سرشناسه :خوئي، ابوالقاسم، 1371 - 1278
عنوان و نام پديدآور : ... البيان في تفسير القرآن/ مترجم محمدحسن مولي زاده شكوي (نخو)
مشخصات نشر : تفليس:مطبعه غيرت،1326ق=1908=1287
مشخصات ظاهري : [537] ص
وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي
يادداشت : تركي
شماره كتابشناسي ملي : 337775
ص: 1
ص: 2
ص: 3
ص: 4
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هذا بيان للنّاس و هدى و موعظة للمتّقين
ص: 5
الهم العلاّمة الجليل الشيخ كاتب الطريحي رحمه اللّه في عالم الرؤيا هذين البيتين تاريخا لتسمية هذا الكتاب و صدوره.
رب السماء انزل قرائنه على النبي المصطفى الخاتم
تفسير البيان ارخ و قل خير البيان من أبي القاسم
5731 ه
ص: 6
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد للّه ربّ العالمين و الصلاة على خير خلقه و أشرف بريّته محمّد و آله الطيّبين الطاهرين.
لا يخفى أن العمق الكمّي و النوعي الذي امتازت به حركة التصنيف و التأليف لدى علماء و أجلاء مدرسة أهل بيت العصمة و الطهارة عليهم السّلام كان و لا زال بحد ذاته السور المتين و الحصن المنيع الذي صان لهذه المدرسة أسسها و مبادئها من الانحراف و الضياع،بل شيّدت هذه الآثار النفيسة بمضمونها المتكامل و محتواها الفني القاعدة الصلبة و المنبع الفياض لكل الاطروحات و المحاولات التي تنصب في سبيل مكادحة الأفكار الفاسدة و التيارات المضلّة، فحفظت للامة قيمها و أصالتها و منحتها المناعة الدائمة و المقاومة الفاعلة في أحلك الظروف و أشدها.
و لقد كانت مؤلفات و مصنفات زعيم الحوزة العلمية،أستاذ الفقهاء و المجتهدين،الإمام الخوئي قدس اللّه نفسه الزكية،النموذج الرائع و المصداق الرفيع و المثل الرائد الذي ساهم مساهمة عملاقة في رفد ميادين الفكر و الثقافة
ص: 7
و الفضيلة بأبهى المصادر و أرقى المراجع،و ذلك في مختلف صنوف العلوم و أنواعها.
و مؤسسة احياء آثار الامام الخوئي قدس سره التي بدأت مرحلة المشوار الطويل في تحقيق و طبع و نشر ما جاءت به أنامله الشريفة و أفكاره المقدسة،تسعى جاهدة في طرح موسوعته الكاملة في الفقه و الأصول و الرجال و التفسير عرفانا منها بجميل ما قدمه هذا العلم الفذ و الطود الشامخ على طريق احياء و نشر علوم آل محمد عليهم السّلام.
إذ تقدم بين يدي القراء الكرام تفسير البيان-أحد أجزاء الموسوعة الآنفة الذكر-تعمل بكل ما بوسعها لمواصلة الدرب في إخراج سائر أجزاء هذه الموسوعة.و هذا لا يتم إلاّ بلطفه و عنايته سبحانه و تعالى.
و صلّى اللّه على محمد و آله الأطيبين الأطهرين.
ص: 8
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم اَلْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً 18:1. قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَ يُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً :2.
ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً :3. كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ 11:1. لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ. 41:42. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ 2:2. نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ 16:102. ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَ لكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. 12:111.
وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ 43:44.
و أفضل صلوات اللّه و أكمل تسليماته على رسوله الّذي:أرسله بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ. اَلنَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ.
ص: 9
و أفضل صلوات اللّه و أكمل تسليماته على رسوله الّذي:أرسله بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ. اَلنَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ.
و على آله:المصطفين الأخيار.الّذين آمنوا به و عزّروه و نصروه و اتّبعوا النّور الّذي أنزل معه.أولئك هم الصّدّيقون و الشّهداء عند ربّهم لهم أجرهم و نورهم.
رضي اللّه عنهم و رضوا عنه أولئك حزب اللّه ألا إنّ حزب اللّه هم المفلحون.
و اللّعنة الدّائمة على أعدائهم: اَلَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ. يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ.
خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ. يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدّارِ.
ص: 10
كنت ولعا منذ أيام الصبا بتلاوة كتاب اللّه الأعظم،و استكشاف غوامضه و استجلاء معانيه.و جدير بالمسلم الصحيح،بل بكلّ مفكر من البشر أن يصرف عنايته إلى فهم القرآن،و استيضاح أسراره،و اقتباس أنواره،لأنه الكتاب الذي يضمن إصلاح البشر،و يتكفل بسعادتهم و إسعادهم.و القرآن مرجع اللغوي،و دليل النحوي،و حجة الفقيه،و مثل الأديب،و ضالة الحكيم،و مرشد الواعظ،و هدف الخلقي،و عنه تؤخذ علوم الاجتماع و السياسة المدنية،و عليه تؤسس علوم الدين، و من ارشاداته تكتشف أسرار الكون،و نواميس التكوين،و القرآن هو المعجزة الخالدة للدين الخالد،و النظام السامي الرفيع للشريعة السامية الرفيعة.
أولعت منذ صباي بتلاوته،و استيضاح معانيه،و استظهار مراميه،فكان هذا الولع يشتد بي كلما استوضحت ناحية من نواحيه،و اكتشفت سرا من أسراره،و كان هذا الولع الشديد باعثا قويا يضطرني إلى مراجعة كتب التفسير،و إلى سبر أغوارها.
و هنا رأيت ما أدهشني و حيّرني:
ص: 11
رأيت صغارة الإنسان فى تفسيره و تفكيره أمام عظمة اللّه فى قرآنه.
رأيت نقص المخلوق في تناهيه و خضوعه أمام كمال الخالق فى وجوبه و كبريائه.
رأيت القرآن يترفع و يرتفع،و رأيت هذه الكتب تصغر و تتصاغر.
رأيت الإنسان يجهد نفسه ليكتشف ناحية خاصة أو ناحيتين،فيحرر ما اكتشفه في كتاب،ثم يسمي ذلك الكتاب تفسيرا يجلو غوامض القرآن،و يكشف أسراره، و كيف يصح فى العقول أن يحيط الناقص بالكامل.
على أن هؤلاء العلماء مشكورون فى سعيهم،مبرورون في جهادهم.فإن كتاب اللّه ألقى على نفوسهم شعاعا من نوره،و وضحا من هداه،و ليس من الإنصاف أن نكلف أحدا-و إن بلغ ما بلغ من العلم و التبحر-أن يحيط بمعاني كتاب اللّه الأعظم، و لكن الشيء الذي يؤخذ على المفسرين أن يقتصروا على بعض النواحي الممكنة، و يتركوا نواحي عظمة القرآن الاخرى،فيفسره بعضهم من ناحية الأدب أو الإعراب،و يفسره الآخر من ناحية الفلسفة،و ثالث من ناحية العلوم الحديثة أو نحو ذلك،كأن القرآن لم ينزل إلا لهذه الناحية التي يختارها ذلك المفسر،و تلك الوجهة التي يتوجه إليها.
و هناك قوم كتبوا في التفسير غير أنه لا يوجد فى كتبهم من التفسير إلا الشيء اليسير،و قوم آخرون فسروه بآرائهم،أو اتّبعوا فيه قول من لم يجعله اللّه حجة بينه و بين عباده.
على المفسر:أن يجري مع الآية حيث تجري،و يكشف معناها حيث تشير، و يوضح دلالتها حيث تدل.عليه أن يكون حكيما حين تشتمل الآية على الحكمة، و خلقيا حين ترشد الآية إلى الأخلاق،و فقيها حين تتعرض للفقه،و اجتماعيا حين
ص: 12
تبحث فى الاجتماع،و شيئا آخر حين تنظر فى أشياء أخر.
على المفسر:أن يوضح الفن الذي يظهر فى الآية،و الأدب الذي يتجلى بلفظها، عليه أن يحرر دائرة لمعارف القرآن إذا أراد أن يكون مفسرا.و الحق أني لم أجد من تكفل بجميع ذلك من المفسرين.
من أجل ذلك صممت على وضع هذا الكتاب في التفسير،آملا من الحق تعالى أن يسعفني بما أمّلت،و يعفو عني فيما قصّرت.و قد التزمت فى كتابي هذا أن أجمع فيه ما يسعني فهمه من علوم القرآن التي تعود الى المعنى.أما علوم أدب القرآن فلست أتعرض لها غالبا لكثرة من كتب فيها من علماء التفسير،كالشيخ الطوسي في «التبيان»و الطبرسي فى«مجمع البيان»و الزمخشري في«الكشاف».نعم قد أتعرض لهذه الجهات إذا أوجب البحث على أن أتعرض لها أو رأيت جهة مهمة أغفلها علماء التفسير و قد أتعرض لبعض الجهات المهمة و ان لم يغفلها العلماء.
و سيجد القارئ أني لا أحيد فى تفسيري هذا عن ظواهر الكتاب و محكماته و ما ثبت بالتواتر أو بالطرق الصحيحة من الآثار الواردة عن أهل بيت العصمة،من ذرية الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ما استقل به العقل الفطري الصحيح الذي جعله اللّه حجة باطنة كما جعل نبيه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أهل بيته المعصومين عليهم السّلام حجة ظاهرة (1).
و سيجد القارئ أيضا أني كثيرا ما أستعين بالآية على فهم أختها،و استرشد القرآن الى ادراك معاني القرآن،ثم أجعل الأثر المروي مرشدا الى هذه الاستفادة.
و هنا مباحث مهمة لها صلة وثقى بالمقصود تلقي أضواء على نواح شتى قدّمتها لتكون:2.
ص: 13
و هو يشتمل على موضوعات علمية تتصل بالقرآن من حيث عظمته و اعجازه و من حيث صيانته عن التحريف،و سلامته من التناقض،و النسخ في تشريعاته،و ما إلى ذلك من مسائل علمية ينبغي تصفيتها كمدخل لفهم القرآن و معرفته،و البدء بتفسيره على أساس علمي سليم.
و اليه جل شأنه ابتهل أن يمدّني بالتوفيق،و يلحظ عملي بعين القبول.انه حميد مجيد.
المؤلف
ص: 14
ص: 15
-عجز الإنسان عن وصف القرآن.
-من هم أعرف الناس بمنزلته؟ -حديث الرسول فى فضل القرآن.
-صيانة القرآن من التلاعب.
-عاصميته للامة من الاختلاف.
-خلوده و شموله.فضل قراءة القرآن.
-الأحاديث الموضوعة في قراءته.
-التدبر في القرآن.
-معرفة تفسيره.
حث الكتاب،و السنة،و حكم العقل على التدبر فى القرآن.
ص: 16
من الخير أن يقف الإنسان دون ولوج هذا الباب،و أن يتصاغر أمام هذه العظمة، و قد يكون الاعتراف بالعجز خيرا من المضي في البيان.ما ذا يقول الواصف في عظمة القرآن،و علوّ كعبه؟و ما ذا يقول في بيان فضله،و سموّ مقامه؟و كيف يستطيع الممكن أن يدرك مدى كلام الواجب؟و ما ذا يكتب الكاتب في هذا الباب؟و ما ذا يتفوّه به الخطيب؟و هل يصف المحدود إلا محدودا؟.
و حسب القرآن عظمة،و كفاه منزلة و فخرا أنه كلام اللّه العظيم،و معجزة نبيه الكريم،و أن آياته هي المتكلفة بهداية البشر في جميع شئونهم و أطوارهم في أجيالهم و أدوارهم،و هي الضمينة لهم بنيل الغاية القصوى و السعادة الكبرى في العاجل و الآجل:
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ «17:9». كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ «14:1».
هذا بَيانٌ لِلنّاسِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ «3:138».
ص: 17
و قد ورد في الأثر عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«فضل كلام اللّه على سائر الكلام كفضل اللّه على خلقه» (1).
نعم من الخير أن يقف الإنسان دون ولوج هذا الباب،و أن يكل بيان فضل القرآن إلى نظراء القرآن،فإنهم أعرف الناس بمنزلته،و أدلهم على سموّ قدره،و هم قرناؤه في الفضل،و شركاؤه في الهداية،أما جدهم الأعظم فهو الصادع بالقرآن، و الهادي إلى أحكامه،و الناشر لتعاليمه.
و قد قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«إني تارك فيكم الثقلين:كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي،و إنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض» (2).
فالعترة هم الأدلاء على القرآن،و العالمون بفضله.فمن الواجب أن نقتصر على أقوالهم،و نستضيء بإرشاداتهم.و لهم في فضل القرآن أحاديث كثيرة جمعها شيخنا المجلسي في(البحار)الجزء التاسع عشر منه. (3)و نحن نكتفي بذكر بعض ما ورد:
روى الحارث الهمداني (4)قال:
«دخلت المسجد فإذا أناس يخوضون في أحاديث فدخلت على عليّ فقلت:أ لا ترى أن أناسا يخوضون في الأحاديث في المسجد؟ فقال:قد فعلوها؟قلت:نعم،قال:أما إني قد سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول:ستكون فتن،قلت:و ما المخرج منها؟قال:كتاب).
ص: 18
اللّه،فيه نبأ ما قبلكم و خبر ما بعدكم،و حكم ما بينكم.هو الفصل ليس بالهزل،هو الذي من تركه من جبار قصمه اللّه،و من ابتغى الهدى في غيره أضلّه اللّه،فهو حبل اللّه المتين،و هو الذكر الحكيم، و هو الصراط المستقيم،و هو الذي لا تزيغ به الأهواء،و لا تلتبس به الألسنة،و لا يشبع منه العلماء،و لا يخلق عن كثرة الرد،و لا تنقضي عجائبه.و هو الذي لم ينته الجن إذ سمعته أن قالوا: إِنّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً هو الذي من قال به صدق،و من حكم به عدل،و من عمل به اجر،و من دعا اليه هدي إلى صراط مستقيم، خذها إليك يا أعور» (1).
و في الحديث مغاز جليلة يحسن أن نتعرض لبيان أهمها.يقول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«فيه نبأ ما كان قبلكم.و خبر ما بعدكم»و الذي يحتمل في هذه الجملة وجوه:
الأول:أن تكون إشارة إلى اخبار النشأة الاخرى من عالمي البرزخ و الحساب و الجزاء على الأعمال.و لعل هذا الاحتمال هو الأقرب،و يدل على ذلك قول أمير المؤمنين عليه السّلام في خطبته:«فيه نبأ من كان قبلكم و الحكم فيما بينكم و خبر معادكم». (2)
الثاني:أن تكون إشارة الى المغيبات التي أنبأ عنها القرآن،مما يقع في الأجيال المقبلة.
الثالث:أن يكون معناها أن حوادث الأمم السابقة تجري بعينها في هذه الامة،6.
ص: 19
فهي بمعنى قوله تعالى: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ «84:19»،و بمعنى الحديث المأثور عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم«لتركبن سنن من قبلكم». (1)تقدم مصادر حديث الثقلين في ص 18،و في بعض نصوصه تصريح بأن القرآن و العترة خليفتا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.(المؤلف).(2)
أما قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«من تركه من جبار قصمه اللّه»فلعل فيه ضمانا بحفظ القرآن عن تلاعب الجبارين،بحيث يؤدي ذلك الى ترك تلاوته و ترك العمل به،و الى جمعه من أيدي الناس كما صنع بالكتب الإلهية السابقة (3)فتكون إشارة الى حفظ القرآن من التحريف.و سنبحث عنه مفصلا.و هذا أيضا هو معنى قوله في الحديث:«لا تزيغ به الأهواء»بمعنى لا تغيره عما هو عليه،لأن معاني القرآن قد زاغت بها الأهواء فغيرتها.و سنبين ذلك مفصلا عند تفسير الآيات إن شاء اللّه تعالى.
و أشار الحديث إلى أن الامة لو رجعوا الى القرآن في خصوماتهم،و ما يلتبس عليهم في عقائدهم و أعمالهم لأوضح لهم السبيل.و لوجدوه الحكم العدل،و الفاصل بين الحق و الباطل.
نعم،لو أقامت الأمة حدود القرآن،و اتبعت مواقع إشاراته و إرشاداته،لعرفت الحق أهله،و عرفت حق العترة الطاهرة الذين جعلهم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قرناء الكتاب، و أنهم الخليفة الثانية على الامة من بعده (3)و لو استضاءت الامة بأنوار معارف القرآن،لأمنت العذاب الواصب،و لما تردّت في العمى،و لا غشيتهم حنادس الضلال،و لا عال سهم من فرائض اللّه،و لا زلّت قدم عن الصراط السويّ،و لكنها أبت إلا الانقلاب على الأعقاب،و اتباع الأهواء،و الانضواء الى راية الباطل حتى آل).
ص: 20
الأمر الى أن يكفّر بعض المسلمين بعضا،و يتقرب الى اللّه بقتله،و هتك حرمته، و إباحة ماله،و أي دليل على إهمال الأمة للقرآن أكبر من هذا التشتت العظيم؟!! و قال أمير المؤمنين عليه السّلام في صفة القرآن:
«ثم أنزل عليه الكتاب نورا لا تطفأ مصابيحه،و سراجا لا يخبو توقده،و بحرا لا يدرك قعره،و منهاجا لا يضل نهجه،و شعاعا لا يظلم ضوؤه،و فرقانا لا يخمد برهانه،و تبيانا لا تهدم أركانه، و شفاء لا تخشى أسقامه،و عزا لا تهزم أنصاره،و حقا لا تخذل أعوانه،فهو معدن الإيمان و بحبوحته،و ينابيع العلم و بحوره،رياض العدل و غدرانه،و أثافيّ الإسلام و بنيانه،و أدوية الحق و غيطانه، و بحر لا ينزفه المنتزفون،و عيون لا ينضبها الماتحون،و مناهل لا يغيضها الواردون،و منازل لا يضل نهجها المسافرون،و أعلام لا يعمى عنها السائرون،و آكام لا يجوز عنها القاصدون،جعله اللّه ريّا لعطش العلماء،و ربيعا لقلوب الفقهاء،و محاجّ لطرق الصلحاء، و دواء ليس بعده داء،و نورا ليس معه ظلمة،و حبلا وثيقا عروته، و معقلا منيعا ذروته،و عزا لمن تولاه،و سلما لمن دخله،و هدى لمن ائتم به،و عذرا لمن انتحله،و برهانا لمن تكلم به،و شاهدا لمن خاصم به،و فلجا لمن حاج به،و حاملا لمن حمله،و مطية لمن أعمله،و آية لمن توسّم،و جنّة لمن استلأم،و علما لمن وعى، و حديثا لمن روى و حكما لمن قضى» (1)1.
ص: 21
و قد استعرضت هذه الخطبة الشريفة كثيرا من الأمور المهمة التي يجب الوقوف عليها،و التدبر في معانيها.فقوله:
«لا يخبو توقده» (1)يريد بقوله هذا و بكثير من جمل هذه الخطبة أن القرآن لا تنتهي معانيه،و أنه غض جديد إلى يوم القيامة.فقد تنزل الآية في مورد أو في شخص أو في قوم،و لكنها لا تختص بذلك المورد أو ذلك الشخص أو أولئك القوم، فهي عامة المعنى.
و قد روى العياشي بإسناده عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى: وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ «12:8».أنه قال:
«عليّ:الهادي،و منا الهادي،فقلت:فأنت جعلت فداك الهادي.
قال:صدقت إن القرآن حيّ لا يموت،و الآية حيّة لا تموت،فلو كانت الآية إذا نزلت في الأقوام و ماتوا ماتت الآية لمات القرآن و لكن هي جارية في الباقين كما جرت في الماضين». (2)
و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:
«إن القرآن حيّ لم يمت،و إنه يجري كما يجري الليل و النهار،و كما تجري الشمس و القمر،و يجري على آخرنا كما يجري على أوّلنا». (3)
و في الكافي عن الصادق عليه السّلام أنه قال لعمر بن يزيد لما سأله عن قوله تعالى:
وَ الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ «13:21»:م.
ص: 22
هذه نزلت في رحم آل محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد تكون في قرابتك،فلا تكوننّ ممن يقول للشيء:إنه في شيء واحد (1).
و في تفسير الفرات:
«و لو أن الآية إذا نزلت في قوم ثم مات أولئك ماتت الآية لما بقي من القرآن شيء،و لكن القرآن يجري أوله على آخره ما دامت السماوات و الأرض،و لكل قوم آية يتلوها هم منها من خير أو شر».
إلى غير هذه من الروايات الواردة في المقام. (2)
«و منهاجا لا يضلّ نهجه»يريد به:أن القرآن طريق لا يضلّ سالكه،فقد أنزله اللّه تعالى هداية لخلقه،فهو حافظ لمن اتبعه عن الضلال.
«و تبيانا لا تهدم أركانه»المحتمل في المراد من هذه الجملة أحد وجهين:
الأول:إن أركان القرآن في معارفه و تعاليمه،و جميع ما فيه من الحقائق محكمة لا تقبل التضعضع و الانهدام.
الثاني:إن القرآن بألفاظه لا يتسرّب اليه الخلل و النقصان،فيكون فيها إيماء إلى حفظ القرآن عن التحريف.
«و رياض العدل و غدرانه» (3)معنى هذه الجملة:أن العدل بجميع نواحيه منة.
ص: 23
الاستقامة في العقيدة و العمل و الأخلاق قد اجتمع في الكتاب العزيز،فهو مجمع العدالة و ملتقى متفرقاتها.
«و أثافيّ الإسلام» (1)و معنى ذلك:أن استقامة الإسلام و ثباته بالقرآن كما أن استقامة القدر على وضعه الخاص تكون بسبب الأثافيّ.
«و أودية الحق و غيطانه»يريد بذلك:أن القرآن منابت الحق،و في الجملة تشبيه القرآن بالأرض الواسعة المطمئنة،و تشبيه الحق بالنبات النابت فيها.و في ذلك دلالة على أن المتمسك بغير القرآن لا يمكن أن يصيب الحق،لأن القرآن هو منبت الحق، و لا حق في غيره.
«و بحر لا ينزفه المنتزفون» (2)و معنى هذه الجملة و الجمل التي بعدها:أن المتصدّين لفهم معاني القرآن لا يصلون إلى منتهاه،لأنه غير متناهي المعاني،بل و فيها دلالة على أن معاني القرآن لا تنقص أصلا،كما لا تنضب العيون الجارية بالسقاية منها.
«و آكام لا يجوز عنها القاصدون» (3)و المراد أن القاصدين لا يصلون إلى أعالي الكتاب ليتجاوزوها.و في هذا القول إشارة إلى أن للقرآن بواطن لا تصل إليها أفهام اولي الأفهام.و سنبين هذا في ما سيأتي إن شاء اللّه تعالى.و قد يكون المراد أن القاصدين إذا وصلوا إلى أعاليه وقفوا عندها و لم يطلبوا غيرها،لأنهم يجدون مقاصدهم عندها على الوجه الأتم.ل.
ص: 24
القرآن هو الناموس الإلهي الذي تكفل للناس بإصلاح الدين و الدنيا،و ضمن لهم سعادة الآخرة و الأولى،فكل آية من آياته منبع فيّاض بالهداية و معدن من معادن الإرشاد و الرحمة،فالذي تروقه السعادة الخالدة و النجاح في مسالك الدين و الدنيا،عليه أن يتعاهد كتاب اللّه العزيز آناء الليل و أطراف النهار،و يجعل آياته الكريمة قيد ذاكرته،و مزاج تفكيره،ليسير على ضوء الذكر الحكيم إلى نجاح غير منصرم و تجارة لن تبور.
و ما أكثر الأحاديث الواردة عن أئمة الهدى عليهم السّلام و عن جدهم الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في فضل تلاوة القرآن.
منها:ما عن الإمام الباقر عليه السّلام.قال:
«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:من قرأ عشر آيات في ليلة لم يكتب من الغافلين،و من قرأ خمسين آية كتب من الذاكرين،و من قرأ مائة آية كتب من القانتين،و من قرأ مائتي آية كتب من الخاشعين،و من قرأ ثلاثمائة آية كتب من الفائزين،و من قرأ خمسمائة آية كتب من المجتهدين،و من قرأ ألف آية كتب له قنطار من تبر...» (1)و منها:ما عن الإمام الصادق عليه السّلام.قال:
«القرآن عهد اللّه إلى خلقه،فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده،و أن يقرأ منه في كل يوم خمسين آية». (2)
ص: 25
و قال عليه السّلام:
«ما يمنع التاجر منكم المشغول في سوقه إذا رجع إلى منزله أن لا ينام حتى يقرأ سورة من القرآن،فيكتب له مكان كل آية يقرأها عشر حسنات،و يمحى عنه عشر سيئات؟». (1)
و قال عليه السّلام:
«عليكم بتلاوة القرآن،فإن درجات الجنة على عدد آيات القرآن،فإذا كان يوم القيامة يقال لقارئ القرآن:اقرأ و ارق،فكلما قرأ آية رقى درجة». (2)
و قد جمعت كتب الأصحاب من جوامع الحديث كثيرا من هذه الآثار الشريفة من أرادها فليطلبها.و في التاسع عشر من كتاب بحار الأنوار (3)الشيء الكثير من ذلك.
و قد دلّت جملة من هذه الآثار على فضل القراءة في المصحف على القراءة عن ظهر القلب.و من هذه الأحاديث قول إسحاق بن عمار للصادق عليه السّلام:
«جعلت فداك إني أحفظ القرآن عن ظهر قلبي فأقرأه عن ظهر قلبي أفضل أو أنظر في المصحف قال:فقال لي:لا.بل اقرأه و انظر في المصحف فهو أفضل.أما علمت أن النظر في المصحف عبادة»؟. (4)5:
ص: 26
و قال عليه السّلام:
«من قرأ القرآن في المصحف متع ببصره،و خفف عن والديه و إن كانا كافرين». (1)
و في البحث على القراءة في نفس المصحف نكتة جليلة ينبغي الالتفات إليها، و هو الإلماع إلى كلاءة القرآن عن الاندراس بتكثر نسخه،فإنه لو اكتفى بالقراءة،عن ظهر القلب لهجرت نسخ الكتاب،و أدّى ذلك الى قلتها،و لعله يؤدي أخيرا الى انمحاء آثارها.
على أن هناك آثارا جزيلة نصت عليها الأحاديث لا تحصل إلا بالقراءة في المصحف،منها قوله:«متع ببصره»و هذه الكلمة من جوامع الكلم،فيراد منها أن القراءة في المصحف سبب لحفظ البصر من العمى و الرمد،أو يراد منها أن القراءة في المصحف سبب لتمتع القارئ بمغازي القرآن الجليلة و نكاته الدقيقة،لأن الإنسان عند النظر إلى ما يروقه من المرئيات تبتهج نفسه،و يجد انتعاشا في بصره و بصيرته.
و كذلك قارئ القرآن إذا سرح بصره في ألفاظه،و أطلق فكره في معانيه و تعمق في معارفه الراقية و تعاليمه الثمينة يجد في نفسه لذة الوقوف عليها،و متعة الطموح إليها، و يشاهد هشة من روحه و تطلعا من قلبه.
و قد أرشدتنا الأحاديث الشريفة الى فضل القراءة في البيوت.و من أسرار ذلك إذاعة أمر الإسلام،و انتشار قراءة القرآن،فإن الرجل إذا قرأه في بيته قرأته المرأة، و قرأه الطفل،و ذاع أمره و انتشر.أما إذا جعل لقراءة القرآن أماكن مخصوصة فإن القراءة لا تتهيأ لكل أحد،و في كل وقت،و هذا من أعظم الأسباب في نشر الإسلام.1.
ص: 27
و لعل من أسراره أيضا إقامة الشعار الإلهي،إذا ارتفعت الأصوات بالقراءة في البيوت بكرة و عشيا،فيعظم أمر الإسلام في نفوس السامعين لما يعروهم من الدهشة عند ارتفاع أصوات القرّاء في مختلف نواحي البلد.
و من آثار القراءة في البيوت ما ورد في الأحاديث:
«إن البيت الذي يقرأ فيه القرآن و يذكر اللّه تعالى فيه تكثر بركته،و تحضره الملائكة،و تهجره الشياطين،و يضيء لأهل السماء كما يضيء الكوكب الدرّي لأهل الأرض،و ان البيت الذي لا يقرأ فيه القرآن،و لا يذكر اللّه تعالى فيه تقل بركته،و تهجره الملائكة، و تحضره الشياطين» (1).
نعم قد ورد في الأحاديث في فضل القرآن،و في الكرامات التي يختص اللّه بها قارئه ما يذهل العقول و يحير الألباب.و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:
«من قرأ حرفا من كتاب اللّه تعالى فله حسنة و الحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف و لكن ألف حرف و لام حرف و ميم حرف».
و قد ورد هذا الحديث من طرق العامة،فقد نقله القرطبي (2)عن الترمذي عن ابن مسعود و روى الكليني قريبا منه عن الصادق عليه السّلام.و إن الناظر في جوامع كتب الحديث و مفرداتها يرى من أمثال هذا الحديث الشيء الكثير في فضل القرآن و قراءته،و خواص سوره و آياته.6.
ص: 28
و هناك حثالة من كذبة الرواة،توهموا نقصان ما ورد في ذلك،فوضعوا من أنفسهم أحاديث-في فضل القرآن و سوره-لم ينزل بها وحي و لم ترد بها سنة و هؤلاء كأبي عصمة فرج بن أبي مريم المروزي،و محمد بن عكاشة الكرماني،و أحمد بن عبد اللّه الجويباري.
و قد اعترف أبو عصمة المروزي بذلك،فقد قيل له:من أين لك عن عكرمة،عن ابن عباس في فضل سور القرآن سورة سورة؟فقال:
«إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن،و اشتغلوا بفقه أبي حنيفة،و مغازي محمد بن إسحاق،فوضعت هذا الحديث حسبة».
و قال أبو عمرو عثمان بن الصلاح في شأن الحديث الذي يروى عن أبيّ بن كعب عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في فضل القرآن سورة سورة:
«إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن،و اشتغلوا بفقه أبي حنيفة،و مغازي محمد بن إسحاق،فوضعت هذا الحديث حسبة».
و قال أبو عمرو عثمان بن الصلاح في شأن الحديث الذي يروى عن أبيّ بن كعب عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في فضل القرآن سورة سورة:
«قد بحث باحث عن مخرجه حتى انتهى إلى من اعترف بأنه و جماعة وضعوه.و قد أخطأ الواحدي و جماعة من المفسرين حيث أودعوه في تفاسيرهم» (1).
انظر إلى هؤلاء المجترئين على اللّه كيف يكذبون على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في9.
ص: 29
الحديث؟ثم يجعلون هذا الافتراء حسبة يتقرّبون به إلى اللّه:
كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ «10:12».
ورد الحثّ الشديد في الكتاب العزيز،و في السنة الصحيحة على التدبر في معاني القرآن و التفكر في مقاصده و أهدافه.قال اللّه تعالى:
أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها «47:24».
و في هذه الآية الكريمة توبيخ عظيم على ترك التدبر في القرآن.و في الحديث عن ابن عباس عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال:«أعربوا القرآن و التمسوا غرائبه». (1)
و عن ابي عبد الرحمن السلمي قال:
«حدثنا من كان يقرئنا من الصحابة انهم كانوا يأخذون من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عشر آيات فلا يأخذون في العشر الاخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم و العمل». (2)
و عن عثمان و ابن مسعود و أبيّ:
«ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يقرئهم العشر فلا يجاوزونها إلى عشر اخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل فيعلمهم القرآن و العمل جميعا».
ص: 30
و عن علي بن أبي طالب عليه السّلام أنه ذكر جابر بن عبد اللّه و وصفه بالعلم،فقال له رجل:جعلت فداك تصف جابرا بالعلم و أنت أنت؟فقال:إنه كان يعرف تفسير قوله تعالى:
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ «28:85» (1)و الأحاديث في فضل التدبر في القرآن كثيرة.ففي الجزء التاسع عشر من بحار الأنوار (2)طائفة كبيرة من هذه الأحاديث،على أن ذلك لا يحتاج الى تتبع أخبار و آثار،فإن القرآن هو الكتاب الذي أنزله اللّه نظاما يقتدي الناس به في دنياهم، و يستضيئون بنوره في سلوكهم الى أخراهم.و هذه النتائج لا تحصل إلا بالتدبر فيه و التفكر في معانيه.و هذا أمر يحكم به العقل.و كل ما ورد من الأحاديث أو من الآيات في فضل التدبر فهي ترشد اليه.
ففي الكافي بإسناده عن الزهري.قال:سمعت علي بن الحسين عليهما السّلام يقول:
«آيات القرآن خزائن فكلما فتحت خزينة ينبغي لك أن تنظر ما فيها» (3).2،
ص: 31
ص: 32
ص: 33
-معنى الإعجاز.
-لا بد للنبي من إقامة المعجز.
-خير المعجزات ما شابه أرقى فنون العصر.
-القرآن معجزة إلهية.
-القرآن معجزة خالدة.
-القرآن و المعارف.
-القرآن و الاستقامة في البيان.
-القرآن في نظامه و تشريعه.
-القرآن و الإتقان في المعاني.
-القرآن و الأخبار بالغيب.
-القرآن و أسراره الخليقة.
ص: 34
[o-1-27-1]
قد ذكر للاعجاز في اللغة عدة معان:الفوت.وجدان العجز.إحداثه كالتعجيز.
فيقال:أعجزه الأمر الفلاني أي فاته،و يقال:أعجزت زيدا أي وجدته عاجزا،أو جعلته عاجزا.
و هو في الاصطلاح أن يأتي المدعي لمنصب من المناصب الإلهية بما يخرق نواميس الطبيعة و يعجز عنه غيره شاهدا على صدق دعواه.
و إنما يكون المعجز شاهدا على صدق ذلك المدعي إذا أمكن أن يكون صادقا في تلك الدعوى.و أما إذا امتنع صدقه في دعواه بحكم العقل،أو بحكم النقل الثابت عن نبي،أو إمام معلوم العصمة،فلا يكون ذلك شاهدا على الصدق،و لا يسمى معجزا في الاصطلاح و إن عجز البشر عن أمثاله:
[o-1-28-1]مثال الأول:ما إذا ادعى أحد أنه إله،فإن هذه الدعوى يستحيل أن تكون صادقة بحكم العقل،للبراهين الصحيحة الدالة على استحالة ذلك.
[o-1-28-2]و مثال الثاني:ما إذا ادعى أحد النبوة بعد نبي الإسلام،فإن هذه الدعوى كاذبة قطعا بحكم النقل المقطوع بثبوته الوارد عن نبي الإسلام،و عن خلفائه المعصومين
ص: 35
بأن نبوته خاتمة النبوات،و إذا كانت الدعوى باطلة قطعا،فما ذا يفيد الشاهد إذا أقامه المدعي؟و لا يجب على اللّه جل شأنه أن يبطل ذلك بعد حكم العقل باستحالة دعواه،أو شهادة النقل ببطلانها.
[o-1-28-3]و قد يدعي أحد منصبا إلهيا ثم يأتي بشيء يعجز عنه غيره من البشر و يكون ذلك الشيء شاهدا على كذب ذلك المدعي،كما يروى أن«مسيلمة»تفل في بئر قليلة الماء ليكثر ماؤها فغار جميع ما فيها من الماء،و أنه أمرّ يده على رءوس صبيان بني حنيفة و حنّكهم فأصاب القرع كل صبي مسح رأسه،و لثغ كل صبي حنكه (1)فإذا أتى المدعي بمثل هذا الشاهد لا يجب على اللّه أن يبطله،فإن في هذه كفاية لإبطال دعواه،و لا يسمى ذلك معجزا في الاصطلاح.
[o-1-29-1]و ليس من الإعجاز المصطلح عليه ما يظهره الساحر و المشعوذ،أو العالم ببعض العلوم النظرية الدقيقة،و إن أتى بشيء يعجز عنه غيره،و لا يجب على اللّه إبطاله إذا علم استناده في عمله إلى أمر طبيعي من سحر،أو شعبذة،أو نحو ذلك و إن ادعى ذلك الشخص منصبا إلهيا،و قد أتى بذلك الفعل شاهدا على صدقه،فإن العلوم النظرية الدقيقة لها قواعد معلومة عند أهلها،و تلك القواعد لا بد من أن توصل إلى نتائجها،و إن احتاجت إلى دقة في التطبيق،و على هذا القياس تخرج غرائب علم الطب المنوطة بطبائع الأشياء،و إن كانت خفية على عامة الناس،بل و إن كانت خفية على الأطباء أنفسهم.
[o-1-30-1]و ليس من القبيح أن يختص اللّه أحدا من خلقه بمعرفة شيء من تلك الأشياء، و إن كانت دقيقة و بعيدة عن متناول أيدي عامة الناس،و لكن القبيح أن يغري الجاهل بجهله،و أن يجري المعجز على يد الكاذب فيضل الناس عن طريق الهدى.2.
ص: 36
[o-1-31-1]
تكليف عامة البشر واجب على اللّه سبحانه،و هذا الحكم قطعي قد ثبت بالبراهين الصحيحة،و الأدلة العقلية الواضحة،فإنهم محتاجون إلى التكليف في طريق تكاملهم،و حصولهم على السعادة الكبرى،و التجارة الرابحة.فإذا لم يكلفهم اللّه سبحانه،فإما أن يكون ذلك لعدم علمه بحاجتهم إلى التكليف،و هذا جهل يتنزّه عنه الحق تعالى،و إما لأن اللّه أراد حجبهم عن الوصول إلى كمالاتهم،و هذا بخل يستحيل على الجواد المطلق،و إما لأنه أراد تكليفهم فلم يمكنه ذلك،و هو عجز يمتنع على القادر المطلق،و إذن فلا بد من تكليف البشر،و من الضروري أن التكليف يحتاج إلى مبلّغ من نوع البشر يوقفهم على خفيّ التكليف و جليّه:
لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ «8:42».
[o-1-32-1]و من الضروري أيضا أن السفارة الإلهية من المناصب العظيمة التي يكثر لها المدعون،و يرغب في الحصول عليها الراغبون،و نتيجة هذا أن يشتبه الصادق بالكاذب،و يختلط المضلّ بالهادي.و إذن فلا بد لمدعي السفارة أن يقيم شاهدا واضحا يدل على صدقه في الدعوى،و أمانته في التبليغ،و لا يكون هذا الشاهد من الأفعال العادية التي يمكن غيره أن يأتي بنظيرها،فينحصر الطريق بما يخرق النواميس الطبيعية.
[o-1-33-1]و إنما يكون الإعجاز دليلا على صدق المدعي،لأن المعجز فيه خرق للنواميس الطبيعية،فلا يمكن أن يقع من أحد إلا بعناية من اللّه تعالى،و إقدار منه،فلو كان مدعي النبوة كاذبا في دعواه،كان إقداره على المعجز من قبل اللّه تعالى إغراء بالجهل و إشادة بالباطل،و ذلك محال على الحكيم تعالى.فإذا ظهرت المعجزة على يده كانت
ص: 37
دالة على صدقه،و كاشفة عن رضا الحق سبحانه بنبوته.
و ما ذكرناه قاعدة مطردة يجري عليها العقلاء من الناس فيما يشبه هذه الأمور، و لا يشكّون فيها أبدا،فإذا ادعى أحد من الناس سفارة عن ملك من الملوك في امور تختص برعيته،كان من الواجب عليه أولا أن يقيم على دعواه دليلا يعضدها،حين تشك الرعية في صدقه،و لا بد من أن يكون ذلك الدليل في غاية الوضوح،فإذا قال لهم ذلك السفير:الشاهد على صدقي أن الملك غدا سيحيّيني بتحيته الخاصة التي يحيّي بها سفراءه الآخرين.فإذا علم الملك ما جرى بين السفير و بين الرعية،ثم حيّاه في الوقت المعين بتلك التحية،كان فعل الملك هذا تصديقا للمدعي في السفارة و لا يرتاب العقلاء في ذلك لأن الملك القادر المحافظ على مصالح رعيته يقبح عليه أن يصدّق هذا المدعي إذا كان كاذبا،لأنه يريد إفساد الرعية.
و إذا كان هذا الفعل قبيحا من سائر العقلاء كان محالا على الحكيم المطلق،و قد أشار سبحانه إلى هذا المعنى بقوله في كتابه الكريم:
[o-1-34-1] وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ «69:44-46».
و المراد من الآية الكريمة أن محمدا الذي أثبتنا نبوته،و أظهرنا المعجزة لتصديقه، لا يمكن أن يتقوّل علينا بعض الأقاويل،و لو صنع ذلك لأخذنا منه باليمين،و لقطعنا منه الوتين،فإن سكوتنا عن هذه الأقاويل إمضاء منا لها،و إدخال للباطل في شريعة الهدى،فيجب علينا حفظ الشريعة في مرحلة البقاء،كما وجب علينا في مرحلة الحدوث.
ص: 38
[o-1-35-1]و لكن دلالة المعجز على صدق مدعي النبوة متوقفة على القول بأن العقل يحكم بالحسن و القبح.أما الأشاعرة الذين ينكرون هذا القول،و يمنعون حكم العقل بذلك فلا بد لهم من سدّ باب التصديق بالنبوة.و هذا أحد مفاسد هذا القول،و إنما لزم من قولهم هذا سدّ باب التصديق بالنبوة،لأن المعجز إنما يكون دليلا على صدق النبوة إذا قبح في العقل أن يظهر المعجز على يد الكاذب و إذا لم يحكم العقل بذلك لم يستطع أحد أن يميز بين الصادق و الكاذب.
[o-1-36-1]و قد أجاب«الفضل بن روزبهان»عن هذا الإشكال بأن فعل القبيح و إن كان ممكنا على اللّه تعالى،و لكن عادة اللّه قد جرت على تخصيص المعجزة بالصادق،فلا تظهر معجزة على يد الكاذب،و لا يلزم سدّ باب التصديق بالنبوة على قول الأشعريين.و هذا الجواب بيّن الضعف،متفكك العرى.
[o-1-36-2]أولا:إن عادة اللّه التي يخبر عنها«ابن روزبهان»ليست من الأمور التي تدرك بالحس،و يقع عليها السمع و البصر،فينحصر طريق العلم بها بالعقل،و إذا امتنع على العقل أن يحكم بالحسن و القبح-كما يراه الأشعري-لم يكن لأحد أن يعلم باستقرار هذه العادة للّه تعالى.
[o-1-37-1]ثانيا:إن إثبات هذه العادة يتوقف على تصديق الأنبياء السابقين،الذين جاءوا بالمعجزات حتى نعلم أن عادة اللّه قد استقرت على تخصيص المعجزة بالصادق.أما المنكرون لتلك النبوات،أو المشككون فيها فلا طريق لهم إلى إثبات هذه العادة التي يدعيها«ابن روزبهان»فلا تقوم عليهم الحجة بالمعجزة.
[o-1-37-2]ثالثا:إذا تساوى الفعل و الترك في نظر العقل،و لم يحكم في ذلك بقبح و لا حسن، فأي مانع يمنع اللّه أن يغير عادته؟و هو القادر المطلق الذي لا يسأل عما يفعل،
ص: 39
فيظهر المعجزة على يد الكاذب.
[o-1-38-1]رابعا:إن العادة من الأمور الحادثة التي تحصل من تكرر العمل،و هو يحتاج الى مضي زمان.و على هذا فما هي الحجة على ثبوت النبوة الاولى الثابتة قبل أن تستقر هذه العادة؟و سنتعرض لأقوال الأشعريين فيما يأتي،و نوضح وجوه فسادها.
[o-1-39-1]
المعجز-كما عرفت-هو ما يخرق نواميس الطبيعة،و يعجز عنه سائر أفراد البشر إذا أتى به المدعي شاهدا على سفارة إلهية.و مما لا يرتاب فيه أن معرفة ذلك تختص بعلماء الصنعة التي يشابهها ذلك المعجز،فإن علماء أي صنعة أعرف بخصوصياتها، و أكثر إحاطة بمزاياها،فهم يميزون بين ما يعجز البشر عن الإتيان بمثله و بين ما يمكنهم.و لذلك فالعلماء أسرع تصديقا بالمعجز.أما الجاهل فباب الشك عنده مفتوح على مصراعيه ما دام جاهلا بمبادئ الصنعة،و ما دام يحتمل أن المدعي قد اعتمد على مبادئ معلومة عند الخاصة من أهل تلك الصنعة،فيكون متباطئا عن الإذعان.و لذلك اقتضت الحكمة الإلهية أن يخص كل نبي بمعجزة تشابه الصنعة المعروفة في زمانه،و التي يكثر العلماء بها من أهل عصره،فإنه أسرع للتصديق [o-1-40-1]و أقوم للحجة،فكان من الحكمة أن يخص موسى عليه السّلام بالعصا و اليد البيضاء لما شاع السحر في زمانه و كثر الساحرون.و لذلك كانت السحرة أسرع الناس الى تصديق ذلك البرهان و الإذعان به،حين رأوا العصا تنقلب ثعبانا،و تلقف ما يأفكون ثم ترجع الى حالتها الاولى.رأى علماء السحر ذلك فعلموا أنه خارج عن حدود السحر و آمنوا بأنه معجزة إلهية.و أعلنوا إيمانهم في مجلس فرعون و لم يعبئوا بسخط فرعون و لا بوعيده.
ص: 40
و شاع الطب اليوناني في عصر المسيح عليه السّلام و أتى الأطباء في زمانه بالعجب العجاب،كان للطب رواج باهر في سوريا و فلسطين،لأنهما كانتا مستعمرتين لليونان.
و حين بعث اللّه نبيه المسيح في هذين القطرين شاءت الحكمة أن تجعل برهانه شيئا يشبه الطب،فكان من معجزاته أن يحيى الموتى،و أن يبرئ الأكمه و الأبرص.ليعلم أهل زمانه أن ذلك شىء خارج عن قدرة البشر،و غير مرتبط بمبادئ الطب،و أنه ناشئ عما وراء الطبيعة.
[o-1-41-1]و أما العرب فقد برعت في البلاغة،و امتازت بالفصاحة،و بلغت الذروة في فنون الأدب،حتى عقدت النوادي و أقامت الأسواق للمباراة في الشعر و الخطابة.فكان المرء يقدّر على ما يحسنه من الكلام،و بلغ من تقديرهم للشعر أن عمدوا لسبع قصائد من خيرة الشعر القديم،و كتبوها بماء الذهب في القباطي،و علقت على الكعبة،فكان يقال هذه مذهّبة فلان إذا كانت أجود شعره (1).
[o-1-42-1]و اهتمت بشأن الأدب رجال العرب و نساؤهم،و كان النابغة الذبياني هو الحكم في شعر الشعراء.يأتي سوق عكاظ في الموسم فتضرب له قبة حمراء من الادم، فتأتيه الشعراء تعرض عليه أشعارها ليحكم فيها (2)و لذلك اقتضت الحكمة أن يخص نبي الإسلام بمعجزة البيان،و بلاغة القرآن فعلم كل عربي أن هذا من كلام اللّه،و أنه خارج ببلاغته عن طوق البشر،و اعترف بذلك كل عربي غير معاند.
و يدل على هذه الحقيقة ما روي عن ابن السكيت أنه قال لأبي الحسن الرضا عليه السّلام:
«لما ذا بعث اللّه موسى بن عمران عليه السّلام بالعصا،و يده البيضاء، و آلة السحر؟و بعث عيسى بآلة الطب؟و بعث محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و علىت.
ص: 41
جميع الأنبياء-بالكلام و الخطب؟.فقال أبو الحسن عليه السّلام:إن اللّه لما بعث موسى عليه السّلام كان الغالب على أهل عصره السحر،فأتاهم من عند اللّه بما لم يكن في وسعهم مثله،و ما أبطل به سحرهم،و أثبت به الحجة عليهم.و إن اللّه بعث عيسى عليه السّلام في وقت قد ظهرت فيه الزمانات،و احتاج الناس الى الطب،فأتاهم من عند اللّه بما لم يكن عندهم مثله،و بما أحيى لهم الموتى،و أبرأ الأكمه و الأبرص بإذن اللّه،و أثبت به الحجة عليهم.و إنّ اللّه بعث محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في وقت كان الغالب على أهل عصره الخطب و الكلام-و أظنه قال:الشعر- فأتاهم من عند اللّه من مواعظه و حكمه ما أبطل به قولهم،و أثبت به الحجة عليهم» (1).
[o-1-44-1]و قد كانت للنبي معجزات اخرى غير القرآن،كشق القمر،و تكلم الثعبان، و تسبيح الحصى،و لكن القرآن أعظم هذه المعجزات شأنا،و أقومها بالحجة،لأن العربي الجاهل بعلوم الطبيعة و أسرار التكوين،قد يشك في هذه المعجزات،و ينسبها إلى أسباب علمية يجهلها.و أقرب هذه الأسباب إلى ذهنه هو السحر فهو ينسبها اليه،و لكنه لا يشك في بلاغة القرآن و إعجازه،لأنه يحيط بفنون البلاغة،و يدرك أسرارها.[o-1-44-2]على أن تلك المعجزات الاخرى موقتة لا يمكن لها البقاء،فسرعان ما تعود خبرا من الأخبار ينقله السابق للاحق،و ينفتح فيه باب التشكيك.أما القرآن فهو باق إلى الأبد،و إعجازه مستمر مع الأجيال.و سنضع بحثا خاصا عن معجزات النبي غير القرآن،و نتفرغ فيه لمحاسبة من أنكر هذه المعجزات من الكتّاب المعاصرين و غير هم.0،
ص: 42
[o-1-45-1]
قد علم كل عاقل بلغته الدعوة الإسلامية،أن محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بشّر جميع الأمم بدعوتهم إلى الإسلام،و أقام الحجة عليهم بالقرآن،و تحدّاهم بإعجازه،و طلب منهم أن يأتوا بمثله و إن كان بعضهم لبعض ظهيرا،ثم تنزّل عن ذلك فطلب منهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات،ثم تحدّاهم إلى الإتيان بسورة واحدة.
[o-1-45-2]و كان من الجدير بالعرب-و فيهم الفصحاء النابغون في الفصاحة-أن يجيبوه إلى ما يريد،و يسقطوا حجته بالمعارضة،لو كان ذلك ممكنا غير مستحيل.نعم كان من الجدير بهم أن يعارضوا سورة واحدة من سور القرآن،و يأتوا بنظيرها في البلاغة، فيسقطوا حجة هذا المدعي الذي تحدّاهم في أبرع كمالاتهم،و أظهر ميزاتهم، و يسجلوا لأنفسهم ظهور الغلبة و خلود الذكر،و سموّ الشرف و المكانة،و يستريحوا بهذه المعارضة البسيطة من حروب طاحنة،و بذل أموال،و مفارقة أوطان،و تحمّل شدائد و مكاره.
[o-1-46-1]و لكن العرب فكّرت في بلاغة القرآن فأذعنت لإعجازه،و علمت أنها مهزومة إذا أرادت المعارضة،فصدّق منها قوم داعي الحق،و خضعوا لدعوة القرآن،و فازوا بشرف الإسلام،و ركب آخرون جادة العناد،فاختاروا المقابلة بالسيوف على المقاومة بالحروف،و آثروا المبارزة بالسنان على المعارضة في البيان،فكان هذا العجز و المقاومة أعظم حجة على أن القرآن وحي إلهي خارج عن طوق البشر.
[o-1-46-2]و قد يدّعي جاهل من غير المسلمين:أن العرب قد أتت بمثل القرآن و عارضته بالحجة،و قد اختفت علينا هذه المعارضة لطول الزمان.
ص: 43
[o-1-46-3]و جواب ذلك:أن هذه المعارضة لو كانت حاصلة لأعلنتها العرب في أنديتها، و شهرتها في مواسمها و أسواقها.و لأخذ منه أعداء الإسلام نشيدا يوقعونه في كل مجلس،و ذكرا يرددونه في كل مناسبة،و للقّنه السلف للخلف،و تحفظوا عليه تحفظ المدعي على حجته،و كان ذلك أقرّ لعيونهم من الاحتفاظ بتاريخ السلف،و أشعار الجاهلية التي ملأت كتب التاريخ،و جوامع الأدب،مع أنّا لا نرى أثرا لهذه المعارضة، و لا نسمع لها بذكر.على أن القرآن الكريم قد تحدّى جميع البشر بذلك،بل جميع الإنس و الجن،و لم يحصر ذلك بجماعة خاصة.فقال عزّ من قائل:
[o-1-47-1] قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً «17:88».
[o-1-48-1]و نحن نرى النصارى و أعداء الإسلام،يبذلون الأموال الطائلة في الحطّ من كرامة هذا الدين،و النيل من نبيه الأعظم،و كتابه المقدس،و يتكرر هذا العمل منهم في كل عام بل في كل شهر.فلو كان من الميسور لهم أن يعارضوا القرآن،و لو بمقدار سورة منه،لكان هذا أعظم لهم في الحجة،و أقرب لحصول الامنية،و لما احتاجوا إلى صرف هذه الأموال،و إتعاب النفوس.
يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ اللّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ «61:8».
على أن من مارس كلاما بليغا،و بالغ في ممارسته زمانا،أمكنه أن يأتي بمثله أو بما يقاربه في الأسلوب،و هذا مشاهد في العادة،و لا يجري مثل هذا في القرآن،فإن كثرة ممارسته و دراسته،لا تمكّن الإنسان من مشابهته في قليل و لا كثير،و هذا يكشف لنا أن للقرآن اسلوبا خارجا عن حدود التعليم و التعلم،و لو كان القرآن من كلام الرسول و إنشائه،لوجدنا في بعض خطبه و كلماته ما يشبه القرآن في أسلوبه،
ص: 44
و يضارعه في بلاغته.و كلمات الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و خطبه محفوظة مدونة تختص بأسلوب آخر.[o-1-49-1]و لو كان في كلماته ما يشبه القرآن لشاع نقله و تدوينه،و خصوصا من أعدائه الذين يريدون كيد الإسلام بكل وسيلة و ذريعة.مع أن للبلاغة المألوفة حدودا لا تتعدّاها في الأغلب،فإنا نرى البليغ العربي الشاعر أو الناثر تختص بلاغته في جهة واحدة،أو جهتين أو ثلاث جهات،فيجيد في الحماسة مثلا دون المديح،أو في الرثاء دون النسيب[o-1-50-1].و القرآن قد استطرد مواضيع عديدة،و تعرّض لفنون من الكلام كثيرة،و أتى في جميع ذلك بما يعجز عنه غيره،و هذا ممتنع على البشر في العادة.
[o-1-51-1]
قد عرفت أن طريق التصديق بالنبوة و الإيمان بها،ينحصر بالمعجز الذي يقيمه النبي شاهدا لدعواه،[o-1-52-1]و لما كانت نبوءات الأنبياء السابقين مختصة بأزمانهم و أجيالهم، كان مقتضى الحكمة أن تكون معاجزهم مقصورة الأمد،و محدودة،لأنها شواهد على نبوءات محدودة،فكان البعض من أهل تلك الأزمنة يشاهد تلك المعجزات فتقوم عليه الحجة،و البعض الآخر تنقل اليه أخبارها من المشاهدين على وجه التواتر، فتقوم عليه الحجة أيضا.
[o-1-52-2]أما الشريعة الخالدة،فيجب أن تكون المعجزة التي تشهد بصدقها خالدة أيضا، لأن المعجزة إذا كانت محدودة قصيرة الأمد لم يشاهدها البعيد،و قد تنقطع أخبارها المتواترة،فلا يمكن لهذا البعيد أن يحصل له العلم بصدق تلك النبوة،فإذا كلفه اللّه بالإيمان بها كان من التكليف بالممتنع،و التكليف بالممتنع مستحيل على اللّه تعالى، فلا بدّ للنبوة الدائمة المستمرة من معجزة دائمة.و هكذا أنزل اللّه القرآن معجزة خالدة ليكون برهانا على صدق الرسالة الخالدة،و ليكون حجة على الخلف كما كان حجة
ص: 45
على السلف.[o-1-53-1]و قد نتج لنا عما قدمناه أمران:
الأول:تفوّق القرآن على جميع المعجزات التي ثبتت للأنبياء السابقين،و على المعجزات الاخرى التي ثبتت لنبينا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لكون القرآن باقيا خالدا،و كون إعجازه مستمرا يسمع الأجيال و يحتج على القرون.
[o-1-53-2]الثاني:إن الشرائع السابقة منتهية منقطعة،و الدليل على انتهائها هو انتهاء أمد حجتها و برهانها،لانقطاع زمان المعجزة التي شهدت بصدقها. (1)
[o-1-55-1]ثم ان القرآن يختص بخاصة اخرى،و بها يتفوق على جميع المعجزات التي جاء بها الأنبياء السابقون،و هذه الخاصة هي تكفله بهداية البشر (2)،و سوقهم إلى غاية كما لهم.فإن القرآن هو المرشد الذي أرشد العرب الجفاة الطغاة،المعتنقين أقبح العادات و العاكفين على الأصنام،و المشتغلين-عن تحصيل المعارف و تهذيب النفوس -بالحروب الداخلية،و المفاخرات الجاهلية فتكونت منهم-في مدة يسيرة-امة ذات خطر في معارفها،و ذات عظمة في تاريخها،و ذات سموّ في عاداتها[o-1-56-1].و من نظر في تاريخ الإسلام و سبر تراجم أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المستشهدين بين يديه،ظهرت له عظمة القرآن في بليغ هدايته،كبير أثره،فإنه هو الذي أخرجهم من حضيض الجاهلية إلى أعلى مراتب العلم و الكمال،و جعلهم يتفانون في سبيل الدين و إحياء الشريعة،و لا يعبئون بما تركوا من مال و ولد و أزواج.
[o-1-57-1]و إن كلمة المقداد لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين شاور المسلمين في الخروج إلى بدر شاهد عدل على ما قلنا:).
ص: 46
«يا رسول اللّه امض لما أمرك اللّه فنحن معك،و اللّه لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ و لكن اذهب أنت و ربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.
فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا الى برك الغماد-يعني مدينة الحبشة-لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه.فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خيرا،و دعا له بخير» (1).
هذا واحد من المسلمين،يعرب عن عقيدته و عزمه،و تفانيه في إحياء الحق، و إماتة الشرك.و كان الكثير منهم على هذه العقيدة،متذرعين بالإخلاص.
إن القرآن هو الذي نوّر قلوب أولئك العاكفين على الأصنام،المشتغلين بالحروب الداخلية و المفاخرات الجاهلية،فجعلهم أشدّاء،على الكفار رحماء بينهم.يؤثر أحدهم حياة صاحبه على نفسه،فحصل للمسلمين بفضل الإسلام من فتوح البلدان في ثمانين سنة ما لم يحصل لغيرهم في ثمانمائة سنة.و من قارن بين سيرة أصحاب النبي [o-1-58-1]و سيرة أصحاب الأنبياء السابقين علم أن في ذلك سرا إلهيا،و أن مبدأ هذا السر هو كتاب اللّه الذي أشرق على النفوس،و طهّر القلوب و الأرواح بسموّ العقيدة،و ثبات المبدأ.
انظر الى تاريخ الحواريين،و الى تاريخ غيرهم من أصحاب الأنبياء تعلم كيف كانوا.كانوا يخذلون أنبياءهم عند الشدائد،و يسلمونهم عند خشية الهلاك!!و لذلك لم يكن لاولئك الأنبياء تقدم على طواغيت زمانهم بل كانوا يتسترون عنهم بالكهوف و الأودية.هذه هي الخاصة الثانية التي تفضل القرآن على سائر المعجزات.ر.
ص: 47
[o-1-59-1]و إذ قد عرفت أن القرآن معجزة إلهية،في بلاغته و أسلوبه فاعلم أن اعجازه لا ينحصر في ذلك،بل هو معجزة ربانية،و برهان صدق على نبوة من انزل اليه من جهات شتى،فيحسن بنا أن نتعرض الى جملة منها على نحو الاختصار:
[o-1-61-1]
صرّح الكتاب في كثير من آياته الكريمة بأن محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أمّي،و قد جهر النبي بهذه الدعوى بين ملأ من قومه و عشيرته الذين نشأ بين أظهرهم،و تربّى في أوساطهم،فلم ينكر أحد عليه هذه الدعوى،و في ذلك دلالة قطعية على صدقه فيما يدعيه.و مع أمّيته فقد أتى في كتابه من المعارف بما أبهر عقول الفلاسفة،و أدهش مفكري الشرق و الغرب منذ ظهور الإسلام إلى هذا اليوم،و سيبقى موضعا لدهشة المفكرين،و حيرتهم إلى اليوم الأخير،و هذا من أعظم نواحي الإعجاز.
[o-1-62-1]و لنتنازل للخصوم عن هذه الدعوى،و لنفرض أن محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يكن أمّيّا، و لنتصوره قد تلقّن المعارف،و أخذ الفنون و التاريخ بالتعليم،أ فليس لازم هذا أنه اكتسب معارفه و فنونه من مثقفي عصره الذين نشأ بين أظهرهم؟و نحن نرى هؤلاء الذين نشأ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بينهم،منهم وثنيون يعتقدون بالأوهام،و يؤمنون بالخرافات، و ذلك ظاهر.و منهم كتابيون يأخذون معارفهم و تأريخهم،و أحكامهم من كتب العهدين التي ينسبونها إلى الوحي،و يعزونها إلى الأنبياء.[o-1-63-1]و إذا فرضنا أن محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخذ تعاليمه من أهل عصره،أ فليس لازم هذا أن ينعكس على أقواله و معارفه ظلال هذه العقائد التي اكتسبها من معلميه و مرشديه و من هذه الكتب التي كانت مصدر ثقافته و علومه؟و نحن نرى مخالفة القرآن لكتب العهدين في جميع النواحي،و تنزيهه
ص: 48
لحقائق المعارف عن الموهومات الخرافية التي ملأت كتب العهدين و غيرها من مصادر التعلم في ذلك العصر.
[o-1-63-2]و قد تعرض القرآن الكريم لصفات اللّه جل شأنه في آيات كثيرة،فوصفه بما يليق بشأنه من صفات الكمال،و نزّهه عن لوازم النقص و الحدوث.و هذه نماذج منها:
[o-1-64-1] وَ قالُوا اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ 2:116. بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 117. وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ .163. اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ :255.[o-1-65-1] إِنَّ اللّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ 3:5. هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ :6. ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ 6:102. لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ :103. قُلِ اللّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنّى تُؤْفَكُونَ 10:34.[o-1-65-2] اَللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ 13:2. وَ هُوَ اللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ 28:70. هُوَ اللّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ 59:22.[o-1-66-1] هُوَ اللّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللّهِ عَمّا يُشْرِكُونَ .23. هُوَ اللّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ :
ص: 49
[o-1-64-1] وَ قالُوا اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ 2:116. بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 117. وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ .163. اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ :255.[o-1-65-1] إِنَّ اللّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ 3:5. هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ :6. ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ 6:102. لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ :103. قُلِ اللّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنّى تُؤْفَكُونَ 10:34.[o-1-65-2] اَللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ 13:2. وَ هُوَ اللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ 28:70. هُوَ اللّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ 59:22.[o-1-66-1] هُوَ اللّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللّهِ عَمّا يُشْرِكُونَ .23. هُوَ اللّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ :
24).
[o-1-67-1]هكذا يصف القرآن إله العالمين،و يأتي بالمعارف التي تتمشّى مع البرهان الصريح،و يسير مع العقل الصحيح،و هل يمكن لبشر أمي نشأ في محيط جاهل أن يأتي بمثل هذه المعارف العالية؟.
[o-1-67-2]و يتعرض القرآن لذكر الأنبياء فيصفهم بكل جميل ينبغي أن يوصفوا به،و ينسب إليهم كل مأثرة كريمة تلازم قداسة النبوة،و نزاهة السفارة الإلهية،و إليك نماذج منها:
اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ 7:157. هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ 62:2.[o-1-68-1] وَ إِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ 68:3. وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ :4. إِنَّ اللّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ 3:23. وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمّا تَعْبُدُونَ 43:26. إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ :27.[o-1-68-2] وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ 6:75.[o-1-69-1] وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَ نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسى وَ هارُونَ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ :84. وَ زَكَرِيّا وَ يَحْيى وَ عِيسى وَ إِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصّالِحِينَ :85. وَ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ يُونُسَ وَ لُوطاً وَ كلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ :86. وَ مِنْ آبائِهِمْ وَ ذُرِّيّاتِهِمْ وَ إِخْوانِهِمْ وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَ هَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ :87.[o-1-69-2] وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً وَ قالاَ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ 27:15.[o-1-70-1] وَ اذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ ذَا الْكِفْلِ وَ كُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ 38:48. أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَ مِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَ إِسْرائِيلَ وَ مِمَّنْ هَدَيْنا وَ اجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَ بُكِيًّا 19:58.
ص: 50
اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ 7:157. هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ 62:2.[o-1-68-1] وَ إِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ 68:3. وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ :4. إِنَّ اللّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ 3:23. وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمّا تَعْبُدُونَ 43:26. إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ :27.[o-1-68-2] وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ 6:75.[o-1-69-1] وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَ نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسى وَ هارُونَ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ :84. وَ زَكَرِيّا وَ يَحْيى وَ عِيسى وَ إِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصّالِحِينَ :85. وَ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ يُونُسَ وَ لُوطاً وَ كلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ :86. وَ مِنْ آبائِهِمْ وَ ذُرِّيّاتِهِمْ وَ إِخْوانِهِمْ وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَ هَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ :87.[o-1-69-2] وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً وَ قالاَ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ 27:15.[o-1-70-1] وَ اذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ ذَا الْكِفْلِ وَ كُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ 38:48. أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَ مِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَ إِسْرائِيلَ وَ مِمَّنْ هَدَيْنا وَ اجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَ بُكِيًّا 19:58.
[o-1-70-2]هذه جملة من الآيات التي جاء بها الكتاب العزيز في تنزيه الأنبياء و تقديسهم، و إظهارهم على حقيقتهم من القداسة و النزاهة و جميل الذكر.
أما كتب العهدين فقد تعرضت أيضا لذكر الأنبياء و وصفتهم،و لكن بما ذا وصفتهم؟بأي منزلة و ضيعة أنزلت هؤلاء السفرة الأبرار،و لنذكر لذلك أمثلة:
[o-1-71-1]1-ذكرت التوراة في الإصحاحين الثاني و الثالث من سفر التكوين.قصة آدم و حواء خروجهما من الجنة.و ذكرت أن اللّه أجاز لآدم أن يأكل من جميع الأثمار إلا ثمرة شجرة معرفة الخير و الشر.و قال له:«لأنك يوم تأكل منها موتا تموت»ثم خلق اللّه من آدم زوجته حواء و كانا عاريين في الجنة لأنهما لا يدركان الخير و الشر، و جاءت الحية و دلتهما على الشجرة،و حرضتهما على الأكل من ثمرها و قالت:إنكما لا تموتان بل إن اللّه عالم أنكما يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما و تعرفان الخير و الشر فلما أكلا منها انفتحت أعينهما،و عرفا أنهما عاريان.فصنعا لأنفسهما مئزرا فرآهما الرب و هو يتمشى في الجنة،فاختبأ آدم و حواء منه فنادى اللّه آدم أين أنت؟فقال آدم:
ص: 51
سمعت صوتك فاختبأت لأني عريان.فقال اللّه:من أعلمك بأنك عريان،هل أكلت من الشجرة؟ثم إن اللّه بعد ما ظهر له أكل آدم من الشجرة.قال:هو ذا آدم صار كواحد منا عارف بالخير و الشر،و الآن يمدّ يده فيأكل من شجرة الحياة،و يعيش إلى الأبد،فأخرجه اللّه من الجنة،و جعل على شرقيّها ما يحرس طريق الشجرة.و ذكر في العدد التاسع من الإصحاح الثاني عشر أن الحية القديمة هو المدعو إبليس، و الشيطان الذي يضل العالم كله.
[o-1-72-1]انظر كيف تنسب كتب الوحي الى قداسة اللّه أنه كذب على آدم،و خادعه في أمر الشجرة،ثم خاف من حياته،و خشي من معارضته إياه في استقلال مملكته فأخرجه من الجنة،و أن اللّه جسم يتمشى في الجنة،و أنه جاهل بمكان آدم حين اختفى عنه، و أن الشيطان المضل نصح لآدم،و أخرجه من ظلمة الجهل الى نور المعرفة،و أدراك الحسن و القبح.
[o-1-73-1]2-و في الإصحاح الثاني عشر من التكوين:أن«إبراهيم»ادّعى أمام«فرعون» أن«سارة»أخته و كتم أنها زوجته،فأخذها فرعون لجمالها«و صنع الى إبراهيم خيرا بسببها،و صار له غنم و بقر و حمير و عبيد و إماء و أتن و جمال».و حين علم فرعون أن سارة كانت زوجة إبراهيم و ليست أخته قال له:«لما ذا لم تخبرني أنها امرأتك؟لما ذا قلت:هي اختي حتى أخذتها لي لتكون زوجتي».ثم ردّ فرعون سارة إلى إبراهيم.
و مغزى هذه القصة أن إبراهيم صار سببا لأخذ فرعون سارة زوجة إبراهيم، زوجة له.و حاشا إبراهيم-و هو من أكرم أنبياء اللّه-أن يرتكب ما لا يرتكبه فرد عادي من الناس.
ص: 52
[o-1-74-1]3-و في الإصحاح التاسع عشر من سفر التكوين:قصة«لوط»مع ابنتيه في الجبل،و أن الكبيرة قالت لاختها:«أبونا قد شاخ و ليس في الأرض رجل ليدخل علينا.هلمي نسقي أبانا خمرا،و نضطجع معه فنحيي من أبينا نسلا فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة»و اضطجعت معه الكبيرة.و في الليلة الثانية سقتاه الخمر أيضا، و دخلت معه الصغيرة فحملتا منه،و ولدت الكبيرة ابنا و سمته«موآب»و هو أب الموآبيين،و ولدت الصغيرة ابنا فسمّته«بن عمي»و هو أبو بني عمون إلى اليوم.
هذا ما نسبته التوراة الرائجة إلى لوط نبي اللّه و إلى ابنتيه،و ليحكّم الناظر فيها عقله،ثم ليقل ما يشاء.
[o-1-75-1]4-و في الإصحاح السابع و العشرين من التكوين:أن«إسحق»أراد أن يعطي ابنه«عيسو»بركة النبوة فخادعه«يعقوب»و أوهمه أنه عيسو،و قدم له طعاما و خمرا فأكل شرب،و بهذه الحيلة و الكذب المتكرر توسل إلى أن باركه اللّه.و قال له إسحاق:
«كن سيدا لاخوتك،و يسجد لك بنو أمك ليكن لاعنوك ملعونين،و مباركوك مباركين»و لما جاء عيسو علم أن أخاه يعقوب قد انتهب بركة النبوة.فقال لأبيه:
«باركني أنا أيضا يا أبي.فقال:جاء أخوك بمكر و أخذ بركتك».ثم قال عيسو:«أما أبقيت لي بركة»؟فقال إسحق:«إني قد جعلته سيدا لك،و دفعت اليه جميع إخوته عبيدا،و عضدته بحنطة و خمر.فما ذا أصنع إليك يا ابني؟و رفع عيسو صوته و بكى».
[o-1-76-1]أ فهل يعقل انتهاب النبوة؟و هل يعطي اللّه نبوته لمخادع كاذب،و يحرم منها أهلها؟هل أن يعقوب بعمله هذا خادع اللّه أيضا كما خادع إسحاق و لم يقدر اللّه بعد ذلك على إرجاعها إلى أهلها؟!!تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا.و لعل سكرة الخمر دعت الى وضع هذه السخافة،و الى نسبة شرب الخمر الى إسحق.
ص: 53
[o-1-77-1]5-و في الإصحاح الثامن و الثلاثين من التكوين:أن«يهوذا»بن يعقوب زنى بزوجة ابنه«عير»المسماة«بثامار»و أنها حبلت منه و ولدت له ولدين«فارص» و«زارح»،و قد ذكر إنجيل متى في الإصحاح الأول نسب يسوع المسيح تفصيلا، و جعل المسيح و سليمان و أباه داود من نسل فارص«هذا الذي ولد من زنا يهوذا بكنّته (1)ثامار».
حاشا أنبياء اللّه أن يولدوا من الزنى،كيف و أن تنسب إليهم الولادة من الزنى بذات محرم!!و لكن واضع التوراة الرائجة لا يبالي بما يكتب و بما يقول!!.
[o-1-77-2]6-و في الإصحاحين الحادي و الثاني عشر من صموئيل الثاني:أن داود زنى بامرأة«أوريا»المجاهد المؤمن.و حملت من ذلك الزنى،فخشي داود الفضيحة،و أراد تمويه الأمر على أوريا،فطلبه و أمره أن يدخل بيته فأبى«أوريا»و قال:«سيدي- يوآب-و عبيد سيدي نازلون على وجه الصحراء،و أنا آتي الى بيتي لآكل و أشرب و أضطجع مع امرأتي،و حياتك و حياة نفسك لا أفعل هذا الأمر»فلما يئس داود من التمويه أقامه عنده اليوم،و دعاه فأكل عنده و شرب و أسكره و في الصباح كتب داود الى يوآب:«اجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديدة،و ارجعوا من ورائه فيضرب و يموت»و قد فعل يوآب ذلك فقتل أوريا،و أرسل الى داود يخبره بذلك،فضم داود امرأة أوريا الى بيته و صارت امرأة له بعد انتهاء مناحتها على بعلها.و في الإصحاح الأول من إنجيل متى:أن سليمان بن داود ولد من تلك المرأة.
تأمل كيف تجرّأ هذا الوضّاع على اللّه؟و كيف تصح نسبة هذا الفعل إلى من له أدنى غيرة و حمية فضلا عن نبي من أنبياء اللّه؟و كيف يجتمع هذا مع ما في إنجيل لوقان.
ص: 54
من أن المسيح يجلس على كرسي داود أبيه؟!! [o-1-79-1]7-و في الإصحاح الحادي عشر من الملوك الأول:أي سليمان كانت له سبعمائة زوجة من السيدات،و ثلاثمائة من السراري،فأمالت النساء قلبه وراء آلهة اخرى «فذهب سليمان وراء عشتورث آلهة الصيدونيين،و ملكوم،رجس العمونيين،و عمل سليمان الشر في عيني الرب...فقال الرب:إني امزق المملكة عنك تمزيقا و أعطيها لعبدك»[o-1-80-1].و في الثالث و العشرين من الملوك الثاني:أن المرتفعات التي بناها سليمان لعشتورث رجاسة الصيدونيين و ل«كموش»رجاسة الموآبيين و ملكوم كراهة بني عمون نجسها الملك«يوشيا»و كسر التماثيل و قطع السواري،و كذلك فعل بجميع آثار الوثنيين.
هب أن النبي لا يلزم أن يكون معصوما-و الأدلة العقلية قائمة على عصمته- فهل يجوز له في حكم العقل أن يعبد الأصنام،و أن يبني لها المرتفعات ثم يدعو الناس الى التوحيد و الى عبادة اللّه؟كلا!!! [o-1-81-1]و في الإصحاح الأول من كتاب«هوشع»:أن«أول ما كلم الرب هوشع.قال الرب لهوشع:اذهب خذ لنفسك امرأة زنى،و أولاد زنى،لأن الأرض قد زنت زنى تاركة الرب،فذهب و أخذ«جومر»بنت دبلايم فحبلت،و ولد له ابنان و بنت».و في الإصحاح الثالث:أن الرب قال له:«اذهب أيضا أحبب امرأة-حبيبة صاحب و زانية-كمحبة الرب لبني إسرائيل».
أ هكذا يكون أمر اللّه،يأمر نبيه بالزنى و بمحبة امرأة زانية؟تعالى عن ذلك علوا كبيرا[o-1-82-1].و لا عجب في أن الكاتب لا يدرك قبح ذلك.و إنما العجب من الأمم المثقفة و رجال العصر،و مهرة العلوم الناظرين في التوراة الرائجة،و المطلعين على ما
ص: 55
اشتملت عليه من الخرافات،كيف تعتقد بأنها وحي إلهي و كتاب سماوي.نعم ان تقليد الآباء كالغريزة الثانوية،يصعب التنازل عنه إلى اتباع الحق و الحقيقة.و اللّه الهادي و الموفق.
[o-1-82-2]9-و في الإصحاح الثاني عشر من إنجيل متى،و الثالث من مرقس و الثامن من لوقا:أن المسيح فيما هو يكلم الجموع«إذا أمه و إخوته قد وقفوا خارجا طالبين أن يكلموه.فقال له واحد:هو ذا أمك و إخوتك واقفون خارجا طالبين أن يكلموك.
فأجاب و قال للقائل له:من هم أمي و من هم إخوتي،ثم مدّ يده نحو تلاميذه و قال:
ها أمي و إخوتي،لأن من يصنع مشيئة أبي الذي في السموات هو أخي و أختي و أمي».
[o-1-83-1]انظر إلى هذا الكلام و تأمّل ما فيه من سخافة.ينتهر المسيح امه القدّيسة البرّة و يحرمها رؤيته،و يعرّض بقداستها،و يفضّل تلاميذه عليها و هم الذين قال فيهم المسيح:«إنهم لا إيمان لهم»كما في الرابع من مرقس،و إنه ليس لهم من الإيمان مثل حبة خردل كما في السابع عشر من متى،و هم الذين طلب منهم المسيح أن يسهروا معه ليلة هجوم اليهود عليه فلم يفعلوا،و لما أمسكه اليهود في الظاهر تركه التلاميذ كلهم و هربوا،كما في الإصحاح السادس و العشرين من إنجيل متى،إلى ما سوى ذلك من الشنائع التي نسبتها إليهم الأناجيل.
[o-1-83-2]10-و في الإصحاح الثاني من يوحنا:أن المسيح حضر مجلس عرس فنفد خمرهم،فعمل لهم ستة أجران من الخمر بطريق المعجزة.و في الحادي عشر من متى، [o-1-84-1]و السابع من لوقا:أن المسيح كان يشرب الخمر،بل كان شرّيب خمر«كثير الشرب لها».
ص: 56
حاشا قدس المسيح من هذا البهتان العظيم.فقد جاء في العاشر اللاويين أن الرب قال لهارون:«خمرا و مسكرا لا تشرب أنت و بنوك معك عند دخولكم خيمة الاجتماع لكي لا تموتوا،فرضا دهريا في أجيالكم،و للتمييز بين المقدس و المحلل، و بين النجس و الطاهر».و في الأول من لوقا في مدح يوحنا المعمدان:«لأنه يكون عظيما أمام الرب خمرا و مسكرا لا يشرب».إلى غير ذلك مما دلّ على حرمة شرب الخمر في العهدين.
هذه أمثلة يسيرة في كتب العهدين الرائجة من سخافات و خرافات،و أضاليل و أباطيل لا تلتئم مع البرهان،و لا تتمشى مع المنطق الصحيح،وضعناها أمام القارئ ليمعن النظر فيها،و ليحكّم عقله و وجدانه.و هل يمكن أن يحكم أن محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد اقتبس معارفه،و أخذ محتويات قرآنه العظيم من هذه السخافات و هو على ما هو عليه من سموّ المعارف،و رصانة التعليم؟[o-1-85-1]و هل يمكن أن تنسب هذه الكتب السخيفة إلى وحي السماء و هي التي لوّثت قداسة الأنبياء بما ذكرناه و بما لم نذكره (1)؟ [o-1-87-1]
قد علم كل عاقل جرّب الأمور،و عرف مجاريها أن الذي يبني أمره على الكذب و الافتراء في تشريعه و أخباره،لا بد من أن يقع منه التناقض و الاختلاف،و لا سيما إذا تعرّض لكثير من الأمور المهمة في التشريع و الاجتماع و العقائد،و النظم الأخلاقية المبتنية على أدق القواعد،و أحكم الاسس،و لا سيما إذا طالت على ذلك المفتري
ص: 57
أيام،و مرّت عليه أعوام.نعم لا بد من أن يقع في التناقض و التهافت من حيث يريد أو لا يريد،لأن ذلك مقتضى الطبع البشري الناقص إذا خلا من التسديد.و قد قيل في المثل المعروف:«لا حافظة لكذوب».
[o-1-88-1]و قد تعرض القرآن الكريم لمختلف الشئون،و توسّع فيها أحسن التوسع فبحث في الإلهيات و مباحث النبوات،و وضع الأصول في تعاليم الأحكام و السياسات المدنية،و النظم الاجتماعية،و قواعد الأخلاق.و تعرّض لأمور أخرى تتعلق بالفلكيات و التاريخ،و قوانين السلم و الحرب،و وصف الموجودات السماوية و الأرضية من ملك و كواكب و رياح،و بحار و نبات و حيوان و إنسان،و تعرض لأنواع الأمثال،و وصف أهوال القيامة و مشاهدها فلم توجد فيه أية مناقضة و لا أدنى اختلاف،و لم يتباعد عن أصل مسلم عند العقل و العقلاء.و ربما يستعرض الحادثة الواحدة مرتين أو أكثر،فلا تجد فيه أقل تهافت و تدافع.[o-1-88-2]و إليك قصة موسى عليه السّلام،فقد تكررت في القرآن مرارا عديدة،و في كل مرة تجد لها مزية تمتاز بها من غير اختلاف في جوهر المعنى.
و إذا عرفت أن الآيات نزلت نجوما متفرقة على الحوادث،علمت أن القرآن روح من أمر اللّه،لأن هذا التفرق يقتضي بطبعه عدم الملاءمة و التناسب حين يجتمع.[o-1-89-1]و نحن نرى القرآن معجزا في كلتا الحالتين،نزل متفرقا فكان معجزا حال تفرقه،فلما اجتمع حصل له إعجاز آخر.و قد أشار إلى هذا النحو من الإعجاز قوله تعالى:
أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً «4:82».
ص: 58
[o-1-90-1]و هذه الآية تدلّ الناس على أمر يحسّونه بفطرتهم،و يدركونه بغريزتهم،و هو أن من يعتمد في دعواه على الكذب و الافتراء لا بد له من التهافت في القول،و التناقض في البيان،و هذا شىء لم يقع في الكتاب العزيز.
و القرآن يتبع هذه الخطة في كثير من استدلالاته و احتجاجاته،فيرشد الناس إلى حكم الفطرة،و يرجعهم إلى الغريزة،و هي أنجح طريقة في الإرشاد،و أقربها إلى الهداية.[o-1-90-2]و قد أحسّت العرب بهذه الاستقامة في أساليب القرآن،و استيقنت بذلك بلغاؤهم.و إن كلمة الوليد بن المغيرة في صفة القرآن تفسر لنا ذلك،حيث قال-حين [o-1-91-1]سأله أبو جهل أن يقول في القرآن قولا:
«فما أقول فيه؟فو اللّه ما منكم رجل أعلم في الأشعار مني و لا أعلم برجزه مني،و لا بقصيده،و لا بأشعار الجن.و اللّه ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا،و و اللّه إنّ لقوله لحلاوة،و إنه ليحطم ما تحته،و إنه ليعلو و لا يعلى.
قال أبو جهل:و اللّه لا يرضى قومك حتى تقول فيه قال الوليد:
فدعني حتى أفكر فيه فلما فكر.قال:هذا سحر يأثره عن غيره». (1)
[o-1-92-1]و في بعض الروايات قال الوليد:
«و اللّه لقد سمعت منه كلاما ما هو من كلام الإنس و لا من كلام الجن،و إن له لحلاوة،و إن عليه لطلاوة و إن أعلاه لمثمر،و إن أسفله لمغدق،و إنه ليعلو و لا يعلى عليه،و ما يقول هذا بشر...» (2)9.
ص: 59
[o-1-93-1]و إذا أردت أن تحس ذلك من نفسك فانظر الى الكتب المنسوبة إلى الوحي،فانك تجدها متناقضة المعاني،مضطربة الأسلوب،لا تنهض و لا تتماسك.و إذا نظرت إلى كتب العهدين،و ما فيها من تضارب و تناقض تجلّت لك حقيقة الأمر،و بان لك الحق من الباطل.و هنا نذكر أمثلة مما وقع في الأناجيل من هذا الاختلاف.
[o-1-93-2]1-في الإصحاح الثاني عشر من إنجيل متى،و الحادي عشر من لوقا:إن المسيح قال:«من ليس معي فهو عليّ،و من لا يجمع معي فهو يفرق».و قال في التاسع من مرقس،و التاسع من لوقا:«من ليس علينا فهو معنا».
2-و في التاسع عشر من متى،و العاشر من مرقس،و الثامن عشر من لوقا:إن بعض الناس قال للمسيح:«أيها المعلم الصالح.فقال:لما ذا تدعوني صالحا؟ليس أحد صالحا إلا واحد و هو اللّه».و في العاشر من يوحنا أنه قال:«أنا هو الراعي الصالح...أما أنا فإني الراعي الصالح».
[o-1-94-1]3-و في السابع و العشرين من متى قال:«كان اللصّان اللذان صلبا معه-المسيح يعيرانه»،و في الثالث و العشرين من لوقا:«و كان واحد من المذنبين المعلقين يجدف عليه قائلا:إن كنت أنت المسيح فخلص نفسك و إيانا،فأجاب الآخر و انتهره قائلا:
أولا أنت تخاف اللّه؟إذ أنت تحت هذا الحكم بعينه».
[o-1-94-2]4-و في الإصحاح الخامس من إنجيل يوحنا:«إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي ليست حقا».و في الثامن من هذا الإنجيل نفسه أنه قال:«و إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق».
هذه نبذة مما في الأناجيل-على ما هي عليه من صغر الحجم-من التضارب
ص: 60
و التناقض.و فيها كفاية لمن طلب الحق،و جانب التعصب و العناد. (1)
[o-1-95-1]
يبدو لكل متتبع للتاريخ ما كانت عليه الأمم قبل الإسلام من الجهل،و ما وصلت اليه من الانحطاط في معارفهم و أخلاقهم.فكانت الهمجية سائدة عليهم،و الغارات متواصلة فيما بينهم،و القلوب متجهة الى النهب و الغنيمة،و الخطى مسرعة الى إصلاء نيران الحروب و المعارك.و كان للعرب القسم الوافر من خرافات العقيدة،و وحشية السلوك،فلا دين يجمعهم،و لا نظام يربطهم و عادات الآباء تذهب بهم يمينا و شمالا، و كان الوثنيون في بلاد العرب هم السواد الأعظم فكانت لهم-باختلاف قبائلهم و أسرهم-آلهة يعبدونها و يتخذونها شفعاء الى اللّه،و شاع بينهم الاستقسام بالأنصاب و الأزلام،و اللعب بالميسر،حتى كان الميسر من مفاخرهم (2)و كان من عاداتهم التزويج بنساء الآباء (3)[o-1-96-1]و لهم عادة اخرى هي أفظع منها-و هي وأد البنات-دفنهن في حال الحياة. (4)
هذه بعض عادات العرب في جاهليتهم.و حين بزغ نور محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أشرقت شمس الإسلام في مكة،تنوّروا بالمعارف،و تخلّقوا بمكارم الأخلاق،فاستبدلوا الوثنية بالتوحيد،و الجهل بالعلم،و الرذائل بالفضائل،و الشقاق و التخالف بالإخاء و التآلف،فأصبحوا أمة وثيقة العرى مدّت جناح ملكها على العالم،و رفعت أعلام
ص: 61
الحضارة في أقطار الأرض و أرجائها.قال ألدوري (1).
«و بعد ظهور الذي جمع قبائل العرب أمة واحدة،تقصد مقصدا واحدا،ظهرت للعيان أمة كبيرة،مدّت جناح ملكها من نهر تاج إسبانيا إلى نهر الجانج في الهند،و رفعت على منار الإشادة أعلام التمدن في أقطار الأرض،أيام كانت أوروبا مظلمة بجهالات أهلها في القرون المتوسطة.ثم قال:إنهم كانوا في القرون المتوسطة مختصين بالعلوم من بين سائر الأمم،و انقشعت بسببهم سحائب البربرية التي امتدت على اوروبا حين اختل نظامها بفتوحات المتوحشين» (2).
[o-1-97-1]نعم إن جميع ذلك كان بفضل تعاليم كتاب اللّه الكريم الذي فاق جميع الصحف السماوية.فإن للقرآن في أنظمته و تعاليمه مسلكا يتمشى مع البراهين الواضحة، و حكم العقل السليم،فقد سلك سبيل العدل،و تجنّب عن طرفي الإفراط و التفريط.
فتراه في فاتحة الكتاب يطلب عن لسان البشر من اللّه الهداية إلى الصراط المستقيم بقوله:
اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ «1:6».
و هذه الجملة على وجازتها و اختصار ألفاظها واسعة المعنى بعيدة المدى.
و سنتعرض لما يتيسر من بيان ذلك عند تفسيرنا للآية المباركة إن شاء اللّه تعالى.
[o-1-98-1]و قد أمر القرآن بالعدل و سلوك الجادة الوسطى في كثير من آياته.فقال:9.
ص: 62
إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ 4:58. اِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى 5:8. وَ إِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى 6:152.[o-1-98-2] إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ «16:90».
[o-1-99-1]نعم قد أمر القرآن بالعدل،و سلك في تعاليمه مسلك الاستقامة،فنهى عن الشح في عدة مواضع،و عرّف الناس مفاسده و عواقبه:
وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لِلّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ «3:18».
[o-1-100-1]بينما قد نهى عن الإسراف و التبذير و دلّ الناس على مفاسدهما:
وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ 6:141. إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ 17:27. وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً :29).
[o-1-100-2]و أمر بالصبر على المصائب و بتحمّل الأذى،و مدح الصابر على صبره،و وعده الثواب العظيم:
إِنَّما يُوَفَّى الصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ 39:10. وَ اللّهُ يُحِبُّ الصّابِرِينَ 3:
146).
[o-1-101-1]و إلى جانب هذا لم يجعل المظلوم مغلول اليد أمام ظالمه،بل أباح له أن ينتقم من الظالم بمثل ما اعتدى عليه،حسما لمادة الفساد،و تحقيقا لشريعة العدل:
ص: 63
فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ «2:194».
و جوّز لولي المقتول أن يقتصّ من القاتل العامد:
وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ «17:33».
[o-1-101-2]و القرآن بسلوكه طريق الاعتدال،و أمره بالعدل و الاستقامة قد جمع نظام الدنيا الى نظام الآخرة،و تكفل بما يصلح الأولى،و بما يضمن السعادة في الأخرى،فهو الناموس الأكبر جاء به النبي الأعظم ليفوز به البشر بكلتا السعادتين،و ليس تشريعه دنيويا محضا لا نظر فيه الى الآخرة،كما تجده في التوراة الرائجة،فإنها مع كبر حجمها لا تجد فيها موردا تعرضت فيه لوجود القيامة،و لم تخبر عن عالم آخر للجزاء على الأعمال الحسنة و القبيحة.نعم صرحت التوراة بأن أثر الطاعة هو الغنى في الدنيا،و التسلط على الناس باستعبادهم،و أن أثر المعصية و السقوط عن عين الرب هو الموت و سلب الأموال و السلطة[o-1-103-1].كما أن تشريع القرآن ليس أخرويا محضا لا تعرض له بتنظيم أمور الدنيا كما في شريعة الإنجيل.فشريعة القرآن شريعة كاملة تنظر الى صلاح الدنيا مرة و الى صلاح الآخرة مرة اخرى.فيقول في تعليماته.
وَ مَنْ يُطِعِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 4:13. وَ مَنْ يَعْصِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَ لَهُ عَذابٌ مُهِينٌ 14.[o-1-104-1] فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ 99:7. وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ :8. وَ ابْتَغِ فِيما آتاكَ اللّهُ الدّارَ الْآخِرَةَ وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا. 28:77)
ص: 64
[o-1-104-2]و يحث الناس-في كثير من آياته-على تحصيل العلم،و ملازمة التقوى بينما يبيح لهم لذائذ الحياة و جميع الطيبات:
[o-1-105-1] قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ «7:32».
و يدعو كثيرا الى عبادة اللّه،و الى التفكر في آياته التشريعية و التكوينية و الى التأمل و التدبر في الآفاق و في الأنفس،و مع ذلك لم يقتصر على هذه الناحية التي توصل الإنسان بربه،بل تعرّض للناحية الأخرى التي تجمعه مع أبناء نوعه.
و أحل له البيع:
[o-1-105-2] وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا «2:275».
و أمره بالوفاء بالعقود:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ «5:1».
و أمر بالتزويج الذي يكون به بقاء النوع الإنساني:
وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَ الصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ 24:32. فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً 4:3).
[o-1-106-1]و أمر الإنسان بالإحسان الى زوجته،و القيام بشئونها،و الى الوالدين و الأقربين،و الى عامة المسلمين،بل و الى البشر كافة.فقال:
وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ 4:19 وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ 2:228.
[o-1-106-2] وَ اعْبُدُوا اللّهَ وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ بِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى
ص: 65
وَ الْمَساكِينِ وَ الْجارِ ذِي الْقُرْبى وَ الْجارِ الْجُنُبِ وَ الصّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً 4:36. وَ أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللّهُ إِلَيْكَ وَ لا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ 28:77. إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ 7:56. وَ أَحْسِنُوا إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ 2:195).
[o-1-107-1]هذه أمثلة من تعاليم القرآن التي نهج فيها منهج الاعتدال،و قد أوجب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر على جميع أفراد الامّة،و لم يخصه بطائفة خاصة،و لا بأفراد مخصوصين،و هو بهذا التشريع قد فتح لتعاليمه أبواب الانتشار و نفخ فيها روح الحياة و الاستمرار.فقد جعل كل واحد من أفراد العائلة و البيئة مرشدا لهم،و رقيبا عليهم،بل جعل كل مسلم دليلا و عينا على سائر المسلمين يهديهم الى الرشاد، و يزجرهم عن البغي و الفساد،فالمسلمون بأجمعهم مكلفون بتبليغ الأحكام، و بتنفيذها،أ فهل تعلم جنودا هي أقوى و أعظم تأثيرا من هذه الجنود و نحن نرى السلاطين ينفذون إرادتهم على الرعية بقوة جنودهم.و من الواضح أنهم لا يلازمون الرعية في جميع الأمكنة و الأزمان،فكم فرق بين جند الإسلام،و جند السلاطين.
[o-1-108-1]و من أعظم تعاليم القرآن التي تجمع كلمة المسلمين،و توحّد بين صفوفهم:
المؤاخاة بين طبقات المسلمين،و نبذ الميزات إلا من حيث العلم و التقوى حيث يقول:
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ 49:13. قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ 39:9).
[o-1-109-1]قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:
«إن اللّه عز و جل أعز بالإسلام من كان في الجاهلية ذليلا،و
ص: 66
أذهب بالإسلام ما كان من نخوة الجاهلية و تفاخرها بعشائرها، و باسق أنسابها،فالناس اليوم كلهم أبيضهم و أسودهم،و قرشيهم و عربيهم و عجميهم من آدم.و ان آدم خلقه اللّه من طين،و أن أحب الناس الى اللّه عز و جل يوم القيامة أطوعهم له و أتقاهم (1)...» و قال:«فضل العالم على سائر الناس كفضلي على أدناكم» (2).
فالإسلام قدّم سلمان الفارسي لكمال إيمانه حتى جعله من أهل البيت (3)و أخّر أبا لهب عم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لكفره.
[o-1-110-1]انك ترى أن نبي الإسلام لم يفتخر على قومه بنسب و لا حسب،و لا بغيرهما مما كان الافتخار به شائعا في عصره،بل دعاهم إلى الإيمان باللّه و باليوم الآخر،و إلى كلمة التوحيد،و توحيد الكلمة،و بذلك قد تمكن أن يسيطر على أمّة كانت تتفاخر بالأنساب بقلوب ملؤها الشقاق و النفاق،فأثّر في طباعها حتى أزال الكبر و النخوة منها،فأصبح الغني الشريف يزوّج ابنته من المسلم الفقير و إن كان أدنى منه في النسب (4).
[o-1-111-1]هذه شريعة القرآن في إرشاداته و تعاليمه،تتفقد مصالح الفرد،و مصالح المجتمع، و تضع القوانين التي تكفل جميع ذلك،ما يعود منها الى الدنيا و ما يرجع الى الآخرة.
فهل يشك عاقل بعد هذا في نبوة من جاء بهذا الشرع العظيم،و لا سيما إذا لاحظ أن).
ص: 67
نبي الإسلام قد نشأ بين أمة وحشية،لا معرفة لها بشيء من هذه التعليمات؟!! [o-1-113-1]
تعرّض القرآن الكريم لمواضيع كثيرة العدد،متباعدة الأغراض من الإلهيات و المعارف،و بدء الخلق و المعاد،و ما وراء الطبيعة من الروح و الملك و إبليس و الجن، و الفلكيات،و الأرض،و التاريخ،و شئون فريق من الأنبياء الماضين،و ما جرى بينهم و بين أممهم،و للأمثال و الاحتجاجات و الأخلاقيات،و الحقوق العائلية،و السياسات المدنية،و النظم الاجتماعية و الحربية،و القضاء و القدر،و الكسب و الاختيار، و العبادات و المعاملات،و النكاح و الطلاق،و الفرائض،و الحدود و القصاص و غير ذلك.و قد أتى في جميع ذلك بالحقائق الراهنة،التي لا يتطرق إليها الفساد و النقد في أية جهة من جهاتها،و لا يأتيها الباطل من بين يديها و لا من خلفها،و هذا شىء يمتنع وقوعه عادة من البشر-و لا سيما ممن نشأ بين أمة جاهلة لا نصيب لها من المعارف،و لا غيرها من العلوم-و لذلك نجد كل من ألّف في علم من العلوم النظرية لا تمضى على مؤلّفه مدة حتى ينضح بطلان كثير من آرائه.فان [o-1-114-1]العلوم النظرية كلما ازداد البحث فيها و كثر،ازدادت الحقائق فيها وضوحا،و ظهر للمتأخر خلاف ما أثبته المتقدم،و الحقيقة-كما يقولون-بنت البحث،و كم ترك الأول للآخر.و لهذا نرى كتب الفلاسفة الأقدمين،و من تأخر عنهم من أهل التحقيق و النظر قد صارت عرضة لسهام النقد ممن تأخّر،حتى أن بعض ما اعتقده السابقون برهانا يقينيا، أصبح بعد نقده وهما من الأوهام،و خيالا من الأخيلة.
[o-1-115-1]و القرآن مع تطاول الزمان عليه،و كثرة أغراضه،و سموّ معانية،لم يوجد فيه ما
ص: 68
يكون معرضا للنقد و الاعتراض.اللهم إلا أوهام من بعض المكابرين،حسبوها من النقد.و سنتعرض لها،و نوضح بطلانها إن شاء اللّه تعالى.
[o-1-118-1]
أخبر القرآن الكريم في عدة من آياته عن امور مهمة،تتعلق بما يأتي من الأنباء و الحوادث،و قد كان في جميع ما أخبر به صادقا،لم يخالف الواقع في شىء منها.و لا شك في انّ هذا من الإخبار بالغيب،و لا سبيل اليه غير طريق الوحي و النبوة.
فمن الآيات التي أنبأت عن الغيب قوله تعالى:
وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَ يُرِيدُ اللّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَ يَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ «8:7».
[o-1-118-1]و هذه الآية نزلت في وقعة بدر،و قد وعد اللّه فيها المؤمنين بالنصر على عدوهم و بقطع دابر الكافرين،و المؤمنون على ما هم عليه من قلة العدد و العدة،حتى أن الفارس فيهم كان هو المقداد،أو هو و الزبير بن العوام و الكافرون هم الكثيرون الشديدون في القوة،و قد وصفتهم الآية بأنهم ذووا شوكة،و أن المؤمنين أشفقوا من قتالهم،و لكن اللّه يريد أن يحق الحق بكلماته.و قد و في للمؤمنين بوعده،و نصرهم على أعدائهم،و قطع دابر الكافرين.
و منها قوله تعالى:
فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ 15:94. إِنّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ 95. اَلَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ :96).
ص: 69
[o-1-119-1]فإن هذه الآية الكريمة نزلت بمكة في بدء الدعوة الإسلامية،و [o-1-120-1]قد أخرج البزار و الطبراني في سبب نزولها عن أنس بن مالك:أنها نزلت عند مرور النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على أناس بمكة،فجعلوا يغمزون في قفاه،و يقولون:«هذا الذي يزعم أنه نبي و معه جبرئيل» (1).فأخبرت الآية عن ظهور دعوة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و نصرة اللّه له،و خذلانه للمشركين الذين ناوءوه و استهزءوا بنبوته،و استخفوا بأمره.و كان هذا الإخبار في زمان لم يخطر فيه على بال أحد من الناس انحطاط شوكة قريش،و انكسار سلطانهم،و ظهور النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليهم.
[o-1-120-2]و نظير هذه الآية قوله تعالى:
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ 61:9).
و من هذه الأنباء قوله تعالى:
[o-1-121-1] غُلِبَتِ الرُّومُ 30:2. فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ :3).
و قد وقع ما أخبرت به الآية بأقل من عشر سنين،فغلب ملك الروم،و دخل جيشه مملكة الفرس.
و منها قوله تعالى:
أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ 54:44. سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ :45).
[o-1-121-2]فأخبر عن انهزام جمع الكفار و تفرّقهم و قمع شوكتهم،و قد وقع هذا في يوم بدر أيضا حين ضرب أبو جهل فرسه،و تقدم نحو الصف الأول قائلا:«نحن ننتصر اليومي.
ص: 70
من محمد و أصحابه»فأباده اللّه و جمعه،و أنار الحق و رفع مناره،و أعلى كلمته، [o-1-122-1]فانهزم الكافرون،و ظفر المسلمون عليهم حينما لم يكن يتوهم أحد بأن ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا-ليس لهم عدة،و لا يصحبون غير فرس أو فرسين و سبعين بعيرا يتعاقبون عليها-يظفرون بجمع كبير تام العدّة وافر العدد،و كيف يستفحل أمر أولئك النفر القليل على هذا العدد الكثير،حتى تذهب شوكته كرماد اشتدّت به الريح،لو لا أمر اللّه و إحكام النبوة و صدق النيّات؟! و منها قوله تعالى:
[o-1-122-2] تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ ... سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ. وَ امْرَأَتُهُ حَمّالَةَ الْحَطَبِ «111:2».
[o-1-123-1]و قد تضمنت هذه السورة نبأ دخول أبي لهب،و دخول زوجته النار.و معنى ذلك هو الإخبار عن عدم تشرفهما بقبول الإسلام إلى آخر حياتهما،و قد وقع ذلك.
[o-1-125-1]
أخبر القرآن الكريم في غير واحدة من آياته عما يتعلق بسنن الكون،و نواميس الطبيعة،و الأفلاك،و غيرها مما لا سبيل إلى العلم به في بدء الإسلام إلا من ناحية الوحي الإلهي.و بعض هذه القوانين و إن علم بها اليونانيون في تلك العصور أو غيرهم ممن لهم سابق معرفة بالعلوم،إلا أن الجزيرة العربية كانت بعيدة عن العلم بذلك.و إن فريقا مما أخبر به القرآن لم يتضح إلا بعد توفر العلوم،و كثرة الاكتشافات.و هذه الأنباء في القرآن كثيرة،نتعرض لها عند تفسيرنا الآيات التي تشير إليها إن شاء اللّه تعالى.
ص: 71
[o-1-125-2]و قد أخذ القرآن بالحزم في إخباره عن هذه الأمور،فصرّح ببعضها حيث يحسن التصريح.و أشار إلى بعضها حيث تحمد الإشارة،لأن بعض هذه الأشياء مما يستعصي على عقول أهل ذلك العصر،فكان من الرشد أن يشير إليها إشارة تتضح لأهل العصور المقبلة حين يتقدم العلم،و تكثر الاكتشافات.
[o-1-126-1]و من هذه الأسرار التي كشف عنها الوحي السماوي،و تنبّه إليها المتأخرون ما في قوله تعالى:
وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ «15:19».
فقد دلّت هذه الآية الكريمة على أن كل ما ينبت في الأرض له وزن خاص،و قد ثبت أخيرا أن كل نوع من أنواع النبات مركب من أجزاء خاصة على وزن مخصوص،بحيث لو زيد في بعض أجزائه أو نقص لكان ذلك مركبا آخر.و ان نسبة بعض الأجزاء إلى بعض من الدقة بحيث لا يمكن ضبطها تحقيقا بأدق الموازين المعروفة للبشر.
[o-1-128-1]و من الأسرار الغريبة-التي أشار إليها الوحي الإلهي-حاجة إنتاج قسم من الأشجار و النبات إلى لقاح الرياح.فقال سبحانه:
وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ «15:22».
[o-1-128-2]فإن المفسرين الأقدمين و إن حملوا اللقاح في الآية الكريمة على معنى الحمل، باعتبار أنه أحد معانيه،و فسّروا الآية المباركة بحمل الرياح للسحاب،أو المطر الذي يحمله السحاب،و لكن التنبيه على هذا المعنى ليس فيه كبير اهتمام،و لا سيما بعد ملاحظة أن الرياح لا تحمل السحاب،و إنما تدفعه من مكان إلى مكان آخر.
ص: 72
[o-1-129-1]و النظرة الصحيحة في معنى الآية-بعد ملاحظة ما اكتشفه علماء النبات-تفيدنا سرا دقيقا لم تدركه أفكار السابقين،و هو الإشارة إلى حاجة إنتاج الشجر و النبات إلى اللقاح.و أن اللقاح قد يكون بسبب الرياح،و هذا كما في المشمس و الصنوبر و الرمان و البرتقال و القطن،و نباتات الحبوب و غيرها،فإذا نضجت حبوب الطلع انفتحت الأكياس،و انتثرت خارجها محمولة على أجنحة الرياح فتسقط على مياسم الأزهار الاخرى عفوا.
[o-1-129-2]و قد أشار سبحانه و تعالى إلى أنّ سنّة الزواج لا تختص بالحيوان،بل تعمّ النبات بجميع أقسامه بقوله:
وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ «13:3».
سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ مِمّا لا يَعْلَمُونَ «36:36».
[o-1-130-1]و من الأسرار التي كشف عنها القرآن هي حركة الأرض.فقد قال عز من قائل:
اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً «20:53».
تأمّل كيف تشير الآية إلى حركة الأرض إشارة جميلة لم تتضح إلا بعد قرون، و كيف تستعير للأرض لفظ المهد الذي يعمل للرضيع،يهتز بنعومة لينام فيه مستريحا هادئا؟و كذلك الأرض مهد للبشر و ملائمة لهم من جهة حركتها الوضعية و الانتقالية،و كما أن تحرك المهد لغاية تربية الطفل و استراحته،فكذلك الأرض،فإن حركتها اليومية و السنوية لغاية تربية الإنسان بل و جميع ما عليها من الحيوان و الجماد و النبات.
ص: 73
[o-1-131-1]تشير الآية المباركة إلى حركة الأرض إشارة جميلة،و لم تصرح بها لأنها نزلت في زمان أجمعت عقول البشر فيه على سكونها،حتى أنه كان يعد من الضروريات التي لا تقبل التشكيك (1).
[o-1-132-1]و من الأسرار التي كشف عنها القرآن قبل أربعة عشر قرنا:وجود قارة اخرى.
فقد قال سبحانه و تعالى:
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَ رَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ «55:17».
و هذه الآية الكريمة قد شغلت أذهان المفسرين قرونا عديدة،و ذهبوا في تفسيرها مذاهب شتى.فقال بعضهم:المراد مشرق الشمس و مشرق القمر و مغرباهما.و حمله بعضهم على مشرقي الصيف و الشتاء و مغربيهما.و لكن الظاهر أن المراد بها الإشارة الى وجود قارة اخرى تكون على السطح الآخر للأرض يلازم شروق الشمس عليها غروبها عنّا.و ذلك بدليل قوله تعالى:
[o-1-133-1] يا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ «43:38».
فإن الظاهر من هذه الآية أن البعد بين المشرقين هو أطول مسافة محسوسة فلا يمكن حملها على مشرقي الشمس و القمر و لا على مشرقي الصيف و الشتاء،لأن المسافة بين ذلك ليست أطول مسافة محسوسة فلا بد من أن يراد بها المسافة التي ما بين المشرق و المغرب.و معنى ذلك أن يكون المغرب مشرقا لجزء آخر من الكرة الأرضية ليصح هذا التعبير،فالآية تدل على وجود هذا الجزء الذي لم يكتشف إلا بعد مئات من السنين من نزول القرآن.د.
ص: 74
[o-1-134-1]فالآيات التي ذكرت المشرق و المغرب بلفظ المفرد يراد منها النوع كقوله تعالى:
وَ لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ «2:115».
و الآيات التي ذكرت ذلك بلفظ التثنية يراد منها الإشارة الى القارة الموجودة على السطح الآخر من الأرض.
و الآيات التي ذكرت ذلك بلفظ الجمع يراد منها المشارق و المغارب باعتبار أجزاء الكرة الأرضية كما نشير اليه.
[o-1-134-1]و من الأسرار التي أشار إليها القرآن الكريم كروية الأرض فقال تعالى:
وَ أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا 7:137.
رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ رَبُّ الْمَشارِقِ 37:5. فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَ الْمَغارِبِ إِنّا لَقادِرُونَ 70:40).
[o-1-135-1]ففي هذه الآيات الكريمة دلالة على تعدد مطالع الشمس و مغاربها،و فيها إشارة إلى كروية الأرض،فإن طلوع الشمس على أي جزء من أجزاء الكرة الأرضية يلازم غروبها عن جزء آخر،فيكون تعدد المشارق و المغارب واضحا لا تكلف فيه و لا تعسف[o-1-136-1].و قد حمل القرطبي و غيره المشارق و المغارب على مطالع الشمس و مغاربها باختلاف أيام السنة،لكنه تكلف لا ينبغي أن يصار اليه،لأن الشمس لم تكن لها مطالع معينة ليقع الحلف بها،بل تختلف تلك باختلاف الأراضي فلا بد من أن يراد بها المشارق و المغارب التي تتجدد شيئا فشيئا باعتبار كروية الأرض و حركتها.
ص: 75
[o-1-136-2]و في أخبار أئمة الهدى من أهل البيت عليهم السّلام و أدعيتهم و خطبهم ما يدلّ على كروية الأرض.
[o-1-136-3]و من ذلك ما روي عن الإمام الصادق عليه السّلام قال:
«صحبني رجل كان يمسي بالمغرب و يغلس بالفجر،و كنت أنا أصلّى المغرب إذا غربت الشمس،و أصلّي الفجر إذا استبان لي الفجر.فقال لي الرجل:ما يمنعك أن تصنع مثل ما أصنع؟فإن الشمس تطلع على قوم قبلنا و تغرب عنا،و هي طالعة على قوم آخرين بعد.فقلت:إنما علينا أن نصلّي إذا وجبت الشمس عنا و إذا طلع الفجر عندنا،و على أولئك أن يصلوا إذا غربت الشمس عنهم» (1).
[o-1-137-1]يستدل الرجل على مراده باختلاف المشرق و المغرب الناشئ عن استدارة الأرض،و يقرّه الإمام عليه السّلام على ذلك و لكن ينبهه على وظيفته الدينية.
و مثله قول الإمام عليه السّلام في خبر آخر:«إنما عليك مشرقك و مغربك» (2).
[o-1-138-1]و من ذلك ما ورد عن الإمام زين العابدين عليه السّلام في دعائه عند الصباح و المساء:
«و جعل لكل واحد منهما حدا محدودا،و أمدا ممدودا،يولج كل واحد منهما في صاحبه،و يولج صاحبه فيه بتقدير منه للعباد» (3).
[o-1-138-2]أراد صلوات اللّه عليه بهذا البيان البديع التعريف بما لم تدركه العقول في تلكء.
ص: 76
العصور و هو كروية الأرض،و حيث أن هذا المعنى كان بعيدا عن أفهام الناس لانصراف العقول عن إدراك ذلك،تلطّف-و هو الإمام العالم بأساليب البيان- بالإشارة إلى ذلك على وجه بليغ،فإنه عليه السّلام لو كان بصدد بيان ما يشاهده عامة الناس من أن الليل ينقص تارة فتضاف من ساعاته إلى النهار،و ينقص النهار تارة اخرى فتضاف من ساعاته إلى الليل،لاقتصر على الجملة الاولى:«يولج كل واحد منهما في صاحبه»و لما احتاج إلى ذكر الجملة الثانية:«و يولج صاحبه فيه»[o-1-139-1]إذن فذكر الجملة الثانية إنما هو للدلالة على أن إيلاج كل من الليل و النهار في صاحبه يكون في حال إيلاج صاحبه فيه،لأن ظاهر الكلام أن الجملة الثانية حالية،ففي هذا دلالة على كروية الأرض،و ان إيلاج الليل في النهار-مثلا-عندنا يلازم إيلاج النهار في الليل عند قوم آخرين.و لو لم تكن مهمة الإمام عليه السّلام الإشارة إلى هذه النكتة العظيمة لم تكن لهذه الجملة الأخيرة فائدة،و لكانت تكرارا معنويا للجملة الاولى.
[o-1-139-2]و لقد اقتصرنا في بيان إعجاز القرآن على هذه النواحي،و في ذلك كفاية و دلالة على أن القرآن وحي إلهي،و خارج عن طوق البشر.
[o-1-139-3]و كفى بالقرآن دليلا على كونه وحيا إلهيا أنه المدرسة الوحيدة التي تخرّج منها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام الذي يفتخر بفهم كلماته كل عالم نحرير و ينهل من بحار علمه كل محقق متبحر[o-1-140-1].و هذه خطبه في نهج البلاغة،فإنه حينما يوجه كلامه فيها الى موضوع لا يدع فيه مقالا لقائل،حتى ليخال من لا معرفة له بسيرته أنه قد قضى عمره في تحقيق ذلك الموضوع و البحث عنه،فممّا لا شك فيه أن هذه المعارف و العلوم متصلة بالوحي،و مقتبسة من أنواره،لأن من يعرف تاريخ جزيرة العرب- و لا سيما الحجاز-لا يخطر بباله أن تكون هذه العلوم قد أخذت عن غير منبع
ص: 77
الوحي.و لنعم ما قيل في وصف نهج البلاغة:«أنه دون كلام الخالق،و فوق كلام المخلوقين». (1)
[o-1-140-2]بل أعود فأقول:إن تصديق علي عليه السّلام-و هو على ما عليه من البراعة في البلاغة، و المعارف و سائر العلوم-لإعجاز القرآن هو بنفسه دليل على أن القرآن وحي إلهي، فإن تصديقه بذلك لا يجوز أن يكون ناشئا عن الجهل و الاغترار،كيف و هو رب الفصاحة و البلاغة،و اليه تنتهي جميع العلوم الإسلامية و هو المثل الأعلى في المعارف، و قد اعترف بنبوغه و فضله المؤالف و المخالف.[o-1-141-1]و كذلك لا يجوز أن يكون تصديقه هذا تصديقا صوريا ناشئا عن طلب منفعة دنيوية من جاه أو مال،كيف و هو منار الزهد و التقوى،و قد أعرض عن الدنيا و زخارفها،و رفض زعامة المسلمين حين اشترط عليه أن يسير بسيرة الشيخين،[o-1-142-1]و هو الذي لم يصانع معاوية بإبقائه على ولايته أياما قليلة،مع علمه بعاقبة الأمر إذا عزله عن الولاية.و إذن فلا بد من أن يكون تصديقه بإعجاز القرآن تصديقا حقيقيا،مطابقا للواقع،ناشئا عن الإيمان الصادق.و هذا هو الصحيح،و الواقع المطلوب.د.
ص: 78
ص: 79
-القرآن و القواعد.
-كيف يثبت الإعجاز لجميع البشر.
-قول النظام بالصرفة.
-مخالفة قصص القرآن لكتب العهدين.
-وجود التناقض في الإنجيل.
-إبطال الجبر و التفويض.
-إثبات الأمر بين الأمرين في القرآن.
-القرآن كان مجموعا على عهد النبي.
-أسلوب القرآن في جمعه بين المواضيع المختلفة.
-سخافات و خرافات في معارضة سورتين من القرآن.
ص: 80
[o-1-142-1]
لقد تحدّى القرآن جميع البشر،و طالبهم أن يأتوا بسورة من مثله فلم يستطع أحد أن يقوم بمعارضته،و لما كبر على المعاندين أن يستظهر القرآن على خصومه،راموا أن يحطّوا من كرامته بأوهام نسجتها الأخيلة حول عظمة القرآن،تأييدا لمذاهبهم الفاسدة.و من الحسن أن نتعرض لهذه الأوهام التي أتعبوا بها أنفسهم ليتبين مبلغهم من العلم،و أن الأهواء كيف تذهب بهم يمينا و شمالا فترديهم في مهوى سحيق.
قالوا:
1-إن في القرآن أمورا تنافي البلاغة لأنها تخالف القواعد العربية،و مثل هذا لا يكون معجزا.
[o-1-144-1]و هذا القول باطل من وجهين:
الأول:إن القرآن نزل بين بلغاء العرب و فصحائها،و قد تحدّاهم إلى معارضته، و لو بالإتيان بسورة واحدة،و ذكر أن الخلق لا يقدرون على ذلك،و لو كان بعضهم
ص: 81
لبعض ظهيرا،فلو كان في القرآن ما يخالف كلام العرب فإن هؤلاء البلغاء العارفين بأساليب اللغة و مزاياها لأخذوه حجة عليه،و لعابوه بذلك،و استراحوا به عن معارضته باللسان أو السنان و لو وقع شىء من ذلك لاحتفظ به التاريخ،و لتواتر بين أعداء الإسلام،كيف و لم ينقل ذلك و لا بخبر واحد؟.
[o-1-144-2]الثاني:إن القرآن نزل في زمان لم يكن فيه للقواعد العربية عين و لا أثر،و إنما أخذت هذه القواعد-بعد ذلك-من استقراء كلمات العرب البلغاء،و تتبع تراكيبها.
و القرآن لو لم يكن وحيا إلهيا-كما يزعم الخصم-فلا ريب في أنه كلام عربي بليغ، فيكون أحد المصادر للقواعد العربية،و لا يكون القرآن أقل مرتبة من كلام البلغاء الآخرين المعاصرين لنبي الإسلام.و معنى هذا:أن القاعدة العربية المستحدثة إذا خالفت القرآن كان هذا نقضا على تلك القاعدة،لا نقدا على ما استعمله القرآن.
[o-1-145-1]على أن هذا لو تم فإنما يتم فيما إذا اتفقت عليه القراءات،فإنا سنثبت-فيما يأتي-أن هذه القراءات المعروفة إنما هي اجتهادات من القرّاء أنفسهم،و ليست متواترة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلو ورد اعتراض على إحدى القراءات كان ذلك دليلا على بطلان تلك القراءة نفسها،دون أن يمسّ بعظمة القرآن و كرامته.
و قالوا:
[o-1-145-2]2-إن الكلام البليغ-و إن عجز البشر عن الإتيان بمثله-لا يكون معجزا،فإن معرفة بلاغته تختص ببعض البشر دون بعض،و المعجز لا بد و أن يعرف إعجازه جميع أفراد البشر،لأن كل فرد منهم مكلّف بتصديق نبوة صاحب ذلك المعجز.
ص: 82
[o-1-146-1]الجواب:
و هذه شبهة تشبه ما تقدمها في ضعف الحجة،و تفكك القياس.فإن المعجز لا يشترط فيه أن يدرك إعجازه كل البشر،و لو اشترطنا ذلك لم يسلم لنا معجز أصلا،فإن إدراكه يختص بجماعة خاصة،و يثبت لغيرهم بالنقل المتواتر[o-1-146-2].و قد ذكرنا امتياز القرآن عن غيره من المعجزات،بأن التواتر قد ينقطع في مرور الزمان.و أما القرآن فهو معجزة باقية أبدية ببقاء الامة العربية،بل ببقاء من يعرف خصائص اللغة العربية،و إن لم يكن عربيا.
و قالوا:
[o-1-147-1]3-إن العارف باللغة العربية قادر على أن يأتي بمثل كلمة من كلمات القرآن.
و إذا أمكنه ذلك أمكنه أن يأتي بمثل القرآن،لأن حكم الأمثال فيما يجوز و فيما لا يجوز واحد.
[o-1-147-2]الجواب:
إن هذه الشبهة لا تليق بالذكر،فان القدرة على الإتيان بمثل كلمة من كلمات القرآن،بل على الإتيان بمثل جملة من جملاته لا تقتضي القدرة على الإتيان بمثل القرآن،أو بمثل سورة من سوره،فإن القدرة على المادة لا تستلزم القدرة على التركيب.و لهذا لا يصح لنا أن نقول:إن كل فرد من أفراد البشر قادر على بناء القصور الفخمة،و الصروح الضخمة،لأنه قادر على وضع آجرة في البناء،أو نقول:
إن كل عربي قادر على إنشاء الخطب و القصائد،لأنه قادر على أن يتكلم بكل كلمة
ص: 83
من كلماتها و مفرداتها.
و كأنّ هذه الشبهة هي التي دعت«النظام»و أصحابه إلى القول بأن إعجاز القرآن بالصرفة.
[o-1-148-1]و هذا القول في غاية الضعف:
[o-1-148-2]أولا:لأن الصرفة التي يقولون بها،إن كان معناها أن اللّه قادر على أن يقدّر بشرا على أن يأتي بمثل القرآن،و لكنه تعالى صرف هذه القدرة من جميع البشر،و لم يؤتها لأحد منهم فهو معنى صحيح،و لكنه لا يختص بالقرآن،بل هو جار في جميع المعجزات.و إن كان معناها أن الناس قادرون على أن يأتوا بمثل القرآن،و لكن اللّه صرفهم عن معارضته فهو واضح البطلان،لأن كثيرا من الناس تصدّوا لمعارضة القرآن،فلم يستطيعوا ذلك،و اعترفوا بالعجز.
[o-1-148-3]ثانيا:لأنه لو كان إعجاز القرآن بالصرفة لوجد في كلام العرب السابقين مثله قبل أن يتحدى النبي البشر،و يطالبهم بالإتيان بمثل القرآن،و لو وجد ذلك لنقل و تواتر،لتكثّر الدواعي إلى نقله،و إذ لم يوجد و لم ينقل كشف ذلك عن كون القرآن بنفسه إعجازا إلهيا،خارجا عن طاقة البشر.
و قالوا:
[o-1-149-1]4-إن القرآن و إن سلّم إعجازه،إلا أنه لا يكشف عن صدق نبوة من جاء به، لأن قصص القرآن تخالف قصص كتب العهدين التي ثبت كونها وحيا إلهيا بالتواتر.
ص: 84
[o-1-149-2]الجواب:
إن القرآن بمخالفته لكتب العهدين في قصصها الخرافية قد أزال ريب المرتاب في كونه وحيا إلهيا،لخلوّه عن الخرافات و الأوهام،و عما لا يجوز في حكم العقل نسبته إلى اللّه تعالى،و إلى أنبيائه،فمخالفة القرآن لكتب العهدين بنفسها دليل على أنه وحي إلهي.و قد أشرنا فيما تقدم إلى ذلك،و إلى جملة من الخرافات الموجودة في كتب العهدين.
و قالوا:
[o-1-149-3]5-إن القرآن مشتمل على المناقضة فلا يكون وحيا إلهيا،و قد زعموا أن المناقضة وقعت في موردين:
الأول:في قوله تعالى:
[o-1-150-1] قالَ آيَتُكَ أَلاّ تُكَلِّمَ النّاسَ ثَلاثَةَ أَيّامٍ إِلاّ رَمْزاً «3:41» فإنه يناقض قوله تعالى:
قالَ آيَتُكَ أَلاّ تُكَلِّمَ النّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا «19:10».
[o-1-150-2]الجواب:
إن لفظ اليوم قد يطلق و يراد منه بياض النهار فقط كما في قوله تعالى:
سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَ ثَمانِيَةَ أَيّامٍ حُسُوماً «69:7».
ص: 85
و قد يطلق و يراد منه بياض النهار مع ليله كما في قوله تعالى:
تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيّامٍ «11:65».
[o-1-151-1]كما أن لفظ الليل قد يطلق و يراد به مدة مغيب الشمس و استتارها تحت الأفق، و عليه جاء قوله تعالى:
وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشى «92:1». سَبْعَ لَيالٍ وَ ثَمانِيَةَ أَيّامٍ حُسُوماً «69:7».
و قد يطلق و يراد منه سواد الليل مع نهاره،و عليه جاء قوله تعالى:
وَ إِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً «2:51» [o-1-151-2]و استعمال لفظي الليل و النهار في هذين المعنيين كثير جدا،و قد استعملا في الآيتين الكريمتين على المعنى الثاني«مجموع بياض النهار و سواد الليل»فلا مناقضة.و توهم المناقضة يبتني على أن لفظي الليل و النهار قد استعملا على المعنى الأول.و ما ذكرناه بيّن لا خفاء فيه،و لكن المتوهم كابر الحقيقة ليحطّ من كرامة القرآن بزعمه هذا.[o-1-152-1]و قد غفل أو تغافل عما في إنجيله من التناقض الصريح عند إطلاقه لهاتين الكلمتين!!!.
فقد ذكر في الباب الثاني عشر من إنجيل متى:أخبار المسيح أنه يبقى مدفونا في بطن الأرض ثلاثة أيام أو ثلاث ليال.مع أن إنجيل متى بنفسه و الأناجيل الثلاثة الأخر قد اتفقت على أن المسيح لم يبق في بطن الأرض إلا يسيرا من آخر يوم الجمعة،و ليلة السبت و نهاره،و ليلة الأحد إلى ما قبل الفجر.فانظر أخريات الأناجيل،ثم قل لكاتب إنجيل متى،و لكل من يعتقد أنه وحي إلهي:أين تكون ثلاثة أيام و ثلاث ليال.[o-1-152-2]و من الغريب جدا أن يؤمن علماء الغرب و مفكروه بكتب العهدين،
ص: 86
و هي مليئة بالخرافات و المناقضات،و ألاّ يؤمنوا بالقرآن،و هو الكتاب المتكفل بهداية البشر،و بسوقهم إلى سعادتهم في الدنيا و الآخرة،و لكن التعصب داء عضال، و طلاب الحق قليلون كما أشرنا اليه فيما تقدم.
[o-1-153-1]الثاني:إن القرآن قد يسند الفعل إلى العبد و اختياره.فيقول:
فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ «18:29».
[o-1-153-2]و الآيات بهذا المعنى كثيرة،فيدلّ على أن العبد مختار في عمله.و قد يسند الاختيار في الأفعال إلى اللّه تعالى.فيقول:
وَ ما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ «76:30».
[o-1-153-3]فزعموا أنه يدل على أن العبد مجبور في فعله.و قالوا:هذا تناقض واضح، و التأويل في الآيات خلاف الظاهر،و قول بغير دليل.
[o-1-154-1]الجواب:
إن كل إنسان يدرك بفطرته أنه قادر على جملة من الأفعال،فيمكنه أن يفعلها و أن يتركها و هذا الحكم فطري لا يشك فيه أحد إلا أن تعتريه شبهة من خارج.
و قد أطبق العقلاء كافة على ذم فاعل القبيح،و مدح فاعل الحسن،و هذا برهان على أن الإنسان مختار في فعله،غير مجبور عليه عند إصداره.و كل عاقل يرى أن حركته على الأرض عند مشيه عليها تغاير حركته عند سقوطه من شاهق إلى الأرض، فيرى أنه مختار في الحركة الاولى،و أنه مجبور على الحركة الثانية.
[o-1-154-2]و كل إنسان عاقل يدرك بفطرته أنه و إن كان مختارا في بعض الأفعال حين
ص: 87
يصدرها و حين يتركها إلا أن أكثر مبادئ ذلك الفعل خارجة عن دائرة اختياره، فإن من جملة مبادئ صدور الفعل نفس وجود الإنسان و حياته،و إدراكه للفعل، و شوقه اليه،و ملاءمة ذلك الفعل لقوة من قواه،و قدرته على إيجاده.و من البيّن أن هذا النوع من المبادئ خارج عن دائرة اختيار الإنسان،و أن موجد هذه الأشياء في الإنسان هو موجد الإنسان نفسه.
[o-1-155-1]و قد ثبت في محله أن خالق هذه الأشياء في الإنسان لم ينعزل عن خلقه بعد الإيجاد،و أن بقاء الأشياء و استمرارها في الوجود محتاج إلى المؤثر في كل آن،و ليس مثل خالق الأشياء معها كالبنّاء يقيم الجدار بصنعه،ثم يستغني الجدار عن بانيه، و يستمر وجوده و إن فنى صانعه،أو كمثل الكاتب يحتاج اليه الكتاب في حدوثه،ثم يستغني عنه في مرحلة بقائه و استمراره.بل مثل خالق الأشياء معها«و للّه المثل الأعلى»كتأثير القوة الكهربائية في الضوء.فإن الضوء لا يوجد إلا حين تمده القوة بتيارها،و لا يزال يفتقر في بقاء وجوده إلى مدد هذه القوّة في كل حين،فإذا انفصل سلكه عن مصدر القوة في حين،انعدم الضوء في ذلك الحين كأن لم يكن.و هكذا تستمد الأشياء و جميع الكائنات وجودها من مبدعها الأول في كل وقت من أوقات حدوثها و بقائها،و هي مفتقرة الى مدده في كل حين،و متصلة برحمته الواسعة التي وسعت كل شىء[o-1-156-1]ء.و على ذلك ففعل العبد وسط بين الجبر و التفويض،و له حظ من كل منهما.فإن إعمال قدرته في الفعل أو الترك و إن كان باختياره.إلا أن هذه القدرة و سائر المبادئ حين الفعل تفاض من اللّه،فالفعل مستند الى العبد من جهة و الى اللّه من جهة اخرى و الآيات القرآنية المباركة ناظرة الى هذا المعنى،و أن اختيار العبد في فعله لا يمنع من نفوذ قدرة اللّه و سلطانه.
ص: 88
[o-1-157-1]و لنذكر مثلا تقريبيا يتضح به للقارئ حقيقة الأمر بين الأمرين الذي قالت به الشيعة الإمامية،و صرحت به أئمتها،و أشار اليه الكتاب العزيز.
[o-1-157-2]لنفرض إنسانا كانت يده شلاء لا يستطيع تحريكها بنفسه،و قد استطاع الطبيب أن يوجد فيها حركة إراديّة وقتية بواسطة قوة الكهرباء،بحيث أصبح الرجل يستطيع تحريك يده بنفسه متى وصلها الطبيب بسلك الكهرباء،و إذا انفصلت عن مصدر القوة لم يمكنه تحريكها أصلا،فإذا وصل الطبيب هذه اليد المريضة بالسلك للتجربة مثلا،و ابتدأ ذلك الرجل المريض بتحريك يده،و مباشرة الأعمال بها- و الطبيب يمده بالقوة في كل آن-فلا شبهة في أن تحريك الرجل ليده في هذه الحال من الأمر بين الأمرين،فلا يستند الى الرجل مستقلا،لأنه موقوف على إيصال القوة الى يده،و قد فرضنا أنها بفعل الطبيب و لا يستند إلى الطبيب مستقلا،لأن التحريك قد أصدره الرجل بإرادته،فالفاعل لم يجبر على فعله لأنه مريد،و لم يفوض اليه الفعل بجميع مبادئه،لأن المدد من غيره،و الأفعال الصادرة من الفاعلين المختارين كلها من هذا النوع.فالفعل صادر بمشيئة العبد و لا يشاء العبد شيئا إلا بمشيئة اللّه.
[o-1-158-1]و الآيات القرآنية كلها تشير الى هذا الغرض،فهي تبطل الجبر-الذي يقول به أكثر العامة-لأنها تثبت الاختيار،و تبطل التفويض المحض-الذي يقول به بعضهم- لأنها تسند الفعل الى اللّه.و سنتعرض إن شاء اللّه تعالى للبحث تفصيلا،و لإبطال هذين القولين حين تتعرض الآيات لذلك.
[o-1-159-1]و هذا الذي ذكرناه مأخوذ عن إرشادات أهل البيت عليهم السّلام و علومهم و هم الذين أذهب اللّه عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا.و إليك بعض ما ورد منهم:
ص: 89
سأل رجل الصادق عليه السّلام فقال:
«قلت:أجبر اللّه العباد على المعاصي؟قال:لا.قلت:ففوض إليهم الأمر؟قال:قال:لا.قال:قلت:فما ذا؟قال:لطف من ربك بين ذلك» (1).
[o-1-159-2]و في رواية اخرى عنه:
«لا جبر و لا قدر،و لكن منزلة بينهما» (2).
و في كتب الحديث للامامية جملة من هذه الروايات.
و قالوا:
[o-1-160-1]6-لو كان الإتيان بكتاب ما معجزا«لعجز البشر عن الإتيان بمثله»لكان كتاب أقليدس و كتاب المجسطي معجزا،و هذا باطل فيكون المقدم باطلا ايضا.
[o-1-161-1]الجواب:
أولا:ان الكتابين المذكورين لا يعجز البشر عن الإتيان بمثلهما،و لا يصح فيهما هذا التوهم،كيف و كتب المتأخرين التي وضعت في هذين العلمين أرقى بيانا منهما، و أيسر تحصيلا،و هذه الكتب المتأخرة تفضل عليهما في نواح اخرى،منها وجود إضافات كثيرة لا أثر لها فيهما.
[o-1-161-2]ثانيا:إنا قد ذكرنا للمعجز شروطا،و من هذه الشروط أن يكون الإتيان به في مقام التحدي.و الاستشهاد به على صدق دعوى منصب إلهي.و منها أن يكون0.
ص: 90
خارجا عن نواميس الطبيعة،و كلا هذين الشرطين مفقود في الكتابين المذكورين.
و قد أوضحنا ذلك أتم إيضاح في أول بحثنا عن الإعجاز.
و قالوا:
[o-1-161-3]7-إن العرب لم تعارض القرآن،لا لكونه معجزا يعجز البشر عن الإتيان بمثله.
و لكنهم لم يعارضوه لجهات اخرى لا تعود إلى الإعجاز.أما العرب الذين عاصروا الدعوة،أو تأخروا عنها قليلا،فقد كانت سيطرة المسلمين تمنعهم عن التصدي لذلك،فلم يعارضوا القرآن خوفا على أنفسهم و أموالهم من هؤلاء المسيطرين،و لما انقرضت سلطة الخلفاء الأربعة و آل الأمر الى الأمويين الذين لم تقم خلافتهم على محور الدعوة الإسلامية،صار القرآن مأنوسا لجميع الأذهان بسبب رشاقة ألفاظه، و متانة معانيه،و أصبح من المرتكزات الموروثة خلفا عن سلف،فانصرفوا عن معارضته لذلك.
[o-1-162-1]الجواب:
أولا:إن التحدي بالقرآن،و طلب المعارضة بسورة من مثله،قد كان من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في مكة قبل أن تظهر شوكة الإسلام،و تقوى سلطة المسلمين،و مع ذلك لم يستطع أحد من بلغاء العرب أن يقوم بهذه المعارضة.
[o-1-162-2]ثانيا:إن الخوف في زمان الخلفاء،و سيطرة المسلمين،لم يمنع الكافر من أن يظهر كفره،و إنكاره لدين الإسلام.و قد كان أهل الكتاب يعيشون بين المسلمين في جزيرة العرب و غيرها بأهنإ عيش و أكرم نعمة،و كان لهم ما للمسلمين،و عليهم ما عليهم.
و لا سيما في عصر خلافة أمير المؤمنين عليه السّلام الذي اعترف بعد له و وفور علمه المسلمون
ص: 91
و غيرهم.فلو كان أحد هؤلاء الكتابيين،أو غيرهم قادرا على الإتيان بمثل القرآن، لأظهره في مقام الاحتجاج.
[o-1-163-1]ثالثا:إن الخوف لو سلم وجوده فهو إنما يمنع عن إظهار المعارضة و المجاهرة بها، فما الذي منع الكتابيين،أو غيرهم من معارضته سرّا في بيوتهم و مجامعهم؟و لو ثبتت هذه المعارضة لتحفّظ بها الكتابيون ليظهروها بعد زوال الخوف عنهم،كما تحفظوا على قصص العهدين الخرافية،و سائر ما يرتبط بدينهم.
[o-1-163-2]رابعا:إن الكلام-و إن ارتفع مقامه من حيث البلاغة-إلا أن المعهود من الطباع البشرية أنه إذا كرر على الأسماع هبط عن مقامه الأول،و لذلك نرى أن القصيدة البليغة إذا أعيدت على الإنسان مرارا ملّها،و اشمأزّت نفسه منها،فإذا سمع قصيدة أخرى فقد يتراءى له في اوّل نظرة انّها أبلغ من القصيدة الاولى،فإذا كررت الثانية أيضا ظهر الفرق الحقيقي بين القصيدتين.و هذا جار في جميع ما يلتذ به الإنسان، و يدرك حسنه من مأكول،و ملبوس و مسموع و غيرها.[o-1-164-1]و القرآن لو لم يكن معجزا لكان اللازم أن يجري على هذا المقياس،و ينحطّ في نفوس السامعين عن مقامه الأول،مهما طال به الزمان و طرأ عليه التكرار،و بذلك تسهل معارضته،و لكنا نرى القرآن على كثرة تكراره و ترديده،لا يزداد إلا حسنا و بهجة،و لا يثمر إلا عرفانا و يقينا،و لا ينتج إلا إيمانا و تصديقا،فهو في هذه المزية على عكس الكلام المألوف.
و إذن فهذا الوجه يؤكد إعجازه لا أنه ينافيه كما يتوهمه هذا الخصم.
خامسا:ان التكرار لو فرض أنه يوجب انس النفوس به،و انصرافها عن معارضته،فهو إنما يتم عند المسلمين الذين يصدقون به،و يستمعون اليه برغبة
ص: 92
و اشتياق كلما تكررت تلاوته،فلما ذا لا يعارضه غير المسلمين من العرب الفصحاء؟ لتقع هذه المعارضة موقع القبول و لو من غير المسلمين.
و قالوا:
[o-1-165-1]8-ذكر التاريخ أن أبا بكر لما أراد جمع القرآن،أمر عمر و زيد بن ثابت أن يقعدا على باب المسجد،و أن يكتبا ما شهد شاهدان على أنه من كتاب اللّه،و في هذا شهادة على أن القرآن ليس خارقا للعادة،لأنه لو كان خارقا للعادة بنفسه لم يحتج الى الشهادة عليه،و لكان بنفسه شاهدا على نفسه.
[o-1-165-2]الجواب:
أولا:إن القرآن معجزة في بلاغته و أسلوبه،لا في كل كلمة من كلماته،و إذن فقد يقع الشك في تحريف بعض الكلمات المفردة،أو في زيادتها و نقصانها.و شهادة الشاهدين-إذا صحّت أخبارها-إنما هي لرفع هذه الاحتمالات التي تعرض من سهو القارئ أو من عمده،على أن عجز البشر عن الإتيان بسورة من مثل القرآن لا ينافي قدرتهم على الإتيان بآية،أو ما يشبه الآية،فإن ذلك أمر ممكن،و لم يدّع المسلمون استحالة ذلك،و لم يذكره القرآن عند التحدي بالمعارضة.
[o-1-166-1]ثانيا:إن هذه الأخبار التي دلّت على جمع القرآن في عهد أبي بكر بشهادة شاهدين من الصحابة،كلها أخبار آحاد،لا تصلح أن تكون دليلا في أمثال ذلك.
[o-1-166-2]ثالثا:إنها معارضة بأخبار كثيرة دلّت على أن القرآن قد جمع في عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كان كثير من الصحابة يحفظ جميع القرآن.و أما الحافظون منهم لبعض سوره
ص: 93
و أجزائه فلا يعلم عددهم إلا اللّه تعالى.على أن النظرة العقلية البسيطة تشهد بكذب تلك الأخبار التي استدل بها الخصم.فإن القرآن هو السبب الأعظم في هداية المسلمين،و في خروجهم من ظلمات الشقاء و الجهل إلى نور السعادة و العلم،و قد بلغ المسلمون في العناية بالقرآن الدرجة القصوى،فقد كانوا يتلون آياته آناء الليل و أطراف النهار،و كانوا يتفاخرون في حفظه و إتقانه و يتبركون بسوره و آياته،و النبي يحثهم على ذلك.فهل يحتمل عاقل بعد هذا كله أن يقع الشك فيه عندهم حتى يحتاج إثباته إلى شاهدين؟.و سنثبت-إن شاء اللّه تعالى-فيما يأتي ان القرآن كان مجموعا في عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
و قالوا:
[o-1-167-1]9-إن للقرآن اسلوبا يباين أساليب البلغاء المعروفة،فقد خلط بين المواضيع المتعددة،فبينا هو يتكلم في التاريخ إذا به ينتقل إلى الوعد و الوعيد،إلى الحكم و الأمثال،إلى جهات اخرى.و لو كان القرآن مبوّبا يجمع في كل موضوع ما يتصل به من الآيات،لكانت فائدته أعظم،و كانت الاستفادة منه أسهل.
[o-1-168-1]الجواب:
إن القرآن أنزل لهداية البشر،و سوقهم إلى سعادتهم في الأولى و الأخرى،و ليس هو بكتاب تاريخ،أو فقه،أو أخلاق.أو ما يشبه ذلك ليعقد لكل من هذه الجهات بابا مستقلا.و لا ريب في أن أسلوبه هذا أقرب الأساليب إلى حصول النتيجة المقصودة،فإن القارئ لبعض سور القرآن يمكنه أن يحيط بكثير من أغراضه، و أهدافه في أقرب وقت و أقل كلفة،فيتوجه نظره إلى المبدأ و المعاد،و يطلع على
ص: 94
أحوال الماضين فيعتبر بهم.و يستفيد من الأخلاق الفاضلة،و المعارف العالية،و يتعلم جانبا من أحكامه في عباداته و معاملاته.كل ذلك مع حفظ نظام الكلام،و توفية حقوق البيان،و رعاية مقتضى الحال.و هذه الفوائد لا يمكن حصولها من القرآن إذا كان مبوّبا،لأن القارئ لا يحيط بأغراض القرآن إلا حين يتم تلاوة القرآن جميعه، و قد يعوقه عائق عن الإتمام فلا يستفيد إلا من باب أو بابين.
[o-1-169-1]و لعمري أن هذه إحدى الجهات المحسنة لأسلوب القرآن،الذي حاز به الجمال و البهاء،فإنه مع انتقاله من موضوع إلى موضوع يتحفظ على كمال الربط بينهما،كأنّ كل جملة منه درة في عقد منتظم،و لكن بغض الإسلام أعمى بصر هذا المستشكل و أصم سمعه،حتى توهم الجمال قبحا،و المحاسن مساوئ.على أن القرآن قد كرر بعض القصص مرارا بعبارات مختلفة،حسب المناسبات المقتضية للتكرار،فلو جمعت تلك العبارات كلها في باب واحد لانتفت تلك الفائدة الملحوظة،و كان التكرار لغير فائدة ملموسة للقارئ.
[o-1-171-1]
ذكر كاتب رسالة«حسن الإيجاز» (1)في رسالته هذه أنه يمكن معارضة القرآن بمثله،و ذكر جملا اقتبسها من نفس القرآن،و حوّر بعض ألفاظها و زعم أنه يعارض بها القرآن،[o-1-171-2]فأظهر مبلغه من العلم،و مقدار معرفته بفنون البلاغة و هنا نذكر للقارئ تلك العبارات،و نوضح له وجوه الفساد في المعارضة الوهمية و قد تعرضنا لها في
ص: 95
كتابنا«نفحات الإعجاز» (1).
[o-1-172-1]ذكر هذا المتوهم في معارضة سورة الفاتحة قوله:«الحمد للرحمن رب الأكوان، الملك الديان،لك العبادة،و بك المستعان،اهدنا صراط الإيمان»و تخيل أن قوله هذا واف بجميع معاني سورة الفاتحة،مع أنه أخصر منها.
[o-1-172-2]و لست أدري ما ذا أقول لكاتب هذه الجمل،و هو بهذا المقدار من التمييز بين غث الكلام و سمينه؟!و ليته عرض قوله هذا على علماء النصارى العارفين منهم بأساليب الكلام،و فنون البلاغة قبل أن يفضح نفسه بهذه الدعوى،أو لم يشعر بأن المألوف في معارضة كلام بمثله،أن يأتي الشاعر أو الكاتب بكلام يتحد مع الكلام المعارض في جهة من الجهات أو غرض من الأغراض،و لكنّه يأتي بكلام مستقل في ألفاظه و تركيبه و أسلوبه؟و ليس معنى المعارضة أن يقلد الكلام المعارض في تركيبه و أسلوبه،و يتصرف فيه بتبديل بعض ألفاظه ببعض،و إلا لأمكنت معارضة كل كلام بهذا النحو من المعارضة.و قد كان أيسر شىء لمعاصري النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من العرب، و لكنهم لمعرفتهم بمعنى المعارضة الصحيحة و معرفتهم بوجوه البلاغة في القرآن لم تمكنهم المعارضة،و اعترفوا بالعجز فآمن به من آمن منهم و جحد به من جحد:
فَقالَ إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ «74:24».
على أنه كيف تصح المقايسة بين جمله هذه التي أتعب بها نفسه،و بين فاتحة الكتاب حتى يتوهم أنها وافية بمعناها؟أو لم يكف هذا الكاتب جهله بفنون البلاغة حتى دل الناس على عيوبه بالجهر بها؟!!و كيف تصح المقايسة بين قوله«الحمدف)
ص: 96
للرحمن»مع قول اللّه تعالى:
اَلْحَمْدُ لِلّهِ «1:2».
و قد فوّت بجملته هذه المعنى المقصود من قول اللّه تعالى[o-1-173-1].فإن كلمة«اللّه»علم للذات المقدسة الجامعة لجميع صفات الكمال،و من صفات الكمال الرحمة التي أشار إليها في البسملة،فذكر كلمة«الرّحمن»يوجب فوت الدلالة على بقية جهات الكمال المجتمعة في الذات المقدسة،و التي يستوجب بها الحمد من غير ناحية الرحمة.[o-1-174-1]و كذلك استبدال قوله:«ربّ الأكوان»بقوله تعالى:
رَبِّ الْعالَمِينَ* اَلرَّحْمنِ الرَّحِيمِ «1:3».
فإن فيه تفويتا لمعنى هاتين الآيتين،فإن فيهما دلالة على تعدد العوالم الطولية و العرضية،و أنه تعالى مالك لجميعها و مربيها،و أن رحمته تشمل جميع هذه العوالم على نحو مستمر غير منقطع،كما يدل عليه ذكر لفظ«الرّحيم»بعد لفظ«الرّحمن».
و سنوضح ذلك في تفسير البسملة.
[o-1-175-1]و أين من هذه المعاني قول هذا القائل:«رب الأكوان؟»فإن الكون معناه الحدوث و الوقوع و الصيرورة و الكفالة (1)و هو بجميع هذه المعاني معنى مصدري لا يصح إضافة كلمة الرب اليه و هي بمعنى المالك المربي.[o-1-176-1]نعم يصح إضافة كلمة الخالق اليه.فيقال:خالق الأكوان.على أن لفظ الأكوان لا يدل على تعدد عوالم الموجودات الذي يدل عليه لفظ العالمين،و لا على سائر الجهات التي تدل عليها الآية الكريمة.
[o-1-176-2]و كذلك استبداله جملة«الملك الديّان»بقول اللّه تعالى:».
ص: 97
مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ «1:4».
مع أن جملته تلك لا تدل على وجود عالم آخر لجزاء الأعمال،و أن اللّه تعالى هو مالك ذلك اليوم،و ليس فيه لأحد تصرف و لا اختيار،و أن الناس كلهم في ذلك اليوم تحت حكم اللّه تعالى ينفذ فيهم أمره،فبعضهم إلى الجنة و بعضهم إلى النار.و غاية ما تدل عليه جملته تلك أن اللّه ملك يجازي بالأعمال،و أين هذا من معنى الآية الكريمة ؟! [o-1-177-1]أما قوله تعالى:
إِيّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ «1:5».
فقد فهم هذا الكاتب من معناه أن العبادة لا بد من أن تكون للّه،و أن الاستعانة لا تكون إلا به تعالى،فأبد لها بقوله:«لك العبادة،و بك المستعان»[o-1-177-2]و قد فاته أن المقصود بالآية تلقين المؤمن أن يظهر توحيده في العبادة،و حاجته و افتقاره إلى إعانة اللّه عز و جل في عباداته و سائر أعماله،و أن يعترف بأنه و جميع المؤمنين لا يعبدون غير اللّه،و لا يستعينون بأحد سوى اللّه،بل يعبدونه وحده و يستعينون به.و أين هذا من عبارة هذا الكاتب على أنها ليست أخصر من الآية المباركة؟!![o-1-178-1]و قوله تعالى:
اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ «1:6».
أراد به طلب الهداية إلى أقرب طريق يوصل سالكه إلى مقاصده،من أعماله و ملكاته و عقائده،و لم يحصره بطريق الإيمان فقط،و هذا لا يفي به قول الكاتب:
«اهدنا صراط الإيمان».على أن معنى هذه الجملة طلب الهداية إلى طريق الإيمان، و لا دلالة فيها على أن ذلك الطريق مستقيم لا يضلّ سالكه.
و قد استغنى الكاتب بجملته هذه عن بقية السورة المباركة،و زعم أن هذه البقية
ص: 98
غير محتاج إليها،و هذا يدل على قصوره عن فهم معناها.فإن قوله تعالى:
[o-1-179-1] صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ الضّالِّينَ «1:7».
فيه دلالة على وجود طريق مستقيم سلكه الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين،و وجود طرق اخرى غير مستقيمة سلكها المغضوب عليهم،من المعاندين للحق،و المنكرين له بعد وضوحه،و الضالون الذين ضلوا طريق الهدى بجهلهم،و تقصير هم في الفحص عنه،و في اقتناعهم بما ورثوه من آثار آبائهم،فاتبعوهم تقليدا على غير هدى من اللّه و لا برهان.[o-1-179-1]و القارئ المتدبر لهذه الآية الكريمة يتذكر ذلك فيحضر في ذهنه لزوم التأسي بأولياء اللّه المقربين في أعمالهم،و أخلاقهم و عقائدهم،و التجنب عن مسالك هؤلاء المتمردين الذين غضب اللّه عليهم بما فعلوا،و الذين ضلوا طريق الحق بعد اتضاحه،و هل يعد هذا المعنى من الأمور التي لا يهتم بها كما يتوهمه هذا الكاتب؟!!.
[o-1-180-1]و ذكر في معارضة سورة الكوثر:قوله:«إنّا أعطيناك الجواهر فصل لربك و جاهر،و لا تعتمد قول ساحر»انظر كيف يقلد القرآن في نظمه و تركيبه و يغير بعض ألفاظه،و يوهم الناس أنه يعارض القرآن [o-1-180-2]ثم انظر كيف يسرق قوله هذا من مسيلمة الكذاب الذي يقول:«إنا أعطيناك الجماهر،فصل لربك و هاجر،و إن مبغضك رجل كافر».[o-1-181-1]و من الغريب أنه توهم أن المشابهة في السجع بين الكلامين تقتضي مشاركتهما في البلاغة،و لم يلتفت إلى أن إعطاء الجواهر لا تترتب عليه إقامة الصلاة و المجاهرة بها.و أن للّه على عبده نعما عظيمة هي أشرف و أعظم من نعمة المال،كنعمة الحياة و العقل و الإيمان،فكيف يكون السبب الموجب للصلاة للّه هو إعطاء المال دون تلك النعم العظيمة؟!و لكن الذي يستأجر بالمال للتبشير يكون
ص: 99
المال قبلته التي يصلّي إليها،و هدفه الذي يسعى إلى تحصيله،و غايته التي يقدّمها على كل غاية«و كل إناء بالذي فيه ينضح».
[o-1-182-1]و لسائل أن يسأل هذا الكاتب عن معنى كلمة«الجواهر»التي جاء بها معرّفة بالألف و اللام،فإن أراد بها جواهر معينة فليست في اللفظ قرينة تعين هذه الجواهر المقصودة،و إن أراد بها جميع الجواهر الموجودة في العالم من حيث أن الجمع المعرف بالألف و اللام يدل على الاستغراق فهو كذب صريح.و ما هو وجه المناسبة بين الجملتين السابقتين و بين قوله:«و لا تعتمد قول ساحر».و ما هو المراد من لفظ ساحر،و من قوله الذي لا يعتمد عليه؟فإن أراد به ساحرا معينا،و قولا مخصوصا من أقواله،كان عليه أن ينصب قرينة على هذا التعيين.و ليس في جملته هذه ما يصلح للدلالة عليه،و إن أراد به كل قول لكل ساحر لأنهما نكرتان في سياق النهي لزم اللغو في هذا الكلام،لأنه لا يوجد سبب معقول لعدم الاعتماد على قول كل ساحر،و لو كان هذا القول في الأمور الاعتيادية مع الاطمئنان بقوله.[o-1-183-1]و إن أراد أن لا يعتمد قول الساحر بما هو ساحر فهو غلط،لأن الساحر من حيث هو ساحر لا قول له،و إنما يسحر الناس و يفسد عليهم حالهم بحيله و أعماله.
[o-1-183-2]و أما سورة الكوثر فقد نزلت في من شنأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال:إنه أبتر و سيموت و ينقطع دينه و اسمه،و قد أشار إلى ذلك بقوله تعالى:
أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ «52:30».
فأنزل اللّه تبارك و تعالى:
إِنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ «108:1».
[o-1-184-1]و هو الخير الكثير من جميع الجهات.أما في الدنيا فشرف الرسالة،و هداية الخلق
ص: 100
و زعامة المسلمين،و كثرة الأنصار،و النصر على الأعداء و كثرة الذرية-من بضعته الصديقة الطاهرة-التي توجب بقاء اسمه ما دامت الدنيا باقية.و أما في الآخرة فالشفاعة الكبرى،و الجنان العالية،و الحوض الذي لا يشرب منه إلا هو و أولياؤه الى ما سوى ذلك من نعم اللّه عليه.
[o-1-184-2] فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ «108:2».
شكرا له على هذه النعم،و المراد بالنحر:النحر بمنى،أو نحر الأضحية في الأضحى،أو رفع اليدين إلى النحر في تكبير الصلاة،أو استقبال القبلة بالنحر، و الاعتدال في القيام،و جميع ذلك يناسب المقام لأنه نحو من الشكر لتلك النعم.و قد أنزل اللّه سبحانه:
إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ «108:3».
[o-1-185-1]فلا يبقى له اسم و لا رسم،فكانت العاقبة لهؤلاء الشانئين ما أخبر اللّه عنهم،فلم يبق لهم اسم و لا ذكر خير في الدنيا زيادة على جزائهم في الآخرة من العذاب الأليم، و الخزي الدائم.و هل تقاس هذه السورة المباركة في معانيها السامية،و بلاغتها الكاملة بتلك الجمل الساقطة التي أجهد هذا الكاتب بها نفسه فقلّد القرآن في نحو تركيبه،و أخذ من مسيلمة الكذاب ألفاظها و أسلوبها،و أتى بها كما شاء له العناد،بل كما شاء له الجهل الفاحش ليعارض بها عظمة القرآن في بلاغته و إعجازه؟!
ص: 101
ص: 102
ص: 103
*إثبات المعجزات بالبراهين المنطقية.
*محاسبة المدارك التي استند إليها منكرو تلك المعجزات.
*بشارة التوراة و الإنجيل بنبوة محمد.
*إسلام كثير من اليهود و النصارى.
*الدليل القطعي على إثبات هذه البشارة.
*معجزات النبي أولى بالتصديق من معجزات الأنبياء السابقين.
ص: 104
لا يشك باحث مطلع في أن القرآن أعظم معجزة جاء بها نبي الإسلام،و معنى هذا أنه أعظم المعجزات التي جاء بها الأنبياء و المرسلون جميعا.و قد ذكرنا في المباحث المتقدمة بعضا من نواحي إعجازه،و أوضحنا تفوق كتاب اللّه على جميع المعجزات، و لكنا نقول هاهنا:إن معجزة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم تكن منحصرة بالقرآن الكريم،و لقد شارك جميع الأنبياء في معجزاتهم و اختصّ من بينهم بمعجزة الكتاب العزيز.[o-1-187-2]و الدليل على قولنا هذا أمران:
[o-1-188-1]الأول:أخبار المسلمين المتواترة الدالة على صدور المعجزات منه،و قد ألّف المسلمون-على اختلاف مللهم و نحلهم في هذه المعجزات-مؤلفات كثيرة فليراجعها من يرغب في الاطلاع عليها.و لهذه الأخبار جهتان من الامتياز على أخبار أهل الكتاب بمعجزات أنبيائهم:
[o-1-188-2]الجهة الاولى:قرب الزمان،فإن الشيء إذا قرب زمانه كان تحصيل الجزم بوقوعه أيسر منه إذا بعد زمانه.
[o-1-188-3]الجهة الثانية:كثرة الرواة،فإن أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الذين شاهدوا معجزاته أكثر-بالوف المرّات-من بني إسرائيل،و من المؤمنين بعيسى الناقلين لمعجزاتهما.
ص: 105
فإن المؤمنين بعيسى عليه السّلام في عصره كانوا لقلّتهم يعدّون بالأصابع،و إنّ نقل معجزاته لا بد و أن ينتهي إلى هؤلاء المؤمنين القليلين في العدد[o-1-189-1]،فإذا صحّت دعوى التواتر في معجزات موسى و عيسى صحّت دعوى التواتر في معجزات نبي الإسلام بطريق أولى.و قد أوضحنا فيما تقدم أن التواتر في معجزات الأنبياء السابقين غير ثابت في الأزمنة اللاحقة،و دعواه دعوى باطلة.
[o-1-189-2]الثاني:ان نبي الإسلام صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد أثبت للأنبياء السابقين معجزات كثيرة،ثم ادّعى أنه هو أفضل هؤلاء الأنبياء جميعا،و أنه خاتمهم.و هذا يقتضي صدور تلك المعجزات منه على نحو أتم،فإنه لا يعقل أن يدّعي أحد أنه أفضل من غيره،و هو يعترف بنقصانه عن ذلك الغير في بعض صفات الكمال.و هل يعقل أن يدّعي أحد أنه أعلم الأطباء جميعا،و هو يعترف بأن بعض الأطباء الآخرين قادر على معالجة مرض هو غير قادر عليها؟!إن ضرورة العقل تمنع ذلك.[o-1-189-3]و لهذه الجهة نرى أن جملة من المتنبّين الكاذبين قد أنكروا الإعجاز،و جحدوا كل معجزة للأنبياء السابقين، و صرفوا اهتمامهم إلى تأويل كل آية دلّت على وقوع الإعجاز،حذرا من أن يطالبهم الناس بأمثالها فيستبين عجزهم.
[o-1-190-1]و قد كتب بعض الجهلاء،و المموّهين على البسطاء أن في آيات القرآن ما يدل على نفي كل معجزة للنبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم غير القرآن و أن القرآن هو معجزته الوحيدة ليس غير،و هو حجته على نبوته.و نحن نذكر هذه الآيات التي احتجوا بها،و نذكر وجه احتجاجهم،ثم نوضح فساد ذلك.
[o-1-191-1]فمن هذه الآيات قوله تعالى:
وَ ما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَ آتَيْنا ثَمُودَ النّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَ ما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاّ تَخْوِيفاً «17:59».
ص: 106
و وجه دلالتها-على ما يزعمون-أنها ظاهرة في أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يأت بآية غير القرآن.و أن السبب في عدم الإرسال بالآيات هو أن الأولين من الأمم السابقة قد كذّبوا بالآيات التي أرسلت إليهم.
[o-1-192-1]و الجواب:
إن المراد بالآيات التي نفتها الآية الكريمة،و التي كذّب بها الأولون من الأمم هي الآيات التي اقترحتها الأمم على أنبيائها،فالآية الكريمة تدل على أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يجب المشركين إلى ما اقترحوه عليه من الآيات،و لا تنفي عنه صدور المعجزة مطلقا، و يدل على أن المراد هي الآيات الاقتراحية أمور:
[o-1-192-2]الأول:ان الآيات جمع آية بمعنى العلامة،و هو جمع معرّف بالألف و اللام.
و الوجوه المحتملة في معناه ثلاثة:
[o-1-193-1]فإما أن يراد منه جنس الآية الذي يصلح للانطباق على كل فرد من الآيات، و معنى هذا أن الآية الكريمة تنفي وقوع كل آية تدل على صدق مدّعي النبوة،و لازم هذا أن يكون بعث الرسول لغوا،إذ لا فائدة في إرساله إذا لم تكن معه بيّنة تقوم على صدقه،و أن يكون تكليف الناس بتصديقه،و لزوم اتباعه تكليفا بما لا يطاق.
[o-1-193-2]و إما أن يراد به جميع الآيات،و هذا التوهم أيضا فاسد،لأن إثبات صدق النبي يتوقف على آية ما من الآيات،و لا يتوقف على إرساله بجميع الآيات.و لم يقترح المقترحون عليه أن يأتي بجميعها،فلا معنى لحمل الآية عليه.
فلا بد و أن يراد بهذه الآية الممنوعة خصوص آيات معهودة من الآيات الإلهية.
[o-1-194-1]الثاني:أن تكذيب المكذّبين لو صلح أن يكون مانعا عن الإرسال بالآيات، لكان مانعا عن الإرسال بالقرآن أيضا إذ لا وجه لتخصيص المنع بالآيات الأخرى.
ص: 107
[o-1-194-2]و قد أوضحنا أن القرآن أعظم المعجزات التي جاء بها الأنبياء،و قد تحدّى به النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جميع الأمم لإثبات نبوته ما دامت الليالي و الأيام.و هذا يدلنا أيضا على أن الآيات الممنوعة قسم خاص و ليست مطلق الآيات.
[o-1-195-1]الثالث:أن الآية الكريمة صرّحت بأن السبب المانع عن الإرسال بالآيات هو تكذيب الأولين بها،و هذا من قبيل تعليل عدم الشيء بوجود مانعه.و من البيّن أن التعليل بوجود المانع لا يحسن في نظر العقل إلا إذا كان السبب المقتضي لوجود ذلك الشيء موجودا،و لذلك يقبح عند العقلاء أن يعلل عدم احتراق الخشبة-مثلا- بوجود الرطوبة عليها إذا كانت النار غير موجودة،و ذلك واضح لا يقبل الشك.
[o-1-195-2]و إذن فلا بد و أن يكون المقتضي للإرسال بالآيات موجودا،ليصح تعليل عدمه بوجود التكذيب،و المقتضي للإرسال لا يخلو من أن يكون هي الحكمة الإلهية لإرشاد العباد و هدايتهم إلى سعادتهم.و أن يكون اقتراح الأمّة على النبي شيئا من الآيات زائدا على المقدار اللازم من الآيات لإتمام الحجة.أما إذا كان المقتضي للإرسال بالآيات هي الحكمة الإلهية،فلا بد من إرسال هذه الآيات،و يستحيل أن يمنع من تأثير الحكمة الإلهية،شىء لأنه يستحيل على الحكيم أن يختار في عمله ما تنافيه حكمته،سواء في ذلك وجود التكذيب و عدمه.
على أن تكذيب الأمم السابقة لو صلح أن يكون مانعا عن تأثير الحكمة الإلهية في الإرسال بالآيات،لصلح أن يكون مانعا عن إرسال الرسول.و هذا باطل بالضرورة.و خلاف للمفروض أيضا.فتعين أن يكون المقتضي للإرسال بالآيات هو اقتراح المقترحين.و من الضروري أن المقترحين إنما يقترحون أمورا زائدة على الآيات التي تتم بها الحجة،فإن هذا المقدار من الآيات مما يلزم على اللّه أن يرسل به لإثبات نبوّة نبيّه،و ما زاد على هذا المقدار من الآيات لا يجب على اللّه أن يرسل به
ص: 108
ابتداء،و لا يجب عليه أن يجيب اليه إذا اقترحه المقترحون.نعم لا يستحيل عليه ذلك إذا اقتضت المصلحة أن يقيم الحجة مرة ثانية و ثالثة،أو أن يجيب المقترحين إلى ما طلبوا.
[o-1-197-1]و على هذا فاقتراح المقترحين إنما يكون بعد إتمام الحجة عليهم بما يلزم من الآيات،و تكذيبهم إياها.و إنما كان تكذيب الأمم السابقة مانعا عن الإرسال بالآيات المقترحة في هذه الامّة،لأن تكذيب الآيات المقترحة يوجب نزول العذاب على المكذّبين.
و قد ضمن اللّه تعالى رفع العذاب الدنيوي عن هذه الأمة إكراما لنبيه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تعظيما لشأنه.فقد قال اللّه تعالى:
وَ ما كانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ «8:33».
أما أن تكذيب الآيات المقترحة يوجب نزول العذاب على المكذّبين فلأن الآية الإلهية إذا كانت مبتدأة كانت متمحضة في إثبات نبوة النبي،و لم يترتب على تكذيبها أكثر مما يترتب على تكذيب النبي من العقاب الأخروي.
و أما إذا كانت مقترحة كانت كاشفة عن لجاجة المقترح،و شدة عناده،إذ لو كان طالبا للحق لصدّق بالآية الاولى لأنها كافية في إثباته،و لأن معنى اقتراحه هذا أنه قد التزم على نفسه بتصديق النبي إذا أجابه إلى هذا الاقتراح،فإذا كذّب الآية المقترحة بعد صدورها كان مستهزئا بالنبي و بالحق الذي دعا اليه،و بالآية التي طلبها منه،و لذلك سمى اللّه تعالى هذا النوع من الآيات«آيات التخويف»كما في آخر هذه الآية الكريمة،و إلا فلا معنى لحصر مطلق الآيات بالتخويف،فإن منها ما يكون للرحمة بالعباد و هدايتهم و إنارة سبيلهم.
ص: 109
و مما يدلنا على أن المراد من الآيات الممنوعة هي آيات التعذيب و التخويف:
ملاحظة مورد هذه الآية الكريمة و سياقها.فإن الآية التي قبلها هي قوله تعالى:
[o-1-200-1] وَ إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً «17:58».
و قد ذكرت فيها آية ثمود التي أعقبها نزول العذاب عليهم.و قصتهم مذكورة في سورة الشعراء،و ختمت هذه الآية بقوله تعالى:
وَ ما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاّ تَخْوِيفاً «17:59».
و كل هذه القرائن دالة على أن المراد بالآيات الممنوعة هي الآيات المقترحة التي تستلزم نزول العذاب.
[o-1-202-1]و نحن إذا سبرنا الآيات القرآنية يظهر لنا ظهورا تاما لا يقبل التشكيك أن المشركين كانوا يقترحون إنزال العذاب عليهم،أو يقترحون آيات اخرى نزل العذاب على الأمم السابقة بسبب تكذيبها.
فمن القسم الأول قوله تعالى:
وَ إِذْ قالُوا اللّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ 8:32. وَ ما كانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ ما كانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ :33. قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ 10:50. وَ لَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ 11:8. وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ لَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَ لَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ 29:53 .
ص: 110
و من القسم الثاني قوله تعالى:
وَ إِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللّهِ وَ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ 6:124. فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ 21:5. فَلَمّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَ وَ لَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَ قالُوا إِنّا بِكُلٍّ كافِرُونَ 28:48).
[o-1-204-1]و يدلنا على أن نظير هذه الآيات المتقرحة قد كذّبها الأولون فاستحقوا به نزول العذاب قوله تعالى:
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ أَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ 16:26. كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ 39:25).
[o-1-205-1]و ما أكثر الشواهد على ذلك من الكتاب العزيز.و قد ورد في تفسير الآية عن طريق الشيعة و أهل السنة ما يؤكد هذا الذي استفدناه من ظاهرها.
فعن الباقر عليه السّلام:
«ان محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سأله قومه أن يأتي بآية فنزل جبريل و قال:
إن اللّه يقول: وَ ما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ و كنا إذا أرسلنا إلى قريش آية فلم يؤمنوا بها أهلكناهم،فلذلك أخرنا عن قومك الآيات» (1).1.
ص: 111
[o-1-205-2]و عن ابن عباس قال:
«سأل أهل مكة النبي أن يجعل لهم الصفا ذهبا،و أن ينحي عنهم الجبال فيزرعوا.فقيل له:إن شئت أن نستأني بهم لعلنا نجتبي،و إن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا،فإن كفروا اهلكوا كما أهلك من قبلهم.
قال:بل تستأني بهم فأنزل اللّه تعالى: وَ ما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ... (1).
[o-1-206-1]و هناك روايات اخرى من أراد الاطلاع عليها فليراجع كتب الروايات و تفسير الطبري.
[o-1-206-1]و من الآيات التي استدل بها الخصم على نفي المعجزات للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم غير القرآن قوله تعالى:
وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً 17:90. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً :91. أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَ الْمَلائِكَةِ قَبِيلاً :92. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاّ بَشَراً رَسُولاً :93).
[o-1-208-1]و وجه استدلال الخصم بهذه الآيات الكريمة:ان المشركين قد دعوا النبي إلى إقامة المعجزة شاهدة على صدقه بالنبوة،فامتنع عن ذلك و اعترف لهم بالعجز،و لم يثبت لنفسه إلا أنه بشر أرسل إليهم.فالآيات دالة على نفي صدور المعجزة منه.5.
ص: 112
[o-1-208-2]الجواب:
أولا:أنا قد أوضحنا للقارئ حال الآيات المقترحة في جواب الاستدلال المتقدم.و لا شك في أن هذه المعجزات التي طلبها المشركون من النبي آيات مقترحة، و أن هؤلاء المشركين في مقام العناد للحق.و يدلنا على ذلك أمران:
1-أنهم قد جعلوا تصديقهم بالنبي موقوفا على أحد هذه الأمور التي اقترحوها،و لو كانوا غير معاندين للحق لاكتفوا بكل آية تدل على صدقه،و لم تكن لهذه الأمور التي اقترحوها خصوصية على ما سواها من الآيات.
[o-1-209-1]2-قولهم:«أو ترقى في السّماء و لن نؤمن لرقيّك حتى تنزّل علينا كتابا نقرؤه» و أي معنى لهذا التقييد بإنزال الكتاب أ فليس الرقي الى السماء وحده آية كافية في الدلالة على صدقه؟أو ليست في هذه التشهيات الباردة دلالة واضحة على عنادهم للحق.و تمردهم عليه؟!!.
[o-1-209-2]ثانيا:إن هذه الأمور التي اقترحها المشركون في الآيات المتقدمة منها ما يستحيل وجوده،و منها ما لا يدل على صدق دعوى النبوة.فلو وجب على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يجيب المقترحين الى ما يطلبونه،فليس هذا النوع من الأمور المقترحة مما تجب إجابته.
و إيضاح هذا:أن الأمور المقترحة على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المذكورة في هذه الآيات ستة:
ثلاثة منها مستحيلة الوقوع،و ثلاثة منها غير مستحيلة،و لكنها لا تدل على صدق المدعي للنبوة (1).فالثلاثة المستحيلة:).
ص: 113
[o-1-209-3]أولها:سقوط السماء عليهم كسفا.فان هذا يلازم خراب الأرض،و هلاك أهلها، و هو إنما يكون في آخر الدنيا.و قد أخبرهم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بذلك،و يدل عليه قولهم:«كما زعمت»و قد ذكر هذا في مواضع عديدة من القرآن الكريم منها قوله تعالى:
إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ 84:1. إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ 82:1. إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ 34:9.
[o-1-210-1]و إنما كان ذلك مستحيلا لأن وقوعه قبل وقته خلاف ما تقتضيه الحكمة الإلهية من بقاء الخلق،و إرشادهم إلى كمالهم.و يستحيل على الحكيم أن يجري في أعماله على خلاف ما تقتضيه حكمته.
[o-1-210-2]ثانيها:أن يأتي باللّه بأن يقابلوه،و ينظروا اليه.و ذلك ممتنع لأن اللّه لا تدركه الأبصار،و إلا لكان محدودا في جهة،و كان له لون و له صورة.و جميع ذلك مستحيل عليه تعالى.
[o-1-211-1]ثالثها:تنزيل كتاب من اللّه.و وجه استحالة ذلك أنهم أرادوا تنزيل كتاب كتبه اللّه بيده،لا مجرد تنزيل كتاب ما،و إن كان تنزيله بطريق الخلق و الإيجاد،لأنهم لو أرادوا تنزيل كتاب من اللّه بأي طريق اتفق لم يكن وجه معقول لطلبهم إنزاله من السماء،و كان في الكتاب الأرضي ما في الكتاب السماوي من الفائدة و الغرض،و لا شك ان هذا الذي طلبوه مستحيل لأنه يستلزم أن يكون اللّه جسما ذا جارحة.
تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا.
[o-1-212-1]و أما الأمور الثلاثة الاخرى فهي و إن كانت غير مستحيلة،لكنها لا تدل على صدق دعوى النبوة.فإن فجر الينبوع من الأرض،أو كون النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مالكا لجنة من نخيل و عنب مفجرة الأنهار.أو كونه يملك بيتا من زخرف،امور لا ترتبط
ص: 114
بدعوى النبوة،و كثيرا ما يتحقق أحدها لبعض الناس ثم لا يكون نبيا.بل فيهم من يتحقق له جميع هذه الأمور الثلاثة،ثم لا يحتمل فيه أن يكون مؤمنا،فضلا عن أن يكون نبيا،و إذا لم ترتبط هذه الأمور بدعوى النبوة،و لم تدل على صدقها كان الإتيان بها في مقام الاحتجاج عبثا،لا يصدر من نبي حكيم.
[o-1-212-2]و قد يتوهم متوهم أن هذه الأمور الثلاثة لا تدل على صدق النبوة،إذا وجدت من أسباب عادية مألوفة.أما إذا وجدت بأسباب غير عادية فلا ريب أنها تكون آيات إلهية،و تدل على صدق النبوة.
[o-1-213-1]الجواب:
إن هذا في نفسه صحيح،و لكن مطلوب المشركين أن تصدر هذه الأشياء و لو من أسبابها العادية،لأنهم استبعدوا أن يكون الرسول الإلهي فقيرا لا يملك شيئا.
وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ «43:31».
فطلبوا من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يكون ذا مال كثير.و يدلنا على ذلك أنهم قيدوا طلبهم بأن تكون الجنة و البيت من الزخرف للنبي دون غيره،و لو أرادوا صدور هذه الأمور على وجه الإعجاز لم يكن لهذا التقييد وجه صحيح،بل و لا وجه لطلب الجنة أو البيت،فإنه يكفي إيجاد حبة من عنب أو مثقال من ذهب.
و أما قولهم:«حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا»فلا يدل على أنهم يطلبون الينبوع لهم لا للنبي و إنما يدل على أنهم يطلبون منه فجر الينبوع لأجلهم،و بين المعنيين فرق واضح.[o-1-214-1]و لم يظهر النبي لهم عجزه عن الإتيان بالمعجزة كما توهمه هؤلاء القائلون.و إنما أظهر بقوله:«سبحان ربّي»أن اللّه تعالى منزّه عن العجز،و أنه قادر على كل أمر ممكن،و أنه منزّه عن الرؤية و المقابلة.و عن يحكم عليه بشيء من
ص: 115
اقتراح المقترحين و أن النبي بشر محكوم بأمر اللّه تعالى،و الأمر كله للّه وحده يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد.
[o-1-216-1]و من الآيات التي استدل بها القائلون بنفي المعجزات للنبي عدا القرآن قوله تعالى:
لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ «10:20».
و وجه الاستدلال:أن المشركين طالبوا النبي بآية من ربه،فلم يذكر لنفسه معجزة.و أجابهم بأن الغيب للّه،و هذا يدل على أنه لم يكن له معجزة غير ما أتى به من القرآن.
و بسياق هذه الآية آيات اخرى تقاربها في المعنى،كقوله تعالى:
وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ 13:7. وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ «6:37».
[o-1-217-1]الجواب:
أولا:هو ما تقدم.فإن هؤلاء المشركين و غيرهم لم يطلبوا من النبي إقامة آية ما من الآيات التي تدل على صدقه،و إنما اقترحوا عليه إقامة آيات خاصة.و قد صرح القرآن بها في مواضع كثيرة،منها ما تقدم.
و منها قوله تعالى:
وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ 6:8. وَ قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ 15:6. لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ :7. وَ قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً 25:7. أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَ قالَ الظّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاّ رَجُلاً مَسْحُوراً :8.
ص: 116
وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ 6:8. وَ قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ 15:6. لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ :7. وَ قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً 25:7. أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَ قالَ الظّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاّ رَجُلاً مَسْحُوراً :8.
و قد علمنا أن الآيات المقترحة لا تجب الاجابة إليها،و يدلنا على أن المشركين إنما يريدون الإتيان بما اقترحوه من الآيات:أنهم لو أرادوا من النبي أن يأتي بآية ما، تدل على صدقه لأجابهم على الأقل بالإتيان بالقرآن الذي تحدى به في كثير من مواضعه.[o-1-218-1]نعم يظهر من الآيات المتقدمة التي استدل بها الخصم،و مما يشبهها من الآيات أمران:
[o-1-219-1]1-إن تحدي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعامة البشر إنما كان بالقرآن خاصة من بين سائر معجزاته.و قد أوضحنا فيما سبق أن الأمر لا بد و أن يكون كذلك،لأن النبوة الأبدية العامة تستدعي معجزة خالدة عامة،و هي منحصرة بالقرآن،و ليس في سائر معجزاته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما يتصور له البقاء و الاستمرار.
[o-1-219-2]2-إن الإتيان بالمعجزة ليس اختياريا للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إنما هو رسول يتبع في ذلك اذن اللّه تعالى،و لا دخل لاقتراح المقترحين في شيء من ذلك.و هذا المعنى ثابت لجميع الأنبياء.و يدل عليه قوله تعالى:
وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ 13:38. وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ 40:78.
ص: 117
ثانيا:ان في القرآن أيضا آيات دالة على صدور الآيات من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
منها قوله تعالى:
[o-1-220-1] اِقْتَرَبَتِ السّاعَةُ وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ 54:1. وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَ يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ :2. وَ إِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ 6:124.
و يدلنا على أن المراد من الآية هنا هي المعجزة:أنه عبّر برؤية الآية،و لو كان المراد هو آيات القرآن لكان الصحيح أن يعبر بالسماع دون الرؤية و أنه ضم إلى ذلك انشقاق القمر.و أنه نسب إلى الآية المجيء دون الإنزال و ما يشبهه.بل و في قولهم:
«سحر مستمرّ»دلالة على تكرر صدور المعجزة عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إذا:فلو سلمنا دلالة الآيات السابقة على نفي صدور المعجزة عنه،فلا بد و أن يراد من ذلك نفيه في زمان نزول هذه الآيات الكريمة،و ما بمعناها،و لا يمكن أن يراد منه نفي الآية حتى بعد ذلك.
[o-1-221-1]و حاصل جميع ما ذكرناه في هذا المبحث امور:
1-إنه لا دلالة لشيء من آيات القرآن على نفي المعجزات الاخرى سوى القرآن، بل و في جملة من الآيات دلالة على وجود هذه المعجزات التي يدّعي الخصم نفيها.
[o-1-222-1]2-إن إقامة المعجزة ليست أمرا اختياريا للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إن ذلك بيد اللّه سبحانه.
3-إن اللازم في دعوى النبوة هو إقامة المعجزة التي تتم بها الحجة و يتوقف عليها التصديق.و أما الزائدة على ذلك،فلا يجب على اللّه إظهارها و لا تجب على النبي الإجابة إليها.
ص: 118
4-إن كل معجزة يكون فيها هلاك الامة و تعذيبها،فهي ممنوعة في هذه الامة.
و لا تسوغ إقامتها باقتراح الامة،سواء أ كان الاقتراح من الجميع أم كان من البعض.
[o-1-222-2]5-إن المعجزة الخالدة للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم التي تحدّى بها جميع الأمم إلى يوم القيامة،إنما هي كتاب اللّه المنزل اليه.و أما غيره من المعجزات،فهي و إن كثرت إلا أنها ليست معجزة باقية،و هي في هذه الناحية تشارك معجزات الأنبياء السابقين.
[o-1-223-1]
صرّح القرآن المجيد في جملة من آياته الكريمة أن موسى و عيسى عليهما السلام قد بشّرا برسالة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أن هذه البشارة مذكورة في التوراة و الإنجيل.
فقد قال تعالى:
اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ 7:157. وَ إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ 61:6.
و قد آمن كثير من اليهود و النصارى بنبوته في زمن حياته و بعد مماته.و هذا يدلّنا دلالة قطعية على وجود هذه البشارة في الكتابين المذكورين في زمان دعوته.و لو لم تكن هذه البشارة مذكورة فيهما،لكان ذلك دليلا كافيا لليهود و النصارى على تكذيب القرآن في دعواه،و تكذيب النبي في دعوته،و لأنكروا عليه أشد الإنكار.
فيكون إسلام الكثير منهم في عصر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بعد مماته،و تصديقهم دعوته دليلا قطعيا على وجود هذه البشارة في ذلك العصر.[o-1-224-1]و على هذا فإن الإيمان بموسى و عيسى
ص: 119
عليهما السّلام يستلزم الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من غير حاجة إلى وجود معجزة تدلّ على صدقه.
نعم يحتاج إلى ذلك بالنسبة إلى الأمم الاخرى التي لم تؤمن بموسى و عيسى عليهما السّلام و بكتابيهما.[o-1-224-2]و قد عرفت بالأدلة المتقدمة أن القرآن المجيد هو المعجزة الباقية و الحجة الإلهية على صدق النبي الأكرم،و صحة دعواه،و أن غير القرآن-من معجزاته الكثيرة المنقولة بالتواتر الإجمالي-أولى بالتصديق من معجزات سائر الأنبياء المتقدمين.
ص: 120
ص: 121
-حال القراء السبعة و هم:عبد اللّه بن عامر.ابن كثير المكي.
عاصم بن بهدلة الكوفي.أبو عمرو البصري.حمزة الكوفي.
نافع المدني.الكسائي الكوفي.
-ثلاثة قراء آخرون هم:خلف بن هشام البزار.يعقوب بن إسحاق.يزيد بن القعقاع.
ص: 122
لقد اختلفت الآراء حول القراءات السبع المشهورة بين الناس،فذهب جمع من علماء أهل السنة إلى تواترها عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ربما ينسب هذا القول الى المشهور بينهم.و نقل عن السبكي القول بتواتر القراءات العشر (1)و أفرط بعضهم فزعم أن من قال إن القراءات السبع لا يلزم فيها التواتر فقوله كفر.و نسب هذا الرأي إلى مفتي البلاد الاندلسية أبي سعيد فرج ابن لب (2).
و المعروف عند الشيعة أنها غير متواترة،بل القراءات بين ما هو اجتهاد من القارئ و بين ما هو منقول بخبر الواحد.و اختار هذا القول جماعة من المحققين من علماء أهل السنة.و غير بعيد أن يكون هذا هو المشهور بينهم-كما ستعرف ذلك- و هذا القول هو الصحيح.و لتحقيق هذه النتيجة لا بد لنا من ذكر أمرين:
الأول:قد أطبق المسلمون بجميع نحلهم و مذاهبهم على أن ثبوت القرآن ينحصر طريقة بالتواتر.و استدل كثير من علماء السنة و الشيعة على ذلك:بأن القرآن تتوافر الدواعي لنقله،لأنه الأساس للدين الإسلامي،و المعجز الإلهي لدعوة نبي المسلمين.
و كل شيء تتوفر الدواعي لنقله لا بد و أن يكون متواترا.و على ذلك فما كان نقله بطريق الآحاد لا يكون من القرآن قطعا.
نعم ذكر السيوطي:«أن القاضي أبا بكر قال في الانتصار:ذهب قوم من الفقهاء
ص: 123
و المتكلمين الى إثبات قرآن حكما لا علما بخبر الواحد دون الاستفاضة و كره ذلك أهل الحق،و امتنعوا منه» (1).
و هذا القول الذي نقله القاضي واضح الفساد-لنفس الدليل المتقدم-و هو أن توفر الدواعي للنقل دليل قطعي على كذب الخبر إذا اختص نقله بواحد أو اثنين.
فإذا أخبرنا شخص أو شخصان بدخول ملك عظيم الى بلد،و كان دخول ذلك الملك الى ذلك البلد مما يمتنع في العادة أن يخفى على الناس،فإنا لا نشك في كذب هذا الخبر إذا لم ينقله غير ذلك الشخص أو الشخصين،و مع العلم بكذبه كيف يكون موجبا لاثبات الآثار التي تترتب على دخول الملك ذلك البلد.و على ذلك،فإذا نقل القرآن بخبر الواحد،كان ذلك دليلا قطعيا على عدم كون هذا المنقول كلاما إلهيا،و إذا علم بكذبه،فكيف يمكن التعبد بالحكم الذي يشتمل عليه.
و على كل حال فلم يختلف المسلمون في أن القرآن ينحصر طريق ثبوته و الحكم بأنه كلام إلهي بالخبر المتواتر.
و بهذا يتضح أنه ليست بين تواتر القرآن،و بين عدم تواتر القراءات أية ملازمة، لأن أدلة تواتر القرآن و ضرورته لا تثبت-بحال من الأحوال-تواتر قراءاته،كما ان أدلة نفي تواتر القراءات لا تتسرب إلى تواتر القرآن بأي وجه و سيأتي بيان ذلك- في بحث«نظرة في القراءات»-على وجه التفصيل.
الثاني:ان الطريق الأفضل إلى إثبات عدم تواتر القراءات هو معرفة القرّاء أنفسهم،و طرق رواتهم،و هم سبعة قراء.و هناك ثلاثة آخرون تتمّ بهم العشرة، نذكرهم عقيب هؤلاء.و إليك تراجمهم،و استقراء أحوالهم واحدا بعد واحد:ة.
ص: 124
عبد اللّه بن عامر الدمشقي
هو أبو عمران اليحصبي.قرأ القرآن على المغيرة بن أبي شهاب.قال الهيثم بن عمران:«كان عبد اللّه بن عامر رئيس أهل المسجد زمان الوليد بن عبد الملك،و كان يزعم أنه من حمير،و كان يغمز في نسبه».و قال العجلي و النسائي:«ثقة».
و قال أبو عمرو الداني:«ولي قضاء دمشق بعد بلال بن أبي الدرداء...اتخذه أهل الشام إماما في قراءته و اختياره» (1).و قال ابن الجزري:«و قد ورد في اسناده تسعة أقوال أصحها أنه قرأ على المغيرة».و نقل عن بعض أنه قال:«لا يدري على من قرأ».ولد سنة ثمان من الهجرة.و توفي سنة 118 (2).
و لعبد اللّه راويان رويا قراءته-بوسائط-و هما:هشام،و ابن ذكوان.
أما هشام:فهو ابن عمار بن نصير بن ميسرة،أخذ القراءة عرضا عن أيوب بن تميم.قال يحيى بن معين:«ثقة».و قال النسائي:«لا بأس به».و قال الدار قطني:
«صدوق كبير المحل».ولد سنة 153 و توفي سنة 245 (3).
ص: 125
و قال الآجري عن أبي داود:«إن أبا أيوب-يعني سليمان بن عبد الرحمن-خير منه،حدّث هشام بأربعمائة حديث مسند ليس لها أصل».
و قال ابن وارة:«عزمت زمانا أن امسك عن حديث هشام،لأنه كان يبيع الحديث».
و قال صالح بن محمد:«كان يأخذ عليّ الحديث،و لا يحدث ما لم يأخذ...قال المروزي:ذكر أحمد هشاما فقال:«طياش خفيف»و ذكر له قصة في اللفظ بالقرآن أنكر عليه أحمد حتى أنه قال:«إن صلوا خلفه،فليعيدوا الصلاة» (1).
أقول فيمن روى القراءة عنه خلاف،فليراجع كتاب الطبقات و غيره.
و أما ابن ذكوان:فهو عبد اللّه بن أحمد بن بشير،و يقال:بشير بن ذكوان.أخذ القراءة عرضا عن أيوب بن تميم.قال أبو عمرو الحافظ:«و قرأ على الكسائي حين قدم الشام».ولد يوم عاشوراء سنة 173،و توفي سنة 242 (2).
أقول:و الحال في من روى القراءة عنه كما تقدم.1.
ص: 126
ابن كثير المكي
هو عبد اللّه بن كثير بن عمرو بن عبد اللّه بن زاذان بن فيروزان بن هرمز المكي الداري،فارسي الأصل.أخذ القراءة عرضا-على ما في كتاب التيسير-عن عبد اللّه بن السائب فيما قطع به الحافظ أبو عمرو الداني و غيره،و ضعف الحافظ-أبو العلاء الهمداني-هذا القول،و قال:«إنه ليس بمشهور عندنا»و عرض أيضا على مجاهد بن جبر،و درباس مولى عبد اللّه بن عباس.ولد بمكة سنة 45 و توفي سنة 120 (1).قال علي بن المديني:«كان ثقة».و قال ابن سعد:«ثقة».و ذكر أبو عمرو الداني أنه:
«أخذ القراءة عن عبد اللّه بن السائب المخزومي».و المعروف انه إنما أخذها عن مجاهد (2).
و لعبد اللّه بن كثير راويان-بوسائط-هما:البزي،و قنبل.
أما البزي:فهو أحمد بن محمد بن عبد اللّه بن القاسم بن نافع بن أبي بزة،اسمه بشار،فارسي من أهل همدان،أسلم على يد السائب بن أبي السائب المخزومي.
ص: 127
قال ابن الجزري:«أستاذ محقق ضابط متقن».ولد سنة 170 و توفي 250 (1).
قرأ البزي على أبي الحسن أحمد بن محمد بن علقمة المعروف بالقواس،و على أبي الإخريط وهب بن واضح المكي،و على عبد اللّه بن زياد بن عبد اللّه بن يسار المكي (2).قال العقيلي:«منكر الحديث»،و قال أبو حاتم:«ضعيف الحديث لا أحدث عنه» (3).
أقول:الكلام في من أخذ القراءة عنه كما تقدم.
و أما قنبل:فهو محمد بن عبد الرحمن بن خالد بن محمد أبو عمرو المخزومي مولاهم المكي.أخذ القراءة عرضا عن أحمد بن محمد بن عون النبّال،و هو الذي خلّفه بالقيام بها بمكة،و روى القراءة عن البزي.انتهت إلى قنبل رئاسة الأقراء بالحجاز...و كان على الشرطة بمكة.ولد سنة 195 و توفي 291 (4).ولي الشرطة فخربت سيرته،و كبر سنه و هرم،و تغير تغيرا شديدا،فقطع الأقراء قبل موته بسبع سنين (5).
أقول:الكلام في رواة قراءته كما تقدم.5.
ص: 128
عاصم بن بهدلة الكوفي
هو ابن أبي النجود أبو بكر الأسدي مولاهم الكوفي.أخذ القراءة عرضا عن زر ابن حبيش،و أبي عبد الرحمن السلمي،و أبي عمرو الشيباني.قال أبو بكر بن عياش:
«قال لي عاصم:ما أقرأني أحد حرفا إلا أبو عبد الرحمن السلمي،و كنت أرجع من عنده فأعرض على زر».و قال حفص:«قال لي عاصم:ما كان من القراءة التي أقرأتك بها في القراءة التي قرأت بها على أبي عبد الرحمن السلمي عن علي،و ما كان من القراءة التي أقرأتها أبا بكر بن عياش فهي القراءة التي كنت أعرضها على زر بن حبيش عن ابن مسعود» (1).
قال ابن سعد:«كان ثقة إلا أنه كان كثير الخطأ في حديثه».و قال عبد اللّه بن أحمد،عن أبيه:«كان خيّرا ثقة،و الأعمش أحفظ منه».و قال العجلي:«كان صاحب سنة و قراءة،و كان ثقة رأسا في القراءة...و كان عثمانيا».و قال يعقوب بن سفيان:«في حديثه اضطراب و هو ثقة».و قد تكلم فيه ابن علية،فقال:«كان كل من اسمه عاصم سيّئ الحفظ».و قال النسائي:«ليس به بأس».و قال ابن خراش:
ص: 129
«في حديثه نكرة».و قال العقيلي:«لم يكن فيه إلا سوء الحفظ».و قال الدارقطني:
«في حفظه شىء».و قال حماد بن سلمة:«خلط عاصم في آخر عمره».مات سنة 127 أو سنة 128 (1).
و لعاصم بن بهدلة راويان بغير واسطة هما:حفص،و أبو بكر:
أما حفص:فهو ابن سليمان الأسدي،كان ربيب عاصم.قال الذهبي:«أما القراءة فثقة ثبت ضابط لها.بخلاف حاله في الحديث»أو ذكر حفص:«أنه لم يخالف عاصما في شىء من قراءته إلى في حرف...«الروم سورة 3 آية 54» اَللّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ... قرأه بالضم و قرأ عاصم بالفتح»ولد سنة 90 و توفي سنة 180 (2).و قال ابن أبي حاتم عن عبد اللّه عن أبيه:«متروك الحديث».و قال عثمان الدارمي و غيره عن ابن معين:«ليس بثقة».و قال ابن المديني:«ضعيف الحديث،و تركته على عمد».و قال البخاري:«تركوه».و قال مسلم:«متروك».و قال النسائي:«ليس بثقة،و لا يكتب حديثه».و قال صالح بن محمد:«لا يكتب حديثه و أحاديثه كلها مناكير».و قال ابن خراش:«كذاب متروك يضع الحديث».و قال ابن حيان:«كان يقلب الأسانيد،و يرفع المراسيل».و حكى ابن الجوزي في الموضوعات عن عبد الرحمن بن مهدي قال:«و اللّه ما تحل الرواية عنه».و قال الدار قطني:«ضعيف» و قال الساجي:«حفص ممن ذهب حديثه،عنده مناكير» (3).
أقول:الحال فيمن روى القراءة عنه كما تقدم.
و أما أبو بكر:فهو شعبة بن عياش بن سالم الحناط الأسدي الكوفي قال ابن2.
ص: 130
الجزري:«عرض القرآن على عاصم ثلاث مرات،و على عطاء بن السائب،و أسلم المنقري و عمّر دهرا إلا أنه قطع الأقراء قبل موته بسبع سنين،و قيل بأكثر،و كان إماما كبيرا عالما عاملا،و كان يقول:«أنا نصف الإسلام».و كان من أئمة السنة.و لما حضرته الوفاة بكت أخته فقال لها:ما«يبكيك،انظري الى تلك الزاوية فقد ختمت فيها ثمان عشرة ألف ختمة».ولد سنة 95 و توفي سنة 193،و قيل 194 (1).قال عبد اللّه بن أحمد عن أبيه:«ثقة و ربما غلط».و قال عثمان الدارمي:«و ليس بذاك في الحديث».و قال ابن أبي حاتم:«سألت أبي عن أبي بكر بن عياش،و أبي الأحوص فقال:ما أقربهما».و قال ابن سعد:«كان ثقة صدوقا عارفا بالحديث و العلم،إلا أنه كثير الغلط».و قال يعقوب بن شيبة:«في حديثه اضطراب».و قال أبو نعيم:«لم يكن في شيوخنا أحد أكثر غلطا منه».و قال البزار:«لم يكن بالحافظ» (2).7.
ص: 131
أبو عمرو البصيري
هو زبان بن العلاء بن عمار المازني البصري.قيل إنه من فارس.توجه مع أبيه لما هرب من الحجاج،فقرأ بمكة و المدينة،و قرأ أيضا بالكوفة و البصرة على جماعة كثيرة،فليس في القراء السبعة أكثر شيوخا منه.و لقد كانت الشام تقرأ بحرف ابن عامر إلى حدود الخمسمائة فتركوا ذلك،لأن شخصا قدم من أهل العراق،و كان يلقن الناس بالجامع الاموي على قراءة أبي عمرو،فاجتمع عليه خلق،و اشتهرت هذه القراءة عنه.
قال الأصمعي:سمعت أبا عمرو يقول:«ما رأيت أحدا قبلي أعلم مني».ولد سنة 68.قال غير واحد:مات سنة 154 (1).
قال الدوري عن ابن معين:«ثقة».و قال أبو خيثمة:«كان أبو عمرو بن العلاء رجلا لا بأس به و لكنه لم يحفظ».و قال نصر بن علي الجهضمي عن أبيه:قال لي شعبة:«انظر ما يقرأ به أبو عمرو،فما يختاره لنفسه فاكتبه،فإنه سيصير للناس استاذا».و قال أبو معاوية الأزهري في التهذيب:«كان من أعلم الناس بوجوه
ص: 132
القراءات،و ألفاظ العرب،و نوادر كلامهم،و فصيح أشعارهم» (1).
و لقراءة أبي عمرو راويان بواسطة يحيى بن المبارك اليزيدي،هما:الدوري، و السوسي.
أما يحيى بن المبارك:فقال ابن الجزري:«نحوي مقرئ،ثقة عمّة كبير».نزل بغداد و عرف باليزيدي لصحبته يزيد بن منصور الحميري خال المهدي،فكان يؤدب ولده.أخذ القراءة عرضا عن أبي عمرو،و هو الذي خلّفه بالقيام بها،و أخذ أيضا عن حمزة.
روى القراءة عنه أبو عمرو الدوري،و أبو شعيب السوسي،و له اختيار خالف فيه أبا عمرو في حروف يسيرة.قال ابن مجاهد:«و إنما عولنا على اليزيدي-و إن كان سائر أصحاب أبي عمرو أجلّ منه-لأجل أنه انتصب للرواية عنه،و تجرّد لها، و لم يشتغل بغيرها،و هو أضبطهم».توفي سنة 202 بمرو.و له أربع و سبعون سنة.
و قيل:بل جاوز التسعين،و قارب المائة (2).
و أما الدوري:فهو حفص بن عمرو بن عبد العزيز الدوري الازدي البغدادي.قال ابن الجزري:«ثقة ثبت كبير ضابط أول من جمع القراءات».توفي في شوال سنة 246 (3).
قال الدار قطني:«ضعيف».و قال العقيلي:«ثقة» (4).
أقول:الكلام فيمن أخذ القراءة عنه كما تقدم.2.
ص: 133
و أما السوسي:فهو أبو شعيب صالح بن زياد بن عبد اللّه.قال ابن الجزري:«ضابط محرر ثقة».أخذ القراءة عرضا و سماعا عن أبي محمد اليزيدي، و هو من أجلّ أصحابه.مات أول سنة 261،و قد قارب السبعين (1).قال أبو حاتم:
«صدوق».و قال النسائي:«ثقة».و ذكره ابن حيان في الثقات.و ذكر أبو عمرو الداني:«أن النسائي روى عنه القراءات،و ضعفه مسلم بن قاسم الأندلسي بلا مستند» (2).
أقول:الكلام فيمن أخذ القراءة عنه كما تقدم.4.
ص: 134
حمزة الكوفي
هو ابن حبيب بن عمارة بن إسماعيل أبو عمارة الكوفي التميمي،أدرك الصحابة بالسن.أخذ القراءة عرضا عن سليمان الأعمش،و حمران بن أعين.و في كتاب «الكفاية الكبرى و التيسير»عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى،و طلحة بن مصرف،و في كتاب«التيسير»عن مغيرة بن مقسم و منصور و ليث ابن أبي سليم، و في كتاب«التيسير و المستنير»عن جعفر بن محمد الصادق عليه السّلام قالوا:«استفتح حمزة القرآن من حمران،و عرض على الأعمش و أبي إسحاق و ابن أبي ليلى،و إليه صارت الإمامة في القراءة بعد عاصم و الأعمش و كان إماما حجة ثقة ثبتا عديم النظير».
قال عبد اللّه العجلي:قال أبو حنيفة لحمزة:«شيئان غلبتنا عليهما لسنا ننازعك فيهما:القرآن و الفرائض».
و قال سفيان الثوري:«غلب حمزة الناس على القرآن و الفرائض».
و قال عبد اللّه بن موسى:«و كان شيخه الأعمش إذا رآه قد أقبل يقول:هذا حبر
ص: 135
القرآن».ولد سنة 80 و توفي سنة 156 (1).
قال ابن معين:«ثقة).و قال النسائي:«ليس به بأس».و قال العجلي:«ثقة رجل صالح».و قال ابن سعد:«كان رجلا صالحا عنده أحاديث و كان صدوقا صاحب سنة».و قال الساجي:«صدوق سيئ الحفظ ليس بمتقن في الحديث».و قد ذمّه جماعة من أهل الحديث في القراءة.و أبطل بعضهم الصلاة باختياره من القراءة.و قال الساجي أيضا و الازدي:«يتكلمون في قراءته و ينسبونه إلى حالة مذمومة فيه».
و قال الساجي أيضا:«سمعت سلمة بن شبيب يقول:كان أحمد يكره أن يصلي خلف من يصلي بقراءة حمزة».و قال الآجري عن أحمد بن سنان:«كان يزيد-يعني ابن هارون-يكره قراءة حمزة كراهية شديدة».قال أحمد بن سنان:سمعت ابن مهدي يقول:«لو كان لي سلطان على من يقرأ قراءة حمزة لأوجعت ظهره و بطنه».و قال أبو بكر بن عياش:«قراءة حمزة عندنا بدعة».و قال ابن دريد:«إني لأشتهي أن يخرج من الكوفة قراءة حمزة» (2).
و لقراءة حمزة راويان بواسطة،هما:خلف بن هشام،و خلاد بن خالد:
أما خلف:فهو أبو محمد الأسدي بن هشام بن ثعلب البزار البغدادي.
قال ابن الجزري:«أحد القراء العشرة،و أحد الرواة عن سليم عن حمزة،حفظ القرآن و هو ابن عشر سنين،و ابتدأ في الطلب و هو ابن ثلاث عشر،و كان ثقة كبيرا زاهدا عابدا عالما».قال ابن اشته:«كان خلف يأخذ بمذهب حمزة إلا أنه خالفه في مائة و عشرين حرفا».ولد سنة 150،و مات سنة 229 (3).1.
ص: 136
قال اللالكائي:«سئل عباس الدوري عن حكاية عن أحمد بن حنبل في خلف بن هشام.فقال:لم أسمعها و لكن حدثني أصحابنا أنهم ذكروه عند أحمد،فقيل انه يشرب.فقال:انتهى إلينا علم هذا،و لكنه-و اللّه-عندنا الثقة الأمين».و قال النسائي:«بغدادي ثقة».و قال الدار قطني:«كان عابدا فاضلا».قال:«أعدت صلاة أربعين سنة كنت أتناول فيها الشراب على مذهب الكوفيين».و حكى الخطيب في تاريخه عن محمد بن حاتم الكندي قال:«سألت يحيى بن معين عن خلف البزار فقال:لم يكن يدري ايش الحديث» (1).
أقول:و سيجيء الكلام فيمن روى قراءته.
و أما خلاّد بن خالد:فهو أبو عيسى الشيباني الكوفي.قال ابن الجزري:«إمام في القراءة ثقة عارف محقق أستاذ».أخذ القراءة عرضا عن سليم،و هو من أضبط أصحابه و أجلّهم.توفي سنة 220 (2).
أقول:و الكلام في رواة قراءته كما تقدم.1.
ص: 137
نافع المدني
هو نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم.قال ابن الجزري:«أحد القراء السبعة و الأعلام ثقة صالح،أصله من أصبهان».أخذ القراءة عرضا عن جماعة من تابعي أهل المدينة.قال سعيد بن منصور:سمعت مالك بن أنس يقول:«قراءة أهل المدينة سنّة،قيل له قراءة نافع؟قال:نعم».و قال عبد اللّه بن أحمد بن حنبل:«سألت أبي أيّ القراءة أحب إليك؟قال:قراءة أهل المدينة.قلت:فإن لم يكن قال:عاصم».
مات سنة 169. (1)
قال أبو طالب عن أحمد:«كان يؤخذ عنه القرآن،و ليس في الحديث بشيء».و قال الدوري عن ابن معين:«ثقة».و قال النسائي:«ليس به بأس».و ذكر ابن حيان في الثقات،و قال الساجي:«صدوق...اختلف فيه أحمد و يحيى.فقال أحمد:منكر الحديث.و قال يحيى:ثقة» (2).
و لقراءة نافع راويان بلا واسطة.هما قالون،و ورش:
ص: 138
أما قالون:فهو عيسى بن ميناء بن وردان أبو موسى.مولى بني زهرة يقال إنه ربيب نافع،و هو الذي سماه قالون لجودة قراءته.فإن قالون باللغة الرومية جيد.قال عبد اللّه بن علي:«إنما يكلمه بذلك لأن قالون أصله من الروم كان جد جده عبد اللّه من سبي الروم»،أخذ القراءة عرضا عن نافع.قال ابن.أبي حاتم:«كان أصم، يقرئ القرآن و يفهم خطأهم و لحنهم بالشفة».ولد سنة 120،و توفي سنة 220 (1).
قال ابن حجر:«أما في القراءة فثبت،و أما في الحديث فيكتب حديثه في الجملة».سئل أحمد بن صالح المصري عن حديثه فضحك و قال:«تكتبون عن كل أحد» (2).
أقول:و الكلام فيمن روى القراءة عنه كما تقدم.
و أما ورش:فهو عثمان بن سعيد.قال ابن الجزري:«انتهت اليه رئاسة الأقراء في الديار المصرية في زمانه،و له اختيار خالف فيه نافعا،و كان ثقة حجة في القراءة».
ولد سنة 110 بمصر،و توفي فيها سنة 197 (3).
أقول:الكلام في رواة قراءته كما تقدم.1.
ص: 139
الكسائي الكوفي
هو على بن حمزة بن عبد اللّه بن بهمن بن فيروز الأسدي،مولاهم من أولاد الفرس.
قال ابن الجزري:«الإمام الذي انتهت اليه رئاسة الأقراء بالكوفة بعد حمزة الزيات.أخذ القراءة عرضا عن حمزة أربع مرات و عليه اعتماده».و قال أبو عبيد في كتاب القراءات:«كان الكسائي:يتخير القراءات فأخذ من قراءة حمزة ببعض و ترك بعضا»و اختلف في تاريخ موته،فالصحيح الذي أرّخه غير واحد من العلماء و الحفاظ سنة 189 (1).أخذ القراءة عن حمزة الزيات مذاكرة،و عن محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى،و عيسى بن عمرو الأعمش،و أبي بكر بن عياش،و سمع منهم الحديث،و من سليمان بن أرقم،و جعفر الصادق عليه السّلام،و العزرمي،و ابن عيينة...
و علم الرشيد،ثم علم ولده الأمين (2).
و حدث المرزباني فيما رفعه الى ابن الاعرابي،قال:«كان الكسائي أعلم الناس على رهق فيه،كان يديم شرب النبيذ،و يجاهر به إلا أنه كان ضابطا قارئاعالما
ص: 140
بالعربية صدوقا» (1).
و للكسائي راويان بغير واسطة.هما الليث بن خالد،و حفص بن عمر.
أما الليث:فهو أبو الحارث بن خالد البغدادي.قال ابن الجزري:«ثقة معروف حاذق ضابط».عرض على الكسائي و هو من أجلة أصحابه مات سنة 240 (2).
أقول:الكلام في رواة قراءته كما تقدم.
و أما حفص بن عمر الدوري:فقد تقدمت ترجمته عند ترجمة عاصم.
هذا ما أردنا نقله من ترجمة القراء السبعة،و رواة قراءاتهم،و قد نظم أسماءهم، و أسماء رواتهم«القاسم بن فيرة»في قصيدته اللامية المعروفة بالشاطبية.
و أما الثلاثة المتممة للعشرة فهم:خلف،و يعقوب،و يزيد بن القعقاع.2.
ص: 141
خلف بن هشام البزّاز
تقدمت ترجمته عند ترجمة حمزة،و لقراءته راويان،هما:إسحاق،و إدريس.
أما إسحاق:فقال فيه ابن الجزري:«إسحاق بن إبراهيم بن عثمان بن عبد اللّه أبو يعقوب المروزي ثم البغدادي،ورّاق خلف،و راوي اختياره عنه،ثقة».توفي سنة 286 (1).
أقول:الكلام فيمن قرأ عليه كما تقدم.
و أما إدريس:فقال فيه ابن الجزري:«إدريس بن عبد الكريم الحداد أبو الحسن البغدادي،إمام ضابط،متقن ثقة.قرأ على خلف بن هشام.سئل عنه الدار قطني فقال:
«ثقة و فوق الثقة بدرجة».توفي سنة 292 (2).
أقول:الكلام فيمن روى القراءة عنه كما تقدم.
ص: 142
يعقوب بن إسحاق
هو يعقوب بن إسحاق بن زيد بن عبد اللّه أبو محمد الحضرمي،مولاهم البصري.
قال ابن الجزري:«أحد القراء العشرة».قال يعقوب:«قرأت على سلام في سنة و نصف،و قرأت على شهاب بن شرنفة المجاشعي في خمسة أيام،و قرأ شهاب على مسلمة بن محارب المحاربي في تسعة أيام،و قرأ مسلمة على أبي الأسود الدؤلي على علي عليه السّلام.مات في ذي الحجة سنة 205،و له ثمان و ثمانون سنة (1).
قال احمد و أبو حاتم:«صدوق».و ذكره ابن حيان في الثقات.
و قال ابن سعد:«ليس هو عندهم بذاك الثبت» (2).
و ليعقوب راويان،هما:رويس،و روح.
أما رويس:فهو محمد بن المتوكل أبو عبد اللّه اللؤلؤي البصري.قال ابن الجزري:
«مقرئ حاذق ضابط مشهور أخذ القراءة عرضا عن يعقوب الحضرمي».قال الداني:«و هو من أحذق أصحابه».روى القراءة عنه عرضا محمد بن هارون التمار،
ص: 143
و الإمام أبو عبد اللّه الزبير بن أحمد الزبيري الشافعي.توفي سنة 338. (1)
و أما روح:فهو أبو الحسن بن عبد المؤمن الهذلي،مولاهم البصري النحوي.قال ابن الجزري:«مقرئ جليل ثقة ضابط مشهور».عرض على يعقوب الحضرمي، و هو من أجلة أصحابه،توفي سنة 235 أو 234. (2)
أقول:الكلام فيمن عرض القراءة عليه كما تقدم.1.
ص: 144
يزيد بن القعقاع
قال ابن الجزري:«يزيد بن القعقاع الإمام أبو جعفر المخزومي المدني القارئ.
أحد القراء العشرة تابعيّ مشهور كبير القدر».عرض القرآن على مولاه عبد اللّه بن عياش بن أبي ربيعة،و عبد اللّه بن عباس،و أبي هريرة.قال يحيى بن معين:«كان إمام أهل المدينة في القراءة فسمّي القارئ بذلك،و كان ثقة قليل الحديث».و قال ابن أبي حاتم:«سألت أبي عنه فقال:صالح الحديث».مات بالمدينة سنة 130 (1).
و لأبي جعفر راويان هما:عيسى،و ابن جماز:
أما عيسى:فهو أبو الحارث عيسى بن وردان المدني الحذاء.قال ابن الجزري:
«إمام مقرئ حاذق،و راو محقق ضابط».عرض على أبي جعفر و شيبة ثم عرض على نافع.قال الداني:«هو من أجلة أصحاب نافع و قدمائهم،و قد شاركه في الاسناد».مات-فيما أحسب-في حدود سنة 160 (2).
أقول:الكلام فيمن عرض عليه كما تقدم.
ص: 145
و أما ابن جماز:فهو سليمان بن مسلم بن جماز أبو الربيع الزهري مولاهم المدني.
قال ابن الجزري:«مقرئ جليل ضابط».عرض على أبي جعفر،و شيبة على ما في كتابي«الكامل و المستنير»،ثم عرض على نافع على ما في«الكامل».مات بعد سنة 170 فيما أحسب (1).
إن من ذكرناهم من رواة القراء العشرة هم المعروفون بين أهل التراجم.و أما القراءة المروية بغير ما ذكرناه من الطرق فغير مضبوطة.و قد وقع الخلاف بين المترجمين في رواة اخرى لهم.و قد أشرنا إلى هذا-فيما تقدم-و لذلك لم نتعرض-هنا -لذكرهم.1.
ص: 146
ص: 147
-تواتر القرآن من الضروريات.
-ليست القراءات متواترة.
-تصريحات أرباب الفن بعدم تواتر القراءات.
-نقد ما استدل به على تواتر القراءات.
-ليست الأحرف السبع هي القراءات السبع.
-حجية القراءات.
-جواز القراءة بها في الصلاة.
ص: 148
قد أسلفنا في التمهيد من بحث«أضواء على القرّاء»بعض الآراء حول تواتر القراءات و عدمه و أشرنا إلى ما ذهب اليه المحققون من نفي تواتر القراءات،مع أن المسلمين قد أطبقوا على تواتر القرآن نفسه.و الآن نبدأ بالاستدلال على ما اخترناه من عدم تواترها بأمور:
الأول:إن استقراء حال الرواة يورث القطع بأن القراءات نقلت إلينا بأخبار الآحاد.و قد اتضح ذلك فيما أسلفناه في تراجمهم فكيف تصح دعوى القطع بتواترها عن القرّاء.على أن بعض هؤلاء الرواة لم تثبت وثاقته.
الثاني:إن التأمل في الطرق التي أخذ عنها القرّاء،يدلنا دلالة قطعية على أنّ هذه القراءات إنما نقلت إليهم بطريق الآحاد.
الثالث:اتصال أسانيد القراءات بالقرّاء أنفسهم يقطع تواتر الأسانيد حتى لو كانت رواتها في جميع الطبقات ممن يمتنع تواطؤهم على الكذب،فإن كل قارئ إنما ينقل قراءته بنفسه.
الرابع:احتجاج كل قارئ من هؤلاء على صحة قراءته،و احتجاج تابعيه على
ص: 149
ذلك أيضا،و إعراضه عن قراءة غيره دليل قطعي على أن القراءات تستند إلى اجتهاد القراء و آرائهم،لأنها لو كانت متواترة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يحتج في إثبات صحتها إلى الاستدلال و الاحتجاج.
الخامس:ان في إنكار جملة من أعلام المحققين على جملة من القراءات دلالة واضحة على عدم تواترها،إذ لو كانت متواترة لما صح هذا الإنكار فهذا ابن جرير الطبري أنكر قراءة ابن عامر،و طعن في كثير من المواضع في بعض القراءات المذكورة في السبع،و طعن بعضهم على قراءة حمزة،و بعضهم على قراءة أبي عمرو، و بعضهم على قراءة ابن كثير.و ان كثيرا من العلماء أنكروا تواتر ما لا يظهر وجهه في اللغة العربية،و حكموا بوقوع الخطأ فيه من بعض القرّاء (1).
و قد تقدم في ترجمة حمزة إنكار قراءته من إمام الحنابلة أحمد،و من يزيد بن هارون،و من ابن مهدي (2)و من أبي بكر بن عياش،و من ابن دريد.
قال الزركشي:-بعد ما اختار أن القراءات توقيفية-خلافا لجماعة منهم الزمخشري،حيث ظنوا أنها اختيارية،تدور مع اختيار الفصحاء،و اجتهاد البلغاء، و ردّ على حمزة قراءة«و الأرحام»بالخفض،و مثل ما حكي عن أبي زيد،و الأصمعي، و يعقوب الحضرمي أنهم خطئوا حمزة في قراءته«و ما أنتم بمصرخيّ»بكسر الياء المشددة،و كذلك أنكروا على أبي عمرو إدغامه الراء في اللام في«يغفر لكم».و قال الزجاج:«إنه غلط فاحش» (3).7.
ص: 150
و قد رأينا و من المناسب أن نذكر من كلمات خبراء الفن ممن صرح بعدم تواتر القراءات ليظهر الحق في المسألة بأجلى صوره:
1 قال ابن الجزري:«كل قراءة وافقت العربية و لو بوجه،و وافقت أحد المصاحف العثمانية و لو احتمال،و صح سندها فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها،و لا يحل إنكارها،بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن،و وجب على الناس قبولها سواء كانت عن الأئمة السبعة أم عن العشرة،أم عن غيرهم من الأئمة المقبولين، و متى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة،أو شاذة،أو باطلة سواء كانت من السبعة أم عمن هو أكبر منهم».
هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق من السلف و الخلف.صرح بذلك الإمام الحافظ أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني،و نص عليه في غير موضع الإمام أبو محمد مكي بن أبي طالب،و كذلك الإمام أبو العباس أحمد بن عمار المهدوي،و حققه الإمام الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة و هو مذهب السلف الذي لا يعرف عن أحد منهم خلافه.
2 و قال أبو شامة في كتابه المرشد الوجيز:«فلا ينبغي أن يغتر بكل قراءة تعزى إلى واحد من هؤلاء الأئمة السبعة و يطلق عليها لفظ الصحة،و انها هكذا أنزلت،إلا
ص: 151
إذا دخلت في ذلك الضابط،و حينئذ لا يتفرد بنقلها مصنف عن غيره،و لا يختص ذلك بنقلها عن غيرهم من القرّاء فذلك لا يخرجها عن الصحة،فإن الاعتماد على استجماع تلك الأوصاف لا على من تنسب اليه،فإن القراءات المنسوبة إلى كل قارئ من السبعة و غيرهم منقسمة إلى المجمع عليه و الشاذ،غير أن هؤلاء السبعة لشهرتهم،و كثرة الصحيح المجمع عليه في قراءتهم:تركن النفس إلى ما نقل عنهم فوق ما ينقل عن غيرهم» (1).
3 و قال ابن الجزري أيضا:«و قد شرط بعض المتأخرين التواتر في هذا الركن و لم يكتف فيه بصحة السند،و زعم أن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر،و ان ما جاء مجيء الآحاد لا يثبت به قرآن.و هذا مما لا يخفى ما فيه،فإن التواتر إذا ثبت لا يحتاج فيه إلى الركنين الأخيرين من الرسم و غيره،إذ ما ثبت من أحرف الخلاف متواترا عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وجب قبوله،و قطع بكونه قرآنا سواء وافق الرسم أم خالفه،و إذا اشترطنا التواتر في كل حرف من حروف الخلاف انتفى كثير من أحرف الخلاف، الثابت عن هؤلاء الأئمة السبعة و غيرهم.و لقد كنت-قبل-اجنح الى هذا القول،ثم ظهر فساده و موافقة أئمة السلف و الخلف».
4 و قال الإمام الكبير أبو شامة في مرشده:«و قد شاع على ألسنة جماعة من المقرءين المتأخرين،و غيرهم من المقلدين أن القراءات السبع كلها متواترة أي كل1.
ص: 152
فرد فرد ما روي عن هؤلاء السبعة.قالوا:و القطع بأنها منزّلة من عند اللّه واجب.
و نحن بهذا نقول،و لكن فيما اجتمعت على نقله عنهم الطرق،و اتفقت عليه الفرق،من غير نكير له مع أنه شاع و اشتهر و استفاض،فلا أقل من اشتراط ذلك إذا لم يتفق التواتر في بعضها» (1).
5 و قال السيوطي:«و أحسن من تكلم في هذا النوع إمام القرّاء في زمانه شيخ شيوخنا أبو الخير ابن الجزري.قال في أول كتابه-النشر(كل قراءة وافقت العربية...فنقل كلام ابن الجزري بطوله الذي نقلنا جملة منه آنفا.-ثم قال-قلت:
أتقن الإمام ابن الجزري هذا الفصل جدا» (2).
6 و قال أبو شامة في كتاب البسملة:«إنا لسنا ممن يلتزم بالتواتر في الكلمات المختلف فيها بين القرّاء،بل القراءات كلها منقسمة إلى متواتر و غير متواتر،و ذلك بيّن لمن أنصف و عرف،و تصفح القراءات و طرقها» (3).
7 و ذكر بعضهم:«إنه لم يقع لأحد من الأئمة الأصوليين تصريح بتواتر القراءات،1.
ص: 153
و قد صرح بعضهم بأن التحقيق ان القراءات السبع متواترة عن الأئمة السبعة بهذه القراءات السبع موجود في كتب القراءات،و هي نقل الواحد عن الواحد» (1).
8 و قال بعض المتأخرين من علماء الأثر:«ادّعى بعض أهل الأصول تواتر كل واحد من القراءات السبع،و ادّعى بعضهم تواتر القراءات العشر و ليس على ذلك إثارة من علم...و قد نقل جماعة من القرّاء الإجماع على أن في هذه القراءات ما هو متواتر،و فيها ما هو آحاد،و لم يقل أحد منهم بتواتر كل واحد من السبع فضلا عن العشر،و إنما هو قول قاله بعض أهل الأصول.و أهل الفن أخبر بفنهم» (2).
9 و قال مكي في جملة ما قال:«و ربما جعلوا الاعتبار بما اتفق عليه عاصم و نافع فإن قراءة هذين الإمامين أولى القراءات،و أصحها سندا،و أفصحها في العربية» (3).
10 و ممن اعترف بعدم التواتر حتى في القراءات السبع:الشيخ محمد سعيد العريان في تعليقاته،حيث قال:«لا تخلو إحدى القراءات من شواذ فيها حتى السبع المشهورة فإن فيها من ذلك أشياء».و قال أيضا:«و عندهم أن أصح القراءات من جهة توثيق0.
ص: 154
سندها نافع و عاصم،و أكثرها توخّيا للوجوه التي هي أفصح أبو عمرو، و الكسائي» (1).
و لقد اقتصرنا في نقل الكلمات على المقدار اللازم،و ستقف على بعضها الآخر أيضا بعيد ذلك.
تأمّل بربك.هل تبقى قيمة لدعوى التواتر في القراءات بعد شهادة هؤلاء الأعلام كلهم بعدمه؟و هل يمكن إثبات التواتر بالتقليد،و باتّباع بعض من ذهب إلى تحققه من غير أن يطالب بدليل،و لا سيما إذا كانت دعوى التواتر مما يكذّبها الوجدان؟ و أعجب من جميع ذلك أن يحكم مفتي الديار الأندلسية أبو سعيد بكفر من أنكر تواترها!!! لنفرض أن القراءات متواترة،عند الجميع،فهل يكفر من أنكر تواترها إذا لم تكن من ضروريات الدين،ثم لنفرض أنها بهذا التواتر الموهوم أصبحت من ضروريات الدين،فهل يكفر كل أحد بإنكارها حتى من لم يثبت عنده ذلك؟!اللهم إنّ هذه الدعوى جرأة عليك،و تعدّ لحدودك،و تفريق لكلمة أهل دينك!!!
و أما القائلون بتواتر القراءات السبع فقد استدلوا على رأيهم بوجوه:
الأول:دعوى قيام الإجماع عليه من السلف إلى الخلف، و قد وضح للقارئ فساد هذه الدعوى،على أن الإجماع لا يتحقق باتفاق أهل
ص: 155
مذهب واحد عند مخالفة الآخرين.و سنوضح ذلك في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.
الثاني:ان اهتمام الصحابة و التابعين بالقرآن يقضي بتواتر قراءته،و إن ذلك واضح لمن أنصف نفسه و عدل.
الجواب:
إن هذا الدليل إنما يثبت تواتر نفس القرآن،لا تواتر كيفية قراءته،و خصوصا مع كون القراءة عند جمع منهم مبتنية على الاجتهاد،أو على السماع و لو من الواحد.و قد عرفت ذلك مما تقدم،و لو لا ذلك لكان مقتضى هذا الدليل أن تكون جميع القراءات متواترة،و لا وجه لتخصيص الحكم بالسّبع أو العشر.و سنوضح للقارئ أن حصر القراءات في السبع إنما حدث في القرن الثالث الهجري،و لم يكن له قبل هذا الزمان عين و لا أثر،و لازم ذلك أن نلتزم إما بتواتر الجميع من غير تفرقة بين القراءات، و إما بعدم تواتر شىء منها في مورد الاختلاف،و الأول باطل قطعا فيكون الثاني هو المتعين.
الثالث:ان القراءات السبع لو لم تكن متواترة لم يكن القرآن متواترا و التالي باطل بالضرورة فالمقدم مثله:و وجه التلازم أن القرآن إنما وصل إلينا بتوسط حفّاظه، و القرّاء المعروفين،فإن كانت قراءاتهم متواترة فالقرآن متواتر،و إلا فلا.و إذن فلا محيص من القول بتواتر القراءات.
الجواب:
1-ان تواتر القرآن لا يستلزم تواتر القراءات،لأن الاختلاف في كيفية الكلمة لا ينافي الاتفاق على أصلها،و لهذا نجد أن اختلاف الرواة في بعض ألفاظ قصائد
ص: 156
المتنبي-مثلا-لا يصادم تواتر القصيدة عنه و ثبوتها له:و ان اختلاف الرواة في خصوصيات هجرة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا ينافي تواتر الهجرة نفسها.
2-ان الواصل إلينا بتوسّط القرّاء إنما هو خصوصيات قراءاتهم.و أما أصل القرآن فهو و اصل إلينا بالتواتر بين المسلمين،و بنقل الخلف عن السلف.و تحفظهم على ذلك في صدورهم و في كتاباتهم،و لا دخل للقراء في ذلك أصلا،و لذلك فإن القرآن ثابت التواتر حتى لو فرضنا أن هؤلاء القرّاء السبعة أو العشرة لم يكونوا موجودين أصلا.و عظمة القرآن أرقى من أن تتوقف على نقل أولئك النفر المحصورين.
الرابع:ان القراءات لو لم تكن متواترة لكان بعض القرآن غير متواتر مثل «ملك»و«مالك»و نحوهما...فإن تخصيص أحدهما تحكّم باطل.و هذا الدليل ذكره ابن الحاجب و تبعه جماعة من بعده.
الجواب:
1-ان مقتضى هذا الدليل الحكم بتواتر جميع القراءات،و تخصيصه بالسبع أيضا تحكّم باطل.و لا سيما أن في غير القرّاء السبعة من هو أعظم منهم و أوثق،كما اعترف به بعضهم،و ستعرف ذلك.و لو سلمنا أن القرّاء السبعة أوثق من غيرهم،و أعرف بوجوه القراءات،فلا يكون هذا سببا لتخصيص التواتر بقراءاتهم دون غيرهم.نعم ذلك يوجب ترجيح قراءاتهم على غيرها في مقام العمل.و بين الأمرين بعد المشرقين،و الحكم بتواتر جميع القراءات باطل بالضرورة.
2-ان الاختلاف في القراءة إنما يكون سببا لالتباس ما هو القرآن بغيره،و عدم تميزه من حيث الهيئة أو من حيث الإعراب،و هذا لا ينافي تواتر أصل القرآن.
ص: 157
فالمادة متواترة و إن اختلف في هيئتها أو في إعرابها،و إحدى الكيفيتين أو الكيفيات من القرآن قطعا و إن لم تعلم بخصوصها.
و من الحق إن تواتر القرآن لا يستلزم تواتر القراءات.و قد اعترف بذلك الزرقاني حيث قال:يبالغ بعضهم في الإشادة بالقراءات السبع،و يقول من زعم أن القراءات السبع لا يلزم فيها التواتر فقوله كفر،لأنه يؤدي إلى عدم تواتر القرآن جملة،و يعزى هذا الرأي إلى مفتي البلاد الأندلسية الأستاذ أبي سعيد فرج ابن لب، و قد تحمّس لرأيه كثيرا و ألف رسالة كبيرة في تأييد مذهبه.و الرد على من رد عليه، و لكن دليله الذي استند اليه لا يسلم.فإن القول بعدم تواتر القراءات السبع لا يستلزم القول بعدم تواتر القرآن،كيف و هناك فرق بين القرآن و القراءات السبع، بحيث يصح أن يكون القرآن متواترا في غير القراءات السبع،أو في القدر الذي اتفق عليه القرّاء جميعا.أو في القدر الذي اتفق عليه عدد يؤمن تواطؤهم على الكذب قرّاء كانوا أو غير قرّاء (1).
و ذكر بعضهم:ان تواتر القرآن لا يستلزم تواتر القراءات،و انه لم يقع لأحد من أئمة الأصوليين تصريح بتواتر القراءات و توقف تواتر القرآن على تواترها،كما وقع لابن الحاجب (2).
قال الزركشي في«البرهان»:للقرآن و القراءات حقيقتان متغايرتان،فالقرآن هو الوحي المنزل على محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للبيان و الاعجاز،و القراءات اختلاف ألفاظ الوحي
ص: 158
المذكور في الحروف،و كيفيتها من تخفيف و تشديد غيرهما،و القراءات السبع متواترة عند الجمهور،و قيل بل هي مشهورة.(و قال أيضا:)و التحقيق انها متواترة عن الأئمة السبعة.أما تواترها عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ففيه نظر،فإن اسنادهم بهذه القراءات السبع موجود في كتب القراءات،و هي نقل الواحد عن الواحد (1).
قد يتخيل أن الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن هي القراءات السبع،فيتمسك لإثبات كونها من القرآن بالروايات التي دلت على أن القرآن نزل على سبعة أحرف، فلا بد لنا أن ننبه على هذا الغلط،و ان ذلك شىء لم يتوهمه أحد من العلماء المحققين.
هذا إذا سلمنا ورود هذه الروايات،و لم نتعرض لها بقليل و لا كثير.و سيأتي الكلام على هذه الناحية.
و الأولى أن نذكر كلام الجزائري في هذا الموضع.قال:
«لم تكن القراءات السبع متميزة عن غيرها،حتى قام الإمام أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد-و كان على رأس الثلاثمائة ببغداد-فجمع قراءات سبعة من مشهوري أئمة الحرمين و العراقين و الشام،و هم:نافع،و عبد اللّه بن كثير، و أبو عمرو بن العلاء،و عبد اللّه بن عامر،و عاصم،و حمزة،و علي الكسائي.و قد توهم بعض الناس أن القراءات السبعة هي الأحرف السبعة،و ليس الأمر كذلك...
و قد لام كثير من العلماء ابن مجاهد على اختياره عدد السبعة،لما فيه من الإيهام...
قال أحمد بن عمار المهدوي:لقد فعل مسبّع هذه السبعة ما لا ينبغي له،و أشكل الأمر
ص: 159
على العامة بايهامه كل من قلّ نظره أن هذه القراءات هي المذكورة في الخبر،و ليته إذ اقتصر نقص عن السبعة أو زاد ليزيل الشبهة...».
و قال الأستاذ إسماعيل بن إبراهيم بن محمد القراب في الشافي:
«التمسك بقراءة سبعة من القرّاء دون غيرهم ليس فيه أثر و لا سنة،و إنما هو من جمع بعض المتأخرين،لم يكن قرأ بأكثر من السبع،فصنف كتابا،و سماه كتاب السبعة، فانتشر ذلك في العامة...».
و قال الإمام أبو محمد مكي:
«قد ذكر الناس من الأئمة في كتبهم أكثر من سبعين ممن هو أعلى رتبة،و أجل قدرا من هؤلاء السبعة...فكيف يجوز أن يظن ظان أن هؤلاء السبعة المتأخرين، قراءة كل واحد منهم أحد الحروف السبعة المنصوص عليها-هذا تخلّف عظيم- أ كان ذلك بنص من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أم كيف ذلك!!!و كيف يكون ذلك؟و الكسائي إنما ألحق بالسبعة بالأمس في أيام المأمون و غيره-و كان السابع يعقوب الحضرمي- فأثبت ابن مجاهد في سنة ثلاثمائة و نحوها الكسائي موضع يعقوب» (1).
و قال الشرف المرسي:
«و قد ظن كثير من العوام أن المراد بها-الأحرف السبعة-القراءات السبع،و هو جهل قبيح» (2).
و قال القرطبي:
«قال كثير من علمائنا كالداودي،و ابن أبي سفرة و غيرهما:هذه القراءات السبع،1.
ص: 160
التي تنسب لهؤلاء القرّاء السبعة ليست هي الأحرف السبعة التي اتسعت الصحابة في القراءة بها،و إنما هي راجعة إلى حرف واحد من تلك السبعة،و هو الذي جمع عليه عثمان المصحف.ذكره ابن النحاس و غيره و هذه القراءات المشهورة هي اختيارات أولئك الأئمة القرّاء» (1).
و تعرض ابن الجزري لإبطال توهم من زعم أن الأحرف السبعة،التي نزل بها القرآن مستمرة إلى اليوم.فقال:
«و أنت ترى ما في هذا القول،فإن القراءات المشهورة اليوم عن السبعة و العشرة، و الثلاثة عشر بالنسبة إلى ما كان مشهورا في الاعصار الاول،قلّ من كثر،و نزر من بحر،فإن من له اطلاع على ذلك يعرف علمه العلم اليقين،و ذلك أن القرّاء الذين أخذوا عن أولئك الأئمة المتقدمين من السبعة،و غيرهم كانوا أمما لا تحصى،و طوائف لا تستقصى،و الذين أخذوا عنهم أيضا أكثر و هلم جرا.فلما كانت المائة الثالثة، و اتسع الخرق و قلّ الضّبط،و كان علم الكتاب و السنّة أوفر ما كان في ذلك العصر، تصدّى بعض الأئمة لضبط ما رواه من القراءات،فكان أول إمام معتبر جمع القراءات في كتاب أبو عبيد القاسم بن سلام،و جعلهم-فيما أحسب-خمسة و عشرين قارئا مع هؤلاء السبعة و توفي سنة 224 و كان بعده أحمد بن جبير بن محمد الكوفي نزيل أنطاكية،جمع كتابا في قراءات الخمسة،من كل مصر واحد.و توفي سنة 258 و كان بعده القاضي إسماعيل بن إسحاق المالكي صاحب قالون،ألّف كتابا في القراءات جمع فيه قراءة عشرين إماما،منهم هؤلاء السبعة.توفي سنة 282 و كان بعده الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري،جمع كتابا سماه«الجامع»فيه نيف و عشرون قراءة.1.
ص: 161
توفي سنة 310 و كان بعيده أبو بكر محمد بن أحمد بن عمر الداجوني،جمع كتابا في القراءات،و أدخل معهم أبا جعفر أحد العشرة.و توفي سنة 324،و كان في أثره أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد،أول من اقتصر على قراءات هؤلاء السبعة فقط،و روى فيه عن هذا الداجوني،و عن ابن جرير أيضا.و توفي سنة 324».
ثم ذكر ابن الجزري جماعة ممن كتب في القراءة.فقال:
«و إنما أطلنا هذا الفصل،لما بلغنا عن بعض من لا علم له أن القراءات الصحيحة هي التي عن هؤلاء السبعة،أو أن الأحرف السبعة التي أشار إليها النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هي قراءة هؤلاء السبعة،بل غلب على كثير من الجهال أن القراءات الصحيحة هي التي في«الشاطبية و التيسير»،و أنها هي المشار إليها بقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنزل القرآن على سبعة أحرف،حتى أن بعضهم يطلق على ما لم يكن في هذين الكتابين أنه شاذ،و كثير منهم يطلق على ما لم يكن عن هؤلاء السبعة شاذا،و ربما كان كثير مما لم يكن في «الشاطبية و التيسير»،و عن غير هؤلاء السبعة أصح من كثير مما فيهما،و إنما أوقع هؤلاء في الشبهة كونهم سمعوا«أنزل القرآن على سبعة أحرف»و سمعوا قراءات السبعة فظنوا أن هذه السبعة هي تلك المشار إليها،و لذلك كره كثير من الأئمة المتقدمين اقتصار ابن مجاهد على سبعة من القرّاء،و خطّئوه في ذلك،و قالوا:أ لا اقتصر على دون هذا العدد أو زاده،أو بيّن مراده ليخلص من لا يعلم من هذه الشبهة.ثم نقل ابن الجزري-بعد ذلك-عن ابن عمار المهدوي،و أبي محمد مكي ما تقدم نقله عنهما آنفا» (1).7.
ص: 162
قال أبو شامة:
«ظنّ قوم أن القراءات السبع الموجودة الآن هي التي أريدت في الحديث،و هو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة،و إنما يظن ذلك بعض أهل الجهل» (1).
و بهذا الاستعراض قد استبان للقارئ،و ظهر له ظهورا تاما أن القراءات ليست متواترة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لا عن القراء أنفسهم،من غير فرق بين السبع و غيرها،و لو سلّمنا تواترها عن القراء فهي ليست متواترة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قطعا.فالقراءات إما أن تكون منقولة بالآحاد،و إما أن تكون اجتهادات من القراء أنفسهم،فلا بد لنا من البحث في موردين:
ذهب جماعة إلى حجية هذه القراءات،فجوّزوا أن يستدل بها على الحكم الشرعي،كما استدل على حرمة وطئ الحائض بعد نقائها من الحيض و قبل أن تغتسل،بقراءة الكوفيين-غير حفص-قوله تعالى: وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ بالتشديد.
الجواب:
و لكن الحق عدم حجية هذه القراءات،فلا يستدل بها على الحكم الشرعي.
و الدليل على ذلك أن كل واحد من هؤلاء القراء يحتمل فيه الغلط و الاشتباه،و لم يرد دليل من العقل،و لا من الشرع على وجوب اتباع قارئ منهم بالخصوص،و قد استقل العقل،و حكم الشرع بالمنع عن اتباع غير العلم.و سيأتي توضيح ذلك إن شاء اللّه تعالى.
ص: 163
و لعل أحدا يحاول أن يقول:إن القراءات-و إن لم تكن متواترة-إلا أنها منقولة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فتشملها الأدلة القطعية التي أثبتت حجية الخبر الواحد،و إذا شملتها هذه الأدلة القطعية خرج الاستناد إليها عن العمل بالظن بالورود،أو الحكومة،أو التخصيص (1).
الجواب:
أولا:ان القراءات لم يتضح كونها رواية،لتشملها هذه الأدلة،فلعلها اجتهادات من القراء،و يؤيد هذا الاحتمال ما تقدم من تصريح بعض الأعلام بذلك،بل إذا لاحظنا السبب الذي من أجله اختلف القراء في قراءاتهم-و هو خلوّ المصاحف المرسلة إلى الجهات من النقط و الشكل-يقوى هذا الاحتمال جدا.
قال ابن أبي هاشم:
«إن السبب في اختلاف القراءات السبع و غيرها.ان الجهات التي وجهت إليها المصاحف كان بها من الصحابة من حمل عنه أهل تلك الجهة و كانت المصاحف خالية من النقط و الشكل.قال:فثبت أهل كل ناحية على ما كانوا تلقوه سماعا عن الصحابة،بشرط موافقة الخط،و تركوا ما يخالف الخط...فمن ثم نشا الاختلاف بين قراء الأمصار» (2).
و قال الزرقاني:
«كان العلماء في الصدر الأول يرون كراهة نقط المصحف و شكله،مبالغة منهم في6.
ص: 164
المحافظة على أداء القرآن كما رسمه المصحف،و خوفا من أن يؤدي ذلك إلى التغيير فيه...و لكن الزمان تغيّر-كما علمت-فاضطر المسلمون إلى إعجام المصحف و شكله لنفس ذلك السبب،أي للمحافظة على أداء القرآن كما رسمه المصحف، و خوفا من أن يؤدي تجرّده من النقط و الشكل إلى التغيير فيه» (1).
ثانيا:ان رواة كل قراءة من هذه القراءات،لم يثبت وثاقتهم أجمع،فلا تشمل أدلة حجية خبر الثقة روايتهم.و يظهر ذلك مما قدّمناه في ترجمة أحوال القراء و رواتهم.
ثالثا:إنا لو سلمنا أن القراءات كلها تستند إلى الرواية،و أن جميع رواتها ثقات، إلا أنّا نعلم علما إجماليا أن بعض هذه القراءات لم تصدر عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قطعا،و من الواضح أن مثل هذا العلم يوجب التعارض بين تلك الروايات و تكون كل واحدة منها مكذبة للاخرى،فتسقط جميعها عن الحجية،فإن تخصيص بعضها بالاعتبار ترجيح بلا مرجح،فلا بد من الرجوع إلى مرجحات باب المعارضة،و بدونه لا يجوز الاحتجاج على الحكم الشرعي بواحدة من تلك القراءات.
و هذه النتيجة حاصلة أيضا إذا قلنا بتواتر القراءات.فإن تواتر القراءتين المختلفتين عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يورث القطع بأن كل من القراءتين قرآن منزل من اللّه،فلا يكون بينهما تعارض بحسب السند،بل يكون التعارض بينهما بحسب الدلالة.فإذا علمنا إجمالا أن أحد الظاهرين غير مراد في الواقع فلا بد من القول بتساقطهما، و الرجوع إلى الأصل اللفظي أو العملي،لأن أدلة الترجيح،أو التخيير تختص بالأدلة التي يكون سندها ظنيا،فلا تعمّ ما يكون صدوره قطعيا.و تفصيل ذلك كله في بحث «التعادل و الترجيح»من علم الأصول.ة.
ص: 165
ذهب الجمهور من علماء الفريقين إلى جواز القراءة بكل واحدة من القراءات السبع في الصلاة،بل ادعي على ذلك الإجماع في كلمات غير واحد منهم،و جوّز بعضهم القراءة بكل واحدة من العشر،و قال بعضهم بجواز القراءة بكل قراءة وافقت العربية و لو بوجه،و وافقت أحد المصاحف العثمانية و لو احتمالا،و صحّ سندها،و لم يحصرها في عدد معين.
و الحق:ان الذي تقتضيه القاعدة الأولية،هو عدم جواز القراءة في الصلاة بكل قراءة لم تثبت القراءة بها من النبي الأكرم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو من أحد أوصيائه المعصومين عليهم السّلام لأن الواجب في الصلاة هو قراءة القرآن فلا يكفي قراءة شىء لم يحرز كونه قرآنا، و قد استقلّ العقل بوجوب إحراز الفراغ اليقيني بعد العلم باشتغال الذمة،و على ذلك فلا بدّ من تكرار الصلاة بعدد القراءات المختلفة أو تكرار مورد الاختلاف في الصلاة الواحدة،لإحراز الامتثال القطعي،ففي سورة الفاتحة يجب الجمع بين قراءة«مالك»، و قراءة«ملك».أما السورة التامة التي تجب قراءتها بعد الحمد-بناء على الأظهر- فيجب لها إما اختيار سورة ليس فيها اختلاف في القراءة،و إما التكرار على النحو المتقدم.
و أما بالنظر إلى ما ثبت قطعيا من تقرير المعصومين-عليهم السّلام-شيعتهم على القراءة،بأيّة واحدة من القراءات المعروفة في زمانهم،فلا شك في كفاية كل واحدة منها.فقد كانت هذه القراءات معروفة في زمانهم،و لم يرد عنهم أنهم ردعوا عن بعضها،و لو ثبت الردع لوصل إلينا بالتواتر،و لا أقل من نقله بالآحاد،بل ورد
ص: 166
عنهم عليهم السّلام إمضاء هذه القراءات بقولهم:«اقرأ كما يقرأ الناس» (1).«اقرءوا كما علّمتم» (2).و على ذلك فلا معنى لتخصيص الجواز بالقراءات السبع أو العشر،نعم يعتبر في الجواز أن لا تكون القراءة شاذة،غير ثابتة بنقل الثقات عند علماء أهل السنة،و لا موضوعة،أما الشاذة فمثالها قراءة، ملك يوم الدين بصيغة الماضي و نصب يوم،و أما الموضوعة فمثالها قراءة إِنَّما يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ برفع كلمة اللّه و نصب كلمة العلماء على قراءة الخزاعي عن أبي حنيفة.
و صفوة القول:أنه تجوز القراءة في الصلاة بكل قراءة كانت متعارفة في زمان أهل البيت عليهم السّلام.5.
ص: 167
ص: 168
سبعة أحرف؟!!
ص: 169
-عرض الروايات حول نزول القرآن على سبعة أحرف.
-تفنيد تلك الروايات.
-عدم رجوع نزول القرآن على سبعة أحرف إلى معنى معقول.
-الوجوه العشرة التي ذكروها تفسيرا للأحرف السبعة.
-بيان فساد تلك الوجوه
ص: 170
لقد ورد في روايات أهل السنة:أن القرآن انزل على سبعة أحرف،فيحسن بنا أن نتعرض إلى التحقيق في ذلك بعد ذكر هذه الروايات:
1-أخرج الطبري،عن يونس و أبي كريب،بإسنادهما،عن ابن شهاب، بإسناده عن ابن عباس،حدثه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال:
«أقرأني جبرئيل على حرف فراجعته،فلم أزل أستزيده فيزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف».
و رواها مسلم،عن حرملة،عن ابن وهب عن يونس (1)و رواها البخاري بسند آخر (2)و روى مضمونها عن ابن البرقي،بإسناده عن ابن عباس.
2-و أخرج عن أبي كريب،بإسناده،عن عبد الرحمن بن أبي ليلى،عن جده،عن أبيّ بن كعب قال:
ص: 171
«كنت في المسجد فدخل رجل يصلّي فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل رجل آخر فقرأ قراءة غير قراءة صاحبه،فدخلنا جميعا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال:فقلت يا رسول اللّه إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه،ثم دخل هذا فقرأ قراءة غير قراءة صاحبه،فأمرهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقرءا،فحسّن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شأنهما،فوقع في نفسي من التكذيب،و لا إذ كنت في الجاهلية فلما رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما غشيني ضرب في صدري،ففضت عرقا كأنما أنظر إلى اللّه فرقا.فقال لي:يا أبيّ أرسل إليّ أن اقرأ القرآن على حرف، فرددت عليه أن هوّن على امتي،فرد عليّ في الثانية أن اقرأ القرآن على حرف (1)فرددت عليه أن هوّن على امتي،فردّ عليّ في الثالثة ان اقرأه على سبعة أحرف،و لك بكل ردة رددتها مسألة تسألنيها.
فقلت:اللهم اغفر لامتي.اللهم اغفر لامتي،و أخرت الثالثة ليوم يرغب فيه إليّ الخلق كلهم حتى إبراهيم عليه السّلام» (2).
و هذه الرواية رواها مسلم أيضا بأدنى اختلاف (3).و أخرجها الطبري عن أبي كريب بطرق أخرى باختلاف يسير أيضا.و روى ما يقرب من مضمونها عن طريق يونس بن عبد الأعلى و عن طريق محمد بن عبد الأعلى الصنعاني عن أبيّ.
3-و أخرج عن أبي كريب،بإسناده،عن سليمان بن صرد،عن أبيّ بن كعب قال:ا.
ص: 172
«رخت إلى المسجد فسمعت رجلا يقرأ.فقلت:من أقرأك؟ فقال:رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فانطلقت به إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقلت:
استقرئ هذا،فقرأ.فقال:أحسنت.قال:فقلت إنك أقرأتني كذا و كذا فقال:و أنت قد أحسنت.قال:فقلت قد أحسنت قد أحسنت.
قال:فضرب بيده على صدري،ثم قال:اللهم أذهب عن أبيّ الشك.
قال:ففضت عرقا و امتلأ جوفي فرقا،ثم قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:إن الملكين أتياني.فقال أحدهما:اقرأ القرآن على حرف،و قال الآخر:زده قال:فقلت زدني.قال:اقرأ على حرفين حتى بلغ سبعة أحرف.
فقال:اقرأ على سبعة أحرف».
4-و أخرج عن أبي كريب،بإسناده،عن عبد الرحمن بن أبي بكرة،عن أبيه قال:
«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:قال جبرئيل:اقرأ القرآن على حرف.
فقال ميكائيل:استزده فقال:على حرفين،حتى بلغ ستة أو سبعة أحرف-و الشك من أبي كريب-فقال:كلها شاف كاف.ما لم تختم آية عذاب برحمة،أو آية رحمة بعذاب كقولك:هلمّ و تعال».
5-و أخرج عن أحمد بن منصور،بإسناده،عن عبد اللّه بن أبي طلحة،عن أبيه، عن جده قال:
«قرأ رجل عند عمر بن الخطاب فغيّر عليه فقال:لقد قرأت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلم يغير عليّ قال:فاختصما عند النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال:يا رسول اللّه أ لم تقرئني آية كذا و كذا؟قال:بلى.فوقع في صدر عمر شىء فعرف النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذلك في وجهه.قال:فضرب
ص: 173
صدره.و قال:أبعد شيطانا،قالها ثلاثا ثم قال:يا عمر إن القرآن كله سواء،ما لم تجعل رحمة عذابا و عذابا رحمة».
و أخرج عن يونس بن عبد الأعلى،بإسناده،عن عمر بن الخطاب قضية مع هشام بن حكيم تشبه هذه القصة.و روى البخاري و مسلم و الترمذي قصة عمر مع هشام بإسناد غير ذلك،و اختلاف في ألفاظ الحديث (1).
6-و أخرج عن محمد بن المثنى،بإسناده،عن ابن أبي ليلى،عن أبيّ بن كعب أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان عند إضاءة بني غفار قال:
«فأتاه جبرئيل.فقال:إن اللّه يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف.فقال:اسأل اللّه معافاته و مغفرته،و إن أمتي لا تطيق ذلك.قال:ثم أتاه الثانية.فقال:إن اللّه يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرفين.فقال:أسأل اللّه معافاته و مغفرته،و إن امتي لا تطيق ذلك،ثم جاء الثالثة.فقال:إن اللّه يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف.فقال:أسأل اللّه معافاته و مغفرته،و إن امتي لا تطيق ذلك،ثم جاء الرابعة.فقال:إن اللّه يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف،فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا».
و رواها مسلم أيضا في صحيحه (2).و أخرج الطبري أيضا نحوها،عن أبي7.
ص: 174
كريب،بإسناده،عن ابن أبي ليلى،عن أبيّ بن كعب.و أخرج أيضا بعضها،عن أحمد بن محمد الطوسي،بإسناده،عن ابن أبي ليلى،عن أبيّ بن كعب باختلاف يسير.
و أخرجها أيضا عن محمد بن المثنى،بإسناده عن أبيّ بن كعب.
7-و أخرج عن أبي كريب بإسناده عن زر عن أبيّ قال:
«لقي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جبرئيل عند أحجار المراء.فقال:إني بعثت إلى أمّة أمّيين منهم الغلام و الخادم،و فيهم الشيخ الفاني و العجوز.فقال جبرئيل:فليقرءوا القرآن على سبعة أحرف» (1).
8-و أخرج عن عمرو بن عثمان العثماني،بإسناده،عن المقبري،عن أبي هريرة أنه قال:
«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:إن هذا القرآن انزل على سبعة أحرف، فاقرءوا و لا حرج،و لكن لا تختموا ذكر رحمة بعذاب،و لا ذكر عذاب برحمة».
9-و أخرج عن عبيد بن أسباط،بإسناده،عن أبي سلمة،عن أبي هريرة.قال:
«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«انزل القرآن على سبعة أحرف.عليم.
حكيم.غفور.رحيم».
و أخرج عن أبي كريب،بإسناده،عن أبي سلمة،عن أبي هريرة مثله.
10-و أخرج،عن سعيد بن يحيى،بإسناده،عن عاصم،عن زر،عن عبد اللّه بن مسعود قال:1.
ص: 175
«تمارينا في سورة من القرآن،فقلنا:خمس و ثلاثون،أو ست و ثلاثون آية.قال:فانطلقنا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فوجدنا عليا يناجيه.قال:فقلنا إنما اختلفنا في القراءة.قال:فاحمرّ وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال:إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم بينهم.قال:ثم أسرّ الى عليّ شيئا.فقال لنا عليّ:إن رسول اللّه يأمركم أن تقرءوا كما علّمتم» (1).
11-و أخرج القرطبي،عن أبي داود،عن أبيّ قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:
«يا أبيّ إني قرأت القرآن.فقيل لي:على حرف أو حرفين.فقال الملك الذي معي:قل على حرفين.فقيل لي:على حرفين أو ثلاثة.
فقال الملك الذي معي:قل على ثلاثة،حتى بلغ سبعة أحرف،ثم قال:ليس منها إلا شاف كاف،إن قلت سميعا،عليما،عزيزا، حكيما،ما لم تخلط آية عذاب برحمة،أو آية رحمة بعذاب» (2).
هذه أهم الروايات التي رويت في هذا المعنى،و كلها من طرق أهل السنة،و هي مخالفة لصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال:
«إن القرآن واحد نزل من عند واحد،و لكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة» (3).
و قد سأل الفضيل بن يسار أبا عبد اللّه عليه السّلام فقال:2.
ص: 176
«إن الناس يقولون:إن القرآن نزل على سبعة أحرف.فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام:
كذبوا-أعداء اللّه-و لكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد» (1).
و قد تقدم إجمالا أن المرجع بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في امور الدين،إنما هو كتاب اللّه و أهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا«و سيأتي توضيحه مفصلا بعد ذلك إن شاء اللّه تعالى»و لا قيمة للروايات إذا كانت مخالفة لما يصح عنهم.
و لذلك لا يهمنا أن نتكلم عن أسانيد هذه الروايات.و هذا أول شىء تسقط به الرواية عن الاعتبار و الحجية.و يضاف إلى ذلك ما بين هذه الروايات من التخالف و التناقض،و ما في بعضها من عدم التناسب بين السؤال و الجواب.
فمن التناقض أن بعض الروايات دلّ على أن جبرئيل أقرأ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على حرف فاستزاده النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فزاده،حتى انتهى إلى سبعة أحرف،و هذا يدل على أنّ الزيادة كانت على التدريج،و في بعضها أن الزيادة كانت مرة واحدة في المرة الثالثة،و في بعضها أن اللّه أمره في المرة الثالثة أن يقرأ القرآن على ثلاثة أحرف،و كان الأمر بقراءة سبع في المرة الرابعة.
و من التناقض أن بعض الروايات يدل على أن الزيادة كلها كانت في مجلس واحد،و أن طلب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الزيادة كان بإرشاد ميكائيل،فزاده جبرئيل حتى بلغ
ص: 177
سبعا،و بعضها يدل على أن جبرئيل كان ينطلق و يعود مرة بعد مرة.
و من التناقض أن بعض الروايات يقول:إن أبيّ دخل المسجد،فرأى رجلا يقرأ على خلاف قراءته.و في بعضها أنه كان في المسجد،فدخل رجلان و قرءا على خلاف قراءته.و قد وقع فيها الاختلاف أيضا فيما قاله النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأبيّ...إلى غير ذلك من الاختلاف.
و من عدم التناسب بين السؤال و الجواب،ما في رواية ابن مسعود من قول علي عليه السّلام إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يأمركم أن تقرءوا كما علّمتم.فإن هذا الجواب لا يرتبط بما وقع فيه النزاع من الاختلاف في عدد الآيات.أضف إلى جميع ذلك أنه لا يرجع نزول القرآن على سبعة أحرف إلى معنى معقول،و لا يتحصل للناظر فيها معنى صحيح.
و قد ذكروا في توجيه نزول القرآن على سبعة أحرف وجوها كثيرة نتعرض للمهم منها مع مناقشتها و بيان فسادها:
إن المراد سبعة أوجه من المعاني المتقاربة بألفاظ مختلفة نحو«عجّل،و أسرع، واسع»و كانت هذه الأحرف باقية إلى زمان عثمان فحصرها عثمان بحرف واحد، و أمر بإحراق بقية المصاحف التي كانت على غيره من الحروف الستة.و اختار هذا الوجه الطبري (1).و جماعة.و ذكر القرطبي أنه مختار أكثر أهل العلم (2).و كذلك قال
ص: 178
أبو عمرو بن عبد البر (1).
و استدلوا على ذلك برواية ابن أبي بكرة،و أبي داود،و غيرهما مما تقدم.و برواية يونس بإسناده،عن ابن شهاب.قال:
«أخبرني سعيد بن المسيب أن الذي ذكر اللّه تعالى ذكره:
إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ «16:103».
إنما افتتن أنه كان يكتب الوحي،فكان يملي عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سميع عليم،أو عزيز حكيم،و غير ذلك من خواتم الآي،ثم يشتغل عنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو على الوحي،فيستفهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيقول:«أ عزيز حكيم،أو سميع عليم،أو عزيز عليم»؟فيقول له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أيّ ذلك كتبت فهو كذلك،ففتنه ذلك.فقال:إن محمدا أو كل ذلك إليّ فاكتب ما شئت».
و استدلوا أيضا بقراءة أنس«إن ناشئة الليل هي أشدّ وطأ و أصوب قيلا»فقال له بعض القوم:يا أبا حمزة إنما هي«و أقوم»فقال:«أقوم،و أصوب،و أهدى واحد».
و بقراءة ابن مسعود«إن كانت إلاّ زقية واحدة» (2).
و بما رواه الطبري عن محمد بن بشار،و أبي السائب بإسنادهما عن همام أن أبا الدرداء كان يقرئ رجلا:
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ «44:44».
قال:فجعل الرجل يقول«إن شجرة الزقوم طعام اليتيم»قال:فلما أكثر عليه أبو1.
ص: 179
الدرداء فرآه لا يفهم.قال:«إن شجرة الزقوم طعام الفاجر» (1).
و استدلوا أيضا على ذلك بما تقدم من الروايات الدالة على التوسعة:«ما لم تختم آية رحمة بعذاب،أو آية عذاب برحمة».
فإن هذا التحديد لا معنى له إلا أن يراد بالسبعة أحرف جواز تبديل بعض الكلمات ببعض.فاستثنى من ذلك ختم آية عذاب برحمة،أو آية رحمة بعذاب.
و بمقتضى هذه الروايات لا بد من حمل روايات السبعة أحرف على ذلك بعد رد مجملها إلى مبيّنها.
إن جميع ما ذكر لها من المعاني أجنبي عن مورد الروايات-و ستعرف ذلك- و على هذا فلا بد من طرح الروايات،لأن الالتزام بمفادها غير ممكن.
و الدليل على ذلك:
أولا:ان هذا إنما يتم في بعض معاني القرآن،التي يمكن أن يعبر عنها بألفاظ سبعة متقاربة.و من الضروري أن أكثر القرآن لا يتم فيه ذلك،فكيف تتصور هذه الحروف السبعة التي نزل بها القرآن؟.
ثانيا:إن كان المراد من هذا الوجه أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد جوّز تبديل كلمات القرآن الموجودة بكلمات اخرى تقاربها في المعنى-و يشهد لهذا بعض الروايات المتقدمة- فهذا الاحتمال يوجب هدم أساس القرآن،المعجزة الأبدية،و الحجة على جميع البشر، و لا يشك عاقل في أن ذلك يقتضي هجر القرآن المنزل،و عدم الاعتناء بشأنه.و هل يتوهم عاقل ترخيص النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يقرأ القارئ«يس،و الذكر العظيم،إنك لمن الأنبياء،على طريق سويّ،إنزال الحميد الكريم،لتخوّف قوما ما خوّف أسلافهمة.
ص: 180
فهم ساهون»فلتقرّ عيون المجوزين لذلك.سبحانك اللهم إن هذا إلا بهتان عظيم.و قد قال اللّه تعالى:
قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ ما يُوحى إِلَيَّ «10:15».
و إذا لم يكن للنبي أن يبدّل القرآن من تلقاء نفسه،فكيف يجوّز ذلك لغيره؟و إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم علّم براء بن عازب دعاء كان فيه:«و نبيك الذي أرسلت»فقرأ براء «و رسولك الذي أرسلت»فأمره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن لا يضع الرسول موضع النبي (1).فإذا كان هذا في الدعاء،فما ذا يكون الشأن في القرآن؟.و إن كان المراد من الوجه المتقدم أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قرأ على الحروف السبعة-و يشهد لهذا كثير من الروايات المتقدمة-فلا بد للقائل بهذا أن يدلّ على هذه الحروف السبعة التي قرأ بها النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأن اللّه سبحانه قد وعد بحفظ ما أنزله:
إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ «9:15».
ثالثا:أنه صرحت الروايات المتقدمة بأن الحكمة في نزول القرآن على سبعة أحرف هي التوسعة على الامة،لأنهم لا يستطيعون القراءة على حرف واحد،و أن هذا هو الذي دعا النبي إلى الاستزادة إلى سبعة أحرف.و قد رأينا أن اختلاف القراءات أوجب أن يكفّر بعض المسلمين بعضا.حتى حصر عثمان القراءة بحرف واحد،و أمر بإحراق بقية المصاحف.
و يستنتج من ذلك امور:
1-إن الاختلاف في القراءة كان نقمة على الأمة.و قد ظهر ذلك في عصر عثمان،8.
ص: 181
فكيف يصح أن يطلب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من اللّه ما فيه فساد الأمة.و كيف يصح على اللّه أن يجيبه إلى ذلك؟و قد ورد في كثير من الروايات النهي عن الاختلاف.و أن فيه هلاك الأمة.و في بعضها أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تغير وجهه و احمرّ حين ذكر له الاختلاف في القراءة.
و قد تقدم جملة منها،و سيجيء بعد هذا جملة اخرى.
2-قد تضمنت الروايات المتقدمة أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال:إن أمتي لا تستطيع ذلك «القراءة على حرف واحد»و هذا كذب صريح،لا يعقل نسبته إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأنا نجد الامة بعد عثمان على اختلاف عناصرها و لغاتها قد استطاعت أن تقرأ القرآن على حرف واحد،فكيف يكون من العسر عليها أن تجتمع على حرف واحد في زمان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد كانت الأمة من العرب الفصحى.
3-إن الاختلاف الذي أوجب لعثمان أن يحصر القراءة في حرف واحد قد اتفق في عصر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد أقرّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كل قارئ على قراءته،و أمر المسلمين بالتسليم لجميعها،و أعلمهم بأن ذلك رحمة من اللّه لهم،فكيف صح لعثمان،و لتابعيه سد باب الرحمة،مع نهي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن المنع عن قراءة القرآن،و كيف جاز للمسلمين رفض قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أخذ قول عثمان و إمضاء عمله،أ فهل وجدوه أرأف بالأمة من نبيها أو أنه تنبه لشىء قد جهله النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من قبل و حاشاه،أو أن الوحي قد نزل على عثمان بنسخ تلك الحروف؟!.
و خلاصة الكلام:أن بشاعة هذا القول تغني عن التكلف عن ردّه،و هذه هي العمدة في رفض المتأخرين من علماء أهل السنة لهذا القول.و لأجل ذلك قد التجأ بعضهم كأبي جعفر محمد بن سعدان النحوي،و الحافظ جلال الدين السيوطي إلى القول بأن هذه الروايات من المشكل و المتشابه،و ليس يدرى ما هو مفادها (1).مع1.
ص: 182
أنك قد عرفت أن مفادها أمر ظاهر،و لا يشك فيه الناظر إليها،كما ذهب اليه و اختاره أكثر العلماء.
ان المراد بالأحرف السبعة هي الأبواب السبعة التي نزل منها القرآن و هي زجر، و أمر،و حلال،و حرام،و محكم،و متشابه،و أمثال.
و استدل عليه بما رواه يونس،بإسناده،عن ابن مسعود،عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال:
«كان الكتاب الأول نزل من باب واحد على حرف واحد، و نزل القرآن من سبعة أبواب و على سبعة أحرف:زجر،و أمر، و حلال،و حرام،و محكم،و متشابه،و أمثال.فأحلّوا حلاله،و حرّموا حرامه،و افعلوا ما أمرتم به،و انتهوا عما نهيتم عنه،و اعتبروا بأمثاله،و اعملوا بمحكمه،و آمنوا بمتشابهه،و قولوا آمنّا به كلّ من عند ربنا» (1).
و يرد على هذا الوجه:
1-أن ظاهر الرواية كون الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن غير الأبواب السبعة التي نزل منها،فلا يصح ان يجعل تفسيرا لها،كما يريده أصحاب هذا القول.
2-أن هذه الرواية معارضة برواية أبي كريب،بإسناده عن ابن مسعود.قال:
إن اللّه أنزل القرآن على خمسة أحرف:حلال،و حرام،و محكم،و متشابه،و أمثال (2).
ص: 183
3-ان الرواية مضطربة في مفادها،فإن الزجر و الحرام بمعنى واحد،فلا تكون الأبواب سبعة،على أن في القرآن أشياء اخرى لا تدخل في هذه الأبواب السبعة، كذكر المبدأ و المعاد،و القصص،و الاحتجاجات و المعارف،و غير ذلك.و إذا أراد هذا القائل أن يدرج جميع هذه الأشياء في المحكم و المتشابه كان عليه أن يدرج الأبواب المذكورة في الرواية فيهما أيضا،و يحصر القرآن في حرفين«المحكم و المتشابه»فإن جميع ما في القرآن لا يخلو من أحدهما.
4-ان اختلاف معاني القرآن على سبعة أحرف لا يناسب ما دلت عليه الأحاديث المتقدمة من التوسعة على الأمة،لأنها لا تتمكن من القراءة على حرف واحد.
5-ان في الروايات المتقدمة ما هو صريح في أن الحروف السبعة هي الحروف التي كانت تختلف فيها القرّاء،و هذه الرواية إذا تمت دلالتها لا تصلح قرينة على خلافها.
إن الحروف السبعة هي:الأمر،و الزجر،و الترغيب،و الترهيب،و الجدل، و القصص،و المثل.و استدل على ذلك برواية محمد بن بشار،بإسناده،عن أبي قلامة قال:
«بلغني أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال:انزل القرآن على سبعة أحرف:أمر، و زجر،و ترغيب،و ترهيب،و جدل،و قصص،و مثل» (1).
و جوابه يظهر مما قدمناه في جواب الوجه الثاني.
ص: 184
إن الأحرف السبعة هي اللغات الفصيحة من لغات العرب،و أنها متفرقة في القرآن فبعضه بلغة قريش،و بعضه بلغة هذيل،و بعضه بلغة هوازن،و بعضه بلغة اليمن،و بعضه بلغة كنانة،و بعضه بلغة تميم،و بعضه بلغة ثقيف.و نسب هذا القول الى جماعة،منهم:البيهقي،و الأبهري،و صاحب القاموس.
و يرده:
1-ان الروايات المتقدمة قد عينت المراد من الأحرف السبعة،فلا يمكن حملها على أمثال هذه المعاني التي لا تنطبق على موردها.
2-ان حمل الأحرف على اللغات ينافي ما روي عن عمر من قوله:نزل القرآن بلغة مضر (1).و انه أنكر على ابن مسعود قراءته«عتى حين»أي حتى حين،و كتب اليه أن القرآن لم ينزل بلغة هذيل،فأقرئ الناس بلغة قريش،و لا تقرئهم بلغة هذيل (2).
و ما روي عن عثمان أنه قال:«للرهط القرشيين الثلاثة،إذا اختلفتم أنتم و زيد بن ثابت في شىء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش،فإنما نزل بلسانهم» (3).
و ما روي:«من أن عمر و هشام بن حكيم اختلفا في قراءة سورة الفرقان،فقرأ هشام قراءة.فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هكذا أنزلت،و قرأ عمر قراءة غير تلك القراءة.
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هكذا أنزلت،ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:إن هذا القرآن أنزل
ص: 185
على سبعة أحرف» (1).
فإن عمر و هشام كان كلاهما من قريش،فلم يكن حينئذ ما يوجب اختلافهما في القراءة،و يضاف إلى جميع ذلك أن حمل الأحرف على اللغات قول بغير علم،و تحكّم من غير دليل 3-ان القائلين بهذا القول إن أرادوا أن القرآن اشتمل على لغات اخرى،كانت لغة قريش خالية منها،فهذا المعنى خلاف التسهيل على الأمة،الذي هو الحكمة في نزول القرآن على سبعة أحرف،على ما نطقت الروايات بذلك،بل هو خلاف الواقع، فإن لغة قريش هي المهيمنة على سائر لغات العرب،و قد جمعت من هذه اللغات ما هو أفصحها،و لذلك استحقت أن توزن بها العربية،و أن يرجع إليها في قواعدها.
و إن أرادوا أن القرآن مشتمل على لغات اخرى و لكنها تتحد مع لغة قريش،فلا وجه للحصر بلغات سبع،فإن في القرآن ما يقرب من خمسين لغة.فعن أبي بكر الواسطي:في القرآن من اللغات خمسون لغة،و هي لغات قريش،و هذيل،و كنانة، و خثعم،و الخزرج،و أشعر،و نمير... (2).
إن الأحرف السبعة هي سبع لغات من لغات مضر خاصة،و انها متفرقة في القرآن،و هي لغات قريش،و أسد،و كنانة،و هذيل،و تميم،و ضبّة،و قيس.
و يرد عليه جميع ما أوردناه على الوجه الرابع.
ص: 186
إن الأحرف السبعة هي وجوه الاختلاف في القراءات.قال بعضهم:إني تدبّرت وجوه الاختلاف في القراءة فوجدتها سبعا.
فمنها:ما تتغير حركته و لا يزول معناه و لا صورته مثل: هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ بضم أطهر و فتحه.
و منها:ما تتغير صورته و يتغير معناه بالإعراب مثل: رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا بصيغة الأمر و الماضي.
و منها:ما تبقى صورته و يتغير معناه باختلاف الحروف مثل:«كالعهن المنفوش و«كالصوف المنفوش».
و منها:ما تتغير صورته و معناه مثل:«و طلح منضود»و«طلع منضود».
و منها:بالتقديم و التأخير مثل:«و جاءت سكرة الموت بالحق»،و«جاءت سكرة الحق بالموت».
و منها:بالزيادة و النقصان:«تسع و تسعون نعجة أنثى».و«أما الغلام فكان كافرا و كان أبواه مؤمنين».«فإن اللّه من بعد إكراههن لهن غفور رحيم».
و يردّه:
1-ان ذلك قول لا دليل عليه،و لا سيما ان المخاطبين في تلك الروايات لم يكونوا يعرفون من ذلك شيئا.
2-ان من وجوه الاختلاف المذكورة ما يتغير فيه المعنى و ما لا يتغير،و من الواضح أن تغير المعنى و عدمه لا يوجب الانقسام إلى وجهين،لأن حال اللفظ
ص: 187
و القراءة لا تختلف بذلك،و نسبة الاختلاف إلى اللفظ في ذلك من قبيل وصف الشيء بحال متعلقه.و لذلك يكون الاختلاف في«طلح منضود.و كالعهن المنفوش»قسما واحدا.
3-ان من وجوه الاختلاف المذكور بقاء الصورة للّفظ،و عدم بقائها،و من الواضح أيضا أن ذلك لا يكون سببا للانقسام،لأن بقاء الصورة إنما هو في المكتوب لا في المقروء،و القرآن اسم للمقروء لا للمكتوب و المنزل من السماء إنما كان لفظا لا كتابة.و على هذا يكون الاختلاف في«و طلح.و ننشزها»وجها واحدا لا وجهين.
4-ان صريح الروايات المتقدمة أن القرآن نزل في ابتداء الأمر على حرف واحد.
و من البين أن المراد بهذا الحرف الواحد ليس هو أحد الاختلافات المذكورة،فكيف يمكن أن يراد بالسبعة مجموعها!.
5-ان كثيرا من القرآن موضع اتفاق بين القراء،و ليس موردا للاختلاف،فإذا أضفنا موضع الاتفاق إلى موارد الاختلاف بلغ ثمانية.و معنى هذا أن القرآن نزل على ثمانية أحرف.
6-أن مورد الروايات المتقدمة هو اختلاف القراء في الكلمات،و قد ذكر ذلك في قصة عمر و غيرها.و على ما تقدم فهذا الاختلاف حرف واحد من السبعة،و لا يحتاج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في رفع خصومتهم إلى الاعتذار بأن القرآن نزل على الأحرف السبعة،و هل يمكن أن يحمل نزول جبريل بحرف،ثم بحرفين،ثم بثلاثة.ثم بسبعة على هذه الاختلافات؟!و قد أنصف الجزائري في قوله:«و الأقوال في هذه المسألة كثيرة،و غالبها بعيد عن الصواب».و كأن القائلين بذلك ذهلوا عن مورد
ص: 188
حديث انزل القرآن على سبعة أحرف،فقالوا ما قالوا (1).
ان الأحرف السبعة هي وجوه الاختلاف في القراءة،و لكن بنحو آخر غير ما تقدم.و هذا القول اختاره الزرقاني،و حكاه عن أبي الفضل الرازي في اللوائح.
فقال:الكلام لا يخرج عن سبعة أحرف في الاختلاف الأول:اختلاف الأسماء من إفراد،و تثنية،و جمع،و تذكير،و تأنيث.الثاني:اختلاف تصريف الأفعال من ماض، و مضارع،و أمر.الثالث:اختلاف الوجوه في الأعراب.الرابع:الاختلاف بالنقص و الزيادة.الخامس:الاختلاف بالتقديم و التأخير.السادس:الاختلاف بالإبدال.
السابع:اختلاف اللغات«اللهجات»كالفتح،و الامالة،و الترقيق،و التفخيم، و الإظهار،و الإدغام،و نحو ذلك.
و يرد عليه:
ما أوردناه على الوجه السادس في الإشكال الأول و الرابع و الخامس منه،و يردّه أيضا:أن الاختلاف في الأسماء يشترك مع الاختلاف في الأفعال في كونهما اختلافا في الهيئة،فلا معنى لجعله قسما آخر مقابلا له.و لو راعينا الخصوصيات في هذا التقسيم لوجب علينا أن نعد كل واحد من الاختلاف في التثنية،و الجمع،و التذكير، و التأنيث،و الماضي،و المضارع،و الأمر قسما مستقلا.و يضاف إلى ذلك أن الاختلاف في الإدغام،و الإظهار،و الروم،و الإشمام،و التخفيف و التسهيل في اللفظ الواحد لا يخرجه عن كونه لفظا واحدا.و قد صرح بذلك ابن قتيبة على ما حكاه الزرقاني
ص: 189
عنه (1).
و الصحيح أن وجوه الاختلاف في القراءة ترجع إلى ستة أقسام:
الأول:الاختلاف في هيئة الكلمة دون مادتها،كالاختلاف في لفظة«باعد»بين صيغة الماضي و الأمر،و في كلمة«أمانتهم»بين الجمع و الافراد.
الثاني:الاختلاف في مادة الكلمة دون هيئتها،كالاختلاف في لفظة«ننشرها» بين الراء و الزاي.
الثالث:الاختلاف في المادة و الهيئة كالاختلاف في«العهن و الصوف».
الرابع:الاختلاف في هيئة الجملة بالإعراب،كالاختلاف«و أرجلكم»بين النصب و الجر.
الخامس:الاختلاف بالتقديم و التأخير،و قد تقدم مثال ذلك.
السادس:الاختلاف بالزيادة و النقيصة،و قد تقدم مثاله أيضا.
ان لفظ السبعة يراد منه الكثرة في الآحاد،كما يراد من لفظ السبعين و السبعمائة الكثرة في العشرات أو المئات.و نسب هذا القول إلى القاضي عيّاض و من تبعه.
و يرده:
ان هذا خلاف ظاهر الروايات،بل خلاف صريح بعضها.على أن هذا لا يعدّ قولا مستقلا عن الوجوه الاخرى،لأنه لم يعين معنى الحروف فيه،فلا بد و ان يراد من الحروف أحد المعاني المذكورة في الوجوه المتقدمة،و يرد عليه ما يرد من
ص: 190
الاشكال على تلك الوجوه.
و من تلك الوجوه ان الأحرف السبعة«موضوعة البحث»هي سبع قراءات.
و يردّه:
ان هذه القراءات السبع إن أريد بها السبع المشهورة،فقد أوضحنا للقارئ بطلان هذا الاحتمال في البحث عن تواتر القراءات-و قد تقدم ذلك-في باب«نظرة في القراءات».
و ان أريد بها قراءات سبع على إطلاقها،فمن الواضح أن عدد القراءات أكثر من ذلك بكثير،و لا يمكن أن يوجه ذلك بأن غاية ما ينتهي اليه اختلاف القراءات أكثر من ذلك بكثير،الواحدة هي السبع،لأنه إن أريد أن الغالب في كلمات القرآن أن تقرأ على سبعة وجوه فهذا باطل،لأن الكلمات التي تقرأ على سبعة وجوه قليلة جدا.و إن أريد أن ذلك موجود في بعض الكلمات و على سبيل الإيجاب الجزئي فمن الواضح أن في كلمات القرآن ما يقرأ بأكثر من ذلك فقد قرأت كلمة«و عبد الطاغوت»باثنين و عشرين وجها،و في كلمة«أفّ»أكثر من ثلاثين وجها.و يضاف إلى ما تقدم ان هذا القول لا ينطبق على مورد الروايات،و مثله أكثر الأقوال في المسألة.
إن الأحرف السبع يراد بها اللهجات المختلفة في لفظ واحد،اختاره الرافعي في كتابه (1).
ص: 191
و توضيح القول:أن لكل قوم من العرب لهجة خاصة في تأدية بعض الكلمات، و لذلك نرى العرب يختلفون في تأدية الكمة الواحدة حسب اختلاف لهجاتهم فالقاف في كلمة«يقول»مثلا يبدلها العراقي بالكاف الفارسية،و يبدلها الشامي بالهمزة،و قد أنزل القرآن على جميع هذه اللهجات للتوسعة على الأمة،لأن الالتزام بلهجة خاصة من هذه اللهجات فيه تضييق على القبائل الأخرى التي لم تألف هذه اللهجة،و التعبير بالسبع إنما هو رمز إلى ما ألفوه من معنى الكمال في هذه اللفظة،فلا ينافي ذلك كثرة اللهجات العربية،و زيادتها على السبع.
الردّ:
و هذا الوجه-على أنه أحسن الوجوه التي قيلت في هذا المقام-غير تام أيضا:
1-لأنه ينافي ما ورد عن عمر و عثمان من أن القرآن نزل بلغة قريش،و أن عمر منع ابن مسعود من قراءة«عتى حين».
2-و لأنه ينافي مخاصمة عمر مع هشام بن حكيم في القراءة،مع أن كليهما من قريش.
3-و لأنه ينافي مورد الروايات،بل و صراحة بعضها في أن الاختلاف كان في جوهر اللفظ،لا في كيفية أدائه،و ان هذا من الأحرف التي نزل بها القرآن.
4-و لأن حمل لفظ السبع-على ما ذكره خلاف-ظاهر الروايات،بل و خلاف صريح بعضها.
5-و لأن لازم هذا القول جواز القراءة فعلا باللهجات المتعددة،و هو خلاف السيرة القطعية من جميع المسلمين،و لا يمكن أن يدّعي نسخ جواز القراءة بغير اللهجة الواحدة المتعارفة،لأنه قول بغير دليل،و لا يمكن لقائله أن يستدل على
ص: 192
النسخ بالإجماع القطعي على ذلك،لأن مدرك الإجماع إنما هو عدم ثبوت نزول القرآن على اللهجات المختلفة،فإذا فرضنا ثبوت ذلك كما يقوله أصحاب هذا القول فكيف يمكن تحصيل الإجماع على ذلك؟مع أن إصرار النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على نزول القرآن على سبعة أحرف إنما كان للتوسعة على الأمة،فكيف يمكن أن يختص ذلك بزمان قليل بعد نزول القرآن،و كيف يصح أن يقوم على ذلك إجماع أو غيره من الأدلة؟! و من الواضح أن الامة-بعد ذلك-أكثر احتياجا إلى التوسعة،لأن المعتنقين للإسلام في ذلك الزمان قليلون.فيمكنهم أن يجتمعوا في قراءة القرآن على لهجة واحدة،و هذا بخلاف المسلمين في الأزمنة المتأخرة،و لنقتصر على ما ذكرناه من الأقوال فإن فيه كفاية عن ذكر البقية و التعرض لجوابها و ردّها.
و حاصل ما قدمناه:أن نزول القرآن على سبعة أحرف لا يرجع إلى معنى صحيح، فلا بدّ من طرح الروايات الدالة عليه،و لا سيما بعد أن دلّت أحاديث الصادقين عليهم السّلام على تكذيبها،و أن القرآن.إنما نزل على حرف واحد،و ان الاختلاف قد جاء من قبل الرواة.
ص: 193
ص: 194
ص: 195
-وقوع التحريف المعنوي في القرآن باتفاق المسلمين.
-التحريف الذي لم يقع في القرآن بلا خلاف.
-التحريف الذي وقع فيه الخلاف.
-تصريحات أعلام الإمامية بعدم التحريف كجزء من معتقداتهم.
-نسخ التلاوة مذهب مشهور بين علماء أهل السنة.
-كلمات مشاهير الصحابة في وقوع التحريف.
-القول بنسخ التلاوة هو نفس القول بالتحريف.
-الأدلة الخمسة على نفي التحريف.
-شبهات القائلين بالتحريف.
ص: 196
يحسن بنا-قبل الخوض في صميم الموضوع-أن نقدم أمام البحث أمورا،لها صلة بالمقصود،لا يستغنى عنها في تحقيق الحال و توضيحها.
يطلق لفظ التحريف و يراد منه عدة معان على سبيل الاشتراك،فبعض منها واقع في القرآن باتفاق من المسلمين،و بعض منها لم يقع فيه باتفاق منهم أيضا،و بعض منها وقع الخلاف بينهم.و إليك تفصيل ذلك (1):
الأول:«نقل الشيء عن موضعه و تحويله إلى غيره»و منه قوله تعالى:
مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ «4:46».
و لا خلاف بين المسلمين في وقوع مثل هذا التحريف في كتاب اللّه فإن كل من فسّر القرآن بغير حقيقته،و حمله على غير معناه فقد حرّفه.و ترى كثيرا من أهل
ص: 197
البدع،و المذاهب الفاسدة قد حرّفوا القرآن بتأويلهم آياته على آرائهم و أهوائهم.
و قد ورد المنع عن التحريف بهذا المعنى،و ذم فاعله في عدة من الروايات.منها:
رواية الكافي بإسناده عن الباقر عليه السّلام أنه كتب في رسالته إلى سعد الخير:
«و كان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه و حرّفوا حدوده،فهم يروونه و لا يرعونه،و الجهال يعجبهم حفظهم للرواية، و العلماء يحزنهم تركهم للرعاية...» (1).
الثاني:«النقص أو الزيادة في الحروف أو في الحركات،مع حفظ القرآن و عدم ضياعه،و إن لم يكن متميزا في الخارج عن غيره».
و التحريف بهذا المعنى واقع في القرآن قطعا،فقد أثبتنا لك فيما تقدم عدم تواتر القراءات،و معنى هذا أن القرآن المنزل إنما هو مطابق لإحدى القراءات،و أما غيرها فهو إما زيادة في القرآن و إما نقيصة فيه.
الثالث:«النقص أو الزيادة بكلمة أو كلمتين،مع التحفظ على نفس القرآن المنزل».
و التحريف بهذا المعنى قد وقع في صدر الإسلام،و في زمان الصحابة قطعا،و يدلنا على ذلك إجماع المسلمين على أن عثمان أحرق جملة من المصاحف و أمر ولاته بحرق كل مصحف غير ما جمعه،و هذا يدل على أن هذه المصاحف كانت مخالفة لما جمعه، و إلا لم يكن هناك سبب موجب لإحراقها،و قد ضبط جماعة من العلماء موارد الاختلاف بين المصاحف،منهم عبد اللّه بن أبي داود السجستاني،و قد سمى كتابه هذا بكتاب المصاحف.و على ذلك فالتحريف واقع لا محالة إما من عثمان أو من كتّاب6.
ص: 198
تلك المصاحف،و لكنا سنين بعد هذا إن شاء اللّه تعالى أن ما جمعه عثمان كان هو القرآن المعروف بين المسلمين،الذي تداولوه عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يدا بيد.فالتحريف بالزيادة و النقيصة إنما وقع في تلك المصاحف التي انقطعت بعد عهد عثمان،و أما القرآن الموجود فليس فيه زيادة و لا نقيصة.
و جملة القول:إن من يقول بعدم تواتر تلك المصاحف-كما هو الصحيح- فالتحريف بهذا المعنى و إن كان قد وقع عنده في الصدر الأول إلاّ أنه قد انقطع في زمان عثمان،و انحصر المصحف بما ثبت تواتره عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أما القائل بتواتر المصاحف بأجمعها،فلا بد له من الالتزام بوقوع التحريف بالمعنى المتنازع فيه في القرآن المنزل،و بضياع شىء منه.و قد مرّ عليك تصريح الطبري،و جماعة آخرين بإلغاء عثمان للحروف الستة التي نزل بها القرآن،و اقتصاره على حرف واحد (1).
الرابع:«التحريف بالزيادة و النقيصة في الآية و السورة مع التحفظ على القرآن المنزل،و التسالم على قراءة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إياها».
و التحريف بهذا المعنى أيضا واقع في القرآن قطعا.فالبسملة-مثلا-مما تسالم المسلمون على أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قرأها قبل كل سورةغير سورة التوبة و قد وقع الخلاف في كونها من القرآن بين علماء السنة،فاختار جمع منهم أنها ليست من القرآن،بل ذهبت المالكية إلى كراهة الإتيان بها قبل قراءة الفاتحة في الصلاة المفروضة،إلا إذا نوى به المصلي الخروج من الخلاف،و ذهب جماعة اخرى إلى أن البسملة من القرآن.
و أما الشيعة فهم متسالمون على جزئية البسملة من كل سورة غير سورة التوبة، و اختار هذا القول جماعة من علماء السنة أيضا-و ستعرف تفصيل ذلك عند تفسيرناب.
ص: 199
سورة الفاتحة-و إذن فالقرآن المنزل من السماء قد وقع فيه التحريف يقينا،بالزيادة أو بالنقيصة.
الخامس:«التحريف بالزيادة بمعنى أن بعض المصحف الذي بأيدينا ليس من الكلام المنزل».
و التحريف بهذا المعنى باطل بإجماع المسلمين،بل هو مما علم بطلانه بالضرورة.
السادس:«التحريف بالنقيصة،بمعنى أن المصحف الذي بأيدينا لا يشتمل على جميع القرآن الذي نزل من السماء،فقد ضاع بعضه على الناس».
و التحريف بهذا المعنى هو الذي وقع فيه الخلاف فأثبته قوم و نفاه آخرون.
المعروف بين المسلمين عدم وقوع التحريف في القرآن،و أن الموجود بأيدينا هو جميع القرآن المنزل على النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و قد صرح بذلك كثير من الأعلام.منهم رئيس المحدثين الصدوق محمد بن بابويه،و قد عدّ القول بعدم التحريف من معتقدات الإمامية.و منهم شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي،و صرح بذلك في أول تفسيره«التبيان»و نقل القول بذلك أيضا عن شيخه علم الهدى السيد المرتضى،و استدلاله على ذلك بأتم دليل.و منهم المفسر الشهير الطبرسي في مقدمة تفسيره«مجمع البيان»،و منهم شيخ الفقهاء الشيخ جعفر في بحث القرآن من كتابه «كشف الغطاء»و ادّعى الإجماع على ذلك.و منهم العلامة الجليل الشهشهاني في بحث القرآن من كتابه«العروة الوثقى»و نسب القول بعدم التحريف إلى جمهور المجتهدين.و منهم المحدث الشهير المولى محسن القاساني في كتابيه (1).و منهم بطل
ص: 200
العلم المجاهد الشيخ محمد جواد البلاغي في مقدمة تفسيره«آلاء الرحمن».
و قد نسب جماعة القول بعدم التحريف إلى كثير من الأعاظم.منهم شيخ المشايخ المفيد،و المتبحر الجامع الشيخ البهائي،و المحقق القاضي نور اللّه،و أضرابهم.و ممن يظهر منه القول بعدم التحريف:كل من كتب في الإمامة من علماء الشيعة و ذكر فيه المثالب،و لم يتعرض للتحريف،فلو كان هؤلاء قائلين بالتحريف لكان ذلك أولى بالذكر من إحراق المصحف و غيره.
و جملة القول:أن المشهور بين علماء الشيعة و محققيهم،بل المتسالم عليه بينهم هو القول بعدم التحريف.نعم ذهب جماعة من المحدثين من الشيعة،و جمع من علماء أهل السنة إلى وقوع التحريف.قال الرافعي:فذهب جماعة من أهل الكلام ممن لا صناعة لهم إلا الظن و التأويل،و استخراج الأساليب الجدلية من كل حكم و كل قول إلى جواز أن يكون قد سقط عنهم من القرآن شىء،حملا على ما وصفوا من كيفية جمعه (1)و قد نسب الطبرسي في«مجمع البيان»هذا القول إلى الحشوية من العامة.
أقول:سيظهر لك-بعيد هذا-ان القول بنسخ التلاوة هو بعينه القول بالتحريف، و عليه فاشتهار القول بوقوع النسخ في التلاوة-عند علماء اهل السنة-يستلزم اشتهار القول بالتحريف.
ذكر أكثر علماء أهل السنة:أن بعض القرآن قد نسخت تلاوته،و حملوا على ذلك ما ورد في الروايات أنه كان قرآنا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيحسن بنا أن نذكر جملة من هذه الروايات،ليتبين أن الالتزام بصحة هذه الروايات التزام بوقوع التحريف في القرآن:
ص: 201
1-روى ابن عباس أن عمر قال فيما قال،و هو على المنبر:
«إن اللّه بعث محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالحق،و أنزل عليه الكتاب،فكان مما أنزل اللّه آية الرجم،فقرأناها،و عقلناها،و و عيناها.فلذا رجم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و رجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل:و اللّه ما نجد آية الرجم في كتاب اللّه، فيضلوا بترك فريضة أنزلها اللّه،و الرجم في كتاب اللّه حق على من زنى إذا أحصن من الرجال...ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ،من كتاب اللّه: أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم ،أو: إنّ كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم ... (1).
و ذكر السيوطي:أخرج ابن اشته في المصاحف عن الليث بن سعد.قال:«أول من جمع القرآن أبو بكر،و كتبه زيد...و إن عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها،لأنه كان وحده» (2).
أقول:و آية الرجم التي ادعى عمر أنها من القرآن،و لم تقبل منه رويت بوجوه:
منها:«إذا زنى الشيخ و الشيخة فارجموهما البتة،نكالا من اللّه،و اللّه عزيز حكيم» و منها:«الشيخ و الشيخة فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة»و منها:«إن الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة»و كيف كان فليس في القرآن الموجود ما يستفاد منه حكم الرجم.فلو صحت الرواية فقد سقطت آية من القرآن لا محالة.
2-و أخرج الطبراني بسند موثق عن عمر بن الخطاب مرفوعا:1.
ص: 202
«القرآن ألف ألف و سبعة و عشرون ألف حرف» (1).بينما القرآن الذي بين أيدنا لا يبلغ ثلث هذا المقدار،و عليه فقد سقط من القرآن أكثر من ثلثيه.
3-و روى ابن عباس عن عمر أنه قال:
«إن اللّه عز و جل بعث محمدا بالحق،و أنزل معه الكتاب،فكان مما أنزل اليه آية الرجم،فرجم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و رجمنا بعده،ثم قال:كنا نقرأ: و لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم ،أو: إن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم (2).
4-و روى نافع أن ابن عمر قال:
«ليقولن أحدكم قد أخذت القرآن كله و ما يدريه ما كله؟قد ذهب منه قرآن كثير،و لكن ليقل قد أخذت منه ما ظهر» (3).
5-و روى عروة بن الزبير عن عائشة قالت:
«كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مائتي آية،فلما كتب عثمان المصاحف لم نقدر منها إلا ما هو الآن» (4).
6-و روت حميدة بنت أبي يونس.قالت:
«قرأ عليّ أبي-و هو ابن ثمانين سنة-في مصحف عائشة: إِنَّ اللّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً ،و على الذين يصلون الصفوف الأوّل.قالت:قبل أن يغير عثمان المصاحف» (5).1.
ص: 203
7-و روى أبو حرب ابن الأسود عن أبيه.قال:
«بعث أبو موسى الأشعري إلى قراء أهل البصرة،فدخل عليه ثلاثمائة رجل.قد قرءوا القرآن.فقال:أنتم خيار أهل البصرة و قراؤهم،فاتلوه و لا يطولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم كما قست قلوب العرب من كان قبلكم،و إنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول و الشدّة ببراءة فانسيتها،غير أني قد حفظت منها:لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا و لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب.و كنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات فانسيتها،غير أني حفظت منها:يا أيّها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون،فتكتب شهادة في أعناقكم،فتسألون عنها يوم القيامة» (1).
8-و روى زرّ.قال:قال أبيّ بن كعب يا زرّ:
«كأيّن تقرأ سورة الأحزاب قلت:ثلاث و سبعين آية.قال:إن كانت لتضاهي سورة البقرة،أو هي أطول من سورة البقرة...» (2).
9-و روى ابن أبي داود و ابن الانباري عن ابن شهاب.قال:
«بلغنا أنه كان أنزل قرآن كثير،فقتل علماؤه يوم اليمامة،الذين كانوا قد وعوه، و لم يعلم بعدهم و لم يكتب...» (3).
10-و روى عمرة عن عائشة أنها قالت:
«كان فيما أنزل من القرآن:عشر رضعات معلومات يحرّمن ثم نسخن ب:خمس2.
ص: 204
معلومات،فتوفي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هن فيما يقرأ من القرآن» (1).
11-و روى المسور بن مخرمة.قال:
«قال عمر لعبد الرحمن بن عوف:أ لم تجد فيما انزل علينا.أن جاهدوا كما جاهدتم أوّل مرّة.فإنا لا نجدها.قال:أسقطت فيما أسقط من القرآن» (2).
12-و روى أبو سفيان الكلاعي:أن مسلمة بن مخلد الأنصاري قال لهم ذات يوم:
أخبروني بآيتين في القرآن لم يكتبا في المصحف،فلم يخبروه،و عندهم أبو الكنود سعد بن مالك،فقال ابن مسلمة: إنّ الذين آمنوا و هاجروا و جاهدوا في سبيل اللّه بأموالهم و أنفسهم ألا أبشروا أنتم المفلحون.و الذين آووهم و نصروهم و جادلوا عنهم القوم الذين غضب اللّه عليهم أولئك لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرّة أعين جزاء بما كانوا يعملون (3).
و قد نقل بطرق عديدة عن ثبوت سورتي الخلع و الحفد في مصحف ابن عباس و أبيّ بن كعب:(اللهمّ إنا نستعينك و نستغفرك و نثني عليك و لا نكفرك و نخلع و نترك من يفجرك،اللهمّ إيّاك نعبد و لك نصلّي و نسجد و إليك نسعى و نحفد،نرجو رحمتك و نخشى عذابك إنّ عذابك بالكافرين ملحق).
و غير ذلك ممّا لا يهمنا استقصاؤه (4).
و غير خفي أن القول بنسخ التلاوة هو بعينه القول بالتحريف و الاسقاط.3.
ص: 205
و بيان ذلك:أن نسخ التلاوة هذا إما أن يكون قد وقع من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إما أن يكون ممن تصدّى للزعامة من بعده،فإن أراد القائلون بالنسخ وقوعه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فهو أمر يحتاج إلى الإثبات.و قد اتفق العلماء أجمع على عدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد،و قد صرّح بذلك جماعة في كتب الأصول و غيرها (1)بل قطع الشافعي و أكثر أصحابه،و أكثر أهل الظاهر بامتناع نسخ الكتاب بالسّنة المتواترة،و إليه ذهب أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه،بل إن جماعة ممن قال بإمكان نسخ الكتاب بالسنة المتواترة منع وقوعه (2).و على ذلك فكيف تصحّ نسبة النسخ إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأخبار هؤلاء الرواة؟مع أن نسبة النسخ إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تنافي جملة من الروايات التي تضمنت أن الاسقاط قد وقع بعده.و إن أرادوا أن النسخ قد وقع من الذين تصدّوا للزعامة بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فهو عين القول بالتحريف.و على ذلك.
فيمكن أن يدّعى أن القول بالتحريف هو مذهب أكثر علماء أهل السنة،لأنهم يقولون بجواز نسخ التلاوة.سواء أنسخ الحكم أم لم ينسخ،بل تردّد الاصوليون منهم في جواز تلاوة الجنب ما نسخت تلاوته،و في جواز أن يمسّه المحدث.و اختار بعضهم عدم الجواز.نعم ذهبت طائفة من المعتزلة إلى عدم جواز نسخ التلاوة (3).
و من العجيب أن جماعة من علماء أهل السنة أنكروا نسبة القول بالتحريف إلى أحد من علمائهم،حتى أن الآلوسي كذّب الطبرسي في نسبة القول بالتحريف إلى الحشوية،و قال:«إن أحدا من علماء أهل السنة لم يذهب إلى ذلك».
و اعجب من ذلك أنه ذكر أن قول الطبرسي بعدم التحريف نشأ من ظهور فساد3.
ص: 206
قول أصحابه بالتحريف،فالتجأ هو الى إنكاره (1).
مع انك قد عرفت أن القول بعدم التحريف هو المشهور بل المتسالم عليه بين علماء الشيعة و محققيهم،حتى أن الطبرسي قد نقل كلام السيد المرتضى بطوله، و استدلاله على بطلان القول بالتحريف بأتم بيان و أقوى حجة (2).
و الحق.بعد هذا كله ان التحريف«بالمعنى الذي وقع النزاع فيه»غير واقع في القرآن أصلا بالأدلة التالية:
الدليل الأول-قوله تعالى:
إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ «15:9».
فإن في هذه الآية دلالة على حفظ القرآن من التحريف،و أن الأيدي الجائرة لن تتمكن من التلاعب فيه.
و القائلون بالتحريف قد أوّلوا هذه الآية الشريفة،و ذكروا في تأويلها وجوها:
الأول:«أن الذكر هو الرسول»فقد ورد استعمال الذكر فيه في قوله تعالى:
قَدْ أَنْزَلَ اللّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً 65:10. رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللّهِ :11).
و هذا الوجه بيّن الفساد:لأن المراد بالذكر هو القرآن في كلتا الآيتين بقرينة التعبير«بالتنزيل و الإنزال»و لو كان المراد هو الرسول لكان المناسب أن يأتي بلفظ «الإرسال»أو بما يقاربه في المعنى،على ان هذا الاحتمال إذا تم في الآية الثانية فلا يتم
ص: 207
في آية الحفظ،فإنها مسبوقة بقوله تعالى:
وَ قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ «15:6».
و لا شبهة في أن المراد بالذكر في هذه الآية هو القرآن،فتكون قرينة على أن المراد من الذكر في آية الحفظ هو القرآن أيضا.
الثاني:«أن يراد من حفظ القرآن صيانته عن القدح فيه،و عن إبطال ما يتضمنه من المعاني العالية،و التعاليم الجليلة».
و هذا الاحتمال أبين فسادا من الأول:لأن صيانته عن القدح إن أريد بها حفظه من قدح الكفار و المعاندين فلا ريب في بطلان ذلك،لأن قدح هؤلاء في القرآن فوق حد الإحصاء.و ان أريد أن القرآن رصين المعاني،قوي الاستدلال مستقيم الطريقة، و أنه لهذه الجهات و نحوها أرفع مقاما من أن يصل اليه قدح القادحين،و ريب المرتابين فهو صحيح و لكن هذا ليس من الحفظ بعد التنزيل كما تقوله الآية،لأن القرآن بما له من الميزات حافظ لنفسه،و ليس محتاجا إلى حافظ آخر،و هو غير مفاد الآية الكريمة،لأنها تضمنت حفظه بعد التنزيل.
الثالث:«أن الآية دلت على حفظ القرآن في الجملة،و لم تدل على حفظ كل فرد من أفراد القرآن،فإن هذا غير مراد من الآية بالضرورة و إذا كان المراد حفظه في الجملة،كفى في ذلك حفظه عند الإمام الغائب عليه السّلام.
و هذا الاحتمال أوهن الاحتمالات:لأن حفظ القرآن يجب أن يكون عند من انزل إليهم و هم عامة البشر،أما حفظه عند الإمام عليه السّلام فهو نظير حفظه في اللوح المحفوظ، أو عند ملك من الملائكة،و هو معنى تافه يشبه قول القائل:إني أرسلت إليك بهدية و أنا حافظ لها عندي،أو عند بعض خاصتي.
ص: 208
و من الغريب قول هذا القائل إن المراد في الآية حفظ القرآن في الجملة،لا حفظ كل فرد من أفراده،فكأنه توهم أن المراد بالذكر هو القرآن المكتوب،أو الملفوظ لتكون له أفراد كثيرة،و من الواضح أن المراد ليس ذلك،لأن القرآن المكتوب أو الملفوظ لا دوام له خارجا،فلا يمكن أن يراد من آية الحفظ و إنما المراد بالذكر هو المحكي بهذا القرآن الملفوظ أو المكتوب،و هو المنزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المراد بحفظه صيانته عن التلاعب،و عن الضياع،فيمكن للبشر عامة أن يصلوا اليه،و هو نظير قولنا القصيدة الفلانية محفوظة،فإنا نريد من حفظها صيانتها،و عدم ضياعها بحيث يمكن الحصول عليها.
نعم هنا شبهة اخرى ترد على الاستدلال بالآية الكريمة على عدم التحريف.
و حاصل هذه الشبهة أن مدّعي التحريف في القرآن يحتمل وجود التحريف في هذه الآية نفسها،لأنها بعض آيات القرآن،فلا يكون الاستدلال بها صحيحا حتى يثبت عدم التحريف،فلو أردنا أن نثبت عدم التحريف بها كان ذلك من الدور الباطل.
و هذه شبهة تدل على عزل العترة الطاهرة عن الخلافة الإلهية،و لم يعتمد على أقوالهم و أفعالهم،فإنه لا يسعه دفع هذه الشبهة،و أما من يرى أنهم حجج اللّه على خلقه،و أنهم قرناء الكتاب في وجوب التمسك فلا ترد عليه هذه الشبهة،لأن استدلال العترة بالكتاب،و تقرير أصحابهم عليه يكشف عن حجية الكتاب الموجود،و إن قيل بتحريفه،غاية الأمر أن حجية الكتاب على القول بالتحريف تكون متوقفة على إمضائهم.
الدليل الثاني قوله تعالى:
وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ 41:41. لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ :42).
ص: 209
فقد دلت هذه الآية الكريمة على نفي الباطل بجميع أقسامه عن الكتاب فإن النفي إذا ورد على الطبيعة أفاد العموم،و لا شبهة في أن التحريف من أفراد الباطل،فيجب أن لا يتطرق إلى الكتاب العزيز.
و قد أجيب عن هذا الدليل:
بأن المراد من الآية صيانة الكتاب من التناقض في أحكامه،و نفي الكذب عن أخباره،و استشهد لذلك برواية علي بن إبراهيم القمي،في تفسيره عن الإمام الباقر عليه السّلام قال:«لا يأتيه الباطل من قبل التوراة،و لا من قبل الإنجيل،و الزبور،و لا من خلفه أي لا يأتيه من بعده كتاب يبطله»و رواية مجمع البيان عن الصادقين عليهم السّلام أنه:«ليس في اخباره عما مضى باطل،و لا في اخباره عما يكون في المستقبل باطل».
و يردّ هذا الجواب:
أن الرواية لا تدل على حصر الباطل في ذلك،لتكون منافية لدلالة الآية على العموم،و خصوصا إذا لاحظنا الروايات التي دلت على أن معاني القرآن لا تختص بموارد خاصة،و قد تقدم بعض هذه الروايات في مبحث«فضل القرآن»فالآية دالة على تنزيه القرآن في جميع الأعصار عن الباطل بجميع أقسامه،و التحريف من أظهر أفراد الباطل فيجب أن يكون مصونا عنه،و يشهد لدخول التحريف في الباطل، الذي نفته الآية عن الكتاب أن الآية و صفت الكتاب بالعزة،و عزّة الشيء تقتضي المحافظة عليه من التغيير و الضياع،أما إرادة خصوص التناقض و الكذب من لفظ الباطل في الآية الكريمة،فلا يناسبها توصيف الكتاب بالعزة.
الدليل الثالث:أخبار الثقلين اللذين خلّفهما النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في أمّته و أخبر أنهما لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض،و أمر الأمة بالتمسك بهما،و هما الكتاب و العترة.و هذه
ص: 210
الأخبار متظافرة من طرق الفريقين (1)و الاستدلال بها على عدم التحريف في الكتاب يكون من ناحيتين:
الناحية الأولى:إن القول بالتحريف يستلزم عدم وجوب التمسك بالكتاب المنزل لضياعه على الأمة بسبب وقوع التحريف،و لكن وجوب التمسك بالكتاب باق إلى يوم القيامة،لصريح أخبار الثقلين،فيكون القول بالتحريف باطلا جزما.
و توضيح ذلك:
أن هذه الروايات دلت على اقتران العترة بالكتاب،و على أنهما باقيان في الناس إلى يوم القيامة،فلا بد من وجود شخص يكون قرينا للكتاب و لا بد من وجود الكتاب ليكون قرينا للعترة،حتى يردا على النبي الحوض،و ليكون التمسّك بهما حافظا للأمة عن الضلال،كما يقول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في هذا الحديث.و من الضروري أن التمسك بالعترة إنما يكون بموالاتهم،و اتباع أوامرهم و نواهيهم و السير على هداهم، و هذا شىء لا يتوقف على الاتصال بالإمام،و المخاطبة معه شفاها،فإن الوصول إلى الإمام و المخاطبة معه لا يتيسر لجميع المكلفين في زمان الحضور،فضلا عن أزمنة الغيبة،و اشتراط إمكان الوصول إلى الإمام عليه السّلام لبعض الناس دعوى بلا برهان و لا سبب يوجب ذلك،فالشيعة في أيام الغيبة متمسكون بإمامهم يوالونه و يتبعون أوامره،و من هذه الأوامر الرجوع إلى رواة أحاديثهم في الحوادث الواقعة،أما التمسك بالقرآن فهو أمر لا يمكن إلا بالوصول اليه،فلا بد من كونه موجودا بين الأمة،ليمكنها أن تتمسك به،لئلا تقع في الضلال،و هذا البيان يرشدنا إلى فساد المناقشة بأن القرآن محفوظ و موجود عند الإمام الغائب،فإن وجوده الواقعي لا يكفي لتمسك الأمة به.ب.
ص: 211
و قد أشكل على هذا الدليل:
بأن أخبار الثقلين إنما تدل على نفي التحريف في آيات الأحكام من القرآن،لأنها هي التي أمر الناس بالتمسك بها،فلا تنفي وقوع التحريف في الآيات الأخرى منه.
و جوابه:
إن القرآن بجميع آياته مما أنزله اللّه لهداية البشر،و إرشادهم إلى كمالهم الممكن من جميع الجهات،و لا فرق في ذلك بين آيات الأحكام و غيرها،و قد قدمنا في بيان فضل القرآن أن ظاهر القرآن قصة و باطنه عظة،على أن عمدة القائلين بالتحريف يدّعون وقوع التحريف في الآيات التي ترجع إلى الولاية و ما يشبهها و من البيّن أنها لو ثبت كونها من القرآن،لوجب التمسك بها على الأمة.
الناحية الثانية:أن القول بالتحريف يقتضي سقوط الكتاب عن الحجية،فلا يتمسك بظواهره،فلا بد للقائلين بالتحريف من الرجوع إلى إمضاء الأئمة الطاهرين لهذا الكتاب الموجود بأيدينا،و إقرار الناس على الرجوع اليه بعد ثبوت تحريفه، و معنى هذا:أن حجية الكتاب الموجود متوقفة على إمضاء الأئمة للاستدلال به، و أولى الحجتين المستقلتين اللتين يجب التمسك بهما،بل هو الثقل الأكبر،فلا تكون حجيته فرعا على حجية الثقل الأصغر،و الوجه في سقوط الكتاب عن الحجية- على القول بالتحريف-هو احتمال اقتران ظواهره بما يكون قرينة على خلافها،أما الاعتماد في ذلك على أصالة عدم القرينة فهو ساقط،فإن الدليل على هذا الأصل هو بناء العقلاء على اتباع الظهور،و عدم اعتنائهم باحتمال القرينة على خلافه،و قد أوضحنا في مباحث الأصول أن القدر الثابت من البناء العقلائي،هو عدم اعتناء العقلاء باحتمال وجود القرينة المنفصلة،و لا باحتمال القرينة المتصلة إذا كان سببه احتمال غفلة المتكلم عن البيان،أو غفلة السامع عن الاستفادة،أما احتمال وجود
ص: 212
القرينة المتصلة من غير هذين السببين،فإن العقلاء يتوقفون عن اتّباع الظهور معه، و مثال ذلك:ما إذا ورد على إنسان كتاب ممن يجب عليه طاعته يأمره فيه بشراء دار،و وجد بعض الكتاب تالفا،و احتمل أن يكون في هذا البعض التالف بيان لخصوصيات في الدار التي أمر بشرائها من حيث السعة و الضيق،أو من حيث القيمة أو المحل،فان العقلاء لا يتمسكون بإطلاق الكلام الموجود،اعتمادا على أصالة عدم القرينة المتصلة و لا يشترون أية دار امتثالا لأمر هذا الآمر،و لا يعدّون من يعمل مثل ذلك ممتثلا لأمر سيده.
و لعل القارئ يذهب به و همه بعيدا،فيقول:إن هذا التقريب يهدم أساس الفقه، و استنباط الأحكام الشرعية،لأن العمدة في أدلتها هي الأخبار المروية عن المعصومين عليهم السّلام و من المحتمل أن تكون كلماتهم مقرونة بقرائن متصلة،و لم تنقل إلينا.
و لو تأمّل قليلا لم يستقر في ذهنه هذا التوهم،فإن المتبع في مقام الإخبار،هو ظهور كلام الراوي في عدم وجود القرينة المتصلة،فإن اللازم عليه البيان لو كان كلام المعصوم متصلا بقرينة،و احتمال غفلته عنها مدفوع بالأصل.
نعم إن القول بالتحريف يلزمه عدم جواز التمسك بظواهر القرآن،و لا يحتاج في إثبات هذه النتيجة إلى دعوى العلم الإجمالي باختلال الظواهر في بعض الآيات، حتى يجاب عنه بأن وقوع التحريف في القرآن لا يلزمه العلم الإجمالي المذكور،و بأن هذا العلم الإجمالي لا ينجز،لأن بعض أطرافه ليس من آيات الأحكام،فلا يكون له أثر في العمل،و العلم الإجمالي إنما ينجز إذا كان له أثر عملي في كل طرف من أطرافه.
و قد يدّعي القائل بالتحريف:أن إرشاد الأئمة المعصومين عليهم السّلام إلى الاستدلال بظواهر الكتاب،و تقرير أصحابهم عليه قد أثبت الحجية للظواهر،و إن سقطت قبل
ص: 213
ذلك بسبب التحريف.
و لكن هذه الدعوى فاسدة،فإن هذا الإرشاد من الأئمة المعصومين عليهم السّلام،و هذا التقرير منهم لأصحابهم على التمسك بظواهر القرآن،إنما هو من جهة كون القرآن في نفسه حجة مستقلة،لأنهم يريدون إثبات الحجية له بذلك ابتداء.
الدليل الرابع:انه قد أمر الأئمة من أهل البيت عليهم السّلام بقراءة سورة تامة بعد الفاتحة في الركعتين الأوليين من الفريضة،و حكموا بجواز تقسيم سورة تامة أو أكثر في صلاة الآيات،على تفصيل مذكور في موضعه.
و من البيّن أن هذه الأحكام إنما ثبتت في أصل الشريعة بتشريع الصلاة و ليس للتقية فيها أثر،و على ذلك فاللازم على القائلين بالتحريف أن لا يأتوا بما يحتمل فيه التحريف من السور،لأن الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية.و قد يدعي القائل بالتحريف أنه غير متمكن من إحراز السورة التامة،فلا تجب عليه،لأن الأحكام إنما تتوجه إلى المتمكنين،و هذه الدعوى إنما تكون مسلمة إذا احتمل وقوع التحريف في جميع السور.
أما إذا كان هناك سورة لا يحتمل فيها ذلك كسورة التوحيد،فاللازم عليه أن لا يقرأ غيرها،و لا يمكن للخصم أن يجعل ترخيص الأئمة عليهم السّلام للمصلي بقراءة آية سورة شاء دليلا على الاكتفاء بما يختاره من السور،و إن لم يجز الاكتفاء بها قبل هذا الترخيص بسبب التحريف،فإن هذا الترخيص من الأئمة عليهم السّلام بنفسه دليل على عدم وقوع التحريف في القرآن و إلا لكان مستلزما لتفويت الصلاة الواجبة على المكلف بدون سبب موجب،فإن من البيّن أن الإلزام بقراءة السور التي يقع فيها تحريف
ص: 214
ليس فيه مخالفة للتقية،و نرى أنهم عليهم السّلام أمرونا بقراءة سورة«القدر و التوحيد»في كل صلاة استحبابا،فأي مانع من الإلزام بهما،أو بغيرهما مما لا يحتمل وقوع التحريف فيه.
اللهم إلا أن يدعي نسخ وجوب قراءة السورة التامة إلى وجوب قراءة سورة تامة من القرآن الموجود،و لا أظن القائل بالتحريف يلتزم بذلك،لأن النسخ لم يقع بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قطعا،و ان كان في إمكانه و امتناعه كلام بين العلماء،و هذا خارج عما نحن بصدده.
و جملة القول انه لا ريب في أمر أهل البيت عليهم السّلام بقراءة سورة من القرآن الذي بين أيدينا في الصلاة،و هذا الحكم الثابت من دون ريب و لا شائبة تقية إما أن يكون هو نفس الحكم الثابت في زمان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إما أن يكون غيره،و هذا الأخير باطل لأنه من النسخ الذي لا ريب في عدم وقوعه بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إن كان أمرا ممكنا في نفسه،فلا بد و أن يكون ذلك هو الحكم الثابت على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و معنى ذلك عدم التحريف.و هذا الاستدلال يجري في كل حكم شرعي،رتبه أهل البيت عليهم السّلام على قراءة سورة كاملة،أو آية تامة.
الدليل الخامس:أن القائل بالتحريف إما أن يدعي وقوعه من الشيخين،بعد وفاة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إما من عثمان بعد انتهاء الأمر اليه،و إما من شخص آخر بعد انتهاء الدور الأول من الخلافة،و جميع هذه الدعاوى باطلة.أما دعوى وقوع التحريف من أبي بكر و عمر،فيبطلها انهما في هذا التحريف إما أن يكونا غير عامدين،و إنما صدر عنهما من جهة عدم وصول القرآن إليهما بتمامه،لأنه لم يكن مجموعا قبل ذلك،و إما
ص: 215
أن يكونا متعمدين في هذا التحريف،و إذا كانا عامدين فإما أن يكون التحريف الذي وقع منهما في آيات تمس بزعامتهما و إما أن يكون في آيات ليس لها تعلق بذلك، فالاحتمالات المتصورة ثلاثة:
أما احتمال عدم وصول القرآن إليهما بتمامه فهو ساقط قطعا،فإن اهتمام النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأمر القرآن بحفظه،و قراءته،و ترتيل آياته،و اهتمام الصحابة بذلك في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بعد وفاته يورث القطع بكون القرآن محفوظا عندهم،جمعا أو متفرقا،حفظا في الصدور،أو تدوينا في القراطيس،و قد اهتموا بحفظ أشعار الجاهلية و خطبها،فكيف لا يهتمون بأمر الكتاب العزيز،الذي عرضوا أنفسهم للقتل في دعوته،و إعلان أحكامه،و هجروا في سبيله أوطانهم،و بذلوا أموالهم، و أعرضوا عن نسائهم و أطفالهم،و وقفوا المواقف التي بيضوا بها وجه التاريخ،و هل يحتمل عاقل مع ذلك كله عدم اعتنائهم بالقرآن؟حتى يضيع بين الناس،و حتى يحتاج في إثباته إلى شهادة شاهدين؟و هل هذا إلا كاحتمال الزيادة في القرآن،بل كاحتمال عدم بقاء شىء من القرآن المنزل؟.على أن روايات الثقلين المتظافرة «المتقدمة»دالة على بطلان هذا الاحتمال،فإن قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«إني تارك فيكم الثقلين:
كتاب اللّه و عترتي»لا يصح إذا كان بعض القرآن ضائعا في عصره،فإن المتروك حينئذ يكون بعض الكتاب لا جميعه،بل و في هذه الروايات دلالة صريحة على تدوين القرآن،و جمعه في زمان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأن الكتاب لا يصدق على مجموع المتفرقات،و لا على المحفوظ في الصدور.-و سنتعرض للكلام فيمن جمع القرآن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم-و إذا سلّم عدم اهتمام المسلمين بجمع القرآن على عهده صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلما ذا لم يهتم بذلك النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بنفسه مع اهتمامه الشديد بأمر القرآن؟فهل كان غافلا عن نتائج هذا الإغفال،أو كان غير متمكن من الجمع،لعدم تهيؤ الوسائل عنده؟! و من الواضح بطلان جميع ذلك.
ص: 216
و أما احتمال تحريف الشيخين للقرآن-عمدا-في الآيات التي لا تمس بزعامتهما، و زعامة أصحابهما فهو بعيد في نفسه،إذ لا غرض لهما في ذلك،على أن ذلك مقطوع بعدمه،و كيف يمكن وقوع التحريف منهما مع أن الخلافة كانت مبتنية على السياسة، و إظهار الاهتمام بأمر الدين؟و هلاّ احتج بذلك أحد الممتنعين عن بيعتهما، و المعترضين على أبي بكر في أمر الخلافة كسعد بن عبادة و أصحابه؟و هلاّ ذكر ذلك أمير المؤمنين عليه السّلام في خطبته الشقشقية المعروفة،أو في غيرها من كلماته التي اعترض بها على من تقدّمه؟و لا يمكن دعوى اعتراض المسلمين عليهما بذلك،و اختفاء ذلك عنا،فإن هذه الدعوى واضحة البطلان.
و أما احتمال وقوع التحريف من الشيخين عمدا،في آيات تمس بزعامتهما فهو أيضا مقطوع بعدمه،فإن أمير المؤمنين عليه السّلام و زوجته الصديقة الطاهرة عليهما السّلام و جماعة من أصحابه قد عارضوا الشيخين في أمر الخلافة،و احتجوا عليهما بما سمعوا من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و استشهدوا على ذلك من شهد من المهاجرين و الأنصار،و احتجوا عليه بحديث الغدير و غيره،و قد ذكر في كتاب الاحتجاج:احتجاج اثنى عشر رجلا على أبي بكر في الخلافة،و ذكروا له النص فيها (1)،و قد عقد العلاّمة المجلسي بابا لاحتجاج أمير المؤمنين في أمر الخلافة (2)،و لو كان في القرآن شىء يمس زعامتهم لكان أحق بالذكر في مقام الاحتجاج،و أحرى بالاستشهاد عليه من جميع المسلمين، و لا سيما أن أمر الخلافة كان قبل جمع القرآن على زعمهم بكثير،ففي ترك الصحابة ذكر ذلك في أول أمر الخلافة و بعد انتهائها إلى علي عليه السّلام دلالة قطعية على عدم التحريف المذكور.ع.
ص: 217
و أما احتمال وقوع التحريف من عثمان فهو أبعد من الدعوى الأولى:
1-لأن الإسلام قد انتشر في زمان عثمان على نحو ليس في إمكان عثمان أن ينقص من القرآن شيئا،و لا في إمكان من هو أكبر شأنا من عثمان.
2-و لأن تحريفه إن كان للآيات التي لا ترجع إلى الولاية،و لا تمس زعامة سلفه بشيء،فهو بغير سبب موجب،و إن كان للآيات التي ترجع إلى شىء من ذلك فهو مقطوع بعدمه،لأن القرآن لو اشتمل على شىء من ذلك و انتشر بين الناس لما وصلت الخلافة إلى عثمان.
3-و لأنه لو كان محرّفا للقرآن،لكان في ذلك أوضح حجة،و أكبر عذر لقتلة عثمان في قتله علنا،و لما احتاجوا في الاحتجاج على ذلك إلى مخالفته لسيرة الشيخين في بيت مال المسلمين،و إلى ما سوى ذلك من الحجج.
4-و لكان من الواجب على علي عليه السّلام بعد عثمان أن يردّ القرآن إلى أصله،الذي كان يقرأ به في زمان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و زمان الشيخين و لم يكن عليه في ذلك شىء ينتقد به،بل و لكان ذلك أبلغ أثرا في مقصوده و أظهر لحجته على الثائرين بدم عثمان،و لا سيما أنه عليه السّلام قد أمر بإرجاع القطائع التي أقطعها عثمان.و قال في خطبة له:
«و اللّه لو وجدته قد تزوج به النساء و ملك به الإماء لرددته فإن في العدل سعة،و من ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق» (1).
هذا أمر عليّ في الأموال،فكيف يكون أمره في القرآن لو كان محرّفا،فيكون إمضاؤه عليه السّلام للقرآن الموجود في عصره،دليلا على عدم وقوع التحريف فيه.ن.
ص: 218
و أما دعوى وقوع التحريف بعد زمان الخلفاء فلم يدّعها أحد فيما نعلم،غير أنها نسبت إلى بعض القائلين بالتحريف،فادّعى أن الحجاج لما قام بنصرة بني أمية أسقط من القرآن آيات كثيرة كانت قد نزلت فيهم،و زاد فيه ما لم يكن منه،و كتب مصاحف و بعثها إلى مصر،و الشام،و الحرمين،و البصرة،و الكوفة،و إن القرآن الموجود اليوم مطابق لتلك المصاحف.و أما المصاحف الاخرى فقد جمعها و لم يبق منها شيئا و لا نسخة واحدة (1).
و هذه الدعوى تشبه هذيان المحمومين،و خرافات المجانين و الأطفال،فإن الحجاج واحد من ولاة بني أمية،و هو أقصر باعا،و أصغر قدرا من أن ينال القرآن بشيء، بل و هو أعجز من أن يغير شيئا من الفروع الإسلامية،فكيف يغير ما هو أساس الدين،و قوام الشريعة؟و من أين له القدرة و النفوذ في جميع ممالك الإسلام و غيرها مع انتشار الإسلام فيها و كيف لم يذكر هذا الخطب العظيم مؤرخ في تاريخه،و لا ناقد في نقده مع ما فيه من الأهمية،و كثرة الدواعي إلى نقله،و كيف لم يتعرض لنقله واحد من المسلمين في وقته،و كيف أغضى المسلمون عن هذا العمل بعد انقضاء عهد الحجاج،و انتهاء سلطته؟.
و هب أنه تمكن من جمع نسخ المصاحف جميعها،و لم تشذ عن قدرته نسخة واحدة من أقطار المسلمين المتباعدة،فهل تمكن من إزالته عن صدور المسلمين و قلوب حفظة القرآن؟و عددهم في ذلك الوقت لا يحصيه إلا اللّه،على أن القرآن لو كان في بعض آياته شىء يمس بني أمية،لاهتمّ معاوية بإسقاطه قبل زمان الحجاج و هو أشد منه قدرة،و أعظم نفوذا،و لاستدل به أصحاب علي عليه السّلام على معاوية،كما احتجوا عليه بما حفظه التاريخ،و كتب الحديث و الكلام،7.
ص: 219
و بما قدمناه للقارئ،يتضح له أن من يدّعي التحريف يخالف بداهة العقل،و قد قيل في المثل:«حدّث الرجل بما لا يليق،فإن صدّق فهو ليس بعاقل).
و هنا شبهات يتشبث بها القائلون بالتحريف لا بد لنا من التعرض لها و دفعها واحدة واحدة:
إن التحريف قد وقع في التوراة و الإنجيل،و قد ورد في الروايات المتواترة من طريقي الشيعة و السنة:أن كل ما وقع في الأمم السابقة لا بد و أن يقع مثله في هذه الامة،فمنها ما رواه الصدوق في«الإكمال»عن غياث بن إبراهيم،عن الصادق عن آبائه عليهم السّلام قال:
«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:كل ما كان في الأمم السالفة،فإنه يكون في هذه الأمة مثله حذو النعل بالنعل،و القذة بالقذة» (1).
و نتيجة ذلك:أن التحريف لا بد من وقوعه في القرآن،و إلا لم يصح معنى هذه الأحاديث.
:
أولا:أن الروايات المشار إليها أخبار آحاد لا تفيد علما و لا عملا،و دعوى التواتر فيها جزافية لا دليل عليها،و لم يذكر من هذه الروايات شىء في الكتب الأربعة،و لذلك فلا ملازمة بين وقوع التحريف في التوراة و وقوعه في القرآن.
ص: 220
ثانيا:أن هذا الدليل لو تم لكان دالا على وقوع الزيادة في القرآن أيضا،كما وقعت في التوراة و الإنجيل،و من الواضح بطلان ذلك.
ثالثا:إن كثيرا من الوقائع التي حدثت في الأمم السابقة لم يصدر مثلها في هذه الأمة،كعبادة العجل،و تيه بني إسرائيل أربعين سنة،و غرق فرعون و أصحابه، و ملك سليمان للإنس و الجن،و رفع عيسى إلى السماء و موت هارون و هو وصي موسى قبل موت موسى نفسه،و إتيان موسى بتسع آيات بينات،و ولادة عيسى من غير أب،و مسخ كثير من السابقين قردة و خنازير،و غير ذلك مما لا يسعنا إحصاؤه، و هذا أدل دليل على عدم إرادة الظاهر من تلك الروايات،فلا بد من إرادة المشابهة في بعض الوجوه.
و على ذلك فيكفي في وقوع التحريف في هذه الامّة عدم اتباعهم لحدود القرآن، و إن أقاموا حروفه كما في الرواية التي تقدمت في صدر البحث،و يؤكد ذلك ما رواه أبو واقد الليثي:«أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما خرج إلى خيبر مرّ بشجرة للمشركين يقال لها ذات أنواط،يعقلون عليها أسلحتهم.فقالوا:يا رسول اللّه اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط.فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سبحان اللّه هذا كما قال قوم موسى:اجعل لنا إلها كما لهم آلهة،و الذي نفسي بيده لتركبن سنّة من كان قبلكم» (1)فإن هذه الرواية صريحة في أن الذي يقع في هذه الأمة،شبيه بما وقع في تلك الأمم من بعض الوجوه.
رابعا:لو سلّم تواتر هذه الروايات في السند،و صحتها في الدلالة،لما ثبت بها أن التحريف قد وقع فيما مضى من الزمن،فلعله يقع في المستقبل زيادة و نقيصة،و الذي يظهر من رواية البخاري تحديده بقيام الساعة،فكيف يستدل بذلك على وقوع التحريف في صدر الإسلام،و في زمان الخلفاء.2.
ص: 221
أن عليا عليه السّلام كان له مصحف غير المصحف الموجود،و قد أتى به إلى القوم فلم يقبلوا منه،و أن مصحفه عليه السّلام كان مشتملا على أبعاض ليست موجودة في القرآن الذي بأيدينا،و يترتب على ذلك نقص القرآن الموجود عن مصحف أمير المؤمنين علي عليه السّلام و هذا هو التحريف الذي وقع الكلام فيه،و الروايات الدالة على ذلك كثيرة:
منها:ما في رواية احتجاج علي عليه السّلام على جماعة من المهاجرين و الأنصار أنه قال:
«يا طلحة إن كل آية أنزلها اللّه تعالى على محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عندي باملاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و خط يدي،و تأويل كل آية أنزلها اللّه تعالى على محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كل حلال،أو حرام،أو حدّ أو حكم،أو شىء تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة،فهو عندي مكتوب باملاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و خط يدي،حتى أرش الخدش...» (1).
و منها ما في احتجاجه عليه السّلام على الزنديق من أنه:
«أتى بالكتاب كملا مشتملا على التأويل و التنزيل،و المحكم و المتشابه،و الناسخ و المنسوخ،لم يسقط منه حرف ألف و لا لام فلم يقبلوا ذلك» (2).
و منها:ما رواه في الكافي،بإسناده عن جابر،عن أبي جعفر عليه السّلام قال:
«ما يستطيع أحد أن يدعي أن عنده جميع القرآن كله،ظاهره و باطنه غير الأوصياء» (3).
ص: 222
و بإسناده عن جابر.قال:
«سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول:ما ادّعى أحد من الناس أنه جمع القرآن كله كما أنزل إلا كذاب،و ما جمعه و حفظه كما نزّله اللّه تعالى إلا علي بن أبي طالب و الأئمة من بعده عليهم السّلام» (1).
إن وجود مصحف لأمير المؤمنين عليه السّلام يغاير القرآن الموجود في ترتيب السور مما لا ينبغي الشك فيه،و تسالم العلماء الأعلام على وجوده أغنانا عن التكلف لإثباته، كما أن اشتمال قرآنه عليه السّلام على زيادات ليست في القرآن الموجود،و إن كان صحيحا إلا أنه لا دلالة في ذلك على أن هذه الزيادات كانت من القرآن،و قد أسقطت منه بالتحريف،بل الصحيح أن تلك الزيادات كانت تفسيرا بعنوان التأويل،و ما يؤول اليه الكلام،أو بعنوان التنزيل من اللّه شرحا للمراد.
و إن هذه الشبهة مبتنية على أن يراد من لفظي التأويل و التنزيل ما اصطلح عليه المتأخرون من إطلاق لفظ التنزيل على ما نزل قرآنا،و إطلاق لفظ التأويل على بيان المراد من اللفظ،حملا له على خلاف ظاهره،إلا أن هذين الإطلاقين من الاصطلاحات المحدثة،و ليس لهما في اللغة عين و لا أثر ليحمل عليهما هذان اللفظان «التنزيل و التأويل»متى وردا في الروايات المأثورة عن أهل البيت عليهم السّلام.
و إنما التأويل في اللغة مصدر مزيد فيه،و أصله«الأول»بمعنى الرجوع.و منه قولهم:«أوّل الحكم إلى أهله أي ردّه إليهم».و قد يستعمل التأويل و يراد منه العاقبة، و ما يؤول اليه الأمر.و على ذلك جرت الآيات الكريمة:
ص: 223
وَ يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ 12:6. نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ :36. هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ :100. ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً 18:82).
و غير ذلك من موارد استعمال هذا اللفظ في القرآن الكريم،و على ذلك فالمراد بتأويل القرآن ما يرجع اليه الكلام،و ما هو عاقبته،سواء كان ذلك ظاهرا يفهمه العارف باللغة العربية،أم كان خفيّا لا يعرفه إلا الراسخون في العلم.
و أما التنزيل فهو أيضا مصدر مزيد فيه،و أصله النزول،و قد يستعمل و يراد به ما نزل،و من هذا القبيل إطلاقه على القرآن في آيات كثيرة،منها قوله تعالى:
إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ 56:77. فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ :78. لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ :79.
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ :80).
و على ما ذكرناه فليس كل ما نزل من اللّه وحيا يلزم أن يكون من القرآن، فالذي يستفاد من الروايات في هذا المقام أن مصحف علي عليه السّلام كان مشتملا على زيادات تنزيلا أو تأويلا.و لا دلالة في شىء من هذه الروايات على أن تلك الزيادات هي من القرآن.و على ذلك يحمل ما ورد من ذكر أسماء المنافقين في مصحف أمير المؤمنين عليه السّلام فإن ذكر أسمائهم لا بد و أن يكون بعنوان التفسير.
و يدل على ذلك ما تقدم من الأدلة القاطعة على عدم سقوط شىء من القرآن، أضف إلى ذلك أن سيرة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع المنافقين تأبى ذلك فإن دأبه تأليف قلوبهم، و الإسرار بما يعلمه من نفاقهم،و هذا واضح لمن له أدنى اطّلاع على سيرة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و حسن أخلاقه،فكيف يمكن أن يذكر أسماءهم في القرآن،و يأمرهم بلعن أنفسهم، و يأمر سائر المسلمين ذلك و يحثهم عليه ليلا و نهارا،و هل يحتمل ذلك حتى ينظر في
ص: 224
صحته و فساده أو يتمسك في إثباته بما في بعض الروايات من وجود أسماء جملة من المنافقين في مصحف علي عليه السّلام و هل يقاس ذلك بذكر أبي لهب المعلن بشركه.و معاداته للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع علم النبي بأنه يموت على شركه.نعم لا بعد في ذكر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أسماء المنافقين لبعض خواصه كأمير المؤمنين عليه السّلام و غيره في مجالسه الخاصة.
و حاصل ما تقدم:أن وجود الزيادات في مصحف علي عليه السّلام و إن كان صحيحا،إلا أن هذه الزيادات ليست من القرآن،و مما أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بتبليغه إلى الامّة،فإن الالتزام بزيادة مصحفه بهذا النوع من الزيادة قول بلا دليل،مضافا إلى أنه باطل قطعا.و يدل على بطلانه جميع ما تقدم من الأدلة القاطعة على عدم التحريف في القرآن.
إن الروايات المتواترة عن أهل البيت عليهم السّلام قد دلت على تحريف القرآن فلا بد من القول به.
إن هذه الروايات لا دلالة فيها على وقوع التحريف في القرآن بالمعنى المتنازع فيه،و توضيح ذلك:إن كثيرا من الروايات،و إن كانت ضعيفة السند،فإن جملة منها نقلت من كتاب أحمد بن محمد السياري،الذي اتفق علماء الرجال على فساد مذهبه، و أنه يقول بالتناسخ،و من علي بن أحمد الكوفي الذي ذكر علماء الرجال أنه كذاب، و أنه فاسد المذهب إلا أن كثرة الروايات تورث القطع بصدور بعضها عن المعصومين عليهم السّلام و لا أقل من الاطمئنان بذلك،و فيها ما روى بطريق معتبر فلا حاجة بنا إلى التكلم في سند كل رواية بخصوصها.
ص: 225
علينا أن نبحث عن مداليل هذه الروايات،و إيضاح أنها ليست متحدة في المفاد، و أنها على طوائف.فلا بد لنا من شرح ذلك،و الكلام على كل طائفة بخصوصها.
الطائفة الأولى:هي الروايات التي دلت على التحريف بعنوانه،و انها تبلغ عشرين رواية،نذكر جملة منها و نترك ما هو بمضمونها.و هي:
1-ما عن علي بن إبراهيم القمي،بإسناده عن أبي ذر.قال:
«لما نزلت هذه الآية: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ.
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:ترد أمتي عليّ يوم القيامة على خمس رايات.
ثم ذكر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يسأل الرايات عما فعلوا بالثقلين.فتقول الراية الاولى:أما الأكبر فحرّفناه،و نبذناه وراء ظهورنا،و أما الأصغر فعاديناه،و أبغضناه،و ظلمناه.و تقول الراية الثانية:أما الأكبر فحرّفناه،و مزّقناه،و خالفناه،و أما الأصغر فعاديناه و قاتلناه...». (1)
2-ما عن ابن طاوس،و السيد المحدث الجزائري،باسنادهما عن الحسن بن الحسن السامري في حديث طويل أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لحذيفة فيما قاله في من يهتك الحرم:
«إنه يضل الناس عن سبيل اللّه،و يحرّف كتابه،و يغير سنتي». (2).
ص: 226
3-ما عن سعد بن عبد اللّه القمي،بإسناده عن جبار الجعفي عن أبي جعفر عليه السّلام قال:
«دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بمنى.فقال:أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين-أما إن تمسكتم بهما لن تضلوا،كتاب اللّه و عترتي-و الكعبة البيت الحرام،ثم قال أبو جعفر عليه السّلام:أما كتاب اللّه فحرّفوا،و أما الكعبة فهدموا،و أما العترة فقتلوا،و كل ودائع اللّه قد نبذوا و منها قد تبرءوا». (1)
4-ما عن الصدوق في الخصال بإسناده عن جابر عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال:
«يجيء يوم القيامة ثلاثة يشكون:المصحف،و المسجد،و العترة يقول المصحف يا رب حرّفوني و مزّقوني،و يقول المسجد يا رب عطّلوني و ضيّعوني،و تقول العترة يا رب قتلونا،و طردونا، و شرّدونا...». (2)
5-ما عن الكافي و الصدوق،باسنادهما عن علي بن سويد.قال:
«كتبت إلى أبي الحسن موسى عليه السّلام و هو في الحبس كتابا إلى أن ذكر جوابه عليه السّلام بتمامه،و فيه قوله عليه السّلام اؤتمنوا على كتاب اللّه فحرّفوه و بدّلوه». (3)
6-ما عن ابن شهرآشوب،بإسناده عن عبد اللّه في خطبة أبي عبد اللّه الحسين عليه السّلام في يوم عاشوراء،و فيها:5.
ص: 227
«إنما أنتم من طواغيت الأمة،و شذاذ الأحزاب،و نبذة الكتاب، و نفثة الشيطان،و عصبة الآثام،و محرفي الكتاب». (1)
7-ما عن كامل الزيارات،بإسناده عن الحسن بن عطية،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:
«إذا دخلت الحائر فقل:اللهم العن الذين كذبوا رسلك، و هدموا كعبتك،و حرّفوا كتابك...». (2)
8-ما عن الحجال،عن قطبة بن ميمون،عن عبد الأعلى.قال:
«قال أبو عبد اللّه عليه السّلام أصحاب العربية يحرفون كلام اللّه عز و جل عن مواضعه».
و الجواب عن الاستدلال بهذه الطائفة:ان الظاهر من الرواية الأخيرة تفسير التحريف باختلاف القراء،و إعمال اجتهاداتهم في القراءات.و مرجع ذلك إلى الاختلاف في كيفية القراءة مع التحفظ على جوهر القرآن و أصله و قد أوضحنا للقارئ في صدر المبحث أن التحريف بهذا المعنى مما لا ريب في وقوعه،بناء على ما هو الحق من عدم تواتر القراءات السبع،بل و لا ريب في وقوع هذه التحريف،بناء على تواتر القراءات السبع أيضا،فإن القراءات كثيرة،و هي مبتنية على اجتهادات ظنية توجب تغيير كيفية القراءة.فهذه الرواية لا مساس لها بمراد المستدل.
و أما بقية الروايات،فهي ظاهرة في الدلالة على أن المراد بالتحريف حمل الآيات
ص: 228
على غير معانيها،الذي يلازم إنكار فضل أهل البيت عليهم السّلام و نصب العداوة لهم و قتالهم.و يشهد لذلك-صريحا-نسبة التحريف إلى مقاتلي أبي عبد اللّه عليه السّلام في الخطبة المتقدمة.
و رواية الكافي التي تقدمت في صدر البحث،فإن الإمام الباقر عليه السّلام يقول فيها:
«و كان من نبذهم الكتاب أنهم أقاموا حروفه،و حرّفوا حدوده». (1)
و قد ذكرنا أن التحريف بهذا المعنى واقع قطعا،و هو خارج عن محل النزاع،و لو لا هذا التحريف لم تزل حقوق العترة محفوظة،و حرمة النبي فيهم مرعية،و لما انتهى الأمر إلى ما انتهى إليه من اهتضام حقوقهم و إيذاء النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيهم.
الطائفة الثانية:هي الروايات التي دلّت على أن بعض الآيات المنزلة من القرآن قد ذكرت فيها أسماء الأئمة عليهم السّلام و هي كثيرة:
منها:ما ورد من ذكر أسماء الأئمة عليهم السّلام في القرآن،كرواية الكافي بإسناده عن محمد بن الفضيل،عن أبي الحسن عليه السّلام قال:
«ولاية علي بن أبي طالب مكتوبة في جميع صحف الأنبياء، و لن يبعث اللّه رسولا إلا بنبوة محمد و«ولاية»وصيه،صلّى اللّه عليهما و آلهما». (2)
و منها:رواية العياشي بإسناده عن الصادق عليه السّلام:
«لو قرئ القرآن-كما أنزل-لألفينا مسمّين».م»
ص: 229
و منها:رواية الكافي،و تفسير العياشي عن أبي جعفر عليه السّلام و كنز الفوائد بأسانيد عديدة عن ابن عباس،و تفسير فرات بن إبراهيم الكوفي بأسانيد متعددة أيضا،عن الأصبغ بن نباته.قالوا:قال أمير المؤمنين عليه السّلام:
«القرآن نزل على أربعة أرباع:ربع فينا،و ربع في عدونا،و ربع سنن و أمثال،و ربع فرائض و أحكام،و لنا كرائم القرآن». (1)
و منها:رواية الكافي أيضا بإسناده عن أبي جعفر عليه السّلام قال:
نزل جبرئيل بهذه الآية على محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هكذا: وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا -في علي- فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ . (2)
إنا قد أوضحنا فيما تقدم أن بعض التنزيل كان من قبيل التفسير للقرآن و ليس من القرآن نفسه،فلا بد من حمل هذه الروايات على أن ذكر أسماء الأئمة عليهم السّلام في التنزيل من هذا القبيل،و إذا لم يتم هذا الحمل فلا بد من طرح هذه الروايات لمخالفتها للكتاب،و السنة،و الأدلة المتقدمة على نفي التحريف.و قد دلّت الأخبار المتواترة على وجوب عرض الروايات على الكتاب و السنة و أن ما خالف الكتاب منها يجب طرحه،و ضربه على الجدار.
و مما يدل على أن اسم أمير المؤمنين عليه السّلام لم يذكر صريحا في القرآن حديث الغدير، فإنه صريح في أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنما نصب عليا بأمر اللّه،و بعد أن ورد عليه التأكيد في ذلك،و بعد أن وعده اللّه بالعصمة من الناس،و لو كان اسم«علي»مذكورا في القرآن لم يحتج إلى ذلك النصب،و لا إلى تهيئة ذلك الاجتماع الحافل بالمسلمين،و لما خشي
ص: 230
رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من إظهار ذلك،ليحتاج إلى التأكيد في أمر التبليغ.
و على الجملة:فصحة حديث الغدير توجب الحكم بكذب هذه الروايات التي تقول:إن أسماء الأئمة مذكورة في القرآن و لا سيما أن حديث الغدير كان في حجة الوداع التي وقعت في أواخر حياة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ونزول عامة القرآن،و شيوعه بين المسلمين،على أن الرواية الأخيرة المروية في الكافي مما لا يحتمل صدقه في نفسه، فإن ذكر اسم علي عليه السّلام في مقام إثبات النبوة و التحدي على الإتيان بمثل القرآن لا يناسب مقتضى الحال.
و يعارض جميع هذه الروايات صحيحة أبي بصير المروية في الكافي قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه تعالى:و أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ «4:59».
«قال:فقال نزلت في علي بن أبي طالب و الحسن و الحسين عليهم السّلام فقلت له:إن الناس يقولون فما له لم يسمّ عليا و أهل بيته في كتاب اللّه.قال عليه السّلام:فقولوا لهم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نزلت عليه الصلاة و لم يسمّ اللّه لهم ثلاثا،و لا أربعا،حتى كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هو الذي فسّر لهم ذلك...» (1).
فتكون هذه الصحيحة حاكمة على جميع تلك الروايات،و موضحة للمراد منها، و أن ذكر اسم أمير المؤمنين عليه السّلام في تلك الروايات قد كان بعنوان التفسير،أو بعنوان التنزيل،مع عدم الأمر بالتبليغ.و يضاف إلى ذلك أن المتخلفين عن بيعة أبي بكر لم يحتجوا بذكر اسم على في القرآن،و لو كان له ذكر في الكتاب لكان ذلك أبلغ في1.
ص: 231
الحجة،و لا سيما أن جمع القرآن-بزعم المستدل-كان بعد تمامية أمر الخلافة بزمان غير يسير،فهذا من الأدلة الواضحة على عدم ذكره في الآيات.
الطائفة الثالثة:هي الروايات التي دلت على وقوع التحريف في القرآن بالزيادة و النقصان،و ان الأمة بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم غيّرت بعض الكلمات و جعلت مكانها كلمات أخرى.
فمنها:ما رواه علي بن إبراهيم القمي،بإسناده عن حريز عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:
«صراط من أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم و غير الضالين».
و منها:ما عن العياشي،عن هشام بن سالم.قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ «3:33».
«قال:هو آل إبراهيم و آل محمد على العالمين،فوضعوا اسما مكان اسم». (1)أي انهم غيروا فجعلوا مكان آل محمد آل عمران.
و الجواب:
عن الاستدلال بهذه الطائفة-بعد الإغضاء عما في سندها من الضعف-أنها مخالفة للكتاب،و السنة،و إجماع المسلمين على عدم الزيادة في القرآن و لا حرفا واحدا حتى من القائلين بالتحريف.و قد ادّعى الإجماع جماعة كثيرون على عدم الزيادة في القرآن،و أن مجموع ما بين الدفتين كله من القرآن.و ممن ادعى الإجماع الشيخ المفيد،و الشيخ الطوسي،و الشيخ البهائي،و غيرهم من الأعاظم قدس اللّه أسرارهم.و قد تقدمت رواية الاحتجاج الدالة على عدم الزيادة في القرآن.
الطائفة الرابعة:هي الروايات التي دلّت على التحريف في القرآن بالنقيصة فقط.0.
ص: 232
إنه لا بد من حملها على ما تقدم في معنى الزيادات في مصحف أمير المؤمنين عليه السّلام و إن لم يمكن ذلك الحمل في جملة منها فلا بد من طرحها لأنها مخالفة للكتاب و السنة، و قد ذكرنا لها في مجلس بحثنا توجيها آخر أعرضنا عن ذكره هنا حذرا من الإطالة، و لعله أقرب المحامل،و نشير اليه في محل آخر إن شاء اللّه تعالى.
على أن أكثر هذه الروايات بل كثيرها ضعيفة السند.و بعضها لا يحتمل صدقه في نفسه.و قد صرح جماعة من الأعلام بلزوم تأويل هذه الروايات أو لزوم طرحها.
و ممن صرح بذلك المحقق الكلباسي حيث قال على ما حكي عنه:«إن الروايات الدالة على التحريف مخالفة لإجماع الأمة إلا من لا اعتداد به...(و قال)إن نقصان الكتاب مما لا أصل له و إلا لاشتهر و تواتر،نظرا إلى العادة في الحوادث العظيمة.
و هذا منها بل أعظمها».
و عن المحقق البغدادي شارح الوافية التصريح بذلك،و نقله عن المحقق الكركي الذي صنّف في ذلك رسالة مستقلة،و ذكر فيها:«إن ما دلّ من الروايات على النقيصة لا بد من تأويلها أو طرحها،فإن الحديث إذا جاء على خلاف الدليل من الكتاب،و السنة المتواترة و الإجماع،و لم يمكن تأويله،و لا حمله على بعض الوجوه، وجب طرحه».
أقول:أشار المحقق الكركي بكلامه هذا إلى ما أشرنا إليه-سابقا-من أن الروايات المتواترة قد دلّت على أن الروايات إذا خالفت القرآن لا بد من طرحها.فمن تلك الروايات:
ما رواه الشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين بسنده الصحيح عن الصادق عليه السّلام:
ص: 233
«الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة،إن على كل حق حقيقة،و على كل صواب نورا،فما وافق كتاب اللّه فخذوه،و ما خالف كتاب اللّه فدعوه...» (1).
و ما رواه الشيخ الجليل سعيد بن هبة اللّه«القطب الراوندي»بسنده الصحيح إلى الصادق عليه السّلام:
«إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب اللّه، فما وافق كتاب اللّه فخذوه،و ما خالف كتاب اللّه فردّوه...» (2).
فيتلخص في كيفية جمع القرآن،و استلزامها وقوع التحريف فيه.و قد انعقد البحث الآتي«فكرة عن جمع القرآن»لتصفية هذه الشبهة و تفنيدها.
ص: 234
ص: 235
-كيفية جمع القرآن.
-عرض الروايات في جمع القرآن.
-تناقضها و تضاربها.
-معارضتها لما دلّ على أن القرآن جمع على عهد الرسول.
-معارضتها للكتاب و حكم العقل.
-مخالفتها لإجماع المسلمين على أن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر.
-الاستدلال بهذه الروايات يستلزم التحريف بالزيادة المتسالم على بطلانه.
ص: 236
ان موضوع جمع القرآن من الموضوعات التي يتذرع بها القائلون بالتحريف،إلى إثبات ان في القرآن تحريفا و تغييرا.و ان كيفية جمعه مستلزمة-في العادة-لوقوع هذا التحريف و التغيير فيه.
فكان من الضروري أن يعقد هذا البحث إكمالا لصيانة القرآن من التحريف و تنزيهه عن أيّ نقص أو أي تغيير.
إن مصدر هذه الشبهة هو زعمهم بأن جمع القرآن كان بأمر من أبي بكر بعد أن قتل سبعون رجلا من القراء في بئر معونة،و أربعمائة نفر في حرب اليمامة فخيف ضياع القرآن و ذهابه من الناس،فتصدى عمر و زيد بن ثابت لجمع القرآن من العسب،و الرقاع،و اللخاف،و من صدور الناس بشرط أن يشهد شاهدان على أنه من القرآن،و قد صرّح بجميع ذلك في عدة من الروايات،و العادة تقضي بفوات شىء منه على المتصدي لذلك،إذا كان غير معصوم،كما هو مشاهد فيمن يتصدى لجمع شعر شاعر واحد أو أكثر،إذا كان هذا الشعر متفرقا،و هذا الحكم قطعي بمقتضى العادة،و لا أقل من احتمال وقوع التحريف،فإن من المحتمل عدم إمكان إقامة
ص: 237
شاهدين على بعض ما سمع من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلا يبقى وثوق بعدم النقيصة.
و الجواب:
إن هذه الشبهة مبتنية على صحة الروايات الواردة في كيفية جمع القرآن و الأولى أن نذكر هذه الروايات ثم نعقبها بما يرد عليها.
1-روى زيد بن ثابت.قال:
«أرسل إليّ أبو بكر،مقتل أهل يمامة،فإذا عمر بن الخطاب عنده،قال أبو بكر:
إن عمر أتاني.فقال:إن القتل قد استحرّ يوم اليمامة بقرّاء القرآن،و إني أخشى أن يستحرّ القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن،و إني أرى أن تأمر بجمع القرآن.قلت لعمر:كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول اللّه؟قال عمر:هذا و اللّه خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح اللّه صدري لذلك،و رأيت في ذلك الذي رأى عمر.قال زيد:قال أبو بكر:إنك رجل شاب عاقل لانتهمك،و قد كنت تكتب الوحي لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فتتبع القرآن فاجمعه فوالله لو كلفونى نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني من جمع القرآن قلت:كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؟قال:هو و اللّه خير،فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح اللّه صدري،للذي شرح له صدر أبي بكر و عمر،فتتبعت القرآن أجمعه من العسب، و اللخاف،و صدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع أحد غيره:
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ
ص: 238
رَؤُفٌ رَحِيمٌ 9:128. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ :129).
حتى خاتمة براءة فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه اللّه،ثم عند عمر حياته،ثم عند حفصة بنت عمر» (1).4/ 2/5-و روى ابن شهاب أن أنس بن مالك حدثه:
«ان حذيفة بن اليمان قدم على عثمان،و كان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية و أذربيجان مع أهل العراق.فافزع حذيفة اختلافهم في القراءة.فقال حذيفة لعثمان:
يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود و النصارى،فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك،فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت،و عبد اللّه بن الزبير، و سعيد بن العاص،و عبد الرحمن بن الحرث بن هشام،فنسخوها في المصاحف،و قال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة:إذا اختلفتم أنتم و زيد بن ثابت في شىء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش،فإنما نزل بلسانهم،ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ردّ عثمان الصحف الى حفصة،فأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، و أمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق».
قال ابن شهاب:«و أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت سمع زيد بن ثابت قال:
فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف،قد كنت أسمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقرأ بها،فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري:
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ «33:23».1.
ص: 239
«فألحقناها في سورتها في المصحف» (1)./ 3/2-و روى ابن أبي شيبة بإسناده عن علي.قال:
«أعظم الناس في المصاحف أجرا أبو بكر،إن أبا بكر أول من جمع ما بين اللوحين»./ 4/5-و روى ابن شهاب.عن سالم بن عبد اللّه و خارجة:
«أن أبا بكر الصديق كان جمع القرآن في قراطيس،و كان قد سأل زيد بن ثابت النظر في ذلك فأبى حتى استعان عليه بعمر ففعل،فكانت الكتب عند أبي بكر حتى توفي،ثم عند عمر حتى توفي،ثم كانت عند حفصة زوج النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأرسل إليها عثمان فأبت أن تدفعها،حتى عاهدها ليردّنها إليها فبعثت بها اليه،فنسخ عثمان هذه المصاحف ثم ردها إليها فلم تزل عندها...».
5-و روى هشام بن عروة،عن أبيه،قال:
«لما قتل أهل اليمامة أمر أبو بكر عمر بن الخطاب،و زيد بن ثابت.فقال:اجلسا على باب المسجد.فلا يأتينكما أحد بشيء من القرآن تنكرانه يشهد عليه رجلان إلاّ اثبتماه،و ذلك لأنه قتل باليمامة ناس من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد جمعوا القرآن».
6/16-و روى محمد بن سيرين.قال:«قتل عمر و لم يجمع القرآن».
7/17-و روى الحسن:2.
ص: 240
«أن عمر بن الخطاب سأل عن آية من كتاب اللّه،فقيل:كانت مع فلان فقتل يوم اليمامة.فقال:إنا للّه،و أمر بالقرآن فجمع فكان أول من جمعه في المصحف».
8/3-و روى يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب.قال:
«أراد عمر بن الخطاب أن يجمع القرآن فقام في الناس،فقال:من كان تلقى من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شيئا من القرآن فليأتنا به،و كانوا كتبوا ذلك في الصحف و الألواح، و العسب،و كان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شهيدان،فقتل و هو يجمع ذلك إليه،فقام عثمان،فقال:من كان عنده من كتاب اللّه شىء فليأتنا به،و كان لا يقبل من ذلك شيئا حتى يشهد عليه شهيدان،فجاءه خزيمة بن ثابت،فقال:إني قد رأيتكم تركتم آيتين لم تكتبوهما.قالوا:ما هما؟قال:تلقيت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ...
إلى آخر السورة،فقال عثمان:و أنا أشهد أنهما من عند اللّه،فأين ترى أن نجعلهما قال اختم بهما آخر ما نزل من القرآن،فختمت بهما براءة».
9/13-و روى عبيد بن عمير،قال:
«كان عمر لا يثبت آية في المصحف حتى يشهد رجلان،فجاءه رجل من الأنصار بهاتين الآيتين: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ... إلى آخرها.فقال عمر:لا أسألك عليها بيّنة أبدا،كذلك كان رسول اللّه» (1).
10/17-و روى سليمان بن أرقم،عن الحسن و ابن سيرين،و ابن شهاب الزهري.
قالوا:ف)
ص: 241
«لما أسرع القتل في قراء القرآن يوم اليمامة قتل منهم يومئذ أربعمائة رجل،لقي زيد بن ثابت عمر بن الخطاب،فقال له:إن هذا القرآن هو الجامع لديننا فإن ذهب القرآن ذهب ديننا،و قد عزمت على أن أجمع القرآن في كتاب،فقال له:انتظر حتى أسأل أبا بكر،فمضيا إلى أبي بكر فأخبراه بذلك،فقال:لا تعجل حتى أشاور المسلمين،ثم قام خطيبا في الناس فأخبرهم بذلك،فقالوا:أصبت،فجمعوا القرآن، فأمر أبو بكر مناديا فنادى في الناس:من كان عنده شىء من القرآن فليجئ به...».
11/7-و روى خزيمة بن ثابت.قال:
«جئت بهذه الآية:لقد جاءكم رسول من أنفسكم...إلى عمر بن الخطاب و إلى زيد بن ثابت.فقال زيد:من يشهد معك؟قلت:لا و اللّه ما أدري.فقال عمر:أنا أشهد معه ذلك».
12/11-و روى أبو إسحاق،عن بعض أصحابه.قال:
«لما جمع عمر بن الخطاب المصحف سأل:من أعرب الناس؟قيل:سعيد بن العاص.فقال:من أكتب الناس؟فقيل:زيد بن ثابت.قال:فليمل سعيد و ليكتب زيد،فكتبوا مصاحف أربعة،فأنفذ مصحفا منها إلى الكوفة،و مصحفا إلى البصرة، و مصحفا إلى الشام،و مصحفا إلى الحجاز».
13/16-و روى عبد اللّه بن فضالة.قال:
«لما أراد عمر أن يكتب الإمام أقعد له نفرا من أصحابه،و قال:إذا اختلفتم في اللغة فاكتبوها بلغة مضر،فإن القرآن نزل على رجل من مضر».
14/19-و روى أبو قلابة.قال:
ص: 242
«لما كان في خلافة عثمان جعل المعلم يعلّم قراءة الرجل،و المعلم يعلّم قراءة الرجل،فجعل الغلمان يلتقون و يختلفون،حتى ارتفع ذلك الى المعلمين،حتى كفر بعضهم بقراءة بعض،فبلغ ذلك عثمان فقام خطيبا.فقال:أنتم عندي تختلفون و تلحنون،فمن نأى عني من الأمصار أشدّ اختلافا،و أشد لحنا،فاجتمعوا يا أصحاب محمد فاكتبوا للناس إماما،قال أبو قلابة:فحدثني مالك ابن أنس،قال أبو بكر بن أبي داود:هذا مالك بن انس جد مالك بن أنس.قال:كنت فيمن أملى عليهم فربما اختلفوا في الآية فيذكرون الرجل قد تلقاها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لعله أن يكون غائبا أو في بعض البوادي،فيكتبون ما قبلها و ما بعدها،و يدعون موضعها حتى يجيء أو يرسل اليه،فلما فرغ من المصحف كتب إلى أهل الأمصار أني قد صنعت كذا و صنعت كذا،و محوت ما عندي،فامحوا ما عندكم».
15/11-و روى مصعب بن سعد.قال:
«قام عثمان يخطب الناس.فقال:أيها الناس عهدكم بنبيكم منذ ثلاث عشرة و أنتم تمترون في القرآن،تقولون قراءة أبيّ،و قراءة عبد اللّه،يقول الرجل و اللّه ما تقيم قراءتك،فاعزم على كل رجل منكم كان معه من كتاب اللّه شىء لما جاء به،فكان الرجل يجيء بالورقة و الأديم فيه القرآن،حتى جمع من ذلك كثرة،ثم دخل عثمان و دعاهم رجلا رجلا،فناشدهم لسمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو أمّله عليك فيقول:
نعم،فلما فرغ من ذلك عثمان.قال:من أكتب الناس؟قالوا:كاتب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم زيد بن ثابت.قال:فأيّ الناس أعرب؟قالوا سعيد بن العاص.قال عثمان:فليمل سعيد،و ليكتب زيد،فكتب زيد،و كتب مصاحف ففرقها في الناس،فسمعت بعض أصحاب محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول:قد أحسن».20
ص: 243
16/-و روى أبو المليح.قال:
«قال عثمان بن عفان حين أراد أن يكتب المصحف،تملي هذيل و تكتب ثقيف».
17/3-و روى عبد الأعلى بن عبد اللّه بن عبد اللّه بن عامر القرشي.قال:
«لما فرغ من المصحف أتى به عثمان فنظر فيه.فقال:قد أحسنتم و أجملتم،أرى شيئا من لحن ستقيمه العرب بألسنتها».
18/6-و روى عكرمة.قال:
«لما أتى عثمان بالمصحف رأى فيه شيئا من لحن.فقال:لو كان المملي من هذيل و الكاتب من ثقيف لم يوجد فيه هذا».
19/9-و روى عطاء:
«أن عثمان بن عفان لما نسخ القرآن في المصاحف،أرسل إلى أبي بن كعب فكان يملي على زيد بن ثابت،و زيد يكتب،و معه سعيد بن العاص يعربه،فهذا المصحف على قراءة أبيّ و زيد».
20/13-و روى مجاهد:
«ان عثمان أمر أبيّ بن كعب يملي،و يكتب زيد بن ثابت،و يعربه سعيد بن العاص، و عبد الرحمن بن الحرث».
21/16-و روى زيد بن ثابت:
«لما كتبنا المصاحب فقدت آية كنت أسمعها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فوجدتها عند خزيمة بن ثابت مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ... إلى تَبْدِيلاً .و كان خزيمة يدعى ذا الشهادتين أجاز رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شهادته بشهادة
ص: 244
رجلين».
22/2-و قد أخرج ابن اشته،عن الليث بن سعد.قال:
«أول من جمع القرآن أبو بكر،و كتبه زيد،و كان الناس يأتون زيد بن ثابت، فكان لا يكتب آية إلا بشهادة عدلين،و إن آخر سورة براءة لم توجد إلا مع أبي خزيمة بن ثابت.فقال:اكتبوها فإن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جعل شهادته بشهادة رجلين، فكتب،و إن عمر أتى بآية الرجم فلم نكتبها لأنه كان وحده» (1).6/ /7هذه أهم الروايات التي وردت في كيفية جمع القرآن،و هي-مع أنها أخبار آحاد لا تفيدنا علما-مخدوشة من جهات شتى:
إنها متناقضة في أنفسها فلا يمكن الاعتماد على شىء منها،و من الجدير بنا أن نشير إلى جملة من مناقضاتها،في ضمن أسئلة و أجوبة:
12[-متى جمع القرآن في المصحف؟ ظاهر الرواية الثانية أن الجمع كان في زمن عثمان،و صريح الروايات الأولى، و الثالثة،و الرابعة،و ظاهر البعض الآخر أنه كان في زمان أبي بكر،و صريح الروايتين السابعة،و الثانية عشرة أنه كان في زمان عمر.] 16[-من تصدّى لجمع القرآن زمن أبي بكر؟ تقول الروايتان الاولى،و الثانية و العشرون أن المتصدي لذلك هو زيد بن ثابت، و تقول الرواية الرابعة أنه أبو بكر نفسه،و إنما طلب من زيد أن ينظر فيما جمعه من
ص: 245
الكتب،و تقول الرواية الخامسة-و يظهر من غيرها أيضا-أن المتصدي هو زيد و عمر.] 3[-هل فوّض لزيد جمع القرآن؟ يظهر من الرواية الأولى أن أبا بكر قد فوّض إليه ذلك،بل هو صريحها،فإن قوله لزيد:«إنك رجل شاب عاقل لا نتّهمك و قد كنت تكتب الوحي لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فتتّبع القرآن و اجمعه»صريح في ذلك،و تقول الرواية الخامسة و غيرها:إن الكتابة إنما كانت بشهادة شاهدين،حتى ان عمر جاء بآية الرجم فلم تقبل منه.] 8[-هل بقي من الآيات ما لم يدون إلى زمان عثمان؟ ظاهر كثير من الروايات،بل صريحها أنه لم يبق شىء من ذلك،و صريح الرواية الثانية بقاء شىء من الآيات لم يدون إلى زمان عثمان.] 11[-هل نقص عثمان شيئا مما كان مدونا قبله؟ ظاهر كثير من الروايات بل صريحها أيضا أن عثمان لم ينقص مما كان مدوّنا قبله، و صريح الرواية الرابعة عشرة أنه محا شيئا مما دوّن قبله،و أمر المسلمين بمحو ما محاه.] 15[-من أي مصدر جمع عثمان المصحف؟ صريح الروايتين الثانية و الرابعة:أن الذي اعتمد عليه في جمعه هي الصحف التي جمعها أبو بكر،و صريح الروايات الثامنة،و الرابعة عشرة،و الخامسة عشرة،أن عثمان جمعه بشهادة شاهدين،و بأخبار من سمع الآية من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.] 19[من الذي طلب من أبي بكر جمع القرآن؟
ص: 246
تقول الرواية الاولى أن الذي طلب ذلك منه هو عمر،و أن أبا بكر إنما أجابه بعد الامتناع فأرسل إلى زيد و طلب منه ذلك،فأجابه بعد ذلك الامتناع،و تقول الرواية العاشرة أن زيدا و عمر طلبا ذلك من أبي بكر،فأجابهما بعد مشاورة المسلمين.
من جمع المصحف الإمام و أرسل منه نسخا إلى البلاد؟ صريح الرواية الثانية أنه كان عثمان،و صريح الرواية الثانية عشرة أنه كان عمر.] -متى ألحقت الآيتان بآخر سورة براءة؟ صريح الروايات الأولى،و الحادية عشرة،و الثانية و العشرين أن إلحاقهما كان في زمان أبي بكر،و صريح الرواية الثامنة،و ظاهر غيرها أنه كان في عهد عمر.
-من أتى بهاتين الآيتين؟ صريح الروايتين الأولى،و الثانية و العشرين أنه كان أبا خزيمة،و صريح الروايتين الثامنة،و الحادية عشرة أنه كان خزيمة بن ثابت،و هما رجلان ليس بينهما نسبة أصلا،على ما ذكره ابن عبد البر (1).
-بما ذا ثبت أنهما من القرآن؟ بشهادة الواحد،على ما هو ظاهر الرواية الأولى،و صريح الروايتين التاسعة، و الثانية و العشرين،و بشهادة عثمان معه،على ما هو صريح الرواية الثامنة،و بشهادة عمر معه،على ما هو صريح الرواية الحادية عشر.
-من عيّنه عثمان لكتابة القرآن و إملائه؟ صريح الرواية الثانية أن عثمان عيّن للكتابة زيدا،و ابن الزبير،و سعيد،1.
ص: 247
و عبد الرحمن،و صريح الرواية الخامسة عشرة أنه عيّن زيدا للكتابة و سعيدا للإملاء، و صريح الرواية السادسة عشرة أنه عيّن ثقيفا للكتابة،و هذيلا للإملاء،و صريح الرواية الثامنة عشرة أن الكاتب لم يكن من ثقيف و أن المملي لم يكن من هذيل، و صريح الرواية التاسعة عشرة أن المملي كان أبيّ بن كعب،و أن سعيدا كان يعرب ما كتبه زيد،و هذا أيضا صريح الرواية العشرين بزيادة عبد الرحمن بن الحرث للإعراب.
إن هذه الروايات معارضة بما دل على أن القرآن كان قد جمع،و كتب على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقد روى جماعة،منهم ابن أبي شيبة،و أحمد بن حنبل،و الترمذي، و النسائي،و ابن حبان،و الحاكم،و البيهقي،و الضياء المقدسي،عن ابن عباس.قال:
قلت لعثمان بن عفان:ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال و هي من المثاني،و إلى براءة،و هي من المئين فقرنتم بينهما و لم تكتبوا بينهما سطر:«بسم اللّه الرحمن الرحيم»؟ و وضعتموهما في السبع الطوال،ما حملكم على ذلك؟فقال عثمان،إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان مما يأتي عليه الزمان ينزل عليه السورة ذات العدد،و كان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده فيقول:ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا و كذا،و تنزل عليه الآيات فيقول:ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا و كذا، و كانت الأنفال من أول ما أنزل بالمدينة،و كانت براءة من آخر القرآن نزولا،و كانت قصتها شبيهة بقصتها،فظننت أنها منها،و قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لم يبين لنا أنها منها،فمن أجل ذلك قرنت بينهما،و لم أكتب بينهما سطر:«بسم اللّه الرحمن الرحيم»
ص: 248
و وضعتهما في السبع الطوال (1).
و روى الطبراني،و ابن عساكر عن الشعبي،قال:
«جمع القرآن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ستة من الأنصار:أبي بن كعب،و زيد بن ثابت،و معاذ بن جبل،و أبو الدرداء،و سعد بن عبيد،و أبو زيد و كان مجمع بن جارية قد أخذه إلا سورتين أو ثلاث» (2).
و روى قتادة،قال:
«سألت أنس بن مالك:من جمع القرآن على عهد النبي؟قال:أربعة كلهم من الأنصار:أبيّ بن كعب،و معاذ بن جبل،و زيد بن ثابت،و أبو زيد» (3).
و روى مسروق:ذكر عبد اللّه بن عمر و عبد اللّه بن مسعود،فقال:
«لا أزال أحبه،سمعت النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول:خذوا القرآن من أربعة:من عبد اللّه بن مسعود،و سالم،و معاذ،و أبيّ بن كعب» (4).
و أخرج النسائي بسند صحيح،عن عبد اللّه بن عمر،قال:
«جمعت القرآن فقرأت به كل ليلة،فبلغ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال:اقرأه في شهر...» (5).
و ستجىء رواية ابن سعد في جمع أم ورقة القرآن.
و لعل قائلا يقول و إن المراد من الجمع في هذه الروايات هو الجمع في الصدور لا التدوين،و هذا القول دعوى لا شاهد عليها،أضف إلى ذلك أنك ستعرف أن حفاظ0.
ص: 249
القرآن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كانوا أكثر من أن تحصى أسماؤهم،فكيف يمكن حصرهم في أربعة أو ستة؟!!و إن المتصفح لأحوال الصحابة،و أحوال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يحصل له العلم اليقين بأن القرآن كان مجموعا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أن عدد الجامعين له لا يستهان به.و أما ما رواه البخاري بإسناده عن أنس،قال:مات النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لم يجمع القرآن غير أربعة:أبو الدرداء،و معاذ بن جبل،و زيد بن ثابت، و أبو زيد،فهو مردود مطروح،لانه معارض للروايات المتقدمة،حتى لما رواه البخاري بنفسه.و يضاف إلى ذلك أنه غير قابل للتصديق به.و كيف يمكن أن يحيط الراوي بجميع أفراد المسلمين حين وفاة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على كثرتهم،و تفرقهم في البلاد، و يستعلم أحوالهم ليمكنه أن يحصر الجامعين للقرآن في أربعة،و هذه الدعوى تخرص بالغيب،و قول بغير علم.
و صفوة القول:أنه مع هذه الروايات كيف يمكن أن يصدق أن أبا بكر كان أول من جمع القرآن بعد خلافته؟و إذا سلمنا ذلك فلما ذا أمر زيدا و عمر بجمعه من اللخاف،و العسب،و صدور الرجال،و لم يأخذه من عبد اللّه و معاذ و أبيّ،و قد كانوا عند الجمع أحياء،و قد أمروا بأخذ القرآن منهم،و من سالم؟نعم إن سالما قد قتل في حرب اليمامة،فلم يمكن الأخذ منه.على أن زيدا نفسه كان أحد الجامعين للقرآن على ما يظهر من هذه الرواية،فلا حاجة إلى التفحص و السؤال من غيره،بعد أن كان شابا عاقلا غير متهم كما يقول أبو بكر،أضف إلى جميع ذلك أن أخبار الثقلين المتظافرة تدلنا على أن القرآن كان مجموعا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على ما سنشير إليه.
إن هذه الروايات معارضة بالكتاب،فإن كثيرا من آيات الكتاب الكريمة دالة
ص: 250
على أن سور القرآن كانت متميزة في الخارج بعضها عن بعض،و ان السور كانت منتشرة بين الناس،حتى المشركين و أهل الكتاب،فإن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد تحدى الكفار و المشركين على الإتيان بمثل القرآن،و بعشر سور مثله مفتريات،و بسورة من مثله، و معنى هذا:أن سور القرآن كانت في متناول أيديهم.
و قد أطلق لفظ الكتاب على القرآن في كثير من آياته الكريمة،و في قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«إني تارك فيكم الثقلين:كتاب اللّه و عترتي»و في هذا دلالة على أنه كان مكتوبا مجموعا،لأنه لا يصح إطلاق الكتاب عليه و هو في الصدور،بل و لا على ما كتب في اللخاف،و العسب،و الأكتاف،إلا على نحو المجاز و العناية،و المجاز لا يحمل اللفظ عليه من غير قرينة،فإن لفظ الكتاب ظاهر فيما كان له وجود واحد جمعي، و لا يطلق على المكتوب إذا كان مجزّأ غير مجتمع،فضلا عما إذا لم يكتب،و كان محفوظ في الصدور فقط.
إن هذه الروايات مخالفة لحكم العقل،فإن عظمة القرآن في نفسه،و اهتمام النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بحفظه و قراءته،و اهتمام المسلمين بما يهتم به النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ما يستوجبه ذلك من الثواب،كل ذلك ينافي جمع القرآن على النحو المذكور في تلك الروايات،فإن في القرآن جهات عديدة كل واحدة منها تكفي لان يكون القرآن موضعا لعناية المسلمين،و سببا لاشتهاره حتى بين الأطفال و النساء منهم،فضلا عن الرجال.و هذه الجهات هي:
1-بلاغة القرآن:فقد كانت العرب تهتم بحفظ الكلام البليغ،و لذلك فهم يحفظون أشعار الجاهلية و خطبها،فكيف بالقرآن الذي تحدّى ببلاغته كل بليغ،
ص: 251
و أخرس بفصاحته كل خطيب لسن،و قد كانت العرب بأجمعهم متوجهين إليه،سواء في ذلك مؤمنهم و كافرهم،فالمؤمن يحفظه لإيمانه،و الكافر يتحفظ به لأنه يتمنى معارضته،و إبطال حجته.
2-إظهار النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رغبته بحفظ القرآن،و الاحتفاظ به:و كانت السيطرة و السلطة له خاصة،و العادة تقضي بأن الزعيم إذا أظهر رغبته بحفظ كتاب أو بقراءته فإن ذلك الكتاب يكون رائجا بين جميع الرعية،الذين يطلبون رضاه الدين أو دنيا.
3-إن حفظ القرآن سبب لارتفاع شأن الحافظ بين الناس،و تعظيمه عندهم:
فقد علم كل مطّلع على التاريخ ما للقرّاء و الحفّاظ من المنزلة الكبيرة،و المقام الرفيع بين الناس،و هذا أقوى سبب لاهتمام الناس بحفظ القرآن جملة،أو بحفظ القدر الميسور منه.
4-الأجر و الثواب الذي يستحقه القارئ و الحافظ بقراءة القرآن و حفظه:هذه أهم العوامل التي تبعث على حفظ القرآن و الاحتفاظ به،و قد كان المسلمون يهتمون بشأن القرآن،و يحتفظون به أكثر من اهتمامهم بأنفسهم،و بما يهمهم من مال و أولاد.
و قد ورد أن بعض النساء جمعت جميع القرآن.
أخرج ابن سعد في طبقات:«أنبأنا الفضل ابن دكين،حدثنا الوليد بن عبد اللّه بن جميع،قال:حدثتني جدتي عن أم ورقة بنت عبد اللّه بن الحارث،و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يزورها،و يسميها الشهيدة و كانت قد جمعت القرآن،ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين غزا بدرا،قالت له:أ تأذن لي فأخرج معك أداوي جرحاكم و امرّض مرضاكم لعل اللّه يهدي لي شهادة؟قال:إن اللّه مهّد لك شهادة...» (1)0.
ص: 252
و إذا كان هذا حال النساء في جمع القرآن فكيف يكون حال الرجال؟و قد عدّ من حفاظ القرآن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جمّ غفير.قال القرطبي:«قد قتل يوم اليمامة سبعون من القراء،و قتل في عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ببئر معونة مثل هذا العدد» (1).
و قد تقدم في الرواية«العاشرة»أنه قتل من القراء يوم اليمامة أربعمائة رجل على أن شدة اهتمام النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالقرآن،و قد كان له كتّاب عديدون،و لا سيما أن القرآن نزل نجوما في مدة ثلاث و عشرين سنة،كل هذا يورث لنا القطع بأن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان قد أمر بكتابة القرآن على عهده.
روى زيد بن ثابت،قال:«كنا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نؤلف القرآن من الرقاع».
قال الحاكم:«هذا حديث صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه»و فيه الدليل الواضح:أن القرآن إنما جمع على عهد رسول اللّه (2).
و أما حفظ بعض سور القرآن أو بعض السورة فقد كان منتشرا جدا،و شذ أن يخلو من ذلك رجل أو امرأة من المسلمين.روى عبادة بن الصامت قال:
«كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يشغل،فإذا قدم رجل مهاجر على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دفعه إلى رجل منّا يعلمه القرآن» (3).
و روى كليب،قال:
«كنت مع علي عليه السّلام فسمع ضجتهم في المسجد يقرءون القرآن، فقال:طوبى لهؤلاء...» (4).ن.
ص: 253
و عن عبادة بن الصامت أيضا:
«كان الرجل إذا هاجر دفعه النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى رجل منا يعلمه القرآن،و كان يسمع لمسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ضجة بتلاوة القرآن،حتى أمرهم رسول اللّه أن يخفضوا أصواتهم لئلا يتغالطوا» (1).
نعم إن حفظ القرآن و لو ببعضه كان رائجا بين الرجال و النساء من المسلمين، حتى أن المسلمة قد تجعل مهرها تعليم سورة من القرآن أو أكثر (2)و مع هذا الاهتمام كله كيف يمكن أن يقال:إن جمع القرآن قد تأخر إلى زمان خلافة أبي بكر،و إن أبا بكر احتاج في جمع القرآن إلى شاهدين يشهدان أنهما سمعا ذلك من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم9/ /10
إن هذه الروايات مخالفة لما أجمع عليه المسلمون قاطبة من أن القرآن لا طريق لإثباته إلا التواتر،فإنها تقول:إن إثبات آيات القرآن حين الجمع كان منحصرا بشهادة شاهدين،أو بشهادة رجل واحد إذا كانت تعدل شهادتين،و على هذا فاللازم أن يثبت القرآن بالخبر الواحد أيضا،و هل يمكن لمسلم أن يلتزم بذلك؟ و لست أدري كيف يجتمع القول بصحة هذه الروايات التي تدل على ثبوت القرآن بالبينة،مع القول بأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر،أ فلا يكون القطع بلزوم كون القرآن متواترا سببا للقطع بكذب هذه الروايات أجمع؟ و من الغريب أن بعضهم كابن حجر فسر الشاهدين في الروايات بالكتابة
ص: 254
و الحفظ (1).و في ظني أن الذي حمله على ارتكاب هذا التفسير هو ما ذكرناه من لزوم التواتر في القرآن.و على كل حال فهذا التفسير واضح الفساد من جهات:
أما أولا:فلمخالفته صريح تلك الروايات في جمع القرآن،و قد سمعتها.
و أما ثانيا:فلأنّ هذا التفسير يلزمه أنهم لم يكتبوا ما ثبت أنه من القرآن بالتواتر،إذا لم يكن مكتوبا عند أحد،و معنى ذلك أنهم أسقطوا من القرآن ما ثبت بالتواتر أنه من القرآن.
و أما ثالثا:فلأنّ الكتابة و الحفظ لا يحتاج إليهما إذا كان ما يراد كتابته متواترا، و هما لا يثبتان كونه من القرآن،إذا لم يكن متواترا.و على كل حال فلا فائدة في جعلهما شرطا في جمع القرآن.
و على الجملة لا بد من طرح هذه الروايات،لأنها تدل على ثبوت القرآن بغير التواتر،و قد ثبت بطلان ذلك بإجماع المسلمين./
أن هذه الروايات لو صحت،و أمكن الاستدلال بها على التحريف من جهة النقص،لكان اللاّزم على المستدل أن يقول بالتحريف من جهة الزيادة في القرآن أيضا،لأن كيفية الجمع المذكورة تستلزم ذلك،و لا يمكن له أن يعتذر عن ذلك بأن حد الإعجاز في بلاغة القرآن يمنع من الزيادة عليه،فلا تقاس الزيادة على النقيصة، و ذلك لأن الإعجاز في بلاغة القرآن و إن كان يمنع عن الإتيان بمثل سورة من سوره، و لكنه لا يمنع من الزيادة عليه بكلمة أو بكلمتين،بل و لا بآية كاملة،و لا سيما إذا كانت قصيرة،و لو لا هذا الاحتمال لم تكن حاجة إلى شهادة شاهدين،كما في روايات
ص: 255
الجمع المتقدمة،فإن الآية التي يأتي بها الرجل تثبت نفسها أنها من القرآن أو من غيره.و إذن فلا مناص للقائل بالتحريف من القول بالزيادة أيضا و هو خلاف إجماع المسلمين.
و خلاصة ما تقدم،أن إسناد جمع القرآن إلى الخلفاء أمر موهوم،مخالف للكتاب، و السنة،و الإجماع،و العقل،فلا يمكن القائل بالتحريف أن يستدل به على دعواه،و لو سلمنا أن جامع القرآن هو أبو بكر في أيام خلافته،فلا ينبغي الشك في أن كيفية الجمع المذكورة في الروايات المتقدمة مكذوبة،و إن جمع القرآن كان مستندا إلى التواتر بين المسلمين،غاية الأمر أن الجامع قد دوّن في المصحف ما كان محفوظا في الصدور على نحو التواتر.
نعم لا شك أن عثمان قد جمع القرآن في زمانه،لا بمعنى أنه جمع الآيات و السور في مصحف،بل بمعنى أنه جمع المسلمين على قراءة إمام واحد،و أحرق المصاحف الأخرى التي تخالف ذلك المصحف،و كتب إلى البلدان أن يحرقوا ما عندهم منها، و نهى المسلمين عن الاختلاف في القراءة،و قد صرح بهذا كثير من أعلام أهل السنة.
قال الحارث المحاسبي:«المشهور عند الناس أن جامع القرآن عثمان،و ليس كذلك،إنما حمل عثمان الناس على القراءة بوجه واحد،على اختيار وقع بينه و بين من شهده من المهاجرين و الأنصار،لما خشي الفتنة عند اختلاف أهل العراق و الشام في حروف القراءات،فأما قبل ذلك فقد كانت المصاحف بوجوه من القراءات المطلقات على الحروف السبعة التي أنزل بها القرآن...» (1).8.
ص: 256
أقول:أما أن عثمان جمع المسلمين على قراءة واحدة،و هي القراءة التي كانت متعارفة بين المسلمين،و التي تلقوها بالتواتر عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أنه منع عن القراءات الأخرى المبتنية على أحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف،التي تقدم توضيح بطلانها.أما هذا العمل من عثمان فلم ينتقده عليه أحد من المسلمين،و ذلك لأن الاختلاف في القراءة كان يؤدي إلى الاختلاف بين المسلمين،و تمزيق صفوفهم، و تفريق وحدتهم،بل كان يؤدي إلى تكفير بعضهم بعضا.و قد مرّ فيما تقدم بعض الروايات الدالّة على أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منع عن الاختلاف في القرآن،و لكن الأمر الذي انتقد عليه هو إحراقه لبقية المصاحف،و أمره أهالى الأمصار بإحراق ما عندهم من المصاحف،و قد اعترض على عثمان في ذلك جماعة من المسلمين،حتى سمّوه بحرّاق المصاحف.
و مما ذكرناه:قد تبين للقارئ أن حديث تحريف القرآن حديث خرافة و خيال، لا يقول به إلا من ضعف عقله،أو من لم يتأمل في أطرافه حق التأمل،أو منألجأه إليه يجب القول به.و الحب يعمي و يصم،و أما العاقل المنصف المتدبر فلا يشك في بطلانه و خرافته.15/
ص: 257
ص: 258
ص: 259
-إثبات حجية ظواهر القرآن.
-أدلة المنكرين لها مع تزييفها.
-اختصاص فهم القرآن بمن خوطب به.
-الأخذ بالظاهر من التفسير بالرأي.
-غموض معاني القرآن يمنع من فهمها.
-إرادة خلاف الظاهر في بعض الآيات-إجمالا-تسقط الظواهر عن الحجية.
-المنع من اتباع المتشابه يسقط حجية ظواهر القرآن.
ص: 260
لا شك أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يخترع لنفسه طريقة خاصة لإفهام مقاصده،و أنه كلّم قومه بما ألفوه من طرائق التفهيم و التكلم و أنه أتى بالقرآن ليفهموا معانيه،و ليتدبروا آياته فيأتمروا بأوامره،و يزدجروا بزواجره و قد تكرّر في الآيات الكريمة ما يدل على ذلك،كقوله تعالى:
أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها «47:24».
و قوله تعالى:
وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ «39:
27».
و قوله تعالى:
وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ 26:192. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ :193. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ :194. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ :195) و قوله تعالى:
هذا بَيانٌ لِلنّاسِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ «3:138».
ص: 261
و قوله تعالى:
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ «44:58».
و قوله تعالى:
وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ «54:17».
و قوله تعالى:
أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً «4:82».
إلى غير ذلك من الآيات الدالة على وجوب العمل بما في القرآن و لزوم الأخذ بما يفهم من ظواهره.
و مما يدلّ على حجية ظواهر الكتاب و فهم العرب لمعانيه:
1-أن القرآن نزل حجة على الرسالة،و أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد تحدّى البشر على أن يأتوا و لو بسورة من مثله،و معنى هذا:أن العرب كانت تفهم معاني القرآن من ظواهره،و لو كان القرآن من قبيل الألغاز لم تصح مطالبتهم بمعارضته،و لم يثبت لهم إعجازه،لأنهم ليسوا ممن يستطيعون فهمه،و هذا ينافي الغرض من إنزال القرآن و دعوة البشر إلى الإيمان به.
2-الروايات المتظافرة الآمرة بالتمسك بالثقلين الذين تركهما النبي في المسلمين، فإن من البيّن أن معنى التمسك بالكتاب هو الأخذ به،و العمل بما يشتمل عليه،و لا معنى له سوى ذلك.
3-الروايات المتواترة التي أمرت بعرض الأخبار على الكتاب،و أن ما خالف
ص: 262
الكتاب منها يضرب على الجدار،أو أنه باطل،أو أنه زخرف (1)،أو أنه منهي عن قبوله (2)،أو أن الأئمة لم تقله (3)،و هذه الروايات صريحة في حجية ظواهر الكتاب، و أنه مما تفهمه عامة أهل اللسان العارفين بالفصيح من لغة العرب.و من هذا القبيل الروايات التي أمرت بعرض الشروط على كتاب اللّه و ردّ ما خالفه منها. (4)
4-استدلالات الأئمة عليه السّلام على جملة من الأحكام الشرعية و غيرها بالآيات القرآنية:
منها:قول الصادق عليه السّلام-حينما سأله زرارة من أين علمت أن المسح ببعض الرأس-«لمكان الباء». (5)
و منها:قوله عليه السّلام في نهي الدوانيقي عن قبول خبر النحّام:«انه فاسق»و قد قال اللّه تعالى:
إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا «49:6». (6)
و منها:قوله عليه السّلام لمن أطال الجلوس في بيت الخلاء لاستماع الغناء اعتذارا بأنه لم يكن شيئا أتاه برجله-أما سمعت قول اللّه عز و جل:
إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً «17:36». (7)
و منها:قوله عليه السّلام لابنه إسماعيل:«فإذا شهد عندك المؤمنون فصدّقهم:مستدلا0.
ص: 263
بقول اللّه عز و جل: يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ «9:61». (1)
و منها:قوله عليه السّلام في تحليل نكاح العبد للمطلقة ثلاثا:إنه زوج،قال اللّه عز و جل:
حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ «2:230». (2)
و منها:قوله عليه السّلام في أن المطلقة ثلاثا لا تحلّ بالعقد المنقطع:إن اللّه تعالى قال:
فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا «4:127».
«و لا طلاق في المتعة». (3)
و منها:قوله عليه السّلام فيمن عثر فوقع ظفره فجعل على إصبعه مرارة:إن هذا و شبهه يعرف من كتاب اللّه تعالى:
وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «22:78».
ثم قال:«امسح عليه». (4)
و منها:استدلاله عليه السّلام على حلية بعض النساء بقوله تعالى:
وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ «4:23». (5)
و منها:استدلاله عليه السّلام على عدم جواز نكاح العبد بقوله تعالى:
عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ «16:75». (6)3.
ص: 264
و منها:استدلاله عليه السّلام على حلية بعض الحيوانات بقوله تعالى:
قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ «6:145». (1)
و غير ذلك من استدلالاتهم عليهم السّلام بالقرآن في موارد كثيرة،و هي متفرقة في أبواب الفقه و غيرها.
و قد خالف جماعة من المحدثين،فأنكروا حجية ظواهر الكتاب و منعوا عن العمل به.و استدلوا على ذلك بأمور:
إن فهم القرآن مختص بمن خوطب به،و قد استندوا في هذه الدعوى إلى عدة روايات واردة في هذا الموضوع،كمرسلة شعيب بن أنس،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنه قال لأبي حنيفة:
«أنت فقيه أهل العراق؟قال:نعم.قال عليه السّلام:فبأيّ شىء تفتيهم؟قال:بكتاب اللّه و سنّة نبيه.قال عليه السّلام:يا أبا حنيفة تعرف كتاب اللّه حق معرفته،و تعرف الناسخ من المنسوخ؟قال:نعم.
قال عليه السّلام:يا أبا حنيفة لقد ادعيت علما-و ويلك-ما جعل اللّه ذلك إلا عند أهل الكتاب الذين أنزل عليهم،و ويلك ما هو إلا عند الخاص من ذرية نبينا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ما ورّثك اللّه تعالى من كتابه حرفا». (2)
ص: 265
و في رواية زيد الشحام،قال:
«دخل قتادة على أبي جعفر عليه السّلام فقال له:أنت فقيه أهل البصرة؟فقال:هكذا يزعمون.فقال عليه السّلام بلغني أنك تفسّر القرآن.
قال:نعم(إلى أن قال)يا قتادة إن كنت قد فسّرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت و أهلكت،و إن كنت قد فسّرته من الرجال فقد هلكت و أهلكت،يا قتادة- ويحك-إنما يعرف القرآن من خوطب به». (1)
و الجواب:
إن المراد من هذه الروايات و أمثالها أن فهم القرآن حق فهمه،و معرفة ظاهره و باطنه،و ناسخه و منسوخه مختص بمن خوطب به.و الرواية الأولى صريحة في ذلك، فقد كان السؤال فيها عن معرفة كتاب اللّه حق معرفته،و تمييز الناسخ من المنسوخ، و كان توبيخ الإمام عليه السّلام لأبي حنيفة على دعوى معرفة ذلك.
و أما الرواية الثانية فقد تضمنت لفظ التفسير،و هو بمعنى كشف القناع،فلا يشمل الأخذ بظاهر اللفظ،لأنه غير مستور ليكشف عنه القناع،و يدل على ذلك أيضا ما تقدم من الروايات الصريحة في أن فهم الكتاب لا يختص بالمعصومين عليهم السّلام و يدل على ذلك أيضا قوله عليه السّلام في المرسلة:«و ما ورّثك اللّه من كتابه حرفا» (2)فإن معنى ذلك أن اللّه قد خص أوصياء نبيه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بإرث الكتاب،و هو معنى قوله تعالى:
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا «35:32».7.
ص: 266
فهم المخصوصون بعلم القرآن على واقعه و حقيقته،و ليس لغيرهم في ذلك نصيب.
هذا هو معنى المرسلة و إلا فكيف يعقل أن أبا حنيفة لا يعرف شيئا من كتاب اللّه حتى مثل قوله تعالى:
قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ «111:1».
و أمثال هذه الآية مما يكون صريحا في معناه،و الأخبار الدالة على الاختصاص المتقدم كثيرة جدا،و قد تقدم بعضها.
:
إن الأخذ بظاهر اللفظ من التفسير بالرأي،و قد نهى عنه في روايات متواترة بين الفريقين.
و الجواب:
إن التفسير هو كشف القناع كما قلنا،فلا يكون منه حمل اللفظ على ظاهره،لأنه ليس بمستور حتى يكشف،و لو فرضنا أنه تفسير فليس تفسيرا بالرأي،لتشمله الروايات الناهية المتواترة،و إنما هو تفسير بما يفهمه العرف من اللفظ،فإن الذي يترجم خطبة من خطب نهج البلاغة-مثلا-بحسب ما يفهمه العرف من ألفاظها، و بحسب ما تدل القرائن المتصلة و المنفصلة،لا يعدّ عمله هذا من التفسير بالرأي.
و قد أشار إلى ذلك الإمام الصادق عليه السّلام بقوله:«إنما هلك الناس في المتشابه لأنهم لم يقفوا على معناه،و لم يعرفوا حقيقته،فوضعوا له تأويلا من عند أنفسهم بآرائهم، و استغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء فيعرفونهم». (1)
ص: 267
و يحتمل أن معنى التفسير بالرأي الاستقلال في الفتوى من غير مراجعة الأئمة عليهم السّلام،مع أنهم قرناء الكتاب في وجوب التمسك،و لزوم الانتهاء إليهم،فإذا عمل الإنسان بالعموم أو الإطلاق الوارد في الكتاب،و لم يأخذ التخصيص أو التقييد الوارد عن الأئمة عليهم السّلام كان هذا من التفسير بالرأي.
و على الجملة حمل اللفظ على ظاهره بعد الفحص عن القرائن المتصلة و المنفصلة من الكتاب و السنّة،أو الدليل العقلي لا يعد من التفسير بالرأي بل و لا من التفسير نفسه،و قد تقدم بيانه،على أن الروايات المتقدمة دلت على الرجوع إلى الكتاب،و العمل بما فيه.و من البين أن المراد من ذلك الرجوع إلى ظواهره،و حينئذ فلا بدّ و أن يراد من التفسير بالرأي غير العمل بالظواهر جمعا بين الأدلة.
إن في القرآن معاني شامخة،و مطالب غامضة،و اشتماله على ذلك يكون مانعا عن فهم معانيه،و الإحاطة بما أريد منه،فإنا نجد بعض كتب السلف لا يصل إلى معانيها إلا العلماء المطّلعون،فكيف بالكتاب المبين الذي جمع علم الأولين و الآخرين.
و الجواب:
إن القرآن و إن اشتمل على علم ما كان و ما يكون،و كانت معرفة هذا من القرآن مختصة بأهل بيت النبوة من دون ريب،و لكن ذلك لا ينافي أن للقرآن ظواهر يفهمها العارف باللغة و أساليبها،و يتعبد بما يظهر له بعد الفحص عن القرائن.
إنا نعلم-إجمالا-بورود مخصّصات لعمومات القرآن،و مقيدات لإطلاقاته،و نعلم بأن بعض ظواهر الكتاب غير مراد قطعا،و هذه العمومات المخصّصة،و المطلقات
ص: 268
المقيّدة،و الظواهر غير المرادة ليست معلومة بعينها،ليتوقف فيها بخصوصها.و نتيجة هذا أن جميع ظواهر الكتاب و عموماته و مطلقاته تكون مجملة بالعرض،و إن لم تكن مجملة بالأصالة،فلا يجوز أن يعمل بها حذرا من الوقوع فيما يخالف الواقع.
و الجواب:
إن هذا العلم الإجمالي إنما يكون سببا للمنع عن الأخذ بالظواهر،إذا أريد العمل بها قبل الفحص عن المراد،و أما بعد الفحص و الحصول على المقدار الذي علم المكلف بوجوده إجمالا بين الظواهر،فلا محالة ينحل العلم الإجمالي،و يسقط عن التأثير،و يبقى العلم بالظواهر بلا مانع.و نظير هذا يجري في السنّة أيضا،فإنا نعلم بورود مخصّصات لعموماتها و مقيدات لمطلقاتها،فلو كان العلم الإجمالي مانعا عن التمسك بالظواهر حتى بعد انحلاله لكان مانعا عن العمل بظواهر السنة أيضا،بل و لكان مانعا عن أجراء أصالة البراءة في الشبهات الحكمية،الوجوبية منها و التحريمية،فإن كل مكلف يعلم بوجود تكاليف إلزامية في الشريعة المقدسة،و لازم هذا العلم الإجمالي وجوب الاحتياط عليه في كل شبهة تحريمية،أو وجوبية يقع فيها مع أن الاحتياط ليس بواجب فيها يقينا.
نعم ذهب جمع كثير من المحدّثين إلى وجوب الاحتياط في موارد الشبهات التحريمية،إلا أن ذلك نشأ من توهّمهم أن الروايات الآمرة بالتوقّف أو الاحتياط تدلّ على وجوب الاحتياط و التوقف في موارد تلك الشبهات.و ليس قولهم هذا ناشئا من العلم الإجمالي بوجود التكاليف الإلزامية في الشريعة المقدسة،و إلا لكان اللازم عليهم القول بوجوب الاحتياط حتى في الشبهات الوجوبية،مع أنه لم يذهب إلى وجوبه فيها أحد فيما نعلم.و السر في عدم وجوب الاحتياط في هذه الموارد و في
ص: 269
أمثالها واحد،و هو أن العلم الإجمالي قد انحلّ بسبب الظفر بالمقدار المعلوم،و بعد انحلاله يسقط عن التأثير.و لتوضيح ذلك يراجع كتابنا«أجود التقريرات».
إن الآيات الكريمة قد منعت عن العمل بالمتشابه،فقد قال اللّه تعالى:
مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ «3:7».
و المتشابه يشمل الظاهر أيضا،و لا أقل من احتمال شموله للظاهر فيسقط عن الحجية.
الجواب:
إن لفظ المتشابه واضح المعنى و لا إجمال فيه و لا تشابه،و معناه أن يكون للّفظ وجهان من المعاني أو أكثر،و جميع هذه المعاني في درجة واحدة بالنسبة الى ذلك اللفظ،فإذا أطلق ذلك اللفظ احتمل في كل واحد من هذه المعاني أن يكون هو المراد.و لذلك فيجب التوقف في الحكم إلى أن تدل قرينة على التعيين،و على ذلك فلا يكون اللفظ الظاهر من المتشابه.
و لو سلمنا أن لفظ المتشابه متشابه،يحتمل شموله للظاهر،فهذا لا يمنع عن العمل بالظاهر بعد استقرار السيرة بين العقلاء على اتباع الظهور من الكلام.فإن الاحتمال بمجرده لا يكون رادعا عن العمل بالسيرة،و لا بد في الردع عنها من دليل قطعي، و إلا فهي متبعة من دون ريب،و لذلك فإن المولى يحتج على عبده إذا خالف ظاهر كلامه،و يصح له أن يعاقبه على المخالفة،كما أن العبد نفسه يحتج على مولاه إذا وافق ظاهر كلام مولاه و كان هذا الظاهر مخالفا لمراده.و على الجملة فهذه السيرة متّبعة في
ص: 270
التمسك بالظهور حتى يقوم دليل قطعي على الردع.
إن وقوع التحريف في القرآن،مانع من العمل بالظواهر،لاحتمال كون هذه الظواهر مقرونة بقرائن تدل على المراد،و قد سقطت بالتحريف.
و الجواب:
منع وقوع التحريف في القرآن،و قد قدمنا البحث عن ذلك،و ذكرنا أن الروايات الآمرة بالرجوع إلى القرآن بأنفسها شاهدة على عدم التحريف،و إذا تنزلنا عن ذلك فإن مقتضى تلك الروايات هو وجوب العمل بالقرآن،و إن فرض وقوع التحريف فيه.و نتيجة ما تقدم أنه لا بدّ من العمل بظواهر القرآن،و أنه الأساس للشريعة،و أن السنة المحكية لا يعمل بها إذا كانت مخالفة له.
ص: 271
ص: 272
ص: 273
-المعنى اللغوي و الاصطلاحي للنسخ.
-إمكان النسخ.وقوعه في التوراة.
-وقوعه في الشريعة الإسلامية.أقسام النسخ الثلاثة.
-الآيات المدعى نسخها و إثبات انها محكمة.
-آية المتعة و دلالتها على جواز نكاح المتعة.
-الرجم على المتعة.
-فتوى أبي حنيفة بسقوط حد الزنا بالمحارم إذا عقد عليها.
-فتواه بسقوط الحد إذا استأجر امرأة فزنى بها.
-نسبة هذه الفتوى إلى عمر.
-مزاعم حول المتعة.
-تعصب مكشوف حول ترك الصحابة العمل بآية النجوى.
-كلام الرازي و الرد عليه.
ص: 274
في كتب التفسير و غيرها آيات كثيرة ادعى نسخها.و قد جمعها أبو بكر النحاس في كتابه«الناسخ و المنسوخ»فبلغت«138»آية.
و قد عقدنا هذا البحث لنستعرض جملة من تلك الآيات المدعى نسخها و لنتبيّن فيها أنه ليست-في واقع الأمر-واحدة منها منسوخة،فضلا عن جميعها.
و قد اقتصرنا على«36»آية منها،و هي التي استدعت المناقشة و التوضيح لجلاء الحق فيها،و أما سائر الآيات فالمسألة فيها أوضح من أن يستدل على عدم وجود نسخ فيها.
هو الاستكتاب،كالاستنساخ و الانتساخ،و بمعنى النقل و التحويل،و منه تناسخ المواريث و الدهور،و بمعنى الإزالة،و منه نسخت الشمس الظل،و قد كثر استعماله في هذا المعنى في ألسنة الصحابة و التابعين فكانوا يطلقون على المخصّص و المقيّد لفظ الناسخ (1).
ص: 275
هو رفع أمر ثابت في الشريعة المقدسة بارتفاع أمده و زمانه،سواء أ كان ذلك الأمر المرتفع من الأحكام التكليفية أم الوضعية،و سواء أ كان من المناصب الإلهية أم من غيرها من الأمور التي ترجع إلى اللّه تعالى بما أنه شارع،و هذا الأخير كما في نسخ القرآن من حيث التلاوة فقط،و إنما قيدنا الرفع بالأمر الثابت في الشريعة ليخرج به ارتفاع الحكم بسبب ارتفاع موضوعه خارجا،كارتفاع وجوب الصوم بانتهاء شهر رمضان،و ارتفاع وجوب الصلاة بخروج وقتها،و ارتفاع مالكية شخص لماله بسبب موته،فإن هذا النوع من ارتفاع الأحكام لا يسمى نسخا،و لا إشكال في إمكانه و وقوعه،و لا خلاف فيه من أحد.
و لتوضيح ذلك نقول:إن الحكم المجعول في الشريعة المقدسة له نحوان من الثبوت:
أحدهما:ثبوت ذلك الحكم في عالم التشريع و الإنشاء،و الحكم في هذه المرحلة يكون مجعولا على نحو القضية الحقيقية،و لا فرق في ثبوتها بين وجود الموضوع في الخارج و عدمه،و إنما يكون قوام الحكم بفرض وجود الموضوع.فإذا قال الشارع:
شرب الخمر حرام-مثلا-فليس معناه أن هنا خمرا في الخارج.و أن هذا الخمر محكوم بالحرمة،بل معناه أن الخمر متى ما فرض وجوده في الخارج فهو محكوم بالحرمة في الشريعة سواء أ كان في الخارج خمر بالفعل أم لم يكن،و رفع هذا الحكم في هذه المرحلة لا يكون إلا بالنسخ.
و ثانيهما:ثبوت ذلك الحكم في الخارج بمعنى أن الحكم يعود فعليا بسبب فعلية موضوعه خارجا،كما إذا تحقق وجود الخمر في الخارج،فإن الحرمة المجعولة في
ص: 276
الشريعة للخمر تكون ثابتة له بالفعل،و هذه الحرمة تستمر باستمرار موضوعها، فإذا انقلب خلا فلا ريب في ارتفاع تلك الحرمة الفعلية التي ثبتت له في حال خمريته، و لكن ارتفاع هذا الحكم ليس من النسخ في شىء،و لا كلام لأحد في جواز ذلك و لا في وقوعه،و إنما الكلام في القسم الأول،و هو رفع الحكم عن موضوعه في عالم التشريع و الإنشاء.
المعروف بين العقلاء من المسلمين و غيرهم هو جواز النسخ بالمعنى المتنازع فيه «رفع الحكم عن موضوعه في عالم التشريع و الإنشاء»و خالف في ذلك اليهود و النصارى فادعوا استحالة النسخ،و استندوا في ذلك إلى شبهة هي أوهن من بيت العنكبوت.
إن النسخ يستلزم عدم حكمة الناسخ،أو جهله بوجه الحكمة،و كلا هذين اللازمين مستحيل في حقه تعالى،و ذلك لأن تشريع الحكم من الحكيم المطلق لا بد و أن يكون على طبق مصلحة تقتضيه،لأن الحكم الجزافي ينافي حكمة جاعله،و على ذلك فرفع هذا الحكم الثابت لموضوعه إما أن يكون مع بقاء الحال على ما هو عليه من وجه المصلحة و علم ناسخه بها،و هذا ينافي حكمة الجاعل مع أنه حكيم مطلق، و إما أن يكون من جهة البداء،و كشف الخلاف على ما هو الغالب في الأحكام و القوانين العرفية،و هو يستلزم الجهل منه تعالى.و على ذلك فيكون وقوع النسخ في الشريعة محالا لأنه يستلزم المحال.
ص: 277
و الجواب:
إن الحكم المجعول من قبل الحكيم قد لا يراد منه البعث،أو الزجر الحقيقيين كالأوامر التي يقصد بها الامتحان،و هذا النوع من الأحكام يمكن إثباته أولا ثم رفعه،و لا مانع من ذلك،فإن كلا من الإثبات و الرفع في وقته قد نشأ عن مصلحة و حكمة،و هذا النسخ لا يلزم منه خلاف الحكمة،و لا ينشأ من البداء الذي يستحيل في حقه تعالى،و قد يكون الحكم المجعول حكما حقيقيا،و مع ذلك ينسخ بعد زمان، لا بمعنى أن الحكم بعد ثبوته يرفع في الواقع و نفس الأمر،كي يكون مستحيلا على الحكيم العالم بالواقعيات،بل هو بمعنى أن يكون الحكم المجعول مقيدا بزمان خاص معلوم عند اللّه،مجهول عند الناس،و يكون ارتفاعه بعد انتهاء ذلك الزمان،لانتهاء أمده الذي قيد به،و حلول غايته الواقعية التي أنيط بها.
و النسخ بهذا المعنى ممكن قطعا،بداهة:أن دخل خصوصيات الزمان في مناطات الأحكام مما لا يشك فيه عاقل،فإن يوم السبت-مثلا-في شريعة موسى عليه السّلام قد اشتمل على خصوصية تقتضي جعله عيدا لأهل تلك الشريعة دون بقية الأيام، و مثله يوم الجمعة في الإسلام،و هكذا الحال في أوقات الصلاة و الصيام و الحج،و إذا تصورنا وقوع مثل هذا في الشرائع فلنتصور أن تكون للزمان خصوصية من جهة استمرار الحكم و عدم استمراره.فيكون الفعل ذا مصلحة في مدة معينة،ثم لا تترتب عليه تلك المصلحة بعد انتهاء تلك المدة،و قد يكون الأمر بالعكس.
و جملة القول:إذا كان من الممكن أن يكون للساعة المعينة،أو اليوم المعين أو الأسبوع المعين،أو الشهر المعين تأثير في مصلحة الفعل أو مفسدته أمكن دخل السنة في ذلك أيضا،فيكون الفعل مشتملا على مصلحة في سنين معينة،ثم لا تترتب
ص: 278
عليه تلك المصلحة بعد انتهاء تلك السنين،و كما يمكن أن يقيد إطلاق الحكم من غير جهة الزمان بدليل منفصل،فكذلك يمكن أن يقيد إطلاقه من جهة الزمان أيضا بدليل منفصل،فإن المصلحة قد تقتضي بيان الحكم على جهة العموم أو الإطلاق،مع أن المراد الواقعي هو الخاص أو المقيد،و يكون بيان التخصيص أو التقييد بدليل منفصل.فالنسخ في الحقيقة تقييد لإطلاق الحكم من حيث الزمان و لا تلزم منه مخالفة الحكمة و لا البداء بالمعنى المستحيل في حقه تعالى،و هذا كله بناء على أن جعل الأحكام و تشريعها مسبب عن مصالح أو مفاسد تكون في نفس العمل.و أما على مذهب من يرى تبعية الأحكام لمصالح في الأحكام أنفسها فإن الأمر أوضح، لأن الحكم الحقيقي على هذا الرأي يكون شأنه شأن الأحكام الامتحانية.
و ما قدمناه يبطل تمسك اليهود و النصارى باستحالة النسخ في الشريعة،لاثبات استمرار الأحكام الثابتة في شريعة موسى.و من الغريب جدا أنهم مصرّون على إحالة النسخ في الشريعة الإلهية،مع أن النسخ قد وقع في موارد كثيرة من كتب العهدين:
1-فقد جاء في الاصحاح الرابع من سفر العدد«عدد 2،3»:
«خذ عدد بني قهات من بين بني لاوي حسب عشائرهم،و بيوت آبائهم من ابن ثلاثين سنة فصاعدا إلى ابن خمسين سنة،كل داخل في الجند ليعمل عملا في خيمة الاجتماع».
و قد نسخ هذا الحكم،و جعل مبدأ زمان قبول الخدمة بلوغ خمس و عشرين سنة
ص: 279
بما في الاصحاح الثامن من هذا السفر«عدد 23،24»:«و كلم الرب موسى قائلا هذا ما للاويين من ابن خمس و عشرين سنة فصاعدا،يأتون ليتجندوا أجنادا في خدمة خيمة الاجتماع».
ثم نسخ ثانيا:فجعل مبدأ زمان قبول الخدمة بلوغ عشرين سنة بما جاء في الاصحاح الثالث و العشرين من أخبار الأيام الاول«عدد 24،32»:«هؤلاء بنو لاوي حسب بيوت آبائهم رءوس الآباء حسب إحصائهم في عدد الأسماء،حسب رءوسهم عامل العمل لخدمة بيت الرب من ابن عشرين سنة فما فوق...و ليحرسوا حراسة خيمة الاجتماع،و حراسة القدس».
2-و جاء في الإصحاح الثامن و العشرين من سفر العدد«عدد 3-7»:
«و قل لهم هذا هو الوقود الذي تقربون للرب،خروفان حوليان صحيحان،لكل يوم محرقة دائمة.الخروف الواحد تعمله صباحا،و الخروف الثاني تعمله بين العشاءين.و عشر الايفة من دقيق ملتوت بربع الهين من زيت الرضّ تقدمة...
و سكيبها ربع الهين للخروف الواحد».
و قد نسخ هذا الحكم:و جعلت محرقة كل يوم حمل واحد حولي في كل صباح، و جعلت تقدمته سدس الايفة من الدقيق،و ثلث الهين من الزيت بما جاء في الاصحاح السادس و الأربعين من كتاب جزقيال«عدد 13-15»:«و تعمل كل يوم محرقة للرب حملا حوليا صحيحا صباحا تعمله.و تعمل عليه تقدمة صباحا صباحا سدس الايفة.و زيتا ثلث الهين لرشّ الدقيق تقدمة للرب فريضة أبدية دائمة،و يعملون الحمل و التقدمة و الزيت صباحا صباحا محرقة دائمة».
3-و جاء في الاصحاح الثامن و العشرين من سفر العدد أيضا:«عدد 9،10»:
ص: 280
«و في يوم السبت خروفان حوليان صحيحان،و عشران من دقيق ملتوت بزيت تقدمة مع سكيبه.محرقة كل سبت فضلا عن المحرقة الدائمة و سكيبها».
و قد نسخ هذا الحكم:و جعلت محرقة السبت سنة حملان و كبش،و جعلت التقدمة إيفة للكبش،و عطية يد الرئيس للحملان،و هين زيت للإيفة بما جاء في الاصحاح السادس و الأربعين من كتاب حزقيال أيضا«عدد 4،5»:«و المحرقة التي يقرّبها الرئيس للرب في يوم السبت ستة حملان صحيحة،و كبش صحيح.
و التقدمة إيفة للكبش،و للحملان تقدمة عطية يده،و هين زيت للإيفة».
4-و جاء في الاصحاح الثلاثين من سفر العدد«عدد 2»:
«إذا نذر رجل نذرا للرب،أو أقسم أن يلزم نفسه بلازم فلا ينقض كلامه، حسب كل ما خرج من فمه يفعل».
و قد نسخ جواز الحلف الثابت بحكم التوراة بما جاء في الاصحاح الخامس من إنجيل متى«عدد 33،34»:«أيضا سمعتم انه قيل للقدماء لا تحنث،بل أوف للرب أقسامك.و أما أنا فأقول لكم لا تحلفوا البتة».
5-و جاء في الاصحاح الحادي و العشرين من سفر الخروج«عدد 23-25»:
«و إن حصلت أذية تعطي نفسا بنفس،و عينا بعين و سنا بسنّ و يدا بيد و رجلا برجل،و كيّا بكيّ و جرحا بجرح و رضّا برضّ».
و قد نسخ هذا الحكم بالنهي عن القصاص في شريعة عيسى بما جاء في الاصحاح الخامس من إنجيل متى«عدد 38»:«سمعتم أنه قيل عين بعين و سن بسن،و أما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر،بل من لطمك على خدّك الأيمن فحوّل له الآخر أيضا».
ص: 281
6-و جاء في الاصحاح السابع عشر من سفر التكوين«عدد 10»في قول اللّه لإبراهيم:
«هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني و بينكم و بين نسلك من بعدك،يختن منكم كل ذكر».و قد جاء في شريعة موسى إمضاء ذلك.ففي الاصحاح الثاني عشر من سفر الخروج«عدد 48-49»:«و إذا نزل عندك نزيل،و صنع فصحا للرب فليختن منه كل ذكر،ثم يتقدم ليصنعه فيكون كمولود الأرض،و أما كل أغلف فلا يأكل منه،تكون شريعة واحدة لمولود الأرض،و للنزيل النازل بينكم».و جاء في الاصحاح الثاني عشر من سفر اللاويين«عدد 2،3»:«إذا حبلت امرأة و ولدت ذكرا تكون نجسة سبعة أيام كما في أيام طمث علتها تكون نجسة،و في اليوم الثامن يختن لحم غرلته».
و قد نسخ هذا الحكم،و وضع ثقل الختان عن الامة بما جاء في الاصحاح الخامس عشر من أعمال الرسل«عدد 24-30»و في جملة من رسائل بولس الرسول.
7-و جاء في الاصحاح الرابع و العشرين من التثنية«عدد 1-3»:
«إذا أخذ رجل امرأة و تزوج بها فإن لم تجد نعمة في عينيه،لأن وجد فيها عيب شىء،و كتب لها كتاب طلاق و دفعه إلى يدها،و أطلقها من بيته،و متى خرجت من بيته ذهبت و صارت لرجل آخر،فإن أبغضها الرجل الآخر و كتب لها كتاب طلاق، و دفعه إلى يدها و أطلقها من بيته أو إذا مات الرجل الأخير الذي اتخذها له زوجة، لا يقدر زوجها الأول الذي طلقها أن يعود يأخذها،لتصير له زوجة».
و قد نسخ الإنجيل ذلك و حرّم الطلاق بما جاء في الاصحاح الخامس من متى
ص: 282
«عدد 31-32»:«و قيل من طلّق امرأته فليعطها كتاب طلاق،و أما أنا فأقول لكم إن من طلق امرأته إلا لعلة الزنا يجعلها تزني،و من يتزوج مطلّقة فإنه يزني.«و قد جاء مثل ذلك في الاصحاح العاشر من مرقس:عدد«11،12» و الاصحاح السادس عشر من لوقا«عدد 18».
و فيما ذكرناه كفاية لمن ألقى السمع و هو شهيد،و من أراد الاطلاع على أكثر من ذلك فليراجع كتابي إظهار الحق (1)و الهدى إلى دين المصطفى (2).
لا خلاف بين المسلمين في وقوع النسخ،فإن كثيرا من أحكام الشرائع السابقة قد نسخت بأحكام الشريعة الإسلامية،و إن جملة من أحكام هذه الشريعة قد نسخت بأحكام اخرى من هذه الشريعة نفسها،فقد صرح القرآن الكريم بنسخ حكم التوجه في الصلاة إلى القبلة الاولى،و هذا مما لا ريب فيه.
و إنما الكلام في أن يكون شىء من أحكام القرآن منسوخا بالقرآن،أو بالسنة القطعية،أو بالإجماع،أو بالعقل.و قبل الخوض في البحث عن هذه الجهة يحسن بنا أن نتكلم على أقسام النسخ،فقد قسموا النسخ في القرآن إلى ثلاثة أقسام:
و قد مثلوا لذلك بآية الرجم فقالوا:إن هذه الآية كانت من القرآن ثم نسخت تلاوتها و بقي حكمها،و قد قدمنا لك في بحث التحريف أن القول بنسخ التلاوة هو
ص: 283
نفس القول بالتحريف و أوضحنا أن مستند هذا القول أخبار آحاد و أن أخبار الآحاد لا أثر لها في أمثال هذا المقام.
فقد أجمع المسلمون على أن النسخ لا يثبت بخبر الواحد كما أن القرآن لا يثبت به،و الوجه في ذلك-مضافا إلى الإجماع-أن الأمور المهمة التي جرت العادة بشيوعها بين الناس،و انتشار الخبر عنها على فرض وجودها لا تثبت بخبر الواحد فإن اختصاص نقلها ببعض دون بعض بنفسه دليل على كذب الراوي أو خطئه، و على هذا فكيف يثبت بخبر الواحد أن آية الرجم من القرآن،و انها قد نسخت تلاوتها،و بقي حكمها،نعم قد تقدم أن عمر أتى بآية الرجم و ادعى انها من القرآن فلم يقبل قوله المسلمون،لأن نقل هذه الآية كان منحصرا به،و لم يثبتوها في المصاحف،فالتزم المتأخرون بأنها آية منسوخة التلاوة باقية الحكم.
و مثلوا لنسخ التلاوة و الحكم معا بما تقدم نقله عن عائشة في الرواية العاشرة من نسخ التلاوة في بحث التحريف،و الكلام في هذا القسم كالكلام على القسم الأول بعينه.
و هذا القسم هو المشهور بين العلماء و المفسرين،و قد ألف فيه جماعة من العلماء كتبا مستقلة،و ذكروا فيها الناسخ و المنسوخ.منهم العالم الشهير أبو جعفر النحاس، و الحافظ المظفر الفارسي،و خالفهم في ذلك بعض المحققين،فأنكروا وجود المنسوخ في القرآن.و قد اتفق الجميع على إمكان ذلك،و على وجود آيات في القرآن ناسخة لأحكام ثابتة في الشرائع السابقة،و لأحكام ثابتة في صدر الإسلام.
ص: 284
و لتوضيح ما هو الصحيح في هذا المقام نقول:إن نسخ الحكم الثابت في القرآن يمكن أن يكون على أقسام ثلاثة:
1-إن الحكم الثابت بالقرآن ينسخ بالسنة المتواترة،أو بالإجماع القطعي الكاشف عن صدور النسخ عن المعصوم عليه السّلام و هذا القسم من النسخ لا إشكال فيه عقلا و نقلا،فإن ثبت في مورد فهو المتّبع،و إلا فلا يلتزم بالنسخ،و قد عرفت أن النسخ لا يثبت بخبر الواحد.
2-إن الحكم الثابت بالقرآن ينسخ بآية أخرى منه ناظرة إلى الحكم المنسوخ، و مبينة لرفعه،و هذا القسم أيضا لا إشكال فيه،و قد مثلوا لذلك بآية النجوى «و سيأتي الكلام عليها إن شاء اللّه تعالى».
3-إن الحكم الثابت بالقرآن ينسخ بآية أخرى غير ناظرة إلى الحكم السابق، و لا مبينة لرفعه،و إنما يلتزم بالنسخ لمجرد التنافي بينهما فيلتزم بأن الآية المتأخرة ناسخة لحكم الآية المتقدمة.
و التحقيق:أن هذا القسم من النسخ غير واقع في القرآن،كيف و قد قال اللّه عز و جل:
أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً «4:82».
و لكنّ كثيرا من المفسرين و غيرهم لم يتأملوا حق التأمل في معاني الآيات الكريمة،فتوهموا وقوع التنافي بين كثير من الآيات،و التزموا لأجله بأن الآية المتأخرة ناسخة لحكم الآية المتقدمة،و حتى أن جملة منهم جعلوا من التنافي ما إذا
ص: 285
كانت إحدى الآيتين قرينة عرفية على بيان المراد من الآية الأخرى،كالخاص بالنسبة إلى العام،و كالمقيد بالإضافة إلى المطلق،و التزموا بالنسخ في هذه الموارد و ما يشبهها،و منشأ هذا قلة التدبر،أو التسامح في إطلاق لفظ النسخ بمناسبة معناه اللغوي،و استعماله في ذلك و إن كان شائعا قبل تحقق المعنى المصطلح عليه،و لكن إطلاقه-بعد ذلك-مبني على التسامح لا محالة.
و على كل فلا بد لنا من الكلام في الآيات التي ادعي النسخ فيها.و نذكر منها ما كان في معرفة وقوع النسخ فيه و عدم وقوعه غموض في الجملة.أما ما كان عدم النسخ فيه ظاهرا-بعد ما قدّمناه-فلا نتعرض له في المقام«و سنتعرض لذلك عند تفسيرنا الآيات إن شاء اللّه تعالى».
و ليكن كلامنا في الآيات على حسب ترتيبها في القرآن الكريم:
1- وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ «2:109».
فعن ابن عباس و قتادة و السدي،أنها منسوخة بآية السيف.و اختاره أبو جعفر النحاس (1).و آية السيف هو قوله تعالى:
قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللّهُ
ص: 286
وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ «9:29».
و الالتزام بالنسخ-هنا-يتوقف على الالتزام بأمرين فاسدين:
الأول:أن يكون ارتفاع الحكم الموقت بانتهاء وقته نسخا،و هذا واضح الفساد، فإن النسخ إنما يكون في الحكم الذي لم يصرّح فيه لا بالتوقيت و لا بالتأييد.فإن الحكم إذا كان موقتا-و إن كان توقيته على سبيل الإجمال-كان الدليل الموضح لوقته،و المبين لانتهائه من القرائن الموضحة للمراد عرفا،و ليس هذا من النسخ في شيء.فإن النسخ هو رفع الحكم الثابت الظاهر بمقتضى الإطلاق في الدوام و عدم الاختصاص بزمان مخصوص.
و قد توهم الرازي أن من النسخ بيان الوقت في الحكم الموقت بدليل منفصل و هو قول بيّن الفساد،و أما الحكم الذي صرح فيه بالتأييد،فعدم وقوع النسخ فيه ظاهر.
الثاني:أن يكون أهل الكتاب أيضا ممن أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقتالهم،و ذلك باطل، فإن الآيات القرآنية الآمرة بالقتال إنما وردت في جهاد المشركين و دعوتهم إلى الإيمان باللّه تعالى و باليوم الآخر.و أما أهل الكتاب فلا يجوز قتالهم إلا مع وجود سبب آخر من قتالهم للمسلمين،لقوله تعالى:
وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ «2:190».
أو إلقائهم الفتنة بين المسلمين،لقوله تعالى بعد ذلك:
وَ الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ «2:191».
ص: 287
أو امتناعهم عن إعطاء الجزية للآية المتقدمة،و أما مع عدم وجود سبب آخر فلا يجوز قتالهم لمجرد الكفر،كما هو صريح الآية الكريمة.
و حاصل ذلك:أن الأمر في الآية المباركة بالعفو و الصفح عن الكتابيين،لأنهم يودّون أن يردّوا المسلمين كفارا-و هذا لازم عادي لكفرهم-لا ينافيه الأمر بقتالهم عند وجود سبب آخر يقتضيه،على أن متوهم النسخ في الآية الكريمة قد حمل لفظ الأمر من قوله تعالى:
حَتّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ «2:109».
على الطلب،فتوهم أن اللّه أمر بالعفو عن الكفار إلى أن يأمر المسلمين بقتالهم فحمله على النسخ.
و قد اتضح للقارئ أن هذا-على فرض صحته-لا يستلزم النسخ و لكن هذا التوهم ساقط،فإن المراد بالأمر هنا الأمر التكويني و قضاء اللّه تعالى في خلقه، و يدل على ذلك تعلق الإتيان به،و قوله تعالى بعد ذلك:
إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ «2:109».
و حاصل معنى الآية الأمر بالعفو و الصفح عن الكتابيين بودّهم هذا،حتى يفعل اللّه ما يشاء في خلقه من عز الإسلام،و تقوية شوكته،و دخول كثير من الكفار في الإسلام،و إهلاك كثير من غيرهم،و عذابهم في الآخرة،و غير ذلك مما يأتي اللّه به من قضائه و قدره.
- - - - - 2- وَ لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ «2:115».
ص: 288
فقد نسب إلى جماعة منهم ابن عباس،و أبو العالية،و الحسن،و عطاء، و عكرمة،و قتادة،و السدى،و زيد بن أسلم أن الآية منسوخة (1)و اختلف في ناسخها فذكر ابن عباس أنها منسوخة بقوله تعالى:
وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ «2:150».
و ذهب قتادة إلى أن الناسخ قوله تعالى:
فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ «2:150».
كذلك ذكر القرطبي (2)،و ذكروا في وجه النسخ أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و جميع المسلمين كانوا مخيرين في الصلاة إلى أية جهة شاءوا و إن كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد اختار من الجهات جهة بيت المقدس،فنسخ ذلك بالأمر بالتوجه إلى خصوص بيت اللّه الحرام.
و لا يخفى ما في هذا القول من الوهن و السقوط،فإن قوله تعالى:
وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ «2:143».
صريح في أن توجهه إلى بيت المقدس كان بأمر من اللّه تعالى لمصلحة كانت تقتضي ذلك،و لم يكن لاختيار النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في ذلك دخل أصلا.
و الصحيح أن يقال في الآية الكريمة:إنها دالة على عدم اختصاص جهة خاصة باللّه تعالى،فإنه لا يحيط به مكان،فأينما توجه الإنسان في صلاته و دعائه و جميع عباداته فقد توجه إلى اللّه تعالى.و من هنا استدل بها أهل البيت عليهم السّلام على الرخصة2.
ص: 289
للمسافر أن يتوجه في نافلته إلى أية جهة شاء،و على صحة صلاة الفريضة فيما إذا وقعت بين المشرق و المغرب خطأ،و على صحة صلاة المتحير إذا لم يعلم أين وجه القبلة.و على صحة سجود التلاوة إلى غير القبلة،و قد تلاها سعيد بن جبير«رحمه اللّه»لما أمر الحجاج بذبحه إلى الأرض (1)فهذه الآية مطلقة،و قد قيدت في الصلاة الفريضة بلزوم التوجه فيها إلى بيت المقدس تارة،و إلى الكعبة تارة أخرى،و في النافلة أيضا في غير حال المشي على قول.و أما ما في بعض الروايات من أنها نزلت في النافلة فليس المراد أنها مختصة بذلك«و قد تقدّم أن الآيات لا تختص بموارد نزولها».
و جملة القول:ان دعوى النسخ في الآية الكريمة يتوقف ثبوتها على أمرين:
الأول:أن تكون واردة في خصوص صلاة الفريضة،و هذا معلوم بطلانه،و قد وردت روايات من طريق أهل السنة في أنها نزلت في الدعاء و في النافلة للمسافر، و في صلاة المتحير،و في من صلّى إلى غير القبلة خطأ (2)و قد مر عليك-آنفا- استشهاد أهل البيت عليهم السّلام بالآية المباركة في عدة موارد.
الثاني:أن يكون نزولها قبل نزول الآية الآمرة بالتوجه الى الكعبة و هذا أيضا غير ثابت،و على ذلك فدعوى النسخ في الآية باطلة جزما.و في بعض الروايات المأثورة عن أهل البيت عليهم السّلام التصريح بأن الآية المباركة ليست منسوخة.نعم قد يراد من النسخ معنى عاما شاملا للتقييد،فإذا أريد به ذلك في المقام فلا مانع منه، و لا يبعد أن يكون هذا هو مراد ابن عباس من النسخ فيها،و قد أشرنا اليه فيما تقدم.2.
ص: 290
3- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثى بِالْأُنْثى «2:178».
فقد ادعي انها منسوخة بقوله تعالى:
وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ السِّنَّ بِالسِّنِّ «5:45».
و من أجل ذلك ذهب الجمهور من أهل السنة إلى أن الرجل يقتل بالمرأة من غير أن يردّ إلى ورثته شيء من الدية (1)،و خالف في ذلك الحسن و عطاء،فذهبا إلى أن الرجل لا يقتل بالمرأة.و قال الليث:إذا قتل الرجل امرأته لا يقتل بها خاصة (2)و ذهبت الامامية إلى أن وليّ دم المرأة مخير بين المطالبة بديتها،و مطالبة الرجل القاتل بالقصاص،بشرط أداء نصف دية الرجل.
و المشهور بين أهل السنة:أن الحر لا يقتل بالعبد،و عليه إجماع الإمامية، و خالفهم في ذلك أبو حنيفة،و الثوري،و ابن أبي ليلى،و داود،فقالوا:إن الحر يقتل بعبد غيره (3)،و ذهب شواذ منهم إلى أن الحر يقتل بالعبد و إن كان عبد نفسه (4).
و الحق:أن الآية الأولى محكمة و لم يرد عليها ناسخ،و الوجه في ذلك:أن الآية الثانية مطلقة من حيث العبد،و الحر،و الذكر،و الأنثى فلا صراحة لها في حكم العبد،و حكم الأنثى.و على كل فإن لم تكن الآية في مقام البيان من حيث خصوصية1.
ص: 291
القاتل و المقتول،بل كانت في مقام بيان المساواة في مقدار الاعتداء فقط،على ما هو مفاد قوله تعالى:
فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ «2:194».
كانت مهملة و لا ظهور لها في العموم لتكون ناسخة للآية الأولى،و إن كانت في مقام البيان من هذه الناحية-و كانت ظاهرة في الإطلاق و ظاهرة في ثبوت الحكم في هذه الأمة أيضا،و لم تكن للأخبار عن ثبوت ذلك في التوراة فقط-كانت الآية الأولى مقيدة لإطلاقها،و قرينة على بيان المراد منها،فإن المطلق لا يصلح لأن يكون ناسخا للمقيد و إن كان متأخرا عنه،بل يكون المقيد قرينة على التصرف في ظهور المطلق على ما هو الحال في المقيد المتأخر،و على ذلك فلا موجب للقول بجواز قتل الحر بالعبد.
و أما الرواية التي رووها عن علي عليه السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من قوله:«المسلمون تتكافأ دماؤهم» (1)فهي-على تقدير تسليمها-مخصصة بالآية،فإن دلالة الرواية على جواز قتل الحر بالعبد إنما هي بالعموم.
و من البين أن حجية العام موقوفة على عدم ورود المخصص عليه المتقدم منه و المتأخر.و أما ما روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بطريق الحسن،عن سمرة فهو ضعيف السند،و غير قابل للاعتماد عليه.قال أبو بكر بن العربي:«و لقد بلغت الجهالة بأقوام أن قالوا:يقتل الحر بعبد نفسه و رووا في ذلك حديثا عن الحسن،عن سمرة قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:من قتل عبده قتلناه (2)،و هذا حديث ضعيف (3)».1.
ص: 292
أقول:هذا،مضافا إلى أنها معارضة برواية عمرو بن شعيب،عن أبيه،عن جده أن رجلا قتل عبده متعمدا،فجلده النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و نفاه سنة،و محا سهمه من المسلمين، و لم يقده به (1).و بما رواه ابن عباس عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بما رواه جابر،عن عامر،عن علي عليه السّلام:«لا يقتل حر بعبد» (2)،و بما رواه عمرو بن شعيب،عن أبيه،عن جده أن أبا بكر و عمر كانا لا يقتلان الحر بقتل العبد (3).
و قد عرفت أن روايات أهل البيت عليهم السّلام مجمعة على أن الحر لا يقتل بالعبد، و أهل البيت هم المرجع في الدين بعد جدهم الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بعد هذا فلا يبقي مجال لدعوى نسخ الآية الكريمة من جهة قتل الحر بالعبد.
و أما بالإضافة إلى قتل الرجل بالمرأة فليست الآية منسوخة أيضا،بناء على مذهب الإمامية و الحسن و عطاء،نعم تكون الآية منسوخة على مسلك الجمهور، و توضيح ذلك أن ظاهر قوله تعالى:
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ «2:178».
إن القصاص فرض واجب،و من الواضح أنه إنما يكون فرضا عند المطالبة بالقصاص من ولي الدم،و ذلك أمر معلوم من الخارج،و يدل عليه من الآية قوله تعالى فيها:
فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ «2:178».4.
ص: 293
و على ذلك فالمستفاد من الآية الكريمة أن القاتل يجب عليه أن يخضع لحكم القصاص إذا طالبه ولي الدم بذلك،و من الواضح أن هذا الحكم إنما يكون في قتل الرجل رجلا،أو قتل المرأة رجلا أو امرأة،فإن الرجل إذ قتل امرأة لا يجب عليه الانقياد للقصاص بمجرد المطالبة،و له الامتناع حتى يأخذ نصف ديته،و لا يأخذه الحاكم بالقصاص قبل ذلك.
و بتعبير آخر:تدل الآية المباركة على أن بدل الأنثى هي الأنثى،فلا يكون الرجل بدلا عنها،و عليه فلا نسخ في مدلول الآية،نعم ثبت من دليل خارجي أن الرجل القاتل يجب عليه أن ينقاد للقصاص حين يدفع ولي المرأة المقتولة نصف ديته،فيكون الرجل بدلا عن مجموع الأنثى و نصف الدية،و هو حكم آخر لا يمس بالحكم الأول المستفاد من الآية الكريمة،و أين هذا من النسخ الذي يدعيه القائلون به.
و جملة القول:أن ثبوت النسخ في الآية يتوقف على إثبات وجوب الانقياد على القاتل بمجرد مطالبة ولي المرأة بالقصاص،كما عليه الجمهور.و أنى لهم إثباته؟ فإنهم قد يتمسكون لإثباته بإطلاق الآية الثانية على ما صرحوا به في كلماتهم، و بعموم قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«المسلمون تتكافأ دماؤهم»و قد عرفت ما فيه.
و قد يتمسكون لإثبات ذلك بما رووه عن قتادة عن سعيد بن المسيب:أن عمر قتل نفرا من أهل صنعاء بامرأة و قادهم بها.
و عن ليث،عن،الحكم،عن علي و عبد اللّه قالا:«إذا قتل الرجل المرأة متعمدا فهو بها قود».
و عن الزهري،عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم،عن أبيه،عن جده أن
ص: 294
رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال:«إن الرجل يقتل بالمرأة» (1).
و هو باطل من وجوه:
1-إن هذه الروايات-لو فرضت صحتها-مخالفة للكتاب،و ما كان كذلك لا يكون حجة.و قد عرفت-فيما تقدم-قيام الإجماع على أن النسخ لا يثبت بخبر الواحد.
2-إنها معارضة بالروايات المروية عن أهل البيت عليهم السّلام و بما رواه عطاء و الشعبي، و الحسن البصري،عن علي عليه السّلام أنه قال في قتل الرجل امرأة:«إن أولياء المرأة إن شاءوا قتلوا الرجل و أدّوا نصف الدية،و إن شاءوا أخذوا نصف دية الرجل» (2).
3-إن الرواية الاولى منها من المراسيل،فإن ابن المسيب ولد بعد مضي سنتين من خلافة عمر (3)فتبعد روايته عن عمر بلا واسطة،و إذا سلمنا صحتها فهي تشتمل على نقل فعل عمر،و لا حجية لفعله في نفسه،و أن الرواية الثانية ضعيفة مرسلة،و أما الرواية الثالثة فهي على فرض صحتها مطلقة،و قابلة لأن تقيد بأداء نصف الدية.
و نتيجة ما تقدم:
أن الآية الكريمة لم يثبت نسخها بشيء،و أن دعوى النسخ إنما هي بملاحظة فتوى جماعة من الفقهاء،و كيف يمكن أن ترفع اليد عن قول اللّه تعالى بملاحظة قول زيد أو عمرو؟و مما يبعث على العجب أن جماعة يفتون بخلاف القرآن مع إجماعهم4.
ص: 295
على أن القرآن لا ينسخ بخبر الواحد.و قد اتضح مما بيّناه أن قوله تعالى:
وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً «17:33».
و قوله تعالى:
وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ «2:179».
لا يصلحان أن يكونا ناسخين للآية المتقدمة التي فرّقت بين الرجل و الأنثى، و بين الحر و العبد.-و سيأتي استيفاء البحث في هذا الموضوع عند تفسيرنا الآية الكريمة إن شاء اللّه تعالى-.
- - - - 4- كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ «2:180».
فقد ادّعى جمع أنها منسوخة بآية المواريث،و ادّعى آخرون أنها منسوخة بما عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من قوله:«لا وصية لوارث» (1).
و الحق:أن الآية ليست منسوخة.أما القول بنسخها بآية المواريث،فيردّه أن الآيات قد دلّت على أن الميراث مترتب على عدم الوصية،و عدم الدين.و مع ذلك فكيف يعقل كونها ناسخة لحكم الوصية؟و قد قيل في وجه النسخ للآية:إن الميراث في أول الإسلام لم يكن ثابتا على الكيفية التي جعلت في الشريعة بعد ذلك، و إنما كان الإرث يدفع جميعه للولد،و ما يعطى الولدان من المال فهو بطريق الوصية فنسخ ذلك بآية المواريث.0.
ص: 296
و هذا القول مدفوع:
أولا:بأن هذا غير ثابت،و إن كان مرويا في صحيح البخاري،لأن النسخ لا يثبت بخبر الواحد إجماعا.
ثانيا:إنه موقوف على تأخر آية المواريث عن هذه الآية،و أنّى للقائل بالنسخ إثبات ذلك؟أما دعوى القطع بذلك من بعض الحنفية فعهدتها على مدّعيها.
ثالثا:إن هذا لا يتم في الأقربين،فإنه لا إرث لهم مع الولد،فكيف يعقل أن تكون آية المواريث ناسخة لحكم الوصية للأقربين؟و على كلّ فإن آية المواريث من حيث ترتبها على عدم الوصية تكون مؤكدة لتشريع الوصية و نفوذها،فلا معنى لكونها ناسخة لها.
و أما دعوى نسخ الآية بالرواية المتقدمة فهي أيضا باطلة من وجوه:
1-ان الرواية لم تثبت صحتها،و البخاري و مسلم لم يرضياها.و قد تكلم في تفسير المنار على سندهما (1).
2-إنها معارضة بالروايات المستفيضة عن أهل البيت عليهم السّلام الدالة على جواز الوصية للوارث،ففي صحيحة محمد بن مسلم،عن أبي جعفر عليه السّلام قال:سألته عن الوصية للوارث فقال:تجوز.قال:ثم تلا هذه الآية:
إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ «2:180».
و بمضمونها روايات اخرى (2).
3-إن الرواية لو صحّت،و سلمت عن المعارضة بشيء فهي لا تصلح لنسخ5.
ص: 297
الآية،لأنها لا تنافيها في المدلول.غاية الأمر أنها تكون مقيدة لإطلاق الآية فتختص الوصية بالوالدين إذا لم يستحقا الإرث لمانع،و بمن لا يرث من الأقربين و إذا فرض وجود المنافاة بينها و بين الآية فقد تقدم إن خبر الواحد لا يصلح أن يكون ناسخا للقرآن بإجماع المسلمين،فالآية محكمة و ليست منسوخة.
ثم ان الكتابة عبارة عن القضاء بشيء،و منه قوله تعالى:
كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ «6:12».
و العقل يحكم بوجوب امتثال حكم المولى و قضائه ما لم تثبت فيه رخصة من قبل المولى.و معنى هذا إن الوصية للوالدين و الأقربين واجبه بمقتضى الآية،و لكن السيرة المقطوع بثبوتها بين المسلمين،و الروايات المأثورة عن الأئمة من أهل البيت عليهم السّلام و الإجماع المتحقق من الفقهاء في كل عصر قد أثبت لنا الرخصة فيكون الثابت من الآية بعد هذه الرخصة هو استحباب الوصية المذكورة،بل تأكد استحبابها على الإنسان،و يكون المراد من الكتابة فيها هو:القضاء بمعنى التشريع لا بمعنى الإلزام.
- - - - 5- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ «2:183».
فقد ادعي أنها منسوخة بقوله تعالى:
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ «2:187».
و ذكروا في وجه النسخ:أن الصوم الواجب على الأمة في بداية الأمر كان مماثلا
ص: 298
للصوم الواجب على الأمة السالفة،و أن من أحكامه أن الرجل إذا نام قبل أن يتعشى في شهر رمضان لم يجز له أن يأكل بعد نومه في ليلته تلك،و إذا نام أحدهم بعد المساء حرم عليه الطعام و الشراب و النساء،فنسخ ذلك بقوله تعالى:
وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ «2:187».
و بقوله تعالى:
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ «2:187».
و قد اتفق علماء أهل السنّة على أن آية التحليل ناسخة (1)ثم اختلفوا فقال بعضهم:هي ناسخة للآية السابقة،فإنهم استفادوا منها أن الصوم الواجب في هذه الشريعة مماثل للصوم الواجب على الأمم السالفة،و قال بذلك أبو العالية،و عطاء، و نسبه أبو جعفر النحاس إلى السدي أيضا (2)و قال بعضهم:إن آية التحليل ناسخة لفعلهم الذي كانوا يفعلونه.
و لا يخفى أن النسخ للآية الأولى موقوف على إثبات تقدمها على الآية الثانية في النزول،و لا يستطيع القائل بالنسخ إثباته،و على أن يكون المراد من التشبيه في الآية تشبيه صيام هذه الأمة،بصيام الأمم السالفة،و هو خلاف المفهوم العرفي،بل و خلاف صريح الآية،فإن المراد بها تشبيه الكتابة بالكتابة فلا دلالة فيها على أن الصومين متماثلان لتصح دعوى النسخ،و إذا ثبت ذلك من الخارج كان نسخا لحكم ثابت بغير القرآن،و هو خارج عن دائرة البحث.
- - - -1.
ص: 299
6- وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ «2:184».
فادعي أنها منسوخة بقوله تعالى:
فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ «2:185».
و دعوى النسخ في هذه الآية الكريمة واضحة الثبوت لو كان المراد من الطوق (الطاقة)السعة و القدرة،فإن مفاد الآية على هذا:أن من يستطع الصوم فله أن لا يصوم و يعطي الفدية:طعام مسكين بدلا عنه،فتكون منسوخة.
و لكن من البين أن المراد من الطاقة:القدرة مع المشقة العظيمة.و حاصل المراد من الآية:أن اللّه تعالى بعد أن أوجب الصوم وجوبا تعيينيا في الآية السابقة، و أسقطه عن المسافر و المريض،و أوجب عليهما عدة من أيام أخر بدلا عنه،أراد أن يبين حكما آخر لصنف آخر من الناس و هم الذين يجدون في الصوم مشقة عظيمة و جهدا بالغا،كالشيخ الهمّ،و ذي العطاش،و المريض الذي استمر مرضه إلى شهر رمضان الآخر،فأسقط عنهم وجوب الصوم أداء و قضاء،و أوجب عليهم الفدية،فالآية المباركة حيث دلت على تعيين وجوب الصوم على المؤمنين في الأيام المعدودات،و على تعين وجوبه قضاء في أيام أخر على المريض و المسافر،كانت ظاهرة في أن وجوب الفدية تعيينا انما هو على غير هذين الصنفين اللذين تعين عليهما الصوم،و مع هذا فكيف يدعى أن المستفاد من الآية هو الوجوب التخييري بين الصوم و الفدية لمن تمكن من الصوم،و إن أخبار أهل البيت عليهم السّلام مستفيضة بما ذكرناه في تفسير الآية (1).م.
ص: 300
و لفظ الطاقة و إن استعمل في معنى القدرة و السعة إلا أن معناه اللغوي هو القدرة مع المشقة العظيمة،و إعمال غاية الجهد.ففي لسان العرب:«الطوق الطاقة أي أقصى غايته،و هو اسم لمقدار ما يمكنه أن يفعله بمشقة منه».و نقل عن ابن الأثير و الراغب أيضا التصريح بذلك.
و لو سلمنا أن معنى الطاقة هي السعة كان لفظ الإطاقة بمعنى إيجاد السعة في الشيء،فلا بد من أن يكون الشيء في نفسه مضيقا لتكون سعته ناشئة من قبل الفاعل،و لا يكون هذا إلا مع إعمال غاية الجهد.
قال في تفسير المنار نقلا عن شيخه:«فلا تقول العرب:أطاق الشيء إلا إذا كانت قدرته عليه في نهاية الضعف،بحيث يتحمل به مشقة شديدة» (1).
فالآية الكريمة محكمة لا نسخ لها،و مدلولها حكم مغاير لحكم من وجب عليه الصوم أداء و قضاء.و جميع ما قدمناه مبني على القراءة المعروفة.أما على قراءة ابن عباس،و عائشة،و عكرمة،و ابن المسيب حيث قرءوا يطوّقونه بصيغة المبني للمجهول من باب التفعيل (2)فالأمر أوضح.نعم بناء على قول ربيعة و مالك،بأن المشايخ و العجائز لا شىء عليهم إذا أفطروا (3)تكون الآية منسوخة،و لكن الشأن في صحة هذا القول،و الآية الكريمة حجة على قائله.
- - - 7- وَ لا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ «2:191».3.
ص: 301
قال أبو جعفر النحاس:و أكثر أهل النظر على هذا القول أن الآية منسوخة،و أن المشركين يقاتلون في الحرم و غيره.و نسب القول بالنسخ إلى قتادة أيضا (1).
و الحق:أن الآية محكمة ليست منسوخة.فإن ناسخ الآية إن كان هو قوله تعالى:
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «9:5».
فهذا القول ظاهر البطلان،لأن الآية الأولى خاصة،و الخاص يكون قرينة على بيان المراد من العام،و إن علم تقدمه عليه في الورود،فكيف إذا لم يعلم ذلك؟و على هذا فيختص قتال المشركين بغير الحرم،إلا أن يكونوا هم المبتدئين بالقتال فيه، فيجوز قتالهم فيه حينئذ.
و إن استندوا في نسخ الآية الى الرواية القائلة أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أمر بقتل ابن خطل- و قد كان متعلقا بأستار الكعبة-فهو باطل أيضا.
أولا:لأنه خبر واحد لا يثبت به النسخ.
ثانيا:لأنه لا دلالة له على النسخ،فإنهم رووا في الصحيح عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قوله:
«إنها لم تحل لأحد قبلي و إنما أحلّت لي ساعة من نهارها» (2)،و صريح هذه الرواية أن ذلك من خصائص النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلا وجه للقول بنسخ الآية إلا المتابعة لفتاوى جماعة من الفقهاء،و الآية حجة عليهم.
- - - - 8- يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ «2:217».1.
ص: 302
قال أبو جعفر النحاس:أجمع العلماء على أن هذه الآية منسوخة،و أن قتال المشركين في الشهر الحرام مباح،غير عطاء فإنه قال:الآية محكمة،و لا يجوز القتال في الأشهر الحرم (1).
و أما الشيعة الإمامية فلا خلاف بينهم نصا و فتوى على أن التحريم باق،صرح بذلك في التبيان (2)و جواهر الكلام (3)،و هذا هو الحق،لأن المستند للنسخ إن كان هو قوله تعالى:
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «9:5».
كما ذكره النحاس فهو غريب جدا،فإن الآية علّقت الحكم بقتل المشركين على انسلاخ الأشهر الحرم،فقد قال تعالى:
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «9:5».
فكيف يمكن أن تكون ناسخة لحرمة القتال في الشهر الحرام؟ و إن استندوا فيه إلى إطلاق آية السيف و هي قوله تعالى:
قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً «9:36».
فمن الظاهر أن المطلق لا يكون ناسخا للمقيد،و إن كان متأخرا عنه.
و إن استندوا فيه إلى ما رووه عن ابن عباس و قتادة أن الآية منسوخة بآية السيف.د.
ص: 303
فيردّه:
أولا:ان النسخ لا يثبت بخبر الواحد.
و ثانيا:انها ليست رواية عن معصوم،و لعلها اجتهاد من ابن عباس و قتادة.
و ثالثا:انها معارضة بما رواه إبراهيم بن شريك،قال:حدثنا أحمد-يعني ابن عبد اللّه بن يونس-قال:حدثنا الليث،عن أبي الأزهر،عن جابر،قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«لا يقاتل في الشهر الحرام إلا أن يغزى أو يغزو (1)»فإذا حضر ذلك أقام حتى ينسلخ (2)،و معارضة بما رواه أصحابنا الإمامية عن أهل البيت عليهم السّلام من حرمة القتال في الأشهر الحرم.
و إن استندوا في النسخ إلى ما نقلوه من مقاتلة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هوازن في حنين، و ثقيفا في الطائف شهر شوال،و ذي القعدة،و ذي الحجة من الأشهر الحرم.
فيردّه:
أولا:إن النسخ لا يثبت بخبر الواحد.
و ثانيا:إن فعل النبي إذا صحت الرواية-مجمل يحتمل وقوعه على وجوه،و لعله كان لضرورة اقتضت وقوعه،فكيف يمكن أن يكون ناسخا للآية.
- - - - 9- وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ «2:221».
فادعي أنها منسوخة بقوله تعالى:3.
ص: 304
وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ «5:5».
ذهب إليه ابن عباس،و مالك بن أنس،و سفيان بن سعيد،و عبد الرحمن بن عمر،و الأوزاعي،و ذهب عبد اللّه بن عمر إلى أن الآية الثانية منسوخة بالآية الاولى،فحرّم نكاح الكتابية (1).
و الحق:أنه لا نسخ في شىء من الآيتين فإن المشركة التي حرمت الآية الأولى نكاحها،إن كان المراد منها التي تعبد الأصنام و الأوثان-كما هو الظاهر-فإن حرمة نكاحها لا تنافي إباحة نكاح الكتابية التي دلت عليها الآية الثانية،لتكون إحداهما ناسخة و الثانية منسوخة،و إن كان المراد من المشركة ما هو أعم من الكتابية-كما توهمه القائلون بالنسخ-كانت الآية الثانية مخصصة للآية الأولى و يكون حاصل معنى الآيتين جواز نكاح الكتابية دون المشركة.
نعم المعروف بين علماء الشيعة الإمامية أن نكاح الكتابية لا يجوز إلا بالمتعة،إما لتقييد إطلاق آية الإباحة بالروايات الدالة على تحريم النكاح الدائم،و إما لدعوى ظهور الآية الكريمة في المتعة دون العقد الدائم،و نقل الحسن و الصدوقين جواز الدائم أيضا«و سنتعرض للكلام كلّ في محله إن شاء اللّه تعالى».
- - - - 10- لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ «2:256».
فقد قال جماعة:إنها منسوخة بقوله تعالى»:8.
ص: 305
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفّارَ وَ الْمُنافِقِينَ «9:73».
و ذهب بعضهم إلى أنها مخصوصة بأهل الكتاب،فإنهم لا يقاتلون لكفرهم،و قد عرفت ذلك فيما تقدم.
و الحق:أن الآية محكمة و ليست منسوخة،و لا مخصوصة،و توضيح ذلك:أن الكره في اللغة يستعمل في معنيين،أحدهما:ما يقابل الرضا،و منه قوله تعالى:
وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ «2:216».
و ثانيهما:ما يقابل الاختيار،و منه قوله تعالى:
حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً «46:15».
فان الحمل و الوضع يكونان في الغالب عن رضى،و لكنهما خارجان عن الاختيار،و القول بالنسخ أو بالتخصيص يتوقف على أن الإكراه في الآية قد استعمل بالمعنى الأول،و هو باطل لوجوه:
1-إنه لا دليل على ذلك:و لا بد في حمل اللفظ المشترك على أحد معنييه من وجود قرينة تدل عليه.
2-إن الدين أعم من الأصول و الفروع،و ذكر الكفر و الإيمان بعد ذلك ليس فيه دلالة على الاختصاص بالأصول فقط،و إنما ذلك من قبيل تطبيق الكبرى على صغراها،و مما لا ريب فيه أن الإكراه بحق كان ثابتا في الشرع الإسلامي من أول الأمر على طبق السيرة العقلائية،و أمثلته كثيرة،فمنها إكراه المديون على أداء دينه، و إكراه الزوجة على إطاعة زوجها،و إكراه السارق على ترك السرقة،إلى أمثال ذلك،فكيف يصح أن يقال:إن الإكراه في الشريعة الإسلامية لم يكن في زمان.
ص: 306
3-إن تفسير الإكراه في الآية بالمعنى الأول«ما يقابل الرضا»لا يناسبه قوله تعالى:
قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ «2:256».
الا بأن يكون المراد بيان علة الحكم،و ان عدم الإكراه إنما هو لعدم الحاجة إليه من جهة وضوح الرشد و تبيّنه من الغي،و إذا كان هذا هو المراد فلا يمكن نسخه، فإن دين الإسلام كان واضح الحجة،ساطع البرهان من أول الأمر،إلا أن ظهوره كان يشتد شيئا فشيئا،و معنى هذا أن الإكراه في أواخر دعوة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أحرى بأن لا يقع لأن برهان الإسلام في ذلك العهد كان أسطع،و حجته أوضح،و لما كانت هذه العلة مشتركة بين طوائف الكفار،فلا يمكن تخصيص الحكم ببعض الطوائف دون بعض،و لازم ذلك حرمة مقاتلة الكفار جميعهم،و هذه نتيجة باطلة بالضرورة.
فالحق:أن المراد بالإكراه في الآية ما يقابل الاختيار،و أن الجملة خبرية لا إنشائية،و المراد من الآية الكريمة هو بيان ما تكرر ذكره في الآيات القرآنية كثيرا، من أن الشريعة الإلهية غير مبتنية على الجبر،لا في أصولها و لا في فروعها،و إنما مقتضى الحكمة إرسال الرسل،و إنزال الكتب،و إيضاح الأحكام ليهلك من هلك عن بينة و يحيى من حيّ عن بينة،و لئلا يكون للناس على اللّه حجة،كما قال تعالى:
إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً «76:3».
و حاصل معنى الآية أن اللّه تعالى لا يجبر أحدا من خلقه على إيمان و لا طاعة، و لكنه يوضح الحق يبينه من الغي،و قد فعل ذلك،فمن آمن بالحق فقد آمن به عن اختيار،و من اتبع الغي فقد اتبعه عن اختيار و اللّه سبحانه و إن كان قادرا على أن يهدي البشر جميعا-و لو شاء لفعل-لكن الحكمة اقتضت لهم أن يكونوا غير
ص: 307
مجبورين على أعمالهم،بعد إيضاح الحق لهم و تمييزه عن الباطل،فقد قال عز من قائل:
وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ 5:48. قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ 6:149. وَ قالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ 16:35.
11- وَ اللاّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً 4:
15. وَ الَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللّهَ كانَ تَوّاباً رَحِيماً :16.
فذهب بعضهم،و منهم عكرمة و عبادة بن الصامت في رواية الحسن عن الرقاشي عنه أن الآية الأولى منسوخة بالثانية و الثانية منسوخة في البكر من الرجال و النساء إذا زنى بأن يجلد مائة جلدة،و ينفى عاما،و في الثيّب منهما أن يجلد مائة،و يرجم حتى يموت،و ذهب بعضهم كقتادة و محمد بن جابر إلى أن الآية الأولى مخصوصة بالثيّب و الثانية بالبكر،و قد نسخت كلتاهما بحكم الجلد و الرجم، و ذهب ابن عباس و مجاهد و من تبعهما،كأبي جعفر النحاس إلى أن الآية الاولى
ص: 308
مختصة بزناء النساء من ثيب أو بكر،و الآية الثانية مختصة بزناء الرجال ثيبا كان أو بكرا،و قد نسخت كلتاهما بحكم الرجم و الجلد (1).
و كيف كان فقد ذكر أبو بكر الجصاص أن الامة لم تختلف في نسخ هذين الحكمين عن الزانيين (2).
و الحق:أنه لا نسخ في الآيتين جميعا،و بيان ذلك:أن المراد من لفظ الفاحشة ما تزايد قبحه و تفاحش،و ذلك قد يكون بين امرأتين فيكون مساحقة و قد يكون بين ذكرين فيكون لواطا،و قد يكون بين ذكر و أنثى فيكون زنى،و لا ظهور للفظ الفاحشة في خصوص الزنا لا وضعا و لا انصرافا،ثم ان الالتزام بالنسخ في الآية الأولى يتوقف.
أولا:على أن الإمساك في البيوت حد لارتكاب الفاحشة.
ثانيا:على أن يكون المراد من جعل السبيل هو ثبوت الرجم و الجلد و كلا هذين الأمرين لا يمكن إثباته،فإن الظاهر من الآية المباركة أن إمساك المرأة في البيت إنما هو لتعجيزها عن ارتكاب الفاحشة مرة ثانية،و هذا من قبيل دفع المنكر،و قد ثبت وجوبه بلا إشكال في الأمور المهمة كالأعراض،و النفوس،و الأمور الخطيرة،بل في مطلق المنكرات على قول بعض،كما أن الظاهر من جعل السبيل للمرأة التي ارتكبت الفاحشة هو جعل طريق لها تتخلص به من العذاب،فكيف يكون منه الجلد و الرجم،و هل ترضى المرأة العاقلة الممسكة في البيت مرفّهة الحال أن ترجم أو تجلد،و كيف يكون الجلد أو الرجم سبيلا لها و إذا كان ذلك سبيلا لها فما هو السبيل عليها؟!.2.
ص: 309
و على ما تقدم:فقد يكون المراد من الفاحشة خصوص المساحقة،كما أن المراد بها في الآية الثانية خصوص اللواط،«و سنبين ذلك إن شاء اللّه تعالى»،و قد يكون المراد منها ما هو أعم من المساحقة و الزنا،و على كلا هذين الاحتمالين يكون الحكم وجوب إمساك المرأة التي ارتكبت الفاحشة في البيت حتى يفرّج اللّه عنها،فيجيز لها الخروج إما للتوبة الصادقة التي يؤمن معها من ارتكاب الفاحشة مرة ثانية،و إما لسقوط المرأة عن قابلية ارتكاب الفاحشة لكبر سنها و نحوه،و إما بميلها إلى الزواج و تزوجها برجل يتحفظ عليها،و إما بغير ذلك من الأسباب التي يؤمن معها من ارتكاب الفاحشة.و هذا الحكم باق مستمر،و أما الجلد أو الرجم فهو حكم آخر شرّع لتأديب مرتكبي الفاحشة،و هو أجنبي عن الحكم الأول،فلا معنى لكونه ناسخا له.
و بتعبير آخر:إن الحكم الأول شرّع للتحفظ عن الوقوع في الفاحشة مرة أخرى و الحكم الثاني شرّع للتأديب على الجريمة الأولى،و صونا لباقى النساء عن ارتكاب مثلها فلا تنافي بين الحكمين لينسخ الأول بالثاني.نعم إذا ماتت المرأة بالرجم أو الجلد ارتفع وجوب الإمساك في البيت لحصول غايته،و فيما سوى ذلك فالحكم باق ما لم يجعل اللّه لها سبيلا.
و جملة القول:إن المتأمل في معنى الآية لا يجد فيها ما يوهم النسخ،سواء في ذلك تأخر آية الجلد عنها و تقدمها عليها.
و أما القول:بالنسخ في الآية الثانية فهو أيضا يتوقف:
أولا:على أن يراد من الضمير في قوله تعالى:«يأتيانها»الزنا.
ثانيا:على أن يراد بالإيذاء الشتم و السب و التعيير و نحو ذلك،و كلا هذين
ص: 310
الأمرين-مع أنه لا دليل عليه-مناف لظهور الآية.
و بيان ذلك:أن ضمير الجمع المخاطب قد ذكر في الآيتين ثلاث مرات،و لا ريب أن المراد بالثالث منها هو المراد بالأولين.و من البين أن المراد بهما خصوص الرجال، و على هذا فيكون المراد من الموصول رجلين من الرجال،و لا يراد منه ما يعمّ رجلا و امرأة،على أن تثنية الضمير لو لم يرد منه الرجلان فليس لها وجه صحيح،و كان الأولى أن يعبر عنه بصيغة الجمع،كما كان التعبير في الآية السابقة كذلك.و في هذا دلالة قوية على أن المراد من الفاحشة في الآية الثانية هو خصوص اللّواط لا خصوص الزّنا،و لا ما هو أعم منه و من اللّواط و إذا تمّ ذلك كان موضوع الآية أجنبيا عن موضوع آية الجلد.
و إذا سلمنا دخول الزاني في موضوع الحكم في الآية،فلا دليل على إرادة نوع خاص من الإيذاء الذي أمر به في الآية،عدا ما روي عن ابن عباس أنه التعيير و ضرب النعال،و هو ليس بحجة ليثبت به النسخ،فالظاهر حمل اللفظ على ظاهره، ثم تقييده بآية الجلد،أو بحكم الرجم الذي ثبت بالسنّة القطعية.
و جملة القول:أنه لا موجب للالتزام بالنسخ في الآيتين،غير التقليد المحض،أو الاعتماد على أخبار الآحاد التي لا تفيد علما و لا عملا.
- - - - 12- وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ «4:24».
فقد قيل إنها منسوخة بما دلّ من السنة على تحريم غير من ذكر في الآية من النساء،و ثبوت هذه الدعوى موقوف على أن يكون الخاص المتأخر ناسخا للعام المتقدم لا مخصصا.
ص: 311
و الحق:ان الخاص يكون مخصصا للعام تقدم عليه أو تأخر عنه،و لا يكون ناسخا له،و لأجل ذلك يكتفى بخبر الواحد الجامع لشرائط الحجية في تخصيص العام-على ما سيجيء من جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد-و لو كان الخاص المتأخر ناسخا لم يصح ذلك،لأن النسخ لا يثبت بخبر الواحد،أضف إلى ذلك أن الآية ليس لها عموم لفظي،و إنما هو ثابت بالإطلاق،و مقدمات الحكمة،فإذا ورد من الأدلة ما يصلح لتقييدها حكم بأن الإطلاق فيها غير مراد في الواقع.
- - - - 13- فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً «4:24».
فقد اشتهر بين علماء أهل السنّة أن حليّة المتعة قد نسخت،و ثبت تحريمها إلى يوم القيامة،و قد أجمعت الشيعة الإمامية على بقاء حليّة المتعة و أن الآية المباركة لم تنسخ،و وافقهم على ذلك جماعة من الصحابة و التابعين.
قال ابن حزم:«ثبت على إباحتها(المتعة)بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ابن مسعود، و معاوية،و أبو سعيد،و ابن عباس،و سلمة و معبد،ابنا أمية بن خلف،و جابر، و عمرو بن حريث،و رواه جابر عن جميع الصحابة-مدة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أبي بكر و عمر إلى قرب آخر خلافة عمر(ثم قال)و من التابعين طاوس،و سعيد بن جبير، و عطاء و سائر فقهاء مكة» (1).
و نسب شيخ الإسلام المرغيناني القول بجواز المتعة إلى مالك،مستدلا عليه بقوله:«لأنه-نكاح المتعة-كان مباحا فيبقى إلى أن يظهر ناسخه» 2.كي
ص: 312
و نسب ابن كثير جوازها إلى أحمد بن حنبل عند الضرورة في رواية (1)و قد تزوج ابن جريح أحد الأعلام و فقيه مكة في زمنه سبعين امرأة بنكاح المتعة (2)و سنتعرض إن شاء اللّه تعالى للبحث في هذا الموضوع عند تفسيرنا الآية الكريمة، و لكنا نتعرض هنا تعرضا إجماليا لإثبات أن مدلول الآية المباركة لم يرد عليه ناسخ.
و بيان ذلك:أن نسخ الحكم المذكور فيها يتوقف.
أولا:على أن المراد من الاستمتاع في الآية هو التمتع بالنساء بنكاح المتعة.
ثانيا:على ثبوت تحريم نكاح المتعة بعد ذلك.
أما الأمر الأول:«إرادة التمتع بالنساء من الاستمتاع»فلا ريب في ثبوته و قد تظافرت في ذلك الروايات عن الطريقين،قال القرطبي:قال الجمهور المراد نكاح المتعة الذي كان في صدر الإسلام،و قرأ ابن عباس،و أبيّ،و ابن جبير«فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن» (3)،و مع ذلك فلا يلتفت إلى قول الحسن بأن المراد منها النكاح الدائم،و أن اللّه لم يحل المتعة في كتابه،و نسب هذا القول إلى مجاهد،و ابن عباس أيضا،و الروايات المروية عنهما أن الآية نزلت في المتعة تكذب هذه النسبة.
و على كل حال فإن استفاضة الروايات في ثبوت هذا النكاح و تشريعه تغنينا عن تكلف إثباته،و عن إطالة الكلام فيه.».
ص: 313
و أما الأمر الثاني:«تحريم نكاح المتعة بعد جوازه»فهو ممنوع،فإن ما يحتمل أن يعتمد عليه القائل بالنسخ هو أحد امور،و جميعها لا يصلح لأن يكون ناسخا، و هي:
1-إن ناسخها هو قوله تعالى:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ «65:1».
و نسب ذلك إلى ابن عباس (1).
و لكن النسبة غير صحيحة،فإنك ستعرف ان ابن عباس بقي مصرّا على إباحة المتعة طيلة حياته.
و الجواب عن ذلك ظاهر،لأن الالتزام بالنسخ إن كان لأجل أن عدد عدة المتمتع بها أقل من عدّة المطلّقة فلا دلالة في الآية،و لا في غيرها.على أن عدة النساء لا بد و أن تكون على نحو واحد،و إن كان لأجل أنه لا طلاق في نكاح المتعة، فليس للآية تعرض لبيان موارد الطلاق،و أنه في أي مورد يكون و في أي مورد لا يكون.و قد نقل في تفسير المنار عن بعض المفسرين أن الشيعة يقولون بعدم العدّة في نكاح المتعة (2).
سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم.و هذه كتب فقهاء الشيعة من قدمائهم و متأخريهم،ليس فيها من نسب إليه هذا القول،و إن كان على سبيل الشذوذ،فضلا عن كونه مجمعا عليه بينهم،و للشيعة مع هؤلاء الذين يفترون عليهم الأقاويل، و ينسبون إليهم الأباطيل يوم تجتمع فيه الخصوم،و هنالك يخسر المبطلون (3).د.
ص: 314
2-إن ناسخها قوله تعالى:
وَ لَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ «4:12».
من حيث أن المتمتع بها لا ترث و لا تورث فلا تكون زوجة.و نسب ذلك إلى سعيد بن المسيب،و سالم بن عبد اللّه،و القاسم بن أبي بكر (1).
الجواب:
إن ما دلّ على نفي التوارث في نكاح المتعة يكون مخصصا لآية الإرث و لا دليل على أن الزوجية بمطلقها تستلزم التوارث.و قد ثبت أن الكافر لا يرث المسلم،و أن القاتل لا يرث المقتول،و غاية ما ينتجه ذلك أن التوارث مختص بالنكاح الدائم، و أين هذا من النسخ؟!! 3-إن ناسخها هو السنّة،فقد رووا عن عليّ عليه السّلام أنه قال لابن عباس:
«إنك رجل تائه.إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نهى عن المتعة و عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر». (2)
و روى الربيع بن سبرة،عن أبيه قال:
«رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قائما بين الركن و الباب و هو يقول:يا أيها الناس إنى قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء،و إن اللّه قد حرّم ذلك إلى يوم القيامة،فمن كان عنده منهن شىء فليخلّ سبيله،و لا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا». (3)
(المؤلف).2.
ص: 315
و روى سلمة،عن أبيه قال:
«رخّص رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عام أوطاس في المتعة ثلاثا ثم نهى عنها». (1)
و الجواب:
أولا:إن النسخ لا يثبت بخبر الواحد،و قد تقدم مرارا.
ثانيا:إن هذه الروايات معارضة بروايات أهل البيت عليهم السّلام المتواترة التي دلت على إباحة المتعة،و أن النبي لم ينه عنها أبدا.
ثالثا:إن ثبوت الحرمة في زمان ما على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يكفي في الحكم بنسخ الآية،لجواز أن يكون هذا الزمان قبل نزول الإباحة،و قد استفاضت الروايات من طرق أهل السنة على حليّة المتعة في الأزمنة الأخيرة من حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى زمان من خلافة عمر،فإن كان هناك ما يخالفها فهو مكذوب و لا بد من طرحه.
و لأجل التبصرة نذكر فيما يلي جملة من هذه الروايات:
1-روى أبو الزبير قال:
«سمعت جابر بن عبد اللّه يقول كنا نستمتع بالقبضة من التمر و الدقيق الأيام على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أبي بكر حتى نهى عنه- نكاح المتعة-عمر في شأن عمرو بن حريث» (2).7.
ص: 316
2-و روى أبو نضرة قال:
«كنت عند جابر بن عبد اللّه فأتاه آت،فقال:[إن]ابن عباس و ابن الزبير اختلفا في المتعتين-متعة الحج و متعة النساء-فقال جابر:فعلناهما مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثم نهانا عنهما عمر فلم نعد لهما» (1).
3-و روى أبو نضرة عنه أيضا قال:
«متعتان كانتا على عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فنهانا عنهما عمر فانتهينا» (2).
4-و روى أبو نضرة عنه أيضا:
«تمتعنا متعتين على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:الحج و النساء فنهانا عنهما عمر فانتهينا» (3).
5-و روى أبو نضرة عنه أيضا قال:
«قلت إن ابن الزبير ينهى عن المتعة،و إن ابن عباس يأمر بها، قال:-جابر-على يدي جرى الحديث،تمتعنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و مع أبي بكر،فلما ولي عمر خطب الناس،فقال:إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هذا الرسول،و إن القرآن هذا القرآن،و إنهما كانتا متعتان على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أنا أنهى عنهما و أعاقب عليهما،7.
ص: 317
إحداهما متعة النساء،و لا أقدر على رجل تزوج امرأة إلى أجل إلا غيبته بالحجارة...» (1).
6-و روى عطاء قال:
«قدم جابر بن عبد اللّه معتمرا،فجئناه في منزله فسأله القوم عن أشياء،ثم ذكروا المتعة،فقال:نعم استمتعنا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أبي بكر و عمر» (2).و أخرج ذلك أحمد في مسنده،و زاد فيه:«حتى إذا كان في آخر خلافة عمر». (3)
7-و روى عمران بن حصين قال:
«نزلت آية المتعة في كتاب اللّه تبارك و تعالى،و عملنا بها مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلم تنزل آية تنسخها،و لم ينه عنها النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى مات» (4).و ذكرها الرّازي عند تفسيره الآية المباركة بزيادة:
«ثم قال رجل برأيه ما شاء» (5).
8-و روى عبد اللّه بن مسعود قال:
«كنا نغزو مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليس معنا نساء،قلنا أ لا نستخصي؟فنهانا عن ذلك،ثم رخّص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل،ثم قرأ عبد اللّه:ه.
ص: 318
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ «5:87» (1).
أقول:إن قراءة عبد اللّه الآية صريحة في أن تحريم المتعة لم يكن من اللّه و لا من رسوله،و إنما هو أمر حدث بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
9-و روى شعبة،عن الحكم بن عيينة قال:
«سألته عن هذه الآية-آية المتعة-أ منسوخة هي؟قال لا.قال الحكم:قال علي لو لا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي» (2).
و روى القرطبي ذلك عن عطاء،عن ابن عباس (3).
أقول:لعل المراد بالشقي-في هذه الرواية-هو ما فسر به هذا اللفظ في رواية أبي هريرة،قال:
«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:لا يدخل النار إلا شقي،قيل:و من الشقي؟قال:الذي لا يعمل بطاعة،و لا يترك للّه معصية» (4).
10-و روى عطاء قال:
«سمعت ابن عباس يقول:رحم اللّه عمر،ما كانت المتعة إلا رحمة من اللّه تعالى رحم اللّه بها أمة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لو لا نهيه لما احتاج إلى الزنا إلا شفا» (5).ل.
ص: 319
ثم إن الروايات التي استند إليها القائل بالنسخ على طوائف.
منها:ما ينتهي سنده إلى الربيع بن سبرة،عن أبيه،و هي كثيرة،و قد صرح في بعضها بأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قام بين الركن و المقام،أو بين الباب و المقام،و أعلن تحريم نكاح المتعة إلى يوم القيامة. (1)
و منها:ما روي عن علي عليه السّلام أنه روى تحريمها عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
و منها:ما روي عن سلمة بن الأكوع.
أما ما ينتهي سنده إلى سبرة،فهو و إن كثرت طرقه إلا أنه خبر رجل واحد «سبرة»و خبر الواحد لا يثبت به النسخ.على أن مضمون بعض هذه الروايات يشهد بكذبها،إذ كيف يعقل أن يقوم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خطيبا بين الركن و المقام،أو بين الباب و المقام،و يعلن تحريم شىء إلى يوم القيامة بجمع حاشد من المسلمين،ثم لا يسمعه غير سبرة،أو أنه لا ينقله أحد من ألوف المسلمين سواه،فأين كان المهاجرون و الأنصار الذين كانوا يلتقطون كل شاردة و واردة من أقوال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أفعاله؟و أين كانت الرواة الذين كانوا يهتمون بحفظ إشارات يد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لحظات عينيه،ليشاركوا سبرة في رواية تحريم المتعة إلى يوم القيامة؟ثم أين كان عمر نفسه عن هذا الحديث ليستغني به عن إسناد التحريم إلى نفسه؟!.أضف إلى ذلك أن روايات سبرة متعارضة،يكذب بعضها بعضا،ففي بعضها أن التحريم كان في عام الفتح (2)و في بعضها أنه كان في حجة الوداع (3)و على الجملة إن رواية سبرة هذه في تحريم المتعة لا يمكن الأخذ بها من جهات شتى.2.
ص: 320
و أما ما روي عن علي عليه السّلام في تحريم المتعة فهو موضوع قطعا،و ذلك لاتفاق المسلمين على حليّتها عام الفتح،فكيف يمكن أن يستدل علي عليه السّلام على ابن عباس بتحريمها في خيبر،و لأجل ذلك احتمل بعضهم أن تكون جملة(زمن خيبر)في الرواية المتقدمة راجعة إلى تحريم لحوم الحمر الأهلية،لا إلى تحريم المتعة،و نقل هذا الاحتمال عن ابن عيينة كما في المنتقى،و سنن البيهقي في باب المتعة. (1)
و هذا الاحتمال باطل من وجهين:
1-مخالفته للقواعد العربية:لأن لفظ النهي في الرواية لم يذكر إلا مرة واحدة في صدر الكلام،فلا بد و أن يتعلق الظرف به،فالذي يقول:أكرمت زيدا و عمروا يوم الجمعة،لا بد و أن يكون مراده أنه أكرمهما يوم الجمعة،أما إذا كان المراد أن إكرامه لعمرو بخصوصه كان يوم الجمعة فلا بد له من أن يقول:أكرمت زيدا،و أكرمت عمروا يوم الجمعة.
2-إن هذا الاحتمال مخالف لصريح رواية البخاري،و مسلم،و أحمد عن علي عليه السّلام أنه قال:«نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن متعة النساء يومخيبر،و عن لحوم الحمر الانسية (2)»و روى البيهقي-في باب المتعة-عن عبد اللّه بن عمر أيضا رواية تحريم المتعة يوم خيبر (3).
و أما ما روي عن سلمة بن الأكوع،عن أبيه،قال:
«رخص رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في متعة النساء عام أوطاس ثلاثة أيام ثم نهى عنها».7.
ص: 321
فهو خبر واحد،لا يثبت به النسخ،على أن ذلك لو كان صحيحا لم يكن خفيا عن ابن عباس،و ابن مسعود،و جابر،و عمرو بن حريث،و لا عن غيرهم من الصحابة و التابعين و كيف يصح ذلك و لم يحرّم أبو بكر المتعة أيام خلافته،و لم يحرّمها عمر في شطر كبير من أيامه،و إنما حرّمها في أواخر أمره.
و قد مرّ عليك كلام ابن حزم في ثبوت جماعة من الصحابة و التابعين على إباحة المتعة،و مما يدل على ما ذكره ابن حزم من فتوى جماعة من الصحابة بإباحة المتعة:
ما رواه ابن جرير في تهذيب الآثار،عن سليمان بن يسار،عن أم عبد اللّه ابنة أبي خيثمة:
«إن رجلا قدم من الشام فنزل عليها،فقال:إن العزبة قد اشتدت عليّ فابغيني امرأة أتمتع معها،قالت:فدللته على امرأة فشارطها و أشهدوا على ذلك عدولا،فمكث معها ما شاء اللّه أن يمكث،ثم إنه خرج فأخبر عن ذلك عمر بن الخطاب،فأرسل إلىّ فسألني أحق ما حدّثت؟قلت:نعم:قال:فإذا قدم فآذنيني به،فلما قدم أخبرته فأرسل إليه،فقال:ما حملك على الذي فعلته؟قال:
فعلته مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثم لم ينهنا عنه حتى قبضه اللّه ثم مع أبي بكر فلم ينهنا عنه حتى قبضه اللّه،ثم معك فلم تحدث لنا فيه نهيا، فقال عمر:أما و الذي نفسي بيده لو كنت تقدمت في نهي لرجمتك، بيّنوا حتى يعرف النكاح من السفاح».
و ما رواه ابن جرير أيضا،و أبو يعلى في مسنده،و أبو داود في ناسخه عن علي عليه السّلام قال:
ص: 322
«لو لا ما سبق من رأي عمر بن الخطاب لأمرت بالمتعة،ثم ما زنى إلا شقي» (1).
و في هاتين الروايتين وجوه من الدلالة على أن التحريم إنما كان من عمر:
الأول:شهادة الصحابي،و شهادة علي عليه السّلام على أن تحريم المتعة لم يكن في زمان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لا بعده إلى أن حرّمها عمر برأيه.
الثاني:شهادة العدول عن المتعة في الرواية الأولى،مع عدم نهيهم عنها تدل على أنهم كانوا يجوّزونها.
الثالث:تقرير عمر دعوى الشامي أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم ينه عنها.
الرابع:قول عمر للشامي:«لو كنت تقدمت في نهي لرجمتك»فإنه صريح في أن عمر لم يتقدم بالنهي قبل هذه القصة،و معنى ذلك:أن عمر قد اعترف بأن المتعة لم ينه عنها قبل ذلك.
الخامس:قول عمر:«بينوا حتى يعرف النكاح من السفاح»فإنه يدل على أن المتعة كانت شايعة بين المسلمين،فأراد أن يبلغ نهيه عن المتعة إليهم لينتهوا عنها بعد ذلك،و لعل لهذه القصة دخلا مباشرا أو غير مباشر في تحريم عمر للمتعة،فإن إنكاره على الشامي عمله هذا مع شهادة الحديث بأن التمتع كان أمرا شايعا بين المسلمين و وصول الخبر اليه،مع أن هذه الأشياء لا يصل خبرها إلى السلطان عادة، كل هذا يدلنا على أن في الأمر سرا جهلته الرواة،أو أنهم أغفلوه فلم يصل إلينا خبره.و يضاف إلى ذلك أن رواية سلمة بن الأكوع ليس فيها ظهور في أن النهي كان من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فمن المحتمل ان لفظ«نهى»في الرواية بصيغة المبني للمفعول8.
ص: 323
و أريد منه نهي عمر بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
و على الجملة:انه لم يثبت بدليل مقبول نهي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن المتعة و مما يدل على أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم ينه عن المتعة:أن عمر نسب التحريم إلى نفسه حيث قال:«متعتان كانتا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أنا أنهي عنهما و أعاقب عليهما (1)و لو كان التحريم من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لكان عليه أن يقول:نهى النبي عنهما.
4-ان ناسخ جواز المتعة الثابت بالكتاب و السنّة هو الإجماع على تحريمها.
و الجواب عن ذلك:
إن الإجماع لا حجية له إذا لم يكن كاشفا عن قول المعصوم و قد عرفت أن تحريم المتعة لم يكن في عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لا بعده إلى مضي مدة من خلافة عمر،أ فهل يجوز في حكم العقل أن يرفض كتاب اللّه و سنة نبيه بفتوى جماعة لم يعصموا من الخطأ؟ و لو صح ذلك لأمكن نسخ جميع الأحكام التي نطق بها الكتاب،أو أثبتتها السنّة القطعية،و معنى ذلك أن يلتزم بجواز نسخ وجوب الصلاة،أو الصيام،أو الحج بآراء المجتهدين،و هذا مما لا يرضى به مسلم.
أضف إلى ذلك:أن الإجماع لم يتم في مسألة تحريم المتعة،و كيف يدعي الإجماع على ذلك،مع مخالفة جمع من المسلمين من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من بعده و لا سيما أن قول هؤلاء بجواز المتعة موافق لقول أهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا،و إذن فلم يبق إلا تحريم عمر.4.
ص: 324
و من البين أن كتاب اللّه و سنة نبيه أحق بالاتباع من غيرهما،و من أجل ذلك أفتى عبد اللّه بن عمر بالرخصة بالتمتع في الحج،فقال له ناس:
«كيف تخالف أباك و قد نهى عن ذلك،فقال لهم:ويلكم أ لا تتقون...أ فرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أحق أن تتبعوا سنته أم سنة عمر؟» (1).
و خلاصة ما تقدم:أن جميع ما تمسك به القائلون بالنسخ لا يصلح أن يكون ناسخا لحكم الآية المباركة،الذي ثبت-قطعا-تشريعه في الإسلام.
قد صح في عدة روايات-تقدم بعضها-أن عمر حكم بالرجم على المتعة.
فمنها:ما رواه جابر،قال:
«تمتعنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلما قام عمر قال إن اللّه كان يحلّ لرسوله ما شاء بما شاء،و إن القرآن قد نزل منازله،فأتموا الحجة و العمرة للّه كما أمركم،و أبتّوا نكاح هذه النساء فلن أوتى برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته بالحجارة» (2).
و منها:ما رواه الشافعي،عن مالك،عن ابن شهاب،عن عروة أن خولة بنت حكيم دخلت على عمر بن الخطاب،فقالت:
«إن ربيعة بن أمية استمتع بامرأة مولدة فحملت منه فخرج
ص: 325
عمر يجرّ رداءه فزعا،فقال:هذه المتعة و لو كنت تقدمت فيه لرجمته» (1).
و منها:ما رواه نافع عن عبد اللّه بن عمر:
«إنه سئل عن متعة النساء،فقال:حرام،أما إن عمر بن الخطاب لو أخذ فيها أحدا لرجمه» (2).
و نهج ابن الزبير هذا المنهج،فإنه حينما أنكر نكاح المتعة،قال له ابن عباس:
«إنك لجلف جاف،فلعمري لقد كانت المتعة تفعل على عهد إمام المتقين-رسول اللّه-فقال له ابن الزبير:فجرّب بنفسك فو اللّه لئن فعلتها لأرجمنّك بأحجارك» (3).
و هذا من الغريب،و كيف يستحق الرجم رجل من المسلمين خالف عمر في الفتيا و استند في قوله هذا إلى حكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و نص الكتاب،و لنفرض أن هذا الرجل كان مخطئا في اجتهاده،أ فليست الحدود تدرأ بالشبهات؟!على أن ذلك فرض محض،و قد علمت أنه لا دليل يثبت دعوى النسخ.
و ما أبعد هذا القول من مذهب أبي حنيفة،حيث يرى سقوط الحد إذا تزوج الرجل بامرأة نكاحا فاسدا و بإحدى محارمه في النكاح،و دخل بها مع العلم بالحرمة و فساد العقد (4)و أنه إذا استأجر امرأة فزنى بها،سقط الحد لأن اللّه تعالى4.
ص: 326
سمى المهر أجرا.و قد روي نحو ذلك عن عمر بن الخطاب أيضا (1).
زعم صاحب المنار أن التمتع ينافي الإحصان،بل يكون قصده الأول المسافحة، لأنه ليس من الإحصان في شىء أن تؤجر المرأة نفسها كل طائفة من الزمن لرجل، فتكون كما قيل:
كرة حذفت بصوالجة فتلقفها رجل رجل
و زعم أنه ينافي قوله تعالى:
وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ 23:5. إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ :6. فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ :7.
ثم ذكر أن تحريم عمر لم يكن من قبل نفسه،فإن ثبت أنه نسبه إلى نفسه فمعناه أنه بين تحريمها،أو أنه أنفذه.ثم إنه استغفر بعد ذلك عما كتبه في المنار من أن عمر منع المتعة اجتهادا منه و وافقه عليه الصحابة (2).
و دفعا لهذه المزاعم نقول:
أما حكاية منافاة التمتع للإحصان فهو مبني على ما يزعمه هو من أن المتمتع بها ليست زوجة،و قد أوضحنا-فيما تقدم-فساد هذا القول و منه يظهر أيضا فساد توهمه أن جواز التمتع ينافي وجوب حفظ الفروج على غير الأزواج.
و أما تعبيره عن عقد المتعة بإجارة المرأة نفسها،و تشبيه المرأة بالكرة التي
ص: 327
تتلقفها الأيدي،فهو-لو كان صحيحا-لكان ذلك اعتراضا على تشريع هذا النوع من النكاح على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأن هذا التشبيه و التقبيح لا يختص بزمان دون زمان،و لا يشك مسلم في أن التمتع كان حلالا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد عرفت-فيما تقدم-أن إباحته استمرت حتى إلى مدة من عهد عمر.
و من الغريب:أن يصرح-هنا-انه لم يقصد غير بيان الحق،و انه لا يتعصب لمذهب،ثم يجرّه التعصب إلى أن يشنّع على ما ثبت في الشرع الإسلامي بنص الكتاب و السنة و إجماع المسلمين،و إن وقع الاختلاف بينهم في نسخه و استمراره.
أضف إلى ذلك أن انتقال المرأة من رجل إلى رجل لو كان قبيحا لكان ذلك مانعا عن طلاق المرأة في العقد الدائم،لتنتقل إلى عصمة رجل آخر،و عن انتقال المرأة بملك اليمين،و لم يستشكل في ذلك أحد من المسلمين،إلا أن صاحب المنار في مندوحة عن هذا الإشكال،لأنه يرى المنع من الاسترقاق،و أن في تجويزه مفاسد كثيرة،و زعم أن العلماء الأعلام أهملوا ذكر ذلك،و ذهب إلى بطلان العقد الدائم،إذا قصد الزوج من أول الأمر الطلاق بعد ذلك،و خالف في ذلك فتاوى فقهاء المسلمين.
و من الغريب أيضا:ما وجه به نسبة عمر تحريم المتعة إلى نفسه،فإنه لا ينهض ذلك بما زعمه.فإن بيان عمر للتحريم إمّا أن يكون اجتهادا منه على خلاف قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و إما أن يكون اجتهادا منه بتحريم النبي إياها،و إما أن يكون رواية منه للتحريم عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
أما احتمال أن يكون قوله رواية عن النبي فلا يساعد عليه نسبة التحريم،و النهي إلى نفسه في كثير من الروايات.على أنه إذا كان رواية،كانت معارضة بما تقدم من الروايات الدالة على بقاء إباحة المتعة إلى مدة غير يسيرة من خلافة عمر،و أين كان عمر أيام خلافة أبي بكر؟و هلاّ أظهر روايته لأبي بكر و لسائر المسلمين؟على
ص: 328
أن رواية عمر خبر واحد لا يثبت به النسخ.
و أما احتمال أن يكون قول عمر هذا اجتهادا منه بتحريم النبي نكاح المتعة فهو أيضا لا معنى له بعد شهادة جماعة من الصحابة بإباحته في زمان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى وفاته.على أن اجتهاده هذا لا يجدي غيره ممن لم يؤمر باتباع اجتهاده و رأيه، بل و هذان الاحتمالان مخالفان لتصريح عمر في خطبته:«متعتان كانتا على عهد رسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أنا أنهى عنهما و أعاقب عليهما».
و إذن فقد انحصر الأمر في أن التحريم كان اجتهادا منه على خلاف قول رسول اللّه بالإباحة،و لأجل ذلك لم تتبعه الأمة في تحريمه متعة الحج و في ثبوت الحد في نكاح المتعة،فإن اللازم على المسلم أن يتبع قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أن يرفض كل اجتهاد يكون على خلافه:
وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ «33:36».
و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«ما أحللت إلا ما أحلّ اللّه،و لا حرّمت إلاّ ما حرّم اللّه» (1).
و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«فو الذي نفسي بيده ما يخرج منه-فمه-إلاّ حق» (2).
و مع هذا كله:«فقد قال القوشجي في الاعتذار عن تحريم عمر المتعة،خلافا لرسول اللّه و أجيب:«بأن ذلك ليس مما يوجب قدحا فيه،فإن مخالفة المجتهد لغيره في المسائل الاجتهادية ليس ببدع» (3).ة.
ص: 329
و قال الآمدي:اختلفوا في أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هل كان متعبدا بالاجتهاد فيما لا نص فيه؟فقال أحمد بن حنبل،و القاضي أبو يوسف:«إنه كان متعبدا به»و جوّز الشافعي في رسالته ذلك من غير قطع،و به قال بعض أصحاب الشافعي و القاضي عبد الجبار،و أبو الحسين البصري،ثم قال:«و المختار جواز ذلك عقلا و وقوعه سمعا» (1).
و قال فيه أيضا:القائلون بجواز الاجتهاد للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اختلفوا في جواز الخطأ عليه في اجتهاده،فذهب بعض أصحابنا إلى المنع من ذلك،و ذهب أكثر أصحابنا، و الحنابلة،و أصحاب الحديث،و الجبائي،و جماعة من المعتزلة الى جوازه،لكن بشرط أن لا يقرّ عليه و هو المختار (2).
و حاصل ما تقدم:أن آية التمتع لا ناسخ لها،و أن تحريم عمر،و موافقة جمع من الصحابة له على رأيه طوعا أو كرها إنما كان اجتهادا في مقابل النص،و قد اعترف بذلك جماعة،و أنه لا دليل على تحريم المتعة غير نهي عمر،إلا أنهم رأوا أن اتباع سنة الخلفاء كاتباع سنة النبي (3).
و على أيّ فما أجود ما قاله عبد اللّه بن عمر:«أ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أحق أن تتّبع سنته أم سنة عمر»،و ما أحق ما قاله الشيخ محمد عبده في تفسير قوله تعالى:
اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ (4) .
- - - -ث.
ص: 330
14- وَ لِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً «4:33».
قد اختلفت الآراء في مدلول الآية المباركة:
فمنهم من حمل ذيل الآية المباركة«و الذين عقدت أيمانكم»على بيان حكم مستقل عن سابقه،فجعله جملة مستأنفة،و فسّر كلمة«نصيبهم»بالنصر،و النصح و الرفادة،و العون،و العقل،و المشورة،و على ذلك:فالآية محكمة غير منسوخة، و هذا القول منسوب إلى ابن عباس،و مجاهد،و سعيد بن جبير (1)،و منهم من جعله معطوفا على ما قبله،و فسر كلمة«نصيبهم»بما يستحقه الوارث من التركة.
ثم إن هؤلاء قد اختلفوا:فذهب بعضهم إلى أن المراد بعقد اليمين في الآية المباركة عقد المؤاخاة،و ما يشبهه من العقود التي كانت يتوارث بسببها في الجاهلية،و قد أقر الإسلام ذلك إلى أن نزلت آية المواريث:
وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ «8:75».
و على ذلك فالآية منسوخة (2).
و ذهب بعضهم إلى أن المراد بعقد اليمين خصوص عقد ضمان الجريرة و على ذلك فإن قلنا بما ذهب اليه أكثر علماء أهل السنة من أنه لا إرث بعقد ضمان الجريرة كانت الآية منسوخة أيضا بآية المواريث (3)،و إن قلنا بما ذهب اليه أبو حنيفة و أصحابه من ثبوت الإرث بهذا العقد كانت الآية محكمة غير منسوخة.1.
ص: 331
و قد استدلوا على ذلك بأن آية المواريث لم تنف إرث غير اولي الأرحام،و إنما قدّمهم على غيرهم،فلا تنافي بين الآيتين،لتكون آية المواريث ناسخة لهذه الآية (1).
و الحق:إن المراد بالآية ما هو ظاهرها الذي يفهم منها،و هو ثبوت الإرث بالمعاقدة،و مع ذلك فلا نسخ لمدلول الآية.
و بيان ذلك:إن سياق الآية يقتضي أن يكون المراد بالنصيب المذكور فيها هو الإرث،و حمله على النصرة و ما يشبهها خلاف ظاهرها،بل كاد يكون صريحها.
ثم إن ذكر الطوائف الثلاث في الآية لا يدل على اشتراكهم و تساويهم في الطبقة، فإن الولد يرث أبويه و لا يرث معه أحد من أقرباء الميث من أولي أرحامه فالذي يستفاد من الآية الكريمة أن الموروث هو هذه الطوائف الثلاث،و أما ترتيب الإرث و تقدم بعض الوارث على بعض فلا يستفاد من الآية،و قد استفيد ذلك من الأدلة الأخرى في الكتاب و السنّة.
و على هذا الذي ذكرناه تكون الآية الكريمة جامعة لجميع الورّاث على الإجمال، فالولد يرث ما تركه الوالدان،و الأقربون من اولي الأرحام يرث بعضهم بعضا، و من عقد معه يرث في الجملة تشريكا أو ترتيبا.
و تفصيل ذلك:
إن الإرث من غير جهة الرحم لا بد له من تحقق عقد و التزام من العاقد بيمينه و قدرته،و هو تارة يكون من جهة الزواج،فكل من الزوجين يرث صاحبه بسبب عقد الزواج الذي تحقق بينهما،و تارة يكون من جهة عقد البيعة و التبعية و يسمى2.
ص: 332
ذلك بولاء الإمامة،و لا خلاف في ثبوت ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد ورد في عدة روايات من طرق أهل السنة أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال:«أنا وارث من لا وارث له» (1).
و لا إشكال أيضا في ثبوته لأوصياء النبي الكرام عليهم السّلام فقد ثبت بالأدلة القطعية أنهم بمنزلة نفس الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و على ذلك اتفقت كلمات الإمامية و روايات أهل البيت عليهم السّلام و تارة يكون من جهة عقد العتق،فيرث المعتق عبده الذي أعتقه بولاء العتق،و لا خلاف في ذلك بين الإمامية،و قال به جمع من غيرهم،و تارة يكون من جهة عقد الضمان و يسمى ذلك«بولاء ضمان الجريرة»و قد اتفقت الإمامية على ثبوت الإرث بسبب هذا الولاء،و ذهب اليه أبو حنيفة و أصحابه.
و جملة القول:فدعوى نسخ الآية يتوقف على ثبوتها على أمرين:
1-أن يكون قوله تعالى:
وَ الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ «4:33».
في الآية معطوفا على ما قبله،و لا يكون جملة مستأنفة ليكون المراد من «نصيبهم»النصح و المشورة و ما يشبههما.
2-أن يراد بعقد اليمين فيها:خصوص ضمان الجريرة،مع الالتزام بعدم ثبوت الإرث به،أو عقد المؤاخاة و ما يشبهه من العقود التي اتّفق المسلمون على عدم ثبوت الإرث بها أما«الأمر الأول»:فلا ريب فيه،و هو الذي يقتضيه سياق الآية.
و أما«الأمر الثاني»:فهو ممنوع،لأن ضمان الجريرة أحد مصاديق عقد اليمين،2.
ص: 333
و مع ذلك فلم ينسخ حكمه،و دعوى أن المراد بعقد اليمين العقود التي لا توجب التوريث،كالمؤاخاة و نحوها لا دليل على ثبوتها.
- - - - 15- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ «4:43».
فقد ذهب أكثر العلماء إلى أنها منسوخة (1)و لكن وقع الكلام في ناسخها فعن قتادة و مجاهد أنها منسوخة بتحريم الخمر.و حكي هذا القول عن الحسن أيضا (2)، و عن ابن عباس أنها منسوخة بقوله تعالى:
إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ «5:6».
و كلا هذين القولين ظاهر الفساد:
أما القول الأول:فلأن الآية الكريمة لا دلالة فيها على جواز شرب الخمر بوجه، و إن فرض أن تحريم الخمر لم يكن في زمان نزول الآية،فالآية لا تعرّض لها لحكم الخمر رخصة أو تحريما.على أن هذا مجرد فرض لا وقوع له،ففي رواية ابن عمر:
نزلت في الخمر ثلاث آيات فأول شىء نزل:
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما «2:219».
فقيل:حرمت الخمر،فقيل يا رسول اللّه دعنا ننتفع بها،كما قال اللّه عز و جل،2.
ص: 334
فسكت عنهم،ثم نزلت هذه الآية (1):
لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى «4:43».
و روى نحو ذلك أبو هريرة (2).و روى أبو ميسرة،عن عمر بن الخطاب قال:« لما نزل تحريم الخمر،قال:اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا.فنزلت هذه الآية التي في سورة البقرة:
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ «2:19».
قال:فدعي عمر فقرئت عليه،فقال:اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا،فنزلت الآية التي في سورة النساء:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى «4:43».
فكان منادي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا أقام الصلاة نادى:لا يقربنّ الصلاة سكران، فدعي عمر فقرئت عليه فقال:اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا،فنزلت الآية التي في المائدة فدعي عمر فقرئت عليه،فلما بلغ:
فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ «5:91».
قال:فقال عمر:«انتهينا انتهينا» (3).و أخرج النسائي أيضا هذا الحديث باختلاف يسير في ألفاظه (4).5.
ص: 335
و أما القول الثاني:فلأن وجوب الوضوء عند القيام إلى الصلاة لا مساس له بمضمون الآية الكريمة ليكون ناسخا لها.
و لعل القائل بالنسخ يتوهم فيقول:إن النهي عن القرب إلى الصلاة حالة السكر يقتضي أن يراد بالسكر ما لا يبلغ بالشخص إلى حد الغفلة عن التكاليف و امتثالها، و عدم الالتفات إليها.فإن الذي يصل به السكر إلى هذا الحد يكون تكليفه قبيحا، و على ذلك فإذا فرضنا أن شخصا شرب الخمر،و حصل له هذا المقدار من السكر فهو مكلف بالصلاة بالإجماع،و ذلك يستلزم نسخ مفاد الآية.
و لكن هذا القول توهم فاسد،فإن المراد بالسكر بقرينة قوله تعالى:
حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ «4:43».
هي المرتبة التي يفقد السكران معها الشعور،و هذا النهي قد يحمل على الحرمة التكليفية،و لا ينافيها فقد الشعور،لأن إقامة الصلاة في ذلك الحال،و إن كانت غير مقدورة إلا أن فقده لشعوره هذا كان باختياره،و الممتنع بالاختيار لا ينافي صحة العقاب عليه عقلا،فيصح تعلق النهي بها قبل أن يتناول المسكر باختياره،و مثل هذا كثير في الشريعة الإسلامية.
و قد يراد من النهي:الإرشاد إلى فساد الصلاة في هذا الحال كما هو الظاهر من مثل هذا التركيب،و الأمر على هذا الاحتمال واضح جدا،و على كل فلا سبب يوجب الالتزام بالنسخ في الآية.
- - - - 16- إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً «4:90».
ص: 336
- - - - 16- إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً «4:90».
فقد ذكروا أن الآية منسوخة بالأمر بنبذ ميثاق المشركين،و بالأمر بقتالهم سواء أ كانوا اعتزلوا المسلمين أم لم يعتزلوهم،فيكون في الآية موردان للنسخ.
و الجواب:
إن الآية الكريمة نزلت في شأن المنافقين الذين تولوا و كفروا بعد إسلامهم في الظاهر،و الدليل على ذلك سياق الآية الكريمة،فقد قال اللّه تعالى:
فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَ اللّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً 4:88. وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ لا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً :89. إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ :90.
و على ذلك فالحكم في الآية وارد في المرتدين الذين كانوا كفارا ثم أسلموا ثم كفروا بعد إسلامهم،و الحكم فيهم بمقتضى الآية هو القتل إلا في موردين:
1-وصولهم إلى قوم بينهم و بين المسلمين معاهدة،و استجارتهم بهم فيجري عليهم حكم القوم الذين استجاروا بهم بمقتضى المعاهدة،و لكن هذا الحكم مشروط ببقاء المعاهدة،فإذا ألغيت بينهم و بين المسلمين لم يبق للحكم موضوع و قد أوضحنا في أول هذا البحث أن ارتفاع الحكم بسبب ارتفاع موضوعه ليس من النسخ في شىء،و قد ألغيت المعاهدة بين المسلمين و المشركين في سورة التوبة و أمهلوا أربعة
ص: 337
أشهر ليتخيروا إما الإسلام،و إما الخروج عن بلاد المسلمين،و على ذلك فلم يبق موضوع للاستجارة التي ذكرتها الآية.
2-مجيئهم إلى المسلمين،و قد حصرت صدورهم عن القتال مع اعتزالهم، و القائهم السلم إلى المسلمين بعد الردّة،و المراد بإلقاء السلم إلقاء السلم إظهار الإسلام،و الإقرار بالشهادتين،و يشهد لهذا قوله تعالى:
وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا «4:94».
فالآية دالة على قبول المرتد الملي إذا أظهر التوبة و الإسلام،و انه لا يقتل بعد التوبة،و قد استقر على هذا مذهب الإمامية:و لم ترد في القرآن آية تدل على وجوب قتل المرتد على الإطلاق،لتكون ناسخة لذلك.
أما إذا أراد القائل بالنسخ:أن يتمسك في نسخ الآية بما دل على قتال المشرك و الكافر،فمن الواضح أن ذلك مشروط ببقاء موضوعه،على ما هي القاعدة المتبعة في كل قضية حقيقة في الأحكام الشرعية و غيرها.نعم ورد الأمر بقتل المرتدّ على الإطلاق في بعض روايات أهل السنة،فقد روى البخاري،و أحمد،و الترمذي، و النسائي،و أبو داود السجستاني،و ابن ماجة،عن ابن عباس،عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال:«من بدّل دينه فاقتلوه» (1).إلا أنه لا خلاف بين المسلمين في أن هذا الحكم مقيد بعدم التوبة،و إن وقع الخلاف بينهم في المدة التي يستتاب فيها،و في2.
ص: 338
وجوب الاستتابة و استحبابها.فالمشهور بين الإمامية أنه واجب،و أنه لا يحدّ بمدة مخصوصة،بل يستتاب مدة يمكن منه الرجوع فيها إلى الإسلام،و قيل يستتاب ثلاثة أيام،و نسب ذلك إلى بعض الإمامية،و اختاره كثير من علماء أهل السنة، و ذهب أبو حنيفة،و أبو يوسف إلى استحباب الإمهال ثلاثة أيام.نعم ذهب علي بن أبي بكر المرغيناني إلى وجوب القتل من غير إمهال،و نسب ابن الهمام إلى الشافعي، و ابن المنذر أنهما قالا في المرتد:«إن تاب في الحال و إلا قتل» (1).
و على كلّ فلا إشكال في سقوط حكم القتل بالتوبة،كما صرّح به في الروايات المأثورة عن الطريقين،و بعد ذلك فلا تكون الآية منسوخة.
- - - - 17- فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ «5:42».
و قد اختلفت الأقوال في هذه الآية الكريمة،فقيل:إنها محكمة لم تنسخ و قد أجمعت الشيعة الاثني عشرية على ذلك،فالحاكم،مخير-حين يتحاكم اليه الكتابيون -بين أن يحكم بينهم بمقتضى شريعة الإسلام،و بين أن يعرض عنهم و يتركهم و ما التزموا به في دينهم.
و قد روى الشيخ الطوسي بسند صحيح عن أبي جعفر عليه السّلام قال:
«إن الحاكم إذا أتاه أهل التوراة،و أهل الإنجيل يتحاكمون اليه كان ذلك إليه،إن شاء حكم بينهم،وإن شاء ترك» (2)6.
ص: 339
و إلى هذا القول ذهب من علماء أهل السنة الشعبي،و إبراهيم النخعي،و عطاء، و مالك (1)و ذهب جمع منهم إلى أن الآية المباركة منسوخة بقوله تعالى بعد ذلك:
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ «5:48».
و روي عن مجاهد أنه ذهب إلى أن آية التخيير ناسخة للآية الثانية.
و التحقيق:عدم النسخ في الآية،فإن الأمر بالحكم بين أهل الكتاب بما أنزل اللّه في قوله تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ مقيد بما إذا أراد الحاكم أن يحكم بينهم،و القرينة على التقييد هي الآية الاولى.و يدلّ على ذلك أيضا -مضافا إلى شهادة سياق الآيات بذلك-قوله تعالى في ذيل الآية الاولى:«و إن حكمت فاحكم بينهم بالقسط»فإنه يدل على أن وجوب الحكم بينهم بالقسط معلق على إرادة الحكم بينهم،و للحاكم أن يعرض عنهم فينتفي وجوب الحكم بانتفاء موضوعه.و مما يدل على عدم النسخ في الآية المزبورة الروايات التي دلّت على أن سورة المائدة نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جملة واحدة،و هو في أثناء مسيره.
فقد روى عيسى بن عبد اللّه،عن أبيه،عن جده،عن علي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «إن سورة المائدة كانت من آخر ما نزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أنها نزلت و هو على بغلته الشهباء،و ثقل عليه الوحي حتى وقعت» (2).
و روت أسماء بنت يزيد،قالت:
«إني لآخذة بزمام العضباء ناقة رسول اللّه إذ أنزلت عليه المائدة كلها،و كادت من ثقلها تدق من عضد الناقة» (3).2.
ص: 340
و روت أيضا بإسناد آخر،قالت:
«نزلت سورة المائدة على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جميعا ان كادت لتكسر الناقة» (1).
و روى جبير بن نفير قال:
«حججت فدخلت على عائشة،فقالت لي:يا جبير تقرأ المائدة؟فقلت:نعم،فقالت:أما انها آخر سورة نزلت،فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه،و ما وجدتم فيها من حرام فحرّموه» (2).
و روى أبو عبيد،عن ضمرة بن حبيب،و عطية بن قيس،قالا:
«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المائدة من آخر القرآن تنزيلا،فأحلوا حلالها،و حرّموا حرامها» (3)و غير ذلك من الروايات الدالة على أن سورة المائدة نزلت جملة واحدة،و هي آخر ما نزل من القرآن،و مع هذه الروايات المستفيضة كيف يمكن دعوى أن تكون احدى آياتها ناسخة لآية أخرى منها!و هل ذلك إلا من النسخ قبل حضور وقت العمل؟و نتيجة ذلك أن يكون التشريع في الآية المنسوخة لغوا لا فائدة فيه،على أن بعض الروايات المتقدمة دلت على أن هذه السورة هي آخر ما نزل من القرآن،و إنر.
ص: 341
بعض الروايات المتقدمة دلت على أن هذه السورة هي آخر ما نزل من القرآن،و إن شيئا من آياتها لم ينسخ.
- - - - 18- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ «5:106».
و قد ذهبت الشيعة الإمامية إلى أن الآية محكمة،فتجوز شهادة أهل الكتاب على المسلمين في السفر إذا كانت الشهادة على الوصية،و إليه ذهب جمع من الصحابة و التابعين،منهم:عبد اللّه بن قيس،و ابن عباس،و شريح،و سعيد بن المسيب و سعيد بن جبير،و عبيدة،و محمد بن سيرين،و الشعبي،و يحيى بن يعمر،و السدي و قال به من الفقهاء:سفيان الثوري و مال إليه أبو عبيد لكثرة من قال به،و ذهب زيد بن أسلم،و مالك بن أنس،و الشافعي،و أبو حنيفة:إلى أن الآية منسوخة، و أنه لا تجوز شهادة كافر بحال (1).
و التحقيق بطلان القول بالنسخ في الآية المباركة،و الدليل على ذلك وجوه:
1-الروايات المستفيضة من الطريقين الدالة على نفوذ شهادة أهل الكتاب في الوصية،إذا تعذرت شهادة المسلم.فمن هذه الروايات:
ما رواه الكليني،عن هشام بن الحكم،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:
«في قول اللّه تعالى: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ قال:إذا كان الرجل في أرض غربة،لا يوجد فيها مسلم جازت شهادة من ليس بمسلم على الوصية» (2).6.
ص: 342
و ما رواه الشعبي:«أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة ب«دقوقا»هذه،و لم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته،فأشهد رجلين من أهل الكتاب،فقدما الكوفة فأتيا الأشعري-يعني أبا موسى-فأخبراه،و قدّما بتركته و وصيته،فقال الأشعري:هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأحلفهما بعد العصر ما خانا،و لا كذبا،و لا بدلا،و لا كتما،و لا غيّرا،و انها لوصية الرجل و تركته،فأمضى شهادتهما» (1).
2-الروايات المتقدمة في أن سورة المائدة نزلت جملة واحدة،و انها كانت آخر ما نزل،و ليس فيها منسوخ.
3-إن النسخ لا يتم من غير أن يدل عليه دليل،و الوجوه التي تمسك بها القائلون بالنسخ لا تصلح لذلك.
فمن هذه الوجوه:أن اللّه سبحانه اعتبر في الشاهد أن يكون عدلا مرضيا،فقال تعالى:
مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ 2:282. وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ «65:2».
و الكافر لا يكون عدلا و لا مرضيا،فلا بد و أن يكون الحكم بجواز شهادته منسوخا.
و الجواب:
أولا:إن الآية الأولى وردت في الشهادة على الدّين،و الآية الثانية وردت في الشهادة على الطّلاق،فلا يكون لهما دلالة على اعتبار العدالة في شهود الوصية.اه
ص: 343
ثانيا:إن هاتين الآيتين لو سلم أنهما مطلقتان كانت الآية المتقدمة مقيدة لهما، و المطلق لا يكون ناسخا لدليل المقيد،و لا سيّما إذا تأخر المقيد عنه في الزمان،كما في المقام.
و من هذه الوجوه:أن الإجماع قد انعقد على عدم قبول شهادة الفاسق،و الكافر فاسق فلا تقبل شهادته.
و الجواب:
إنه لا معنى لدعوى الإجماع هنا بعد ذهاب أكثر العلماء إلى جواز،و قد عرفت ذلك آنفا،و لا ملازمة عقلا بين رد شهادة المسلم الفاسق،و رد شهادة الكافر إذا كان عادلا في دينه.
و من هذه الوجوه:أن شهادة الكافر لا تجوز على المسلمين في غير الوصية و قد اختلف في قبولها في الوصية،فيرد ما اختلف فيه إلى ما اجمع عليه.
و الجواب:
إن هذا الوجه في منتهى الغرابة بعد أن عرفت قيام الدليل على قبول الشهادة في باب الوصية بلا معارض،و ليت هذا المستدل عكس الأمر.و قال:إن شهادة الكافر على الوصية كانت مقبولة في زمان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالإجماع،و قد اختلف فيه بعد زمان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيرد ما اختلف فيه إلى ما اجمع عليه.
و جملة القول:لا سند لدعوى النسخ في الآية غير تقليد جماعة من الفقهاء المتأخرين.و كيف يصح أن ترفع اليد عن حكم ورد في القرآن لفتوى أحد من الناس على خلافه؟و من الغريب قول الحسن و الزهري:إن المراد بقوله تعالى:
أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ «5:106».
ص: 344
آخران من غير عشيرتكم،فلا دلالة في الآية على قبول شهادة الكفار (1).
و يردّه-مضافا إلى الروايات التي وردت في تفسير الآية-:أنه مخالف لظاهر القرآن أيضا،لأن الخطاب في الآية للمؤمنين،فلا بد و أن يراد من قوله تعالى:« غيركم»غير المؤمنين،و هم الكفار.
نعم:إطلاق الآية الكريمة يدل على قبول شهادة الكافر في الوصية و إن لم يكن الكافر من الكتابيين،سواء أ أمكنت إقامة الشهود من المؤمنين أم لم تمكن،و لكن الروايات المستفيضة قيدت ذلك بشهادة الكتابي،و بما إذا لم يمكن تحصيل الشهود من المؤمنين،و هذا من جملة موارد تقييد إطلاق الكتاب و السنّة.
- - - - 19- وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَ غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَ النَّخْلَ وَ الزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمّانَ مُتَشابِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ «6:141».
فقد ذهب أكثر علماء أهل السنة إلى أن الآية منسوخة،و لهم في بيان نسخها وجوه:
1-إنها واردة في الزكاة،و أن وجوبها قد نسخ في غير الحنطة،و الشعير،و التمر، و الزبيب على ما هو الأشهر،بل و لا قائل من الصحابة و التابعين بوجوبها في كل ما أنبتت الأرض،نعم ذهب أبو حنيفة و زفر إلى وجوبها في غير الحطب و الحشيش، و القصب (2).3.
ص: 345
2-إن حكم الآية قد نسخ بالسنة:العشر و نصف العشر،و ذهب إلى ذلك السدي،و أنس بن مالك،و نسب ذلك إلى ابن عباس،و محمد بن الحنفية (1).
3-إن مورد الآية غير الزكاة،و قد نسخ وجوب إعطاء شىء من المال بوجوب الزكاة،ذهب إلى ذلك عكرمة،و الضحاك،و نسب ذلك إلى سعيد بن جبير أيضا (2).
و الحق:بطلان القول بالنسخ في مدلول الآية الكريمة،و الدليل على ذلك وجوه:
الأول:الروايات المستفيضة عن أهل البيت عليهم السّلام الدالة عن أن الحق المذكور في الآية هو غير الزكاة،و هو باق و لم ينسخ.
منها:ما رواه الشيخ الكليني بإسناده،عن معاوية بن الحجاج،قال:
«سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول في الزرع حقان:حق تؤخذ به، و حق تعطيه،قلت:و ما الذي أوخذ به و ما الذي أعطيه؟قال أما الذي تؤخذ به فالعشر و نصف العشر،و أما الذي تعطيه فقول اللّه عز و جل: وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ (3).
و قد روى ابن مردويه بإسناده،عن أبي سعيد الخدري،عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في قول اللّه تعالى:
وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ،قال:ما سقط من السنبل» (4).
الثاني:إن سورة الأنعام نزلت بمكة جملة واحدة،و قد صرحت بذلك روايات كثيرة،2.
ص: 346
منها:ما رواه الشيخ الكليني،بإسناده عن الحسن بن علي بن أبي حمزة،قال:
«قال أبو عبد اللّه عليه السّلام إن سورة الأنعام نزلت جملة،شيعها سبعون ألف ملك حتى نزلت على محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فعظموها و بجلوها،فإن اسم اللّه عز و جل فيها في سبعين موضعا،و لو يعلم الناس ما في قراءتها ما تركوها» (1).
و منها:ما روي عن ابن عباس قال:
«نزلت سورة الأنعام بمكة ليلا جملة واحدة،حولها سبعون ألف ملك يجأرون حولها بالتسبيح» (2).
و مما لا ريب فيه أن وجوب الزكاة إنما نزل في المدينة،فكيف يمكن أن يقال:إن الآية المذكورة نزلت في الزكاة!.و حكى الزجاج أن هذه الآية قيل فيها:إنها نزلت بالمدينة (3)،و هذا القول مخالف للروايات المستفيضة المتقدمة،و هو مع ذلك قول بغير علم.
الثالث:إن الإيتاء الذي أمرت به الآية الكريمة قد قيد بيوم الحصاد فلا بد أن يكون هذا الحق غير الزكاة،لأنها تؤدي بعد التنقية و الكيل،و مما يشهد على أن هذا الحق غير الزكاة أنه قد ورد في عدة من الروايات المأثورة عن أهل البيت عليهم السّلام النهي عن حصاد الليل،معللا في بعضها أنه يحرم منه القانع و المعتر (4).1.
ص: 347
و روى جعفر بن محمد بن إبراهيم،بإسناده عن جعفر بن محمد،عن أبيه،عن جده:
«ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نهى عن الجداد بالليل،و الحصاد بالليل، قال جعفر:أراه من أجل المساكين» (1).
و أما ما قيل في توجيه ذلك:إن يوم الحصاد يمكن أن يكون ظرفا لتعلق الحق بالمال لا للايتاء فيبطله:
1-انه خلاف الظاهر الذي يفهمه العرف من الآية،بل كاد يكون خلاف صريحها،فإن الظرف إنما يتعلق بما تدل عليه مادة الفعل،و لا يتعلق بما تدل عليه هيئته،فإذا قيل أكرم زيدا يوم الجمعة كان معناه أن يوم الجمعة ظرف لتحقق الإكرام،لا أنه ظرف لوجوبه.
2-ان الزكاة لا تجب يوم الحصاد،بل يتعلق الحق بالمال إذا انعقد الحب، و صدق عليه اسم الحنطة و الشعير،و على ذلك فذكر يوم الحصاد في الآية قرينة قطعية على أن هذا الحق هو غير الزكاة،و مما يؤيد أن هذا الحق هو غير الزكاة:أنه تعالى نهى في هذه الآية عن الإسراف و ذلك لا يناسب الزكاة المقدرة بالعشر و نصف العشر،و إذا اتضح أن الحق الذي أمرت الآية الكريمة بإيتائه هو غير الزكاة الواجبة لم تكن الزكاة ناسخة له.
و جملة القول:أن دعوى النسخ في الآية المباركة تتوقف على إثبات وجوب حق آخر في الزروع حتى ينسخ بوجوب الزكاة،و لا يستطيع القائل بالنسخ إثبات ذلك، لأن ظهور الأمر في الوجوب،و ظهوره في الدوام و الاستمرار لا يمكن الاحتفاظ بهما4.
ص: 348
جميعا في الآية،و ذلك للعلم بأنه لا يجب حق آخر بعد الزكاة فلا بد-إذن-من التصرف في أحد الظهورين،إما برفع اليد عن الظهور في الوجوب،و إبقائه على الدوام و الاستمرار،فيلتزم-حينئذ-بثبوت حق آخر استحبابي باق إلى الأبد، و إما برفع اليد عن الدوام و الاستمرار،و إبقائه على الظهور في الوجوب فيلتزم بالنسخ،و لا مرجح للثاني على الأول،بل الترجيح للأول و الدليل على ذلك أمران:
1-الروايات المستفيضة عن الأئمة المعصومين عليهم السّلام ببقاء هذا الحق و استحبابه، «و قد أشرنا إلى هذه الروايات آنفا».
2-ان هذا الحق لو كان واجبا لشاع بين الصحابة و التابعين،و لم ينحصر القول به بعكرمة،و الضحاك،أو بواحد و اثنين غيرهما.
و حاصل ما تقدم:أن الحريّ بالقبول هو القول بثبوت حق آخر ندبيّ في الثمار و الزروع،و هذا هو مذهب الشيعة الإمامية،و عليه فلا نسخ لمدلول الآية الكريمة.
- - - - 20- قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «6:145».
قال جماعة:إن الآية منسوخة بتحريم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد ذلك لبعض الأشياء غير المذكورة في الآية.
و الحق:عدم النسخ لأن مفاد الآية هو الإخبار عن عدم وجدان محرّم غير ما ذكر فيها،و هو دليل على عدم الوجود حين نزولها.و عليه فلا معنى لدعوى النسخ
ص: 349
فيها،فإن النسخ لا يقع في الجملة الخبرية،و إذن فلا بد من الالتزام بأن الحصر في الآية إضافي،فإن المشركين حرّموا على أنفسهم أشياء،و هي ليست محرّمة في الشريعة الإلهية،و هذا يظهر من سياق الآيات التي قبل هذه الآية،أو الالتزام بأن الحصر حقيقي،و أن المحرمات حين نزول هذه الآية كانت محصورة بما ذكر فيها،فإن هذه الآية مكية و قد حرّمت بعد نزولها أشياء أخرى،و كانت الأحكام تنزل على التدريج.
و من الظاهر أن تحريم شىء بعد شىء لا يكون من النسخ في شىء،و كون الحصر حقيقيا أظهر الاحتمالين و أقربهما إلى الفهم العرفي،و مع ذلك فلا نسخ في مدلول الآية-و لو كان الحصر إضافيا-كما عرفت.
21- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ 8:
15. وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ :16.
فقد ذهب بعضهم إلى أن هذا الحكم منسوخ بقوله تعالى:
اَلْآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَ اللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ «8:66».
فإن المسلمين إذا قلّ عددهم عن نصف عدد الكفار جاز لهم ترك القتال،و الفرار من الزحف.و من القائلين بهذا القول:عطاء بن أبي رياح (1).9.
ص: 350
ان تقييد إطلاق هذه الآية بآية التخفيف المذكورة مؤكد لبقاء حكمها و معنى ذلك:
ان الفرار من الزحف محرم في الشريعة الإسلامية إذا لم يكن عدد المسلمين أقل من نصف عدد الكفار،و أما إذا كان المسلمون أقل عددا من ذلك فلا يحرم عليهم الفرار، و هذا ليس من النسخ في شىء.
و روي عن عمرو بن عمر،و أبي هريرة،و أبي سعيد،و أبي نضرة،و نافع مولى ابن عمر،و الحسن البصري،و عكرمة،و قتادة،و زيد بن أبي حبيب،و الضحاك:
أن الحكم مخصوص بأهل بدر،و لا يحرم الفرار من الزحف على غيرهم.و به قال أبو حنيفة (1).
و هذا القول أيضا باطل:
فإن مورد الآية و إن كان يوم بدر،إلا أن ذلك لا يوجب اختصاص الحكم به، بعد أن كان اللفظ عاما،و كان الخطاب شاملا لجميع المسلمين و لا سيما إذا كان نزول الآية المباركة بعد انقضاء الحرب من يوم بدر (2).
و ذهب ابن عباس (3)و جميع الشيعة الإمامية،و كثير من علماء أهل السنة إلى أن الآية محكمة،و حكمها مستمر إلى يوم القيامة،و هذا هو القول الصحيح و قد عرفت الدليل عليه،و الروايات في ذلك متظافرة من الطريقين.
روى الكليني بإسناده عن محمد،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:
ص: 351
«سمعته يقول الكبائر سبع:قتل المؤمن متعمدا،و قذف المحصنة، و الفرار من الزحف،و التعرّب بعد الهجرة،و أكل مال اليتيم ظلما، و أكل الربا بعد البينة،و كل ما أوجب اللّه عليه النار» (1).
و روى أبو هريرة قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:
«و اجتنبوا السبع الموبقات،قالوا:يا رسول اللّه و ما هن؟ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الشرك باللّه،و السحر،و قتل النفس التي حرم اللّه إلا بالحق،و أكل الربا،و أكل مال اليتيم،و التولي يوم الزحف،و قذف المحصنات المؤمنات الغافلات (2).
- - - - 22- وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها «8:61».
فذهب ابن عباس،و مجاهد،و زيد بن أسلم،و عطاء،و عكرمة،و الحسن و قتادة إلى أنها منسوخة بآية السيف (3).
و الحق:أنها محكمة غير منسوخة،و الدليل على ذلك.
أولا:إن آية السيف خاصة بالمشركين دون غيرهم،«و قد تقدم بيان ذلك»، و من هنا صالح النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نصارى نجران في السنة العاشرة من الهجرة (4).مع أن2.
ص: 352
سورة براءة نزلت في السنة التاسعة،و عليه فتكون آية السيف مخصصة لعموم الحكم في الآية الكريمة،و ليست ناسخة لها.
و ثانيا:أن وجوب قتال المشركين،و عدم مسالمتهم مقيد بما إذا كان للمسلمين قوة و استعداد للمقاتلة و أما إذا لم تكن لهم قوة تمكنهم من الاستظهار على عدوهم فلا مانع من المسالمة كما فعل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذلك مع قريش يوم الحديبية،و قد دل على التقييد قوله تعالى:
فَلا تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَ اللّهُ مَعَكُمْ وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ «47:35».
- - - - 23- يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ 8:65. اَلْآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَ اللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ :66).
فقد ذكروا أن حكم الآية الاولى قد نسخ بالآية الثانية،و إن الواجب في أول الأمر على المسلمين أن يقاتلوا الكفار،و لو كانوا عشرة أضعافهم ثم خفف اللّه عن المسلمين فجعل وجوب القتال مشروطا بأن لا يزيد الكفار على ضعف عدد المسلمين.
ص: 353
و الحقّ:أنه لا نسخ في حكم الآية،فإن القول بالنسخ يتوقف على إثبات الفصل بين الآيتين نزولا،و إثبات أن الآية الثانية نزلت بعد مجيء زمان العمل بالآية الاولى،و ذلك لئلا يلزم النسخ قبل حضور وقت الحاجة.و معنى ذلك:أن يكون التشريع الأول لغوا،و لا يستطيع القائل بالنسخ إثبات ذلك إلا أن يتمسك بخبر الواحد،«و قد أوضحنا أن النسخ لا يثبت به إجماعا» (1)،أضف إلى ذلك أن سياق الآيتين أصدق شاهد على أنهما نزلتا مرة واحدة.
و نتيجة ذلك:أن حكم مقاتلة العشرين للمائتين استحبابي،و مع ذلك كيف يمكن دعوى النسخ،على أن لازم كلام القائل بالنسخ:ان المجاهدين في بدء أمر الإسلام كانوا أربط جأشا،و أشد شكيمة من المجاهدين بعد ظهور الإسلام،و قوته و كثرة أنصاره،و كيف يمكن القول بأن الضعف طرأ على المؤمنين بعد قوتهم!! و الظاهر أن مدلول الآيتين هو تحريض المؤمنين على القتال،و ان اللّه يعدهم بالنصر على أعدائهم،و لو كانت الأعداء عشرة أضعاف المسلمين،إلا أنه تعالى لعلمه بضعف قلوب غالب المؤمنين،و عدم تحملهم هذه المقاومة الشديدة لم يوجب ذلك عليهم،و رخص لهم بترك المقاومة إذا زاد العدو على ضعفهم،تخفيفا عنهم، و رأفة بهم،مع وعده تعالى إياهم بالنصر إذا ثبتت أقدامهم في إعلاء كلمة الإسلام.
و قد جعل وجوب المقاومة مشروطا بأن لا يبلغ العدو أكثر من ضعف عدد المسلمين،فإن الكفار لجهلهم بالدين،و عدم ركونهم إلى اللّه تعالى في قتالهم لا يتحملون الشدائد،و إن عقيدة الايمان في الرجل المؤمن تحدوه إلى الثبات أمام الأخطار،و تدعوه إلى النهضة لإعزاز الإسلام،لأنه يعتقد بنجاحه على كل حال، و ربحه في تجارته على كل تقدير،سواء أ كان غالبا أم كان مغلوبا،قال اللّه تعالى:ب.
ص: 354
وَ لا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَ تَرْجُونَ مِنَ اللّهِ ما لا يَرْجُونَ وَ كانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً «4:104».
- - - - 24- إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً «9:19».
فعن ابن عباس،و الحسن،و عكرمة:أنها منسوخة (1)بقوله تعالى:
وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً «9:122».
و هذا القول مبني على أن النفر كان واجبا ابتداء على جميع المسلمين مع أن الآية المباركة ظاهرة في أن الوجوب إنما هو على الذين يستنفرون إلى الجهاد،فقد قال تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اثّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاّ قَلِيلٌ 9:38.
إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَ لا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ :39).
و حاصل الآية أن من أمر بالنفير الى الجهاد و لم يخرج استحق العذاب بتركه الواجب،و لا صلة لهذا بوجوب الجهاد على جميع المسلمين.2.
ص: 355
و بهذا البيان يتضح بطلان دعوى النسخ (1)في قوله تعالى:
اِنْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالاً وَ جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ «9:41».
على أنا قد أوضحنا للقارئ-مرارا-أن تخصيص العام ببعض أفراده ليس من النسخ،بل إن قوله تعالى:
وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً «9:122».
بنفسه دليل على عدم النسخ،فإنه دل على أن النفر لم يكن واجبا على جميع المسلمين من بداية الأمر،فكيف يكون ناسخا للآية المذكورة.
- - - - 25- عَفَا اللّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ تَعْلَمَ الْكاذِبِينَ 9:43. لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ وَ اللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ :44. إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ :45).
فعن ابن عباس،و الحسن،و عكرمة،و قتادة:أن هذه الآيات منسوخة (2)بقوله تعالى:
فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ «24:62».
و الحق:ان الآيات الثلاث لا نسخ فيها،لأن صريحها ان المنع من الاستيذان و عتاب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على اذنه إنما هو في مورد عدم تميز الصادق من الكاذب و قد بين سبحانه و تعالى ان غير المؤمنين كانوا يستأذنون النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في البقاء فرارا من0.
ص: 356
الجهاد بين يديه،فأمره بأن لا يأذن لأحد إذا لم تبيّن الحال،أما إذا تبيّن الحال فقد أجاز اللّه المؤمنين أن يستأذنوا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في بعض شأنهم،و أجاز للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يأذن لمن شاء منهم،و إذن فلا منافاة بين الآيتين لتكون إحداهما ناسخة للاخرى.
- - - - 26- ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ وَ لا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ «9:120».
فعن ابن زيد:انها منسوخة (1)بقوله تعالى:
وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً «9:122».
و الحق:أنه لا نسخ فيها،فإن الآية الثانية قرينة متصلة بالآية الأولى،و حاصل المرادمنهما أن وجوب النفر إنما هو على البعض من المسلمين على نحو الكفاية،فلا تكون ناسخة،نعم قد يجب النفير إلى الجهاد على جميع المسلمين إذا اقتضته ضرورة وقتية،أو طلبه الولي العام الشرعي،أو لما سوى ذلك من الطوارئ،و هذا الوجوب هو غير وجوب الجهاد كفائيا الذي ثبت بأصل الشرع على المسلمين بذاته،و كلا الوجوبين باق،و لم ينسخ.
- - - - 27- وَ اتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَ اصْبِرْ حَتّى يَحْكُمَ اللّهُ وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ «10:109».8.
ص: 357
فعن ابن زيد:أن هذه الآية منسوخة بالأمر بالجهاد،و الغلظة على الكفار (1)و بطلان هذا القول يظهر مما قدمناه في إبطال دعوى النسخ في الآية الاولى من الآيات التي نبحث عن نسخها،فلا حاجة إلى الاعادة أضف إلى ذلك أنه لا دلالة على أن المراد من الصبر في هذه الآية هو الصبر على الكفار،نعم الصبر عليهم يشمله إطلاق الآية،و عليه فلا وجه لدعوى النسخ فيها.
- - - - 28- وَ إِنَّ السّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ «15:85».
فعن ابن عباس،و سعيد،و قتادة:أنها منسوخة بآية السيف (2).
و غير خفي أن الصفح المأمور به في الآية المباركة هو الصفح عن الأذى الذي كان يصل من المشركين إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على تبليغه شريعة ربه،و لا علاقة له بالقتال، و يشهد لهذا قوله تعالى بعيد ذلك.
فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ 15:94. إِنّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ :95).
و حاصل الآية:ان اللّه سبحانه يحرّض النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على المصابرة في تبليغ أوامره، و نشر أحكامه،و أن لا يلتفت إلى أذى المشركين و استهزائهم،و لا علاقة لذلك بحكم القتال الذي وجب بعد ما قويت شوكة الإسلام،و ظهرت حجته،نعم إن النبي الأكرم لم يؤمر بالجهاد في بادئ الأمر،لأنه لم يكن قادرا على ذلك حسب ما تقتضيه الظروف من غير طريق الإعجاز،و خرق نواميس الطبيعة،و لما أصبح قادرا على ذلك،و كثر المسلمين،و قويت شوكتهم،و تمت عدّتهم و عدتهم أمر0.
ص: 358
بالجهاد،و قد أسلفنا أن تشريع الأحكام الإسلامية كان على التدريج و هذا ليس من نسخ الحكم الثابت بالكتاب في شىء.
- - - - 29- وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً «16:67».
فعن قتادة،و سعيد بن جبير،و الشعبي،و مجاهد،و إبراهيم،و أبي رزين:أن هذه الآية منسوخة بتحريم الخمر (1).
و الحق:ان الآية محكمة،فإن القول بالنسخ فيها يتوقف على إثبات أمرين:
1-أن يراد بلفظ«سكرا»الخمر و الشراب المسكر،و القائل بالنسخ لا يستطيع إثبات ذلك،فإن أحد معانيه في اللغة الخل،و بذلك فسره علي بن إبراهيم (2)،و على هذا المعنى يكون المراد بالرزق الحسن الطعام اللذيذ من الدبس و غيره.
2-أن تدل الآية على إباحة المسكر،و هذا أيضا يستطيع القائل بالنسخ إثباته، فإن الآية الكريمة في مقام الاخبار عن أمر خارجي و لا دلالة لها على إمضاء ما كان يفعله الناس،و قد ذكرت الآية في سياق إثبات الصانع الحكيم بآياته الآفاقية،فقال عز من قائل:
وَ اللّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ 16:65. وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ1.
ص: 359
وَ دَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشّارِبِينَ :66. وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ :67. وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَ مِنَ الشَّجَرِ وَ مِمّا يَعْرِشُونَ :68. ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ :69).
فذكر سبحانه و تعالى أن من آياته أن ينزل الماء من السماء،و أنه يحيي به الأرض بعد موتها.ثم ذكر تدبيره في صنع الحيوان،و أنه يخرج اللبن الخالص من بين فرث و دم.ثم ذكر ما أودعه في ثمرات النخيل و الأعناب من الاستعداد لاتخاذ السكر منها و الرزق الحسن،و قد امتازت هي من بين الثمار بذلك.ثم ذكر ما يصنعه النحل من الأعمال التي يحار فيها العقلاء العارفون بمزايا صنع العسل و مبادئه،و أن ذلك بوحي اللّه تعالى و إلهامه.و إذن فليس في الآية دلالة على إباحة شرب المسكر أصلا.على أن في الآية إشعارا-لو سلم إرادة المسكر من لفظ سكرا-بعدم جواز شرب المسكر،فإنها جعلت المسكر مقابلا للرزق الحسن.و معنى هذا:أن المسكر ليس من الرزق الحسن،فلا يكون مباحا.و تدل على ما ذكرناه الروايات المأثورة عن أهل البيت عليهم السّلام فإنها دلّت على أن الخمر لم تزل محرّمة.
روى الشيخ الصدوق بإسناده عن محمد بن مسلم،قال:
«سئل أبو عبد اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن الخمر،فقال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:
إن أول ما نهاني عنه ربي عز و جل عبادة الأوثان و شرب الخمر...» (1).5.
ص: 360
و روى عن الريان عن الرضا عليه السّلام،قال:
«ما بعث اللّه نبيا إلا بتحريم الخمر» (1)و قد تقدم في بحث الإعجاز تحريم الخمر في التوراة (2)،و لكن الشيء الذي لا يشك فيه أن الشريعة الإسلامية لم تجهر بحرمة الخمر برهة من الزمن،ثم جهرت بها بعد ذلك،و هذا هو حال الشريعة المقدسة في جميع الأحكام.و من البيّن أنه ليس معنى ذلك أن الخمر كان مباحا في الشريعة ثم نسخت حرمته.
- - - - 30- اَلزّانِي لا يَنْكِحُ إِلاّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ الزّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَ حُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ «24:3».
فعن سعيد بن المسيب،و أكثر العلماء أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى:
وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَ الصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ... «24:32».
فدخلت الزانية في أيامى المسلمين (3).
و الحق:أن الآية غير منسوخة،فإن النسخ فيها يتوقف على أن يكون المراد من لفظ النكاح هو التزويج،و لا دليل يثبت ذلك.على أن ذلك يستلزم القول بإباحة نكاح المسلم الزاني المشركة،و بإباحة نكاح المشرك المسلمة الزانية،و هذا مناف لظاهر الكتاب العزيز،و لما ثبت من سيرة المسلمين،و إذن فالظاهر أن المراد من النكاح في الآية هو الوطء،و الجملة خبرية قصد بها الاهتمام بأمر الزنا.و معنى3.
ص: 361
الآية:أن الزاني لا يزني إلا بزانية،أو بمن هي أخس منها و هي المشركة،و أن الزانية لا تزني إلا بزان،أو بمن هو أخس منه و هو المشرك.و أما المؤمن فهو ممتنع عن ذلك،لأن الزنا محرّم،و هو لا يرتكب ما حرّم عليه.
- - - - 31- قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيّامَ اللّهِ «45:14».
فذهبت جماعة إلى أن هذه الآية الكريمة منسوخة بآية السيف،و قالوا:
إن هذه الآية مكية،و قد نزلت في عمر بن الخطاب حين شتمه رجل من المشركين بمكة قبل الهجرة،فأراد عمر أن يبطش به:فأنزل اللّه تعالى هذه الآية ثم نسخت بقوله تعالى:
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ... «9:5».
و استندوا في ذلك الى ما رواه عليل بن أحمد،عن محمد بن هشام،عن عاصم بن سليمان،عن جويبر،عن الضحاك،عن ابن عباس (1)و لكن هذه الرواية ضعيفة جدا،و لا أقل من أن في سندها عاصم بن سليمان و هو كذاب و ضاع (2)مع أن الرواية ضعيفة المتن،فإن المسلمين-قبل الهجرة-كانوا ضعفاء و لم يكن عمر مقداما في الحروب،و لم يعد من الشجعان المرهوبين،فكيف يسعه أن يبطش بالمشرك؟!9.
ص: 362
على أن لفظ الغفران المذكور في الآية يدل على التمكن من الانتقام.و من المقطوع به أن ذلك لم يكن ميسورا لعمر قبل الهجرة،فلو أراد البطش بالمشرك لبطش به المشرك لا محالة.
و الحق:أن الآية المباركة محكمة غير منسوخة،و أن معنى الآية:ان اللّه أمر المؤمنين بالعفو و الإغضاء عما ينالهم من الإيذاء و الإهانة في شئونهم الخاصة ممن لا يرجون أيام اللّه،و يدل عليه قوله تعالى بعد ذلك:
لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ 45:14. مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ:15 .
فإن الظاهر منه أن جزاء المسيء الذي لا يرجو أيام اللّه و لا يخاف المعاد،سواء أ كان من المشركين،أم من الكتابيين،أم من المسلمين الذين لا يبالون بدينهم إما هو موكول إلى اللّه الذي لا يقوته ظلم الظالمين و تفريط المفرطين،فلا ينبغي للمسلم المؤمن باللّه أن يبادر إلى الانتقام منه،فإن اللّه أعظم منه نقمة و أشد أخذا،و هذا الحكم تهذيبي أخلاقي،و هو لا ينافي الأمر بالقتال للدعوة إلى الإسلام أو لأمر آخر، سواء أ كان نزول هذه الآية قبل نزول آية السيف أم كان بعده.
- - - - 32- فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمّا فِداءً «47:4».
فذهبت جماعة إلى أن هذه الآية منسوخة بآية السيف،و ذهب آخرون إلى أنها
ص: 363
ناسخة لها (1).
و الحق:أنها ليست ناسخة و لا منسوخة،و تحقيق ذلك يحتاج الى مزيد من البسط في الكلام.
المعروف بين الشيعة الإمامية أن الكافر المقاتل يجب قتله ما لم يسلم،و لا يسقط قتله بالأسر قبل أن يثخن المسلمون الكافرين،و يعجز الكافرون عن القتال لكثرة القتل فيهم،و إذا أسلم ارتفع موضوع القتل،و هو الكافر،و أما الأسر بعد الإثخان فيسقط فيه القتل،فإن الآية قد جعلت الإثخان غاية لوجوب ضرب الرقاب.
و من الواضح:أن الحكم يسقط عند حصول غايته،و يتخير وليّ الأمر في تلك الحال بين استرقاق الأسير،و بين مفاداته،و المنّ عليه من غير فداء،من غير فرق في ذلك بين المشرك و غيره من فرق الكفار،و قد ادعي الإجماع على ما ذكرناه من الأحكام،و المخالف فيها شاذ لا يعبأ بخلافه،«و سيظهر ذلك فيما بعد إن شاء اللّه تعالى».
و هذا الذي ذكروه يوافق ظاهر الآية الكريمة من جميع الجهات إذا كان شد الوثاق هو الاسترقاق،باعتبار أن معنى شدّ الوثاق هو عزله عن الاستقلال ما لم يمنّ عليه أو يفاد 7 و أما إذا لم يكن شدّ الوثاق بمعنى الاسترقاق،فلا بد من إضافة الاسترقاق الى المفاداة و المنّ للعلم بجوازه من أدلة أخرى،فيكون ذلك تقييدا لإطلاق الآية بالدليل.
ص: 364
و قد وردت الأحكام المذكورة فيما رواه الكليني،و الشيخ الطوسي بإسنادهما عن طلحة بن زيد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:
«سمعته يقول كان أبي يقول ان للحرب حكمين:إذا كانت الحرب قائمة لم تضع أوزارها،و لم يثخن أهلها،فكل أسير أخذ في تلك الحال فإن الإمام فيه بالخيار إن شاء ضرب عنقه،و إن شاء قطع يده و رجله من خلاف بغير حسم،و تركه يتشحط في دمه حتى يموت و هو قول اللّه تعالى:
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ «5:33».
أ لا ترى أنه التخيير الذي خير اللّه الإمام على شىء واحد و هو الكفر و ليس هو على أشياء مختلفة فقلت لجعفر بن محمد عليه السّلام قول اللّه تعالى: أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ،قال ذلك الطلب أن يطلبه الخيل حتى يهرب،فإن أخذته الخيل حكم ببعض الأحكام التي و صفت ذلك،و الحكم الآخر إذا وضعت الحرب أوزارها و أثخن أهلها، فكل أسير أخذ على تلك الحال و كان في أيديهم فالإمام فيه بالخيار،إن شاء منّ عليهم فأرسلهم،و إن شاء فاداهم أنفسهم، و إن شاء استعبدهم فصاروا عبيدا» (1).5.
ص: 365
و وافقنا على سقوط القتل عن الأسير بعد الإثخان:الضحاك و عطاء،و صرح الحسن بذلك و ان الامام بالخيار إما أن يمنّ أو يفادي أو يسترق (1).
و على ما ذكرناه فلا نسخ في الآية الكريمة،غاية الأمر ان القتل يختص بمورد، و يختص عدم القتل بمورد آخر من غير فرق بين أن تكون آية السيف متقدمة في النزول على هذه الآية،و بين أن تكون متأخرة عنها.
و من الغريب:أن الشيخ الطوسي-في هذا المقام-نسب إلى أصحابنا أنهم رووا تخيير الإمام في الأسير بعد الإثخان بين القتل و بين ما ذكر من الأمور.
قال:«و الذي رواه أصحابنا أن الأسير إن أخذ قبل انقضاء الحرب و القتال- بأن تكون الحرب قائمة،و القتال باق-فالإمام مخير بين أن يقتلهم،أو يقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف و يتركهم حتى ينزفوا،و ليس له المنّ و لا الفداء،و إن كان أخذ بعد وضع الحرب أوزارها و انقضاء الحرب و القتال كان-الإمام-مخيرا بين المنّ و المفاداة إما بالمال أو النفس،و بين الاسترقاق-و ضرب الرقاب-» (2).
و تبعه على ذلك الطبرسي في تفسيره (3).
مع أنه لم ترد في ذلك رواية أصلا.
و قد نص الشيخ الطوسي بنفسه في كتاب المبسوط (4):«كل أسير يؤخذ بعد أن تضع الحرب أوزارها،فإنه يكون الإمام مخيرا فيه بين أن يمنّ عليه فيطلقه،و بين أن يسترقه و بين أن يفاديه،و ليس له قتله على ما رواه أصحابنا» و قد ادّعى الإجماع و الاخبار على ذلك:في المسألة السابعة عشرة من كتابم.
ص: 366
الفيء،و قسمة الغنائم من كتاب الخلاف.
و من الذين ادّعوا الإجماع على ذلك صريحا العلاّمة في كتابي«المنتهى و التذكرة» في أحكام الأسارى من كتاب الجهاد.
و في ظني:أن كلمة«ضرب الرقاب»في عبارة«التبيان»إنما كانت من سهو القلم،و قد جرى عليه الطبرسي من غير مراجعة.
هذا هو مذهب علماء الشيعة الإمامية،و الضحاك،و عطاء،و الحسن.
و أما بقية علماء أهل السنة فقد ذهبوا إلى أقوال:
1-منهم من قال:«إن الآية نزلت في المشركين،ثم نسخت بآيات السيف»، نسب ذلك إلى قتادة،و الضحاك،و السدي،و ابن جريح،و ابن عباس،و إلى كثير من الكوفيين،فقالوا:«إن الأسير المشرك يجب قتله،و لا تجوز مفاداته،و لا المنّ عليه بإطلاقه» (1).
و يردّه:
أنه لا وجه للنسخ على هذا القول،فإن نسبة هذه الآية إلى آيات السيف نسبة المقيد إلى المطلق،سواء أ كانت متقدمة عليها في النزول أم كانت متأخرة عنها.و قد أوضحنا-فيما سبق-أن العام المتأخر لا يكون ناسخا للخاص المتقدم،فكيف بالمطلق إذا سبقه المقيد (2)؟.
ص: 367
2-و منهم من قال:«إن الآية نزلت في الكفار جميعا،فنسخت في خصوص المشرك»نسب ذلك إلى قتادة،و مجاهد،و الحكم،و هو المشهور من مذهب أبي حنيفة (1).
و يردّه:
أن هذا القول واضح البطلان كالقول السابق،فإن ذلك موقوف على أن تكون آيات السيف متأخرة في النزول عن هذه الآية،و لا يمكن القائل بالنسخ إثبات ذلك،و لا سند له غير التمسك بخبر الواحد،و قد أوضحنا أن خبر الواحد لا يثبت به النسخ إجماعا،و لو فرضنا ثبوت ذلك،فلا دليل على كون آيات السيف ناسخة لها، ليصح القول المذكور،بل تكون هذه الآية مقيدة لآيات السيف،و ذلك:لاجماع الامة على أن هذه الآية قد شملت المشركين أو أنها مختصة بهم،و على ذلك كانت الآية المباركة قرينة على تقييد آيات السيف لما أشرنا اليه آنفا من أن المطلق لا يصلح أن يكون ناسخا للمقيد،و إذا أغمضنا عن ذلك كانت هذه الآية الكريمة معارضة لآيات السيف بالعموم من وجه،و مورد الاجتماع هو المشرك الأسير بعد الإثخان،و لا مجال للالتزام بالنسخ فيه.
3-و منهم من قال:«إن الآية ناسخة لآية السيف»،نسب ذلك إلى الضحاك و غيره» (2).
و يردّه:
أن هذا القول،يتوقف على إثبات تأخر هذه الآية في النزول عن آيات السيف، و لا يمكن هذا القائل إثبات ذلك،على أنا قد أوضحنا-فيما تقدم-أنه لا موجبر.
ص: 368
للالتزام بالنسخ،تأخرت الآية في النزول عن آيات السيف،أم تقدمت عليها.
4-و منهم من قال:«إن الإمام مخير في كل حال بين القتل و الاسترقاق و المفاداة و المنّ»،رواه أبو طلحة عن ابن عباس،و اختاره كثير،منهم:ابن عمر،و الحسن، و عطاء،و هو مذهب مالك،و الشافعي،و الثوري،و الأوزاعي و أبي عبيد،و غيرهم.
و على هذا القول فلا نسخ في الآية (1)قال النحاس بعد ما ذكر هذا القول:«و هذا على أن الآيتين محكمتان معمول بهما،و هو قول حسن لأن النسخ إنما يكون بشيء قاطع،فأما إذا أمكن العمل بالآيتين،فلا معنى في القول بالنسخ...و هذا القول يروى عن أهل المدينة،و الشافعي،و أبي عبيد» (2).
و يردّه:
ان هذا القول و إن لم يستلزم نسخا في الآية،إلا أنه باطل أيضا،لأن الآية الكريمة صريحة في أن المنّ و الفداء إنما هما بعد الإثخان فالقول بثبوتهما-قبل ذلك- قول بخلاف القرآن،و الأمر بالقتل في الآية مغيّا بالإثخان فالقول بثبوت القتل بعده قول بخلاف القرآن أيضا،و قد سمعت أن آيات السيف مقيدة بهذه الآية.
و أما ما استدل به على هذا القول من أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قتل بعض الأسارى و فادى بعضا،و منّ على آخرين،فهذه الرواية-على فرض صحتها-لا دلالة لها على التخيير بين القتل و غيره،لجواز أن يكون قتلهن للأسير قبل الإثخان و فداؤه و منه في الاسراء بعده،و أما ما روى من فعل أبي بكر و عمر فهو-على تقدير ثبوته-لا حجية فيه،لترفع اليد به عن ظاهر الكتاب العزيز.
- - - - -1.
ص: 369
33- وَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ «51:19».
34- وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ 70:24. لِلسّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ :25).
فقد وقع الاختلاف في نسخ الآيتين و أحكامهما.و وجه الاختلاف في ذلك:أن الحق المعلوم الذي أمرت الآيتان به قد يكون هو الزكاة المفروضة،و قد يكون فرضا ماليا آخر غيرها،و قد يكون حقا غير الزكاة و لكنه مندوب و ليس بمفروض.فإن كان الحق واجبا ماليا غير الزكاة فالآيتان الكريمتان منسوختان لا محالة،من حيث إن الزكاة نسخت كل صدقة واجبة في القرآن و قد اختار هذا الوجه جماعة من العلماء.و إن كان الحق المعلوم هو الزكاة نفسها،أو كان حقا مستحبا غير مفروض،فالآيتان محكمتان بلا ريب.
و التحقيق:يقتضي اختيار الوجه الأخير،و أن الحق المعلوم شىء غير الزكاة، و هو أمر قد ندب اليه الشرع.فقد استفاضت النصوص من الطريقين بأن الصدقة الواجبة منحصرة بالزكاة،و قد ورد عن أهل البيت عليهم السّلام بيان المراد من هذا الحق المعلوم.
روى الشيخ الكليني بإسناده عن أبي بصير قال:
«كنا عند أبي عبد اللّه عليه السّلام و معنا بعض أصحاب الأموال فذكروا الزكاة فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام:إن الزكاة ليس يحمد بها صاحبها،و إنما هو شىء ظاهر إنما حقن بها دمه و سمي بها مسلما،و لو لم يؤدّها لم تقبل صلاته،و إن عليكم في أموالكم غير الزكاة.فقلت:أصلحك اللّه و ما علينا في أموالنا غير الزكاة؟فقال:سبحان اللّه!أما تسمع اللّه يقول في كتابه:و الذين في أموالهم...؟قال:قلت:فما ذا الحق
ص: 370
المعلوم الذي علينا؟قال:هو و اللّه الشيء يعلمه الرجل في ماله يعطيه في اليوم،أو في الجمعة،أو الشهر قلّ أو كثر غير أنه يدوم عليه» (1).
و روى أيضا بإسناده،عن إسماعيل بن جابر،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «في قول اللّه تعالى: وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ... أ هو سوى الزكاة؟ فقال:هو الرجل يؤتيه اللّه الثروة من المال فيخرج منه الألف، و الألفين،و الثلاثة آلاف،و الأقل و الأكثر فيصل به رحمه،و يحتمل به الكلّ عن قومه» (2).
و غير ذلك من الروايات عن الصادقين عليهما السلام (3).
و روى البيهقي في شعب الإيمان،بإسناده،عن غزوان بن أبي حاتم قال:
«بينا أبو ذر عند باب عثمان لم يؤذن له إذ مرّ به رجل من قريش قال:يا أبا ذر ما يجلسك هاهنا؟فقال:يأبى هؤلاء أن يأذنوا لي، فدخل الرجل فقال:يا أمير المؤمنين ما بال أبي ذر على الباب لا يؤذن له؟فأمر فاذن له فجاء حتى جلس ناحية القوم...فقال عثمان لكعب:يا أبا إسحق أ رأيت المال إذا أدّي زكاته هل يخشى على صاحبه فيه تبعة؟قال:لا،فقام أبو ذر و معه عصا فضرب بها بين اذني كعب،ثم قال:يا ابن اليهودية،أنت تزعم أنه ليس حق في ماله إذا أدّى الزكاة.و اللّه تعالى يقول: وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ1.
ص: 371
وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ «59:9».و اللّه تعالى يقول:
وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً «76:8».و اللّه تعالى يقول: وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ 7:74. لِلسّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ:75 .
فجعل يذكر نحو هذا من القرآن...» (1).
و روى ابن جرير بإسناده عن ابن عباس:
«أن الحق المعلوم سوى الصدقة يصل بها رحما،أو يقري بها ضيفا أو يحمل بها كلا،أو يعين بها محروما» (2).
و تبع ابن عباس على ذلك جملة من المفسرين،و على هذا فلا نسخ في الآية المباركة.
- - - - 35- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ أَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «58:12».
فقد ذهب أكثر العلماء إلى نسخها بقوله تعالى:
أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تابَ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَطِيعُوا اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ اللّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ «58:13».9:
ص: 372
فقد استفاضت الروايات من الطريقين:أن الآية المباركة لما نزلت لم يعمل بها غير علي عليه السّلام فكان له دينار فباعه بعشرة دراهم،فكان كلما ناجى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قدّم درهما حتى ناجاه عشر مرات.
روى ابن بابويه بإسناده عن مكحول قال:
«قال أمير المؤمنين على بن أبي طالب عليه السّلام لقد علم المستحفظون من أصحاب النبي محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه ليس فيهم رجل له منقبة إلا قد شركته فيها و فضّلته،و لي سبعون منقبة لم يشركني أحد منهم، قلت:يا أمير المؤمنين فأخبرني بهن،فقال عليه السّلام:و إن أول منقبة- و ذكر السبعين-و قال في ذلك:و أما الرابعة و العشرين فإن اللّه عز و جل أنزل على رسوله:«إذا ناجيتم»فكان لي دينار فبعته بعشرة دراهم،فكنت إذا ناجيت رسول اللّه أتصدق قبل ذلك بدرهم،و اللّه ما فعل هذا أحد غيري من أصحابه قبلي و لا بعدي فأنزل اللّه عز و جل: أَ أَشْفَقْتُمْ... (1).
و روى ابن جرير بإسناده عن مجاهد قال:
«قال علي رضي اللّه عنه آية من كتاب اللّه لم يعمل بها أحد قبلي و لا يعمل بها أحد بعدي،كان عندي دينار فصرفته بعشرة
ص: 373
دراهم،فكنت إذا جئت إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تصدقت بدرهم،فنسخت فلم يعمل بها أحد قبلي:إذا ناجيتم» (1).
قال الشوكاني:و أخرج عبد الرزاق،و عبد بن حميد،و ابن المنذر،و ابن أبي حاتم،و ابن مردويه عنه-علي بن أبي طالب-قال:
«ما عمل بها أحد غيري حتى نسخت،و ما كانت إلا ساعة يعنى آية النجوى».
و أخرج سعيد بن منصور،و ابن راهويه،و ابن أبي شيبة،و عبد بن حميد،و ابن المنذر،و ابن أبي حاتم،و الحاكم و صححه،و ابن مردويه عنه أيضا قال:
«إن في كتاب اللّه لآية ما عمل بها أحد قبلي و لا يعمل بها أحد بعدي آية النجوى: إِذا ناجَيْتُمُ... كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم،فكنت كلما ناجيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قدمت بين يدي نجواي درهما،ثم نسخت فلم يعمل بها أحد،فنزلت:
أَ أَشْفَقْتُمْ... (2) .
أن الآية المباركة دلّت على أن تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خير،و تطهير للنفوس،و الأمر به أمر بما فيه مصلحة العباد.و دلّت على أن هذا الحكم إنما يتوجه على من يجد ما يتصدق به،أما من لا يجد شيئا فإن اللّه غفور رحيم.
ص: 374
و لا ريب في أن ذلك مما يستقل العقل بحسنه و يحكم الوجدان بصحته فإن في الحكم المذكور نفعا للفقراء،لأنهم المستحقون للصدقات،و فيه تخفيف عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فإنه يوجب قلة مناجاته من الناس،و أنه لا يقدم على مناجاته-بعد هذا الحكم-إلا من كان حبه لمناجاة الرسول أكثر من حبه للمال.
و لا ريب أيضا في أن حسن ذلك لا يختص بوقت دون وقت.و دلّت الآية الثانية على أن عامة المسلمين-غير علي بن أبي طالب عليه السّلام-أعرضوا عن مناجاة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إشفاقا من الصدقة،و حرصا على المال.
و لا ريب في أن إعراضهم عن المناجاة يفوّت عليهم كثيرا من المنافع و المصالح العامة.و من أجل حفظ تلك المنافع رفع اللّه عنهم وجوب الصدقة بين يدي المناجاة تقديما للمصلحة العامة على المصلحة الخاصة،و على النفع الخاص بالفقراء،و أمرهم بإقامة الصلاة،و إيتاء الزكاة،و إطاعة اللّه و رسوله.
و على ذلك فلا مناص من الالتزام بالنسخ،و أن الحكم المجعول بالآية الاولى قد نسخ و ارتفع بالآية الثانية.و يكون هذا من القسم الأول من نسخ الكتاب-أعني ما كانت الآية الناسخة ناظرة إلى انتهاء أمد الحكم المذكور في الآية المنسوخة-و مع ذلك فنسخ الحكم المذكور في الآية الاولى ليس من جهة اختصاص المصلحة التي اقتضت جعله بزمان دون زمان إذ قد عرفت انها عامة لجميع أزمنة حياة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلا أن حرص الامة على المال،و إشفاقها من تقديم الصدقة بين يدي المناجاة كان مانعا من استمرار الحكم المذكور و دوامه،فنسخ الوجوب و أبدل الحكم بالترخيص.
ص: 375
أنه كيف جعل اللّه الحكم المذكور«وجوب التصديق بين يدي النجوى»مع علمه منذ الأزل بوقوع المانع!.
و الجواب:
ان في جعل هذا الحكم ثم نسخه-كما فعله اللّه سبحانه-تنبيها للامة،و إتماما للحجة عليهم.فقد ظهر لهم و لغيرهم بذلك أن الصحابة كلهم آثروا المال على مناجاة الرسول الأكرم،و لم يعمل بالحكم غير أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام.
و ترك المناجاة و إن لم يكن معصية للّه سبحانه،لأن المناجاة بنفسها لم تكن واجبة، و وجوب الصدقة كان مشروطا بالنجوى،فإذا لم تحصل النجوى فلا وجوب للصدقة و لا معصية في ترك المناجاة،إلا أنه يدل على أن من ترك المناجاة يهتم بالمال أكثر من اهتمامه بها.
و في نسخ هذا الحكم بعد وضعه ظهرت حكمة التشريع،و انكشفت منّة اللّه على عباده و بان عدم اهتمام المسلمين بمناجاة النبي الأكرم،و عرف مقام أمير المؤمنين عليه السّلام من بينهم.و هذا الذي ذكرناه يقتضيه ظاهر الكتاب،و تدل عليه أكثر الروايات و أما إذا كان الأمر بتقديم الصدقة بين يدي النجوى أمرا صوريا امتحانيا-كأمر إبراهيم بذبح ولده-فالآية الثانية لا تكون ناسخة للآية الاولى نسخا اصطلاحيا، بل يصدق على رفع ذلك الحكم الامتحاني:النسخ بالمعنى اللغوي:
و نقل الرازي عن أبي مسلم:أنه جزم بكون الأمر امتحانيا،لتمييز من أمن إيمانا
ص: 376
حقيقيا عمن بقي على نفاقه فلا نسخ.و قال الرازي:«و هذا الكلام حسن ما به بأس» (1).
و قال الشيخ شرف الدين:إن محمد بن العباس ذكر في تفسيره سبعين حديثا من طريق الخاصة و العامة تتضمن أن المناجي للرسول هو أمير المؤمنين عليه السّلام دون الناس أجمعين...و نقلت من مؤلف شيخنا أبي جعفر الطوسي هذا الحديث ذكره أنه في جامع الترمذي،و تفسير الثعلبي بإسناده عن علقمة الأنماري يرفعه إلى علي عليه السّلام أنه قال:
«بي خفف اللّه عن هذه الامة لأن اللّه امتحن الصحابة،فتقاعسوا عن مناجاة الرسول،و كان قد احتجب في منزله من مناجاة كل أحد إلا من تصدّق بصدقة،و كان معي دينار،فتصدقت به،فكنت أنا سبب التوبة من اللّه على المسلمين حين عملت بالآية،و لو لم يعمل بها أحد لنزل العذاب، لامتناع الكل من العمل بها» (2).
أقول:إن هذه الرواية لا وجود لها في النسخة المطبوعة من جامع الترمذي و لم أظفر بشيء من نسخه القديمة المخطوطة،و لم أظفر أيضا بتفسير الثعلبي الذي نقل عنه في جملة من المؤلفات،و لا أعلم بوجوده في مكان.و كيف كان فلا ريب في أن الحكم المذكور لم يبق إلا زمنا يسيرا ثم ارتفع،و لم يعمل به أحد غير أمير المؤمنين عليه السّلام و بذلك ظهر فضله،سواء أ كان الأمر حقيقيا أم كان امتحانيا.2.
ص: 377
اعتذر الرازي عن ترك شيوخ الصحابة العمل بالآية المباركة،إذا كانوا قد وجدوا الوقت لذلك و لم يفعلوا،فقال ما نصه:
«و ذلك الاقدام على هذا العمل مما يضيق قلب الفقير،فإنه لا يقدر على مثله فيضيق قلبه،و يوحش قلب الغني،فإنه لما لم يفعل الغني ذلك و فعله غيره صار ذلك الفعل سببا للطعن في من لم يفعل،فهذا الفعل لما كان سببا لحزن الفقراء و وحشة الأغنياء لم يكن في تركه كبير مضرة،لأن الذي يكون سببا للالفة أولى مما يكون سببا للوحشة،و أيضا فهذه المناجاة ليست من الواجبات،و لا من الطاعات المندوبة،بل قد بيّنا أنهم إنما كانوا كلفوا بهذه الصدقة ليتركوا هذه المناجاة،لو ما كان الأولى بهذه المناجاة أن تكون متروكة لم يكن تركها سببا للطعن» (1).
أقول:هذا عذره،و أنت تجد أنه تشكيك لا ينبغي صدوره ممن له أدنى معرفة بمعاني الكلم،هب ان في هذا المقام لم ترد فيه رواية أصلا،أ فلا يظهر من قوله تعالى:«ء أشفقتم...»أنه عتاب على ترك المناجاة خوفا من الفقر أو حرصا على المال؟و أن اللّه تعالى قد تاب عليهم عن هذا التقصير،إلا أن التعصب داء عضال، و من الغريب أنه ذكر هذا،و قد اعترف قبيل ذلك بأن من فوائد هذا التكليف أن يتميز به محب الآخرة من محب الدنيا،فإن المال محك الدواعي!!.
و أما ان الفعل المذكور يكون سببا لحزن الفقراء،و وحشة الأغنياء فيكون تركه الموجب للالفة أولى،أما هذا الذي ذكره فلو صح لكان ترك جميع الواجبات المالية
ص: 378
أولى من فعلها،و لكان أمره تعالى بالفعل أمرا بما يحكم العقل بأولوية تركه،و ليس ببعيد أن يلتزم الرازي بهذا،و بما هو أدهى منه لينكر فضيلة من فضائل علي عليه السّلام.
و من المناسب-هنا-أن أنقل كلاما لنظام الدين النيسابوري،قال ما نصه:قال القاضي:
«هذا-تصدق علي بين يدي النجوى-لا يدل على فضله على أكابر الصحابة، لأن الوقت لعله لم يتسع للعمل بهذا الفرض،و قد قال فخر الدين الرازي:سلمنا أن الوقت قد وسع إلاّ أنّ الإقدام على هذا العمل مما يضيق قلب الفقير الذي لا يجد شيئا،و ينفر الرجل الغني،و لم يكن في تركه مضرة،لأن الذي يكون سببا للألفة أولى مما يكون سببا للوحشة،و أيضا الصدقة عند المناجاة واجبة،أما المناجاة فليست بواجبة و لا مندوبة،بل الأولى ترك المناجاة،لما بينا من أنها كانت سببا لسآمة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
قلت:هذا الكلام لا يخلو عن تعصب ما،و من أين يلزمنا أن نثبت مفضولية علي رضي اللّه عنه في كل خصلة؟و لم لا يجوز أن يحصل له فضيلة لم توجد لغيره من أكابر الصحابة؟!.
فقد روي عن ابن عمر:
كان لعلي رضي اللّه عنه ثلاث لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إليّ من حمر النعم:تزويجه فاطمة رضي اللّه عنها،و إعطاؤه الراية يوم خيبر،و آية النجوى، و هل يقول منصف:إن مناجاة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نقيصة،على أنه لم يرد في الآية نهي عن المناجاة،و إنما ورد تقديم الصدقة على المناجاة فمن عمل بالآية حصل له الفضيلة من جهتين:سدّ خلة بعض الفقراء،و من جهة محبة نجوى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ففيها القرب
ص: 379
منه،و حل المسائل العويصة،و إظهار أن نجواه أحب إلى المناجي من المال» (1).
- - - - 36- ما أَفاءَ اللّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ «59:8».
فقد نقل عن قتادة أنها منسوخة،و أنه قال:الفيء و الغنيمة واحد و كان في بدو الإسلام تقسيم الغنيمة على هذه الأصناف،و لا يكون لمن قاتل عليها شىء إلا أن يكون من هذه الأصناف.ثم نسخ اللّه ذلك في سورة الأنفال فجعل لهؤلاء الخمس، و جعل الأربعة الأخماس لمن حارب قال اللّه تعالى (2).
وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ «8:41».
و قد رفض المحققون هذا القول،و قالوا:إن ما يغنمه المسلمون في الحرب يغاير موضوعا ما أفاء اللّه على رسوله بغير قتال،فلا تنافي بين الآيتين لتنسخ إحداهما الأخرى.
أقول:إن ما ذكره المحققون بيّن لا ينبغي الجدال فيه،و يؤكده أنه لم ينقل من سيرة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يخص بالغنائم نفسه و قرابته دون المجاهدين.و مما يبطل النسخ ما قيل من أن سورة الأنفال نزلت قبل نزول سورة الحشر (3)و لا أدنى من الشك في ذلك،و مما لا ريب فيه أن النّاسخ لا بد من تأخره عن المنسوخ.8.
ص: 380
ص: 381
-العلم الإلهي الأزلي لا ينافي قدرته.
-موقف اليهود من قدرة اللّه.
-موقع البداء عند الشيعة.
-أقسام القضاء الإلهي.
-ثمرة الاعتقاد بالبداء.
-حقيقة البداء عند الشيعة.
-أحاديث أهل السنة الدالة على البداء.
-إنباء المعصومين بالحوادث المستقبلة.
ص: 382
بمناسبة الحديث عن النسخ في الأحكام و هو في أفق التشريع،و بمناسبة أن النسخ كالبداء و هو في أفق التكوين،و بمناسبة خفاء معنى البداء على كثير من علماء المسلمين،و أنهم نسبوا إلى الشيعة ما هم برآء منه،و أنهم لم يحسنوا في الفهم و لم يحسنوا في النقد،و ليتهم إذ لم يعرفوا تثبّتوا أو توقّفوا (1)كما تفرضه الأمانة في النقل، و كما تقتضيه الحيطة في الحكم،و الورع في الدين،بمناسبة كل ذلك وجب أن نذكر شيئا في توضيح معنى البداء و إن لم تكن له صلة-غير هذا-بمدخل التفسير.
لا ريب في أن العالم بأجمعه تحت سلطان اللّه و قدرته،و أن وجود أي شىء من الممكنات منوط بمشيئة اللّه تعالى،فإن شاء أوجده،و إن لم يشأ لم يوجده.
و لا ريب أيضا في أن علم اللّه سبحانه قد تعلق بالأشياء كلها منذ الأزل،و أن الأشياء بأجمعها كان لها تعيّن علمي في علم اللّه الأزلي و هذا التعين يعبر عنه ب«
ص: 383
تقدير اللّه»تارة و ب«قضائه»تارة أخرى،و لكن تقدير اللّه و علمه سبحانه بالأشياء منذ الأزل لا يزاحم و لا ينافي قدرته تعالى عليها حين إيجادها،فإن الممكن لا يزال منوطا بتعلق مشيئة اللّه بوجوده التي قد يعبر عنها بالاختيار،و قد يعبر عنها بالإرادة،فإن تعلقت المشيئة به وجد و إلا لم يوجد.و العلم الإلهي يتعلق بالأشياء على واقعها من الإناطة بالمشيئة الإلهية،لأن انكشاف الشيء لا يزيد على واقع ذلك الشيء،فإذا كان الواقع منوطا بمشيئة اللّه تعالى كان العلم متعلقا به على هذه الحالة،و إلا لم يكن العلم علما به على وجهه،و انكشافا له على واقعه.فمعنى تقدير اللّه تعالى للأشياء و قضائه بها:أن الأشياء جميعها كانت متعينة في العلم الإلهي منذ الأزل على ما هي عليه من أن وجودها معلق على أن تتعلق المشيئة بها، حسب اقتضاء المصالح و المفاسد التي تختلف باختلاف الظروف و التي يحيط بها العلم الإلهي.
و ذهبت اليهود إلى أن قلم التقدير و القضاء حينما جرى على الأشياء في الأزل استحال أن تتعلق المشيئة بخلافه.و من أجل ذلك قالوا:يد اللّه مغلولة عن القبض و البسط و الأخذ و الإعطاء،فقد جرى فيها قلم التقدير و لا يمكن فيها التغيير (1)و من الغريب أنهم قاتلهم اللّه-التزموا بسلب القدرة عن اللّه،و لم يلتزموا بسلب القدرة عن العبد،مع أن الملاك في كليهما واحد،فقد تعلق العلم الأزلي بأفعال اللّه تعالى،و بأفعال العبيد على حد سواء.
ص: 384
ثم إن البداء الذي تقول به الشيعة الإمامية إنما يقع في القضاء غير المحتوم،أما المحتوم منه فلا يتخلف،و لا بد من أن تتعلق المشيئة بما تعلق به القضاء،و توضيح ذلك أن القضاء على ثلاثة أقسام:
الأول:قضاء اللّه الذي لم يطلع عليه أحدا من خلقه،و العلم المخزون الذي استأثر به لنفسه،و لا ريب في أن البداء لا يقع في هذا القسم،بل ورد في روايات كثيرة عن أهل البيت عليهم السّلام أن البداء إنما ينشأ من هذا العلم.
روى الشيخ الصدوق في«العيون»بإسناده،عن الحسن بن محمد النوفلي أن الرضا عليه السّلام قال لسليمان المروزي:
«رويت عن أبي،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنه قال:إن للّه عز و جل علمين علما مخزونا مكنونا لا يعلمه إلا هو من ذلك يكون البداء، و علما علمه ملائكته و رسله،فالعلماء من أهل بيت نبيك يعلمونه...» (1).
و روى الشيخ محمد بن الحسن الصفار في«بصائر الدرجات»بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:
«إن للّه علمين:علم مكنون مخزون لا يعلمه إلاّ هو،من ذلك
ص: 385
يكون البداء و علم علّمه ملائكته و رسله و أنبياءه،و نحن نعلمه» (1).
الثاني:قضاء اللّه الذي أخبر نبيه و ملائكته بأنه سيقع حتما،و لا ريب في أن هذا القسم أيضا لا يقع فيه البداء،و إن افترق عن القسم الأول،بأن البداء لا ينشأ منه.
قال الرضا عليه السّلام لسليمان المروزي-في الرواية المتقدمة عن الصدوق-:
«إن عليا عليه السّلام كان يقول:العلم علمان،فعلم علّمه اللّه ملائكته و رسله،فما علّمه ملائكته و رسله فإنه يكون،و لا يكذّب نفسه و لا ملائكته و لا رسله و علم عنده مخزون لم يطلع عليه أحدا من خلقه يقدم منه ما يشاء،و يؤخر ما يشاء،و يمحو ما يشاء و يثبت ما يشاء» (2).
و روى العياشي عن الفضيل،قال:سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول:
«من الأمور أمور محتومة جائية لا محالة،و من الأمور أمور موقوفة عند اللّه يقدم منها ما يشاء،و يمحو ما يشاء و يثبت ما يشاء،لم يطلع على ذلك أحدا-يعني الموقوفة-فأما ما جاءت به الرسل فهي كائنة لا يكذّب نفسه،و لا نبيه،و لا ملائكته» (3).7.
ص: 386
الثالث:قضاء اللّه الذي أخبر نبيه و ملائكته بوقوعه في الخارج إلا أنه موقوف على أن لا تتعلق مشيئة اللّه بخلافه.و هذا القسم هو الذي يقع فيه البداء.
يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ 13:39. لِلّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ «29:4».
و قد دلّت على ذلك روايات كثيرة منها هذه:
1-ما في«تفسير علي بن إبراهيم»عن عبد اللّه بن مسكان،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:
«إذا كان ليلة القدر نزلت الملائكة و الروح و الكتبة إلى سماء الدنيا،فيكتبون ما يكون من قضاء اللّه تعالى في تلك السنة،فإذا أراد اللّه أن يقدّم شيئا أو يؤخره،أو ينقص شيئا أمر الملك أن يمحو ما يشاء،ثم أثبت الذي أراده.قلت:و كل شىء هو عند اللّه مثبت في كتاب؟قال:نعم.قلت:فأي شىء يكون بعده؟قال:سبحان اللّه،ثم يحدث اللّه أيضا ما يشاء تبارك و تعالى» (1).
2-ما في تفسيره أيضا،عن عبد اللّه بن مسكان،عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه و أبي الحسن عليهم السّلام في تفسير قوله تعالى:
فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ «44:4».
«أي يقدّر اللّه كل أمر من الحق و من الباطل،و ما يكون في تلك السنة،و له فيه البداء و المشيئة.يقدّم ما يشاء و يؤخر ما يشاء من8.
ص: 387
الآجال و الأرزاق و البلايا و الأعراض و الأمراض،و يزيد فيها ما يشاء و ينقص ما يشاء...» (1).
3-ما في كتاب«الاحتجاج»عن أمير المؤمنين عليه السّلام أن قال:
«لو لا آية في كتاب اللّه،لأخبرتكم بما كان و بما يكون و بما هو كائن إلى يوم القيامة،و هي هذه الآية:يمحو اللّه...» (2).
و روى الصدوق في الأمالي و التوحيد بإسناده عن الأصبغ عن أمير المؤمنين عليه السّلام مثله.
4-ما في«تفسير العياشي»عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال:
«كان علي بن الحسين عليه السّلام يقول:لو لا آية في كتاب اللّه لحدّثتكم بما يكون إلى يوم القيامة.فقلت:أية آية؟قال:قول اللّه:يمحو اللّه...» (3).
5-ما في«قرب الاسناد»عن البزنطي عن الرضا عليه السّلام قال:
قال أبو عبد اللّه،و أبو جعفر،و علي بن الحسين،و الحسين بن علي، و الحسن بن علي،و علي بن أبي طالب عليهم السّلام:«لو لا آية في كتاب اللّه لحدّثناكم بما يكون إلى أن تقوم الساعة:يمحو اللّه...» (4).
إلى غير ذلك من الروايات الدالة على وقوع البداء في القضاء الموقوف.5.
ص: 388
و خلاصة القول:ان القضاء الحتمي المعبر عنه باللوح المحفوظ،و بامّ الكتاب، و العلم المخزون عند اللّه يستحيل أن يقع فيه البداء.و كيف يتصور فيه البداء؟و أن اللّه سبحانه عالم بجميع الأشياء منذ الأزل،لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في الأرض و لا في السماء.
روى الصدوق في«إكمال الدين»بإسناده،عن أبي بصير و سماعة،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:
«من زعم أن اللّه عز و جل يبدو له في شىء اليوم لم يعلمه أمس فابرءوا منه» (1).
و روى العياشي،عن ابن سنان،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام يقول:
«إن اللّه يقدّم ما يشاء،و يؤخر ما يشاء،و يمحو ما يشاء، و يثبت ما يشاء و عنده أم الكتاب،و قال:فكل أمر يريده اللّه فهو في علمه قبل أن يصنعه،و ليس شىء يبدو له إلا و قد كان في علمه، إن اللّه لا يبدو له من جهل» (2).
و روى أيضا عن عمار بن موسى،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:
«سئل عن قول اللّه: يَمْحُوا اللّهُ... قال:إن ذلك الكتاب كتاب يمحو اللّه ما يشاء و يثبت،فمن ذلك الذي يرد الدعاء القضاء، و ذلك الدعاء مكتوب عليه الذي يرد به القضاء،حتى إذا صار إلى أم الكتاب لم يغن الدعاء فيه شيئا» (3).4.
ص: 389
و روى الشيخ الطوسي في«كتاب الغيبة»بإسناده عن البزنطي،عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال علي بن الحسين،و علي بن أبي طالب قبله،و محمد بن علي و جعفر ابن محمد عليهم السّلام:
«كيف لنا بالحديث مع هذه الآية يَمْحُوا اللّهُ... فأما من قال بأن اللّه تعالى لا يعلم الشيء إلا بعد كونه فقد كفر و خرج عن التوحيد» (1).
و الروايات المأثورة عن أهل البيت عليهم السّلام أن اللّه لم يزل عالما قبل أن يخلق الخلق، (2)فهي فوق حد الإحصاء،و قد اتفقت على ذلك كلمة الشيعة الإمامية طبقا لكتاب اللّه و سنة رسوله،جريا على ما يقتضيه حكم العقل الفطري الصحيح.
و البداء:إنما يكون في القضاء الموقوف المعبر عنه بلوح المحو و الإثبات،و الالتزام بجواز البداء فيه لا يستلزم نسبة الجهل إلى اللّه سبحانه و ليس في هذا الالتزام ما ينافي عظمته و جلاله.
فالقول بالبداء:هو الاعتراف الصريح بأن العالم تحت سلطان اللّه و قدرته في حدوثه و بقائه،و إن إرادة اللّه نافذة في الأشياء،أزلا و أبدا،بل و في القول بالبداء يتضح الفارق بين العلم الإلهي و بين علم المخلوقين،فعلم المخلوقين-و إن كانوا أنبياء أو أوصياء-لا يحيط بما أحاط به علمه تعالى،فإن بعضا منهم إن كان عالما-بتعليم
ص: 390
اللّه إياه-بجميع عوالم الممكنات لا يحيط بما أحاط به علم اللّه المخزون الذي استأثر به لنفسه،فإنه لا يعلم بمشيئة اللّه تعالى-لوجود شىء-أو عدم مشيئته إلا حيث يخبره اللّه تعالى به على نحو الحتم.
و القول بالبداء:يوجب انقطاع العبد الى اللّه و طلبه إجابة دعائه منه و كفاية مهماته،و توفيقه للطاعة،و إبعاده عن المعصية،فإن إنكار البداء و الالتزام بأن ما جرى به قلم التقدير كائن لا محالة-دون استثناء-يلزمه يأس المعتقد بهذه العقيدة عن إجابة دعائه،فإن ما يطلبه العبد من ربه إن كان قد جرى قلم التقدير بإنفاذه فهو كائن لا محالة،و لا حاجة إلى الدعاء و التوسل،و إن كان قد جرى القلم بخلافه لم يقع أبدا،و لم ينفعه الدعاء و لا التضرع،و إذا يئس العبد من إجابة دعائه ترك التضرع لخالقه،حيث لا فائدة في ذلك،و كذلك الحال في سائر العبادات و الصدقات التي ورد عن المعصومين عليهم السّلام أنها تزيد في العمر أو في الرزق أو غير ذلك مما يطلبه العبد.
و هذا هو سر ما ورد في روايات كثيرة عن أهل البيت عليهم السّلام من الاهتمام بشأن البداء.
فقد روى الصدوق في كتاب«التوحيد»بإسناده،عن زرارة،عن أحدهما عليهما السّلام قال:
«ما عبد اللّه عز و جل بشيء مثل[أفضل من]البداء» (1).
و روى بإسناده،عن هشام بن سالم،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:
«ما عظّم اللّه عز و جل بمثل البداء» (1).1.
ص: 391
و روى بإسناده،عن محمد بن مسلم،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:
«ما بعث اللّه عز و جل نبيا حتى يأخذ عليه ثلاث خصال:
الإقرار بالعبودية و خلع الأنداد،و أن اللّه يقدّم ما يشاء و يؤخر ما يشاء» (1).
و السر في هذا الاهتمام:أن إنكار البداء يشترك بالنتيجة مع القول بأن اللّه غير قادر على أن يغير ما جرى عليه قلم التقدير.تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.فإن كلا القولين يؤيس العبد من إجابة دعائه،و ذلك يوجب عدم توجهه في طلباته إلى ربه.
و على الجملة:فإن البداء بالمعنى الذي تقول به الشيعة الإمامية هو من الإبداء الإظهار حقيقة،و إطلاق لفظ البداء عليه مبني على التنزيل و الإطلاق بعلاقة المشاكلة.و قد اطلق بهذا المعنى في بعض الروايات من طرق أهل السنة.
روى البخاري بإسناده عن أبي عمرة،أن أبا هريرة حدّثه أنه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول:
إن ثلاثة في بني إسرائيل:أبرص و أعمى و أقرع،بدا للّه عز و جل أن يبتليهم فبعث إليهم ملكا فأتى الأبرص...» (2).
ص: 392
و قد وقع نظير ذلك في كثير من الاستعمالات القرآنية،كقوله تعالى:
اَلْآنَ ... عَلِمَ اللّه أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً «8:66».
و قوله تعالى:
لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً «8:12».
و قوله تعالى:
لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً «8:7».
و ما أكثر الروايات من طرق أهل السنّة في أن الصدقة و الدعاء يغيّران القضاء (1).
أما ما وقع في كلمات المعصومين عليهم السّلام من الإنباء بالحوادث المستقبلة فتحقيق الحال فيها:أن المعصوم متى ما أخبر بوقوع أمر مستقبل على سبيل الحتم و الجزم و دون تعليق،فذلك يدلّ أن ما أخبر به مما جرى به القضاء المحتوم و هذا هو القسم الثاني«الحتمي»من أقسام القضاء المتقدمة.و قد علمت أن مثله ليس موضعا للبداء،فإن اللّه لا يكذّب نفسه و لا نبيّه.و متى ما أخبر المعصوم بشيء معلّقا على أن لا تتعلق المشيئة الإلهية بخلافه،و نصب قرينة متصلة أو منفصلة على ذلك فهذا الخبر إنما يدلّ على جريان القضاء الموقوف الذي هو موضع البداء.و الخبر الذي أخبر به المعصوم صادق و إن جرى فيه البداء،و تعلقت المشيئة الإلهية بخلافه.فإن الخبر-كما عرفت-منوط بأن لا تخالفه المشيئة.ت.
ص: 393
و روى العياشي،عن عمرو بن الحمق قال:
«دخلت على أمير المؤمنين عليه السّلام حين ضرب على قرنه،فقال لي:يا عمرو إني مفارقكم،ثم قال:سنة السبعين فيها بلاء...فقلت:
بأبي أنت و أمي قلت:إلى السبعين بلاء،فهل بعد السبعين رخاء؟ قال:نعم يا عمرو إن بعد البلاء رخاء...»و ذكر آية يَمْحُوا اللّهُ... (1)8.
ص: 394
ص: 395
-بطلان الاعتماد على الظن و على آراء المفسرين في فهم القرآن.
-مدارك التفسير.
-تخصيص القرآن بخبر الواحد.
-شبهات المنكرين له،و الأقوال في المسألة.
ص: 396
التفسير هو إيضاح مراد اللّه تعالى من كتابه العزيز،فلا يجوز الاعتماد فيه على الظنون و الاستحسان،و لا على شىء لم يثبت أنه حجة من طريق العقل،أو من طريق الشرع،للنهي عن اتباع الظن،و حرمة إسناد شىء إلى اللّه بغير إذنه قال اللّه تعالى:
قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ «10:59».
و قال اللّه تعالى:
وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ «17:36».
إلى غير ذلك من الآيات و الروايات الناهية عن العمل بغير العلم،و الروايات الناهية عن التفسير بالرأي مستفيضة من الطريقين.
و من هذا يتضح أنه لا يجوز اتباع أحد المفسرين في تفسيره،سواء أ كان ممن حسن مذهبه أم لم يكن،لأنه من إتباع الظن،و هو لا يغني من الحق شيئا.
و لا بد للمفسر من أن يتبع الظواهر التي يفهمها العربي الصحيح-فقد بيّنا لك
ص: 397
حجية الظواهر-أو يتبع ما حكم به العقل الفطري الصحيح فإنه حجة من الداخل كما أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حجة من الخارج،أو يتبع ما ثبت عن المعصومين عليهم السّلام فإنهم المراجع في الدين،و الّذين أوصى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بوجوب التمسك بهم فقال:
«إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي،ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا (1).
و لا شبهة في ثبوت قولهم عليهم السّلام إذا دل عليه طريق قطعي لا شك فيه كما أنه لا شبهة في عدم ثبوته إذا دل عليه خبر ضعيف غير جامع لشرائط الحجية،و هل يثبت بطريق ظني دل على اعتباره دليل قطعي؟فيه كلام بين الأعلام.
و قد يشكل:
في حجية خبر الواحد الثقة إذا ورد عن المعصومين عليهم السّلام في تفسير الكتاب، و وجه الإشكال في ذلك أن معنى الحجية التي ثبتت لخبر الواحد،أو لغيره من الأدلة الظنية هو وجوب ترتيب الآثار عليه عملا في حال الجهل بالواقع،كما تترتب على الواقع لو قطع به و هذا المعنى لا يتحقق إلا إذا كان مؤدى الخبر حكما شرعيا،أو موضوعا قد رتب الشارع عليه حكما شرعيا،و هذا الشرط قد لا يوجد في خبر الواحد الذي يروى عن المعصومين في التفسير.
و هذا الإشكال:خلاف التحقيق،فإنا قد أوضحنا في مباحث«علم الأصول» أن معنى الحجية في الامارة الناظرة إلى الواقع هو جعلها علما تعبديا في حكم الشارع،فيكون الطريق المعتبر فردا من أفراد العلم،و لكنه فرد تعبدي لا وجدانية.
ص: 398
فيترتب عليه كلما يترتب على القطع من الآثار،فيصح الاخبار على طبقة كما يصح أن يخبر على طبق العلم الوجداني،و لا يكون من القول بغير علم.
و يدلنا على ذلك سيرة العقلاء،فإنهم يعاملون الطريق المعتبر معاملة العلم الوجداني من غير فرق بين الآثار،فإن اليد مثلا امارة عند العقلاء على مالكية صاحب اليد لما في يده،فهم يرتبون له آثار المالكية،و هم يخبرون عن كونه مالكا للشيء بلا نكير،و لم يثبت من الشارع ردع لهذه السيرة العقلائية المستمرة.
نعم يعتبر في الخبر الموثوق به،و في غيره من الطرق المعتبرة أن يكون جامعا لشرائط الحجية،و منها أن لا يكون الخبر مقطوع الكذب،فإن مقطوع الكذب لا يعقل أن يشمله دليل الحجية و التعبد،و على ذلك فالاخبار التي تكون مخالفة للاجماع،أو للسنة القطعية،أو الكتاب،أو الحكم العقلي الصحيح لا تكون حجة قطعا،و إن استجمعت بقية الشرائط المعتبرة في الحجية.و لا فرق في ذلك بين الأخبار المتكفلة لبيان الحكم الشرعي و غيرها.
و السر في ذلك:أن الراوي مهما بلغت به الوثاقة،فإن خبره غير مأمون من مخالفة الواقع،إذ لا أقل من احتمال اشتباه الأمر عليه،و خصوصا إذا كثرت الوسائط،فلا بدّ من التشبث بدليل الحجية في رفع هذا الاحتمال،و فرضه كالمعدوم.
و أما القطع بالخلاف،و بعدم مطابقة الخبر للواقع فلا يعقل التعبد بعدمه،لأن كاشفية القطع ذاتية،و حجيته ثابتة بحكم العقل الضروري.
و إذن فلا بد من اختصاص دليل الحجية بغير الخبر الذي يقطع بكذبه و بمخالفته للواقع.و هكذا الشأن في غير الخبر من الطرق المعتبرة الاخرى التي تكشف عن الواقع،و هذا باب تنفتح منه أبواب كثيرة،و به يجاب عن كثير من الإشكالات و الاعتراضات فلتكن على ذكر منه.
ص: 399
إذا ثبتت حجية الخبر الواحد بدليل قطعي فهل يخصص به عموم ما ورد في الكتاب العزيز؟ذهب المشهور إلى جواز ذلك،و خالف فيه فريق من علماء أهل السنة،فمنعه بعضهم على الإطلاق.و قال عيسى بن أبان:إن كان العام الكتابي قد خص-من قبل-بدليل مقطوع به جاز تخصيصه بخبر الواحد و إلا لم يجز.و قال الكرخي:إذا خص العام بدليل منفصل جاز تخصيصه بعد ذلك بخبر الواحد و إلا فلا.و ذهب القاضي أبو بكر إلى الوقف (1).
و الذي نختاره:
هو القول المشهور.و الدليل على ذلك ان الخبر-كما فرضنا-قطعي الحجية، و مقتضي ذلك أنه يجب العمل بموجبه ما لم يمنع منه مانع.
و ما توهم منعه عن ذلك امور لا تصلح للمنع:
1-قالوا:إن الكتاب العزيز كلام اللّه العظيم المنزل على نبيه الكريم،و ذلك قطعي لا شبهة فيه.و أما خبر الواحد فلا يقين بمطابقته للواقع،و لا بصدور مضمونه عن المعصوم إذ لا أقل من احتمال اشتباه الراوي.و العقل لا يجوّز أن ترفع اليد عن أمر مقطوع به لدليل يحتمل فيه الخطأ.
ان الكتاب-و إن كان قطعي الصدور-إلا أنه لا يقين بأن الحكم الواقعي على
ص: 400
طبق عموماته،فإن العمومات إنما وجب العمل على طبقها من أجل أنها ظاهر الكلام،و قد استقرت سيرة العقلاء على حجية الظواهر،و لم يردع الشارع عن اتباع هذه السيرة و من البيّن أن سيرة العقلاء على حجية الظاهر مختصة بما إذا لم تقم قرينة على خلاف الظهور،سواء أ كانت القرينة متصلة أم كانت منفصلة،فإذا نهضت القرينة على الخلاف وجب رفع اليد عن الظاهر،و العمل على وفق القرينة.و إذن فلا مناص من تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد بعد قيام الدليل القطعي على حجيته.فإن معنى ذلك أن مضمون الخبر صادر عن المعصومين تعبدا.
و إن شئت فقل:إن سند الكتاب العزيز-و إن كان قطعيا-إلا أن دلالته ظنية، و لا محذور بحكم العقل في أن ترفع اليد عن الدلالة الظنية لدليل ظني آخر ثبتت حجيته بدليل قطعي.
2-و قالوا:قد صحّ عن المعصومين عليهم السّلام أن تعرض الروايات على الكتاب و ما يكون منها مخالفا لكتاب اللّه يلزم طرحه،و ضربه على الجدار،و هو مما لم يقولوه.
و الخبر الخاص المخالف لعموم الكتاب مما تشمله تلك الأدلة،فيجب طرحه و عدم تصديقه.
و الجواب عن ذلك:
إن القرائن العرفية على بيان المراد من الكتاب لا تعد في نظر العرف من المخالفة له في شىء،و الدليل الخاص قرينة لإيضاح المعنى المقصود من الدليل العام،و المخالفة بين الدليلين إنما تتحقق إذا عارض أحدهما صاحبه بحيث يتوقف أهل العرف في فهم المراد منهما إذا صدر كلاهما من متكلم واحد،أو ممن بحكمه فخبر الواحد الخاص ليس مخالفا للعام الكتابي،بل هو مبيّن للمراد منه.
ص: 401
و يدل على ذلك أيضا:أنا نعلم أنه قد صدر عن المعصومين عليهم السّلام كثير من الأخبار المخصصة لعمومات الكتاب،و المقيدة لمطلقاته،فلو كان التخصيص أو التقييد من المخالف للكتاب لما صح قولهم:«ما خالف قول ربنا لم نقله،أو هو زخرف (1)،أو باطل»فيكون صدور ذلك عنهم عليهم السّلام دليلا على أن التخصيص أو التقييد ليس من المخالفة في شىء.
أضف الى ذلك:أن المعصومين عليهم السّلام قد جعلوا موافقة أحد الخبرين المتعارضين للكتاب مرجحا له على الخبر الآخر،و معنى ذلك أن معارضه-و هو الذي لم يوافق الكتاب-حجة في نفسه لو لا المعارضة،و من الواضح أن ذلك الخبر لو كانت مخالفته للكتاب على نحو لا يمكن الجمع بينهما لم يكن حجة في نفسه و لم يبق معه مجال للمعارضة و الترجيح،و إذن فلا مناص من أن يكون المراد من عدم موافقته للكتاب أنه يمكن الجمع بينهما عرفا بالالتزام بالتخصيص أو التقييد.
و نتيجة ذلك:أن الخبر المخصص للكتاب،أو المقيد له حجة في نفسه،و يلزم العمل به إلا حين يبتلى بالمعارضة.
3-و قالوا:لو جاز تخصيص الكتاب بخبر الواحد لجاز نسخه به،و النسخ به غير جائز يقينا فالتخصيص به غير جائز أيضا،و السند في هذه الملازمة:أن النسخ -كما أوضحناه في مبحث النسخ-تخصيص في الأزمان،و الدليل الناسخ كاشف عن أن الحكم الأول كان مختصا بزمان ينتهي بورود ذلك الدليل الناسخ،فنسخ الحكم ليس رفعا له حقيقة،بل هو رفع له صورة و ظاهرا،و التخصيص في الأفراد كالتخصيص في الأزمان،فكلاهما تخصيص،فلو جاز الأول لجاز الثاني.7.
ص: 402
و الجواب عن ذلك:
أن الفارق بين النوعين من التخصيص هو الإجماع القطعي على المنع في النسخ و لو لا ذلك الإجماع لجاز النسخ بخبر الواحد الحجة،كما جاز التخصيص به،و قد بيّنا أن الكتاب و إن كان قطعي السند إلا أن دلالته غير قطعية،و لا مانع من رفع اليد عنها بخبر الواحد الذي ثبتت حجيته بدليل قطعي.
نعم:الإجماع المذكور ليس إجماعا تعبديا،بل لأن بعض الأمور من شأنه أن ينقل بالتواتر لو تحقق في الخارج،فإذا اختص بنقله بعض دون بعض كان ذلك دليلا على كذب راويه أو خطئه،فلا تشمله أدلة الحجية لخبر الواحد،و من أجل هذا قلنا:إن القرآن لا يثبت بخبر الواحد.
و مما لا ريب فيه أن النسخ لا يختص بقوم من المسلمين دون قوم،و الدواعي لنقله متظافرة،فلو ثبت لكانت الأخبار به متواترة،فإذا اختص الواحد بنقله كان ذلك دليلا على كذبه أو خطئه،و بذلك يظهر الفارق بين التخصيص و النسخ و تبطل الملازمة بين جواز الأول و جواز الثاني.
ص: 403
ص: 404
ص: 405
-التكلم من صفات اللّه الثبوتية.
-مسألة حدوث القرآن و قدمه أمر حادث لا صلة له بعقائد الإسلام.
-صفات اللّه الذاتية و صفاته الفعلية.
-الكلام النفسي.
-أدلة الأشاعرة على الكلام النفسي.
-تصور الكلام قبل وجوده أجنبي عن الكلام النفسي.
-الكلام النفسي أمر خيالي بحث.
ص: 406
لا يشك أحد من المسلمين أن كلام اللّه الذي أنزله على نبيه الأعظم برهانا على نبوته و دليلا لأمّته.و لا يشك أحد منهم أن التكلم إحدى صفات اللّه الثبوتية المعبر عنها بالصفات الجمالية.و قد وصف اللّه سبحانه نفسه بهذه الصفة في كتابه فقال تعالى:
وَ كَلَّمَ اللّهُ مُوسى تَكْلِيماً «4:103».
و قد كان المسلمون بأسرهم على ذلك،و لم يكن لهم أيّ اختلاف فيه،حتى دخلت الفلسفة اليونانية أوساط المسلمين،و حتى شعبتهم بدخولها فرقا تكفّر كل طائفة أختها،و حتى استحال النزاع و الجدال إلى المشاجرة و القتال،فكم هتكت في الإسلام من أعراض محترمة،و كم اختلست من نفوس بريئة،مع أن القاتل و المقتول يعترفان بالتوحيد،و يقرّان بالرسالة و المعاد.
أ ليس من الغريب أن يتعرض المسلم إلى هتك عرض أخيه المسلم و إلى قتله؟ و كلاهما يشهد أن لا إليه إلا اللّه وحده لا شريك له،و أن محمدا عبده و رسوله،جاء بالحق من عنده،و أن اللّه يبعث من في القبور.أو لم تكن سيرة نبي الإسلام و سيرة
ص: 407
من وليّ الأمر من بعده أن يرتبوا آثار الإسلام على من يشهد بذلك؟فهل روى أحد أن الرسول أو غيره ممن قام مقامه سأل أحدا عن حدوث القرآن و قدمه،أو عما سواه من المسائل الخلافية،و لم يحكم بإسلامه إلا بعد أن يقرّ بأحد طرفي الخلاف؟!! و لست أدري-و ليتني كنت أدري-بما ذا يعتذر من ألقى الخلاف بين المسلمين و بم يجيب ربه يوم يلاقيه،فيسأله عما ارتكب؟فإنّا للّه و إنّا إليه راجعون.
و قد حدثت هذه المسألة-حدوث القرآن و قدمه-بعد انشعاب المسلمين شعبتين:أشعري و غير أشعري.فقالت الأشاعرة بقدم القرآن،و بأن الكلام على قسمين:لفظي و نفسي،و أن كلام اللّه النفسي قائم بذاته و قديم بقدمه و هو إحدى صفاته الذاتية.و ذهبت المعتزلة و العدلية إلى حدوث القرآن،و إلى انحصار الكلام في اللفظي،و إلى أن التكلم من الصفات الفعلية.
و الفارق بين صفات اللّه الذاتية و صفاته الفعلية أن صفات اللّه الذاتية هي التي يستحيل أن يتصف سبحانه بنقيضها أبدا.إذا فهي التي لا يصح سلبها عنه في حال.
و مثال ذلك:العلم و القدرة و الحياة،فاللّه تبارك و تقدّس لم يزل و لا يزال عالما قادرا حيّا،و يستحيل أن لا يكون كذلك في حال من الأحوال.
و أن صفاته الفعلية هي التي يمكن أن يتصف بها في حال و بنقيضها في حال آخر.
و مثال ذلك:الخلق و الرزق،فيقال:إن اللّه خلق كذا و لم يخلق كذا،و رزق فلانا ولدا و لم يرزقه مالا.و بهذا يظهر جليا أن التكلم إنما هو من الصفات الفعلية،فإنه يقال:كلّم اللّه موسى و لم يكلّم فرعون،و يقال:كلّم اللّه موسى في جبل طور و لم يكلّمه في بحر النيل.
ص: 408
اتفقت الأشاعرة على وجود نوع آخر من الكلام غير النوع اللفظي المعروف و قد سمّوه بالكلام النفسي،ثم اختلفوا فذهب فريق منهم إلى أنه مدلول الكلام اللفظي و معناه،و ذهب آخرون إلى أنه مغاير لمدلول اللفظ،و أن دلالة اللفظ عليه دلالة غير وضعية،فهي من قبيل دلالة الأفعال الاختيارية على إرادة الفاعل و علمه و حياته.
و المعروف بينهم اختصاص القدم بالكلام،إلا أن الفاضل القوشجي نسب إلى بعضهم القول بقدم جلد القرآن و غلافه أيضا (1).و قد عرفت أن غير الأشاعرة متفقون على حدوث القرآن،و على أن كلام اللّه اللفظي ككلماته التكوينية مخلوق له، و آية من آياته.و لا يترتب على الكلام في هذه المسألة و تحقيق القول فيها غرض مهم،لأنها خارجة عن أصول الدين و فروعه،و ليست لها أية صلة بالمسائل الدينية و المعارف الإلهية،غير أنني أحببت التكلم فيها ليتضح لإخواننا الأشاعرة-و هم أكثر المسلمين عددا-أن ما ذهبوا إليه و اعتقدوا به و حسبوه مما يجب الاعتقاد به أمر خيالي لا أساس له من العقل و الشرع.
و توضيح ذلك:
أنه لا خلاف في أن الكلام المؤلف من الحروف الهجائية المندرجة في الوجود أمر حادث يستحيل اتصاف اللّه تعالى به في الأزل و غير الأزل.و الخلاف إنما هو في وجود سنخ آخر من الكلام مجتمعة أجزاؤه وجودا،فأثبتته الأشاعرة و قالت بأنه من صفات اللّه الذاتية كما يتصف غيره به أيضا.و نفاه غيرهم و حصروا الكلام في
ص: 409
اللفظي،و قالوا:إن قيامه بالمتكلم قيام الفعل بالفاعل و الصحيح هو القول الثاني.
و دليلنا على ذلك:
أن الجمل:إما خبرية و إما إنشائية،أما الجمل الخبرية،فإنا إذا فحصنا مواردها لن نجد فيها إلا تسعة أمور،و هي التي لا بد منها في الإخبار عن ثبوت شىء لشىء أو عدم ثبوته له:
أولا-مفردات الجملة بموادها،و هيئاتها.
ثانيا-معاني المفردات،و مداليلها.
ثالثا-الهيئة التركيبية للجملة.
رابعا-ما تدل عليه الهيئة التركيبية خامسا-تصور المخبر مادة الجملة،و هيئتها.
سادسا-تصور مدلول الجملة بمادتها،و هيئتها.
سابعا-مطابقة النسبة لما في الخارج،أو عدم مطابقتها له.
ثامنا-علم المخبر بالمطابقة،أو بعدمها،أو شكه فيها.
تاسعا-إرادة المتكلم لإيجاد الجملة في الخارج مسبوقة بمقدماتها.
و قد اعترفت الأشاعرة بأن الكلام النفسي ليس شيئا من الأمور المذكورة و على هذا فلا يبقى للكلام النفسي عين و لا أثر،أما مفاد الجملة فلا يمكن أن يكون هو الكلام النفسي،لأن مفاد الجملة الخبرية-على ما هو المعروف-ثبوت شىء لشىء أو سلبه عنه،و على ما هو التحقيق-عندنا-هو قصد الحكاية عن الثبوت أو السلب،فقد أثبتنا أن الهيئة التركيبية للجملة الخبرية بمقتضى وضعها أمارة على
ص: 410
قصد المتكلم للحكاية عن النسبة،و شأنها في ذلك شأن ما سوى الألفاظ من الأمارات الجعلية.
و قد حققنا:أن الوضع هو التعهد بجعل لفظ خاص أو هيئة خاصة مبرزا لقصد تفهيم أمر تعلق غرض المتكلم بتفهيمه،و قد أوضحنا ذلك كله في محله (1)هذا هو مفاد الجملة الخبرية،و الكلام النفسي-عند القائل به-موجود نفساني من سنخ الكلام مغاير للنسبة الخارجية و لقصد الحكاية.
و أما الجمل الانشائية فهي كالجمل الخبرية،و الفارق بينهما أن الجمل الانشائية ليس في مواردها خارج تطابقه النسبة الكلامية أو لا تطابقه و عليه فالامور التي لا بد منها في الجمل الانشائية سبعة،و هي بذاته الأمور التسعة التي ذكرناها في الجمل الخبرية ما عدا السابع و الثامن منها،و قد علمت أن الكلام النفسي عند القائلين به ليس واحدا منها.
و لعل سائلا يقول:ما هو مفاد هيئة الجملة الإنشائية؟...
المعروف بين العلماء أنها موضوعة لإيجاد معنى من المعاني نحو إيجاد مناسب لعالم الإنشاء،و قد تكرر في كلمات كثير منهم أن الإنشاء إيجاد المعنى باللفظ،و قد ذكرنا في مباحثنا الاصولية أنه لا أصل للوجود الإنشائي،و اللفظ و المعنى و إن كانت لهما وحدة عرضية منشأها ما بينهما من الربط الناشئ من الوضع،فوجود اللفظ وجود له بالذات و وجود للمعنى بالعرض و المجاز،و من أجل ذلك يسري حسن المعنى أو قبحه الى اللفظ،و بهذا المعنى يصح أن يقال:وجد المعنى باللفظ وجودا لفظيا،إلا أن هذا لا يختص بالجمل الإنشائية،بل يعم الجمل الخبرية و المفردات أيضا.ف)
ص: 411
أما وجود المعنى بغير وجوده اللفظي فينحصر في نحوين،و كلاهما لا مدخل للفظ فيه أبدا:
أحدهما:وجوده الحقيقي الذي يظهر به في نظام الوجود من الجواهر و الأعراض، و لا بد في تحقيق هذا الوجود من تحقق أسبابه و علله،و الألفاظ أجنبية عنها بالضرورة.
ثانيهما:وجوده الاعتباري،و هو نحو من الوجود للشيء،إلا أنه في عالم الاعتبار لا في الخارج،و تحقق هذا النحو من الوجود إنما هو باعتبار من بيده الاعتبار، و اعتبار كل معتبر قائم بنفسه،و يصدر منه بالمباشرة،و لا يتوقف على وجود لفظ في الخارج أبدا،أما إمضاء الشارع أو إمضاء العقلاء للعقود أو الإيقاعات الصادرة من الناس،فهو و إن توقف على صدور لفظ من المنشئ أو ما بحكم اللفظ،و لا أثر لاعتباره إذا تجرد من المبرز من قول أو فعل،إلا أن الإمضاء المذكور متوقف على صدور لفظ قصد به الإنشاء،و موضع البحث هو مفاد ذلك اللفظ الذي جيء به في المرحلة السابقة على الإمضاء.
و على الجملة:إن الوجود الحقيقي و الاعتباري للشيء لا يتوقفان على اللفظ، و إما إمضاء الشرع أو العقلاء للوجود الاعتباري فهو و إن توقف على صدور لفظ أو ما بحكمه من المنشئ،إلا أنه يتوقف عليه بما هو لفظ مستعمل في معناه،و أما الوجود اللفظي فهو عام لكل معنى دل عليه باللفظ،فلا أساس للقول المعروف:« الإنشاء إيجاد المعنى باللفظ».
و الصحيح:إن الهيئات الإنشائية وضعت لإبراز أمر ما من الأمور النفسانية و هذا الأمر النفساني قد يكون اعتبارا من الاعتبارات كما في الأمر و النهي و العقود و الإيقاعات،و قد يكون صفة من الصفات،كما في التمني و الترجّي،فهيئات الجمل
ص: 412
أمارات على أمر ما من الأمور النفسانية و هو في الجمل الخبرية قصد الحكاية،و في الجمل الإنشائية أمر آخر.
ثم إن الإتيان بالجملة المبرزة-بوضعها-لأمر نفساني قد يكون بداعي إبراز ذلك الأمر،و قد يكون بداع آخر سواه،و في كون الاستعمال في هذا القسم الأخير مجازا أو حقيقة كلام ليس هنا محل ذكره،و للاطلاع على تفصيل الكلام في ذلك يراجع تعليقاتنا الاصولية.
و الذي يظهر من موارد استعمال لفظ الطلب:أنه موضوع للتصدي لتحصيل شىء ما،فلا يقال:طلب الضالة،و لا طلب الآخرة،إلا عند التصدي لتحصيلهما، و في لسان العرب:«الطلب محاولة وجدان الشيء و أخذه»،و بهذا الاعتبار يصدق على الآمر أنه طالب،لأنه يحاول وجدان الفعل المأمور به،فإن الآمر هو الذي يدعو المأمور الى الإتيان بمتعلقه،و هو بنفسه مصداق للطلب،لا أن الأمر لفظ و الطلب معناه فلا أساس للقول بأن الأمر موضوع للطلب،و لا للقول بأن الطلب كلام نفسي يدل عليه الكلام اللفظي.
و قد أصابت الأشاعرة في قولهم:«إن الطلب غير الارادة»و لكنهم أخطئوا في جعله صفة نفسية،و في جعله مدلولا عليه بالكلام اللفظي.
و من جميع ما ذكرناه يستبين القارئ:أنه ليس في موارد الجمل الخبرية و لا الانشائية ما يكون من سنخ الكلام قائما بالنفس،ليسمى بالكلام النفسي،نعم لا بد للمتكلم من أن يتصور كلامه قبل إيجاده،و التصور وجود في النفس يسمونه بالوجود الذهني،فإن أراد القائلون بالكلام النفسي هذا النحو من الوجود للكلام
ص: 413
في النفس فهو صحيح،و لكنك تعلم أنه غير مختص بالكلام،بل يعم كل فعل اختياري،و الكلام إنما لزم تصوره لأنه فعل اختياري للمتكلم.
استدل القائلون بالكلام النفسي على مدعاهم بوجوه:
الأول:ان كل متكلم يرتب الكلام في نفسه قبل أن يتكلم به،و الموجود في الخارج من الكلام يكشف عن وجود مثله في النفس،و هذا وجداني يجده كل متكلم في نفسه،و اليه أشار الأخطل بقوله:
إن الكلام لفي الفؤاد و إنما جعل اللّسان على الفؤاد دليلا.
و جوابه قد تقدم:
فإن تركيب الكلام في النفس هو تصوره و إحضاره فيها،و هو الوجود الذهني الذي يعم الأفعال الاختيارية كافة،فالكتاب و النقاش لا بد لهما من أن يتصورا عملهما أولا قبل أن يوجداه،فلا صلة لهذا بالكلام النفسي.
الثاني:أنه يطلق الكلام على الموجود منه في النفس،و إطلاقه عليه صحيح بلا عناية،فيقول القائل:إن في نفسي كلاما لا أريد أن أبديه،و قد قال اللّه عزّ اسمه:
وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ «67:13».
و جوابه يظهر مما تقدم:
فإن الكلام كلام في وجوده الذهني،كما هو كلام في وجوده الخارجي و لكل شىء نحوان من الوجود:خارجي و ذهني،و الشيء هو ذلك الشيء في كلا وجوديه، و إطلاق الاسم عليه بلا عناية.و لا يختص هذا بالكلام،فيقول المهندس:إن في
ص: 414
نفسي صورة بناء سأنقشها في خارطة،و يقول المتعبد:إن في نفسي أن أصوم غدا.
الثالث:أنه يصح إطلاق المتكلم على اللّه،و هذه الهيئة اسم الفاعل وضعت لإفادة قيام المبدأ بالذات قياما و صفيا.و لذا لا يطلق المتحرك و الساكن و النائم إلا على من تلبّس بالحركة و السكون و النوم،دون من أوجدها.و واضح أن الكلام اللفظي لا يمكن أن يتصف به اللّه تعالى،لاستحالة اتصاف القديم بالصفة الحادثة، فلا مناص من الالتزام بالكلام القديم،ليصح إطلاق المتكلم على اللّه سبحانه باعتبار اتصافه به.
و جوابه:
ان المبدأ في صيغة المتكلم ليس هو الكلام،فإنه غير قائم بالمتكلم قيام الصفة بموصوفها حتى في غير اللّه،فإن الكلام كيفية عارضة للصوت الحاصل من تموّج الهواء،و هو أمر قائم بالهواء لا بالمتكلم،و المبدأ في الصيغة المذكورة هو التكلم،و لا نعقل له معنى غير إيجاد الكلام،فإطلاقه على اللّه و على غيره بمعنى واحد.
و أما قول المستدل:«إن هيئة اسم الفاعل وضعت لإفادة قيام المبدأ بالذات قيام الوصف بالموصوف»فهو غلط بيّن،فان الهيئة إنما تفيد قيام المبدأ بالذات نحوا من القيام.أما خصوصيات القيام من كونها إيجادية أو حلولية أو غيرهما فهي غير مأخوذة في مفاد الهيئة و هي تختلف باختلاف الموارد،و لا تدخل تحت ضابط كلي، فالعالم و النائم مثلا لا يطلقان على موجد العلم و النوم،لكن القابض و الباسط و النافع و الضار تطلق على موجد هذه المبادئ،و عليهن فعدم صحة إطلاق المتحرك على موجد الحركة لا يستلزم عدم صحة إطلاق المتكلم على موجد الكلام.
و حاصل ما تقدم:
ص: 415
أن الكلام النفسي أمر خيالي بحت لا دليل على وجوده من وجدان أو برهان.
و من المناسب أن نختم الكلام بما ذكره الإمام أبو عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليه السّلام في هذا الموضوع،فقد روى الشيخ الكليني بإسناده،عن أبي بصير قال:
سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:لم يزل اللّه عزّ و جلّ ربنا،و العلم ذاته و لا معلوم،و السمع ذاته و لا مسموع،و البصر ذاته و لا مبصر،و القدرة ذاته و لا مقدور.فلما أحدث الأشياء و كان المعلوم وقع العلم منه على المعلوم، و السمع على المسموع،و البصر على المبصر و القدرة على المقدور.قال:
قلت:فلم يزل اللّه متحركا؟قال:فقال:تعالى اللّه عن ذلك،إن الحركة صفة محدثة بالفعل.قال:فقلت:فلم يزل اللّه متكلما؟قال:فقال:إن الكلام صفة محدثة ليست بأزلية،كان اللّه عز و جل و لا متكلم» (1).1.
ص: 416
ص: 417
-محل نزولها.
-فضلها.
-آياتها.
-غاياتها.
-القراءة.
-الإعراب.
-اللغة.
-التفسير.
-تحليل آية:الحمد للّه رب العالمين.
-تحليل آية:إياك نعبد و إياك نستعين.
-تحليل آية:اهدنا الصراط المستقيم.
-البحث الأول:حول آية البسملة.
-البحث الثاني:حول آية الحمد.
-البحث الثالث حول آية:اهدنا...
ص: 418
(1) سورة الفاتحة مكية و آياتها سبع
ص: 419
المعروف:أن هذه السورة مكّية،و عن بعض أنها مدنية،و الصحيح هو القول الأول،و يدل على ذلك أمران:
الأول:ان فاتحة الكتاب هي السبع المثاني (1)و قد ذكر في سورة الحجر أن السبع المثاني نزلت قبل ذلك،فقال تعالى:
وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ «15:87».
و سورة الحجر مكية بلا خلاف،فلا بد و أن تكون فاتحة الكتاب مكية أيضا.
الثاني:ان الصلاة شرعت في مكة،و هذا ضروري لدى جميع المسلمين و لم تعهد في الإسلام صلاة بغير فاتحة الكتاب،و قد صرح النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بذلك بقوله:«لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب»و هذا الحديث منقول عن طريق الإمامية و غيرهم. (2)
ص: 420
و ذهب بعض:إلى أنها نزلت مرتين،مرة في مكة،و اخرى في المدينة تعظيما لشأنها،و هذا القول محتمل في نفسه و إن لم يثبت بدليل،و لا يبعد أن يكون هو الوجه في تسميتها بالسبع المثاني،و يحتمل أن يكون الوجه هو وجوب الإتيان بها مرتين في كل صلاة:مرة في الركعة الأولى و مرة في الركعة الثانية.
كفي في فضلها:أن اللّه تعالى قد جعلها عدلا للقرآن العظيم في آية الحجر المتقدمة،و أنه لا بد من قراءتها في الصلاة بحيث لا تغني عنها سائر السور،و أن الصلاة هي عماد الدين،و بها يمتاز المسلم عن الكافر.«و سنبين-إن شاء اللّه تعالى -ما اشتملت عليه هذه السورة من المعارف الإلهية على اختصارها».
روى الصدوق بإسناده،عن الحسن بن علي-العسكري-عن آبائه،عن أمير المؤمنين عليهم السّلام.
أنه قال:
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم آية من فاتحة الكتاب و هي سبع آيات تمامها:بسم اللّه الرّحمن الرّحيم سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول:
إن اللّه تعالى قال لي يا محمد: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ «15:87».فأفرد الامتنان عليّ بفاتحة الكتاب،و جعلها بإزاء القرآن العظيم و إن فاتحة الكتاب أشرف ما في كنوز العرش...» (1).
ص: 421
و روى البخاري عن أبي سعيد بن المعلى،قال:
«كنت أصلّي فدعاني النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلم أجبه.قلت:يا رسول اللّه إني كنت اصلي.قال:أ لم يقل اللّه: اِسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ «24:8».ثم قال:أ لا أعلّمك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد؟فأخذ بيدي فلما أردنا أن نخرج،قلت:يا رسول اللّه إنك قلت أ لا أعلمك أعظم سورة من القرآن؟قال:الحمد للّه ربّ العالمين هي السبع المثاني و القرآن العظيم الذي أوتيته» (1).
المعروف بين المسلمين:أن عدد آياتها سبع،بل لا خلاف في ذلك و روي عن حسين الجعفي:أنها ست،و عن عمرو بن عبيد أنها ثمان،و كلا القولين شاذ مخالف لما اتفقت عليه روايات الطريقين من أنها سبع آيات.و قد مر أنها المراد من السبع المثاني في الآية المتقدمة،فمن عدّ البسملة آية ذهب إلى أن قوله تعالى: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ إلى آخر السورة آية واحدة.و من لم يعدها آية ذهب إلى أن قوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ الضّالِّينَ آية مستقلة.
الغاية من السورة المباركة بيان حصر العبادة في اللّه سبحانه،و الإيمان بالمعاد و الحشر.و هذه هي الغاية القصوى من إرسال الرسول الأكرم و إنزال القرآن،فإن
ص: 422
دين الإسلام قد دعا جميع البشر إلى الإيمان باللّه و إلى توحيده:
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ «3:64».
و إنه لا يستحق غيره لأن يعبد،فالبشر-و كل موجود مدرك-يجب أن يكون خضوعه و توجهه للّه وحده.و برهان ذلك-في هذه السورة الكريمة-هو أن العاقل إنما يخضع لمن سواه و يعبده،و يتوجه اليه بحوائجه،إما لكمال في ذلك المعبود المستعان-و الناقص مجبول على الخضوع للكامل-و إما لإحسانه و إنعامه عليه و إما لاحتياج الناقص في جلب منفعة أو دفع مضرّة،و إما لقهر الكامل و سلطانه فيخضع له خوفا من مخالفته و عصيانه.
هذه هي الأسباب الموجبة للعبادة و الخضوع.و أيها ينظر فيه العاقل يراه منحصرا في اللّه سبحانه.فاللّه هو المستحق للحمد،فانه المستجمع لجميع صفات الكمال،بحيث لا يتطرّق إلى ساحة قدسه شائبة نقص.و اللّه هو المنعم على جميع العوالم الظاهرية و الباطنية المجتمعة و المتدرجة،و هو مربّيها تكوينا و تشريعا.و اللّه هو المتصف بالرحمة الواسعة غير القابلة للزوال.و اللّه هو المالك المطلق،و السلطان على الخلق بلا شريك و لا منازع.فهو المعبود بالحق لكماله و إنعامه و رحمته و سلطانه،فلا يتوجه الإنسان العاقل إلا إليه،و لا يعبد إلا إياه،و لا يستعين إلا به، و لا يتوكل إلا عليه،لأن ما سوى اللّه ممكن،و الممكن محتاج في ذاته.و الاستعانة و العبادة لا تكونان إلا للغني:
يا أَيُّهَا النّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللّهِ وَ اللّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ «35:15».
و بعد أن أثبت تبارك و تعالى أنه هو المستحق للحمد و الثناء بقوله: اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. اَلرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ لقّن عباده أن يقولوا بألسنتهم
ص: 423
و قلوبهم: إِيّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ .
ثم أشار تعالى إلى أحوال البشر بعد إرسال الرسل،و إنزال الكتب،و إتمام الحجة عليهم،و أنهم قد انقسموا إلى ثلاثة أقسام:
الأول:من شملته العناية الإلهية و النعم القدسية،فاهتدى إلى الصراط المستقيم، فسلكه إلى مقصده المطلوب و غايته القصوى،و لم ينحرف عنه يمينا و لا شمالا.
الثاني:من ضل الطريق فانحرف يمنة و يسرة إلا أنه لم يعاند الحق،و إن ضلّ عنه لتقصيره،و زعم أن ما اتبعه هو الدين،و ما سلكه هو الصراط السوي.
الثالث:من دعاه حب المال و الجاه إلى العناد فعاند الحق و نابذه،سواء أعرف الحق ثم جحده أم لم يعرفه.و مثل هذا-في الحقيقة-قد عبد هواه،كما أشار سبحانه اليه بقوله:
أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ «45:22».
و هذا الفريق أشد كفرا من سابقه،فهو يستحق الغضب الإلهي بعناده زائدا على ما يستحقه بضلاله.
و بما أن البشر لا يخلو من حب الجاه و المال،و لا يؤمن عليه من الوقوع في الضلال،و غلبة الهوى ما لم تشمله الهداية الربانية،كما أشير إلى هذا في قوله تعالى:
وَ لَوْ لا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَ لكِنَّ اللّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَ اللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ «24:21».
لقّن اللّه عبيده أن يطلبوا منه الهداية،و أن يقولوا: اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ الضّالِّينَ فالعبد يطلب من ربه الهداية المختصة بالمؤمنين،و قد قال تعالى:
ص: 424
وَ اللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «2:213».
و يسأله أن يدخله في زمرة من أنعم عليهم و في السالكين طريقتهم،كما أشير اليه بقوله تعالى:
أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَ مِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَ إِسْرائِيلَ وَ مِمَّنْ هَدَيْنا وَ اجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَ بُكِيًّا «19:85».
و أن لا يسلك طريق الطائفتين الزائغتين عن الهدى:«المغضوب عليهم و لا الضّالّين».
إنه تعالى مجّد نفسه بما يرجع إلى كمال ذاته،و مجدها بما يرجع إلى أفعاله من تربيته العوالم كلها،و رحمته العامة غير المنفكة عنه،و سلطانه يوم الحشر و هو يوم الجزاء،و هذا هو هدف السورة الاولى.
ثم حصر به العبادة و الاستعانة،فلا يستحق غيره أن يعبد أو يستعان،و هذا هو هدفها الثاني.
ثم لقّن عبيده أن يطلبوا منه الهداية إلى الصراط المستقيم الذي يوصلهم إلى الحياة الدائمة،و النعيم الذي لا زوال له،و النور الذي لا ظلمة بعده،و هذا هو هدفها الثالث.
ثم بيّن أن هذا الصراط خاص بمن أنعم اللّه عليهم برحمته و فضله،و هو يغاير صراط من غضب عليهم و صراط الآخرين الذين ضلوا الهدى،و هذا هو هدفها الرابع.
ص: 425
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
اللّه:
علم للذات المقدسة،و قد عرفها العرب به حتى في الجاهلية،قال لبيد:
ألا كل شىء ما خلا اللّه باطل و كل نعيم لا محالة زائل
و قال سبحانه:
وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّهُ «31:25».
و من توهم أنه اسم جنس فقد أخطأ،و دليلنا على ذلك أمور:
الأول:التبادر،فإن لفظ الجلالة ينصرف بلا قرينة إلى الذات المقدسة،و لا يشك في ذلك أحد،و بأصالة عدم النقل يثبت أنه كذلك في اللغة،و قد حققت حجيتها في علم الأصول.
الثاني:ان لفظ الجلالة-بما له من المعنى-لا يستعمل وصفا،فلا يقال:العالم اللّه،الخالق اللّه،على أن يراد بذلك توصيف العالم و الخالق بصفة هي كونه اللّه و هذه آية كون لفظ الجلالة جامدا،و إذا كان جامدا كان علما لا محالة،فإن الذاهب إلى
ص: 426
أنه اسم جنس فسره بالمعنى الاشتقاقي.
الثالث:أن لفظ الجلالة لو لم يكن علما لما كانت كلمة«لا إله إلا اللّه»كلمة توحيد،فإنها لا تدل على التوحيد بنفسها حينئذ،كما لا يدل عليه قول:لا إله إلا الرازق،أو الخالق،أو غيرهما من الألفاظ التي تطلق على اللّه سبحانه،و لذلك لا يقبل إسلام من قال إحدى هذه الكلمات.
الرابع:أن حكمة الوضع تقتضي وضع لفظ للذات المقدسة،كما تقتضي الوضع بإزاء سائر المفاهيم،و ليس في لغة العرب لفظ موضوع لها غير لفظ الجلالة،فيتعين أن يكون هو اللفظ الموضوع لها.
إن قلت:
إن وضع لفظ لمعنى يتوقف على تصور كل منهما،و ذات اللّه سبحانه يستحيل تصورها،لاستحالة إحاطة الممكن بالواجب،فيمتنع وضع لفظ لها،و لو قلنا بأن الواضع هو اللّه-و أنه لا يستحيل عليه أن يضع اسما لذاته لأنه محيط بها-لما كانت لهذا الوضع فائدة لاستحالة أن يستعمله المخلوق في معناه فإن الاستعمال أيضا يتوقف على تصور المعنى كالوضع،على أن هذا القول باطل في نفسه.
قلت:
وضع اللفظ بإزاء المعنى يتوقف على تصوره في الجملة،و لو بالإشارة اليه،و هذا أمر ممكن في الواجب و غيره،و المستحيل هو تصور الواجب بكنهه و حقيقته،و هذا لا يعتبر في الوضع و لا في الاستعمال،و لو اعتبر ذلك لامتنع الوضع و الاستعمال في الموجودات الممكنة التي لا تمكن الإحاطة بكنهها:كالروح و الملك و الجن،و مما لا يرتاب فيه أحد أنه يصح استعمال اسم الاشارة أو الضمير و يقصد به الذات المقدسة،
ص: 427
فكذلك،يمكن قصدها من اللفظ الموضوع لها،و بما أن الذات المقدسة مستجمعة لجميع صفات الكمال،و لم يلحظ فيها-في مرحلة الوضع-جهة من كمالاتها دون جهة صح أن يقال:لفظ الجلالة موضوع للذات المستجمعة لجميع صفات الكمال.
إن قلت:
إن كلمة«اللّه»لو كانت علما شخصيا لم يستقيم معنى قوله عز اسمه:
وَ هُوَ اللّهُ فِي السَّماواتِ وَ فِي الْأَرْضِ «6:3».
و ذلك لأنها لو كانت علما لكانت الآية قد أثبتت له المكان و هو محال،فلا مناص من أن يكون معناه المعبود،فيكون معنى الآية:و هو المعبود في السماوات و الأرضين.
قلت:
المراد بالآية المباركة أنه تعالى لا يخلو منه مكان،و أنه محيط بما في السماوات و ما في الأرض،و لا تخفى عليه منها خافية،و يشهد لهذا قوله تعالى في آخر الآية الكريمة يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ وَ يَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ «6:3».
و قد روى أبو جعفر و هو محمد بن نعمان في ظن الصدوق قال:«سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قوله اللّه عز و جل: وَ هُوَ اللّهُ فِي السَّماواتِ وَ فِي الْأَرْضِ «6:3».
قال عليه السّلام:
كذلك هو في كل مكان،قلت:بذاته؟قال: ويحك إن الأماكن أقدار،فإذا قلت في مكان بذاته لزمك أن تقول في أقدار و غير ذلك،
ص: 428
و لكن هو بائن من خلقه محيط بما خلق:علما و قدرة و إحاطة و سلطانا...» (1).
و الألف و اللام:من كلمة الجلالة و إن كانت جزء منها على العلمية،إلا أن الهمزة فيها همزة وصل تسقط في الدرج،إلا إذا وقعت بعد حرف النداء،فتقول يا اللّه بإثبات الهمزة و هذا مما اختص به لفظ الجلالة،و لم يوجد نظيره في كلام العرب قط، و لا مضايقة في كون كلمة الجلالة من المنقول،و عليه فالأظهر أنه مأخوذ من كلمة «لاه»بمعنى الاحتجاب و الارتفاع،فهو مصدر مبني للفاعل،لأنه سبحانه هو المرتفع حقيقة الارتفاع التي لا يشوبها انخفاض،و هو في غاية ظهوره-بآثاره و آياته-محتجب عن خلقه بذاته،فلا تدركه الأبصار و لا تصل إلى كنهه الأفكار:
فيك يا أعجوبة الكو ن غدا الفكر كليلا
أنت حيّرت ذوي اللّب و بلبلت العقولا
كلما أقدم فكري فيك شبرا فرّ ميلا
ناكصا يخبط في عشواء لا يهدي السبيلا
و لا موجب للقول باشتقاقه من«أله»بمعنى عبد،أو«أله»بمعنى تحير ليكون الإله مصدرا بمعنى المفعول-ككتاب-فانه التزام بما لا يلزم.
الرحمن:
مأخوذ من الرحمة،و معناها معروف،و هي ضد القسوة و الشدة.قال اللّه تعالى:
أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ 48:29. اِعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَ أَنَّ1.
ص: 429
اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «5:98».
و هي من الصفات الفعلية،و ليست رقّة القلب مأخوذة في مفهومها،بل هي من لوازمها في البشر.فالرحمة-دون تجرّد عن معناها الحقيقي-من صفات اللّه الفعلية كالخلق و الرزق،يوجدها حيث يشاء.قال عز و جل:
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ 17:54 يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ يَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَ إِلَيْهِ تُقْلَبُونَ 29:21).
حسب ما تقتضيه حكمته البالغة.و قد ورد في الآيات طلب الرحمة من اللّه سبحانه:
وَ قُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَ ارْحَمْ وَ أَنْتَ خَيْرُ الرّاحِمِينَ «23:118».
و قال غير واحد من المفسرين و بعض اللغويين:إن صيغة الرحمن مبالغة في الرحمة،و هو كذلك في خصوص هذه الكلمة،سواء أ كانت هيئة فعلان مستعملة في المبالغة أم لم تكن،فان كلمة«الرحمن»في جميع موارد استعمالها محذوفة المتعلق، فيستفاد منها العموم و أن رحمته وسعت كل شىء.و مما يدلنا على ذلك أنه لا يقال:
إن اللّه بالناس أو بالمؤمنين لرحمان،كما يقال:إن اللّه بالناس أو بالمؤمنين لرحيم.
و كلمة«الرحمن»بمنزلة اللقب من اللّه سبحانه،فلا تطلق على غيره تعالى، و من أجل ذلك استعملت في كثير من الآيات الكريمة من دون لحاظ مادتها قال سبحانه:
قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَ ما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ 36:15. إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَ لا يُنْقِذُونِ :23. هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَ صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ :52. ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ 67:3».
ص: 430
و مما يقرب اختصاص هذا اللفظ به قوله تعالى:
رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَ اصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا «19:65».
فان الملحوظ أن اللّه تعالى قد اعتنى بكلمة«الرحمن»في هذه السورة«مريم» حتى كررها فيها ست عشرة مرة.و هذا يقرّب أن المراد بالآية الكريمة أنه ليس للّه سميّ بتلك الكلمة.
الرحيم:
صفة مشبهة،أو صيغة مبالغة.و من خصائص هذه الصيغة أنها تستعمل غالبا في الغرائز و اللوازم غير المنفكة عن الذات:كالعليم و القدير و الشريف،و الوضيع و السخي و البخيل و العلي و الدّني.فالفارق بين الصفتين:أن الرحيم يدل على لزوم الرحمة للذات و عدم انفكاكها عنها،و الرحمن يدل على ثبوت الرحمة فقط.و مما يدل على أن الرحمة في كلمة«رحيم»غريزة و سجية:أن هذه الكلمة لم ترد في القرآن عند ذكر متعلقها إلا متعدية بالباء،فقد قال تعالى:
إِنَّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ 2:143. وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً «33:43».
فكأنها عند ذكر متعلقها انسلخت عن التعدية إلى اللزوم.و ذهب الآلوسي إلى أن الكلمتين ليستا من الصفات المشبهة،بقرينة إضافتها إلى المفعول في جملة:« رحمن الدنيا و الآخرة و رحيمهما».و الصفة المشبهة لا بد من أن تؤخذ من اللازم (1).
و هذا الاستدلال غريب،لأن الإضافة في الجملة المذكورة ليست من الإضافة1.
ص: 431
إلى المفعول بل هي من الإضافة إلى المكان أو الزمان.و لا يفرق فيها بين اللازم و المتعدي.
ثم إنه قد ورد في بعض الروايات:أن«الرحمن»اسم خاص و معناه عام و أما لفظ«الرحيم»فهو اسم عام،و معناه خاص و مختص بالآخرة أو بالمؤمنين (1)إلا أنه لا مناص من تأويل هذه الروايات أو طرحها،لمخالفتها الكتاب العزيز،فانه قد استعمل فيه لفظ«الرحيم»من غير اختصاص بالمؤمنين أو بالآخرة ففي الكتاب العزيز:
فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ 14:36. نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ 15:49. إِنَّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ 22:65. رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً 17:66. وَ يُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً 33:24.
إلى غير ذلك من الآيات الكريمة،و في بعض الأدعية و الروايات:رحمن الدنيا و الآخرة و رحيمهما (2).
و يمكن أن يوجه هذا الاختصاص بأن الرحمة الإلهية إذا لم تنته إلى الرحمة في الآخرة،فكأنها لم تكن رحمة (3).و ما جدوى رحمة تكون عاقبتها العذاب و الخسران؟فإن الرحمة الزائلة تندك أمام العذاب الدائم لا محالة،و بلحاظ ذلك صح أن يقال:الرحمة مختصة بالمؤمنين أو بالآخرة.ة.
ص: 432
ذهب بعضهم إلى أن متعلق الجار و المجرور هو أقرأ،أو اقرأ،أو أقول،أو قل، و قال بعض:متعلقة أستعين،أو استعن،و ذهب آخرون إلى تعلّقه بأبتدئ، و الوجهان الأولان باطلان:
أما الوجه الأول:فلأن مفعول القراءة أو القول-هنا-يجب أن يكون هي الجملة بما لها من المعنى،فلا مناص من تقدير كلمة أخرى،لتكون الجملة بما لها من المتعلق مقولا للقول.
و أما الوجه الثاني:فلأن الاستعانة تستحيل أن تكون من اللّه تعالى،لغناه عن الاستعانة حتى بأسمائه الكريمة،و الاستعانة من الخلق إنما تكون باللّه لا بأسمائه و قد نص تعالى على ذلك بقوله:«إيّاك نستعين»فتعين أن يكون متعلق الجار و المجرور هو أبتدئ،و إضافة الاسم إلى اللّه ليست بيانية،ليكون المراد من قوله:«اللّه الرحمن الرحيم»ألفاظها فإنه بعيد جدا،و يضاف إلى ذلك:أنه لو كان المراد نفس هذه الألفاظ فإن أريد مجموعها،فهو ليس من الأسماء الإلهية،و إن أريد كل على انفراده،احتيج إلى العاطف،فتكون الجملة هكذا:«بسم اللّه الرّحمن الرّحيم» إذا فالإضافة معنوية لا محالة،و كلمة«اللّه»مستعملة في معناها.
لما كانت سور القرآن قد أنزلت لسوق البشر إلى كماله الممكن،و إخراجه من ظلمات الشرك و الجهالة إلى نور المعرفة و التوحيد،ناسب أن يبدأ في كل سورة باسمه الكريم،فإنه الكاشف عن ذاته المقدسة،و القرآن إنما انزل ليعرف به اللّه
ص: 433
سبحانه،و استثنيت من ذلك سورة براءة،فإنها بدأت بالبراءة من المشركين و لهذا الغرض أنزلت،فلا يناسبها ذكر اسم اللّه و لا سيما مع توصيفه بالرحمن الرحيم (1).
و على الجملة:ابتدأ اللّه كتابه التدويني بذكر اسمه،كما ابتدأ في كتابه التكويني باسمه الأتم،فخلق الحقيقة المحمدية و نور النبي الأكرم قبل سائر المخلوقين،و إيضاح هذا المعنى:أن الاسم هو ما دل على الذات،و بهذا الاعتبار تنقسم الأسماء الإلهية إلى قسمين:تكوينية،و جعلية.فالأسماء الجعلية هي الألفاظ التي وضعت للدلالة على الذات المقدسة،أو على صفة من صفاتها الجمالية و الجلالية،و الأسماء التكوينية هي الممكنات الدالة بوجودها على وجود خالقها و على توحيده:
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ 52:35. لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا 21:22).
ففي كل شىء دلالة على وجود خالقه و توحيده،و كما تختلف الأسماء الإلهية اللفظية من حيث دلالتها،فيدل بعضها على نفس الذات بما لها من صفات الكمال، و يدل بعضها على جهة خاصة من كمالاتها على اختلاف في العظمة و الرفعة فكذلك تختلف الأسماء التكوينية من هذه الجهة،و إن اشترك جميعها في الكشف عن الوجود و التوحيد،و عن العلم و القدرة و عن سائر الصفات الكمالية.
و منشأ اختلافها:أن الموجود إذا كان أتم كانت دلالته أقوى،و من هنا صح إطلاق الأسماء الحسنى على الأئمة الهداة،كما في بعض الروايات (2).فالواجب جل و علا قد ابتدأ في أكمل كتاب من كتبه التدوينية بأشرف الألفاظ و أقربها إلى اسمه7.
ص: 434
الأعظم من ناظر العين إلى بياضها (1)كما بدأ في كتابه التكويني باسمه الأعظم في عالم الوجود العيني (2)،و في ذلك تعليم البشر بأن يبتدءوا في أقوالهم و أفعالهم باسمه تعالى.
روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال:
«كل كلام أو أمر ذي بال لم يفتح بذكر اللّه عز و جل فهو أبتر،أو قاطع أقطع (3)».
و عن أمير المؤمنين عليه السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن اللّه عز و جل:
«كل أمر ذي بال لم يذكر فيه بسم اللّه فهو أبتر (4)».8.
ص: 435
ص: 436
حول آية البسملة
ص: 437
-ذكر الرحمة بدء القرآن.
-ذكر الرحيم بعد الرحمن.
-هل البسملة من القرآن؟
ص: 438
قد وصف اللّه تعالى نفسه بالرحمة في ابتداء كلامه دون سائر صفاته الكمالية،لأن القرآن إنما نزل رحمة من اللّه لعباده.و من المناسب أن يبتدأ بهذه الصفة التي اقتضت إرسال الرسول و إنزال الكتاب.و قد وصف اللّه كتابه و نبيه بالرحمة في آيات عديدة، فقد قال تعالى:
هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ 7:203. وَ شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ 10:57. وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ 16:89. وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ 17:82. وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ 21:107. وَ إِنَّهُ لَهُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ 27:77).
قد عرفت أن هيئة فعيل تدلّ على أن المبدأ فيها من الغرائز و السجايا غير
ص: 439
المنفكة عن الذات (1).و بذلك تظهر نكتة تأخير كلمة«الرحيم)عن كلمة«الرحمن» فإن هيئة«الرحمن»تدل على عموم الرحمة و سعتها و لا دلالة لها على أنها لازمة للذات،فأتت كلمة«الرحيم»بعدها للدلالة على هذا المعنى.
و قد اقتضت بلاغة القرآن أن تشير إلى كلا الهدفين في هذه الآية المباركة،فاللّه رحمن قد وسعت رحمته كل شىء و هو رحيم لا تنفك عنه الرحمة.
و قد خفي الأمر على جملة من المفسرين،فتخيلوا أن كلمة«الرحمن»أوسع معنى من كلمة«الرحيم»بتوهم أن زيادة المباني تدل على زيادة المعاني.و هذا التعليل ينبغي أن يعد من المضحكات،فإن دلالة الألفاظ تتبع كيفية وضعها،و لا صلة لها بكثرة الحروف و قلتها.و رب لفظ قليل الحروف كثير المعنى،و بخلافه لفظ آخر، فكلمه حذر تدل على المبالغة دون كلمة حاذر،و إن كثيرا ما يكون الفعل المجرد و المزيد فيه بمعنى واحد،كضرّ و أضرّ.
هذا إذا فرضنا أن يكون استعمال كلمة«الرحمن»استعمالا اشتقاقيا و أما بناء على كونها من أسماء اللّه تعالى و بمنزلة القلب له نقلا عن معناها اللغوي-و قد تقدم إثبات ذلك-فإن في تعقيبها بكلمة«الرحيم»زيادة على ما ذكر إشارة إلى سبب النقل،و هو اتصافه تعالى بالرحمة الواسعة.
اتفقت الشيعة الإمامية على أن البسملة آية من كل سورة بدأت بها،و ذهب اليه ابن عباس،و ابن المبارك،و أهل مكة كابن كثير،و أهل الكوفة كعاصم،
ص: 440
و الكسائي،و غيرهما ما سوى حمزة و ذهب اليه أيضا غالب أصحاب الشافعي (1)و جزم به قرّاء مكة و الكوفة (2)،و حكي هذا القول عن ابن عمر،و ابن الزبير و أبي هريرة،و عطاء،و طاوس،و سعيد بن جبير،و مكحول،و الزهري،و أحمد بن حنبل في رواية عنه،و إسحاق بن راهويه و أبو عبيد القاسم بن سلام (3)و عن البيهقي نقل هذا القول عن الثوري و محمد بن كعب (4)،و اختاره الرازي في تفسيره و نسبه إلى قرّاء مكة و الكوفة و أكثر فقهاء الحجاز،و إلى ابن المبارك و الثوري،و اختاره أيضا جلال الدين السيوطي مدعيا تواتر الروايات الدالة عليه معنى (5).
و قال بعض الشافعية و حمزة:«إنها آية من فاتحة الكتاب خاصة دون غيرها» و نسب ذلك إلى أحمد بن حنبل،كما نسب اليه القول الأول (6).
و ذهب جماعة:منهم مالك،و أبو عمرو،و يعقوب إلى أنها آية فذة و ليست جزء من فاتحة الكتاب و لا من غيرها،و قد أنزلت لبيان رءوس السور تيمنا،و للفصل بين السورتين،و هو مشهور بين الحنفية (7).
غير أن أكثر الحنفية ذهبوا إلى وجوب قراءتها في الصلاة قبل الفاتحة و ذكر الزاهدي عن المجتبى أن وجوب القراءة في كل ركعة هي الرواية الصحيحة عن أبي حنيفة (8).ر.
ص: 441
و أما مالك فقد ذهب إلى كراهة قراءتها في نفسها،و استحبابها لأجل الخروج من الخلاف (1).
و في هذه المسألة أقوال أخر شاذة لا فائدة في التعرض لها،و لكن المهم بيان الدليل على المذهب الحق و يقع ذلك في عدة أمور:
و هي الروايات الصحيحة المأثورة عن أهل البيت عليهم السّلام الصريحة في ذلك و بها الكفاية عن تجشم أي دليل آخر بعد أن جعلهم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عدلا للقرآن في وجوب التمسك بهم و الرجوع إليهم (2).
1-عن معاوية بن عمار قال:
«قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام إذا قمت للصلاة اقرأ بسم اللّه الرّحمن الرّحيم في فاتحة القرآن؟قال:نعم.قلت:فإذا قرأت فاتحة القرآن أقرأ بسم اللّه الرّحمن الرحيم مع السورة،قال:نعم» (3).
2-عن يحيى بن أبي عمران الهمداني قال:
«كتبت إلى أبي جعفر عليه السّلام جعلت فداك ما تقول في رجل ابتدأ:ببسم اللّه الرحمن الرحيم في صلاته وحده في أم الكتاب فلما صار إلى غير أمّ الكتاب من السورة تركها؟فقال العباسي:
ص: 442
ليس بذلك بأس،فكتب بخطه:يعيدها-مرتين-على رغم أنفه»يعني العباسي (1).
3-و في صحيحة ابن أبي أذينة:
«...فلما فرغ من التكبير و الافتتاح أوحى اللّه اليه سمّ باسمي فمن أجل ذلك جعل بسم اللّه الرحمن الرحيم في أول السورة ثم أوحى اللّه اليه أن احمدني فلما قال:الحمد للّه رب العالمين،قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في نفسه شكرا فأوحى اللّه عز و جل إليه قطعت حمدي فسمّ باسمي فمن أجل ذلك جعل في الحمد:
الرحمن الرحيم مرتين،فلما بلغ و لا الضالين قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الحمد للّه ربّ العالمين شكرا فأوحى اللّه اليه قطعت ذكري فسمّ باسمي فمن أجل ذلك جعل بسم اللّه الرحمن الرحيم في أول السورة ثم أوحى اللّه عز و جل اليه اقرأ يا محمد نسبة ربك تبارك و تعالى قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ اَللّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (2).
و قد دلت على ذلك أيضا روايات كثيرة من طرق أهل السنة نذكر جملة منها:
1-ما رواه أنس قال:
«بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة
ص: 443
ثم رفع رأسه متبسما،فقلنا:ما أضحكك يا رسول اللّه؟قال:
أنزلت عليّ آنفا سورة فقرأ:بسم اللّه الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر...» (1)2-ما أخرجه الدار قطني بسند صحيح عن علي عليه السّلام:
«أنه سئل عن السبع المثاني،فقال:الحمد للّه رب العالمين، فقيل له:إنما هي ست آيات،فقال:بسم اللّه الرحمن الرحيم آية» (2).
3-ما أخرجه الدار قطني أيضا بسند صحيح عن أبي هريرة قال:
«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا قرأتم الحمد فاقرءوا بسم اللّه الرحمن الرحيم فانها أمّ القرآن،و أمّ الكتاب،و السبع المثاني.
و بسم اللّه الرحمن الرحيم إحدى آياتها» (3).
4-ما أخرجه ابن خزيمة و البيهقي بسند صحيح عن ابن عباس قال:
«السبع المثاني فاتحة الكتاب.قيل:فأين السابعة؟قال:
بسم اللّه الرحمن الرحيم» (4).
5-ما أخرجه ابن خزيمة و البيهقي في المعرفة بسند صحيح من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال:1.
ص: 444
«استرق الشيطان من الناس أعظم آية من القرآن:بسم اللّه الرحمن الرحيم» (1).
6-ما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس قال:
«كان المسلمون لا يعلمون انقضاء السورة حتى تنزل بسم اللّه الرحمن الرحيم،فإذا نزلت بسم اللّه الرحمن الرحيم علموا أن السورة قد انقضت» (2).
7-ما رواه سعيد عن ابن عباس:
«أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان إذا جاءه جبرئيل فقرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم علم أن ذلك سورة» (3).
8-ما رواه ابن جريح قال:
«أخبرني أبي أن سعيد بن جبير أخبره،قال:و لقد آتيناك سبعا من المثاني قال:هي أمّ القرآن،قال أبي:و قرأ عليّ سعيد بن جبير بسم اللّه الرحمن الرحيم الآية السابعة.قال سعيد بن جبير:و قرأها عليّ ابن عباس كما قرأتها عليك،ثم قال:بسم اللّه الرحمن الرحيم الآية السابعة.قال ابن عباس:
فأخرجها اللّه لكم و ما أخرجها لأحد قبلكم» (4).
إلى غير ذلك من الروايات.و من أراد الاطلاع عليها فليراجع مظانها.ن.
ص: 445
و ليس بإزاء هذه الروايات إلا روايتان دلّتا على عدم جزئية البسملة للسورة:
1-إحداهما:رواية قتادة عن أنس بن مالك،قال:
صلّيت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أبي بكر و عمر و عثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم (1).
2-ثانيتهما:ما رواه ابن عبد اللّه بن مغفل يزيد بن عبد اللّه،قال:
«سمعني أبي و أنا أقول:بسم اللّه الرحمن الرحيم،فقال:
أي بني!إياك قال:و لم أر أحدا من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان أبغض اليه حدثا في الإسلام منه،فإني قد صليت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و مع أبي بكر و عمر،و مع عثمان فلم أسمع أحدا منهم يقولها فلا تقلها،إذا أنت قرأت فقل:الحمد للّه رب العالمين» (2).
و الجواب عن الرواية الاولى:مضافا الى مخالفتها للروايات المأثورة عن أهل البيت عليهم السّلام:أنها لا يمكن الاعتماد عليها من وجوه:
الوجه الأول:معارضتها بالروايات المتواترة معنى،المنقولة عن طرق أهل السنة،و لا سيما أن جملة منها صحاح الأسانيد،فكيف يمكن تصديق هذه الرواية؟
ص: 446
مع شهادة ابن عباس،و أبي هريرة،و أمّ سلمة على أن رسول اللّه كان يقرأ البسملة و بعدّها آية من الفاتحة،و إن ابن عمر كان يقول:لم كتبت إن لم تقرأ!»و إن عليا عليه السّلام كان يقول:«من ترك قراءتها فقد نقص»و كان يقول:«هي تمام السبع المثاني» (1).
الوجه الثاني:مخالفتها لما اشتهر بين المسلمين من قراءتها في الصلاة،حتى أن معاوية تركها في صلاته في يوم من أيام خلافته،فقال له المسلمون:«أ سرقت أم نسيت؟» (2).
و مع هذا كيف يمكن التصديق بأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من بعده لم يقرءوها! الوجه الثالث:مخالفتها لما استفاض نقله عن أنس نفسه (3)فالرواية موضوعة ما في ذلك من شك.
و الجواب عن الرواية الثانية:و هي رواية ابن عبد اللّه بن مغفل-يظهر مما تقدم في الجواب عن الرواية الاولى،على أنها تضمنت ما يخالف ضرورة الإسلام،فإنه لا يشك أحد من المسلمين في استحباب التسمية قبل الحمد و السورة،و لو بقصد التيمن و التبرك،لا لأن البسملة جزء فكيف ينهى ابن مغفل عنها بدعوى أنها حدث في الإسلام؟!
لقد استقرت سيرة المسلمين على قراءة البسملة في أوائل السور غير سورة براءة،و ثبت بالتواتر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يقرؤها،و لو لم تكن من القرآن للزم
ص: 447
على الرسول الأكرم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يصرح بذلك،فإن قراءته-و هو في مقام البيان- ظاهرة في أن جميع ما يقرأ قرآن،و لو لم يكن بعض ما يقرأ قرآنا ثم لم يصرح بذلك لكان ذلك منه إغراء منه بالجهل،و هو قبيح،و في ما يرجع إلى الوحي الإلهي أشد قبحا،و لو صرّح الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بذلك لنقل إلينا بالتواتر مع أنه لم ينقل حتى بالآحاد.
مما لا ريب فيه أن مصاحف التابعين و الصحابة-قبل جمع عثمان و بعده-كانت مشتملة على البسملة،و لو لم تكن من القرآن لما أثبتوها في مصاحفهم،فان الصحابة منعت أن يدرج في المصحف ما ليس من القرآن،حتى أن بعض المتقدمين منعوا عن تنقيط المصحف و تشكيله.فإثبات البسملة في مصاحفهم شهادة منهم بأنها من القرآن كسائر الآيات المتكررة فيه.
و ما ذكرناه يبطل احتمال أن إثباتهم إياها كان للفصل بين السور.و يبطل هذه الدعوى أيضا إثبات البسملة في سورة الفاتحة،و عدم إثباتها في أول سورة براءة.
و لو كانت للفصل بين السور،لأثبتت في الثانية،و لم تثبت في الاولى.و ذلك يدلنا قطعا على أن البسملة آية منزلة في الفاتحة دون سورة براءة.
و استدلّ القائلون بأن البسملة ليست جزء من السورة بوجوه:
الوجه الأول:
أن طريق ثبوت القرآن ينحصر بالتواتر،فكل ما وقع النزاع في ثبوته فهو ليس
ص: 448
من القرآن،و البسملة مما وقع النزاع فيه.
و الجواب أولا:
أن كون البسملة من القرآن مما تواتر عن أهل البيت عليهم السّلام و لا فرق في التواتر بين أن يكون عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بين أن يكون عن أهل بيته الطاهرين بعد أن ثبت وجوب اتباعهم.
و ثانيا:إن ذهاب شرذمة إلى عدم كون البسملة من القرآن لشبهة لا يضرّ بالتواتر،مع شهادة جمع كثير من الصحابة بكونها من القرآن،و دلالة الروايات المتواترة عليه معنى.
و ثالثا:أنه قد تواتر أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قرأ البسملة حينما يقرأ سورة من القرآن و هو في مقام البيان،و لم يبين أنها ليست منه و هذا يدل دلالة قطعية على أن البسملة من القرآن نعم لا يثبت بهذا أنها جزء من السورة.و يكفي لإثباته ما تقدم من الروايات، فضلا عما سواها من الأخبار الكثيرة المروية من الطريقين.و الجزئية تثبت بخبر الواحد الصحيح،و لا دليل على لزوم التواتر فيها أيضا.
الوجه الثاني:ما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة قال:
«سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول:قال اللّه تعالى:قسمت الصلاة بيني و بين عبدي نصفين و لعبدي ما سأل:فإذا قال العبد: اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ قال اللّه تعالى:حمدني عبدي، و إذا قال: اَلرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ،قال:أثنى عليّ عبدي و إذا قال:
مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ،قال اللّه تعالى:مجّدني عبدي،و إذا قال العبد: إِيّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ ،قال اللّه تعالى:هذا بيني
ص: 449
و بين عبدي،و لعبدي ما سأل،فإذا قال: اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ الضّالِّينَ .قال:هذا لعبدي،و لعبدي ما سأل» (1).
و تقريب الاستدلال في هذه الرواية أنها تدل-بظاهرها-على أن ما بعد آية إياك نعبد و إياك نستعين يساوي ما قبلها في العدد،و لو كانت البسملة جزء من الفاتحة لم يستقم معنى الرواية،و ذلك:لأن سورة الفاتحة-كما عرفت-سبع آيات، فإن كانت البسملة جزء كان ما بعد آية: إِيّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ آيتين،و معنى ذلك أن ما قبل هذه الآية ضعف ما بعدها،فالفاتحة لا تنقسم إلى نصفين في العدد.
و الجواب عنه أولا:
أن الرواية مروية عن العلاء،و قد اختلف فيه بالتوثيق و التضعيف.
و ثانيا:أنه لو تمت دلالتها،فهي معارضة بالروايات الصحيحة المتقدمة الدالة على أن الفاتحة سبع آيات،مع البسملة لا بدونها.
و ثالثا:إنه لا دلالة في الرواية على أن التقسيم بحسب الألفاظ،بل الظاهر انه بحسب المعنى،فالمراد أن أجزاء الصلاة بين ما يرجع إلى الرب و ما يرجع إلى العبد بحسب المدلول.
و رابعا:أنه لو سلمنا أن التقسيم هو بحسب الألفاظ فأي دليل على أنه بحسب عدد الآيات،فلعله باعتبار الكلمات،فإن الكلمات المتقدمة على آية إِيّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ و المتأخرة عنها،مع احتساب البسملة و حذف المكررات عشر كلمات.0.
ص: 450
الوجه الثالث:ما رواه أبو هريرة:من أن سورة الكوثر ثلاث آيات (1)،و أن سورة الملك ثلاثون آية (2)فلو كانت البسملة جزء منها،لزاد عددهما على ذلك.
و الجواب:
إن رواية أبي هريرة في سورة الكوثر على فرض صحة سندها معارضة برواية أنس،و قد تقدمت (3)و هي رواية مقبولة روتها جميع الصحاح غير موطأ مالك (4)، فرواية أبي هريرة مطروحة أو مؤولة بإرادة الآيات المختصة،فإن البسملة مشتركة بين جميع السور،و هذا هو جواب روايته في سورة الملك.1.
ص: 451
تحليل آية
اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ(2) اَلرَّحْمنِ الرَّحِيمِ(3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ(4)
المشهور على ضم الدال من كلمة«الحمد»،و كسر اللام من كلمة«اللّه»و قرأ بعضهم بكسر الدال اتباعا له لما بعده،و قرأ بعضهم بضم اللام اتباعا له لما قبله، و كلتا القراءتين شاذة لا يعتنى بها.
و اختلفت القراءات في كلمة مالك،و المعروف منها اثنتان:إحداهما على زنة «فاعل»و ثانيتهما على زنة«كتف».و قرأ بعضهم على زنة«فلس»و قرأ بعضهم على زنة«فعيل».و قرأ أبو حنيفة بصيغة الماضي،و غير الأوليين من القراءات شاذ لا اعتبار به.
و قد ذكروا لترجيح كل واحدة من القراءتين الأوليين«زنة فاعل و فعل»على الاخرى وجوها،منها:
ص: 452
1-ان مفهوم مالك أوسع و أشمل،فإذا قيل:مالك القوم استفيد منه كونه ملكا لهم.و إذا قيل:ملك القوم لم يستفد منه كونه مالكهم،فقراءة مالك أرجح من قراءة ملك.
2-ان الزمان لا تضاف اليه كلمة مالك غالبا،و إنما تضاف اليه كلمة ملك، فيقال:ملك العصر،و ملوك الأعصار المتقدمة،فقراءة ملك أرجح من قراءة مالك.
و الصحيح أن الترجيح في القراءات المعروفة لا محصل له،فإن القراءات إن ثبت تواترها عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلا معنى للترجيح ما بينها،و إن لم يثبت كما هو الحق (1)فإن أوجب الترجيح الجزم ببطلان القراءة المرجوحة فهو،و دون إثباته خرط القتاد.
و إن لم يوجب ذلك-كما هو الغالب-فلا فائدة في الترجيح بعد أن ثبت جواز القراءة بكل واحدة منها (2).
و الترجيح في المقام باطل على الخصوص،فإن اختلاف معنى مالك و معنى ملك إنما يكون إذا كان الملك-السلطنة و الجدة-أمرا اعتباريا فإنه يختلف حينئذ باختلاف موارده،و هذا الاختلاف يكون في غير اللّه تعالى،و أما ملك اللّه سبحانه فإنه حقيقي ناشئ عن إحاطته القيّوميّة بجميع الموجودات،فهذه الإحاطة بذاتها منشأ صدق مالك و ملك عليه تعالى،و من ذلك يتضح أن نسبة مالك إلى الزمان إذا لم تصح في غير اللّه فلا يلزمها عدم صحتها فيه سبحانه فهو مالك للزمان كما هو مالك لغيره.
ص: 453
و قد يقال:
إضافة مالك إلى يوم الدين إضافة لفظية لا تفيد التعريف فلا يصح أن تقع الجملة وصفا للمعرفة،فالمتعين قراءة ملك،فإن المراد به السلطان و هو في حكم الجامد،و إضافته معنوية.
و أجيب عنه في الكشاف و غيره:بأن إضافة اسم الفاعل و نحوه تكون لفظية إذا كان بمعنى الحال و الاستقبال،و معنوية إذا كان بمعنى الماضي أو أريد به الدوام.
و من الأول قوله تعالى:
اَلْحَمْدُ لِلّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً «35:1».
و من الثاني قوله تعالى:
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ «40:3».
و المقام من قبيل الثاني،فإن مالكيته تعالى ليوم الدين صفة ثابتة له لا تختص بزمان دون زمان،فيصح كون الجملة صفة للمعرفة.
و التحقيق:إن الإضافة مطلقا لا تفيد تعريفا،و إنما تفيد التخصيص و التضييق و التعريف إنما يستفاد من عهد خارجي.
و دليل ذلك:
انه لا فرق بالضرورة بين قولنا غلام لزيد و قولنا غلام زيد فكما أن القول الأول لا يفيد إلا التخصيص كذلك القول الثاني،و التخصيص يتحقق في موارد الإضافة اللفظية كما يتحقق في موارد الإضافة المعنوية.
ص: 454
و الفارق:أن التخصيص في الاولى لم ينشأ من الإضافة،بل هو حاصل بدونها، و أن الاضافة لم تفد إلا التخفيف إلا أن هذا لا يوجب أن لا يقع المضاف فيها صفة للمعرفة،فإن المصحح لذلك إن كان هو التخصيص فهو موجود في مواردها،و إن كان هو التعريف الحاصل من العهد الخارجي فهو مشترك بين الإضافتين معا،فلا فرق في مقام الثبوت،و بلحاظ ذات المعنى بين موارد الإضافتين.
و جميع ما ذكروه لا يرجع إلى محصل:نعم يبقى الكلام في مقام الإثبات،و قد ادعي الاتفاق على أن المضاف بالإضافة اللفظية لا يقع صفة لمعرفة إذا كان المضاف من الصفات المشبهة،و أما غيرها فقد نقل سيبويه،عن يونس و الخليل وقوعه صفة للمعرفة في كلام العرب كثيرا (1)و عليه يحمل ما ورد في القرآن من ذلك،كما في المقام.
و أما قول الكشاف:إن اسم الفاعل هنا بمعنى الاستمرار فهو واضح البطلان فإن إحاطة اللّه تعالى بالموجودات،و مالكيته لها و إن كانت استمرارية إلا أن كلمة مالك في الآية المباركة قد أضيفت إلى يوم الدين،و هو متأخر في الوجود،فلا بد من أن يكون اسم الفاعل المضاف اليه بمعنى الاستقبال.
و أما التفرقة التي ذكرها بعضهم في اسم الفاعل المضاف-بين ما إذا كان بمعنى الماضي فيصح وقوعه صفة للمعرفة،و بين غيره فلا يصح،لأن حدوث الشيء يوجب تعيّنه-فهي بيّنة الفساد،فإن حدوث الشيء لا يستلزم-في الغالب-العلم به،و إذا كانت العبرة بالعلم الشخصي فلا فرق بين تعلقه بالماضي و تعلقه بغيره.
و الحاصل إن المتبع في الكلام العربي هو القواعد المتخذة من استعمالات العرب1.
ص: 455
الفصحى،و لا اعتماد على الوجوه الاستحسانية الواهية التي يذكرها النحويون.
الحمد:
ضد اللوم،و هو لا يكون إلا على الفعل الاختياري الحسن،سواء أ كان إحسانا للحامد أم لم يكن،و الشكر مقابل الكفران،و هو لا يكون إلا للانعام و الإحسان، و المدح يقابل الذم،و لا يعتبر أن يكون على الفعل الاختياري فضلا عن كونه إحسانا،و الألف و اللام في كلمة الحمد للجنس إذ لا عهد،و تقدم معنى كلمات:
«اللّه.الرّحمن.الرّحيم».
الرب:
مأخوذ من ربب،و هو المالك المصلح و المربي،و منه الربيبة،و هو لا يطلق على غيره تعالى إلا مضافا إلى شيء،فيقال:ربّ السفينة،رب الدار.
العالم:
جمع لا مفرد له كرهط و قوم،و هو قد يطلق على مجموعة من الخلق متماثلة،كما يقال:عالم الجهاد،عالم النبات،عالم الحيوان.و قد يطلق على مجموعة يؤلف بين أجزائها اجتماعها في زمان أو مكان،فيقال:عالم الصبا،عالم الذرّ،عالم الدنيا،عالم الآخرة.و قد يطلق و يراد به الخلق كله على اختلاف حقائق وحداته،و يجمع بالواو و النون،فيقال:عالمون و يجمع على فواعل،فيقال:عوالم،و لم يوجد في لغة العرب ما هو على زنة فاعل،و يجمع بالواو و النون غير هذه الكلمة.
ص: 456
الملك:
الإحاطة و السلطة،و هذه قد تكون خارجية حقيقية كما في إحاطته تعالى بالموجودات،فإن كل موجود إنما يتقوم في ذاته بخالقه و موجده،و ليس له واقع مستقل سوى التدلي و الارتباط بعلته الموجدة،و الممكن فقير محتاج إلى المؤثر في حدوثه و في بقائه،فهو لا ينفك عن الحاجة أبدا:
وَ اللّهُ الْغَنِيُّ وَ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ «47:38».
و قد تكون اعتبارية،كما في ملكية الناس للاشياء،فإن ملكية زيد لما بيده مثلا ليست إلا اعتبار كونه مالكا لذلك الشيء،و أن زمام أمره بيده،و ذلك عند حدوث سبب يقتضيه من عقد أو إيقاع أو حيازة أو إرث أو غير ذلك،حسب ما توجبه المصلحة في نظر الشارع أو العقلاء.و الملكية عند الفلاسفة هيئة حاصلة من إحاطة شيء بشيء،و هي أحد الأعراض التسعة،و يعبر عنها بمقولة الجدة،كالهيئة الحاصلة من إحاطة العمامة بالرأس أو الخاتم بالإصبع.
الدين:
معنى الجزاء و الحساب،و كلاهما مناسب للمقام،فإن الحساب مقدمة للجزاء و يوم الحساب هو يوم الجزاء بعينه.
بيّن سبحانه أن طبيعة الحمد و جنسه تختص به تعالى،و ذلك لامور:
إن حسن الفعل و كماله ينشأ من حسن الفاعل و كماله،و اللّه سبحانه هو الكامل
ص: 457
المطلق الذي لا نقص فيه من جهة أبدا،ففعله هو الفعل الكامل الذي لا نقص فيه أبدا:
قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ «17:84».
و أما غيره فلا يخلو عن نقيصة ذاتية بل نقائص،فأفعاله لا محالة تكون كذلك.
و الفعل الحسن المحض يختص به سبحانه،و يمتنع صدوره من سواه،فهو المختص بالحمد و يمتنع أن يستحقه أحد سواه.و قد أشير إلى هذا بقوله:«الحمد للّه»فقد عرفت أن كلمة«اللّه»علم للذات المقدسة المستجمعة لجميع صفات الكمال.و قد ورد عن الصادق عليه السّلام أنه قال:
«فقد لأبي بغلة فقال:لئن ردّها اللّه عليّ لأحمدنّه بمحامد يرضاها،فما لبث أن جيء بها بسرجها و لجامها،و لما استوى و ضمّ اليه ثيابه رفع رأسه إلى السماء فقال:الحمد للّه،و لم يزد،ثم قال:ما تركت و لا أبقيت شيئا،جعلت جميع أنواع المحامد للّه عز و جل فما من حمد إلا و هو داخل فيما قلت» (1).
و عنه-سلام اللّه عليه-:
«ما أنعم اللّه على عبد بنعمة صغرت أو كبرت فقال:الحمد للّه، إلا أدّى شكرها» (2).
إن الكمال الأول لكل ممكن من العقول و النفوس و الأرواح و الأشباح إنما هو
ص: 458
وجوده.و لا ريب في أنه فعل اللّه سبحانه و هو مبدعه و موجده.و أما الكمال الثاني و هي الأمور التي توجب الفضل و الميز،فما كان منه خارجا عن اختيار المخلوق فهو أيضا من أفعال اللّه تعالى بلا ريب.و ذلك كما في نمو النبات و إدراك الحيوان منافعه و مضاره،و قدرة الإنسان على بيان مقاصده.و ما كان منه صادرا عن المخلوقين باختيارهم،فهي و إن كانت اختيارية إلا أنها منتهية إلى اللّه سبحانه،فانه الموفق للصواب،و الهادي إلى الرشاد.و قد ورد:«إن اللّه أولى بحسنات العبد منه» (1)و قد أشير إلى ذلك بجملة«رب العالمين».
إن الفعل الحسن الصادر من اللّه تعالى لا يرجع نفعه اليه،لأنه الكامل المطلق الذي يستحيل عليه الاستكمال.و فعله إنما هو إحسان محض يرجع نفعه إلى المخلوقين.و أما الفعل الحسن الصادر من غيره فهو و إن كان إحسانا إلى أحد في بعض الأحيان،إلا أنه إحسان إلى نفسه أولا و بالذات،و به يدرك كماله:
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ «17:7».
فالإحسان المحض إنما هو فعل اللّه تعالى لا غير فهو المستحق للحمد دون غيره و إلى ذلك أشير بجملة:«الرحمن الرحيم».
ثم إن الثناء على الفعل الجميل قد يكون ناشئا عن إدراك الحامد حسن ذات الفاعل و صفاته من دون نظر إلى إنعامه،أو الرغبة فيه،أو الرهبة منه.و قد يكون ناشئا عن النظر إلى أحد هذه الأمور الثلاثة،فقد أشير إلى المنشأ الأول بجملة:
«الحمد للّه»فالحامد يحمده تعالى بما أنه مستحق للحمد في ذاته،و بما أنه مستجمع
ص: 459
لجميع صفات الكمال منزّه عن جميع جهات النقص.و أشير إلى المنشأ الثاني بجملة:
«ربّ العالمين»فانه المنعم على عباده بالخلق و الإيجاد،ثم بالتربية و التكميل.
و أشير إلى المنشأ الثالث بجملة:«الرّحمن الرّحيم».
فان صفة الرحمة تستدعي الرغبة في نعمائه تعالى و طلب الخير منه. و أشير إلى المنشأ الرابع بقوله: «مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» ،فان من تنتهي اليه الأمور و يكون اليه المنقلب جدير بأن ترهب سطوته،و تحذّر مخالفته.و قد يكون الوجه هو بيان أن يوم الدين هو يوم ظهور العدل و الفضل الإلهيين،و كلاهما جميل لا بد من حمده تعالى لأجله،فكما أن أفعاله في الدنيا من الخلق و التربية و الإحسان كلها أفعال جميلة يستحق عليها الحمد فكذلك أفعاله في الآخرة من العفو و الغفران و إثابة المطيعين، و عقاب العاصين كلها أفعال جميلة يستوجب الحمد بها.
و مما بيّناه يتضح أن جملة: «الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» ليس تكرارا أتي بها للتأكيد-كما زعمه بعض المفسرين-بل هي لبيان منشأ اختصاص الحمد به تعالى فلا تغني عنه ذكرها أولا في مقام التيمّن و التبرّك،و هو ظاهر.
ص: 460
تحليل آية
إِيّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ
(5)
العبادة:
في اللغة تأتي لأحد معان ثلاثة:
الأول:الطاعة،و منه قوله تعالى:
أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ «36:60».
فإن عبادة الشيطان المنهي عنها في الآية المباركة إطاعته.
الثاني:الخضوع و التذلل،و منه قوله تعالى:
فَقالُوا أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَ قَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ «23:47».
أي خاضعون متذللون،
ص: 461
و منه أيضا إطلاق«المعبّد»على الطريق الذي يكثر المرور عليه.
الثالث:التألّه،و منه قوله تعالى:
قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ وَ لا أُشْرِكَ بِهِ «13:36».
و إلى المعنى الأخير ينصرف هذا اللفظ في العرف العام إذا أطلق دون قرينة.
و العبد:الإنسان و إن كان حرا،لأنه مربوب لبارئه،خاضع له في وجوده و جميع شئونه،و إن تمرد عن أوامره و نواهيه.
و العبد:الرقيق لأنه مملوك و سلطانه بيد مالكه،و قد يتوسع في لفظ العبد فيطلق على من يكثر اهتمامه بشيء حتى لا ينظر إلا اليه،و منه قول أبي عبد اللّه الحسين عليه السّلام:
«الناس عبيد الدنيا،و الدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معايشهم و إذا محّصوا بالبلاء قلّ الديانون» (1)و قد يطلق العبد على المطيع الخاضع،كما في قوله تعالى:
أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ «26:22».
أي جعلتهم خاضعين لا يتجاوزون عن أمرك و نهيك.
الاستعانة:
طلب المعونة،تتعدى بنفسها و بالباء،يقال استعنته و استعنت به أي طلبت منه أن يكون عونا و ظهيرا لي في أمري.9.
ص: 462
«إياك»:في كلا الموردين مفعول قدّم على الفعل لافادة الحصر،و في الآية التفات من الغيبة إلى الخطاب.و السر في ذلك أحد أمرين:
الأول:إن سابق هذه الآية الكريمة قد دل على أن اللّه سبحانه هو المالك لجميع الموجودات،و المربي لها و القائم بشئونها،و هذا يقتضي أن تكون الأشياء كلها حاضرة لديه تعالى،و أن يكون-سبحانه-محيطا بالعباد و بأعمالهم ليجازيهم يوم الدين بالطاعة أو بالمعصية،و اقتضى ذلك أن يظهر العبد حضوره بين يدي ربه و يخاطبه.
الثاني:ان حقيقة العبادة خضوع العبد لربه بما أنه ربه و القائم بأمره و الربوبية تقتضي حضور الرب لتربية مربوبه،و تدبير شئونه.و كذلك الحال في الاستعانة فإن حاجة الإنسان إلى إعانة ربه و عدم استقلاله عنه في عبادته تقتضى حضور المعبود لتتحقق منه الاعانة،فلهذين الأمرين عدل السياق من الغيبة إلى الخطاب فالعبد حاضر بين يدي ربه غير غائب عنه.
بعد أن مجّد اللّه نفسه بالآيات المتقدمة لقّن عباده أن يتلوا هذه الآية الكريمة و أن يعترفوا بمدلولها و بمغزاها،فهم لا يعبدون إلا اللّه،و لا يستعينون إلا به،فإن ما سوى اللّه من الموجودات فقير في ذاته،عاجز في نفسه،بل هو لا شيء بحت،إلا أن تشمله العناية الالهية،و من هذا شأنه لا يستحق أن يعبد أو يستعان،و الممكنات كلها-و ان اختلفت مراتبها بالكمال و النقص-تشترك في صفة العجز اللازمة
ص: 463
للامكان،و في ان جميعها تحت حكم اللّه و إرادته:
أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ تَبارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ 47:54. وَ لِلّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ «24:42».
من ذا الذي يعارضه في سلطانه و ينازعه في أمره و حكمه؟و هو القابض و الباسط،يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد،فالمؤمن لا يعبد غير اللّه،و لا يستعين إلا به،فان غير اللّه-أيّا كان-محتاج إلى اللّه في جميع شئونه و أطواره و المعبود لا بد و أن يكون غنيا،و كيف يعبد الفقير فقيرا مثله؟!.
و على الجملة:الإيمان باللّه يقتضي أن لا يعبد الإنسان أحدا سواه،و لا يسأل حاجته إلا منه،و لا يتكل إلا عليه،و لا يستعين إلا به،و إلا فقد أشرك باللّه و حكم في سلطانه غيره:
وَ قَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ «17:23».
ص: 464
حول آية الحمد
ص: 465
-العبادة و التألّه.
-العبادة و الطاعة.
-العبادة و الخضوع.
-السجود لغير اللّه.
-دواعي العبادة.
-حصر الاستعانة باللّه.
-الشفاعة.
ص: 466
مما لا يرتاب فيه مسلم:ان العبادة بمعنى التأله تختص باللّه سبحانه وحده،و قد قلنا:إن هذا المعنى هو الذي ينصرف اليه لفظ العبادة عند الإطلاق،و هذا هو التوحيد الذي أرسلت به الرسل و أنزلت لأجله الكتب:
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ «3:64».
فالإيمان باللّه تعالى لا يجتمع مع عبادة غيره،سواء أنشأت هذه العبادة عن اعتقاد التعدد في الخالق،و إنكار التوحيد في الذات؟أم نشأت عن الاعتقاد بأن الخلق معزولون عن اللّه فلا يصل اليه دعاؤهم،و هم محتاجون إلى إله أو آلهة اخرى تكون وسائط بينهم و بين اللّه يقربونهم اليه،و شأنه في ذلك شأن الملوك و حفدتهم، فإن الملك لما كان بعيدا عن الرعية احتاجت إلى وسائط يقضون حوائجهم، و يجيبون دعواتهم.
ص: 467
و قد أبطل اللّه سبحانه كلا الاعتقادين في كتابه العزيز،فقال تعالى في إبطال الاعتقاد بتعدد الآلهة:
لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا 21:22. وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللّهِ عَمّا يَصِفُونَ 23:91.
و أما الاعتقاد الثاني-و هو إنما ينشأ عن مقايسته بالملوك و الزعماء من البشر فقد أبطله اللّه بوجوه من البيان:
فتارة يطلب البرهان على هذه الدعوى،و أنها مما لم يدل عليه دليل،فقال:
أَ إِلهٌ مَعَ اللّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ 27:64. قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ 26:71. قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ :72. أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ :73. قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ :74.
و أخرى بإرشادهم إلى ما يدركونه بحواسهم من أن ما يعبدونه لا يملك لهم ضرا و لا نفعا،و الذي لا يملك شيئا من النفع و الضر،و القبض و البسط،و الإماتة و الإحياء،لا يكون إلا مخلوقا ضعيفا،و لا ينبغي أن يتخذ إلها معبودا:
قالَ أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لا يَضُرُّكُمْ 21:66. أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ :67. قُلْ أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً 5:76. أَ لَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَ لا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَ كانُوا ظالِمِينَ 7:148.
و هذا الحكم عقلي فطري شاءت الحكمة أن تنبه العباد عليه في هذه الآيات المباركة،و هو سار في كل موجود ممكن محتاج،و إن كان نبيا:
ص: 468
وَ إِذْ قالَ اللّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ 5:116 ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ :117.
و أبطل هذا الاعتقاد مرة ثالثة،بأن اللّه قريب من عباده يسمع نجواهم و يجيب دعواهم،و أنه القائم بتدبيرهم و بتربيتهم،فقال تعالى:
وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ 50:16. أَ لَيْسَ اللّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ 39:36.
اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ 40:60. وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ 6:18.
قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 3:29. وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ وَ إِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ 10:107. وَ إِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 6:17. اَللّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ 13:26. إِنَّ اللّهَ هُوَ الرَّزّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ 51:58. لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ 42:11. أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ 41:54.
فاللّه سبحانه غير معزول عن خلقه،و أمورهم كلها بيده،و لا يفتقر العباد الى وسائط تبلغه حوائجهم،ليكونوا شركاء له في العبادة،بل الناس كلهم شرع سواء في أن اللّه ربهم و هو القائم بشئونهم:
ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاّ هُوَ رابِعُهُمْ وَ لا خَمْسَةٍ إِلاّ هُوَ سادِسُهُمْ وَ لا أَدْنى
ص: 469
مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْثَرَ إِلاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا 58:7. كَذلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ 3:40.
إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ 5:1).
و على الجملة،لا شك لمسلم في ذلك.و هذا ما يمتاز به الموحد عن غيره،فمن عبد غير اللّه و اتخذه ربا كان كافرا مشركا.
لا شك أيضا في وجوب طاعة اللّه سبحانه،و في استحقاق العقاب عقلا على مخالفته،و قد تكرر في القرآن وعد الله تعالى لمن أطاعه بالثواب و وعيده لمن عصاه بالعقاب.
و أما إطاعة غير اللّه تعالى فهي على أقسام:
الأول:أن تكون إطاعته بأمر من اللّه سبحانه و باذنه كما في إطاعة الرسول الأكرم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أوصيائه الطاهرين عليهم السّلام و هذا في الحقيقة إطاعة اللّه سبحانه،فهو واجب أيضا بحكم العقل:
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللّهَ 4:80. وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللّهِ 4:64).
و من أجل ذلك قرن الله طاعة رسوله بطاعته في كل مورد أمر فيه بطاعته:
وَ مَنْ يُطِعِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً 33:71. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ 4:59).
الثاني:أن تكون إطاعة غير الله منهيا عنها،كإطاعة الشيطان و إطاعة كل من
ص: 470
يأمر بمعصية الله،و لا شك في حرمة هذا القسم شرعا،و قبحه عقلا،بل قد تكون كفرا او شركا،كما إذا امر بالشرك أو الكفر:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللّهَ وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ 33:1. فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً 76:24. وَ إِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما 31:15).
الثالث:أن تكون إطاعة غير الله مجردة لا أمر بها من اللّه و لا نهى،و هي حينئذ تكون جائزة لا واجبة و لا محرمة.
لا ينبغي الريب في أنه لا بد للمخلوق من أن يخضع و يتذلل لخالقه،فإن ذلك مما حكم به العقل،و ندب اليه الشرع.
و أما الخضوع و التذلل للمخلوق فهو على أقسام:
أحدها:الخضوع لمخلوق من دون إضافة ذلك المخلوق إلى الله بإضافة خاصة و ذلك:كخضوع الولد لوالده،و الخادم لسيده و المتعلم لمعلمه،و غير ذلك من الخضوع المتداول بين الناس،و لا ينبغي الشك في جواز هذا القسم ما لم يرد فيه نهي كالسجود لغير الله،بل جواز هذا القسم مقتضى الضرورة،و ليس فيه أدنى شائبة للشرك،و قد قال عز من قائل:
وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً «17:24».
ص: 471
أ فترى أنه سبحانه أمر بعبادة الوالدين،حيث أمر بالتذلل لهما؟مع أنه قد نهى عن عبادة من سواه قبل ذلك:
وَ قَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً «17:23».
أم ترى أن خفض الجناح من الذلّ-كما تفعله صغار الطير-هو من الإحسان الذي أمرت به الآية الكريمة،و جعلته مقابلا للعبادة،و إذا فلا يكون كل خضوع و تذلل لغير الله شركا بالله تعالى.
ثانيها:الخضوع للمخلوق باعتقاد أن له إضافة خاصة الى اللّه يستحق من أجلها أن يخضع له،مع أن العقيدة باطلة،و أن هذا الخضوع بغير اذن من الله كما في خضوع أهل الأديان و المذاهب الفاسدة لرؤسائهم.و لا ريب في أنه إدخال في الدين لما لم يكن منه،فهو تشريع محرّم بالأدلة الأربعة،و افتراء على الله تعالى.
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللّهِ كَذِباً «18:15».
ثالثها:الخضوع للمخلوق و التذلل له بأمر من الله و إرشاده،كما في الخضوع للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لأوصيائه الطاهرين عليهم السّلام بل الخضوع لكل مؤمن،أو كل ما له إضافة إلى الله توجب له المنزلة و الحرمة،كالمسجد و القرآن و الحجر الأسود و ما سواها من الشعائر الإلهية.و هذا القسم من الخضوع محبوب لله فقد قال تعالى:
فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ «5:45».
بل هو لدى الحقيقة خضوع لله،و إظهار للعبودية له فمن اعتقد بالوحدانية الخالصة لله،و اعتقد أن الإحياء و الإماتة و الخلق و الرزق و القبض و البسط و المغفرة و العقوبة كلها بيده،ثم اعتقد بأن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أوصياءه الكرام عليهم السّلام:
ص: 472
عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ «21:27».
و توسّل بهم إلى الله،و جعلهم شفعاء اليه بإذنه،تجليلا لشأنهم و تعظيما لمقامهم،لم يخرج بذلك عن حد الإيمان،و لم يعبد غير الله.
و لقد علم كل مسلم أن رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يقبل الحجر الأسود،و يستلمه بيده إجلالا لشأنه و تعظيما لأمره.و كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يزور قبور المؤمنين و الشهداء و الصالحين،و يسلّم عليهم،و يدعو لهم.
و على هذا جرت الصحابة و التابعون خلفا عن سلف،فكانوا يزورون قبر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و يتبرّكون به و يقبّلونه،و يستشفعون برسول اللّه،كما كانوا يستشفعون به في حياته.و هكذا كانوا يفعلون مع قبور ائمة الدين و أولياء الله الصالحين،و لم ينكر ذلك أحد من الصحابة،و لا أحد من التابعين أو الأعلام،إلى أن ظهر أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن تيمية الحرّاني فحرّم شدّ الرحال إلى زيارة القبور،و تقبيلها،و مسّها،و الاستشفاع بمن دفن فيها،حتى أنه شدد النكير على من زار قبر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو تبرّك به بتقبيل أو لمس،و جعل ذلك من الشرك الأصغر تارة و من الشرك الأكبر أخرى.
و لما رأى علماء عصره عامة أنه قد خالف في رأيه هذا ما ثبت من الدين،و ضرورة المسلمين،لأنهم قد رووا عن رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حثه على زيارة المؤمنين عامة و على زيارته خاصة بقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«من زارني بعد مماتي كان كمن زارني في حياتي» (1)و ما يؤدي هذا المعنى بألفاظ أخر (2)تبرئوا منه،و حكموا بضلاله،وت.
ص: 473
أوجبوا عليه التوبة،فأمروا بحبسه إما مطلقا أو على تقدير أن لا يتوب.
و الذي أوقع ابن تيمية في الغلط-إن لم يكن عامدا لتفريق كلمة المسلمين-هو تخيّله أن الأمور المذكورة شرك بالله،و عبادة لغيره.و لم يدرك أن هؤلاء الذين يأتون بهذه الأعمال يعتقدون توحيد اللّه،و أنه لا خالق و لا رازق سواه،و أن له الخلق و الأمر،و إنما يقصدون بأفعالهم هذه تعظيم شعائر الله،و قد علمت أنها راجعة إلى تعظيم الله و الخضوع له و التقرب اليه سبحانه،و الخلوص لوجهه الكريم، و أنه ليس في ذلك أدنى شائبة للشرك،لأن الشرك-كما عرفت-أن يعبد الإنسان غير الله.و العبادة إنما تتحقق بالخضوع لشىء على أنه رب يعبد،و أين هذا من تعظيم النبي الأكرم و أوصيائه الطاهرين عليهم السّلام بما هو نبي و هم أوصياء،و بما أنهم عباد مكرمون،و لا ريب في أن المسلم لا يعبد النبي أو الوصي فضلا عن أن يعبد قبورهم.
و صفوة القول:أن التقبيل و الزيارة و ما يضاهيهما من وجوه التعظيم لا تكون شركا بأي وجه من الوجوه،و بأي داع من الدواعي،و لو كان كذلك لكان تعظيم الحي من الشرك أيضا،إذ لا فرق بينه و بين الميت من هذه الجهة-و لا يلتزم ابن تيمية و أتباعه بهذا-و للزم نسبة الشرك إلى الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و حاشاه فقد كان يزور القبور،و يسلم على أهلها،و يقبل الحجر الأسود كما سبق و على هذا فيدور الأمر بين الحكم بأن بعض الشرك جائز لا محذور فيه،و بين أن يكون التقبيل و التعظيم-لا بعنوان العبودية-خارجا عن الشرك و حدوده،و حيث أنه لا مجال للأول لظهور بطلانه فلا بد و أن يكون الحق هو الثاني،فإذا تكون الأمور المذكورة داخلة في عبادة اللّه و تعظيمه:
وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ «22:32».
ص: 474
و قد مرت الروايات الدالة على استحباب زيارة قبر النبي و أولياء الله الصالحين.
لقد اتضح مما قدمنا أن الخضوع لأىّ مخلوق إذا نهى عنه في الشريعة لم يجز فعله، و إن لم يكن على نحو التأله،و من هذا القبيل السجود لغير اللّه،فقد أجمع المسلمون على حرمة السجود لغير الله،قال عزّ من قائل:
لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لا لِلْقَمَرِ وَ اسْجُدُوا لِلّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ «41:37».
فإن المستفاد منه أن السجود مما يختص بالخالق،و لا يجوز للمخلوق و قال تعالى:
وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً «72:18».
و دلالة هذه الآية الكريمة على المقصود مبنية على أن المراد بالمساجد المساجد السبعة،و هي الأعضاء التي يضعها الإنسان على الأرض في سجوده و هذا هو الظاهر،و يدل عليه المأثور (1)و كيف كان فلا ريب في هذا الحكم و أنه لا يجوز السجود لنبي أو وصي فضلا عن غيرهما.
و أما ما ينسب إلى الشيعة الإمامية من أنهم يسجدون لقبور أئمتهم،فهو بهتان محض،و لسوف يجمع الله بينهم و بين من افترى عليهم و هو أحكم الحاكمين و لقد أفرط بعضهم في الفرية،فنسب إليهم ما هو أدهى و أمض،و ادّعى أنهم يأخذون
ص: 475
التراب من قبور أئمّتهم،فيسجدون له سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم (1)و هذه كتب الشيعة.قديمها و حديثها مطبوعها و مخطوطها،و هي منتشرة في أرجاء العالم متفقة على تحريم السجود لغير الله،فمن نسب إليهم جواز السجود للتربة فهو إما مفتر يتعمد البهت عليهم،و إما غافل لا يفرق بين السجود لشىء و السجود عليه.
و الشيعة يعتبرون في سجود الصلاة أن يكون على أجزاء الأرض الأصلية:من حجر أو مدر أو رمل أو تراب،أو على نبات الأرض غير المأكول و الملبوس و يرون أن السجود على التراب أفضل من السجود على غيره،كما أن السجود على التربة الحسينية أفضل من السجود على غيرها.و في كل ذلك اتبعوا أئمة مذهبهم الأوصياء المعصومين (2)و مع ذلك كيف تصح نسبة الشرك إليهم و أنهم يسجدون لغير الله. (3)
و التربة الحسينية ليست إلا جزء من أرض الله الواسعة التي جعلها لنبيه مسجدا و طهورا (4)و لكنها تربة ما أشرفها و أعظمها قدرا،حيث تضمنت ريحانة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و سيد شباب أهل الجنة من فدى بنفسه و نفيسه و نفوس عشيرته و أصحابه في سبيل الدين و إحياء كلمة سيد المرسلين.و قد وردت من الطريقين في فضل هذه التربة عدة روايات عن رسول اللّه (5)و هب أنه لم يرد عن رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لا عن أوصيائه ما يدل على فضل هذه التربة،أ فليس من الحق أن يلازم المسلم هذه التربة،و يسجد عليها في مواقع السجود؟فإن في السجود عليها-بعدت.
ص: 476
كونها مما يصح السجود عليه في نفسه-رمزا و إشارة إلى أن ملازمها على منهاج صاحبها الذي قتل في سبيل الدين و إصلاح المسلمين.
بقي الكلام في سجود الملائكة لآدم،و كيف جاز ذلك؟مع أن السجود لا يجوز لغير الله،و قد أجاب العلماء عن ذلك بوجوه:
إن سجود الملائكة هنا بمعنى الخضوع،و ليس بمعنى السجود المعهود.
و يرده:ان ذلك خلاف الظاهر من اللفظ،فلا يصار اليه من غير قرينة،و ان الروايات قد دلت على أن ابن آدم إذا سجد لربه ضجر إبليس و بكى،و هي دالة على أن سجود الملائكة الذي أمرهم الله به،و استكبر عنه إبليس كان بهذا المعنى المعهود،و لذلك يضجر إبليس و يبكي من إطاعة ابن آدم للأمر و عصيانه هو من قبل.
إن سجود الملائكة كان لله،و إنما كان آدم قبلة لهم،كما يقال:صلّى للقبلة أي إليها.و قد أمر هم الله بالتوجه إلى آدم في سجودهم تكريما له و تعظيما لشأنه.
و يردّه:أنه تأويل ينافيه ظاهر الآيات و الروايات،بل ينافيه صريح الآية المباركة.فإن إبليس إنما أبى عن السجود بادعاء أنه أشرف من آدم،فلو كان السجود لله،و كان آدم قبلة له لما كان لقوله:
أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً «17:61».
ص: 477
معنى لجواز أن يكون الساجد أشرف مما يستقبله.
إن السجود لآدم حيث كان بأمر من الله تعالى فهو في الحقيقة خضوع لله و سجود له.
و بيان ذلك:ان السجود هو الغاية القصوى للتذلل و الخضوع،و لذلك قد خصّه الله بنفسه،و لم يرخص عباده أن يسجدوا لغيره،و إن لم يكن السجود بعنوان العبودية من الساجد،و الربوبية للمسجود له.غير أن السجود لغير الله إذا كان بأمر من الله كان في الحقيقة عبادة له و تقربا اليه،لأنه امتثال لأمره،و انقياد لحكمه،و إن كان في الصورة تذللا للمخلوق.و من أجل ذلك يصح عقاب المتمرد عن هذا الأمر، و لا يسمع اعتذاره بأنه لا يتذلل للمخلوق،و لا يخضع لغير الآمر. (1)
و هذا هو الوجه الصحيح:فإن العبد يجب أن لا يرى لنفسه استقلالا في أموره،بل يطيع مولاه من حيث يهوى و يشتهي.فإذا أمره بالخضوع لأحد وجب عليه أن يمتثله،و كان خضوعه حينئذ خضوعا لمولاه الذي أمره به (2).
و نتيجة ما قدمناه:
أنه لا بد في كل عمل يتقرب به العبد إلى ربه من أن يكون مأمورا به من قبله بدليل خاص أو عام.و إذا شك في أن ذلك العمل مأمور به كان التقرب به تشريعا محرما بالأدلة الأربعة.نعم إن زيارة القبور و تقبيلها و تعظيمها مما ثبت بالعمومات،و بالروايات الخاصة من طرق أهل البيت عليهم السّلام الذين جعلهم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قرناء للكتاب
ص: 478
في قوله:«إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله و عترتي أهل بيتي». (1)و تؤكد جوازها أيضا سيرة المسلمين و جريهم عليها من السلف و الخلف،و ما قدمناه من الروايات عن طرق أهل السنة.
تنبيه:إذا نهي عن خضوع خاص لغير الله كالسجود،أو عن عبادة خاصة كصوم العيدين،و صلاة الحائض،و الحج في غير الأشهر الحرم كان الآتي به مرتكبا للحرام و مستحقا للعقاب،إلا أنه لا يكون بذلك الفعل مشركا و لا كافرا،فليس كل فعل محرم يقتضي شرك مرتكبه أو كفره.
و قد عرفت أن الشرك إنما هو الخضوع لغير الله بما أن الخاضع عبد و المخضوع له رب،فمن تعمّد السجود لغير الله بغير قصد العبودية لم يخرج بعمله هذا المحرم عن زمرة المسلمين،فإن الإسلام يدور مدار الإقرار بالشهادتين،و بذلك يحرم ماله و دمه.
و الروايات الدالة على هذا متواترة من الطريقين (2)،و مع ذلك كيف يجوز الحكم بشرك من زار قبر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أوصيائه عليهم السّلام متقربا إلى الله و هو يشهد الشهادتين:
وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً «4:94».
و لسوف يحكم الله بين عباده بالحق و هو أحكم الحاكمين.
ص: 479
العبادة فعل اختياري،فلا بد لها من باعث نفساني يبعث نحوها،و هو أحد امور:
1-أن يكون الداعي لعبادة الله هو طمع الإنسان في إنعامه،و بما يجزيه عليها من الأجر و الثواب،حسبما وعده في كتابه الكريم:
وَ مَنْ يُطِعِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ 4:13. وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ 5:9).
2-أن يكون الداعي للعبادة هو الخوف من العقاب على المخالفة:
إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ 10:15. إِنّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً 76:10).
و قد أشير إلى كلا الأمرين في عدة من الآيات الكريمة:
تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً 32:16. وَ ادْعُوهُ خَوْفاً وَ طَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ 7:56. يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ يَخافُونَ عَذابَهُ 17:57).
3-أن يعبد الله بما أنه أهل لأن يعبد،فإنه الكامل بالذات و الجامع لصفات الجمال و الجلال.و هذا القسم من العبادة لا يتحقق إلا ممن اندكت نفسيته فلم ير لذاته إنية إزاء خالقه،ليقصد بها خيرا،أو يحذر لها من عقوبة،و إنما ينظر إلى صانعه و موجده و لا يتوجه إلا اليه،و هذه مرتبة لا يسعنا التصديق ببلوغها لغير المعصومين عليهم السّلام الذين أخلصوا لله أنفسهم فهم المخلصون الذين لا يستطيع
ص: 480
الشيطان أن يقترب من أحدهم:
وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ 15:39. إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ :40).
قال أمير المؤمنين و سيد الموحدين صلوات الله عليه:«ما عبدتك خوفا من نارك،و لا طمعا في جنتك،و لكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك» (1).
و أما سائر العباد فتنحصر عبادتهم في أحد القسمين الأولين،و لا يسعهم تحصيل هذه الغاية.و بذلك يظهر بطلان قول من أبطل العبادة إذا كانت ناشئة عن الطمع أو الخوف،و اعتبر في صحة العبادة أن تكون لله بما هو أهل للعبادة و وجه بطلان هذا القول:أن عامة البشر غير المعصومين لا يتمكنون من ذلك فكيف يمكن تكليفهم به! و هل هو إلا تكليف بما لا يطاق؟! أضف إلى ذلك أن الآيتين الكريمتين المتقدمتين قد دلّتا على صحة العبادة إذا صدرت عن خوف أو طمع.فقد مدح الله سبحانه من يدعوه خوفا أو طمعا و ذلك يقتضي محبوبية هذا العمل و أنه مما أمر به الله تعالى و أنه يكفي في مقام الامتثال.و قد ورد عن المعصومين عليهم السّلام ما يدل على صحة العبادة إذا كانت ناشئة من خوف أو طمع. (2).
و قد أوضحنا-فيما تقدم-أن الآيات السابقة من هذه السورة قد حصرت الحمد في الله تعالى من جهة كماله الذاتي،و من جهة ربوبيته و رحمته،و من جهة سلطانه و قدرته،فتكون فيها إشارة إلى مناشئ العبادة و دواعيها أيضا،فالعبادة إما ناشئة من إدراك العابد كمال المعبود و استحقاقه العبادة بذاته و هي عبادة الأحرار،و إما منت.
ص: 481
إدراكه إنعام المعبود و إحسانه و طمعه في ذلك و هي عبادة الاجراء،و إما من إدراكه سطوته و قهره و عقابه و هي عبادة العبيد.
لا مانع من استعانة الإنسان في مقاصده بغير الله من المخلوقات أو الأفعال قال الله تعالى:
وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ 2:45. وَ تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى 5:2. قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ 18:95).
و إذن فليست الاستعانة بمطلقها تنحصر بالله سبحانه بل المراد منها استمداد القدرة على العبادة منه تعالى،و الاستزادة من توفيقه لها حتى تتم و تخلص و الغرض من ذلك اثبات أن العبد في أفعاله الاختيارية وسط بين الجبر و التفويض فان الفعل يصدر عن العبد باختياره،و لذلك أسند الفعل اليه في قوله تعالى: إِيّاكَ نَعْبُدُ إلا أن هذا الفعل الاختياري من العبد إنما يكون بعون الله له و بإمداده إياه بالقدرة آنا فآنا: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ بحيث لو انقطع المدد عنه في آن لم يستطع إتمام الفعل،و لم تصدر منه عبادة و لا حسنة.
و هذا هو القول الذي يقتضيه محض الإيمان،فان الجبر يلزمه أن يكون العقاب على المعاصي عقابا للعبد من غير استحقاق،و هذا ظلم بيّن:
سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً «17:43».
و إن التفويض يلزمه القول بخالق غير الله فان معناه أن العبد مستقل في أفعاله،و أنه خالق لها،و مرجع هذا إلى تعدد الخالق و هو شرك بالله العظيم و الإيمان الحق
ص: 482
بالله هو الحد الوسط بين الإفراط و التفريط،فالفعل فعل العبد و هو فاعله باختياره، و لذلك استحق عليه الثواب أو العقاب،و الله سبحانه هو الذي يفيض على العبد الحياة و القدرة و غيرهما من مبادئ الفعل إفاضة مستمرة غير منقطعة،فلا استقلال للعبد،و لا تصرف له في سلطان المولى،و قد أوضحنا هذا في بحثنا عن إعجاز القرآن (1).
هذه هي الاستعانة المنحصرة بالله تعالى،فلو لا الإفاضة الإلهية لما وجد فعل من الأفعال و لو تظاهرت الجن و الإنس على إيجاده،فإن الممكن غير مستقل في وجوده، فيستحيل أن يكون مستقلا في إيجاده،و بما ذكرناه يظهر الوجه في تأخير جملة:
إِيّاكَ نَسْتَعِينُ عن قوله: إِيّاكَ نَعْبُدُ فإنه تعالى حصر العبادة بذاته أولا، فالمؤمنون لا يعبدون إلا الله،ثم أبان لهم أن عباداتهم إنما تصدر عنهم بعون الله و إقداره،فالعبد رهين إفاضة الله و مشيئته،و الله أولى بحسنات العبد من نفسه،كما أن العبد أولى بسيئاته من الله (2).
تدل الآيات المباركة على أن الله سبحانه هو الكافل بامور عبيده،و أنه الذي بيده الأمر،يدبر شئون عبده و يوجهه إلى كماله برحمته،و هو قريب منه،يسمع نداءه و يجيب دعاءه:
أَ لَيْسَ اللّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ 39:36. وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ «2:186».
ص: 483
و على هذا فليس لمخلوق أن يستشفع بمخلوق مثله،و يجعله واسطة بينه و بين ربه،ففي ذلك تبعيد للمسافة،بل و فيه إظهار للحاجة إلى غير الله و ما ذا يصنع محتاج بمحتاج مثله؟و ما ذا ينتفع العاصي بشفاعة من لا ولاية له و لا سلطان؟بل:
لِلّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ 30:4. قُلْ لِلّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ 39:44 .
هذا كله إذا لم تكن الشفاعة بإذن من الله سبحانه،و أما إذا أذن الله بالشفاعة لأحد فإن الاستشفاع به يكون نحوا من الخضوع لله و التعبد له،و يستفاد من القرآن الكريم أن الله تعالى قد أذن لبعض عباده بالشفاعة،إلا أنه لم ينوّه بذكر هم عدا الرسول الأكرم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،فقد قال الله تعالى:
و لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً 19:87. يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ 20:109. وَ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ 34:23. وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِيماً 4:64.
و الروايات الواردة عن النبي الأكرم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عن أوصيائه الكرام عليهم السّلام في هذا الموضوع متواترة.
أما الروايات من طريق الشيعة الامامية فهي أكثر من أن تحصى،و أمر الشفاعة عندهم أوضح من أن يخفى،و نكتفي بذكر رواية واحدة منها:
ص: 484
روى البرقي في المحاسن بإسناده عن معاوية بن وهب،قال:
«سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه تبارك و تعالى:
لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ قالَ صَواباً «78:38».
قال:نحن و اللّه المأذون لهم في ذلك،و القائلون صوابا، قلت:جعلت فداك و ما تقولون إذا تكلمتم؟قال:نمجّد ربّنا، و نصلي على نبيّنا،و نشفع لشيعتنا فلا يردّنا ربّنا». (1)
و روى محمد بن يعقوب في الكافي بإسناده،عن محمد بن الفضيل،عن أبي الحسن الماضي عليه السّلام مثله» (2).
و أما الروايات من طرق أهل السنة فهي أيضا كثيرة متواترة (3)نتعرض لذكر بعضها:
1-روى يزيد الفقير،قال:أخبرنا جابر بن عبد اللّه أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال:
«أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي،نصرت بالرعب مسيرة شهر،و جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا..و أحلت لي الغنائم و لم تحل لأحد قبلي،و أعطيت الشفاعة...» (4).
ص: 485
2-روى أنس بن مالك،قال:«قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنا أول شفيع في الجنة» (1).
3-روى أبو هريرة قال:«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لكل نبي دعوة و أردت إن شاء اللّه أن أختبئ دعوتي شفاعة لامتي يوم القيامة» (2).
4-و روى أيضا قال:«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنا سيد ولد آدم عليه السّلام يوم القيامة، و أول من ينشق عنه القبر،و أول شافع،و أول مشفع» (3).
5-و روى أيضا،قال:«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الشفعاء خمسة:القرآن، و الرحم،و الأمانة،و نبيكم،و أهل بيته» (4).
6-روى عبد اللّه بن أبي الجدعاء قال:«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يدخل الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من بني تميم»و رواه الترمذي و الحاكم (5).
و من هذه الروايات يستكشف أن الاستشفاع بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بأهل بيته الكرام عليهم السّلام أمر ندب اليه الشرع،فكيف يعدّ ذلك من الشرك؟عصمنا اللّه من متابعة الهوى و زلل الأقدام و الأقلام.2.
ص: 486
تحليل آية
اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ الضّالِّينَ (7)
المعروف قراءة«غير»بالجر،و نقل الزمخشري أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عمر قرءا بالنصب،و الصحيح هو الأول،فإن قراءة النصب عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمن تثبت و كذلك لم تثبت عن عمر،على أنها لو ثبتت عنه فهي ليست بحجة،فقد أوضحنا أن قراءة غير المعصوم إنما يعبأ بها إذا كانت من القراءات المشهورة،و إلا فهي شاذة لا تجزي للامتثال.
و المعروف أيضا قراءة اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ الضّالِّينَ و نسب إلى علي عليه السّلام و إلى عمر قراءة«من أنعمت عليهم و غير الضالين» أما قراءة علي عليه السّلام بذلك فلم تثبت،بل الثابت عدمها،فلو كانت قراءته هي ذلك، لشاع خبرها بين شيعته،و لأقرّها الأئمة من بعده،مع أنها لم تنقل حتى بخبر رجل
ص: 487
واحد يعتمد عليه،و مثل هذا يقال في نسبة قراءة«غير»بالنصب إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أما قراءة عمر فقد عرفت الحال فيها.
الهداية:
الإرشاد و الدلالة،و الهدى ضد الضلال،و ستقف على بيان هداية اللّه للناس و إرشادهم.
الصراط:
الطريق و هو ما يتوصل بالسير فيه إلى المقصود،و قد يكون غير حسّي فيقال:
الاحتياط طريق النجاة،و إطاعة اللّه طريق الجنة،و إطلاقه على الطريق غير الحسي إما لعموم المعنى اللغوي و إما من باب التشبيه و الاستعارة.
الاستقامة:
الاعتدال،و هو ضد الانحراف إلى اليمين أو الشمال، و«الصراط المستقيم»هو الصراط الذي يصل بسالكه إلى النعيم الأبدي،و إلى رضوان اللّه،و هو أن يطيع المخلوق خالقه،و لا يعصيه في شىء من أوامره و نواهيه،و أن لا يعبد غيره،و هو الصراط الذي لا عوج فيه،قال اللّه تعالى:
وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ 42:52. صِراطِ اللّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ :53. وَ هذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً 6:126. إِنَّ اللّهَ
ص: 488
رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ 3:51. وَ أَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ 36 61. وَ بِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ 6:152. وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ :153).
و بما أن عبادة اللّه لا تنحصر في نوع معين،بل تعم أفعال الجانحة و أفعال الجارحة على كثرتها فقد يلاحظ المعنى العام الشامل لهذه الأفعال كلها،فيعبر عنه باللفظ المفرد كالصراط المستقيم،و الصراط السويّ،و قد تلاحظ الأنواع على كثرتها من الإيمان باللّه و برسوله و بالمعاد،و من الصلاة و الصيام و الحج و ما سوى ذلك،فيعبر عنها بالجمع.
قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ 5:15. يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ :16. وَ ما لَنا أَلاّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ وَ قَدْ هَدانا سُبُلَنا 14:12 وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا 29:69).
الإنعام:
الإفضال بالنعمة و زيادتها،و من أنعم اللّه عليهم هم الذين سلكوا«الصراط المستقيم»و لم يمل بهم الهوى إلى طاعة الشيطان،و لذلك قد فازوا بالحياة الدائمة و السعادة الأبدية،و فوق ذلك كله فازوا برضوان من اللّه:
وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنّاتِ عَدْنٍ وَ رِضْوانٌ مِنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 9:73».
ص: 489
الغضب:
السخط،و تقابله الرحمة،و المغضوب عليهم هم الذين توغلوا في الكفر و عندوا عن الحق،و نبذوا آيات اللّه،وراء ظهورهم،و لا يراد به مطلق الكافر:
وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّهِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ «16:106».
الضلال:
التيه و يقابله الهدى،و الضالّون هم الذين سلكوا غير طريق الهدى فأفضى بهم إلى الهلاك الأبدي و العذاب الدائم،و لكنهم دون المغضوب عليهم في شدة الكفر، لأنهم و إن ضلوا الطريق المستقيم عن تقصير في البحث و الفحص،إلا أنهم لم يعاندوا الحق بعد وضوحه،و قد ورد في المأثور أن المغضوب عليه هم اليهود،و الضالين هم النصارى.و قد تقدم (1)أن الآيات القرآنية لا تختص بمورد،و أن كل ما يذكر لها من المعاني فهو من باب تطبيق الكبرى.
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ بدل من جملة اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ أو صفة للذين و ذلك:أن نعمة اللّه كرحمته قد وسعت جميع البشر،فمنهم من شكر،و منهم من كفر:
أَ لَمْ تَرَوْا أَنَّ اللّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لا هُدىً وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍ «31:30».
ص: 490
و إذا ففي توصيف من أنعم اللّه عليهم بأنهم غير المغضوب عليهم و لا الضالين تقييد لإطلاقه،و تضييق لسعته،فلا يشمل هؤلاء الذين لم يؤدوا شكر النعمة، و يكون مدلول الآية أن العبد يطلب من اللّه الهداية إلى طريق سلكه فريق خاص من الذين أنعم اللّه عليهم و هم الذين لم يبدّلوا نعمة اللّه كفرا،فحازوا بإطاعتهم و استقامتهم نعمة الآخرة كما كانوا حائزين نعمة الدنيا،فاتصلت لهم السعادة في الدنيا و العقبى،و نظير الآية المباركة أن يقال:يجوز اقتناء كل كتاب غير كتب الضلال،و على ذلك فلا موقع لقول بعضهم:إن كلمة غير متوغلة في الإبهام و لا تعرف بما تضاف اليه فلا يصح جعلها صفة للمعرفة و لا لما ذكروه جوابا عن ذلك.
و خلاصة القول:إن الحكم المذكور في القضية-خبرية كانت أو إنشائية-إذا كان عاما لجميع الأفراد،فإنه يصح تخصيصه متى أريد ذلك-بكلمة غير،كما يصح تخصيصه بغيرها،فتقول:جاءني جميع أهل البلد،أو أكرم جميعهم غير الفاسقين.
«الضالين»:عطف على المغضوب عليهم:و أتي بكلمة«لا»تأكيدا للنفي لئلا يتوهم السامع أن المنفي هو المجموع،و كلمة«غير»تدل على النفي التزاما فاجري عليها حكم غيرها من دوالّ النفي.تقول:جالس رجلا غير فاسق و لا سيّئ الخلق،أعبد اللّه بغير كسل و لا ملل،و توهم بعض مقاربي عصرنا عدم جواز ذلك فأتعب نفسه في توجيه الآية المباركة و لم يأت بشيء،و اعترف بعجزه عن الجواب.
و بعد أن لقّن اللّه عبيده أن يعترفوا بين يديه بالتوحيد في العبادة و الاستعانة لقّنهم أن يطلبوا منه الهداية إلى الصراط المستقيم.و قد اشتملت هذه السورة الكريمة في
ص: 491
بدايتها على تمجيد اللّه سبحانه،و الثناء عليه بما هو أهله و اشتملت في نهايتها على سؤال الهداية منه.و بين تلك البداءة و هذه الخاتمة أنزل اللّه تعالى قوله: إِيّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ فهو نتيجة للتمجيد السابق و توطئة للسؤال اللاحق،فإن في التمجيد السابق ملاك حصر العبادة و الاستعانة به تعالى فالمستحق للعبادة إنما هو اللّه بذاته برحمته و سلطانه،و غيره لا يستحق أن يعبد أو يستعان به.
و إذا كانت العبادة و الاستعانة منحصرتين باللّه سبحانه فلا مناص للعبد من أن يدعو ربه الذي حصر عبادته و استعانته به.و من هنا ورد عن الطريقين«أن اللّه تبارك و تعالى قد جعل هذه السورة نصفين:نصف له و نصف لعبده،فإذا قال العبد:
الحمد للّه رب العالمين،يقول اللّه تعالى:مجّدني عبدي،و إذا قال:اهدنا الصراط المستقيم،قال اللّه تعالى:هذا لعبدي و لعبدي ما سأل» (1).
ثم إنك عرفت أن الطريق التي يسلكها البشر في أعمالهم و إيمانهم ثلاثة:
أحدها:الطريق الذي مهّده اللّه لعباده،يسلكه من هداه اللّه إليه بفضله و إحسانه.
ثانيها:الطريق الذي يسلكه الضالّون.
ثالثها:الطريق الذي يسلكه المغضوب عليهم.و قد بيّن اللّه سبحانه مغايرة الطريق المستقيم للطريقين الآخرين ببيان أن سالكي هذا الطريق غير سالكي ذينك الطريقين.و بذلك بيّن أن من اجتنب الطريق المستقيم فلا مناص له من الخذلان،إما بضلاله فحسب و إما بضلاله مع استحقاقه الغضب الإلهي.أعاذنا اللّه من الخذلان و هدانا إلى صراطه المستقيم.ب.
ص: 492
حول آية اهدنا
ص: 493
-الهداية بمعنى الاستمرار.
-الهداية بمعنى الثواب.
-الهداية بمعنى الاستزادة منها.
ص: 494
ذكر المفسرون:أن من يطلب الهداية من اللّه لا بد و أن يكون فاقدا لها،فكيف يطلبها المسلم الموحد في صلاته،و أجابوا عنه بوجوه:
1-أن يراد بالهداية:الاستمرار عليها،فبعد ما منّ اللّه تعالى على المصلي بهدايته إلى الإيمان يطلب منه الاستمرار و الثبات على هذه النعمة لئلا تزل له قدم بعد ثبوتها.
2-أن يراد بالهداية:الثواب فمعناه اهدنا طريق الجنة ثوابا لنا.
3-أن يراد بالهداية:زيادتها فإن الهداية قابلة للزيادة و النقصان،فمن كان واجدا لمرتبة منها جاز أن يطلب مرتبة أكمل منها.
و كل هذه الوجوه استحسانية تخالف ما يقتضيه ظاهر الآية المباركة و الصحيح أن يقال:إن الهداية التي يطلبها المسلم في صلاته هي هداية غير حاصلة له،و إنما يطلب حصولها من ربه فضلا منه و رحمة.
و توضيح ذلك:إن الهداية من اللّه تعالى على قسمين:هداية عامة و هداية خاصة،و الهداية العامة قد تكون تكوينية،و قد تكون تشريعية،أما الهداية العامة
ص: 495
التكوينية فهي التي أعدها اللّه تعالى في طبيعة كل موجود سواء أ كان جمادا أم كان نباتا أو حيوانا،فهي تسري بطبعها أو باختيارها نحو كمالها،و اللّه هو الذي أودع فيها قوة الاستكمال،أ لا ترى كيف يهتدي النبات إلى نموه،فيسير إلى جهة لا صادّ له عن سيره فيها،و كيف يهتدي الحيوان فيميز بين من يؤذيه و من لا يؤذيه؟ فالفأرة تفرّ من الهرة،و لا تفرّ من الشاة،و كيف يهتدي النمل و النحل إلى تشكيل جمعية و حكومة و بناء مساكن!و كيف يهتدي الطفل إلى ثدي أمه،و يرتضع منه في بدء ولادته:
قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى «20:50».
و أما الهداية العامة التشريعية فهي الهداية التي بها هدى اللّه جميع البشر بإرسال الرسل إليهم و إنزال الكتب عليهم،فقد أتمّ الحجة على الإنسان بإفاضته عليه العقل و تمييز الحق من الباطل،ثم بإرساله رسلا يتلون عليهم آياته،و يبينون لهم شرائع أحكامه،و قرن رسالتهم بما يدل على صدقها من معجز باهر،و برهان قاهر،فمن الناس من اهتدى،و منهم من حق عليه الضلالة:
إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً «76:3».
و أما الهداية الخاصة،فهي هداية تكوينية،و عناية ربانية خصّ اللّه بها بعض عباده حسب ما تقتضيه حكمته،فيهيّئ له ما به يهتدي إلى كماله و يصل إلى مقصوده،و لو لا تسديده لوقع في الغي و الضلالة،هذا و قد أشير إلى هذا القسم من الهداية في غير واحد من الآيات المباركة،قال عزّ من قائل:
فَرِيقاً هَدى وَ فَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ 7:30. قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ 6:149. لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَ لكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ 2:272.
ص: 496
إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ 6:144. وَ اللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ 2:213. إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ 28:/56 وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا 29:69. فَيُضِلُّ اللّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ 14:4).
إلى غير ذلك من الآيات التي يستفاد منها اختصاص هداية اللّه تعالى و عنايته الخاصة بطائفة خاصة دون بقية الناس،فالمسلم بعد ما اعترف بأن اللّه قد منّ عليه بهدايته هداية عامة تكوينية و تشريعية طلب من اللّه تعالى أن يهديه بهدايته الخاصة التكوينية التي يختص اللّه بها من يشاء من عباده.
و صفوة القول:أن البشر بطبعه في معرض الهلاك و الطغيان فلا بد للمسلم الموحّد أن لا يتكل على نفسه بل يستعين بربه،و يدعوه لهدايته،ليسلك به الجادة الوسطى فلا يكون من المغضوب عليهم،و لا من الضالين.
ص: 497
ص: 498
ص: 499
-مصادر حديث الثقلين.
-ترجمة الحارث و افتراء الشعبي عليه.
-مصادر حديث لتركبنّ سنن من قبلكم.
-محادثة بين المؤلف و حبر يهودي.
-ترجمة القرآن و شروطها.
-قصة قريش في محاولتهم تعجيز النبي.
-تحريف رواية في صحيح البخاري.
-رأي محمد عبده في الطلاق الثلاث.
-اختلاق الرازي نسبة الجهل إلى اللّه على لسان الشيعة.
-أحاديث مشيئة اللّه.
-أحاديث إن الدعاء يغير القضاء.
-أهمية آية البسملة.
-معرفة بدء الخليقة في كتاب التكوين.
-أحاديث إن البسملة جزء من القرآن.
-قصة نسيان معاوية لقراءة البسملة.
-قراءة النبي البسملة و توجيه رواية أنس.
-ابن تيمية و نقله أحاديث جواز زيارة القبور.
-تهمة الآلوسي للشيعة.
-حوار بين المؤلف و عالم حجازي -فضيلة تربة الحسين 7.
-تأويل آية السجود بالكشف.
-حديث إبليس مع اللّه.
-الإسلام يدور مدار الشهادتين.
-العبادة و أقسام دوافعها.
-الأمر بين الأمرين و الحسنات و السيئات.
-مصادر:رواية الشفاعة.
ص: 500
ص 18
مصادر:
حديث الثقلين
روى-حديث الثقلين-أحمد في الجزء 3 من مسنده ص 14،17،26،59 عن أبي سعيد الخدري.و رواه الدارمي في كتاب فضائل القرآن الجزء 2 ص 431، و أحمد في الجزء 4 من مسنده:ص 366،371 عن زيد بن أرقم.و رواه أحمد في الجزء 5 ص 182،189 عن زيد بن ثابت.
و رواه جلال الدين السيوطي في«جامعه الصغير»عن الطبراني عن زيد بن ثابت و صححه.و قال العلاّمة المناوي في شرحه الجزء 3 ص 15:قال الهيثمي:
«رجاله موثقون».
و رواه أيضا أبو يعلى بسند لا بأس به،و الحافظ عبد العزيز بن الأخضر و زاد أنه قال في حجة الوداع«و وهم من زعم وضعه كابن الجوزي»قال السمهودي«و في الباب ما يزيد على عشرين من الصحابة».
و رواه الحاكم في«المستدرك الجزء 3 ص 109»عن زيد بن أرقم و صححه و لم يعقبه الذهبي.و في ألفاظ الروايات اختلاف في التعبير لكنها متفقة في المقصود.
- - -
ص: 501
ص 18
ترجمة الحارث
و افتراء الشعبي عليه
هو الحارث بن عبد اللّه الأعور الهمداني،و قد اتفقت كلمات علماء الإمامية على أنه من أعاظم أصحاب أمير المؤمنين عليه السّلام و على نزاهته و مكانته السامية،و و صفوه بالورع و التقوى،و القيام بخدمة سيده أمير المؤمنين عليه السّلام.
و نص على توثيقه الأعلام في كتبهم الرجالية و غيرها،و ذكر غير واحد من أكابر علماء السنة الحارث فأثنى عليه.قال ابن حجر العسقلاني في«تهذيب التهذيب» في ترجمة الحارث:قال الدوري عن ابن معين:«الحارث قد سمع من ابن مسعود و ليس به بأس».و قال عثمان الدارمي عن ابن معين:«ثقة».و قال أشعث بن سوار،عن ابن سيرين:«أدركت الكوفة و هم يقدمون خمسة،من بدأ بالحارث ثنى بعبيدة،و من بدأ بعبيدة ثنى بالحارث».و قال ابن أبي داود:«كان الحارث أفقه الناس،و أحسب الناس،و أفرض الناس،تعلم الفرائض من علي».
و قال أبو جعفر الطبري في المنتخب من كتاب«ذيل المذيل»تحت عنوان من هلك سنة 161:«و كان الحارث من مقدمي أصحاب أمير المؤمنين عليه السّلام و عبد اللّه في الفقه و العلم بالفرائض و الحساب».
قال الذهبي في ترجمة الحارث،و حديث الحارث في السنن الأربعة،و النسائي مع تعنته في الرجال فقد احتج به و قوى أمره و كان من أوعية العلم.قال مرّة بن خالد
ص: 502
أنبأنا محمد بن سيرين قال:«كان من أصحاب ابن مسعود خمسة يؤخذ عنهم، أدركت منهم أربعة و فاتني الحارث فلم أره،و كان يفضل عليهم و كان أحسنهم».
أقول:قد شاء التعصب و الهوى أن يقول الشعبي:«حدثني الحارث الأعور و كان كذابا»و ان يتابعه جماعة على رأيه.
قال أبو عبد اللّه القرطبي في الجزء الأول من تفسيره ص 5:«الحارث رماه الشعبي بالكذب و ليس بشيء و لم يبين من الحارث كذب،و إنما نقم عليه إفراطه في حب علي عليه السّلام و تفضيله له على غيره،و من هاهنا-و اللّه أعلم-كذبه الشعبي لأن الشعبي يذهب إلى تفضيل أبي بكر و إلى أنه أول من أسلم».
قال ابن حجر في ترجمة الحارث:و قد فسر ابن عبد البر في كتاب«العلم»السر في طعن الشعبي على الحارث فقال:«إنما نقم عليه لإفراطه في حب علي عليه السّلام،و أظن أن الشعبي عوقب على تكذيبه الحارث لأنه لم تبن منه كذبة أبدا».
و قال ابن شاهين في الثقات:قال أحمد بن صالح المصري:«الحارث الأعور ثقة ما أحفظه و ما أحسن ما روى عن علي و أثنى عليه،قيل له فقد قال الشعبي:كان يكذب،قال:لم يكن يكذب في الحديث إنما كان كذبه في رأيه».
بربك أخبرني أيها الناقد البصير هل يجوز في شريعة العلم؟أو هل يسوّغ الدين نسبة الفاحشة إلى المسلم،و قذفه بالكذب بمجرد ولائه لأمير المؤمنين عليه السّلام و تفضيله إياه على غيره؟أ ليس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هو الذي جاهر بتفضيل علي عليه السّلام على غيره، حتى جعله منه بمنزلة هارون من موسى و أثبت له خصالا لم يحظ بمثلها رجل من الصحابة،و قد شهد بذلك-على ما رواه الحاكم في المستدرك[لجزء 3 ص 108] سعد بن أبي وقاص أمام معاوية حين حمله على سبه فقال:«كيف أسب رجلا
ص: 503
كانت له خصال من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،لو أن لي واحدة منها لكان أحب إليّ من حمر النعم»ثم ذكر قصة الكساء،و حديث المنزلة و إعطاء الراية له في يوم خيبر،و لم يكتف نبي الإسلام صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بذلك حتى أعلم الامة بمنزلة الرفيعة-كما في نفس المصدر ص 108-فقال لعلي:«من أطاعني فقد أطاع اللّه،و من عصاني فقد عصى اللّه، و من أطاعك فقد أطاعني،و من عصاك فقد عصاني»،و غير ذلك من فضائله التي لا تعد و لا تحصى.
نعم ليس من الغريب أن يفتري الشعبي على الحارث،و يصفه بالكذب فقد كان من صنايع الأمويين يرتع في دنياهم،و يسير على رغباتهم،فقد بعثه عبد الملك بن مروان-كما في كتاب النجوم الزاهرة الجزء 1 ص 208-إلى مصر بسبب البيعة للوليد بن عبد الملك،ثم تولى المظالم بالكوفة-كما في كتاب الأغاني الجزء 2 ص 120-من قبل بشر بن مروان أيام ولايته عليها من قبل عبد الملك،ثم تولى القضاء -كما في تاريخ الطبري الجزء 5 ص 310 الطبعة الثانية-من قبل عمر بن عبد العزيز في الكوفة،فهو مرواني النزعة،يقول و يفعل بما يشاء له الهوى،لا يتحرج من كذبه،و لا يتبرم من خطل.
ذكر أبو الفرج في الأغاني الجزء 1 ص 121 عن الحسن بن عمر الفقيمي قال:
«دخلت على الشعبي فبينا أنا عنده في غرفته إذ سمعت صوت غناء فقلت أ هذا في جوارك؟فأشرف بي على منزله فإذا بغلام كأنه قمر و هو يتغنى...قال فقال لي الشعبي:أ تعرف هذا؟قلت:لا:فقال:هذا الذي أوتي الحكم صبيا،هذا ابن سريج».
و ذكر أيضا في الجزء 2 ص 71 عن عمر بن أبي خليفة قال:«كان الشعبي مع أبي في أعلى الدار فسمعنا تحتنا غناء حسنا فقال له أبي:هل ترى شيئا؟قال:لا.
ص: 504
فنظرنا فإذا غلام حسن الوجه حديث السن يتغنى...فإذا هو ابن عائشة فجعل الشعبي يتعجب من غنائه،و يقول:يؤتي الحكمة من يشاء».
و ذكر أيضا في الجزء 2 ص 133«أن مصعب بن الزبير أيام ولايته على الكوفة أخذ بيد الشعبي و أدخله في حجلة زوجته عائشة بنت طلحة،و هي بارزة حاسرة، فسأله عن حالها فأبدى رأيه فيها،و وصفها له بما يريد،ثم أمر مصعب له بعشرة آلاف درهم و ثلاثين ثوبا».
نعم ليس غريبا من الشعبي أن يصف الحارث بهذه الصفة،و قد افترى على أمير المؤمنين عليه السّلام كما في القرطبي (1)الجزء 1 ص 158 حيث كان يحلف باللّه:«لقد دخل على حفرته و ما حفظ القرآن».
قال الصحابي في فقه اللغة ص 170:«و هذا كلام شنيع جدا فيمن يقول:
سلوني قبل أن تفقدوني،سلوني فما من آية إلا أعلم بليل نزلت أم بنهار،أم في سهل أم في جبل».
و روى السدي،عن عبد خير،عن علي:«أنه رأى من الناس طيرة عند وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأقسم أن لا يضع على ظهره رداء حتى يجمع القرآن،قال:
فجلس في بيته حتى جمع القرآن فهو أول مصحف جمع فيه القرآن جمعه من قلبه و كان عند آل جعفر».
أ لا تنظر أيها المسلم الغيور إلى هذا الرجل كيف تجرّأ على اللّه و على رسوله، و تكلم بهذا الكلام الشنيع؟أ فيقال مثل هذا الكلام فيمن هو باب مدينة علم الرسول و المبين لامته لما أرسله اللّه به؟و في ذلك روايات كثيرة كما في«كنز العمال1.
ص: 505
الجزء 6 ص 156»و فيمن هو باب مدينة الحكمة كما في«صحيح الترمذي الجزء 13 ص 171»و فيمن هو مع القرآن و القرآن معه لن يفترقا حتى يردا على الحوض كما في«مستدرك الحاكم الجزء 3 ص 124 و الجامع الصغير للسيوطي الجزء 4 ص 356» إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ .
- - -
ص: 506
ص 20
مصادر حديث:
«لتركبنّ سنن من قبلكم...»
ورد هذا الحديث في مسند أحمد الجزء 5 ص 218 من حديث أبي واقد الليثي.
و عند البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب و السنة باب قول النبي:«لتتبعنّ سنن من قبلكم»الجزء 8 ص 151 و عند مسلم في كتاب«العلم»باب اتباع سنن اليهود و النصارى الجزء 8 ص 57.و في مسند أحمد الجزء 3 ص 74 عن أبي سعيد الخدري.و في مجمع الزوائد للهيثمي الجزء 7 ص 261 عن ابن عباس.
- - -
ص: 507
ص 45
محادثة بين المؤلف
و حبر يهودي
و قد جرت محادثة بيني و بين حبر من أحبار اليهود تتصل بموضع انتهاء شريعتهم بانتهاء أمد حجتها و برهانها.قلت له:هل التدين بشريعة موسى عليه السّلام يختص باليهود أو يعم من سواهم من الأمم؟فإن اختصت شريعته باليهود لزم أن نثبت لسائر الأمم نبيا آخر،فمن هو ذلك النبي؟و إن كانت شريعة موسى عامة لجميع البشر، فمن الواجب أن تقيموا شاهدا على صدق نبوته و عمومها،و ليس لكم سبيل إلى ذلك فإن معجزاته ليست مشاهدة للأجيال الآخرين ليحصل لهم العلم بها،و تواتر الخبر بهذه المعجزات يتوقف على أن يصل عدد المخبرين في كل جيل إلى حد يمنع العقل من تواطئهم على الكذب،و هذا شىء لا يسعكم إثباته،و أي فرق بين إخباركم أنتم عن معاجز موسى عليه السّلام و إخبار النصارى عن معاجز عيسى عليه السّلام و إخبار كل امة اخرى بمعاجز أنبيائها الآخرين فإذا لزم على الناس تصديقكم بما تخبرون به، فلم لا يجب على الناس تصديق المخبرين الآخرين في نقلهم عن أنبيائهم؟!.و إذا كان الأمر على هذه الصورة فلم لا تصدقون الأنبياء الآخرين، فقال:إن معاجز موسى ثابتة عند كل من اليهود،و النصارى و المسلمين،و كلهم يعترفون بصدقها.و أما معاجز غيره فلم يعترف بها الجميع،فهي لذلك تحتاج إلى الإثبات.
ص: 508
فقلت له:إن معجزات موسى عليه السّلام لم تثبت عند المسلمين و لا عند النصارى إلا بأخبار نبيهم بذلك لا بالتواتر فإذا لزم تصديق المخبر عن تلك المعاجز و هو يدعي النبوة لزم الإيمان به و الاعتقاد بنبوته،و إلا لم تثبت تلك المعاجز أيضا،هذا شأن الشرائع السابقة.
أما شريعة الإسلام فإن حجتها باقية تتحدى الأمم إلى يوم القيامة،و إذا ثبتت هذه الشريعة المقدسة وجب علينا تصديق جميع الأنبياء السابقين لشهادة القرآن الكريم و نبي الإسلام العظيم.
و إذن فالقرآن هو المعجزة الخالدة الوحيدة الباقية التي تشهد لجميع الكتب المنزلة بالصدق،و لجميع الأنبياء بالتنزيه.
- - -
ص: 509
ص 46
ترجمة القرآن
و شروطها
لقد بعث اللّه نبيه لهداية الناس فعززه بالقرآن،و فيه كل ما يسعدهم و يرقى بهم إلى مراتب الكمال،و هذا لطف من اللّه لا يختص بقوم دون آخر بل يعم البشر عامة، و قد شاءت حكمته البالغة أن ينزل قرآنه العظيم على نبيه بلسان قومه،مع أن تعاليمه عامة،و هدايته شاملة،و لذلك فمن الواجب أن يفهم القرآن كل أحد ليهتدي به.
و لا شك أن ترجمته مما يعين على ذلك،و لكنه لا بد و أن تتوفر في الترجمة براعة و إحاطة كاملة باللغة التي ينقل منها القرآن إلى غيرها،لأن الترجمة مهما كانت متقنة لا تفي بمزايا البلاغة التي امتاز بها القرآن،بل و يجري ذلك في كل كلام إذ لا يؤمن أن تنتهي الترجمة إلى عكس ما يريد الأصل.
و لا بد-إذن-في ترجمة القرآن من فهمه،و ينحصر فهمه في أمور ثلاثة:
1-الظهور اللفظي الذي تفهمه العرب الفصحى.
2-حكم العقل الفطري السليم.
3-ما جاء من المعصوم في تفسيره.
و على هذا تتطلب إحاطة المترجم بكل ذلك لينقل منها معنى القرآن إلى لغة اخرى.
ص: 510
و أما الآراء الشخصية التي يطلقها بعض المفسرين في تفاسيرهم،لم تكن على ضوء تلك الموازين فهي من التفسير بالرأي،و ساقطة عن الاعتبار،و ليس للمترجم أن يتكل عليها في ترجمته.
و إذا روعي في الترجمة كل ذلك فمن الراجح أن تنقل حقائق القرآن و مفاهيمه إلى كل قوم بلغتهم،لأنها نزلت للناس كافة،و لا ينبغي أن تحجب ذلك عنهم لغة القرآن ما دامت تعاليمه و حقائقه لهم جميعا.
- - -
ص: 511
ص 114
قصة قريش
في محاولتهم لتعجيز النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم
و يرشد إلى ما أوضحناه في معنى الآيات الكريمة المتقدمة:الروايات التي وردت في شأن نزولها.ففي«تفسير البرهان»عند تفسير هذه الآيات: (1)
«أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان قاعدا ذات يوم بمكة بفناء الكعبة،إذ اجتمع جماعة من رؤساء قريش،منهم الوليد بن المغيرة المخزومي،و أبو البختري بن هشام، و أبو جهل بن هشام،و العاص بن وائل السهمي،و عبد اللّه بن أبي أمية المخزومي، و جمع ممن يليهم كثير،و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في نفر من أصحابه يقرأ عليهم كتاب اللّه، يذكرهم عن اللّه أمره و نهيه.فقال المشركون بعض لبعض:قد استفحل أمر محمد و أعظم خطبه.تعالوا نبدأ بتقريعه و تبكيته و توبيخه،و الاحتجاج عليه،و إبطال ما جاء به ليهون خطبه على أصحابه،و يصغر قدره عندهم،فلعله أن ينزع عما هو فيه،و من غيّه و باطله،و تمرّده و طغيانه،فإن انتهى و إلا عاملناه بالسيف الباتر.
فقال أبو جهل:فمن ذا الذي يلي كلامه و محاورته؟قال عبد اللّه بن أبي أمية المخزومي:
أنا إلى ذلك،أما ترضاني له قرنا حسيبا و محاورا كفيا؟قال أبو جهل:بلى.فأتوه جميعا فابتدأ عبد اللّه بن أبي أمية المخزومي فقال:يا محمد لقد ادعيت دعوى عظيمة، و قلت مقالا هائلا.زعمت أنك رسول اللّه رب العالمين،و ما ينبغي لرب العالمين،
ص: 512
و خالق الخلق أن يكون مثلك رسولا له بشرا مثلنا،تأكل كما نأكل،و تشرب كما نشرب،و تمشي في الأسواق كما نمشي.فهذا ملك الروم و ملك الفرس لا يبعثان رسولا إلا كثير مال،عظيم حال له قصور و دور و فساطيط و خيام و عبيد و خدم.
و رب العالمين فوق هؤلاء كلهم و هم عبيده...لو أراد اللّه أن يبعث إلينا رسولا لبعث أجلّ من فيما بينا مالا،و أحسن حالا.فهلاّ انزل هذا القرآن-الذي تزعم أن اللّه أنزله إليك و بعثك رسولا-على رجل من القريتين عظيم،إما الوليد بن مغيرة بمكة، و إما عروة بن مسعود الثقفي بالطائف.
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:فهل بقي من كلامك شىء يا عبد اللّه؟قال:بلى لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا بمكة هذه،فإنها ذات أحجار و عرة و جبال، تكسح أرضها و تحفرها،و تجري فيها العيون فإنا إلى ذلك محتاجون،أو يكون لك جنة من نخيل و عنب فتأكل منها و تطعمها،و تفجر الأنهار خلالها تفجيرا،أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا،فإنك قلت لنا: وَ إِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ ،فلعلنا نقول ذلك.
ثم قال:و لن نؤمن لك أو تأتي باللّه و الملائكة قبيلا تأتي بهم و هم لنا مقابلون أو يكون لك بيت من زخرف تعطينا منه و تغنينا فلعلنا نطغى فإنك قلت لنا: كَلاّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى .
ثم قال:أو ترقى في السماء و لن نؤمن لصعودك حتى تنزل علينا كتابا من اللّه العزيز الحكيم،إلى عبد اللّه بن أبي أمية المخزومي و من معه بأن آمنوا بمحمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب،فإنه رسولي،و صدقوه في مقاله فإنه من عندي.
ثم لا ادري يا محمد إذا فعلت هذا كله أؤمن بك أو لا أؤمن بك،لو رفعتنا إلى السماء،و فتحت أبوابها،و دخلناها لقلنا إنما سكّرت أبصارنا و سحرتنا...
ص: 513
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اللهم أنت السامع لكل صوت،و العالم بكل شىء،تعلم ما قاله عبادك...
و أما قولك:إن هذا ملك الروم،و ملك الفرس لا يبعثان رسولا إلا كثير المال...
فإن اللّه له التدبير و الحكم،لا يفعل على ظنك و حسابك و اقتراحك،بل يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد...فلو كان النبي صاحب قصور يحتجب فيها،أو عبيد و خدام يسترونه عن الناس أ ليس كانت الرسالة تضيع و الأمور تتباطأ؟ و أما قولك لي:و لو كنت نبيا لكان معك ملك يصدقك و نشاهده فالملك لا تشاهده حواسكم،لأنه من جنس هذا الهواء لاعيان منه،و لو شاهدتموه بأن يزاد في قوى أبصاركم لقلتم:ليس هذا ملك بل هذا بشر لأنه إنما كان يظهر لكم بصورة البشر الذي ألفتموه لتفهموا عنه مقاله...
و أما قولك:ما أنت إلا رجلا مسحورا فكيف أكون كذلك و أنتم تعلمون أني في التمييز و العقل فوقكم،فهل جربتم على مذ نشأت إلى أن استكملت أربعين سنة جريرة أو كذبة أو خنى،أو خطأ من القول أو سفها من الرأي؟أ تظنون أن رجلا يعتصم طول هذه بحول نفسه و قوتها أو بحول اللّه و قوته...؟ و أما قولك:لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم...فإن اللّه ليس يستعظم مال الدنيا كما تستعظمه أنت،و لا خطر له عنده كما له عندك...و ليس هو عز و جل مما يخاف أحدا كما تخافه لما له و حاله.
و أما قولك:لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا،إلى آخر ما قلته، فإنك اقترحت على محمد رسول اللّه أشياء:منها ما لو جاءك به لم يكن برهانا لنبوته،و رسول اللّه يرتفع أن يغتنم جهل الجاهلين و يحتج عليهم بما لا حجة فيه.
ص: 514
و منها ما لو جاءك به كان معه هلاكك،و إنما يؤتى بالحجج و البراهين ليلزم عباد اللّه الإيمان،لئلا يهلكوا بها،فإنما اقترحت هلاكك،و رب العالمين أرحم بعباده،و أعلم بمصالحهم من أن يهلكهم كما يقترحون،و منها المحال الذي لا يصح و لا يجوز كونه...
و منها ما قد اعترفت على نفسك أنك فيه معاند متمرد لا تقبل حجة،و لا تصغي لبرهان..! فأما قولك:يا عبد اللّه لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا فإنك سألت هذا و أنت جاهل بدلائل اللّه،أ رأيت لو فعلت هذا كنت من أجل هذا نبيا؟...فما هو إلا كقولك لن نؤمن لك حتى تقوم و تمشي على الأرض...أو ليس لك و لأصحابك جنان من نخيل و عنب بالطائف تأكلون و تطعمون منها،و تفجرون خلالها تفجيرا، أ فصرتم أنبياء بهذه؟...
و أما قولك:أو تسقط السماء كما زعمت كسفا...فإن في سقوط السماء عليكم موتكم و هلاككم،فإنما تريد بهذا من رسول اللّه أن يهلكك و رسول رب العالمين أرحم بك من ذلك و لا يهلكك،لكنه يقيم عليك حجج اللّه،و ليس حجج اللّه لنبيه وحده على حسب الاقتراح من عباده،لأن العباد جهال بما يجوز من الصلاح و ما لا يجوز من الفساد...و هل رأيت يا عبد اللّه طبيبا كان دواؤه للمرضى على حسب اقتراحهم؟...فمتى رأيت يا عبد اللّه مدعي حق من قبل رجل أوجب عليه حاكم من حكامهم فيما مضى بيّنة على دعواه على حسب اقتراح المدعى عليه...! و أما قولك:أو تأتي باللّه و الملائكة قبيلا يقابلوننا و نعاينهم،فإن هذا من المحال الذي لا خفاء به إن ربنا عز و جل ليس كالمخلوقين يجيء و يذهب يقابل و يتحرك، و يقابل شيئا حتى يؤتى به،فقد سألتم بهذا المحال...
و أما قولك:يا عبد اللّه أو يكون لك بيت من زخرف-و هو الذهب-أما بلغك
ص: 515
أن لعظيم مصر بيوتا من زخرف؟قال:بلى.قال أ فصار بذلك نبيا؟قال:لا.
قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فكذلك لا يوجب ذلك لمحمد لو كان له نبوة،و محمد لا يغتنم جهلك لحجج اللّه...! و أما قولك:يا عبد اللّه:أو ترقى في السماء،ثم قلت:و لن نؤمن لرقيك حتى تنزيل علينا كتابا نقرؤه،يا عبد اللّه الصعود إلى السماء أصعب من النزول عنها،فإذا اعترفت على نفسك أنك لا تؤمن إذا صعدت فكذلك حكم نزولي،ثم قلت:حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه،من بعد ذلك لا أدري أؤمن بك؟.فأنت يا عبد اللّه مقر بأنك تعاند حجة اللّه عليك...و قد أنزل اللّه تعالى على كلمة جامعة لبطلان ما اقترحته فقال:«قل يا محمد سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا...و ليس لي أن آمر ربي و لا أنهى و لا أشير...».
و الحديث يشتمل على فوائد كثيرة فليراجعه المتتبع،و في شأن نزول هذه الآيات روايات عديدة ذكرها«الطبري»عند تفسير الآيات المباركة.
- - -
ص: 516
ص 319
تحريف حديث المتعة
في صحيح البخاري
روى هذا الحديث:
«كنا نغزو مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ليس معنا نساء،فقلنا:أ لا نستخصي فنهانا عن ذلك،ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل،ثم قرأ عبد اللّه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ .
رواها عن البخاري جماعة من المحدثين،و المفسرين،و الفقهاء بهذا النص،و لكن الموجود في صحيح البخاري المتداول:الجزء 6 ص 53 يخالف ما ذكره هؤلاء من وجهين:
1-حذف كلمة:«ابن مسعود»من سند الحديث-و قد ذكره معظمهم-لأنه كان يقول بجواز المتعة،حتى لا تكون قرينة على أن المراد بهذه الرواية هو جواز نكاح المتعة و ترخيصه.
2-حذف كلمة«إلى أجل»من آخر الرواية،لأنها صريحة في ترخيص نكاح المتعة كما فهمها الشرّاح و فسّروها،لأن الترخيص في النكاح-في هذا المورد-لا بد و أن يكون ترخيصا لنكاح المتعة،دون النكاح الدائم،خاصة و إن كان المقصود من:
«ليس معنا نساء»أي نساؤنا و زوجاتنا،لا مطلق النساء،و إلا لم يكن معنى للترخيص في النكاح في تلك الحالة،و يؤيد ذلك ما ورد في بعض المصادر:«ليس لنا نساء».
ص: 517
و لدلالة هذه الرواية على نكاح المتعة ادعى غير واحد من الفقهاء نسخ هذا الحكم الثابت في هذه الرواية بتحريم نكاح المتعة بعد ذلك بروايات اخرى تفيد تحريمها.
و مع أن ذلك لا يتم لهم لأسباب مرّت عليك-عند مناقشة تلك الروايات في آية المتعة-فإن يد التحريف تناولت هذه الرواية فغيّرتها عما كانت عليه من الصحة.ألا قاتل اللّه التحريف،و أهواء المحرفين!.
و من المحدثين،و المفسرين،و الفقهاء الذين رووا الحديث المذكور عن البخاري على وجه الصحة،هم:
(أ)البيهقي:في سننه-الجزء 7-الصفحة 200 طبعة-حيدرآباد (ب)السيوطي:في تفسيره-الجزء 2-الصفحة 207-طبعة الميمنية بمصر (ج)الزيلعي:في نصب الراية-الجزء 3-الصفحة 180-طبعة دار التأليف بمصر (د)ابن تيمية:في المنتقى-الجزء 2-الصفحة 517 طبعة الحجازي بمصر (ه)ابن القيم:في زاد المعاد-الجزء 4-الصفحة 8-طبعة محمد على صبيح مصر (و)القنوجي:في الروضة الندية-الجزء 2-الصفحة 16-طبعة المنيرية مصر (ز)محمد بن سليمان:في جمع الفوائد-الجزء 1-الصفحة 589-طبعة دار التأليف بمصر و لهذه الرواية مصادر اخرى و هي:
(ح)مسند أحمد:الجزء 1-الصفحة 420 طبعه مصر 1313 (ط)تفسير القرطبي:الجزء 5 الصفحة 130 طبعة بمصر 1356 (ي)تفسير ابن كثير:الجزء 2 الصفحة 87 طبعة مصر على البابي
ص: 518
(ك)أحكام القرآن:الجزء 2 الصفحة 184 طبعة مصر 1347 (ل)الاعتبار للحازمي:الجزء 3 الصفحة 176 طبعة حيدرآباد.
و هناك مصادر اخرى كصحيح أبي حاتم البستي و غير ذلك من أمهات المصادر.
- - -
ص: 519
ص 330
رأي محمد عبده
في الطلاق الثلاث
فإنه بعد ما اثبت أن الطلاق الثلاث لا يقع إلا واحدة،قال:
«و ليس المراد مجادلة المقلدين أو إرجاع القضاة و المفتين عن مذاهبهم فيها،فإن أكثرهم يطلع على هذه النصوص في كتب الحديث و غيرها،و لا يبالي بها،لأن العمل عندهم على أقوال كتبهم دون كتاب اللّه تعالى و سنة رسوله».تفسير المنار.
الجزء 1 ص 386.
وليته ذكر مثل هذا الكلام في بحث المتعة،و ذلك لما عرفت أن نكاح المتعة قد ثبت في الشريعة الإسلامية دون أن يثبت له ناسخ،فلم يبق للقائلين بتحريمه غير اتباع أقوال كتبهم دون كتاب اللّه و سنة رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم!.
- - -
ص: 520
ص 383
اختلاق الرازي
نسبة الجهل الى اللّه
و من الذين لم يتثبتوا و لم يتوقفوا الفخر الرازي عند تفسيره قوله تعالى:
يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ... قال:قالت الرافضة:البداء جائز على اللّه تعالى و هو أن يعتقد شيئا،ثم يظهر له أن الأمر بخلاف ما اعتقده.انتهى.
سبحانك اللهم إن هذا إلا اختلاق.و قد حكى الرازي في خاتمة كتاب المحصل عن سليمان بن جرير كلاما يقبح منه ذكره و لا يحسن مني سطره.
و إن هذه الكلمة قد صدرت على أثر كلمة اخرى تشابهها تفوّه بها بعض النصارى في حق الرسول الأكرم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حينما جاء بأحكام ناسخة لما جاء به قبلها كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ ، وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ .
- - -
ص: 521
ص 384
أحاديث
مشيئة اللّه في خلقه
روى الصدوق في كتابي التوحيد و معاني الأخبار بإسناده،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنه قال في قول اللّه عز و جل: وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ :لم يعنوا أنه هكذا، و لكنهم قالوا:قد فرغ من الأمر،فلا يزيد و لا ينقص،فقال اللّه جل جلاله تكذيبا لقولهم: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ أ لم تسمع اللّه عز و جل يقول: يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ .
و روى العياشي،عن يعقوب بن شعيب،و عن حماد،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام نحو ذلك،هذه الروايات و غيرها مما نذكره في هذا الفصل موجودة في كتاب البحار لشيخنا المجلسي الجزء 2 ص 131-142.تفسير العياشي:ج 1 ص 330.
- - -
ص: 522
ص 392
أحاديث:
ان الدعاء يغيّر القضاء
روى سليمان،قال:«قال رسول اللّه لا يرد القضاء إلا الدعاء،و لا يزيد في العمر إلا البر» (1)رواه الترمذي،باب ما جاء:لا يرد القدر إلا الدعاء الجزء 8 ص 350 [رقم الحديث:2065].
و روى ثوبان،قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:لا يزيد في العمر إلا البر،و لا يرد القدر إلا الدعاء،و ان الرجل ليحرم الرزق بخطيئة يعملها.
رواه ابن ماجة:باب في القدر الجزء 1 ص 24.[رقم الحديث:87]و رواه الحاكم في المستدرك و صححه و لم يتعقبه الذهبي الجزء 1 ص 493،و رواه أحمد في مسنده الجزء 5 ص 277،280،282.[رقم الحديث:21352،21379، 21402]و الروايات بهذا المعنى كثيرة تطلب من مظانها.
- - -
ص: 523
ص 435
أهمية
آية البسملة
قد أوضحنا في بحث الإعراب-ص 459-ان إضافة اسم إلى اللّه إضافة معنوية، و أن كلمة«اللّه»مستعملة في معناها،و عليه فقد استعملت كلمة«اسم»في معناها الجامع القابل للصدق على جميع أسمائه تعالى،فهو من باب ذكر المفهوم و الإشارة به إلى المصداق.و بما أن الاسم الأعظم أشرف المصاديق فلا محالة أن يكون أولى و أحق بانطباق المفهوم عليه.و بهذا يتضح معنى كون«بسم اللّه»أقرب إلى الاسم الأعظم من سواد العين إلى بياضها: (1)فإن القرب بينهما قرب ذاتي،إذ المفهوم متحد مع مصداقه خارجا،و قرب سواد العين إلى بياضها قرب مكاني،و الاتحاد بينهما وضعي.
- - -
ص: 524
ص 435
معرفة
بدء الخليقة في الكتاب التكويني
قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«أول ما خلق اللّه نوري».البحار:باب حقيقة العقل و كيفيته و بدء خلقه[البحار:95/1،الحديث:7].
و روى محمد بن سنان قال:«كنت عند أبي جعفر الثاني عليه السّلام فقال يا محمد:
«إن اللّه تبارك و تعالى لم يزل متفردا بوحدانيته،ثم خلق محمدا و عليا و فاطمة فمكثوا ألف دهر...»اصول الكافي[441/1،الحديث:1]باب تاريخ مولد النبي،و الوافي:
باب بدء خلق المعصومين الجزء 2 ص 155.
- - -
ص: 525
ص 447
أحاديث
ان البسملة جزء من القرآن
روى البيهقي بإسناده عن أم سلمة:
«ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قرأ في الصلاة بسم اللّه الرحمن الرحيم فعدّها آية...»و رواه الحاكم في المستدرك الجزء 1 ص 232 و قال:صحيح على شرط الشيخين.
و عن عبد خير،قال:«سئل علي عن السبع المثاني،فقال:الحمد للّه،فقيل له:
إنما هي ست آيات،فقال:بسم اللّه الرحمن الرحيم آية.و رواها عن أبي هريرة أيضا.
و عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه كان يقول:«الحمد للّه رب العالمين سبع آيات إحداهن بسم اللّه الرحمن الرحيم...» و عن ابن عباس أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يستفتح القراءة ببسم اللّه الرحمن الرحيم «و رواها الترمذي أيضا الجزء 2 ص 44».
و عن ابن عمر:أنه كان إذا افتتح الصلاة كبّر،ثم قرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه،فإذا فرغ قرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم.قال:و كان يقول لم كتبت في المصحف إن لم تقرأ؟!إلى غير ذلك من الروايات.راجع الجزء الثاني من سنن البيهقي ص 43-47.
ص: 526
و في كنز العمال في فضل فضائل السور و الآيات الجزء 2 ص 190 و في باب:
البسملة آية 375:روى الثعلبي عن علي عليه السّلام أنه كان إذا افتتح السورة في الصلاة يقرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم،و كان يقول:من ترك قراءتها فقد نقص و كان يقول:
هي تمام السبع المثاني.
- - -
ص: 527
ص 447
قصة
نسيان معاوية قراءة البسملة
روى البيهقي الجزء 2 ص 49 بإسناده عن أنس بن مالك أنه قال:
«صلّى معاوية بالمدينة صلاة،فجهر فيها بالقراءة،فقرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم لأم القرآن و لم يقرأ بها للسورة التي بعدها حتى قضى تلك القراءة،و لم يكبر حين يهوي حتى قضى تلك الصلاة،فلما سلم،ناداه من شهد ذلك من المهاجرين من كل مكان يا معاوية أ سرقت الصلاة أم نسيت؟فلما صلّى بعد ذلك قرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم للسورة التي بعد أم القرآن،و كبر حين يهوي ساجدا»و رواها بطريق آخر، غير أنه قال:فلم يقرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم لأم القرآن،و لم يقرأ بها للسورة التي بعدها،و زاد«الأنصار».
و رواها الحاكم في المستدرك الجزء 1 ص 233 و قال:حديث صحيح على شرط مسلم.
- - -
ص: 528
ص 447
قراءة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم
البسملة و توجيه رواية أنس
تقدمت إحدى هذه الروايات في ص 444،و روى قتادة عن أنس:أن قراءة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كانت مدا،ثم قرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم،يمدّ بسم اللّه،و يمدّ الرحمن،و يمدّ الرحيم«سنن البيهقي-باب افتتاح القراءة في الصلاة ببسم اللّه- الجزء 2 ص 46»،و«المستدرك،حديث الجهر ببسم اللّه الجزء 1 ص 233».
و روى شريك عن أنس قال:سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم.قال الحاكم:رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات.
و روى العسقلاني قال:صليت خلف المعتمر بن سليمان ما لا أحصي صلاة الصبح و المغرب فكان يجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم قبل فاتحة الكتاب و بعدها و سمعت المعتمر يقول:ما آلو أن أقتدي بصلاة أبي و قال أبي:ما آلو أن أقتدي بصلاة أنس بن مالك،و قال أنس بن مالك:ما آلو أن أقتدي بصلاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
قال الحاكم:رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات«المستدرك الجزء 1 ص 233 -234».
و روى أبو نعامة عن أنس،قال:كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أبو بكر و عمر لا يقرءون يعني لا يجهرون ببسم اللّه الرحمن الرحيم«سنن البيهقي-باب من قال لا يجهر بها-الجزء 2 ص 52».
ص: 529
أقول:يمكن أن يكون المراد من رواية أنس المتقدمة-التي استدلوا بها على أن البسملة ليست من القرآن-أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من بعده لم يجهروا بالبسملة،و القرينة على ذلك هذه الرواية الأخيرة،و يؤيد هذا أن أنس قد عبر في الرواية المتقدمة بعدم سماعه القراءة،بل و في بعض روايات أنس قال:فلم أسمع أحدا منهم يجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم،و في بعضها قال:صلّى بنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلم يسمعنا قراءة بسم اللّه الرحمن الرحيم...«سنن النسائي-باب ترك الجهر ببسم اللّه-الجزء 1 ص 144» و عليه فلا معارضة بين رواية أنس المتقدمة و ما ذكرناه من الروايات الدالة على أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من بعده كانوا يقرءونها.
نعم ذكر في رواية واحدة:أنهم لا يذكرون بسم اللّه الرحمن الرحيم في أول قراءة و لا في آخرها«صحيح مسلم-باب حجة من قال لا يجهر بالبسملة-الجزء 2 ص 12»،إلا أن في سند هذه الرواية الوليد بن مسلم القرشي،و في وثاقته كلام،بل صرح غير واحد بكثرة خطئه،أو تدليسه«راجع تهذيب التهذيب».
و أما رواية قتادة عن أنس:كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أبو بكر و عمر و عثمان يفتتحون القراءة بالحمد للّه رب العالمين«الترمذي باب ما جاء في افتتاح القراءة بالحمد-الجزء 2 ص 45،و سنن أبي داود باب الجهر ببسم اللّه-الجزء 1 ص 125 و قريب منه ما رواه النسائي باب البداءة بفاتحة الكتاب الجزء 1 ص 143».
فهذه الرواية محمولة على أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من بعده كانوا يبدءون بقراءة فاتحة الكتاب،و قد أطلق جملة:الحمد للّه رب العالمين على سورة فاتحة الكتاب و وقع مثل ذلك في بعض الروايات المتقدمة،و على ذلك حملها الشافعي أيضا.
- - -
ص: 530
ص 373
ابن تيمية
و نقله أحاديث جواز زيارة القبور
إن كثرة الروايات في المقام،و استفاضتها أغنتنا عن ذكرها،إلا أننا نذكر بعض ما رواه عبد السلام بن عبد اللّه بن تيمية جد أحمد بنفسه في كتابه«المنتقى من أخبار المصطفى»و بعض ما رواه غيره:
1-روى عن بريدة،قال:
«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور،فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه،فزوروها،فإنها تذكرة الآخرة»قال:رواه الترمذي (1)و صححه.
2-و عن أبي هريرة،قال:
«زار النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قبر امه فبكى و أبكى من حوله فقال:استأذنت ربي أن أستغفر لها،فلم يأذن لي،و استأذنته في أن أزور قبرها،فأذن لي،فزوروا القبور، فإنها تذكّر الموت».قال:رواه الجماعة. (2)
3-و عن عبد اللّه بن أبي مليكة:
ص: 531
«إن عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر،فقلت لها:يا أم المؤمنين من أين أقبلت؟قالت:من قبر أخي عبد الرحمن،فقلت لها:أ ليس كان نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن زيارة القبور؟قالت:نعم.كان نهى عن زيارة القبور،ثم أمر بزيارتها»قال:
رواه الأثرم في سننه.
أقول:قال الشيخ محمد حامد الفقي في تعليقه على الكتاب،و رواه ابن ماجة، و الحاكم،و البغوي في شرح السنة.
4-عن أبي هريرة:
«ان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أتى المقبرة،فقال السلام عليكم دار قوم مؤمنين،و إنا إن شاء اللّه بكم لاحقون»قال:رواه أحمد، (1)و مسلم (2)،و النسائي (3).و لأحمد من حديث عائشة مثله،و زاد:«اللهم لا تحرمنا أجرهم،و لا تفتنّا بعدهم». (4)
5-و عن بريدة،قال:
«كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم:السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين و المسلمين،و إنا إن شاء اللّه بكم للاحقون،نسأل اللّه لنا و لكم العافية»قال:رواه أحمد (5)،و مسلم (6)،و ابن ماجة (7)[المنتقى]الجزء 2 ص 116.6.
ص: 532
6-روى ابن عمر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:
«من حجّ فزار قبري بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي».رواه الطبراني في الأوسط،و البيهقي في السنن.
7-و روى أيضا عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:
«من زار قبري وجبت له شفاعتي».رواه ابن عدي في الكامل،و البيهقي في شعب الإيمان.
8-روى أنس عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:
«من زارني بالمدينة محتسبا كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة».رواه البيهقي في شعب الإيمان-كنز العمال فضل زيارة القبور الجزء 8 ص 99.
9-روى أبو هريرة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:
«ما من رجل يزور قبر حميمه فيسلم عليه و يقعد عنده إلا ردّ عليه السلام و أنس به،حتى يقوم من عنده».رواه أبو الشيخ،و الديلمي.
10-و روى أيضا عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:
«ما من رجل يمرّ بقبر كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه و ردّ عليه السلام».رواه تمام،و خطيب،و ابن عساكر،و ابن النجار.قال في كنز العمال:
و سنده جيد.و الروايات التي جمعها في كنز العمال الجزء 8 ص 99 و ما بعدها و ص 125 و ما بعدها يقرب من ثمانين رواية،من أراد الاطلاع عليها فليراجعها.
11-روى أبو هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال:
«ما من أحد يسلم عليّ إلا ردّ اللّه إليّ روحي حتى أردّ عليه السّلام».سنن
ص: 533
البيهقي باب زيارة قبر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الجزء 5 ص 245.
12-روى ابن عمر في استلام الحجر،قال:
«كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يستلمه و يقبّله،فقال-السائل-:أ رأيت إن زحمت؟ أ رأيت إن غلبت؟قال:اجعل أ رأيت باليمن،رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يستلمه و يقبّله».رواه البخاري في الصحيح عن مسدد. (1)
13-روى ابن عباس،قال:
«رأيت عمر بن الخطاب قبّله و سجد عليه.قال:رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فعل كذا».قلت رواه الطيالسي و غيره.
14-و روى أبو جعفر:
«أن ابن عباس قبّل الركن،ثم سجد عليه،ثم قبّله،ثم سجد عليه ثلاث مرات».
15-روى عكرمة عن ابن عباس،قال:
«رأيت النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يسجد على الحجر»سنن البيهقي باب السجود عليه-على الحجر-الجزء 5 ص 74،75.
16-روى داود بن أبي صالح،قال:
«أقبل مروان يوما فوجد رجلا واضعا وجهه على القبر،فأخذ برقبته و قال:
أ تدري ما تصنع؟قال:نعم.فأقبل عليه فإذا هو أبو أيوب الأنصاري-رضي اللّه8.
ص: 534
عنه-فقال:جئت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لم آت الحجر،سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول:
لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله و لكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله».رواه الحاكم في المستدرك الجزء 4 ص 515،و صححه و لم يعقبه الذهبي.و روى ابن تيمية روايات تقبيل الحجر و استلامه،و وضع الخد عليه في المنتقى الجزء 2 ص 261، 262،263.
17-و أخرج الحافظ ابن عساكر.
«أن فاطمة جاءت،فوقفت على قبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأخذت قبضة من تراب القبر،فوضعت على عينيها و بكت.
18-و أخرج أيضا:
«إن أعرابيا جاء إلى قبر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و حثا من ترابه على رأسه،و خاطبه و قال:و كان فيما انزل عليك: وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ... و قد ظلمت و جئتك تستغفر لي،فنودي من القبر:قد غفر لك.و كان هذا بمحضر من علي أمير المؤمنين».
19-و أخرج أيضا:
«أن بلالا أتى قبر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و جعل يبكي عنده و يمرغ وجهه عليه،فأقبل الحسن و الحسين فجعل يضمهما و يقبلهما»الغدير الجزء 5 ص 127-128.
- - -
ص: 535
ص 476
تهمة
الآلوسي للشيعة
و نظير الاتهام المذكور في(ص 472)ما ذكره الآلوسي عند تفسير قوله تعالى:
كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ من أن الشيعة يجوزون الأكل و الشرب إلى طلوع الشمس.
و لست أدري إلى أي سند استند في هذه النسبة،و هو في بغداد عاصمة العراق، و العراق مقر الشيعة قديما و حديثا،و لا سيما أن المشاهد المشرفة قريبة من بغداد، و قلّ من يوجد من غير الشيعة فيها.أضف إلى ذلك أن الآلوسي لم يكن بعيدا من كتب الشيعة و مؤلفاتها.
و لعمري:إن هذه النسبة و أمثالها هي التي فرّقت بين المسلمين،و حكّمت عليهم أعداءهم.و لعلها كانت دسائس أجنبية.
- - -
ص: 536
ص 476
حوار
بين المؤلف و عالم حجازي
لقيت شيخا فاضلا يدعى بالشيخ زين العابدين في المسجد النبوي الشريف سنة تشرفي بحج بيت اللّه الحرام 1353 يترصد لمن يسجد على التربة فيأخذها منه فقلت له:يا شيخ أما حرّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم التصرف في مال المسلم بغير إذنه و رضاه؟قال:نعم.قلت:فلما ذا تسلب هؤلاء المسلمين أموالهم،و هم يشهدون أن لا إله إلا اللّه و أن محمدا عبده و رسوله؟قال:هم مشركون اتخذوا التربة صنما يسجدون لها.قلت:أ تسمح لي بالمذاكرة حول هذا الموضوع؟قال:لا بأس.
فشرعنا في المذاكرة و المناظرة حتى انتهى الأمر إلى أن اعتذر عما ارتكبه،و استغفر اللّه ربه،و قال:إنى كنت رجلا التبس عليه الأمر.ثم التمسني المذاكرة معه في مواضيع شتى فكان ينعقد مجلس لمحاضرتي في المسجد النبوي كل ليلة،و بقينا زهاء عشر ليال نجتمع فيه و نحن جماعة مختلطة من مختلف المذاهب،و تجري المناظرة بيني و بين الشيخ حول تلك المواضيع،و كانت عاقبة الأمر أن تبرأ الشيخ مما كان يعتقد في حق الشيعة،و وعدني أن ينشر محاضراتي في جريدة«أم القرى»ليتبين الأمر لغير المعاندين للحق،ممن التبس عليهم الأمر،و أن يبعث إليّ نسخة من تلك الجريدة، إلا أنه لم يف بوعده و لعل الظروف لم تساعده،و حالت الأوضاع بينه و بين ما يريد.
- - -
ص: 537
ص 476
فضيلة
تربة الحسين عليه السّلام
روى أبو يعلى في مسنده،و ابن أبي شيبة و سعيد عن منصور في سننه عن مسند علي،قال:
«دخلت على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:ذات يوم،و عيناه تفيضان قلت:يا نبي اللّه أغضبك أحد ما شأن عينيك تفيضان؟قال:بلى قام من عندي جبرئيل قبل فحدثني أن الحسين يقتل بشط الفرات،فقال:هل لك إلى أن أشمك من تربته قلت:نعم،فمد يده،فقبض قبضة من تراب فأعطانيها فلم أملك عيني أن فاضتا». (1)
و روى الطبراني في«الكبير»عن أم سلمة،قال:اضطجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذات يوم فاستيقظ و هو خائر النفس،و في يده تربة حمراء يقبلها،فقلت:ما هذه التربة يا رسول اللّه؟قال:أخبرني جبرئيل أن هذا يقتل بأرض العراق«للحسين»فقلت لجبرئيل:أرني تربة الأرض التي يقتل بها،فهذه تربتها،و رواها ابن أبي شيبة عن أم سلمة مع اختلاف في ألفاظها،و روى ابن ماجة و الطيالسي و أبو نعيم ما يقرب منها عن أم سلمة.و روى أبو نعيم عن أنس ما يقرب من مضمونها أيضا،«كنز العمال الجزء 7 الصفحة 105،106». (2)
ص: 538
ص 477
تأويل
آية السجود بالكشف
قال الحسن بن منصور:
«لما قيل لإبليس:اسجد لآدم،خاطب الحق فقال:ارفع شرف السجود عن سري إلا لك في السجود حتى أسجد له،إن كنت أمرتني فقد نهيتني،فقال له:فإني أعذبك عذاب الأبد،فقال:أ و لست تراني في عذابك لي؟فقال:بلى،فقال:
فرؤيتك لي تحملني على رؤية العذاب افعل بي ما شئت».تفسير ابن روزبهان الصفحة 21 طبعة الهند.
أقول:فلتقرّ عيون أصحاب الكشف-ابن روزبهان و أمثاله-بهذه المكاشفة و نظائرها المخالفة لحكم العقل،و صريح القرآن،و ضرورة الدين.
- - -
ص: 539
ص 478
حديث
إبليس مع اللّه
عن الصادق عليه السّلام:
«قال إبليس:رب اعفني من السجود لآدم،و أنا أعبدك عبادة لا يعبدكها ملك مقرب،و لا نبي مرسل،فقال جل جلاله:لا حاجة لي في عبادتك،إنما عبادتي من حيث أريد،لا من حيث تريد»تفسير الصافي،عند تفسير قوله تعالى: فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ ص 26.
و قال عليه السّلام-أيضا-في جواب سؤال الزنديق:
«كيف أمر اللّه الملائكة لآدم:إن من سجد بأمر اللّه فقد سجد للّه،فكان سجوده للّه إذا كان عن أمر اللّه»البحار-باب سجود الملائكة و معناه،الجزء 5 ص 37.
[البحار:138/11،باب 2،الحديث:2] - - -
ص: 540
ص 480
الإسلام
يدور مدار الشهادتين
روى سماعة عن الصادق عليه السّلام:
«الإسلام شهادة أن لا إله إلا اللّه،و التصديق برسول اللّه،به حقنت الدماء و عليه جرت المناكح و المواريث»الوافي باب ان الإيمان أخص من الإسلام الجزء 3 ص 18.[الكافي:2/25،الحديث:1] و روى أبو هريرة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال:
«أقاتل حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللّه و يؤمنوا بي و بما جئت به،فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم و أموالهم إلا بحقها و حسابهم على اللّه»و رواها جابر و عبد اللّه بن عمر باختلاف يسير-صحيح مسلم باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه الجزء 1 ص 39.[صحيح مسلم:كتاب الإيمان رقم الحديث:
33].
قال في«تيسير الوصول»بعد رواية عبد اللّه بن عمر:أخرجه الشيخان الجزء 1 ص 20 و هذه الرواية رواها الترمذي عن أبي هريرة،باب ما جاء أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه الجزء 10 ص 68،و رواها النسائي عن أنس أيضا -كتاب«تحريم الدم»الجزء 2 ص 161 و باب على ما يقاتل الناس ص 269، و رواها أحمد في مسنده الجزء 2 ص 345،528 عن أبي هريرة و الجزء 3
ص: 541
ص 129،224 عن أنس و الجزء 5 ص 246 عن معاذ بن جبل.و ص 433 ما يؤدي معناها عن عبيد اللّه بن عدي،قال في«تيسير الوصول»الجزء 1 ص 20 بعد رواية عبيد اللّه أخرجه مالك.
و روى أبو هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال:
«أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه،فمن قال لا إله إلا اللّه عصم مني ماله و نفسه إلا بحقه،و حسابه على اللّه»صحيح البخاري باب قتل من أبى قبول الفرائض الجزء 8 ص 50[رقم الحديث:1312]و رواها مسلم و أبو داود (1)و ابن ماجة (2)و الترمذي (3)و النسائي (4)و أحمد (5)و الطيالسي.
و روى أوس بن أوس الثقفي،قال:
«دخل علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و نحن في قبة في مسجد المدينة،فأتاه رجل فساره بشيء لا ندري ما يقول،فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اذهب قل لهم يقتلوه،ثم دعاه فقال:
لعله يشهد أن لا إله إلا اللّه و أني رسول اللّه،قال:نعم،فقال:اذهب فقل لهم يرسلوه،أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللّه و أني رسول اللّه فإذا قالوها حرمت علي دماؤهم و أموالهم إلا بحقها،و كان حسابهم على اللّه.» (6)رواها أبو داود الطيالسي و أحمد (7)و الدارمي (8)و الطحاوي«كنز العمال في حكم الإسلام طبعة دائرة المعارف العثمانية الجزء 1 ص 375».8.
ص: 542
ص 481
العبادة
و أقسام دوافعها
روى محمد بن يعقوب بإسناده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:
«إن العباد ثلاثة:قوم عبدوا اللّه عز و جل خوفا،فتلك عبادة العبيد،و قوم عبدوا اللّه تبارك و تعالى طلبا للثواب،فتلك عبادة الأجراء،و قوم عبدوا اللّه عز و جل حبا له،فتلك عبادة الأحرار،و هي أفضل العبادة». (1)
و روى الشيخ الصدوق بإسناده عن الصادق جعفر بن محمد عليه السّلام ما يقرب من ذلك.و قال علي عليه السّلام في«نهج البلاغة»: (2)
«إن قوما عبدوا اللّه رغبة فتلك عبادة التجار،و إن قوما عبدوا اللّه رهبة فتلك عبادة العبيد،و إن قوما عبدوا اللّه شكرا فتلك عبادة الأحرار»الوسائل مقدمة العبادات،باب ما يجوز قصده من غايات النية الجزء 1 ص 10. (3)
- - -
ص: 543
ص 485
الأمر بين الأمرين
و حسنات الناس و سيئاتهم
روى الحسن بن علي الوشاء عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال:
«سألته فقلت:اللّه فوّض الأمر إلى العباد؟قال:اللّه أعز من ذلك.قلت:
فجبرهم على المعاصي؟قال:اللّه أعدل و أحكم من ذلك.قال ثم قال:قال اللّه يا ابن آدم أنا أولى بحسناتك منك،و أنت أولى بسيئاتك مني.عملت المعاصي بقوتي التي جعلتها فيك»الوافي باب الخير و القدر الجزء 1 ص 119.
- - -
ص: 544
ص 486
مصادر
رواية الشفاعة
هذه الرواية:«لكل نبي دعوة و أردت إن شاء اللّه أن أختبئ دعوتي شفاعة لامتي يوم القيامة»مذكور في صحيح البخاري،كتاب الدعوات باب 1 الجزء 7 ص 145[الحديث:58129]و صحيح مسلم باب اختباء النبي دعوة الشفاعة لأمته الجزء 1 ص 130،131[الحديث:293،295].و أخرجها عن أنس و عن جابر أيضا و أخرجها مالك في الموطأ عن أبي هريرة باب ما جاء في الدعاء الجزء 1 ص 166 طبعة مصطفى محمد المشروحة[الحديث:443].و أخرجها ابن ماجة في سننه باب ذكر الشفاعة الجزء 2 ص 301 طبعة المطبعة العلمية بمصر.و أخرجها أحمد في مسنده عن أبي هريرة الجزء 2 ص 275،313،381،396،409، 326،430،486،و عن أبي سعيد الخدري الجزء 3 ص 2،و عن أنس الجزء 3 ص 134،208،218،209،258،276،292،و عن جابر الجزء 3 ص 384،396،و عن أبي ذر:الجزء 5 ص 148.
- - - الحمد للّه على ما أنعم علينا بنشر هذا القسم من الكتاب،راجين منه سبحانه أن ينفع به المسلمين و غيرهم،و يجعله وسيلة إلى معرفة القرآن،و فهم أسراره و مغازيه.
نسأله التوفيق لإكمال هذا التفسير،فإنه غاية السؤل و منتهى المأمول.و اللّه ولي التوفيق.
المؤلف
ص: 545
ص: 546
1-فهرس الآيات 2-فهرس الأحاديث 3-فهرس الاسر 4-فهرس الامكنة و البقاع 5-فهرس الشعر 6-فهرس الاعلام 7-فهرس مصادر البحث 8-فهرس الموضوعات
ص: 547
ص: 548
ء أسجد لمن خلقت طينا 477 ء إله مع الله قل هاتوا برهانكم 468 ء أشفقتم ان تقدموا بين يدي نجواكم 372 أحل لكم ليلة الصيام 299 الإخلاص(سورة كاملة)443 ادعوني استجب لكم 469 إذا قمتم الى الصلاة فاغسلوا 334 إذا السماء انشقت 114 إذا السماء انفطرت 114 استجيبوا لله و للرسول 422 أشداء على الكفار رحماء بينهم 429 اعملوا ان الله شديد العقاب 429 اعدلوا هو اقرب للتقوى 62 أف لكم و لما تعبدون 468 أ فرأيت من اتخذ الهه هواه 424 أ فلا يتدبرون القرآن 58،261،262،285 اقتربت الساعة و انشق القمر 118 الا الذين يصلون 337 الا الذين يصلون الى قوم 336 الا الذي فطرني فانه 50 الا انه بكل شىء محيط 469 الا تنفروا يعذبكم عذابا أليما 355 الا على أزواجهم او ما ملكت 327 الآن خفف الله عنكم 350،353 الآن علم الله ان فيكم ضعفا 393 الا له الخلق و الأمر 464 الا عبادك منهم المخلصين 481 الذي جعل لكم الأرض مهدا 73 الذين يتبعون الرسول النبي الامي 50،119 الذين يجعلون مع الله إلها 69 الله يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر 469 الله الذي رفع السماوات 49 الله لا اله الا هو الحي القيوم 49 أ لم تروا ان الله سخر لكم 490 أ لم اعهد إليكم يا بني آدم ان لا 461 أ لم يروا انه لا يكلمهم و لا يهديهم 468 أ ليس الله بكاف عبده 469،483 أم خلقوا من غير شىء 434 أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون 100 أم يقولون نحن جميع منتصر 70 إنا أعطيناك الكوثر 100 إنا كفيناك المستهزئين 358 إنا نحن نزلنا الذكر 181،206 انا نخاف من ربنا يوما 480 انا هديناه السبيل 307،496 ان الذي فرض عليك 31 ان أكرمكم عند الله أتقاكم 66 ان ترك خيرا الوصية 297 ان أحسنتم أحسنتم لانفسكم 459 ان جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا 263 ان رحمة الله قريب من المحسنين 66 ان السمع و البصر و الفؤاد 263 ان شجرة الزقوم طعام الأثيم 179 ان شانئك هو الأبتر 101 ان عبّدت بني إسرائيل 462 انفروا خفافا و ثقالا و جاهدوا 356 انك لا تهدي من أحببت 497 ان الله اصطفى آدم و نوحا 50،232 ان الله بالناس لرءوف رحيم 430،432 ان الله ربي و ربكم فاعبدوه 488
ص: 549
ان اللّه على كل شىء قدير 288 ان الله لا يخفى عليه 49 ان الله لا يهدي القوم الظالمين 497 ان الله هو الرزاق ذو القوة المتين 469 ان الله يحكم ما يريد 470 ان الله يأمر بالعدل و الإحسان 63 ان اللّه يأمركم ان تؤدوا 63 ان المبذرين كانوا 63 انما يعلمه بشر 179 انما يوفى الصابرون 63 انما يستأذنكم الذين لا يؤمنون بالله 356 انما جزاء الذين يحاربون الله 365 ان نشأ نخسف بهم الأرض 114 ان هذا القرآن يهدي 17 انه لقرآن كريم 224 اني أخاف ان عصيت ربي 480 ان يردن الرحمن بضر 430 او آخران من غيركم 344 او ترقى في السماء 112 او تسقط السماء كما زعمت 112 او تكون لك جنة 112 أولئك الذين أنعم الله 51،425 او يكون لك بيت من زخرف 112 او يلقى اليه كنز او 117 او ينفعونكم او يضرون 468 اهدنا الصراط المستقيم 62،98،487 إياك نعبد و إياك نستعين 98،461 بديع السماوات و الأرض 49 بسم الله الرحمن الرحيم (1)419 بلسان عربي مبين 261 تبت يدا أبي لهب و تب 71 تتجافى جنوبهم عن المضاجع 480 تمتعوا في داركم ثلاثة ايام 86 تنزيل الكتاب من الله العزيز 454 تنزيل من رب العالمين 224 ثم أورثنا الكتاب الذين 266 ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي 360 حتى تعلموا ما تقولون 326 حتى تنكح زوجا غيره 264 حتى يأتي الله بأمره 288 الحمد لله الذي انزل على عبده الكتاب 9 الحمد لله 97 الحمد لله رب العالمين 452 سورة الحمد كاملة(الفاتحة)419 الحمد لله فاطر السماوات و الأرض 454 حملته امه كرها و وضعته كرها 306 خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة 10 ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا 223 ذلكم الله ربكم لا اله الا هو 49 رب السماوات و الأرض 75،431 رب العالمين الرحمن الرحيم 97 رب المشرقين و رب المغربين 74 ربكم اعلم بكم ان يشأ يرحمكم 430 ربكم الذي يزجي لكم 432 الرحمن الرحيم 449 رسولا يتلو عليكم آيات الله 206 الزاني لا ينكح الا زانية او مشركة 361 سبع ليال و ثمانية ايام حسوما 86 سبحان الذي خلق الأزواج 73 سبحانه و تعالى عما يقولون 482 سخرها عليهم سبع ليال 86 سيصلّى نارا ذات لهب 71 سيهزم الجمع و يولون الدبر 70 صراط الذين أنعمت عليهم غير 99،424،487 صراط الله الذي له ما في السماوات و ما في الأرض 488ا.
ص: 550
عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول 473 عبدا مملوكا لا يقدر على شىء 264 عفا الله عنك لم أذنت 356 على قلبك لتكون من المنذرين 261 غلبت الروم 70 غلت أيديهم و لعنوا بما قالوا 522 فاحكم بينهم بما انزل الله 340 فاذا استأذنوك لبعض شأنهم 356 فاذا انسلخ الأشهر الحرم 303 فاذا لقيتم الذين كفروا فضرب 363 فاصبر لحكم ربك و لا تطع 471 فاصدع بما تؤمر و اعرض 69،358 فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم 302،303،362 فان تولوا فقل حسبي الله 239 فإن جاءوك فاحكم بينهم او اعرض 339 فإن طلقها فلا جناح عليهما ان يتراجعا 264 فانكحوا ما طاب لكم من النساء 65 فانما يسرناه بلسانك 262 فريقا هدى و فريقا حق 496 فسوف يأتي الله بقوم يحبهم 472 فصل لربك و انحر 101 فقالوا أ نؤمن لبشرين مثلنا 461 فقال ان هذا الا سحر يؤثر 96 فلا اقسم برب المشارق 75 فلا تهنوا و تدعوا الى السلم 353 فلما جاءهم الحق من عندنا 111 فليأتنا بآية كما أرسل الأولون 111 فما استمتعتم به منهن فآتوهن 312 فما لكم في المنافقين فئتين و الله 337 فمن ابتغى وراء ذلك 327 فمن اظلم ممن افترى 472 فمن اعتدى عليكم فاعتدوا 64،292 فمن ابتغى وراء ذلك 327 فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر 87 فمن شهد منكم الشهر فليصمه 300 فمن عفي له من أخيه شىء 293 فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره 64 فول وجهك شطر المسجد الحرام 289 فهل أنتم منتهون 335 في ادنى الأرض و هم من بعد غلبهم سيغلبون 70 فيضل الله من يشاء و يهدي 497 في كتاب مكنون 224 فيها يفرق كل امر حكيم 387 قال آيتك الا تكلم الناس ثلاث ليال 86 قال آيتك الا تكلم الناس ثلاثة ايام 86 قال ربنا الذي اعطى 496 قال ما مكنني فيه ربي خير 482 قال هل يسمعونكم إذ تدعون 468 قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله 286 قاتلوا المشركين كافة كما 303 قال أ فتعبدون من دون 468 قالوا بل وجدنا آباءنا 468 قالوا ما أنتم الا بشر 430 قالوا نعبد أصناما 468 قد انزل الله إليكم ذكرا 206 قد تبين الرشد من الغي 307 قد جاءكم من الله نور و كتاب مبين 489 قد مكر الذين من قبلهم 111 قل ءالله اذن لكم أم على الله تفترون 397 قل أ تعبدون من دون الله 468 قل أ رأيتم ان أتاكم عذابه 110 قل ان تخفوا ما في صدوركم 469 قل انما أمرت ان اعبد 462 قل الله يبدأ الخلق ثم 49 قل فلله الحجة البالغة فلو شاء 308،496 قل كل يعمل على شاكلته 458 قل لا أجد فيما اوحي الي 265،349 قل لئن اجتمعت الانس 44
ص: 551
قل للذين آمنوا يغفروا 362 قل لله الشفاعة جميعا 484 قل هل يستوي الذين يعلمون 66 قل هو الله أحد 267 قل ما يكون لي ان أبدله 181 قل من حرم زينة الله 65 قل يا اهل الكتاب تعالوا الى 423،467 كبرت كلمة تخرج من أفواههم 521 كتاب أحكمت آياته ثم فصلت 9 كتاب أنزلناه إليك 17 كتب على نفسه الرحمة 298 كتب عليكم القصاص 293 كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت 296 كذب الذين من قبلهم 111 كذلك زين للمسرفين 30 كذلك الله يفعل ما يشاء 470 كلوا و اشربوا حتى يتبين لكم 536 لا اكراه في الدين 305 لا تدركه الابصار 49 لا تسجدوا للشمس و لا للقمر و اسجدوا 475 لا تقربوا الصلاة و أنتم سكارى 335 لا يأتيه الباطل من بين يديه 209 لا يتكلمون الا من اذن 485 لا يستأذنك الذين يؤمنون 356 لا يمسه الا المطهرون 224 لا يملكون الشفاعة الا من اتخذ 484 لقد جاءكم رسول من أنفسكم 238،241 للسائل و المحروم 370 لله الأمر من قبل و من بعد 387،484 لنبلوهم أيهم احسن عملا 393 لنعلم اي الحزبين احصى كما 393 لو كان فيهما آلهة الا الله 434،468 لو لا انزل عليه آية من ربه 116 لو ما تأتينا بالملائكة 117 ليجزي قوما بما كانوا يكسبون 363 ليس عليك هداهم و لكن 489 ليس كمثله شىء و هو السميع البصير 469 ليهلك من هلك عن بينة 37 ما أفاء الله على رسوله 380 ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت 430 ما قلت لهم الا ما امرتني 469 ما كان حديثا يفترى و لكن 9 ما كان لاهل المدينة و من حولهم 357 مالك يوم الدين 98،452 ما يكون من نجوى ثلاثة الا هو 469 ممن ترضون من الشهداء 343 من الذين هادوا يحرفون 196 من عمل صالحا فلنفسه و من 363 من المؤمنين رجال صدقوا 239،244 من يطع الرسول فقد أطاع الله 470 منه آيات محكمات هن أم 270 النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا 9 نبىء عبادي اني انا الغفور 432 نبئنا بتأويله 223 نزل به الروح الامين 261 و ابتغ فيما آتاك الله 64 و اتبع ما يوحى إليك و اصبر 357 و احسن كما احسن إليك 66 و أحسنوا ان الله يحب المحسنين 66 و أحل الله البيع و حرم الربا 65 و أحل لكم ما وراء ذلكم 65،264،311 و اخفض لهما جناح الذل من الرحمة 471 و ادعوه خوفا و طمعا 480 و إذا جاءتهم آية 111 و إذا سألك عبادي عني فأني 483 و إذا قلتم فاعدلوا 63 و إذا جاءتهم آية قالوا 111 و إذ قال إبراهيم لابيه 50
ص: 552
و إذ قال الله يا عيسى بن مريم 469 و إذ قال عيسى بن مريم 119 و إذ قالوا اللهم ان كان 110 و إذ يعدكم الله احدى 69 و اذكر إسماعيل و اليسع 51 و إذ واعدنا موسى أربعين ليلة 86 و أرسلنا الرياح لواقح 72 و استعينوا بالصبر و الصلاة 482 و أسروا قولكم او اجهروا 414 و إسماعيل و اليسع و يونس 51 و اشهدوا ذوي عدل 343 و أطيعوا الله و أطيعوا الرسول 231 و اعبدوا الله و لا تشركوا به 65 و اعلموا انما غنمتم من شىء 380 و اللذان يأتيانها منكم 308 و الذين جاهدوا فينا 489،497 و الذين عقدت ايمانكم 333 و الذين في أموالهم حق معلوم 370،372 و الذين هم لفروجهم حافظون 327 و الذين يصلون ما امر الله 22 و الله انزل من السماء ماء فأحيا 359 و الله الغني و أنتم الفقراء 457 و الله يهدي من يشاء الى 425،497 و إلهكم اله واحد 49 و ان اعبدوني هذا صراط مستقيم 489 و أنبتنا فيها من كل شىء موزون 72 و ان جاهداك على ان تشرك 471 و ان جنحوا للسلم فاجنح لها 352 و ان الساعة لآتية 358 و انكحوا الأيامى منكم 65،361 و ان كنتم في ريب مما نزلنا 230 و انك لتهدي الى صراط مستقيم 488 و انك لعلى خلق عظيم 50 و ان لك لاجرا غير ممنون 50 و ان لكم في الانعام لعبرة نسقيكم 359 و ان من قرية الا نحن 110 و ان المساجد لله فلا تدعوا 475 و ان هذا صراطي مستقيما 489 و انه لتنزيل رب العالمين 261 و انه لذكر لك و لقومك 9 و انه لكتاب عزيز 209 و انه لهدى و رحمة للمؤمنين 439 و ان يروا آية يعرضوا 118 و ان يمسسك الله بخير فهو على 469 و ان يمسسك الله بضر فلا 469 و اوحى ربك الى النحل ان 360 و أورثنا القوم الذين كانوا 75 و أولوا الأرحام بعضهم اولى 331 و بعهد الله أوفوا ذلكم 489 و حيث ما كنتم فولوا 288 و دوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون 337 و زكريا و يحيى و عيسى 50 و شفاء لما في الصدور و هدى 439 و عاشروهن بالمعروف 65 وعد الله الذين آمنوا و عملوا 480 وعد الله المؤمنين و المؤمنات جنات 489 و عسى ان تكرهوا شيئا 306 و على الذين يطيقونه فدية 300 و الفتنة أشد من القتل 287 و في أموالهم حق للسائل و المحروم 370 و قاتلوا في سبيل الله الذين 287 و قال الذين أشركوا لو شاء 308 و قالت اليهود يد الله مغلولة 522 و قالوا اتخذ الله ولدا 49 و قالوا لن نؤمن لك 112 و قالوا لو لا نزل عليه آية 115 و قالوا لو لا انزل عليه ملك 116 و قالوا لو لا نزل هذا القرآن 115
ص: 553
و قالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام 117 و قالوا يا ايها الذي نزل عليه الذكر 116،207 و قضى ربك الا تعبدوا الا إياه 464،472 و قل رب اغفر و ارحم 430 و كان بالمؤمنين رحيما 431 و كتبنا عليهم فيها ان النفس بالنفس 291 و كذلك نري إبراهيم 50 و كلم الله موسى تكليما 407 و كلوا و اشربوا حتى يتبين لكم 298 و لئن أخرنا عنهم العذاب 110 و لئن سألتهم من خلق السماوات 426 و لا تجعل يدك مغلولة 63 و لا يملكون الشفاعة 484 و لا يحسبن الذين يبخلون 63 و لا تسرفوا انه لا يحب 63 و لا تقاتلوهم عند المسجد الحرام 301 و لا تقف ما ليس لك به علم 397 و لا تقولوا لمن القى إليكم السلام 338،479 و اللاتي يأتين الفاحشة 308 و لا تنفع الشفاعة عنده الا 484 و لا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ 304 و لا تهنوا في ابتغاء القوم 355 و لأغوينهم أجمعين 481 و لقد آتينا داود 51 و لقد آتيناك سبعا من المثاني 420 و لقد ضربنا للناس في هذا القرآن 261 و لقد يسرنا القرآن 262 و لكل جعلنا موالي مما ترك 331 و لكم في القصاص حياة 296 و لكم نصف ما ترك أزواجكم 315 و لكن من شرح بالكفر صدرا 490 و لله المشرق و المغرب فاينما 75،288 و لله ملك السماوات و الأرض و الى الله 464 و لو انهم إذ ظلموا أنفسهم 484،535 و لو تقول علينا بعض الأقاويل 38 و لو شاء الله لجعلكم امة 308 و لو لا فضل الله عليكم و...424 و لهن مثل الذي عليهن 65 و الليل إذا يغشى 86 و ما أرسلناك الا رحمة للعالمين 439 و ما أرسلنا من رسول الا ليطاع 470 و ما تشاؤن الا ان يشاء الله 87 و ما جعل عليكم في الدين من حرج 264 و ما جعلنا القبلة التي كنت 289 و ما كان الله ليعذبهم 101،110 و ما كان لرسول أن يأتي 117 و ما كان معه من اله 468 و ما كان لمؤمن و لا مؤمنة 329 و ما كان المؤمنون لينفروا 355،356،357 و ما لنا ان لا نتوكل على الله 489 و ما نرسل بالآيات إلاّ تخويفا 110 و ما نرسل بالآيات الا تخويفا 110 و المحصنات من الذين أوتوا 305 و من آبائهم و ذرياتهم 51 و من ثمرات النخيل و الأعناب 359،360 و من قتل مظلوما فقد جعلنا 64،296 و من كل الثمرات جعل فيها 73 و من يطع الله و رسوله فقد فاز 64،470 و من يطع الله و رسوله يدخله 480 و من يعص الله و رسوله 64 و من يعظم شعائر الله فإنها من 474 و من يعمل مثقال ذرة شرا 64 و من يولهم يومئذ دبره 350 و نحن اقرب اليه من حبل الوريد 469 و نزلنا عليك الكتاب تبيانا 439 و ننزل من القرآن ما هو شفاء 439 و وهبنا له إسحاق و يعقوب 50 و هذا صراط ربك مستقيما 488
ص: 554
و هو الذي انشأ جنات معروشات 345 و هو الله في السماوات و في الأرض 428 و هو الله لا اله الا هو 49 و هو القاهر فوق عباده 469 و يستعجلونك بالعذاب و لو لا 110 و يطعمون الطعام على حبه 372 و يعذب المنافقين ان شاء 432 و يعلمك من تأويل الأحاديث 223 و يقول الذين كفروا لو لا 116 و يؤثرون على أنفسهم و لو كان 371 هذا بصائر من ربكم و هدى 439 هذا بيان للناس و هدى 17،261 هذا تأويل رؤياي 223 هذا ما وعد الرحمن و صدق 430 هو الذي أرسل رسوله بالهدى 69 هو الذي بعث في الأميين رسولا 50 هو الذي يصوركم في الأرحام 49 هو الله الذي لا اله الا هو عالم 49 هو الله الذي لا اله الا هو الملك 49 هو الله الخالق البارئ 50 يا ايها الذين آمنوا إذا لقيتم 350 يا ايها الذين آمنوا إذا ناجيتم 372 يا ايها الذين آمنوا أطيعوا 470 يا ايها الذين آمنوا أوفوا 65 يا ايها الذين آمنوا شهادة 342 يا ايها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام 298 يا ايها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص 291 يا ايها الذين آمنوا لا تحرموا 319،517 يا ايها الذين آمنوا لا تقربوا 334،335 يا ايها الناس أنتم الفقراء الى الله 423 يا ايها النبي اتق الله و لا تطع 471 يا ايها النبي إذا طلقتم النساء 308 يا ايها النبي جاهد الكفار 305 يا ايها النبي حرض المؤمنين 353 يبتغون الى ربهم الوسيلة 480 يريدون ليطفئوا نور الله 44 يسألونك عن الخمر و الميسر 334،335 يسألونك عن الشهر الحرام 302 يعذب من يشاء و يرحم 430 يعلم سركم و جهركم و يعلم 428 يا ليت بيني و بينك بعد 74 يمحو الله ما يشاء و يثبت 387،521،522 يؤمن بالله و يؤمن للمؤمنين 264 يوم تبيض وجوه و تسود وجوه 226 يومئذ لا تنفع الشفاعة الا 484 يوم يخرجون من الأجداث سراعا 10 يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم 10 يهدي به الله من اتبع رضوانه 489
ص: 555
-ا- اسأل الله معافاته و مغفرته 174 استأذنت ربي ان 531 أقاتل حتى يشهدوا ان لا اله الا الله 541 اقرأ القرآن على حرف 173 اقرأني جبرئيل على حرف 171 أمرت ان أقاتل الناس حتى 542 ان الله عز و جل أعز بالإسلام 66 ان البيت الذي يقرأ فيه القرآن 28 انزل القرآن على سبعة أحرف 175 ان هذا القرآن انزل على سبعة أحرف 175، 185 اني تارك فيكم الثقلين 18،227،251،398 -ت- ترد امتي علي يوم القيامة 226 -ق- قد بحث باحث عن مخرجه 29 قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور 531 -ك- كان الكتاب الاول نزل من باب واحد 183 كل ما كان في الأمم السالفة 220 -م- ما من أحد يسلم علي الا رد الله 533 ما من رجل يزور قبر حميمه فيسلم 533 ما من رجل يمر بقبر كان يعرفه 533 من حج فزار قبري بعد وفاتي 533 من زار قبري وجبت له شفاعتي 533 من زارني بالمدينة محتسبا 533 من قرأ حرفا من كتاب الله 28 -و- و اجتنبوا السبع الموبقات 352 -ي- يا أبي اني قرأت 176 يجيء يوم القيامة ثلاثة 227
ص: 556
آل إبراهيم 232،233 آل جعفر 505 آل عمران 232،233 آل محمد 233 أسد 187 أشعر 186 بنو امية 219 بنو تميم 285 بنو حنيفة 34 بنو زهرة 139 بنو غفار 174 بنو قهات 281،282 بنو لاوي 281،282 تميم 185،187 ثقيف 185،250،307 خثعم 186 خزرج 186 ضبة 187 قريش 69،110،185،186،187،192،374 قيس 187 كنانة 185،186،187 مضر 187،244 نمير 186 هذيل 185،186،187،249 هوازن 185،249،306
ص: 557
أحجار المراء 175 آذربايجان 242 ارمينية 242 أصبهان 139 اوربة 59 بئر معونة 255 بدر 70،255 برك الغماد 44 البصرة 133،214،219،245،268، بغداد 134،160 بيت الله الحرام 292،525 الجامع الاموي 133 الجزيرة العربية 70،77،90 الجنة 50،114 الحجاز 77،129،245،440،473،524 الحديبية 355 الحرمين 160،220 حنين 307 خيبر 323،381 دقوقا 344 دمشق 126 سوريا 28 سوق عكاظ 39 الشام 126،127،133،160،219،242،245 صنعاء 297 الطائف 307،508،510 العراق 133،160،241،267،525 فارس 133 فلسطين 38 القدس(بيت المقدس)282،292 الكعبة 39،227،228،293،304 الكوفة 133،137،141،245،439،440 المدينة 133،139،146،349،371،419 مرو 134 مصر 220،503،510 مكة 59،68،90،129،133،348،349، 364،419،439،440 نجران 354 نهر تاج(في اسبانيا)59 نهر الجانج(في الهند)59 همدان 128 اليمامة 241،253،255 اليمن 521 اليونان 38
ص: 558
حرف-أ إن الكلام لفي الفؤاد و انما جعل اللسان على الفؤاد دليلا
414 أنت حيّرت ذوي اللب و بلبلت العقولا
429 حرف-ب فيك يا اعجوبة الكون غدا الفكر كليلا
428 حرف-ك كلما اقدم فكري فيك شبرا فر ميلا
428 حرف-ن ناكصا يخبط في عشواء لا يهدي السبيلا
428
ص: 559
ا الآجرى 127،137 آدم«ع» 50،65،474،482 آل البيت،المعصومون،آل محمد،العترة، الائمة 10،13،18،22،25،66،75،88،167، 213،214،215،223،224،226،229،230،265، 269،291،292،294،295،296،299،302، 305،317،334،347،349،371،387،391، 392،394،397،398،401،440،444،446،467، 477،478،483، الآلوسي 206،430،438،439،472،522، الآمدي 206،230،400 إبراهيم«ع»51،172،377 إبراهيم بن شريك 305 إبراهيم النخعي 293،340 إبليس 50،473،474،475،525 ابن ابى اذينة 441 ابن ابى حاتم 131،132،140،146،375 ابن ابى داود 204،500 ابن ابي سفرة 162 ابن ابى شيبة 242،250،375،523 ابن ابى ليلى 136،171،174،175،293، ابن ابى هاشم 165 ابن الأثير 34،302 ابن أشتة 137،202،246 ابن الاعرابي 141 ابن الانباري 204 ابن البرقي 171 ابن تيمية 470،511،518 ابن جريج 443 ابن جرير 232،325،342،373،374 ابن الجزري 126،129،134،137،138،139، 140،141،143،144،145،146،147،153،154، 155،162،163 ابن جماز:سليمان 146،147 ابن الجوزي 131،499 ابن الحاجب 158،160، ابن حجر العسقلاني 140،500،501 ابن حزم(ابو بكر)313،323 ابن حيان 131،135،139،144،250 ابن خراش 130،131 ابن خزيمة 442 ابن خطل 303 ابن دريد 137،152، ابن راهويه 375 ابن رشيق 39 ابن روزبهان 524 ابن الزبير(عبد الله)241،249،319،327،438 ابن زيد 358،359 ابن سعد 128،130،132،137،251،254،330 ابن السكيت 39 ابن سنان 390،391 ابن سيرين 243،500 ابن شاهين 501 ابن شهاب الزهري 171،204،241،242، 243،326 ابن شهراشوب 228 ابن طاوس 227 ابن عائشة 502 ابن عباس 28،29،110،146،171،202،203، 205،230،250،277،288،290،292،294، 302،305،306،310،312،315،317،319، 320،322،327،343،346،347،352،335،357، 359،364،370،373،432،442،443،444،503، 515،521 ابن عبد البر 249،501
ص: 560
ابن عبد الله بن مغفل(يزيد)443،444 ابن عدى 364،520 ابن العربي 18،174،294 ابن عساكر 250،325،520،521 ابن علية 130 ابن عمر(عبد الرحمن)306 ابن عمر(عبد الله)203،251،306،322،325، 327،331،335،370،380،438،444،516،520 ابن عياش(ابو بكر)137،141،152 ابن عيينة 141،322 ابن قتيبة 190 ابن القيم 511 ابن كثير المكي 122،128،152،160،293، 314،332،341،439،511 ابن ماجة 321،322،333،339،514،439 ابن المبارك 439 ابن مجاهد(ابو بكر)134،161،163 ابن مردويه 342،347،348،375 ابن مسعود 28،29،130،176،183،184،185، 192،251،314،319،322،500،510 ابن مسلمة 205 ابن المسيب 302 ابن معين 131،133،136،139،500 ابن المنذر 340،342،348،375 ابن مهدي(عبد الرحمن)137،152 ابن النحاس 162 ابن وارة 127 ابن وهب 171 ابن همام الحنفي 314،340 ابو الأحوص 132 ابو الاخريط(وهب)129 ابو الأزهر 305 ابو الأسود الدئلي 144 ابو إسحاق 136،372 ابو إسحاق الشاطبي 206 ابو إسحاق(كعب)244 ابو أيوب الانصاري 521 ابو بصير 371،387،390،413 ابو البختري بن هشام 506 ابو بكر الخليفة 202،216،217،239،240، 242،243،244،246،247،248،251،252،255، 257،294،314،318،319،323،371،443،501 ابو بكر القاضي 124،400 ابو بكر بن ابي داود 244 ابو بكر الجصاص 293،296،302،310، 321،327،332،335،346 ابو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم 296 ابو جعفر 146،147،227،230 ابو جعفر الثاني محمد الجواد 411،515 ابو جعفر الباقر(ع)23،25،110،177،198، 210،223،229،267،299،340،388،389، 390،391،440 ابو جعفر محمد بن سعدان النحوي 183 ابو جعفر محمد بن نعمان 427 ابو جهل 57،507 ابو جهل بن هشام 506 ابو حاتم 364 ابو حرب بن ابي الأسود 203 ابو الحسن(احمد القواس)129 ابو الحسن الرضا(ع)39،362،387،389،396، 527 ابو الحسن موسى(ع)228،389 ابو الحسين البصري 330 ابو حمزة 179 ابو حنيفة 28،136،267،268،293،334، 340،343،346،352،369،439،449 ابو خزيمة 249 ابو خزيمة الانصاري 246،249 ابو خيثمة 133 ابو داود 176،255،321،323،330،333،339، 343،441،447 ابو داود السجستاني 339 ابو داود الطيالسي 264 ابو الدرداء 180،250،251 ابو ذر 226،372 ابو رزين 360
ص: 561
ابو زيد 152،250،251 ابو سعيد الخدري 314،347،351،499،503 ابو سعيد فرج بن لب 123،159 ابو سعيد بن المعلى 419 ابو سفيان الكلاعي 205 ابو سلمة 175،176 ابو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل 153،154، 155،164 ابو الشيخ 520،325 ابو صالح كاتب الليث 325 ابو طالب 139 ابو طلحة 370 ابو العالية 290،300 ابو العباس المهدوي 153،161 ابو عبد الرحمن السلمي 29،130 ابو عبد الله الزبير بن احمد 145 ابو عبيد 141،342،348،370 ابو عبيد القاسم بن سلام 162،439 ابو عصمة(فرج بي ابي مريم)28 ابو العلاء الهمداني 128 ابو عمرو بن عبد البر 179 ابو عمرو الحافظ 127 ابو عمرو الداني 128،135،153 ابو عمرو الشيباني 130 ابو عمرو عثمان بن الصلاح 28 ابو عمرو بن العلاء 133،160 ابو عمرو البصري 122،133،134،152،156 ابو عمرة 393 ابو الفرج الاصبهاني 502 ابو الفضل الرازي 189 ابو قلابة 244 ابو قلامة 185 ابو كريب 171،172،173،175،176،184 ابو الكنود(سعد بن مالك)205 ابو لهب 66،70 ابو محمد(مكي بن ابي طالب)153،161،163 ابو مسلم 377 ابو معاوية الازهري 133 ابو المليح 245 ابو موسى الاشعري 204،343 ابو ميسرة 335 ابو نظرة 318،351 ابو نعامة 517 ابو نعيم 132،342 ابو واقد الليثي 503 ابو هريرة 146،175،176،335،351،352، 393،439،442،444،446،447،448،482، 515،519 ابو يعلى 323،499،523، ابو يوسف القاضي 330،340 الابهري 185 الأثرم 519 ابي بن كعب 28،29،171،172،174،175،176، 178،204،205،245،246،249،250،251،252، 315 احمد بن جبر بن محمد الكوفي 162 احمد بن حنبل 137،152،203،204،206، 241،250،255،314،318،319،320،322،326، 330،333،335،339،342،434،349،443،499، 503،510،514 احمد بن سنان 137،152 احمد بن صاع المصري 140،501 احمد بن عبد الله الجويباري 28 احمد بن عبد الله بن يونس 305 احمد بن محمد البزي 128 احمد بن محمد السياري 226 احمد بن محمد الطوسي 175 احمد بن محمد بن عون النبال 129 احمد بن منصور 173 احمد بن موسى بن العباس بن مجاهد 160، 163 إدريس بن عبد الكريم الحداد البغدادي 143 الازدي 137،364 إسحاق بن إبراهيم الدوري 143 إسحاق(ع)51،52 إسحاق بن راهويه 439
ص: 562
إسحاق بن عمار 26 اسلم المنقري 131 اسماء بنت يزيد 341،342 إسماعيل بن إبراهيم بن محمد القراب 161 إسماعيل بن إسحاق المالكي 162 إسماعيل بن جابر 372 إسماعيل بن جعفر الصادق(ع)265 اشعث بن سوار 500 الأصبغ بن نباتة 230،389 الاصمعي 152 الأعمش 130،136 الامام الغائب المهدي(ع)208،212 أم سلمة 444،515 أم عبد الله ابنة ابي خيثمة 323 الامين(ابن الرشيد)141 أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث 251،254 انس بن مالك 68،241،250،251،441،443، 444،448،482،516،517 أوريا المجاهد المؤمن 52،53 الاوزاعي 306،370 أوس بن أوس الثقفي 526 أيوب بن تميم 126،127 ب البخاري 131،171،174،202،240،241،250، 251،293،298،322،393،418،419،420، 482،503،510،339 البراء بن عازب 181 البرقي 481 بريدة 519 البزار 68،132 البزنطي 389،391 بلال بن ابي الدرداء 126 بشر بن مروان 502 البصري حسن 242،290،292،296،351، 353،356،357،368،371 البصري النحوي 145 البغوي 519 بن عمى(اب بني عمون)51 بولس الرسول 284 البهائي 201،233 البيهقي 185،250،294،319،322،326،342، 348،372،439،441،442،473،511،515 ت الترمذي 18،19،28،174،221،255،339،377، 378،443،448،483،503،514،515 تمام 520 ث ثامار(زوجة عير بن يهودا)52 الثعلبي 377،378 ثوبان 514 الثوري 293،370،439 ج جابر الجعفي 227 جابر بن عبد الله 30،223،227،294،305،314، 318،319،322،482،528 الجبائي 331 جبرائيل 173،174،175،178 جبير بن نفير 342 الجزائري 160،188 الجزائري(المحدث)227 جعفر بن محمد بن إبراهيم 348 جومر بنت دبلايم(زوجة هوشع)53 جويبر 66،364 ح الحارث المحاسبي 258 الحارث الهمداني(بن عبد الله الأعور)18،500، 501،502 الحازمي 512 الحاكم 250،342،375،431،434،442،448، 483،499،501،503،517 الحجاج 219،220 الحجال 228 حذيفة بن اليمان 227،241
ص: 563
حرملة 171 حريز 232 حزقيال 282 الحسن بن الحسن السامري 227 الحسن بن عطية 228 الحسن بن علي الوشاء 527 الحسن بن علي بن ابي طالب(ع)231،290 الحسن بن علي العسكري(ع)419 الحسن بن علي الوشاء 527 الحسن بن عمر الفقيمي 502 الحسن بن منصور 524 الحسين الجعفي 420 الحسين بن علي بن ابي طالب(ع)228،231، 390،458 حفص 130،164 حفص بن سليمان الاسدي 131 حفص بن عمر 142 حفصة بنت عمر 240،241،242 الحكم 296 الحكم بن عيينة 320 حماد بن سلمة 131 حمران بن أعين 136 حمزة الزيات 141 حمزة الكوفي(ابو عمارة بن حبيب)122، 136،137،143،152،160،438،439 حميدة بنت ابي يونس 203 حواء 50 الحية ألت أغرت آدم(ع)50 خ خارجة بن زيد بن ثابت 241،242، خزيمة بن ثابت 241،243،244،249 الخطيب 520 الخطيب البغدادي 138 خلاد بن خالد الشيباني 137،138 خلف بن هشام البزار الاسدي 122،137،138، 142،143 الخليل 452 الخليلي 152 خوله بنت حكيم 326 د الدار قطني 127،131،134،137،143،342، 364،441،442 الدارمي 19،499 الداني 126،144،146 داود 52،53،293 داود بن ابي صالح 521 الداود بن ابى صالح 521 الداوديّ 162 درباس مولى عبد الله بن عباس 128 الدوري(أحد وزراء فرنسا)59 الدوري حفص بن عمرو 134،139،500 الديلمي 520 ذ الذهبي 131،499،500،514 ر الرازي 319،377،439،513 الراغب 302 الرافعي 156،191،201 الربيع بن سبرة 321 ربيعة 303 ربيعة بن امية 326 رحمة بن خليل الرحمن الهندي 284 الرسول الأعظم محمد بن عبد الله(ص)10،13، 18،20،28،29،39،40،43،44،45،46،55،65، 66،68،69،70،82،92،98،104،105،110، 112،114،116،118،119،123،151،154،160، 161،163،164،165،166،167،171،172،173، 174،175،176،177،178،179،180،181، 182،186،188،193،199،200،201،202، 203،204،206،209،215،216،218،221، 222،225،227،231،232،239،240،241، 242،243،245،246،247،248،250،251،252، 254،255،258،291،294،296،305،314،317، 318،319،320،321،322،323،324،325،
ص: 564
326،327،328،330،333،335،336،339، 341،342،343،348،358،362،370،374،375، 376،377،378،380،381،393،397،418،419، 434،440،441،442،443،444،445،446،469، 470،471،473،480،481،482،483،484،485، 501،503،506،507،508،510،514،515،517، 519،520،521 الرشيد هارون 141 الرقاشي 310 روح(ابو الحسن بن عبد المؤمن الهذلي)142، 145 رويس(محمد بن المتوكل ابو عبد الله اللؤلؤي البصري)144 الريان 362 ز زارح بن يهودا 52 الزاهدي 439 الزبير بن العوام 68 زرارة 177،389،392 زر بن حبيش 130،175،176،204 الزرقاني 123،159،165،189،190 الزركشي 152،160 زفر 346 الزمخشري 13،152،484 الزهري 30،296،345،439 زياد بن لبيد 66 زيد بن ابي حبيب 351 زيد بن أرقم 202،499 زيد بن اسلم 343،353 زيد بن ثابت 239،240،241،242،244،245، 246،247،248،249،250،251،252،254،499 زيد بن الشمام 267 الزيلعي 511 زين العابدين(الشيخ)522 س السائب بن ابي السائب المخزومي 128 الساجي 131،137،139،364 سارة(زوجة إبراهيم(ع)51 سالم 251،252 سالم بن عبد الله 242،316 سبرة 321 السبكي 123 السدي 288،290،300،315،343،356،503 سعد بن ابي وقاص 501 سعد بن عبادة 217 سعد بن عبد الله القمي 227 سعد بن عبيد 250 سعد الخير 198 سعيد 249،359،523 سعيد بن جبير 291،314،315،232،343، 346،360،439،442،443 سعيد بن العاص 241،244،245،246 سعيد بن المسيب 296،316،343 سعيد بن منصور 139،375 سعيد بن يحيى 176 سفيان الثوري 136،343 سفيان بن سعيد 306 سلام 144 سلمان الفارسي 66 سلمة بن الأكوع 321،322،324 سلمة بن امية بن خلف 314 سلمة بن شبيب 137 سليم 138 سليمان(ع)221 سليمان بن أرقم 141،243 سليمان الأعمش 136 سليمان بن جرير 513 سليمان بن صرد 172 سليمان بن داود 52،53،221 سليمان بن عبد الرحمن(ابو أيوب)127 سليمان بن يسار 323 سليمان المروزي 387 سماعة 390،525 سمرة 294 السمهوري 499
ص: 565
السوس ابو شعيب 134 سهل بن سعد 20 سيبويه 452 السيوطي جلال الدين 69،124،154،183،202، 439،499،503 ش الشافعي 206،326،330،343،370،438،152 الشرف المرسي 161 شريح 343 شريك 517 شعبة بن عياش الاسدي 131،320 الشعبي 18،250،296،350،343،360،501، 502 شعيب بن انس 267 الشوكاني 304،342،375،438 شهاب بن شرنقة المجاشعي 144 الشهشهاني 200 شيبة 146،147 الشيخ شرف الدين 377 الشيخان ابو بكر و عمر 217،255 الشيطان 50،457،467 ص صاحب القاموس 185 الصاحبي 503 الصادق جعفر بن محمد ابو عبد الله(ع)22،23، 25،26،28،75،88،136،141،177،220،228، 230،232،234،265،267،269،343،347،352، 362،366،367،371،372،387،388،389،390، 391،392،413،427،440،455،481،513 الصادقان الباقر و الصادق(ع)193،210،372 صالح بن محمد 127،131 الصدوق ابن بابويه القمي 200،220،227،228، 34،362،374،387،389،390،392،418،427، 513،2527 الصدوقان(محمد و والده علي بن بابويه القمي)307 صموئيل 52 الصيدونيون 53 ض الضحاك 346،351،365،367،368،369 ضمرة بن حبيب 342 الضياء المقدسي 250 ط طاوس 314،439 طاهر بن صالح الجزائري 152 الطبراني 68،202،250،342،348،499 الطبرسي 13،200،201،206،207،356، 368،389 الطبري ابن جرير 44،57،110،152،163،171، 172،175،176،179،180،183،184،185، 199،292،320،375،380،430،500،510 الطحاوي 325 طلحة 222 طلحة بن زيد 366 طلحة بن مصرف 136 الطوسي شيخ الطائفة 13،200،233،340،366، 367،368،377،391 الطيالسي ابو داود 326،335،521 ع عائشة 203،204،285،302،342 عائشة بنت طلحة 502 العاص بن وائل السهمي 506 عاصم بن بهدلة الكوفي 122،130،131،156، 160،176،438 عاصم بن سليمان 364 عامر 294 عبادة بن الصامت 255،310 عباس الدوري 137 العباس 440 عبد الأعلى 228 عبد الأعلى بن عبد الله بن عبد الله بن عامر القرشي 245 عبد الباقي المالكي الزرقاني 314 عبد بن حميد 342،375 عبد الجبار القاضي 330 عبد خير 503،515
ص: 566
عبد الرحمن بن ابي بكر 519 عبد الرحمن بن ابي بكرة 173 عبد الرحمن بن الحارث 241،246،249 عبد الرحمن بن عوف 205،249 عبد الرحمن بن مهدي 131،152 عبد الرزاق 375 عبد العزيز بن الأخضر(الحافظ)499 عبد الله 252 عبد الله بن ابي امية المخزومي 56،507،509 عبد الله بن ابي الجدعاء 483 عبد الله بن ابي داود السجستاني 198 عبد الله بن ابي طلحة 173 عبد الله بن ابي مليكة 519 عبد الله بن احمد بن بشير 127،130،132 عبد الله بن احمد بن حنبل 139 عبد الله بن زياد بن عبد الله بن يسار 129،المكي عبد الله بن السائب 128 عبد الله بن عامر الدمشقي ابو عمران اليحصبي 122،126،160 عبد الله بن علي 140 عبد الله بن عياش بن ابي ربيعة 146 عبد الله بن فضالة 244 عبد الله بن قيس 343 عبد الله بن مسكان 388،389 عبد الله بن مغفل 443 عبد الله بن موسى 136 عبد الملك بن مروان 502 عبيد بن أسباط 175 عبيد بن عمير 243 عبيدة 343،500 عثمان الخليفة 178،182،186،192،198، 199،203،216،218،241،242،243،244،245، 246،247،248،249،250،258،372،434،443، 445 عثمان الدارمي 131،132،500 العجلي 126،130،137 عروة 326 عروة بن الزبير 203 عروة بن مسعود الثقفي 507 العزرمي 141 عشتورت 53 عطاء 290،292،296،300،304،314،319، 320،340،353،367،368،370،439 عطاء بن ابي رياح 351 عطاء بن السائب 131 عطية بن قيس 342 العقيلي 129،130،134 عكرمة 245،290،302،310،346،351،353، 356،357 علقمة الأنماري 377 علي بن ابي طالب(ع)امير المؤمنين 19،21،30، 77،90،144،217،218،220،222،223،225، 230،231،232،233،242،255،294،296، 320،321،322،323،324،341،374،375، 376،377،378،379،380،387،389،390، 394،419،432،434،441،444،477،484،500، 501،503،515،521 علي بن إبراهيم 388 علي بن إبراهيم القمي 210،226،232 علي بن ابي بكر المرغيناني 340 علي بن احمد الكوفي 226 علي بن الحسين زين العابدين(ع)30،76 علي بن حمزة الكوفي 389،390،391 علي بن سويد 141 علي بن المديني 228 عليل بن احمد 128،131،152،293 عمار بن موسى 364 عمران بن حصين 319 عمر بن ابي خليفة 502 عمر بن الخطاب 173،174،186،188،192، 202،203،205،216،239،240،242،243،244، 247،248،249،252،285،294،296،314،318، 319،320،323،324،325،326،327،328، 329،331،335،336،363،371،443،484،485 عمر بن عبد العزيز 502 عمرو بن حريث 314،318،322
ص: 567
عمرو بن شعيب 294 عمر بن يزيد 22 عمرو بن عثمان العثماني 175 عمرو بن عبيد 420 عمرو بن عمر 351 عمرو بن الحمق 394 عمرة 204 العياشي 19،230،388،389،390،394،513 عياض القاضي 190 عير بن يهوذا 52 عيسى،اليسوع،المسيح(ع)38،39،52،53، 54،58،85،103،118،119،221،283،504 عيسى بن أبان 399 عيسى بن عبد الله 341 عيسى بن عمرو الأعمش 141 عيسو(بن إسحاق)51،52 عيسى بن وردان الحذاء 146 غ غالية الفكي 73 غزوان بن ابي حاتم 372 غياث بن إبراهيم 220 ف فارص بن يهذوا 52 فاطمة 380،515،521 الفخر الرازي 379،386،512 فرات بن إبراهيم الكوفي 230 فرعون 51،221،406 الفضل بن دكين 254 الفضل بن روزبهان 37 الفضيل بن يسار 388 الفلاس 364 ق القاسم بن ابي بكر 316 القاسم بن فيرة 142 قالون(عيسى بن ميناء)139،163 2 قتادة 250،267،268،288،290،296،305، 310،335،351،353،357،359،360،443،517 القرطبي 28،29،30،57،162،176،179،249، 254،291،292،315،320،348،356،358،367، 368،373،381،501،511 القطب الراوندي 234 قطبة بن ميمون 228 القنوجي 511 القوشجي 330،407 ك كاشف الغطاء الشيخ جعفر 200 الكرخي 399 الكركي المحقق 234 الكلباسي المحقق 234 الكسائي الكوفي 122،127،141،142،156، 161،438 كليب 255 الكليني محمد بن يعقوب 28،343،347،352، 366،371،387،388،391،392،413،481 كموش 53 ل اللالكائي 137 لبيد الشاعر 425 ليث بن ابي سليم 136 الليث(ابو الحارث بن خالد)142 الليث بن سعد 202،246 لوط(ع)50 م مالك بن انس جد مالك 139،244 مالك 314،326،340،343،370،439،448 المأمون بن الرشيد 161 مجاهد 128،246،310،332،335،341،358، 360،374 مجاهد بن جبر 128 المجتبى 439 المجلسي 217،375،513 محسن القاساني 200
ص: 568
المحقق البغدادي 234 محمد بن احمد بن عمر الداجوني 163 محمد بن إسحاق 28 محمد البابرتي 314 محمد بن بشار 185 محمد بن جابر 310 محمد بن حاتم الكندي 138 محمد حامد الفقى 519 محمد بن الحسن الصفار 387 محمد بن الحنيفة 346 محمد سعيد العريان 156 محمد بن سليمان 511 محمد بن سنان 515 محمد بن سيرين 242،343 محمد بن العباس 377 محمد بن عبد الأعلى 172 محمد بن عبد الرحمن بن ابي ليلى 136،141 محمد بن عبد الرحمن(ابو عمرو 129،المخزومي) محمد بن عكاشة الكرماني 28 محمد فريد و جدي 60 محمد بن الفضيل 230،481 محمد بن كعب 439 محمد بن المثنى 174،175 محمد بن مسلم 299،362،392 محمد بن نصر 342 محمد بن هارون التمار 145 محمد بن هشام 364 محمد بن يعقوب 527 محمد جواد البلاغي 20،55،58،200،284 محمد عبده 331،512 المرتضى السيد 200،207 المرزباني 141 مروان 521 مرة بن خالد 500 المرغيناني(شيخ الإسلام)314،340 المروزي(إسحاق بن إبراهيم)127 مسدد 520 مسروق 251 مسلم 131،171،172،174،175،202،204، 298،318،319،320،322،327،446،447،482، 503 مسلم بن قاسم الاندلسي 135 مسلمة بن محارب المحاربي 144 مسلمة بن مخلد الانصاري 205 مسيلمة 34،99 المسور بن مخرمة 204 مصعب بن الزبير 502 مصعب بن سعد 245 المظفر الفارسي(الحافظ)286 معاذ بن جبل 250،251،252 معبد بن أمية بن خلف 314 المعتمر بن سليمان 517 معاوية بن ابي سفيان 219،220،314،501،516 معاوية بن الحجاج 347 معاوية بن عماد 440 معاوية بن وهب 481 المعتمر بن سليمان 517 المغيرة بن ابي شهاب 126 المغيرة بن مقسم 136 المفيد(الشيخ)201،233 المقبري 175 المقداد 68 مكحول 374،439 مكي بن ابي طالب 156 ملك الروم 69 ملك الفرس 69 ملكوم 53 المناوي(العلامة)66،499 منصور بن ابي سليم 136 موآب(اب الموآبين)51 موسى(ع)38،39،56،85،103،118،119، 221،281،283،406،501،504 ميكائيل 173،178 ن النابغة الذبياني 39
ص: 569
نافع بن عبد الرحمن بن ابي نعيم المدني 122، 139،140،146،147،156،160 نافع مولى ابن عمر 203،327،351 النحاس ابو بكر 277،298،306،315،332 النحاس ابو جعفر 286،300،304،310 النسائي 126،130،131،135،136،137،139، 250،251،255،336،339،342،364،441،443، 447،500 نصر بن علي الجهضمي 133 النظام 83 نظام الدين النيسابوري 379 نور الله القاضي 201 النيسابوري 280 ه هارون أخو موسى(ع)221،501 هشام بن الحكم 343 هشام بن حكيم 174،186 هشام بن سالم 392 هشام بن عروة 242 هشام بن عمار 126،127 همام 180 هوشع 53 الهيثم بن عمران 126 الهيثمي 499،503 و ورش(عثمان بن سعيد)139،140 الوليد بن مسلم القرشي 518 الوليد بن المغيرة المخزومي 506،507 الوليد بن عبد الله بن جميع 254 الوليد بن عبد الملك 126،502 ي يحيى بن ابي عمران الهمداني 440 يحيى بن جعدة 243 يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب 242 يحيى بن المبارك اليزيدي 134 يحيى بن معين 126،138،146 يحيى بن يعمر 343 يزيد بن منصور الحميري 134 يزيد بن القعقاع 122،142،146 يزيد بن هارون 137،152 يزيد الفقير 482 يعقوب النبي(ع)51،52 يعقوب بن إسحاق الحضرمي 122،142،144، 145،152،161 يعقوب بن سفيان 130 يعقوب بن شعيب 513 يعقوب بن شيبة 132 يوآب 52 يوحنا المعمدان 55 يوشيا الملك 53 يونس 452 يونس بن عبد الأعلى 172،174،183 يهوذا بن يعقوب 52
ص: 570
ا أجود التقريرات(للسيد الخوئي)369،408 احكام القرآن(للجصاص)293،296،302،310، 321،327،332،335،340،346 احكام القرآن(لابس بكر ابن العربي)294 اعجاز القرآن(للرافعي)156،191،201 الإتقان في احكام القرآن 155،160،164،186، 202،203،204،205،246،254،256،439،441 الاحتجاج(للطبرسي)389 الاحكام في اصول الاحكام(للآمدي)206 الاستبصار(للطوسي)440 الإكمال(للصدوق)220 الامالي(للصدوق)389 امتاع الاسماع للمقريزي 353 إنجيل متى 52،53،54،58،85،86،283،284 إنجيل مرقس 54،558،284 إنجيل لوقا 53،54،55،58،284 إنجيل يوحنا 54،58 اظهار الحق للدهلوي 284 ب بحار الأنوار 18،19،21،66،217،220،362، 375،378،387،389،390،391،434،458،481، بصائر الدرجات 387 بلوغ الارب 59 ت تفسير ابن كثير 290،293،314،332،341، 347،353،439 تفسير ابي حيان 452 تفسير علي بن إبراهيم 388 تفسير البرهان 110،222،341،347،348، 360،374،375،378،419،427،430،433،455، تفسير الخازن 439 تفسير الرازي 377،379 تفسير الشوكاني 342،348،352،438 تفسير الصافي 223 تفسير الطبري 57،110،176،179،180،183، 184،185،282،320،251،352،375،380،430 تفسير العياشي 230،386 تفسير الفرات 22،230 تفسير القرطبي 28،29،30،57،162،176، 179،249،254،290،291،292،315،320، 348،356،367،368،369،370،373،381 تفسير المنار 328 تفسير النيسابوري 380 تهذيب التهذيب 126،127،128،131،132، 134،135،137،138،139،141،144،152،296، التبيان للجزائري 152،155،156،160،161، 165،179،181،183،185،189 تيسير الوصول 448 التاج 255،330 تفسير التبيان للطوسي 200،367 التوحيد للصدوق 392،389 تفسير روح المعاني للآلوسي 206،430،438 تاريخ الطبري 44 تهذيب الآثار لابن جرير 325 التهذيب للطوسي 433،440 ج الجامع الصغير للسيوطي 66 ح حسن الإيجاز 94 خ الخصال للصدوق 227 د الدلائل لأبي نعيم 342 ر الرحلة المدرسية للبلاغى 55،58 س سنن ابن ماجة 221،322 سنن ابي داود 321،353،441 سنن البيهقي 294،319،322،326،348،441، 442،447،473 سنن الدارمي 19
ص: 571
سنن النسائي 336،353،441،443،447 ش شرح التجريد في مبحث الامامة 330،407 شرح الزرقاني 314 شعب الايمان(للبيهقي)342 شعراء النصرانية 39 ص صحيح البخاري 171،174،186،202،240، 241،250،251،353،393،420،482 صحيح الترمذي 18،19،174،175،221،443 صفوه العرفان(محمد فريد و جدي)60 صحيح مسلم 171،172،174،175،202، 204،318،319،320،321،326،327،353، 441،443،447،482 الصحيفة السجادية للامام السجاد(ع)76،431 الصلاة لمحمد بن نصر 342 ط طبقات القرآن من صفحة 126 الى 147 طبقات لابن سعد 330 ع علم اليقين 200 عيون اخبار الرضا 384،388،489 العروة الوثقى للشهشهاني 200 العهد القديم 50،55 العمدة لابن رشيق 39 غ الغيبة للطوسي 391 ف فضائل القرآن 19،472 فتح القدير(للشوكاني)304،327،340 الفقه على المذاهب الاربعة 439 ق قرب الاسناد 389 ك كامل الزيارات لابن قولويه 228 كشف الغطاء للشيخ جعفر 200 كنزل العمال 255،324،325،373،398،448 الكافي للكليني 13،26،27،28،30،40،66، 89،167،177،413،433،440،441،455 الكامل لابن الأثير 34 الكاشف للزمخشري 13 ل لباب النقول(جلال الدين السيوطي)69 لسان العرب 95 لسان الميزان 129،140،364 م مجمع البيان للطبرسي 13،200،207،356 مختصر ابي الضياء 314 مرآة الأنوار 22 مرآة العقول 477 مسند احمد 203،255،318،319،320،326، 335،336،342،434،443 مسند الطيالسي 335 معجم الأدباء 142 مناهل العرفان(للزرقاني)123،159،166،190 منتخب كنز العمال 204،241،243،250 المبسوط للطوسي 368 المنتقى للفقي 314،322،333،339،343 الموافقات للشاطبي 206، المستدرك للحاكم ث 254،431،432،434، 442،443،448 ن نفحات الاعجاز(للسيد الخوئي)55،58،94 نهج البلاغة 23،218 الناسخ و المنسوخ للنحاس 288،298،300، 303،304،306،310،315،316،332،335،340، 343،345،346،351،352،356،357،358،359، 360،363،364،365،367،370،381 النشر في القراءات العشر 129،153،154،163 ه هامش المنتقى(للفقي)331 الهداية في شرح البداية 314،327 الهدى الى دين المصطفى 20،55،58،284 هوشع 53 و وسائل الشيعة للحر العاملي 75،234،235، 340،440،472،473 الوافي للكاشاني 198،200،223،232،299، 302،343،352،367،372،387،392،433،455
ص: 572