توقيفيّا،و ذهب إلى أنه مما تواضع عليه الكتبة،و لا مانع من أن يكتب بأي خط كان،و عزا اختلاف الخطوط،و مغايرتها لأصول الإملاء العربي،إلى اشتباه الكتاب،و لا ضير عليهم في ذلك إذ هو مدى ما يعرفون.و كان شكل القرآن متجاوبا مع العصور في تطوير خطوطه حتى طباعته في الغرب و في مصر و في أجزاء أخرى من الوطن العربي.
الفصل السادس:سلامة القرآن،و قد تناول بالبحث توثيق النص القرآني،و عدم وقوع التحريف فيه.و عالجنا القول بالتحريف من كل وجوهه و افتراضاته،فكان مبنيا على ادعاءات،و افتراضات،و روايات، و اتهامات،و شبهات،و محاولات.
عرضنا لها جميعا بشيء من المناقشة و الحجاج و السرد،انتهينا من خلالها جميعا إلى سلامة القرآن و صيانته من التحريف.
و كانت مصادر هذه الدراسة و مراجعها تعتمد ما كتب القدامى في
ص: 7
علوم القرآن،و التفسير،و أسباب النزول،و القراءات،و الرسم،و الحديث، و ما حققه المحدثون من إنجاز في المجالات نفسها،و إن كان متضائلا، و ما كتبه المستشرقون في تأريخ القرآن،و نظمه،و تأليفه،و شكله،و كتابته، و قراءته،و مراحله،و مكيه،و مدنيه،و غيرها.
و لم يكن ضروريا موافقة من كتب،أو متابعة من اجتهد،فطالما اختلفنا في وجهات النظر المتغايرة،و ربما انتقدنا و ذهبنا بالنقد كل مذهب ينتهي إلى الحقيقة،و ربما اتفقنا مع جملة من الآراء.و إزاء هذا و ذاك، احترمنا كل رأي،مصيبا كان أم مخطئا،مع إقرارنا للصواب و مناقشتنا للخطأ،سواء أخذنا بذلك أو لم نأخذ،فالطريق العلمي أحق أن يتبع، و الاستنتاج القائم على أساس المقارنة بين النصوص،و الممايزة بين الاجتهادات،أجدر بالاحترام المنهجي،و قدسية الأثر الديني المتمثل في القرآن الكريم أسمى من كل الاعتبارات الهامشية التي لا تمتّ إلى المنطق بصلة،و الأسماء و إن كانت لامعة إلا أنها قد تختفي بأضواء الحقائق العلمية.
هذا ما انتهجته هذه الدراسة في الرأي و الكشف و الاجتهاد،و ما توفيقي إلا باللّه العلي العظيم،عليه توكلت و إليه أنيب،و هو حسبي و نعم الوكيل.
الدكتور محمد حسين علي الصغير
ص: 8
ص: 9
ص: 10
ما برحت حياة النبي محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم موضع عناية الدارسين من أبعاد مختلفة،و بقدر ما عبئ للموضوع من أهبة و استعداد،و منهجية في أغلب الأحيان،فما تزال هناك بقية للبحث،فقد تنقصنا كثير من الوثائق عن حياته الروحية قبل البعثة،و صلتها بحياته العامة و الخاصة بعد البعثة.
هناك شذرات متناثرة في كتب السيرة و التأريخ و الآثار،تتعلق بحياة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هامشيا،تتخذ مجال الثناء و الاطراء حينا،و تتسم بطابع الحب و التقديس حينا آخر،و هي مظاهر لا تزيد من منزلة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الذاتية،و لا تكشف عن مكنونات مثله العليا،ذلك باستثناء الإجماع على عزلته في عبادته و تحثه،و الاقتناع بصدقة و أمانته،و هي شذرات غير غريبة في أصالة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الكريمة،و تقويمه الخلقي الرصين.
و تطالعنا-أحيانا-أحداث في تأريخ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قبل البعثة،لها مداليل من وثاقة،و رجاحة من عقل،كالمشاركة الفاعلة في حلف الفضول، و تميزه بالدفاع عن ذوي الحقوق المهتضمة،و كاللفتة البارعة في رفع الحجر الأسود،و وضعه بموضعه من الكعبة اليوم،بما أطفأ به نائرة، و أخمد فتنة.
و هناك انفراده عن شباب عصره بالحشمة و الاتزان،و هو في شرخ الصبا و عنفوان العمر،و التأكيد على الخلوة الروحية بين جبال مكة و شعابها،و في غار حراء بخاصة،و الحديث عن تجواله في سفرتين تجاريتين،لا يفصح كثيرا عن ثمرة تجربتهما النفسية،و لا يعرف صدى مشاهداتهما روحيا و اجتماعيا.
ص: 11
في حياته العائلية قبل البعثة نجده يتيما يسترضع في بني سعد،و يقعد أبويه تباعا،و يحتضنه جده عبد المطلب حضانة العزيز المتمكن،و بوفاته يوصي به لأبي طالب،و يتزوج و هو فتى في الخامسة و العشرين من عمره من السيدة العربية خديجة بنت خويلد،و كان زواجا ناجحا في حياة عائلية سعيدة،تكدّ و تكدح في تجارة تتأرجح بين الربح و الخسران،و فجأة الوحي الحقّ،و التجأ إلى خديجة،تزمله آنا،و تدثره آنا آخر.
و ينهض النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في دعوته،فتجد الدعوة مكذبين و مصدقين،و تقف قريش بكبريائها و جبروتها في صدر الدعوة،و يلقى الأذى و العنت من قومه و عشيرته الأقربين،و في حمأة الأحداث يموت كافله و زوجته في عام واحد،فيكون عليه عام الأحزان،فلا اليد التي قدمت المال للرسالة،و لا الساعد الذي آوى و حامى،و يوحى إليه بالهجرة،فتمثل حدثا عالميا فيما بعد.
هذه لمحات يذكرها كل من يترجم للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يطيل بها البعض، و يوجز البعض الآخر،و ليست كل شيء في حياة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقد تكون غيضا من فيض.
و لست في صدد تأريخية هذه الأحداث،و لا بسبيل برمجتها،لألقي عليها ظلالا مكثفة من البحث،و لكنها لمسات تمهيدية تستدعي الإشارة فحسب.
و مهما يكن من أمر،فقد تبقى طريقة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المنهجية في التوفيق بين واجباته الروحية و مهماته القيادية من جهة،و بين حياته العامة و مساره الدنيوي من جهة ثانية،لا تجد تأريخا يمثل بدقة و وضوح تامين المنهج الرئيسي الذي اختطه لنفسه هذا القائد العظيم و هو في مكة المكرمة.
في المدينة المنورة حيث العدد و العدة،و النصرة و الفداء،نلمس إيحاء قرآنيا بنقطتين مهمتين:
الأولى:مواجهته للمنافقين و تحركهم جهرة و خفاء،و تذبذبهم إزاء الرسالة بين الشك المتمادي،و التصديق الكاذب،يصافحون أهل الكتاب تارة،و يوالون مشركي مكة تارة أخرى،حتى ضاق بهم ذرعا،و نهاهم
ص: 12
القرآن الكريم عن التردي في هذه الهاوية مرارا و تكرارا،و هددهم بالاستئصال و التصفية بعض الأحيان،و لم ينقطع كيدهم،فمثلوا ثورة مضادة داخلية،تفتك بالصفوف و تفرق الجموع،لو لا الوقوف في نهاية الأمر بوجه ترددهم الخائف،و هزائمهم المتلاحقة،إثر ما حققه الإسلام من انتصارات في غزواته و حروبه الدفاعية،إلا أن جذوتهم بقيت نارا تحت رماد،و عاصفة بين الضلوع،تخمد تارة و تهب أخرى.
الثانية:مجابهته للفضوليين،الذين كانوا يأخذون عليه راحته، و يزاحمونه و هو في رحاب بيته،بين أفراد عائلته و زوجاته،فينادونه باسمه المجرد،و يطلبون لقاءه دون موعد مسبق،بما عبّر عنه القرآن بصراحة:
إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ-4 . (1).
و استأثر البعض من هؤلاء و غيرهم بوقت القائد،فكانت الثرثرة و الهذر،و كان التساؤل و التنطع،دون تقدير لملكية هذا الوقت،و عائدية هذه الشخصية،فحدّ القرآن من هذه الظاهرة،و اعتبرها ضربا من الفوضى، و عالجها بوجوب دفع ضريبة مالية تسبق هذا التساؤل أو ذاك الخطاب، فكانت آية النجوى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ أَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ-12 (2) .
و كان لهذه الآية وقع كبير،فامتنع الأكثرون عن النجوى،و تصدق من تصدق فسأل و وعى و علم،و انتظم المناخ العقلي بين يدي الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فكفّ الفضول،و تحددت الأسئلة،ليتفرغ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للمسئولية القيادية.
و لما وعت الجماعة الإسلامية مغزى الآية،و بلغ اللّه منها أمره،نسخ حكمها و رفع،و خفف اللّه عن المسلمين بعد شدة مؤدبة،و فريضة رادعة، و تأنيب في آية النسخ:2.
ص: 13
أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تابَ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَطِيعُوا اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ اللّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ-13 (1) .
كان هذا و ذاك يستدعي الوقوف فترة زمنية عند رعاية الوحي للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في التوفيق بين واجباته القيادية،و حياته الاعتيادية،فأمام المنافقين نجد الحذر و اليقظة يتبعهما الإنذار النهائي باغرار النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بهم،و عند الحادثتين التاليتين نجد الوحي حاضرا في اللحظة الحاسمة،فيسليه في الأولى بأن أكثر هؤلاء لا يعقلون.و يعظمه في الثانية بجعل مقامه متميزا،فلا يخاطب إلا بصدقة،و لا يسأل إلا بزكاة.
و ما زلنا في هذا الصدد فإننا نجد الوحي رفيقا أمينا لهذا القائد الموحي إليه،من هذه الزاوية التوفيقية بين التفرغ لنفسه،و التفرغ لمسئولياته،و هذا أهم جانب يجب أن يكشف في حياة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و الكشف عنه إنما يتم بدراسة حياة النبي الخامسة مرتبطة بهذه الظاهرة، و هي ظاهرة الوحي الإلهي،و مدى الاتصال و الانفصال بينها و بين النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ،و حاجته الملحّة إلى هذا الشعاع الهادي،منذ البدء و حتى النهاية.
لم يكن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بدعا من الرسل،و لم يختص بالوحي دونهم،بل العكس هو الصحيح،فقد شاركهم هذه الظاهرة،و قد أوحي إليه كما أوحي إليهم من ذي قبل،قال تعالى:
إِنّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ عِيسى وَ أَيُّوبَ وَ يُونُسَ وَ هارُونَ وَ سُلَيْمانَ وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً* وَ رُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ رُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَ كَلَّمَ اللّهُ مُوسى تَكْلِيماً (2) .
فقد هدفت الآية و ما بعدها إلى بيان حقيقة الوحي الشاملة للأنبياء عليهم السّلام كافة،ممن اقتص خبرهم و ممن لم يقتص،و إيثار موسى بالمكالمة وحده.
و يبقى التساؤل قائما:بما ذا تفسر هذه الظاهرة،و كيف تعلل نفسيا؟ و كيف تنطبق كونيا،و كيف عولجت قرآنيا؟و هل هي حقيقة تنطلق من ذات.-
ص: 14
النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؟أم هي ظاهرة منفصلة عنه تماما،و ما هو سبيل معرفتها جوهريا عند النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؟و عند الناس؟و كيف آمن به بكل قوة و يقين و آمن بها من حوله؟ و للإجابة عن هذه الافتراضات،لا بدّ من رصد جديد لهذه الأبعاد كافة،و قد يرى ذلك غريبا في تأريخ القرآن،و لكن نظرة تمحيصية خاطفة، تؤصل حقيقة هذا المناخ،و تؤكد ضرورة هذا المنهج،لأن الوحي يشكل بعدا زمنيا معنيا يقترن بنزول القرآن،و ذلك أول تأريخ القرآن،و يستمر معه بوحي القرآن متكاملا،و ذلك تفصيلات تأريخ القرآن في عهد الرسالة،و هو الجزء المهم و الأساس في هذا التأريخ.
و باستعراض هذه الافتراضات سوف نلمس النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عبدا مأمورا محتسبا،ينفّذ و لا يسأل،و يبلغ و لا يضيف،مهمته التلقي و الأداء،مستقلا بذاته،و منفصلا عن ظاهرته،و يبقى الجمع بين حياته العامة و الخاصة من اختصاصه بتوجيه من اللّه تعالى،و بعناية من وحيه،فلا تعارض بينهما، فيرتفع بذلك ما أثرناه مسبقا،و يتلاشى الإشكال بهذا الملحظ،مع أننا نلمس بشكل جدي أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد وهب حياته للوحي،مبلغا أمينا، و رسولا كريما،إلا أن شخصيته حقيقة،و الوحي حقيقة أخرى،و هذا ما ندأب إلى إثباته عليما.
إن ما يذهب إليه بعض الدارسين من أن ظاهرة الوحي،قد يراد بها المكاشفة،و قد يعبر عنها بالوحي النفسي تارة،أو الإلهام المطلق تارة أخرى،دون تحديد مميز،لا يتوافق مبدئيا مع دراسة النهج الموضوعي لظاهرة الوحي.
إن كلمة الإبهام ليس لها أي مدلول نفسي محدد،مع أنها مستخدمة عموما لكي ترد معنى الوحي إلى ميدان علم النفس.
و الوحي النفسي يدور حول معرفة مباشرة لموضوع قابل للتفكير، و الوحي الإلهي يجب أن يأخذ معنى المعرفة التلقائية و المطلقة الموضوع لا يشغل التفكير،و أيضا غير قابل للتفكير.
ص: 15
و المكاشفة لا تنتج عند صاحبها يقينا كاملا،و يقين النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالوحي قد كان كاملا،مع وثوقه بأن المعرفة الموحى بها غير شخصية،و طارئة، و خارجة عن ذاته (1).
و الوحي الإلهي هو الفصل الذي يكشف به اللّه للإنسان عن الحقائق التي تجاوز نطاق عقله (2).
و إذا كان الوحي فعلا متميزا،فهو صادر عن فاعل مريد،و هذا الفاعل المريد هو اللّه تعالى،و ليس الإلهام و الكشف كذلك،و هذا ما يميز الوحي عن المكاشفة،و الوحي النفسي،و الإلهام،إذ أن مردّ الإلهام يعود عادة إلى الميدان التجريبي لعلم النفس،و نزعة الوحي النفسي في انقداحها تعتمد على التفكر في الاستنباط،و المكاشفة تتأرجح بين الشك و اليقين.
أما الوحي فحالة فريدة مخالفة لا تخضع إلى التجربة أو التفكير، و متيقنة لا مجال معها للشك.مضافا إلى أن حالات الكشف و الإلهام و الإيحاء النفسي حالات لا شعورية و لا إرادية،و الوحي ظاهرة شعورية تتسم بالوعي و الإدراك التامين.
و الوحي بالمعنى المشار إليه يختص بالأنبياء،و ليس الإلهام أو الكشف كذلك،فهما عامان و شائعان بين الناس.
و لقد فرّق المستشرق الألماني الدكتور تيودور نولد كه(1836-1930 م)بين الوحي و الإلهام تفريقا فيه مزيج بين الواقع و الصوفية،فاعتبر الوحي خاصا بالأنبياء،و الإلهام خاصا بالأولياء إذ لا يوحي إليهم (3).
و يتجلى الفرق بين الإلهام و الوحي بتعبير آخر،و بتصور متغاير،أن مصدر الإلهام باطني،و أن مصدر الوحي خارجي،بل الإلهام من الكشف المعنوي،و الوحي من الواقع الشهودي،لأن الوحي إنما يتحصل بشهود الملك و سماع كلامه،أما الإلهام فيشرق على الإنسان من غير واسطةن.
ص: 16
ملك،فالإلهام أعم من الوحي،لأن الوحي مشروط بالتبليغ،و لا يشترط ذلك في الإلهام.
و الإلهام ليس سببا يحصل به العلم لعامة الخلق،و يصلح للبرهان و الإلزام،و إنما هو كشف باطني،أو حدس،يحصل به العلم للإنسان في حق نفسه لا على وجه اليقين و القطع،كما هي الحالة في الوحي،بل على أساس الاحتمال الإقناعي (1).
و لهذا فلا اعتبار بما حاوله الأستاذ محمد عبده:بجعل الإلهام وجدانا تستيقنه النفس،و حسبان ذلك طريقا لإمكان الوحي (2).
إن طريق الوحي هو التلقي،و طريق هذا التلقي هو الملك و في ضوئه نجد عبد القاهر الجرجاني(في 471 ه)حديا بتمثل الوحي متفردا بما ألقاه جبرئيل عليه السّلام على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و أن القول بأنه:«قد كان على سبيل الإلهام، و كالشيء يلقى في نفس الإنسان،و يهدى له من طريق الخاطر و الهاجس الذي يهجس في القلب،فذلك مما يستعاذ باللّه منه،فإنه تطرق للإلحاد» (3).
و لقد تطرق بعض الباحثين الكهنوتيين فدعى بأن الوحي:«هو حلول روح اللّه في روح الكتّاب الملهمين لاطلاعهم على الحقائق الروحية و الأخبار الغيبية،من غير أن يفقد هؤلاء الكتاب بالوحي شيئا من شخصياتهم،فلكل منهم نمطه في التأليف،و أسلوبه في التعبير» (4).
و هذا التعبير عن الوحي بهذا الفهم،يختلف جذريا عن المفهوم القرآني للوحي،و يضفي مناخا باطنيا في الحلول و الاتحاد،يدفعه الإسلام، و هو سبيل مختصر إلى تقمص الصفاء الروحي و ادعائه من قبل من لم يحصل عليه،و فيه استهواء للدجل الاجتماعي عند الكهنة و الكذبة،و بعد5.
ص: 17
هذا:فهو مغاير لمفهوم الوحي و طريقته اللذين خاطب اللّه بهما رسله، و علمهم من خلالهما،مع استقلال في شخصية الوحي،بعيدة عن مراتب الفراسة و التجانس الروحي،و استقلال في المتلقي بعيد عن الاستنتاج الذاتي،أو التعبير المطلق بكل صوره.
إن عملية الوحي الإلهى إنما تخضع لتصور حوار علوي بين ذاتين:
«ذات متكلمة آمرة معطية،و ذات مخاطبة مأمورة متلقية» (1).
و لم تتشاكل في مظهر من مظاهر الوحي و ظاهرته،الذات المتكلمة، و الذات المخاطبة في قالب واحد،و لم يتحدا في صورة واحدة على الإطلاق،فهما متغايران.
إن ظاهرة الوحي الإلهي ظاهرة مرثية و مسموعة،و لكنها خاصة بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وحده،فما اتفق و لو مرة واحدة،أن سمع أصحابه صوت الوحي،و لا حدث أن رأوا هذا الكائن الموحي،و مع هذا فقد أدركوا صحة ما نزل عليه،و صدق ما أوحي إليه،بدلائل الإعجاز،و قرائن الأهوال،و اعتبارات الاختصاص،فالنفس الإنسانية،و إن كانت واحدة في الأصل و الجواهر،و لكنها تختلف شفافية كما تختلف تخويلا من قبل اللّه تعالى،فالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يرى و يسمع و يعي ما حوله من الظاهرة بيقين مرئي مشاهد،و من حوله لا يرون و لا يسمعون و لكنهم يصدقون و يؤمنون.
و ربما قيل أن ما يتلقاه النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الروح الأمين و هو رسول الوحي:«هو نفسه الشريفة من غير مشاركة الحواس الظاهرة،التي هي الأدوات المستعملة في إدراك الأمور الجزئية،فكان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يرى و يسمع حينما يوحى إليه من غير أن يستعمل حاستي البصر و السمع...فكان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يرى الشخص،و يسمع الصوت مثل ما نرى الشخص و نسمع الصوت غير أنه ما كان يستخدم حاستي بصره و سمعه الماديتين كما نستخدمهما،و لو كانت رؤيته و سمعه بالبصر و السمع الماديين لكان ما يجده مشتركا بينه و بين غيره، فكان سائر الناس يرون ما يراه،و يسمعون ما يسمع،و النقل القطعي يكذب7.
ص: 18
ذلك،فكثيرا ما كانت تأخذه برحاء الوحي،و هو بين الناس،فيوحي إليه، و من حوله لا يشعرون بشيء،و لا يشاهدون شخصا يكلمه» (1).
و قد يفسر هذا بأنه ظاهرة ذاتية،و لكن عمى الألوان (2)-مثلا-يقدم لنا حالة نموذجية،لا يمكن في ضوئها أن ترى بعض الألوان بالنسبة لكل العيون.
«هناك مجموعة من الإشعاعات الضوئية دون الضوء الأحمر،و فوق الضوء البنفسجي لا تراها أعيننا،و لا شيء يثبت علميا أنها كذلك بالنسبة لجميع العيون،فلقد توجد عيون يمكن أن تكون أقل أو أكثر حساسية أمام تلك الأشعة،كما يحدث في حالة الخلية الضوئية الكهربية» (3).
و هذا مطرد بالنسبة للبصر المادي المتفاوت،أما على التفسير الأول، فينتفي الأشكال جملة و تفضيلا،فهو من باب الأولى.
و لقد توصل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى اليقين القطعي بصدق الرؤية و السمع عند حدوث ظاهرة الوحي طيلة ثلاثة و عشرين عاما،و كان لذلك أمارات خارجية تبدو على وجهه و عينه و جبينه،من شجوب أو احتقان أو تصبب عرق،و قد يرافق ذلك دوي بجسمه أو أصداء أو أصوات كما تقول الروايات (4).
و لكن هذه المظاهر لم تمتلك عليه وعيه الكامل،و إحساسه اليقظ، لأنها أمارات خارجية لا تغير من حقيقة شعوره على الإطلاق،فقسمات الوجه،و تعرق الجبين،و شحوب المحيا لا تدل في حالة اعتيادية على تغير في الوعي،أو انعدام للذاكرة،أو فقدان للشعور،و ما هي إلا طوارئ عارضة لا تمس الجوهر بشيء.1.
ص: 19
و لقد تعجل بعض النقاد من المستشرقين،حين ألموا بهذه الدلائل النفسية،و الإمارات الشكلية الخارجية التي لا تنتاب الوعي إطلاقا،و لا تؤثر على الإدراك في حال،فاعتبروها-مخطئين-أعراضا للتشنج تارة، و للإغماء تارة أخرى.«و هذا الرأي يشمل خطأ مزدوجا حين يتخذ من هذه الأغراض الخارجية مقياسا يحكم به على الظاهرة القرآنية بمجموعها، و لكن من الضروري أن نأخذ في اعتبارنا قبل كل شيء الواقع النفسي المصاحب،الذي لا يمكن أن يفسر أي تعليل مرضي...فإذا نظرنا إلى حالة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وجدنا أن الوجه وحده هو الذي يحتقن؛بينما يتمتع الرجل بحالة عادية،و بحريّة عقلية ملحوظة من الوجهة النفسية،بحيث يستخدم ذاكرته استخداما كاملا خلال الأزمة نفسها،على حين يمحى وعي المتشنج و ذاكرته خلال الأزمة،فالحالة-إذن-ليست حالة تشنّج.
هذا التلازم الملحوظ بين ظاهرة نفسية في أساسها،و حالة معينة،هو الطابع الخارجي المميّز للوحي» (1).
و هكذا كان لظاهرة الوحي عند بعض المستشرقين تفسيرات خاطئة، أملاها حقد و دجل و افتراء،فقد كان الوحي على حد زعمهم أثرا لنوبات الصرع التي تعتري الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فكان يغيب عن صوابه،و يسيل منه العرق،و تعتري التشنجات،و تخرج من فيه الرغوة،فإذا أفاق من نوبته ذكر أنه أوحي إليه،و تلا على المؤمنين به ما يزعم أنه وحي من ربه (2).
و مع ما في هذا الزعم من الكذب المضحك،و الغض المعتمد من منزلة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الرسالية،فالطريف أن ينبري له المستشرقون أنفسهم،لا سيما هنري لامنس،و فون هامر،و أمثالهما،للرد عليه،إلا أن في طليعة هؤلاء جميعا السير وليم موير(1819 م1905/ م) (3).
لقد فند هذا الباحث المحايد في كتابه(حياة محمد)مزاعم الجهلة الحاقدين،و عقب على ظاهرة الوحي و أعراضها الخارجية بقوله:«و تصوير،P
ص: 20
ما كان يبدو على محمد في ساعات الوحي على هذا النحو الخاطئ من الناحية العلمية أفحش الخطأ.فنوبة الصرع لا تذر عند من تصيبه أي ذكر لما مرّ به أثناءها،بل هو ينسى هذه الفترة من حياته بعد إفاقته من نوبته نسيانا تاما،و لا يذكر شيئا مما صنع أو حلّ به خلالها،لأن حركة الشعور و التفكير تتعطل فيه تمام العطل.هذه أعراض الصرع كما يثبتها العلم،و لم يكن ذلك ما يصيب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم العربي أثناء الوحي،بل كانت تتنبه حواسه المدركة في تلك الأثناء تنبها لا عهد للناس به،يذكر بدقة-غاية الدقة-ما يتلقاه،و ما يتلوه بعد ذلك على أصحابه،ثم نزول الوحي لم يكن يقترن حتما بالغيبوبة الحسية مع تنبه الإدراك الروحي غاية التنبه،بل كثيرا ما يحدث و النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في تمام يقظته العادية» (1).
و في ضوء ما تقدم يمكن أن نرصد في ظاهرة الوحي عملية إرسال و استقبال بوقت واحد،إرسال بوساطة الملك المؤتمن،و استقبال من قبل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المصطفى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،يتم ذلك في حالة إدراك متماسكة،يسيطر فيها الوعي و الشعور و الإحساس،كما لو كان أمرا عاديا في يقظة حقيقية،قبل الوحي،و أثناء الوحي،و بعد الوحي،مهما صاحب عملية الوحي من شدة و وطأة و مفاجأة.فالوحي حقيقة خارجية مستقلة عن كيان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم النفسي،و لكنها لا تغير ذلك الواقع النفسي،بل تزيده جلاء و فطنة و ذاكرة،و يمثل فيها النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دور المتلقي الواعي من جهة،و دور المبلغ الأمين من جهة أخرى،لا يقدم و لا يؤخر،و لا يغيّر و لا يقترح،و لا يفتر و لا يتكاسل.
و لقد كان ذلك بحق:
«استقبالا من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لحقيقة ذاتية مستقلة،خارجة عن كيانه و شعوره الداخلي،و بعيدة عن كسبه أو سلوكه الفكري أو العملي» (2).
و ليس من الضروري أن تتوافق هذه الظاهرة مع رغبات النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الآنية،أو تطلعاته النفسية الملحة،فقد ينقطع عنه الوحي،و قد يتقاطرة.
ص: 21
عليه،و لكنه لا يعدو الوقت المناسب في تقدير اللّه عزّ و جلّ،و ما تحويل القبلة إلي الكعبة،و إبطاء الوحي في حادثة الإفك،و فترة الوحي حينا، و التلبث في قصة أهل الكهف،إلا شواهد تطبيقية على ما نقول،و أدلة مثبتة:أن الوحي خارج عن إرادته،و مستقلّ عن ذاته.
و لا شك أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم آمن منذ اللحظة الأولى-بقناعة شخصية متوازنة-بأن ما يوحى إليه ليس من جنس الأحلام و أضغاثها،و لا من سنخ الرياضيات و مسالكها،و لا من باب الأحاسيس القائمة على أساس من الذكاء و الفطنة،و لا من قبيل التخيلات المستنبطة من الحدس و الفراسة،و إنما كان بإيمان نفسي محض بأنه نبي يوحى إليه من قبل اللّه تعالى،و ما الروايات و الإسرائيليات القائلة بشكه في الظاهرة إلا ضرب من الأخيلة التي لا يدعمها دليل.
«و الحق أن وحي النبوة و الرسالة يلازم اليقين من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الرسول بكونه من اللّه تعالى على ما ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السلام» (1).
و يوحي اللّه عزّ و جلّ لملك الوحي،ما يوحيه الملك إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن اللّه،و يتسلّم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الوحي،فالوحي واحد هنا مع تقاسم المسئولية، و هو عام بالنسبة لكل الأنبياء،و خاص بالنسبة لوحي القرآن أيضا،فالملك يؤدي عن اللّه لمحمد،و محمد يتلقى ذلك الوحي من الملك،و يؤدي ما يوحي به إليه إلى الناس،و كان ذلك طريق الوحي القرآني فحسب،و قد صرح به القرآن الكريم بقوله تعالى:
وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ-192 (2) .
و الروح الأمين هو جبرائيل عليه السّلام بإجماع الأمة و الروايات؛قال الطبرسي(ت:548 ه):«يعني جبرائيل عليه السّلام،و هو أمين اللّه لا يغيره،و لا يبدله...لأن اللّه تعالى يسمعه جبرائيل عليه السّلام فيحفظه،و ينزل به على الرسول4.
ص: 22
و يقرأه عليه،فيعيه و يحفظه بقلبه،فكأنه نزل به على قلبه» (1).
و هذا صريح بكيفية تلقي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للقرآن من جبرائيل عليه السّلام،على قلبه تثبيتا و حفظا و رعاية،و القلب أشرف الأعضاء للتدبر و التفكر إن أريد به هذا الجهاز العضلي،و إلا فهو الإدراكات النفسية الخاصة لدى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المستعدة للتلقي و الصيانة و الاستيعاب دون ريب.
و كان ما نزل به جبرائيل عليه السّلام بإيحاء من اللّه تعالى هو النص الصريح من الوحي القرآني دون زيادة أو نقصان،بألفاظه المدونة في المصحف من ألفه إلى يائه.
و لما كان الأمر كذلك،فقد تحدث هذا النص المحفوظ بين الدفتين عن ظاهرة الوحي بوحي القرآن و سواه،و طرقها،و كيفيتها،و أقسامها.و من الضروري حقا استعراض مختلف أنشطة الموضوع من القرآن نفسه،مع الاستعانة باللغة حينا،و بالتبادر العربي العام حينا آخر،لأن القرآن عربي، و التبادر علامة الحقيقة.
صرّحت الآية التالية:
وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ،ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ 51 (2) .
بطرق الوحي الإلهي،و حدوت كيفية هذا الوحي،و مراتب إيصاله على النحو التالي:
1-الوحي،و أصل الوحي هو:الإشارة السريعة على سبيل الرمز و التعريض،و ما جرى مجرى الإيماء و التنبيه على الشيء من غير أن يفصح به (3).
و قد يكون أصل الوحي في اللغة كلها الإعلام في خفاء (4).0.
ص: 23
و مؤدى التعريفات واحد فيما يبدو،إذ الإشارة السريعة،إعلام عن طريق الرمز،و الرمز إيماء يستفيد منه المتلقي أمرا إعلاميا قد يخفى على الآخرين.
و من ثم قيل«للكلمة الإلهية التي تلقى إلى أنبيائه وحي» (1)باعتبار إسرارها إليهم من قبل ملك الوحي،و اختصاصها بهم دون سائر الناس.
قال ابن الأنباري:سمي الوحي وحيا لأن الملك أسرّه على الخلق، و خص به النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (2).
و من هنا يبدو أن التعريف الشرعي متحدر عن الأصل اللغوي في خصوصية الإسرار و الإعلام السريع،و ما يصاحب ذلك من الإشارة و الرمز اللذين يخفيان على الآخرين.
و قد عبر الأستاذ محمد عبده عن ذلك بما يقارب هذا المؤدى فقال:
«بأنه عرفان يجده الشخص في نفسه مع اليقين بأنه من قبل اللّه بواسطة،أو بغير واسطة،و الأول بصوت يتمثل لسمعه،أو بغير صوت» (3).
و لعل المراد بما يتلقاه النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من العرفان اليقيني بغير صوت هو الإلقاء في الروع،و ذلك بأن ينفث اللّه في روع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما يشاء من أمر، أو ينفث روح القدس ما أوحي إليه بتبليغه إياه،فيكون ذلك من الوحي بوجه من الوجوه.
و قد يؤيد هذا الملحظ ما نسب إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه
قال: «إن روح القدس نفث في روعي» (4).
2-سماع كلام اللّه تعالى مباشرة من وراء حجاب دون معاينة أو رؤية،لامتناع ذلك عقلا و شرعا،كما كلم اللّه موسى بن عمران عليه السلام: وَ كَلَّمَ اللّهُ مُوسى تَكْلِيماً (5).و كان ذلك من وراء حجاب«و هو4.
ص: 24
أن يحجب ذلك الكلام عن جميع خلقه إلا من يريد أن يكلمه به نحو كلامه لموسى عليه السّلام لأنّه حجب ذلك عن جميع الخلق إلا عن موسى عليه السّلام وحده، لأن الحجاب لا يجوز إلا على الأجسام المحدودة» (1).
3-أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء،كما في تبليغ جبرائيل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في صورة معينة،أو صور متعددة،وحي القرآن الكريم عن اللّه،من غير أن يكلم اللّه نبيه على النحو الذي كلم به موسى عليه السلام.
هذه الأصناف و المراتب في الإيحاء حددتها الآية الكريمة السابقة فيما يتعلق بوحي الأنبياء عليهم السّلام كما يبدو،إلا أننا من متابعة هذه الظاهرة في القرآن الكريم،لاحظنا بعض الدلالات الإيحائية لهذا التعبير قد تختلف عما تقدم،و يمكن الإشارة إلى أهمها بما يلي:
أ-الإلهام،و هو أن يلقي اللّه تعالى في النفس أمرا يبعث على الفصل أو الترك،و هو نوع من الوحي،يخص به اللّه من يشاء من عباده، غير قابل للتفكير به،أو التخطيط له مسبقا،ليفرق بينه و بين الحالات اللاشعورية من جهة،و السلوك الكسبي من جهة أخرى،كما يدل على ذلك قوله تعالى: وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ... (2).و قوله تعالى: إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى 38 (3).
ب-التسخير،و هو أن يسخر اللّه تعالى بعض مخلوقاته إلى عمل ما،بهديه و إشاءته و تسخيره،بشكل من الأشكال التي لا تستوعبها بعض مداركنا أحيانا،و يستيقنها الذين آمنوا دون أدنى شبهة،كما يدل على هذا النوع قوله تعالى:
وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً...68 (4) .
ج-الرؤيا الصادقة،و هي وحي إلهي بالنسبة للأنبياء عليهم السّلام خاصة،8.
ص: 25
يتلقون فيها الأوامر،و يتسلمون التعليمات من السماء،كما دل على ذلك قوله تعالى-فيما اقتص اللّه من خبر إبراهيم عليه السّلام مع ولده-:
فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللّهُ مِنَ الصّابِرِينَ(102) فَلَمّا أَسْلَما وَ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ(103) وَ نادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ(104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(105) (1) .
فأشارت الآيات إلى الرؤيا الصادقة في المنام،و إلى استفادة إبراهيم عليه السّلام و ولده عليهما السلام،الأمر الإلهي فيها،للدلالة على أنها وحي يستلزم العمل به،بدليل تعقيب ذلك من قبل اللّه في خطاب إبراهيم عليه السّلام بتصديق الرؤيا و جزاء المحسنين.
و قد تكون الرؤيا في جزء من هذا الملحظ تمهيدا للوحي المباشر، و قد يعبر عنها بالصادقة أو الصالحة،كما حصل هذا المعنى بالنسبة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أول بدء الوحي،كما في رواية أم المؤمنين عائشة:
«أول ما بدئ به رسول اللّه من الوحي الرؤيا الصادقة(الصالحة)في النوم،فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح» (2).
و قد تكون الرؤيا نوعا من الوعد الحق الذي يقطعه اللّه لنبيه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما هو الحال في شأن فتح مكة،قال تعالى:
لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللّهُ آمِنِينَ...27 (3) .
و قد دل على جميع ما تقدم مضافا للآلات القرآنية ما يروى عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:
«انقطع الوحي،و بقيت المبشرات:رؤيا المؤمن،فالإلهام،و التسخير و المنام» (4).6.
ص: 26
و فيه-إذا صح-تفريق بين الوحي المباشر،و هو جبرائيل عليه السّلام،و بين ما أشار إليه من المبشرات التي يبدو أنها غير الوحي الذي يريده الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الحديث.
و قد يكون الوحي بملحظ آخر عاما بين جميع الأنبياء و الرسل،و قد يكون خاصا بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،فما كان عاما يكون مشتركا بينه و بين الأنبياء و المرسلين لأنه أحدهم بل سيدهم،و ما كان خاصا ينفرد به وحده.
فالأول:كقوله تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ-25 . (1)
و يبدو أن هذا الوحي يشتمل على جميع أقسام الوحي و كيفياته،و لا يختص بالإيحاء بمعناه الدقيق،لأن الإيمان بالوحدانية فطرة إنسانية تحتمها طبيعة العقل السّوي،و الأنبياء بعامة يتمتعون بهذه الفطرة نفسيا و عقليا.
قال الراغب الاصفهاني(ت:502 ه):«فهذا الوحي هو عام في جميع أنواعه،و ذلك أن معرفة وحدانية اللّه تعالى،و معرفة وجوب عبادته ليست مقصورة على الوحي المختص بأولى العزم من الرسل،بل يعرف ذلك بالعقل و الإلهام كما يعرف بالسمع،فإذن المقصود من الآية تنبيه أنه من المحال أن يكون رسول لا يعرف وحدانية اللّه،و وجوب عبادته» (2).
و الثاني:ما هو مختص بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وحده،كالأمر له في قوله تعالى:
اِتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ...106 (3) .
و كإخباره عن نفسه،محكيا بقوله تعالى:
إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ ما يُوحى إِلَيَّ وَ ما أَنَا إِلاّ نَذِيرٌ مُبِينٌ 9 (4) و كالطلب إليه بقوله تعالى:9.
ص: 27
قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ...110 (1) .
و في هذا الضوء،فإن ما يوحى به إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يخلو:إما أن يكون تعليمات يؤمر بإشاعة مفاهيمها بين الناس بحال من الأحوال،و إما أن يكون كلاما يؤمر بتدوينه،و يثبته اللّه في قلبه،و يتلوه بلسانه،فيكون كتابا فيما بعد،و إلى هذا أشار الزهري بقوله:
«ما يوحي اللّه به إلى نبي من الأنبياء فيثبته في قلبه،فيتكلم به و يكتبه،و هو كلام اللّه.و منه ما لا يتكلم به و لا يكتبه لأحد،و لا يأمر بكتابته،و لكنه يحدث الناس به حديثا،و يبين لهم أن اللّه أمره،أن يبينه للناس و يبلغهم إياه» (2).
و القرآن الكريم من النوع الذي ثبت في قلب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تكلم به، و أمر بكتابته و تدوينه،بعد إنزاله وحيا من قبله.
و قد أورد الزركشي عن السمرقندي ثلاثة أقوال في المنزل من القرآن:
1-إنه اللفظ و المعنى،و أن جبرائيل عليه السلام حفظ القرآن من اللوح المحفوظ و نزل به.
2-إن جبرائيل عليه السّلام إنما نزل بالمعاني الخاصة،و أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم علم تلك المعاني،و عبّر عنه بلغة العرب.
3-إن جبرائيل عليه السّلام،إنما ألقي إليه المعنى،و أنه عبر بهذه الألفاظ بلغة العرب (3).
و الأول هو الصحيح دون ريب،لأن جبرائيل عليه السّلام وصف بالروح الأمين لأمانته المتناهية،فلا يضيف و لا يغير،و لا يبدل و لا ينسى،و لا يخوّل و لا يتجوز،كيف لا و هو روح القدس بقوله تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ...102 (4).2.
ص: 28
و القرآن نازل من عند اللّه بألفاظه نفسها،و ما مهمة جبرائيل عليه السّلام إلا تبليغ الوحي كما تسلمه،و هو آيات الكتاب الكريم بنصوصها خالصة بدلالة قوله تعالى: تِلْكَ آياتُ اللّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ...108 (1).
و قد اختار السيوطي ذلك تعبدا بلفظ القرآن إعجازا،فلا يقدر أحد أن يأتي بلفظ يقوم مقامه،و إن تحت كل حرف منه معاني لا يحاط بها كثرة،فلا يقدر أحد أن يأتي بدله بما يشتمل عليه (2).
و خصوصية القرآن التعبد بتلاوته لأن ألفاظه نازلة من اللّه تعالى فلا تدانيها خصوصية أخرى،لأن هناك ما هو نازل من السماء كالأحاديث القدسية،و لكنها ليست بقرآن،فلا خصوصية للتعبد بتلاوتها.و إن أخذنا بمضامينها حرفيا،و لكنها لم تنزل بألفاظها المخصوصة لها كما هو شأن القرآن.
و الحديث النبوي نتعبد به أمرا و نهيا،و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يرسل الحديث و يقوله،و يتبع ذلك أهله و أصحابه،ثم يتلو القرآن و يقرؤه،فما اتفق يوما أن تشاكل النصان،أو تشابه القولان،و لو كان معنى القرآن ينقل إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وحيا،أو وحيه ينقل إليه معنى،و النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يصوغه بلفظه،و يعبر عنه بكلامه،لاشتبه القرآن بالحديث،و الحديث بالقرآن،من وجهة نظر بلاغية على الأقل،بينما العكس هو الصحيح،فالخصائص الأسلوبية في القرآن تدل عليه،و خصائص الحديث تدل عليه،فكل له أسلوبه المتميز، و منهجه الخاص حتى عرف ذلك القاضي و الداني،ممن آمن بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و القرآن و ممن جحدهما،فالقرآن كلام اللّه،و محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ينقله كما سمعه، بلفظه الدال على معناه،و بمعناه الذي نطق به لفظه،لا شيء من محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلا النقل الأمين،و الحديث كلام محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يتفوه به فيشرع و يحكم،لأنه المصدر الثاني بعد القرآن للشريعة الإسلامية،قال تعالى: وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا... (3).7.
ص: 29
و ثمت دليل قرآني آخر في توجيه الخطاب إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعبارة«قل» في القرآن الكريم،و تكرارها فيه أكثر من ثلاثمائة مرة،تصريح و أي تصريح بأن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«لا دخل له في الوحي،فلا يصوغه بلفظه،و لا يلقيه بكلامه،و إنما يلقي إليه الخطاب إلقاء،فهو مخاطب لا متكلم،حاك لما يسمعه،لا معبر عن شيء يجول في نفسه» (1).
لهذا كان إذا نزلت عليه آية أو سورة،بل و جزء من آية،يدعو كتبته لتدوينها على الفور نصا.
و لقد بهت العرب أمام ظاهرة الوحي القرآني،و هم أرباب الفصاحة و البلاغة،و أئمة البيان و الفن القولي،و تذرعوا للتشكيك فيها بمختلف الوسائل،فأثاروا الشبهات،و تعقلوا بالأوهام،فوصفوا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالضلال، و القرآن من ورائهم يناديهم بقوله: وَ النَّجْمِ إِذا هَوى(1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَ ما غَوى(2) وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى(3) إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى(4) (2).
و تدعوا مرة أخرى إلى افتراضات متناقضة،فقالوا:أضغاث أحلام، و قد أيقنوا بصحوة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و يقظته،و ردّوه إلى الكذب و الاختلاق،و هم أنفسهم وصفوه من ذي قبل بالصادق الأمين،و نسبوا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى الشعر، و قد علموا بأن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أبعد ما يكون عن مزاج الشاعر و أخيلته،و ما ترك في هذا المجال أثرا يركن إليه بهذه السمة،و قد عبر القرآن عن ذلك:
بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ...-5 (3) .
و ما استقامت لهم الدعوى في شيء،و وصموه بالجنون:
وَ قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (4) .6.
ص: 30
ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَ قالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ14 (1) .
و قد دلت الأحداث الاستقرائية،و السيرة الذاتية للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على رجاحة عقله،و اتزانه في تصرفاته،و تأكد لهم افتراؤهم بما شاهدوه من مجريات الأمور،و قد لبثت النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بين ظهرانيهم حقبا طويلة قبل البعثة،فما مسكوا زلة،و لا أدركوا غفلة،و قد أشار القرآن الكريم إلى هذه النكتة الدقيقة بقوله:
فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (2) .
و ترددوا بقول الكهانة من بعد الجنون،فردّ افتراءهم القرآن بما أمره به: فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَ لا مَجْنُونٍ-29 (3).
فما كان محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلا بشيرا و نذيرا،و ما كان الوحي إلا ذكرا للعالمين،فأين هو من الكهانة وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ-42 (4).
و حينما أعيتهم الحيلة،و وقف بهم المنطق السليم،انطلقوا إلى القول: إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (5)شأنهم في هذا شأن من تقدمهم من الأمم مع أنبيائهم و رسائلهم،حذو القذة بالقذة،في الادعاءات،قال تعالى:
كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ-52 (6) و قد علموا جديا،أن محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في أصالته العقلية،أبعد ما يكون عن السحر و الشعبذة و التمويه من قبل و من بعد.
و تمسكوا بأوهن من بيت العنكبوت،فأشاعوا بكل غباء أن لمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم معلما من البشر،و هو غلام رومي يمتهن صناعة السيوف بمكة، فألقمهم القرآن حجرا بردهم ردا فطريا:.-
ص: 31
لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (1) .
و أغلقت السبل كافة في الوجوه و الألسن و الأقاويل،فرجموا بالغيب،و تشبثوا بالطحلب،و حسبوا وجدان الضّالة:فقالوا بما حكى اللّه عنهم إِنْ هذا إِلاّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (2).
و تمادى بهم القول،ففصلوا بعد الإجمال،و أبانوا بعد الإبهام:
وَ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً-5 (3) .
و هكذا تبدو الحيرة مترددة بين عدة ادعاءات و افتراءات،هم أنفسهم يعلمون بمجانبتها للواقع المشهود،إذ لم يؤيدها نص استقرائي واحد في حياة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
و يبقى الوحي وحيا رغم كل هذا الأراجيف: وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها...7 (4).
و يبقى القرآن قرآنا مقترنا بظاهرة الوحي الإلهي.7.
ص: 32
ص: 33
ص: 34
نزل القرآن بأرقى صور الوحي،و تأريخ نزوله يمثل تأريخ القرآن في حياة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و هو تأريخ يستغرق ثلاثة و عشرين عاما (1).
هذه الحقبة الذهبية هي تأريخ الرسالة المحمدية في عصر صاحب الرسالة،و العناية بها منبثقة عن عناية الوحي بصاحبها،و بتواجده معه، يحمله العبء حينا،و يلقي له بالمسئولية حينا آخر،و يتناول عليه بآيات اللّه بين هذا و ذاك.
و كان نزول القرآن مدرجا،و تفريقه منجما،مما أجمعت عليه الأمة، و صحت به الآثار الاستقرائية،استجابة للضرورة الملحة،و اقتضاء للحكمة الفذة في تعاقب التعليمات الإلهية،يسرا و مرونة و استيعابا.
و الذي يهمنا في هذه المرحلة،عطاؤها الإنساني في ضبط النص القرآني،و دقة أصوله و وصوله من ينابيعه الأولى،و هو موضوع البحث.
يكاد أن يتوافر لنا اقتناع نطمئن إليه بأن أوائل سورة العلق:هو أول ما نزل من القرآن.
و منشأ هذا الاقتناع تأريخي و عقلي،أما التأريخي فمصدره إجماعا.
ص: 35
المفسرين تقريبا،و رواة الأثر،و أساطين علوم القرآن (1).
و أما العقلي،فالقرآن أنزل على أمي لا عهد له بالقراءة،ليبلغه إلى أميّين لا عهد لهم بالتعلم،فكان أول طوق يجب أن يكسر،و أول حاجز يجب أن يتجاوز.هو الجمود الفكري،و التقوقع على الأوهام،و ما سبيل ذلك إلا الافتتاح بما يتناسب مع هذه الثورة،و قد كان ذلك بداية للرسالة بهذه الآيات بسم الله الرحمن الرحيم اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ-1 خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ-2 اِقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ-3 اَلَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ-4 عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ-5 (2).
إنها الدعوة الفطرية إلى العلم و الإيمان بوقت واحد،و البداية الطبيعة لملهم هذا العلم،و رائد وسيلة التعلم،فهو إرهاص بإيمان سيشع،و إشعار بإفاضات ستنشر،مصدرها الخالق،و أداتها القلم،لارتياد المجهول، و اكتشاف المكنون،و القرآن كتاب هداية و علم.
فلا ضير أن تكون أوائل العلق أول ما نزل،و سياقها القرآني لا يمنع من نزولها دفعة واحدة،لا سيما إذا وجدنا نصا في أثر،أو رواية من ثقة.
و أما ما حكاه ابن النقيب في مقدمة تفسيره،و أخرجه الواحدي عن عكرمة و الحسن،و الضحاك عن ابن عباس:من أن أول ما نزل من القرآن (بسم اللّه الرحمن الرحيم) (3)فلا ريب فيه،و لا غبار عليه:«فإنه من ضرورة نزول السورة نزول البسملة معها،فهي أول آية نزلت على الإطلاق» (4).
و بدأت مسيرة الوحي تلقي بثقلها على عاتق الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و فتح محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للنداء السماوي، إِنّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً-5 (5)ذراعا و قلبا و تأريخا.و هذا القول ثقيل بمبناه و معناه،فهبوطه من سماء العزة،و ساحة الكبرياء و العظمة يوحي بثقله في الميزان،و تسييره للحياة العامة بشئونها5.
ص: 36
المتعددة يوحي بكونه عبئا ثقيلا في التشريع و التنفيذ و إدارة الكون و العالم.
إن تلقي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لهذا القول يعنى النهوض بما تتطلبه الرسالة من جهد و عناء و صبر،و نهوضه بذلك يعني تحمله لهذا الثقل في الإلقاء و الإنزال و التبليغ و الإعداد.
و نزل القرآن منجما:الآية و الآيتين و الثلاث و الأربع،و ورد نزول الآيات خمسا و عشرا و أكثر من ذلك و أقل،كما صح نزول سور كاملة (1).
و نزل القرآن في شهر رمضان المبارك: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ-185 (2)و في ليلة مباركة فيه إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ (3)و حملت الليلة المباركة على ليلة القدر: إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ-1 (4)هكذا صرح القرآن.
و اختلف في هذا الإنزال كلا أو جزءا،جملة أو نجوما،دفعة أو دفعات،إلى السماء الدنيا تارة،و على قلب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تارة أخرى (5).
و أوردنا الطبرسي جملة الأقوال في ذلك:
أ-إن اللّه أنزل جميع القرآن في ليلة القدر إلى السماء الدنيا،ثم أنزل على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد ذلك نجوما.و هو رأي ابن عباس.
ب-إنه ابتدأ إنزاله في ليلة القدر،ثم نزل بعد ذلك منجما في أوقات مختلفة،«و به قال الشعبي» (6).1.
ص: 37
ج-إنه كان ينزل إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ما يحتاج إليه في تلك السنة جملة واحدة،ثم ينزل على مواقع النجوم إرسالا في الشهور و الأيام.و هو رأي ابن عباس (1).
إلا أن ظاهر الآيات:أنزل القرآن جملة،و يؤيده التعبير بالإنزال الظاهر في اعتبار الدفعة،دون التنزيل الظاهر في التدرج،فمدلول الآيات أن للقرآن نزولا جمليا على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم غير نزوله التدريجي الذي تمّ في ثلاث و عشرين سنة (2).
لقد أكد هذا المعنى من ذي قبل ابن عباس بقوله:«إنه أنزل في رمضان،و في ليلة القدر،و في ليلة مباركة،جملة واحدة،ثم أنزل بعد ذلك على مواقع النجوم رسلا في الشهور و الأيام» (3).
و مهما يكن من أمر،فلا ريب بنزوله مفرقا أو منجما،ليثبت إعجازه في كل اللحظات،و لينضح بتعليماته بشتى الظروف،في حين يعترض فيه الكفرة على هذا النزول: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً-32 (4).
و لكن الرد كان حاسما،لأن الوحي إذا تجدد في كل حادثة،كان أقوى للعزم،و أثبت للفؤاد،و أدعى للحفظ و الاستظهار،و أشد عناية بالمرسل إليه فلا يغيب عنه إلا و يهبط عليه،و لا يودعه حتى يستقبله، و ذلك يستلزم كثرة نزول الملك عليه و تجديد العهد به،و بما معه من الرسالة،و هو مضافا إلى العطاء الروحي،ذو عطاء نفسي تهذيبي بالنسبة للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم«و لهذا كان أجود ما يكون في رمضان لكثرة نزول جبريل عليه السّلام عليه فيه» (5).8.
ص: 38
و ناهيك في أسرار تعدد النزول حكمة و يقينا و استمرارا لجدة القرآن، و حضوره في زخمة الأحداث،و تجدد الوقائع،و طبيعة الرسالة المتدرجة في تعاليمها من الأسهل إلى السهل،و من السهل إلى الصعب،و من الكليات العامة إلى التفصيلات الجزئية.
و الوحي ينظر إلى الناس باعتبارهم الهدف الرئيسي من تنزيل القرآن، قصد هدايتهم،و رجاء إثابتهم إلى الحق،فاهتم بهذا العنصر في سبب النزول مفرقا،و صرح بذلك سبحانه و تعالى:
وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً-106 (1) .
1-و قد أفاض القدامى من العلماء و المفسرين في أسرار التنجيم في النزول،استفادوا قسما منها من القرآن،و اجتهدوا في القسم الآخر،فمن الأول تيسير حفظ القرآن،و تثبيت فؤاد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و معرفة الناسخ من المنسوخ،و الإجابة عن أسئلة السائلين (2).
و من الثاني كون القرآن أنزل و هو غير مكتوب على نبي أمي،كما حكي ذلك عن أبي بكر بن فورك(ت:406 ه) (3).
و قد لاحظ باحث معاصر أن القدامى قد أدركوا حكمتين في ذلك هما:تجاوب الوحي مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و تجاوبه مع المؤمنين (4).
2-و إذا كان ما فهمه القدامى-كما يدعى-يقف عند هذا الحد، فلا ينبغي عند الباحثين المحدثين أن يقف عند حدود معينة،و عليهم الإمعان و الإيغال في الاستنتاج.و إن كان كل ما تقدم هو الصحيح،و لكن لا مانع أن يضاف إليه بأن القرآن الكريم-كما يبدو من منهجيته الاستقرائية -يريد كتابة التأريخ الإنساني،بكل ما في هذا التأريخ من مفارقات و أحداث و نوازع و تطورات،و التأريخ إنما يكتب في جزئياته،و من ضم.-
ص: 39
هذه الجزئيات بعضها لبعض يتكون التأريخ بمظاهره الماضية و تطلعاته الحالية،لإنارة المستقبل و إضاءة درب السالكين،و التأريخ لا يتألف جملة واحدة،و إنما ينجم موضوعات و صورا و مشاهد،و من مجموعها يتشكل الأثر البارز لسمة من السمات،و القرآن إنما يعني بتأريخ الأمم و الإيمان،و الشعوب و الهداية،فهما رمزان متلازمان،تنحصر عليه ذكر أحدهما بالآخر،حصرا عضويا ترى فيه الكون و قضية التوحيد يشكلان خطوطا رئيسية تنبثق منها حيثيات فرعية في النبوة و الرسالة و عوالم الحياة.
3-و الرسالة المحمدية إحدى سنن الكون البنائية،و كما تقتضي سنن الكون التدرج،فهي تقتضي التدرج كما اقتضتها ابتداء بخلق السماوات و الأرض و الأفلاك و ما فيهن و ما بينهن،و انتهاء بخلق الإنسان و حياته و أطواره و نشوئه و مماته و تلاشيه و إعادته حيا،و إثابته أو عقابه.
و السنن الطبيعية في الحياة تلتقي بالسنن الروحية في القرآن، فمصدرهما واحد،و هو تلك القوة الخلاقة المبدعة المدبرة،و هي كما تستطيع أن تحكم الأمر فجأة كلمح البصر وَ ما أَمْرُنا إِلاّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ-50 (1)فهي كذلك تستمهل و تتدرج وفقا لمصالح الكون،و تنظيما لشئون الحياة،و كان التدرج في نزول القرآن من هذا الباب.
4-و ما التدرج في نزول القرآن،إلا دليل من أدلة إعجازه البيانية، فما نزل منه لم يكن بادئ الأمر إلا سورا قصيرة و آيات متناثرة تناثر النجوم،و هو بهذا القدر الضئيل ينادي بالتحدي،فدل على إعجازه في ذاته مع محاولة تقليده و مضاهاته،سواء أ كان جزءا أم كلا.فقليله معجز، و كثيرة معجز،و لقد وقع هذا التحدي في مكة على هذا القليل فما نالوه، و وقع في المدينة و هو متكامل بنفس المنظور،و بناء على هذا التأسيس فقد كان التدرج في النزول مصاحبا لعملية الإعجاز،و دليلا من أدلتها الناطقة، و هو بعد مشعل هداية في السعي و العمل و المثابرة.0.
ص: 40
5-و هناك ملحظ جدير بالأهمية في هذا النزول التدريجي،هو إحكام الأمر،و إبرام العقد،و هذا الإحكام و ذلك الإبرام يتمثل بعملية صياغة النفوس في إطار جديد،فهي على قرب عهد من الجاهلية بأعرافها و مفاهيمها و أخطائها،و النقلة الفورية ليست خطوة عملية في التغيير الاجتماعي الذي أرادته رسالة القرآن،فمن عزم الأمور-إذن-أن تستجيب النفوس لهذا التغيير الجذري،و لكن لا على أساس المفاجأة الخطرة،التي قد تولد ردة فعل مضادة،تطوح بكل شيء،بل تقليص القيم القديمة شيئا فشيئا،و تضييعها جزءا فجزءا،لتتلاشى في نهاية المطاف،و تختفي عن صرح الاجتماع.و خير دليل على ذلك مسألة تحريم الخمرة،إذ ارتبطت بالعرب أدبيا و اجتماعيا و نفسيا و اقتصاديا،و هي جوانب متعددة،أباحت هذا الإدمان المستحكم عند العرب،فلو حرمت دفعة واحدة،لكفر بهذا التحريم،و لضاعت فرصة التغيير الاجتماعي،و لكن الوحي تلبث و ترصّد و تأنى،فجاء بالأمر في خطوات متعاقبة شملت بيان المنافع و المضار و المآثم،و تدرجت إلى النهي عن اقتراب الصلاة و أنتم سكارى،و انتهت إلى التحريم: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ... (1).
6-و لنقف بهذا الجانب الحساس و المؤثر على صلب الموضوع من بدايته،قبل النظر في التطبيق.
كانت الجزيرة العربية بعامة،و مكة المكرمة بخاصة،تتجاذبهما عقائد شتى،فالصابئة لها طقوسها المختلطة من ابتداعات و شعائر ترتبط بالكواكب و تأثيرها على الأحداث الأرضية (2).و ما امتزج عن عاداتهم في مذاهب قريش في الوثنية و عبادة الملائكة،و مراسم الحج.
و المسيحية،و ما صاحب مبادئها من تحريف مزدوج،و تغيير مفاجئ،فبدل التسامح الديني الذي اشتهرت به تعاليم السيد المسيح،ا.
ص: 41
و الزهد في الحياة بكل مظاهرها،استخدم المسيحيون في إرساء شهواتهم كل وسائل العبث و الترف و القسوة،فمن عزلة مصطنعة إلى تزمت مفتعل، و من تثليث لا يستقيم إلى وثنية مستهجنة،و من تمسك باللاهوت إلى ابتزاز للحرية،كل ذلك يتراصف نماؤه بين أوهام موروثة،و خرافات مستجدة.
و اليهودية،بما كان يكتنفها من غموض في ستر العلم و تحريف للكلم عن مواضعه،و استيعاب لاستحصال المال،و جمع الثروة عن طريق الخيانة و الربا و الاحتكار.
و الحنفية،و هي أسلّم الأديان آنذاك عن الدّس و التحريف الكبيرين، فقد أدخل عليها مع ذلك تزييف في بعض الوقائع،و مغالطة في طقوس الحج و متابعة الوثنية،و ارتباط قسم من العرب بها على أساس من التعصب للأخطاء الموروثة في تأليه الملائكة و تأنيثها،و عبادة الأصنام و تقديسها، و رؤية الشمس و القمر و الكواكب بمنظار الأرباب.
و الجاهلية،و أرجاسها في الوأد،و البغاء،و الربا،و الزنا،و قتل الأولاد خشية الفقر،و أكل التراث و حب المال،و وراثة النساء كرها بما صرح به القرآن في آيات عديدة،و مواضع كثيرة من سوره (1).
ألا يتناسب مع هذا الخليط العجيب من الديانات المحرفة،و تعدد الآلهة،أن يبدأ الوحي بنداء التوحيد لأول مرة،و قد كان ذلك كذلك، فاستنقذ الناس من عبودية الفكر،و استرقاق النفوس،و اتجه بها إلى عبادة اللّه الواحد القهار،و هي عبادة تجمع إلى راحة الضمير،صدق العبودية دون إذلال،و صحة الاعتقاد دون انحراف،ابتعادا عن الخرافات و الأساطير و المتاهات.
و كان من الجدير بعد هذه الاستجابة،أن يتم تشريع الصلاة،لأنها تتضمن التوحيد و العبادة بوقت واحد.
و حينما اتجهت القلوب للّه بدأ تطهير النفوس بالخلق و الأدب و الصفاء0.
ص: 42
الروحي و الإيثار،و كان كذلك منطلق الوحي بتعليماته،الواحدة تلو الأخرى.
7-و اشتد الأذى بالمسلمين،فكانت قصص الغابرين إيذانا بحرب نفسية،فما هم عنها ببعيد: وَ أَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى(50) وَ ثَمُودَ فَما أَبْقى(51) (1).
و كانت أحاديث الأنبياء مع أممهم،و استقراء أحوالهم في العذاب، نذيرا بما قد يصيب العرب نتيجة التكذيب،و الأمور تقاس بأضرابها:
كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ(18) إِنّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ(19) تَنْزِعُ النّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ(20) (2) .
و هكذا الحال في كل من قوله تعالى:
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ-23 .
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ-33 .
وَ لَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ-41 (3) .
و هي مؤشرات إنذارية في آيات من سورة واحدة،فكيف بك في السور المكية كافة.
و قد ذكرت قريش بعذاب الاستئصال في الفترة المكية،و كان ذلك مجالا رحبا من مجالات الوحي في هذه الحقبة العصيبة،فثاب من ثاب إلى رشد،و تجبر من تجبر في ضلال،و أمثلة عديدة متوافرة،و من نماذجه قوله تعالى أَ وَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَ فَلا يَسْمَعُونَ-26 (4).
و هكذا الإشارة إلى مجموعة الأمم المكذبة،و قد مزقوا كل ممزق، كما في قوله تعالى: ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَ جَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ-44 (5).4.
ص: 43
و ما قصة نوح عليه السّلام مع قومه،و موسى عليه السّلام مع آل فرعون،و صالح عليه السّلام و شعيب عليه السّلام و هود عليه السّلام إلا مؤشرات فيما سبق.
8-و قد تناسق بشكل متقن عجيب استقراء اليوم الآخر،و التذكير بأهواله و مظاهره،و التحذير من عذابه و كوارثه،و التصريح بفناء الأعراض و ذهابها،و تلاشي العوالم و نهايتها،و صفة الجنة و النار،و حال المؤمنين و الكافرين،و قد مثل ذلك بسور فضلا عن الآيات،و بمجموعة مكية منها زيادة عن المتفرقات،و ما سورة الرحمن و الواقعة،و الحاقة،و المعارج، و المدثر،و القيامة،و المرسلات،و النبأ،و النازعات،و التكوير، و الانفطار،و المطففين،و الانشقاق،و الطارق،و الغاشية،و البلد، و القارعة،و التكاثر،و غير ذلك إلا معالم في هذا الطريق مضافا إلى مئات الآيات الأخرى المتناثرة نجوما في معظم السور المكية.
9-و زيادة على التشريع المناسب في المدينة المنورة،و إقرار الأحكام،و توالي الفروض،و الدعوة إلى الجهاد،و تصنيف معالم القتال،و تحديد سهام الحقوق،فقد عانت المدينة من ظاهرة النفاق، متسترة بالدين تارة،و متأطرة بسبيل أهل الكتاب تارة أخرى،فقد تعدد مكرهم بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و عظم وقعهم على المسلمين،فكانوا رأس كل فتنة، و أصل كل سوأة،فالدسائس تحاك،و الأراجيف تروج،و الأباطيل تلوكها الألسن،فما كان من القرآن إلا أن تعقبهم بالتي هي أحسن تارة،و بالإنذار تارة أخرى،و بالتقريع و التوبيخ غيرهما،فكان الوعيد على أشده،و الإغراء بهم على وشك الوقوع،و قد عالج القرآن مشكلتهم،و سلط الأضواء على تحركاتهم،و تربصهم الدوائر بالإسلام، و صور حالتهم النفسية و الخلقية و الجماعية و الفردية،و أبان واقعهم الدنيوي و مآلهم الأخروي،و قد جاء ذلك متراصفا في سور عديدة،لمعالجة كل حالة بإزائها،فكانت سورة البقرة،و آل عمران،و النساء،و المائدة، و الأنفال،و التوبة،و العنكبوت،و الأحزاب،و الفتح،و الحديد، و الحشر،و المنافقون،و التحريم،ميادين فارهة في تعقيب ظاهرة النفاق، و حقيقة المنافقين،فكان ذلك سمة لهم لا تبلى.
و لا نريد أن نطيل أكثر فأكثر في هذا الجانب و سواه فهو بديهي
ص: 44
لاستكمال الرسالة و ضرورة تطبيقها،و مواكبة الوحي لهذه الأحداث و الأزمات و المؤشرات دليل على أصالة هذا المنهج المتناسب تأريخيا و زمنيا مع مرحلية الظروف.
10-و هناك العلاقة الثّنائية بين الوحي و النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هناك التجاوب المطلق بينهما،و كان تحقق ذلك في التدرج بالنزول،و كانت الأزمات و هي تحاول أن تعصف بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تضرب فجأة بإرادة الوحي الإلهي،فهو إلى جنبه،يشد عزمه،و يقوي أسره،و يسلّيه تارة،و يعزيه تارة أخرى،و يصبره و يؤسيه،فيما يقتص له من الأنباء،و ما يورده من الصبر،و ما يحدده من الأحكام،مفرقا بين الحق الثابت الرصين،و الباطل المتزعزع الواهن،و في ذلك تثبيت له على المثل،و تحريض له على المثابرة،و إعلام له بالنصر، لأنها سنة اللّه مع رسله و أنبيائه.
و هناك أسئلة تتطلب الإجابة المحدودة.و حوادث تستدعي القول الفصل،و لا يضمن هذا إلا الوحي فيما ينزل به،فقد سألوه عن الخمر و الميسر،و سألوه عن المحيض،و سألوه عن القتال في الأشهر الحرم، و سألوه عن الأهلة،و سألوه عن الساعة،و سألوه عن الروح،و سألوه عن الأنفال،و سألوه عن الجبال،و سألوه عن ذي القرنين..و هكذا،فتصدر الوحي للإجابة الفاصلة...
و استفتوه في النساء،و استفتوه في الكلالة،فأقناهم الوحي عن اللّه.
و وقع الظهار،و الإيلاء،و حادثة الإفك،و غنموا في الحرب،و حصل الزنا،و نزلت السرقة،و بدأ القتل العمد و القتل الخطأ،و هي حوادث متعددة،في أزمنة متعددة،و قد نزلت أحكامها المتعددة،و هكذا.
إن الإحصاء الدقيق لهذه الجزئيات قد لا ينتهي إلا بصفحات كبيرة لا يتسع لها هذا البحث،و فيما أشرنا له غنية في التمثيل التطبيقي.
11-و هناك ملحظ جدير بالأهمية في الوحي التدريجي،يعود إلى التنزيل نفسه،ليحكم فيه على ناحيتين:
الأولى:أنه ليس من كلام البشر،و إنما هو من كلام اللّه وحده، و ذلك أن هذه المراحل المتعددة التي مرّ فيها،لم يحصل فيه تفاوت في
ص: 45
الأسلوب البياني،فهو في الأول نفسه في الوسط و الآخر،و مع كثرة الأحداث و تعدد المسئوليات في بيان الأحكام،و تدارك النوازل، و استيعاب المشكلات،لم يبد فيه-و لو مرة واحدة-أي اختلاف و تناقض،و لو كان من كلام البشر،لحصل فيه التفاوت و التناقض معا، و صدق اللّه تعالى حيث يقول: وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (1).
الثانية:أن قليل هذا التنزيل و كثيرة،هو الدليل المتعاقب-مرة بعد مرة-على نبوة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأن مراعاة المناسبة،و العقل في الأمر الجلل، و التحدث عن الغيب المطلق،كل ذلك بتحديد قاطع،و حجة لا تقبل جدلا،لا يمكن أن يكون إلا من قبل اللّه تعالى،لأن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أمي يفقد أدنى ما يمكن أن يتمتع به غيره من الناس الاعتياديين في القراءة و الكتابة، فكيف إذن بمسائل التشريع،و أخبار الغيب،و قضايا الساعة،و مختلف الأحكام،و لم يسبق له أن مارس قبل بعثته أي نوع من أنواع الثقافة و المعرفة،التي تتناسب مع هذا العطاء المتواصل من الوحي،و في هذه القضية الخارجة عن مقدرة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تأكيد لقوله تعالى: وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ(44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ(45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ(46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ(47) (2).
و كان نتيجة هذا التدرج في النزول أن استوعب نزول القرآن الكريم حياة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الرسالة،و كانت رسالته قد اتخذت مرحلتين:مرحلة الفترة المكية قبل الهجرة،و مرحلة الفترة المدنية بعد الهجرة؛و في هذا الضوء اقتضى أن ينقسم القرآن الكريم إلى مرحلتين تبعا لمرحلتي الرسالة، لاستمراره بالنزول فيهما،و هما المرحلة المكية،و المرحلة المدنية،و هو تقسيم روعي فيه النظر إلى الزمان و المكان،و للباحثين فيه ثلاثة اصطلاحات:7.
ص: 46
1-أن المكي ما نزل بمكة،و المدني ما نزل بالمدينة.
2-أن المكي ما نزل قبل الهجرة،و المدني ما نزل بعد الهجرة.
3-أن المكي ما وقع خطابا لأهل مكة،و المدني ما وقع خطابا لأهل المدينة (1).
و لكل من هذه الاصطلاحات مبررها التأريخي،فالقول الأول ينظر إلى مكان النزول دون الالتفات إلى حدث الهجرة،فالمكي ما نزل في مكة و إن كان بعد الهجرة،و المدني ما نزل بالمدينة لا خارج حدودها،فالمكان جزء من التأريخ في عملية التحديد.
و القول الثاني،و هو المشهور،ينظر إلى الزمان من خلال حدث الهجرة،و الزمان جزء من التاريخ،و إن لم يكن التأريخ بعينه،فما نزل قبل الهجرة فمكي،و ما نزل بعد الهجرة فمدني.
و القول الثالث،ينظر إلى الأشخاص،فما وقع خطابا لأهل مكة فهو مكي بحكم من نزل بين ظهرانيهم،و ما وقع خطابا لأهل المدينة فهو مدني بلمح من نزل فيهم،و الأشخاص عنصر التأريخ و مادته الأولى.
إلا أن المشهور بين العلماء و المفسرين،و هو الرأي الثاني لاعتبار الهجرة هي الحدث الفصل في تأريخ الرسالة الإسلامية،فالمكي ما نزل قبلها،و إن خوطب به أهل المدينة،و إن نزل حواليها كالمنزل بمنى و عرفات و الجحفة مثلا،أو خارجها كالمنزل في الطائف أو بيت المقدس، بل و إن كان حكمه مدنيا.
و المدني ما نزل بعد الهجرة،و إن خوطب به أهل مكة،و إن نزل حواليها كالمنزل ببدر و أحد و سلع مثلا،أو خارجها كالمنزل في الحديبية أو في مكة في حجة الوداع،بل و إن كان حكمه مكيا.
و الحق أن علمائنا القدامى قد عنوا في هذا الجانب عناية فائقة، تتناسب مع جلال القرآن و عظمته،و اعتبروا علم نزول القرآن زمانيا و مكانيا1.
ص: 47
من أشرف علوم القرآن،حتى ذهبوا إلى أن من لم يعرف مواطن النزول و أماكنه و أزمنته،و يميز بينها لم يحل له أن يتكلم في كتاب اللّه.
قال أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب النيسابوري(ت:406 ه):
«من أشرف علوم القرآن علم نزوله و جهاته و ترتيب ما نزل بمكة ابتداء و وسطا و انتهاء،و ترتيب ما نزل بالمدينة كذلك،ثم ما نزل بمكة و حكمه مدني،و ما نزل بالمدينة و حكمه مكي،و ما نزل بمكة من أهل المدينة،و ما نزل بالمدينة من أهل مكة،ثم ما يشبه نزول المكي في المدني،و ما يشبه نزول المدني في المكي،ما ثم ما نزل بالجحفة،و ما نزل ببيت المقدس، و ما نزل بالطائف،و ما نزل بالحديبية،ثم ما نزل ليلا،و ما نزل نهارا،و ما نزل مشيعا،و ما نزل مفردا،ثم الآيات المدنيات في السور المكية، و الآيات المكية في السور المدنية،ثم ما حمل من مكة إلى المدينة،و ما حمل من المدينة إلى مكة،و ما حمل من المدينة إلى أرض الحبشة،ثم ما نزل مفسرا،و ما نزل مرموزا،ثم ما اختلفوا فيه[فقال بعضهم:مكي]و قال بعضهم:مدني.هذه خمسة و عشرون وجها،من لم يعرفها و يميز بينها لم يحل له أن يتكلم في كتاب اللّه» (1).
و الحق أن ابن حبيب النيسابوري قد نبه إلى جزئيات و حيثيات مهمة، مضافا إلى تقسيمه المكي،و مثله المدني،إلى مراحل:أولية،و وسطية، و نهائية،و هي تقديرات تعنى بالتأريخ الدقيق لنزول سور القرآن و آياته، و كأنه بهذا قد فتح الطريق أمام المستشرقين للخوض في هذه التفصيلات في محاولة لترتيب القرآن زمنيا،و وصف كل ما يتعلق بمراحل نزول الوحي القرآني،و قد علقوا على ذلك أهمية كبرى،و كان المستشرق الألماني الاستاذ تيوردنولدكه(1836 م-1930 م)من أبرز المقتنعين في هذا المنهج و ضرورة استقصائه،و قد أخضع في ضوئه الحوادث الهامشية في الحروب و المغازي و المراسلات و الوقائع لاستنتاجاته العلمية..-
ص: 48
و قد سلك في كشف تأريخ السور مسلكا قويما يهدي إلى الحق أحيانا،فإنه جعل الحروب و الغزوات الحادثة في زمن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و علم تأريخها كحرب بدر و الخندق و صلح الحديبية و أشباهها من المدارك لفهم تأريخ ما نزل من القرآن،و جعل اختلاف لهجة القرآن و أسلوبه الخطائي، دليلا آخر لتأريخ آياته،و هو يرتاب في بحثه التّحليلي في الروايات و الأحاديث و أقوال المفسرين في تأريخ القرآن،و في عين الحال يأخذ من مجموعها ما يضيء فكره،و يرشده إلى تأريخ السور و الآيات و نظمها أحيانا (1).
و قد ظهرت في أوروبا في منتصف القرن التاسع عشر محاولات لترتيب سور القرآن،و دراسة مراحله التأريخية،منها محاولة وليم موير الذي قسم المراحل القرآنية إلى ست،خمس منها في مكة و سادستها في المدينة.و منها محاولة ويل التي بدأها سنة 1844 م،و لم تتخذ صورتها النهائية إلا سنة 1872،و قسم في ضوئها المراحل القرآنية إلى أربع:ثلاث في مكة و رابعة في المدينة،فتابعه على ذلك نولدكه و شفالي،و تأثر بذلك كل من،بل و بلاشير (2).
إلا أن هؤلاء جميعا قد رفضوا الأثر و الروايات في تأريخ النزول مما خالفوا به مصدرا رئيسيا من مصادر التعيين في ترتيب النزول،و ذلك عن طريق الجمع بين الروايات و غربلتها،و الأخذ بأوثقها.
و قد أورد ابن حجر عن الإمام علي عليه السلام:أنه جمع القرآن على ترتيب النزول عقب موت النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و خرجه ابن أبي داود (3).
و أيد وجود ذلك صاحب الميزان و تحدث عن خصوصياته (4).
و قد أثبت في«كتاب المباني لنظم المعاني»جدول لهذا الترتيب الزمني (5).4.
ص: 49
إلا أنه يختلف عن ترتيبه فيما ورد بأصل النسخة المطبوعة في ليبسك (1871-1872 م)و لما أثبته الزنجاني في تقسيمه لجمع الإمام علي عليه السّلام للمصحف في سبعة أجزاء (1).
و إذا صحت هذه الرواية،فقد فاتنا تأريخ دقيق عن النزول يستند إلى أعظم راوية قد شاهد عصر التنزيل و صاحب مسيرته،و بذلك يكون الإمام علي عليه السّلام أول من حقق في تثبيت نزول القرآن تأريخيا.
و ليس أمامنا طريق إلى تعيين تأريخ النزول إلا من جهتين:
الأولى:الرواية الصحيحة الثابتة المرفوعة إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو أهل البيت عليهم السّلام أو الصحابة(رض)الذين شاهدوا قرائن الأحوال،و تتبعوا مسيرة الوحي من بدايته إلى نهايته،و قد كان جزء من ذلك متوافرا فيما نلمسه من روايات و آثار في كتب التفسير و علوم القرآن،من نصوص يوردها الإثبات و يتناقلها الثقات،و إن كان بعضها لا يخلو من تضارب،أما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقد ادعي أنه:«لم يؤمر به،و لم يجعل اللّه علم ذلك من فرائض الأمة» (2).
الثانية:الاستنباط الاجتهادي القائم على أساس أعمال الفكر، و دراسة الأحداث،و معرفة أسباب النزول،و المقارنة بين الآيات نفسها، و اعتبار القرائن الحالية و المقالية،و السياق و النظم،و وحدة السّورة الموضوعية،و ما ماثل ذلك أدلة تقريبية على ذلك،لا سيما فيما لا نص عليه،فتتعين معرفته عن طريق الأدلة و البراهين و المرجحات فيؤخذ بأقواها حجة،و أبرمها دليلا،و هذا ما نشاهده في شأن الآيات و السور المختلف بنزولها الزماني أو المكاني.
و قد استأنس العلماء و المحققون بعلائم و أمارات و خصائص،تتميز بها كل من السور المكية و المدنية،ففرقوا بينها على أساس هذا الفهم، و النظر في ذلك كضوابط قابلة للانطباق في أكثر تجاربها،إلا أنها ليست حتمية،و لكنها أمارات غالبة،لتوافر استثناءات في بعضها.
فمن ضوابط معرفة السور المكية أوردوا ما يلي:1.
ص: 50
1-كل سورة فيها لفظ(كلا)فهي مكية.
2-كل سورة فيها«يا أيها الناس»فهي مكية،و القاعدة ليست عامة، فهناك عدة سورة مدنية فيها«يا أيها الناس».
3-كل سورة فيها سجدة فهي مكية.
4-كل سورة فيها قصص الأنبياء و الأمم الخالية فهي مكية سوى البقرة.
5-كل سورة فيها قصة آدم و إبليس فهي مكية سوى البقرة.
6-كل سورة فيها حروف التهجي فهي مكية،إلا البقرة و آل عمران، و في الرعد خلاف (1).
و من ضوابط السور المدنية أوردوا ما يلي:
1-كل سورة فيها«يا أيها الذين آمنوا»فهي مدنية،و هناك استثناء لسورة الحج.
2-كل سورة فيها تفاصيل الفرائض و السنن و الحدود و الأحكام و القوانين فهي مدنية.
3-كل سورة فيها ذكر المنافقين فهي مدنية،سوى العنكبوت.
4-كل سورة فيها إذن بالجهاد،أو ذكر له،و بيان لأحكامه،فهي مدنية.
5-كل سورة فيها محاججة لأهل الكتاب،و مجادلة لهم،فهي مدنية (2).
و الحق أن هذه الضوابط يمكن اعتبارها ضوابط استقرائية للأعم الأغلب فيما وقف عليه العلماء من كتاب اللّه،و قد يضاف إليها بعض3.
ص: 51
الضوابط الأخرى ناظرة في الأسلوب أو العرب أو الموضوع،أو القصر أو الطول،أو الشدة أو اللين،يستضاء بها و يسترشد إلى تمييز المكي من المدني و بالعكس.
و سواء أ كانت هذه الضوابط نقلية أم اجتهادية فإن لها استثناءات في حدود،و تماثلا بين القسيمين في بعض الوجوه.و عليه فلا طريق لنا إلى القطع بالمكي أو المدني،إلا الرواية الصحيحة الثابتة،أو الأحداث التأريخية المتناولة لها سورة ما،و تقتضي التعيين الزماني أو التحديد المكاني،أو معرفة أسباب النزول بأشخاصه و أماكنه و وقائعه،لا دواعيه و مماثلاته و لوازمه،و بذلك يكون التدوين التأريخي لقسيمي القرآن مكية و مدنية،أمثل ترتيبا،و أكثر صحة.
على أن تلك الضوابط-و لا ننكر أهميتها-تشير إلى خصائص قيمة في مسيرة الوحي القرآني من الإجمال إلى التفصيل،و من العموميات إلى الجزئيات،و من الإشارة إلى التصريح،و هي بالأخير تنبه إلى الإيمان بالمرحلية الزمانية و المكانية في التشريع و القوانين و الأنظمة،و تبرهن على تطور أساليب الرسالة و مقتضياتها.
و بديهي أن النزول إما أن يكون ابتدائيا،أو على أثر سؤال أو حادث أو استفتاء،فما كان منه ابتدائيا فيمكن اعتباره الأصل الأولي في الدين، و الأساس في أركان التشريع العامة،و حجر الزاوية في تنظيم العالم من قبل اللّه تفضلا منه و تحننا و رحمة،و ما جاء عقب واقعة فأما أن يكون حكما جديدا لا عهد لهم به،أو نبأ مجهولا عند السائلين،أو تفصيلا في حدود و فرائض أجملت من ذي قبل،و فيه تتجلى حكمة التشريع و بواعث الحكم، و عنه نشأ علم أسباب النزول،و العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب، و استفيد منه إنسانية القرآن،و عالمية دعوته،و شمولية أحكامه،لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب،و يعرف به الناسخ من المنسوخ في بعض الحالات،و فيه تعيين تأريخي للأحداث،و تقويم عام للمشكلات،و طريقه الأمثل هو النقل الصحيح القطعي.
قال الواحدي:«لا يحل القول في أسباب نزول الكتاب إلا بالرواية
ص: 52
و السماع ممن شاهدوا التنزيل،و وقفوا على الأسباب،و بحثوا عن علمها» (1).
و يجب الحذر و التحرز تجاه أسباب النزول،فلا تؤخذ على علاتها، بل يجب عرضها على القرآن نفسه،فما وافق القرآن أخذ به،و ما عارض القرآن طرح،فهناك التناقض الكثير في بعض الروايات،و هناك القصص الخرافي في جانب منه،و هناك الإسرائيليات المطولة التي لا يحتملها النص القرآني،بل و هناك ما لا يوحي بالسبب فيسمى سببا،و قد يطلق في هذا الضوء السبب على اللازم و المتعلق و هو غير السبب،و قد يطلق السبب على ما يعتبر من باب الجري و قبيل الانطباق و ليسا من الأسباب.
و لو سلمت أسباب النزول من هذه الثغرات،لكانت خير منار لتتبع كثير من تأريخية النزول على أتم وجه،و أفضل سبيل للكشف عن كثير من الحالات النفسية،و القابليات العقلية التي عليها القوم.
إن هذا الجانب غني ببحوث القدامى،فقد أفاض به كل من الواحدي و الزركشي و السيوطي و أضرابهم،و نقلوا فيه آراء السلف،و لسنا بحاجة إلى نقدها و لا إلى سردها (2).و الحق أن تعيين أسباب النزول يعين كثيرا على معرفة المكي من المدني في وجه من الوجوه لارتباطه بالأحداث و التأريخ و الأشخاص و لكن أغلب ذلك في الآيات لا في السور،و الروايات فيه متضاربة و متعارضة.
و تأريخية النزول تقتضي أن نعطي تقسيما للسور المكية و السور المدنية،و قد سبق أن أفضنا أن لا سبيل لذلك إلا الرواية الثابتة،و أني لنا ذلك،فهناك اختلاف كثير في النقول بهذا الجانب،و ذكر جميع التفصيلات تطويل بغير طائل،و لكننا سنلقي بالمسئولية على الزركشي فنثبت ما أثبته.8.
ص: 53
قال الزركشي (1):
«أول ما نزل من القرآن بمكة:(اقرأ باسم ربك)،ثم(ن و القلم)،ثم (يا أيها المزمل)،ثم(يا أيها المدثر)،ثم(تبت يدا أبي لهب)،ثم(إذا الشمس كورت)،ثم(سبح اسم ربك الأعلى)،ثم(و الليل إذا يغشى)،ثم (و الفجر)،ثم(و الضحى)،ثم(أ لم نشرح)،ثم(و العصر)،ثم(و العاديات)، ثم(إنا أعطيناك الكوثر)،ثم(ألهاكم التكاثر)،ثم(أ رأيت الذي)،ثم(قل يا أيها الكافرون)،ثم(سورة الفيل)،ثم(الفلق)،ثم(الناس)،ثم(قل هو اللّه أحد)،ثم(و النجم إذا هوى)،ثم(عبس و تولى)،ثم(إنا أنزلناه)،ثم (لإيلاف قريش)،ثم(القارعة)،ثم(لا أقسم بيوم القيامة)،ثم(الهمزة)،ثم (المرسلات)،ثم(ق و القرآن)،ثم(لا أقسم بهذا البلد)،ثم(الطارق)ثم (اقتربت الساعة)،ثم(ص و القرآن)،ثم(الأعراف)،ثم(الجن)،ثم (يس)،ثم(الفرقان)،ثم(الملائكة)،ثم(مريم)،ثم(طه)،ثم(الواقعة)، ثم(الشعراء)،ثم(النمل)،ثم(القصص)،ثم(بني إسرائيل)،ثم(يونس)، ثم(هود)،ثم(يوسف)،ثم(الحجر)،ثم(الأنعام)،ثم(الصافات)،ثم (لقمان)،ثم(سبأ)،ثم(الزمر)،ثم(حم.المؤمن)،ثم(حم.السجدة)، ثم(حم.عسق)،ثم(حم.الزخرف)،ثم(حم.الدخان)،ثم(حم.
الجاثية)،ثم(حم.الأحقاف)،ثم(و الذاريات)،ثم(الغاشية)،ثم (الكهف)،ثم(النحل)،ثم(نوح)،ثم(إبراهيم)،ثم(الأنبياء)،ثم (المؤمنون)،ثم(الم.تنزيل)،ثم(و الطور)،ثم(الملك)،ثم(سأل سائل)، ثم(عم يتساءلون)،ثم(و النازعات)،ثم(إذا السماء انفطرت)،ثم(إذا السماء انشقت)،ثم الروم.
و اختلفوا في آخر ما نزل بمكة،فقال ابن عباس:(العنكبوت).و قال الضحاك و عطاء:(المؤمنون)،و قال مجاهد(ويل للمطففين).
فهذا ترتيب ما نزل من القرآن بمكة،و عليه استقرت الرواية من الثقات،و هي خمس و ثمانون سورة.ا.
ص: 54
ثم ذكر ترتيب ما نزل بالمدينة،و هو تسع و عشرون سورة:
فأول ما نزل فيها:سورة(البقرة)،ثم(الأنفال)،ثم(آل عمران)، ثم(الأحزاب)،ثم(الممتحنة)،ثم(النساء)،ثم(و إذا زلزلت)،ثم (الحديد)،ثم(محمد)،ثم(الرعد)،ثم(الرحمن)،ثم(هل أتى)،ثم (الطلاق)،ثم(لم يكن)،ثم(الحشر)،ثم(إذا جاء نصر اللّه)،ثم (النور)،ثم(الحج)،ثم(المنافقون)،ثم(المجادلة)،ثم(الحجرات)،ثم (يا أيها النبي لم تحرم)،ثم(الصف)،ثم(الجمعة)،ثم(التغابن)،ثم (الفتح)،ثم(التوبة)،ثم(المائدة).
و منهم من يقدم المائدة على التوبة.
فهذا ترتيب ما نزل بالمدينة.و أما ما اختلفوا فيه:ففاتحة الكتاب، فقال ابن عباس و الضحاك و مقاتل و عطاء إنها مكية،و قال مجاهد أنها مدينة (1).
و اختلفوا في(ويل للمطففين)فقال ابن عباس:مدينة،و قال عطاء:
هي آخر ما نزل بمكة.
فجميع ما نزل بمكة خمس و ثمانون سورة،و جميع ما نزل بالمدينة تسع و عشرون سورة على اختلاف الروايات (2).
و هناك بعض السور المكية و فيها آيات مدنية،و بالعكس،و قد عينت من قبل الباحثين (3).
و لعل من المفيد حقا أن نضع جدولا بحسب ترتيب السور القرآنية في المصحف الشريف،نشير فيه إلى رقم السورة من المصحف،ثم نذكر1.
ص: 55
اسمها المشهور،ثم نكتب عدد آياتها،ثم نشير إلى مكان النزول،ثم نتبع تأريخ النزول،معتمدين بذلك على ترتيب المصحف الإمام،و محققين في المعلومات المدونة على أوثق المصادر و أثبتها،و من ثم نعقب في الهامش بالآيات المستثناة من السور مكية و مدنية،اعتمادا على الروايات القائلة بذلك (1).
على أن ما نقدمه من عرض قد لا يجد قبولا عند بعض الباحثين،لا سيما في استثناء الآيات المكية من السور المدنية،و الآيات المدنية من السور المكية،فقد ناقش صاحب الميزان في أغلب ذلك،و اعتبر السياق لا يساعد على جملة منها،بل و لأدلة نظمية عليه،و طريقته في تعيين ذلك تعتمد النظم و السياق أولا و أساسا (2).
و مهما يكن من أمر،فهو يتفق معنا في الأصل المشار إليه كما في الترتيب التالي:
(ترتيب سور القرآن العددي و المكاني و الزماني) رقم السورة/اسم السورة/عدد آياتها/مكان النزول/تأريخ النزول /1الفاتحة/7/مكية/نزلت بعد المدثر/ (3)/2البقرة/286/مدنية/أول سورة مدنية/ (4)/3آل عمران/200/مدنية/نزلت بعد الأنفال/ /4النساء/176/مدنية/نزلت بعد الممتحنة/ /5المائدة/120/مدنية/نزلت بعد الفتح (5)ا.
ص: 56
رقم السورة/اسم السورة/عدد آياتها/مكان النزول/تأريخ النزول/ /6الأنعام/165/مكية/نزلت بعد الحجر/ (1)/7الأعراف/206/مكية/نزلت بعد ص (2)/8الأنفال/75/مدنية/نزلت بعد البقرة/ (3)/9التوبة/129/مدنية/نزلت بعد المائدة (4)/10يونس/109/مكية/نزلت بعد الإسراء/ (5)/11هود/123/مكية/نزلت بعد يونس/ (6)/12يوسف/111/مكية/نزلت بعد هود/ (7)/13الرعد/43/مدنية/نزلت بعد محمد/ /14إبراهيم/52/مكية/نزلت بعد يوسف/ (8)/15الحجر/99/مكية/نزلت بعد يوسف/ (9)16 النحل/128/مكية/نزلت بعد الكهف/ (10)/17الإسراء/111/مكية/نزلت بعد القصص (11)/18الكهف/110/مكية/نزلت بعد الغاشية/ (12)/19مريم/98/مكية/نزلت بعد فاطر/ (13)ن.
ص: 57
رقم السورة/اسم السورة/عدد آياتها/مكان النزول/تأريخ النزول/ /20طه/135/مكية/نزلت بعد مريم/ (1)/21الأنبياء/112/مكية/نزلت بعد إبراهيم/ /22الحج/78/مدنية/نزلت بعد النور (2)/23المؤمنون/118/مكية/نزلت بعد الأنبياء/ 24 النور/64/مدنية/نزلت بعد الحشر/ /25الفرقان/77/مكية/نزلت بعد يس/ (3)/26الشعراء/227/مكية/نزلت بعد الواقعة/ (4)/27النمل/93/مكية/نزلت بعد الشعراء/ /28القصص/88/مكية/نزلت بعد النمل/ (5)/29العنكبوت/69/مكية/نزلت بعد الروم/ (6)/30الروم/60/مكية/نزلت بعد الانشقاق/ (7)/31لقمان/34/مكية/نزلت بعد الصافات/ (8)/32السجدة/30/مكية/نزلت بعد المؤمنون/ (9)/33الأحزاب/73/مدنية/نزلت بعد آل عمران/ /34سبأ/54/مكية/نزلت بعد لقمان/ (10)/35فاطر/45/مكية/نزلت بعد الفرقان/ة.
ص: 58
رقم السورة/اسم السورة/عدد آياتها/مكان النزول/تأريخ النزول /36يس/83/مكية/نزلت بعد الجن/ (1)/37الصافات/182/مكية/نزلت بعد الأنعام/ /38ص/88/مكية/نزلت بعد القمر/ /39الزمر/75/مكية/نزلت بعد سبأ/ (2)/40المؤمن/85/مكية/نزلت بعد الزمر (3)/41فصلت/54/مكية/نزلت بعد غافر/ /42الشورى/53/مكية/نزلت بعد فصلت (4)/43الزخرف/89/مكية/نزلت بعد الشورى/ (5)/44الدخان/59/مكية/نزلت بعد الزخرف/ /45الجائية/37/مكية/نزلت بعد الدخان (6)/46الأحقاف/35/مكية/نزلت بعد الجاثية/ (7)/47محمد/38/مدنية/نزلت بعد الحديد/ (8)/48الفتح/29/مدنية/نزلت بعد الجمعة/ (9)/49الحجرات/18/مدنية/نزلت بعد المجادلة/ /50ق/45/مكية/نزلت بعد المرسلات/ (10)/51الذاريات/60/مكية/نزلت بعد الأحقاف/ة.
ص: 59
رقم السورة/اسم السورة/عدد آياتها/مكان النزول/تأريخ النزول/ /52الطور/49/مكية/نزلت بعد السجدة/ /53النجم/62/مكية/نزلت بعد الإخلاص (1)/54القمر/55/مكية/نزلت بعد الطارق/ (2)/55الرحمن/78/مدنية/نزلت بعد الرعد/ /56الواقعة/96/مكية/نزلت بعد طه/ (3)/57الحديد/29/مدنية/نزلت بعد الزلزلة/ /58المجادلة/22/مدنية/نزلت بعد المنافقون/ /59الحشر/24/مدنية/نزلت بعد البينة/ /60الممتحنة/13/مدنية/نزلت بعد الأحزاب /61الصف/14/مدنية/نزلت بعد التغابن/ /62الجمعة/11/مدنية/نزلت بعد الصف/ /63المنافقون/11/مدنية/نزلت بعد الحج/ /64التغابن/18/مدنية/نزلت/بعد التحريم/ /65الطلاق/12/مدنية/نزلت بعد الإنسان/ /66التحريم/12/مدنية/نزلت بعد الحجرات/ /67الملك/30/مكية/نزلت بعد الطور/ /68القلم /52مكية/نزلت بعد العلق/ (4)/69الحاقة/52/مكية/نزلت بعد الملك/ /70المعارج/44/مكية/نزلت بعد الحاقة/ /71نوح/28/مكية/نزلت بعد النحل/ /72الجن/28/مكية/نزلت بعد الأعراف/ة.
ص: 60
رقم السورة/اسم السورة/عدد آياتها/مكان النزول/تأريخ النزول /73المزمل/20/مكية/نزلت بعد القلم/ (1)/74المدثر/56/مكية/نزلت بعد المزمل/ /75القيامة/40/مكية/نزلت بعد القارعة/ /76الدهر/31/مدنية/نزلت بعد الرحمن/ /77المرسلات/50/مكية/نزلت بعد الهمزة (2)/78النبأ/40/مكية/نزلت بعد المعارج /79النازعات/46/مكية/نزلت بعد النبأ/ /80عبس/42/مكية/نزلت بعد النجم /81التكوير/29/مكية/نزلت بعد المسد/ /82الانفطار/19/مكية/نزلت بعد النازعات/ /83المطففين/36/مكية/نزلت بعد العنكبوت/ (3)/84الانشقاق/25/مكية/نزلت بعد الانفطار/ /85البروج/22/مكية/نزلت بعد الشمس/ /86الطارق/17/مكية/نزلت بعد البلد/ /87الأعلى/19/مكية/نزلت بعد التكوير/ /88الغاشية/26/مكية/نزلت بعد الذاريات/ /89الفجر/30/مكية/نزلت بعد الليل/ /90البلد/20/مكية/نزلت بعد ق/ /91الشمس/15/مكية/نزلت بعد القدر/ /92الليل/21/مكية/نزلت بعد الأعلى/ /93الضحى/11/مكية/نزلت بعد الفجر/ /94الانشراح/8/مكية/نزلت بعد الضحى/ة.
ص: 61
رقم السورة/اسم السورة/عدد آياتها/مكان النزول/تأريخ النزول/ /95التين/8/مكية/نزلت بعد البروج/ /96العلق/19/مكية/أول ما نزل من القرآن /97القدر/5/مكية/نزلت بعد عبس/ /98البينة/8/مدنية/نزلت بعد الطلاق/ /99الزلزال/8/مدنية/نزلت بعد النساء/ /100العاديات/11/مكية/نزلت بعد العصر/ /101القارعة/11/مكية/نزلت بعد قريش/ /102التكاثر/8/مكية/نزلت بعد الكوثر/ /103العصر/3/مكية/نزلت بعد أ لم نشرح/ /104الهمزة/9/مكية/نزلت بعد القيامة/ /105الفيل/5/مكية/نزلت بعد الكافرون /106قريش/4/مكية/نزلت بعد التين/ /107الماعون/7/مكية/نزلت بعد التكاثر/ (1)/108الكوثر/3/مكية/نزلت بعد العاديات/ /109الكافرون/6/مكية/نزلت بعد الماعون/ /110النصر/3/مدنية/آخر ما نزل من سور القرآن/ (2)/111المسد/5/مكية/نزلت بعد الفاتحة/ /112الإخلاص/4/مكية/نزلت بعد الناس/ /113الفلق/5/مكية/نزلت بعد الفيل/ /114الناس/6/مكية/نزلت بعد الفلق/ع.
ص: 62
ص: 63
ص: 64
لجمع القرآن في الروايات تأريخ متناقض عجيب،ألقى بتبعته على القرآن الكريم،و القرآن أسمى من أن يقدح فيه تعارض الروايات،و تداخل الأهواء،فهو محفوظ كما نزل،و سالم كما أوحي:
هذه الروايات بعد ضم بعضها إلى البعض الآخر تسفر عن هذه النتائج المتضاربة.
أ-مات النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و القرآن كله على العسب و اللخاف و الرقاع و الأكتاف،و لكنه لم يجمع في مصحف،و قد راع أبا بكر(رض)كثرة القتل في القراء بعد وقعة اليمامة في السنة الثانية عشرة للهجرة،فاستشار عمر في الأمر،فأقرا معا جمع القرآن من المصحف إلى المصحف،أو من العسب و اللخاف و الأقتاب إلى المصحف،و كلفا بالمهمة زيد بن ثابت.
ب-أن عمر بن الخطاب كان أول من جمع القرآن بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد أن سأل عن آية فلم يجب إليها،و نهض بالمهمة زيد بن ثابت.
ج-أن أبا بكر مات،و عمر قد قتل،و لم يجمع القرآن بعد،أي أن المسلمين في حالة فوضى من شرائع دينهم،و كتاب ربهم.
د-أن عثمان كان أول من جمع المصحف تارة،و أول من وحد المصحف تارة أخرى.
ه-أن القرآن كان مجموعا في عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أن جامعيه كانوا من الكثرة بحيث يعدون تارة،و يخصصون تارة أخرى،و لا يحاط بهم سواهما.
ص: 65
و لقد وقفت من هذه الروايات موقف المندهش تارة،و موقف المتحير تارة أخرى،و قررت في النهاية دراستها في موضوعية خالصة،أخلص منها إلى نتائج سليمة،قد تقارب الواقع و تتجه نحو الصواب بإذن اللّه.
و هذه الدراسة تعنى بالاستنباط القائم على أساس الاجتهاد الفكري، و الاجتهاد معرض للخطأ و الصواب،و هي لا تمس القرآن و لا الحديث، و إنما تسير بينهما هامشيا،فالقرآن هو القرآن أنى كانت طرقه،و ليس في جميع روايات الجمع ما هو مرفوع إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
من خلال ما تقدم نظفر بحصيلتين متعارضتين:
الأولى:إن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مات و القرآن بعد لم يجمع في مصحف.
الثانية:أن القرآن كان مجموعا في عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في مصحف.
يدل على الحصيلة الأولى طائفة من الروايات المتناثرة لإثبات الفقرات أ،ب،ج،د.
و يدل على الحصيلة الثانية طائفة الروايات و الدلائل و البراهين لإثبات الفقرة ه.
و لسنا نحاول تفنيد روايات الحصيلة الأولى بقدر ما يهمنا إثبات حقيقة الحصيلة الثانية.لقد تتبّع السيد الخوئي-فكفانا مؤنة الخوض في ذلك-روايات الجمع بناء على الحصيلة الأولى في كل من صحيح البخاري،و مسند أحمد،و كنز العمال،و منتخب كنز العمال،و الاتقان للسيوطي،و كان أهم هذه الروايات من خلال تعقيبه عليها-غثها و سمينها -اثنتان و عشرون رواية (1).
و قد خلص إلى تناقصها في تعيين العهد الذى جمع فيه القرآن مترددا بين عهود أبي بكر،عمر،عثمان،و من هو المتصدي لذلك؟هل هو أبو بكر،أو عمر،أو زيد بن ثابت؟و هل بقي من الآيات ما لم يدون إلى زمن عثمان؟و من الذي طلب من أبي بكر جمع القرآن؟و متى6.
ص: 66
ألحقت بعض الآيات في القرآن،و بما ذا ثبت ذلك،و هل يكفي ذلك لتواتر القرآن (1).
و قد عارض الخوئي هذه الروايات بروايات أخر تدل على جمع القرآن في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مستندا فيها إلى منتخب كنز العمال،و صحيح البخاري،و إتقان السيوطي،و قد اعتبر التمحل بأن المراد من الجمع في هذه الروايات هو الجمع في الصدور لا التدوين،دعوى لا شاهد عليها، لأن الحفاظ أكثر من أن يعدوا (2).
و قد ثبت لديه جمع القرآن بعهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و اعتبر ما سوى هذا معارضا لكتاب اللّه،و مخالفا لحكم العقل،و مناهضة صريحة للإجماع الذي عليه المسلمون كافة بأن القرآن لا طريق لإثباته إلا التواتر،فلا بد من طرح هذه الروايات لأنها تدل على ثبوت القرآن بغير التواتر،و قد ثبت بطلان ذلك بإجماع المسلمين (3).
و اعتبر القول بروايات الجمع على أساس الحصيلة الأولى يستلزم فتح القول بالتحريف،باعتبار الجمع على تلك الطرق يكون قابلا للزيادة و النقصان (4).
و قد أيد جمع عثمان للقرآن،لا بمعنى أنه جمع الآيات و السور في مصحف،بل بمعنى أنه جمع المسلمين على قراءة إمام واحد:«و هذا العمل من عثمان لم ينتقده عليه أحد من المسلمين،و ذلك لأن الاختلاف في القراءة كان يؤدي إلى الاختلاف بين المسلمين،و تمزيق صفوفهم، و تفريق وحدتهم،بل كان يؤدي إلى تكفير بعضهم بعضا،و قد مرّ أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منع عن الاختلاف في القرآن» (5).
و الحق أن الخوئي قد تتبع هذه القضية بكل جزئياتها و تفصيلاتها،8.
ص: 67
و انقض عليها يفندها و يجرحها،مثبتا أن القرآن قد دون في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و هذا ما نذهب إليه من خلال اضطلاعنا بأدلة جملة تستقطب جملة من الروايات،و طائفة من الأدلة الخارجية و الداخلية حول الكتاب و ضمن الكتاب و على هامش الكتاب،تثبت دون ريب تكامل الجمع التدويني للقرآن في عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.و لا نريد أن ندخل في متاهة من هذا الموضوع بقدر ما نريد إثبات الحقيقة و الوصول إليها بكل الطرق المختصرة.
ففي جملة من الروايات المعتبرة نجد جزءا لا يستهان به من هذه الحقيقة.
1-في البخاري،أن من جمعوا القرآن على عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أربعة، فعن قتادة،قال سألت أنس بن مالك:من جمع القرآن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؟قال:أربعة كلهم من الأنصار:أبي بن كعب،و معاذ بن جبل، و زيد بن ثابت،و أبو زيد (1).
2-مات النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لم يجمع القرآن غير أربعة:أبو الدرداء،و معاذ ابن جبل،و زيد بن ثابت،و أبو زيد (1).
3-أورد البيهقي عن ابن سيرين،جمع القرآن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أربعة لا يختلف فيهم:معاذ بن جبل،و أبي بن كعب،و زيد،و أبو زيد.و اختلفوا في رجلين من ثلاثة:أبو الدرداء،و عثمان،و قيل:عثمان و تميم الداري (1).
4-عن الشعبي،جمع القرآن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ستة:أبي، و زيد،و أبو الدرداء،و سعد بن عبيد،و أبو زيد،و مجمع بن جارية و قد أخذه إلا سورتين أو ثلاثة.قال:و لم يجمعه أحد من الخلفاء من أصحاب محمد غير عثمان (1)5-و جمع على عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعض من الصحابة القرآن كله،و بعض منهم جمع القرآن،ثم كمله بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و ذكر محمد بن إسحاق في الفهرست:«إن الجمّاع للقرآن على عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هم:علي بن أبي طالب1.
ص: 68
عليه السلام،و سعد بن عبيد بن النعمان،و أبو الدرداء عويمر بن زيد، و معاذ بن جبل بن أوس،و أبو زيد ثابت بن زيد،و أبي بن كعب،و عبيد ابن معاوية،و زيد بن ثابت» (1).
6-و ذكر الحافظ شمس الدين الذهبي،أن الأعداد المتقدمة هم الذين عرضوه على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و اتصلت بنا أسانيدهم،و أما من جمعه منهم، و لم يتصل بنا فكثير.و أما الذين عرضوا القرآن على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فسبعة:
عثمان بن عفان،و علي بن أبي طالب،و عبد اللّه بن مسعود،و أبي بن كعب،و زيد بن ثابت،و أبو موسى الأشعري،و أبو الدرداء.
و قد أكد الحافظ الذهبي نفسه الجمع في عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال:و قد جمع القرآن غيرهم من الصحابة،كمعاذ بن جبل،و أبي زيد،و سالم مولى أبي حذيفة،و عبد اللّه بن عمر،و عقبة بن عامر (2).
7-روى الخوارزمي في مناقبه عن علي بن رياح،قال:جمع القرآن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم علي بن أبي طالب عليه السلام،و أبي بن كعب (3).
8-أخرج بن أبي داود عن محمد بن كعب القرظي،قال:جمع القرآن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خمسة من الأنصار:معاذ بن جبل،و عبادة بن الصامت،و أبي بن كعب،و أبو الدرداء،و أبو أيوب الأنصاري (4).
9-قال الحارث المحاسبي،فيما أكده الزركشي:«و أما أبي بن كعب،و عبد اللّه بن مسعود،و معاذ بن جبل:فبغير شك جمعوا القرآن، و الدلائل عليه متظاهرة» (5).
10-أخرج البيهقي،و أبو داود،عن الشعبي،قال:جمع القرآن على عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ستة:أبي،و زيد،و معاذ،و أبو الدرداء،و سعد بن1.
ص: 69
عبيد،و أبو زيد.و مجمع بن جارية قد أخذه إلاّ سورتين أو ثلاثة (1).
11-ذكر بن أبي داود فيمن جمع القرآن:قيس بن أبي صعصعة، و هو خزرجي يكنّى:أبا زيد (2).
12-قال أبو أحمد العسكري:لم يجمع القرآن من الأوس غير سعد بن عبيد.و قال ابن حبيب في المحبر:سعد بن عبيد أحد من جمع القرآن على عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (3).
13-قال السيوطي:ظفرت بامرأة من الصحابيات جمعت القرآن، و لم يعدها أحد ممن تكلم في ذلك،فأخرج ابن سعد في الطبقات:
أنبأنا الفضل بن دكين،قال حدثنا:الوليد بن عبد اللّه بن جميع،قال:
حدثتني جدتي أم ورقة بنت عبد اللّه بن الحارث-و
كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يزورها،و يسميها الشهيدة -و كانت قد جمعت القرآن...ثم ساق الحديث (4).
و هذه الجملة من الروايات بضم بعضها إلى البعض الآخر تبرز لنا طائفة كبيرة من أعلام المهاجرين و الأنصار قد جمعت القرآن في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و ليس من المرجح أن يكون هؤلاء الرواة جميعا مع اختلاف عصورهم قد تواطئوا على الكذب،فأوردوا ذكر هذه الجمهرة من الصحابة ممن جمعوا القرآن،و لا منازع لهم في ذلك،بل و لا مناقش من الأعلام.
و أنت ترى أن هذه الروايات تدل دلالة قاطعة على الجمع المتعارف، و هو التدوين في مجموع ما،و قد يحلو للبعض أن يفسر الجمع بالحفظ في الصدور،و لا دلالة لغوية عليه،إذ أنه انتقال باللفظ عن الأصل إلى سواه دون قرينة تعرف عن المعنى الأول،و لأنه معارض بجمهور الحفظة الذين لا يعدون في عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كثرة و تواترا و شيوعا،من النساء و الرجال1.
ص: 70
و فيهم الخلفاء الأربعة و أمهات المؤمنين و ذرية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عدا آلاف المسلمين في طول البلاد و عرضها.
لقد عقب الماوردي على الرواية القائلة،بأنه لم يجمع القرآن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلاّ أربعة،و استقل ذلك بل استنكره،فقال:
«و كيف يمكن الإحاطة بأنه لم يكلمه سوى أربعة،و الصحابة متفرقون في البلاد؟و إن لم يكمله سوى أربعة،فقد حفظ جميع أجزائه مئون لا يحصون» (1).
فالماوردي هنا يفرق بين الجمع و الحفظ،و هو من علماء القرن الخامس الهجري،ممن يعرف فحوى الخطاب،و منطوق العبارة،و دلالة الألفاظ.
و الفرق بين الجمع و القراءة و الحفظ جليّ لا يحتاج معه إلى بيان،قد ذكر أبو عبيد في كتاب القراءات:القراء من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فعدّ الخلفاء الأربعة،و طلحة،و سعدا،و ابن مسعود،و حذيفة،و سالما،و أبا هريرة، و عبد اللّه بن السائب،و العبادلة (2)،و عائشة،و حفصة،و أم سلمة.
و من الأنصار:عبادة بن الصامت،و معاذ الذي يكنّى أبا حليمة، و مجمع بن جارية،و فضالة بن عبيد،و مسلم بن مخلد (3).
و هذا العدد يقتضي أن يكون على سبيل النموذج و المثال،لا على سبيل الحصر و الاستقصاء،أو أن هؤلاء ممن اشتهر بالحفظ و القراءة أكثر من غيرهم.
و مما يؤيد صدق الروايات المتقدمة في إرادة الجمع المتعارف هو تداول جمع القرآن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بما
روي عن زيد بن ثابت فإنه يقول:1.
ص: 71
«كنا حول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نؤلف القرآن من الرقاع» (1). و دلالة التأليف،تعني الجمع و التدوين،و ضم شيء إلى شيء،ليصح أن يطلق عليه اسم التأليف.
و لا دليل على ادعاء الزركشي:بأن بعض القرآن جمع بحضرة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (2).فلم لا يكون كل القرآن جمع في حضرة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم علما بأنه قد سبقه من صرح بجمع القرآن كله لا بعضه في عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بما نصه:«أنه لم يكن يجمع القرآن كله إلا نفر يسير من أصحاب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم» (3).
و لا ريب-بعد هذا كله-أن هناك بعض المصاحف المتداولة عند بعض الصحابة في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و الأخبار مجمعة على صحة وجودها،و على تعدد مصاحف الصحابة أيضا،إذ لو لم يكن هناك جمع بالمعنى المتبادر إليه،لما كانت تلك المصاحف أصلا،إن وجودها نفسه هو دليل الجمع،إذ لم يصدر منع من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن جمعه،بل هناك
رواية عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تقول: «لا تكتبوا عني شيئا سوى القرآن،فمن كتب عني غير القرآن فليمحه» (4).
و جمع هؤلاء الصحابة للقرآن هو الجمع الذي نقول به،لا الحفظ، و إلا فما معنى تسميتها بالمصاحف؟و ما معنى اختلاف هذه المصاحف فيما تدعي الروايات.
لقد أورد ابن أبي داود قائمة طويلة بأسماء مصاحف الصحابة، و عقب عليها بما فيها من الاختلاف،هذا الاختلاف الذي قد يعود في نظرنا إلى التأويل لا إلى التنزيل،أو إلى عدم الضبط في أسوأ الاحتمالات،و قد عقد لذلك بابا سماه«باب اختلاف مصاحف الصحابة» (5).8.
ص: 72
و قد عدد ابن أبي داود منها:مصحف عمر بن الخطاب،مصحف علي بن أبي طالب،مصحف أبيّ بن كعب،مصحف عبد اللّه بن مسعود،مصحف عبد اللّه بن عباس،مصحف عبد اللّه بن الزبير،مصحف عبد اللّه بن عمرو بن العاص،مصحف عائشة زوج النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،مصحف حفصة زوج النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مصحف أم سلمه زوج النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (1).
قال الآمدي(ت:617 ه)في كتابه(الأفكار الأبكار):«إن المصاحف المشهورة في زمن الصحابة كانت مقروءة عليه و معروضة» (2).
فالآمدي يجيبنا على سؤال دقيق هو:متى كتبت هذه المصاحف؟ و متى جمعيت؟و كيف أقرت؟و الجواب أنها كتبت في عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قرئت عليه،بل هي معروضة عليه للضبط و الدقة و الاتقان.
و هناك دليل جوهري آخر،و هو أن الروايات في قراءة القرآن كله، و ختمه،في عهد رسول اللّه تنطق بوجود جمعي له،إذ كيف يقرأ فيه من لم يحصل عليه.
1-
«عن عبد اللّه بن عمرو،قال: قلت:يا رسول اللّه،في كم أقرأ القرآن؟قال اختمه في شهر،قلت إني أطيق أفضل من ذلك،قال:أختمه في عشرين،قلت:إني أطيق أفضل من ذلك،قال:اختمه في خمس عشرة،قلت إني أطيق أفضل من ذلك،قال:اختمه في عشر.قلت إني أطيق أفضل من ذلك،قال اختمه في خمس،قلت إني أطيق أفضل من ذلك فما رخص لي» (3).
و قد روي في غير هذا الحديث،أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال له أول مرة،اقرأ القرآن في أربعين (3).
2-
و روي عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قوله: «لم يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث» (3). فأي قرآن يشير إليه النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إن لم يكن مجموعا،و متداولا بما تتيسر قراءته عند المسلمين.8.
ص: 73
3-و من المشهور الذي لا يجهل أن عمر بن الخطاب(رض)أقام من صلى التراويح بالناس في ليالي رمضان،و أمره أن يقرأ في الركعة الواحدة نحوا من عشرين آية،فكان يحيى القرآن في الشهر مرتين.و معلوم أن ذلك لم يكن من المصحف الذي كتبه زيد،لأن المصاحف لم تنسخ منه (1).
و هذا تصريح بوجود المصاحف المغايرة لما استنسخه زيد،و أن سيرة المسلمين عليها إذ لم يعمم مصحف زيد.
و صاحب الرأي السابق يذهب صراحة أن القرآن كان منظوما و مجموعا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (2).
و قد يقال بأن الكتابة كانت محدودة في عصر الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد يحول هذا دون تدوين القرآن،فيقال إن عصر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عصر أبي بكر واحد،فما يقال هناك يقال هنا.على أن موضوع الكتابة لا يخلو من مبالغة،فهي و إن كانت محدودة النطاق،و مقتصرة على طبقة من الناس، فإننا نشكك كثيرا في تحديد الأرقام التي أوردها المؤرخون،و لنا عليها مؤاخذات ليس هذا موطن بحثها،و يزداد شكنا حينما نلمح البلاذري يقول:
«دخل الإسلام و في قريش سبعة عشر رجلا يكتب» (3).
أو ما أورده ابن عبد ربه الأندلسي«لم يكن أحد يكتب بالعربية حين جاء الإسلام،إلا بضعة عشر رجلا» (4).
لا ريب أن العرب كانت أمة أمية،إلا أن هذه الأرقام لا تتناسب مع ذكر القرآن للكتابة و أدواتها و مشتقاتها بهذه الكثرة.على أن للأمية دلالات أخرى لعل من أفضلها تعليلا ما
رواه ابن أبي عمير،عن معاوية بن عمار، عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السّلام في تفسير قوله تعالى هُوَ الَّذِي بَعَثَ4.
ص: 74
فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً...2 (1) .
قال الصادق: «كانوا يكتبون،و لكن لم يكن معهم كتاب من عند اللّه و لا بعث إليهم رسول فنسبهم اللّه إلى الأميين» (2).
و مهما يكن من أمر فأمية من أسلّم،و قلة الكتبة،و تضاؤل وسائل الكتابة،لم تكن موانع تحول دون تدوين القرآن.
فلقد اتخذ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عددا من الكتاب للقرآن الكريم في كل من مكة و المدينة في طليعتهم الخلفاء الأربعة،و زيد،و أبي (3).
قال القاضي أبو بكر الباقلاني:«و ما على جديد الأرض أجهل ممن يظفر بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه أهمل في القرآن أو ضيعه،مع أن له كتّابا أفاضل معروفين بالانتصاب لذلك من المهاجرين و الأنصار،فممن كتب له من قريش من المهاجرين:أبو بكر،و عمر،و عثمان،و علي،و زيد بن أرقم، و خالد بن سعيد،و ذكر أهل التفسير أنه كان يملي على خالد بن سعيد ثم يأمره بطي ما كتب و ختمه...و منهم الزبير بن العوام،و حنظلة،و خالد بن أسد،و جهم بن الصلت،و غير هؤلاء..» (4).
و لا شك أن الكتابة كانت تخضع للإشراف المباشر من قبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالذات،ليكون النص مطابقا للوحي،كما مرّ
في حديث خالد بن سعيد،و كما روى زيد بن ثابت: «كنت أكتب الوحي عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو يملي عليّ،فإذا فرغت،قال:اقرأه،فأقرأه،فإن كان فيه سقط أقامه،ثم أخرج به إلى الناس» (5).
و لقد كان العرب في جاهليتهم يهتمون اهتماما كبيرا في تقييد المأثور الذى،
ففي حديث سويد بن الصامت:5.
ص: 75
أنه قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعل الذي معك مثل الذي معي،فقال:و ما الذي معك؟قال سويد:مجلة لقمان،فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اعرضها عليّ.
فعرضها عليه،فقال له:إن هذا الكلام حسن،و الذي معي أفضل من هذا، قرآن أنزله اللّه تعالى،هو هدى و نور (1).
و إذا كان اهتمام العرب في الجاهلية،بمثل هذا المستوى من الجمع و التدوين للموروث الثقافي أو الديني،فكيف يكون اهتمامها بالقرآن الكريم،و النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بين ظهرانيهم يدعوهم إلى حفظه و مدارسته و القيام به.
لكأنني بالآية حينما يتلوها الرسول الأعظم تتلاقفها الصدور لتدونها في السطور،و لقد كان من سيرته متى ما أسلّم أحد من العرب دفعه إلى الذين معه،فعلموه القرآن.و إذا هاجر له أحد من أصحابه أوكله إلى من يعلمه القرآن:
«فكان الرجل إذا هاجر دفعه النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى رجل من الصحابة يعلمه القرآن،و كان يسمع لمسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ضجة بتلاوة القرآن،حتى أمرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يخفضوا أصواتهم لئلا يتغالطوا» (2).
إذن،كيف كان يتم تعليم القرآن؟و كيف كانت تلاوته؟لا أشك أن ذلك كان في مدون ما،و لا يمنع ذلك من الحفظ في الصدور.
يقول محمد عبد اللّه دراز:«إن النص المنزل لم يقتصر على كونه (قرآنا)أو مجموعة من الآيات تتلى أو تقرأ،و تحفظ في الصدور،و إنما كان أيضا(كتابا)مدونا بأعداد.فهاتان الصورتان تتضافران و تصحح كل منهما الأخرى.و لهذا كان الرسول كلما جاءه الوحي و تلاه على الحاضرين أملاه من فوره على كتبة الوحي» (3).
و مما يدل على تدوينه و كتابته مجموعا في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- مضافا إلى ما سبق بيانه-ما يلي:
1-
كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا نزلت عليه الآية من السورة دعا من يكتب له فيقول:
ضعها في موضع كذا و كذا من السورة. و هذا من أوضح الأدلة على أن4.
ص: 76
هذا الترتيب الذي رتبه اللّه عليه.و لأجله كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يدلهم على موضع السور من القرآن،و الآية من السورة،ليكتب و يحفظ على نظمه و ترتيبه (1).
2-لقد ورد لفظ الكتاب في القرآن و السنة النبوية القطعية الصدور،للدلالة على ماله كيان جمعي محفوظ،و الإشارة بل التصريح في ذلك الكتاب إلى القرآن الكريم،فقد استعمل لفظ الكتاب في القرآن بهذا الملحظ في أكثر من مائة موضع،و نضرب لذلك بعض النماذج:
أ- ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ -البقرة2/.
ب- نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ... -آل عمران3/.
ج- هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ... -آل عمران7/.
د- إِنّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ...105 -النساء105/.
ه- وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ... -المائدة48/.
و- وَ هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ...92/ -الأنعام92/.
ز- كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ...-2 -الأعراف2/.
ح- الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ...-1 -يونس1/.
ط- الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ... -هود1/.
ي- الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ...-1 إبراهيم1/.
أ فلا يدل هذا الحشد الهائل إلى أن القرآن كان كتابا مجموعا يشار إليه.و مما يعضده ما ورد في السنة الشريفة من التصريح بالكتاب في عدة مواضع أبرزها:
أ-
قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا كتاب اللّه1.
ص: 77
و عترتي أهل بيتي» (1).
ب-
قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إني مخلف فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي» (2).
فهل يعني استخلاف الكتاب أن يترك بين عسب و رقاع و ألواح تارة، أو بين أقتاب و أكتاف و لخاف تارة أخرى،أم أن استخلافه له ينبغي أن يكون مجموعا منظما صالحا لمعنى الخلافة.
3-مما لا شك فيه أن الاسم البارز و الأمثل لسورة الحمد هو (فاتحة الكتاب)،و لو لم يكن القرآن مدونا من قبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بوحي من جبرئيل عليه السّلام:«لما كان لتسميته هذه السورة فاتحة الكتاب معنى،إذ قد ثبت بالإجماع أن هذه السورة ليست بفاتحة سور القرآن نزولا،فثبت أنها فاتحته نظما و ترتيبا و تكلما» (3).
4-قد يقال بأن جمع القرآن في عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هو حفظه في الصدور،و هذا و إن كان دعوى لا دليل عليها،فإن من أبسط لوازمها أن الحفظ في الصدور مما يستدعي توافر النص بين الأيدي و تداوله للمعارضة بين ما يحفظ و بين ما هو مثبت،و لا دليل أنهم كانوا يحفظونه مباشرة عند تلاوة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم له،إذ هذه الميزة من مميزات الرسول الأعظم فبمعارضة جبرئيل عليه السّلام له يحفظ النص القرآني و يستظهره و بتعهد من اللّه له كما دل على ذلك قوله تعالى:
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ(16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ(17) (4) .
و الكثرة الكاثرة كانت تحفظ القرآن بمدارسته و تكرار تلاوته،و أقل ما في ذلك أن تقارن الحفظ و الاستظهار بما لديها من نصوص قرآنية،و هذا هو المتعين من قبل المسلمين نظرا لورعهم و احتياطهم من جهة،و تعبيرا7.
ص: 78
عن شغفهم بالقرآن و حبهم لمتابعته من جهة أخرى،فقد يظهر من كثير من الروايات كونهم يتحلقون لتلاوته ليلا،
فقد رفع إليه:
«إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالليل حين يدخلون و أعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل و إن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار» (1).
5-«و من المعلوم الذي لا خفاء به أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد كان يؤم أصحابه في الصلوات الخمس لا يخل بذلك في سفر و لا حضر،فقرأ في الركعتين من كل صلاة بسورة مع فاتحة الكتاب،و يسمعهم ذلك في الغداة و العشي.فما ذا كان يسمعهم ليت شعري،إن كانت آيات القرآن متفرقة و لم تنظم السور حتى أنها نظمت في أيام أبي بكر و عثمان،فبما ذا كان يقرع العرب حيث يقول اللّه تعالى: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ... (2).و ذلك مما نزل بمكة،ثم قال تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ... (3).و نزل ذلك بالمدينة،و لو كان على ما خيلوا لم يكن العباس ابن عبد المطلب يهرب يوم حنين حيث انهزم القول فيقول:يا أصحاب سورة البقرة،و سورة آل عمران،هذا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.يستدعيهم بذلك إليه» (4).
6-أورد ابن حجر ما أخرجه أحمد و أبو داود عن أوس بن أبي أوس،و كان في الوفد الذين أسلموا على يد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال:فسألنا أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قلنا:كيف تحزبون القرآن؟قالوا:نحزّبه ثلاث سور،و خمس سور،و سبع سور،و تسع سور،و إحدى عشرة،و ثلاث عشرة،و حزب المفصل من(ق)حتى نختم(يعني القرآن).
قال ابن حجر:(فهذا يدل على أن ترتيب السور على ما هو عليه في المصحف الآن كان على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) (5).9.
ص: 79
7-أورد السيوطي في مسألة القراءة في المصحف أفضل من القراءة من حفظه،لأن النظر في المصحف عبادة مطلوبة،أورد عدة روايات مرفوعة إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيها ذكر المصحف،مما يعني أن لفظ«المصحف» المجموع فيه القرآن،كان شائعا و معروفا،و ذا دلالة معينة منذ عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،فما رفع إليه على سبيل المثال (1):
أ-
ما أخرجه الطبراني،و البيهقي في الشعب من حديث أوس الثقفي مرفوعا:
«قراءة الرجل في غير المصحف ألف درجة،و قراءته في المصحف تضاعف ألفي درجة».
ب-
ما أخرجه البيهقي عن ابن مسعود مرفوعا: «من سره أن يحب اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،فليقرأ في المصحف».
ج-
و أخرج غير السيوطي،عن أبي هريرة،أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: الغرباء في الدنيا أربعة،و عدّ منها مصحفا لا يقرأ فيه (2).
ه-
و روى ابن ماجة،و غيره،عن أنس مرفوعا: «سبع يجري للعبد أجرهن بعد موته،و هو في قبره،و عدّ منهن:من ورث مصحفا» (3).
و-
و عن ابن عمر،قال نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يسافر بالمصاحف إلى أرض العدو،مخافة أن ينالوها، و في لفظ آخر: نهى أن يسافر بالمصحف إلى أرض العدو (4).
فهذه الأحاديث و أمثالها-إن صحت-دليل صريح على وجود جمعي و كيان تأليفي للقرآن في مصحف،بل في المصحف نفسه.1.
ص: 80
و الزركشي مع قوله:إن القرآن كان على هذا التأليف و الجمع في زمن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلا أنه يعقب عليه بقوله:و إنما ترك جمعه في مصحف واحد،لأن النسخ كان يرد على بعض،فلو جمعه ثم رفعت تلاوة بعض، لأدى إلى الاختلاف،و اختلاط الدين» (1).
فيرده التصريح بالجمع فيما تقدم من روايات و أدلة و أمارات يقطع العقل بصحبتها،و التحقيق العلمي يقتضي أن يكون القرآن كله قد كتب و جمع في عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما يرى ذلك ابن حجر (2).
أما تعليله عدم جمع القرآن في مصحف بنسخ تلاوة،فمعارض و مطروح بمناقشة المسألة أصلا و موضوعا،إذ لا نسخ تلاوة في الكتاب الكريم،و القول بنسخ التلاوة هو عين القول بالتحريف،و لا تحريف بالكتاب إجماعا،فالآية حينما تنزل فهي قرآن سواء نسخت أو لم تنسخ، و رفعها من القرآن يعني ما هو قرآن.
و على فرض وجود النسخ المدعى،فالإشكال نفسه يرد بالنسبة للحفظ و الاستظهار،فحفاظ القرآن أكثر من أن يحصوا،فإذا نزل الناسخ للتلاوة وقع ذات الإشكال،و صعب إزالة ما هو محفوظ في الصدور،بينما لو ثبت كتابة،لكان الرفع و الإزالة أيسر ذلك بالإشارة إلى مواضعها و هو أبرم للأمر كما هو ظاهر.
و في ضوء ما تقدم،لا نميل إلى الرأي القائل بأن القرآن لم يجمع في مصحف واحد،لئلا يرد الناسخ فيؤدي إلى الاختلاف.
و الذي يلفت النظر حقا من جراء الاعتقاد أو التصور بأن أبا بكر (رض)قد جمع القرآن في مصحف،هو مصير هذا القرآن المجموع،فليس بين أيدينا رواية واحدة تتحدث عن هذا القرآن بأنه قد جمع للمسلمين،أو9.
ص: 81
جعل قيد الاستعمال،أو استنسخ منه و لو نسخة واحدة إلى مكة مثلا،و هي حرم اللّه،و قد بقي هذا الحرم فيما يزعم دون قرآن يقرأ أو يتعلم أو يستظهر فيه.
و أغلب الظن إذا صحت روايات الجمع المدعى،فإن أبا بكر قد جمع لنفسه قرآنا في مصحف كما جمع غيره من الصحابة،و إلا فلو جمعه للمسلمين،و ليس للمسلمين في قرآن مجموع لكان من الضرورة الملحة بمكان أن لا يغيب عن ظنه احتياج المسلمين لعدة نسخ منه على الأقل، كما فعل عثمان فيما بعد،أو لأوضح بأنه القرآن الرسمي للدولة التي يقوم على رأسها،و لو اعتذر بأن حياته لم تطل،لكان من الواجب على عمر تنفيذ ذلك.
و الأغرب من هذا كله أنه لم يحدثنا التأريخ أن أحدا في عهد أبي بكر و عمر قد استنسخ من هذا القرآن شيئا،مما اضطر فيه الدكتور دراز أن يعبر عن رأيه فيه بقوله:«و لكن رغم قيمة هذا المصحف العظيمة،و رغم ما يستحقه من العناية التي بذلت في جمعه،فإن مجرد بقائه محفوظا بعناية عند الخليفتين الأولين أسبغ عليه الطابع الفردي أو الشخصي بعض الشيء، و لم يصبح وثيقة للبشر كافة إلا من يوم نشره،و لكن فرصة نشره لم تتح إلا في خلافة عثمان بعد معارك أرمينية و أذربيجان» (1).
على أن ما صرح به الحاكم في المستدرك أن ذلك كان جمعا في المصحف لا في المصحف إذ قال:«فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه اللّه ثم عند عمر حياته،ثم عند حفصة بنت عمر» (2).
و قد قطع ابن أبي داود بأنها صحف في عدة مواضع من كتابه (3).
و دراز و إن اعتبر ما جمعه أبو بكر بحسب الروايات التي ناقشناها، مصحفا إلا أنه أرجعه إلى عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالطريقة التي عبر عنها بقوله:خ.
ص: 82
«و لا يفوتنا أن ننبه هنا إلى أن آيات مصحف حفصة لا ترجع إلى الخليفة الأول،و إنما ترجع بنصها الكامل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم» (1).
و مهما يكن من أمر،فقد أورد ابن حجر،بناء على صحة بعض الروايات في شأن الكتابة قوله:«و لم يأمر أبو بكر إلا بكتابه ما كان مكتوبا» (2).
و هذا هو الاستنساخ بعينه،و لا مانع أن يستنسخ أبو بكر لنفسه مصحفا شأن بقية الصحابة.و قد أيد ذلك ابن شهاب بقوله:«إن أبا بكر الصديق كان جمع القرآن في قراطيس،و قد سأل زيد بن ثابت النظر في ذلك فأبى حتى استعان عليه بعمر ففعل» (3).
فهذه الرواية تدل صراحة أن أبا بكر قد جمعه في قراطيس،و قد طلب من زيد باعتباره من كتاب الوحي أن ينظر فيه لتقويمه،و لا دلالة فيه على جمع مصحفي،و إلى تصديه لذلك.
و لا يفوتنا التنبيه أن جملة من الرواة يعتبرون الجمع إنما تم في عهد عمر لا أبي بكر.و منه ما أخرجه بن أبي داود عن طريق الحسين، أن عمر سأل عن آية من كتاب اللّه،فقيل:كانت مع فلان،قتل يوم اليمامة،فقال:«إنا للّه ثم أمر بالقرآن فجمع،فكان أول من جمعه في المصحف» (4).
و في رواية أخرى،قال ابن إسحاق:لما جمع عمر بن الخطاب المصحف.و في نص آخر:لما أراد عمر أن يكتب الإمام (5).
و لم يكتف هؤلاء بترك القرآن متناثرا في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أبيه.
ص: 83
بكر،حتى قالوا بجمعه في عهد عمر،مما فتح باب القول للمستشرقين في ذلك،فقد أيد«شواللي»الشك في صحة الرواية القائلة:بأن أبا بكر هو الذي أمر بجمع القرآن (1).
و قال بروكلمان:«و مما يحتمل كثيرا من الشك ما ذكرته الرواية من أن معركة اليمامة الحاسمة مع مسيلمة سنة 12 ه663/ م التي قتل فيها عدد كبير من قراء الصحابة،هي التي قدمت الداعي إلى جمع القرآن...
على أن الخليفة عمر هو الذي أمر زيد بن ثابت-و كان شابا مدنيا كتب كثيرا للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم-أن يقوم بجمع القرآن و كتابات الوحي.و بقي هذا المجموع في حوزة عمر،ثم ورثته حفصة.و لعل هذا المجموع الأول كان صحفا متناثرة» (1).
و أغرب مما تقدم ما أخرجه بن أشتة،قال:«مات أبو بكر و لم يجمع القرآن،و قتل عمر و لم يجمع القرآن» (2).
و كل هذه الاعتبارات بما فيها ما أكد المستشرقون تتضمن تلويحا خفيا بل تصريحا جليا بأن القرآن قد مرت عليه عهود و عصور و هو بعد لم يدون،و إنما دون بعد ذلك اعتمادا على نصوص قد تكون ناقصة أو ممزقة،و على روايات شفوية قابلة للخطأ و السهو و النسيان،للقول من وراء هذا بالتحريف و هو ما نرفضه جملة و تفصيلا.
و إذا سلمنا بأن جمع القرآن قد تم بعهد الصحابة،و أنهم قد استشهدوا على إثباته بشاهدين (3)و أن آيات لم يجدوها إلا مع معينين بالذات،«فعن زيد قال:كتبت المصاحف فقدت آية كنت أسمعها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فوجدتها عند خزيمة بن ثابت الأنصاري.
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ...23 (4) و كذلك آية3.
ص: 84
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ...-128 (1) و غيرها و غيرها (2).
فلا يصح حينئذ عدّ آيات القرآن في أماكنها من السور،و لا السور من المصحف توقيفيا،و إنما هو باجتهاد من الصحابة،كما تدل عليه تضافر روايات الجمع في ذلك،و إذا قلنا بتوقيف الآيات في السور،و السور من المصحف،فلا بدّ أن نقول إن القرآن قد جمع على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو ما نميل إليه و نرجحه في ضوء ما تقدم.
قال البيهقي:و أحسن ما يحتج به أن يقال:إن هذا التأليف لكتاب اللّه مأخوذ من جهة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أخذه عن جبرائيل عليه السّلام (3).
و هناك ثلاثة مواقف تجلب الانتباه عند جملة من أرباب علوم القرآن، فهي تقدم رجلا و تؤخر أخرى،فلا تريد أن تقول إن القرآن لم يجمع بعهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و لا تريد أن تقول إن أبا بكر قد جمع القرآن سابقا إلى الموضوع.
الأول:عملية الاستنساخ التي صرح بها أبو عبد اللّه الحارث بن أسد المحاسبي(ت:243 ه)بقوله:«كتابة القرآن ليست بمحدثة فإنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يأمر بكتابته،و لكنه كان مفرقا في الرقاع و الأكتاف و العسب،و إنما أمر الصديق بنسخها من مكان إلى مكان،و كان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيها القرآن منتشر،فجمعها جامع،و ربطها بخيط حتى لا يضيع منها شيء» (4).
الثاني:ما ورد في المقدمة الأولى في علوم القرآن بإجمال على شكل فتوى تارة،و تحذير تارة أخرى،في قوله:«و من زعم أن بعض القرآن سقط على المسلمين وقت جمع المصحف،و أن السور ضم بعضها إلى بعض بالمشورة و الرأي فقد أعظم على اللّه الفرية،لأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يملي كلما نزل من القرآن على كتابه أولا بأول،ميلا إلى حفظه1.
ص: 85
و صيانته،فحفظ القرآن من أوله إلى آخره على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم» (1).
الثالث:موقف الزركشي المتردد بين السلب و الإيجاب فيما رد به توهم بعض الناس أن القرآن لم يجمع بعهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم متبيّنا رأي الحارث المحاسبي بقوله:و في قول زيد بن ثابت:فجمعته من الرقاع و الأكتاف و صدور الرجال ما أوهم بعض الناس أن أحدا لم يجمع القرآن في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أن من قال:إنه جمع القرآن أبيّ بن كعب و زيد ليس بمحفوظ.و ليس الأمر على ما أوهم،و إنما طلب القرآن متفرقا ليعارض بالمجتمع عند من بقي ممن جمع القرآن ليشترك الجميع في علم ما جمع فلا نصيب أحد عنده منه شيء،و لا يرتاب أحد فيما يودع المصحف،و لا يشكو في أنه جمع عن ملأ منهم» (2).
و في ضوء ما تقدم يجب أن ندع التشريق و التغريب جانبا،في قضية جمع القرآن،و أن نخضع للواقع الموضوعي و الجرأة العلمية فنقول إن القرآن جمع و دوّن كاملا بكل حيثياته و جزئياته في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و بأمر من الوحي،و بإشارة من القرآن نفسه،ما دام هناك أثر قطعي من كتاب أو سنة أو عقل أو جماع،فلا نركن إلى روايات آحاد لا تبلغ حد الشهرة فضلا عن التواتر الذي لا يثبت القرآن إلا به بإجماع المسلمين، و أن نعتبر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مسئولا أمام الوحي عن جمع القرآن و تدوينه، كمسئوليته عن نشره و تبليغه،و فيما قدمناه من دلائل و براهين و روايات إثبات لما نتبناه.
نعم لا شك أن عثمان قد جمع القرآن في زمانه،لا بمعنى أنه جمع الآيات و السور في مصحف،بل بمعنى أنه جمع المسلمين على قراءة إمام واحد،و أحرق المصاحف الأخرى التي تخالف مصحفه،و كتب إلى البلدان أن يحرقوا ما عندهم منها،و نهى المسلمين عن الاختلاف في القراءة (3).8.
ص: 86
فقد أخرج ابن أشتة قال:اختلفوا في القراءة على عهد عثمان حتى اقتتل الغلمان و المعلمون،فبلغ ذلك عثمان بن عفان،فقال:عندي تكذبون به و تلحنون فيه،فمن نأى عني كان أشد تكذيبا،و أكثر لحنا.يا أصحاب محمد اجتمعوا فاكتبوا للناس إماما،فاجتمعوا فكتبوا (1).
هذا فيما شاهد عثمان في المدينة المنورة من الاختلاف في القراءات و الوجوه و اللغات،فاقتصر من سائرها على لغة قريش لأن القرآن نزل بلغتهم.
و قد يبدو من رواية أخرى أكثر شيوعا أن الاختلاف امتد إلى الثغور بين الأجناد فطعن بعضهم البعض بقراءة البعض الآخر،فهال هذا الأمر حذيفة بن اليمان،و كان يغازي أهل الشام في أرمينية و أذربيجان مع أهل العراق،فأشار على عثمان أن يدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب كما اختلف اليهود و النصارى ففزع عثمان لذلك و صمم على جمع الناس على إمام واحد (2).
و كان هذا الأمر غيرة من حذيفة على القرآن،و استجابة من عثمان لصيانة القرآن.
و سأل عثمان:أي الناس أفصح؟قالوا:سعيد بن العاص،قال:أي الناس أكتب؟قالوا زيد بن ثابت،قال:فليكتب زيد،و ليمل سعيد،فكتب مصاحف فقسمها في الأمصار (3).
و يستدل في كثير من الروايات أن هذا الترتيب و الجمع على قراءة واحدة و في مصحف واحد كان على ملأ من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و بمشاورة من أهل القرآن (4).4.
ص: 87
و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يلقن أصحابه و يعلمهم ما ينزل عليه من القرآن على الترتيب الذي هو الآن في مصاحفنا بتوقيف جبريل عليه السلام إياه على ذلك،و إعلامه عند نزول كل آية أن هذه الآية تكتب عقيب آية كذا في السورة التي يذكر فيها كذا،و روي معنى هذا عن عثمان بالذات (1).
قال الحارث بن أسد المحاسبي(ت:243 ه):
«و المشهور عند الناس أن جامع القرآن عثمان رضي اللّه عنه،و ليس كذلك،إنما حمل عثمان الناس على القراءة بوجه واحد على اختيار وقع بينه و بين من شهده من المهاجرين و الأنصار لما خشي الفتنة عند اختلاف أهل العراق و الشام في حروف القراءات و القرآن.و أما قبل ذلك فقد كانت المصاحف بوجوه من القراءات المطلقات على الحروف السبعة التي أنزل بها القرآن» (2).
و في عقيدتي أن أهم الأعمال التي قام بها عثمان هو جمع الناس على حرف واحد،فقد قطع به دابر الفتنة و الخلاف،و فيه جرأة كبيرة تحدي بها كثيرا من الصعوبات.
يقول الدكتور طه حسين:
«و ليس من شك في أن ما أقدم عليه عثمان من توحيد المصحف و حسم هذا الاختلاف،و حمل المسلمين على حرف واحد،أو لغة واحدة يقرءون بها القرآن،عمل فيه كثير من الجراءة،و لكن فيه من النصح للمسلمين أكثر مما فيه من الجراءة.فلو قد ترك عثمان الناس يقرءون القرآن قراءات مختلفة بلغات متباينة في ألفاظها،لكان هذا مصدر فرقة لا شك فيها،و لكان من المحقق أن هذه الفرقة حول الألفاظ ستؤدي إلى فرقة شر منها حول المعاني بعد أن كان الفتح،و بعد أن استعرب الأعاجم، و بعد أن أخذ الأعراب يقرءون القرآن» (3).ا.
ص: 88
و حينما تمّ توحيد المصحف على الشكل المقرر استنسخ عثمان منه عدة مصاحف أرسل بها إلى الأمصار.
و اختلف في عدة هذه المصاحف،فقيل أربعة،و المشهور أنها خمسة (1)و أخرج أبو داود عن أبي حاتم السجستاني:أنها سبعة مصاحف، فأرسل إلى مكة و إلى الشام و إلى اليمن و إلى البحرين و إلى البصرة و إلى الكوفة،و حبس بالمدينة واحدا» (2).
و هذا العدد أوعى في توحيد القراءة لاستيعابه كبريات الآفاق الإسلامية آنذاك،فيما دامت المهمة بهذا الاتجاه،فالأنسب التوسع في استنساخ جملة من المصاحف تؤدي الهدف بعناية شمولية.
و أيا كان عدد هذه المصاحف،فقد كانت الأساس لاستنساخ آلاف المصاحف في الديار المترامية الأطراف،موحدة منظمة مؤصلة،اشتملت على القرآن بجزئياته و حيثياته كافة،دون زيادة أو نقصان،أو تغيير أو تحريف،بل هي من الوثوق بكونها عين القرآن الذي أنزل على الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بجميع خصوصياته في التنزيل و الترتيب و التوقيف.
و ليس أدل على ذلك من شهادة أعلام المستشرقين في تأكيد هذه الحقيقة العلمية مع ابتعادهم عن كثير من ضروريات الإسلام،و لكنه الحق الذي يفرض ذاتيته و موضوعيته في أغلب الأحيان.
قال السير وليم موير:«إن المصحف الذي جمعه عثمان قد تواتر انتقاله من يد ليد حتى وصل إلينا بدون أي تحريف.و لقد حفظ بعناية شديدة بحيث لم يطرأ عليه أي تغيير يذكر،بل نستطيع أن نقول إنه لم يطرأ عليه أي تغيير على الإطلاق في النسخ التي لا حصر لها و المتداولة في البلاد الإسلامية الواسعة» (3).
و لم يكن اختلاف المسلمين في الفروع و الجزئيات مانعا من إجماعهمه.
ص: 89
المنقطع النظير على توثيق كل تفاصيل القرآن من ألفه إلى يائه.
و لقد كان الأستاذ لو بلوا موضوعيا حينما أكد بقوله:«إن القرآن هو اليوم الكتاب الرباني الوحيد الذي ليس فيه أي تغيير يذكر» (1).
و حينما تم إقرار المصحف الإمام،و استنسخت المصاحف في ضوئه،و سيرت إلى الآفاق-و كان ذلك في سنة خمس و عشرين من الهجرة النبوية (2).-أنس عثمان بصنيعه هذا،و عمد إلى توثيقه و تفرده بصيغتين:
الأولى:إرساله من يثق المسلمون بحفظه و إقرائه مع مصحف كل إقليم بما يوافق قراءته و كان ذلك موضع اهتمام منه في أشهر الأقاليم، فكان زيد بن ثابت مقرئ المصحف المدني،و عبد اللّه بن السائب مقرئ المصحف المكي،و المغيرة بن شهاب مقرئ المصحف الشامي،و أبو عبد الرحمن السلمي مقرئ المصحف الكوفي،و عامر بن عبد القيس مقرئ المصحف البصري (3).
الثانية:أمره بما سواه من القرآن في كل صحيفة و مصحف أن يحرق (4).
و كان هذا العمل مدعاة للنقد حينا،و مجالا للتشهير به حينا آخر حتى قال الخوئي:
«و لكن الأمر الذي انتقد عليه هو إحراقه لبقية المصاحف،و أمره أهالي الأمصار بإحراق ما عندهم من المصاحف،و قد اعترض على عثمان في ذلك جماعة من المسلمين،حتى سموه بحراق المصاحف» (5).
و قد عقب على ذلك الدكتور طه حسين بقوله:«و ربما تحرج بعض المسلمين من تحريق ما حرّق عثمان من المصحف،و لم يقبلوا اعتذاره8.
ص: 90
بحسم الفتنة و قطع الخلاف.و لو قد كانت الحضارة تقدمت بالمسلمين شيئا لكان من الممكن أن يحتفظ عثمان بهذه الصحف التي حرقها على أنها نصوص محفوظة لا تتاح للعامة،بل لا تكاد تتاح للخاصة،و إنما هي صحف تحفظ ضنا بها على الضياع.و لكن المسلمين لم يكونوا قد بلغوا في ذلك العصر من الحضارة ما يتيح لهم تنظيم المكتبات و حفظ المحفوظات،و إذا لم يكن على عثمان جناح فيما فعل لا من جهة الدين و لا من جهة السياسة،فقد يكون لنا أن نأسى لتحريق تلك الصحف؛لأنه إن لم يكن قد أضاع على المسلمين شيئا من دينهم،فقد أضاع على العلماء و الباحثين كثيرا من العلم بلغات العرب و لهجاتها،على أن الأمر أعظم خطرا و أرفع شأنا من علم العلماء،و بحث الباحثين عن اللغات و اللهجات» (1).
و مهما يكن من رأي حول هذا الموضوع،فإن من المقطوع به أن المصحف العثماني هو النص القرآني الوحيد الذي عليه عمل المسلمين في مشارق الأرض و مغاربها،و هو الكتاب المقدس الوحيد الذي أحيط بعناية و رعاية خاصة،حتى نقل بالتواتر القطعي جيلا بعد جيل.
و يبدو أن بعض نسخ المصحف العثماني،قد كانت معروفة في القرن الثامن الهجري،فالحافظ ابن كثير(ت:774 ه)يقول:
«أما المصاحف العثمانية الأئمة فأشهرها اليوم الذي في الشام بجامع دمشق عند الركن شرقي المقصورة المعمورة بذكر اللّه،و قد كان قديما بمدينة طبرية ثم نقل منها إلى دمشق في حدود 518 ه،و قد رأيته كتابا عزيزا جليلا عظيما ضخما بخط حسن مبين قوي،بحبر محكم،في رق أظنه من جلود الإبل» (2).
قال أبو عبد اللّه الزنجاني:«و مصحف الشام رآه ابن فضل اللّه العمري في أواسط القرن الثامن الهجري فهو يقول في وصف مسجد دمشق:(و إلى جانبه الأيسر المصحف العثماني)و يظن قويا أن هذا.
ص: 91
المصحف هو الذي كان موجودا في دار الكتب في لنين غراد و انتقل إلى إنكلترا» (1).
و قد تتبعت هذا الأمر في المتحف البريطاني فلم أظفر بحصيلة يطمئن إليها بوجود هذا المصحف.
نعم هناك عدة مصاحف في دار الكتب المصرية،مكتوبة بالخط الكوفي،و لكن الزخارف و النقوش توحي بأنها لا علاقة لها بأية نسخة من المصاحف العثمانية.7.
ص: 92
ص: 93
ص: 94
هناك اتجاهان رئيسيان في شأن نشوء القراءات القرآنية و مصادرها.
الأول:أن المصحف العثماني قد كتب مجردا عن الشكل و النقط و الإعجام،فبدا محتمل النطق بأحد الحروف المتشابهة في وجوه مختلفة، فنشأت نتيجة ذلك القراءات المتعددة للوصول إلى حقيقة التلفظ بتلك الألفاظ المكتوبة،ضبطا لقراءة القرآن على وجه الصحة و كما نزل.و في هذا الضوء تكون القراءات القرآنية اجتهادية فيما احتمل موافقته للصحة من جهة الرسم القرآني أو العربية،و قد تكون روائية في إيصال النص القرآني مشافهة عن طريق الإسناد،فيصحح الرسم القرآني في ضوء الإسناد الروائي.
الثاني:أن منشأ ذلك هو التوصل بالرواية المسندة القطعية المرفوعة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في كيفية القراءة القرآنية إلى النطق بآيات القرآن الكريم كما نطقها،و كما نزلت عليه وحيا من اللّه تعالى،بغض النظر عن كتابة المصحف الشريف،و في هذا الضوء فهي الطرق المؤدية بأسانيدها المختلفة حتى تتصل بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و إذا كان الأمر كذلك، و تحققت هذه الطرق بالأسانيد الصحيحة الثابتة،فالقراءات متواترة و ليست اجتهادية.
و قد ادعى المستشرق المجري جولد تسهير أن نشأة القراءات كانت بسبب تجرد الخط العربي من علامات الحركات،و خلوه من نقط الإعجام (1).ا.
ص: 95
و تابعه على هذا المستشرق الألماني الأستاذ كارل بروكلمان فقال:
«حقا فتحت الكتابة التي لم تكن قد وصلت بعد إلى درجة الكمال، مجالا لبعض الاختلاف في القراءة،لا سيما إذا كانت غير كاملة النقط، و لا مشتملة على رسوم الحركات،فاشتغل القرّاء على هذا الأساس بتصحيح القراءات و اختلافها» (1).
و قد أكد بروكلمان هذا المعنى فيما بعد و قال:«جمع عثمان المسلمين على نص قرآني موحد،و هذا النص الذي لم يكن كاملا في شكله و نقطه،كان سببا في إيجاد اختلافات كثيرة،و لذلك ظهرت عدة مدارس في بعض مدن الدولة الإسلامية،و بخاصة في مكة و المدينة و البصرة و الكوفة،استمرت كل منها في رواية طريقة للقراءة و النطق،معتمدة في ذلك على أحد الشيوخ...و لقد تبين على مر الزمن أن الدقة في الرواية الشفوية،التي كانت مرعية في بادئ الأمر،لا يمكن اتباعها دائما بسبب عدد من الأشياء الصغيرة التي وجب المحافظة عليها» (2).
و مع أن هذا الرأي قد لقي نقدا و تجريحا من قبل بعض الدارسين العرب (3).إلا أنه لقي بالوقت نفسه تأييدا من قبل آخرين أمثال الدكتور جواد علي و الدكتور صلاح الدين المنجد (4).لما يحمله في طياته من بعض وجوه الصحة.
لقد كان الاختلاف في القراءة شائعا،فأراد النص التدويني للمصحف العثماني،قطع ذلك الاختلاف،فكان سبيلا إلى التوحيد،و هذا لا يمانع أن ينشأ بعد هذا التوحيد بعض الخلاف الذي جاء اجتهادا في أصول الخط المكتوب،فنشأ عنه قسم من القراءات.
إن ما يستدل به حول تفنيد موقع الكتابة المصحفية من نشوء بعض2.
ص: 96
القراءات يكاد ينحصر بالاستدلال
بحديث: (إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف،فاقرءوا ما تيسر منه) (1)ليقال بأن الاختلاف روائي و ليس كتابيا،و الحق أن المسلمين إلى اليوم لم يصلوا إلى مؤدى هذه الرواية، و لا يمكن أن يحتج بغير الواضح،فما زال الخلاف قائما في معنى هذا الحديث و ترجمته،على أنه معارض-كما سترى-بحديث إنزال القرآن على حرف واحد.على أنه لا دلالة في هذه الحروف السبعة على القراءات السبعة إطلاقا،و إذا كان القرآن قد نزل على سبعة أحرف.
فالإنزال-حينئذ-توقيفي،و وجب على اللّه تعالى حفظه و صيانته،لأنه ذكر،و الذكر قرآن،و القرآن مصان لقوله تعالى: إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ-9 (2).
و لقائل أن يتساءل:أين هذه الأحرف السبعة في القرآن،و هلا يدلنا أحد عليها،و لم يتفق المفسرون بل المسلمون على المعنى المراد من هذه الأحرف،و لا يصح الاحتجاج بما لا يفهم معناه،و لا يقطع بمؤداه،إذ هو احتجاج بما لا يعرف،و أخذ بما لا يراد،و اعتماد على ما لا يبين، و الالتزام بهذا باطل دون ريب.
و إذا كانت الأحرف السبعة منزلة من قبل اللّه تعالى بواسطة الوحي الذي أوحاه الروح الأمين جبرائيل عليه السّلام،فمعنى ذلك أنها من القرآن الإلهي،و إلا فمن التشريع الإلهي الذي لا يرد و لا ينقض إلا أن ينسخ، و ما ادعى أحد بنسخ ذلك من القائلين به.
و قد يقال-مع عدم وضوح الدلالة-أن هذه الأحرف مما خفف به عن الأمة لوجود الشيخ و الصبي و العجوز و ما إلى ذلك كما في بعض الروايات (3).
و إذا كان ذلك مما خفف به عن الأمة،فكيف يجوز لأحد أن يشدد عليها،و إذا كان ذلك للرحمة فكيف صح لعثمان(رض)أن يتجاوز هذه9.
ص: 97
الرحمة،و يجمع المسلمين على حرف واحد،ثم ما عدا مما بدا؟فإن كان في المسلمين الأوائل من يعجز عن تلاوة القرآن حق تلاوته،أو أن ينطق به كما نزل فتجوّز بالأحرف السبعة تيسيرا،و هم أبلغ العرب،فما بال المسلمين في عصر عثمان،و ما ذنبنا نحن في هذا العصر الذي انطمست به خصائص العربية حتى شدد علينا في حرف واحد.
و لسنا بصدد دفع هذا الحديث الآن،و لكننا بصدد ردّ دعوى من لا يرى للخط المصحفي أي أثر في تعدد القراءات و اختلافها،إذ لو كان الأمر كذلك لما كانت موافقة خط المصحف أساسا لقراءات عدة،و ميزانا للرضا و القبول و الاعتبار،و ما ذلك إلا لتحكم الخط بالقراءة.و لا نريد أن نتطرف فنحكم بأن الخط المصحفي هو السبب الأول و الأخير في تفرع القراءات القرآنية،و لكن نرى أن جزءا كبيرا من اختلاف القراءات قد نشأ عن الخط المصحفي القديم،باعتباره محتملا للنطق بوجوه متعددة.
قال القسطلاني(ت:923 ه)مشيرا إلى ذلك:«ثم لما كثر الاختلاف فيما يحتمله الرسم،و قرأ أهل البدع و الأهواء بما لا يحل لأحد تلاوته،وفاقا لبدعتهم...رأى المسلمون أن يجمعوا على قراءات أئمة ثقات تجردوا للأغنياء بشأن القرآن العظيم» (1).
و تابعه على هذا الدمياطي البنا(ت:1117 ه)و صرح بالأسباب ذاتها (2).
فقد كان لاحتمال الرسم،ما تطاول به أهل البدع فيقرئون بما لا تحل تلاوته،و لا تصح قراءته،و معنى هذا أن قراءات ما قد نشأت عن هذا الملحظ،فاحتاط المسلمون لأنفسهم بقراءات أئمة ثقات لدفع القراءات المبتدعة.
و قد يقال:بأن الاختلاف في القراءات مما شاع في حياة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذكره،و أن هذه القراءات السبع أو العشر أو الأكثر إنما تبرز بالمشافهة تلك5.
ص: 98
القراءات كما كانت في عهد الرسول الأعظم،و نحن و إن كنا لا ننكر جزءا ضئيلا من هذا،إلا أن الواقع المرير لتلك الروايات القائلة باختلاف القراءات في عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا تستند إلى حقيقة تأريخية معينة يصرح فيها بنوعية هذا الاختلاف في القراءة،و لا تعطينا نماذج مقنعة بكيفية هذه القراءات المختلفة،بل تذهب مذاهب التعميم الفضفاض الذي لا يقره المنهج العلمي،و ذلك أن الاختلاف المدعي في القراءات بعهد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يعرض بروايات،تنقصها الدقة و الوضوح و التحديد،فتارة يطلق فيها التجوز بالأحرف السبعة بما لا دلالة فيه كما تقدم،و تارة تنسب الاختلاف إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كأنه مصدر من مصادر الفرقة في القراءات بينما العكس هو الصحيح لما رأيناه-فيما سبق-أن الاختلاف في القراءات جر المسلمين إلى صراع داخلي و نزاع هامشي تحسس الصحابة إلى خطره على القرآن فجمعوهم على قراءة واحدة (1).
و تارة تدعي هذه الروايات أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أقرأ هذه بقراءة،و غيره بقراءة أخرى،و حينا يدعى بأن أحد الصحابة قد سمع من صحابي مثله قراءة ما، لسورة ما،تختلف عما سمعه هو من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثم تحاكموا للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فصحّح القراءتين،أما:ما هي هذه السورة المختلفة الحروف،و ما هو عدد آياتها المتعددة القراءة،و ما هي كيفية هذا الاختلاف و نوعية فروقه،فلم يصرح بجميع ذلك،مما يجعلها روايات قابلة للشك،و مع حسن الظن بالرواة فإن رواياتهم تلك قد تعبر عن السهو و الاشتباه.
إننا لا ننكر الاختلاف في القراءات بعهد مبكر،فباستعراض تأريخ الموضوع يبدو أن تمايز القراءات كان موجودا قبل توحيد القراءة زمن عثمان،فقد أشير إلى كثرة الاختلاف بعهده،حتى قال الناس:قراءة ابن مسعود،و قراءة أبي و قراءة سالم (2).
و لكننا نبقى مصرين أن وجهة التعميم في الروايات تبقى هي المسيطرة،و عدم وضوح الرؤية يظل مخيما،إذ أننا نحتاج بمثل هذا4.
ص: 99
الموضوع الخطير إلى الجزئيات و الدقائق لنضع النقاط على الحروف،لهذا نرفض جملة هذه الروايات،و نتهم أصحابها،كما اتهمهم من سبقنا إلى الموضوع.
أورد أبو شامة عن زيد بن أرقم قال: «جاء رجل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال:أقرأني عبد اللّه بن مسعود سورة أقرأنيها زيد،و أقرأنيها أبيّ بن كعب،فاختلفت قراءتهم،بقراءة أيهم آخذ؟فسكت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال:
و علي عليه السّلام إلى جنبه،فقال علي:ليقرأ كل إنسان كما علم،كل حسن جميل..» (1).
و قد ذكر الطبري هذه الرواية،و تعقبه الأستاذ أحمد محمد شاكر في تعليقه فقال:
«هذا حديث لا أصل له،رواه رجل كذاب،هو عيسى بن قرطاس، قال فيه ابن معين:ليس بشيء لا يحل لأحد أن يروي عنه.و قال ابن حبّان:يروي الموضوعات عن الثقات،لا يحل الاحتجاج به.و قد اخترع هذا الكتاب شيخا له روى عنه و سماه:زيد القصار،و لم نجد لهذا الشيخ ترجمة و لا ذكرا في شيء من المراجع..» (2).
و بعد هذا،فليس هناك مسوغ على الإطلاق أن نأخذ بكل رواية على علاتها دون تمحيص،و دون تجويز الافتراء على الضعفاء من الرواة.
قال الإمام محمد الباقر عليه السّلام: «إن القرآن واحد نزل من عند واحد و لكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة» (3).
و في شأن الحروف السبعة المدعاة،و إن كان لا علاقة لها بالقراءات،إلا أن البعض حملها على ذلك،بينما
ورد عن الفضل بن يسار قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام(يعني الإمام جعفر الصادق):إن الناس يقولون:إن القرآن نزل على سبعة أحرف،فقال:كذبوا،أعداء اللّه،2.
ص: 100
و لكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد» (1).
و قد يقال بأن مصدر القراءات هو اللهجات،و لا علاقة لها إذن بصحة السند،و موافقة كتابة المصحف،بل الأساس ارتباطها ببعض العرب في لغاتهم القبلية،و إلى هذا المعنى يشير السيوطي بما أورده أبو شامة عن بعضهم:
«أنزل القرآن بلسان قريش ثم أبيح للعرب أن يقرءوه بلغاتهم التي جرت عاداتهم باستعمالها على اختلافهم في الألفاظ و الأعراب» (2).
و قد سبق بذلك ابن قتيبة بما تحدث به عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:فكان من تيسيره أن أمره اللّه بأن يقرئ كل قوم بلغتهم،و ما جرت عليه عادتهم...
و لو أن كل فريق من هؤلاء أمر أن يزول عن لغته و ما جرى عليه اعتياده طفلا و ناشئا و كهلا،و لاشتد ذلك عليه،و عظمت المحنة فيه» (3).
و قد تبني هذا الرأي الدكتور طه حسين،فاعتبر اختلاف اللهجات بين قبائل العرب التي لم تستطع أن تغير حناجرها و ألسنتها و شفاهها لتقرأ القرآن كما كان يتلوه النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عشيرته قريش،اعتبر ذلك أساسا لاختلاف القراءات،فقرأته هذه القبائل كما كانت تتكلم،فأمالت حيث لم تكن تميل قريش،و مرت حيث لم تكن تمر،و قصرت حيث لم تكن تقصر،و سكنت، و أدغمت،و أخفت،و نقلت (4).
و هو بهذا يريد أن ينتهي إلى أن اللهجات هي مصدر القراءات،و هو ينكر تواترها،و ينعى على من رتب أحكاما عريضة على نكرانها،فيقول:
«و هنا وقفة لا بدّ منها،ذلك أن قوما من رجال الدين فهموا أن هذه القراءات السبع متواترة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نزل بها جبرئيل على قلبه،فمنكرها كافر من غير شك و لا ريبة...و الحق أن ليست هذه القراءات السبع من5.
ص: 101
الوحي في قليل و لا كثير،و ليس منكرها كافرا،و لا فاسقا،و لا مغتمزا في دينه،و إنما هي:قراءات مصدرها اللهجات و اختلافها...فأنت ترى أن هذه القراءات إنما هي مظهر من مظاهر اختلاف اللهجات» (1).
و لقد جهد المحققون منذ القرن الأول للهجرة حتى عهد ابن مجاهد (ت:324 ه)و هو موحد القراءات أو مسبعها إن صح التعبير،في دراسة ظواهر القراءات القرآنية،متواترها،و مشهورها،و شاذها،فارجعوا جزءا من الاختلاف في القراءة إلى مظهر من مظاهر اللهجات العربية المختلفة، و عادوا بجملة من الألفاظ إلى استعمال جملة من القبائل،ذلك مما يؤيد وجهة النظر في عامل اللهجات،و الاستئناس به عاملا مساعدا في تعدد القراءات،و للسبب ذاته فإن تلاشي اللهجات،و توحيدها بلهجة قريش،قد ساعد أيضا على تلاشي و اضمحلال كثير من جزئيات هذه القراءات و عدم إساغتها منذ عهد مبكر،بل إن توحيد القرآن للغة العرب على لغة قريش، و قصرهم عليها كان أساسا جوهريا في إذابة ما عداها من لغات،مما أزاح تراكما لغويا يبتعد عن الفصحى ابتعادا كليا،فلا تجد بعد ذلك عنعنة تميم،و لا عجرمية قيس،و لا كشكشة أسد،و لا ثلثلة نهراء،و لا كسكسة ربيعة،و لا إمالة أسد و قيس،و لا طمطمانية حمير.
و في ضوء ما تقدم يمكننا أن نخرج برأي جديد نخالف فيه من سبقنا إلى الموضوع،فنعتبر كلا من شكل المصحف،و طريق الرواية إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و تعدد اللهجات العربية،قضايا ذات أهمية متكافئة باعتبارها مصادر من مصادر القراءات،كلا لا يتجزأ،و إلا فهي-على الأقل- أسباب عريضة في نشوء القراءات و مناهج اختلافها.
و للتدليل على صحة هذا لا بد لنا من الوقوف عند أدلته وقفة مقنعة، إن لم تكن دامغة.
لا شك أن اختلاف مصاحف الأمصار في الرسم،و ما نشأ عنه من اختلاف أهل المدينة و أهل الكوفة،و أهل البصرة،و أهل الشام في القراءة،6.
ص: 102
إنما كان مصدره الشكل المصحفي الذي استنسخ عن المصحف الإمام.
و هي اختلافات لا نقطع بمصدرها الكتابي،بل نرجحه،لما ثبت تأريخيا من تواتر نقله،و قد أحصى أبو داود ذلك في كتاب المصاحف إحصاء دقيقا (1).
و قد أيد هذا الرأي محمد بن جرير الطبري(في 310 ه)بما نقله عنه أبو شامة فقال:
«لما خلت تلك المصاحف من الشكل و الإعجام و حصر الحروف المحتملة على أحد الوجوه،و كان أهل كل ناحية من النواحي التي وجهت إليها المصاحف،قد كان لهم في مصرهم ذلك من الصحابة معلمون...
فانتقلوا عما بان لهم أنهم أمروا بالانتقال عنه مما كان بأيديهم،و ثبتوا على ما لم يكن في المصاحف الموجهة إليهم،مما يستدلون به على انتقالهم عنه» (2).
و ما دامت الروايات مختلفة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم-كما يقولون-فما المانع أن يكون الحدب على وصول هذه الروايات من مختلف الأسانيد سببا من تعدد هذه القراءات،سواء أ كانت تلك الروايات صحيحة أم ضعيفة،و قد أورد من هذا القبيل أبو شامة شواهد على الموضوع،يتحمل عهدتها (3).
و قد سبقه ابن عطية فأورد عدة روايات تؤكد كثرة الروايات عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على علاتها،و انتهى فيها إلى القول:
«ثم إن هذه الروايات الكثيرة لما انتشرت عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و افترق الصحابة في البلدان،و جاء الخلف،و قرأ كثير من غير العرب،و وقع بين أهل الشام و أهل العراق ما ذكر حذيفة...فقرأت كل طائفة بما روي لها» (4).
و ما دام للعرب لهجات و لغات،فلا ينتفي أن تكون هذه اللغات سببا1.
ص: 103
مباشرا في جزء من هذه القراءات،و قد قال عمر بن الخطاب(رض)مشيرا إلى قراءة أبيّ بن كعب:«إنا لنرغب عن كثير من لحن أبي،يعني لغة أبي» (1).
و قد أورد أبو شامة عن ابن جرير الطبري في(310 ه)ما يؤيد فيه هذا العامل فقال:
«فإن قيل:فما تقولون في هذه القراءات السبع التي ألفت بالكتب؟ قلنا:إنما أرسل أمير المؤمنين المصاحف إلى الأمصار الخمسة بعد أن كتبت بلغة قريش،فإن القرآن إنما نزل بلغتها،ثم أذن رحمة من اللّه تعالى، لكل طائفة من العرب أن تقرأ بلغتها على قدر استطاعتها،فلما صارت المصاحف في الآفاق غير مضبوطة و لا معجمة قرأها الناس فما أنفذوه منها نفذ،و ما احتمل وجهين طلبوا فيه السماع حتى وجدوه» (2).
و الطريف في رأي الطبري،و هو من قدامى المفسرين،أن يجمع هذه العوامل الثلاثة،فينص على اختلاف اللهجات،و يشير إلى شكل المصحف و إعجامه،و يؤكد جانب السماع في الروايات التي توصلوا فيها إلى نطق القرآن.
و عامل اللهجات،و إن محّص متأخرا،و تمحض له الدكتور طه حسين،إلا أنه عامل جدير بالتلبث و الترصد و الاستقراء في إثرائه جانب القراءات،و مواكبته لمسيرتها اللغوية.فما من شك أن القرآن قد نزل بلغة قريش،و هي أفصح لغات العرب،و حينما اختار اللّه تعالى لكتابه اللغة العربية،فلا ريب أن يقع الاختيار على الأفصح،و الأفصح لغة قريش، و هو الموروث اللغوي المقروء في القرآن،و يؤيده وصية عثمان للرهط القرشيين لدى استنساخ المصحف:«إذا اختلفتم أنتم و زيد بن ثابت بشيء من القرآن،فاكتبوه بلسان قريش،فإنما نزل بلسانهم» (3).
و في هذا الضوء يبدو أن عبد اللّه بن مسعود(رض)كان يقرئ الناس6.
ص: 104
بلغة قومه،و هم هذيل،و قد نهاه عمر(رض)عن ذلك بما ذكره أبو داود في سننه:«إن عمر كتب إلى ابن مسعود:أما بعد،فإن اللّه تعالى أنزل القرآن بلغة قريش،فإذا أتاك كتابي هذا فأقرئ الناس بلغة قريش،و لا تقرئهم بلغة هذيل» (1).
و يبدو أن مسألة اللهجات متسالم على أثرها في نشوء القراءات، و لكن سرعان ما توحدت هذه اللهجات بلغة القرآن،و هذا من بركات القرآن في الوحدة.
و تعدد القراءات أنى كان مصدره،مهما كان قياسه صحة أو شذوذا، فقد حدده الشيخ محمد بن الهيصم،و قال:«أما القراءات فإنها على ثلاثة أوجه:
1-أن يغلط القارئ فيقرأ على خلاف ما هو الخف،و ذلك ما لا يجوز أن يعتد به في قراءات القرآن،و إنما يرجع لومه على الغالط به...
2-أن يكون القرآن قد نزل على لغة،ثم خرج بعض القراء فيه إلى لغة من لغات العرب مما لا يقع فيه خلاف في المعنى،ترك النكير عليه تيسيرا و توسعة،فنقل ذلك،و قرأ به بعض القراء...
3-و الوجه الثالث من القراءات هو ما اختلف باختلاف النزول بما كان يعرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم القرآن على جبريل في كل شهر رمضان...فكان أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يتلقفون منه حروف كل عرض،فمنهم من يقرأ على حرف،و منهم من يقرأ على آخر،إلى أن لطف اللّه عزّ و جلّ بهم،فجمعهم على آخر العرض،أو على ما تأخر من عرضين أو ثلاثة،حتى لم يقع في ذلك اختلاف إلا في أحرف قليلة،و ألفاظ متقاربة» (2).
و الوجه الثالث لا دلالة فيه إذ معارضة القرآن تعني تدقيقه و توثيقه، و قد سبق في هذا الفصل رأينا في الحروف التي ادعى نزول القرآن عليها.ا.
ص: 105
و مما لا شك فيه أن الاختلاف في جملة القراءات كان في الأقل، و أن الاتفاق كان في الأعم الأكثر،و النظر في المصاحف الأولى نجد يؤيد الاختلاف في قلة معدودة من الكلمات،نطقا و إمالة و حركات،و قد جمعت في كتاب المباني محدودة:«اختلف مصحفا أهل المدينة و العراق في اثنى عشر حرفا،و مصحفا أهل الشام و أهل العراق في نحو أربعين حرفا، و مصحفا أهل الكوفة و البصرة في خمسة حروف» (1).
فإذا كان بعض الخلاف في القراءات مصدره اختلاف مصاحف الأمصار،فالاختلافات ضيقة النطاق،و تظل القضية تأريخية فحسب، إذ القرآن المعاصر الذي أجمع عليه العالم الإسلامي-و هو ذات القرآن الذي نزل به الوحي على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم-مرقوم برواية حفص لقراءة عاصم بن أبي النجود الكوفي،باستثناء المغرب العربي الذي اعتمد قراءة نافع المدني برواية روش.
و تبقى المسألة بعد هذا أثرية العطاء،نعم قد تبدو الهوة سحيقة فيما يدعى من خلافات لا طائل معها،و لكن النظرة العلمية الفاحصة تخفف من حدتها،فما من شك أن عاملا متشابكا وراء تلك الخطوط المتناثرة هنا و هناك،ذلك هو المناخ الإقليمي السائد آنذاك في الأفق العلمي،فهو مما يجب الوقوف عنده،ألا و هو النزاع القائم بين مدرستي الكوفة و البصرة، و ما نشأ عنه من تعصب إقليمي حينا،و اختلاف تقليدي حينا آخر،و مزيج من هذا و ذاك بعض الأحايين،فدرج جيل يصوب رأي الكوفيين،و آخر يؤيد نظر البصريين،مما طبع أثره على جملة من شئون التراث،و القراءات جزء من ذلك التراث،و أفرغ كثيرا من الإسراف في التجريح و التعديل، فعاد صراعا عشوائيا يوثق به الضعفاء،و يضعف به الثقات في كثير من المظاهر،و قد لا يكون لكل ذلك أصل،فطالما حمل البصريون أو من شايعهم على الكوفيين و بالعكس،و طالما تعصب لمذهب من القراءة جيل من الناس،و جانب قراءة جيل آخر،دون العودة إلى قاعدة متأصلة.
و هذا الملحظ الدقيق جدير بالتمحيص و الترصد بغية الوصول إلى7.
ص: 106
مقياس علمي أصيل تزان في ضوئه حقائق القراءات.
و كما اختلف في مصادر القراءات و منابعها،فقد اختلف في القراء و عددهم،و تضاربت الآراء في منزلتهم و شهرتهم،فكان منهم السبعة، و العشرة،و الأربعة عشر،و كان اعتبارهم يتردد بين الأقاليم تارة،و بين الشهرة تارة أخرى،و بينهما في أغلب الأحيان،و قد تحل المنزلة العلمية مكان الشهرة حينا،و قد يكون العكس هو المطرد،و قد تتحقق الشهرة عند باحث،و تنتفي عند باحث غيره،و هكذا...
و قد كان مشاهير القراء قبل ابن مجاهد(ت:324 ه)على النحو الآتي:
1-عبد اللّه اليحصبي،المعروف بابن عامر(شامي)(ت:118 ه).
2-عاصم بن أبي النجود(كوفي)،(ت:127 ه).
3-عبد اللّه بن كثير الداري(مكي)،(ت:129 ه).
4-أبو عمرو بن العلاء(بصري)،(ت:154 ه).
5-نافع عبد الرحمن بن أبي نعيم(مدني)،(ت:169 ه).
6-حمزة بن حبيب الزيات(كوفي)،(ت:188 ه).
7-يعقوب بن أبي إسحاق الحضرمي(بصري)،(ت:205 ه).
و قد حذف ابن مجاهد يعقوب من السبعة و أثبت مكانه علي بن حمزة (الكسائي الكوفي)(ت:189 ه)و اعتبره من القراء السبعة.و هكذا كان.
أما من عدّ القراء عشرة،فأضاف لهم زيادة على تسبيع ابن مجاهد و تعيينه لهم،يزيد بن القعقاع(ت:130 ه)و يعقوب الحضرمي(ت:205 ه)و حلف بن هشام(ت:229 ه).
و يبدو أن الكسائي(ت:189 ه)لم يكن معدودا من القراء السبعة، و إنما ألحقه ابن مجاهد في سنة ثلاثمائة أو نحوها بدل يعقوب الحضرمي
ص: 107
و قد كان السابع (1).
و في هذا الضوء نجد القراء عند ابن مجاهد،هم:نافع،ابن كثير، عاصم،حمزة بن حبيب،الكسائي،أو عمرو بن العلاء،عبد اللّه بن عامر.
و قد عقب ابن مجاهد على ذلك بقوله:
«فهؤلاء سبعة نفر،من أهل الحجاز،و العراق،و الشام،خلفوا في القراءة التابعين،و أجمعت على قراءتهم العوام من أهل كل مصر من هذه الأمصار التي سميت و غيرها من البلدان التي تقرب من هذه الأمصار» (2).
و واضح أن تقسيم ابن مجاهد تقسيم إقليمي نظر فيه إلى اعتبار الأمصار التي وجهت إليها المصاحف في عهد عثمان(رض)لا باعتبار تعصب إقليمي من قبله.
و ابن مجاهد أول من اقتصر على هؤلاء السبعة،فإنه أحب أن يجمع المشهور من قراءات الحرمين و العراقين و الشام،إذ هذه الأمصار الخمسة هي التي خرج منها علم النبوة،من القرآن و تفسيره،و الحديث،و الفقه في الأعمال الباطنة و الظاهرة و سائر العلوم الدينية (3).
و قد تبعه الفضل بن الحسن الطبرسي(ت:548 ه)بتصنيف القراء في ضوء الأقاليم الإسلامية،و لكنه اختلف معه بالتعيين،فأسماء القراء المشهورين عنده باعتبار الأمصار كالآتي:
1-أبو جعفر يزيد بن القعقاع،مدني و ليس من السبعة.
2-عبد اللّه بن كثير،مكي من السبعة.
3-عاصم بن أبي النجود،كوفي من السبعة.
4-حمزة بن حبيب،كوفي من السبعة.1.
ص: 108
5-علي بن حمزة الكسائي،كوفي من السبعة.
6-خلف بن هشام،كوفي،و ليس من السبعة و له اختيار.
7-أبو عمرو بن العلاء،بصري من السبعة.
8-يعقوب بن إسحاق الحضرمي،بصري و ليس من السبعة.
9-أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني بصري،و ليس من السبعة.
10-عبد اللّه بن عامر،شامي من السبعة (1).
فالطبرسي عدّ من القراء السبعة؛عبد اللّه بن كثير،و عاصم،و حمزة بن حبيب،و الكسائي،و أبو عمرو بن العلاء،و عبد اللّه بن عامر،بينما أسقط نافع بن عبد الرحمن،قارئ أهل المدينة.
و عدّ من غيرهم:يزيد بن القعقاع،و خلف بن هشام،و يعقوب بن إسحاق الحضرمي،و سهل بن محمد السجستاني.
فعدة القراء المشهورين عنده عشرة.و قد عقب على تعيينه لهؤلاء بما يلي:
«و إنما اجتمع الناس على قراءة هؤلاء و اقتدوا بهم فيها لسببين:
أحدهما:أنهم تجردوا لقراءة القرآن،و اشتدت بذلك عنايتهم مع كثرة علمهم.و من كان قبلهم أو في أزمتهم ممن نسب إليه القراءة من العلماء، و عدت قراءتهم في الشواذ،لم يتجرد لذلك تجردهم،و كان الغالب على أولئك الفقه و الحديث أو غير ذلك من العلوم.
و الآخر:أن قراءتهم وجدت مسندة لفظا أو سماعا حرفا حرفا من أول القرآن إلى آخره مع ما عرف من فضائلهم،و كثرة علمهم بوجوه القرآن» (2).
و الحق أن القراء الذين ذكرت قراءتهم فيما ألف من كتب القراءات1.
ص: 109
يزيد على هذا العدد كثيرا،و فيهم من هو أسبق منهم تأريخا.فقد تتبع الدكتور الفضلي من ألف في القراءات قبل اختيار ابن مجاهد للقراء السبعة،فبلغت عدتهم عنده أربعة و أربعين مؤلفا،ابتداء من يحيى بن يعمر (ت:90 ه)و انتهاء بأبي بكر محمد بن أحمد الداجوني(ت:324 ه) (1).
و كان نتيجة لهذا الإحصاء الدقيق أن ظهر أن هذه المؤلفات لم تختص بالقراءات السبع أو العشر أو الأربع عشرة،و قراء تلك القراءات، بل اتضح من خلال العرض و التحليل أن فيها من هو متقدم على بعض القراء المشهورين تأريخا،حتى إذا جاء ابن مجاهد التميمي البغدادي(ت:
324 ه)فاختار من الجميع أولئك.
و قد علل مكي بن أبي طالب(ت:437 ه)وجه الاقتصار على هؤلاء دون غيرهم فقال:
«إن الرواة من الأئمة من القراء كانوا في العصر الثاني و الثالث كثيرا في العدد،كثيرا في الاختلاف،فأراد الناس في العصر الرابع أن يقتصروا من القراءات التي توافق المصحف على ما يسهل حفظه،و تنضبط القراءة به،فنظروا إلى إمام مشهور بالثقة و الأمانة،و حسن الدين،و كمال العلم، فقد طال عمره،و اشتهر أمره،و أجمع أهل عصره على عدالته فيما نقل، و ثقته فيما روى،و علمه بما يقرأ،فلم تخرج قراءته عن خط مصحفهم المنسوب إليهم،فأفردوا من كل مصر وجه إليه عثمان مصحفا،إماما هذه صفته،و قراءته على مصحف ذلك المصر» (2).
و قد أيد ذلك من المتأخرين السيد محمد الجواد العاملي النجفي (ت:1226 ه)فتحدث عن وجهة نظره في تحديد القراءات بالسبع و القراء بالسبعة،و قال:
«و حيث تقاصرت الهمم عن ضبط الرواة لكثرتهم غاية الكثرة،8.
ص: 110
اقتصروا مما يوافق خط المصحف على ما يسهل حفظه،و تنضبط القراءة به،فعمدوا إلى من اشتهر بالضبط و الأمانة و طول العمر في الملازمة للقراءة،و الاتفاق على الأخذ عنه،فأفردوا إماما من هؤلاء في كل مصر من الأمصار المذكورة،و هم:نافع و ابن كثير و أبو عمرو،و ابن عامر، و عاصم،و حمزة،و الكسائي» (1).
و بملاحظة ما حققه ابن مجاهد من جمعه للقراءات،و بيان وجوه الاختلاف فيها،يتجلى أن الاختلاف ليس من العسر بمكان بحيث قد يؤدي إلى تشويه النص،أو تغيير الأحكام،أو اضطراب القراءة،بل نجد الأعم الأغلب منه إنما يرجع إلى أصول الأداء،و طريقة التلفظ،و تحقيق النطق مدغما أو ممالا،منقوطا أو غير منقوط،إمدادا و إشماما،و هو اختلاف لا يضفي على النص القرآني أي مردود معقد لا يمكن معه الوصول إلى الحقيقة القرآنية،مما يقرب إلينا القول بأن هذه القراءات إنما اشتبكت و تظاهرت و تفاوتت اجتهادا في كيفية أداء النطق تارة،و طريقة تلفظه تارة أخرى،و مردود اللهجات عليها بين ذلك.
و هذا إنما يجري في القراءات المتواترة رواية مرفوعة،أو دراية من أصحابها،و لا ينطبق على القراءات الشاذة التي أصبحت فيما بعد عرضة لزلل الأهواء.
«و لا مرية أنه كما يتعبد بفهم معاني القرآن و إقامة حدوده،يتعبد بتصحيح ألفاظه،و إقامة حروفه على الصفة المتلقاة.عن أئمة القراء، و مشايخ الأقراء،المتصلة بالحضرة النبوية الأفصحية العربية،التي لا يجوز مخالفتها،و لا العدول عنها (2).
و قد بلغت القراءات السبع حد الرضا و القبول عند المسلمين و علمائهم،فلم يؤثّر عليها تعدد القراءات،و لم يؤثّروا عليها سواها.
و كان إلى جنب القراءات اختيار في القراءات قد تشمل هذه القراءات1.
ص: 111
-كما سيأتي-و قد لا تشملها،و هي لا تحمل الطابع الشخصي لأصحابها،بل هي ضمن قواعد قد تتسم بالطابع الشمولي العام.
قال مكي بن أبي طالب:«و أكثر اختياراتهم إنما هو في الحرف إذ اجتمع فيه ثلاثة أشياء:
قوة وجهه في العربية.
و موافقته للمصحف.
و اجتماع العامة عليه.
و العامة-عندهم-ما اتفق عليه أهل المدينة و أهل الكوفة،فذلك عندهم حجة قوية،فوجب الاختيار.
و ربما جعلوا العامة ما اجتمع عليه أهل الحرمين.
و ربما جعلوا الاختيار على ما اتفق عليه نافع و عاصم،فقراءة هذين الإمامين أوثق القراءات و أصحها سندا،و أفصحها في العربية،و يتلوهما في الفصاحة خاصة:قراءة أبي عمرو و الكسائي رحمهم اللّه» (1).
و يبدو مضافا إلى ما تقدم،أن لأئمة القراء أنفسهم تصرفا يقوم على حسن النظر و أصول الاستنباط،يتمثل باختيارهم للقراءة التي تنسب إليهم، فهم يتدارسون القراءات على يد نخبة من التابعين،و من ثم يقارنون بين هذه القراءات التي أخذوها،و يحكمون مداركهم في أسانيدها و أصولها و مصادرها،فيؤلفون القراءة التي يختارونها بناء على كثرة الموافقات عند أغلب الشيوخ المقرئين.فقد قال نافع بن أبي نعيم(ت:169 ه)و هو يتحدث عن مشايخه في الإقراء:
«أدركت هؤلاء الخمسة و غيرهم...فنظرت إلى ما أجمع عليه اثنان منهم فأخذته،و ما شذ فيه واحد تركته،حتى ألفت هذه القراءة» (2).
و ربما كان المقرئ مخالفا لأستاذه في اختياره للقراءة،ناظرا في2.
ص: 112
وجوه القراءات الأخرى،كما هي الحال عند الكسائي حينما اختار من قراءة حمزة و قراءة من سواه،و أسس لنفسه بذلك اختيارا (1).
قال ابن النديم:«و كان الكسائي من قراء مدينة السلام،و كان أولا يقرأ الناس بقراءة حمزة،ثم اختار لنفسه قراءة،فأقرأ بها الناس» (2).
و قد كان لأبي عمرو بن العلاء اختيار من قراءة ابن كثير،و هو شيخه،و من قراءة غيره،و أسس بذلك لنفسه قراءة تنسب إليه (3).
و قد شجعت ظاهرة الاختيار في القراءة على القضاء على النزعة الإقليمية التي انتشرت في نسبه القراءات للأمصار،إذا امتزجت هذه القراءات في الأغلب نتيجة للاختيار،فتداخلت قراءة أهل المدينة بقراءة أهل الكوفة،و قراءة الشام بقراءة العراق،فلم تعد القراء فيما بعد إقليمية المظهر،بقدر ما هي علمية المصدر،و في هذا الضوء وجدنا القراء السبعة يمثلون خلاصة التجارب الماضية للقرنين الأول و الثاني في العطاء العلمي المشترك بين الأقاليم،لما في ظاهرة الاختيار لدى أئمة الأقراء من عناصر مختلف القراءات،حتى وحدت و نسبت منفردة إلى عاصم،أو نافع،أو الكسائي،و هي عصارة قراءة لمصرين،أو قراءات لأمصار،تتفق مع قراءة بوجه،و تختلف مع قراءة بوجه آخر،و تجمع بين هذين بما ألف قراءة منظورة متميزة،تعني تجارب السابقين،و عطاء المتخصصين.حتى وقف الاختيار على أعتاب القرن الرابع،حيث بدأ ابن مجاهد في حفظ القراءات و الاختيارات،دون التفكير بتجديد ظاهرة الاختيار التي لم تعد من هموم هؤلاء الأعلام أمثال ابن مجاهد،بل اتجهت هممهم إلى صيانة تلك القراءات،لا إلى الاختيار.
فقد روى الذهبي عن عبد الواحد بن عمر بن أبي هاشم،و هو تلميذ ابن مجاهد،قال:
«سأل رجل ابن مجاهد،لم لا يختار الشيخ لنفسه حرفا يحمل عليه؟2.
ص: 113
فقال:نحن أحوج إلى أن نعمل أنفسنا في حفظ ما مضى عليه أئمتنا، أحوج منا إلى اختيار حرف يقرأ به من بعدنا» (1).
و في ضوء ما تقدم يبدو لنا أن الاختيار عبارة عن استنباط القراءة من خلال النظر الاجتهادي في القراءات السابقة،و الموازنة فيما بينها على أساس السند في الرواية،أو الوثاقة في العربية،أو المطابقة في الرّسم المصحفي،أو إجماع العامة،من أهل الحرمين أو العراقين،أو الموافقة بين مقرءين،و من خلال ذلك نشأت القراءات المختارة.
يقول القرطبي:«و هذه القراءات المشهورة هي اختيارات أولئك الأئمة القراء،و ذلك أن كل واحد منهم اختار مما روي و علم وجهه من القراءات ما هو الأحسن عنده و الأولى،و التزم طريقه و رواه،و أقرأ به، و اشتهر عنه و عرف به» (2).
و يرى الدكتور الفضلي:«أن اجتهاد القراء لم يكن في وضع القراءات -كما توهم البعض-و إنما في اختيار الرواية،و فرق بين الاجتهاد في اختيار الرواية و الاجتهاد في وضع القراءة» (3).
فإضافة القراءة لصاحبها إضافة اختيار لا إضافة اختراع و رأي و اجتهاد (4).
و مما يؤيده ما أورد أبو شامة باعتبار القراءة سنة،و السنة لا مورد فيها للاجتهاد بالمعنى المشار إليه:«أ لا ترى أن الذين أخذت عنهم القراءة إنما تلقوها سماعا،و أخذوها مشافهة،و إنما القراءة سنة يأخذها الآخر عن الأول،و لا يلتفت في ذلك إلى الصحف،و لا إلى ما جاء من وراء وراء» (5).2.
ص: 114
و إلى جانب الحيطة في الاختيار،كانت الحيطة للقراءة نفسها،فلم يأخذوا بكل قراءة،بل وضعوا بعض المقاييس النقدية و الاحترازية لقبول القراءة أو رفضها،مما ينصح معه مدى عناية القوم بالقراءة المختارة،بعد أن عسر الضبط،و ظهر التخليط،و اشتبه الأمر.قال القسطلاني نقلا عن الكواشي:«فمن ثم وضع الأئمة لذلك ميزانا يرجع إليه،و معيارا يعول عليه؛و هو السند و الرسم و العربية،فكل ما صح سنده،و استقام وجهه في العربية،و وافق لفظه خط المصحف الإمام فهو من السبعة المنصوصة، فعلى هذا الأصل بني قبول القراءات عن سبعة كانوا أو سبعة آلاف،و متى فقد شرط من هذه الثلاثة فهو شاذ» (1).
و الشاذ لا يعمل به في القراءات و لا يقاس عليه،«و قد أجمع الأصوليون و الفقهاء و غيرهم،على أن الشاذ ليس بقرآن،لعدم صدق حد القرآن عليه،أو شرطه و هو التواتر» (2).
و كأنّ ابن الجزري قد أدخل جانب الاحتمال في بعض الشروط، و صنف القراءة المعتبرة و الباطلة فقال:
«كل قراءة وافقت العربية و لو بوجه،و وافقت أحد المصاحف العثمانية و لو احتمالا،و صح سندها،فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها،و لا يحل إنكارها..
و متى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة أو باطلة،سواء كانت عن السبعة أم عمن هو أكبر منهم.هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق من السلف و الخلف» (3).
و تكاد أن تتلاقى كلمات الأعلام في مقياس القراءة الصحيحة، و تتداعى الخواطر في صياغة ألفاظها،فقد اشترط مكي بن أبي طالب(ت:
437 ه)في وجه صحتها ما يلي:1.
ص: 115
«أن ينقل عن الثقات إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و يكون وجهه في العربية التي نزل بها القرآن شائعا،و يكون موافقا لخط المصحف» (1).
و مع هذا نجد الداني جديا في مسألة القراءة،إذ يعتبرها سنة لا تخضع لمقاييس لغوية،و إنما تعتمد الأثر و الرواية فحسب،فلا يردها قياس،و لا يقرّبها استعمال فيقول:
«و أئمة القراء لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة،و الأقيس في العربية،بل على الأثبت في الأثر،و الأصح في النقل و إذا ثبتت الرواية لم يردّها قياس عربية،و لا فشو لغة،لأن القراءة سنة متبعة،يلزم قبولها و المصير إليها» (2).
و ما أبداه الداني لا يخلو من نظر أصيل،إذ القراءة إذا كانت متواترة صحيحة السند،فهي تفيد القطع،و لا معنى لتقييد القطع بقياس أو عربية، فالعربية إنما تصحح في ضوء القرآن،و لا يصحح القرآن في ضوء العربية، و مع هذا فإن الإجماع القرائي يكاد أن يكون متوافرا على اشتراط صحة السند،و مطابقة الرسم المصحفي،و موافقة اللغة العربية؛لهذا تختلف النظرة بالنسبة للقراءة في ضوء تحقق هذه الشروط أو عدمه،و قد نتج عنه تقسيم القراءات إلى صحيحة و شاذة،فما اجتمعت فيه من القراءات هذه الشروط فهو الصحيح،و ما نقص عنه فهو الشاذ.
و في هذا الضوء ولد-في عهد ابن مجاهد-مقياسان آخران،و ماتا في مهدهما،لعدم تلقي المسلمين لهما بالقبول،و لرفضهم لهما،و هما:
مقياس ابن شنبوذ(ت:327 ه)الذي اكتفى فيه بصحة السند و موافقة العربية.
و مقياس ابن مقسم(ت:354 ه)الذي اكتفى فيه بمطابقة المصحف و موافقة العربية (3).
و قد تحرر للسيوطي مع المقاربة فيما كتبه ابن الجزري في النشر،أن القراءات أنواع:ه.
ص: 116
الأول:المتواتر،و هو ما نقله جمع لا يمكن تواطؤهم على الكذب، عن مثلهم إلى منتهاه،و غالب القراءات كذلك.
الثاني:المشهور،و هو ما صح سنده،و لم يبلغ درجة التواتر،و وافق العربية و الرسم و اشتهر عند القراء.
الثالث:الآحاد،و هو ما صح سنده،و خالف الرسم أو العربية،أو لم يشتهر بالاشتهار المذكور،و لا يقرأ به.
الرابع:الشاذ،و هو ما لم يصح سنده.
الخامس:الموضوع،[و هو ما لا أصل له].
السادس:ما زيد في القراءات على وجه التفسير (1).
و هذا التقسيم الذي استخرجه السيوطي مما أفاضه ابن الجزري جدير بالأهمية إذ هو جامع مانع كما يقول المناطقة.
و تبقى النظرة إلى هذه القراءات متأرجحة بين التقديس و المناقشة، فمن يقدسها يعتبرها قرآنا،و من يناقشها يعتبرها علما بكيفية أداء كلمات القرآن،و فرق بين القرآن و أداء القرآن.
فالباقلاني يذهب:«أن القراءات قرآن منزل من عند اللّه تعالى،و أنها تنقل خلفا عن سلف،و أنهم أخذوها من طريق الرواية،لا من جهة الاجتهاد،لأن المتواتر المشهور أن القراءة السبعة إنما أخذوا القرآن رواية، لأنهم يمتنعون من القراءة بما لم يسمعوه» (2).
بينما خالفه الزركشي في هذه الملحظ،و اعتبر القرآن حقيقة، و القراءات حقيقة أخرى فقال:
«و القرآن و القراءات حقيقتان متغايرتان،فالقرآن:هو الوحي المنزل على محمد للبيان و الإعجاز،و القراءات:اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في الحروف و كيفيتها من تخفيف و تشديد و غيرهما» (3).1.
ص: 117
و الحق أن رأي الزركشي يتفق مع تعريف القراءات المتداول عند أئمة التحقيق،فقد ذهبوا إلى أن علم القراءات:هو علم يعرف منه اتفاق الناقلين لكتاب اللّه و اختلافهم في اللغة و الأعراب،و الحذف و الإثبات، و التحريك و الإسكان،و الفصل و الاتصال،و غير ذلك من هيئة النطق، و الإبدال من حيث السماع (1).
و الحق أن لا علاقة بين حقيقة القرآن و حقيقة القراءات،فالقرآن هو النص الآلهي المحفوظ،و القراءات أداء نطق ذلك النص اتفاقا أو اختلافا، و القرآن ذاته لا اختلاف في حقيقته إطلاقا.
و قد استظهر الزركشي تواتر القراءات عن القراء السبعة:«أما تواترها عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ففيه نظر،فإن إسناد الأئمة السبعة بهذه القراءات السبعة موجود في كتب القراءات،و هي نقل الواحد عن الواحد،و لم تكمل شروط التواتر في استواء الطرفين و الواسطة،و هذا شيء موجود في كتبهم، و قد أشار الشيخ شهاب الدين أبو شامة في كتابه«المرشد الوجيز»إلى شيء من ذلك» (2).
و قد وافقه من المتأخرين السيد الخوئي و ازداد عليه حيث قال:«إنها غير متواترة،بل القراءات بين ما هو اجتهاد من القارئ و بين ما هو منقول بخبر الواحد» (3).
و قد حشد لهذا الرأي جملة من الأدلة خلص منها إلى عدم تواتر القراءات،و أنها نقلت بأخبار الآحاد (4).
و يكاد أن ينعقد إجماع المسلمين على حجية هذه القراءات و تواترها- سواء أ كان تواترها عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو عن أصحابها-و على جواز القراءة بها في الصلاة و غيرها.ا.
ص: 118
فعن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السّلام أنه قال: «اقرءوا كما علّمتم» (1).
و قال الشيخ الطوسي(ت:460 ه)و هو يتحدث عن رأي الإمامية في الموضوع:
«و اعلموا أن العرف من مذهب أصحابنا،و الشائع من أخبارهم و رواياتهم أن القرآن نزل بحرف واحد،على نبي واحد،غير أنهم أجمعوا على جواز القراءة بما يتداوله القراء،و أن الإنسان مخير بأي قراءة شاء قرأ،و كرهوا تجريد قراءة بعينها،بل أجازوا القراءة بالمجاز الذي يجوز بين القراء،و لم يبلغوا بذلك حد التحريم و الحظر» (2).
و قد حكى الطبرسي(ت:548 ه)الإجماع عليه فقال:
«اعلم أن الظاهر من مذهب الإمامية أنهم أجمعوا على جواز القراءة بما تتداوله القراء بينهم من القراءات،إلا أنهم اختاروا القراءة بما جاز بين القراء،و كرهوا تجريد قراءة مفردة» (3).
و ذهب الشهيد الأول:(ت:786 ه)من الإمامية إلى أن القراءات متواترة،و مجمع على جواز القراءة بها،و تابعه الخوانساري في ذلك، و نفي الخلاف في حجية السبع منهم مطلقا،و الثلاث المكملة للعشر في الجملة،بل اعتبر تواترها بوجوهها السبعة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عند قاطبة أهل الإسلام (4).
و قد انتهى العاملي إلى الإجماع على تواتر القراءات و نعتها به و حكاه عن المنتهى و التحرير و التذكرة و الذكرى،و الموجز الحاوي،و غيرها من أمهات كتب الإمامية مما يقطع معه بتواترها حرفا حرفا،و حركة حركة (5).2.
ص: 119
و قد فصل الخوئي في القول،فذهب إلى عدم حجية هذه القراءات، فلا يستدل بها على الحكم الشرعي،إذ لم يتضح عنده كون القراءات رواية،فلعلها اجتهادات في القراءة،و لكنه جوز بها الصلاة نظرا لتقرير المعصومين لها،و ذلك عنده يشمل كل قراءة متعارفة زمن أهل البيت عليهم السّلام إلا الشاذة فلا يشملها التقرير (1).7.
ص: 120
ص: 121
ص: 122
نريد بشكل القرآن فيما يلي،الإطار الخارجي للنص القرآني،و هذا الإطار عبارة عن رسمه و إعجامه و نقطه،و ما صاحب ذلك من جهد و تطوير منذ الكتبة الأولى للمصحف.
و هذا كله شيء يختلف عن القرآن نصا متعبدا بتلاوته،فالقرآن ألفاظه و معانيه،و تشريعه و مراميه،بسوره و آياته متواترة متكاملة،و شكله هو صورته المصحفية التي تواضع عليها الناس في الرسم و الأعراب و النقط و الأعجام للدلالة على ألفاظه في النطق،و على هيئته و تركيبه في التلفظ، فهو تسجيل ثانوي للوحي الأولي،بما يؤدي إلى صورة حقيقته المثلى حينما يتلى بالألسن معادا كما أنزل.
و ارتباط هذه الظاهرة الشكلية باللفظ المنزل على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الكريم وحيا سماويا،لم تأخذ طابع الصدفة أو صيغة العفوية،و إنما كان أمرا إليها مقصودا إليه،و جهدا رساليا معنيا بالذات،ليتضافر على حفظ القرآن الكريم-برا بوعده تعالى-عاملان:
الحفظ في الصدور،و الرسم في السطور.و هو كما يبدو من استعراض الروايات و استقراء الأحداث أمر مدنوب إليه و مرغوب فيه،و قد كان تأسيس ذلك منذ عهد مبكر،اقترن بأول نزول الوحي-كما سبقت الإشارة التفصيلية إليه- (1)و أوشك على الكمال عند جمع النّاس على لغة:.
ص: 123
قريش في القراءة المصحفية زمن عثمان،و كتابة نص متكامل لهذا التوحيد، في المصحف الإمام المتداول إلى اليوم مرسومه،إلا أن ذلك النص- مضافا إلى تسويته بالخط الكوفي القديم-جاء مجردا:«من النقط و الشكل،ليحتمل ما صح نقله،و ثبتت تلاوته عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذ كان الاعتماد على الحفظ،لا مجرد الخط» (1).
و رسم المصحف-كما سنفصل القول فيه بإذن اللّه تعالى-جاء مجردا من كل علامات الشكل و النقط و الأعجام،لأنهم كانوا يستحبون تخليص القرآن من كل الزوائد على الخط الكوفي،و لما أورده جملة من أهل العلم-من قول مشترك يحتمل عدة معان-أن السلف كانوا يقولون:
«جردوا القرآن و لا تخلطوه بشيء» (2).
فلم تكتب مضافا إلى إهمال النقط و الأعراب،حتى أسماء السور، و لم يدون عدد آياتها،و لا الإشارة إلى مكيها و مدنيها.
و قد اختلفوا فيما تبين فيه القراءة من الشكل،و كان اختلافهم مبنيا على قناعات خاصة في أغلب الأحيان.
فقد كره إبراهيم النخعي الكوفي(ت:96 ه)نقط المصاحف (3).
و كره جملة الزيادات التوضيحية في المصاحف كل من:محمد بن سيرين(ت:110 ه)و الحسن البصري(ت:110)(ه) (4).
و كان ذلك منهم بعناية الحفاظ على الشكل الأول للمصحف،و قد يغلب على ظنهم احتمال التحريف لو أباحوا ذلك،و قد يكون ذلك بداعي المغالاة في تقديس الرسم الأول،بينما أفتى النووي باستحباب نقطه و شكله صيانة له عن اللحن و التحريف (5).1.
ص: 124
و مهما يكن من أمر،فقد كان الموقف السلبي من نقط المصحف و شكله منهزما حينما عمد المسلمون إلى إعجام القرآن و نقطه بشكل منظم، توافرت فيه النيات الصادقة،و تعاقبته الأيدي الأمينة،مما أدى بالأمر الواقع إلى تيسير تلاوة القرآن،و صيانته عن الالتباس،و مقاربتنا إلى نقطة الأمثل.
و يبدو أن الرائد الأول لذلك هو أبو الأسود الدؤلي(ت:69 ه) حينما وجدناه قد عالج بادئ ذي بدء مسألة ضبط العلامات الإعرابية في المصحف،احترازا من اللحن،و ابتعادا عن العجمة،و رعاية لسلامة النص،فاستعمل لذلك ما يفرق فيه بين حالات الرفع و النصب و الجر بالتنوين و بدونه،و ابتكر باجتهاد فطري منه طريقته الخاصة الأولى باستعمال النقط للحركات،بصورة مميزة،عددا،و موضعا،و لونا،كما سترى هذا من قوله لكاتبه:
«خذ المصحف،و صنيعا يخالف لون المداد،فإذا فتحت شفتي فأنقط واحدة فوق الحرف،و إذا ضممتها فاجعل النقطة إلى جانب الحرف،و إذا كسرتها فاجعل النقطة في أسلفه،فإن أتبعت هذه الحركات،غنة،فأنقط نقطتين.فابتدأ بالمصحف حتى أتى على آخره» (1).
و من خلال هذه الرواية المستفيضة،يتضح أن أبا الأسود قد خالف بين لون المداد المدون به المصحف و بين لونه لوضع هذه الحركات،و قد جعل هذه الحركات على شكل نقاط في مواضعها المعينة،و قد ظهر من ذلك ما يلي:
أ-نقطة فوق الحرف،علامة للفتحة.
ب-نقطة تحت الحرف،علامة للكسرة.
ج-نقطة في خلال أو بجانب الحرف،علامة للضمة.
د-نقطتين على الحرف،علامة للتنوين.1.
ص: 125
و كان هذا العمل من أبي الأسود متميزا بقيمة فنية أمكن بوساطتها التمييز بين الحالات الإعرابية بنقط مختلفة المواضع بعد أن كانت هملا، و بلون يخالف الأصل المدون به المصحف زيادة في الضبط و التفريق.
و في دوافع أبي الأسود،و مشجعاته على هذا العمل الضخم روايات و توجيهات كالآتي:
1-
إن الإمام علي عليه السّلام سمع قارئا يقرأ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1)بكسر اللام في رسوله و هو كفر،فتقدم إلى أبي الأسود «حتى وضع للناس أصلا و مثالا و بابا و قياسا،بعد أن فتق له حاشيته، و مهّد له مهاده،و ضرب له قواعده» (2).
2-أن أبا الأسود نفسه قد سمع الآية المتقدمة في جزئها بكسر اللام من(رسوله)فقال:
لا يسعني إلا أن أضع شيئا أصلح به لحن هذا،أو كلاما هذا معناه (3).
3-أن زياد بن أبيه طلب إليه أن يضع للناس علامات تضبط قراءتهم،فشكل أواخر الكلمات،و جعل الفتحة نقطة فوق الحرف، و الكبيرة نقطة تحته،و الضمة نقطة إلى جانبه،و جعل علامة الحرف المنون نقطتين (4).
و قيل إن زيادا أرسل إليه ثلاثين كاتبا للقيام بهذه المهمة (5).
4-و قيل:إن أبا الأسود إنما قام بهذا و بنقط القرآن-كما في رواية أخرى-بأمر عبد الملك بن مروان (6).4.
ص: 126
و الملحظان الأخيران يؤكدان استجابة أبي الأسود لهذا الأمر بسبب أمر رسمي من سلاطين عصره،و هو ما لا يتفق مع عزلة أبي الأسود السياسية،و عزوفه عن المناخ الرسمي،و لعل القلقشندي يدفع عنه ذلك صراحة،و يوضحه فيقول:
«إن أول من نقط القرآن و وضع العربية أبو الأسود الدؤلي من تلقين أمير المؤمنين عليّ كرم اللّه وجهه» (1).
و الغريب الذي لا يمت إلى أساس علمي أن يستبعد كل ما تقدم به أبو الأسود الدؤلي مع تظاهر الروايات على صدقة أو على شهرته على الأقل،بعض الدارسين المعاصرين،فمن يعد انفراد أبي الأسود في ذلك ليس منطقيا و لا معقولا،و لا يقوم على أساس عقلي،و كأنه يستكثر ذلك عليه إن لم يستنكره،بينما يعتبر أن للحجاج عملا عظيما لا سبيل إلى إنكاره في الإشراف على نقط القرآن (2).
و لدى التحقيق-كما سترى فيما بعد-فليس هناك مصدر واحد يوثق به،أو نقل ثابت،و يؤرخ هذه التقولات.
و ليت شعري ما المانع العقلي أو المنطقي الذي يراه صبحي الصالح حائلا عن قيام أبي الأسود بذلك،و أبو الأسود عالم موسوعي في كثير من فنون الأدب و اللغة و التراث،و هو بعد تلميذ الإمام علي عليه السّلام و لم تشغله سياسة القوم عن النهج العلمي.
و لقد أكمل عمل أبي الأسود من بعده،اثنان من تلامذته هما يحيى بن يعمر العدواني(ت:90 ه تقريبا)و نصر بن عاصم الليثي(ت:89 ه) حيث وضعا النقاط على الحروف أزواجا و إفرادا،و قد كان وضع النقاط على الحروف حقيقيا لا على سبيل الاستعمال المجازي،و بذلك تميزت صور الحروف المتشابهة،و صار لكل حرف صورة تغاير صورة غيره من الحروف،طبقا لما نجده متعارفا في كتابتنا المتداولة اليوم (3).7.
ص: 127
ثم زاد أتباع أبي الأسود علامات أخرى في الشكل،فوضعوا- مضافا إلى ما تقدم-للسكون جرة أفقية فوق الحرف منفصلة عنه سواء كان همزة أم غير همزة،و وضعوا الألف الوصل جرة في أعلاها متصلة به إن كان قبلها فتحة،و في أسفلها إن كان قبلها كسرة،و في وسطها إن كان قبلها ضمة (1).
و يأبي التأريخ إلا أن يضيف للحجاج بن يوسف الثقفي(ت:95 ه) أنه أصلح من الرسم العثماني في عدة مواضع حددت بأنها إحدى عشرة كلمة،فكانت بعد إصلاحه لها أوضح قراءة (2).
و لا مانع من هذا تأريخيا،و هو جهد عادي،إذ ارتبط بإصلاح إملائي لرسم المصحف،لا في نقطه و إعجامه كما تخيل صبحي الصالح، الذي اعتبر عمل الحجاج عظيما و مشكورا لا سبيل إلى إنكاره في الإشراف على نقط القرآن،و هو أمر موهوم كما رأيت.
و حينما ظهرت مشكلة اختلاط نقط الحركات التي وضعها أبو الأسود بنقط الحروف المتشابهة الرسم التي وضعها تلامذته كما أسلفنا،استطاع الخليل بن أحمد الفراهيدي(ت:170 ه)أن يبتدع أشكال الحركات، فتميزت حينئذ الحركات عن الحروف،فقد جعل الحركات حروفا صغيرة بدل النقط،و ابتكر لكل حركة ما يناسبها في الشكل من الحروف،فالضمة واو صغيرة فوق الحرف،و الكسرة ياء مردفة تحت الحرف،الفتحة ألف مائلة فوق الحرف.
و قد وفق الخليل مضافا لهذا إلى ابتكار علامات الهمز و التشديد و الروم و الاشمام (3).
و حينما أباح المسلمون لأنفسهم ضبط النص المصحفي في النقط و الحركات و قواعد الهمز و التشديد،أحدثوا النقط عند آخر الآي،ثم الفواتح و الخواتم،حتى قال يحيى بن أبي كثير:«ما كانوا يعرفون شيئا مما4.
ص: 128
أحدث في المصاحف إلا النقاط الثلاث على رءوس الآي» (1).
و كان هذا العمل إيذانا بمعرفة حدود الآية،إذ يفصل بينها و بين الآية التي تليها بمؤشر نقطي،تطور فيما بعد إلى شكل دائري،يوضع داخله رقم الآية،و بذلك تم تأشير أعداد الآيات و ضبطها في السورة الواحدة.
و كان ذلك في الوقت نفسه مؤشرا إلى حركة تطويرية في شكل المصحف،لا تتوقف عند حد من حدود التحسينات الشكلية الإيضاحية، بل تستقطبها جميعا فيما يحقق فائدة،أو يزيل لبسا،فقد عمدوا بعد ذلك إلى كتابة الأخماس و الأعشار،و هو أن يدونوا بعد كل خمس آيات أو عشر آيات رقمها و عددها،و كان قد كره ذلك جماعة من الأوائل علي ما يدعي،كابن مسعود و مجاهد و النخعي و الحليمي (2).
و لكنه لا يتعارض مع أي أصل ديني بل هو أمر إحصائي لا غبار على عائديته في التدقيق.
و حينما أدخل ما سبق تفصيله على الرسم العثماني،لم تقف حركة التطوير عند هذا الحد تجاه الرسم الأول بل أضيف إليه كل ما يتعلق بأحكام السجود القرآني الواجب و المندوب،فوضعوا في الهوامش إشارات إلى مواضع السجود،بحيث اتضح كونه شيئا و النص القرآني شيء آخر لانفصاله عنه إلى الجوانب شأنه في ذلك شأن تعيين الأحزاب و الأرباع و الأجزاء،و إشارات التجويد في مغايرة رسمها في المدار،و إن كانت ضمن النص،مما استحسنه البيهقي فقال:
«و لا يخلط به ما ليس منه،كعدد الآيات و السجدات و العشرات، و الوقوف،و اختلاف القراءات،و معاني الآيات» (3).
و قد جعلوا لما تقدم بعض الضوابط،لتمييز القرآن من القراءات، و النص من الإضافات،و لجأوا إلى تنويع لون المداد لكل من الرسم4.
ص: 129
و الشكل و النقط،كحلّ أولي لرفع الالتباس،و إزالة الإبهام.
قال الداني و هو يشير إلى ما تقدم بل و يفتي به:«لا أستجير النقط بالسواد لما فيه من التغيير لصورة الرسم،و لا استجير جمع قراءات شتى في مصحف واحد بألوان مختلفة،لأنه من أعظم التخليط و التغيير للمرسوم،و أرى أن تكون الحركات و التنوين و التشديد و السكون و المد بالحمرة،و الهمزات بالصفرة (1).
و واضح في النص و غيره من النصوص الأخرى،أن الرسم المصحفي للآيات كان يكتب بالمداد الأسود،لهذا استحبوا أن تكون العلامات بالحمرة،و الهمزات بالصفرة،و ليكون ذلك عرفا شائعا عند العامة و الخاصة.
و هكذا جرى الضبط و التدقيق للشكل في القرآن،فأضيف له بعد رسمه في الخط الكوفي،النقط و الحركات،و الهمز و التشديد،و التخميس و التعشير،و الفصل بين الآيات و ترقيمها،ثم تطور الأخير إلى دوائر صغيرة،وضع فيها رقم الآية بحسب تسلسلها من السورة،ثم كتبت أسماء السور مع عدد آياتها في أول السورة و قبل البسملة متخذة لذلك عنوانا بالاسم،و إحصاء بالآيات،ثم قسم هذا النص إلى ثلاثين جزءا،و قسم كل جزء إلى أربعة أحزاب،و كان ذلك بإشارات هامشية و أرقام و كتابات جانبية رسمية غير مختلطة بالنص القرآني الكريم،و إلى جانب هذا أضيفت علامات التجويد و الوقف،و مواضع السجود و أمثال ذلك مما لم يكن معروفا في عصر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة عليهم السّلام و الصحابة(رض)،و هي زيادات قصد بها الإيضاح و الكشف و البيان،و لم يخالف فيها الرسم المصحفي، فقد بقيت صور الكلمات على هيئتها،و حافظت على أشكالها،كما و صفتها لنا كتب السلف في الموضوع،و في طليعتها كتاب:المقنع في معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار،لأبي عمرو و عثمان بن سعيد الداني (ت:444 ه).ا.
ص: 130
و بقي الرسم العثماني للمصحف هو الأساس في خط المصحف الكريم قديما و حديثا،فحينما تطورت عملية الكتابة،و تبلور فن الخط،لم يفقد ذلك الأساس أهميته على الإطلاق،إذ ظل المنار الهادي لدى أغلب خطاطي مختلف العصور،نظرا لاكتمال الصورة الأولى للمصحف،و إن انتقل الشكل في العموم من الخط الكوفي إلى الخط النسخي المعروف.
«و توجد الآن في مكتبات العالم مجموعة كبيرة من المصاحف المخطوطة القديمة أو قطع منها،بعضها مكتوب على الرق،و بالخط الكوفي القديم،مجردة من النقط و الشكل،و من كثير مما ألحق بالمصاحف من أسماء السور و عدد آياتها و غير ذلك بحيث تبدو أقرب إلى الصورة التي كانت عليه المصاحف الأولى» (1).
و قد شاهدت كثيرا من هذه الآثار المصحفية في المتحف البريطاني في لندن،مصونة و محافظا عليها،بعناية أثارية فائقة،و بحواجز زجاجية محكمة،لا تصل إليها يد الناظر،و قد أشير ببعضها إلى تواريخ قديمة قد يرجع قسم منها إلى القرون الأولى،و لا نعلم مدى توثيقها.
أما الرسم المصحفي الأول للقرآن،أعني كتابته على الكتبة الأولى، فقد جاء دور الحديث عنه،و أول ما نفجأ به،هو الهالة الكبرى من التقديس لهذا الرسم مما يضفي شيئا كثيرا من المغالاة التي لا مسوغ إليها في أغلب الأحيان،و إنا و إن كنا لا نعارض تبجيله و الاعتداد به،و لكننا نعارض الغلو في شأنه،و يبدو أن هذا الغلو و التقديس،و ما صاحب ذلك من هالات،ما هو إلا تعبير عملي عن احترام جيل الصحابة الذين كتبوا المصحف عند توحيد القراءة،و إن كانت تلك الكتابة مخالفة لأصول الإملاء،و قواعد الخط،إذ الكتابة تصوير لنطق اللفظ،و العبرة بنطق ذلك اللفظ،لا بتصويره،و التطرف في إضفاء صفة التقديس على الكتبة الأولى،ه.
ص: 131
لا يعضده دليل نصي على الإطلاق،و ما قيل هنا و هناك من توقيف كتابة المصحف؛لا يستند إلى أساس من نقل أو عقل أو كتاب،و ليس فيه ما هو مرفوع إلى الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إجماعا،بل كان منسجما مع طبيعة ما يحسن الكتبة،سواء أ كان جنس ما يحسنون ممتازا،أم هو ما تعارفوا عليه،مما يؤدي إلى النطق الصحيح بالكلمات و الآيات،و هو أمر يرجع إلى مدى الجهد الذي بذله القدامى إملائيا و هجائيا في ضبط الرسم،و ما من شك أن يحصل الاختلاف بين الكتبة بقدر تفاوت الضبط فيما بينهم،أو على نحو من اختلاف القبائل فيما تكتب،مما طبع أثره على الاختلاف في الخطوط.
حينما جمع القرآن على لغة قريش،و وحدت القراءات على حرف معين،حصل جزء من هذا الاختلاف،فقد قال الزهري:«و اختلفوا يومئذ في التابوت و التابوة،فقال النفر القرشيون:التابوت،و قال زيد:التابوة، فرفع اختلافهم إلى عثمان،فقال:اكتبوه التابوت فإنه بلسان قريش» (1).
و في رواية مماثلة: «فإنما أنزل القرآن على لسان قريش» (2).
و أما ما ادعاه ابن المبارك في نقله عن شيخه عبد العزيز الدباغ أنه قال:
«ما للصحابة و لا لغيرهم في رسم القرآن و لا شعرة واحدة،و إنما هو توقيف من النبي و هو الذي أمرهم أن يكتبوه على الهيئة المعروفة:بزيادة الألف و نقصانها،لأسرار لا تهتدي إليها العقول،و هو سر من الأسرار خص اللّه به كتابه العزيز دون سائر الكتب السماوية،و كما أن نظم القرآن معجز فرسمه أيضا معجز،و كيف تهتدي العقول إلى سر زيادة الألف في «مائة»دون«فئة»و إلى سر زيادة الياء في«بأييد»و«بأييكم»أم كيف تتوصل إلى سر زيادة الألف في«سعوا»بالحج،و نقصانها من«سعو»بسبإ؟و إلى سر زيادتها في«آمنوا»و إسقاطها من«باؤ،جاؤ،تبوؤ،فاؤ»بالبقرة؟و إلى سر زيارتها في«يعفوا الذي»و نقصانها من«يعفو عنهم»في النساء؟أم كيف1.
ص: 132
تبلغ العقول إلى وجه حذف بعض أحرف من كلمات متشابهة دون بعض، كحذف الألف من«قرءنا»بيوسف و الزخرف،و إثباتها في سائر المواضع، و إثبات الألف بعد واو«سموات»في فصلت و حذفها في غيرها،و إثبات الألف في«الميعاد»مطلقا،و حذفها من الموضع الذي في الأنفال،و إثبات الألف في«سراجا»حيثما وقع،و حذفه من موضع الفرقان؟و كيف نتوصل إلى حذف بعض التاءات و ربطها في بعض؟؟ فكل ذلك لأسرار إلهية،و أغراض نبوية،و إنما خفيت على الناس لأنها أسرار باطنية لا تدرك إلا بالفتح الرباني،بمنزلة الألفاظ و الحروف المقطعة في أوائل السور،فإن لها أسرارا عظيمة و معاني كثيرة،و أكثر الناس لا يهتدون إلى أسرارها و لا يدركون شيئا من المعاني الإلهية التي أشير إليها،فكذلك أمر الرسم الذي في القرآن حرفا بحرف» (1).
فهو كلام طويل عريض يشتمل على ادعاءات و افتراضات لا نوافقه عليها من عدة وجوه:
الأول:أن الرسم المصحفي لم يرد فيه و لا حديث واحد عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فكيف يكون توقيفيّا،و النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أمي لا يقرأ و لا يكتب و لا يتهجى،فكيف يتم هذا الغلو بشأنه،بادعاء أن ما كتبوه كان بأمره،و هو تجاوز على مقام النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يأمر بما يخطأ فيه و يصاب،هجاء و إملاء مما نعتبره دون أدنى ريب خارجا عن توجيه النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و توقيفه،لأنه لا يحسن منه شيئا؛و أمّا ما ورد بالزعم
أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:قال لأحد كتبة الوحي:
«ألق الدواة،و حرف القلم،و أنصب الباء،و فرق السين و لا تعور الميم،و حسن اللّه،و مد الرحمن،وجود الرحيم،وضع قلمك على أذنك اليسرى فإنه أذكر لك» (2).فموضوع لا أصل له،و يدل على وضعه و نحله كون النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أميا،فما أدراه بأصول الخط؟و ما هي معرفته بالحروف و مميزات كتابتها و هو فاقد لأصل الصنعة،و فاقد الشيء لا يعطيه كما يقولون،و ليس في ذلك انتقاص للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لا غض من منزلته،و لكن1.
ص: 133
الحقيقة التي نطق بها القرآن في أكثر من موضع بأنه أمي،و هذه الحقيقة صاحبت حياته كلها،و هي ليست نقصا في شأنه،بل اقتضتها الحكمة الإلهية،لدرء تخرصات المشركين و ارتياب المبطلين،فهي كرامة لا منقصة،و تشريف لا تضعيف،و تكريم لا توهين.
لقد أوتي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جوامع الكلم،و فصل الخطاب،و النص المتقدم لا ينسجم مع بلاغة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم القولية،و لا يتفق مع فصاحته المتناهية، فالصنعة بادية على النص،و التكلف بين السمات عليه،و عدم ارتباطه فنيا يبعده عن كلام أفصح من نطق بالضاد،ثم ما هي علاقة الكتابة بوضع القلم على الأذن اليسرى؟و هل يصدق أن يكون هذا الهراء من كلام الرسول؟و أين هي المعاني الجامعة في هذا النص الهزيل؟و ما هو وجه النظم بين فقراته التائهة،و ما هو المراد منها؟ الثاني:لو كان رسم المصحف توقيفيا،لكانت خطوط كتاب الوحي واحدة،و ليس الأمر كذلك،فقد أشير كثيرا إلى اختلاف المرسوم منها في جملة من الروايات.
الثالث:ليس في كتابة أي نص سر من الأسرار كما يدعى،و أنّى توصل لذلك؟و كيف يطلق الكلام جزافا؟و هل هنالك من له أدنى مسكة من عقل،أو إثارة من علم فيدعى أن رسم المصحف معجز كنظم القرآن، و القرآن معجزة بتحديه و نظمه و حسن تأليفه،و تفوقه باستعاراته و مجازاته و كناياته،و ارتباط كل ذلك بالكشف عن الغيب،و التحدث عن المجهول، و استقراء الأحداث،و اشتماله على الإعجاز التشريعي-مضافا إلى الإعجاز البلاغي-الذي لا يناسب البيئة التي نزل بها القرآن،و تمكنه بأسراره العلمية و نظرياته الثابتة،القرآن معجز بصورته الفنية التي اعتبرت اللفظ حقيقة،و المعنى حقيقة أخرى،و العلاقة القائمة بينهما حقيقة ثالثة،و هل يقاس هذا بالخط و الإملاء؟و ما إعجاز الخط و ما هي أسرار الإملاء؟حتى لا تهتدي العقول إلى سر زيادة الألف في جملة من الكلمات،و حذفها من كلمات أخرى،نعم السر واضح،و هو بكل بساطة و كل تواضع و كل موضوعية:خطأ الكاتبين،و لا علاقة لخطئهم بالنص،فالنص القرآني متعبد بتلاوته لا برسمه،و لا يطالب الأوائل بأكثر من هذا الجهد في ضبط النص
ص: 134
القرآني بعد أن
ورد عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قوله: «نحن أمة أمية لا نكتب و لا نحسب» (1).
فكتابة المصحف إذن كانت في ضوء ما ألفوه من الهجاء،و اعتادوه من الرسم،و ذلك قصارى جهدهم،و ما ورد فيها من منافيات أصول الخط،لا يتعارض مع أصول المعاني و مداليل الألفاظ،فالإملاء لا يغير نطقا،و لا يحرف معنى.
الرابع:ليس من المنطق العلمي و لا من المنهج الموضوعي أن نقارن -و لو بوجه ضئيل-بين الرسم المصحفي الذي كتبه بشر،و بين أوائل السور القرآنية ذات الحروف المقطعة التي قام الإجماع و التواتر على أنها من الوحي الإلهي و النص القرآني،و للعلماء فيها آراء و اجتهادات،و في مضامينها روايات و أخبار،و في عرضها رموز و إشارات،و ليس هذا موضع بحثها فلسنا بصددها،إلا أنها من القرآن المعجز،و ليس الرسم المصحفي من الإعجاز في شيء و إنما هو يخضع لمدى ما يحسن الكاتب،و أين التحدي من السماء بالإعجاز إلى الصنعة الأرضية التي تتفاوت جودة و ضعفا و إتقانا.
و قد حقق عبد الرحمن بن خلدون(ت:808 ه)في قضية الرسم القرآني،و ألقى مزيدا من الأضواء الكاشفة،على فكرة التعصب للرسم العثماني،و انتهى من فلسفة القول في الخط عند العرب بعامة فقال:
«و كان خط العرب لأول الإسلام غير بالغ إلى الغاية من الأحكام و الإتقان و الإجادة،و لا إلى التوسط،لمكان العرب من البداوة و التوحش، و بعدهم عن الصنائع.انظر ما وقع لأجل ذلك في رسمهم المصحف، حيث رسمه الصحابة بخطوطهم،و كانت غير محكمة الإجادة،فخالف الكثير من رسومهم ما اقتضته رسوم صناعة الخط عند أهلها.
ثم اقتفى التابعون من السلف رسمهم فيها تبركا بما رسمه أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و خير الخلق من بعده،المتلقون لوحيه من كتاب اللّه2.
ص: 135
و كلامه،كما يقتفى لهذا العهد خط ولي أو عالم تبركا،و يتبع رسمه خطأ أو صوابا.
و أين نسبة ذلك من الصحابة فيما كتبوه،فاتبع ذلك و أثبت رسما، و نبه علماء الرسم على مواضعه.و لا تلتفتن في ذلك إلى ما يزعمه بعض المغفلين من أنهم كانوا محكمين لصناعة الخط،و أن ما يتخيل من مخالفته خطوطهم لأصول الرسم كما يتخيل،بل لكلها وجه،و ما حملهم على ذلك إلا اعتقادهم أن في ذلك تنزيها للصحابة رضوان اللّه عليهم،عن توهم النقص في قلة إجادة الخط،و حسبوا أن الخط كمال،فنزهوهم عن قصه، و نسبوا إليهم الكمال بإجادته،و طلبوا تعليل ما خالف الإجادة عن رسمه و ليس ذلك بصحيح.
و اعلم أن الخط ليس بكمال في حقهم،إذ الخط من جملة الصنائع المدنية المعاشية،و الكمال في الصنائع إضافي و ليس بكمال مطلق،إذ لا يعود نقصه على الذات في الدين،و لا في الخلال.و إنما يعود على أسباب المعاش،و بحسب العمران و التعاون عليه،لأجل دلالته على ما في النفوس.
و لقد كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أميا،و كان ذلك كمالا في حقه،و بالنسبة إلى مقامه، لشرفه و تنزهه عن الصنائع العملية التي هي أسباب المعاش و العمران كلها.
و ليست الأمية كمالا في حقنا نحن،إذ هو منقطع إلى ربه،و نحن متعاونون على الحياة الدنيا» (1).
و رأي ابن خلدون واضح الأبعاد في إلقاء التبعة على من يتصور أن الخط كمال مطلق في حد ذاته،و إن فقدانه يشكل نقصا جليا،و عيبا لا يطاق،و صوبوا في كتابته من أخطأ،و ليس الأمر كذلك،فالإخلال ببعض قواعد الخط،و جملة من أصول الإملاء ليس نقصا بحقهم،بل هي الطاقة و جهد المقدور،و التعظيم لمنزلة الصحابة لا يعني أن نغض الطرف عن خطأ هجائي و أصل إملائي فمنزلتهم شيء،و حقائق الأمور شيء آخر،ق.
ص: 136
و لهذا كان ابن خلدون فيما قدمه من رأي جريئا في الحكم،و سخيا في العرض،و واقعيا في المبادرة.
و هناك موقف للباقلاني(ت:403 ه)يتناسب مع الذائقة الفطرية، لطبيعة الأشياء،فما لم يفرض فيه أمر،لا يستنبط منه حكم،و ما لا وجه له لا يجدد بوجه مخصوص،لقد بين حقيقة هذا الأمر بقوله:
«و أما الكتابة،فلم يفرض اللّه على الأمة فيها شيئا،إذ لم يأخذ على كتاب القرآن و خطاط المصاحف رسما بعينه دون غيره،أوجبهم عليهم و ترك ما عداه،إذ وجوب ذلك لا يدرك إلا بالسمع و التوقيف،و ليس في نصوص الكتاب و لا مفهومه:أن رسم القرآن و ضبطه لا يجوز إلا على وجه مخصوص،و حد محدود،و لا يجوز تجاوزه،و لا في نص السنة ما يوجب ذلك و يدل عليه،و لا في إجماع الأمة ما يوجب ذلك،و لا دلت عليه القياسات الشرعية.بل السنة دلت على جواز رسمه بأي وجه سهل،لأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يأمر برسمه،و لم يبين لهم وجها معينا،و لا نهى أحدا عن كتابته،و لذلك اختلفت خطوط المصاحف؛فمنهم من كان يكتب الكلمة على مخرج اللفظ،و منهم من كان يزيد و ينقص لعلمه بأن ذلك اصطلاح و أن الناس لا يخفى عليهم الحال.و لأجل هذا بعينه جاز أن يكتب بالحروف الكوفية و الخط الأول،و أن يجعل اللام على صورة الكاف،و أن تعوّج الألفات،و أن يكتب على غير هذه الوجوه،و جاز أن يكتب المصحف بالخط و الهجاء القديمين،و جاز أن يكتب بالخطوط و الهجاء المحدثة،و جاز أن يكتب بين ذلك.
و إذا كانت خطوط المصحف،و كثير من حروفها مختلفة متغايرة الصورة،و كان الناس قد أجازوا أن يكتب كل واحد منهم بما هو عادته، و ما هو أسهل و أشهر و أولى،من غير تأثيم و لا تناكر؛علم أنه لم يؤخذ في ذلك على الناس حد محدود مخصوص،كما أخذ عليهم في القراءة و الأذن،و السبب في ذلك أن الخطوط إنما هي علامات و رسوم تجري مجرى الإشارات و العقود و الرموز،فكل رسم دال على الكلمة،مفيد لوجه قراءتها.تجب صحته و تصويب الكاتب على أية صورة كانت.
و بالجملة فكل من ادعي أنه يجب على الناس رسم مخصوص وجب
ص: 137
عليه أن يقيم الحجة على دعواه و أنى له ذلك» (1).
و رأي الباقلاني قوي الحجة بجواز كتابة المصحف بأي خط اتفق، يدل على ألفاظ القرآن و يفصح عن قراءته،بدليل ثبوت كتابته بالحروف الكوفية،و بالخطوط المحدثة،و بالهجاء القديم،و فيما بين ذلك.
و مع أصالة هذا الرأي الذي لم يتأثر بميل أو هوى فقد تجد من يأتي بعده،و يتكأ على كثير من آرائه يخالفه جملة و تفصيلا،دون دليل علمي في الموضوع.
قال القسطلاني:(ت:923 ه)و أكثر رسم المصاحف موافق لقواعد العربية،إلا أنه قد خرجت أشياء عنها،يجب علينا اتباع مرسومها، و الوقوف عند رسومها،فمنها ما عرف حكمه،و منها ما غاب عنا علمه» (2).
و القسطلاني يريد بتعبيره بأن أكثر رسم المصاحف موافق لقواعد الإملاء العربي،و أصول الخطوط،و ما خرج عن ذلك يجب اتباعه في نظره،و لا أعلم من أين استفاد وجوب اتباع مرسوم هذه الخطوط، و الوقوف عند رسومها،و ما هي فلسفة حكمة من الأخطاء الإملائية،و ما غاب عنا علمه من الاشتباهات الهجائية،و ليست تلك إلا أمور موهومة، دعا إليها الغلو الفاحش،و الطيش في العاطفة،و هو نفسه يقول:
«ثم إن الرسم ينقسم إلى قياسي،و هو موافقة الخط للفظ، و اصطلاحي،و هو مخالفته ببدل،أو زيادة،أو حذف،أو فصل،أو وصل،للدلالة على ذات الحرف،أو أصله،أو فرعه،أو رفع لبس،أو نحو ذلك من الحكم و المناسبات» (3).
و هذا هو التقسيم الصحيح،و الرسم المصحفي اصطلاحي لا شك، تواضع عليه كتبة المصاحف الأولى،و اشتمل على مخالفة الخط للفظ،في1.
ص: 138
وجوه البدلية و الزيادة و النقصان و الحذف و الفصل و الوصل،و كان ذلك شائعا في جملة من الحروف،لا سيما في إبدال الألف ياء،و زيادة الألف بعد واو الجماعة الداخلة على بعض الأسماء،و حذفها بعد جملة من الأفعال في ذات المكان،و إثباتها لبعض الأفعال المعتلة بالواو،و في إثبات الهمزة في الوصل حينا،و حذفها حينا آخر،و في ما فيه قراءتان و الرسم على أحدهما،كما هو ملاحظ في جملة من خطوط الرسم المصحفي.
و قد حصر السيوطي أمر الرسم المصحفي في الحذف،و الزيادة، و الهمز،و البدل،و الفصل،و ما فيه قراءتان فكتب بأحدهما (1).
و لا حرج مطلقا في أن يكتب المصحف كاتب،أو يطبعه طابع،بأي هجاء شاء،ما دام لا يخرج عن النطق المطلوب،كما أنزله اللّه تعالى، و كما تنطق به العرب،إذ لا يختلف اثنان في أن المراد بالقرآن هو ألفاظه و معانيه،و مقاصده و مراميه،لا هجاؤه و رسمه و هيكله،و القرآن ما رسم بهذا الرسم،و لا كتب بهذا الهجاء،إلا لأنه الهجاء المعروف المتداول في العصر الأول (2).
و ما القول بوجوب اتباع الرسم القديم،و عدم مخالفته و تعديه،إلا نوع من أنواع التزمت الذي لا يتفق مع النهج العلمي،و الارتفاع بتقدير الأوائل من مستوى الاحترام المناسب إلى مستوى التقديس اللامعقول، و بهذا الملحظ فإننا لا نميل إلى ما قرره البيهقي في«شعب الإيمان»بقوله:
«من كتب مصحفا فينبغي أن يحافظ على الهجاء التي كتبوا فيها المصاحف،و لا يخالفهم فيها،و لا يغير مما كتبوه شيئا،فإنهم أكثر علما، و أصدق قلبا و لسانا،و أعظم أمانة منا،فلا ينبغي أن نظن بأنفسنا استدراكا عليهم» (3).1.
ص: 139
بل نذهب إلى جواز المخالفة،و تيسير القرآن بالخط و الهجاء الذي لا لبس فيه،فلا يؤدي إلى اختلاف،و لا يؤول إلى إبهام،و ليس في ذلك تحامل على السلف،فليس الخط و نقصانه مما يشكل استخفافا بهم،و لا هو يتنافى مع ورعهم و تقواهم،و لا علاقة له بأنهم أصدق لسانا،و أعظم أمانة،ما دام أن الخطوط لم تكن متكاملة المعالم في عهودهم.
يقول الأستاذ أحمد حسن الزيات:«الغرض من كتابة القرآن:أن نقرأه صحيحا لنحفظه صحيحا،فكيف نكتبه بالخطإ،لنقرأه بالصواب؟و ما الحكمة أن يقيد كلام اللّه بخط لا يكتب به اليوم أي كتاب» (1).
و لقد كان عز الدين بن عبد السلام جريئا و محافظا في وقت واحد بقوله:
«لا يجوز كتابة المصحف الآن على الرسوم الأولى باصطلاح الأئمة،لئلا يوقع في تغيير من الجهّال،و لكن لا ينبغي إجراء هذا على إطلاقه،لئلا يؤذي إلى دروس العلم،و شيء أحكمته القدماء لا يترك مراعاته لجهل الجاهلين،و لن تخلو الأرض من قائم للّه بالحجة» (2).فهو يدعو إلى تطوير الرسم المصحفي رفعا لمشاكل القراءة عند المحدثين، و يدعو إلى الاحتفاظ بالرسم العثماني كجزء من التراث الذي لا يترك حبا بالأقدمين.
و لقد أوضح السيوطي حقيقة مخالفة الخط المصحفي في بعض الحروف لقواعد الخط العربي فقال:«القاعدة العربية أن اللفظ يكتب بحروف هجائية مع مراعاة الابتداء و الوقف عليه،و قد مهد النجاة له أصولا و قواعد،و قد خالفها في بعض الحروف خط المصحف الإمام» (3).
و أنى كانت وجهة النظر تجاه الرسم المصحفي،فهي لا تعني شيئا ذا أهمية قصوى،لأنها مسألة شكلية لا تتعلق بجوهر القرآن،و لا تغير4.
ص: 140
حقيقته،لأن اختلاف بعض الخطوط لقواعد الهجاء لا يحل حراما و لا يحرم حلالا،ليتحقق بعد هذا كله التأكيد الإلهي بحفظ القرآن،سالما من التحريف،مصانا عن الزيف.
و قد شاءت العناية الإلهية أن يظل شكل القرآن متجاوبا مع اختلافات الرسم في كل العصور،و متجانسا مع عملية التطوير الكبرى للخط العربي، فقد دأب المتخصصون بصياغة الخطوط و طرائقها أن ينقلوه من جيل إلى جيل مطابقا للأصل الكوفي مع إضافة الأشكال التطويرية زيادة في الإيضاح،و رفعا للالتباس،و كان ذلك متواترا طيلة أربعة عشر قرنا من الزمان،فما وجدنا في طول العالم الإسلامي و عرضه نصا قرآنيا يخالف نصا آخر،و لا مخطوطا يعارض مخطوطا سواه،حتى هيأ اللّه تعالى الطباعة،لتزود المسلمين بل الناس أجمعين،بملايين النسخ من القرآن الكريم،و بمختلف الطبعات الأنيقة و المذهبة و المحكمة،و هي تعطر كل بيت،و تشرف كل منتدى،و تحتل صدر كل مكتبة.
و كان دور الطباعة مهما في نشر القرآن الكريم في كل من أوروبا و البلدان الإسلامية و الواطن العربي.
فقد نشر القرآن مطبوعا للمرة الأولى في البندقية في حدود سنة 1530 م،بيد أن السلطات الكنسية وقفت منه موقفا متعصبا،فأصدرت أمرا بإعدامه عند ظهوره؛ثم قام هنكلمان بطبع القرآن في مدينة هانبورغ عام 1694 م،و تلاه(مراتشي)بطبعه في بادو عام 1698 م.
و قد ذكر كل من بلاشير و شزر و بفنلمر أن أول طبعة إسلامية القرآن كانت في سانت بطرسبورج بروسيا عام 1787 م و هي التي قام بها مولاي عثمان،و بعد هذا قدمت إيران طبعتين حجريتين الأولى في طهران عام 1828 م و الثانية في تبريز عام 1833 م (1).
و في مصر قام الشيخ رضوان بن محمد الشهير بالمخللاتي بكتابة مصحف عني فيه بكتابة الكلمات في ضوء الرسم العثماني،و قدم له بمقدمةه.
ص: 141
أبان فيها تحرير المصحف و رسمه و ضبطه،و طبع بمطبعة حجرية هي المطبعة البهية في القاهرة عام(1308 ه) (1).
و كانت هذه الطبعة الأولى من نوعها في القاهرة،و قد استدركت عليها بعض الملاحظات المطبعية عولجت فيما بعد.
و في القاهرة،عام 1342 ه-1923 م تشكلت لجنة عليا من مشيخة الأزهر،مستعينة بكبار العلماء،بإقرار من قبل الملك فؤاد الأول،كان قوامها كل من:شيخ المقارئ المصرية محمد خلف الحسيني،و الأستاذ حفني ناصف العالم اللغوي،و مصطفى عناني،و أحمد الاسكندري.
و قد اضطلعت هذه اللجنة بمهمة ضبط المصحف و رسمه و شكله، فكتب القرآن-بإقرارها-موافقا للرسم العثماني،و على قراءة عاصم بن أبي النجود الكوفي،برواية حفص بن سليمان الكوفي.ثم طبعته طبعة أنيقة بالنسبة لزمنها،تلقاها العالم الإسلامي بالغبطة،و كان ذلك أساس انتشار طبعات القرآن الأخرى،ففي عام 1924 تم طبع القرآن في مطبعة بولاق في القاهرة،و كانت هذه الطبعة هي الطبعة الرسمية للقرآن في نظر المستشرقين (2).و بعبارة أخرى فهي القرآن الرسمي عندهم.
و كان القرآن قد طبع بحجم صغير في عام(1337 ه)في مطبعة بولاق أيضا،و أعيدت طبعته في(1344،1347) (3).
و قد بقي طبع القرآن في الوطن العربي بل الإسلامي مقتصرا على مصر في أغلبية مشروعاته،ثم قامت عدة دول بطبع القرآن طبعات أنيقة فاقت ما قدمته مصر،كان ذلك في عصر تقدم الطباعة و آلاتها و مستلزماتها،و تحسين الورق و ازدهار الخطوط،و كان ذلك حديثا و في بدايات النصف الثاني من القرن العشرين،حينما استعانت هذه الدول1.
ص: 142
بمطابع راقية في الدول الغربية لسحب ملايين النسخ من القرآن الكريم بأبهى حلة لا سيما في مطابع ألمانيا و شركاتها،و كان في طليعة من تصدى لهذا العمل من دول الشرق الإسلامي و غربه كل من:العراق و تركيا و إيران و سوريا و المغرب و الجزائر و تونس و غيرها.
و في ضوء جميع ما تقدم نجد أن شكل القرآن قد استقر الآن على ما استقر عليه بالتحسينات و الإيضاحات و الأناقة الطباعية،مما نقطع معه إن لم يقدر لأي أثر ديني أن يحتفي بهذا القدر من الاحتفاء كما قدر للقرآن الكريم،كتابة،و شكلا و رسما،و حفظا،و طباعة،و انتشارا.
ص: 143
ص: 144
ص: 145
ص: 146
لا حاجة بنا إلى القول بأن القرآن الكريم قد وصل إلينا كما نزل، و قد حفظ بين الدفتين كما أوحي،فالحديث عن سلامة القرآن و صيانته من البديهيات،و الاعتقاد بخلوه من الزيادة و النقصان من الضروريات.
و القرآن في منأى عن التحريف في نصوصه و آياته،إذ لم يضف إليها ما ليس منها،و لم يحذف ما هو منها،فالموجود بين أيدينا هو النص القرآني الكامل في ضوء ما أسلفناه من وحي القرآن،و نزول القرآن،و جمع القرآن،و قراءات القرآن،و شكل القرآن،إذ تضافرت هذه العوامل جميعا على ضبطه كما أنزل،زيادة على العناية الإلهية التي رافقت هذه العوامل، و صاحبت هذا النص.
إن الدلائل العلمية تأكد حقيقة صيانة القرآن كيانا متماسكا مستقلا لم تصل إليه يد التحريف،و لم تستهدفه نبال العوادي،و ليس هذا أمرا اعتباطيا تحكمت فيه الظروف أو الصدف،بل هو أمر حيوي قصدت إليه إرادة الغيب بإشاءة اللّه تعالى،و تأسيسا على ذلك فلا يغير القرآن غرض طارئ، و لا عدوان مباغت.
و حديثنا عن سلامة النص القرآني يقتضي دحض أي ادعاء مغاير،ورد أي اتجاه مناوئ،و هذا يدعو إلى تصفية دعاوى التحريف و تفنيد أباطيلها من الوجوه كافة.
و دعاوى التحريف لدى غربلتها،و دراسة مظاهرها،نجدها تتردد بين عدة ظواهر هي:
ص: 147
الادعاءات،الافتراضات،أخبار الآحاد،الاتهامات،الشبهات، المحاولات.
و رصد هذه الظواهر يحتم مسايرة الموضوع لجزئياتها،و لدى مسايرة الموضوع بجزئياته،و الظواهر بحيثياتها،تجلى بطلان قسم منها،و فشل القسم الآخر،و تعثر الجزء الأخير في تحقيق الدعوى.
و سنقف عند هذه الظواهر وقفة المقوم المتحدي،و الناقد الموضوعي.
أولا:الادعاءات،و يثيرها عادة زمرة من المستشرقين دون أساس يعتمد عليه،حتى بدا بعضهم مترددا متخاذلا،و البعض الآخر متحاملا.
فمع الجهد الكبير الذي بذله المستشرق الألماني الدكتور تيودور نولدكه(1836 م-1930 م)في كتابه القيم عن تأريخ القرآن؛إلا أننا نجد موقفه أحيانا غريبا و متناقضا،ففي الوقت الذي يعقد فيه بكتابه فصلا بعنوان:(الوحي الذي نزل على محمد و لم يحفظ في القرآن)و الذي يبدو فيه قائلا بالتحريف تلميحا،نجده يصرح بذلك في مادة قرآن بدائرة المعارف الإسلامية فيقول:«إنه مما لا شك فيه أن هناك فقرات من القرآن ضاعت و يثني على هذا الموضوع الخطي في دائرة المعارف البريطانية،مادة قرآن فيقول:«إن القرآن غير كامل الأجزاء» (1).
و جملة ما أثاره لا يعدو الادعاءات التي يصعب معها الاستدلال المنطقي،و يبدو أن نولدكه قد تنازل عن آرائه و تراجع عنها شيئا ما،فحينما ظهر كتاب المستشرق الألماني«فوللرز»عن لغة الكتابة و اللغة الشعبية عند العرب القدماء،أثار نقاشا حادا،فقد زعم«فوللرز»في كتابه هذا أن القرآن الكريم قد ألف بلهجة قريش،و أنه قد عدّل و هذب حسب أصول اللغة الفصحى في عصر ازدهار الحضارة العربية،و قد انبرى نولدكه نفسه للرد عليه موضحا أن كلامه عار من الصحة و التحقيق العلميين (2).3.
ص: 148
ثم قرر نولدكه بعد هذا أن النص القرآني يعتبر على أحسن صورة من الكمال و المطابقة (1).
لقد فتح(نولدكه)الطريق أمام القول بتحريف القرآن،ثم بدا مدافعا عنه،مما بدا فيه متناقضا بين السلب و الإيجاب في الموضوع.
و إذا كان ما قدمه الأستاذ نولدكه قد تضاءل قيمة نظرا لتردده في الأمر،و عدم وضوح الرؤية له فيه،فإن ما كتبه الأستاذ بول بكثير من عدم التورع،لا يمكن أن يتهاون فيه.
لقد ألقت مسألة التحريف التي أثارها بعض المستشرقين،عند الأستاذ بول بثقلها،فكتب عنها بحثا في دائرة المعارف الإسلامية الألمانية (2).
اعتبر بول التحريف تغييرا مباشرا لصيغة مكتوبة،و أن الأمر الذي حدا بالمسلمين إلى الاشتغال بهذه الفكرة هو ما جاء بالقرآن من آيات اتهم فيها محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اليهود و بتغيير ما أنزل إليهم من كتب و بخاصة التوراة.
و لكن عرضه للوقائع و الشرائع التي جاءت في التوراة انطوى على إدراك خاطئ أثار عليه النقد و السخرية من جانب اليهود،فكان في نظرهم مبطلا.
و قد خلط(بول)في هذا البحث خلطا غير متناسق،و اكبته فيه النزعات المنحرفة،و صاحبه إسراف و إفراط لا يمتان إلى استكناه الحقائق بصلة.
و الذي يهمنا من بحثه أن نشير إلى ما يلي (3):
أ-إن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يرد الحصول على تأييد أهل الكتاب بالمعنى الذي أشار إليه،و إنما هو تعبير عن وحدة الديانات و الشرائع و الأنبياء في جميع الأطوار،و أن أصول هذه الديانات واحدة،و إن تغيير هذه الحقيقة1.
ص: 149
الواقعة يعتبر تحريفا بالمعنى الذي أشار إليه القرآن: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ (1).
ب-إن الألفاظ التجريحية التي وردت في المقال بالنسبة للرسول الأعظم لا تتفق مع المنهج الموضوعي،فقد أشار بل صرح بأن القرآن من تلقاء نفس النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أنه تحدث في القرآن بطريقة مبهمة،و أن محمدا يستعمل لفظ حرف بدل القرآن.
و هذه مواد لا يفترض بعالم أن يتولى التحدث بها بأسلوب الغمز و اللّمز،و هو ما لا يقبل في بحث علمي،و لسنا نرى ذلك غفلة أو هفوة بل هو تغافل و جفوة.
ج-ادعى الباحث أن خصوم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخذوا عليه نسخ بعض أحكام القرآن بأحكام أخرى،مما حدا بعلماء المسلمين أن يذهبوا مذاهب شتى في تقديرهم للحقائق التي يقوم عليها هذا الاتهام.
و بإيجاز نقول:إن نسخ الأحكام شيء،و التحريف شيء آخر، فالنسخ لا يكون تحريفا،و إنما هو إحلال لحكم مكان حكم،أو رفع لحكم من الأحكام من قبل اللّه تعالى،تخفيفا عن العباد،أو رعاية لمصلحة المسلمين،أو استغناء عن حكم موقوت بحكم مستديم،و ما أشبه ذلك مما يتعلق بالشريعة أو بمعتنقيها،و لا مجال إلى الطعن في هذه الناحية على ادعاء التحريف في القرآن.
د-يقول الباحث،و هو يضرب على وتر حساس:«و قد أثيرت تهمة التحريف فيما وقع من جدل بين الفرق الإسلامية المختلفة.فالشيعة يصرون عادة على أن أهل السنة قد حذفوا و أثبتوا آيات في القرآن بغية محو أو تفنيد ما جاء فيه من الشواهد،معززا لمذهبهم،و قد كال أهل السنة بطبيعة الحال نفس التهمة للشيعة» (2).
و هنا آثار مسألة مهمة في أقدس أثر من تراث المسلمين،و لم يعط4.
ص: 150
دليلا واحدا على صحتها،و لم يثبت مرجعا واحدا يتتبع هذا الاتهام.
و المسلمون جميعا قد اتفقوا على سلامة القرآن من التحريف و تبادل الاتهامات كما سترى فيما بعد،لا يغير من الحقيقة شيئا،و قد كان الأجدر بالباحث أن يتناول الموضوع بشكل آخر،فيعرض إلى آراء المسلمين بخلو القرآن من التحريف،بدلا من تجريح النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و نسبة ما لم يكن إلى المسلمين.
إن مما يؤسف له حقا أن يستغل(بول)نصا من نصوص القرآن في إدانة اليهود(النساء46/)ليبني عليه حكما طائشا على إدراك خاطئ،فيعتبر التحريف تغييرا مباشرا لصيغة مكتوبة في القرآن،و لكنه لم يعطنا نموذجا واحدا على هذا التغيير المباشر،و هذا المنظور الفاضح لم يوافقه عليه حتى المستشرقون أنفسهم،فهناك بضع شهادات لكبار علماء الاستشراق العالمي،تؤكد سلامة النص القرآني من التحريف و التغيير و التبديل،دون كتب الديانات الأخرى.
و قد أورد أبو الحسن الندوي جملة من نصوص و أسماء المستشرقين في هذا الموضوع (1).
إن كثيرا من الأحكام الاستشراقية قد تمليها نزعات عدائية حينا، و تبشيرية حينا آخر،و هنا يكمن الخطر فيجب-و الحالة هذه-أن يعامل الحكم الاستشراقي بكثير من الحذر.
ثانيا:الافتراضات:على مدعي التحريف أن يحدد زمن وقوع التحريف كافتراض أولي لإثارة أصل المشكلة،و إذا أخفق في تحقيق هذا الافتراض بطلت الدعوى من الأساس.
و التحريف المدعي:إما أن يقع في عصر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إما في عهد الشيخين،و إما في عصر عثمان،و إما زمن الإمام علي عليه السّلام،و إما في الحكم الأموي،إذ لا يخلو ذلك عن أحد هذه الأزمنة،إذ لم يدع أحد-1.
ص: 151
على ما افترض-وقوع التحريف بعد العصر الأموي.
أما الافتراض الأول،و هو وقوع التحريف في عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فباطل إجماعا،بما تبين لنا من مدارسة ظاهرة الوحي و معطياتها،فقد ثبت أن الوحي منفصل عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في شخصيته المستقلة،و أنه مؤتمن على الرسالة،و قد أداها متكاملة غير منقوصة بنص القرآن الكريم: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً... (1).
فلو كان هناك ما يمنع من الكمال،لما أيده القرآن،و أي مانع عنه أفظع من إباحة التحريف في النص الذي ثبت إعجازه،و كان دليل رسالته، و برهان دعواه،فهذا الافتراض-إذن-مرفوع عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و عن البيئة التي رافقت القرآن في عصره إذ كان الحاكم و المشرع و الآمر.
و أما ادعاء وقوعه في زمن الشيخين،فلم يعضده دليل نصي أو عقلي،و حرص الشيخين على النص القرآني أشهر من أن يذكر،فالدعوى باطلة.
و أما في عهد عثمان،فعثمان هو الذي وجد المصحف على لغة قريش،و القراءات التي سبقت هذا التوحيد كانت اجتهادية في أغلب الظن، و مظنة الخطأ لو وقعت في الاجتهاد،فلا أساس لها في مس القرآن الكريم،و انتشار القرآن آنذاك مانع كبير من أن يقع عليه شيء من التحريف،و قد تعرض عثمان لثورة مضادة،فما ادعى عليه شيء من هذا القبيل على الإطلاق،فالدعوى-إذن-باطلة.
و أما في عهد الإمام علي عليه السّلام فلا يصح أن يقع التحريف للأسباب المتقدمة،و لاعتبارات أخرى:
1-إنّ حريجة الإمام علي عليه السّلام في الدين بل و في الجزئيات التشريعية معلومة الحال،فكيف تجاه أصل الدين،و نظام الإسلام،و هو القرآن،فلو سبق أن امتدت له يد التحريف،لما وقف مترددا في إرجاع الحق إلى3.
ص: 152
نصابه،و إلغاء سمات التحريف،فكيف يصح أن يقع في عهده،و هو من هو في ذات اللّه.
2-إن الإمام علي عليه السّلام احتج بالقرآن على أهل الجمل،و دعي إليه في التحكيم مع أهل صفين،فلو كان في القرآن ما ليس منه،أو أنه لم يشتمل على كل القرآن،لما صح له به الاحتجاج،و لا قبوله في التحكيم، و هذا أمر مشهور لا يحتاج معه إلى برهان.
3-إن خطب الإمام علي عليه السّلام في نهج البلاغة،تشير إلى القرآن في كثير من التفصيلات هداية و استرشادا و توجيها للناس،فلو كان هناك مما يدعي شيء لأبان ذلك على الأقل و أنكره،و لاحتج فيه على من تقدمه، فلما لم يفعل ذلك علمنا بسلامة القرآن.
«أما دعوى وقوع التحريف بعد زمان الخلفاء لم يدعها أحد فيما تعلم،غير أنها نسبت إلى بعض القائلين بالتحريف،فادعى أن الحجاج لما قام بنصرة بني أمية أسقط من القرآن آيات كثيرة كانت قد نزلت فيهم...
و هذه الدعوى تشبه هذيان المحمومين...فإن الحجاج واحد من ولاة بني أمية،و هو أقصر باعا،و أصغر قدرا من أن ينال القرآن بشيء،بل و هو أعجز من أن يغير شيئا من الفروع الإسلامية،فكيف يغير ما هو أساس الدين و قوام الشريعة،و كيف لم يذكر هذا الخطب العظيم مؤرخ في تأريخه» (1).
إذن فالافتراضات الموهومة جميعا لا تقوم على أساس علمي أو عقلي،فهي مرفوضة جملة و تفضيلا،بعد أن ثبت بطلانها جزئية جزئية، و فرضية فرضية.
ثالثا:الروايات،و التي عبرنا عنها بأنها أخبار أحاد،و هو كذلك، فهي متناثرة هنا و هناك،و يستنتج منها وقوع التحريف تصريحا أو تلميحا، و لكنها لا تصلح دليلا في قضية،و لا برهانا على دعوى،إذ لم تبلغ حد9.
ص: 153
الشهرة فضلا عن التواتر،و لأن الضعف الكذب و التدليس واضح الإمارات في الرواة،و الاضطراب و التناقض متوافر في الأسانيد،و أبرزها كالتالي:
1-نسبوا إلى ابن مسعود(رض)أنه أسقط سورة الفاتحة من مصحفه (1).
أقول و هي رواية يجوز معها الشك و السهو و النسيان و إن لم نقل الكذب للأسباب التالية:
أ-قال ابن حزم:هذا كذب على ابن مسعود (2).
ب-إنها معارضة بقراءة ابن مسعود لها في الصلاة،و لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب.
ج-إن صحت الرواية،فقد غلب على ظن ابن مسعود أن الفاتحة لا يمكن أن تنسى لوجوب تعلمها على المسلمين كافة،و إن ما كتب من القرآن كان لمخافة النسيان و الضياع.
د-إن مصحف ابن مسعود و أمثاله ليست إلا مصاحف فردية،كمن يكتب لنفسه سورة،و يغفل سورة،فإن سقط من مصحفه شيء فلا ينسحب ذلك على القرآن.
ه-إن المصحف الإمام المتداول بالأمس و اليوم عند المسلمين قد اشتمل على الفاتحة،فلا تحريف إذن بهذا الملحظ.
و-يبدو لي أن الرواية مكذوبة على ابن مسعود جملة و تفصيلا للإيهام بدافع سياسي-فلا تحريف إذن بهذا الملحظ.
و-يبدو لي بأن عدم اشتراكه عند جمع المصحف-كما يدعى- كان لهذا و لأمثاله.
2-ما أورده السيوطي و غيره،أن هناك سورتين لم تكتبا بالمصحف، و هما سورة الحفد و سورة الخلع،و ذلك عند الجمع،و قد علمهما علي و عمر،و كان أبي يقنت بهما على ما أورده المروزي،و أنه كان قد كتبهما في مصحفه،و هناك طائفة من الصحابة تستظهرهما و تقرؤهما في الصلاة أو القنوت (3)..-
ص: 154
و يرد على هذه الروايات ما يلي:
أ-إننا قد رجحنا أن يكون القرآن مجموعا في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إذا ثبت ذلك بطلت هذه الدّعاوى.
ب-لو أن عليا و عمر،كانا قد علما بأن هاتين سورتان،فما يمنعهما من إلحاقهما بالمصحف،و هما من القوة بحيث لا يستطيع أحد معارضتهما مجتمعين إطلاقا.
ج-لو كان الإمام علي عليه السّلام يعلم هاتين السورتين،فلم لم يشر بهما إلى أحد ذريته و شيعته لحفظهما من الضياع،و ذلك في عهد خلافته،و لا رواية واحدة تدل على ذلك.
د-إن السياق الجملي للسورتين المزعومتين،لا يتناسب مع مناخ القرآن البلاغي،و لا أسلوبه الإعجازي،و لا لغته المتميزة،فلغة القرآن «سبوح لها منها عليها شواهد،و لغة هاتين السورتين الموهومتين لغة دعاء مجرد» (1).
3-نسب إلى عكرمة أنه قال:لما كتبت المصاحف عرضت على عثمان،فوجد حروفا من اللحن،فقال:لا تغيروها،فإن العرب ستغيرها، أو قال ستعربها بألسنتها» (2).
و لا دلالة في هذا على التحريف إطلاقا،و إذا صح،ففيه دلالة على اشتباه الكتبة،و لكن الأمر المشكل فيها هو لما ذا أمر عثمان بعدم تغييرها، و لما ذا لا يكون هذا الأمر مخترعا لا سيما و أن الرواية منقطعة غير متصلة- لأن عكرمة هذا لم يسمع من عثمان شيئا بل لم يره كما يرى ذلك (3)4-روى ابن عباس عن عمر أنه قال:«إن اللّه عزّ و جلّ بعث محمدا بالحق،و أنزل معه الكتاب،فكان مما أنزل إليه آية الرجم،فرجم5.
ص: 155
رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و رجمناه بعده،ثم قال:كنا نقرأ:(و لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم)أو:(إن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم) (1).
و يرد على هذه الرواية ما يأتي:
أ-لم ترو هذه الرواية متواترة عن عمر،و إنما رويت بطريق الآحاد، و هي بعيدة الصدور عن عمر،إذ لو اعتقد أنها آية(آية الرجم)لأثبتها لأنه كان يحتل الموقع الأول في الدولة مع وجود أبي بكر،و أية قوة تقف في صدر عمر إذا أراد شيئا آنذاك،و على فرض صحة وجود الآية فلا دلالة فيها على التحريف لأنها من نسخ التلاوة،و إن كنا نعارضه.و نعتبره أساسا للقول بالتحريف.
ب-إن حكم الرجم ثابت في السنة،و لا يعني ذلك أن ما ثبت في السنة ثابت في القرآن،بل كلاهما يشكلان أساس التشريع.و هناك جملة من الأحكام كانت السنة أصلا لها و لا ذكر لها في القرآن كإعداد الصلاة، و بعض مراسيم الحج،و أنصبة الزكاة،و هكذا.
5-روى عروة بن الزبير عن عائشة أنها قالت:«كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مائتي آية،فلما كتب عثمان المصاحف لم نقدر إلا ما هو الآن» (2).
و يرد على هذه الرواية إشكالان:
أ-إن عروة بن الزبير ضعيف الرواية.
ب-لو كانت عائشة و هي أم المؤمنين و مسموعة الكلمة،و لها أثرها في الدولة الإسلامية آنذاك تعتقد هذا الأمر فلما ذا أخفته،و حينما عارضت عثمان لما ذا لم تذكر في معارضتها هذا الأمر و هو خطير جدا.
فالأحرى إذن أن تكون الرواية موضوعة لا أصل لها.
6-قال لبيب السعيد في نفي أدلة التحريف و ذكر رواياتها:ما ادعاه2.
ص: 156
بعض الغلاة المنتسبين إلى الشيعة:أن عليا عليه السّلام جمع القرآن فكان فيه ما سموه«فضائح المهاجرين و الأنصار»و أن عمر طلب إلى زيد بن ثابت أن يسقط من القرآن هذه الفضائح... (1).
و هذه الرواية ظاهرة النحل و البطلان من وجوه:
أ-إن الروايات متظافرة على جمع الإمام علي للقرآن حتى سمي ذلك بمصحف علي،و هذا المصحف لا يختلف عن مصاحف بقية الصحابة ممن جمعوا القرآن،و لا عن القرآن المعاصر بشيء،لأن الإمام علي عليه السّلام كان قد ولي الخلافة،و لو كان في القرآن شيء منه لم يثبت لأثبته وفق ما يراه و هو الإمام الحاكم آنذاك.
ب-قد يستفاد من كثير من النصوص-كما أسلفنا القول فيه- (2)أن الإمام علي عليه السّلام قد جمع القرآن و رتبه تأريخيا بحسب النزول و أسبقيته،و لا مانع من هذا،كما أنه قد قسمه على سبعة أجزاء بحسب ما أثبته الزنجاني بعنوان(ترتيب السور في مصحف علي)و قد طبع في لايبزك عام 1871 م (3).
و مع هذا فلا تختلف سور القرآن و نصوصه عن مصاحف المسلمين في شيء،إلا أنه قد يجمع التأويل إلى جنب التنزيل-كما سترى هذا فيما بعد في دفع الشبهات-فيكون مصحفة قد اشتمل على التأويل الصادر عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أخبر به الإمام،أو الصادر عنه هو بالذات مضافا إلى أصل القرآن الكريم،و من قال بغير هذا فأهل البيت و الإمامية برآء منه.
ج-كيف يصح أن تكون هناك سور و آيات قد فاتت جميع المسلمين،و القرآن منتشر بين ظهرانيهم،و لم يستطع أحد أن يحفظ منها شيئا،و قد سبق لنا القول بأن حفاظ القرآن في عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالمئات (4).ن.
ص: 157
د-إن ما قدمه المهاجرون و الأنصار للإسلام و القرآن يعدّ مفخرة و أي مفخرة بحد ذاته،فما هو الذنب الذي اقترفه هؤلاء في عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فرادى أو مجتمعين،حتى ينزل فيهم ما يسمها بالفضائح،و هب أن معدودين تجاوزوا حدودهم،فما نصنع بأولئك الذين يقول فيهم القرآن جهارا نهارا في سورة الفتح:
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللّهِ وَ رِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفّارَ وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً-29 (1) .
قال الأستاذ لبيب السعيد:«و عندي أن نسبة هذه المزاعم إلى الشيعة -بعامة-هو قول تنقصه الدقة فضلا عن الصحة.فهذه طائفة من علماء الشيعة يتبرءون من هذه المزاعم» (2).
7-روى المسور بن مخرمة:«قال عمر لعبد الرحمن بن عوف:أ لم تجد فيما أنزل علينا:(أن جاهدوا كما جاهدتم أول مرة)فإنا لا نجدها.
قال:أسقطت فيما أسقط من القرآن» (3).
و يرد على هذه الرواية أمران:
الأول:ما هي القيمة الكبرى التي يتمتع بها عبد الرحمن بن عوف في المجتمع الإسلامي-آنذاك-و لا يتمتع بها عمر حتى يسأله عن شيء يجيبه به عبد الرحمن بأنه أسقط فيما أسقط من القرآن.
الثاني:من هؤلاء القوم الذين أسقطوا من القرآن ما هو منهم،و كيف يصح التصديق بمثل هذه الأباطيل.
و هناك روايات تجري بهذا المضمار أعرضنا عن ذكرها،و لا كبير أمر2.
ص: 158
بمناقشتها،إذ لا تختلف عما تقدم أملاها الكذب و الاستهانة بمقدرات الكتاب العظيم.و جميعها لا يشكل دليلا واحدا مقنعا على دعوى التحريف.
و في نهاية هذا الجانب نشير أن صاحب كتاب المباني قد عقد فصلا قيما في مقدمته بعنوان الفصل الرابع:(في بيان ما ادعوا على المصحف من الزيادة و النقصان و الخطأ و النسيان و الكشف عنها بأوجز بيان).
و قد تتبع فيه هذا الباب تتبعا إحصائيا و فند فيه مزاعم التحريف (1).
رابعا:الاتهامات،يبدو أن العصر العباسي الأول قد اختار لدوافع سياسية أن ينمي روح التفرقة و الخلاف بين مختلف المسلمين،و أن يخلق من قضايا جزئية متواضعة أمورا كلية مهمة،فنشأ عن ذلك القول بخلق القرآن بين قدمه و حدوثه،و ما جر ذلك من الولايات بين المسلمين على أنها قضية فكرية،و يومها وجدنا التيارات تتقاذف بالآراء على السطح، لتصم هذا بالكفر تارة،و غيره بالنفاق تارة أخرى،و سواهما بالزندقة أحيانا،و نشأت هذه البذرة الخبيثة بين صفوف المسلمين،و وجدت لها مناخا صالحا في تربة العصر العباسي الثاني،حيث عمّق الفرقة،و عصف بالوحدة،فكانت الاتهامات المتبادلة تحبك بالظلام فتلقي بجرانها بين المسلمين،فينقض هذا ما أبرم ذلك،و يردّ ذلك على اتهامات ذه.
و قد وجدت مسألة القول بالتحريف من هذه المسائل،إذا استثنينا القول بنسخ التلاوة،فكل طائفة من المسلمين تنزه نفسها عن القول بها، و بعض المذاهب تنسب القول بها إلى البعض الآخر،و بالنتيجة تجد الجميع يبرءون منها،و هذا هو الصحيح.
فالقاضي أبو بكر الباقلاني(ت:403 ه)يكيل في نكت الانتصار السباب و التهم دون حساب لشيعة أهل البيت عليهم السّلام في القول بالزيادة و النقصان و عقد لذلك عدة أبواب (2)من كتابه لا تقوم على أساس علمي على الإطلاق،و لا تخدم القرآن و لا المسلمين في كل الأحوال.ا.
ص: 159
بينما وجدنا الطبرسي(ت:548 ه)ينسب الزيادة و النقصان فيه إلى الحشوية من العامة (1).
إن ما يؤخذ به هو الاعترافات لا الشهادات التي نجدها هنا و هناك و قد لا تمثل واقعا،و لا تدفع شبهة،إن الروايات المتقدمة لم يقل بها الإمامية،و لم يؤيدها الجمهور،و الدفاع عنها،أو تبني نسخ التلاوة منها، يمهد السبيل إلى القول بالتحريف،و ردّها يعني تزييف مضامينها.
أ-و في هذا الضوء كان ما قرره السيد الخوئي جديرا بالاعتبار،قال:
«المعروف بين المسلمين عدم وقوع التحريف،و أن الموجود بأيدينا هو جميع القرآن المنزل على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الأعظم و قد صرح بذلك كثير من الأعلام،منهم رئيس المحدثين الصدوق محمد بن بابويه،و قد عدّ القول بعدم التحريف من معتقدات الإمامية،و منهم شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي،و صرح بذلك في أول تفسيره«التبيان»و نقل القول بذلك أيضا عن شيخه علم الهدى السيد المرتضى،و استدلاله على ذلك بأتم دليل،و منهم المفسر الشهير بالطبرسي في مقدمة تفسيره«مجمع البيان»،و منهم شيخ الفقهاء الشيخ جعفر كاشف الغطاء في بحث القرآن من كتابه«كشف الغطاء»و ادّعى الإجماع على ذلك،و منهم العلامة الجليل الشهشهاني في بحث القرآن من كتابه«العروة الوثقى»و نسب القول بعدم بالتحريف إلى جمهور المجتهدين.و منهم المحدث الشهير المولى محسن القاشاني في كتابيه(الوافي و علم اليقين).و منهم بطل العلم المجاهد الشيخ محمد جواد البلاغي و في مقدمة تفسيره«ألاء الرحمن».
و قد نسب جماعة القول بعدم التحريف إلى كثير من الأعاظم،منهم شيخ المشايخ المفيد،و المتبحر الجامع الشيخ البهائي،و المحقق القاضي نور اللّه،و أحزابهم» (2).
ب-و تأسيسا على ما تقدم،فقد نفى السيد المرتضى علم الهدى (ت:436 ه)القول بالتحريف جملة و تفصيلا فقال:«إن العلم بصحة نقلا.
ص: 160
القرآن كالعلم بالبلدان،و الحوادث الكبار،و الوقائع العظام،و الكتب المشهورة،و أشعار العرب المسطورة،فإن العناية اشتدت،و الدواعي توفرت على نقله و حراسته،و بلغت إلى حد لم يبلغه فيما ذكرناه،لأن القرآن معجزة النبوة و مأخذ العلوم الشرعية،و الأحكام الدينية،و علماء المسلمين قد بلغوا في حفظه و حمايته الغاية،حتى عرفوا كل شيء اختلف فيه من إعرابه و قراءته و حروفه و آياته،فكيف يجوز أن يكون مغيرا أو منقوصا مع العناية الصادقة و الضبط الشديد...إن العلم بتفسير القرآن و أبعاضه في صحة نقله كالعلم بجملته،و جرى ذلك مجرى ما عم ضرورة من الكتب المصنفة ككتاب سيبويه و المزني،فإن أهل العناية بهذا الشأن يعلمون من تفصيلهما ما يعلمونه من جملتهما،حتى لو أن مدخلا أدخل في كتاب سيبويه بابا في النحو ليس من الكتاب لعرف و ميّز و علم أنه ملحق، و ليس من أصل الكتاب،و كذلك القول في كتاب المزني،و معلوم أن العناية بنقل القرآن و ضبطه،أصدق من العناية بضبط كتاب سيبويه و دواوين الشعر» (1).
ج-قال:الشيخ الطوسي(ت:460 ه)في مقدمة تفسيره:
«المقصود من هذا الكتاب علم معانيه،و فنون أغراضه،و أما الكلام في زيادته و نقصانه فما لا يليق به أيضا،لأن الزيادة فيه مجمع على بطلانها.و النقصان منه؛فالظاهر أيضا من مذهب المسلمين خلافه،و هو الأليق الصحيح من مذهبنا،و هو الذي نصره المرتضى رحمة اللّه،و هو الظاهر في الروايات،غير أنه رويت روايات كثيرة،من جهة الخاصة و العامة،بنقصان كثير من آي القرآن،و نقل شيء منه من موضع إلى موضع،طريقها الآحاد التي لا توجب علما و لا عملا،و الأولى الإعراض عنها،و ترك التشاغل بها،لأنه يمكن تأويلها» (2).
د-و قال الفضل بن الحسن الطبرسي(ت:548 ه):
«و من ذلك الكلام في زيادة القرآن و نقصانه،فإنه لا يليق بالتفسير،1.
ص: 161
فأما الزيادة فيه فمجمع على بطلانها،و أما النقصان منه،فقد روى جماعة من أصحابنا،و قوم من حشوية العامة:أن في القرآن تغييرا أو نقصانا، و الصحيح من مذهب أصحابنا خلافه،و هو الذي نصره المرتضى قدس اللّه روحه،و استوفى الكلام فيه غاية الاستيفاء في جواب المسائل الطرابلسيات» (1).
ه-و تعرض أعلام المعاصرين للمسألة و يهمنا رأي كل من:
1-السيد محسن الحكيم،و هو يصرح:«إن سلف المسلمين كافة، و علماء الإسلام عامة،منذ بدأ الإسلام إلى يومنا هذا،يرون أن القرآن في ترتيب سوره و آياته،هو كما بين أيدينا،و لم يعتقد أحد من السلف في التحريف» (2).
2-السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي،و هو يقول:«إن أي حديث،حول أي تحريف في القرآن،لا يعدو أن يكون خرافة،فإن القرآن الكريم لم يعتره أي تغيير من أي نوع» (2).
و في ضوء ما تقدم من هذه الأقوال الصريحة من قبل أعاظم علماء الاسلام،لا يبقى أدنى شك،في أن لغة الاتهام و التهجم لا يكتب لها الاستمرار في التضليل،لهذا فقد كان الدكتور محمد عبد اللّه دراز مخطئا إن لم يكن مفتريا بقوله:«و لقد ظن بعض الشيعة أن عثمان قد بدل في نص القرآن،أو أنه على وجه التحديد أسقط شيئا يتعلق بعلي بن أبي طالب» (3).
فإنه لم يثبت مرجعا واحدا لاتهامه هذا بل على العكس من ذلك، فقد أورد ما يناقض زعمه،و أورد رأي الشيخ الطوسي بقوله:
«و مهما يكن من أمر،فإن هذا المصحف هو الوحيد المتداول في العالم الإسلامي-بما فيه فرق الشيعة-منذ ثلاثة عشر قرنا من الزمان.9.
ص: 162
و نذكر هنا رأي الشيعة الإمامية(أهم فرق الشيعة)،كما ورد بكتاب أبي جعفر الأم:
«إن اعتقادنا في جملة القرآن الذي أوحى به اللّه تعالى إلى نبيه محمد هو كل ما تحتويه دفتا المصحف المتداول بين الناس لا أكثر،و عدد السور المتعارف عليه بين المسلمين هو(114)سورة،أما عندنا فسورتا الضحى و الشرح تكونان سورة واحدة،و كذلك سورتا الفيل و قريش،و أيضا سورتا الأنفال و التوبة.أما من ينسب إلينا الاعتقاد في أن القرآن أكثر من هذا فهو كاذب» (1).
و هنا يتجلى أن الاتهامات التي لا تستند إلى أصل وثيق،تذهب أدراج الرياح.
خامسا:الشبهات،قد يتذرع القائلون بالتحريف بتوافر بعض الشبهات الدالة على ذلك،و ليس في هذه الشبهات-كما سترى-أدنى دليل على ما يدعون،و سنشير إلى أهمها،و نتعقب ذلك بالرد و الدفع و المناقشة (2).
أ-إن التحريف سنة قد جرت في حياة الأمم السابقة،و القرون الغابرة،فاشتمل حتى على التوراة و الإنجيل و سائر الكتب الدينية،فلم لا يشمل القرآن ما شمل غيره.
و للرد على هذه الشبهة نرصد ما يلي:
1-ليس من سنة الكون التحريف،و لا من طبيعة خرق النواميس الحقة،فموجده أتقن كل شيء صنعا،و أنزله بمقدار،و لا يمثل سنة الكون من يتلاعب بمقدراته من شعوب و أمم و قبائل و أجيال.
2-إن التوراة و الإنجيل لم يتعهد اللّه سبحانه و تعالى-كشأن الكتب السماوية الأخرى-بحفظهما،و لا بصيانتهما،و إنما أو كل ذلك البشر، محنة منه و ابتلاء على طاعته أو معصيته،فاستحفظ على ذلك الأحبار و الربانيين بدلالة قوله تعالى:ه.
ص: 163
إِنّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَ الرَّبّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللّهِ وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النّاسَ وَ اخْشَوْنِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ-44 (1) .
3-إن القرآن نزل على سبيل الإعجاز الدائمي فوجب حفظه تأبيدا، و تلك الكتب جاءت للبيان التوقيتي فلا يستلزم حفظها كحفظه،و لم يرد أنها نازلة على سبيل الإعجاز و التحدي.
ب-هناك روايات تشير صراحة إلى أن كل ما وقع في الأمم السابقة،لا بدّ أن يقع في هذه الأمة،و منه التحريف،بدلالة ما
روي عن الإمام الصادق عليه السّلام:
«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كل ما كان في الأمم السالفة،سيكون في هذه الأمة مثله،حذو النعل،بالنعل،و القذة بالقذة» (2).
و غير هذه من الروايات الدالة على هذا المعنى و يرد عليها ما يلي:
1-إن هذه الروايات أخبار آحاد،و لم يدع فيها التواتر،و إذا كان الأمر كذلك فإنها لا تفيد علما و لا عملا.
2-على فرض صحة هذه الروايات فإنها تدل على مشابهة الأحداث من بعض الوجوه بين الأمم لا في كل جزئياتها و تفصيلاتها فإن وقع التحريف عندها في كتبها،فيكفي في وقوع التحريف في هذه الأمة عدم اتباعهم لحدود القرآن و إن أقاموا حروفه (3).
3-هناك كثير من الوقائع التي حدثت في الأمم السابقة و لم تقع في أمة محمد،و لم تصدر من المسلمين أمثالها و نظائرها،كعبادة العجل،و تيه بني إسرائيل،و غرق فرعون،و ملك سليمان عليه السّلام،و رفع عيسى عليه السّلام إلى السماء،و موت هارون عليه السّلام و هو وصي موسى عليه السّلام قبل موت موسى عليه السّلام نفسه،و ولادة عيسى عليه السّلام من غير أب،و عذاب الاستئصال و غيرها (3).1.
ص: 164
ج-تشير روايات الأئمة من أهل البيت عليهم السّلام إلى أن عليا كان له مصحف غير المصحف المتداول،و هذا يعني التغاير بين المصحفين،أو فرضية الزيادة و النقصان بين النصين،و روايات هذا الباب كثيرة،أبرزها،
قول الإمام علي عليه السّلام:
«يا طلحة إن كل آية أنزلها اللّه تعالى على محمد عندي بإملاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و خط يدي،و تأويل كل آية أنزلها اللّه تعالى على محمد و كل حلال أو حرام،أو حد،أو حكم،أو شيء تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة، فهو عندي مكتوب بإملاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و خط يدي،حتى أرش الخدش... (1).
و منها ما في احتجاجه عليه السّلام على الزنديق من أنه:«أتى بالكتاب كملا مشتملا على التأويل و التنزيل،و المحكم و المتشابه،و الناسخ و المنسوخ، لم يسقط منه ألف و لا لام،فلم يقبلوا ذلك» (2).
و منها ما رواه جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال:«سمعت أبا جعفر يقول ما ادعى أحد من الناس أنه جمع القرآن كله كما أنزل إلا كذاب،و ما جمعه و حفظه كما نزله اللّه تعالى إلا علي بن أبي طالب و الأئمة من بعده عليهم السلام» (2).
و في التوفيق بين هذه الروايات و بين نفي التحريف عن القرآن الكريم، نرى أن الإمام علي عليه السّلام-كما أسلفنا القول- (3)قد جمع القرآن وفق ترتيب خاص،جمع فيه إلى جنب التنزيل التأويل،و فصل فيه بين الناسخ و المنسوخ،و رتب فيه السور أو الآيات ترتيبا تأريخيا بعناية زمن النزول، و لكن لا يعني ذلك أي اختلاف أو تناقض بين ما جمعه و بين القرآن،و قد يستفاد من جملة روايات أخرى أنه أول من جمع القرآن بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم -مع كونه مجموعا في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم-وفق هذا الترتيب الذي لو صح،لقلنا إن ترتيب القرآن اجتهادي،أو أن الإمام علي عليه السّلام قد علم منل.
ص: 165
رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما لم يعلمه غيره،فكان أن جمع القرآن كما أنزل،
فقد روى السدي عن عبد خير عن الإمام علي:
«إنه رأى من الناس طيرة عند وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأقسم أن لا يضع عن ظهره رداء حتى يجمع القرآن،قال:فجلس في بيته حتى جمع القرآن، فهو أول مصحف جمع فيه القرآن،جمعه من قبله،و كان عند آل جعفر» (1).
و ليس في جميع الروايات دلالة على أن المجموع من قبل علي يختلف عن نص القرآن المتداول اليوم،إذ لو كان مخالفا له في شيء لظهر أيام خلافته أو عند ورثته من الأئمة عليهم السّلام،فلمّا لم يكن من هذا شيء يذكر،علمنا سلامة القرآن.
د-و هناك بعض الروايات عن الأئمة تدل بظاهرها على التحريف، منها
ما رواه جابر بن عبد اللّه عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:
«يجيء يوم القيامة ثلاثة يشكون،المصحف و المسجد و العترة.يقول المصحف:يا رب حرفوني و مزقوني،و يقول المسجد:يا رب عطلوني و ضيعوني،و تقول العترة:يا رب قتلونا و طردونا،و شردونا» (2).
و منها قول الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام: «اؤتمنوا على كتاب اللّه فحرفوه و بدلوه» (2).
و لا دليل في هذه الروايات على التحريف بالمعنى المشار إليه،فهي تحمل أن القرآن قد حرّف بحدوده و ضوابطه،فهو لا يعمل به،و لم يحرف بنصوصه و أصوله،فهي ثابتة لم تتغير،و سالمة لم تتحرف،أمّا أن القرآن لا يعمل به،و يشتكي غدا عند اللّه،فهو ما تحمل عليه هذه الروايات دون سواه من المفاهيم.
ه-و هناك شبهة تتلخص في أن كيفية جمع القرآن-بحسب روايات الجمع الموهوم-بشهادة الشهود،و إقامة البينة،تستلزم نسيان بعضه.
ص: 166
القرآن،إما بموت من معه شيء من القرآن فضاع،و إما على سبيل السهو و الخطأ،و عدم الضبط،شأنه في ذلك شأن المجامع الأخرى التي تتعرض للطوارئ.
و الإجابة عن هذه الشبهة و دفعها،نرى أن القرآن-كما سبق بيانه- (1)قد جمع متكاملا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فانتفت الشبهة جملة و تفصيلا.
قال السيد المرتضى علم الهدى(ت:436 ه):
«إن القرآن كان على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مجموعا،مؤلفا على ما هو عليه الآن،و استدلال على ذلك بأن القرآن كان يدرس و يحفظ جميعه في ذلك الزمان،حتى عيّن على جماعة من الصحابة في حفظهم له،و أنه كان يعرض على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و يتلى عليه،و أن جماعة من الصحابة مثل عبد اللّه بن مسعود و أبيّ بن كعب و غيرهما ختموا القرآن على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عدة ختمات، و كل ذلك يدل بأدنى تأمل على أنه كان مجموعا مرتبا غير مبتور و لا مبعوث،و أن من خالف في ذلك من الإمامية و الحشوية لا يعتد بخلافهم، فإن الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث،نقلوا أخبارا ضعيفة،ظنوا صحتها،لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحته» (2).
سادسا:المحاولات،ما زلت أتذكر،قبل عشرين عاما خلت، و نحن طلبة في الجامعة،أن أستاذنا الجليل الدكتور أحمد عبد الستار الجواري عضو المجمع العلمي العراقي،قد لفت أنظارنا-من على كرسي التدريس-إلى حادث خطير،يجب على العرب و المسلمين أن يحتدوا طاقاتهم لمحاربته،و الوقوف بحزم يدا واحدة لصده،و هو قيام إسرائيل بمحاولة جادة لتحريف القرآن.و أتذكر أيضا أننا أصبنا بما يشبه وقع الصاعقة،و قلبنا وجوه الاحتمالات في الموضوع،و بعد حين ظهر صدق الحديث،فقد جاء في الإعلام المصري ما يؤيد هذا النبأ الجلل،و قرأنا آنذاك عن الخطوات التي اتخذت تجاهه.1.
ص: 167
1-في أيلول عام 1960 م أفادت أنباء القاهرة:أن إسرائيل قد قامت بطبع مائة ألف نسخة من القرآن الكريم،و قد أدخلت عليها التحريف،و ذلك بإحداث أكثر من ألف خطأ مطبعي و لفظي متعمد،في طبعة محرفة للقرآن،و قد تم توزيع هذه النسخ المحرفة في جملة من البلدان الآسيوية و الإفريقية،كالمغرب،و غانا،و غينيا،و مالي،و دول أخرى.و قد اكتشفت سفارة الجمهورية العربية المتحدة في المغرب هذه المحاولة الأثيمة،فأشعرت بذلك السلطات في القاهرة،و بعثت إليها ببعض النسخ المحرفة (1).
2-و كان نتيجة هذا العمل اطلاعنا على أبرز مظاهر التحريف المهمة،و هي كالآتي:
أ-حذف الآيتين التاليتين من القرآن الكريم،و منع تدريسهما في مدارس العرب و المسلمين في الأرض المحتلة:
لا يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ(8) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَ ظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ(9) (2) .
ب-حذف كلمة«غير»لينقلب المعنى عكسيا من قوله تعالى:
وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ -85 (3) .
ج-حذف كلمتي«ليست»من الآية الكريمة:
وَ قالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَ قالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ...-113 (4) .3.
ص: 168
د-إبدال عبارة«و اللّه عزيز حكيم»بعبارة«و اللّه غفور رحيم»من قوله تعالى:
وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللّهِ وَ اللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ-38 (1) (2) .
3-لقد أحدث هذا العمل ضجة في الجمهورية العربية المتحدة دون سواها من البلدان العربية و الإسلامية آنذاك،و كان دور الأستاذ الأكبر محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر رحمه اللّه،دورا كبيرا مشرفا فبالإضافة إلى تشاوره مع وزير الأوقاف المصري في الإجراءات الاحترازية لصد هذه الظاهرة،و ذلك بتشكيل لجنة مشتركة لمراجعة المصحف المحرّف،و تعرية الأخطاء المطبعية المعتمدة،و تحذير المسلمين من تداوله،فقد أرسل ببرقية إلى الرئيس جمال عبد الناصر يستشير حميته و غيرته،و مما جاء فيها:
«إن إسرائيل التي قامت على البغي و الطغيان و الاعتداء على المقدرات و المقدسات ما زالت تعيش في هذا البعث،و تحيا في إطار هذا الطغيان،و إنها-بتحريفها القرآن الكريم-تريد القضاء على معتقداتنا و ديننا،و هي بذلك تمارس ما كان عليه آباؤهم من تحريف الكلم عن مواضعه ابتغاء كبت الدعوة الإسلامية و إعاقتها.
إن المسلمين في أنحاء الأرض يهرعون إليكم-و كلهم أمل في قوة إيمانكم،و غيرتكم على دينكم-أن تعملوا على حفظ كتاب اللّه،فتقفوا في وجه هذا العدوان الأثيم...» (3).
4-و فيما عدا مصر لم نجد صوتا حيويا للبلاد العربية و الإسلامية لشجب هذا الاعتداء الساخر،باستثناء الإفتاء السوداني،و الحكومة الأردنية.ه.
ص: 169
فقد أمر مفتي الديار السودانية موظفي المحاكم الشرعية و أصحاب المكتبات العامة بضرورة مراجعة المصاحف قبل تداولها للتأكد من سلامتها من التحريف،و ذلك عن طريق تسرب هذا المصحف الذي نشرته إسرائيل (1).
و أصدرت الحكومة الأردنية بيانا استنكرت فيه جريمة التحريف، و بيّنت عرض إسرائيل على الدول الإفريقية التي وزعت فيها المصحف المحرف،أن ترسل لها من يقوم بتدريس اللغة العربية في إطار النسخة المشوهة من المصحف (2).
و لم تنجح المؤامرة الإسرائيلية في تحريف القرآن،إذ تم اكتشاف الجريمة مبكرا،و أمكن القضاء عليها في مهدها،و تنبه المسلمون في شرق الأرض و غربها إلى هذه الحركة،فعزلت هذه النسخ المزورة و قضي عليها قضاء نهائيا.
5-و لقد كان حدثا عالميا كبيرا ما توصل إلى ابتكاره الأصيل، الأستاذ لبيب السعيد من تفكيره في تسجيل المصحف المرتل،و بعد محاولات و مشاريع و أوليات و عقبات،تم تسجيل القرآن الكريم كاملا، و حفظ صوتا مسموعا مرتلا برواية حفص لقراءة عاصم بن أبي النجود الكوفي،بصوت المرحوم الشيخ محمود خليل الحصري،عدا تسجيلات سواه من القراء،و خصصت مصر و إلى اليوم إذاعة خاصة يتلى بها ليل نهار أسمتها:إذاعة القرآن الكريم.
لقد تم هذا الحدث في صورته النهائية التنفيذية في:23 يوليو 1961 (3).
و تقرر توزيع اسطوانات المصحف المرتل في الدول التي وزعت فيها إسرائيل المصاحف المحرفة (4).م.
ص: 170
و كأنما جاء هذا الحدث ردا حاسما لدرء محاولة التحريف.
و بذلك تحقق لسلامة القرآن الكريم عاملان:الكتابة في المصحف كما نزل،و التلاوة على الأسماع من خلال المصحف المرتل تسجيلا كاملا،محافظا فيه على أصول القراءة،و شرائط العربية،و ترتيل الصوت، ذلك مضافا إلى الحفظ المتجاوب معه في الصدور.
لقد تحقق في هذا الزمان بالذات،و هو زمان ابتعد عن القرآن،ما لم يتحقق له في الأزمان السالفة،من ضبط و شكل،و رسم،و قراءة،و تلاوة، و طباعة،و عناية من كل الوجوه،بما يتناسب مع التأكيد الإلهي بقوله تعالى:
إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ-9 (1) .
و ذلك من معاجز القرآن و أسراره..-
ص: 171
ص: 172
ص: 173
ص: 174
كنت فيما سبق،قد توخيت الدقة في البحث،و الموضوعية في الاستنتاج،و الحيطة في المقارنة،فعرضت أمهات المسائل،و أثرت عشرات الجزئيات،و انتهيت إلى العديد من النتائج،و كان الرائد الأول في جميع ذلك هو استقراء الحقيقة وحدها،و ما يدريك فلعلي قد أصبت الهدف، و لعلي قد أخطأت التقدير،و اللّه أعلم و هو المسدد إلى الصواب.
مهما يكن من أمر،فقد توصلت إلى بعض المؤشرات في النتائج يمكن إجمالها-بكل تواضع-على الشكل الآتي:
1-انتهينا في الفصل الأول من معالجة ظاهرة الوحي معالجة علمية، فرقنا فيها بين الوحي و الكشف و الإلهام،و وجدنا الوحي عملية مرتبطة بحوار ثنائي:بين ذات أمرة،و ذات متلقية،و رأينا ظاهرة الوحي مرئية و مسموعة،و لكنها خاصة بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وحده.
و لم يكن الوحي ظاهرة ذاتية عند النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إطلاقا،بل كانت منفصلة عنه انفصالا تاما،ربما صاحبه من خلالها أمارات خارجية في شحوب الوجه أو تصبب الجبين عرقا،و لكنها أمارات لم تكن لتمتلك عليه وعيه نهائيا، و كان الداعي لبحث ذلك هو الرد على هجمات طائفة من المستشرقين الذين يرون الوحي نوعا من الإغماء،أو مثلا من التشنج،و الأمر ليس كذلك،بل هو استقبال لظاهرة،أعقبه هذا الوقع،استعداد للنشر و التبليغ.بعد هذا أرسينا مصطلح الوحي على قاعدة من الفهم القرآني.
2-انتهينا في الفصل الثاني من تحديد بداية نزول القرآن زمنيا، و تعيين ما نزل منه أول مرة،ثم أشرنا للنزول التدريجي،و ضرورة تنجيم القرآن،و عالجنا هذه الظاهرة بما نمتلك من تقليل لأسرارها،و تقييم
ص: 175
لأبعادها،و أوضحنا إيمان القرآن بمرحلية النزول،و تعقبنا ذلك بتأريخية ما انقسم منه إلى مكي و مدني،و سلطنا الضوء على ضوابط السور المكية و المدنية،و حمنا حول أسباب النزول و قيمتها الفنية،و ما يستأنس منه بجذورها في تعيين النزول زمانيا و مكانيا،و تتبعنا ما نزل من القرآن بمكة أولا بأول،و ما نزل بالمدينة أولا بأول،معتمدين على أصح الروايات و أشهرها،أو بما يساعد عليه نظم القرآن و سياقه،و ختمنا الفصل بجدول إحصائي استقرائي لسور القرآن كافة بترتيبها العددي و المصحفي و الزماني و المكاني.
3-و انتهينا في الفصل الثالث إلى القول:بأن القرآن الكريم قد كان مجموعا في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بل و مدونا في المصحف،و ذلك بمناقشة روايات الجمع و غربلتها،و كانت أدلتنا في هذا الحكم هو سيل الروايات المعتبرة،و وجود مصاحف في عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ظاهرة الختم و الإقراء في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و دليل الكتابة و تواتر الكتاب،و أدلة قطعية أخرى مما يؤكد لنا جمع القرآن في عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كان القصد وراء ذلك إبراز القرآن سليما من الوجوه كافة،يحضى بعناية النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بإشارة من الوحي و دليل من الكتاب،و كان مصحف أبي بكر يتسم بالفردية لا بالصفة الرسمية،و انتهينا في ذلك إلى رأي قاطع بالموضوع،و بحثنا جمع عثمان للمصحف،فكان توحيدا للقراءة،و إلغاء للاختلاف،و كان هذا التوحيد هو النص القرآني الوحيد الذي لا يختلف في صحته اثنان.
4-و انتهينا في الفصل الرابع إلى:اعتبار الشكل المصحفي،و طريق الرواية إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و تعدد لهجات القبائل،مضافا إلى المناخ الإقليمي القائم بين مدرستي الكوفة و البصرة،أسسا قابلة للاجتهاد و الأثر في تعدد القراءات القرآنية،و انتهينا إلى أن الاختلاف كان في الأقل،و الاتفاق في الأكثر،و حددنا وجهة النظر العلمية تجاه القرّاء السبعة و القراءات السبع، و أعطينا الفروق المميزة بين القراءة و الاختيار،و أوردنا مقاييس القراءة المعتبرة،و أشرنا إلى تواتر هذه القراءات عند قوم،و إلى اجتهاديتها عند قوم آخرين،و فرقنا بين حجية هذه القراءات،و بين جواز الصلاة فيها،بما كان فيه بحق بحثا طريفا جامعا لشئون القراءات كافة.
5-و انتهينا في الفصل الخامس إلى:تحقيق القول في شكل القرآن
ص: 176
و رسمه،و بحث جملة الزيادات التوضيحية،و لاحظنا ما أسداه أبو الأسود الدؤلي،و ما ابتكره في إعجام القرآن و نقطه حتى تيسر للخليل بن أحمد الفراهيدي أن يشاركه هذه المكرمة.
و قد وجدنا توسع المسلمين و تجوزهم بوضع التحسينات على الخطوط بقصد معرفة النص و إيضاحه،و نعيهم على من منع ذلك دون مسوّغ،ثم وجدنا الرسم المصحفي و هو يحتل مكانته بشيء من المغالاة حينا،و التقديس غير المعقول حينا آخر،و ظهر لنا أن الرسم ليس توقيفيا، و إنما الخط المصحفي كان باجتهاد ممن كتب،و لم تكن صناعتهم في هذا الفن متكاملة،فكان ما قدّموه من سنخ ما يحسنون لا أكثر و لا أقل، و تعقبنا ظاهرة استنساخ القرآن الكريم حتى وقفنا بها عند حدود انتشار القرآن في الطباعة الأنيقة النموذجية.
6-و انتهينا في الفصل السادس إلى:القول بسلامة القرآن و صيانته من التحريف،و توثيق النص القرآني جملة و تفصيلا،و ناقشنا شبه القائلين بالتحريف،فزيفنا الادعاءات،و دحضنا الافتراضات،و عالجنا الروايات فكانت أخبار آحاد لا تفيد علما و لا عملا،و ناقشنا الاتهامات،و فندنا الشبهات،و تعقبنا المحاولات،و خلصنا من وراء ذلك إلى إنجاز الوعد الإلهي بحفظ القرآن.
ما قدمناه خلاصة مركزة في«تأريخ القرآن»آثرنا فيها المعاناة على الدعة،و المواجهة على الاستكانة،فعادت صفحات مشرقة فيما نعتقد، أخلصنا فيها القصد لخدمة كتاب اللّه،فإن أصبنا الحقيقة فذلك ما نتمناه، و إن كانت الأخرى،فلي من حسن النية ما يسدد الزلل.
و آخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين النجف الأشرف/كلية الفقه د.محمد حسين علي الصغير الجامعة المستنصرية.
ص: 177
ص: 178
ص: 179
ص: 180
1-القرآن الكريم.
2-ابن الأثير،أبو السعادات،المبارك بن محمد الجزري(ت:606 ه)جامع الأصول في أحاديث الرسول.
تصحيح:عبد المجيد سليم،محمد حامد الفقي،مطبعة السنة المحمدية،القاهرة 1949 م.
3-الأصبهاني،حمزة بن الحسن(ت:351 ه تقريبا).التنبيه على حدوث التصحيف،دمشق،1968 م.
4-الأنباري،محمد بن القاسم(ت:328 ه).إيضاح الوقف و الابتداء في كتاب اللّه عزّ و جلّ،دمشق،1971 م.
5-الأنباري،أبو البركات،عبد الرحمن بن محمد(ت:577 ه)نزهة الألباب في طبقات الأدباء،القاهرة،1294 ه.
6-الباقلاني،أبو بكر،محمد بن الطيب(ت:403 ه)نكت الانتصار،تحقيق:محمد زغلول سلام،منشأة المعارف، الاسكندرية،1971 م.
7-البخاري،أبو عبد اللّه،محمد بن إسماعيل(ت:256 ه).الجامع الصحيح،مطبعة محمد صبيح،القاهرة،(د.ت).
8-البلاذري،أحمد بن يحيى بن جابر(ت:279 ه).فتوح البلدان، القاهرة،1901 م.
ص: 181
9-البلوي،أبو الحجاج،يوسف بن محمد المالكي.ألف با،المطبعة الوهبية،القاهرة،1287 ه.
10-البيهقي،أبو بكر،أحمد بن الحسين بن علي(ت:458 ه).
كتاب الأسماء و الصفات،القاهرة،1358 ه.
11-الجرجاني،أبو بكر،عبد القاهر بن عبد الرحمن(ت:471 ه).
الرسالة الشافية،ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن،تحقيق:د.
محمد خلف اللّه،د.محمد زغلول سلام،دار المعارف،القاهرة، 1976 م.
12-ابن الجزري،أبو الخير،محمد بن محمد(ت:833 ه)غاية النهاية في طبقات القراء،القاهرة،1932 م.
13-ابن الجزري:النشر في القراءات العشر،القاهرة،(د.ت).
14-الجهشياري،أبو عبد اللّه،محمد بن عبدوس(ت:331 ه)كتاب الوزراء و الكتاب،تحقيق:مصطفى السقا و آخرين،الطبعة الأولى، مطبعة مصطفى البابي الحلبي،(د.ت).
15-ابن حجر،أحمد بن علي العسقلاني(ت:852 ه)فتح الباري بشرح صحيح البخاري،المطبعة السلفية،القاهرة،1380 ه.
16-ابن حنبل،أحمد بن محمد الشيباني المروزي(ت:241 ه).
المسند،دار المعارف بمصر،القاهرة،1949 م.
17-الخطيب البغدادي،أبو بكر،أحمد بن علي(ت:463 ه).تقييد العلم،تحقيق:يوسف العش،دمشق،1949 م.
18-ابن خلدون،عبد الرحمن بن خلدون(ت:808 ه).المقدمة، طبعة بولاق،القاهرة،(د.ت).
19-الخوانساري،محمد باقر الخوانساري(ت:313 ه).روضات الجنات في أحوال العلماء و السادات.الطبعة الحجرية،ايران، 1307 ه.
20-الداني،أبو عمرو،عثمان بن سعيد(ت:444 ه).المحكم في
ص: 182
نقط المصاحف،تحقيق:د.عزة حسن،المطبعة الهاشمية، دمشق،1960.
21-الداني،المقنع في معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار،تحقيق:
محمد أحمد دهمان،مطبعة الترقي،دمشق،1940 م.
22-ابن أبي داود،أبو بكر،عبد اللّه بن سليمان السجستاني(ت:316 ه).كتاب المصاحف،تحقيق:آرثر جفري،المطبعة الرحمانية، القاهرة،1936 م.
23-الدمياطي البنا،أحمد بن محمد(ت:117 ه).إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر،طبع عبد الحميد أحمد حنفي، القاهرة 1380 ه.
24-الذهبي،الحافظ شمس الدين الذهبي(ت:748 ه).معرفة القراء،تحقيق:محمد سيد جاد الحق،مطبعة دار النشر و التأليف، القاهرة(د.ت).
25-الراغب الأصبهاني،الحسين بن محمد بن الفضل(ت:502 ه).
المفردات في غريب القرآن،تحقيق:محمد سيد كيلاني،مطبعة مصطفى البابي الحلبي،القاهرة،1961 م.
26-الزركشي،بدر الدين،محمد بن عبد اللّه(ت:794 ه).البرهان في علوم القرآن،تحقيق:محمد أبو الفضل إبراهيم دار إحياء الكتب العربية،القاهرة،1957 م.
27-الزمخشري،جار اللّه،محمود بن عمر(ت:538 ه)الفائق في غريب الحديث،تحقيق:علي البجاري و محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة،1945 م.
28-ابن سعد،أبو عبد اللّه،محمد بن سعد(ت:230 ه)الطبقات الكبرى،بيروت،1957 م.
29-السيرافي،أبو سعيد،الحسن بن عبد اللّه(ت:368 ه)أخبار النحويين البصريين،تحقيق:فرنسيس كرنكو+بيروت،1936 م.
ص: 183
30-السيوطي،جلال الدين،عبد الرحمن بن أبي بكر(ت:911 ه) الاتقان في علوم القرآن،تحقيق:محمد أبو الفضل إبراهيم،مطبعة المشهد الحسيني،القاهرة،1967 م.
31-أبو شامة،شهاب الدين،عبد الرحمن بن إسماعيل(ت:665 ه) المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز،تحقيق:طيار آلتي قولاج،دار صادر،بيروت،1975 م.
32-الصولي،أبو بكر،محمد بن يحيى(ت:336 ه)أدب الكتاب، المطبعة السلفية،القاهرة،341 ه.
33-الطبرسي،أبو علي،الفضل بن الحسن(ت:548 ه)مجمع البيان في تفسير القرآن،مطبعة العرفان،صيدا،1333 ه.
34-الطبري،أبو جعفر،محمد بن جرير(ت:310 ه).جامع البيان عن تأويل القرآن،تحقيق:محمود محمد شاكر و أحمد محمد شاكر،القاهرة،(د.ت).
35-الطوسي،أبو جعفر،محمد بن الحسن(ت:460 ه)التبيان في تفسير القرآن،تحقيق:أحمد حبيب القصير،المطبعة العلمية، النجف الأشرف،1957 م.
36-العاملي،محمد الجواد العاملي النجفي(ت:1226 ه)مفتاح الكرامة،مطبعة الشورى،القاهرة،1326 ه.
37-ابن عبد ربه،أحمد بن محمد الأندلسي(ت:327 ه).العقد الفريد،تحقيق:أحمد أمين و آخرين،مطبعة لجنة التأليف و الترجمة و النشر،القاهرة،1967 م.
38-أبو عبيد،القاسم بن سلام الهروي(ت:224 ه).غريب الحديث،الطبعة الأولى، حيدرآباد،1967/1964 م.
39-العسكري،أبو أحمد،الحسن بن عبد اللّه،شرح ما يقع فيه التصحيف و التحريف،القاهرة،1963 م.
40-ابن عطية مجهول،عبد الحق بن أبي بكر الغرناطي(ت:972 ه).
ص: 184
مقدمتان في علوم القرآن،تحقيق:آرثر جفري،تصويب عبد اللّه إسماعيل الصاوي،مطبعة الصاوي،القاهرة.(د.ت).
41-ابن قتيبة،أبو محمد،عبد اللّه بن مسلّم(ت:276 ه)تأويل مشكل القرآن،الطبعة الثانية،القاهرة،1973 م.
42-القرطبي،أبو عبد اللّه،محمد بن أحمد الأنصاري(ت:671 ه)، الجامع لأحكام القرآن،مطبعة دار الكتب المصرية،القاهرة، 1935 م.
43-القسطلاني،شهاب الدين،أحمد بن محمد(ت:923 ه)لطائف الإشارات لفنون القراءات،تحقيق:عامر السيد عثمان و عبد الصبور شاهين،القاهرة،1972 م.
44-القلقشندي،أحمد بن علي بن أحمد(ت:821 ه)صبح الأعشى في صناعة الإنشا،نسخة مصورة عن الطبعة الأميرية،المؤسسة المصرية العامة للتأليف و النشر و الترجمة،القاهرة،1963 م+ طبعة دار الكتب المصرية(1910 م-1920 م).
45-ابن كثير،أبو الفداء،إسماعيل بن عمر الدمشقي(ت:774 ه) فضائل القرآن،مطبعة المنار،القاهرة،1348 ه.
46-الكليني،أبو جعفر،محمد بن يعقوب بن إسحاق(ت:328 ه)، أصول الكافي،دار الكتب الإسلامية،طهران،1388 ه.
47-ابن مجاهد،أبو بكر،أحمد بن موسى التميمي البغدادي(ت:
324 ه)،كتاب السبعة في القراءات،تحقيق د.شوقي ضيف،دار المعارف بمصر،القاهرة،1972 م.
48-المجلسي،محمد باقر بن محمد تقي(ت:1111 ه)،بحار الأنوار،دار الكتب الإسلامية،طهران،1386 م.
49-مكي بن أبي طالب القيسي(ت:437 ه)الإبانة في معاني القراءات،تحقيق:عبد الفتاح إسماعيل شلبي،مطبعة الرسالة، القاهرة،(د.ت).
ص: 185
50-المناوي،شمس الدين،محمد المدعو عبد الرءوف(ت:911 ه) فيض القدير.شرح الجامع الصغير،مطبعة مصطفي محمد، القاهرة،1380.
51-ابن منظور،جمال الدين،محمد بن مكرم الأنصاري(ت:711 ه)لسان العرب،نسخة مصورة عن طبعة بولاق،القاهرة،(د.
ت).
52-ابن نديم،محمد بن إسحاق بن يعقوب البغدادي(ت:/380 385 ه).الفهرست،نشر الأستاذ فلوجل، لايبزك،871-1872 م+تحقيق:رضا تجدد،مطبعة دانشكاه 1391 ه.
53-ابن هشام،أبو محمد،عبد الملك بن هشام(ت:218 ه)السيرة النبوية،تحقيق:الأستاذ مصطفى السفا و آخرين،مطبعة مصطفى البابي الحلبي القاهرة،1936 م.
54-الواحدي،أبو الحسن،علي بن أحمد النيسابوري(ت:468 ه) أسباب النزول،مطبعة مصطفى البابي الحلبي،القاهرة،1959 م.
55-أبو حيان التوحيدي(ت:414 ه).البصائر و الذخائر،تحقيق:
أحمد أمين و أحمد صقر،مطبعة لجنة التأليف و النشر و الترجمة، القاهرة،1953 م.
55-ألبرت ديتريش(مستشرق ألماني معاصر)الدراسات العربية في ألمانيا،تطورها التأريخي و وضعها الحالي،جوتنجن،1962 م.
56-بروكلمان،المستشرق الألماني كارل بروكلمان(1868 م-1956 م)تأريخ الأدب العربي،ترجمة:عبد الحليم النجار و آخرين،دار المعارف،القاهرة،1968 م.
57-بكري الشيخ أمين(الدكتور)،التعبير الفني في القرآن،دار الشروق،بيروت،1972 م.
ص: 186
58-بلاشير،المستشرق الفرنسي الدكتور ريجيس بلاشير(ولد:1900 م)القرآن-نزوله-تدوينه-ترجمته-تأثيره-ترجمة:رضا سعادة، دار الكتاب اللبناني،بيروت،1974 م.
59-بول (FR.BUll) .دائرة المعارف الإسلامية الألمانية،ج 6،مادة:
التحريف،تعريب:د.عبد الحميد يونس و جماعته،القاهرة، 1933 م.
60-جميل صليبا(الدكتور)المعجم الفلسفي،دار الكتاب اللبناني، بيروت 1979 م.
61-جورج بوست(الدكتور)قاموس الكتاب المقدس،المطبعة الأميركية،بيروت،1894 م.
62-جولد سهير،مستشرق مجري(1850 م-1921 م)مذاهب التفسير الإسلامي،ترجمة:عبد الحليم النجار،مطبعة السنة المحمدية، القاهرة،1955 م.
63-ابن الخطيب،محمد محمد عبد اللطيف.الفرقان،الطبعة الأولى، مطبعة دار الكتب المصرية،القاهرة،1948 م.
64-الخوئي،أبو القاسم الموسوي الخوئي.البيان في تفسير القرآن، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات،بيروت،1974 م.
65-الخوئي،الشيخ أمين الخولي.دائرة المعارف الإسلامية الألمانية، ج 6،مادة:التحريف،تعريب:د.عبد الحميد يونس و جماعته، القاهرة،1933 م.
66-الزنجاني،أبو عبد اللّه الزنجاني(1309-1360 ه)تأريخ القرآن،الطبعة الثالثة،مؤسسة الأعلمي للمطبوعات،بيروت، 1969 م.
67-صبحي الصالح(الدكتور)محاضرات في علوم القرآن،دار العلم للملايين،بيروت،1965 م.
68-طه حسين،عميد الأدب العربي الراحل(1889 م-1973 م)
ص: 187
الفتنة الكبرى،دار المعارف بمصر،القاهرة،1968 م.
69-طه حسين،(الدكتور).في الأدب الجاهلي،دار المعارف بمصر، القاهرة،1958 م.
70-عبد الصبور شاهين(الدكتور).تأريخ القرآن،دار الكاتب العربي، القاهرة،1966 م.
71-عبد الهادي الفضلي(الدكتور).القراءات القرآنية،الطبعة الثانية، دار القلم،بيروت،1980 م.
72-عبد الوهاب حمودة(الدكتور)القراءات و اللهجات،مطبعة السعادة، القاهرة،1948 م.
73-غانم قدوري حمد.محاضرات في علوم القرآن،دار الكتاب للطباعة،بغداد،1981 م.
74-لبيب السعيد.الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم أو المصحف المرتل بواعثه و مخططاته،دار الكاتب العربي للطباعة و النشر، القاهرة،1967 م.
75-مالك بن نبي.الظاهرة القرآنية،ترجمة:عبد الصبور شاهين،دار الفكر،بيروت،1968 م.
76-محمد حسين الطباطبائي(ت:1402 ه1982/ م).الميزان في تفسير القرآن،مؤسسة الأعلمي للمطبوعات،بيروت،1973 م.
77-محمد حسين علي الصغير(المؤلف).المستشرقون و الدراسات القرآنية،الطبعة الأولى،المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع،بيروت،1403 ه-1983 م.
78-محمد رشيد رضا.الوحي المحمدي،مطبعة المنار،القاهرة، 1935 م.
79-محمد عبد اللّه دراز(الدكتور).مدخل إلى القرآن الكريم، ترجمة:محمد عبد العظيم علي،دار القرآن الكريم،كويت، 1971 م.
ص: 188
80-محمد عبده.رسالة التوحيد،الطبعة التاسعة،القاهرة،1357 ه.
81-محمد عبد العظيم الزرقاني.مناهل العرفان في علوم القرآن،مطبعة دار إحياء الكتب العربية،القاهرة،1372 ه.
82-محمود الشرقاوي.القرآن المجيد،مؤسسة الشعب،القاهرة، 1970 م.
83-المنجد،صلاح الدين المنجد(الدكتور).دراسات في تأريخ الخط العربي منذ بدايته إلى نهاية العصر الأموي،بيروت،1972 م.
84-الندوي،أبو الحسن،علي الحسيني الندوي.النبي الخاتم، القاهرة،1975 م.
85-نولدكه،المستشرق الألماني الدكتور تيودور نولدكه(1836 م- 1930 م).دائرة المعارف الإسلامية الألمانية،ج 9،مادة:
الدين،تعريب:د.عبد الحميد يونس و جماعته،القاهرة،1933 م.
86-أحمد حسن الزيات.مجلة الرسالة المصرية،عدد-8 يناير، 1950 م.
87-جواد علي(الدكتور).لهجة القرآن الكريم،مجلة المجمع العلمي العراقي 290،1955 م.
88-سليمان حسن عبد الوهاب.تحريف اليهود للقرآن قديما و حديثا، مقال:مجلة منبر الإسلام المصرية،عدد جمادي الآخرة،1385 ه.
89-جريدة الأخبار القاهرية،عدد-8 أبريل،1961.
90-جريدة الأهرام القاهرية،عدد-28 ديسمبر+عدد 29 ديسمبر، 1960 م.
ص: 189
91-جريدة الجمهورية القاهرية،عدد 29 ديسمبر+عدد 2 يناير،1961 م.
92-جريدة المساء القاهرية،عدد-10 فبراير،1961 م.
93-مجلة آخر ساعة المصرية،عدد-11 يناير،1961 م.
(1930-1836) noELDEKE 94- .1919-1909، GESHICHTE DES QURaNS،LEIPZIG .(1905-1815) SIR WILLAM MUIR 95- 1912، THE LIFE OF MaHOMET،GRANT
ص: 190