البدائع في علوم القرآن

اشارة

نام كتاب: البدائع في علوم القرآن

نويسنده: محمد بن ابى بكر بن ايوب الزرعى( ابن القيم الجوزية)

موضوع: علوم قرآنى

تاريخ وفات مؤلف: 751 ق

زبان: عربى

تعداد جلد: 1

ناشر: دارالمعرفة

مكان چاپ: بيروت

سال چاپ: 1427 / 2006

نوبت چاپ: دوم

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

ص: 6

مقدّمة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد للّه رب العالمين،الذي هدانا للإسلام،و ما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا اللّه تعالى،و الصّلاة و السّلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد صلى اللّه عليه و سلم،الذي علّمنا اللّه سبحانه على يديه الكتاب و الحكمة.

و بعد...

لعل من الواضحات التي لا لبس فيها ما نراه الآن من اشتداد الحرب على العقيدة الموحدة للّه تعالى،و الشريعة المطهرة،هذه الحرب تأتي من كل مكان من الخارج،و من الداخل،أما من الخارج فهذا أمر لا يثير كثيرا من ضيقنا بل يشحذ همتنا،ثم لأنك لا تنتظر من عدوك خلاف ما حذرك اللّه منه: وَ لَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لاَ النَّصارى حَتّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدى وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (120)[البقرة:120].

ثم يأتي الردّ القاطع بضلال هؤلاء الأعداء و أنهم ليسوا على شيء من الهدى: قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدى .

ثم يأتي التحذير الشديد و الوعيد الأكيد لكل من ظنّ أنّ في اتباعهم صلاح أو فلاح، و أنّ ترك بعض الدين لمظنّة بعض الهدى عندهم ليس إلاّ تكذيبا لرب العالمين،و صدا عن سبيله: وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ فالعلم النافع كله في دين اللّه تعالى،ظاهرا لا غموض فيه،بينا لا لبس فيه،إلا هو:كتاب اللّه تعالى و سنة نبينا صلى اللّه عليه و سلم.

و لعل بعض الطيبين يعتقد أن هؤلاء الأعداء قد يكون عندهم بعضا من حسن النيّة تجاهنا،فحسم القرآن ذلك و حكم عليه بالبطلان التامّ حين بدأ الآية بالنفي وَ لَنْ تَرْضى .

فيعتقد بعضنا حسن النيّة تجاههم حتى و لو كانوا يأمرون بما يخالف الدين و ينهون عن

ص: 7

صريح الدين،بما نسميه الآن:بالحرب الفكرية،و يتحججون بقوله تعالى: لا يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) [الممتحنة:8].

فاللّه تعالى جعل من كمال دينه الإحسان إلى الخلق كلهم حتى الدواب،و هنا يبيّن لنا رفع الحرج عنا إن نحن عاملنا من لم يقاتلنا أو يساعد على قتالنا أو إخراجنا من ديارنا أن نعامله بالحسنى و العدل،أما الذين يجتمعون لقتالنا ماديا و معنويا لا برّ لهم و لا قسط معهم.

و يرى كل الخلق كيف يتعامل المسلم مع أهل الكتاب في بلاد الإسلام خصوصا الشرقية منها،حيث ترى الإحسان و الفضل و حسن الجوار،بخلاف هؤلاء الذين لا يأمن المسلم على نفسه أو ماله وسطهم و هي دول تدعي الديموقراطية و حرية الرأي.

أقول:نحن لا نحزن كثيرا إن جاء الضرر من هؤلاء الأعداء الخلص،إنما نحزن حين يأتي من أبناء جلدتنا،ممّن يتحدثون بألسنتنا و قلوبهم مع عدونا.

و هذا الفريق أخطر على الإسلام من الكافر الصريح لأن هؤلاء المنافقون يحاربون الشريعة تارة بحجة تشددها،و يحاربون العقيدة بحجة تميزها و تفريقها بين الخلق،و يحاربون السلوك و الأخلاق بحجة عدم تعسير الحياة على الناس،فالفضيلة عائق أمام الحرية و الإبداع و الانطلاق إلى العالمية و رضى أسيادهم علينا،و لا يهم بعد ذلك عندهم رضى اللّه تعالى!!

لأنهم في البدء لا يعرفون اللّه تعالى و لا يقدرونه حق قدره،فأسقطوا هذا الجهل على الدين فأصبحوا يتكلمون فيه بلا علم،إنما بأفكار لها في الغرب و الشرق،و ثمارها لأمة الإسلام حنظلا،حتى لا تقف على أرض العقيدة،و لا تستظل بظل الشريعة و لا تتحرك بنور الفضيلة.فلا يبقى حصن أمامهم إلاّ و قد هدموه فينشأ ناشئ الفتيان منا مسخ،لا هو مسلم مستقيم و لا هو إنسان عاقل،فلا ينتفع به في دين و لا دنيا و لا يعرف منفعته من مضرته،بل لا يبقى له من الإسلام إلاّ الاسم و لا من العقل إلاّ القشر!!

و أعداء اللّه تعالى الآن لا يعرضون و لا يلمحون في حربهم الشريعة و العقيدة،بل حرب صريحة مكشوفة.

فهم يكيلون للحدود الإسلامية شتى ألوان الصفات التي إذا قرأها القارئ اقشعر بدنه و ظنّ في هذه الأمة من صفات الهمجية الكثير،فهي تقطع الرقاب،و الأيدي،و ترجم بالحجارة العشاق و أهل الحب أو تجلدهم،و تقطع رقاب المفكر الذي يدعو إلى ترك الإسلام و الردة،لأن الاعتقاد أمر شخصي لا دخل لأحد فيه!

ص: 8

و أن الحفاظ على عفة البنات و ظهر النساء موروث فرعوني لا قيمة له،مع أنهم يقدسون الفراعنة و ينسبون كل فضيلة لهم،و لكنه الهوى!!

إذا الحرب علانية و المجاهرة بالعداء ظاهر،و ليست سرا أو تورية!!

و المنافقون إخوانهم يسيطرون على الأقلام و الصحف،و على الإذاعات و السينما و المسارح التي كلها أبواق لتشكيل الإنسان وفق المخطط المدروس بدقة،و هي وسائل الثقافة الآن و للأسف.

و لكن!!إياك ثم إياك!!أن تظن ظن السوء بربك أو بدينك،بتسرب اليأس و القنوط إلى نفسك من النصر أو الإصلاح!!

فإن من ظنّ السوء بالخالق أن تعتقد أنه لا ينصر رسله و يعلي رسالتهم،و هو قد وعدنا بالنصر و العزة فقال سبحانه: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)[التوبة:33]و[الفتح:38]و[الصف:9]و كلها سور مدنية، حتى لا يعتقد بعضهم أن الظهور كان على أهل مكة،و دينهم الوثني فحسب،لكن على دين أهل الكتاب و كتبهم التي حرفوها كذلك،و أهل الكتاب في ذلك الوقت هم القوى العظمى عند البشر.

لكن تعالوا ننظر إلى الآية السابقة لها من سورة التوبة و هي قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ يَأْبَى اللّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32)[التوبة:32].

فهم يبذلون الجهد و المال لإطفاء نور الحق،و لكن كيف يطفئون نورا أذن اللّه له أن يشرق؟و هو القرآن الكريم،كلام اللّه تعالى و روح منه،و لا حياة إلاّ بالروح،و من أذن اللّه له بالحياة كيف يمته مخلوق؟

و نور اللّه تعالى-أيضا-الدلالات و الحجج و البراهين على صحة توحيده و أنه الحق، و لا حق سواه،فهم في شغل لتكذيب الحق،العناد و الكبر،أساس تكذيبهم.

فإذا كان يوم القيامة وَ نَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلّهِ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75)[القصص:75].

و انظر إلى قوله تعالى بِأَفْواهِهِمْ لتعلم خطر صناعة الإعلام المعاصر من صحافة و إذاعة و تلفاز و دشات«و شبكات النت»و غير ذلك من شتى أنواع الدعايات التي تبث التكذيب و التضليل للصد عن سبيل اللّه تعالى،و نحن أولى بهذه الوسائل لنشر دين اللّه تعالى و هو الحق المبين.

ص: 9

ثم تأمل قوله تعالى وَ يَأْبَى اللّهُ لتعلم و تتيقن أن الدين منتصر،و أن هذا الإباء فيه ما فيه من أسماء الحق تعالى و صفاته ما لا يحصي معناه إلاّ اللّه تعالى.

فكيف ينهزم هذا الدين؟و إن تخاذل أصحابه عن نصره؟!

ثم تأمل معنى أَنْ يُتِمَّ فهو يتضمن الكمال المقصود في قوله تعالى: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [المائدة:3].

و هذا تمّ في حياته الشريفة صلى اللّه عليه و سلم،و يتضمن أيضا الانتشار في بقاع الأرض شرقا و غربا شمالا و جنوبا،سهلا و جبلا،و يشمل الغني و الفقير،و القوي و الضعيف،و الرجال و النساء، كلهم يدخلون في دين اللّه تعالى و يكون الدين أحبّ إليهم من أنفسهم،يعيشون ليرفعوا راياته و ينشروا أنوار الحق فيه،و تهون النفس استشهادا في سبيله و تراق الدماء محبة له.

ثم تأمل قوله تعالى في الآية(33) لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ نرى أولا أهم أسباب الظهور:

إن هذه الرسالة المحمدية على الهدى التام،و التي بيانها في قوله تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9].

فهو يهدي للطريقة الأقوم،و السبيل الأعدل،و الأسدد قولا و فعلا و الأصوب حكما:

1-في العقيدة:حيث التوحيد الخالص،و التنزيه التام للّه تعالى،و التعظيم الكامل مع التوقير الحق الوافر له سبحانه.

2-في الشريعة:بأقسامها من عبادات و معاملات...إلخ.حيث لا تجد شيئا منها إلاّ و هو صالح و مصلح للإنسان،و لو فتشت سنين عدة،و أرجعت بصرك مرارا ما وقفت على شرع مثل هذا الشرع،يقود الإنسان إلى ربه بأحكم تشريع و أيسره.

3-في الأخلاق:حيث العفة،الطهارة،و التزكية،و الاستقامة،مما يصنع إنسانا يتحرك بنور اللّه إلى نور اللّه،فهو يتكلم بطاعته،و يفعل ما يرضي خالقه تعالى.

و مع هذا يحاسب نفسه و يظن بها الظنون،حتى لا تحرقها نار الكبر،و لا تفتنها شهوة العجب،بل بين الخوف و الرجاء يسير و يتحرك.

و لو استعرضنا بعض المعاني في قوله تعالى لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ لصنعنا مجلدة ضخمة، و لكن من تأمل هذه الشريعة الغراء لوقف على صدق ما نقول (1).).

ص: 10


1- انظر تفسير الآية للعلامة الشنقيطي في أضواء البيان(372/3).

إذا فهذه الرسالة التي جاء بها النبي صلى اللّه عليه و سلم كاملة الهدى في تمام،و تامّة الحق مع كمال.

وَ دِينِ الْحَقِّ هنا لبيان أن خلافه باطل،لا حق فيه،و إن ادعى أصحابه ذلك، و الحجة و البرهان تثبتان اشتمال دين اللّه على الحق و أنه لا حق إلاّ في دين اللّه تعالى.

ثم قف و تأمل قوله تعالى لِيُظْهِرَهُ :هذا الظهور كان مع كمال الدين في حياة النبي صلى اللّه عليه و سلم،حيث أظهره على أهل مكة ثم جزيرة العرب من نصارى نجران و يهود المدينة، و غيرهم من الطوائف و الوفود التي أقبلت على نبي اللّه صلى اللّه عليه و سلم داخلة في دين اللّه تعالى أفواجا.

ثم هذا الظهور و العلو في عهد أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه و انتصاره على المرتدين و المكذبين،ثم أيام عمر و عثمان رضي اللّه عنهما،حيث الفتوحات شرقا و غربا،إلى الفتوحات الكبرى التي جعلت دين اللّه تعالى يظهر من شرق الصين إلى غرب إفريقيا و جنوبها،إلى جنوب أوروبا و غربها و شرقها إلى بلاد البلقان،إلى أوساط روسيا ثم اليابان شرق آسيا،فشبه القارة الهندية،ثم الجزر الأندونيسية و ما يحيط بها ثم استراليا.

ثم بعد ذلك أمريكا الشمالية و الجنوبية...إلى حيث لا توجد بقعة على الأرض إلاّ و ينادى فيها«لا إله إلاّ اللّه محمد رسول اللّه».

و هذا الإقبال على الدين الحق و الدخول فيه تراه في حال القوة،كما تراه عند ضعف المسلمين-كما هو الحال الآن-و لا حول و لا قوة إلاّ باللّه.

فقد أسلم في أمريكا وحدها بعد أحداث 11 سبتمبر(2001 م)عشرون ألفا (1)فضلا عن نفاد كل ما يوجد من كتب بالمكاتب الفرنسية و غيرها و التي تتحدث عن الإسلام.

و لو ترك الأمر للدعاة ينشرون دين اللّه تعالى،دون قيد أو تخويف أو حبس أو تعطيل لرأينا عجبا،و قد نرى أحيانا و نسمع ما لا يصدقه عقل من إسلام أوروبيين و أمريكيين حتى أهل القبائل البسيطة في إفريقيا.

ثم ما ذا نعم،ثم ما ذا بعد هذه المقدمة التي أرجو من اللّه تعالى أن يصدقنا فيها النية...و التي ما أردت من ورائها إلاّ رجاء اللّه تعالى أن يثبتنا و إخواننا على ديننا،و يرد كيد المنافقين و المرجفين...ت.

ص: 11


1- نشر هذا في عدة صحف عربية و دولية و على مواقع في شبكة الأنترنت.

أردت أخي القارئ الكريم أن نصل إلى اليقين بعظمة ديننا و صلاحه لكل زمان و مكان؛ و لكن لا بد أن نسعى لتعلمه و تعليمه،و نشره (1).

و من هذا المنطلق كان انشغالي بعلم الإمام ابن القيم رحمه اللّه تعالى و من وقت طويل، لما خص اللّه به تعالى ابن القيم رحمه اللّه تعالى من فهم و علم و صدق.

و هنا أردت أن أضم كلامه في كل باب من أبواب الدين مع بعضه حتى يكون كلام هذا الإمام مجموعا تحت عينيك مما يسهل البحث في الموضوع الواحد.فكانت أول ثمار هذه الشجرة الطيبة:

مصنفات المحقق

(1)كتاب:«بدائع التفسير»:

و كان من أوائل هذا الجهد الذي أسأل اللّه تعالى أن يتقبله مني و ينفعني و المسلمين به.

و هو«في خمس مجلدات» (2)،و قد حاولت قدر جهدي إخراج كلام الإمام ابن القيم في التفسير مستوفيا،و جعل التفسير في طبعته الجديدة التي أقوم بها الآن أكثر رونقا و فائدة للقارئ،مع إنزاله على أسطوانة لأجهزة الحاسوب(الكمبيوتر).

و هذا التفسير يجعل قارئه يكوّن نظرة شاملة دقيقة لمنهج مدرسة سلفية كبرى في التفسير...منذ الطبري إلى ابن كثير فابن تيمية،لأن قواعد هذا العلم و أدواته استقاها ابن القيم رحمه اللّه تعالى من شيخه كما هو موضح في مقدمة بدائع التفسير (3).

هذا...و ترى إمامنا ابن القيم رحمه اللّه تعالى في تفسيره ينحى منحى التربية و السلوك و ما «يشكّل»الوضع الاجتماعي بما يوافق الأخلاق الإسلامية،فلا تكاد تمر بك آية إلاّ و تحتها من ألوان الأدب العالية،ما يجعلك تحقق من أهم معاني قوله تعالى إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ (4)بل تجزم أن تفسير ابن القيم للقرآن لا يخرج عن كونه بيانا لهذه الآية الكريمة.

و تأمل حديثه عن تحويل القبلة في سورة البقرة و الفوائد المستخلصة من غزوة بدر.

ص: 12


1- و تقوم بذلك بالطريقة التي تحبب الناس في ديننا لا تكرههم فيه،و تيسر على الناس لا تشدد عليهم،و أن يرى على وجوهنا البشر و السماحة لا العبس و الضيق،بما يشعر الآخرين بخلاف مقصدنا.
2- و نحن الآن بصدد إعادة طبعه طبعة جديدة تشتمل على أكثر من[200]موضعا،مع فهرسة شاملة وافية.
3- و سيأتي الكلام عن ذلك عند الحديث عن«البدائع في علوم القرآن».
4- كما سبق الإشارة إلى ذلك.

و تأمل كلامه عن قصة يوسف،و غير ذلك من المواضع المبهرة الدالة على عقل راجح، و فكر مشرق،يفخر به المسلمون،و الذي لو تدبره الناس و تدارسوه لاستغنوا عن كثير من الجهالات،التي بهرت أجيالا كاملة من شباب الأمة،و ليس هذا إلاّ بسبب جهلنا بديننا و ابتغائنا العزة في غيره.

(2)كتاب:«جامع الفقه»

ثم كان كتابي:«جامع الفقه» (1)و هو في سبع مجلدات و قد اعتنى به إخواني في دار الوفاء،لإخراجه في صورة مبهرة من فهارس و طباعة.

و هذا الكتاب رتب وفق كتب المذهب الحنبلي،حتى يسهل الوقوف على مسائل الفقه في يسر،مع سهولة ذلك أيضا من خلال الفهارس،و قد جعلت في أوله باب النية اقتداء بالإمام البخاري رضي اللّه عنه في صحيحه و قد لقي هذا استحسانا من كثرة وافرة من أهل العلم و طلابه و الحمد للّه رب العالمين.

(3)كتاب:«جامع الآداب»:

و هو في أربع مجلدات جمعت فيه أبواب الأخلاق و السلوك،كما وضحته في مقدمته (2).

(4)«جامع السيرة»:

جمعت فيه السيرة النبوية في مجلد،بما يمكّن القارئ من الوقف على أهم الأحداث التي تمّت في حياة النبي صلى اللّه عليه و سلم.

و بيّنت في مقدمته ذلك،و بيان أنه مع صغر حجمه لكنه من دقائق السيرة و فقهها (3).

(5)«المختار من الفتاوى»:

و سوف يصدر بحول اللّه تعالى في مجلدين كبيرين و قد رتبته على أبواب العلم:

ص: 13


1- أصدرته«دار الوفاء»في سبع مجلدات لصاحبها أخي و صديقي المحترم المهندس عاصم شلبي و هو مثال للأخوة و الرجولة جزاهم اللّه خيرا.
2- و سوف يعاد تحقيقه على الصورة المثلى إن شاء اللّه تعالى مع إعادة بعض الترتيب،حيث خرج في ظل أحوال حالت بيني و بين مكتبتي نسأل اللّه العافية و السلامة.
3- و اعتنت بنشرها دار الوفاء،جزاهم اللّه خيرا.

أولها:العقيدة،الفقه و هكذا..و هو على صورة سؤال و جوابه.

و قد انتقيت فيه أهم المسائل التي هي أقرب إلى الواقع الآن،بحيث يصبح مرجعا يسيرا لهذه الأبواب على غرار الفتاوى الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللّه تعالى عليه،و فصلت ذلك في مقدمته (1).

(6)ثم كان:«البدائع في علوم القرآن»:

و هو كتاب لطيف حاولت بعون اللّه تعالى جمع ما تكلم فيه ابن القيم رحمه اللّه تعالى في هذه العلم الشريف.

و جعلت هذا العمل كالمقدمة لكتابي الكبير«بدائع التفسير»بحيث يضم إليه لتكون مكتبة التفسير و علومه لهذا الإمام الجليل.

و إليك التفصيل:

-1- فصل في:

أ-تعريف«علوم القرآن»من حيث التركيب:

يتكوّن هذا التركيب الإضافي من جزءين:

-«علوم»و هو المضاف.

-و«القرآن»و هو المضاف إليه.

و المقصود من الجزء الأول منه و هو«علوم»و هو جمع«علم»و يقصد به:

-تلك المسائل التي يبحث عنها في هذا العلم.

أما المضاف إليه و هو«القرآن الكريم»:

فهو كلام رب العالمين الذي نزل به الروح الأمين جبريل،على قلب خاتم النبيين محمد صلى اللّه عليه و سلم بلسان عربي مبين.

-و لفظ«القرآن»مصدر مرادف للقراءة،لقوله تعالى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ(17) فَإِذا قَرَأْناهُ

ص: 14


1- يقوم الآن الأخوة الكرام«بدار المعرفة»بنشره هو و«البدائع في علوم القرآن».

فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)[القيامة:17-18].

و قال بعض أهل العلم أنه من القرء بمعنى الجمع أو من قرنت الشيء بالشيء...

إلخ (1).

و بذلك يدخل تحت هذا المعنى:علم التفسير و شروطه،و شروط المفسر،و إعجاز القرآن،و القراءات،و أسباب التنزيل،و الناسخ و المنسوخ،إلى آخر تلك المباحث المتعلقة بهذا التعريف من حيث كونه مركبا إضافيا.

و أما من ناحية معنى«علوم القرآن»كعلم،فيراد به:

تلك الأبحاث الدالة على الفن المدون تحته أبحاث نزول القرآن و بدء الوحي و مكانه و زمانه،إلى آخره.

و على هذا فعلم«علوم القرآن»من ناحية كونه مركب إضافي،أو من ناحية كونه علما فهو العلم الذي مداره دراسة ما يتعلق بهذا الكتاب العظيم.و لن نخوض في قضايا منطقية مفتعلة حول بعض الأبحاث المتعلقة بالتعريف و كونه للكليات لا للجزئيات فنحن نبحث الأمر على قواعده الأولى،قبل أن يخالط الماء الخبث،و دخول الريب على العقول.

-2- إذا فعلم«علوم القرآن»يندرج تحته كمّ هائل من العلوم،جعله غير واحد من أهل العلم كباب مستقل،كما سيأتي.

فهل لهذه العلوم حصر أم متجددة؟

ذهب بعض أهل العلم (2)إلى أن علوم القرآن الكريم تبلغ(77450)سبعون ألف و سبعة آلاف و أربعمائة و خمسون علما.

يعني:على عدد كلم القرآن مضروبة في أربعة،لأن لكل كلمة ظهرا و بطنا،و حدا و مطلعا.

و هذا في المفردات،أما باعتبار التراكيب و ما بينها من روابط فهي لا تحصى،و لا يعلمها إلاّ اللّه تعالى.ى.

ص: 15


1- انظر لسان العرب مادة قرأ،و كتاب العلم للشافعي 12،و الرسالة ص 14 و مقدمة تفسير ابن عطية (281).
2- الإمام أبي بكر ابن العربي رحمه اللّه تعالى.

و ذهب إلى ذلك كثير من الباحثين خاصة أرباب الإشارات،و مال له أيضا السيوطي في الإتقان.

و المتتبع بحياد ما دوّن مفصلا في هذا الفن يعلم أن الأمر فيه من المبالغة ما يفوق حد العقل و الواقع.

و ليس معنى هذا أنه علم حصر و احترق لا!بل يفتح اللّه تعالى على عباده من الأفهام التي تستنبط و تفصل في هذه العلوم،ما قد يكون له حظ وافر من قوله تعالى: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَ لَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109)[الكهف:109].

كما سيأتي تفصيله في محله إن شاء اللّه تعالى.

-3- و حتى يتعايش القارئ الكريم مع ما ذكر،نذكر أشهر و أهم تلك العلوم التي اشتهر عن علماء هذا الفن وضعها تحت ظلاله:

1-علم بدء الوحي و كيفيته.

2-علم معرفة المكي و المدني.

3-علم معرفة أول ما نزل و آخره.

4-علم معرفة أسباب النزول.

5-علم معرفة الناسخ و المنسوخ.

6-علم معرفة جمع القرآن و ترتيبه.

7-علم نقل القرآن و روايته و تحمله و كتابته.

8-علم الوقف و الابتداء و جميع أبحاث علم القراءات.

9-علم آداب تلاوته.

10-علم معرفة غريب القرآن.

11-علم لغة القرآن و هل فيه غير العربية.

12-علم المحكم و المتشابه.

13-علم المجمل و المبين.

14-علم العام و الخاص.

ص: 16

15-علم المطلق و المقيد.

16-علم حقيقته و مجازه.

17-علم إعجاز القرآن.

18-علم أقسام القرآن.

19-علم قصص القرآن.

20-علم التفسير و أدوات المفسر (1).

***

إذا فأبحاث«علوم القرآن»لا تترك صغيرة و لا كبيرة تتعلق بهذا الكتاب المبارك إلاّ و قد أفاضت في دراسته و بحثه.

و هنا نذكر أن جل هذه الأبحاث أساسها اللغة العربية حيث هي لغة القرآن الكريم، و هي الضابط للباحث،و المتتبع لكتاب مثل الإتقان و بدقيق النظر في كل فصوله يلحظ ذلك جليا.

فكان لزاما على أهل هذا الفن-و هذا ما صنعوه يرحمهم اللّه تعالى-الإحاطة بعلوم هذه اللغة المباركة إفرادا و تركيبا،مع التحقيق النحوي و البلاغي و الصرفي،إلى آخر هذا الأبحاث الرئيسية و التي تتولد منها عشرات الأبحاث الفرعية حيث يؤدي ثماره يانعة مزينة للناظرين قريبة للطالبين.

-4- أما الحديث عن فائدة دراسة«علوم القرآن»ففي غاية البيان،و لا بأس بذكر بعضها:

فمن أهمها التسلح بأدوات صحيحة الأصل و المعنى لخوض فهم هذا القرآن الكريم.

و هذا علم التفسير ينبئك عن هذا:فلو لم يعرف المفسر ما ذكرناه آنفا من أبحاث تتعلق بهذا الفن كالناسخ و المنسوخ و المحكم و المتشابه...إلخ كيف يتكلم عن تفسير القرآن لو لم يقف عليها مبنى و معنى.

و هكذا لن يستطيع أحد الخوض في غمار هذا النور و السباحة بين شطآن نهره العذب إلاّى.

ص: 17


1- هذا ما قدرت عليه الذاكرة،و بعون اللّه و بحمده،أنتهي الآن في معجم«علوم القرآن»،و حيث رتبته «ألف باء»و لم أذكر فيه إلاّ الغالب في تعريف المصطلح،مع الدقة في التعريف و الإيجاز مع سهولة التناول و الأسلوب،إن شاء اللّه تعالى.

و قد أعد العدة و هي تجهزه بهذه الفنون.

فلو أراد الكتابة أو الحديث عن تاريخ القرآن،لاحتاج إلى علم القراءات و علم تدوين القرآن و نقله و حمله و تواتره و حفاظه من الصحابة و من بعدهم و كتابة المصاحف إلى آخر تلك الأبحاث.

و الذي يريد أن يتكلم في إعجاز القرآن،لن يجد فنا من هذه الفنون المدونة في هذا العلم إلاّ و احتاج إليها،خاصة لو نظرنا إلى الإعجاز يتوسع كما يراه بعضهم.

و منه الإعجاز العلمي للقرآن الكريم و سيأتي الكلام عليه في موضعه،و اللّه الموفق.

***

و لما كان القرآن الكريم هو الكتاب الحق،و التنزيل الصدق،و هو الفرقان المبين، و الذكر الحكيم،و هو أحسن الحديث،و أصدق القول،و هو الحكمة البالغة،و الشفاء التام، و الرحمة التامة،و الهدى الكامل،و هو الصراط المستقيم،و حبل اللّه المتين،و هو البيان الباهر،و الروح و البصائر،و هو القول الفصل و البرهان المهيمن،و النور المنزل،و هو القرآن العظيم الكريم،المجيد،المبارك،و هو حق اليقين،و النبأ العظيم.

أقول لما كان القرآن الكريم كذلك و فوق ذلك:كان هو مفجر العلوم و منبعها،و دائرة شمسها و مطلعها،أودع اللّه تعالى فيه علم كل شيء،و أبان فيه الحق ليتبع ضده ليجتنب، فترى صاحب كل علم حق منه يغترف،و عليه يعتمد فالأحكام يستنبطها الفقيه منه،و صاحب العقيدة لا يخرج عنه،و صاحب اللغة به يحتمي،و النحوي كان له القرآن هو الميزان ليميّز بين خطأ القول من الصواب،و صاحب البلاغة هو له مرآة الحسن النظم و البيان،و صاحب التاريخ كان يضرب في صحراء الأسطورة حتى هداه القرآن على القصص الحق و الخبر الصدق،و هو دواء القلوب لأرباب السلوك.

فقد صدق اللّه حين قال: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ .

فصل من القضايا التي أخذت حظا وافرا من البحث و التحقيق قضية«نشأة العلوم»و متى كان بدء تدوينها.

و قد أفاض كثير من أهل العلم من أصحاب السير و التاريخ و التراجم بوضع كم وافر من الكتب التي تتحدث عن ذلك.

ص: 18

و من أهم العلوم التي كان لها حفظ وافر من ذلك التقيد:

1-علم الفقه.

2-علم أصول الفقه.

3-علم النحو و الصرف.

4-علم الاعتقاد.

5-علم قواعد الحديث.

6-علم التفسير.

7-علم القرآن.

و كان لكل علم منها موضع نظر كبير عند أهل العلم في بيان أول من تكلم فيه منذ عهد الصحابة رضي اللّه عنهم ثم التابعين...إلخ.

ثم بيان أول من دون شيئا في هذا العلوم.

فمثلا:المتأمل في تاريخ تدوين علم«أصول الفقه»لا يكاد يقف على كتاب في أصول الفقه إلاّ و يجد هذا الأمر إما باستفاضة أو اختصار.

و قد اشتهر عند الخاصة و العامة أن أول من وضع كتابا في أصول الفقه هو الإمام الشافعي رحمه اللّه تعالى (1).

***

أما علم«علوم القرآن»فله شأن آخر نبحثه في هذه الوقفات:

الوقفات الثلاثة فى علم علوم القرآن

1-الوقفة الأولى في بدء كتابة و تدوين العلوم:

-قد اشتهر أن النبي صلى اللّه عليه و سلم كان ينهى عن كتابة غير القرآن،كما جاء في الحديث الصحيح.

-ثم أذن صلى اللّه عليه و سلم بالكتابة كما في حديث أبي شاه (2).

ص: 19


1- الإمام الكبير شيخ الإسلام الحجة،ناصر الحديث،فقيه الملة،أحد عجائب علماء الإسلام،انظر ترجمته رحمه اللّه تعالى و مصادرها في:سير أعلام النبلاء للذهبي(5/10).
2- انظر في النهي عن الكتابة ثم الإذن في كتابة الحديث،في بحث رائع للدكتور/محمد عجاج الخطيب في«السنة قبل التدوين»(303)و ما بعدها.

-فكان بجوار كتّاب الوحي المعظم،كان هناك كتّاب للحديث الشريف،منهم عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي اللّه عنهما.

-ثم كان بدأ التدوين آخر القرن الأول و بدايات القرن الثاني تقريبا.

-و لما كان نزول الوحي على سيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم هو الأساس في بناء قواعد هذا الدين،و كانت السنة مبينة و مفسرة له،و كان هدي النبي صلى اللّه عليه و سلم هو الأسوة الحسنة للتطبيق العملي الذي يرضى اللّه تعالى،كان كل ذلك كافيا للصحابة عن تدوين العلم بصورته اللاحقة بعد ذلك.

-هذا مع تتابع أنوار الوحي و النبوة،و لهما من التأثير ما لا يحيط بأسراره إلاّ اللّه تعالى،و لهذا كان الصحابة رضي اللّه عنهم مقدمين في كل فضيلة سابقين لكل كمال،و هذا في جميع أنواع العلوم،و كان للقرآن الكريم حفظا و فهما و تفسيرا و إحاطة تامة بظاهره.

الحظ الوافر عندهم.

-و كانوا أعلم الخلق بالأحكام و الآداب و الاعتقاد.

-و هم مع كل هذا:الأعلى إخلاصا،و الأطهر أفئدة،و الأقوى فهما،و الأدق استنباطا،و الأصح دليلا،و الأسلم قولا.

-حتى ترى جملة من كلامهم يأخذ العالم في شرحها في أكثر من مائة صفحة أو يزيد (1).

-حسبك ما قاله الإمام أحمد رضي اللّه عنه:«أصول السنة عندنا ما كان عليه أصحاب النبي صلى اللّه عليه و سلم».

-و اتفق العلماء أن خروج البدع و المبتدعة،سببه ترك ما كان عليه أصحاب النبي صلى اللّه عليه و سلم، و هذا تراه واضحا لكبار علمائنا من زمن الصحابة إلى وقتنا هذا،و حيث ينبهون على خطورة هذا المنهج الذي يبحث في الدين دون الوقوف على أحوال و أقوال الصحابة،و للّه درّ الإمام مالك رحمه اللّه تعالى في هذا الملحظ حيث كان عمل أهل المدينة عنده بمكان (2).

-إذا فمع علم كثير من الصحابة رضي اللّه عنهم بالكتابة لم يكونوا بحاجة للتدوين كما مرّ بنا.).

ص: 20


1- كما صنع مثلا ابن القيم في شرح خطاب عمر في إعلام المؤمنين،و هو الآن تحت الطبع بتحقيقي بحول اللّه و قوته.
2- و انظر على سبيل المثال:مجموع الفتاوي لشيخ الإسلام ابن تيمية(23/13).

2-الوقفة الثانية:كتابة الوحي:

قد تكلم جمهرة من أهل العلم في هذا الموضوع حتى أصبح سيلا جرف أمامه كل شك و ريب و شبهة،أراد بعضهم منذ العهد الأول إلى الآن أن يغرسها في طريق المسلمين،فكان ما سبق من اللّه تعالى من حفظ كتابه أول و أعظم سند حيث يقول ربنا تبارك و تعالى: إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ (9)[الحجر:9].

-حيث شمل الحفظ:حفظه من التلاشي،و حفظه من الزيادة فيه أو النقصان منه،حيث سخّر اللّه تعالى له من يحفظه و ينقله متواترا،حيث سلم من كل اختلاف حدث فيما سبق من كتب منزلة،حين وكّل حفظها إليهم.

-و تأمل الصحابة رضي اللّه عنهم و هم يتلونه بعد ما سمعوه من سيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم،ثم يقرهم عليه،و إذا حدث أي خلاف حول حرف منه رجعوا إليه صلى اللّه عليه و سلم فبين الصواب،و أزال شبهة الخلاف فيه،حتى إذا لحق بالرفيق الأعلى،و كان حفاظه من الشهرة بمكان،أتاح لجمهرة من الأمة لا يعلم عددها في كل مصر أن تتوارث هذا الحفظ و النقل،و المتدبر في كتب تراجم القراء يرى عجبا في هذا الشأن،و كذا كتب القراءات.

-حيث يرى دقة ضبطهم،مما يحير العقول،و مما لا يقدر عليه أحد إلاّ عن طريق ما وصل إليه العلم الآن عن طريق الحاسوب من حيث الحصر و الإحاطة لكل حرف مخرجه و درجة تفخيمه أو ترقيقه أو مده فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:185].

أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82)[النساء:82].

-و ليس على ما أعتقد أن كتابا على ظهر الأرض حظي بمثل هذا المقام مثل«القرآن الكريم».

-و في هذا خير رد على كيد أهل الكفر و النفاق: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)[فصلت:26].

-فمع تفننهم في صرف شباب الأمة عن الدين باللهو و الفجور و تزين الشهوات،إلاّ أنك ترى تكاثر حفاظه و العاملين به،مع توافر البواعث الصارفة،و لكن: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاّمُ الْغُيُوبِ(48) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَ ما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَ ما يُعِيدُ (49)[سبأ].

ص: 21

فمهما كان الاستهزاء و اللغو و الصد،و تكميم الأفواه الناطقة بالحق،و الداعية للحق، و تخويفهم و ترهيبهم،ما هي في النهاية إلاّ جعجعات بلا طحين،مثل الزبد فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً [الرعد:17].

3-الوقفة الثالثة:

أ-متى نشأ مصطلح«علوم القرآن»؟

-لعلنا في حاجة إلى التفرقة بين ظهور هذا المصطلح بتعريفه المبين في أول هذه المقدمة،و بيان ظهور جل مباحثه منذ العهد الأول.

-و قد تكلم كثير من الباحثين في بدء ظهور هذا المصطلح«علوم القرآن»منهم السيوطي في الإتقان،و الزرقاني في«مناهل العرفان».

-و وافق الزرقاني السيوطي و كلاهما تبعا للبلقيني في أن أول من تحدث بهذا هو الإمام الكبير الشافعي رضي اللّه عنه في حكاية (1)وردت من كتاب«تاريخ الشافعي»في القضية التي أثارها المبتدعة حول قولهم بخلق القرآن، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاّ كَذِباً [الكهف:5].

فقد جاء فيها أن الرشيد سأل الشافعي:كيف علمت يا شافعي بكتاب اللّه عزّ و جلّ؟...

إلى أن قال و لكن إنما سألت عن كتاب اللّه المنزل على ابن عمي محمد صلى اللّه عليه و سلم،فقال الشافعي:إن علوم القرآن كثيرة،فهل تسألني عن محكمه و متشابهه،أو عن تقديمه و تأخيره...إلخ.

و إن ثبت هذا،فيكون درة نفيسة،و يكون من فضل اللّه تعالى الذي لا حد له أن يجري على لسان الشافعي هذا التركيب حتى يزيده فضلا و شرفا.

فهو-كما مرّ-اشتهر بوضع أول القواعد لأصول الفقه و ذلك في كتابه الأشهر «الرسالة».

و هذا لا يمنع البوح بما في نفسي منذ زمن أن الرسالة نفسها إحدى قواعد:(علوم القرآن)كما هي قواعد لعلم:«أصول الفقه».

ص: 22


1- لم يسعفني الوقت على تحقيق سندها و صحتها،و لعل هذا استوفيه في مقدمة«معجم علوم القرآن»إن شاء اللّه تعالى.

و القارئ الرشيد و الباحث الموافق،لو تتبع الرسالة (1)لوجد من بزور هذا العلم ما لا يخفى مع اشتهار سبب كتابة هذه الرسالة نفسها.

و ذلك أن الإمام«عبد الرحمن بن مهدي» (2)-و الذي وصفه الشافعي بقوله:«لا أعلم له نظيرا في الدنيا»-سأل الشافعي أن يضع كتابا يحوي«معاني القرآن»،يجمع قبول الأخبار فيه،و حجة الإجماع و بيان الناسخ و المنسوخ من القرآن و السنة،فوضع له كتاب الرسالة.

و هنا نلحظ قوله«معاني القرآن»فالبدء كان لخدمة القرآن حتى يفهم،و المتأمل في «الرسالة»يلمس الآتي و هي:

إن المتأمل في أبواب الرسالة للشافعي رحمه اللّه تعالى يلحظ من القواعد ذات الصلة الوثيقة بعلوم القرآن مثل:

علم القرآن.

القرآن كله بلسان العرب.

العربي و العجمي فيه.

ترجمة القرآن.

معنى إنزاله على سبعة أحرف.

البيان في القرآن.

المجمل و المفسر.

العلم بالقرآن و درجات الناس فيه.

العام و الظاهر في الكتاب.

حكم النسخ.

ناسخ القرآن و منسوخه.

تخصيص الكتاب بالحديث.

العام في القرآن و الخاص.

فلو أضفنا ذلك إلى ما سبق ذكره عن سبب تأليف الرسالة،لتجمع لدينا من القرائن ما يجعلنا نميل إلى أن أول من أظهر هذا المصطلح«علوم القرآن»هو الإمام الشافعي).

ص: 23


1- أرجو من اللّه زيادة توفيق و إسباغ سكينة حتى أقف على تحقيق هذه المسائل بحوله و قوته تعالى.
2- الإمام الناقد المجود،سيد الحفاظ،انظر ترجمته في«سير أعلام النبلاء»للذهبي(192/9).

رحمه اللّه تعالى،و إن لم يكن أول من وضع فيه كتابا مستقلا.

و كما يقول الدكتور عبد المنعم النمر في معرض الحديث عن الرسالة (1):«و لا شك أن الشافعي لم يبتكر معاني القرآن،و لا القول في الإجماع،و لا الناسخ و المنسوخ...و لكنه نظم ذلك و غربله متداخلا فيه برأيه،فأضاف و أشار للقواعد المتداولة و بيّن ما يقبل و ما لا يقبل حسب رأيه.

فلا يعقل أن الشافعي ابتكر كل ذلك في رسالته..و لكنه تحدث فيما يتداول بين علماء زمانه،فقبل و رفض،و أضاف و نظم،و اعتبر علماء زمانه و من بعدهم هذا أول تنظيم لعلم أصول الفقه»أ.ه.

و ذهب الشيخ أحمد شاكر مذهب الفخر الرازي:أن الرسالة أول كتاب ألّف في أصول الفقه،بل و في أصول الحديث (2).

و يقول الشيخ أحمد شاكر:و كتاب الرسالة-بل كتب الشافعي أجمع-كتب أدب و لغة و ثقافة،قبل أن تكون كتب فقه و أصول،ذلك أن الشافعي لم تهجّنه عجمة،و لم تدخل على لسانه لكنة،و لم تحفظ عليه لحنة أو سقطة»أ.ه.

أضف إلى ذلك المباحث المشتركة بين أصول الفقه،و علوم القرآن نجد قرب هذا الاستنتاج من الصواب (3).

فصل هذا من ناحية أول ظهور لهذا المصطلح،فكيف لأول ظهور لمألف بهذا العنوان«علوم القرآن»؟

المتأمل لما سبق يلحظ أن كثيرا من علماء القرن الثاني كتبوا في أبحاث احتواها من بعد علم«علوم القرآن».و كما سبق،أن جل أبحاث«علوم القرآن»كغيرها من العلوم الشرعية كالفقه و الحديث،كانت دائرة على ألسنة الصحابة رضي اللّه عنهم،مع اختلاف في الألفاظ تارة أو في السعة و الضيق تارة أخرى.

و قد يكون من أشهر هذه الأبحاث:ن.

ص: 24


1- الاجتهاد(118).
2- مقدمة الرسالة.
3- هذا مبحث عظيم الشأن أفصله إن شاء اللّه تعالى في معجم علوم القرآن.

مسألة الناسخ و المنسوخ.

المحكم و التشابه.

ثم القراءات.

و أسباب النزول و أماكنه.

معاني القرآن و تفسيره.

نقله و حفظه و كتابته.

رسم المصحف.

و القصص القرآني.

و حيث إن علم«علوم القرآن»يرتبط ارتباطا وثيقا بالقرآن،كان لزاما أن يكون جلّ مباحثه تدور في العصر الأول زمن نزول الوحي المبارك،ثم تناقلها التابعون عن الصحابة رضي اللّه عنهم و هلم جرا (1)،و إن كانت الأمانة تلزمنا تتبع تاريخ هذا العلم الشريف عند الصحابة و التابعين بأكثر من هذا،حيث يستلزم ذلك قراءة كتب السنة كلها،و كذلك كتب الآثار و غيرها مما يتيح للقارئ الوقف بصدق على بذور هذا العلم الشريف.

و كما أن أسس هذا العلم الشريف في الكتاب العزيز،هي كذلك مبثوثة بين طيات الأحاديث المطهرة.

و لعلماء القرنين الثاني و الثالث جهودا مشكورة في إظهار بعض مباحثه متفردة.

نلحظ ذلك مثلا في:

الناسخ و المنسوخ لأبي عبيد القاسم بن سلام(ت 224).

الناسخ و المنسوخ لعلي بن المديني(334).

بيان ما ضلت فيه الزنادقة من متشابه القرآن.للإمام أحمد رضي اللّه عنه (2).

بعض مؤلفات العلامة ابن قتيبة(276 ه)و بخاصة:تأويل مشكل القرآن،ففيه نفائس.ف.

ص: 25


1- و هذا ما نرجو من اللّه تعالى تيسيره في معجم علوم القرآن،حيث نسأل اللّه تعالى صرف الهم و تيسير الأمر.
2- سنحاول بعون اللّه تعالى أن نسرد توثيقا لهذه المؤلفات و مدى صلتها بهذا العلم الشريف.

فصل أول المصنفات المستقلة في هذا الفن

ذهب العلامة السيوطي رحمه اللّه تعالى إلى أن أول مصنف في هذا العلم«الإمام بدر الدين الزركشي»بكتابه«البرهان في علوم القرآن».

و كان من قبل يذهب إلى أن أول ذلك الأمر للعلامة جلال الدين البلقاني بكتابه«مواقع العلوم من مواقع النجوم».

و ذهب العلامة الزرقاني في مناهل العرفان إلى أن أول من وضع كتابا يشمل هذا الفن هو العلامة علي بن إبراهيم بن سعيد الحوفي(ت 430 ه)بكتابه«البرهان في علوم القرآن» (1).

و لكن قد يرى بعض الباحثين بعد ما ذهب إليه العلامة السيوطي في قوليه،و كذا ما ذهب إليه الزرقاني،لأسباب:

أولا:أن الذهبي رحمه اللّه تعالى قال في ترجمة ابن المرزبان (2)المتوفى(307 ه):

«وقع لي قطعة من تأليفه،و له كتاب«الحاوي في علوم القرآن».

و كذلك ذكر الذهبي في ترجمة ابن الأنباري (3)(ت 328 ه)قال:صنف في«علوم القرآن و الغريب»...إلخ.

و قد ذكره بعض مترجميه بعنوان«عجائب علوم القرآن».

يتبين لنا من هذا سبق ابن المرزبان أولا،و يليه ابن الأنباري في الكتابة المستقلة في هذا العلم باسم«علوم القرآن»و اللّه تعالى أعلم.

ثانيا:-ما ذكره العلامة الزرقاني عن«الحوفي»عليه ملاحظة:

حيث ذكر كتاب الحوفي باسم«البرهان في علوم القرآن»و لم أقف على من ذكره بهذا الاسم غيره،حيث ذكر كل من ترجم له باسم«البرهان في تفسير القرآن».

و هو كما يقول العلامة الزرقاني يأخذ في بيان الإعراب و الناحية النحوية و اللغوية،ثم بيان القول في المعنى و التفسير،و بيان التفاسير المأثورة و المعقولة للآية،ثم بيان الوقف

ص: 26


1- انظر الإتقان(5/1)و مناهل العرفان(34/1-35).
2- الإمام العلامة الأنباري أبو محمد محمد بن خلف بن المرزبان،انظر ترجمته و مصادرها في السير (264/14).
3- الإمام الحافظ اللغوي أبو بكر محمد بن القاسم،سير أعلام النبلاء(274/15).

و التمام،ثم بيان القراءات إن وجدت...و هكذا.

و من هنا يتبيّن أنه تفسير موسع ضم أنواعا من علوم القرآن،لكن ليس مستقلا في علوم القرآن.

و لعلنا نصيب إذا قلنا إن نضج هذا العلم و تمامه،كان على يدي العالمين الكبيرين الزركشي و السيوطي في«البرهان»و«الإتقان» (1).

هذا مع افتقادنا لكتب حملت هذا العنوان لكننا لم نستطع الوقوف عليها كما سبق عند ابن المرزبان،و ابن الأنباري،و اللّه تعالى أعلم.

فصل علوم القرآن و الرد على الشبهات

قد لا نبالغ إذا قلنا أن علوم القرآن من أعظم حصون الشريعة،و من حوائط الصد الصلبة القوية ضد أعداء الدين،من الكفار و المنافقين الذين يلبسون على المسلمين أمرهم و يقدحون في دينهم (2)،حتى وصل الحال بالمطالبة بإلغاء أبواب كاملة من الدين بل و آيات من الذكر الحكيم.

أصبح الحديث عن تلك الأبواب-و التي هي من أركان الدين-كالجهاد مثلا قرينة لوصم المتحدث بالإرهاب.

و هكذا يتعرض الإسلام لخطر تقطيع أركانه مثل ما حدث للأديان السابقة التي أصحبت تعبد الصور و الصلبان و النيران و الحيوانات،مع عدم تطبيق أبنائه له في أكثر حياتهم،يظهر لنا أن الخطب جلل.

و لهذا لا بد من نشر هذه العلوم الإسلامية،حتى يتحصن المسلم ضد هؤلاء و هؤلاء.

و تستطيع مادة«علوم القرآن»الرد الوافر على الشبهات المثارة و التي قد يقع فيها بعض المسلمين بحسن نية و قلّة روية.

و يتبع ذلك أهمية الوقوف على أقوال السلف في هذا العلم و غيره من العلوم،حتى ينضبط الميزان،و يصحح القول.

ص: 27


1- لعل اللّه تعالى يسير زيادة تفصيل في هذه المسألة في معجم علوم القرآن.
2- و هذا قد ظهر جليا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر(2001)و الذي دمرت فيها بعض المباني بأمريكا.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللّه تعالى:

و لهذا كان معرفة أقوالهم في العلم و الدين و أعمالهم خيرا و أنفع من معرفة المتأخرين و أعمالهم في جميع علوم الدين و أعماله،كالتفسير،و أصول الدين،و فروعه،و الزهد، و العبادة،و الأخلاق،و الجهاد،و غير ذلك،فإنهم أفضل ممن بعدهم-كما دلّ عليه الكتاب و السنة-فالاقتداء بهم خير من الاقتداء بمن بعدهم،و معرفة إجماعهم و نزاعهم في العلم و الدين خير و أنفع من معرفة ما يذكر من إجماع غيرهم و نزاعهم.

و أيضا:فلم يبق مسألة في الدين إلاّ و قد تكلم فيها السلف (1).

و كلام ابن تيمية رحمه اللّه تعالى في غاية الضبط،حيث ترى الآن بعض من يتصدى لصعود جبل العلم و الفتوى و الدعوة،و زاده ليس سوى الضجيج و الادعاء و التعالم و لعل غرضه الشهرة و المال.

حتى ترى و تسمع هذا الكم من الكتب و الشرائط لا تسمع فيها إلاّ صراخا و كتبا ملئت كلاما لا يساوي مداده،و لا حول و لا قوة إلاّ باللّه العلي العظيم.

و من الأمثلة على ذلك الكلام في بعض القضايا التي لعل من المفيد الإشارة إلى بعضها:

(1)نزول القرآن الكريم لا خلاف بين سلفنا الصالح رضي اللّه عنهم على أن القرآن الكريم كلام اللّه تعالى المنزل على نبينا محمد صلى اللّه عليه و سلم.

و كلام اللّه صفة من صفاته،يجب وصفه بكل صفات الجمال و الجلال،و الحكمة.

و منذ ظهور البدع و الفرق و هي تحاول جاهدة تغير هذا الاعتقاد في القرآن،و تحويل المتفق عليه إلى متنازع فيه،فرأينا كلامهم على كون القرآن كلام اللّه النفسي،و كونه مخلوقا (2)،هذا حتى تنزع هيبة القرآن من القلوب و هيمنة القرآن على الكتب،و تقديم العمل بالقرآن على ما يزينه الشيطان في صور شتى تحت رايات شتى بأسماء شتى،حتى يتشتت العقل المسلم،و يضطرب سلوكه.ب.

ص: 28


1- مجموع الفتاوي(24/13-25).
2- و لعلماء الإسلام منذ الصحابة مرورا بالتابعين ثم عصر الإمام أحمد،مرورا بابن القيم إلى عصرنا هذا ردودا منثورة و مجموعة في مئات الكتب.

و يستوهم بعضنا إن ظن أن كثيرا من القضايا التي هزمها السلف قد اندثرت،بل كثير منها يطل بين الفينة و الفينة.

فنرى من يدعو إلى كون القرآن نصا لغويا يحتمل كل الإسقاطات التي يتحملها أي نص من وضع بشري.

و يسمى ذلك«بالوعي العلمي»متهما كل السابقين بأنهم أصحاب الفكر الرجعي، باستنادهم إلى التراث،لأن نشر مثل هذا الوعي العلمي-في زعمه-يسحب البساط من تحت أقدام هذه القوة المنتفعة بالوضع الاجتماعي المتردي.

و يجعل من تهذيب العلوم الإسلامية للناشئة ضربا من ضروب الارتزاق على أكتاف ناشئة جهلاء،و سيلا من سبل الشهرة.

ثم يضع لنا أسسا لصلاحية الأعمال المتقرب بها إلى اللّه تعالى حيث يكون أولها الموضوعية التي يعرفها المتخصصون....هكذا (1)!!.

و هذه كما ترى«عينة»مما تفيض به أقلام هؤلاء المغرورين،و لعله لم يصب من يريد عزل الدرس الديني عن الواقع الإسلامي،و تجريد الفكر المحرك للدعوة من هذه القضايا، و بالتالي تفرغ الدعوة كلها من الدافع فتهون عليها النتائج.

بل استخدام هذه العلوم الشرعية خير وسيلة-و اللّه أعلم-يرد على كل صاحب هوى يقدح تارة في الفقه،و أخرى في أصوله،و ثالثة في التفسير،و رابعة في اللغة و النحو و الصرف،و هلم جرا.

و ما وضع علماء سلفنا هذه العلوم إلاّ للدفاع عن الدين،و لا معنى لقولهم«غربلوهم بالعلم»في مواجهة المبدعة،إلاّ باستخدام هذه العلوم حيث التسلح بالفهم الصحيح بالدليل الصحيح حتى يدحض اللّه تعالى الباطل،و سنرى مثالا لذلك.

فصل سوف يرى القارئ علاج ابن القيم لكثير من الشبهات بالاستناد على علوم القرآن الكريم.حيث ناقش-رحمه اللّه تعالى-:ا.

ص: 29


1- و هذه من مدرسة قديمة دائما ما ترى خلف أسوارها أعناق المستشرقين الذين يخرجون تلاميذ نجباء في ضلالهم،أغبياء في درسهم،و ينسون أنهم دائما صدى صوت.و هناك قائمة طويلة بأسماء هؤلاء سنخرجها قريبا،تصريحا لا تلميحا.

-قضية النسخ،حيث أشبعها بحثا و بيان حكمتها،و معنى النسخ عند سلفنا الصالح، و الفرق بين معناه عند المتقدمين و المتأخرين.

-و كذلك مسائل المتشابهة في القرآن،و بيان معناه الصحيح عند المتقدمين،بخلاف كثير من المتأخرين الذين جعلوه مطية لنفي الصفات أو تأويلها أو تحريفها أو تعطيلها.

-و يعرج على القصص القرآني و بيان حكمته و استخراج العبر و القواعد النافعة،التي هي صراط مستقيم للباحث عن الحق.

-ثم قضية الإعجاز العلمي في القرآن (1)،و تظهر أهمية هذه المسألة في وقتنا الحالي حيث انتشر هذا الأمر بين الموافق الداعي له و الذي جعله من أهم أسباب الإقبال على الإسلام في الغرب.

حتى بالغ بعضهم و جعل جميع الآيات القرآنية المتكلمة عن الطبيعة و الكون،ذات تفسير عصري متاح.

و أسقط جميع ما وصل إليه العلم على هذه الآيات.

و في المقابل نرى فريقا أنكر ذلك أشد الإنكار،و منعه منعا باتا.

و كعادة الأمة المسلمة التي جعلها اللّه سبحانه وسطا،نرى فريقا يتوسط في الأمر فليس الأمر عنده ممنوعا و ليس مطلقا (2)،بل له ضوابط قوية و شديدة حتى لا يتحول الكلام عن القرآن الكريم-كتاب الهداية و البصائر-إلى كتاب في الكيمياء أو الطبيعة أو الفلك.و نحن نذهب مذهبهم هذا حيث إن الآيات ذات الإشارات الكونية فيها من أسباب الهدايةم.

ص: 30


1- ألفت نظر القارئ الكريم أنني ناقشت هذه القضية و السابق لها باستفاضة لكن لظروف الطبع،أجلت وضعها هنا،و سترى كل ذلك-إن شاء اللّه-مبينا بالأدلة و المناقشة العلمية في كتابي«معجم علوم القرآن الكريم»و كذلك مناقشة أكثر من عشرة كتب تكلمت عن القرآن و علومه و فيها ما فيها من الأخطاء.
2- من المكثرين الآن الدكتور/زغلول النجار،و هو مع جودة قوله،لكن نرى كثيرا من المتخصصين مثله يرفض كثيرا من قوله.و كذلك د/أحمد شوقي إبراهيم،يفسر كثيرا من آيات القرآن بنفس المنهج و إن لم يكن مستفيضا كالأول،بل و يخطّئ كثيرا من أقوال السلف في التفسير و يتهمهم بالجهل،و هو نفسه فسّر قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ يقول:هذا ليس مطلق النفي،بل يفيد أن بعض الأبصار تدركه منها نبينا صلى اللّه عليه و سلم(إذاعة القرآن الكريم في مصر صباح(2000/10/7)،و هذا لم يذهب إليه أحد من أهل التفسير،و لعله اختلط عليه الفرق بين الإدراك و النظر إليه سبحانه و تعالى،و أن أهل السنة متفقون على الرؤية كما هو معلوم.

ما لا يحصى،و إليه يشير كثير من المفسرين و العلماء إلى قوله تعالى في أول ما نزّل: اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2)و ما فيها من إشارات.

و قد يلحظ كثير من الباحثين مدى تحميل قضية إعجاز القرآن،و ما لا تحتمله الأدلة القرآنية ذاتها.

و ليس من المفيد الحرص على التوسع في هذا الباب من أبواب إعجاز القرآن،لترغيب غير المسلمين-و بخاصة الغربيين-في الإسلام.

فإن معرفة الأخلاق في القرآن و تطبيق النبي صلى اللّه عليه و سلم و تأدبه بهذه الآداب كفيل بدخول الناس أفواجا في دين اللّه تعالى.

و هذا ما سطّره التاريخ عن السيرة النبوية و حياة الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم.

نعم قد يقول القائل:«لكل مقام مقال»و مقام اليوم العلم و بخاصة العلم التجريبي من طب و فلك..إلخ.

و نحن نتفق معه تماما،و لكن متى كان مقام الأخلاق غائبا لزم هنا أن يبدأ به،و ما نراه من انحدار الأخلاق-حتى بين-بعض المسلمين-ناهيك عن الغرب و الشرق،لحري بنا أن نبدأ به.فالناس في الغرب في حاجة ماسة و ملحة لمعرفة التوحيد و العبادات و الأخلاق، على أن يكون الإعجاز العلمي مدخلا من مداخل الحوار،ثم الكلام عن الإعجاز العلمي يفترق على أمور يصعب حصرها،لأنها علوم غير محدودة،و نظرياتها متجددة كل يوم و بعضها كل ساعة.

فالحديث عن ذكر الخلق و تكوين الجنين في القرآن،و مقارنته بما جاء في الطب الحديث،يختلف عن الكلام عن نهاية الشمس و القمر،بمقياس العلم مقارنة بما ورد في القرآن الكريم.

فالمثال الأول مسلم به،حتى لينبهر به الباحث الغربي و يسلم بدقته.

لكن المثال الثاني يختلف عليه علماء المسلمين أنفسهم (1)و لا نذهب بعيدا إذا قلنا إن الإمام ابن القيم رحمه اللّه تعالى كان يفسّر كثيرا من الآيات تفسيرا عضويا قائما على الطبى.

ص: 31


1- قد ذهب الدكتور زغلول النجار مذهبا في تفسير«إذا الشمس كورت»و كيفية النهاية.فما لبث أن اعترض دكتور صبري الدمرداش عليه كما في جريدة الأخبار(2002/9/13)و سوف نزيد الأمر بحثا في معجم علوم القرآن إن شاء اللّه تعالى.

و الطبيعة،كما في شرحه لقوله تعالى وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ (21)[الذاريات]و كيف لم نضع ما قاله ضمن كتابنا«بدائع التفسير»و ذلك بعد عرضه على طائفة من أهل الطب و العلوم الطبيعية.و ليس هذا بقدح،فهو رحمه اللّه تعالى ينبّه بما قاله على هدف وضعه نصب عينيه في كل كتبه ألا و هو تعريف العبد بالمعبود و المخلوق بالخالق سبحانه و تعالى،و هذا باب من أبواب المحبة للخالق سبحانه،و من أسرار بدء أول نزول القرآن سورة اِقْرَأْ (1)و انظر الفصل الآتي بعنوان:«منهج ابن القيم في التفسير و موقفه من التفسير العلمي»و اللّه تعالى أعلم.

و أيضا من المسائل التي أشبعها ابن القيم بحثا:مسألة التأويل،فسترى كيف صنع التأويل بالنصوص.و كيف قوّم ابن القيم المعوج من معنى التأويل عند بعضهم،و كيف أبان وجهة الحق في رد التأويل الباطل لآيات الصفات،و تبيانه الفرق بين التأويل الصحيح و الباطل و معناه عند السلف الصالح (2).ه!

ص: 32


1- انظر التحرير و التنوير لابن عاشور(434/30)،و انظر«بدائع التفسير»(97/1-99)
2- و قد وقفت على كتاب«تأويل ما أشكل على المفسرين»لمحمد عبد المنعم مراد(صحفي و كاتب مصري)-و هو كما يرى القارئ عنوان هائل ضخم،تحتاج دلالته لعمل فريق من العلماء سنوات طوال. يدعي صاحبه أنه أزاح الإشكال عن أخطاء وقع فيها المفسرون و أتوا بما لا يليق بكتاب اللّه تعالى و هذا جهد مشكور و نية حسنة.و لا دخل لنا بالنية و هنا،لكن كلامنا عن هذا الجهد: فصاحبه أورد في أول الأمر(ص 7):فهو يزيل الإشكال بذكر التأويل الصحيح للآية مستعينا بأحسن طرق التفسير ألا و هي تفسير القرآن بالقرآن،ثم يورد الآية رقم(102)من سورة البقرة،يتبعها بآيات رقم(172)الأعراف،(101)التوبة،(87)الحجر،(7)الإسراء...إلخ.هذه الآيات فما ذا يفهم القارئ!؟ تأتي الإجابة ص(191-218)ناقلا كلام المفسرين دون ذكر المصدر ثم رد العلامة د/أبو شهبة و استشهاده بكلام ابن كثير في بطلان ما أورده المفسرون في الآية رقم(102)من سورة البقرة.و هكذا في سائر الآيات،فهو لم يأت بجديد سوى النقل. ثم يذكر تفسير الإمام الطبري للآية(27)من سورة إبراهيم يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا... الآية ثم يعقبها بقوله:إن العلماء بهذا التفسير(يقصد تفسيرهم الثبات في الآخرة بالثبات في القبر عند السؤال)- يضيعون على الناس جمال المثل الذي ضربه اللّه سبحانه و تعالى في قوله: أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً الآيات(24-27). و لم يبين لنا جمال المثل و سر إنكاره أقوال المفسرين.لكننا لا يخفى علينا السر،فهو صاحب كتاب «عذاب القبر افتراء على اللّه و رسوله!!». فهو يرى أن عذاب القبر لم يشر إليه القرآن من قريب أو بعيد،تصريحا أو تلميحا فأصبح من الواجب عليّ و على كل مسلم أن ينفي عن كتاب اللّه ما ليس فيه،و أن يطهّر العقيدة الواضحة الجلية مما ليس فيها»ص(3)و نقول له ليس معنى تفسير آية بقول ما أن هذا القول من القرآن حتى ننفيه عن كتاب اللّه!

-ثم يحدثنا ابن القيم رحمه اللّه تعالى عن المجاز و مذهبه فيه...

إلى آخر تلك الأبحاث البديعة الجيدة،و كما أشرت مرارا و تكرارا إلى الرغبة في بيان كثير من هذه المسائل التي كثر الحديث عنها مؤخرا،و المتعلقة بالقرآن الكريم و علومه،لأننا نعلم يقينا أنه الحصن الحصين لنا،و لكنني لم أشأ الإطالة لظروف الطبع ثم لمشاغل الوقت التي نسأل اللّه السلامة منها.

----

(2) و أما تطهير العقيدة الواضحة الجلية مما ليس فيها!!هل هذا يمكن إلاّ بالوقوف على صحيح السنة،و إذا صح الحديث فهو الفقه و هو العقيدة!!

ثم يورد المؤلف مباحث كثيرة تحت عناوين مثل:

-قصة النبي آدم عليه السّلام

-كم لبثتم.

-إنك لا تسمع الموتى.

-البرزخ...إلخ.

ثم يرد على ابن كثير تفسيره لقوله تعالى: وَ يَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ أي:أشده ألما و أعظمه نكالا...و هذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور... (74)فهو ينكر كيف يستشهد بالآية المكية على عذاب القبر في البرزخ،لأنه ورد ذكره في المدينة!! و هذا الاعتراض لا يحتاج لرد؟!

و هو ينكر أشد الإنكار على من يصدق أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يظل خمسة عشر عاما لا يعرف عن عذاب القبر شيئا حتى تأتي يهودية تعلمنا ذلك؟!

و هذا رد عقلي يصادم العقل نفسه و النقل نفسه!!

فالغيب لا دخل للعقل فيه شيء إلاّ الإيمان!

و أما النقل فطالما صح السند،يبحث بعد ذلك في المعنى و عدم التعارض و الجمع بين الأدلة إلى تلك المسائل العلمية!!

أما أن نرد الصحيح لأن العقل لا يقبله فهذا مذهب ليس بجديد على من لم يفهم معنى الإيمان!!

ثم يختم كتابه بقوله:«و عذاب القبر لا يستحق الجدل،لأن أمره هين،و ذلك لأن من عذب في قبره، فإن مصيره جهنم و ساءت مصيرا!!»هكذا!!يحلل الكاتب و يهون الأمر،و نقول له ليس أمر عذاب القبر بهيّن،و اتفق أهل السنة على أن من عذب في قبره إنما يعذب بمقدار و ليس شرطا أن يكون مصيره النار!!

و لا أجد غير قول الإمام الشافعي أهديه لهذا الكاتب لعله يهدئ و يتأمل حين يخط قلما عن دين اللّه تعالى:يقول الشافعي:«و من تكلف ما جهل و ما لم تثبته معرفته كانت موافقته للصواب-و إن وافقه من حيث لا يعرف-غير محمودة و اللّه أعلم،و كان بخطئه غير معذور،و إذا ما نطق فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الخطأ و الصواب فيه.أه و اللّه تعالى أعلم.

ص: 33

فصل في منهج ابن القيم في التفسير

اشارة

و إليك أولا هذه الدرة من كلام ابن القيم حتى نبني هذا الفصل على قاعدة من كلامه:

في بيان معنى تيسير القرآن للذكر و بيان معنى التفسير أنزل اللّه سبحانه الكتاب شفاء لما في الصدور و هدى و رحمة للمؤمنين،و لذلك كانت معانيه أشرف المعاني،و ألفاظه أفصح الألفاظ و أبينها،و أعظمها مطابقة لمعانيها المرادة منها كما وصف سبحانه به كتابه في قوله: وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً [الفرقان:33].

فالحق هو المعنى و المدلول الذي تضمنه الكتاب،و التفسير الأحسن هو الألفاظ الدالة على ذلك الحق فهي تفسيره و بيانه.

و التفسير أصله في الظهور و البيان،و باقيه في الاشتقاق الأكبر:الإسفار،؛و منه أسفر الفجر إذا أضاء و وضح،و منه السفر لبروز المسافر من البيوت و ظهوره،و منه السفر الذي يتضمن إظهار ما فيه من العلم و بيانه.فلا بد من أن يكون التفسير مطابقا للمفسر مفهما له، و كلما كان فهم المعنى منه أوضح و أبين كان التفسير أكمل و أحسن.و لهذا لا تجد كلاما أحسن تفسيرا و لا أتم بيانا من كلام اللّه سبحانه،و لهذا سمّاه سبحانه بيانا و أخبر أنه يسره للذكر؛و تيسيره للذكر يتضمن أنواعا من التيسير:

إحداها:تيسير ألفاظه للحفظ.

الثاني:تيسير معانيه للفهم.

الثالث:تيسير أوامره و نواهيه للامتثال.

و معلوم أنه لو كان بألفاظ لا يفهمها المخاطب لم يكن ميسرا له؛بل كان معسرا عليه.

فهكذا إذا أريد من المخاطب أن يفهم من ألفاظه ما لا يدل عليه من المعاني،أو يدل على خلافه فهذا من أشد التعسير،و هو مناف للتيسير (1).

1-لمعرفة منهج المفسر أهمية عظيمة (2)،شغلت كثيرا من أهل العلم،فهذا يكتب عن

ص: 34


1- إعلام الموقعين(332/1).
2- أردت ختم هذا الفصل من مقدمة كتابي«بدائع التفسير»حتى تصحيح مقدمة«بدائع علوم القرآن» كالمقدمة الواحدة للعملين في طبعة التفسير الجديدة.

منهج الطبري،و ذاك عن القرطبي...إلخ،و قد اتسع المقام في هذا الباب و هو أمر جيد خاصة و هو يعتبر مفتاح لأي تفسير.

و من فوائد هذه المناهج و هي كثيرة:

معرفة مدرسة المؤلف الفقهية و مدى تحرره في فهم النص و تقيده بالمذهب إن كان من أصحابه.

ثم معرفة الجانب العقدي عنده،و إن كان من أهل السنة أم من غيرهم و لما ذا؟و معرفة أيضا مدى تأثر المؤلف بغيره من أهل العلم و إضافاته عليهم و تعقيباته مما قد يكون للقارئ رأيا راجحا في مسألة ما و بيان مرجوح في أخرى.إلى غير ذلك من الفوائد الجمة المسطورة في غير هذه العجالة اليسيرة إنما توسع في بيانها بتفصيل كثير من العلماء كفضيلة العلامة الدكتور/محمد حسين الذهبي رحمه اللّه تعالى في كتابه العظيم«التفسير و المفسرون»،و من المعاصرين البارع الدكتور/فهد الرومي في كتابه الشيق الفائق القيمة«اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر»و غيرهم من أهل العلم.

2-و يتوقف ذلك-معرفة المنهج-من الوقوف على تفسير ما،ثم النظر في مقدمة صاحبه،فهي غالبا تكون بالإضافة لكونها مفتاح الكتاب بلورة لمنهج المؤلف و إبرازا لأهم عناصره،خصوصا لو اشترط المفسر ذلك.

و هذه المقدمات توفر كثيرا من العناء في هذا الشأن كمقدمة ابن جرير الطبري،أو القرطبي أو ابن كثير و مقدمة العلامة الطاهر بن عاشور في التحرير و التنوير.

فهذه المقدمات عظيمة الفائدة طريق سهل غالبا في الوقوف على منهج المفسر، بالإضافة إلى دراسة تفسيره،و استخراج الباحث من بطون سطوره و خبايا حروفه كثيرا مما لم يذكره المؤلف في مقدمة تفسيره،و هو مكمل لمعرفة منهجه،بل قد لا تكون مبالغة إذا قلنا إن المقدمة لا تفي أبدا لمعرفة المنهج،بل لا بد من الولوج و الغوص في بحر المؤلف لاستخراج الدرر الكامنة،فالباب لا يفي لمعرفة المنزل إنما هو للدخول و الاستدلال على العنوان.

3-لكن الأمر يختلف مع عالمنا الكبير ابن القيم،فهو أولا لم يضع تفسيرا مستقلا كما بينت من قبل،فضلا أنه لم يضع مقدمة للتفسير كما صنع شيخ الإسلام ابن تيمية رضي اللّه عنه، يستطيع بها الباحث معرفة نقاط أساسية في بيان منهجه.مثل ما كتبه رحمه اللّه تعالى في(بيان أحسن طرق التفسير)(110/1)من دقائق التفسير فهي أسس هامة للمنهج الصائب الموفق،

ص: 35

و مع صغرها فقد حوت النفائس،و أمتعت النفوس،و هذا نلحظه أيضا من خلال ما سطّره قلمه رحمه اللّه تعالى على آيات الذكر الحكيم.

و مما لا ينازع فيه تأثر ابن القيم بشيخ الإسلام رحمهما اللّه تعالى،تأثر المتبع المدقق لا المقلد.و بالتالي يندرج هذا التأثر في التأليف كما هو في الفكر،مع الفارق بين الشيخين الذي ينزل كلا منهما منزلته.و أيضا طريقته في التفسير مع توحد المنبع.

4-و بتتبع ما سطره الإمام ابن القيم خلال كتبه عن آيات الذكر الحكيم إيضاحا و تفسيرا قد نتمكن من الوقوف على أهم هذه الأسس و المبادئ الأساسية لمنهجه قدر الاستطاعة.

و قد تقدم في باب من كتب عن ابن القيم من المعاصرين ما سطره غير واحد منهم عن منهج ابن القيم،كالدكتور البقري و المتولي و غيرهم،و أفرد له الأستاذ محمد أحمد السنباطي مؤلفا مستقلا هو«منهج ابن القيم في التفسير»و استند على ما جمع من قبل فيما عرف ب«التفسير القيم».

5-يتكون كتاب الأستاذ السنباطي من ثلاثة أبواب:

الباب الأول:التعريف بابن القيم و هو مكوّن من:

الفصل الأول:ترجمته و وفاته و نشاطه العلمي.

الفصل الثاني:البيئة العلمية حول ابن القيم.

الباب الثاني:مكوّن من:

الفصل الأول:المدرسة الحنبلية السلفية و منهجها.

الفصل الثاني:الصراع الفكري بين المدرسة مع المذاهب الأخرى في مشكلتي الصفات و الأفعال.

الباب الثالث:منهج ابن القيم في التفسير مكون من تمهيد في التعريف بالتفسير القيم ص(81).

الفصل الأول:منهجه حول الوحدة الموضوعية للسورة،نماذج من الفاتحة و المعوذتين،ثم مقارنة بينه و بين شيخه في طريقة التفسير(88).

ثم ذكر من تأثر بابن القيم في طريقته في التفسير كالإمام محمد عبده،و رشيد رضا رحمهما اللّه تعالى،و الشيخ محمود شلتوت رحمه اللّه تعالى،و الشيخ محمد محمد المدني، و الدكتور محمد عبد اللّه دراز،و الشيخ أبو الأعلى المودودي رحمهم اللّه تعالى،هذا ما قرره

ص: 36

الأستاذ السنباطي.

الفصل الثاني:تصدير ابن القيم النص القرآني كأصل للمعاني و أولوية تفسيره بالنص.

المبدأ الأول:العودة بالنص القرآني إلى معناه المستعمل في العصر الأول.

المبدأ الثاني:تفسير القرآن بالقرآن و بالسنة و أقوال الصحابة.

الفصل الثالث:منهجه في التعرض للنحويات و البلاغيات و القراءات.

المبدأ الأول:عبادته بإبراز ما يتضمنه النص القرآني من أسرار بلاغية.

المبدأ الثاني:اهتمامه بالقراءات و عنايته بالنحويات التي ترتبط بها المعاني.

الفصل الرابع:منهجه في تفسير آيات الصفات و الأفعال.

الفصل الخامس:موقفه من الإسرائيليات.

هذا ملخص ما سطره الأستاذ السنباطي عن منهج ابن القيم في التفسير،و يهمنا الباب الثالث(81-156).

ص: 37

أهم قواعد منهج ابن القيم

اشارة

أولا:القواعد:

1-تفسير القرآن بالقرآن.

2-تفسير القرآن بالسنة المطهرة.

3-تفسير القرآن بتتبع أقوال الصحابة.

4-النظر في أقوال التابعين مع ترجيح أصح الأقوال.

5-النظر اللغوي و البلاغي للآية القرآنية.

ثانيا:هذه القواعد-أو هذا المنهج-هو منهج أهل السنة في التأليف عامة و التفسير خاصة،و هي القواعد التي لخصها و نقحها غير واحد من العلماء في مقدمة تفاسيرهم، بدءا بابن جرير الطبري،ثم شدّ يده عليها ابن تيمية رحمه اللّه في مقدمته المشهورة،و من ثمّ نهجها ابن كثير،و غيره من العلماء و هي السمة البارزة لعلماء المدرسة السلفية منذ العهد الأول مرورا بعالمها المبجل سيدنا الإمام أحمد بن حنبل رضي اللّه عنه،و قدّس روحه، و جعلنا و إياه من أهل رحمته و فردوس جنته.

ثم هلم جرا إلى عصرنا الحاضر،كل من تمسك بمنهج أهل السنة تراه لا يخرج مداد قلمه إلاّ و يبني على قواعد هذه المدرسة،و لما لا،و اللّه تعالى يقول: أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللّهِ وَ رِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَ اللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ (109)[التوبة:109].

و كتبهم-خاصة شيخ الإسلام و تلميذه-خير شاهد على ذلك،بل أهم ما يؤكدون عليه النظر في تفسير القرآن بالقرآن،و لهذا ابن القيم رحمه اللّه تعالى:«و تفسير القرآن بالقرآن من أبلغ التفاسير»التبيان في أقسام القرآن(187).

ثالثا:ليس معنى هذا المنهج أن ابن القيم يأتي أولا في تفسير الآية بأختها من القرآن ثم يفسرها من السنة إلخ...ليس بهذا الأسلوب الذي نراه عند كثير ممن وضع تفسيرا للقرآن،لكن هذا منهج بالاستقراء تراه بارزا في مؤلفاته«فابن القيم رحمه اللّه تعالى يبرز

ص: 38

الأدلة من الكتاب و السنة،و يستنبط الأحكام الشرعية منها بأسلوب سهل مبسط خال من التعقيد بنوعية اللفظي و المعنوي،متطلبا نشر التشريع و بث التوحيد،ردّا إلى اللّه و رسوله،و إلى أن يرد الناس منابع الشريعة الأولى خالية من كل وضر ،خالصة من كل شائبة» (1)و لو وضعنا هذا المنهج أساسا للدعوة الآن لاستطاع المخلصون بعون اللّه تعالى أن يعودوا بالأمة إلى نفس المنابع الطاهرة الطيبة،و يخرجوها من حالتها البائسة التعسة.إذا ابن القيم هدفه العودة إلى المنابع:الأول كتاب اللّه و سنة رسوله صلى اللّه عليه و سلم،و ما كان عليه الصحابة الكرام و أئمة التابعين الأعلام،فهل طبق ذلك في التفسير؟ نعم....و هذا هو:

رابعا:و لو نظرنا إلى السور التي نكاد نقف على تفسير شبه كامل لها مثل الفاتحة و العنكبوت،و هناك عدد لا بأس به من سورة القيامة إلى آخر التفسير خاصة الفلق و الناس.نرى أن ابن القيم يذهب إلى التفسير الموضوعي للسورة،أي:«إبراز الوحدة الموضوعية المتكاملة للسورة القرآنية،تلك الوحدة التي تربط بين أركان السورة بعضها إلى بعض،لتخدم الأهداف التي أنزلت من أجلها،و التي يمكن أن تكون أساسا لفهم آياتها» (2).فلو نظرنا في تفسيره لسورة القيامة(71/5):

1-لنراه يبدأ ببيان ما في الإقسام في قوله تعالى: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ(1) وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوّامَةِ (2)من معان كثبوت الجزاء و مستحق الجزاء،و أن ذلك يتضمن إثبات الرسالة و القرآن و المعاد،ثم يقول:«و هو سبحانه يقسم على هذه الأمور الثلاثة و يقررها أبلغ تقرير(لما)؟يقول:«لحاجة النفوس إلى معرفتها و الإيمان بها»فهو رحمه اللّه تعالى يخلص إلى نتيجة هي الفيصل بين الكفر و الإيمان،و بين الحق و الباطل.فنفس لا تؤمن بالجزاء و لا تثبت الرسالة و القرآن و المعاد كيف يكون حالها؟بل و لو تدبر أحد آيات ذم الكفر و الكافرين و أهل العناد أجمعين لرأيت إفسادهم في الأرض برا و بحرا مبنيا على إنكارهم هذه الأمور الضرورية يقول تعالى: وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا -إلى قوله- وَ لِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُن.

ص: 39


1- بكر أبو زيد(86)،و الوضر:وسخ الدّسم و اللبن.و ليتأمل القارئ هذه الفقرة جيدا من كلام الشيخ بكر،و يعجب للذين لا يزالون يصرون على أن يؤلفوا لمجرد التأليف و يكتبوا لمجرد التصدر دون اعتبار جماهير المسلمين التي يجب جذبها للعمل في الصف الإسلامي لا مجرد المشاهدة،كما سبق بيان التنبيه على ذلك.
2- منهج ابن القيم في التفسير(84)،و ضرب الأستاذ السنباطي لذلك مثالا بالفاتحة و المعوذتين.

اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [الأنعام:112-113]و يقول تعالى في وصف أهل النار: وَ كُنّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46)...إلى قوله تعالى ذكره: كَلاّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53)[المدثر:46 -53]فهذا في حق من لم يؤمن بالآخرة،بالجزاء و الحساب.و نظائره كثيرة فيمن لم يؤمن بالرسالة و القرآن،و بمقدار إفساد من لم يؤمن بذلك،ترى خلافه عند المؤمنين بالبعث، و الحساب،و الرسالة،و النبي،و القرآن،استقامة،صلاحا و إصلاحا،عقيدة و سلوكا و خلقا.

2-فأنت ترى ابن القيم يضع القرآن حيث يجب أن يوضع،منهاجا شاملا تامّا كاملا لحياة الإنسان،لسعادة الدنيا و الآخرة،ثم يبدأ بعد ذلك في تفسير أهمية هذا القسم،و أن اللّه أمر نبيه صلى اللّه عليه و سلم الإقسام به في غير آية منها وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ أَ حَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَ رَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ...

[يونس:53].

3-ثم يبيّن المراد بالنفس اللوامة ناظرا في نظائر القرآن،و فاحصا لأقوال الصحابة و الترجيح بين ذلك،و بيان اللوم المحمود و المذموم،ثم بيان الإنكار على المنكر للجمع و الحساب،ثم الترجيح بين الأقوال في معنى بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4)[القيامة:

4]و بيان القدرة في خلق اليد،و بيان إعجازها،ثم يبيّن أثر عدم الإيمان بالآخرة في الإنسان يقول:«ثم أخبر سبحانه عن سوء حال الإنسان،و إصراره على المعصية و الفجور،و أنه لا يرعوي و لا يخاف يوما يجمع اللّه فيه عظامه،و يبعثه حيّا،بل هو مريد للفجور فيفجر في الحال،و يريد الفجور في غد و ما بعده،و هذا ضد الذي يخاف اللّه و الدار الآخرة،فهذا لا يندم على ما مضى منه،و لا يقلع في الحال و لا يعزم في المستقبل على الترك،بل هو عازم على الاستمرار،و هذا ضد التائب المنيب»ثم نبّه سبحانه على الحامل له على ذلك، هو استبعاده ليوم القيامة...اه إلخ.و هذا هو عين المراد من القرآن: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَ يُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً(9) وَ أَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10)[الإسراء].فمراد القرآن بيان السبيل و المنهج لمن شاء أن يستقيم،ثم يستمر التفسير على هذا النحو،نظرا في القرآن و السنة،تدبرا و فهما،ثم ترجيحا و لأقوال الصحابة و التابعين،و اختيار الأنسب و الأوفق لمراد القرآن الكريم.

و هو يدفعك لذلك و يحثك بقوة فيقول عند الكلام عن الآية: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ(22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23)[القيامة].

يقول:«و أنت إذا أجرت هذه الآية من تحريفها عن موضعها...وجدتها منادية نداء صريحا،أن اللّه سبحانه و تعالى يرى عيانا بالأبصار يوم القيامة،و إن أبيت إلاّ تحريفها الذي

ص: 40

يسميه المحرفون تأويلا...و هذا الذي أفسد الدين و الدنيا..-ثم يقول:-..فاسمع الآن أيها السني تفسير النبي صلى اللّه عليه و سلم و أصحابه و التابعين و أئمة الإسلام لهذه الآية...»اه.

فهو ينادي عليك ببيان المنهج الصائب في التفسير فالتزمه.

و مع هذا ينقد و يرجح بين أقوال السلف شأنه شأن العلماء المتبعين بنظر،لا بتقليد مضل،انظر مثلا(116/5)«بدائع التفسير»من سورة النازعات و(118/5)هام جدا في بيان المتوسعين في نقل التفسير و نقدهم.

4-و ينظر خلال ذلك في علاقة الألفاظ و نسقها في إظهار المعنى،يقول مثلا:«فلفظ «يفجر»اقتضت«أمامه»بلا واسطة حرف،و لا اسم موصول،فأعطيت ما تضمنته لفظا، و اقتضى ما تضمنه الفعل من ذكر الحرف و الموصول،فأعطته معنى،فهذا وجه هذا القول لفظا و معنى و اللّه أعلم»(76/5).

فابن القيم ينظر إلى اللفظ و دوره في المعنى:لأنه ليس في القرآن لفظة مهملة(بدائع الفوائد:229/2).

فاللغة هنا لخدمة القرآن الذي نزل بها،لا لإخراج القرآن عن المراد منه،حتى يضع بعضهم تفاسير فيها كل شيء إلاّ التفسير.فابن القيم يسخّر اللغة تسخيرا بارعا شيقا صحيحا لخدمة القرآن،فهو ليس المستكثر الممل حتى ليخيل للقارئ أن القرآن إنما كتاب للنحو، و الصرف،و علوم البلاغة،و دقائق و خفايا القضايا المتعلقة بذلك لا غير،و لا هو المقل حتى يظن بعده عن هذا العلم.«و ربما توارت شهرة ابن القيم بأنه لغوي؛لأن اللغة في ذاتها لم تكن قصد ابن القيم،و إنما الدرس القرآني بما فيه من موضوعات دخل بعضها فيما يسمى ب«علم الكلام»كان مقصد ابن القيم من أبحاثه اللغوية،فدراسته للغة دراسة مجالها التطبيقي هو النصوص القرآنية و الأحاديث النبوية..» (1).).

ص: 41


1- «ابن القيم اللغوي»للبقري(59).

عرف القرآن

و هنا يضع ابن القيم رحمه اللّه تعالى قاعدة أصيلة و عظيمة عند التعامل مع القرآن الكريم،يقول:«...و ينبغي أن يتفطن هنا لأمر لا بدّ منه،و هو أنه لا يجوز أن يحمل كلام اللّه عزّ و جلّ و يفسر بمجرد الاحتمال النحوي الإعرابي الذي يحتمله تركيب الكلام، فيكون الكلام بدله معنى ما.فإن هذا مقام غلط فيه أكثر المعربين للقرآن،فإنهم يفسرون الآية و يعربونها بما يحتمله تركيب تلك الجملة،و يفهم من ذلك التركيب أي معنى اتفق، و هذا غلط عظيم يقطع السامع بأن مراد القرآن غيره،و إن احتمل ذلك التركيب هذا المعنى في سياق آخر،و كلام آخر،فإنه لا يلزم أن يحتمله القرآن مثل قول بعضهم في قراءة من قرأ: وَ الْأَرْحامَ إِنَّ اللّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]بالجر أنه قسم،و مثل قول بعضهم في قوله تعالى: وَ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وَ كُفْرٌ بِهِ وَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [البقرة:217]أن المسجد مجرور بالعطف على الضمير المجرور في«به»و نظائر ذلك أضعاف أضعاف ما ذكرنا و أوهى بكثير، بل للقرآن عرف خاص و معان معهودة لا يناسبه تفسيره بغيرها و لا يجوز تفسيره بغير عرفه، و المعهود من معانيه،فإن نسبة معانيه إلى المعاني كنسبة ألفاظه إلى الألفاظ بل أعظم،فكما أن ألفاظه ملوك الألفاظ و أجلها و أفصحها و لها من الفصاحة أعلى مراتبها التي يعجز عنها قدر العالمين،فكذلك معانيه أجل المعاني و أعظمها و أفخمها،فلا يجوز تفسيره بغيرها من المعاني التي لا تليق به،بل غيرها أعظم منها و أجل و أفخم فلا يجوز حمله على المعاني القاصرة بمجرد الاحتمال النحوي الإعرابي،فتدبر هذه القاعدة،و لتكن منك على بال، فإنك تنتفع بها في معرفة ضعف كثير من أقوال المفسرين و زيفها،و تقطع أنها ليست مراد المتكلم تعالى بكلامه...»(27/3-28)بدائع الفوائد.

و يقول أيضا في معرض بيان معنى الآية رقم(27-28)من الأنعام:«و قد حام أكثر المفسرين حول معنى هذه الآية و ما أوردوا،فراجع أقوالهم تجدها لا تشفي عليلا،و معناها أجل و أعظم مما فسروا به،و لم يتفطنوا لوجه الإضراب ب«بل»،و لا للأمر الذي بدا لهم و كانوا يخفونه،و ظنوا أن الذي بدا لهم العذاب.

فلما لم يروا ذلك ملتئما مع قوله: ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ قدروا مضافا محذوفا و هو خبر(ما

ص: 42

كانوا يخفون من قبل)،فدخل عليهم أمر آخر لا جواب لهم عنه..»عدة الصابرين(185).

بل تراه يذم من أعرض عن النحو فلم يفهم التفسير يقول:«...و أنه لم يقدر المعنى حق قدره،فلا لصناعة النحو وفق،و لا لفهم التفسير رزق...»بدائع الفوائد(133/1)، و انظر أيضا(206/1).

و سيأتي مزيد في بيان تعظيمه للقرآن و أدوات تفسيره عند الكلام عن الإسرائيليات،إن شاء اللّه تعالى.

فليتدبر المسلم مقدار عظم هذه النصيحة و لا يحيد عنها،و ينظر في كتاب اللّه بها ثم ينتظر مدد اللّه و فيضه.

5-و هنا نقف على نتيجة هامة هي نظر ابن القيم في القرآن نظرة المصلح المربي المتبصّر،فهو لا تكاد تمر عليه آية أو يمر بها إلاّ استخرج منها قواعد هامة لإصلاح الفرد و الجماعة،و يؤكد على علاقتين هامتين ضروريتين:

(1)علاقة العبد بربه سبحانه و تعالى.

(2)علاقة العباد بعضهم مع بعض.

أما علاقة العبد بربه فأكاد أجزم أن مدار كتب ابن القيم عليها قامت،و لها دعت، و انظر إلى أي آية يظن القارئ أنها بعيدة عن ذلك،تراه يستنبط منها ما ينفع العبد في علاقته مع ربه،انظره مثلا عند كلامه على آيات الربا في سورة البقرة فضلا على فتوحات اللّه عليه في سورة الفاتحة،و هذا أظن التأكيد عليه من نافلة القول.

أما علاقة العبد بغيره من أفراد البشر مسلمين كانوا أم كفارا،فتراه يخرج من الآيات ما به يستقيم حال الفرد و حال المجتمع بتنوع أفراده،و تأمل ما سطره في«تحفة الودود»أو في «أحكام أهل الذمة»مثلا جليّا لذلك،يندفع به ما يراد أن يلصق بالمسلمين الآن من اتهامات بالدموية و القتل لا غير.و يا ليت الأمر جاء من الأعداء فقط لقل الخطب،إنما هي فتنة تبثها أقلام مأجورة و أفواه مطعومة،و عقول مسقاة من نبع واحد إلا هو النفاق،و لكن يتكلمون بألسنتنا و من جلدتنا.

6-تفسير الصحابة رضي اللّه عنهم:

أولا:منزلة الصحابة رضي اللّه عنهم من المكانة بما لا يحتاج لبيان،فهم من الشأن و الرفعة لا يعلو عليهم أحد سوى الأنبياء عليهم السّلام.و أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا يخرجون عن قوله تعالى: وَ مَنْ يُطِعِ اللّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69)[النساء]فهم الجامعة الإسلامية حقا و الجماعة المؤمنة الأولى الذين تربوا على يد خير الناس صلى اللّه عليه و سلم.

ص: 43

أولا:منزلة الصحابة رضي اللّه عنهم من المكانة بما لا يحتاج لبيان،فهم من الشأن و الرفعة لا يعلو عليهم أحد سوى الأنبياء عليهم السّلام.و أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا يخرجون عن قوله تعالى: وَ مَنْ يُطِعِ اللّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69)[النساء]فهم الجامعة الإسلامية حقا و الجماعة المؤمنة الأولى الذين تربوا على يد خير الناس صلى اللّه عليه و سلم.

و قد اهتم إمامنا ابن القيم رحمه اللّه تعالى أيما اهتمام بأمر اتباع الصحابة،بل بيان وجوب ذلك في أكثر من موضع من كتبه أهمها ما ذكره في«إعلام الموقعين»(155/4).

و بيان الدلالة على اتباعهم مطلقا مجتمعين و منفردين،و الرد على من خالف ذلك.و هذا ما أدين به لرب العالمين و لا نحيد عنه إلى يوم الدين،فإن الصحابة رضي اللّه عنهم خير الناس و أتقاهم و أعلمهم بعد رسول رب العالمين صلى اللّه عليه و سلم.

«و قد نهج ابن القيم رحمه اللّه تعالى في مسائل العلم منهج الاسترواح و التطلب من كتاب اللّه تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه،و من سنة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الذي لا ينطق عن الهوى،فإن لم يجد أخذ بأزمة أقوال الصحابة رضي اللّه عنهم:لأنهم أبر الأمة قلوبا و أعمقها دينا،و أصحها فهوما.

و هذه صفة بارزة و سمة ظاهرة في جميع مباحثه في العقائد و الأحكام،و لهذا أفاض رحمه اللّه تعالى بالاستدلال لهذا الأصل و وجوب الأخذ به و العمل بموجبه..» (1)و هذا الفصل في وجوب اتباع الصحابة رضي اللّه عنهم يعض عليه بالنواجذ فقد لا تجده في غير مكانه.

ثانيا:موقف ابن القيم من تفسير الصحابة رضي اللّه عنهم.بعد أن عرفنا مكانتهم في مصنفاته العقدية و الفقهية،نرى فيما استطعنا جمعه من تفسيره أنه رحمه اللّه تعالى يجعل هذا من الأصول العظيمة في التفسير،و إليك بعض الشذرات.

يقول مثلا في«التبيان في أقسام القرآن»(229):

«الوجه العاشر:ما رواه سعيد بن منصور في سننه:حدثنا الأحوص،حدثنا عاصم الأحول،عن أنس بن مالك في قوله: لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79)قال:المطهرون الملائكة،و هذا عند طائفة من أهل الحديث في حكم المرفوع،قال الحاكم (2):تفسير الصحابة عندنا في حكم المرفوع،و من لم يجعله مرفوعا فلا ريب أنه عنده أصح من تفسير من بعد الصحابة،و الصحابة أعلم الأمة بتفسير القرآن و يجب الرجوع إلى تفسيرهم»فهنا أوجب الرجوع إلى تفسيرهم كما أوجب-فيما سبق-اتباعهم و طاعتهم.ف.

ص: 44


1- بكر أبو زيد(89).
2- راجع ص(300)من سورة الأعراف.

و قال في موضع آخر من طريق الهجرتين(356)في الحديث عن أصحاب الأعراف:

«و آثار الصحابة في ذلك المعتمدة».

و يقول رحمه اللّه تعالى في تفسير معنى اللهو من الآية(3)سورة لقمان:«و صح عن ابن عمر رضي اللّه عنها أيضا أنه الغناء»-ثم ذكر قولي الحاكم-ثم قال:«و هذا و إن كان فيه نظر-قول الحاكم أن تفسيرهم في حكم المرفوع-فلا ريب أنه أولى بالقبول من تفسير من بعدهم، فهم أعلم الأمة بمراد اللّه عزّ و جلّ من كتابه فعليهم نزل،و هم أول من خوطب به من الأمة،و قد شاهدوا تفسيره من الرسول صلى اللّه عليه و سلم علما و عملا،و هم العرب الفصحاء على الحقيقة،فلا يعدل عن تفسيرهم ما وجد إليه سبيل...»بدائع التفسير(405/3).

و هو يجمع بين أقوالهم،و بين أن أكثر اختلافهم في التفسير اختلاف تنوع،راجع(/5 105)المرسلات.

7-و يقول رحمه اللّه تعالى:

«و قد اختلف في تفسير الصحابي هل له حكم المرفوع،أو الموقوف؟على قولين:

الأول اختيار أبي عبد اللّه الحاكم.و الثاني هو الصواب،و لا نقول على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما لم نعلم أنه قاله»اه.

و قد قال الحاكم أيضا في مستدركه(258/2):«ليعلم طالب هذا العلم أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي و التنزيل عند الشيخين حديث مسند»و لم يعقب الذهبي بشيء، إذا ابن القيم يصوب أن تفسيرهم موقوف،و لكن يوجب اتباعهم فيه؛لأنهم أعلم الأمة بتفسير القرآن كلام الرحمن،و إن كان المقام لا يسع هنا الترجيح بين أقوال أهل العلم في هذه المسألة،و لكني أظن أن تخريج هذه المسألة مبني على أن النبي صلى اللّه عليه و سلم هل تناول تفسير القرآن كله للصحابة أم لا؟لأن النبي صلى اللّه عليه و سلم إن تناول تفسير القرآن كله لهم،فلا شك أن ما قالوه يكون مرفوعا،و ما صح سنده يكون العمدة.و اللّه أعلم.

و في المسألة قولان أحدهما:بالإيجاب،و الآخر:بالنفي،و قد ناقش ذلك الدكتور/ محمد الذهبي رحمه اللّه تعالى في كتابه الهام«التفسير و المفسرون»(50/1).و اتهم الفريقين بالغلو(53/1)،و توسط بين القولين بأن النبي صلى اللّه عليه و سلم بيّن الكثير من معاني القرآن لأصحابه، كما تشهد بذلك كتب الصحاح،و لم يبيّن كل معاني القرآن،و ذكر قول ابن عباس فيما رواه عنه ابن جرير(25/1)قال:«التفسير على أربعة أوجه:وجه تعرفه العرب من كلامها، و تفسير لا يعذر أحد بجهالته،و تفسير تعرفه العلماء،و تفسير لا يعلمه إلاّ اللّه»(55/1).

ص: 45

و جعل الدكتور/الذهبي على رأس القائلين بأن الرسول صلى اللّه عليه و سلم تناول بيان القرآن كله ابن تيمية رحمه اللّه تعالى التفسير و المفسرون(51/1)،يقول شيخ الإسلام رحمه اللّه تعالى:«يجب أن يعلم أن النبي صلى اللّه عليه و سلم بين لأصحابه معاني القرآن كما بيّن لهم ألفاظه،قوله تعالى: لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]يتناول هذا و هذا،و قد قال أبو عبد الرحمن السلمي:حدثنا الذين كانوا يقرءوننا القرآن-كعثمان بن عفان و عبد اللّه بن مسعود و غيرهما-أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى اللّه عليه و سلم عشر آيات لم يجاوزوها،حتى يتعلموا ما فيها من العلم و العمل، قالوا:فتعلمنا القرآن و العمل جميعا،و لهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة،و أيضا فالعادة تمنع أن يقرأ أقوام كتابا في فن من العلم كالطب و الحساب و لا يستشرحوه فكيف بكلام اللّه الذي هو عصمتهم،و به نجاتهم و سعادتهم،و قيام دينهم و دنياهم؟!و لهذا كان نزاع الصحابة في القرآن قليلا جدّا،و هو و إن كان في التابعين أكثر منه في الصحابة فهو قليل بالنسبة إلى من بعدهم...»دقائق التفسير(90/1-91).

و انظر مقدمة القرطبي لتفسيره:باب كيفية التعلم و الفقه...(34/1).

8-ثم المتتبع لتراجم القراء من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم،كعبد اللّه ابن مسعود،و سالم و معاذ و أبي بن كعب،و غيرهم كعبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنهم،ثم التابعين و أشهرهم مجاهد -أقول-:«المتتبع لتراجمهم يلمس مقدار ما أخذوه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كتلقي ابن مسعود رضي اللّه عنه سبعين سورة من فيّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم،فلا يبعد أن يسألوه ليتعلموا و يتفقهوا و هذا كثير يصعب حصره،و إنما المتتبع لتفاسير السلف الأوائل يراه واضحا،فهل يعقل أن يسألوه صلى اللّه عليه و سلم عن النعيم في قوله تعالى: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)[التكاثر:8]ثم يتركون السؤال عن غيرها مما خطره أكبر و معناه أهم،كالأحكام و العقائد،و انظر عدة الصابرين(190).انظر فتح الباري(663/8)فضائل القرآن،باب القراء من أصحاب النبي صلى اللّه عليه و سلم.

و انظر فصل في أحسن طرق التفسير لابن تيمية رحمه اللّه تعالى(110/1-111)دقائق التفسير.و يقول ابن تيمية رحمه اللّه تعالى:«و كذلك الصحابة و التابعون فسروا جميع القرآن، فكانوا يقولون:إن العلماء يعلمون تفسيره و ما أريد به،و إن لم يعلموا كيفية ما أخبر اللّه به عن نفسه...»درء تعارض العقل و النقل(207/1).

و تفسير ابن جرير،و عبد الرزاق،و غيرهم من الأوائل،دال على كثرة ما نقلوه في التفسير عن خير أمة أخرجت للناس:صحابة رسولنا صلى اللّه عليه و سلم،و انظر مقدمة ابن كثير لتفسيره(3/1).

ص: 46

9-و إني أتبع قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللّه تعالى في أن الرسول صلى اللّه عليه و سلم بيّن القرآن للصحابة،و أن الصحابة و التابعين فسروا القرآن كله.

فإذا لا عجب أن نرى استحضار ابن القيم لآراء الصحابة رضي اللّه عنهم عن تفسيره،و هو لا ينقل فقط،بل يرجح و ينقح بين آرائهم،مثلا انظر تفسيره لمعنى«اللمم»الآية(32:النجم)في(/4 301)من بدائع التفسير،و ينقد من يخالف أقوالهم و بشدة كما عند تفسيره«للطائر»من قوله تعالى الآية(13)الإسراء.يقول:«هذه طريقة لكم معروفة في تحريف الكلم عن مواضعه، سلكتموها في الجسم و الطبع و العقل و هذا لا يعرفه أهل اللغة و هو خلاف حقيقة اللفظ و ما فسره به أعلم الأمة بالقرآن،و لا يعرف ما قلتموه عن أحد من سلف الأمة...»(شفاء العليل:

61)و هذا سيصادف القارئ كثيرا و إذا ثبت النقل عنهم فإنك تراه لا يحيد عن قولهم رضي اللّه عنهم.

مسألة لقد اعتراني كثير من التحير في مسألة«تفسير النبي صلى اللّه عليه و سلم»من ناحية كيف يصح شيء عن النبي صلى اللّه عليه و سلم ثم يعدل بعض المفسرين عنه أو ذكر ما يعارضه،حتى و لم يتفق معنا بعض الباحثين في تفسير النبي صلى اللّه عليه و سلم للقرآن،لكن لا يخرج الأمر عن بيان المجمل في الكتاب، كالصلوات و هيئاتها مثلا.

فكل ما ورد عنه في هذا الباب تفسير للقرآن،فالسنة مفسرة للقرآن و مبينة و موضحة له.

و مما يؤيد ذلك ما صح عن الصحابة رضي اللّه عنهم في طريقة تعلمهم للقرآن على يد النبي صلى اللّه عليه و سلم حيث ذكر غير واحد من الصحابة كابن مسعود و عثمان بن عفان و زيد و ابن عمر،كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يتجاوزها حتى يتعلموا ما فيها من العلم و العمل،فتعلموا القرآن و الإيمان معا،علما و عملا.

و لكن لا يشترط لصحة ما ذكرنا أن الصحابة سألوا النبي صلى اللّه عليه و سلم عن كل كلمة من القرآن، لأنهم أهل اللسان الذي نزل به،و أفهامهم أنقى الفهوم و أصفى أفئدة،فلم يكونوا بحاجة لمثل هذا التفصيل،مع ورود ما يشبهه عنهم مثل بيانه صلى اللّه عليه و سلم معنى الظلم في الآية(82)من الأنعام.و هكذا.

لكن اعتراضنا على من صح عنده كلام النبي صلى اللّه عليه و سلم،ثم يعدل عنه،و ليس هذا إلاّ كصنيع بعض الفقهاء في ترك السنة لأقوال شيخهم،و هذا فصّلناه في كتاب«جامع الفقه» (1).ه.

ص: 47


1- و سوف أضع بابا في موضوع تفسير النبي صلى اللّه عليه و سلم ضمن«معجم علوم القرآن»بحول اللّه و قوته.

فصل

موقف ابن القيم من الإسرائيليات:

10-للعلماء موقف مما روي من أقاويل أهل الكتاب،يقفون به موقف الاحتياط و الحذر و غالبا الرفض،و ذلك مبناه على قوله صلى اللّه عليه و سلم:«بلغوا عني و لو آية،و حدثوا عن بني إسرائيل و لا حرج،و من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار»عن ابن عمرو(صحيح الجامع:2834).

و لهذا يقول ابن كثير رحمه اللّه تعالى:«...هذه الأحاديث الإسرائيليات تذكر للاستشهاد،لا للاعتضاد،فإنها على ثلاثة أقسام:

أحدها:ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق فذاك صحيح.

الثاني:ما علمنا كذبه مما عندنا مما يخالفه.

الثالث:ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل و لا من هذا القبيل،فلا نؤمن به و لا نكذبه و يجوز حكايته لما تقدم،و غالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني..» (تفسير ابن كثير 3/1)،ثم ضرب أمثلة لذلك،كأسماء أصحاب الكهف و كلبهم،و نوع الشجرة التي أكل منها آدم...إلخ.

و يذكر كثير من المفسرين ذلك ظنّا أن هذا من العلم النفيس،فحشوا كتبهم به و هو غث و غش فصرفوا المسلمين عن مقاصد الكتاب الهادي المنير،إلى(خزعبلات)و أباطيل أهل الكتاب،و غفلوا أن اللّه تعالى إنما سكت عن أسماء كثير من الأماكن و الأشخاص ليعلمنا أنها ليست مقاصد الكتاب العزيز،فما الذي يفيد في تعين اسم ذي القرنين،و موطنه، و أماكن رحلاته،ثم تراهم يقفون عند هذا،و يغفلون عن قاعدة هامة من قواعد صلاح الأمم و استقامة الحياة قاعدة العدل و الإحسان و انتقاد الظلم،كما في قوله تعالى: قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمّا أَنْ تُعَذِّبَ وَ إِمّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً(86) قالَ أَمّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً(87) وَ أَمّا مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَ سَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88)[الكهف]فلا يعطون لمثل هذه الآية النفيسة ما تستحقه؛لأن ذلك على خلاف هوى الطغاة و الجبابرة و حسبنا اللّه و نعم الوكيل.

و هنا نقف على جوهرة ثمينة من جواهر العلم النفيس لابن كثير-و لم لا-و هو ممن أزهر و أثمر ببستان شيخ الإسلام ابن تيمية و تلميذه ابن القيم-يقول ابن كثير في أحسن ما

ص: 48

يكون في عرض الخلاف أن تستوعب الأقوال في ذلك المقام،و أن ينبه على الصحيح منها، و يبطل الباطل،و تذكر فائدة الخلاف و ثمرته لئلا يطول النزاع و الخلاف فيما لا فائدة تحته، فتشتغل به عن الأهم فالأهم.

«..فأما من حكي خلافا في مسألة و لم يستوعب أقوال الناس فيها فهو ناقص،إذ قد يكون الصواب في الذي تركه،أو يحكي الخلاف و يطلقه و لا ينبه على الصحيح من الأقوال فهو ناقص أيضا،فإن صحح غير الصحيح عامدا فقد تعمد الكذب،أو جاهلا فقد أخطأ، و كذلك من نصب الخلاف فيما لا فائدة تحته،أو حكى أقوالا متعددة لفظا و يرجع حاصلها إلى قول أو قولين معنى فقد ضيع الزمان و تكبر بما ليس بصحيح،فهو كلابس ثوبي زور.

و اللّه الموفق للصواب»(تفسير ابن كثير:3/1).

هذه القاعدة الهامة تراها واضحة عند ابن القيم رحمه اللّه تعالى،فهو لا يذكر الأقوال تكثرا،و لا يسرد الآراء عجبا،بل يرجح ما به يقع القارئ على الصواب و يسهل العمل به.

فلا يترك القارئ متحيرا،مدعيا أن له حق الاختيار.

ص: 49

بيان تعظيمه للقرآن الكريم

11-و لهذا نرى ابن القيم رحمه اللّه تعالى يعرض تماما عن ذكر الإسرائيليات،فهو يعلم مقدار ما أفسدت هذه الآفات في عقائد المسلمين و رغبتها في تحويل الإسلام إلى رهبانية و قصص و حكايات لصرفهم عن المقصد الأسمى:إلا هو العلم الصحيح النافع مع العمل الصائب.و قد ضرب الأستاذ السنباطي مثلا لإعراض ابن القيم بتفسير آيات آداب الضيافة من سورة الذاريات(24-25)و ما دار بين الملائكة و خليل الرحمن إبراهيم عليه السّلام.

(منهج ابن القيم:154).

و ينقد ابن القيم بشدة من يعتمد الإسرائيليات في احتجاجه دون التفات لمعارضة لأصول الدين أو للصحيح من الآثار،يقول في معرض قبول التوبة و عودة العبد بعدها خيرا مما كان:(...فإذا أثمرت له التوبة هذه المحبة و رجع بها إلى طاعاته التي كان عليها أولا انضم أثرها إلى أثر تلك الطاعات فقوي الأثران فحصل له المزيد من القرب و الوسيلة، و هذا بخلاف ما يظن من نقصت معرفته بربه من أنه سبحانه إذا غفر لعبده ذنبه فإنه لا يعود الود الذي كان له من قبل الجناية،و احتجوا في ذلك بأثر إسرائيلي مكذوب أن اللّه قال لداود عليه السّلام:«يا داود أما الذنب فقد غفرناه و أما الود فلا يعود».و هذا كذب قطعا...) (طريق الهجرتين:216-217).بل نرى ابن القيم يعرض بالكلية عن ذكر ما فيه مساس و عدم صون للكتاب الكريم،أو ما يشوب سير أنبياء اللّه صلوات اللّه و سلامه عليهم مما قد لا يحذر منه كثير من المؤلفين(كحاطب ليل)يقول في بيان قوله تعالى ذكره: وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً... [الأحزاب:36]:«أخبر سبحانه أنه ليس لمؤمن أن يختار بعد قضائه و قضاء رسوله صلى اللّه عليه و سلم،و من تخير بعد ذلك،فقد ضل ضلالا بعيدا.و أما زعم بعض من لم يقدر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حق قدره،أنه ابتلي في شأن زينب بنت جحش،و أنه رآها فقال:«سبحان مقلب القلوب»فظن هذا الزاعم أن ذلك في شأن العشق،و صنف بعضهم كتابا في العشق و ذكر فيه عشق الأنبياء و ذكر هذه الواقعة.و هذا من جهل هذا القائل بالقرآن و بالرسل و تحميله كلام اللّه ما لا يتحمله و نسبته رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إلى ما برأه اللّه منه...»(بدائع التفسير:325/3-426)فأنت ترى موضع الكتاب المعظم عند ابن القيم

ص: 50

و مكانة النبي المكرم صلى اللّه عليه و سلم بل لو عدنا و نظرنا في تكملة آيات سورة القيامة بل و غيرها من السور ترى تردد عبارة«و من أسرار الآية كذا»«و هذا من أسرار القرآن»راجع مثلا سورة القيامة(79/5).

و يقول أيضا:«...فتبارك من أودع كلامه من الحكم و الأسرار و العلوم ما يشهد أنه كلام اللّه،و أن مخلوقا لا يمكن أن يصدر منه مثل هذا الكلام أبدا»(بدائع الفوائد:74/1).

و منه أيضا(117/1):«...و هذا باب قد فتحه اللّه لي و لك فلجه و انظر إلى أسرار الكتاب و عجائبه و موارد ألفاظه جمعا و إفرادا و تقديما و تأخيرا إلى غير ذلك من أسراره...».

و منه(119/1):«....فمثل هذا الفصل يعض عليه بالنواجذ و تثنى عليه الخناصر فإنه يشرف بك على أسرار عجائب تجتنيها من كلام اللّه،و اللّه الموفق للصواب»و يرد بشدة و قوة على من ينتصر لقاعدة نحوية على حساب القرآن«...فلا يجوز تحريف كلام اللّه انتصارا لقاعدة نحوية،هدم مائة أمثالها أسهل من تحريف معنى آية»(بدائع الفوائد:45/1)و أخيرا ينقد ابن القيم من يطوع إلى بدعته خلافا لما عليه السلف يقول:«و نحن قد أريناكم أقوال أئمة الهدى و سلف الأمة في الطائر،فأورنا قولكم عن واحد منهم قاله قبلكم،و كل طائفة من أهل البدع تجر القرآن إلى بدعها و ضلالها و تفسره بمذاهبها و آرائها و القرآن بريء من ذلك و باللّه التوفيق»(شفاء العليل:61).

و هذا قليل من كثير مما يؤكد على تعظيم الإمام للقرآن و الذود عن تفسيره بغير وجه صحيح.

و هو مع هذا يرد و يناقش،لا يقلد رأي أحد مهما كان،فهو يعلم أن كل أحد يؤخذ منه و يرد،إلاّ صاحب الرسالة صلى اللّه عليه و سلم.

راجع مثلا:كلامه عن آية الذرية(172)الأعراف أو كلامه عن الشك من الآية(94) سورة يونس أو معنى الصراط الآية(56)من سورة هود.

و مقصده رحمه اللّه تعالى في كل هذا الوصول للحق بطريق الحق،و اللّه حسبه،و كل يؤخذ منه و يرد إلاّ صاحب الرسالة صلى اللّه عليه و سلم و أصحابه و سلم،فرحمه اللّه تعالى و أثابه فوق نيته.

فصل هذه نظرة متعلقة بالأبحاث العلمية و الكونية و الطبية و غيرها من العلوم التجريبية مما تكلم عن بعضها ابن القيم رحمه اللّه تعالى و فيها بعض التأملات:

ص: 51

أولا:القرآن الكريم كلام رب العالمين المنزل على قلب خاتم النبيين صلى اللّه عليه و سلم كتاب هداية و بيان،ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذنه،من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد،من ظلمات المعاصي إلى نور الطاعات،من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام:صراط اللّه المستقيم.و القرآن مليء بالحث على التفكر و التدبر و النظر في السموات و الأرض و فيما خلق اللّه من جبال و أنهار و بحار و أشجار و كواكب و نجوم إلى سائر مخلوقات اللّه تعالى جامدة أو حية.و في أيام الذين خلوا من قبل.و هذا يكاد لا تخلو منه سورة من السور و إن غلب ذلك على السور المكية كالأنعام و النحل و غيرها،مثلا:يقول اللّه تعالى: وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ(20) وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ (21)[الذاريات]و كقوله: أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ(17) وَ إِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ(18) وَ إِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ(19) وَ إِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) [الغاشية]إلى كثير من الآيات التي تكلم عنها جمع من العلماء بما عرف بالتفسير العلمي.

يقول العلامة الدكتور/محمد حسين الذهبي رحمه اللّه تعالى في معنى التفسير العلمي:

نريد بالتفسير العلمي:«التفسير الذي يحكم الاصطلاحات العلمية في عبارات القرآن، و يجتهد في استخراج مختلف العلوم و الآراء الفلسفية منها»«التفسير و المفسرون»(454/2).

و للحديث عن التفسير العلمي في القرآن،و موقف المؤيدين منه و المعارضين،مقام ليس هنا،و إلاّ طال المقال عن ضرورة الحال.و من أحسن من كتب و جمع و حلل الآراء في هذه المسألة-مع الاختصار أيضا-فضيلة الأستاذ الدكتور/فهد الرومي في كتابه الممتع البديع «اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر»في الفصل الثالث«المنهج العلمي التجريبي في التفسير»(545/2-702)و قد رجح المؤلف حفظه اللّه بين الآراء بأقوال جيدة و نظرات ثاقبة(602/2)و أرى-و اللّه أعلم-حسن ما ذهب إليه،و هو عدم رفض و إنكار التفسير العلمي بشرط ضرورية للخوض فيه.ثم يقول بعد ذكره هذه الشروط:«أقول:لا رفض للتفسير العلمي مطلقا،و لا تأييد و تسليم له مطلقين،بل جمعا بين حقيقتين:حقيقة قرآنية ثابتة بالنص الذي لا يقبل الشك،و حقيقة علمية ثابتة بالتجربة و المشاهدة القطعيتين،و من هنا كنا متفقين كما أسلفنا على أن القرآن الكريم لم و لن يصادم حقيقة علمية،و إنما يقع التصادم عند ما ندعي حقيقة علمية في الكون و هي ليست حقيقة علمية،أو ندعي حقيقة قرآنية،و هي ليست حقيقة قرآنية»(603/2).و قد نبّه الأستاذ المؤلف للفرق بين أمرين هامين و هما:«التفسير العلمي»و«الإعجاز العلمي».أما أولهما فهو مثار البحث و المناقشة، و أما ثانيهما فأحسبه أمرا مسلما لا جدال فيه و لا إشكال(600/2)اه.

ص: 52

و هي تفرقة و إن كانت لا تنكر،لكنها قد تخفى على أجيال يلبس عليها دينها و يشوش فكرها بحجة لا مكان للدين في الحقل العلمي و المعملي المعاصر،و تفهيمهم أن الدين هو عبادات داخل المسجد فقط و لا علاقة له بالدنيا،و لا مكان له بالخارج،و هو لحية كثة و قميص قصير و مسبحة طويلة...فهو-عندهم-«دروشة»فأكثر منها إن شئت أودع.

ففصلوا بين الدين و الدنيا،بين القرآن و السنة،و الحكم و واقع الناس.فالإعجاز العلمي كان و لا يزال و سوف يستمر إلى ميراث اللّه الأرض و من عليها«ذلكم أن كتابا أنزل قبل أربعة عشر قرنا من الزمان و عرض لكثير من مظاهر هذا الوجود الكونية كخلق السموات و الأرض و خلق الإنسان...و مع ذلك كله لم يسقط العلم كلمة من كلماته و لم يصادم جزئية من جزئياته،فإذا كان الأمر كذلك فإن هذا بحد ذاته يعتبر إعجازا علميا للقرآن.هذه النتيجة المتولدة على أن القرآن لم و لن يصادم حقيقة علمية لم أر بين علماء المسلمين من أنكرها لا في القديم و لا في الحديث،و كل ما يثار من ضجة و ما يسطر في الصحف ما هو إلاّ عن التفسير العلمي لا عن الإعجاز العلمي»(600/2-601)المصدر نفسه.

فاللّه عزّ و جلّ لا تخفى عليه خافية،و لا يكون إلاّ ما أراد و قدر و قضى،فهو خالق كل صانع و صنعته فهو أنزل القرآن و علمه،و خلق الإنسان و عقله،و قرآنه هو الدال عليه سبحانه،و هو كتابه المقروء و الكون كتابه المنظور.

فهذا كتاب بيان و هدى يدلك أن الكون له خالق واحد لا إله إلاّ هو الرحمن الرحيم.

و نبهنا في القرآن على ما في كثير من الكون من آيات يراها الناس بين الحين و الآخر ليزدادوا إيمانا و تسليما حين يرون إعجاز القرآن العلمي،و هذا ينفع المؤمنين مع إيمانهم و تصديقهم أصلا بالقرآن،و إلاّ فأكثر هذه الإعجازات العلمية أظهرت على أيدي غير مؤمنين فلم تنفعهم شيئا و كانت حجة عليهم لا لهم.فالعبرة بالإيمان و التصديق أن القرآن حق،ثم تأتي الآيات الكونية لنرى في أنفسنا و الآفاق ما يزيدنا إيمانا و يتبين لنا أنه الحق.و اللّه أعلم و به أؤمن و له أسلم و أسأله أن يتوفاني على ما توفى عليه عباده الصالحين.

ثانيا:«ابن القيم و التفسير العلمي»بعد بيان الفرق بين التفسير العلمي،و الإعجاز العلمي للقرآن،نستطيع أن نقف-بعون اللّه-على موقف ابن القيم رحمه اللّه تعالى من الأمرين و هو ما يأتي في الكلام على منهجه رحمه اللّه تعالى.

ص: 53

ابن القيم و التفسير العلمي

بيّنا من قبل في الفصل ص(52)الفرق بين التفسير العلمي و الإعجاز العلمي،و أن الإعجاز العلمي موجود إلى قيام الساعة،أما تفسير القرآن تفسيرا علميّا فمرفوض و التتبع لمؤلفات ابن القيم رحمه اللّه تعالى و التي منها تمّ جمع تفسيره يلحظ الآتي:

أولا:إن ابن القيم رحمه اللّه تعالى يحث المسلمين على التفكر و التدبر و النظر في الكون و إلى ما خلق اللّه من شيء،ليزدادوا إيمانا و تسليما.و هذا واضح في جلّ كتبه خاصة«مفتاح دار السعادة..»الذي لا نظير له.فهو يتكلم عن صنع الإنسان و بديع صنعه و الكلام على أعضاء الإنسان عضوا عضوا،ثم ينتقل إلى الكلام عن سائر المخلوقات من شمس و قمر و نجوم و كواكب و اختلاف الليل و النهار،ثم الحيوانات و الحشرات إلى سائر المخلوقات، و في كل هذا يذكر الحكمة في الخلق و الإعجاز في الصنع.

ثانيا:يضع ابن القيم رحمه اللّه فرقا بينا في النظر في الآيات و أنه نوعان:

الأول:نظر إليها بالبصر الظاهر فيرى مثلا زرقة السماء و نجومها و علومها وسعتها، و هذا نظر يشارك الإنسان فيه غيره من الحيوانات و ليس هو المقصود بالأمر.

و الثاني:أن يتجاوز هذا إلى النظر بالبصيرة الباطنة فتفتح له أبواب السماء فيجول في أقطارها و ملكوتها و بين ملائكتها ثم يفتح له باب بعد باب حتى ينتهي به سير القلب إلى عرش الرحمن فينظر سعته و عظمته و جلاله و مجده...فحينئذ يقوم القلب بين يدي الرحمن مطرقا لهيبته،خاشعا لعظمته،عان لعزته،فيسجد بين يدي الملك الحق المبين سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم المزيد،فهذا سفر القلب و هو في وطنه و داره و محل ملكه و هذا من أعظم آيات اللّه و عجائب صنعه...»(مفتاح دار السعادة:217).

ثم يسرد بعد ذلك ابن القيم سائر المخلوقات ثم يتكلم عن الحكمة في خلقها و عجيب صنعها و قدرة تدبيرها.يذكر الأرض مثلا و ما فيها من أرزاق للعباد،فظهرها وطن لهم و بطنها وطن لهم بعد موتهم...إلخ.مستشهدا في ذلك بالآيات القرآنية،و أحيانا كثيرة بالأحاديث النبوية؛فيتكلم بتوسع تارة و بإيجاز أخرى،و هو في كل هذا حاد للأرواح إلى بلاد الأفراح،متزودا للمعاد بهدي خير العباد،متسلحا ببدائع الفوائد،سائرا في طريق

ص: 54

أعلام الموقعين عن رب العالمين،يخطو على مدارج السالكين،بمفتاح دار السعادة،مغيثا للهفان مؤنسا للسائر في طريق الهجرتين مرسلا على أعداء السنة صواعق مرسلة (1).رحمه اللّه تعالى.و لو تتبعنا ما ذكره لطال المقام فانظر مفتاح دار السعادة ففيه البيان.

و يقول رحمه اللّه تعالى عند قوله تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ [فصلت:53]«أي أن القرآن حق،فأخبر أنه لا بدّ أن يريهم من آياته المشهودة ما يبيّن لهم أن آياته المتلوة حق...»الفوائد ص(23).

ثالثا:هل الكلام على هذه الآيات و ما فيها من علوم كونية،يعتبر هذا تفسيرا علميّا أم بيانا للإعجاز العلمي في القرآن؟

بالنظر إلى ما رجحه كثير من أهل العلم المحققين برفض التفسير العلمي للقرآن بدءا من السابقين أمثال الشاطبي رحمه اللّه تعالى في الموافقات(79/2-80)و انتهاء بالدكتور الذهبي رحمه اللّه تعالى(469/2)نقرر أن ابن القيم لا يفسر الآيات تفسيرا علميّا بمفهوم أصحابه،لقيام هذه العلوم على نظريات لا قرار لها و لا بقاء،قد تكون اليوم صائبة و غدا طائشة،بل بعض هذه النظريات تهدم كثيرا من سابقتها مع اشتهارها و استمرارها مدة، كنظرية النسبية«لأينشتين» (EINSTEIN) و غيرها من النظريات العلمية في شتى المجالات و كيف هدمت سابقتها،و فربط تفسير الآيات بمثل هذا عين الخطأ.

لكن لو ذهبنا إلى أن ابن القيم قد أشار إلى الإعجاز العلمي في القرآن في سائر الآيات التي فسرها غيره تفسيرا علميّا،لو ذهبنا لذلك فقد-و اللّه أعلم-وفقنا.

مثال:تكلم ابن القيم رحمه اللّه تعالى عن قوله تعالى: وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ(20) وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ (21)[الذاريات].في ما يقرب من أربعين فصلا،و أكثر من(120)صفحة في«التبيان في أقسام القرآن»من(294-422)عن بديع صنع اللّه تعالى في الأرض،ثم الإنسان،تكلم عن الأذنين و سر شقهما في جانبي الوجه و الأنف و اللسان و الأسنان...

و عن الحمل و تفاوت مدته و عن الجنين و أحواله ثم سائر أعضاء الإنسان،و فائدة كل عضو و خصائصه و بعض خصائصه التشريحية و هو يحسن في أحيان كثيرة،لكن يخالفه الطب الحديث الدقيق في كثير مما تكلم هو عنه.و أقول خالفه الطب-لا خالف الطب-لأنه متقدم و هذا التقدم الطبي حديث فقد يتحدث عن الطحال مثلا بخلاف ما وصل إليه العلمى.

ص: 55


1- وصيف لطيف أدرج فيه المؤلف عناوين متفرقة من مؤلفات ابن القيم رحمه اللّه تعالى.

الآن؛لأنه يتكلم عنه بما وصله من علم من أطباء عصره و هذا مشهور عند المسلمين في تلك القرون و قبلها أيضا،فهو لا يلام و لكن يشكر سعيه و يحمد فعله،و يثاب من فضل اللّه على قدر نيته،و هي حسنة إن شاء اللّه تعالى.و هو في هذا على خلاف من يحارب الإسلام الآن مدعيا مخالفته للتقدم و المدنية و الحضارة.و التقدم عندهم خروج عن الالتزام،و المدنية مسايرة أخلاق الغرب،و الحضارة حضارة الفراعنة،حتى يعتزون بها و يتحمسون لها أكثر من تحمسهم لدينهم الإسلام،هذا إن كانوا أصلا مؤمنين به.

الخلاصة:إننا نرى ابن القيم رحمه اللّه تعالى-و هو المدافع حتى النهاية عن القرآن و عن التشريع كما سبق بيانه مرارا-ينأى بنفسه عن ربط القرآن بتطورات العلم من نظريات أو اختراعات.إنما يبيّن إعجاز القرآن كلام الرحمن في تعليم الإنسان ما لم يعلم،و ها هو الإنسان يلمس ذلك الآن،شهد بذلك العدو المعاند قبل الصديق المساند.و اللّه أعلم.

و هذه قضية كبيرة-كمسلم-أميل إلى ما مال إليه علماء الأمة كالشاطبي متبعا إياهم في تنزيه القرآن عن هذا الأمر.

ص: 56

فصل في ترجمة الإمام ابن القيم

اشارة

1-الإمام الشيخ المفسر اللغوي،الفقيه الأصولي،العارف،الموسوعي،شيخ الإسلام،أبو عبد اللّه شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حريز بن مكي زين الدين الزرعي ثم الدمشقي الحنبلي الشهير بابن قيم الجوزية.من ص(17)«ابن القيم» لبكر أبو زيد.

ولد رحمه اللّه تعالى سنة(691 ه)و توفي رحمه اللّه تعالى سنة(751 ه) (1).

2-نشأ رحمه اللّه تعالى في بيت علم و دين،فأبوه-رحمهما اللّه تعالى-شيخ صالح عابد،كان قيم المدرسة الجوزية،و من الصالحين الزاهدين.

أخذ ابن القيم عن أبيه الفرائض،و وجوده بجوار أبيه في جو المدرسة الجوزية يسمع و يرى الأقوال و الأخلاق الحميدة من أهل العلم؛كان له عظيم الأثر في تخلقه بمكارم الأخلاق،و التعبد الصحيح و الزهد القويم،مع ما أكرمه اللّه به من فراسة نادرة و فطنة و ذكاء،مع ما عاصره من صفات و أخلاق العلماء لا شك نتج عنها مزيج فكري و سلوكي على درجة كبيرة من السمو و النبل.

يقول ابن رجب من«الذيل»(448/2):«كان رحمه اللّه تعالى ذا عبادة و تهجد،و طول صلاة إلى الغاية القصوى،و تألّه و لهج بالذكر،و شغف بالمحبة و الإنابة و الاستغفار، و الافتقار إلى اللّه تعالى،و الانكسار له،و الاطراح بين يديه على عتبة عبوديته،لم أشاهد مثله في ذلك»اه.و بمثل هذا-أخي القارئ-ينشأ العلماء الربانيون فما كان نتيجة هذا السلوك مع اللّه تعالى،يقول ابن رجب-تلميذه-«و لا رأيت أوسع منه علما،و لا أعرف بمعاني القرآن و السنة و حقائق الإيمان منه،و ليس هو المعصوم،و لكن لم أر في معناه مثله...»اه.

ص: 57


1- ليست هذه ترجمة بالمعنى المشاع،إنما هي قطفات و ثمار من حياته المباركة،تكوّن صورة موضحة للقارئ عن ابن القيم رحمه اللّه تعالى.

3-و يقول صديقه و تلميذه ابن كثير رحمه اللّه تعالى:«...سمع الحديث و اشتغل بالعلم، و برع في علوم متعددة،و لا سيما علم التفسير و الحديث و الأصلين،و لما دعا الشيخ تقي الدين ابن تيمية من الديار المصرية في سنة ثنتي عشرة و سبعمائة لازمه إلى أن مات الشيخ، فأخذ عنه علما جمّا،مع ما سلف له من الاشتغال،فصار فريدا في بابه في فنون كثيرة،مع كثرة الطلب ليلا و نهارا،و كثرة الابتهال،و كان حسن القراءة و الخلق،كثير التودد لا يحسد أحدا و لا يؤذيه،و لا يستعيبه،و لا يحقد على أحد،و كنت من أصحب الناس له و أحب الناس إليه،و لا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثر عبادة منه،و كانت له طريقة في الصلاة،يطيلها جدّا،و يمد ركوعها و سجودها،و يلومه كثير من أصحابه في بعض الأحيان، فلا يرجع و لا ينزع عن ذلك،رحمه اللّه تعالى)اه.البداية و النهاية(657/7).

ما شاء اللّه...أ رأيت أخي القارئ ثمرة التربية المستقيمة و النشأة القويمة:علم نافع، و سلوك صالح،و خلق عال،و سمت حسن،فجعل اللّه له ذكرا حسنا،و سيرة عطرة،و هكذا يجب أن يكون طالب العلم على هذا النهج الذي به تستقيم الحياة،غير منهج الأدعياء المحرفين للحق،تحت مسمى«يسر الإسلام»و لا يقصدون إلاّ الترخّص الجاف،و تضييع أمر اللّه بمنع نشره و إقامته،و هكذا...فلا عجب إذا أن يلوم من هذا حاله على الشباب تمسكه بالدين و الخلق المستقيم،و هل رأيت من تاريخ الإسلام من أفتى«بالنقاب»مثلا ليس من الإسلام؟!إي و اللّه هكذا!!!هل رأيت من يحارب المتمسك و يترك المتفلت المتهتك، فأصبح دعاة التوحيد و الاستقامة متشددين متزمتين متطرفين في نظرهم و لبسوا على الناس دينهم بكذبهم هذا!!و لِلّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ [الروم:4]، وَ اللّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21].

و إذا لم نقارن بين أخلاق علماء الأمة الصالحين و سيرتهم العطرة-أمثال عالمنا ابن القيم رحمه اللّه-و بين بعض علماء العصر؛فلا فائدة من ترجمتهم،أو ذكر سيرتهم و اللّه أعلم.

4-أما مشايخه-رحمهم اللّه-فكثيرون،نحيلك توفيرا لوقتك لكتاب الأستاذ العلامة الشيخ«بكر أبو زيد»حفظه اللّه تعالى«ابن القيم حياته و آثاره و موارده»(161-183).

5-و لكن لا يطيب الكلام عن مشايخه أو يحسن ذلك دون ذكر الإمام الكبير المجدد شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد السلام...ابن تيمية رضي اللّه عنه.

فقد لازمه إلى وفاته رحمهما اللّه تعالى،و أثّر ابن تيمية في ابن القيم رحمهما اللّه تعالى كأثر الماء في البذر،و الشمس في الإنبات،و قد لا أبالغ إن قلت:و الروح في الجسد،

ص: 58

و هذا ظاهر واضح عند كل من ترجم له رحمه اللّه تعالى.

و شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللّه تعالى له أثر عظيم على الأمة كلها في وقته،فهو المحارب بسيفه و قلمه و لسانه و بعد وقته بعلمه الذي ما زال ينتفع به،و لكن...الكلام عن ابن تيمية رحمه اللّه تعالى كتحصيل حاصل،فإنني أستحي أن أترجم له.

و لكن....هل تميّز ابن القيم بشيء عن شيخه أم كان له كالظل!؟.

لا شك أن شجرة ابن تيمية أثمرت ثمارا يانعة،أحلاها و أصفاها ابن القيم رحمه اللّه تعالى،و مع هذا فقد برزت شخصية ابن القيم الاجتهادية و التأليفية بلا شك متفردة متميّزة.

يقول العلامة بكر أبو زيد:«فقد اجتهد و أبدع و خالف شيخه في أشياء،و لا يمنع الحب اتباع الحق»من ص(139-156).فأنت ترى في علاقة هذين الإمامين التواضع و الحب و البذل من جانب شيخ الإسلام،و الوفاء و الإخلاص من جانب ابن القيم.

تلمس هذا في كثرة ذكر ابن القيم شيخ الإسلام بقوله كثيرا:«قال لي شيخ الإسلام كذا...،و حكى لي كذا...و سألته عن كذا».

فيا لها من صحبة مباركة و زمالة نافعة.

و قد ذكره أكثر من«500»مرة في كتبه،تتبعت ذلك أثناء الفهرسة.

و انظر«134»بكر أبو زيد،و يقول الشيخ بكر:«فلا غرو أن يجد ابن تيمية الأستاذ الوفاء من تلميذه رحمه اللّه تعالى و تحمله معه المحن و الأذى»المصدر نفسه(136).

6-و من المناسب عند الكلام عن هذين الإمامين ذكر بعض ما لقياه من أعدائهم، فمنهجهما القائم على الكتاب و السنة منهج سلف الأمة،لا بدّ أن يجلب عليهما عداء المقلدة و المتعصبة و الجهلة،فتعرضا للأذى:تارة بالحبس،و تارة بالنفي،و كان نصر اللّه حليفهما.

و ما زال منهجهما له أعداؤه من الطائفة نفسها،و ما زال اللّه ينصرهما بنشر علمهما و بثه بين الناس،و يكفي أن تقارن بين ما نفع اللّه به الناس من كتبهم و علمهم،و ما أفسد الآخرون بمداد أقلامهم في إفساد العقائد و الشرائع و الأخلاق؛فيتبين لك بهذه المقارنة أي الفريقين أحق بالاتباع و الذكر الحسن.

7-من علامات الخير بطالب العلم أن يوفق في مشايخه و يرزق علماء أتقياء من أهل السنة و الجماعة،ثم يكرمه اللّه تعالى بغرس حسن يعلمهم من علمه فتستمر الأرض في

ص: 59

الإنبات و الزرع في الإثمار،فلا يخلو بذلك مكان و لا زمان من قائم بأمر اللّه تعالى.

و هكذا الحال مع عالمنا ابن القيم رحمه اللّه تعالى فشيخه ابن تيمية،و هو شيخه الكبير و أستاذه الأول،فكان ما كان من حال ابن القيم.

و قد لازم ابن القيم شيخ الإسلام«سبعة عشر عاما»و كان ابن القيم حينئذ في الواحدة و العشرين تقريبا.و كان سنه عند وفاة شيخه رحمه اللّه تعالى«ثمانية و ثلاثين»و عاش بعده«ثلاثا و عشرين سنة».

و أيضا من أساتذته:

1-العلامة إسماعيل أبو الفداء إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن الفراء الحراني، الفقيه الحنبلي الإمام الزاهد،شيخ المذهب توفي سنة(729 ه)قرأ عليه الفقه،كما في الدرر الكامنة(401/3)،و ترجمته في ذيل طبقات الحنابلة(408/2).

2-و سليمان تقي الدين أبو الفضل بن حمزة بن أحمد بن عمر...بن قدامة المقدسي قاضي القضاة و مسند الشام،سمع الحديث،توفي سنة(715 ه)الدرر الكامنة(400/3) و ترجمته في الذيل(364/2).

و أكرمه اللّه بتلامذة نجباء أعلام،منهم:

1-الإمام الحافظ إسماعيل عماد الدين أبو الفداء بن عمر بن كثير القرشي الشافعي، صاحب الشيخ و كان من أحبابه،و نقل عنه في تفسيره،مثلا عند الآية رقم(35 و 36)من البقرة،و العجيب أن صاحب كتاب«ابن كثير و منهجه في التفسير»لم يشر إلى ابن القيم ضمن شيوخ ابن كثير،أو حتى أقرانه،انظر ص(46-69)،و توفي ابن كثير سنة(774 ه) رحمه اللّه تعالى (1).

2-الإمام العلامة الشيخ ابن رجب عبد الرحمن زين الدين أبو الفرج بن أحمد...

الحنبلي يقول ابن رجب:«لازمته قبل موته،و أخذ العلم عنه خلق كثير من حياة شيخه و إلى أن مات،و انتفعوا به،و كان الفضلاء يعظمونه،و يتتلمذون له،كابن عبد الهادي و غيره، توفي رحمه اللّه(785 ه) (2)».).

ص: 60


1- انظر كتاب الأستاذ العلامة بكر أبو زيد(139)و ما بعدها و انظر أشهر مشايخه في كتاب العلامة بكر أبو زيد(161-178).في الدرر الكامنة(373/1)،و شذرات الذهب(231/6)،و البداية و النهاية (657/7).
2- شذرات الذهب(339/6)،و انظر كوكبة من تلامذته ذكرهم العلامة الشيخ«بكر أبو زيد»(179-183).

فصل

مكتبة ابن القيم

1-إن الكتاب و الشيخ بالنسبة للعالم و طالب العلم هما الماء و الهواء،لا غنى عنهما، فهو منهوم لا يشبع،فالكتاب كروحه،إن فارقه كان كالميت،فهو رفيقه و أنيسه و معلمه، فلطالب العلم جناحان:المشايخ و الكتب فبهما يحلّق في سماء العلم و المعرفة،و يسبح في بحورهما و يغوص في أعماقهما.

و الكتاب و المكتبة لهما تاريخ كبير عند المسلمين فلا تجد أمة من الأمم صنفت فيها ما صنفه علماء المسلمين في شتى فروع العلم،المتعلق بالشريعة أو حتى التطبيقي(الطب، هندسة،فلك...)إلخ.و لا تخلو ترجمة عالم من ذكر مكتبته غالبا (1).

نعم،الكتاب وحده لا يصنع عالما فاهما مجربا إنما وحده يصنع صحافيا،و هذا ذمه العلماء.

فلا بد من التلقي عن المشايخ،هذا حتمي،و لكن التلقي دون المذاكرة و المراجعة و البحث و التنقيب في الكتب سرعان ما ينضب منبعه،و يجف عطاؤه،و يذبل زرعه،فالكتاب وقود العقل،و نور القلب،و موقظ الفكر.فهو البداية و النهاية و العبرة و التجربة و التاريخ...

2-قال الإمام الكبير ابن عبد البر-رحمه اللّه تعالى-:و سئل أبو عبد اللّه محمد بن إسماعيل البخاري عن دواء للحفظ فقال:«إدمان النظر في الكتب».(جامع بيان العلم و فضله:583).

و أنشد أبو عبد اللّه بن الأعرابي«صاحب الغريب»حين عاتبه أبو أيوب أحمد بن محمد أبي شجاع عن تأخره من زيارته و ادعائه أن عنده جلساء من الأعراب،و ليس بين يديه شيء إلاّ الكتب يطالعها،فقال ابن الأعرابي:

ص: 61


1- و انظر بحثا مفيدا في الكتب و المكتبات عند المسلمين في كتاب«تاريخ الكتاب»تأليف د/ألكسندر ستيبتشفيتش.(233/1-250)،مترجم-سلسلة عالم المعرفة-الكويت.

لنا جلساء ما نملّ حديثهم ألباء مأمونون غيبا و مشهدا

يفيدوننا من علمهم علم ما مضى و عقلا و تأديبا و رأيا مسددا

بلا فتنة تخشى و لا سوء عشرة و لا نتقي منهم لسانا و لا يدا

فإن قلت أموات فما كنت كاذبا و إن قلت أحياء فلست مفندا (1)

يقول ابن جماعة:«ينبغي لطالب العلم أن يعتني بتحصيل الكتب المحتاج إليها ما أمكن شراء،و إلاّ فإجارة أو عارية:لأنها آلة التحصيل» (2).

3-من هذا الباب كان حرص إمامنا ابن القيم رحمه اللّه تعالى عظيما في اقتناء الكتب، فمع ما تلقاه من العلماء و مصاحبته شيخ الإسلام،يبيّن أثر الكتاب في عمله،فهو يشكو في أكثر من موضع بعده عن كتبه،و يبيّن أن هذا كتبه في سفر مرتحلا عنها،انظر مثلا آخر تفسير سورة الكافرون.و للّه دره حين ألف«زاد المعاد»من خمسة أجزاء و هو في سفرة سافرها.

فهو شديد الصحبة للعلماء،شديد الصحبة للكتاب،و انظر إلى أول معرفته بشيخ الإسلام،و قد كان وقتها ابن القيم تجاوز العشرين بقليل-و هو سن التأهل و الفتوى و التأليف-كيف حمل قبل هذا اللقاء من فكر تبين خطؤه يقول عن هذه المرحلة:

يا قوم و اللّه العظيم نصيحة من مشفق و أخ لكم معوان

جربت هذا كله و وقعت من تلك الشباك و كنت ذا طيران

حتى أتاح لي الإله بفضله من ليس تجزيه يدي و لساني

حبر أتى من أرض حران فيا أهلا بمن قد جاء من حران (3)

ثم توالى فتح اللّه عليه بتلك الصحبة المباركة،يقول ابن كثير:«و اقتنى من الكتب ما لا يتهيأ لغيره تحصيل عشره من كتب السلف و الخلف» (4).

و هذا يلاحظ في تتبع مصادره الوفيرة،يقول الشيخ بكر أبو زيد:«كتابه«اجتماع الجيوش»يقع في خمس و ثلاثين و مائة صحيفة ينقل من أكثر من مائة كتاب،و«أحكام أهل7)

ص: 62


1- المصدر نفسه(580).
2- تذكرة السامع و المتكلم(164).
3- النونية(330/1).
4- البداية و النهاية(658/7)

الذمة»نحوا من ثلاثين كتابا و«الروح»كذلك...و هكذا»(بتصرف من«ابن القيم حياته، آثاره و موارده»ص 61).

فلا عجب إذا حين نرى هذا الإبداع و ذاك الإشعاع من مؤلفاته،فهي مائدة حوت من صنوف الطيبات:لأنها نبتت من حلال (1).د.

ص: 63


1- انظر في ترجمته رحمه اللّه تعالى: -البداية و النهاية،لابن كثير(657/7). -الدرر الكامنة،لابن حجر(400/3). -ذيل طبقات الحنابلة،لابن رجب(447/2). -بغية الوعاة،للسيوطي(62/1). -ابن القيم حياته و آثاره،للعلامة بكر أبو زيد.

فصل

اشارة

مؤلفات ابن القيم مرتبة على الحروف

من المعلوم أن ابن القيم من المكثرين من التأليف،و قد أخطأ بعض المترجمين أو الوراقين في نسبة بعض ما ليس من كتبه إليه.و هذا إن كان عن قصد،فهو جريمة،و خيانة للأمة.حتى قد ترى نسبة مؤلّفين متناقضين لعالم واحد.و قد يكون لتقارب الزمن،أو الأسلوب،أو الاسم سبب لهذا اللبس في أحيان كثيرة.

و لابن القيم رحمه اللّه تعالى«ثمانية و تسعون»مؤلفا (1)،و قد وضع الشيخ«بكر»اثنتي عشرة نقطة هامة و ضرورية لدراسة مؤلفات ابن القيم رحمه اللّه تعالى و هي:

1-ذكرها مرتبة على الحروف.

2-تحرير اسم الكتاب كاملا.

3-الإشارة إلى أوهام النقلة في ذلك.

4-الإشارة إلى عبث الوراقين و نحوهم.

5-الإشارة إلى موضع ذكره عند المؤلفين السابقين.

6-الإشارة إلى المطبوع ذكره في مؤلفات ابن القيم.

7-الإشارة إلى المطبوع منها مع بيان بعض الطبعات المعتمدة.

8-الإشارة إلى أماكن النسخ الخطية لما لم يطبع منها.

9-جعل رقما متسلسلا لكتبه ليفيد المجموع العددي لها خالية من المكرر و المنسوب خطأ.

10-إذا تكرر الكتاب ذكر كل اسم في حرفه المناسب له.

ص: 64


1- كما بين ذلك فضيلة الشيخ«بكر أبو زيد»في كتابه«ابن القيم حياته....»ما بين ص(199-309). و لهذا أحيل القراء الكرام إلى هذا المبحث،تجنبا للإطالة و التكرار،و أكتفي هنا بذكر ما وصلنا من كتبه الصحيحة النسبة إليه.و أنبه مرة أخرى أنه لا يستغني باحث،أو قارئ عما كتبه الشيخ«بكر أبو زيد»عن هذا الإمام العلم.

11-إذا تحقق من نسبة الكتاب خطأ فلا يدخله في الرقم التسلسلي بل يميزه بعلامة.

12-بيان المباحث التي كان ابن القيم يتمنى لو أفردها بمؤلف مستقل..

و لهذا فقد اقتصرت على ذكر ما وصلنا من مؤلفاته رحمه اللّه تعالى،و من أراد مزيدا عن حصر مؤلفاته و غيرها من الأمور فليرجع إلى كتاب الأستاذ«بكر أبو زيد».و قد ذكرت مؤلفاته المطبوعة مسلسلة على حروف المعجم،مع بيان المطبوع منها و التعليق على الطبعات قدر المستطاع و باللّه التوفيق.

1-«اجتماع الجيوش الإسلامية»:

طبع في الهند سنة(1314 ه)و صور في دار الفكر سنة(1401 ه)و هذه هي التي اعتمدت عليها في جمعي التفسير.ثم وصلتني نسخة جديدة طبع الرياض لسنة(1408 ه) بتحقيق الدكتور/عواد عبد اللّه المعتق.و هي تعد من أحسن كتبه المطبوعة تحقيقا و إخراجا.

فقد طبعت على ثلاث نسخ بالإضافة إلى المطبوعة،و هذا أمر عظيم في التحقيق.و قد قدم لها المحقق مقدمة جيدة في بيان موقف ابن القيم من الفرق،و هو الجزء الأول،ثم تحقيق الكتاب في الجزء الثاني و قد حزنت كثيرا لعدم حصولي على هذه النسخة في بداية العمل، خاصة أن الكتب التي جمعت التفسير هي عندي منذ أكثر من عشر سنوات.و لكن هذا العمل الجيد من الدكتور/عواد يمكن أن يختصر فيخرج القسم الأول لكتاب مستقل،ثم الثاني و هو«الكتاب»في جزء آخر مع اختصار كثير من التراجم.و قد استفدت منها بقدر اتساع الوقت و سوف أعتمدها إن شاء اللّه تعالى في الطبعة الثانية للتفسير.

-ذكره العلامة«بكر أبو زيد»ص(201).

2-«أحكام أهل الذمة»:

طبع سنة(1401 ه)في مجلدين،دار القلم.بتحقيق د/صبحي الصالح رحمه اللّه تعالى و قد توفي الدكتور المحقق في المحرم من سنة(1407 ه)و هي طبعة جيدة جدا لكن تحتاج إلى تخريج للأحاديث بشكل دقيق.و هي التي اعتمدتها في عملي.

-عند«بكر أبو زيد»ص(201).

*أخبار النساء.(انظر آخر الباب).

3-«إعلام الموقعين عن رب العالمين»:

و قد طبع في مكتبة الكليات الأزهرية سنة(1388 ه)بتحقيق/طه عبد الرءوف سعد.

ص: 65

و هي تكاد تكون خالية من التصحيفات لكنها خالية أيضا من التخريجات،و طبع أيضا في إحدى مكتبات مصر تصويرا على طبعة الشيخ/عبد الرحمن الوكيل.و هي مليئة بالتصحيف و السقط،و قد صححت فيها أكثر من مائتين من الأخطاء.و هنا يجدر التنبيه على خطورة إعادة طبع الكتب دون إضافة جديد عليها من تحقيق،و تخريج،فضلا أن تطبع بعيوبها، و هي تحت الطبع الآن.

-عند«بكر أبو زيد»(209).

4-«أسماء مؤلفات ابن تيمية»:

و هي طبعة دمشق،لسنة(1372 ه)بتحقيق الأستاذ/صلاح الدين المنجد.

-ذكره«بكر أبو زيد»ص(208).

5-«إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان»:

اعتمدت على طبعة السنة المحمدية لسنة(1358 ه)بتحقيق الشيخ/حامد الفقي رحمه اللّه تعالى.و هي طبعة جيدة غير مستوفاة تخريج الأحاديث.و قد طبعه المكتب الإسلامي/ بيروت في جزءين و هي جيدة جدا.

-ذكره«بكر أبو زيد»ص(218).

6-«إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان»:

طبع«الكليات الأزهرية»سنة(1396 ه)بتصحيح و تخريج العلامة/محمد جمال الدين القاسمي.

-ذكره الشيخ«بكر أبو زيد»ص(220).

7-«بدائع الفوائد»:

و هو من أهم و أعظم كتب ابن القيم،طبع«المطبعة المنيرية»بتصحيح الشيخ منير الدمشقي رحمه اللّه تعالى،و قد راجع أصوله على غير نسخة بعد عرضها على جماعة من أهل العلم و الفهم و الذكاء(218/4).

-عند«بكر أبو زيد»(222).

8-«التبيان في أقسام القرآن»:

طبع«دار المعرفة»بتحقيق الشيخ حامد الفقي،و هي طبعة جيدة و لكن ككثير من كتب

ص: 66

ابن القيم تحتاج لإعادة تحقيق.

-عند«بكر أبو زيد»(225).

و هذا الكتاب القيم يصلح لدراسة منهج ابن القيم في التفسير لاحتوائه كله على تفسيرات لآيات من سور شتى فهو كالتفسير المستقل،و قد ضمناه بدائع التفسير.

9-«تحفة الودود في أحكام المولود»:

طبع«دار الريان للتراث»بتحقيق د/عبد الغفار سليمان،و هي جيدة،و أعتمدها في التفسير.

-عند«بكر أبو زيد»(229).

«التفسير القيم»:

سبق و وضحت أن هذا الكتاب ليس من تأليفه رحمه اللّه تعالى.

10-«تهذيب سنن مختصر أبي داود»:

طبع«السنة المحمدية»سنة(1368 ه)بتحقيق الشيخ/حامد الفقي و مشاركة العلامة أحمد شاكر في الأجزاء الثلاثة الأول،و قد حققته و يطبع الآن.

-عند«بكر أبو زيد»(234).

11-«جلاء الأفهام في الصلاة و السلام على خير الأنام»:

طبع«المطبعة المنيرية»سنة(1357 ه)و صورت عليها طبعة«دار الطباعة المحمدية» و هي التي وقعت في يدي أولا و هي بتحقيق«الشيخ طه يوسف شاهين»و هي مسروقة حرفيّا عن الطبعة المنيرية كلمة كلمة،و لم تزد عن المنيرية إلاّ في التصحيف و التحريف،و هذا مما يؤسف له.ثم أمدني بعض الأصدقاء بطبعة حديثة جيدة بتحقيق«محيي الدين مستو»و لكن تحتاج لتخريج أدق.

-عند«بكر أبو زيد»(236).

12-«حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح»:

طبع مكتبة القرآن سنة(1408 ه)و هي المعتمدة،و أيضا طبعة«مكتبة المتنبي»و الأخيرة رديئة جدا ثم وقع لي طبعة«الأستاذان يوسف علي بدوي،و محيي الدين مستو»و هي جيدة.

ذكرها«بكر أبو زيد»(239).

ص: 67

13-«الداء و الدواء»:

طبع«مكتبة المدني»بتحقيق الدكتور/محمد جميل غازي رحمه اللّه تعالى (1)و هي خالية غالبا من التصحيف،لكن لم تخرج أحاديثها كالعادة،و قد طبع أيضا تحت اسم«الجواب الكافي...».

-عند«بكر أبو زيد»(244).

14-«الرسالة التبوكية»:

طبع«مكتبة التوعية»سنة(1408 ه).و هي جيدة.

-عند«بكر أبو زيد»(250).

15-«روضة المحبين و نزهة المشتاقين»:

طبع«مكتبة التراث»دون تحقيق.

-عند«بكر أبو زيد»(242).

16-«الروح»:

طبع«دار الندوة الجديدة»دون تحقيق.و قد وصلني محققا في جزءين من عمل د/بسام العموش،مكتبة ابن تيمية،الرياض،و هي جيدة،و لكن أدخل مقدمته(166/1)كأنها من أصل الكتاب دون إشارة إلى بداية الكتاب(167/1).مع عدم الفهرسة للجزء الأول و هو مع ذلك اعتمد على مخطوطات جيدة.

-عند«بكر أبو زيد»(253).

17-«زاد المعاد في هدي خير العباد»:

طبع بتحقيق الأستاذين شعيب و عبد القادر الأرناءوط في«خمسة أجزاء»و هي أجود ما أخرج من كتب ابن القيم.

-عند«بكر أبو زيد»(620).

ص: 68


1- كان من كبار الدعاة و أسلم على يديه الكثير،و قاد مركز التوحيد بالعزيز باللّه بمنطقة الزيتون بالقاهرة حتى وفاته،و كان فصيحا بليغا متواضعا،أخذت عنه أشياء في الدعوة و علوم القرآن و التفسير،و له ترجمة جيدة في كتاب العلامة محمد المجذوب(علماء و مفكرون عرفتهم)(176/3)،و كانت حياته بين (1936-1988 م).

18-«شفاء العليل في مسائل القضاء و القدر و الحكمة و التعليل»:

تصوير دار المعرفة-بيروت-سنة(1398 ه)دون تحقيق،و هي مصورة على الطبعة الأولى للطبعة الحسينية لسنة(1323 ه)،و نصفه الأول على مخطوطة العلامة الألوسي، و النصف الثاني على مخطوطة دار الكتب المصرية كما ورد في آخر الكتاب(307).

-عند«بكر أبو زيد»(266).

19-«الصواعق المرسلة على الجهمية و المعطلة»:

طبع«دار العاصمة»الرياض(1408 ه)بتحقيق الشيخ علي بن محمد،في أربعة أجزاء في طبعة جيدة.و قد عقد مقارنة بين الكتاب الأصلي و بين مختصره للموصلي(117/1)، و أن الكتاب لم يصلنا كاملا،و يدل على ذلك كلامه عن الطاغوت الثالث و الرابع في المختصر،و هذا مما لم يصلنا.

-عند«بكر أبو زيد»(284).

20-«طريق الهجرتين و باب السعادتين»:

طبع«المكتبة السلفية»سنة(1400 ه)الطبعة الثالثة بإشراف الأستاذ/محب الدين الخطيب.و هي دون تحقيق،و هي المعتمدة من أعماله.

و قد طبع في دار ابن القيم سنة(1409 ه)على الطبعة الأولى،و امتازت بالتحقيقات.

-عند«بكر أبو زيد»(272).

21-الطرق الحكمية في السياسة الشرعية»:

طبع مكتبة المدني سنة(1985 م).بتحقيق الشيخ الدكتور/محمد جميل غازي رحمه اللّه تعالى،و هي خالية من التخريج.

-عند«بكر أبو زيد»(274).

22-«عدة الصابرين و ذخيرة الشاكرين»:

طبع«دار ابن كثير»دمشق،الثانية(1407 ه)و هي جيدة لكنها غير محققة.

-«بكر أبو زيد»(276).

23-«الفروسية»:

طبع دار الصحابة-مصر-سنة(1411 ه)و هي جيدة و قد طبع بأسماء أخرى.

-عند«بكر أبو زيد»(280).

ص: 69

24-«الفوائد»:

طبع المكتبة القيمة بمصر-سنة(1400 ه)،و هي تحتاج لتخريج و تحقيق جديدين.

-«بكر أبو زيد»(284).

*الفوائد المشوق(أنظر آخر هذا الباب).

25-«كتاب الصلاة و حكم تاركها»:

طبع المكتب الإسلامي/بيروت سنة(1401 ه).الأولى بتحقيق/تيسير زعتر،و قد أجاد في إخراجها.

-عند«بكر أبو زيد»(243).

26-«الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية»:

و هي المعروفة بالقصيدة النونية،طبع دار الفاروق الحديثة مصر،و هي كثيرة التحريف.

-عند«بكر أبو زيد»(287)،

27-«الكلام على مسألة السماع»:

طبع«دار العاصمة»الرياض سنة(1409 ه)الطبعة الأولى،تحقيق راشد عبد العزيز الحميد.

-عند«بكر أبو زيد»(242).

28-«الكلم الطيب و العمل الصالح»:

و هو المعروف باسم«الوابل الصيب...»طبع دار الريان/بيروت سنة 1408 ه.و طبع المكتبة السلفية/القاهرة ثم طبع«دار البيان»/بتحقيق الأرناءوط،و هي أجودهم.

-عند«بكر أبو زيد»(293).

29-«مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد و إياك نستعين»:

و هو من أمتع كتب ابن القيم،و ينبغي الاهتمام بتدريسه خاصة للنشء،لمعرفة السلوك القويم و الطريق الصحيح و المثمر للسائرين إلى اللّه تعالى.و هو مليء بالنقد العلمي الدقيق المنصف للمؤلف،فهو لم يجامل الهروي أو يتحامل عليه.طبع«السنة المحمدية»سنة (1375 ه)بتحقيق الشيخ/حامد الفقي رحمه اللّه تعالى و إليه يرجع الفضل-بعد اللّه-لإظهار

ص: 70

كتب الإمام ابن القيم رحمه اللّه تعالى،و راجع كلامي على طريقتي في التحقيق عند مبحث «التفسير القيم».و قد كنت بدأت في تخريجه منذ سبع سنوات و توقفت بسبب العمل في التفسير و لعل اللّه ييسر إخراجه.

-عند«بكر أبو زيد»(295).

30-«مفتاح دار السعادة و منشور ألوية العلم و الإرادة»:

طبع مكتبة حميد و سنة(1399 ه)بتصحيح محمود حسن ربيع،و للأسف أنه أسوأ الكتب إخراجا من ناحية التحقيق أو التخريج مع أهميته العظمى،و فوائده الجزيلة.

-عند«بكر أبو زيد»(300)،و قد طبع بتحقيق أخي علي حسن عبد الحميد،طبعة جيدة،لدار ابن عفان.

31-«المنار المنيف في الصحيح و الضعيف:

طبع«مكتبة المطبوعات الإسلامية/سورية سنة(1403 ه)بتحقيق الشيخ/عبد الفتح أبو غدة،و هي جيدة جدا.

-عند«بكر أبو زيد»(303).

32-«هداية الحيارى في أجوبة اليهود و النصارى»:

طبع المكتبة القيمة سنة(1407 ه)الرابعة.

-عند«بكر أبو زيد»(308).

هذا ما وصلنا من كتبه رحمه اللّه تعالى و هي«اثنان و ثلاثون كتابا»من«ثمانية و تسعين»كما ذكر العلامة بكر أبو زيد(309).

ص: 71

فصل [كتابين منسوبين الى ابن القيم]

الفوائد المشوق إلى علوم القرآن (1)[و اخبار النساء]

اشارة

لقد شكك كثير من أهل العلم في نسبة كتابين إلى ابن القيم:

الأول:أخبار النساء.و قد أنكر أو تردد كثير من أهل العلم نسبته لابن القيم منهم:

1-الأستاذ المحقق محمد منير الدمشقي،الذي له من الفضل الكثير في نشر كتب علوم الشريعة السمحة.

2-الأستاذ عبد الغني عبد الخالق.

3-الأستاذ أحمد عبيد.

4-و الزركلي.

5-و العلامة«بكر أبو زيد»و قد فصل ذلك تفصيلا في كتابه الممتع«ابن قيم الجوزية حياته،آثاره،موارده»(202-208)بما يغني عن ذكره هنا إلاّ اختصارا و بتصرف.

يقول الأستاذ «بكر أبو زيد»:(و لا يسعنا هنا بعد هذا،و بعد الدراسة و الفحص لمادة الكتاب إلاّ التقرير بأن كتاب«أخبار النساء»المذكور ليس لابن القيم لأمور:

1-بالتتبع لم يذكره أحد من المترجمين في مسرد كتبه.

2-أنه لم يشر إليه في شيء من كتبه لا سيما«روضة المحبين»مع اشتراك المناسبة و هي:شأن النساء.

3-عدم إشارته فيه لأحد من شيوخه أو كتبه كعادته غالبا.

4-غرابة الأسلوب:الوضع،و الطريقة،و المنهج في هذا الكتاب،و بعد ذلك على سلوك ابن القيم في التأليف).اه.

ثم بيّن فضيلة الشيخ منشأ هذا الوهم و الخطأ إلى عبث الوراقين أو الوهم و الغلط في الخلط بين ابن قيم الجوزية و بين ابن الجوزي.و مع هذا يشكك أيضا فضيلة الشيخ في نسبة

ص: 72

الكتاب إلى ابن الجوزي نفسه و الفرق بينه و بين أحكام النساء،و لكن هل يختلف الأمر بالنسبة للفوائد المشوق؟و أحاول جاهدا بيان الصواب في هذه القضية إن شاء اللّه تعالى و به التوفيق:

أولا:التعريف بكتاب«الفوائد المشوق»:

1-اسم الكتاب:«الفوائد المشوق إلى علوم القرآن و علم البيان».

2-موضوعه:معرفة ما تضمنه الكتاب العزيز من أنواع البيان،و أصناف البديع،و فنون البلاغة و عيون الفصاحة.أي:هو كتاب بلاغي في المقام الأول.يحتوي الكتاب على مائتين و ستين صفحة،عدا الفهرس.

3-طبع هذا الكتاب لأول مرة بتصحيح الأستاذ بدر الدين النعساني و عنه ذكره الأستاذ حامد الفقي و الأستاذ أحمد عبيد (1).

ثانيا:إن وسائل إثبات صحة نسبة الكتاب لمؤلفه،

هي عديدة نذكر منها:

1-أن يذكر المؤلف مؤلفاته في ثنايا كتبه،و قد ذكر ابن القيم(22)كتابا لنفسه (2)، و هذا على الغالب،و إلا فانتفائه لا ينفي صحة النسبة من طرق أخرى.

2-أن يذكر مؤلفاته مترجموه خاصة تلامذته المعاصرين له أو القريبين من عصره و بتتبع ذلك يمكن الوقوف على صحة النسبة إليه غالبا (3).

3-إيلاف أسلوب المؤلف،من حيث استناده على الكتاب و السنة في الاستدلال و كذا اللغة،و أي فنون اللغة يغلب على أسلوبه،و مدى تعصبه أو تجرده لمذهبه الفقهي،و مقدار وضوح عقيدة المؤلف و طريقته،كخطإ من نسب«دفع شبه التشبيه»لابن القيم،و هو لابن الجوزي.و أيضا موارد المؤلف في عموم كتبه له دور هام،إلى غير ذلك من الأدوات و الأساليب المرجحة لصحة أو بطلان النسبة.

ص: 73


1- «ابن القيم»لبكر أبو زيد(290).
2- المصدر نفسه(197).
3- و قد وفق فضيلة الشيخ«بكر»للوقوف على ذلك بالنسبة لمؤلفات ابن القيم بقدر يشكر عليه،فقد ذكر من ترجم له و ما ذكره من كتب،فوقف على(98)مؤلفا له كما مرّ من قبل.
ثالثا:محاولة تطبيق ما سبق على«الفوائد المشوق»:

1-لم يشر ابن القيم قط«للفوائد المشوق»بالاسم،أو بالإشارة إلى موضوعه و هو حري بذلك لشغفه و تطلعه لإنشاء تفسير بديع للقرآن الكريم كما مرّ في المقدمة،و هو كتاب لو صحت نسبته إليه لكان عجبا من علوم القرآن.

2-لم يشر أحد من المترجمين لابن القيم خاصة معاصريه و تلامذته كالصفدي،أو ابن رجب مثلا،و انظر تفصيل ذلك في كتاب«بكر أبو زيد»(189-194)فقد ذكر ستة عشر مترجما له من الصفدي ت(763 ه)إلى ابن بدران ت(1346 ه)لم يذكر أحدهم«الفوائد المشوق»ضمن كتبه.

3-يقول الأستاذ بكر أبو زيد(290)«...الفوائد المشوق...طبع لأول مرة بتصحيح الأستاذ محمد بدر الدين النعساني و عنه ذكره الأستاذ حامد الفقي و الأستاذ أحمد عبيد و قال بعد ذكره له:«و ذكر في«كشف الظنون»كتابا اسمه«الإيجاز»و لعله هذا).

و قد قال عن الإيجاز:ص(221):«الإيجاز»:لم أر من ذكره قبل صاحب«كشف الظنون»(206/1).

و تبعه البغدادي في«هدية العارفين»(158/2)«و لم أره عند غيرهما»اه.و هذا كله في بحث صحة أو بطلان نسبة الكتاب من ناحية«السند»إلى ابن القيم،ثم إليك المزيد و هو هام جدا و عليه مدار الأمر.

4-و قد كان أن دعاني أخي و حبيبي في اللّه«عبد الرحمن فودة»المدرس المساعد بكلية دار العلوم لسماع مناقشة رسالة الدكتوراة لأخ كريم هو«زكريا سعيد علي»و كانت المفاجأة أن الرسالة عنوانها«بلاغة القرآن عند المفسرين حتى نهاية القرن السادس»(1411 ه- 1991 م)-و قد كنت قاربت الانتهاء من تحقيق أكثر من نصف الكتاب-و قد تضمنت رسالته دراسة مبدعة حول كتاب«الفوائد المشوق»نلخصها فيما يلي:

-ذهب الباحث إلى نقض نسبة الكتاب لابن القيم من ناحية السند قريبا مما ذهبت إليه (1).

ص: 74


1- قد حاولت الحصول على نسخة من الرسالة فلم أستطع،لمدة عام كامل،ثم وقفت عليها في مكتبة الكلية المذكورة وقفة سريعة لم تمكني من دراسة البحث جيدا،حتى تفضل الأستاذ الباحث مشكورا بإرسال نسخة منها أعدها للطبع و سمّاها«المقدمة في علم البيان»مقدمة تفسير ابن النقيب،و هذه تحتوي على النصف الأول من الكتاب المتعلق ب«ما يتعلق بالمعاني من المبالغة»و هو إلى القسم الرابع و العشرين من أقسامه.

ب-من ناحية المتن ابتدأ الباحث رده صحة هذه النسبة بذكر قضية«المجاز»عند ابن القيم،و أنه في مقام العداء له و وصفه(كما مختصر الصواعق)بأنه الطاغوت الثالث الذي وضعه الجهمية(284)و هذا لم يصلنا مع«الصواعق»المطبوع و«الهجوم الضاري»من ابن القيم على مسألة تقسيم الكلام إلى حقيقة و مجاز و هو مما يتنافى تماما مع ما ذكر في «الفوائد المشوق».الذي أخذ حجما ضخما من ص(9-87)اه.و هذا هام جدا من ناحية مخالفة المنهجين تماما لما يقطع ببطلان هذا التقسيم و بين ما يثبته و يدلل عليه بهذه السعة كما في الفوائد المشوق.و هذا كما مرّ من الأسباب النافية لصحة نسبة كتاب يخالف محتواه العقدي لمؤلف على النقيض من هذه العقيدة.

ج-يقول الباحث«و مما لفت نظري في الكتاب الموسوم بالفوائد المشوق عند ذكره للزمخشري أنه يتبع ذلك بصيغة الترحم عليه:رحمه اللّه و هذا مما لا يمكن أن يصدر عن واحد مثل ابن القيم السلفي المعتقد...خاصة بالنسبة لواحد من رأس المعتزلة-و هم عنده-من فرق المبتدعة و الضلالة.

و هذا الترحم يشعر في كلام السابقين شيئا من الحب و الوفاء في نفس المترحم على المترحم عليه»ص(8)باختصار يسير.

و هذه الفقرة بعينها من أضعف نقاط البحث،و كنت أرجو أن يغض طرف قلمه عن مثل هذا،و تنزيه ابن القيم عن هذا الخلق،مع وقوفنا في خندق واحد معه رحمه اللّه تعالى،ضد المعتزلة و أمثالهم فيما خالفوا فيه أهل السنة.فقد ذكر ابن القيم الزمخشري في أكثر من خمسة عشر موضعا في المجموع من تفسيره«بدائع التفسير»مثل:(261/1 و 277 و 310 و 378 و 378 و 428)و(297/2 و 223 و 311)و(27/3 و 111)إلخ.

و في كثير منها ينقل قولا له مع تقدير رأيه أو ما ذهب إليه ثم قد ذكر ابن القيم كثيرا من علماء الأمة دون ذكر الترحم فهذا ليس شرطا أو قيدا.

و انظر موضع ترجمته في السير(151/20)يقول الذهبي:«الزمخشري العلامة،كبير المعتزلة،...صاحب الكشاف...رحل،و سمع،و حج،و جاور و تخرج به أئمة...أثنى عليه أبو السعادات بن الشجري...و كان داعية إلى الاعتزال،اللّه يسامحه»اه.هكذا يكون الإنصاف.و اللّه أعلم.

ثم أحيل أخي الباحث إلى كتاب الأستاذ الدكتور العلامة محمد محمد أبو موسى حفظه اللّه تعالى:«البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري»ص(30).ثم سائر الكتاب.و انظر أيضا

ص: 75

من ص(63)و موقف الزمخشري من أهل السنة و تعقيب ورد الشيخ الجليل«أبو موسى».

د-استشهاد صاحب«الفوائد المشوق»بعدة أحاديث لا يخفى و هنها عن ابن القيم و هو صاحب«المنار المنيف»و هذه الأحاديث بين الضعيف و الموضوع و لن نتعرض للأحاديث الضعيفة،حيث إن من أهل العلم من يجيز الاحتجاج بها،أما المكذوبة فهو زور و بهتان...كقوله:«إياكم و خضراء الدمن...»و قوله:«المعدة بيت الداء...»فهو من كلام الحارث بن كلدة،و لا يصح رفعه.أما قوله:«خضراء الدمن»فقد قال الألباني:

«ضعيف جدا...».و قوله:«أصحابي كالنجوم...»موضوع فهذا مما لا يفوت ابن القيم معرفته...من(9-11)اه.و هذا من الباحث نظر جيد،و ممّن نبّه على هذا الأمر-أي هذه العلة في دفع صحة نسبة الكتاب-فضيلة الشيخ«بكر»في كتابه ص(291).

ثم يصل الباحث إلى أهم النقاط التي رجحت عندي صحة ما ذهب إليه في نفي صحة نسبة هذا الكتاب لابن القيم،ثم-و هذا هام جدا-بيان صاحب هذا العمل الممتع.

ه-يقول الباحث:(و لمعرفة ذلك هداني اللّه للإجابة عن السؤال من خيط رفيع جدا، و هو عنوان القسم«الحادي و العشرين»من أقسام فنون المعاني(136)جعل صاحب الفوائد المشوق عنوانه«الاحتجاج النظري»و قال فيه:و بعض أهل هذا الشأن يسميه«المذهب الكلامي»...إلخ،و تذكرت أن هذا الكلام قد مرّ بي من قبل في تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي(ت 745 ه)عند قوله تعالى: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ... [آل عمران:

154]يقول أبو حيان:«هذا النوع عند علماء البيان يسمى«الاحتجاج النظري»و هو أن يذكر المتكلم معنى يستدل عليه بضروب من المعقول...»إلخ.

و قد حاولت معرفة من استخدم مصطلح الاحتجاج النظري من علماء البيان،فلم أعثر على ذكره إلاّ لدى شيخ أبي حيان«ابن النقيب»كما نص السيوطي.

يقول:و سمّاه ابن النقيب«الاحتجاج النظري»كما في شرح عقود الجمان في علم البيان للسيوطي ص(123).

و هنا طرقني السؤال:إذا لم يكن أحد غير ابن النقيب استخدم مصطلح«الاحتجاج النظري»فلم لا يكون الكتاب المسمى بالفوائد المشوق هو نفسه كتاب«ابن النقيب»؟و بتتبع ما وصلت إليه يدي من كتب البلاغة التي بين أيدينا اليوم فلم أجد في واحد منها إطلاق تسمية«الاحتجاج النظري»على«المذهب الكلامي»إلاّ في«الفوائد المشوق»).

و-يقول الباحث:«...فلما ذا إذا لا يكون هذا الكتاب إلاّ مقدمة ابن النقيب في علم

ص: 76

البيان،و التي ذكرها أبو حيان الأندلسي في تفسيره البحر المحيط عند حديثه عن الوجه الثالث من الوجوه التي يكون كلام اللّه عزّ و جلّ هو«وجه الفصاحة و البلاغة»«و يؤخذ ذلك من علم البيان و البديع،و قد صنف الناس في ذلك تصانيف كثيرة،و أجمعها ما جمعه شيخنا الأديب الصالح أبو عبد اللّه محمد بن سليمان النقيب،و ذلك في مجلدين قدمهما أمام كتابه في التفسير...»البحر(227/2):.

ز-ثم يقول الباحث ص(14):(...قال أبو حيان:و في قوله: أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ [البقرة:206]نوع من البديع يسمى«التتميم»و هو إرداف الكلام بكلمة ترفع عنه اللبس و تقربه للفهم...البحر المحيط(117/2)و هذا التعريف يتطابق مع ما في الفوائد المشوق ص(90).

و هذا التعريف للتتميم لم أجده في واحد من كتب البلاغة التي بين أيدينا إلاّ في الكتاب و في تفسير البحر المحيط).

ح-يقول الباحث(15):«و من التقارب الكبير بين ما في البحر المحيط و بين ما في «الفوائد المشوق»ما ذكره أبو حيان عند قوله تعالى: وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ... [غافر:28- 29]قال أبو حيان:و قال صاحب التحرير و التحبير:هذا نوع من أنواع علم البيان تسميه علماؤنا«استدراج المخاطب»البحر المحيط(461/7-462)و قابل بالفوائد المشوق(213 -214)و صاحب التحرير و التحبير-هذا-هو نفسه شيخ أبي حيان(ابن النقيب)و التحرير و التحبير تفسيره الكبير للقرآن و اسمه«التحرير و التحبير لأقوال أئمة التفسير في معاني كلام السميع البصير»(كشف الظنون:358/1)،و هذا التشابه الكبير بين ما في تفسير البحر المحيط و كتاب«الفوائد المشوق»و انفراد صاحب هذا الكتاب بمصطلح«الاحتجاج النظري» جعلني أطمئن بعض الاطمئنان إلى ما هجست به نفسي أن ما بين يدي من كتاب«الفوائد المشوق»هو نفسه مقدمة شيخ أبي حيان«ابن النقيب» (1).

ط-يقول الباحث(17):«غير أن هذا لم يكن كافيا عندي للوصول إلى درجة اليقين،).

ص: 77


1- و قد ذكر غير واحد هذه المقدمة بالإضافة لأبي حيان،منهم الزركشي،يقول عند حديثه عن«معرفة كون اللفظ و التركيب أحسن و أفصح»يقول الزركشي:«و يؤخذ ذلك من علم البيان و البديع،و قد صنف الناس في ذلك تصانيف كثيرة،و أجمعها ما جمعه الشيخ شمس الدين محمد ابن النقيب في مجلدين، في مقدمة تفسيره...»البرهان في علوم القرآن(311/1).و ذكرها أيضا ابن السبكي في مصادره في تأليف«عروس الأفراح»(31/1).

فعدت ألتمس ذكر«ابن النقيب»و من نقل عنه لعليّ أجد فيه ما يشفي.و قد كان بحمد اللّه و توفيقه،و هو ما وقع من نص عند السيوطي في حديثه عن«التورية»من فنون البديع.

يقول السيوطي«حكى بعضهم في التورية قولا نادرا فقال:هي أن يعلق المتكلم لفظة من الكلام بمعنى،ثم يرددها بعينها،و يعلقها بمعنى آخر،نحو مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام:124]فجاء بلفظ الجلالة مضافا إليه،ثم جاء به مبتدأ مثل قوله: أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ [التوبة:108]الأول:متعلق ب(تقوم)،و الثاني:خبر رجال.كذا أورده الأندلسي نقلا عن ابن النقيب في تفسيره...».

(قلت:-السيوطي-الظاهر أن هذا القول تصحف على ناقله،فإن هذا هو النوع المسمى ب«الترديد»السابق في الإطناب فتحرف على الناقل«الترديد»ب«التورية»ثم رأيت في«المصباح»لابن مالك التمثيل بالآية الأولى للترديد فصح ما قلته(اه.شرح عقود الجمان(115).

و هذا ما علقته بهامش نسختي على الفوائد المشوق،فرحم اللّه السيوطي فقد شفى نفسي بكلامه هذا).

ي-يقول الباحث:«(...و بالبحث تبين أن مراد السيوطي«بالأندلسي»-هنا-أبا جعفر الأندلسي،و أن هذا النص موجود بالفعل في شرحه على بديعة رفيقه ابن جابر الشهيرة ب«بديعية العميان»،فتطلبت هذا الشرح المعروف ب«الحلة السّيرا في مدح خير الورى» وجدت له عدة نسخ مخطوطة بدار الكتب المصرية،و عثرت بتوفيق اللّه على ما نقله السيوطي منها.و ثبت لي أن الأندلسي هذا هو أبو جعفر الأندلسي أحمد بن يوسف بن مالك الرعيني الغرناطي(ت 779 ه).

و بعد أن ساق أبو جعفر حد«التورية»المشهور من«أنها إطلاق لفظ له معنيان:قريب و بعيد،و المراد البعيد»،قال:«و هذا الذي قررناه في حد التورية هو الذي درج عليه الناس، و قد ذكر ابن النقيب في مقدمة تفسيره قولا نادرا في التورية فقال:«التورية أن يعلق المتكلم لفظة من الكلام بمعنى ثم يردها بعينها و يعلقها بمعنى آخر...و ذلك نحو قوله: حَتّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ... الآية»الحلة السّيرا في مدح خير الورى ورقة(152)مخطوط بدار الكتب المصرية:282 بلاغة (1).ن.

ص: 78


1- قلت:و قد طبع شرح الحلة في مؤسسة الثقافة-الإسكندرية باسم«طراز الحلة و شفاء الغلة»بتحقيق د./رجاء السيد الجوهري الأستاذة المساعدة للأدب بكلية التربية جده«م.ع.س»،و هذا النص في المطبوع برقم(448)،و هذه المسألة أوضح أسباب نسبة الكتاب لابن النقيب،و هذا لا شك قاطع لقول كل خطيب،و هو أقرب لليقين.

و هذا النص الذي سقته يزيد فائدة على نص السيوطي السابق أنه قرر أن ذلك القول في مقدمة تفسير ابن النقيب،فأصبح شبه متقرر عندي أن ما بين يدي من مطبوعة«الفوائد المشوق»ما هي إلاّ مقدمة الشيخ ابن النقيب و هذا القول النادر الذي نسبه أبو جعفر الأندلسي إلى ابن النقيب في تعريف التورية في الحقيقة ليس إلاّ نتاج تحريف ناسخ مقدمة ابن النقيب،و الصواب كما ذهب إليه السيوطي أنه«الترديد»لا«التورية»فهذا حده المعروف به في كتب علماء البلاغة (1)و أنه تصحف على الناسخ من«الترديد»إلى«التورية»و هذا يكشف لنا عن أن هذا التصحيف في أصل مقدمة ابن النقيب المخطوط كان قديما جدا من زمن أبي جعفر الأندلسي،و هو تصحيف«مبارك»له من الفضل عليّ في توثيق نسبة هذا الكتاب ما له!!اه.من ص 18-19).

11-ثم اعتمد الباحث أيضا على أن ما ذكره المؤلف للفوائد المشوق كمقدمة لتفسيره، و التصريح بغرضه من الكتاب و هو«إثبات ما وقع في الكتاب العزيز من فنون الفصاحة و عيون البلاغة...»إلخ راجع الفوائد المشوق(5،7،8،46،225).كل هذا يقوي عندي أن هذا مقدمة بين يدي تفسير للقرآن الكريم،و من كل ما سبق أجدني مطمئنا إلى أن ما نشر تحت عنوان«الفوائد المشوق»أو«كنوز العرفان»المنسوب لابن القيم هو في حقيقته مقدمة الشيخ«ابن القيم»في علوم البلاغة و التي جعلها أمام تفسيره الكبير للقرآن الكريم اه (2).

و أخيرا....

هذا..أخي المسلم..جهدي القليل الذي أسأل اللّه تعالى البركة فيه بقبوله،يرفع به درجاتي.

و البركة فيه بالانتفاع به،و العمل به.ث.

ص: 79


1- انظر:تحرير التحبير:(253)،و بدائع القرآن:(96)،و البرهان في علوم القرآن(301/3)،و الإتقان (270/3).
2- انتهى ما ذكره الباحث و لا تستطل هذا النقل فهو هام بل ضروري للفصل في هذا النزاع،ثم حاولت قدر الاستطاعة نقله كاملا باختصار غير مخل لتعم الفائدة لمن لم يتحصل على نسخة من كتاب الأخ الباحث.

و أشهد اللّه تعالى،ما صنعت هذا العمل و ما سبق و ما لحق إن شاء اللّه تعالى إلاّ حبا في اللّه تعالى و رسوله صلى اللّه عليه و سلم و سلف الأمة الصالحين.راجيا أن يكون لبنة صحيحة في بناء عظيم قام عليه كبارنا الأوائل،جعلنا اللّه تعالى دعاة بناء لا دعاة هدم،و كل رجاء أن تنالني دعوة بالعفو و العافية.و لا شك أن هناك زلات،أرجو تنبيهي عليها.و هناك هنات أرجو الدعاء لي بالمغفرة و التوبة.

سبحانك اللّه و بحمدك لا إله إلاّ أنت.

ربّ اغفر لي و لوالديّ و للمؤمنين.

ربّ بارك في أهل بيتي و زهور عمري نعمة ربي:

«فاطمة و مريم و سلمى».

و الحمد للّه رب العالمين.

و كتبه أبو الزهراء:يسري السيد محمد الكولي بالهرم.

هاتف:0101334080-أول رجب سنة 1423 سبتمبر سنة 2002.

ص: 80

ضرورة الوحي

مكانة الوحي

لا بد من الوحي الذي به الحياة الحقيقة الأبدية،و هو أولى باسم الرزق من المطر الذي به الحياة الفانية المنقضية،فما ينزل من فوق ذلك من الوحي و الرحمة و الألطاف و الموارد الربانية و التنزلات الإلهية،و ما به قوام العالم العلوي و السفلي من أعظم أنواع الرزق (1).

مراتب الوحي [النبوى]

مراتب الوحي مراتب عديدة:

إحداها:الرؤيا الصادقة،و كانت مبدأ وحيه صلى اللّه عليه و سلم،و كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح (2)الطبراني في الكبير(194/8)(7694)،و قال الهيثمي في المجمع(74/4):«فيه قدامة بن زائدة بن قدامة،و لم أجد من ترجمه،و بقية رجاله ثقات».و الحديث حسنه الألباني.(3).

الثانية:ما كان يلقيه الملك في روعه و قلبه من غير أن يراه،كما قال النبي صلى اللّه عليه و سلم:«إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها،فاتقوا اللّه و أجملوا في الطلب،و لا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية اللّه،فإن ما عند اللّه لا ينال إلا بطاعته» (3).

الثالثة:أنه(كان يتمثل له الملك رجلا،فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول له (4)،و في هذه المرتبة كان يراه الصحابة أحيانا.

الرابعة:أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس،و كان أشده عليه،فيتلبس به الملك

ص: 81


1- بدائع الفوائد(118/1).
2- رواه البخاري
3- في بدء الوحي،باب:(3)،و مسلم(252/160)في الإيمان،باب:بدء الوحي إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم.
4- مسلم(1/8)في الإيمان،باب:بيان الإيمان و الإسلام و الإحسان،و وجوب الإيمان بإثبات قدر اللّه سبحانه و تعالى.

حتى إن جبينه ليتفصد عرقا في اليوم الشديد البرد،و حتى إن راحلته لتبرك به إلى الأرض إذا كان راكبها (1)البخاري(4592)في التفسير،باب: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَ الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ [النساء:95].(2).و لقد جاءه الوحي مرة كذلك،و فخذه على فخذ زيد بن ثابت،فثقلت عليه حتى كادت ترضها (2).

الخامسة:أنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها،فيوحي إليه ما شاء اللّه أن يوحيه،و هنا وقع له مرتين كما ذكر اللّه في سورة النجم[النجم:7،13] (3).

السادسة:ما أوحاه اللّه و هو فوق السموات ليلة المعراج من فرض الصلاة و غيرها.

السابعة:كلام اللّه له منه إليه واسطة ملك،كما كلم اللّه موسى بن عمران (4)،و هذه المرتبة هي ثابتة لموسى قطعا بنص القرآن،و ثبوتها لنبينا(هو في حديث الإسراء؟).

و قد زاد بعضهم مرتبة ثامنة،و هي تكليم اللّه له كفاحا من غير حجاب،هذا على مذهب من يقول:إنه صلى اللّه عليه و سلم رأى ربه تبارك و تعالى (5)؟.

مراتب الهداية الخاصة و العامة

و الفرق بين الإلهام و الوحي و التحديث

المرتبة الأولى:مرتبة تكليم اللّه عز و جل لعبده يقظة بلا واسطة،بل منه إليه.و هذه أعلى مراتبها،كما كلم موسى بن عمران،صلوات اللّه و سلامه على نبينا و عليه،قال اللّه تعالى: وَ كَلَّمَ اللّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النساء:164]فذكر في أول الآية وحيه إلى نوح و النبيين من بعده،ثم خص موسى من بينهم بالإخبار بأنه كلمه.و هذا يدل على أن التكليم الذي حصل له أخص من مطلق الوحي الذي ذكر في أول الآية.ثم أكده بالمصدر الحقيقي الذي هو مصدر«كلم»و هو«التكليم»رفعا لما يتوهمه المعطلة و الجهمية و المعتزلة و غيرهم من أنه إلهام،أو إشارة،أو تعريف للمعنى النفسي بشيء غير التكليم.؟فأكده بالمصدر المفيد تحقيق النسبة و رفع توهم المجاز.قال الفراء:العرب تسمي ما يوصل إلى الإنسان كلاما

ص: 82


1- البخاري
2- في بدء الوحي،باب:(2)،و مسلم(86/2333)في الفضائل،باب:عرق النبي صلى اللّه عليه و سلم في البرد و حين يأتيه الوحي.
3- مسلم(287/177)في الإيمان،باب:معنى قول اللّه عز و جل: وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى [النجم:13].
4- يشير المصنف إلى قوله تعالى: وَ كَلَّمَ اللّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النساء].
5- زاد المعاد(77/1-80).

بأي طرق وصل.و لكن لا تحققه بالمصدر،فإذا حققته بالمصدر لم يكن إلا حقيقة الكلام، كالإرادة.يقال:فلان أراد إرادة،يريدون حقيقة الإرادة.و يقال:أراد الجدار،و لا يقال:

إرادة،لأنه مجاز غير حقيقة،هذا كلامه.و قال تعالى: وَ لَمّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:143]و هذا التكليم غير التكليم الأول الذي أرسله به إلى فرعون.و في هذا التكليم الثاني سأل النظر،لا في الأول و فيه أعطي الألواح،و كان عن مواعدة من اللّه له.و التكليم الأول لم يكن عن مواعدة،و فيه قال اللّه له: يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النّاسِ بِرِسالاتِي وَ بِكَلامِي [الأعراف:144]أي بتكليمي لك بإجماع السلف.

و قد أخبر-سبحانه-في كتابه:أنه ناداه و ناجاه.فالنداء من بعد،و النجاء من قرب.

تقول العرب:إذا كبرت الحلقة فهو نداء،أو نجاء.و قال له أبوه آدم في محاجته:«أنت موسى الذي اصطفاك اللّه بكلامه،و خط لك التوراة بيده؟» (1).و كذلك يقول له أهل الموقف إذا طلبوا منه الشفاعة إلى ربه.و كذلك في حديث الإسراء في رؤية موسى في السماء السادسة أو السابعة،على اختلاف الرواية (2).قال:«و ذلك بتفضيله بكلام اللّه»،و لو كان التكليم الذي حصل له من جنس ما حصل لغيره من الأنبياء لم يكن لهذا التخصيص به في هذه الأحاديث معني،و لا كان يسمى«كليم الرحمن».و قال تعالى: وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ [الشورى:51]ففرق بين تكليم الوحي،و التكليم بإرسال الرسول،و التكليم من وراء حجاب.

فصل المرتبة الثانية:مرتبة الوحي المختص بالأنبياء،قال اللّه تعالى: إِنّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [النساء 163]و قال: وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ الآية[الشورى:51]فجعل الوحي في هذه الآية قسما من أقسام التكليم، و جعله في آية النساء قسيما للتكليم،و ذلك باعتبارين،فإنه قسيم التكليم الخاص الذي هو بلا واسطة،و قسم من التكليم العام الذي هو إيصال المعنى بطرق متعددة.

و الوحي في اللغة:هو الإعلام السريع الخفي،و يقال في فعله:وحى،و أوحى،قال رؤبة:ت.

ص: 83


1- البخاري(6614)في القدر،باب:تحاج آدم و موسى عند اللّه،و مسلم(13/2652)في القدر، باب:حجاج آدم و موسى عليهما السلام.
2- البخاري(349)في الصلاة،باب:كيف فرضت الصلوات في الإسراء،و مسلم(259/162)في الإيمان،باب:الإسراء برسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إلى السموات و فرض الصلوات.

وحى لها القرار فاستقرت

فصل المرتبة الثالثة:إرسال الرسول الملكي إلى الرسول البشري،فيوحي إليه عن اللّه ما أمره أن يوصله إليه.

فهذه المراتب الثلاث خاصة بالأنبياء،لا تكون لغيرهم.

ثم هذا الرسول الملكي قد يتمثل للرسول البشري رجلا،يراه عيانا و يخاطبه.و قد يراه على صورته التي خلق عليها.و قد يدخل فيه الملك،و يوحي إليه ما يوحيه،ثم يفصم عنه، أي يقلع،و الثلاثة حصلت لنبينا صلى اللّه عليه و سلم (1)البخاري(3689)في فضائل الصحابة،باب:مناقب عمر بن الخطاب،و مسلم(23/2398)في فضائل الصحابة،باب:من فضائل عمر رضي اللّه عنه.(2).

فصل المرتبة الرابعة:مرتبة التحديث.و هذه دون مرتبة الوحي الخاص،و تكون دون مرتبة الصديقين،كما كانت لعمر بن الخطاب رضي اللّه عنه،كما قال النبي صلى اللّه عليه و سلم:«إنه كان في الأمم قبلكم محدثون،فإن يكن في هذه الأمة فعمر بن الخطاب» (2).

و سمعت شيخ الإسلام تقي الدين.ابن تيمية-رحمه اللّه-يقول:جزم بأنهم كائنون في الأمم قبلنا.و علق وجودهم في هذه الأمة ب«إن»الشرطية مع أنها أفضل الأمم،تضم لاحتياج الأمم قبلنا إليهم،و استغناء هذه الأمة عنهم بكمال نبيها و رسالته،فلم يحوج اللّه الأمة بعده إلى محدّث و لا ملهم،و لا صاحب كشف و لا منام،فهذا التعليق لكمال الأمة و استغنائها لا لنقصها.

و المحدّث:هو الذي يحدّث في سره و قلبه بالشيء،فيكون كما يحدث به.

قال شيخنا:و الصديق أكمل من المحدث،لأنه استغنى بكمال صديقيته و متابعته عن التحديث و الإلهام و الكشف،فإنه قد سلّم قلبه كله و سره و ظاهره و باطنه للرسول،فاستغنى به عما منه (3).م.

ص: 84


1- البخاري
2- في بدء الوحي،باب:(2)،(3215)في بدء الخلق،باب:ذكر الملائكة،و مسلم (87/2333)في الفضائل،باب:عرق النبي صلى اللّه عليه و سلم في البرد و حين يأتيه الوحي.
3- لعل مراده:فاستغنى الصديق بما جاء به النبي صلى اللّه عليه و سلم من الوحي عما منه هو من التحديث و اللّه تعالى أعلم.

قال:و كان هذا المحدث يعرض ما يحدث به على ما جاء به الرسول،فإن وافقه قبله، تضبط رده،فعلم أن مرتبة الصديقية فوق مرتبة التحديث.

قال:و أما ما يقوله كثير من أصحاب الخيالات و الجهالات:«حدثني قلبي عن ربي» فصحيح أن قلبه حدثه،و لكن عمّن؟عن شيطانه،أو عن ربه؟فإذا قال:«حدثني قلبي عن ربي»كان مسندا الحديث إلى من يعلم أنه حدثه به،و ذلك كذب.قال:و محدث الأمة لم يكن يقول ذلك،و لا تفوّه به يوما من الدهر،و قد أعاذه اللّه من أن يقول ذلك،بل كتب كاتبه يوما«هذا ما أرى اللّه أمير المؤمنين،عمر بن الخطاب»فقال:«لا،امحه،و اكتب:

هذا ما رأى عمر بن الخطاب،فإن كان صوابا فمن اللّه،و إن كان خطأ فمن عمر،و اللّه و رسوله منه بريء»و قال في الكلالة:«أقول فيها برأيي،فإن يكن صوابا فمن اللّه،و إن يكن خطأ فمني و من الشيطان»،فهذا قول المحدث بشهادة الرسول صلى اللّه عليه و سلم،و أنت ترى الاتحادي و الحلولي و الإباحي الشطاح،و السماعي مجاهر بالقحة و الفرية،يقول:«حدثني قلبي عن ربي».

فانظر إلى ما بين القائلين و المرتبتين و القولين و الحالين،و أعط كل ذي حقّ حقه،و لا تجعل الزغل و الخالص شيئا واحدا.

فصل المرتبة الخامسة:مرتبة الإفهام معناه،قال اللّه تعالى: وَ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَ كُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ(78) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَ كُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً وَ سَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَ الطَّيْرَ وَ كُنّا فاعِلِينَ (79)[الأنبياء:78،79]فذكر هذين النبيين الكريمين،و أثنى عليهما بالعلم و الحكم.و خص سليمان بالفهم في هذه الواقعة المعينة.و قال علي بن أبي طالب و قد سئل:«هل خصكم رسول اللّه بشيء دون الناس؟» فقال:«لا،و الذي فلق الحبة و برأ النسمة،إلا فهما يؤتيه اللّه عبدا في كتابه،و ما في هذه الصحيفة.و كان فيها العقل-و هو الديات-و فكاك الأسير،و ألا يقتل مسلم بكافر».

و في كتاب عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه:«و الفهم الفهم فيما أدلي إليك»فالفهم نعمة من اللّه على عبده،و نور يقذفه اللّه في قلبه يعرف به،و يدرك ما لا يدركه غيره و لا يعرفه،فيفهم من النص ما لا يفهمه غيره،مع استوائهما في حفظه،و فهم أصل معناه.

فالفهم عن اللّه و رسوله عنوان الصديقية،و منشور الولاية النبوية،و فيه تفاوت مراتب

ص: 85

العلماء،حتى عدّ ألف بواحد.فانظر إلى فهم ابن عباس،و قد سأله عمر و من حضر من أهل بدر و غيرهم عن سورة إِذا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَ الْفَتْحُ و ما خص به ابن عباس من فهمه منها«أنها نعي اللّه سبحانه نبيه إلى نفسه و إعلامه بحضور أجله» (1)،و موافقة عمر له على ذلك،و خفائه عن غيرهما من الصحابة،و ابن عباس إذ ذاك أحدثهم سنا،و أين تجد في هذه السورة الإعلام بأجله،لو لا الفهم الخاص؟و يدق هذا حتى يصل إلى مراتب تتقاصر عنها أفهام أكثر الناس،فيحتاج مع النص إلى غيره،و لا يقع الاستغناء بالنصوص في حقه مثال الذين يظنون النقص بالشريعة،و أما في حق صاحب الفهم فلا يحتاج مع النصوص إلى غيرها.

فصل المرتبة السادسة:مرتبة البيان العام.و هو تبين الحق و تمييزه من الباطل بأداته و شواهده و أعلامه،بحيث يصير مشهودا للقلب،كشهود العين للمرئيات.

و هذه المرتبة هي حجة اللّه على خلقه،التي لا يعذب أحدا و لا يضله إلا بعد وصوله إليها،قال اللّه تعالى: وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115)[التوبة:115]،فهذا الإضلال عقوبة منه لهم،حين بين لهم،فلم يقبلوا ما بينه لهم،و لم يعملوا به،فعاقبهم بأن أضلهم عن الهدى،و ما أضل اللّه-سبحانه- أحدا قط إلا بعد هذا البيان.

و إذا عرفت هذا عرفت سر القدر،و زالت عنك شكوك كثيرة،و شبهات في هذا الباب، و علمت حكمة اللّه في إضلاله من يضله من عباده.و القرآن يصرح بهذا في غير موضع، كقوله: فَلَمّا زاغُوا أَزاغَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5]، وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ [النساء:155]فالأول:كفر عناد،و الثاني:كفر طبع،و قوله: وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ نَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)[الأنعام]فعاقبهم على ترك الإيمان به حين تيقنوه و تحققوه،بأن قلب أفئدتهم و أبصارهم فلم يهتدوا له.

فتأمل هذا الموضع حق التأمل،فإنه موضع عظيم.

و قال تعالى: وَ أَمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [فصلت:17]فهذا هدي بعد البيان و الدلالة،و هو شرط لا موجب،فإنه إن يقترن به هدي آخر بعده لم يحصل به كمالر.

ص: 86


1- أخرجه البخاري في التفسير.

الاهتداء،و هو هدي التوفيق و الإلهام.

و هذا البيان نوعان:بيان بالآيات المسموعة المتلوة،و بيان بالآيات المشهودة المرئية، و كلاهما أدلة و آيات على توحيد اللّه و أسمائه و صفاته و كماله،و صدق ما أخبرت به رسله عنه،و لهذا يدعو عبادة بآياته المتلوة إلى التفكر في آياته المشهودة و يحضهم على التفكر في هذه و هذه.و هذا البيان هو الذي بعثت به الرسل،و جعل إليهم و إلى العلماء بعدهم،و بعد ذلك يضل اللّه من يشاء،قال اللّه تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)[إبراهيم]فالرسل تبين، و اللّه هو الذي يضل من يشاء و يهدي من يشاء بعزته و حكمته.

فصل المرتبة السابعة:البيان الخاص،و هو البيان المستلزم للهداية الخاصة.و هو بيان تقارنه العناية و التوفيق و الاجتباء،و قطع أسباب الخذلان و موادها عن القلب،فلا تتخلف عن الهداية البتة.قال تعالى في هذه المرتبة: إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ [النحل:37]و قال: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص:56]فالبيان الأول شرط،و هذا موجب.

فصل المرتبة الثامنة:مرتبة الإسماع.قال اللّه تعالى: وَ لَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ (23)[الأنفال]،و قال تعالى: وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ(19) وَ لاَ الظُّلُماتُ وَ لاَ النُّورُ(20) وَ لاَ الظِّلُّ وَ لاَ الْحَرُورُ(21) وَ ما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَ لاَ الْأَمْواتُ إِنَّ اللّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ(22) إِنْ أَنْتَ إِلاّ نَذِيرٌ (23)[فاطر:19-23]،و هذا الإسماع أخص من إسماع الحجة و التبليغ،فإن ذلك حاصل لهم،و به قامت الحجة عليهم،لكن ذاك إسماع الآذان،و هذا إسماع القلوب،فإن الكلام له لفظ و معنى،و له نسبة إلى الأذن و القلب و تعلق بهما.فسماع لفظه حظ الآذان،و سماع حقيقة معناه و مقصوده حظ القلب،فإنه-سبحانه- نفي عن الكفار سماع المقصود و المراد الذي هو حظ القلب،و أثبت لهم سماع الألفاظ الذي هو حظ الأذن في قوله تعالى: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُونَ(2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ [الأنبياء:2-3]،و هذا السماع لا يفيد السامع إلا قيام الحجة عليه،أو تمكنه منها.و أما مقصود السماع و ثمرته و المطلوب منه فلا يحصل مع لهو القلب

ص: 87

و غفلته و إعراضه،بل يخرج السامع قائلا للحاضر معه: ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [محمد:16].

و الفرق بين هذه المرتبة و مرتبة الإفهام:أن هذه المرتبة إنما تحصل بواسطة الأذن و مرتبة الإفهام أعم.فهي أخص من مرتبة الفهم من هذا الوجه،و مرتبة الفهم أخص من وجه آخر، و هي أنها تتعلق بالمعنى المراد و لوازمه و تعلقاته و إشاراته،و مرتبة السماع مدارها على إيصال المقصود بالخطاب إلى القلب و يترتب على هذا السماع سماع القبول.

فهو إذن ثلاث مراتب:سماع الأذن،و سماع القلب،و سماع القبول و الإجابة.

فصل المرتبة التاسعة:مرتبة الإلهام.قال تعالى: وَ نَفْسٍ وَ ما سَوّاها(7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها [الشمس:7-8]،و قال النبي لحصين بن منذر الخزاعي لما أسلم:«اللهم ألهمني رشدي، و قني شر نفسي» (1).

و قد جعل صاحب المنازل بين:«الإلهام»هو مقام المحدثين.قال:و هو فوق مقام الفراسة،لأن الفراسة ربما وقعت نادرة،و استصعبت على صاحبها وقتا،أو استعصت عليه، و الإلهام لا يكون إلا في مقام عتيد.

قلت:التحديث أخص من الإلهام،فإن الإلهام عام للمؤمنين بحسب إيمانهم،فكل مؤمن قد ألهمه اللّه رشده الذي حصل له به الإيمان.فأما التحديث:فالنبي(قال فيه:«إن يكن في هذه الأمة أحد فعمر» (2)يعني من المتحدثين.فالتحديث إلهام خاص،هو الوحي إلى غير الأنبياء إما من المكلفين،كقوله تعالى: وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص:

7]،و قوله: وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَ بِرَسُولِي [المائدة:111]و إما من غير المكلفين،كقوله تعالى: وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَ مِنَ الشَّجَرِ وَ مِمّا يَعْرِشُونَ [النحل:68]،فهذا كله وحي إلهام.

فصل قال:و هو على ثلاث درجات:

الدرجة الأولى:نبأ يقع وحيا قاطعا مقرونا بسماع.إذ مطلق النبأ الخبر الذي له شأن.).

ص: 88


1- الترمذي(3483)في الدعوات،باب:(70)و قال:«غريب».
2- سبق تخريجه ص(5)رقم(2).

فليس كل خبر نبأ،و هو نبأ خبر عن غيب معظم.

و يريد بالوحي و الإلهام:الإعلام الذي يقطع من وصل إليه بموجبه،إما بواسطة سمع، أو هو الإعلام بلا واسطة.

قلت:أما حصوله لغير الأنبياء،و هو الذي خص به موسى،إذ كان المخاطب هو الحق عزّ و جلّ.

و أما ما يقع لكثير من أرباب الرياضات من سماع،فهو من أحد وجوه ثلاثة لا رابع لها.أعلاها:أن يخاطبه الملك خطابا جزئيا.فإن هذا يقع لغير الأنبياء،فقد كانت الملائكة تخاطب عمران بن حصين بالسلام،فلما اكتوى تركت خطابه،فلما ترك الكي عاد إليه خطاب الملك.و هو نوعان:

أحدهما:خطاب يسمعه بأذنه،و هو نادر بالنسبة إلى عموم المؤمنين.

و الثاني:خطاب يلقى في قلبه يخاطب به الملك و روحه،كما في الحديث المشهور:

«إن للملك لمّة بقلب ابن آدم،و للشيطان لمة.فلمة الملك:إيعاد بالخير،و تصديق بالوعد، و لمة الشيطان:إيعاد بالشر و تكذيب بالوعد» (1)،ثم قرأ: اَلشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَ اللّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَ فَضْلاً وَ اللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:268].قيل في تفسيرها:قوّوا قلوبهم،و بشروهم بالنصر.و قيل:احضروا معهم للقتال،و القولان حق،فإنهم حضروا معهم القتال،و ثبتوا قلوبهم.

و من هذا الخطاب:واعظ اللّه عزّ و جلّ في قلوب عباده المؤمنين،كما في جامع الترمذي و مسند أحمد من حديث النواس بن سمعان عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال:«إن اللّه تعالى ضرب مثلا:

صراطا مستقيما،و على كنفتي الصراط سوران،لهما أبواب مفتحة،و على الأبواب ستور مرخاة،وداع يدعو على رأس الصراط،وداع يدعو فوق الصراط،فالصراط المستقيم:

الإسلام،و السوران:حدود اللّه،و الأبواب المفتحة:محارم اللّه،فلا يقع أحد في حد من حدود اللّه حتى يكشف الستر،و الداعي على رأس الصراط:كتاب اللّه،و الداعي فوق الصراط:واعظ اللّه في قلب كل مؤمن» (2)،فهذا الواعظ في قلوب المؤمنين هو الإلهامن.

ص: 89


1- الترمذي(2988)في تفسير القرآن،باب:و من سورة البقرة،و قال:«حسن غريب»و ضعفه الألباني، و رواه النسائي في الكبرى(11051)في التفسير.
2- الترمذي(2295)في الأمثال،ما جاء في مثل اللّه تعالى لعباده،و صححه الألباني. -رواه الإمام أحمد(16976)في مسند الشاميين.

الإلهي بواسطة الملائكة.

و أما وقوعه بغير واسطة:فمما لم يتبين بعد،و الجزم فيه بنفي أو إثبات موقوف على الدليل،و اللّه أعلم.

فصل النوع الثاني من الخطاب المسموع:خطاب الهواتف من الجان،و قد يكون المخاطب جنيا مؤمنا صالحا،و قد يكون شيطانا.و هذا أيضا نوعان:

أحدهما:أن يخاطبه خطابا يسمعه بأذنه.

و الثاني:أن يلقي في قلبه عند ما يلم به.و منه وعده و تمنيته حين يعد الإنسي و يمنيه، و يأمره و ينهاه،كما قال تعالى: يَعِدُهُمْ وَ يُمَنِّيهِمْ وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاّ غُرُوراً (120)[النساء]، و قال: اَلشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ [البقرة:268]،و للقلب من هذا الخطاب نصيب،و للأذن أيضا منه نصيب،و العصمة منتفية إلا عن الرسل و مجموع الأمة.

فمن أين للمخاطب أن هذا الخطاب رحماني،أو ملكي؟بأي برهان؟أو بأي دليل؟ و الشيطان يقذف في النفس وحيه.و يلقي في السمع خطابه،فيقول المغرور المخدوع:«قيل لي،و خوطبت»صدقت،لكن الشأن في القائل لك و المخاطب.و قد قال عمر ابن الخطاب رضي اللّه عنه لغيلان بن سلمة-و هو من الصحابة-لما طلق نساءه،و قسم ماله بين بنيه:«إني لأظن الشيطان-فيما يسترق من السمع-سمع بموتك،فقذفه في نفسك»فمن يأمن القراء بعدك يا شهر؟.

فصل النوع الثالث:خطاب حالي،تكون بدايته من النفس،و عوده إليها فيتوهمه من خارج، و إنما هو من نفسه،منها بدأ و إليها يعود.

و هذا كثيرا ما يعرض للسالك،فيغلط فيه،و يعتقد أنه خطاب من اللّه،كلمه به منه إليه.

و سبب غلطه:أن اللطيفة المدركة من الإنسان إذا صفت بالرياضة،و انقطعت علقها من الشواغل الكثيفة:صار الحكم لها بحكم استيلاء الروح و القلب على البدن،و مصير الحكم لها.فتنصرف عناية النفس و القلب إلى تجريد المعاني التي هي متصلة بهما،و تشتد عناية الروح بها،و تصير في محل تلك العلائق و الشواغل،فتملأ القلب.فتصرف تلك المعاني إلى المنطق و الخطاب القلبي الروحي بحكم العادة،و يتفق تجرد الروح،فتتشكل تلك

ص: 90

المعاني للقوة السامعة بشكل الأصوات المسموعة،و للقوة الباصرة بشكل الأشخاص المرئية،فيرى صورها،و يسمع الخطاب،و كله في نفسه ليس في الخارج منه شيء.و يحلف أنه رأى و سمع،و صدق.لكن رأى و سمع في الخارج،أو في نفسه؟و يتفق ضعف التمييز، و قلة العلم،و استيلاء تلك المعاني على الروح،و تجردها عن الشواغل.

فهذه الوجوه الثلاثة هي وجوه الخطاب،و من سمّع نفسه غيرها فإنما هو غرور،و خدع و تلبيس،و هذا الموضع مقطع القول،و هو من أجل المواضع لمن حققه و فهمه،و اللّه الموفق للصواب.

فصل قال:«الدرجة الثانية:إلهام يقع عيانا.و علامة صحته:أنه لا يخرق سترا،و لا يجاوز حدا،و لا يخطئ أبدا».

الفرق بين هذا و بين الإلهام في الدرجة الأولى:أن ذلك علم شبيه بالضروري الذي لا يمكن دفعه عن القلب.و هذا معاينة و مكاشفة.فهو فوقه في الدرجة،و أتم منه ظهورا، و نسبته إلى القلب نسبة المرئي إلى العين،و ذكر له ثلاث علامات:

إحداهما:«أنه لا يخرق سترا»أي صاحبه إذا كوشف بحال غير المستور عنه لا يخرق ستره و يكشفه،خيرا كان أو شرا،أو أنه لا يخرق ما ستره اللّه من نفسه عن الناس،بل يستر نفسه،و يستر من كوشف بحاله.

الثانية:«أنه لا يجاوز حدا»يحتمل وجهين:

احداهما:أنه لا يتجاوز به إلى ارتكاب المعاصي،و تجاوز حدود اللّه،مثل الكهان، و أصحاب الكشف الشيطاني.

الثاني:أنه لا يقع على خلاف الحدود الشرعية،مثل أن يتحسس به على العورات التي نهى اللّه عن التجسس عليها و تتبعها،فإذا تتبعها وقع عليها بهذا الكشف،فهو شيطاني لا رحماني.

الثالثة:أنه لا يخطئ إلا نادرا،بخلاف الشيطان،فإن خطأه كثير،كما قال النبي صلى اللّه عليه و سلم لابن صائد:«ما ترى؟»قال:أرى صادقا و كاذبا.قال:«لبّس عليك» (1)،فالكشف الشيطاني لا بد أن يكذب،و لا يستمر صدقه البتة.د.

ص: 91


1- أخرجه مسلم(87/2925)في الفتن و أشراط الساعة،باب:«ذكر ابن صياد»،و الترمذي(2247)في الفتن،باب:ما جاء في ذكر ابن صائد.

فصل قال«الدرجة الثالثة:إلهام يجلو عين التحقيق صرفا،و ينطلق عن عين الأزل محضا، و الإلهام غاية تمتنع الإشارة إليها».

عين التحقيق عنده هي الفناء في شهود الحقيقة،بحيث يضمحل كل ما سواها في ذلك الشهود،و تعود الرسوم أعداما محضة،فالإلهام في هذه الدرجة يجلو هذا العين للملهم صرفا،بحيث لا يمازجها شيء من إدراك العقول و لا الحواس،فإن كان هناك إدراك عقلي أو حسي لم يتمحض جلاء عين الحقيقة.و الناطق عن هذا الكشف:أن كل الخلق عنه في حجاب.و عندهم:أن العلم و العقل و الحال حجب عليه،و أن خطاب الخلق إنما يكون على لسان الحجاب،و أنهم لا يفهمون لغة ما وراء الحجاب من المعنى المحجوب،فلذلك تمتنع الإشارة إليه،و العبارة عنه.فإن الإشارة و العبارة إنما يتعلقان بالمحسوس و المعقول،و هذا أمر وراء الحس و العقل.

و حاصل هذا الإلهام:أنه إلهام ترتفع معه الوسائط و تضمحل و تعدم،لكن في الشهود لا في الوجود.و أما الاتحادية،القائلون بوحدة الوجود:فإنهم يجعلون ذلك اضمحلالا و عدما في الوجود،و يجعلون صاحب المنازل منهم،و هو بريء منهم عقلا و دينا و حالا و معرفة، و اللّه أعلم.

فصل المرتبة العاشرة من مراتب الهداية:الرؤيا الصادقة.و هي من أجزاء النبوة،كما ثبت عن النبي صلى اللّه عليه و سلم أنه قال:«الرؤيا الصادقة جزء من ستة و أربعين جزءا من النبوة» (1).

و قد قيل في سبب هذا التخصيص المذكور:إن أول مبتدأ الوحي كان هو الرؤيا الصادقة،و ذلك نصف سنة،ثم انتقل إلى وحي اليقظة مدة ثلاث و عشرين سنة،من حين بعث إلى أن توفي-صلوات اللّه و سلامه عليه-فنسبة مدة الوحي في المنام من ذلك:جزء من ستة و أربعين جزءا.و هذا حسن،لو لا ما جاء في الرواية الأخرى الصحيحة:«إنها جزء من سبعين جزءا» (2).ة.

ص: 92


1- البخاري(6988)في التعبير،باب:الرؤيا الصالحة جزء من ستة و أربعين جزءا من النبوة،و مسلم (6/2263)في أول الرؤيا،و أبو داود(5018)في الأدب،باب:ما جاء في الرؤيا.
2- رواه مسلم(4205)في الرؤيا من حديث ابن عمر رضي اللّه عنهما و ابن ماجة(3887)و راجع:فتح الباري(/12 380)ففيه فوائد قيمة.

و قد قيل في الجمع بينهما:إن ذلك بحسب حال الرائي،فإن رؤيا الصديقين من ستة و أربعين،و رؤيا عموم المؤمنين الصادقة من سبعين،و اللّه أعلم.

و الرؤيا:مبدأ الوحي،و صدقها بحسب صدق الرائي.و أصدق الناس رؤيا أصدقهم حديثا،و هي عند اقتراب الزمان لا تكاد تخطئ،كما قال النبي صلى اللّه عليه و سلم (1).و ذلك لبعد العهد بالنبوة و آثارها،فيتعرض المؤمنون بالرؤيا.و أما في زمن قوة نور النبوة:ففي ظهور نورها و قوته ما يغني عن الرؤيا.

و نظير هذه الكرامات التي ظهرت بعد عصر الصحابة،و لم تظهر عليهم،لاستغنائهم عنها بقوة إيمانهم،و احتياج من بعدهم إليها لضعف إيمانهم.و قد نص أحمد على هذا المعنى.و قال عبادة بن الصامت:«رؤيا المؤمن كلام يكلم به الرب عبده في المنام»،و قد قال النبي صلى اللّه عليه و سلم:«لم يبق من النبوة إلا المبشرات»قيل:و ما المبشرات،يا رسول اللّه؟قال:

«الرؤيا الصالحة،يراها المؤمن أو ترى له» (2).و إذا تواطأت رؤيا المسلمين لم تكذب.و قد قال النبي صلى اللّه عليه و سلم لأصحابه لما أروا ليلة القدر في العشر الأواخر قال:«أرى رؤياكم قد تواطأت في العشر الأواخر،فمن كان منكم متحريها فليتحرها في العشر الأواخر من رمضان» (3).

و الرؤيا كالكشف،منها رحماني،و منها نفساني،و منها شيطاني.و قال النبي صلى اللّه عليه و سلم:

«الرؤيا ثلاثة:رؤيا من اللّه،و رؤيا تحزين من الشيطان،و رؤيا مما يحدث به الرجل نفسه في اليقظة،فيراه في المنام».

و الذي هو من أسباب الهداية:هو الرؤيا التي من اللّه خاصة.

و رؤيا الأنبياء وحي،فإنها معصومة من الشيطان،و هذا باتفاق الأمة،و لهذا أقدم الخليل على ذبح ابنه إسماعيل-عليه السّلام-بالرؤيا.

و أما رؤيا غيرهم:فتعرض على الوحي الصريح،فإن وافقته و إلا لم يعمل بها.ا.

ص: 93


1- مسلم(6/2263)في أول الرؤيا،و أحمد(269/2)،و قال الشيخ أحمد شاكر(7630):«إسناده صحيح».
2- مسلم(207/479)في الصلاة،باب:النهي عن قراءة القرآن في الركوع و السجود،و أبو داود (876)في الصلاة،باب:في الدعاء في الركوع و السجود.
3- البخاري(1158)في التهجد،باب:فضل من تعار من الليل فصلى،مسلم(207/1165)في الصيام،باب:فضل ليلة القدر،و الحث على طلبها.

فإن قيل:فما تقولون إذا كانت رؤيا صادقة،أو تواطأت؟.

قلنا:متى كانت كذلك استحال مخالفتها للوحي،بل لا تكون إلا مطابقة له،منبهة عليه،أو منبهة على اندراج قضية خاصة في حكمة لم يعرف الرائي اندراجها فيه،فيتنبه بالرؤيا على ذلك.و من أراد أن تصدق رؤياه فليتحر الصدق و أكل الحلال،و المحافظة على الأمر و النهي،و لينم على طهارة كاملة مستقبل القبلة،و يذكر اللّه حتى تغلبه عيناه،فإن رؤياه لا تكاد تكذب البتة.

و أصدق الرؤيا رؤيا الأسحار،فإنه وقت النزول الإلهي،و اقتراب الرحمة و المغفرة، و سكون الشياطين.و عكسه رؤيا العتمة،عند انتشار الشياطين و الأرواح الشيطانية.و قال عبادة بن الصامت رضي اللّه عنه:«رؤيا المؤمن كلام يكلم به الرب عبده في المنام».

و للرؤيا ملك موكل بها،يريها العبد في أمثال تناسبه و تشاكله،فيضربها لكل أحد بحسبه.و قال مالك:«الرؤيا من الوحي وحي»و زجر عن تفسيرها بلا علم.و قال:

«أ تتلاعب بوحي اللّه؟».

و لذكر الرؤيا و أحكامها و تفاصيلها و طرق تأويلها مظان مخصوصة بها،يخرجها ذكرها عن المقصود.و اللّه أعلم (1).

مسألة فإن قيل:فاللّه تعالى لا يكلم عباده؟

قيل:بلى،قد كلمهم،فمنهم من كلمه اللّه من وراء حجاب منه إليه بلا واسطة، كموسى.و منهم من كلمه على لسان رسوله الملكي،و هم الأنبياء.و كلم اللّه سائر الناس على ألسنة رسله،فأنزل عليهم كلامه الذي بلّغته رسله عنه (2).).

ص: 94


1- مدارج السالكين(37/1-52).
2- مدارج السالكين(26/1).

قلم تعبير الرؤيا

اشارة

قلم التعبير:هو كاتب وحي المنام،و تفسيره،و تعبيره،و ما أريد منه،و هو قلم شريف جليل مترجم للوحي المنامي،كاشف له،و هو من الأقلام التي تصلح للدنيا و الدين،و هو يعتمد طهارة صاحبه و نزاهته،و أمانته،و تحريه للصدق،و الطرائق الحميدة،و المناهج السديدة،مع علم راسخ،و صفاء باطن،و حس مؤيد بالنور الإلهي،و معرفة بأحوال الخلق و هيأتهم و سيرهم و هو من ألطف الأقلام،و أعمها جولانا،و أوسعها تصرفا،و أشدها تشبثا بسائر الموجودات:علويها و سفليها،و بالماضي و الحال و المستقبل،فتصرف هذا القلم في المنام هو محل ولايته و كرسي مملكته و سلطانه (1).

بيان إن من الرؤيا ما يكون من حديث النفس و صورة الاعتقاد،بل كثير من مرائي الناس إنما هي من مجرد صور اعتقادهم المطابق،و غير المطابق.

فإن الرؤيا على ثلاثة أنواع:رؤيا من اللّه،و رؤيا من الشيطان،و رؤيا من حديث النفس.

و الرؤيا الصحيحة أقسام:

منها:إلهام يلقيه اللّه سبحانه في قلب العبد،و هو كلام يكلم به الرب عبده في المنام، كما قال عبادة بن الصامت و غيره.

و منها:مثل يضربه له ملك الرؤيا الموكل بها.

و منها:التقاء روح النائم بأرواح الموتى من أهله و أقاربه و أصحابه و غيرهم.

و منها:عروج روحه إلى اللّه سبحانه،و خطابها له.

و منها:دخول روحه إلى الجنة،و مشاهدتها،و غير ذلك.فالتقاء أرواح الأحياء و الموتى نوع من أنواع الرؤيا الصحيحة التي هي عند الناس من جنس المحسوسات (2).

ص: 95


1- التبيان(211/210).
2- الروح(210-211).

بيان إن العبد إذا نفذ فيها (1)،و كمل اطلاعه،جاء بالعجائب.و قد شاهدنا نحن و غيرنا من ذلك أمورا عجيبة،يحكم فيها المعبر بأحكام متلازمة صادقة،سريعة و بطيئة،و يقول سامعها:هذه علم غيب.و إنما هي معرفة ما غاب من غيره بأسباب انفرد هو بعلمها، و خفيت على غيره،و الشارع صلوات اللّه عليه حرم من تعاطي ذلك ما مضرته راجحة على منفعته،أو ما لا منفعة فيه،أو ما يخشى على صاحبه أن يجره إلى الشرك،و حرم بذل المال في ذلك،و حرم أخذه به،صيانة للأمة عما يفسد عليها الإيمان أو يخدشه،بخلاف علم عبارة الرؤيا،فإنه حق لا باطل،لأن الرؤيا مستندة إلى الوحي المنامي،و هي جزء من أجزاء النبوة،و لهذا كلما كان الرائي أصدق،كانت رؤياه أصدق،و كلما كان المعبر أصدق و أبر و أعلم،كان تعبيره أصح،بخلاف الكاهن و المنجم و أضرابهما ممن لهم مدد من إخوانهم من الشياطين،فإن صناعتهم لا تصح.من صادق و لا بار،و لا متقيد بالشريعة بل هم أشبه بالسحرة الذين كلما كان أحدهم أكذب و أفجر،و أبعد عن اللّه و رسوله و دينه،كان السحر معه أقوى و أشد تأثيرا،بخلاف علم الشرع و الحق،فإن صاحبه كلما كان أبر و أصدق و أدين،كان علمه به و نفوذه فيه أقوى،و باللّه التوفيق (2).).

ص: 96


1- أي الرؤيا.
2- زاد المعاد(789/5).

نزول القرآن الكريم

وقت نزول القرآن

لما كمل لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أربعون،أشرق عليه نور النبوة،و أكرمه اللّه تعالى برسالته، و بعثه إلى خلقه،و اختصه بكرامته و جعله أمينه بينه و بين عباده.و لا خلاف أن مبعثه صلى اللّه عليه و سلم كان يوم الاثنين،و اختلف في شهر المبعث،فقيل:لثمان مضين من ربيع الأول،سنة إحدى و أربعين من عام الفيل،هذا قول الأكثرين.و قيل:بل كان ذلك في رمضان،و احتج هؤلاء بقوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185]،قالوا:أول ما أكرمه اللّه تعالى بنبوته،أنزل عليه القرآن،و على هذا ذهب جماعة،منهم يحيى الصرصري،حيث يقول في نونيته:

و أتت عليه أربعون فأشرقت شمس النبوة منه في رمضان.

و الأولون قالوا:إنما كان إنزال القرآن في رمضان جملة واحدة في ليلة القدر إلى بيت العزة،ثم أنزل منجما بحسب الوقائع في ثلاث و عشرين سنة.

و قالت طائفة:أنزل فيه القرآن،أي في شأنه و تعظيمه،و فرض صومه.و قيل:كان ابتداء المبعث في شهر رمضان (1).

أول ما نزل من القرآن

و أول ما بدئ به رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من أمر النبوة الرؤيا،فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح (1).قيل:و كان ذلك ستة أشهر،و مدة النبوة ثلاث و عشرون سنة،فهذه الرؤيا جزء من ستة و أربعين جزءا من النبوة،و اللّه أعلم.

ثم أكرمه اللّه تعالى بالنبوة،فجاءه الملك،و هو بغار حراء،و كان يحب الخلوة فيه، فأول ما أنزل عليه: اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (2)[العلق].هذا قول عائشة و الجمهور.

ص: 97


1- أخرجه البخاري(3)في بدء الوحي،و مسلم(252/160)في الإيمان،باب:بدء الوحي إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم.
2- زاد المعاد(77/1،78).

و قال جابر:أول ما أنزل عليه: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1).

و الصحيح قول عائشة لوجوه:

أحدها:أن قوله:«ما أنا بقارئ»صريح في أنه لم يقرأ قبل ذلك شيئا.

الثاني:الأمر بالقراءة في الترتيب قبل الأمر بالإنذار،فإنه إذا قرأ في نفسه،أنذر بما قرأه،فأمره بالقراءة أولا،ثم بالإنذار بما قرأه ثانيا.

الثالث:أن حديث جابر،و قوله:أول ما أنزل من القرآن يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)قول جابر، و عائشة أخبرت عن خبره صلى اللّه عليه و سلم عن نفسه بذلك.

الرابع:أن حديث جابر الذي احتج به صريح في أنه قد تقدم نزول الملك عليه أولا قبل نزول يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)،فإنه قال:«فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء،فرجعت إلى أهلي فقلت:زملوني دثروني،فأنزل اللّه: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)،و قد أخبر أن الملك الذي جاءه بحراء أنزل عليه: اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)،فدل حديث جابر على تأخر نزول يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)،و الحجة في روايته،لا في رأيه،و اللّه أعلم (1).

فصل أول ما أوحى إليه ربه تبارك و تعالى:أن يقرأ باسم ربه الذي خلق،و ذلك أول نبوته، فأمره أن يقرأ في نفسه،و لم يأمره إذ ذاك بتبليغ،ثم أنزل عليه يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ(1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2)[المدثر]فنبأه بقوله:(اقرأ)،و أرسله ب(يا أيها المدثر)،ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين (2).

فصل و أقام ثلاث سنين يدعو إلى اللّه-سبحانه-مستخفيا،ثم نزل عليه: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)[الحجر]،فأعلن صلى اللّه عليه و سلم بالدعوة،و جاهر قومه بالعداوة،و اشتد الأذى عليه،و على المسلمين،حتى أذن اللّه لهم بالهجرتين (3).).

ص: 98


1- زاد المعاد(84،85).
2- زاد المعاد(158/1).
3- زاد المعاد(86/1).

مثال لأوقات النزول وقت نزول فرض الحج لما نزل فرض الحج،بادر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إلى الحج من غير تأخير،فإن فرض الحج تأخر إلى سنة تسع أو عشر،و أما قوله تعالى: وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّهِ [البقرة:196]،فإنها و إن نزلت سنة ست عام الحديبية،فليس فيها فرضية الحج،و إنما فيها الأمر بإتمامه،و إتمام العمرة بعد الشروع فيهما،و ذلك لا يقتضي وجوب الابتداء.

فإن قيل:فمن أين لكم تأخير نزول فرضه إلى التاسعة،أو العاشرة؟قيل:لأن صدر سورة آل عمران نزل عام الوفود،و فيه قدم وفد نجران على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم،و صالحهم على أداء الجزية،و الجزية إنما نزلت عام تبوك سنة تسع،و فيها نزل صدر(سورة آل عمران)، و ناظر أهل الكتاب،و دعاهم إلى التوحيد،و المباهلة.و يدل عليه أن أهل مكة وجدوا في نفوسهم على ما فاتهم من التجارة من المشركين لما أنزل اللّه تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا [التوبة:28]،فأعاضهم اللّه تعالى من ذلك بالجزية.

و نزول هذه الآيات و المناداة بها،إنما كان في سنة تسع،و بعث الصديق يؤذن بذلك في مكة في مواسم الحج،و أردفه بعلي رضي اللّه عنه،و هذا الذي ذكرناه قد قاله غير واحد من السلف، و اللّه أعلم (1).

وقت نزول سورة براءة [ثبت]أنه صلى اللّه عليه و سلم لم يأخذ من أحد من الكفار جزية إلا بعد نزول سورة(براءة)في السنة الثامنة من الهجرة،فلما نزلت آية الجزية،أخذها من المجوس،و أخذها من أهل الكتاب، و أخذها من النصارى (2).).

ص: 99


1- زاد المعاد(101/2،102).
2- زاد المعاد(151/3).

أسباب النزول

أمثلة من أسباب النزول

من سورة البقرة

لما نزل التشديد في أكل مال اليتيم،عزلوا طعامهم عن طعام الأيتام و شرابهم من شرابهم،فذكروا ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فأنزل اللّه تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ [البقرة:220]،فخلطوا طعامهم بطعامهم و شرابهم بشرابهم (1).

من سورة آل عمران

و كان مما نزل من القرآن في يوم أحد ستون آية من آل عمران،أولها: وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ [آل عمران:121]إلى آخر القصة (2).

من سورة النساء

في«الصحيحين»عن عائشة رضي اللّه عنها في قوله: وَ إِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً [النساء:128]،أنزلت في المرأة تكون عند الرجل فتطول صحبتها،فيريد طلاقها،فتقول:لا تطلقني و أمسكني،و أنت في حل من النفقة علي و القسم لي،فذلك قوله: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء:128] (3)(4).

من سورة المائدة

قال ابن سعد:و في هذه الغزوة (5)سقط عقد لعائشة،فاحتبسوا على طلبه،فنزلت آية التيمم (6).

ص: 100


1- إعلام الموقعين(495/4،496)و انظر سنن النسائي(3610)و أحمد(2845).
2- زاد المعاد(211/3).
3- البخاري(5206)في النكاح،باب: وَ إِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً [النساء:128]، و مسلم(13/3021)في أول التفسير.
4- زاد المعاد(150/5).
5- أي غزوة المريسيع،و انظر الطبقات لابن سعد(65/2).
6- المائدة:(6)و هو المشهور في سبب نزول الآية و ذكره غير واحد من المحققين.

و ذكر الطبراني في«معجمه»من حديث محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد اللّه بن الزبير،عن أبيه،عن عائشة قالت:و لما كان من أمر عقدي ما كان،قال أهل الإفك ما قالوا،فخرجت مع النبي صلى اللّه عليه و سلم في غزاة أخرى،فسقط أيضا عقدي حتى حبس التماسه الناس،و لقيت من أبي بكر ما شاء اللّه،و قال لي:يا بنية،في كل سفر تكونين عناء و بلاء، و ليس مع الناس ماء،فأنزل اللّه الرخصة في التيمم (1).و هذا يدل على أن قصة العقد التي نزل التيمم لأجلها بعد هذه الغزوة،و هو الظاهر،و لكن فيها كانت قصة الإفك بسبب فقد العقد و التماسه،فالتبس على بعضهم إحدى القصتين بالأخرى،و نحن نشير إلى قصة الإفك.

و ذلك أن عائشة رضي اللّه عنها كانت قد خرج بها رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم معه في هذه الغزوة بقرعة أصابتها،و كانت تلك عادته مع نسائه،فلما رجعوا من الغزوة،نزلوا في بعض المنازل، فخرجت عائشة لحاجتها،ثم رجعت،ففقدت عقدا لأختها كانت أعارتها إياه،فرجعت تلتمسه في الموضع الذي فقدته فيه،فجاء النفر الذين كانوا يرحلون هودجها،فظنوها فيه، فحملوا الهودج،و لا ينكرون خفته،لأنها رضي اللّه عنها كانت فتية السن،لم يغشها اللحم الذي كان يثقلها،و أيضا،فإن النفر لما تساعدوا على حمل الهودج،لم ينكروا خفته،و لو كان الذي حمله واحدا أو اثنين،لم يخف عليهما الحال،فرجعت عائشة إلى منازلهم،و قد أصابت العقد،فإذا ليس بها داع و لا مجيب،فقعدت في المنزل،و ظنت أنهم سيفقدونها،فيرجعون في طلبها،و اللّه غالب على أمره،يدبر الأمر فوق عرشه كما يشاء،فغلبتها عيناها،فنامت، فلم تستيقظ إلا بقول صفوان بن المعطل:إنا للّه و إنا إليه راجعون،زوجة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و كان صفوان قد عرس في أخريات الجيش،لأنه كان كثير النوم-كما جاء عنه في الصحيح «صحيح أبي حاتم»و في«السنن»-فلما رآها عرفها،و كان يراها قبل نزول الحجاب، فاسترجع،و أناخ راحلته،فقربها إليها،فركبتها،و ما كلمها كلمة واحدة،و لم تسمع منه إلا استرجاعه،ثم سار بها يقودها حتى قدم بها،و قد نزل الجيش في نحر الظهيرة،فلما رأى ذلك الناس،تكلم كل منهم بشاكلته و ما يليق به،و وجد الخبيث-عدو اللّه-ابن أبيّ متنفسا،فتنفس من كرب النفاق و الحسد الذي بين ضلوعه،فجعل يستحكي الإفك، و يستوشيه،و يشيعه،و يذيعه،و يجمعه،و يفرقه،و كان أصحابه يتقربون به إليه،فلما قدموا المدينة،أفاض أهل الإفك في الحديث،و رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ساكت لا يتكلم،ثم استشار).

ص: 101


1- الطبراني في الكبير(121/23)(159).

أصحابه في فراقها،فأشار عليه عليّ رضي اللّه عنه أن يفارقها،و يأخذ غيرها تلويحا لا تصريحا، و أشار عليه أسامة و غيره بإمساكها،و ألا يلتفت إلى كلام الأعداء فعليّ لما رأى أن ما قيل مشكوك فيه،أشار بترك الشك و الريبة إلى اليقين لتخلص رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من الهم و الغم الذي لحقه من كلام الناس،فأشار بحسم الداء،و أسامة لما علم حب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لها و لأبيها، و علم من عفتها و براءتها،و حصانتها و ديانتها ما هي فوق ذلك،و أعظم منه،و عرف من كرامة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على ربه و منزلته عنده،و دفاعه عنه،أنه لا يجعل ربة بيته و حبيبته من النساء،و بنت صديقه بالمنزلة التي أنزلها بها أرباب الإفك،و أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أكرم على ربه،و أعز عليه من أن يجعل تحته امرأة بغيا،و علم أن الصديقة حبيبة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أكرم على ربها أن يبتليها بالفاحشة،و هي تحت رسوله،و من قويت معرفته للّه و معرفته لرسوله و قدره عند اللّه في قلبه،قال كما قال أبو أيوب و غيره من سادات الصحابة،لما سمعوا ذلك: سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ [النور:16].

و تأمل ما في تسبيحهم لله،و تنزيههم لهم في هذا المقام من المعرفة به،و تنزيهه عما لا يليق به،أن يجعل لرسوله و خليله و أكرم الخلق عليه امرأة خبيثة بغيا،فمن ظن به سبحانه هذا الظن،فقد ظن به ظن السوء،و عرف أهل المعرفة باللّه و رسوله أن المرأة الخبيثة لا تليق إلا بمثلها،كما قال تعالى: اَلْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ [النور:26]،فقطعوا قطعا لا يشكون فيه أن هذا بهتان عظيم،و فرية ظاهرة.

فإن قيل:فما بال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم توقف في أمرها،و سأل عنها،و بحث،و استشار، و هو أعرف باللّه،و بمنزلته عنده،و بما يليق به،و هلا قال:سبحانك هذا بهتان عظيم،كما قاله فضلاء الصحابة؟

فالجواب أن هذا من تمام الحكم الباهرة التي جعل اللّه هذه القصة سببها لها،و امتحانا و ابتلاء لرسوله صلى اللّه عليه و سلم،و لجميع الأمة إلى يوم القيامة،ليرفع بهذه القصة أقواما،و يضع بها آخرين،و يزيد اللّه الذين اهتدوا هدى و إيمانا،و لا يزيد الظالمين إلا خسارا،و اقتضى تمام الامتحان و الابتلاء أن حبس عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الوحي شهرا في شأنها،لا يوحى إليه في ذلك شيء لتتم حكمته التي قدرها و قضاها،و تظهر على أكمل الوجوه،و يزداد المؤمنون الصادقون إيمانا و ثباتا على العدل و الصدق،و حسن الظن باللّه و رسوله،و أهل بيته، و الصديقين من عباده،و يزداد المنافقون إفكا و نفاقا،و يظهر لرسوله و للمؤمنين سرائرهم، و لتتم العبودية المرادة من الصديقة و أبويها،و تتم نعمة اللّه عليهم،و لتشتد الفاقة و الرغبة منها

ص: 102

و من أبويها،و الافتقار إلى اللّه و الذلّ له،و حسن الظن به،و الرجاء له،و لينقطع رجاؤها من المخلوقين،و تيأس من حصول النصرة و الفرج على يد أحد من الخلق،و لهذا وفت هذا المقام حقه،لما قال لها أبوها:قومي إليه،و قد أنزل اللّه عليه براءتها،فقالت:و اللّه لا أقوم إليه،و لا أحمد إلا اللّه،هو الذي أنزل براءتي.

أيضا:فكان من حكمة حبس الوحي شهرا،أن القضية محصت و تمحضت،و استشرفت قلوب المؤمنين أعظم استشراف إلى ما يوحيه اللّه إلى رسوله فيها،و تطلعت إلى ذلك غاية التطلع،فوافى الوحي أحوج ما كان إليه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم،و أهل بيته،و الصديق و أهله، و أصحابه و المؤمنون،فورد عليهم ورود الغيث على الأرض أحوج ما كانت إليه،فوقع منهم أعظم موقع و ألطفه،و سروا به أتم السرور،و حصل لهم به غاية الهناء،فلو أطلع اللّه رسوله على حقيقة الحال من أول وهلة،و أنزل الوحي على الفور بذلك،لفاتت هذه الحكم و أضعافها بل أضعاف أضعافها.

و أيضا:فإن اللّه-سبحانه-أحب أن يظهر منزلة رسوله و أهل بيته عنده،و كرامتهم عليه،و أن يخرج رسوله عن هذه القضية،و يتولى هو بنفسه الدفاع و المنافحة عنه،و الرد على أعدائه،و ذمهم و عيبهم بأمر لا يكون فيه عمل،و لا ينسب إليه،بل يكون هو وحده المتولي لذلك،الثائر لرسوله و أهل بيته.

و أيضا،فإن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كان هو المقصود بالأذى،و التي رميت زوجته،فلم يكن يليق به أن يشهد ببراءتها مع علمه،أو ظنه الظن المقارب للعلم ببراءتها،و لم يظن بها سوءا قط،و حاشاه،و حاشاها،و لذلك لما استعذر من أهل الإفك،قال:«من يعذرني في رجل بلغني أذاه في أهلي،و اللّه ما علمت على أهلي إلا خيرا،و لقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا،و ما كان يدخل على أهلي إلا معي» (1)،فكان عنده من القرائن التي تشهد ببراءة الصديقة أكثر مما عند المؤمنين،و لكن لكمال صبره و ثباته،و رفقه،و حسن ظنه بربه،و ثقته به،و في مقام الصبر و الثبات،و حسن الظن باللّه حقه،حتى جاءه الوحي بما أقر عينه،و سرّ قلبه،و عظم قدره،و ظهر لأمته احتفال ربه به،و اعتناؤه بشأنه.

و لما جاء الوحي ببراءتها،أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بمن صرح بالإفك،فحدوا ثمانين ثمانينف.

ص: 103


1- البخاري(4141)في المغازي،باب:حديث الإفك،و مسلم(56/2770)في التوبة،باب:في حديث الإفك و قبول توبة القاذف.

و لم يحد الخبيث عبد اللّه بن أبيّ،مع أنه رأس أهل الإفك،فقيل:لأن الحدود تخفيف عن أهلها و كفارة،و الخبيث ليس أهلا لذلك،و قد وعده اللّه بالعذاب العظيم في الآخرة،فيكفيه ذلك عن الحد،و قيل:بل كان يستوشي الحديث و يجمعه و يحيكه،و يخرجه في قالب من لا ينسب إليه،و قيل:الحد لا يثبت إلا بالإقرار،أو بالبينة،و هو لم يقر بالقذف،و لا شهد به عليه أحد،فإنه إنما كان يذكره بين أصحابه،و لم يشهدوا عليه،و لم يكن يذكره بين المؤمنين (1).

قد ثبت في صحيح مسلم:أن النبي صلى اللّه عليه و سلم بعث أناسا لطلب قلادة أضلتها عائشة، فحضرت الصلاة،فصلوا بغير وضوء،فأتوا النبي صلى اللّه عليه و سلم فذكروا ذلك له،فنزلت آية التيمم (2)(3).

من سورة المائدة

و عن طرق ابن شهاب قال:جاء يهودي إلى عمر بن الخطاب فقال:يا أمير المؤمنين،آية تقرءونها في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت و نعلم ذلك اليوم الذي نزلت فيه،لاتخذناه عيدا.قال:أي آية؟قال: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [المائدة:3].فقال عمر بن الخطاب:إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه،و المكان الذي نزلت فيه،نزلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بعرفة يوم الجمعة،و نحن واقفون معه بعرفة (4)(5).

من سورة الأنعام

لما علم بعض علماء أهل الكتاب أن الإيمان بموسى لا يتم مع التكذيب بمحمد أبدا، كفر بالجميع،و قال:ما أنزل اللّه على بشر من شيء،كما قال تعالى: وَ ما قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَ هُدىً لِلنّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَ تُخْفُونَ كَثِيراً وَ عُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَ لا آباؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)[الأنعام]،قال سعيد بن جبير:جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف

ص: 104


1- زاد المعاد(258/3).
2- مسلم(109/367)في الحيض،باب:التيمم.
3- تهذيب السنن(48/1)
4- رواه البخاري(43)في الإيمان،و مسلم(5332)في التفسير.
5- زاد المعاد(62/1).

يخاصم النبي صلى اللّه عليه و سلم،فقال له النبي صلى اللّه عليه و سلم:«أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى،أما تجد في التوراة أن اللّه يبغض الحبر السمين؟» (1)و كان حبرا سمينا،فغضب عدو اللّه و قال:و اللّه ما أنزل اللّه على بشر من شيء.فقال له أصحابه الذين معه:ويحك و لا موسى؟فقال:و اللّه ما أنزل اللّه على بشر من شيء.فأنزل اللّه عز و جل: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ الآية[النساء:153] (2).

و جاء رجل من اليهود فقال:ما أنزل اللّه عليك و لا على موسى و لا على عيسى و لا على أحد شيئا،ما أنزل على بشر من شيء،فحل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حبوته،و جعل يقول:«و لا على أحد» (3).

و ذهب جماعة-منهم مجاهد-إلى أن الآية نزلت في مشركي قريش،فهم الذين جحدوا أصل الرسالة،و كذبوا بالرسل،و أما أهل الكتاب فلم يجحدوا نبوة موسى و عيسى.

و هذا اختيار ابن جرير،قال:و هو أولى الأقاويل بالصواب،لأن ذلك في سياق الخبر عنهم،فهو أشبه من أن يكون خبرا عن اليهود،و لم يجر لهم ذكر يكون هذا به متصلا،مع ما في الخبر عن من أخبر اللّه عنه من هذه الآية من إنكاره أن يكون اللّه أنزل على بشر شيئا من الكتب،و ليس ذلك مما تدين به اليهود،بل المعروف من دين اليهود الإقرار بصحف إبراهيم،و موسى،و زبور داود،و الخبر من أول السورة إلى هذا الموضع خبر عن المشركين من عبدة الأوثان،و قوله: وَ ما قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ موصول به غير مفصول عنه،قلت:

و يقوي قوله أن السورة مكية،فهي خبر عن زنادقة العرب المنكرين لأصل النبوة (4).

من سورة إبراهيم

قال تعالى: يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ وَ يُضِلُّ اللّهُ الظّالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اللّهُ ما يَشاءُ (27)[إبراهيم]قد ثبت في الصحيح أنها نزلت في عذاب القبر حين يسأله:«من ربك و ما دينك و من نبيك؟» (5).

و في الصحيح عن أنس بن مالك عن النبي صلى اللّه عليه و سلم أنه قال:«إن العبد إذا وضع في قبره

ص: 105


1- ابن جرير(177/7)،و الدر المنثور(29/3).
2- تفسير ابن جرير(6/6)،و الدر المنثور(238/2).
3- ابن جرير(177/7).
4- هداية الحيارى(276،277).
5- البخاري(1280)في الجنائز،باب:ما جاء في عذاب القبر،و مسلم(5117)في الجنة و صفة نعيم أهلها،باب:عرض مقعد الميت من الجنة أو النار.

و تولى عنه أصحابه،إنه ليسمع قرع نعالهم» (1)،و ذكر الحديث.زاد البخاري:«و أما المنافق و الكافر فيقال له:ما كنت تقول في هذا الرجل؟فيقول:لا أدري،كنت أقول ما يقول الناس.فيقال:لا دريت و لا تليت،و يضرب بمطرقة من حديد يصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين».هكذا في البخاري:«و أما المنافق و الكافر»بالواو.و قد تقدم في حديث أبي سعيد الخدري الذي رواه ابن ماجة و الإمام أحمد:كنا في جنازة مع النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال:«يا أيها الناس،إن هذه الأمة تبتلى في قبورها،فإذا الإنسان دفن و تولى عنه أصحابه جاء ملك و في يده مطراق فأقعده فقال:ما تقول في هذا الرجل؟فإن كان مؤمنا قال:أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له و أشهد أن محمدا عبده و رسوله.فيقول له:صدقت،فيفتح له باب إلى النار،فيقول:هذا منزلك لو كفرت بربك،و أما الكافر و المنافق فيقول له:ما تقول في هذا الرجل؟فيقول لا أدري،فيقال:لا دريت و لا اهتديت،ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقول له:هذا منزلك لو آمنت بربك،فأما إذ كفرت فإن اللّه أبدلك به هذا،ثم يفتح له باب إلى النار ثم يقمعه الملك بالمطراق قمعة يسمعه خلق اللّه إلا الثقلين».فقال بعض الصحابة:

يا رسول اللّه،ما أحد يقوم على رأسه ملك إلا هيل عند ذلك.فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ وَ يُضِلُّ اللّهُ الظّالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اللّهُ ما يَشاءُ (27)[إبراهيم] (2).

و في حديث البراء بن عازب الطويل:«و أما الكافر إذا كان في قبل من الآخرة و انقطاع من الدنيا نزل عليه الملائكة من السماء معهم مسوح»،و ذكر الحديث إلى أن قال:«ثم تعاد روحه في جسده في قبره»،و ذكر الحديث،و في لفظ:«فإذا كان كافرا جاءه ملك الموت فجلس عند رأسه».فذكر الحديث إلى قوله:«ما هذه الروح الخبيثة؟فيقولون:فلان:بأسوإ أسمائه،فإذا انتهى به إلى سماء الدنيا أغلقت دونه،قال:يرمى به من السماء،ثم قرأ قوله تعالى: وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ [الحج].قال:«فتعاد روحه في جسده و يأتيه ملكان شديدا الانتهار،فيجلسانه و ينتهرانه، فيقولان:من ربك؟فيقول:هاه،لا أدري.فيقولان:لا دريت،فيقولان:ما هذا النبي الذي بعث فيكم؟فيقول:سمعت الناس يقولون ذلك،لا أدري.فيقولان له:لا دريت».

ص: 106


1- البخاري(1252)في الجنائز،و مسلم(5112)في الجنة و صفة نعيم أهلها.
2- رواه الإمام أحمد(3367)،و قال الهيثمي في المجمع(50/3):«رجاله رجال الصحيح».

و ذلك قوله تعالى: وَ يُضِلُّ اللّهُ الظّالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اللّهُ ما يَشاءُ [إبراهيم]و ذكر الحديث (1)(2).

من سورة الأحزاب

و قد ثبت في«صحيح مسلم»:عن عائشة رضي اللّه عنها قالت:جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبي صلى اللّه عليه و سلم،فقالت:يا رسول اللّه،إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم و هو حليفه،فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم:«أرضعيه تحرمي عليه» (3).

و في رواية له عنها قالت:جاءت سهلة بنت سهيل إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم،فقالت:يا رسول اللّه،إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم و هو حليفة،فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم:«أرضعيه»، فقالت:و كيف أرضعه و هو رجل كبير؟فتبسم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم،و قال:«قد علمت أنه كبير» (4).

و في لفظ لمسلم:أن أم سلمة رضي اللّه عنها قالت لعائشة رضي اللّه عنها:إنه يدخل عليك الغلام الأيفع الذي ما أحب أن يدخل علي،فقالت عائشة رضي اللّه عنها:أما لك في رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أسوة؟إن امرأة أبي حذيفة قالت:يا رسول اللّه،إن سالما يدخل علي و هو رجل،و في نفس أبي حذيفة منه شيء،فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:«أرضعيه حتى يدخل عليك» (5).

و ساقه أبو داود في سننه (6)سياقة تامة مطولة،فرواه من حديث الزهري،عن عروة،عن عائشة و أم سلمة رضي اللّه عنهما أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس كان تبنى سالما،و أنكحه ابنة أخيه هندا بنت الوليد بن عتبة،و هو مولى لامرأة من الأنصار،كما تبنى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم زيدا،و كان تبنى رجلا في الجاهلية دعاه الناس إليه،و ورث ميراثه،حتى أنزل اللّه تعالى مع ذلك: اُدْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَ مَوالِيكُمْ [الأحزاب:5]،فردوا إلى آبائهم فمن لم يعلم له أب كان مولى و أخا في الدين،فجاءت سهلة بنت سهيل بن عمرو القرشي،ثم العامري-و هي امرأة أبي حذيفة-فقالت:يا رسول اللّه:

إنا كنا نرى سالما ولدا،و كان يأوي معي و مع أبي حذيفة في بيت واحد،و يراني فضلا،

ص: 107


1- رواه أحمد(287/4)،و قال الهيثمي في المجمع(53/3):«رجاله رجال الصحيح»و راجع أحكام الجنائز للألباني(156).
2- الروح(84،85).
3- مسلم(26/1453-29)في الرضاع،باب:رضاعة الكبير.
4- السابق.
5- مسلم(29/1453)في الرضاع،باب:رضاعة الكبير.
6- أبو داود(2061)في النكاح،باب:فيمن حرم به.

و قد أنزل اللّه تعالى فيهم ما قد علمت،فكيف ترى فيه؟فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:«أرضعيه» فأرضعته خمس رضعات،فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة،فبذلك كانت عائشة رضي اللّه عنها تأمر بنات إخوتها،و بنات أخواتها أن يرضعن من أحبت عائشة رضي اللّه عنها أن يراها و يدخل عليها،و إن كان كبيرا،خمس رضعات،ثم يدخل عليها،و أبت ذلك أم سلمة و سائر أزواج النبي صلى اللّه عليه و سلم أن يدخلن عليهن أحدا بتلك الرضاعة من الناس حتى يرضع في المهد،و قلن لعائشة:و اللّه ما ندري لعلها كانت رخصة من النبي صلى اللّه عليه و سلم لسالم دون الناس (1).

المعوذتين

قال ابن عباس و عائشة:كان غلام من اليهود يخدم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فدنا إليه اليهود،فلم يزالوا حتى أخذ مشاطة رأس النبي صلى اللّه عليه و سلم و عدة أسنان من مشطه فأعطاها اليهود،فسحروه فيها،و تولى ذلك لبيد بن الأعصم-رجل من اليهود-فنزلت هاتان السورتان فيه (2).

قال البغوي:و قيل كانت مغروزة بالدبر،فأنزل اللّه عز و جل هاتين السورتين،و هما أحد عشر آية:سورة الفلق خمس آيات و سورة الناس ست آيات،فكلما قرأ آية انحلت عقدة،حتى انحلت العقد كلها،فقام النبي صلى اللّه عليه و سلم كأنما أنشط من عقال.قال:و روي أنه لبث فيه ستة أشهر و اشتد عليه ثلاثة أيام،فنزلت المعوذتان (3).

ما نزل من القرآن بموافقة عمر رضي اللّه عنه قد كان أحدهم (4)يرى الرأي،فينزل القرآن بموافقته،كما رأى عمر في أسرى بدر أن تضرب أعناقهم،فنزل القرآن بموافقته،و رأى أن تحجب نساء النبي صلى اللّه عليه و سلم فنزل القرآن بموافقته،و رأى أن يتخذ من مقام إبراهيم مصلى،فنزل القرآن بموافقته،و قال لنساء النبي صلى اللّه عليه و سلم لما اجتمعن في الغيرة عليه: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ [التحريم:5]،فنزل القرآن بموافقته،و لما توفي عبد اللّه بن أبيّ قام رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ليصلي عليه،فقام عمر،فأخذ بثوبه،فقال:يا رسول اللّه،إنه منافق.فصلى عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم،

ص: 108


1- مسلم(29/1453)في الرضاع،باب:رضاعة الكبير.
2- ذكره ابن كثير مطولا في تفسيره عن الثعلبي،و قال ابن كثير:هكذا أورده بلا إسناد،و فيه غرابة،و في بعض نكارة شديدة...تفسير ابن كثير(538/8)لكن قصة سحره صلى اللّه عليه و سلم ثابتة صحيحة،في البخاري و غيره،كما سيأتي.
3- بدائع الفوائد(224/2).
4- أي الصحابة رضي اللّه عنهم.

فأنزل اللّه عليه: وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ [التوبة:84] (1)(2).

و كذلك:من فراسته التي تفرد بها عن الأمة أنه قال:يا رسول اللّه،لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى؟فنزلت: وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]

و قال:يا رسول اللّه لو أمرت نساءك أن يحتجبن؟فنزلت آية الحجاب.

و اجتمع على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم نساؤه في الغيرة،فقال لهن عمر: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ [التحريم:5]فنزلت كذلك.

و شاوره رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم،في أسارى يوم بدر،فأشار بقتلهم،و نزل القرآن بموافقته (3).).

ص: 109


1- البخاري(1366)في الجنائز،باب:ما يكره من الصلاة على المنافقين،و الترمذي(3097)في تفسير القرآن،باب:و من سورة التوبة،و النسائي(1966)في الجنائز،باب:الصلاة على المنافقين.
2- إعلام الموقعين(120/1).
3- الطرق الحكمية(33).

المكي و المدني

مثال المكي

عن ابن عباس قال:جاءت اليهود إلى النبي صلى اللّه عليه و سلم،فقالوا:نأكل مما قتل اللّه؟ فأنزل اللّه: وَ لا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إلى آخر الآية[الأنعام:121]

هذا الحديث له علل:

إحداهما:أن عطاء بن السائب اضطرب فيه،فمرة وصله،و مرة أرسله.

الثانية:أن عطاء بن السائب اختلط في آخر عمره،و اختلف في الاحتجاج بحديثه، و إنما أخرج له البخاري مقرونا بأبي بشر.

الثالثة:أن فيه عمران بن عيينة،أخو سفيان بن عيينة،قال أبو حاتم الرازي:لا يحتج بحديثه فإنه يأتي بالمناكير.

الرابعة:أن سورة الأنعام مكية باتفاق،و مجيء اليهود إلى صلى اللّه عليه و سلم و مجادلتهم إياه إنما كان بعد قدومه المدينة،و أما مكة فإنما كان جداله مع المشركين عباد الأصنام (1).

و منها:قوله تعالى: إِنّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَ نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَ آثارَهُمْ وَ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12)[يس].

قال أنس و ابن عباس في رواية عكرمة:نزلت في بني سلمة،أرادوا أن ينتقلوا إلى اقرب المسجد،و كانت منازلهم بعيدة فلما نزلت قالوا:بل نمكث مكاننا.

و احتج أرباب هذا القول بما في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري،قال:

كانت بنو سلمة في ناحية المدينة فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد فنزلت هذه الآية إِنّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَ نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَ آثارَهُمْ [يس:12].

فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:«يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم» (2)و قد روى مسلم في

ص: 110


1- تهذيب السنن(113/4).
2- صحيح الترمذي(3456)في تفسير القرآن،باب:و من سورة يس،و قال:«حسن غريب»،و ابن ماجة (785).

صحيحه نحوه من حديث جابر و أنس (1).

و في هذا القول نظر،فإن سورة يس مكية،و قصة بني سلمة بالمدينة،إلا أن يقال:هذه الآية وحدها مدنية (2)،و أحسن من هذا أن تكون ذكرت عند هذه القصة و دلت عليها و ذكروا بها عندها،إما من النبي صلى اللّه عليه و سلم و إما من جبريل فأطلق على ذلك النزول.

و لعل هذا مراد من قال في نظائر ذلك:نزلت مرتين.و المقصود أن خطاهم إلى المسجد من آثارهم التي يكتبها اللّه لهم.قال عمر بن الخطاب:لو كان اللّه سبحانه تاركا لابن آدم شيئا لترك ما عفت عليه الرياح من أثر.و قال مسروق:ما خطا رجل خطوة إلا كتبت له حسنة أو سيئة (3).

و كذلك و أما قوله:إنه صلى اللّه عليه و سلم كتب إلى نجران:باسم إله إبراهيم و إسحاق و يعقوب فلا أظن ذلك محفوظا،و قد كتب إلى هرقل«بسم اللّه الرحمن الرحيم»،و هذه كانت سنته في كتبه إلى الملوك،و قد وقع في هذه الرواية هذا،و قال ذلك قبل أن ينزل عليه: طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَ كِتابٍ مُبِينٍ (1)[النمل].و ذلك غلط على غلط،فإن هذه السورة مكية باتفاق (4).

فصل

مثال المدني

فلما استقر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بالمدينة،و أيده اللّه بنصره بعباده المؤمنين الأنصار،و ألف بين قلوبهم بعد العداوة و الإحن التي كانت بينهم،فمنعته أنصار اللّه و كتيبة الإسلام من الأسود و الأحمر،و بذلوا نفوسهم دونه،و قدموا محبته على محبة الآباء و الأبناء و الأزواج،و كان أولى بهم من أنفسهم،رمتهم العرب و اليهود عن قوس واحدة.و شمروا لهم عن ساق العداوة و المحاربة،و صاحوا بهم من كل جانب،و اللّه سبحانه يأمرهم بالصبر و العفو و الصفح حتى قويت الشوكة،و اشتد الجناح،فأذن لهم حينئذ في القتال،و لم يفرضه عليهم، فقال تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اللّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)[الحج].

ص: 111


1- مسلم(280/665)في المساجد و مواضع الصلاة،باب:فضل كثرة الخطا إلى المساجد.
2- قال القرطبي:«هي مكية بإجماع،إلا أن فرقة قالت:إن قول اللّه تعالى: وَ نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَ آثارَهُمْ مدنية،(5445/6)و انظر بدائع التفسير(467/3).
3- شفاء العليل(117/116/1).
4- زاد المعاد(642/3).

و قد قالت طائفة:إن هذا الإذن كان بمكة،و السورة مكية (1).

و هذا غلط لوجوه:أحدها:أن اللّه لم يأذن بمكة لهم في القتال،و لا كان لهم شوكة يتمكنون بها من القتال بمكة.

الثاني:أن سياق الآية يدل على أن الإذن بعد الهجرة،و إخراجهم من ديارهم،فإنه قال: اَلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللّهُ [الحج:40]،و هؤلاء هم المهاجرون.

الثالث:قوله تعالى: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [الحج:19].نزلت في الذين تبارزوا يوم بدر من الفريقين.

الرابع:أنه قد خاطبهم في آخرها بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ،و الخطاب بذلك كله مدني،فأما الخطاب: يا أَيُّهَا النّاسُ فمشترك.

الخامس:أنه أمر فيها بالجهاد الذي يعم الجهاد باليد،و غيره.و لا ريب أن الأمر بالجهاد المطلق إنما كان بعد الهجرة،فأما جهاد الحجة،فأمر به في مكة بقوله: فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ جاهِدْهُمْ بِهِ أي:بالقرآن جِهاداً كَبِيراً [الفرقان:52]،فهذه سورة مكية،و الجهاد فيها هو التبليغ،و جهاد الحجة،و أما الجهاد المأمور به في سورة الحج فيدخل فيه الجهاد بالسيف.

السادس:أن الحاكم روى في«مستدركه» (2)من حديث الأعمش،عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير،عن ابن عباس قال:لما خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من مكة،قال أبو بكر:

أخرجوا نبيهم،إنا للّه و إنا إليه راجعون،ليهلكن،فأنزل اللّه عز و جل: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الحج:39]،و هي أول آية نزلت في القتال.و إسناده على شرط«الصحيحين»، و سياق السورة يدل على أن فيها المكي و المدني،فإن قصة إلقاء الشيطان في أمنية الرسول مكية،و اللّه أعلم (3).).

ص: 112


1- قال القرطبي رحمه اللّه تعالى:«و هى مكية سوى ثلاث آيات:من قوله تعالى: هذانِ خَصْمانِ إلى تمام ثلاث آيات[الحج 19-21]،قاله ابن عباس و مجاهد.و عن ابن عباس أيضا أنهن أربع آيات،إلى قوله تعالى: عَذابَ الْحَرِيقِ [الحج 24].و قال ابن عباس و الضحاك أيضا هى مدنية-و قاله قتادة أيضا -إلا أربع آيات: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إلى قوله: عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ فهن مكيات.و عد النقاش ما نزل بالمدينة عشر آيات و قال الجمهور السورة مختلطة،منها مكي و منها مدني و هذا هو الأرجح؛لأن الآيات تقتضي ذلك،لأن يا أَيُّهَا النّاسُ مكية،و يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مدنية.أ.ه.تفسير القرطبي(4393/5).انظر كتابي:بدائع التفسير(211/3).
2- الحاكم في المستدرك(7/3)،و قال:«صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه».
3- زاد المعاد(70/1،71).

جمع القرآن الكريم

كتّاب الوحي

اشارة

كتاب الوحي للنبي صلى اللّه عليه و سلم:أبو بكر،و عمر،و عثمان،و علي،و الزبير،و عامر بن فهيرة، و عمرو بن العاص،و أبيّ بن كعب،و عبد اللّه بن الأرقم،و ثابت بن قيس بن شماس، و حنظلة بن الربيع الأسيدي،و المغيرة بن شعبة،و عبد اللّه بن رواحة،و خالد بن الوليد، و خالد بن سعيد بن العاص،و قيل:إنه أول من كتب له،و معاوية بن أبي سفيان،و زيد بن ثابت،و كان ألزمهم لهذا الشأن،و أخصهم به (1).

جمع عثمان رضي اللّه عنه الناس على مصحف واحد

اشارة

جمع عثمان رضي اللّه عنه الناس على حرف واحد من الأحرف السبعة التي أطلق لها رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم القراءة بها لما كان ذلك مصلحة،فلما خاف الصحابة رضي اللّه عنهم على الأمة أن يختلفوا في القرآن و رأوا أن جمعهم على حرف واحد أسلم و أبعد من وقوع الاختلاف،فعلوا ذلك، و منعوا الناس من القراءة بغيره (2).

فائدة جمع عثمان رضي اللّه عنه الأمة على حرف واحد من الأحرف السبعة،لئلا يكون اختلافهم فيها ذريعة إلى اختلافهم في القرآن،و وافقه على ذلك الصحابة رضي اللّه عنهم (3).

تحريق عثمان رضي اللّه عنه المصاحف

و جمع الناس على مصحف واحد من أهم السياسات الشرعية

قال ابن عقيل في«الفنون»:جرى في جواز العمل في السلطنة بالسياسة الشرعية:أنه هو الحزم،و لا يخلو من القول به إمام.

ص: 113


1- زاد المعاد(117/1).
2- الطرق الحكمية(21).
3- إغاثة اللهفان(368/1).

فقال الشافعي:لا سياسة إلا ما وافق الشرع.

فقال ابن عقيل:السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح،و أبعد عن الفساد،و إن لم يضعه الرسول صلى اللّه عليه و سلم و لا نزل به وحي.

فإن أردت بقولك:«إلا ما وافق الشرع»أي:لم يخالف ما نطق به الشرع،فصحيح.

و إن أردت:لا سياسة إلا ما نطق به الشرع،فغلط و تغليط للصحابة.

فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل و التمثيل ما لا يجحده عالم بالسنن.

و لو لم يكن إلا تحريق عثمان المصاحف،فإنه كان رأيا اعتمدوا فيه على مصلحة الأمة (1).).

ص: 114


1- الطرق الحكمية(14،15).

القراءات

القراءة بالأحرف السبعة و غيرها

لا يجب على الإنسان التقيد بقراءة السبعة المشهورين باتفاق،بل إذا وافقت القراءة رسم المصحف الإمام،و صحت في العربية،و صح سندها،جازت القراءة بها و صحت الصلاة بها اتفاقا،بل لو قرأ بقراءة تخرج عن مصحف عثمان و قد قرأ بها رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و الصحابة بعده جازت القراءة بها و لم تبطل بها،على أصح الأقوال (1).

الجمع بين القراءات

و كذلك (2):أن صاحبها ينبغي أن يستحب للمصلي و التالي أن يجمع بين القراءات المتنوعة في التلاوة في الصلاة و خارجها،قالوا:و معلوم أن المسلمين متفقون على أنه لا يستحب ذلك للقارئ في الصلاة و لا خارجها إذا قرأ قراءة عبادة و تدبر،و إنما يفعل ذلك القراء أحيانا ليمتحن بذلك حفظ القارئ لأنواع القراءات،و إحاطته بها و استحضاره إياها، و التمكن من استحضارها عند طلبها،فذلك تمرين و تدريب لا تعبد مستحب لكل تال و قارئ،و مع هذا ففي ذلك للناس كلام ليس هذا موضعه،بل المشروع في حق التالي أن يقرأ بأي حرف شاء،و إن شاء أن يقرأ بهذا مرة و بهذا مرة جاز ذلك،و كذلك الداعي إذا قال:«ظلمت نفسي ظلما كثيرا»مرة،و مرة قال«كبيرا»جاز ذلك.و كذلك الداعي إذا صلى على النبي صلى اللّه عليه و سلم مرة بلفظ هذا الحديث،و مرة بلفظ الآخر،و كذلك إذا تشهد،فإن شاء تشهد بتشهد ابن مسعود،و إن شاء بتشهد ابن عباس،و إن شاء بتشهد ابن عمر،و إن شاء بتشهد عائشة رضي اللّه عنهم أجمعين.و كذلك في الاستفتاح إن شاء استفتح بحديث علي،و إن شاء بحديث أبي هريرة،و إن شاء باستفتاح عمر،و إن شاء فعل هذا مرة و هذا مرة و هذا مرة،و كذلك إذا رفع رأسه من الركوع إن شاء قال:«اللهم ربنا لك الحمد»،و إن شاء قال:«ربنا لك الحمد»،و إن شاء قال«ربنا و لك الحمد».و لا يستحب لأحد أن يجمع بين ذلك كله.

ص: 115


1- إعلام الموقعين(327/4).
2- في الرد على بعض المتأخرين من القائلين باستحباب الجمع بين القراءات.

و قد احتج غير واحد من الأئمة،منهم الشافعي-رحمه اللّه تعالى-على جواز الأنواع المأثورة في التشهدات و نحوها بالحديث الذي رواه أصحاب الصحيح و السنن و غيرهم عن النبي صلى اللّه عليه و سلم أنه قال:«أنزل القرآن على سبعة أحرف» (1).فجوز النبي صلى اللّه عليه و سلم القراءة بكل حرف من تلك الأحرف،و أخبر أنه شاف كاف،و معلوم أن المشروع في ذلك أن يقرأ بتلك الأحرف على سبيل البدل لا على سبيل الجمع،كما كان الصحابة يفعلون (2).

النهي عن التنطع و الغلو في النطق بالحرف

قال محمد بن قتيبة في«مشكل القرآن»:«و قد كان الناس يقرءون القرآن بلغاتهم،ثم خلف من بعدهم قوم من أهل الأمصار و أبناء العجم ليس لهم طبع اللغة،و لا علم التكلف، فهفوا في كثير من الحروف.و زلّوا فأخلوا،و منهم رجل ستر اللّه عليه عند العوام بالصلاح، و قربه من القلوب بالدين.فلم أر فيمن تتبعت في وجوه قراءته أكثر تخليطا و لا أشد اضطرابا منه،لأنه يستعمل في الحرف ما يدعه في نظيره.ثم يؤصل أصلا و يخالف إلى غيره بغير علة،و يختار في كثير من الحروف ما لا مخرج له إلا على طلب الحيلة الضعيفة،هذا إلى نبذه في قراءته مذاهب العرب و أهل الحجاز،بإفراطه في المد و الهمز و الإشباع،و إفحاشه في الإضجاع و الإدغام،و حمله المتعلمين على المذهب الصعب،و تعسيره على الأمة ما يسره اللّه تعالى،و تضييقه ما فسحه.

و من العجب أنه يقرئ الناس بهذه المذاهب،و يكره الصلاة بها.ففي أي موضع يستعمل هذه القراءة،إن كانت الصلاة لا تجوز بها؟و كان ابن عيينة يرى لمن قرأ في صلاته بحرفه،أو ائتمّ بإمام يقرأ بقراءته أن يعيد،و وافقه على ذلك كثير من خيار المسلمين،منهم بشر بن الحارث،و الإمام أحمد بن حنبل،و قد شغف بقراءته عوام الناس و سوقتهم.و ليس ذلك إلا لما يرونه من مشقتها و صعوبتها،و طول اختلاف المتعلم إلى المقرئ فيها.فإذا رأوه قد اختلف في أم الكتاب عشرا،و في مائة آية شهرا،و في السبع الطوال حولا،و رأوه عند قراءته مائل الشدقين،دار الوريدين،راشح الجبين،توهموا أن ذلك لفضله في القراءة و حذقه بها» (3).

ص: 116


1- البخاري(4992)في فضائل القرآن،باب:أنزل القرآن على سبعة أحرف،و مسلم(270/818)في المسافرين،باب:بيان أن القرآن على سبعة أحرف،و بيان معناه.
2- جلاء الأفهام(190-191).
3- تأويل مشكل القرآن(59-60)و أشار محققه إلى أنه يقصد حمزة بن حبيب الزيات،و قد قال الذهبي: الإمام القدوة شيخ القراءة،قال الثوري:ما قرأ حمزة حرفا إلا بأثر،السير(91/7).

و ليس هكذا كانت قراءة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم،و لا خيار السلف و لا التابعين،و لا القراء العالمين،بل كانت سهلة رسلة.

و قال الخلال في«الجامع»عن أبي عبد اللّه،أنه قال:لا أحب قراءة فلان،يعني هذا الذي أشار إليه ابن قتيبة،و كرهها كراهية شديدة،و جعل يعجب من قراءته،و قال:لا يعجبني،فإن كان رجل يقبل منك فانهه.

و حكي عن ابن المبارك،عن الربيع بن أنس،أنه نهاه عنها.

و قال الفضل بن زياد:إن رجلا قال لأبي عبد اللّه:فما أترك من قراءته؟قال:الإدغام و الكسر،ليس يعرف في لغة من لغات العرب.

و سأله عبد اللّه-ابنه-عنها،فقال:أكره الكسر الشديد و الإضجاع.

و قال في موضع آخر:إن لم يدغم و لم يضجع ذلك الإضجاع فلا بأس به.

و سأله الحسن بن محمد بن الحارث:أ تكره أن يتعلم الرجل تلك القراءة؟قال:أكرهه أشد كراهة،إنما هي قراءة محدثة،و كرهها شديدا حتى غضب.

و روى عنه ابن سنيد أنه سئل عنها،فقال:أكرهها أشد الكراهة.قيل له:ما تكره منها؟ قال:هي قراءة محدثة،ما قرأ بها أحد.

و روى جعفر بن محمد عنه أنه سئل عنها فكرهها،و قال:كرهها ابن إدريس و أراه قال:

و عبد الرحمن بن مهدي.و قال:ما أدري إيش هذه القراءة؟ثم قال:و قراءتهم ليست تشبه كلام العرب.

و قال عبد الرحمن بن مهدي:لو صليت خلف من يقرأ بها لأعدت الصلاة.

و نص أحمد-رحمه اللّه-على أنه يعيد،و عنه رواية أخرى:أنه لا يعيد.

و المقصود:أن الأئمة كرهوا التنطع و الغلو في النطق بالحرف.

و من تأمل هدي رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه و آله و سلم،و إقراره أهل كل لسان على قراءتهم تبين له أن التنطع و التشدق و الوسوسة في إخراج الحروف ليس من سنته (1).

مثال للقراءات

قال اللّه تعالى: قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَ لكِنْ مَتَّعْتَهُمْ

ص: 117


1- إغاثة اللهفان(160/1-162).

وَ آباءَهُمْ حَتّى نَسُوا الذِّكْرَ وَ كانُوا قَوْماً بُوراً (18)[الفرقان].

و فيها قراءتان:أشهرهما:(نتّخذ)بفتح النون و كسر الخاء،على البناء للفاعل،و هي قراءة السبعة.

و الثانية:(نتّخذ)بضم النون و فتح الخاء،على البناء للمفعول و هي قراءة الحسن و يزيد بن القعقاع.

و على كل واحدة من القراءتين إشكال (1):

فأما قراءة الجمهور،فإن اللّه-سبحانه-إنما سألهم:هل أضلوا المشركين بأمرهم إياهم بعبادتهم،أم هم ضلوا السبيل باختيارهم و أهوائهم؟و كيف يكون هذا الجواب مطابقا للسؤال؟فإنه لم يسألهم:هل اتخذتم من دوني أولياء،حتى يقولوا: ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ [الفرقان:18]،و إنما سألهم:هل أمرتم عبادي هؤلاء بالشرك،أم هم أشركوا من قبل أنفسهم؟فالجواب المطابق أن يقولوا:لم نأمرهم بالشرك،و إنما هم آثروه و ارتضوه،أو لم نأمرهم بعبادتنا،كما قال في الآية الأخرى عنها: تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيّانا يَعْبُدُونَ [القصص:63].

فلما رأى أصحاب القراءة الأخرى ذلك فروا إلى بناء الفعل للمفعول.و قالوا:الجواب يصح على ذلك،و يطابق.إذ المعنى:ليس يصلح لنا أن نعبد و نتخذ آلهة فكيف نأمرهم بما لا يصلح لنا،و لا يحسن منا؟

و لكن لزم هؤلاء من الإشكال أمر آخر،و هو قوله: مِنْ أَوْلِياءَ ،فإن زيادة«من»لا يحسن إلا مع قصد العموم،كما تقول:ما قام من رجل،و ما ضربت من رجل.فأما إذا كان النفي واردا على شيء مخصوص،فإنه لا يحسن زيادة«من»فيه،و هم إنما نفوا عن أنفسهم ما نسب إليهم من دعوى المشركين:أنهم أمروهم بالشرك،فنفوا عن أنفسهم ذلك بأنه لا تحسن منهم،و لا يليق بهم أن يعبدوا،فكيف ندعو عبادك إلى أن يعبدونا؟فكان الجواب على هذا:أن تقرأ:ما كان ينبغي لنا أن نتخذ أولياء من دونك،أو من دونك أولياء.

-فأجاب أصحاب القراءة الأولى بوجوه:

أحدها:أن المعنى:ما كان ينبغي لنا أن نعبد غيرك،و نتخذ غيرك وليا و معبودا.).

ص: 118


1- انظر المحتسب لابن جني(119/2-120)و بدائع التفسير(285/3).

فكيف ندعو أحدا إلى عبادتنا؟أي إذا كانوا لا يرون لأنفسهم عبادة غير اللّه تعالى، فكيف يدعون غيرهم إلى عبادتهم؟و هذا جواب الفراء.

و قال الجرجاني:هذا بالتدريج يصير جوابا للسؤال الظاهر،و هو أن من عبد شيئا فقد تولاه،و إذا تولاه العابد صار المعبود وليا للعابد.يدل على هذا قوله تعالى: وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَ هؤُلاءِ إِيّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ(40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ [سبأ:40،41]فدل على أن العابد يصير وليا للمعبود.

و يصير المعنى كأنهم قالوا:ما كان ينبغي لنا أن نأمر غيرنا باتخاذنا أولياء،و أن تتخذ من دونك وليا يعبدنا،و هذا بسط لقول ابن عباس في هذه الآية.

قال:يقولون:ما توليناهم،و لا أحببنا عبادتهم.قال:و يحتمل أن يكون قولهم: ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ [الفرقان:18]أن يريدوا معشر العبيد،لا أنفسهم.أي نحن و هم عبيدك،و لا ينبغي لعبيدك أن يتخذوا من دونك أولياء.و لكنهم أضافوا ذلك إلى أنفسهم تواضعا منهم.كما يقول الرجل لمن أتى منكرا:ما كان ينبغي لي أن أفعل مثل هذا، أي أنت مثلي عبد محاسب،فإذا لم يحسن من مثلي أن يفعل هذا لم يحسن منك أيضا.

قال:و لهذا الإشكال قرأ من قرأ:(نتّخذ)بضم النون:و هذه القراءة أقرب في التأويل.

لكن قال الزجاج:هذه القراءة خطأ،لأنك تقول:ما اتخذت من أحد وليّا،و لا يجوز:ما اتخذت أحدا من ولي،لأن«من»إنما دخلت لأنها تنفي واحدا من معنى جميع.

تقول:ما من أحد قائما،و ما من رجل محبا لما يضره،و لا يجوز:ما رجل من محب لما يضره.

قال:و لا وجه عندنا لهذا البتة،و لو جاز هذا لجاز في: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47)[الحاقة]:ما أحد عنه من حاجزين.فلو لم تدخل«من»لصحت هذه القراءة.

قال صاحب النظم:العلة في سقوط هذه القراءة:أن«من»لا تدخل إلا على مفعول لا مفعول دونه،فإذا كان قبل المفعول مفعول سواه لم يحسن دخول«من»،كقوله: ما كانَ لِلّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ [مريم:35]،فقوله مِنْ وَلَدٍ لا مفعول دونه سواه،و لو قال:ما كان للّه أن يتخذ أحدا من ولد،لم يحسن فيه دخول«من»لأن فعل الاتخاذ مشغول بأحد.

و صحح آخرون هذه القراءة لفظا و معنى،و أجروها على قواعد العربية.

قالوا:و قد قرأ بها من لا يرتاب في فصاحته،فقرأ بها زيد بن ثابت،و أبو الدرداء، و أبو جعفر،و مجاهد،و نصر بن علقمة،و مكحول،و زيد بن علي،و أبو رجاء،و الحسن،

ص: 119

و حفص بن حميد،و محمد بن علي،على خلاف عن بعض هؤلاء.ذكر ذلك أبو الفتح ابن جني.ثم وجهها بأن يكون«من أولياء»في موضع الحال،أي ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك أولياء.و دخلت«من»زائدة لمكان النفي.كقولك:اتخذت زيدا وكيلا،فإذا نفيت قلت:ما اتخذت زيدا من وكيل.و كذلك أعطيته درهما.

و ما أعطيته من درهم.و هذا في المفعول فيه.

قلت:يعني أن زيادتها مع الحال،كزيادتها مع المفعول.

و نظير ذلك أن تقول:ما ينبغي لي أن أخدمك متثاقلا،فإذا أكدت،قلت:من متثاقل.

فإن قيل:فقد صحت القراءتان لفظا و معنى،فأيهما أحسن؟

قلت:قراءة الجمهور أحسن و أبلغ في المعنى المقصود،و البراءة مما لا يليق بهم، فإنهم على قراءة الضّمّ:يكونون قد نفوا حسن اتخاذ المشركين لهم أولياء،و على قراءة الجمهور:يكونون قد أخبروا أنهم لا يليق بهم،و لا يحسن منهم أن يتخذوا وليا من دونه، بل أنت وحدك ولينا و معبودنا،فإذا لم يحسن بنا أن نشرك بك شيئا،فكيف يليق بنا أن ندعو عبادك إلى أن يعبدونا من دونك؟و هذا المعنى أجل من الأول و أكبر،فتأمله.

و المقصود:أنه على القراءتين:فهذا الجواب من الملائكة،و من عبد من دون اللّه من أوليائه،و أما كونه من الأصنام فليس بظاهر (1).).

ص: 120


1- إغاثة اللهفان(239/3-242).

فواتح السور

بيان

دلالات فواتح السور و عظم شأنها

قوله تعالى: ن وَ الْقَلَمِ وَ ما يَسْطُرُونَ(1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)[القلم]:الصحيح أن«ن»و«ق»و«ص»من حروف الهجاء التي يفتتح بها الرب-سبحانه-بعض السور، و هي أحادية،و ثنائية،و ثلاثية،و رباعية،و خماسية،و لم تجاوز الخمسة،و لم تذكر قط في أول سورة إلا و عقبها بذكر القرآن،إما مقسما به،و إما مخبرا عنه،ما خلا سورتين:سورة «كهيعص،و ن».كقوله: الم(1) ذلِكَ الْكِتابُ [البقرة]، الم(1) اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ [آل عمران]، المص(1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الأعراف] الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1)[الرعد]و هكذا إلى آخره.

ففي هذا تنبيه على شرف هذه الحروف،و عظم قدرها،و جلالتها،إذ هي مباني كلامه و كتبه،التي تكلم سبحانه بها،و أنزلها على رسله،و هدى بها عباده،و عرفهم بواسطتها نفسه،و أسماءه،و صفاته،و أفعاله،و أمره،و نهيه،و وعيده،و وعده،و عرفهم بها الخير و الشر،و الحسن،و القبيح،و أقدرهم على التكلم بها،بحيث يبلغون بها أقصى ما في أنفسهم،بأسهل طريق،و قلة كلفة و مشقة،و أوصله إلى المقصود،و أدله عليه.و هذا من أعظم نعمه عليهم،كما هو من أعظم آياته.و لهذا عاب-سبحانه-على من عبد إلها لا يتكلم،و امتن على عباده بأن أقدرهم على البيان بها بالتكلم.فكان في ذكر هذه الحروف التنبيه على كمال ربوبيته،و كمال إحسانه و إنعامه،فهي أولى أن يقسم بها من الليل و النهار، و الشمس و القمر،و السماء و النجوم،و غيرها من المخلوقات.

فهي دالة أظهر دلالة على وحدانيته و قدرته،و حكمته و كماله،و كلامه،و صدق رسله.

و قد جمع-سبحانه-بين الأمرين-أعني القرآن و نطق اللسان-و جعل تعليمهما من تمام نعمته و امتنانه.كما قال: اَلرَّحْمنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ* عَلَّمَهُ الْبَيانَ [الرحمن:1-4]،فهذه الحروف علم القرآن،و بها علم البيان،و بها فضل الإنسان على سائر أنواع الحيوان،و بها أنزل كتبه،و بها أرسل رسله،و بها جمعت العلوم و حفظت،و بها

ص: 121

انتظمت مصالح العبادة في المعاش و المعاد،و بها يتميز الحق من الباطل،و الصحيح من الفاسد،و بها جمعت أشتات العلوم،و بها أمكن تنقلها في الأذهان،و كم جلب بها من نعمة،و دفع بها من نقمة؟و أقيلت بها من عثرة،و أقيمت بها من حرمة،و هدي بها من ضلالة،و أقيم بها من حق،و هدم بها من باطل؟فآياته سبحانه في تعليم البيان كآياته في خلق الإنسان.و لو لا عجائب صنع اللّه،ما ثبتت تلك الفضائل في لحم و لا عصب.

فسبحان من هذا صنعه في هواء يخرج من قصبة الرئة،فينضم في الحلقوم،و يفرش في أقصى الحلق،و وسطه،و آخره،و أعلاه،و أسفله،و على وسط اللسان و أطرافه و بين الثنايا، و في الشفتين،و الخيشوم.فيسمع له عند كل مقطع من تلك المقاطع صوت غير صوت المقطع المجاور له،فإذا هو حرف،فألهم-سبحانه-الإنسان بضم بعضها إلى بعض فإذا هي كلمات قائمة بأنفسها،ثم ألهمهم تأليف تلك الكلمات بعضها إلى بعض،فإذا هي كلام دال على أنواع المعاني،أمرا و نهيا،و خبرا،و استخبارا و نفيا،و إثباتا،و إقرارا،و إنكارا، و تصديقا،و تكذيبا،و إيجابا،و استحبابا،و سؤالا،و جوارا،إلى غير ذلك من أنواع الخطاب،نظمه و نثره،و وجيزه،و مطوله،على اختلاف لغات الخلائق (1).

كل ذلك صنعته تبارك و تعالى،في هواء مجرد خارج من باطن الإنسان إلى ظاهره،في مجار قد هيئت،و أعدت لتقطيعه و تفصيله،ثم تأليفه و توصيله،فتبارك اللّه رب العالمين، و أحسن الخالقين،فهذا شأن الحرف المخلوق.

و أما الحرف الذي به تكون المخلوقات فشأنه أعلى،و أجل.

و إذا كان هذا شأن الحروف فحقيق أن تفتتح بها السور،كما افتتحت بالأقسام لما فيها من آيات الربوبية و أدلة الوحدانية،فهي دالة على كمال قدرته سبحانه،و كمال علمه،و كمال حكمته،و كمال رحمته،و عنايته بخلقه،و لطفه و إحسانه.و إذا أعطيت الاستدلال بها حقه استدللت بها على المبدأ و المعاد،و الخلق و الأمر،و التوحيد و الرسالة،فهي من أظهر أدلة شهادة أن لا إله إلا اللّه و أن محمدا عبده و رسوله،و أن القرآن كلام اللّه،تكلم به حقا و أنزله على رسوله وحيا،و بلغه كما أوحي إليه صدقا،و لا تهمل الفكرة في كل سورة افتتحت بهذه الحروف،و اشتمالها على آيات هذه المطالب و تقريرها،و باللّه التوفيق (2).).

ص: 122


1- أصبح البحث في هذا الأمر علما مستقلا من علوم اللغة تبحث في علم الأصوات الذي بدوره يبحث في الصوت الإنساني و مخارجه و بيان الصامت و المتحرك و أصوات العلة و البر و التقييم إلخ...و من أشهر علمائه في عصرنا الدكتور رمضان عبد التواب رحمه اللّه تعالى،انظر له«المدخل إلى علم اللغة».
2- التبيان(203-206).

مقاصد السور و الآيات

اشارة

فصل

تأمل سر الم كيف اشتملت على هذه الحروف الثلاثة،فالألف إذا بدئ بها أولا كانت همزة،و هي أول المخارج من أقصى الصدر،و اللام من وسط مخارج الحروف،و هي أشد الحروف اعتمادا على اللسان،و الميم آخر الحروف و مخرجها من الفم،و هذه الثلاثة هي أصول مخارج الحروف أعني الحلق و اللسان و الشفتين.و ترتيب (1)في التنزيل من البداية إلى الوسط إلى النهاية.

فهذه الحروف معتمد المخارج الثلاثة التي تتفرع منها ستة عشر مخرجا فيصير منها تسعة و عشرون حرفا عليها مدار كلام الأمم الأولين و الآخرين،مع تضمنها سرا عجيبا،و هو أن للألف البداية و اللام التوسط،و الميم النهاية،فاشتملت الأحرف الثلاثة على البداية و النهاية و الواسطة بينهما،و كل سورة استفتحت بهذه الأحرف الثلاثة فهي مشتملة على بدء الخلق و نهايته و توسطه فمشتملة على تخليق العالم و غايته و على التوسط بين البداية و النهاية من التشريع و الأوامر،فتأمل ذلك من البقرة،و آل عمران،و تنزيل السجدة،و سورة الروم.

و تأمل اقتران الطاء بالسين و الهاء في القرآن،فإن الطاء جمعت من صفات الحروف خمس صفات لم يجمعها غيرها،و هي الجهر و الشدة و الاستعلاء و الإطباق و[الإصمات] (2)،و السين مهموس رخو مستفل صفيري منفتح فلا يمكن أن يجمع إلى الطاء حرف يقابلها كالسين و الهاء فذكر الحرفين اللذين جمعا صفات الحروف.

و تأمل السور التي اشتملت على الحروف المفردة كيف تجد السورة مبنية على كلمة ذلك الحروف فمن ذلك«ق»،و السورة مبنية على الكلمات القافية (3)من ذكر القرآن،و ذكر الخلق،و تكرير القول و مراجعته مرارا،و القرب من ابن آدم،و تلقي الملكين قول العبد،

ص: 123


1- لعلها:و ترتيبها
2- ذكر المؤلف أربعة،و الإصمات خامس هذه الصفات،إلى جانب صفة القلقلة.
3- التي تشتمل على حرف«القاف»،و ما ذهب إليه ابن القيم رحمه اللّه على الغالب،و ليس مطردا و اللّه أعلم.

و ذكر الرقيب،و ذكر السائق و القرين،و الإلقاء في جهنم،و التقديم بالوعيد،و ذكر المتقين، و ذكر القلب و القرون و التنقيب في البلاد،و ذكر القيل مرتين،و تشقق الأرض و إلقاء الرواسي فيها و بسوق النخل و الرزق،و ذكر القوم و حقوق الوعيد،و لو لم يكن إلا تكرار القول و المحاورة،و سر آخر و هو:أن كل معاني هذه السورة مناسبة لما في حرف القاف من الشدة و الجهر و العلو و الانفتاح.

و إذا أردت زيادة إيضاح هذا فتأمل ما اشتملت عليه سورة«ص»من الخصومات المتعددة فأولها خصومة الكفار مع النبي صلى اللّه عليه و سلم.و قولهم: أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً [ص:5] إلى آخر كلامهم،ثم اختصام الخصمين عند داود،ثم تخاصم أهل النار،ثم اختصام الملأ الأعلى في العلم،و هو الدرجات و الكفارات،ثم مخاصمة إبليس و اعتراضه على ربه في أمره بالسجود لآدم،ثم خصامه ثانيا في شأن بنيه و حلفه ليغوينهم أجمعين إلا أهل الإخلاص منهم،فليتأمل اللبيب الفطن هل يليق بهذه السورة غير«ص»و بسورة«ق»غير حرفها،و هذه قطرة من بحر من بعض أسرار هذه الحروف،و اللّه أعلم (1).

بيان بعض ما تشير إليه

دلالة الآيات و السور

دلالة السور و الآيات على الغزوات

اشارة

سورة الأنفال(سورة بدر)،و في أحد آخر سورة(آل عمران)من قوله:

وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَ اللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)[آل عمران:121] إلى قبيل آخرها بيسير،و في قصة الخندق،و قريظة،و خيبر صدر سورة(الأحزاب)،و سورة (الحشر)في بني النضير،و في قصة الحديبية و خيبر سورة(الفتح)و أشير فيها إلى الفتح، و ذكر الفتح صريحا في سورة(النصر).

بعض الحكم و الغايات

في وقعة أحد من خلال سورة آل عمران

و بيان مطابقة أسباب النزول للواقع

قد أشار اللّه-سبحانه و تعالى-إلى أمهاتها و أصولها في سورة«آل عمران»،حيث

ص: 124


1- بدائع الفوائد(173/3-174).

افتتح القصة بقوله: وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَ اللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) [آل عمران:121]،إلى تمام ستين آية.

فمنها:تعريفهم سوء عاقبة المعصية،و الفشل و التنازع،و أن الذي أصابهم إنما هو بشؤم ذلك،كما قال تعالى: وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتّى إِذا فَشِلْتُمْ وَ تَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَ عَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَ لَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَ اللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)[آل عمران:152].

فلما ذاقوا عاقبة معصيتهم للرسول،و تنازعهم،و فشلهم،كانوا بعد ذلك أشد حذرا و يقظة،و تحرزا من أسباب الخذلان.

و منها:أن حكمة اللّه و سنته في رسله و أتباعهم،جرت بأن يدالوا مرة،و يدال عليهم أخرى،لكن تكون لهم العاقبة،فإنهم لو انتصروا دائما،دخل معهم المؤمنون و غيرهم،و لم يتميز الصادق من غيره،و لو انتصر عليهم دائما،لم يحصل المقصود من البعثة،و الرسالة، فاقتضت حكمة اللّه أن جمع لهم بين الأمرين،ليتميز من يتبعهم و يطيعهم للحق و ما جاءوا به،ممن يتبعهم على الظهور و الغلبة خاصة.

و منها:أن هذا من أعلام الرسل،كما قال هرقل لأبي سفيان:هل قاتلتموه؟قال:

نعم.قال:كيف الحرب بينكم و بينه؟قال:سجال،يدال علينا المرة،و ندال عليه الأخرى.

قال:كذلك الرسل تبتلى،ثم تكون لهم العاقبة (1).

و منها:أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب،فإن المسلمين لما أظهرهم اللّه على أعدائهم يوم بدر،و طار لهم الصيت،دخل معهم في الإسلام ظاهرا من ليس معهم فيه باطنا،فاقتضت حكمة اللّه عز و جل أن سبّب لعباده محنة ميزت بين المؤمن و المنافق،فأطلع المنافقون رءوسهم في هذه الغزوة،و تكلموا بما كانوا يكتمونه،و ظهرت مخبآتهم،و عاد تلويحهم تصريحا،و انقسم الناس إلى كافر،و مؤمن،و منافق،انقساما ظاهرا،و عرف المؤمنون أن لهم عدوا في نفس دورهم،و هم معهم لا يفارقونهم،فاستعدوا لهم،و تحرزوا منهم.قال اللّه تعالى: ما كانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَ ما كانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَ لكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ إِنْ تُؤْمِنُوال.

ص: 125


1- أخرجه البخاري(7)في بدء الوحي،و مسلم(74/1773)في الجهاد،باب:كتاب النبي إلى هرقل.

وَ تَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)[آل عمران:179]أي:ما كان اللّه ليذركم على ما أنتم عليه من التباس المؤمنين بالمنافقين،حتى يميز أهل الإيمان من أهل النفاق،كما ميزهم بالمحنة يوم أحد،و ما كان اللّه ليطلعكم على الغيب الذي يميز به بين هؤلاء و هؤلاء،فإنهم متميزون في غيبه و علمه،و هو سبحانه يريد أن يميزهم تمييزا مشهودا،فيقع معلومه الذي هو غيب شهادة.و قوله: وَ لكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ استدراك لما نفاه من اطلاع خلقه على الغيب،سوى الرسل،فإنه يطلعهم على ما يشاء من غيبه،كما قال: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً(26) إِلاّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الجن:26-27]فحظكم أنتم و سعادتكم في الإيمان بالغيب الذي يطلع عليه رسله،فإن آمنتم به و أيقنتم،فلكم أعظم الأجر و الكرامة.

و منها:استخراج عبودية أوليائه و حزبه في السراء و الضراء،و فيما يحبون و ما يكرهون، و في حال ظفرهم و ظفر أعدائهم بهم،فإذا ثبتوا على الطاعة و العبودية فيما يحبون و ما يكرهون،فهم عبيده حقا،و ليسوا كمن يعبد اللّه على حرف واحد من السراء و النعمة و العافية.

و منها:أنه سبحانه لو نصرهم دائما،و أظفرهم بعدوهم في كل موطن،و جعل لهم التمكين و القهر لأعدائهم أبدا،لطغت نفوسهم،و شمخت و ارتفعت،فلو بسط لهم النصر و الظفر،لكانوا في الحال التي يكونون فيها لو بسط لهم الرزق،فلا يصلح عباده إلا السراء و الضراء،و الشدة و الرخاء،و القبض و البسط،فهو المدبر لأمر عباده كما يليق بحكمته،إنه بهم خبير بصير.

و منها:أنه إذا امتحنهم بالغلبة،و الكسرة،و الهزيمة،ذلوا و انكسروا،و خضعوا، فاستوجبوا منه العز و النصر،فإن خلعة النصر إنما تكون مع ولاية الذل و الانكسار،قال تعالى: وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران:123]و قال: وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً [التوبة:25]،فهو-سبحانه-إذا أراد أن يعز عبده، و يجبره،و ينصره،كسره أولا،و يكون جبره له و نصره على مقدار ذله و انكساره.

و منها:أنه-سبحانه-هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته،لم تبلغها أعمالهم، و لم يكونوا بالغيها إلا بالبلاء و المحنة،فقيض لهم الأسباب التي توصلهم إليها من ابتلائه و امتحانه،كما وفقهم للأعمال الصالحة التي هي من جملة أسباب وصولهم إليها.

و منها:أن النفوس تكتسب من العافية الدائمة و النصر و الغنى طغيانا و ركونا إلى العاجلة،و ذلك مرض يعوقها عن جدها في سيرها إلى اللّه و الدار الآخرة،فإذا أراد بها ربها

ص: 126

و مالكها و راحمها كرامته،قيض لها من الابتلاء و الامتحان ما يكون دواء لذلك المرض العائق عن السير الحثيث إليه،فيكون ذلك البلاء و المحنة بمنزلة الطبيب يسقي العليل الدواء الكريه،و يقطع منه العروق المؤلمة لاستخراج الأدواء منه و لو تركه لغلبته الأدواء حتى يكون فيها هلاكه.

و منها:أن الشهادة عنده من أعلى مراتب أوليائه،و الشهداء هم خواصه و المقربون من عباده،و ليس بعد درجة الصديقية إلا الشهادة،و هو سبحانه يحب أن يتخذ من عباده شهداء، تراق دماؤهم في محبته و مرضاته،و يؤثرون رضاه و محابه على نفوسهم،و لا سبيل إلى نيل هذه الدرجة إلا بتقدير الأسباب المفضية إليها من تسليط العدو.

و منها:أن اللّه-سبحانه-إذا أراد أن يهلك أعداءه و يمحقهم،قيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم و محقهم،و من أعظمها-بعد كفرهم-بغيهم،و طغيانهم،و مبالغتهم في أذى أوليائه،و محاربتهم،و قتالهم،و التسلط عليهم،فيتمحص بذلك أولياؤه من ذنوبهم و عيوبهم،و يزداد بذلك أعداؤه من أسباب محقهم و هلاكهم.و قد ذكر سبحانه و تعالى ذلك في قوله: وَ لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَ تِلْكَ الْأَيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَ اللّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِينَ(140) وَ لِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141)[آل عمران]،فجمع لهم في هذا الخطاب بين تشجيعهم و تقوية نفوسهم،و إحياء عزائمهم و هممهم،و بين حسن التسلية،و ذكر الحكم الباهرة التي اقتضت إدالة الكفار عليهم فقال:

إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ [آل عمران:140]،فما بالكم تهنون و تضعفون عند القرح و الألم،فقد أصابهم ذلك في سبيل الشيطان،و أنتم أصبتم في سبيلي و ابتغاء مرضاتي.

ثم أخبر أنه يداول أيام هذه الحياة الدنيا بين الناس،و أنها عرض حاضر،يقسمها دولا بين أوليائه و أعدائه بخلاف الآخرة،فإن عزها و نصرها و رجاءها خالص للذين آمنوا.

ثم ذكر حكمة أخرى،و هي أن يتميز المؤمنون من المنافقين،فيعلمهم علم رؤية و مشاهدة بعد أن كانوا معلومين في غيبه،و ذلك العلم الغيبي لا يترتب عليه ثواب و لا عقاب،و إنما يترتب الثواب و العقاب على المعلوم إذا صار مشاهدا واقعا في الحس.

ثم ذكر حكمه أخرى،و هي اتخاذه-سبحانه-منهم شهداء،فإنه يحب الشهداء من عباده،و قد أعد لهم أعلى المنازل و أفضلها،و قد اتخذهم لنفسه،فلا بد أن ينيلهم درجة

ص: 127

الشهادة.و قوله: وَ اللّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِينَ [آل عمران:140]،تنبيه لطيف الموقع جدا على كراهته و بغضه للمنافقين الذي انخذلوا عن نبيه يوم أحد،فلم يشهدوه،و لم يتخذ منهم شهداء لأنه لم يحبهم،فأركسهم وردهم ليحرمهم ما خص به المؤمنين في ذلك اليوم،و ما أعطاه من استشهد منهم،فثبط هؤلاء الظالمين عن الأسباب التي وفق لها أولياءه و حزبه.

ثم ذكر حكمة أخرى فيما أصابهم ذلك اليوم،و هو تمحيص الذين آمنوا،و هو تنقيتهم و تخليصهم من الذنوب،و من آفات النفوس،و أيضا فإنه خلصهم و محصهم من المنافقين، فتميزوا منهم،فحصل لهم تمحيصان:تمحيص من نفوسهم،و تمحيص ممن كان يظهر أنه منهم،و هو عدوهم.

ثم ذكر حكمة أخرى،و هي محق الكافرين بطغيانهم،و بغيهم،و عدوانهم،ثم أنكر عليهم حسبانهم،و ظنهم أن يدخلوا الجنة بدون الجهاد في سبيله،و الصبر على أذى أعدائه، و إن هذا ممتنع بحيث ينكر على من ظنه و حسبه،فقال:

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ الصّابِرِينَ (142)[آل عمران]،أي:و لما يقع الواقع المعلوم،لا على مجرد العلم،فإن اللّه لا يجزي العبد على مجرد علمه فيه دون أن يقع معلومه،ثم وبخهم على هزيمتهم من أمر كانوا يتمنونه و يودون لقاءه،فقال: وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143).

قال ابن عباس:و لما أخبرهم اللّه تعالى على لسان نبيه بما فعل بشهداء بدر من الكرامة،رغبوا في الشهادة،فتمنوا قتالا يستشهدون فيه،فيلحقون إخوانهم،فأراهم اللّه ذلك يوم أحد،و سببه لهم،فلم يلبثوا أن انهزموا إلا من شاء اللّه منهم،فأنزل اللّه تعالى:

وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)[آل عمران].

و منها:أن وقعة أحد كانت مقدمة و إرهاصا بين يدي موت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم،فثبتهم، و وبخهم على انقلابهم على أعقابهم إن مات رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم،أو قتل،بل الواجب له عليهم أن يثبتوا على دينه و توحيده و يموتوا عليه،أو يقتلوا،فإنهم إنما يعبدون رب محمد،و هو حي لا يموت،فلو مات محمد أو قتل،لا ينبغي لهم أن يصرفهم ذلك عن دينه،و ما جاء به،فكل نفس ذائقة الموت،و ما بعث محمد صلى اللّه عليه و سلم ليخلد لا هو و لا هم،بل ليموتوا على الإسلام و التوحيد،فإن الموت لا بد منه،سواء مات رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أو بقي،و لهذا وبخهم على رجوع من رجع منهم من دينه لما صرخ الشيطان:إن محمدا قد قتل،فقال: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ (144)[آل عمران]و الشاكرون:هم الذين عرفوا قدر النعمة،فثبتوا عليها حتى ماتوا أو قتلوا،فظهر أثر هذا العتاب،و حكم هذا الخطاب يوم مات رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم،و ارتد من ارتد على عقبيه،و ثبت الشاكرون على دينهم،فنصرهم اللّه و أعزهم و ظفرهم بأعدائهم،و جعل العاقبة لهم.

ص: 128

و منها:أن وقعة أحد كانت مقدمة و إرهاصا بين يدي موت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم،فثبتهم، و وبخهم على انقلابهم على أعقابهم إن مات رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم،أو قتل،بل الواجب له عليهم أن يثبتوا على دينه و توحيده و يموتوا عليه،أو يقتلوا،فإنهم إنما يعبدون رب محمد،و هو حي لا يموت،فلو مات محمد أو قتل،لا ينبغي لهم أن يصرفهم ذلك عن دينه،و ما جاء به،فكل نفس ذائقة الموت،و ما بعث محمد صلى اللّه عليه و سلم ليخلد لا هو و لا هم،بل ليموتوا على الإسلام و التوحيد،فإن الموت لا بد منه،سواء مات رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أو بقي،و لهذا وبخهم على رجوع من رجع منهم من دينه لما صرخ الشيطان:إن محمدا قد قتل،فقال: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ (144)[آل عمران]و الشاكرون:هم الذين عرفوا قدر النعمة،فثبتوا عليها حتى ماتوا أو قتلوا،فظهر أثر هذا العتاب،و حكم هذا الخطاب يوم مات رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم،و ارتد من ارتد على عقبيه،و ثبت الشاكرون على دينهم،فنصرهم اللّه و أعزهم و ظفرهم بأعدائهم،و جعل العاقبة لهم.

ثم أخبر-سبحانه-أنه جعل لكل نفس أجلا لا بد أن تستوفيه،ثم تلحق به،فيرد الناس كلهم حوض المنايا موردا واحدا،و إن تنوعت أسبابه،و يصدرون عن موقف القيامة مصادر شتى،فريق في الجنة و فريق في السعير،ثم أخبر-سبحانه-أن جماعة كثيرة من أنبيائه قتلوا و قتل معهم أتباع لهم كثيرون،فما وهن من بقي منهم لما أصابهم في سبيله،و ما ضعفوا و ما استكانوا،و ما وهنوا عند القتل،و لا ضعفوا،و لا استكانوا،بل تلقوا الشهادة بالقوة و العزيمة و الإقدام،فلم يستشهدوا مدبرين مستكينين أذلة،بل استشهدوا أعزة كراما مقبلين غير مدبرين،و الصحيح:أن الآية تتناول الفريقين كليهما.

ثم أخبر-سبحانه-عما استنصرت به الأنبياء و أممهم على قومهم من اعترافهم و توبتهم و استغفارهم و سؤالهم ربهم أن يثبت أقدامهم،و أن ينصرهم على أعدائهم،فقال: وَ ما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ إِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا وَ انْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147) فَآتاهُمُ اللّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَ حُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَ اللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)[آل عمران].لما علم القوم أن العدو إنما يدال عليهم بذنوبهم،و أن الشيطان إنما يستزلهم و يهزمهم بها،و أنها نوعان:تقصير في حق أو تجاوز لحد،و أن النصرة منوطة بالطاعة،قالوا:ربنا اغفر لنا ذنوبنا و إسرافنا في أمرنا،ثم علموا أن ربهم تبارك و تعالى إن لم يثبت أقدامهم و ينصرهم، لم يقدروا هم على تثبيت أقدام أنفسهم،و نصرها على أعدائهم،فسألوه ما يعلمون أنه بيده دونهم،و أنه إن لم يثبت أقدامهم و ينصرهم لم يثبتوا و لم ينتصروا،فوفوا المقامين حقهما:

مقام المقتضي،و هو التوحيد و الالتجاء إليه-سبحانه،و مقام إزالة المانع من النصرة،و هو الذنوب و الإسراف.

ثم حذرهم-سبحانه-من طاعة عدوهم،و أخبر أنهم أن أطاعوهم خسروا الدنيا و الآخرة،و في ذلك تعريض بالمنافقين الذين أطاعوا المشركين لما انتصروا و ظفروا يوم أحد.

ثم أخبر-سبحانه-أنه مولى المؤمنين،و هو خير الناصرين،فمن والاه فهو المنصور.

ثم أخبرهم أنه سيلقي في قلوب أعدائهم الرعب الذي يمنعهم من الهجوم عليهم،

ص: 129

و الإقدام على حربهم،و أنه يؤيد حزبه بجند من الرعب ينتصرون به على أعدائهم،و ذلك الرعب بسبب ما في قلوبهم من الشرك باللّه،و على قدر الشرك يكون الرعب،فالمشرك باللّه أشد شيء خوفا و رعبا،و الذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بالشرك،لهم الأمن و الهدى و الفلاح،و المشرك له الخوف و الضلال و الشقاء.

ثم أخبرهم أنه صدقهم وعده في نصرتهم على عدوهم،و هو الصادق الوعد،و أنهم لو استمروا على الطاعة،و لزوم أمر الرسول لاستمرت نصرتهم،و لكن انخلعوا عن الطاعة، و فارقوا مركزهم،فانخلعوا عن عصمة الطاعة،ففارقتهم النصرة،فصرفهم عن عدوهم عقوبة و ابتلاء و تعريفا لهم بسوء عواقب المعصية،و حسن عاقبة الطاعة.

ثم أخبر أنه عفا عنهم بعد ذلك كله،و أنه ذو فضل على عباده المؤمنين.قيل للحسن:

كيف يعفوا عنهم،و قد سلط عليهم أعداءهم حتى قتلوا منهم من قتلوا،و مثلوا بهم،و نالوا منهم ما نالوه؟فقال:لو لا عفوه عنهم،لاستأصلهم ،و لكن بعفوه عنهم دفع عنهم عدوهم بعد أن كانوا مجمعين على استئصالهم.

-ثم ذكرهم بحالهم وقت الفرار مصعدين،أي:جادين في الهرب و الذهاب في الأرض،أو صاعدين في الجبل لا يلوون على أحد من نبيهم و لا أصحابهم،و الرسول يدعوهم في أخراهم:إليّ عباد اللّه،أنا رسول اللّه،فأثابهم بهذا الهرب و الفرار،غمّا بعد غم:غم الهزيمة و الكسرة،و غم صرخة الشيطان فيهم بأن محمدا قد قتل.

و قيل:جازاكم غما بما غممتم رسوله بفراركم عنه،و أسلمتموه إلى عدوه،فالغم الذي حصل لكم جزاء على الغم الذي أوقعتموه بنبيه (1)،و القول الأول أظهر لوجوه:

أحدها:أن قوله: لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا ما أَصابَكُمْ [آل عمران:

153]تنبيه على حكمة هذا الغم بعد الغم،و هو أن ينسيهم الحزن على ما فاتهم من الظفر، و على ما أصابهم من الهزيمة و الجراح،فنسوا بذلك السبب،و هذا إنما يحصل بالغم الذي يعقبه غم آخر.

الثاني:أنه مطابق للواقع،فإنه حصل لهم غم فوات الغنيمة،ثم أعقبه غم الهزيمة،ثم غم الجراح التي أصابتهم،ثم غم القتل،ثم غم سماعهم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قد قتل،ثم غمم.

ص: 130


1- هذا القول و إن كان من لطائف الفهم،إلا أنه بعيد،خاصة أن الصحابة رضي اللّه عنهم لم يكن منهم ذلك عن عمد،و لكن بدر منهم ما يبدر من البشر في مثل هذه الحالة،و اللّه أعلم.

ظهور أعدائهم على الجبل فوقهم،و ليس المراد غمين اثنين خاصة،بل غما متتابعا لتمام الابتلاء و الامتحان.

الثالث:أن قوله:«بغم»،من تمام الثواب،لا أنه سبب جزاء الثواب،و المعنى:

أثابكم غمّا متصلا بغم،جزاء على ما وقع منهم من الهروب و إسلامهم نبيهم صلى اللّه عليه و سلم و أصحابه، و ترك استجابتهم له و هو يدعوهم،و مخالفتهم له في لزوم مركزهم،و تنازعهم في الأمر، و فشلهم،و كل واحد من هذه الأمور يوجب غما يخصه،فترادفت عليهم الغموم كما ترادفت منهم أسبابها و موجباتها،و لو لا أن تداركها بعفوه،لكان أمرا آخر،و من لطفه بهم،و رأفته، و رحمته،أن هذه الأمور التي صدرت منهم،كانت من موجبات الطباع،و هي من بقايا النفوس التي تمنع من النصرة المستقرة،فقيض لهم بلطفه أسبابا أخرجها من القوة إلى الفعل،فترتب عليها آثارها المكروهة،فعلموا حينئذ أن التوبة منها و الاحتراز من أمثالها، و دفعها بأضدادها أمر متعين،لا يتم لهم الفلاح و النصرة الدائمة المستقرة إلا به،فكانوا أشد حذرا بعدها،و معرفة بالأبواب التي دخل عليهم منها:

و ربّما صحّت الأجسام بالعلل (1)

ثم إنه تداركهم-سبحانه-برحمته،و خفف عنهم ذلك الغم،و غيبه عنهم بالنعاس الذي أنزله عليهم أمنا منه و رحمة،و النعاس في الحرب علامة النصرة و الأمن،كما أنزله عليهم يوم بدر،و أخبر أن من لم يصبه ذلك النعاس،فهو ممن أهمّته نفسه لا دينه و لا نبيه و لا أصحابه،و أنهم يظنون باللّه غير الحق ظن الجاهلية،و قد فسر هذا الظن الذي لا يليق باللّه، بأنه سبحانه لا ينصر رسوله،و أن أمره يضمحل،و أنه يسلمه للقتل،و قد فسر بظنهم أن ما أصابهم لم يكن بقضائه و قدره،و لا حكمة له فيه،ففسر بإنكار الحكمة،و إنكار القدر، و إنكار أن يتم أمر رسوله و يظهره على الدين كله،و هذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون و المشركون به سبحانه و تعالى في«سورة الفتح»،حيث يقول: وَ يُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكاتِ الظّانِّينَ بِاللّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَ غَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَ لَعَنَهُمْ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً (6)[الفتح]،و إنما كان هذا ظن السوء،و ظن الجاهلية المنسوب إلى أهل الجهل،و ظن غير الحق،لأنه ظن غير ما يليق بأسمائه الحسنى،و صفاته العليا، و ذاته المبرأة من كل عيب و سوء،بخلاف ما يليق بحكمته و حمده،و تفرده بالربوبيةبه

ص: 131


1- عجز بيت للمتنبي،و صدره: لعلّ عتبك محمود عواقبه

و الإلهية،و ما يليق بوعده الصادق الذي لا يخلفه،بكلمته التي سبقت لرسله أنه ينصرهم و لا يخذلهم،و لجنده بأنهم هم الغالبون.

فمن ظن بأنه لا ينصر رسوله،و لا يتم أمره،و لا يؤيده و يؤيد حزبه،و يعليهم، و يظفرهم بأعدائه و يظهرهم عليهم،و أنه لا ينصر دينه و كتابه،و أنه يديل الشرك على التوحيد،و الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها التوحيد و الحق اضمحلالا لا يقوم بعده أبدا،فقد ظن باللّه ظن السوء،و نسبه إلى خلاف ما يليق بكماله و جلاله،و صفاته و نعوته،فإن حمده و عزته،و حكمته و إلهيته تأبى ذلك،و تأبى أن يذل حزبه و جنده،و أن تكون النصرة المستقرة،و الظفر الدائم لأعدائه المشركين به،العادلين به،فمن ظن به ذلك، فما عرفه،و لا عرف أسماءه و لا عرف صفاته و كماله،و كذلك من أنكر أن يكون ذلك بقضائه و قدره،فما عرفه،و لا عرف ربوبيته و ملكه و عظمته،و كذلك من أنكر أن يكون قدر ما قدره من ذلك و غيره لحكمة بالغة،و غاية محمودة يستحق الحمد عليها،و أن ذلك إنما صدر عن مشيئة مجردة عن حكمة،و غاية مطلوبة هي أحب إليه من فوتها،و أن تلك الأسباب المكروهة المفضية إليها لا يخرج تقديرها عن الحكمة لإفضائها إلى ما يحب،و إن كانت مكروهة له،فما قدرها سدى،و لا أنشأها عبثا،و لا خلقها باطلا، ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النّارِ [ص:27]،و أكثر الناس يظنون باللّه غير الحق ظن السوء فيما يختص بهم و فيما يفعله بغيرهم،و لا يسلم عن ذلك إلا من عرف اللّه،و عرف أسماءه و صفاته،و عرف موجب حمده و حكمته،فمن قنط من رحمته،و آيس من روحه،فقد ظن به ظن السوء.

و من جوز عليه أن يعذب أولياءه مع إحسانهم و إخلاصهم،و يسوي بينهم و بين أعدائه، فقد ظن بهم ظن السوء.

و من ظن به أن يترك خلقه سدى،معطلين عن الأمر و النهي،و لا يرسل إليهم رسله، و لا ينزل عليهم كتبه،بل يتركهم هملا كالأنعام،فقد ظن به ظن السوء.

و من ظن أنه لن يجمع عبيده بعد موتهم للثواب و العقاب في دار يجازي المحسن فيها بإحسانه،و المسيء بإساءته،و يبين لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه،و يظهر للعالمين كلهم صدقه و صدق رسله،و أن أعداءه كانوا هم الكاذبين،فقد ظن به ظن السوء.

و من ظن أنه يضيع عليه عمله الصالح الذي عمله خالصا لوجهه الكريم على امتثال أمره، و يبطله عليه بلا سبب من العبد،أو أنه يعاقبه بما لا صنع فيه،و لا اختيار له،و لا قدرة،و لا

ص: 132

إرادة في حصوله،بل يعاقبه على فعله هو سبحانه به،أو ظن به أنه يجوز عليه أن يؤيد أعداءه الكاذبين عليه بالمعجزات التي يؤيد بها أنبياءه،و رسله،و يجريها على أيديهم يضلون بها عباده،و أنه يحسن منه كل شيء حتى تعذيب من أفنى عمره في طاعته،فيخلده في الجحيم أسفل السافلين.و ينعم من استنفد عمره في عداوته و عداوة رسله و دينه،فيرفعه إلى أعلى عليين،و كلا الأمرين عنده في الحسن سواء،و لا يعرف امتناع أحدهما و وقوع الآخر إلا بخبر صادق و إلا فالعقل لا يقضي بقبح أحدهما و حسن الآخر،فقد ظن به ظن السوء.

و من ظن به أنه أخبر عن نفسه و صفاته و أفعاله بما ظاهره باطل،و تشبيه،و تمثيل،و ترك الحق،لم يخبر به،و إنما رمز إليه رموزا بعيدة،و أشار إليه إشارات ملغزة لم يصرح به، و صرح دائما بالتشبيه و التمثيل و الباطل،و أراد من خلقه أن يتعبوا أذهانهم و قواهم و أفكارهم في تحريف كلامه عن مواضعه،و تأويله على غير تأويله،و يتطلبوا له وجوه الاحتمالات المستكرهة،و التأويلات التي هي بالألغاز و الأحاجي أشبه منها بالكشف و البيان،و أحالهم في معرفة أسمائه و صفاته على عقولهم و آرائهم،لا على كتابه،بل أراد منهم أن لا يحملوا كلامه على ما يعرفون من خطابهم و لغتهم،مع قدرته على أي يصرح لهم بالحق الذي يبغي التصريح به،و يريحهم من الألفاظ التي توقعهم في اعتقاد الباطل،،فلم يفعل،بل سلك بهم خلاف طريق الهدى و البيان،فقد ظن به ظن السوء،فإنه إن قال:إنه غير قادر على التعبير عن الحق باللفظ الصريح الذي عبر به هو و سلفه،فقد ظن بقدرته العجز،و إن قال:

إنه قادر و لم يبين،و عدل عن البيان،و عن التصريح بالحق إلى ما يوهم،بل يوقع في الباطل المحال،و الاعتقاد الفاسد،فقد ظن بحكمته و رحمته ظن السوء،و ظن أنه هو و سلفه عبروا عن الحق بصريحه دون اللّه و رسوله،و أن الهدى و الحق في كلامهم و عباراتهم،و أما كلام اللّه،فإنما يؤخذ من ظاهرة التشبيه،و التمثيل،و الضلال،و ظاهر كلام المتهوكين (1)الحيارى،هو الهدى و الحق،و هذا من أسوأ الظن باللّه،فكل هؤلاء من الظانين باللّه ظن السوء،و من الظانين به غير الحق ظن الجاهلية.

و من ظن به أن يكون في ملكه ما لا يشاء و لا يقدر على إيجاده و تكوينه،فقد ظن به ظن السوء.

و من ظن به أنه كان معطّلا من الأزل إلى الأبد عن أن يفعل،و لا يوصف حينئذ بالقدرةة.

ص: 133


1- التهود:كالتهور،و هو إتيان الأمور بلا رؤية.

على الفعل،ثم صار قادرا عليه بعد أن لم يكن قادرا،فقد به ظن السوء.

و من ظن به أنه لا يسمع و لا يبصر،و لا يعلم الموجودات،و لا عدد السموات و الأرض،و لا النجوم،و لا بني آدم و حركاتهم و أفعالهم،و لا يعلم شيئا من الموجودات في الأعيان،فقد ظن به ظن السوء.

و من ظن أنه لا سمع له،و لا بصر،و لا علم له،و لا إرادة،و لا كلام يقول به،و أنه لم يكلم أحدا من الخلق،و لا يتكلم أبدا،و لا قال و لا يقول،و لا له أمر و لا نهي يقوم به، فقد ظن به ظن السوء.

و من ظن به أنه فوق سماواته على عرشه بائنا من خلقه،و أن نسبة ذاته تعالى إلى عرشه كنسبتها إلى أسفل السافلين،و إلى الأمكنة التي يرغب عن ذكرها،و أنه أسفل،كما أنه أعلى،فقد ظن به أقبح الظن و أسوأه.

و من ظن به أنه يحب الكفر،و الفسوق،و العصيان،و يحب الفساد كما يحب الإيمان، و البر،و الطاعة،و الإصلاح،فقد ظن به ظن السوء.

و من ظن به أنه لا يحب و لا يرضى،و لا يغضب و لا يسخط،و لا يوالي و لا يعادي، و لا يقرب من أحد من خلقه،و لا يقرب منه أحد،و أن ذوات الشياطين في القرب من ذاته كذوات الملائكة المقربين و أوليائه المفلحين،فقد ظن به ظن السوء.

و من ظن أنه يسوي بين المتضادين،أو يفرق بين المتساويين من كل وجه،أو يحبط طاعات العمر المديد الخالصة الصواب بكبيرة واحدة تكون بعدها،فيخلد فاعل تلك الطاعات في النار أبد الآبدين بتلك الكبيرة،و يحبط بها جميع طاعاته و يخلّده في العذاب، كما يخلد من لا يؤمن به طرفة عين،و قد استنفد ساعات عمره في مساخطه و معاداة رسله و دينه،فقد ظن به ظن السوء.

و بالجملة فمن ظن به خلاف ما وصف به نفسه و وصفه به رسله،أو عطل حقائق ما وصف به نفسه،و وصفته به رسله،فقد ظن به ظن السوء.

و من ظن أن له ولدا،أو شريكا أو أن أحدا يشفع عنده بدون إذنه،أو أن بينه و بين خلقه وسائط يرفعون حوائجهم إليه،أو أنه نصب لعباده أولياء من دونه يتقربون بهم إليه، و يتوسلون بهم إليه،و يجعلونهم وسائط بينهم و بينه،فيدعونهم،و يحبونهم كحبه،و يخافونهم و يرجعونهم،فقد ظن به أقبح الظن و أسوأه.

و من ظن به أنه ينال ما عنده بمعصيته و مخالفته،كما يناله بطاعته و التقرب إليه،فقد ظن

ص: 134

به خلاف حكمته و خلاف موجب أسمائه و صفاته،و هو من ظن السوء.

و من ظن به أنه إذا ترك لأجله شيئا لم يعوضه خيرا منه،أو من فعل لأجله شيئا لم يعطه أفضل منه،فقد ظن به ظن السوء.

و من ظن به أنه يغضب على عبده،و يعاقبه و يحرمه بغير جرم،و لا سبب من العبد إلا بمجرد المشيئة،و محض الإرادة،فقد ظن به ظن السوء.

و من ظن به أنه إذا صدقه في الرغبة و الرهبة،و تضرع إليه،و سأله و استعان به،و توكل عليه أنه يخيبه و لا يعطيه ما سأله،فقد ظن به ظن السوء،و ظن به خلاف ما هو أهله.

و من ظن به أنه يثيبه إذا عصاه بما يثيبه به إذا أطاعه،و سأله ذلك في دعائه،فقد ظن به خلاف ما تقتضيه حكمته و حمده،و خلاف ما هو أهله و ما لا يفعله.

و من ظن به أنه إذا أغضبه،و أسخطه،و أوضع في معاصيه،ثم اتخذ من دونه وليا، و دعا من دونه ملكا أو بشرا حيا،أو ميتا يرجو بذلك أن ينفعه عند ربه،و يخلصه من عذابه، فقد ظن به ظن السوء،و ذلك زيادة في بعده من اللّه،و في عذابه.

و من ظن به أنه يسلط على رسوله محمد صلى اللّه عليه و سلم أعداءه تسليطا مستقرا دائما في حياته و في مماته،و ابتلاء بهم لا يفارقونه،فلما مات استبدوا بالأمر دون وصية،و ظلموا أهل بيته، و سلبوهم حقهم،و أذلوهم،و كانت العزة و الغلبة و القهر لأعدائه و أعدائهم دائما من غير جرم و لا ذنب لأوليائه،و أهل الحق،و هو يرى قهرهم لهم،و غضبهم إياهم حقهم،و تبديلهم دين نبيهم،و هو يقدر على نصرة أوليائه و حزبه و جنده،و لا ينصرهم و لا يديلهم،بل يديل أعداءهم عليهم أبدا،أو أنه لا يقدر على ذلك،بل حصل هذا بغير قدرته و لا مشيئة،ثم جعل المبدلين لدينه مضاجعيه في حفرته،تسلم أمته عليه و عليهم كل وقت كما تظنه الرافضة،فقد ظن به أقبح الظن و أسوأه،سواء قالوا:إنه قادر على أن ينصرهم،و يجعل لهم الدولة و الظفر،أو أنه غير قادر على ذلك،فهم قادحون في قدرته،أو في حكمته و حمده،و ذلك من ظن السوء به،و لا ريب أن الرب الذي فعل هذا بغيض إلى من ظن به ذلك غير محمود عندهم،و كان الواجب أن يفعل خلاف ذلك،لكن رفوا هذا الظن الفاسد بخرق أعظم منه،و استجاروا من الرمضاء بالنار.فقالوا:لم يكن هذا بمشيئة اللّه،و لا له قدرة على دفعه و نصر أوليائه،فإنه لا يقدر على أفعال عباده،و لا هي داخلة تحت قدرته، فظنوا به ظن إخوانهم المجوس و الثنوية بربهم،و كل مبطل،و كافر،و مبتدع مقهور مستذل، فهو يظن بربه هذا الظن،و أنه أولى بالنصر و الظفر،و العلو من خصومه،فأكثر الخلق،بل

ص: 135

كلهم-إلا من شاء اللّه-يظنون باللّه غير الحق ظن السوء،فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق،ناقص الحظ و أنه يستحق فوق ما أعطاه اللّه،و لسان حاله يقول:ظلمني ربي،و منعني ما أستحقه،و نفسه تشهد عليه بذلك،و هو بلسانه ينكره و لا يتجاسر على التصريح به،و من فتش نفسه،و تغلغل في معرفة دفائنها و طواياها،رأى ذلك فيها كامنا كمون النار في الزناد،فاقدح زناد من شئت ينبئك شراره عما في زناده،و لو فتشت من فتشته،لرأيت عنه تعتبا على القدر و ملامة له،و اقتراحا عليه خلاف ما جرى به،و أنه كان ينبغي أن يكون كذا و كذا،فمستقل و مستكثر،و فتش نفسك،هل أنت سالم من ذلك؟

فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة و إلا فإني لا إخالك ناجيا

فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا الموضع،و ليتب إلى اللّه تعالى و ليستغفره كل وقت من ظنه بربه ظن السوء،و ليظن السوء بنفسه التي هي مأوى كل سوء،و منبع كل شر،المركبة على الجهل و الظلم،فهي أولى بظن السوء من أحكم الحاكمين،و أعدل العادلين،و أرحم الراحمين،الغني الحميد،الذي له الغنى التام،و الحمد التام،و الحكمة التامة،و المنزه عن كل سوء في ذاته و صفاته،و أفعاله و أسمائه،فذاته لها الكمال المطلق من كل وجه،و صفاته كذلك،و أفعاله كذلك،كلها حكمة و مصلحة،و رحمة و عدل،و أسماؤه كلها حسنى.

و المقصود ما ساقنا إلى هذا الكلام من قوله: وَ طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ [آل عمران:154]،ثم أخبر عن الكلام الذي صدر عن ظنهم الباطل، و هو قولهم: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ [آل عمران:154]،و قولهم: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا [آل عمران:154]،فليس مقصودهم بالكلمة الأولى و الثانية إثبات القدر، ورد الأمر كله إلى اللّه،و لو كان ذلك مقصودهم بالكلمة الأولى لما ذموا عليه،و لما حسن الرد عليه بقوله: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلّهِ [آل عمران:154]،و لا كان مصدر هذا الكلام ظن الجاهلية،و لهذا قال غير واحد من المفسرين:إن ظنهم الباطل هاهنا:هو التكذيب بالقدر، و ظنهم أن الأمر لو كان إليهم،و كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و أصحابه تبعا لهم يسمعون منهم،لما أصابهم القتل،و لكان النصر و الظفر لهم،فأكذبهم اللّه عز و جل في هذا الظن الذي هو ظن الجاهلية،و هو الظن المنسوب إلى أهل الجهل الذين يزعمون بعد نفاذ القضاء،فأكذبهم اللّه بقوله: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلّهِ ،فلا يكون إلا ما سبق به قضاءه و قدره،و جرى به علمه و كتابه السابق،و ما شاء اللّه كان و لا بد،شاء الناس أم أبوا،و ما لم يشأ لم يكن،شاءه الناس أم لم يشاءوه،و ما جرى عليكم من الهزيمة و القتل،فبأمره الكوني الذي لا سبيل إلى

ص: 136

دفعه،سواء كان لكم من الأمر شيء،أو لم يكن لكم،و أنكم لو كنتم في بيوتكم،و قد كتب القتل على بعضكم لخرج الذين كتب عليهم القتل من بيوتهم إلى مضاجعهم و لا بد، سواء كان لهم من الأمر شيء،أو لم يكن،و هذا من أظهر الأشياء إبطالا لقول القدرية النفاة،الذين يجوزون أن يقع ما لا يشاؤه اللّه،و أن يشاء ما لا يقع.

فصل ثم أخبر-سبحانه-عن حكمة أخرى في هذا التقدير،هي ابتلاء ما في صدورهم،و هو اختبار ما فيها من الإيمان و النفاق،فالمؤمن لا يزداد بذلك إلا إيمانا و تسليما،و المنافق و من في قلبه مرض،لا بد أن يظهر ما في قلبه على جوارحه و لسانه.

ثم ذكر حكمة أخرى:و هو تمحيص ما في قلوب المؤمنين،و هو تخليصه و تنقيته و تهذيبه،فإن القلوب يخالطها بغلبات الطبائع،و ميل النفوس،و حكم العادة،و تزين الشيطان،و استيلاء الغفلة ما يضاد ما أودع فيها من الإيمان و الإسلام و البر و التقوى،فلو تركت في عافية دائمة مستمرة،لم تتخلص من هذه المخالطة،و لم تتمحص منه،فاقتضت حكمة العزيز أن قيض لها من المحن و البلايا ما يكون كالدواء الكريه لمن عرض له داء إن لم يتداركه طبيبه بإزالته و تنقيته من جسده،و إلا خيف عليه من الفساد و الهلاك،فكانت نعمته سبحانه عليهم بهذه الكسرة و الهزيمة،و قتل من قتل منهم،تعادل نعمته عليهم بنصرهم و تأييدهم و ظفرهم بعدوهم،فله عليهم النعمة التامة في هذا و هذا.

ثم أخبر-سبحانه و تعالى-عن تولي من تولى من المؤمنين الصادقين في ذلك اليوم، و أنه بسبب كسبهم و ذنوبهم،فاستزلهم الشيطان بتلك الأعمال حتى تولوا،فكانت أعمالهم جندا عليهم،ازداد بها عدوهم قوة،فإن الأعمال جند للعبد و جند عليه،و لا بد فللعبد كل وقت سرية من نفسه تهزمه،أو تنصره،فهو يمد عدوه فأعمال العبد تسوقه قسرا إلى مقتضاها من الخير و الشر،و العبد لا يشعر،أو يشعر و يتعامى،ففرار الإنسان من عدوه،و هو يطيقه إنما هو جند من عمله،بعثه له الشيطان و استزله به.

ثم أخبر-سبحانه-أنه عفا عنهم،لأن هذا الفرار لم يكن عن نفاق و لا شك،و إنما كان عارضا،عفا اللّه عنه،فعادت شجاعة الإيمان و ثباته إلى مركزها و نصابها،ثم كرر عليهم سبحانه:أن هذا الذي أصابهم إنما أتوا فيه من قبل أنفسهم،و بسبب أعمالهم،فقال:

أَ وَ لَمّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)[آل عمران].و ذكر هذا بعينه فيما هو أعم من ذلك من السور المكية،فقال:

ص: 137

وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30)[الشورى]،و قال: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79]،فالحسنة و السيئة هاهنا:

النعمة و المصيبة،فالنعمة من اللّه منّ بها عليك،و المصيبة إنما نشأت من قبل نفسك و عملك،فالأول فضله،و الثاني عدله،و العبد يتقلب بين فضله و عدله،جار عليه فضله، ماض فيه حكمه،عدل فيه قضاؤه و ختم الآية الأولى بقوله: إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ بعد قوله: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إعلاما لهم بعموم قدرته مع عدله،و أنه عادل قادر، و في ذلك إثبات القدر و السبب،فذكر السبب،و أضافه إلى نفوسهم،و ذكر عموم القدرة و أضافها إلى نفسه،فالأول ينفي الجبر،و الثاني ينفي القول بإبطال القدر،فهو يشاكل قوله:

لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ(28) وَ ما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29)[التكوير].

و في ذكر قدرته هاهنا نكتة لطيفة،و هي أن هذا الأمر بيده و تحت قدرته،و أنه هو الذي لو شاء لصرف عنكم،فلا تطلبوا كشف أمثاله من غيره،و لا تتكلوا على سواه،و كشف هذا المعنى و أوضحه كل الإيضاح بقوله: وَ ما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ [آل عمران:166] و هو الإذن الكوني القدري،لا الشرعي الديني كقوله في السحر: وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ [البقرة:102].

ثم أخبر عن حكمة هذا التقدير،و هي أن يعلم المؤمنين من المنافقين علم عيان و رؤية يتميز فيه أحد الفريقين من الآخر تمييزا ظاهرا،و كان من حكمة هذا التقدير تكلم المنافقين بما في نفوسهم،فسمعه المؤمنون،و سمعوا رد اللّه عليهم و جوابه لهم،و عرفوا مؤدى النفاق و ما يؤول إليه،و كيف يحرم صاحبه سعادة الدنيا و الآخرة،فيعود عليه بفساد الدنيا و الآخرة، فللّه كم من حكمة في ضمن هذه القصة بالغة،و نعمة على المؤمنين سابغة،و كم فيها من تحذير و تخويف و إرشاد و تنبيه،و تعريف بأسباب الخير و الشر و ما لهما و عاقبتهما.

ثم عزى نبيه و أولياءه عمن قتل منهم في سبيله أحسن تعزية،و ألطفها و أدعاها إلى الرضى بما قضاه لها،فقال: وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ(169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)[آل عمران]،فجمع لهم الحياة الدائمة منزلة القرب منه،و أنهم عنده،و جريان الرزق المستمر عليهم،و فرحهم بما آتاهم من فضله،و هو فوق الرضا،بل هو كمال الرضا،و استبشارهم بما يجدد لهم كل وقت من نعمته و كرامته.و ذكرهم سبحانه في أثناء هذه المحنة بما هو من أعظم مننه و نعمه عليهم،التي إن قابلوا بها كل محنة تنالهم

ص: 138

و بلية،تلاشت في جنب هذه المنة و النعمة،و لم يبق لها أثر البتة،و هي:منته عليهم بإرسال رسول من أنفسهم إليهم،يتلو عليهم آياته،و يزكيهم،و يعلمهم الكتاب و الحكمة،و ينقذهم من الضلال الذي كانوا فيه قبل إرساله إلى الهدى،و من الشقاء إلى الفلاح،و من الظلمة إلى النور،و من الجهل إلى العلم.فكل بلية و محنة تنال العبد بعد حصول هذا الخير العظيم له أمر يسير جدا في جنب الخير الكثير،كما ينال الناس بأذى المطر في جنب ما يحصل لهم به من الخير،فأعلمهم أن سبب المصيبة من عند أنفسهم،ليحذروا،و أنها بقضائه و قدره ليوحّدوا و يتكلوا،و لا يخافوا غيره،و أخبرهم بما لهم فيها من الحكم،لئلا يتهموه في قضائه و قدره،و ليتعرف إليهم بأنواع أسمائه و صفاته،و سلاّهم بما أعطاهم مما هو أجل قدرا،و أعظم خطرا مما فاتهم من النصر و الغنيمة،و عزّاهم عن قتلاهم بما نالوه من ثوابه و كرامته،لينافسوهم فيه،و لا يحزنوا عليهم،فله الحمد كما هو أهله،و كما ينبغي لكرم وجهه،و عزّ جلاله (1).

باب منه:

قال اللّه تعالى: وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللّهَ رَمى [الأنفال:17].

قلت:اعتقد جماعة أن المراد بالآية:سلب فعل الرسول صلى اللّه عليه و سلم عنه،و إضافته إلى الرب تعالى.و جعلوا ذلك أصلا في الجبر،و إبطال نسبة الأفعال إلى العباد.و تحقيق نسبتها إلى الرب وحده،و هذا غلط منهم في فهم القرآن.فلو صح ذلك لوجب طرده في جميع الأعمال.فيقال:ما صليت إذ صليت،و ما صمت إذ صمت،و ما ضحيت إذ ضحيت،و لا فعلت كل فعل إذ فعلته،و لكن اللّه فعل ذلك.فإن طردوا ذلك لزمهم في جميع أفعال العباد -طاعتهم و معاصيهم-إذ لا فرق.فإن خصوه بالرسول صلى اللّه عليه و سلم وحده و أفعاله جميعا،أو رميه وحده:تناقضوا،فهؤلاء لم يوفقوا لفهم ما أريد بالآية.

و بعد،فهذه الآية نزلت (2)في شأن رميه صلى اللّه عليه و سلم المشركين يوم بدر بقبضة من الحصباء،فلم تدع وجه أحد منهم إلا أصابته،و معلوم أن تلك الرمية من البشر لا تبلغ هذا المبلغ،فكان منه صلى اللّه عليه و سلم مبدأ الرمي،و هو الحذف،و من اللّه سبحانه و تعالى نهايته،و هو الإيصال،فأضافح.

ص: 139


1- زاد المعاد(218/3-244).
2- ذكر ذلك ابن إسحاق(46/2)و الطبراني في الكبير(203/3)من حديث حكيم ابن حزام رضي اللّه عنه،و قال الهيثمي«إسناده حسن»(84/6)و رواه في الكبير أيضا(285/11)و قال الهيثمي:رجاله رجال الصحيح.

إليه رمي الحذف الذي هو مبدؤه،و نفى عنه رمي الإيصال الذي هو نهايته.

و نظير هذا:قوله في الآية نفسها: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَ لكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ [الأنفال:17]،ثم قال: وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللّهَ رَمى فأخبره:هو وحده هو الذي تفرد بقتلهم،و لم يكن ذلك بكم أنتم،كما تفرد بإيصال الحصى إلى أعينهم،و لم يكن ذلك من رسوله.و لكن وجه الإشارة بالآية:أنه-سبحانه-أقام أسبابا ظاهرة،كدفع المشركين،و تولى دفعهم، و إهلاكهم بأسباب باطنة غير الأسباب التي تظهر للناس،فكان ما حصل من الهزيمة و القتل و النصرة مضافا إليه و به،و هو خير الناصرين.

ص: 140

الأمثال في القرآن الكريم

قيمة المثل في القرآن

قد أخبر اللّه-سبحانه-أنه ضرب الأمثال لعباده في غير موضع من كتابه،و أمر باستماع أمثاله،و دعا عباده إلى تعقلها و التفكر فيها،و الاعتبار بها،و هذا هو المقصود بها (1).

حكمة ضرب المثل في القرآن

ضرب الأمثال في القرآن يستفاد منه أمور التذكير،و الوعظ،و الحث،و الزجر، و الاعتبار،و التقرير،و تقريب المراد للعقل،و تصويره في صورة المحسوس،بحيث يكون نسبته للعقل كنسبة المحسوس إلى الحس و قد تأتي أمثال القرآن مشتملة على بيان تفاوت الأجر على المدح و الذم،و على الثواب و العقاب،و على تفخيم الأمر،أو تحقيره،و على تحقيق أمر و إبطال أمر،و اللّه أعلم (2).

أصول و قواعد من أمثال

القرآن الكريم لعلم التعبير

أمثال القرآن كلها أصول و قواعد لعلم التعبير لمن حسن الاستدلال بها،و كذلك من فهم القرآن فإنه يعبر به الرؤيا أحسن تعبير،و أصول التعبير الصحيحة إنما أخذت من مشكاة القرآن،فالسفينة:تعبر بالنجاة لقوله تعالى: فَأَنْجَيْناهُ وَ أَصْحابَ السَّفِينَةِ [العنكبوت:15]و تعبر بالتجارة،و الخشب بالمنافقين،و الحجارة بقساوة القلب،و البيض بالنساء و اللباس أيضا بهن،و شرب الماء بالفتنة،و أكل لحم الرجل بغيبته،و المفاتيح بالكسب و الخزائن و الأموال.

و الفتح يعبر مرة بالدعاء و مرة بالنصر.و كما لملك يرى في محلّة لا عادة له بدخولها يعبر بإذلال أهلها و فسادها،و الحبل يعبر بالعهد و الحق و العضد،و النعاس قد يعبر بالأمن.

ص: 141


1- إعلام الموقعين(252/1).
2- بدائع الفوائد(9/4).

و البقل و البصل و الثوم و العدس،يعبر لمن أخذه بأنه قد استبدل شيئا أدنى بما هو خير منه من مال أو رزق أو علم أو زوجة أو دار.

و المرض يعبر بالنفاق و الشك و شهوة الزنا،و الطفل الرضيع يعبر بالعدو لقوله تعالى:

فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً [القصص:8].و النكاح بالبناء.

و الرماد بالعمل الباطل لقوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ [إبراهيم:18].

و النور يعبر بالهدى،و الظلمة بالضلال،و من هاهنا قال عمر بن الخطاب لحابس ابن سعد الطائي و قد ولاه القضاء،فقال له:يا أمير المؤمنين،إني رأيت الشمس و القمر يقتتلان،و النجوم بينهما نصفين،فقال عمر:مع أيهما كنت؟قال:مع القمر على الشمس، قال:كنت مع الآية الممحوة،اذهب فلست تعمل لي عملا،و لا تقتل إلا في لبس من الأمر،فقتل يوم صفين.

و قيل لعابر:رأيت الشمس و القمر دخلا في جوفي،فقال تموت،و احتج بقوله تعالى:

فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ(7) وَ خَسَفَ الْقَمَرُ(8) وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ(9) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10)[القيامة].

و قال رجل لابن سيرين:رأيت معي أربعة أرغفة خبز،فطلعت الشمس،فقال:تموت إلى أربعة أيام،ثم قرأ قوله تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً(45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46)[الفرقان]،و أخذ هذا التأويل أنه حمل رزق أربعة أيام،و قال له آخر:رأيت كيسي مملوءا أرضة فقال:أنت ميت،ثم قرأ:

فَلَمّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاّ دَابَّةُ الْأَرْضِ [سبأ:14].

و النخلة:تدل على الرجل المسلم و على الكلمة الطيبة،و الحنظلة:تدل على ضد ذلك.

و الصنم:يدل على العبد السوء الذي لا ينفع.و البستان:يدل على العمل،و احتراقه:

يدل على حبوطه لما تقدم في أمثال القرآن.

و من رأى أنه ينقض غزلا أو ثوبا ليعيده مرة ثانية،فإنه ينقض عهدا،و ينكثه.و المشي سويا في طريق مستقيم،يدل على استقامته على الصراط المستقيم.و الأخذ في بنيات الطريق يدل على عدوله عنه إلى ما خالفه.و إذا عرضت له طريقتان ذات يمين و ذات شمال، فسلك أحدهما،فإنه من أهلها،و ظهور عورة الإنسان له ذنب يرتكبه و يفتضح به،و هروبه و فراره من شيء نجاة و ظفر.

و غرقه في الماء:فتنة في دينه و دنياه.و تعلقه بحبل بين السماء و الأرض:تمسكه بكتاب

ص: 142

اللّه و عهده و اعتصامه بحبله،فإن انقطع به فارق العصمة،إلاّ أن يكون ولي أمرا،فإنه قد يقتل أو يموت (1).

فصل تدبر الأمثال التي وقعت في القرآن

اشارة

تدبر الأمثال التي وقعت في القرآن (2)

إنّ ما وقع في القرآن من الأمثال التي لا يعقلها إلا العالمون:تشبيه شيء بشيء في حكمه،و تقريب المعقول من المحسوس،أو أحد المحسوسين من الآخر،و اعتبار أحدهما بالآخر كقوله تعالى في حق المنافقين: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ(17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ(18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ [البقرة:17- 19]،إلى قوله: إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:20]،فضرب للمنافقين بحسب حالهم مثلين:مثلا ناريا،و مثلا مائيا لما في النار و الماء من الإضاءة و الإشراق و الحياة،فإن النار مادة النور،و الماء مادة الحياة،و قد جعل اللّه-سبحانه-الوحي الذي أنزله من السماء متضمنا لحياة القلوب و استنارتها،و لهذا سماه:روحا و نورا و جعل قابليه أحياء في النور، و من لم يرفع به رأسا أمواتا في الظلمات.

و أخبر عن حال المنافقين بالنسبة إلى حظهم من الوحي،و أنهم بمنزلة من استوقد نارا لتضيء له و ينتفع بها،و هذا لأنهم دخلوا في الإسلام فاستضاءوا به و انتفعوا به و آمنوا به، و خالطوا المسلمين،و لكن لما لم يكن لصحبتهم مادة من قلوبهم من نور الإسلام طفئ عنهم،و ذهب اللّه بنورهم و لم يقل بنارهم،فإن النار فيها الإضاءة و الإحراق،و تركهم في ظلمات لا يبصرون فهذا حال من أبصر،ثم عمي،و عرف ثم أنكر،و دخل في الإسلام،ثم فارقه بقلبه،فهو لا يرجع له.

و لهذا قال: فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة:18]،ثم ذكر حالهم بالنسبة إلى المثل المائي فشبههم بأصحاب صيّب،و هو المطر الذي يصوب،أي:ينزل من السماء فيه ظلمات و رعد و برق،فلضعف بصائرهم و عقولهم،اشتدت عليهم زواجر القرآن و وعيده و تهديده و أوامره و نواهيه و خطابه الذي يشبه الصواعق،فحالهم كحال من أصابه مطر فيه ظلمة و رعد و برق،

ص: 143


1- إعلام الموقعين(250/1-252).
2- رتبت هذه الأمثلة المباركة وفق ترتيب سور القرآن العظيم.

فلضعفه و خوره جعل إصبعيه في أذنيه و غمض عينيه خشية من صاعقة تصيبه.

و قد شاهدنا نحن و غيرنا كثيرا من مخانيث تلاميذ الجهمية و المبتدعة إذا سمعوا شيئا من آيات الصفات و أحاديث الصفات المنافية لبدعتهم رأيتهم عنها معرضين، كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)[المدثر].

و يقول مخنثهم:سدوا عنا هذا الباب،اقرءوا شيئا غير هذا،و ترى قلوبهم مولية،و هم يجمحون لثقل معرفة الرب-سبحانه و تعالى-و أسمائه و صفاته على عقولهم و قلوبهم.

و كذلك المشركون على اختلاف شركهم إذا جرد لهم التوحيد،و تليت عليهم النصوص المبطلة لشركهم اشمأزت قلوبهم،و ثقلت عليهم،و لو وجدوا السبيل إلى سد آذانهم لفعلوا، و لذلك تجد أعداء أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ثقل ذلك عنهم جدا،و أنكرته قلوبهم،و هذا كله شبه ظاهر و مثل محقق من إخوانهم من المنافقين في المثل الذي ضربه لهم بالماء،فإنهم لما تشابهت قلوبهم تشابهت أعمالهم.

مثل المقلّدين

و منها قوله تعالى: وَ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاّ دُعاءً وَ نِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171)[البقرة]،فتضمن هذا المثل ناعقا:أي مصوتا بالغنم و غيرها، و منعوقا به،و هو الدواب،فقيل:الناعق:العابد،و هو الداعي للصنم،و الصنم هو المنعوق به المدعو،و إن حال الكافر في دعائه كحال من ينعق بما لا يسمعه.

هذا قول طائفة منهم:عبد الرحمن بن زيد و غيره.

و استشكل صاحب«الكشاف» (1)،و جماعة معه هذا القول،و قالوا:قوله: إِلاّ دُعاءً وَ نِداءً لا يساعد عليه،لأن الأصنام لا تسمع دعاء،و لا نداء،و قد أجيب عن هذا الاستشكال بثلاثة أجوبة:

أحدها:أن«إلا»زائدة،و المعنى بما لا يسمع دعاء و نداء،قالوا:و قد ذكر ذلك الأصمعي في قول الشاعر:

حراجيج ما تنفك إلا مناخة (2)

ص: 144


1- الزمخشري في تفسيره(107/1).
2- الحراجيج:النوق،و الشعر لذي الرمة في وصف إبل،و شطره: على الخسف أو نرمي بها بلدا قفرا

أي ما تنفك مناخة،و هذا جواب فاسد،فإن«إلا»لا تزاد في الكلام.

الجواب الثاني:أن التشبيه وقع في مطلق الدعاء،لا في خصوصيات المدعو.

الجواب الثالث:أن المعنى أن مثل هؤلاء في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءهم كمثل الناعق بغنمه فلا ينتفع بنعيقه بشيء،غير أنه هو في دعاء و نداء،و كذلك المشرك ليس له من دعائه و عبادته إلا العناء،و قيل:المعنى:و مثل الذين كفروا كالبهائم التي لا تفقه ما يقول الراعي أكثر من الصوت،فالراعي هو داعي الكفار،و الكفار هم البهائم المنعوق بها.

قال سيبويه (1):«المعنى:و مثلك يا محمد،و مثل الذين كفروا كمثل الناعق و المنعوق به.و على قوله:فيكون المعنى:و مثل الذين كفروا و داعيهم كمثل الغنم و الناعق بها».و لك أن تجعل هذا من التشبيه المركب،و أن تجعله من التشبيه المفرق (2)،فإن جعلته من المركب كان تشبيها للكفار في عدم فقههم و انتفاعهم بالغنم التي ينعق بها الراعي،فلا تفقه من قوله شيئا غير الصوت المجرد الذي هو الدعاء و النداء،،و إن جعلته من التشبيه المفرق،فالذين كفروا بمنزلة البهائم،و دعاء داعيهم إلى الطريق و الهدى بمنزلة الذي ينعق بها،و دعاؤهم إلى الهدى بمنزلة النعق،و إدراكهم مجرد الدعاء و النداء كإدراك البهائم مجرد صوت الناعق، و اللّه أعلم.

مثل المنفقين في سبيل الله

و منها قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَ اللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261)[البقرة]،شبه-سبحانه- نفقة المنفق في سبيله سواء كان المراد به الجهاد،أو جميع سبل الخير من كل بر،كمن بذر بذرا،فأنبتت كل حبة منه سبع سنابل،اشتملت كل سنبلة على مائة حبة،و اللّه يضاعف ذلك بحسب حال المنفق و إيمانه و إخلاصه و إحسانه و نفع نفقته و قدرها و وقوعها موقعها،فإن ثواب الإنفاق يتفاوت بحسب ما يقوم بالقلب من الإيمان و الإخلاص،و التثبيت عند النفقة،و هو إخراج المال بقلب ثابت قد انشرح صدره بإخراجه،و سمحت به نفسه،و خرج من قلبه خروجه من يده،فهو ثابت القلب عند إخراجه غير جزع و لا هلع،و لا متعبة نفسه ترجف يده،و فؤاده،و يتفاوت بحسب نفع الإنفاق و مصارفه بمواقعه،و بحسب طيب المنفق و زكاته.

ص: 145


1- الكتاب،لسيبويه(212/1)بألفاظ متقاربة.
2- هو التشبيه الذي وجه الشبه فيه صورة منزعة من متعدد و يسمى التمثيلي،و المركب عكسه.

و تحت هذا المثل من الفقه أنه-سبحانه-شبه الإنفاق بالبذر،فالمنفق ماله الطيب للّه لا لغيره باذر ماله في أرض زكية،فمغله بحسب بذره،و طيب أرضه،و تعاهد البذر بالسقي، و نفي الدغل و النبات الغريب عنه.فإذا اجتمعت هذه الأمور و لم تحرق الزرع نار،و لا لحقته جائحة،جاء أمثال الجبل.و كان مثله كمثل جنة بربوة،و هي المكان المرتفع الذي تكون الجنة فيه نصب الشمس و الريح،فتتربي الأشجار هناك أتم تربية،فنزل عليها من السماء مطر عظيم القطر متتابع،فرواها و نماها،فآتت أكلها ضعفي ما يؤتيه غيرها بسبب ذلك الوابل،فإن لم يصبها وابل،فطل:مطر صغير القطر،يكفيها لكرم منبتها،يزكو على الطل،و ينمي عليه،مع أن في ذكر نوعي الوابل و الطل إشارة إلى نوعي الإنفاق الكثير و القليل.

فمن الناس من يكون إنفاقه وابلا،و منهم من يكون إنفاقه طلا،و اللّه لا يضيع مثقال ذرة.

فإن عرض لهذا العامل ما يغرق أعماله،و يبطل حسناته كان بمنزلة رجل له جنة من نخيل و أعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات،و أصابه الكبر،و له ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت.

فإن كان يوم استيفاء الأعمال،و إحراز الأجور وجد هذا العامل عمله،قد أصابه ما أصاب صاحب هذه الجنة،فحسرته حينئذ أشد من حسرة هذا على جنته.

فهذا مثل ضربه اللّه سبحانه في الحسرة لسلب النعمة عند شدة الحاجة إليها مع عظم قدرها و منفعتها،و الذي ذهبت عنه قد أصابه الكبر و الضعف،فهو أحوج ما كان إلى نعمته، و مع هذا فله ذرية ضعفاء لا يقدرون على نفعه و القيام بمصالحة،بل هم في عياله،فحاجته إلى نعمته حينئذ أشد ما كانت لضعفه و ضعف ذريته،فكيف يكون حال هذا إذا كان له بستان عظيم،فيه من جميع الفواكه و الثمر،و سلطان ثمره أجل الفواكه و أنفعها.و هو ثمر النخيل و الأعناب،فمغله يقوم بكفايته و كفاية ذريته،فأصبح يوما،و قد وجده محترقا كله كالصريم، فأي حسرة أعظم من حسرته.

قال ابن عباس:هذا مثل الذي يختم له بالفساد في آخر عمره.

و قال مجاهد:هذا مثل المفرط في طاعة اللّه حتى يموت.

و قال السدي:هذا مثل المرائي في نفقته الذي ينفق لغير اللّه،ينقطع عنه نفعها أحوج ما يكون إليه.

ص: 146

و سأل عمر بن الخطاب الصحابة يوما عن هذه الآية،فقالوا:اللّه أعلم،فغضب عمر، و قال:قولوا:نعلم أو لا نعلم،فقال ابن عباس:في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، قال:قل يا بن أخي،و لا تحقر نفسك،قال:ضرب مثلا لعمل،قال:«لأي عمل؟قال:

لرجل غني يعمل بالحسنات،ثم بعث اللّه له الشيطان،فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله كلها (1).

قال الحسن:هذا مثل قل و اللّه من يعقله من الناس،شيخ كبير ضعف جسمه،و كثر صبيانه أفقر ما كان إلى جنته،و إن أحدكم و اللّه أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا.

فإن عرض لهذا الأعمال من الصدقات ما يبطلها من المن و الأذى و الرياء،فالرياء يمنع انعقادها سببا للثواب،و المن و الأذى يبطل الثواب الذي كانت سببا له،فمثل صاحبها و بطلان عمله كمثل صفوان،و هو الحجر الأملس عليه تراب فأصابه وابل،هو المطر الشديد،فتركه صلدا لا شيء عليه.

و تأمل أجزاء هذا المثل البليغ و انطباقها على أجزاء الممثل به تعرف عظمة القرآن و جلالته،فإن الحجر في مقابلة قلب هذا المرائي و المان و المؤذي،فقلبه في قسوته عن الإيمان و الإخلاص و الإحسان بمنزلة الحجر،و العمل الذي عمله لغير اللّه بمنزلة التراب الذي على ذلك الحجر،فقسوة ما تحته و صلابته تمنعه من النبات و الثبات عند نزول الوابل فليس له مادة متصلة بالذي يقبل الماء،و ينبت الكلأ،و كذلك قلب المرائي ليس له ثبات عند وابل الأمر و النهي و القضاء و القدر،فإذا نزل عليه وابل الوحي انكشف عنه ذلك التراب اليسير الذي كان عليه،فبرز من تحته حجر صلد لا نبات فيه،و هذا مثل ضربه اللّه-سبحانه- لعمل المرائي و نفقته،لا يقدر يوم القيامة على ثواب شيء منه أحوج ما كان إليه،و باللّه التوفيق.

مثل من أنفق ماله في غير طاعة اللّه عزّ و جلّ

من أنفق ماله في غير طاعة اللّه عزّ و جلّ

و منها قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللّهِ شَيْئاً وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ(116) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ

ص: 147


1- البخاري(4918)في التفسير،و انظر الدر المنثور(47/2).

قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَ ما ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَ لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)[آل عمران]،هذا مثل ضربه اللّه تعالى لمن أنفق ماله في غير طاعته و مرضاته،فشبه-سبحانه-ما ينفقه هؤلاء من أموالهم في المكارم و المفاخر،و كسب الثناء و حسن الذكر،لا يبتغون به وجه اللّه،و ما ينفقونه ليصدوا به عن سبيل اللّه و اتباع رسله،بالزرع الذي زرعه صاحبه يرجو نفعه و خيره، فأصابته ريح شديدة البرد جدا يحرق بردها ما يمر عليه من الزرع و الثمار،فأهلكت ذلك الزرع و أيبسته.

و اختلف في الصر،فقيل:البرد الشديد،و قيل:النار،قاله ابن عباس.

قال ابن الأنباري:و إنما و صفت النار بأنها صر لتصريتها عند الالتهاب.

و قيل:الصر:الصوت الذي يصحب الريح من شدة هبوبها.

و الأقوال الثلاثة متلازمة،فهو برد شديد محرق بيبسه للحرث،كما تحرقه النار،و فيه صوت شديد:و في قوله: أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ تنبيه على أن سبب إصابتها لحرثهم:هو ظلمهم،فهو الذي سلط عليهم الريح المذكورة،حتى أهلكت زرعهم و أيبسته، فظلمهم هو الريح التي أهلكت أعمالهم،و نفقاتهم،و أتلفتها.

مثل فيمن انسلخ من آيات الله

فيمن انسلخ من آيات الله

و منها قوله تعالى: وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ(175) وَ لَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَ اتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)[الأعراف]،فشبه-سبحانه-من آتاه كتابه،و علمه العلم الذي منعه غيره، فترك العمل به،و اتبع هواه،و آثر سخط اللّه على رضاه،و دنياه على آخرته،و المخلوق على الخالق،بالكلب الذي هو من أخبث الحيوانات و أوضعها قدرا و أخسها نفسا.

و همته لا تتعدى بطنه،و أشدها شرها و حرصا،و من حرصه أنه لا يمشي إلا و خطمه في الأرض،يتشمم و يستروح حرصا و شرها،و لا يزال يشم دبره دون سائر أجزائه،و إذا رميت إليه بحجر رجع إليه ليعضه من فرط نهمته،و هو من أمهن الحيوانات،و أحملها للهوان، و أرضاها بالدنيا،و الجيف القذرة المروحة (1)أحب إليه من اللحم الطري،و العذرة أحب

ص: 148


1- راح الشيء،و أروح:أنتن.

إليه من الحلوى،و إذا ظفر بميتة تكفي مائة كلب لم يدع كلبا واحدا يتناول منها شيئا إلا هو عليه و قهره،لحرصه و بخله و شرهه،و من عجيب أمره و حرصه أنه إذا رأى ذا هيئة رثة، و ثياب دنية،و حال رزية نبحه،و حمل عليه،كأنه يتصور مشاركته له و منازعته قوته،و إذا رأي ذا هيئة حسنة و ثياب جميلة و رئاسة وضع له خطمه بالأرض،و خضع له،و لم يرفع إليه رأسه.

و في تشبيه من آثر الدنيا و عاجلها على اللّه و الدار الآخرة مع وفور علمه بالكلب في حال لهثه سر بديع:و هو أن هذا الذي حاله ما ذكره اللّه من انسلاخه من آياته،و اتباعه هواه إنما كان لشدة لهفه على الدنيا،لانقطاع قلبه عن اللّه،و الدار الآخرة،فهو شديد اللهف عليها، و لهفه:نظير لهف الكلب الدائم،و اللهف و اللهث شقيقان،و أخوان في اللفظ و المعنى.

قال ابن جريج:الكلب منقطع الفؤاد،لا فؤاد له:إن تحمل عليه يلهث،أو تتركه يلهث.فهو مثل الذي يترك الهدى،لا فؤاد له إنما فؤاده منقطع (1).

قلت:مراده بانقطاع فؤاده:أنه ليس له فؤاد يحمله على الصبر،و ترك اللهث،و هكذا الذي انسلخ من آيات اللّه لم يبق معه فؤاد يحمله على الصبر عن الدنيا،و ترك اللهف عليها، فهذا يلهف على الدنيا من قلة صبره عنها،و هذا يلهث من قلة صبره عن الماء،فالكلب من أقل الحيوانات صبرا عن الماء،و إذا عطش أكل الثري من العطش،و إن كان فيه صبر على الجوع، و على كل حال فهو من أشد الحيوانات لهثا،يلهث قائما و قاعدا و ماشيا و واقفا،و ذلك لشدة حرصه،فحرارة الحرص في كبده و توجب له دوام اللهث،فهكذا مشبهه:شدة الحرص، و حرارة الشهوة في قلبه توجب له دوام اللهف فإن حملت عليه بالموعظة و النصيحة،فهو يلهف،و إن تركته و لم تعظه،فهو يلهف.

قال مجاهد:و ذلك مثل الذي أوتي الكتاب و لم يعمل به.

و قال ابن عباس:إن تحمل عليه الحكمة لم يحملها،و إن تركته لم يهتد إلى خير، كالكلب إن كان رابضا لهث،و إن طرد لهث.

و قال الحسن:هو المنافق لا يثبت على الحق،دعي أو لم يدع،وعظ أو لم يوعظ، كالكلب يلهث طرد أو ترك.

و قال عطاء:ينبح إن حملت عليه،أو لم تحمل عليه.).

ص: 149


1- انظر تفسير الطبري(129/9).

و قال أبو محمد بن قتيبة:«كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش،إلا الكلب فإنه يلهث في حال الكلال،و حال الراحة،و حال الصحة،و حال المرض و العطش» (1)فضربه اللّه مثلا لمن كذب بآياته،و قال:إن وعظته فهو ضال،و إن تركته فهو ضال كالكلب، إن طردته لهث و إن تركته على حاله لهث.

و نظيره قوله سبحانه: وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَ دَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193)[الأعراف].

و تأمل ما في هذا المثل من الحكم و المعنى:

فمنها:قوله: آتَيْناهُ آياتِنا ،فأخبر-سبحانه-أنه هو الذي آتاه آياته،فإنها نعمة، و اللّه هو الذي أنعم بها عليه،فأضافها إلى نفسه.

ثم قال:فانسلخ منها،أي خرج منها،كما تنسلخ الحية من جلدها،و فارقها فراق الجلد يسلخ عن اللحم،و لم يقل:فسلخناه منها،لأنه هو الذي تسبب إلى انسلاخه منها باتباع هواه.

و منها:قوله:سبحانه فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ أي لحقه و أدركه،كما قال في قوم فرعون:

فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60)[الشعراء]،و كان محفوظا محروسا بآيات اللّه محمي الجانب بها من الشيطان،لا ينال منه شيئا إلا على غرة و خطفة،فلما انسلخ من آيات اللّه ظفر به الشيطان ظفر الأسد بفريسته،فكان من الغاوين العاملين بخلاف علمهم،الذي يعرفون الحق، و يعلمون بخلافه كعلماء السوء.

و منها:أنه-سبحانه-قال: وَ لَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها ،فأخبر-سبحانه-أن الرفعة عنده ليست بمجرد العلم،فإن هذا كان من العلماء،و إنما هي باتباع الحق و إيثاره،و قصد مرضاة اللّه،فإن هذا كان من أعلم أهل زمانه،و لم يرفعه اللّه بعلمه،و لم ينفعه به،فنعوذ باللّه من علم لا ينفع.

و أخبر-سبحانه-أنه هو الذي يرفع عبده إذا شاء بما آتاه من العلم،و إن لم يرفعه اللّه فهو موضوع،لا يرفع أحد به رأسا،فإن الخافض الرافع-سبحانه-خفضه و لم يرفعه.

و المعنى:لو شئنا فضلناه و شرفناه،و رفعنا قدره و منزلته بالآيات التي آتيناه:

قال ابن عباس:و لو شئنا لرفعناه بعمله بها.

و قالت طائفة:الضمير في قوله: لَرَفَعْناهُ عائد على الكفر،و المعنى:لو شئنا لرفعنا

ص: 150


1- تأويل مشكل القرآن(369).

عنه الكفر بما معه من آياتنا،قال مجاهد و عطاء:لرفعنا عنه الكفر بالإيمان و عصمناه.و هذا المعنى حق،و الأول هو مراد الآية،و هذا من لوازم المراد (1).

و قد تقدم أن السلف كثيرا ما ينبهون على لازم معنى الآية،فيظن الظان أن ذلك هو المراد منها.

و قوله: وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ ،قال سعيد بن جبير:ركن إلى الأرض.و قال مجاهد:سكن.و قال مقاتل:رضي بالدنيا.و قال أبو عبيدة:لزمها و أبطأ.و المخلد من الرجال:هو الذي يبطئ مشيته،و من الدواب:التي تبقى ثناياه إلى أن تخرج رباعيته.و قال الزجاج:خلد و أخلد،و أصله من الخلود،و هو الدوام و البقاء،و يقال:أخلد فلان بالمكان إذا أقام به،قال مالك بن نويرة:

بأبناء حي من قبائل مالك و عمرو بن يربوع أقاموا فأخلدوا

قلت:و منه قوله تعالى: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17)[الواقعة]،أي قد خلقوا للبقاء، لذلك لا يتغيرون و لا يكبرون،و هم على سن واحد أبدا.

و قيل:هم المقرطون في آذانهم و المسورون في أيديهم،و أصحاب هذا القول فسروا اللفظة ببعض لوازمها،و ذلك أمارة التخليد على ذلك السن،فلا تنافي بين القولين.

و قوله: وَ اتَّبَعَ هَواهُ ،قال الكلبي:اتبع مسافل الأمور،و ترك معاليها.

و قال أبو روق (2):اختار الدنيا على الآخرة،و قال عطاء:أراد الدنيا،و أطاع شيطانه، و قال ابن زيد:كان هواه مع القوم،يعني:الذين حاربوا موسى و قومه،و قال يمان:اتبع امرأته،لأنها هي التي حملته على ما فعل.

فإن قيل:الاستدراك ب«لكن»يقتضي أن يثبت بعدها ما نفي قبلها،أو نفي ما أثبت، كما تقول:لو شئت لأعطيته،لكني لم أعطه،و لو شئت لما فعلت كذا لكني فعلته.

فالاستدراك يقتضي:و لو شئنا لرفعناه بها،و لكنا لم نرفع،و لكنه أخلد،فكيف استدرك بقوله: وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ بعد قوله: وَ لَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها ؟

قيل:هذا من الكلام الملحوظ فيه جانب المعنى المعدول فيه عن مراعاة الألفاظ إلى المعاني،و ذلك أن مضمون قوله: وَ لَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها أنه لم يتعاط الأسباب التي تقتضي).

ص: 151


1- راجع الطبري(127/9).
2- أبو روق،هو عطية بن الحارث،صاحب التفسير،صدوق،انظر تهذيب التهذيب(224/7).

رفعه بالآيات من إيثار اللّه و مرضاته على هواه،و لكنه آثر الدنيا،و أخلد إلى الأرض،و اتبع هواه.

و قال الزمخشري (1):المعنى:و لو لزم آياتنا،لرفعناه بها،فذكر المشيئة،و المراد ما هي تابعة له،و مسببة عنه،كأنه قيل:و لو لزمها لرفعناه بها،قال:أ لا ترى إلى قوله:

وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ ،فاستدرك المشيئة بإخلاده الذي هو فعله،فوجب أن يكون: وَ لَوْ شِئْنا في معنى ما هو فعله،و لو كان الكلام على ظاهره لوجب أن يقال: وَ لَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ و لكنا لم نشأ»اه.فهذا منه شنشنة نعرفها من قدري ناف للمشيئة العامة،مبعد للنجعة في جعل كلام اللّه معتزليا قدريا،فأين قوله:و لو شئنا من قوله:و لو لزمها،ثم إذا كان اللزوم لها موقوفا على مشيئة اللّه،و هو الحق،بطل أصله.

و قوله:«إن مشيئة اللّه تابعة للزومه الآيات»من أفسد الكلام،و أبطله،بل لزومه لآياته تابع لمشيئة اللّه،فمشيئة اللّه-سبحانه-متبوعة لا تابعة،و سبب لا مسبب،و موجب مقتضي لا مقتضي،فما شاء اللّه وجب وجوده،و ما لم يشأ امتنع وجوده.

مثل الحياة الدنيا

الحياة الدنيا

و منها قوله تعالى: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمّا يَأْكُلُ النّاسُ وَ الْأَنْعامُ حَتّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَ ازَّيَّنَتْ وَ ظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) [يونس]،شبه-سبحانه-الحياة الدنيا في أنها تتزين في عين الناظر،فتروقه بزينتها و تعجبه، فيميل إليها و يهواها اغترارا بها،حتى إذا ظن أنه مالك لها قادر عليها سلبها بغتة أحوج ما كان إليها،و حيل بينه و بينها،فشبهها بالأرض التي ينزل الغيث عليها،فتعشب و يحسن نباتها،و يروق منظرها للناظر،فيغتر به،و يظن أنه قادر عليها مالك لها،فيأتيها أمر اللّه فتدرك نباتها الآفة بغتة،فتصبح كأن لم تكن قبل،فيخيب ظنه،و تصبح يداه صفرا منها.

فهكذا حال الدنيا و الواثق بها سواء،و هذا من أبلغ التشبيه و القياس،و لما كانت الدنيا عرضة لهذه الآفات،و الجنة سليمة منها قال: وَ اللّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ [يونس:25]، فسمّاها هنا دار السلام لسلامتها من هذه الآفات التي ذكرها في الدنيا،فعم بالدعوة إليها، و خص بالهداية من يشاء،فذاك عدله،و هذا فضله.

ص: 152


1- تفسير الكشاف(104/2).

مثل المؤمنين و الكافرين

المؤمنين و الكافرين

و منها قوله تعالى: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَ الْأَصَمِّ وَ الْبَصِيرِ وَ السَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَ فَلا تَذَكَّرُونَ [هود:24]،فإنه-سبحانه-ذكر الكفار و وصفهم بأنهم ما كانوا يستطيعون السمع، و ما كانوا يبصرون،ثم ذكر المؤمنين و وصفهم بالإيمان و العمل الصالح و الإخبات إلى ربهم،فوصفهم بعبودية الظاهر و الباطن و جعل أحد الفريقين كالأعمى و الأصم من حيث كان قلبه أعمى عن رؤية الحق،أصم عن سماعه،فشبهه بمن بصره أعمى عن رؤية الأشياء، و سمعه أصم عن سماع الأصوات و الفريق الآخر:بصير القلب كبصير العين.

و سميع الأذن،فتضمنت الآية قياسين و تمثيلين للفريقين،ثم نفى التسوية عن الفريقين بقوله: هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً .

المثال المائي و الناري في حق المؤمنين

و قد ذكر اللّه المثلين المائي و الناري في«سورة الرعد»،و لكن في حق المؤمنين فقال تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَ مِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَ الْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَ أَمّا ما يَنْفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْأَمْثالَ (17)[الرعد]،شبه الوحي لحياة القلوب و الأسماع و الأبصار بالماء الذي أنزله لحياة الأرض بالنبات،و شبه القلوب بالأودية،فقلب كبير يسع علما عظيما كواد كبير يسع ماء كثيرا،و قلب صغير إنما يسع بحسبه كالوادي الصغير، فسالت أودية بقدرها،و احتملت قلوب من الهدى و العلم بقدرها،و كما أن السيل إذا خالط الأرض و مر عليها احتمل غثاء و زبدا،فكذلك الهدى و العلم إذا خالط القلوب أثار ما فيها من الشهوات و الشبهات،ليقلعها و يذهبها،كما يثير الدواء وقت شربه من البدن أخلاط فيتكدر بها شاربه،و هي من تمام نفع الدواء فإنه أثارها ليذهب بها فإنه لا يجامعها و لا يشاركها،و هكذا يضرب اللّه الحق و الباطل.

ثم ذكر المثل الناري فقال: وَ مِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ ،و هو الخبث الذي يخرجه عند سبك الذهب و الفضة و النحاس و الحديد،فتخرجه النار و تمييزه و تفصله عن الجوهر الذي ينتفع به،فيرمي و يطرح و يذهب جفاء.فكذلك الشهوات و الشبهات يرميها قلب المؤمن و يطرحها و يجفوها كما يطرح السيل و النار ذلك الزبد و الغثاء

ص: 153

و الخبث،و يستقر في قرار الوادي الماء الصافي الذي استقى منه الناس و يزرعون و يسقون أنعامهم،كذلك يستقر في قرار القلب و جذره الإيمان الخالص الصافي الذي ينفع صاحبه، ينتفع به غيره،و من لم يفقه هذين المثلين و لم يدرهما،و يعرف ما يراد منهما فليس من أهلهما،و اللّه الموفق.

مثل في بطلان أعمار الكفار

في بطلان أعمار الكفار

و منها قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18)[إبراهيم]،فشبه تعالى أعمال الكفار في بطلانها و عدم الانتفاع بها برماد مرت عليه ريح شديدة في يوم عاصف، فشبه-سبحانه-أعمالهم في حبوطها و ذهابها باطلا كالهباء المنثور،لكونها على غير أساس من الإيمان و الإحسان،و كونها لغير اللّه-عز و جل-و على غير أمره برماد طيرته الريح العاصف،فلا يقدر صاحبه على شيء منه وقت شدة حاجته إليه،فلذلك قال: لا يَقْدِرُونَ مِمّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ لا يقدرون يوم القيامة مما كسبوا من أعمالهم على شيء،فلا يرون له أثرا من ثواب،و لا فائدة نافعة،فإن اللّه لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه موافقا لشرعه.

و الأعمال أربعة:فواحد مقبول،و ثلاثة مردودة.

فالمقبول:الخالص الصواب.فالخالص:أن يكون للّه لا لغيره،و الصواب:أن يكون مما شرعه اللّه على لسان رسوله.

و الثلاثة المردودة ما خالف ذلك.

و في تشبيهها بالرماد سر بديع،و ذلك للتشابه الذي بين أعمالهم،و بين الرماد في إحراق النار و إذهابها لأصل هذا و هذا،فكانت الأعمال التي لغير اللّه،و على غير مراده طعمة للنار، و بها تسعر النار على أصحابها،و ينشئ اللّه-سبحانه-لهم من أعمالهم الباطلة نار عذابا، كما ينشئ لأهل الأعمال الموافقة لأمره التي هي خالصة لوجهه من أعمالهم نعيما و روحا، فأثرت النار في أعمال أولئك حتى جعلتها رمادا،فهم و أعمالهم و ما يعبدون من دون اللّه وقود النار.

ص: 154

مثل في الكلمة الطيبة

في الكلمة الطيبة

و منها قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِي السَّماءِ(24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَ يَضْرِبُ اللّهُ الْأَمْثالَ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)[إبراهيم]،فشبه-سبحانه و تعالى-الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة،لأن الكلمة الطيبة تثمر العمل الصالح،و الشجرة الطيبة تثمر الثمر النافع و هذا ظاهر على قول جمهور المفسرين يقولون:الكلمة الطيبة هي شهادة أن لا إله إلا اللّه فإنها تثمر جميع الأعمال الصالحة الظاهرة و الباطنة،فكل عمل صالح مرض للّه ثمرة هذه الكلمة.

و في تفسير علي بن أبي طالحة عن ابن عباس (1)،قال: كَلِمَةً طَيِّبَةً :شهادة أن لا إله إلا اللّه كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ و هو المؤمن، أَصْلُها ثابِتٌ :قول لا إله إلا اللّه في قلب المؤمن، وَ فَرْعُها فِي السَّماءِ ،يقول:يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء.

و قال الربيع بن أنس: كَلِمَةً طَيِّبَةً :هذا مثل الإيمان،فالإيمان:الشجرة الطيبة، و أصلها الثابت الذي لا يزول:الإخلاص فيه،و فرعه في السماء:خشية اللّه.

و التشبه على هذا القول أصح و أظهر و أحسن فإنه سبحانه شبه التوحيد في القلب بالشجرة الطيبة الثابتة الأصل الباسقة الفرع في السماء علوا،التي لا تزال تؤتي ثمرتها كل حين.

و إذا تأملت هذا التشبيه رأيته مطابقا لشجرة التوحيد الثابتة الراسخة في القلب التي فروعها من الأعمال الصالحة الصاعدة إلى السماء (2).

لا تزال هذه الشجرة تثمر الأعمال الصالحة كل وقت بحسب ثباتها في القلب و محبة القلب لها،و إخلاصه فيها،و معرفته بحقيقتها،و قيامه بحقوقها،و مراعاتها حق رعايتها.

فمن رسخت هذه الكلمة في قلبه بحقيقتها-التي هي حقيقتها-و اتصف قلبه بها،و انصبغ بها بصبغة اللّه التي لا أحسن صبغة منها،فعرف حقيقة الإلهية التي يثبتها قلبه للّه،و يشهد بها لسانه،و تصدقها جوارحه،و نفى تلك الحقيقة و لوازمها عن كل ما سوى اللّه،و واطأ قلبه لسانه،في هذا النفي و الإثبات،و انقادت جوارحه لمن شهد له بالواحدانية طائعة سالكة سبل

ص: 155


1- الطبري(203/13)،البيهقي في الأسماء و الصفات(135)و الطبراني في الدعاء(257/3).
2- انظر الدرر المنثور للسيوطي(20/5).

ربه ذللا غير ناكبة عنها،و لا باغية سواها بدلا،كما لا يبتغي القلب سوى معبوده الحق بدلا.

فلا ريب أن هذه الكلمة من هذا القلب على هذا اللسان لا تزال تؤتي ثمرتها من العمل الصالح الصاعد إلى الرب تعالى،و هذه الكلمة الطيبة هي التي رفعت هذا العمل الصالح إلى الرب تعالى،و هذه الكلمة الطيبة تثمر كلما كثيرا طيبا يقارنه عمل صالح فيرفع العمل الصالح الكلم الطيب كما قال تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10]فأخبر-سبحانه-أن العامل الصالح يرفع الكلم الطيب،و أخبر أن الكلمة الطيبة تثمر لقائلها عملا صالحا كل وقت.

و المقصود أن كلمة التوحيد إذا شهد بها المؤمن عارفا بمعناها و حقيقتها نفيا و إثباتا، متصفا بموجبها،قائما قلبه و لسانه و جوارحه،فهذه الكلمة الطيبة هي التي رفعت هذا العمل من هذا الشاهد،أصلها ثابت راسخ في قلبه،و فروعها متصلة بالسماء،و هي مخرجة ثمرتها كل وقت.

و من السلف من قال:إن الشجرة الطيبة هي النخلة،و يدل عليه حديث ابن عمر الصحيح (1).

و منهم من قال:هي المؤمن نفسه،كما قال محمد بن سعد،حدثني أبي،حدثني عمي،حدثني أبي عن أبيه،عن ابن عباس قوله: أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ يعني بالشجرة الطيبة المؤمن،و يعني بالأصل الثابت في الأرض،و الفرع في السماء...يكون المؤمن يعمل في الأرض و يتكلم،فيبلغ عمله و قوله السماء،و هو في الأرض.

و قال عطية العوفي في قوله: ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ قال:ذلك مثل المؤمن لا يزال يخرج منه كلام طيب،و عمل صالح يصعد إلى الله.

و قال الربيع بن أنس: أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِي السَّماءِ ،قال:ذلك المؤمن ضرب مثله في الإخلاص للّه وحده و عبادته وحده،لا شريك له. أَصْلُها ثابِتٌ ،قال:أصل عمله ثابت في الأرض، وَ فَرْعُها فِي السَّماءِ ،قال:ذكره في السماء،و لا اختلاف بين القولين...

ص: 156


1- صحيح البخاري-بالفتح-(175/1)في كتاب العلم،عن ابن عمر رضي اللّه عنه قال:قال رسول اللّه:«إن من الشجر لشجرة...»الحديث..

و المقصود بالمثل:المؤمن،و النخلة مشبهة به و هو مشبه بها،و إذا كانت النخلة شجرة طيبة،فالمؤمن المشبه بها أولى أن يكون كذلك،و من قال من السلف:إنها شجرة في الجنة،فالنخلة من أشرف أشجار الجنة.

و في هذا المثل من الأسرار و العلوم و المعارف ما يليق به،و يقتضيه علم الذي تكلم به و حكمته.

فمن ذلك أن الشجرة لا بد لها من عروق و ساق و فروع و ورق و ثمر،كذلك شجرة الإيمان و الإسلام ليطابق المشبه المشبه به،فعروقها العلم و المعرفة و اليقين،و ساقها الإخلاص،و فروعها الأعمال،و ثمرتها ما توجبه الأعمال الصالحة من الآثار الحميدة و الصفات الممدوحة،و الأخلاق الزكية و السمت الصالح،و الهدي و الدل المرضي.فيستدل على غرس هذه الشجرة في القلب و ثبوتها فيه بهذه الأمور.فإذا كان العلم صحيحا مطابقا لمعلومه الذي أنزل اللّه كتابه به،و الاعتقاد مطابقا لما أخبر به عن نفسه،و أخبرت به عنه رسله،و الإخلاص قائم في القلب،و الأعمال موافقة للأمر و الهدي،و الدل و السمت مشابه لهذه الأصول مناسب لها علم أن شجرة الإيمان في القلب أصلها ثابت،و فرعها في السماء،و إذا كان الأمر بالعكس علم أن القائم بالقلب إنما هو الشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض،ما لها من قرار.

و منها:أن الشجرة لا تبقى حية إلا بمادة تسقيها و تنميها،فإذا قطع عنها السقي أوشك أن تيبس،فهكذا شجرة الإسلام في القلب إن لم يتعهدها صاحبها بسقيها كل وقت بالعلم النافع،و العمل الصالح،و العود بالتذكر على التفكر على التذكر،و إلا أوشك أن تيبس.

و في مسند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة قال:قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:«إن الإيمان يخلق في القلب كما يخلق الثوب،فجددوا إيمانكم» (1).

و بالجملة فالغرس إن لم يتعاهده صاحبه أوشك أن يهلك.و من هنا تعلم شدة حاجة العباد إلى ما أمر اللّه به من العبادات على تعاقب الأوقات و عظم رحمته و تمام نعمته و إحسانه إلى عباده بأن وظفها عليها،و جعلها مادة لسقي غراس التوحيد الذي غرسه في قلبهم.

و منها:أن الغرس و الزرع النافع قد أجرى اللّه سبحانه العادة أن يخالطه دغل و نبت).

ص: 157


1- عند أحمد من قوله«جددوا إيمانكم»دون أوله(8695)،و قال الهيثمي في المجمع(57/1):«إسناده جيد و فيه سمير بن نهار وثقه ابن حبان»،و رواه الحاكم(4/1)و انظر الصحيحة للألباني(1585).

غريب ليس من جنسه،فإن تعاهده ربه و نقاه و قلعه،كمل الغرس و الزرع و استوى،و تم نباته،و كان أوفر لثمرته و أطيب و أزكى.

و إن تركه أوشك أن يغلب على الغرس و الزرع و يكون الحكم له،أو يضعف الأصل، و يجعل الثمرة ذميمة ناقصة بحسب كثرته و قلته،و من لم يكن له فقه نفس في هذا و معرفة به، فإنه يفوته ربح كبير و هو لا يشعر،فالمؤمن دائما سعيه في شيئين:سقي هذه الشجرة،و تنقية ما حولها،فيسقيها تبقى و تدوم و بتنقية ما حولها تكمل و تتم،و اللّه المستعان و عليه التكلان.

فهذا بعض ما تضمنه هذا المثل العظيم الجليل من الأسرار و الحكم،و لعلها قطرة من بحر بحسب أذهاننا الواقفة،و قلوبنا المخطئة،و علومنا القاصرة،و أعمالنا التي توجب التوبة و الاستغفار،و إلا فلو طهرت منا القلوب،و صفت الأذهان،و زكت النفوس،و خلصت الأعمال،و تجردت الهمم للتلقي عن اللّه و رسوله لشاهدنا من معاني كلام اللّه و أسراره و حكمه ما تضمحل عنده العلوم،و تتلاشى عنده معارف الخلق،و بهذا تعرف قدر علوم الصحابة و معارفهم،و أن التفاوت الذي بين علومهم،و علوم من بعدهم كالتفاوت الذي بينهم في الفضل،و اللّه أعلم حيث يجعل مواقع فضله،و من يختص برحمته.

مثل الكلمة الخبيثة

الكلمة الخبيثة

ثم ذكر-سبحانه-مثل الكلمة الخبيثة،فشبهها بالشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار،فلا عرق ثابت،و لا فرع عال،و لا ثمرة زاكية،فلا ظل و لا جنى و لا ساق قائم،و لا عرق في الأرض ثابت،فلا أسفلها مغدق،و لا أعلاها مونق،و لا جنى لها،و لا تعلو بل تعلى،و يقول اللّه تعالى: وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ [إبراهيم:26].

و إذا تأمل اللبيب أكثر كلام هذا الخلق في خطابهم و كسبهم،وجده كذلك،فالخسران الوقوف معه،و الاشتغال به عن أفضل الكلام و أنفعه.

قال الضحاك:ضرب اللّه مثلا للكافر بشجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، يقول:ليس لها أصل و لا فرع و ليس لها ثمرة،و لا فيها منفعة،كذلك الكافر لا يعمل خيرا،و لا يقوله،و لا يجعل اللّه فيه بركة و لا منفعة.

و قال ابن عباس: وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ و هي الشرك كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ،يعني:الكافر،

ص: 158

اُجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ ،يقول:الشرك ليس له أصل يأخذ به الكافر،و لا برهان،و لا يقبل اللّه مع الشرك عملا،فلا يقبل عمل المشرك،و لا يصعد إلى اللّه،فليس له أصل ثابت في الأرض و لا فرع في السماء،يقول:ليس له عمل صالح في الدنيا و الآخرة.

و قال الربيع بن أنس:مثل الشجرة الخبيثة مثل الكافر،ليس لقوله و لا لعمله أصل و لا فرع،و لا يستقر و لا عمله على الأرض،و لا يصعد إلى السماء.

و قال سعيد عن قتادة في هذه الآية:إن رجلا لقي رجلا من أهل العلم،فقال له:ما تقول في الكلمة الخبيثة؟قال:ما أعلم لها في الأرض مستقرا،و لا في السماء مصعدا،إلا أن تلزم عنق صاحبها حتى توافي بها القيامة.

و قوله: اُجْتُثَّتْ أي:استؤصلت من فوق الأرض،ثم أخبر-سبحانه-عن فضله و عدله في الفريقين:أصحاب الكلم الطيب،و الكلم الخبيث.فأخبر أنه يثبت الذين آمنوا بإيمانهم بالقول الثابت أحوج ما يكونون إليه في الدنيا و الآخرة،و أنه يضل الظالمين-و هم المشركون-عن القول الثابت،فأضل هؤلاء بعدله لظلمهم،و ثبت المؤمنين بفضله لإيمانهم.

مثل في تثبيت المؤمن

في تثبيت المؤمن

تحت قوله: يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ [إبراهيم:27]،كنز عظيم من وفق لمظنته،و أحسن استخراجه و اقتناءه،و أنفق منه فقد غنم، و من حرمه فقد حرم.و ذلك أن العبد لا يستغني عن تثبيت اللّه له طرفة عين،فإن لم يثبته و إلا زالت سماء إيمانه و أرضه عن مكانهما،و قد قال تعالى لأكرم خلقه عليه،عبده و رسوله: وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74)[الإسراء]،و قال تعالى لأكرم خلقه: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال:12].و في الصحيحين من حديث البجلي قال:«و هو يسألهم و يثبتهم» (1):و قال تعالى لرسوله: وَ كُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ [هود:120].

ص: 159


1- لم أجده في الصحيحين،و لكنه في المسند(368/2)و عند الترمذي(2557)في صفة الجنة،باب:ما جاء في خلود أهل الجنة و أهل النار،بلفظ:«و هو يأمركم و يثبتهم»و قال:حسن صحيح،كلاها من حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه و اللّه تعالى أعلم.

فالخلق كلهم قسمان:موفق بالتثبيت،و مخذول بترك التثبيت،و مادة التثبيت أصله و منشؤه من القول الثابت،و فعل ما أمر به العبد،فبهما يثبت اللّه عبده،فكل من كان أثبت قولا و أحسن فعلا كان أعظم تثبيتا،قال تعالى: وَ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً [النساء:66].

فأثبت الناس قلبا أثبتهم قولا،و القول الثابت:هو القول الحق و الصدق،و هو ضد القول الباطل الكذب،فالقول نوعان:ثابت له حقيقة،و باطل لا حقيقة له،و أثبت القول كلمة التوحيد و لوازمها،فهي أعظم ما يثبت اللّه بها عبده في الدنيا و الآخرة.و لهذا ترى الصادق من أثبت الناس،و أشجعهم قلبا،و الكاذب من أمهن الناس و أخبثهم و أكثرهم تلونا و أقلهم ثباتا.و أهل الفراسة يعرفون صدق الصادق من ثبات قلبه وقت الإخبار،و شجاعته و مهابته،و يعرفون كذب الكاذب بضد ذلك،و لا يخفى ذلك إلا على ضعيف البصيرة.

و سئل بعضهم عن كلام سمعه من متكلم به،فقال:و اللّه ما فهمت منه شيئا إلا أني رأيت لكلامه صولة ليست بصولة مبطل.فما منح العبد منحة أفضل من منحه القول الثابت، و يجد أهل القول الثابت ثمرته أحوج ما يكونون إليه في قبورهم،و يوم معادهم،كما في صحيح مسلم من حديث البراء بن عازب عن النبي صلى اللّه عليه و سلم:«أن هذه الآية نزلت في عذاب القبر» (1).

و قد جاء هذا مبينا في أحاديث صحاح،فمنها ما في المسند من حديث داود بن أبي هند،عن أبي نضرة،عن أبي سعيد قال:كنا مع النبي صلى اللّه عليه و سلم في جنازة،فقال:«يا أيها الناس،إن هذه الأمة تبتلى في قبورها،فإذا الإنسان دفن،و تفرق عنه أصحابه،جاءه ملك بيده مطراق فأقعده،فقال:ما تقول في هذا الرجل؟فإن كان مؤمنا قال:أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له،و أشهد أن محمدا عبده و رسوله،فيقول له:صدقت،فيفتح له باب إلى النار،فيقال له:هذا منزلك لو كفرت بربك،فأما إذ آمنت،فإن اللّه أبدلك به هذا،ثم يفتح له باب إلى الجنة،فيريد أن ينهض له،فيقال له:اسكن،ثم يفسح له في قبره،و أما الكافر[أو]المنافق:فيقال له:ما تقول في هذا الرجل؟فيقول:لا أدري،فيقال له:لا دريت و لا اهتديت،ثم يفتح له باب إلى الجنة،فيقال له:هذا منزلك لو آمنت بربك،فأمام.

ص: 160


1- حديث صحيح عند مسلم(722/5-723)و قد سبق تخريجه،فلا تغتر أخي القارئ بكلام الجهال منكري الأمر،و الذي خالف كل من تكلم في باب العقيدة من أهل السنة،و لا تنسى أنك في زمان كثر فيه القول بلا علم.

إذ كفرت،فإن اللّه أبدلك به هذا،ثم يفتح له باب إلى النار،ثم يقمعه الملك بالمطراق قمعة يسمعه خلق اللّه كلهم إلا الثقلين» (1)،قال بعض أصحابه:يا رسول اللّه،ما منا من أحد يقوم على رأسه ملك بيده مطراق إلا هيل (2)عند ذلك،فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ وَ يُضِلُّ اللّهُ الظّالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اللّهُ ما يَشاءُ (27)[إبراهيم:27].

و في المسند نحوه من حديث البراء بن عازب (3).

و روى المنهال بن عمرو عن زاذان عن البراء قال:قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم،و ذكر قبض روح المؤمن فقال:«يأتيه آت-يعني في قبره-فيقول:من ربك،و ما دينك،و من نبيك؟ فيقول:ربي اللّه،و ديني الإسلام،و نبيي محمد صلى اللّه عليه و سلم،قال:فتنهره،فيقول:ما ربك و ما دينك؟و هي آخر فتنة تعرض على المؤمن،فذلك حين يقول الله: يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ ،فيقول:ربي اللّه،و ديني الإسلام و نبيي محمد،فيقال له:صدقت».و هذا حديث صحيح (4).

و قال حماد بن سلمة،عن محمد بن عمرو،عن أبي سلمة،عن أبي هريرة قال:قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ وَ يُضِلُّ اللّهُ الظّالِمِينَ إذا قيل له في القبر:من ربك،و ما دينك؟فيقول:ربي اللّه و ديني الإسلام، و نبيي محمد جاءنا بالبينات من عند اللّه فآمنت به و صدقت،فيقال له:صدقت،على هذا عشت،و عليه مت،و عليه تبعث (5).

و قال الأعمش،عن المنهال بن عمرو،عن زاذان،عن البراء بن عازب قال:قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم،و ذكر قبض روح المؤمن،قال:فترجع روحه في جسده،و يبعث إليه ملكان شديدا الانتهار،فيجلسانه،و ينتهرانه و يقولان:من ربك؟فيقول:اللّه،و ما دينك؟فيقول:

الإسلام،فيقولان له:ما هذا الرجل أو النبي الذي بعث فيكم؟فيقول:محمد رسول اللّه،ه.

ص: 161


1- أحمد(3/3،4)،و الحديث رواه مسلم(67/2867)في الجنة و صفة نعيمها و أهلها،باب:عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه و إثبات عذاب القبر و التعوذ منه.
2- أصابه الخوف و الرعب.
3- أحمد(287/4،288)،و قال الهيثمي في المجمع(53/5):«رجال أحمد رجال الصحيح».
4- سبق تخريجه.
5- مسلم(75/2872)في الجنة و صفة نعيمها و أهلها،باب:عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه و إثبات عذاب القبر و التعوذ منه.

فيقولان له:و ما يدريك؟قال:فيقول:قرأت كتاب اللّه،فآمنت به و صدقت،فذلك قول اللّه تبارك و تعالى: يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ .رواه ابن حبان في صحيحه،و الإمام أحمد.

و في صحيحه أيضا من حديث أبي هريرة يرفعه:قال:«إن الميت ليسمع خفق نعالهم حين يولون عنه مدبرين،فإذا كان مؤمنا كانت الصلاة عند رأسه،و الزكاة عن يمينه،و كان الصيام عن يساره،و كان فعل الخيرات من الصدقة و الصلة المعروف و الإحسان إلى الناس عند رجليه،فيؤتى من عند رأسه،فتقول الصلاة:ما قلبي مدخل،فيؤتى عن يمينه،فتقول الزكاة:ما قلبي مدخل،فيؤتى عن يساره،فيقول الصيام:ما قبلي مدخل،فيؤتى من عند رجله،فيقول فعل الخيرات من الصدقة و الصلة و المعروف و الإحسان إلى الناس:ما قبلي مدخل،فيقال له:اجلس،فيجلس من مثلت له الشمس قد دنت للغروب،فيقال له:أخبرنا عما نسألك عنه،فيقول:دعوني حتى أصلي،فيقال:إنك ستفعل،فأخبرنا عما نسألك، فيقول:و عما تسألوني؟فيقال له:أ رأيت هذا الرجل الذي كان فيكم ما ذا تقول فيه،و ما ذا تشهد به عليه؟فيقول:أ محمد صلى اللّه عليه و سلم؟فيقال:نعم،فيقول:أشهد أنه رسول اللّه،و أنه جاء بالبيّنات من عند اللّه فصدقناه،فيقال له:على ذلك حييت،على ذلك مت،على ذلك تبعث إن شاء اللّه،ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا،و ينور له فيه،ثم يفتح له باب إلى الجنة، فيقال له:انظر إلى ما أعد اللّه لك فيها،فيزداد غبطة و سرورا،ثم تجعل نسمته في النسيم الطيب،و هي طير خضر،تعلق بشجر الجنة،و يعاد الجسد إلى ما بدأ منه من التراب» (1)، و ذلك قول اللّه تعالى: يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ [إبراهيم:27]و لا تستطل هذا الفصل المعترض في المفتي،و الشاهد،و الحاكم،بل و كل مسلم أشد ضرورة إليه من الطعام و الشراب و النفس،و باللّه التوفيق.

التمثيل بالعبد المملوك

و منها قوله تعالى: ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَ مَنْ رَزَقْناهُ مِنّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَ جَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ(75) وَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَ هُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ هُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)[النحل].

ص: 162


1- ابن حبان(3103).

و هذان مثلان متضمنان قياسين من قياس العكس،و هو نفي الحكم بنفي علته،و موجبه.

فإن القياس نوعان:قياس طرد:يقتضي إثبات الحكم في الفرع لثبوت علة الأصل فيه، و قياس عكس:يقتضي نفي الحكم عن الفرع لنفي علة الحكم فيه.

فالمثل الأول ما ضربه اللّه-سبحانه-لنفسه و للأوثان،فاللّه-سبحانه-هو المالك لكل شيئ،ينفق كيف يشاء على عبيده سرا و جهرا،و ليلا و نهارا يمينه ملأى،لا يغيضها نفقة، سحّاء الليل و النهار (1).

و الأوثان مملوكة عاجزة لا تقدر على شيء،فكيف يجعلونها شركاء لي و يعبدونها من دوني مع هذا التفاوت العظيم و الفرق المبين؟هذا قول مجاهد و غيره.

و قال ابن عباس:هو مثل ضربه اللّه للمؤمنين و الكفار،و مثل المؤمن في الخير الذي عنده ثم رزقه منه رزقا حسنا فهو ينفق على نفسه و على غيره سرا و جهرا،و الكافر بمنزلة عبد مملوك،عاجز لا يقدر على شيء،لأنه لا خير عنده،فهل يستوي الرجلان عند أحد العقلاء؟

و القول الأول أشبه بالمراد،فإنه أظهر في بطلان الشرك،و أوضح عند المخاطب، و أعظم في إقامة الحجة،و أقرب نسبا بقوله: وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ شَيْئاً وَ لا يَسْتَطِيعُونَ(73) فَلا تَضْرِبُوا لِلّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74) [النحل:73-74]،ثم قال: ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ [النحل:75]و من لوازم هذا المثل و أحكامه أن يكون المؤمن الموحد كمن رزقه منه رزقا حسنا.و الكافر المشرك كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء،فهذا نبّه عليه المثل،و أرشد إليه فذكره ابن عباس منبها على إرادته،لا أن الآية اختصت به،فتأمله فإنك تجده كثيرا في كلام ابن عباس،و غيره من السلف في فهم القرآن فيظن الظان أن ذلك هو معنى الآية التي لا معنى لها غيره،فيحكيه قوله.

و أما المثل الثاني،فهو مثل ضربه اللّه-سبحانه و تعالى-لنفسه،و لما يعبد من دونه أيضا،فالصنم الذي يعبد من دونه بمنزلة رجل أبكم،لا يعقل،و لا ينطق بل هو أبكم القلب و اللسان،قد عدم النطق القلبي و اللساني،و مع هذا فهو عاجز لا يقدر على شيءى.

ص: 163


1- يشير للحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي اللّه عنه«أنفق ينفق عليك...»إلخ،رواه البخاري(4316)في التفسير،و مسلم(1659)في الزكاة و رواه غيرهما.و معنى سحاء:أي دائمة العطاء و الفيض،لا حد لما تجود به،سبحانه و تعالى.

البتة؛و على هذا فأينما أرسلته لا يأتيك بخير،و لا يقضي لك حاجة،و اللّه-سبحانه-حي قادر متكلم يأمر بالعدل،و هو على صراط مستقيم،و هذا وصف له بغاية الكمال و الحمد، فإن أمره بالعدل،و هو الحق يتضمن أنه سبحانه عالم به،معلم له،راض به،آمر لعباده به، محب لأهله لا يأمر بسواه،بل تنزه عن ضده الذي هو الجور و الظلم و السفه و الباطل،بل أمره و شرعه عدل كله.

و أهل العدل هم أولياؤه و أحباؤه،و هم المجاورون له عن يمينه على منابر من نور، و أمره بالعدل يتناول الأمر الشرعي الديني،و الأمر القدري الكوني،و كلاهما عدل لا جور فيه بوجه ما،كما في الحديث الصحيح:«اللهم إني عبدك ابن عبدك،ابن أمتك،ناصيتي بيدك،ماض فيّ حكمك،عدل فيّ قضاؤك» (1)،فقضاؤه هو أمره الكوني،فإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون،فلا يأمر إلا بحق و عدل،و قضاؤه قدره القائم به حق و عدل،و إن كان في المقضي المقدر ما هو جور و ظلم،فالقضاء غير المقضيّ،و القدر غير المقدّر.

ثم أخبر-سبحانه-أنه على صراط مستقيم،و هذا نظير قول رسوله شعيب: إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَ رَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)[هود]،فقوله:

ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها نظير قوله:«ناصيتي بيدك»،و قوله: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ،نظير قوله:«عدل فيّ قضاؤك»،فالأول:ملكه،و الثاني:حمده،و هو-سبحانه- له الملك،و له الحمد،و كونه سبحانه-على صراط مستقيم يقتضي أنه لا يقول إلا الحق، و لا يأمر إلا بالعدل،و لا يفعل إلا ما هو مصلحة و حكمة و عدل،فهو على الحق في أقواله و أفعاله فلا يقضي على العبد بما يكون ظالما له به،و لا يأخذه بغير ذنبه،و لا ينقصه من حسناته شيئا،و لا يحمل عليه من سيئات غيره التي لم يعملها،و لم يتسبب إليها شيئا،و لا يؤاخذ أحدا بذنب غيره،و لا يفعل قط ما لا يحمد عليه،و يثنى به عليه،و يكون له فيه العواقب الحميدة،و الغايات المطلوبة،فإن كونه على صراط مستقيم يأبى ذلك كله.

قال محمد بن جرير الطبري:و قوله: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يقول:إن ربي على).

ص: 164


1- أخرجه الإمام أحمد(3712)،و قال الشيخ أحمد شاكر:«إسناده صحيح»،و قال الهيثمي في المجمع (139/10):«رجال أحمد رجال الصحيح غير أبي سلمة الجهني و قد وثقه ابن حبان». و رواه الحاكم(510/509/1)و صححه على شرط مسلم و تعقبه الذهبي و ابن حبان(2372)و أبو يعلى (196/9).

طريق الحق،يجازي المحسن من خلقه بإحسانه،و المسيء بإساءته،لا يظلم أحدا منهم شيئا،و لا يقبل منهم إلا الإسلام له و الإيمان به (1).

ثم حكى عن مجاهد من طريق شبل،عن ابن أبي نجيح عنه: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ،قال:الحق،و كذلك رواه ابن جريج عنه.

و قالت فرقة هي مثل قوله: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14)[الفجر]،و هذا اختلاف عبارة،فإن كونه بالمرصاد،هو مجازاة المحسن بإحسانه و المسيء بإساءته.

و قالت فرقة:في الكلام حذف،تقديره:إن ربي يحثكم على صراط مستقيم،و يحضكم عليه.

و هؤلاء إن أرادوا أن هذا معنى الآية التي أريد بها،فليس كما زعموا،و لا دليل على هذا المقدر،و قد فرق سبحانه بين كونه آمرا بالعدل،و بين كونه على صراط مستقيم،و إن أرادوا أن حثه على الصراط المستقيم من جملة كونه على صراط مستقيم،فقد أصابوا.

و قالت فرقة أخرى:معنى كونه على صراط مستقيم:أن مرد العباد و الأمور كلها إلى اللّه لا يفوته شيء منها،و هؤلاء إن أرادوا أن هذا معنى الآية،فليس كذلك،و إن أرادوا أن هذا من لوازم كونه على صراط مستقيم،و من مقتضاه و موجبه فهو حق.

و قالت فرقة أخرى:معناه:كل شيء تحت قدرته و قهره،و في ملكه و قبضته،و هذا و إن كان حقا فليس هو معنى الآية،و قد فرق شعيب بين قوله: ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها ،و بين قوله: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ،فهما معنيان مستقلان.

فالقول قول مجاهد،و هو قول أئمة التفسير،و لا تحتمل العربية غيره إلا على استكراه.

و قال جرير (2)يمدح عمر بن عبد العزيز:

أمير المؤمنين على صراط إذا اعوجّ الموارد مستقيم

و قد قال تعالى: مَنْ يَشَأِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَ مَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام:39].

و إذا كان-سبحانه-هو الذي جعل رسله و أتباعه على الصراط المستقيم في أقوالهم و أفعالهم،فهو-سبحانه-أحق بأن يكون على صراط مستقيم في قوله و فعله،و إن كان صراط الرسل و أتباعهم هو موافقة أمره،فصراطه الذي هو-سبحانه-عليه هو ما يقتضيه).

ص: 165


1- تفسير الطبري(61/12).
2- ديوان جرير(507).

حمده و كماله و مجده من قول الحق و فعله،و باللّه التوفيق.

و في الآية قول ثان مثل الآية الأولى سواء،أنه مثل ضربه اللّه للمؤمن و الكافر،و قد تقدم ما في هذا القول و باللّه التوفيق.

في تشبيه من أعرض عن مثل الشرك

اشارة

و منها قوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفاءَ لِلّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31)[الحج]،فتأمل هذا المثل و مطابقته لحال من أشرك باللّه،و تعلق بغيره،و يجوز لك في هذا التشبيه أمران:أحدهما:أن تجعله تشبيها مركبا،و يكون قد شبه من أشرك باللّه،و عبد معه غيره برجل قد تسبب إلى هلاك نفسه هلاكا لا يرجى معه نجاة،فصور حاله بصورة حال من خرّ من السماء،فاختطفته الطير في الهوى،فتمزق مزقا في حواصلها،أو عصفت به الريح،حتى هوت به في بعض المطارح البعيدة.و على هذا لا ينظر إلى كل فرد من أفراد المشبه و مقابله من المشبه به.

و الثاني:أن يكون من التشبه المفرّق،فيقابل كل واحد من أجزاء الممثل بالممثل به، و على هذا فيكون قد شبه الإيمان و التوحيد في علوه و سعته و شرفه بالسماء التي هي مصعده و مهبطه،فمنها هبط إلى الأرض،و إليها يصعد منه،و شبه تارك الإيمان و التوحيد بالساقط من السماء إلى أسفل سافلين من حيث التضييق الشديد،و الآلام المتراكمة،و الطير الذي تخطف أعضاءه،و تمزقه كل ممزق،بالشياطين التي يرسلها اللّه-سبحانه و تعالى-عليه أزا، و تزعجه و تقلقه إلى مظان هلاكه.فكل شيطان له مزعة من دينه و قلبه،كما أن لكل طير مزعة من لحمه و أعضائه،و الريح التي تهوي به في مكان سحيق،هو هواه الذي يحمله على إلقاء نفسه في أسفل مكان،و أبعده من السماء.

قدرة الذين يدعوهم المشركون من دون الله

و منها قوله تعالى: يا أَيُّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطّالِبُ وَ الْمَطْلُوبُ(73) ما قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)[الحج]،حقيق على كل عبد أن يستمع قلبه لهذا المثل و يتدبره حق تدبره فإنه يقطع مواد الشرك من قلبه،و ذلك أن المعبود أقل درجاته أن يقدر على إيجاد ما ينفع عابده،و إعدام ما يضره،و الآلهة التي

ص: 166

يعبدها المشركون من دون اللّه لن تقدر على خلق الذباب،و لو اجتمعوا كلهم لخلقه،فكيف ما هو أكبر منه؟و لا يقدرون على الانتصار من الذباب إذا سلبهم شيئا مما عليهم من طيب و نحوه،فيستنقذوه منه،فلا هم قادرون على خلق الذباب الذي هو من أضعف الحيوانات، و لا على الانتصار منه،و استرجاع ما سلبهم إياه،فلا أعجز من هذه الآلهة،و لا أضعف منها،فكيف يستحسن عاقل عبادتها من دون اللّه؟.

و هذا المثل من أبلغ ما أنزله اللّه-سبحانه-في بطلان الشرك و تجهيل أهله،و تقبيح عقولهم،و الشهادة على أن الشيطان قد تلاعب بهم أعظم من تلاعب الصبيان بالكرة،حيث أعطوا الإلهية التي من بعض لوازمها القدرة على جميع المقدورات،و الإحاطة بجميع المعلومات،و المغني عن جميع المخلوقات،و أن يصمد إلى الرب في جميع الحاجات، و تفريج الكربات،و إغاثة اللهفات،و إجابة الدعوات،فأعطوها صورا و تماثيل يمتنع عليها القدرة على أقل مخلوقات الإله الحق،و أذلها و أصغرها و أحقرها،و لو اجتمعوا لذلك و تعاونوا عليه،و أدل من ذلك على عجزهم و انتفاء لإلهيتهم.أن هذا الخلق الأقل الأذل العاجز الضعيف لو اختطف منهم شيئا،و استلبه فاجتمعوا على أن يستنقذوه منه لعجزوا عن ذلك،و لم يقدروا عليه،ثم سوّى بين العابد و المعبود في الضعف و العجز بقوله: ضَعُفَ الطّالِبُ وَ الْمَطْلُوبُ ،قيل:الطالب:العابد،و المطلوب:المعبود،فهو عاجز متعلق بعاجز، و قيل:هو تسوية بين السالب و المسلوب،و هو تسوية بين الإله و الذباب في الضعف و العجز،و على هذا فقيل:الطالب الإله الباطل،و المطلوب:الذباب يطلب منه ما استلبه منه،و قيل:الطالب:الذباب،و المطلوب:الإله،فالذباب يطلب منه ما يأخذه مما عليه.

و الصحيح:أن اللفظ يتناول الجميع،فضعف العابد و المعبود،المستلب و المستلب، فمن جعل هذا إلها مع القوي العزيز،فما قدّره حق قدره،و لا عرفه حق معرفته،و لا عظمه حق تعظيمه.

تمثيل أعمال الكافرين بالسراب

و منها قوله تعالى: وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَ وَجَدَ اللّهَ عِنْدَهُ فَوَفّاهُ حِسابَهُ وَ اللّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ(39) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40)[النور]،ذكر-سبحانه-للكافرين مثلين،مثلا بالسراب،و مثلا بالظلمات المتراكمة.

ص: 167

و ذلك لأن المعرضين عن الهدي و الحق نوعان:أحدهما من يظن أنه على شيء فيتبين له عند انكشاف الحقائق خلاف ما كان يظنه،و هذه حال أهل الجهل،و أهل البدع و الأهواء الذين يظنون أنهم على هدى و علم،فإذا انكشفت الحقائق تبين لهم أنهم لم يكونوا على شيء،و أن عقائدهم و أعمالهم التي ترتبت عليها كانت كسراب بقيعة يرى في عين الناظر ماء و لا حقيقة له.

و هكذا الأعمال التي لغير اللّه و على غير أمره يحسبها العامل نافعة له،و ليست كذلك و هذه هي الأعمال التي قال اللّه-عزّ و جلّ-فيها: وَ قَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23)[الفرقان]،و تأمل جعل اللّه-سبحانه-السراب بالقيعة و هي الأرض القفر الخالية من البناء و الشجر و النبات و المعالم.

فمحل السراب:أرض قفرة لا شيء بها،و السراب لا حقيقة له،و ذلك مطابق لأعمالهم و قلوبهم التي أقفرت من الإيمان و الهدى.و تأمل ما تحت قوله: يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً ،و الظمآن الذي قد اشتد عطشه،فرأى السراب،فظنه ماء،فتبعه فلم يجده شيئا،بل خانه أحوج ما كان إليه،فكذلك هؤلاء لما كانت أعمالهم على غير طاعة الرسول،و لغير اللّه جعلت كالسراب،فرفعت لهم أظمأ ما كانوا،و أحوج ما كانوا إليهم فلم يجدوا شيئا و وجدوا اللّه-سبحانه-ثمّ (1)فجازاهم بأعمالهم و وفاهم حسابهم.

و في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه و سلم في حديث التجلي يوم القيامة:«ثم يؤتى بجهنم تعرض كأنها السراب،فيقال لليهود:ما كنتم تعبدون؟فيقولون:

كنا نعبد عزيرا ابن اللّه.فيقال:كذبتم،لم يكن للّه صاحبة و لا ولد،فما تريدون؟قالوا:

نريد أن تسقينا،فيقال:اشربوا فيتساقطون في جهنم،ثم يقال للنصارى:ما كنتم تعبدون؟ قالوا نعبد المسيح ابن اللّه،فيقال:كذبتم لم يكن للّه صاحبة و لا ولد،فما تريدون؟ فيقولون:نريد أن تسقينا،فيقال لهم:اشربوا فيتساقطون» (2)و ذكر الحديث.و هذه حال كل صاحب باطل،فإنه يخونه باطله أحوج ما كان إليه،فإن الباطل لا حقيقة له،و هو كاسمه باطل،فإذا كان الاعتقاد غير مطابق و لا حق كان متعلقه باطلا.

و كذلك إذا كانت غاية العمل باطلة كالعمل لغير اللّه،أو على غير أمره بطل العملن.

ص: 168


1- أي هناك.
2- مسلم(267)في الإيمان.

ببطلانه،و بحصول ضد ما كان يؤمله فلم يذهب عليه عمله و اعتقاده،لا له و لا عليه،بل صار معذبا بفوات نفعه،و بحصول ضد النفع،فلهذا قال تعالى: وَ وَجَدَ اللّهَ عِنْدَهُ فَوَفّاهُ حِسابَهُ وَ اللّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ .فهذا مثل الضال الذي يحسب أنه على هدى.

النوع الثاني:أصحاب مثل الظلمات المتراكمة،و هم الذين عرفوا الحق و الهدى و آثروا عليه ظلمات الباطل و الضلال،فتراكمت عليهم ظلمة الطبع،و ظلمة النفوس،و ظلمة الجهل،حيث لم يعملوا بعلمهم فصاروا جاهلين،و ظلمة اتباع الغي و الهوى،فحالهم كحال من كان في بحر لجي لا ساحل له،و قد غشيه موج،و من فوق ذلك الموج موج،و من فوقه سحاب مظلم،فهو في ظلمة البحر،و ظلمة الموج،ظلمة السحاب،و هذا نظير ما هو فيه من الظلمات التي لم يخرجه اللّه منها إلى نور الإيمان.

و هذان المثلان بالسراب الذي ظنه مادة الحياة،و هو الماء،و الظلمات المضادة للنور، نظير المثلين اللذين ضربهما اللّه للمنافقين و المؤمنين،و هو المثل المائي،و المثل الناري، و جعل حظ المؤمنين منهما الحياة و الإشراق،و حظ المنافقين منهما الظلمة المضادة للنور، و الموت المضاد للحياة.فكذلك الكفار في هذين المثلين حظهم من الماء السراب الذي يغر الناظر،و لا حقيقة له،و حظهم الظلمات المتراكمة.و هذا يجوز أن يكون المراد به حال كل طائفة من طوائف الكفار،و أنهم عدموا مادة الحياة و الإضاءة بإعراضهم عن الوحي،فيكون المثلان صفتين لموصوف واحد.

و يجوز أن يكون المراد به تنويع أحوال الكفار،و أن أصحاب المثل الأول هم الذين عملوا على غير علم و لا بصيرة،بل على جهل و حسن ظن بالأسلاف فكانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعا،و أصحاب المثل الثاني هم الذين استحبوا الضلالة على الهدى،و آثروا الباطل على الحق،و عموا عنه بعد أن أبصروه و جحدوه بعد أن عرفوه.

فهذا حال المغضوب عليهم،و الأول حال الضالين.

و حال الطائفتين مخالف حال المنعم عليهم المذكورين في قوله تعالى: *اللّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ إلى قوله: لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ اللّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38)[النور:35-38]فتضمنت الآيات أوصاف الفرق الثلاثة المنعم عليهم:و هم أهل النور،و الضالين:و هم أصحاب السراب،و المغضوب عليهم:و هم أهل الظلمات المتراكمة،و اللّه أعلم.

فالمثل الأول من المثلين:لأصحاب العلم الذي لا ينفع،و الاعتقادات الباطلة،

ص: 169

و كلاهما مضاد للهدى و دين الحق،و لهذا مثل حال الفريق الثاني في تلاطم أمواج الشكوك و الشبهات و العلوم الفاسدة في قلوبهم بتلاطم أمواج البحر فيه،و أنها أمواج متراكمة من فوقها سحاب مظلم.

و هكذا أمواج الشكوك،و الشبه في قلوبهم المظلمة التي قد تراكمت عليها سحب الغي و الهوى و الباطل.

فليتدبر اللبيب أحوال الفريقين،و ليطابق بينهما المثلين يعرف عظمة القرآن و جلالته، و أنه تنزيل من حكيم حميد.

و أخبر-سبحانه-أن الموجب لذلك أنه لم يجعل لهم نورا،بل تركهم على الظلمة التي خلقوا فيها فلم يخرجهم منها إلى النور،فإنه سبحانه ولى الذي آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور.

و في المسند من حديث عبد اللّه بن عمرو:أن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال:«إن اللّه خلق خلقه في ظلمة،و ألقى عليهم من نوره،فمن أصابه من ذلك النور اهتدى،و من أخطأه ضل،فلذلك أقول:جف القلم على علم الله» (1).فاللّه سبحانه خلق الخلق،فمن أراد هدايته جعل له نورا وجوديا يحيا به قلبه و روحه كما يحيى به بدنه بالروح التي ينفخها فيه،فهما حياتان:

حياة البدن بالروح،و حياة الروح و القلب بالنور.

و لهذا سمى-سبحانه-الوحي روحا لتوقف الحياة الحقيقية عليه،كما قال تعالى:

يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [النحل:2]،و قال: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [غافر:15]،و قال تعالى: وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لاَ الْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا [الشورى:52]،فجعل وحيه روحا و نورا،فمن لم يحيه بهذا الروح،فهو ميت،و من لم يجعل نورا منه فهو في الظلمات ما له من نور.

مثل في بيان حال الكفار

في بيان حال الكفار

و منها قوله تعالى: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44)[الفرقان]،فشبه أكثر الناس بالأنعام،و الجامع بين النوعين التساوي في عدم

ص: 170


1- رواه الإمام أحمد(6854)،و قال الشيخ أحمد شاكر:«إسناده صحيح»و الحاكم(30/1-31).

قبول الهدى و الانقياد،و جعل الأكثرين أضل سبيلا من الأنعام،لأن البهيمة يهديها سائقها تهتدي،و تتبع الطريق فلا تحيد عنها يمينا و لا شمالا،و الأكثرون يدعوهم الرسل و يهدونهم السبيل،فلا يستجيبون و لا يهتدون،و لا يفرقون بين ما يضرهم و بين ما ينفعهم،و الأنعام تفرق بين ما يضرها من النبات و الطريق فتجتنبه،و ما ينفعها فتؤثره،و اللّه تعالى لم يخلق للأنعام قلوبا تعقل بها،و لا ألسنة تنطق بها،و أعطى ذلك لهؤلاء،ثم لم ينتفعوا بما أعطى و جعل لهم من العقول و القلوب و الألسنة و الأسماع و الأبصار،فهم أضل من البهائم،فإن من لا يهتدي إلى الرشد و إلى الطريق مع الدليل أضل و أسوأ حالا ممن لا يهتدي،حيث لا دليل معه.

مثل في الذين اتخذوا أولياء من دون اللّه تعالى

في الذين اتخذوا أولياء من دون اللّه تعالى

و منها قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَ إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41)[العنكبوت]،فذكر-سبحانه- أنهم ضعفاء،و أن الذين اتخذوهم أولياء هم أضعف منهم،فهم في ضعفهم،و ما قصدوه من اتخاذ الأولياء كالعنكبوت اتخذت بيتا،و هو أوهن البيوت و أضعفها.

و تحت هذا المثل أن هؤلاء المشركين أضعف ما كانوا حين اتخذوا من دون اللّه أولياء، فلم يستفيدوا بمن اتخذوهم أولياء إلاّ ضعفا،كما قال تعالى:

وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا(81) كَلاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)[مريم]،و قال تعالى: وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ(74) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَ هُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75)[يس]،و قال بعد أن ذكر إهلاك الأمم المشركين: وَ ما ظَلَمْناهُمْ وَ لكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَ ما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)[هود].

فهذه أربعة مواضع في القرآن تدل على أن من اتخذ من دون اللّه وليّا يتعزز به،و يتكبر به و يستنصر به لم يحصل له به إلا ضد مقصود.

و في القرآن أكثر من ذلك،و هذا من أحسن الأمثال و أدلها على بطلان الشرك،و خسارة صاحبه،و حصوله على ضد مقصوده.

فإن قيل:فهم يعلمون أن أوهن البيوت بيت العنكبوت،فكيف نفى عنهم علم ذلك بقوله: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ؟

ص: 171

فالجواب:أنه-سبحانه-لم ينف عنهم علمهم بوهن بيت العنكبوت،و إنما نفى عنهم بأن اتخاذهم أولياء من دونه كالعنكبوت اتخذت بيتا،فلو علموا ذلك لما فعلوه،و لكن ظنوا أن اتخاذهم الأولياء من دونه،يفيدهم عزا و قدرة،فكان الأمر بخلاف ما ظنوه.

مثل في ضلال المشركين

في ضلال المشركين

و منها قوله تعالى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)[الروم]،و هذا دليل قياسي احتج اللّه-سبحانه-به على المشركين،حيث جعلوا له من عبيده و ملكه شركاء،فأقام عليهم حجة يعرفون صحتها من نفوسهم،لا يحتاجون فيها إلى غيرهم،و من أبلغ الحجج أن يأخذ الإنسان من نفسه و يحتج عليه بما هو في نفسه مقرر عندها،معلوم لها،فقال:هل لكم مما ملكت أيمانكم من عبيد و إمائكم شركاء في المال و الأهل.أي:هل يشارككم عبيدكم في أموالكم و أهليكم،فأنتم و هم في ذلك سواء، أ تخافون أن يقاسموكم أموالكم و يشاطروكم إياها،و يستأثرون ببعضها عليكم،كما يخاف الشريك شريكه.

و قال ابن عباس:تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضا.و المعنى:هل يرضى أحد منكم أن يكون عبده شريكه في ماله و أهله حتى يساويه في التصرف في ذلك،فهو يخاف أن ينفرد في ماله بأمر يتصرف فيه،كما يخاف غيره من الشركاء و الأحرار،فإذا لم ترضوا ذلك لأنفسكم،فلم عدلتم بي من خلقي من هو مملوك لي؟فإن كان هذا الحكم باطلا في فطركم و عقولكم مع أنه جائز عليكم ممكن في حقكم إذ ليس عبيدكم ملكا لكم حقيقة،و إنما هم إخوانكم جعلهم اللّه تحت أيديكم،و أنتم و هم عباد لي فكيف تستجيزون مثل هذا الحكم في حقي مع أن من جعلتموهم لي شركاء عبيدي و ملكي و خلقي؟فهكذا يكون تفصيل الآيات لأولي العقول.

مثل الموحد و المشرك

الموحد و المشرك

و منها قوله تعالى: ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَ رَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29)[الزمر]،هذا مثل ضربه اللّه-سبحانه-للمشرك

ص: 172

و الموحد،فالمشرك بمنزلة عبد يملكه جماعة متنازعون مختلفون متشاحنون.

و الرجل المتشاكس:الضيق الخلق،فالمشرك لما كان يعبد آلهة شتى شبه بعبد يملكه جماعة متنافسون في خدمته،لا يمكنه أن يبلغ رضاهم أجمعين.و الموحد لما كان يعبد اللّه وحده،فمثله كمثل عبد لرجل واحد،قد سلم له و علم مقاصده،و عرف الطريق إلى رضاه، فهو في راحة من تشاحن الخلطاء فيه،بل هو سالم لمالكه من غير منازع فيه،مع رأفة مالكه به و رحمته له و شفقته عليه و إحسانه إليه و توليه لمصالحه،فهل يستوي هذان العبدان؟

و هذا من أبلغ الأمثال،فإن الخالص لمالك واحد،يستحق من معونته و إحسانه و التفاته إليه و قيامه بمصالحه،ما لا يستحق صاحب الشركاء المتشاكسين،الحمد للّه بل أكثرهم لا يعلمون.

مثل المغتاب

المغتاب

و منها قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَ لا تَجَسَّسُوا وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَ اتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ تَوّابٌ رَحِيمٌ (12)[الحجرات]،و هذا من أحسن القياس التمثيلي،فإنه شبه تمزيق عرض الأخ بتمزيق لحمه،و لما كان المغتاب يمزق عرض أخيه في غيبته،كأنه بمنزلة من يقطع لحمه في حال غيبة روحه عنه بالموت.

و لما كان المغتاب عاجزا عن دفعه عن نفسه بكونه غائبا عن ذمه،كان بمنزلة الميت الذي يقطع لحمه،و لا يستطيع أن يدفع عن نفسه.

و لما كان مقتضى الأخوة:التراحم و التواصل و التناصر،فعلق عليها المغتاب ضد مقتضاها من الذم و العيب و الطعن،كان ذلك نظير تقطيع لحم أخيه.و الأخوة تقتضي حفظه و صيانته و الذب عنه،و لما كان المغتاب متمتعا بعرض أخيه،متفكها بغيبته و ذمه،متحليا بذلك،شبه بمن يأكل لحم أخيه بعد تقطيعه،و لما كان المغتاب محبا لذلك معجبا به شبه بمن يحب أكل لحم أخيه ميتا،و محبته لذلك قدر زائد على مجرد أكله،كما أن أكله قدر زائد على تمزيقه.

فتأمل هذا التشبيه و التمثيل،و حسن موقعه،و مطابقة المعقول فيه المحسوس،و تأمل إخباره عنهم بكراهة أكل لحم الأخ ميتا،و وصفهم بذلك في آخر الآية،و الإنكار عليهم في

ص: 173

أولها،أن يحب أحدهم ذلك،فكما أن هذا مكروه في طباعهم فكيف يحبون ما هو مثله و نظيره؟فاحتج عليهم بما كرهوه على ما أحبوه،و شبه لهم ما يحبونه بما هو أكره شيء إليهم،و هم أشد شيء نفرة عنه،فلهذا يوجب العقل و الفطرة و الحكمة أن يكونوا أشد شيء نفرة،عما هو نظيره و مشبهه،و باللّه التوفيق.

مثل من حمّل الكتاب و لم يعمل به

و منها قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللّهِ وَ اللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ (5)[الجمعة]،فقاس من حمّله-سبحانه-كتابه،ليؤمن به و يتدبره،و يعمل به،و يدعو إليه ثم خالف ذلك،و لم يحمله إلا على ظهر قلب،فقراءته بغير تدبر و لا تفهم،و لا اتباع له،و تحكيم له،و عمل بموجبه،كحمار على ظهره زاملة أسفار لا يدري ما فيها،و حظه منها حملها على ظهره ليس إلا،فحظه من كتاب اللّه كحظ هذا الحمار من الكتب التي على ظهره.

فهذا المثل،و إن كان قد ضرب لليهود؛فهو متناول من حيث المعنى لمن حمل القرآن، فترك العمل به،و لم يؤد حقه،و لم يرعه حق رعايته.

مثل للكفار و مثلان للمؤمنين

و منها قوله تعالى: ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللّهِ شَيْئاً وَ قِيلَ ادْخُلاَ النّارَ مَعَ الدّاخِلِينَ (10) وَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَ نَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَ عَمَلِهِ وَ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ(11) وَ مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَ صَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَ كُتُبِهِ وَ كانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12)[التحريم]فاشتملت هذه الآيات على ثلاثة أمثال:مثل للكفار،و مثلين للمؤمنين.

فتضمن مثل الكفار:أن الكافر يعاقب على كفره و عداوته للّه و رسوله و أوليائه،و لا ينفعه مع كفره ما كان بينه و بين المؤمنين من لحمة نسب،أو وصلة صهر،أو سبب من أسباب الاتصال،فإن الأسباب كلها تنقطع يوم القيامة إلا ما كان منها متصلا باللّه وحده على أيدي رسله،فلو نفعت وصلة القرابة و المصاهرة أو النكاح مع عدم الإيمان،لنفعت الوصلة التي

ص: 174

كانت بين نوح و لوط و امرأتيهما،فلما لم يغنيا عنهما من اللّه شيئا: وَ قِيلَ ادْخُلاَ النّارَ مَعَ الدّاخِلِينَ قطعت الآية حينئذ طمع من ركب معصية اللّه،و خالف أمره،و رجا أن ينفعه صلاح غيره من قريب أو أجنبي،و لو كان بينهما في الدنيا أشد الاتصال،فلا اتصال فوق اتصال النبوة و الأبوة و الزوجية،و لم يغن نوح عن ابنه،و لا إبراهيم عن أبيه،و لا نوح و لا لوط عن امرأتيهما من اللّه شيئا.

قال اللّه تعالى: لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)[الممتحنة:3]و قال تعالى: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلّهِ (19) [الانفطار]،و قال تعالى: وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [البقرة:123]،و قال: وَ اخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَ لا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ [لقمان:33].و هذا كله تكذيب لأطماع المشركين الباطلة:أن من تعلقوا به من دون اللّه من قرابة أو صهر أو نكاح أو صحبة ينفعهم يوم القيامة،أو يجيرهم من عذاب اللّه،أو يشفع لهم عند اللّه.

و هذا أصل ضلال بني آدم و شركهم،و هو الشرك الذي لا يغفره اللّه،و هو الذي بعث اللّه جميع رسله و أنزل جميع كتبه بإبطاله و محاربة أهله و معاداتهم.

و أما المثلان اللذان للمؤمنين:فأحدهما:امرأة فرعون،و وجه المثل أن اتصال المؤمن بالكافر لا يضره شيئا إذا فارقه في كفره و عمله،فمعصية الغير لا تضر المؤمن المطيع شيئا في الآخرة،و إن تضرر بها في الدنيا بسبب العقوبة التي تحل بأهل الأرض إذا أضاعوا أمر اللّه،فتأتي عامة،فلم يضر امرأة فرعون اتصالها به و هو من أكفر الكافرين،و لم ينفع امرأتا نوح و لوط اتصالهما بهما،و هما رسولا رب العالمين.

المثل الثاني:للمؤمنين:مريم التي لا زوج لها،لا مؤمن و لا كافر.

فذكر ثلاثة أصناف من النساء:المرأة الكافرة التي لها وصلة بالرجل الصالح،و المرأة الصالحة التي لها وصلة بالرجل الكافر،و المرأة العزب التي لا وصلة بينها و بين أحد.

فالأولى:لا تنفعها وصلتها و سببها.

و الثانية:لا تضرها وصلتها و سببها.

و الثالثة:لا يضرها عدم الوصلة شيئا.

ثم في هذا الأمثال من الأسرار البديعة ما يناسب سياق السورة،فإنها سيقت في ذكر أزواج النبي صلى اللّه عليه و سلم و التحذير من تظاهرهن عليه،و أنهن إن لم يطعن اللّه و رسوله و يردن الدار

ص: 175

الآخرة،لم ينفعهن اتصالهن برسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كما لم ينفع امرأتا نوح و لوط اتصالهما بهما، و لهذا إنما ضرب في هذه السورة مثل اتصال النكاح دون القرابة.

قال يحيى بن سلام:ضرب اللّه المثل الأول يحذر عائشة و حفصة،ثم ضرب لهما المثل الثاني يحرضهما على التمسك بالطاعة،و في ضرب المثل للمؤمنين بمريم أيضا اعتبار آخر و هو أنها لم يضرها عند اللّه شيئا قذف أعداء اللّه اليهود لها و نسبتهم إياها و ابنها إلى ما برأهما اللّه عنه،مع كونها الصديقة المصطفاة على نساء العالمين،فلا يضر الرجل الصالح قدح الفجار و الفساق فيه.و في هذا تسلية لعائشة أم المؤمنين إن كانت السورة نزلت بعد قصة الإفك،و توطين نفسها على ما قال الكاذبون إن كانت قبلها،كما في ذكر التمثيل بامرأتي نوح و لوط تحذير لها و حفصة مما اعتمدتاه في حق النبي صلى اللّه عليه و سلم،فتضمنت هذه الأمثال التحذير لهن و التخويف،و التحريض لهن على الطاعة و التوحيد و التسلية و توطين النفس لمن أوذي منهن و كذب عليه،و أسرار التنزيل فوق هذا و أجل منه،و لا سيما أسرار الأمثال التي لا يعقلها إلا العالمون.

مثل في تشبيه من أعرض عن كلامه و تدبره

و منها قوله تعالى في تشبيه من أعرض عن كلامه و تدبره: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ(49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ(50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)[المدثر]،شبههم في إعراضهم و نفورهم عن القرآن بحمر رأت الأسد أو الرماة،ففرت منه،و هذا من بديع القياس و التمثيل،فإن القوم في جهلهم بما بعث اللّه به رسوله كالحمر،و هي لا تعقل شيئا،فإذا سمعت صوت الأسد، أو الرامي نفرت منه أشد النفور،و هذا غاية الذم لهؤلاء،فإنهم نفروا عن الهدى الذي فيه سعادتهم،و حياتهم كنفور الحمر عما يهلكها و يعقرها.و تحت المستنفرة معنى أبلغ من النافرة،فإنها لشدة نفورها،قد استنفر بعضها بعضا،و حضه على النفور،فإن في الاستفعال من الطلب قدرا زائدا على الفعل المجرد.فكأنها تواصت بالنفور،و تواطأت عليه،و من قرأها بتفتح الفاء (1)فالمعنى:أن القسورة استنفرها و حملها على النفور ببأسه و شدته.

ص: 176


1- قرأ نافع و ابن عامر و المفضل عن عاصم:(مستنفرة)بفتح الفاء،و الباقون بكسر الفاء،انظر السبعة في القراءات لابن مجاهد.

فصل في الفوائد و الحكم من ضرب الأمثال

كم في القرآن من مثل عقلي و حسي ينبه به العقول على حسن ما أمر به،و قبح ما نهى عنه.فلو لم يكن في نفسه كذلك لم يكن لضرب الأمثال للعقول معنى،و لكان إثبات ذلك بمجرد الأمر و النهي،دون ضرب الأمثال،و تبين جهة القبح المشهودة بالحسّ و العقل.

و القرآن مملوء بهذا لمن تدبره،كقوله تعالى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)[الروم]يحتج-سبحانه-عليهم بما في عقولهم من قبح كون مملوك أحدهم شريكا له،فإذا كان أحدكم يستقبح أن يكون مملوكه شريكه،و لا يرضى بذلك،فكيف تجعلون لي من عبيدي شركاء تعبدونهم كعبادتي؟و هذا يبين أن قبح عبادة غير اللّه تعالى مستقر في العقول و الفطر،و السمح نبه العقول و أرشدها إلى معرفة ما أودع فيها من قبح ذلك.

و كذلك قوله تعالى: ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَ رَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29)[الزمر]احتج سبحانه على قبح الشرك بما تعرفه العقول من الفرق بين حال مملوك يملكه أرباب متعاسرون سيئو الملكة،و حال عبد يملكه سيد واحد قد سلم كله له،فهل يصح في العقول استواء حال العبدين؟فكذلك حال المشرك و الموحد الذي قد سلمت عبوديته لإلهه الحق،لا يستويان.

و كذل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النّاسِ وَ لا يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمّا كَسَبُوا وَ اللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264)[البقرة]ممثلا لقبح الرياء المبطل للعمل،و المن و الأذى المبطل للصدقات ب«صفوان»و هو الحجر الأملس عليه تراب:غبار قد لصق به،فأصابه مطر شديد فأزال ما عليه من التراب«فتركه صلدا»:أملس لا شيء عليه.و هذا المثل في غاية المطابقة لمن فهمه.ف«الصفوان»و هو الحجر.كقلب المرائي و المانّ و المؤذي.و«التراب»الذي لصق به ما تعلق به من أثر عمله و صدقته.و «الوابل»:المطر الذي به حياة الأرض.فإذا صادفها لينة قابلة:نبت فيها الكلأ،و إذا صادف الصخور و الحجارة الصم:لم ينبت فيها شيئا،فجاء هذا الوابل إلى التراب الذي على الحجر،فصادفه رقيقا،فأزاله،فأفضى إلى حجر غير قابل للنبات.

ص: 177

و هذا يدل على أن قبح«المن،و الأذى،و الرياء»مستقر في العقول،فلذلك نبهها على شبهه و مثاله.

و عكس ذلك قوله تعالى: وَ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ وَ تَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)[البقرة]فإن كانت هذه الجنة التي بموضع عال حيث لا تحجب عنها الشمس و الرياح،و قد أصابها مطر شديد.فأخرجت ثمرتها ضعفي ما يخرج غيرها-إن كانت مستحسنة في العقل و الحس.فكذلك نفقة من أنفق ماله لوجه اللّه،لا لجزاء من الخلق،و لا لشكور،بل بثبات من نفسه،و قوة على الإنفاق،لا يخرج النفقة و قلبه يرجف على خروجها،و يداه ترتعشان،و يضعف قلبه،و يخور عند الإنفاق.بخلاف نفقة صاحب التثبيت و القوة.

و لما كان الناس في الإنفاق على هذين القسمين،كان مثل نفقة صاحب الإخلاص و القوة و التثبيت:كمثل الوابل.و مثل نفقة الآخر كمثل الطل،و هو المطر الضعيف.

فهذا بحسب كثرة الإنفاق و قلته،و كمال الإخلاص و القوة و اليقين فيه و ضعفه.أ فلا تراه سبحانه نبه العقول على ما فيها من استحسان هذا،و استقباح فعل الأول؟ (1)

الخلاصة فهذا بعض ما اشتمل عليه القرآن من التمثيل و القياس و الجمع و الفرق،و اعتبار العلل و المعاني و ارتباطها بأحكامها تأثيرا و استدلالا،قالوا:و قد ضرب اللّه-سبحانه-الأمثال و صرفها قدرا و شرعا و يقظة و مناما،و دل عباده على الاعتبار بذلك و عبورهم من الشيء إلى نظيره و استدلالهم بالنظير على النظير (2).).

ص: 178


1- مدارج السالكين(240/1،241).
2- إعلام الموقعين(200/1-246).

المحكم و المتشابه

المحكم أصل للمتشابه

إن اللّه-سبحانه-قسم الأدلة السمعية إلى قسمين:محكم و متشابه،و جعل المحكم أصلا للمتشابه،و إمّا له يرد إليه،فما خالف ظاهر المحكم فهو متشابه يرد إلى المحكم.

و قد اتفق المسلمون على هذا،و أن المحكم هو الأصل،و المتشابه مردود إليه (1).

المتشابه و أنواع الإحكام

اشارة

اللّه-سبحانه-جعل القلوب على ثلاثة أقسام:مريضة،و قاسية،و مخبتة.و ذلك لأنها إما أن تكون يابسة جامدة لا تلين لإعطاء الأعمال الصالحة.

و أما النوع الثاني:فلا يخلو إما أن يكون الحق ثابتا فيه لا يزول عنه،لقوته مع لينه،أو يكون ثابتا مع ضعف و انحلال.

و الثاني:هو القلب المريض،و الأول هو الصحيح المخبت.و هو جمع الصلابة و الصفاء و اللين فيبصر الحق بصفائه،و يشد فيه بصلابته،و يرحم الخلق بلينه،كما في أثر مروي:«القلوب آنية اللّه في أرضه،فأحبها إلى اللّه أصلبها و أرقها و أصفاها» (2)،كما قال تعالى في أصحاب هذه القلوب: أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29]فهذا وصف منه للمؤمنين الذين عرفوا الإيمان بصفاء قلوبهم،و اشتدوا على الكفار بصلابتها و تراحموا فيما بينهم بلينها.

و ذلك أن القلب عضو من أعضاء البدن،و هو أشرف أعضائه و ملكها المطاع.و كل عضو كاليد مثلا-إما أن تكون جامدة و يابسة لا تلتوي و لا تبطش،أو تبطش بضعف، فذلك مثل القلب القاسي،أو تكون مريضة ضعيفة عاجزة،و لضعفها و مرضها،فذلك مثل

ص: 179


1- الصواعق المرسلة(772/2).
2- قال العلامة الألباني رحمه اللّه تعالى:«أخرجه الطبراني من المعجم الكبير،(المنتقى منه)،و إسناده قوي،رجاله كلهم ثقات أثبات غير نقية،و هو صدوق كثير التحديث عن الضعفاء...،و لكن هناك قد صرح بالحديث»السلسلة الصحيحة(1691).

الذي فيه مرض،أو تكون باطشة بقوة و لين،فذلك مثل القلب العليم الرحيم.فبالعلم خرج عن المرض الذي ينشأ من الشهوة و الشبهة،و بالرحمة خرج عن القسوة.

و لهذا وصف-سبحانه-من عدا أصحاب القلوب المريضة و القاسية بالعلم و الإيمان و الإخبات.

فتأمل ظهور حكمته-سبحانه-في أصحاب هذه القلوب،و هم كل الأمة،فأخبر أن الذين أوتوا العلم علموا أنه الحق من ربهم،كما أخبر أنهم في المتشابه يقولون: آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا [آل عمران:7].و كلا الوصفين موضع شبهة.فكان حظهم منه الإيمان، و حظ أرباب القلوب المنحرفة عن الصحة الافتتان.

و لهذا جعل-سبحانه-إحكام آياته في مقابلة ما يلقي الشيطان بإزاء الآيات المحكمات في مقابلة المتشابهات.فالإحكام هاهنا بمنزلة إنزال المحكمات هناك،و نسخ ما يلقي الشيطان هاهنا في مقابلة رد المتشابه إلى المحكم هناك.

و النسخ هاهنا رفع ما ألقاه الشيطان لا رفع ما شرعه الرب سبحانه.

و للنسخ معنى آخر و هو النسخ من أفهام المخاطبين ما فهموه مما لم يرده و لا دل اللفظ عليه و إن أوهمه،كما أطلق الصحابة النسخ على قوله: وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:284].

فهذا نسخ من الفهم لا نسخ للحكم الثابت،فإن المحاسبة لا تستلزم العقاب في الآخرة و لا في الدنيا أيضا.و لهذا عمهم بالمحاسبة ثم أخبر بعدها أنه يغفر لمن يشاء و يعذب من يشاء.ففهم المؤاخذة التي هي المعاقبة من الآية تحميل لها فوق وسعها،فرفع هذا المعنى من فهمه بقوله: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا [البقرة:286]،إلى آخرها.فهذا رفع لفهم غير المراد من إلقاء الملك،و ذاك رفع لما ألقاه غير الملك،في أسماعهم أو في التمني.

و للنسخ معنى ثالث عند الصحابة و التابعين،و هو ترك الظاهر إما بتخصيص عام أو بتقييد مطلق،و هذا كثير في كلامهم جدا.

و له معنى رابع،و هو الذي يعرفه المتأخرون،و عليه اصطلحوا،و هو رفع الحكم بجملته بعد ثبوته بدليل رافع له،فهذه أربعة معان للنسخ (1).).

ص: 180


1- إغاثة اللهفان(368/1).

و الإحكام له ثلاثة معان:

أحدهما:الإحكام الذي في مقابلة المتشابه،كقوله: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [آل عمران:7].

و الثاني:الإحكام في مقابلة نسخ ما يلقي الشيطان كقوله: فَيَنْسَخُ اللّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللّهُ آياتِهِ وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحج:52]و هذا الإحكام يعم جميع آياته،و هو إثباتها و تقريرها و بيانها،و منه قوله كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ [هود:1].

الثالث:إحكام في مقابلة الآيات المنسوخة،كما يقول السلف كثيرا:هذه الآية محكمة غير منسوخة.و ذلك لأن الإحكام تارة يكون في التنزيل،فيكون في مقابلة ما يلقيه الشيطان في أمنيته ما يلقيه المبلغ أو في سمع المبلغ.فالحكم هنا هو المنزل من عند اللّه أحكمه اللّه، أي فصله من اشتباهه بغير المنزل،و فصل منه ما ليس منه بإبطاله.

و تارة يكون في إبقاء المنزل و استمراره فلا ينسخ بعد ثبوته.

و تارة يكون في معنى المنزل و تأويله،و هو تمييز المعنى المقصود من غيره حتى لا يشتبه به (1).

التحذير ممن يتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة

سألت عائشة رضي اللّه عنها رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم،عن قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران:7]،فقال:«إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه،فأولئك الذين سمى اللّه،فاحذروهم»متفق عليه (2).

بيان خطأ الأخذ بالمتشابه في رد المحكم

ذكر أحمد الاحتجاج على إبطال قول من عارض السنن بظاهر القرآن،وردها بذلك و هذا فعل الذين يستمسكون بالمتشابه في رد المحكم،فإن لم يجدوا لفظا متشابها غير المحكم يردونه به،استخرجوا من المحكم وصفا متشابها،و ردوه به.

فلهم طريقان في رد السنن:

ص: 181


1- سيأتي الكلام في النسخ قريبا.
2- إعلام الموقعين(496/4).

أحدهما:ردها بالمتشابه من القرآن أو من السنن.

الثاني:جعلهم المحكم متشابها،ليعطلوا دلالته.

و أما طريقة الصحابة و التابعين و أئمة الحديث،كالشافعي،و الإمام أحمد،و مالك، و أبي حنيفة،و أبي يوسف،و البخاري،و إسحاق،فعكس هذه الطريقة،و هي أنهم يردون المتشابه إلى المحكم،و يأخذون من المحكم ما يفسر لهم المتشابه،و يبينه لهم.فتتفق دلالته مع دلالة المحكم،و توافق النصوص بعضها بعضا،و يصدق بعضها بعضا،فإنها كلها من عند اللّه،و ما كان من عند اللّه.فلا اختلاف فيه،و لا تناقض.و إنما الاختلاف و التناقض فيما كان من عند غيره،و لنذكر لهذا الأصل أمثلة لشدة حاجة كل مسلم إليه أعظم من حاجته إلى الطعام و الشراب.

المثال الأول:رد الجهمية النصوص المحكمة غاية الإحكام،المبينة بأقصى غاية البيان:أن اللّه موصوف بصفات الكمال،من العلم و القدرة و الإرادة و الحياة و الكلام و السمع و البصر و الوجه و اليدين و الغضب و الرضا و الفرح و الضحك و الرحمة و الحكمة، و بالأفعال كالمجيء و الإتيان و النزول إلى السماء الدنيا،و نحو ذلك.

و العلم بمجيء الرسول بذلك،و إخباره به عن ربه إن لم يكن فوق العلم بوجوب الصلاة و الصيام و الحج و الزكاة و تحريم الظلم و الفواحش و الكذب،فليس يقصر عنه،فالعلم الضروري حاصل بأن الرسول أخبر عن اللّه بذلك،و فرض على الأمة تصديقة فيه فرضا لا يتم أصل الإيمان إلا به.

فرد الجهمية ذلك بالمتشابه من قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]،و من قوله:

هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65]،و من قوله: قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ (1)[الإخلاص:1].

ثم استخرجوا من هذه النصوص المحكمة المبينة احتمالات و تحريفات جعلوها به من قسم المتشابه (1).).

ص: 182


1- في معنى المحكم و المتشابه أكثر من عشرة أقوال ذكرها السيوطي في الإتقان في الباب الثالث و الأربعين،ثم ذكر الاختلاف في معرفة المتشابه هل مما يمكن الاطلاع عليه أم لا!!و مدار الخلاف على فهم قوله تعالى: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ و هل قوله تعالى وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ معطوفا،و يقولون«حال أو مبتدأ خبره يقولون و الواو للاستئناف.إلخ...ثم بين اختيار الجمهرة من العلماء إلى أن أولى العلم مما يعلم تأويله،و ذهب إلى ذلك النووي في شرحه على مسلم و قال ابن الحاجب:و هو الأظهر.و في المسألة تفصيل انظرها في موضعه،الإتقان(2/2).

المثال الثاني:ردهم المحكم المعلوم بالضرورة أن الرسل جاءوا به:من إثبات علو اللّه على خلقه و استوائه على عرشه بمتشابه قول اللّه تعالى: وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [الحديد:

4]،و قوله: وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16]،و قوله: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاّ هُوَ رابِعُهُمْ وَ لا خَمْسَةٍ إِلاّ هُوَ سادِسُهُمْ وَ لا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْثَرَ إِلاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا [المجادلة:7]،و نحو ذلك،ثم تخيلوا و تحملوا،حتى ردوا نصوص العلو و الفوقية بمتشابه.

المثال الثالث:رد القدرية النصوص الصريحة المحكمة في قدرة اللّه على خلقه،و أنه ما شاء كان و ما لم يشأ لم يكن بالمتشابه من قوله: وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف:49]، وَ ما رَبُّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46]، إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور:16]،ثم استخرجوا لتلك النصوص المحكمة وجوها آخر أخرجوها به من قسم المحكم،و أدخلوها في المتشابه.

المثال الرابع:رد الجبرية النصوص المحكمة في إثبات كون العبد قادرا مختارا فاعلا بمشيئته بمتشابه قوله: وَ ما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ [الإنسان 30]، وَ ما يَذْكُرُونَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ [المدثر:56]،و قوله: مَنْ يَشَأِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَ مَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام:

39]،و أمثال ذلك،ثم استخرجوا لتلك النصوص من الاحتمالات التي يقطع السامع أن المتكلم لم يردها ما صيروها به متشابهة.

المثال الخامس:رد الخوارج و المعتزلة النصوص الصريحة المحكمة غاية الإحكام في ثبوت الشافعة للعصاة،و خروجهم من النار بالمتشابه من قوله: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشّافِعِينَ (48)[المدثر]،و قوله: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران:192]،و قوله:

وَ مَنْ يَعْصِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها [النساء:14]،و نحو ذلك،و فعلوا فيها فعل من ذكرناه سواء.

المثال السادس:رد الجهمية النصوص المحكمة التي قد بلغت في صراحتها و صحتها إلى أعلى الدرجات،في رؤية المؤمنين ربهم تبارك و تعالى في عرصات القيامة.و في الجنة المتشابه من قوله: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ [الأنعام:103]،و قوله لموسى لَنْ تَرانِي [الأعراف:143]،و قوله: وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ [الشورى:51]،ثم أحالوا المحكم متشابها و ردوا الجميع.

المثال السابع:رد النصوص الصريحة الصحيحة التي تفوق العدد على ثبوت الأفعال الاختيارية للرب سبحانه و قيامها به،كقوله: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29]،و قوله:

ص: 183

فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ [التوبة:105]، إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)[يس]،و قوله: فَلَمّا جاءَها نُودِيَ [النمل:8]،و قوله: فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا [الأعراف:143]،و قوله: وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها [الإسراء:

16]،و قوله: قَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها [أول المجادلة]،و قوله: لَقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ .[آل عمران:181].

و قوله:«ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا» (1).

و قوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ [الأنعام:158].

و قوله:«إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله،و لم يغضب بعده مثله» (2)، و قوله:«إذا قال العبد:الحمد للّه رب العالمين،قال اللّه:حمدني عبدي»الحديث (3).

و أضعاف أضعاف ذلك من النصوص التي تزيد على الألف،فردوا هذا كله مع إحكامه بمتشابه قوله: لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الأنعام:76].

المثال الثامن:رد النصوص المحكمة الصريحة التي في غاية الصحة و الكثرة على أن الرب سبحانه إنما يفعل ما يفعله لحكمة و غاية محمودة،وجودها خير من عدمها،و دخول لام التعليل في شرعه و قدره أكثر من أن يعد فردوها بالمتشابه من قوله: لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ (23)[الأنبياء]،ثم جعلوها كلها متشابهة.

المثال التاسع:رد النصوص الصحيحة الكثيرة الدالة على ثبوت الأسباب شرعا و قدرا، كقوله: بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف:43]، بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [يونس:52]، بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ [الأنفال:51]، بِما قَدَّمَتْ يَداكَ [الحج:10]، بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَ كُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام:93]، ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ [النحل:107]، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (9)[محمد:9]، ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللّهِ هُزُواً [الجاثية:35]،و قوله: يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ [المائدة:16]،و قوله: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً [البقرة:26]،و قوله:ب.

ص: 184


1- البخاري(6321)في الدعوات،باب:الدعاء نصف الليل.
2- البخاري(3340)في الأنبياء،باب:قول اللّه عز و جل وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [هود:25].
3- مسلم(38/395)في الصلاة،باب:وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة و أنه إذا لم يحسن الفاتحة و لا أمكنه تعلمها قرأ ما تيسر له من غيرها،و الترمذي(2953)في تفسير القرآن،باب:و من سورة فاتحة الكتاب.

وَ نَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنّاتٍ وَ حَبَّ الْحَصِيدِ (9)[ق]،و قوله: فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ [الأعراف:57]،و قوله: فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ [المؤمنون:19]،و قوله: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ [التوبة:14]،و قوله في العسل:

فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ [النحل:69]،و قوله في القرآن: وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82]،إلى أضعاف أضعاف ذلك من النصوص المثبتة للسببية،فردوا ذلك كله بالمتشابه من قوله: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللّهِ [فاطر:3]،و قوله: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَ لكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللّهَ رَمى [الأنفال:17]،و قوله النبي صلى اللّه عليه و سلم:«ما حملتكم، و لكن اللّه حملكم» (1)و نحو ذلك.و قوله:«إني لا أعطي أحدا،و لا أمنعه» (2)،و قوله للذي سأله عن العزول عن أمته:«اعزل عنها،فسيأتيها ما قدر لها» (3)،و قوله:«لا عدوى و لا طيرة» (4)،و قوله:«فمن أعدى الأول؟» (5)،و قوله:«أ رأيت إن منع اللّه الثمرة» (6)،و لم يقل:

منعها البرد و الآفة التي تصيب الثمار،و نحو ذلك من المتشابه الذي إنما يدل على أن مالك السبب و خالقه يتصرف فيه،بأن يسلبه سببيته إن شاء،و يبقيها عليه إن شاء،كما سلب النار قوة الإحراق عن الخليل عليه السّلام.

و يا للّه العجب أ ترى من أثبت الأسباب،و قال:إن اللّه خالقها أثبت خالقا غير اللّه؟! و أما قوله: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَ لكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللّهَ رَمى [الأنفال:17]فغاب عنهم فقه الآية و فهمها،و الآية من أكبر معجزات النبي صلى اللّه عليه و سلم،و الخطاب بها خاص لأهل بدر،و كذلك القبضة التي رمي بها النبي صلى اللّه عليه و سلم فأوصلها اللّه-سبحانه-إلى جميع وجوه المشركين،و ذلك خارج عن قدرته صلى اللّه عليه و سلم،و هو الرمي الذي نفاه عنه،و أثبت له الرمي الذي هو في محل قدرته و هو الحذف.و كذلك القتل الذي نفاه عنهم،هو قتل لم تباشره أيديهم،و إنما باشرته أيدي الملائكة،فكان أحدهم يشتد في أثر الفارس،و إذا برأسه قد وقع أمامه من ضربة الملك.ا.

ص: 185


1- البخاري(6623)في الأيمان و النذور،باب:قول اللّه تعالى: لا يُؤاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ [المائدة:89].
2- البخاري(844)في الأذان،باب:الذكر بعد الصلاة.
3- مسلم(134/1439)في النكاح،باب:حكم العزل.
4- البخاري(5775)في الطب،باب:لا عدوى،و مسلم(101/2220)في السلام،باب:لا عدوى و لا طيرة و لا هامة و لا صفر و لا نوء و لا غول و لا يورد ممرض على مصح.
5- البخاري(5775)في الطب،باب:لا عدوى،و مسلم(101/2220)في السلام،باب:لا عدوى و لا طيرة و لا هامة و لا صفر و لا نوء و لا غول و لا يورد ممرض على مصح.
6- النسائي(4526)في البيوع،باب:شراء الثمار قبل أن يبدو صلاحها على أن يقطعها و لا يتركها إلى أوان إدراكها.

و لو كان المراد ما فهمه هؤلاء الذين لا فقه لهم في فهم النصوص،لم يكن فرق بين ذلك و بين كل قتل و كل فعل من شرب أو زنا أو سرقة أو ظلم،فإن اللّه خالق الجميع، و كلام اللّه ينزه عن هذا.

و كذلك قوله:«ما أنا حملتكم،و لكن اللّه حملكم»،لم يرد أن اللّه حملهم بالقدر، و إنما كان النبي صلى اللّه عليه و سلم متصرفا بأمر اللّه منفذا له،فاللّه-سبحانه-أمره بحمله،فنفذ أوامره، فكأن اللّه هو الذي حملهم،و هذا معنى قوله:«و اللّه إني لا أعطي أحدا شيئا و لا أمنعه»، و لهذا قال:«و إنما أنا قاسم»،فاللّه-سبحانه-هو المعطي على لسانه،و هو يقسم ما قسمه بأمره.

و كذلك قوله في العزل:«فسيأتيها ما قدر لها»،ليس فيه إسقاط الأسباب،فإن اللّه سبحانه إذا قدر خلق الولد،سبق من الماء ما يخلق منه الولد،و لو كان أقل شيء،فليس من كل الماء يكون الولد،و لكن أين في السنة أن الوطء لا تأثير له في الولد البتة،و ليس سببا له؟و أن الزوج أو السيد إن وطئ أو لم يطأ،فكلا الأمرين بالنسبة إلى حصول الولد و عدمه على حد سواء كما يقوله منكرو الأسباب؟

المثال العاشر:رد الجهمية النصوص المحكمة الصريحة التي تفوت العد على أن اللّه- سبحانه-تكلم و يتكلم و كلم و يكلم،و قال و يقول،و أخبر و يخبر،و نبأ و ينبئ،و أمر و يأمر، و نهى و ينهى،و رضي و يرضى،و يعطي،و يبشر و ينذر و يحذر،و يوصل لعباده القول،و يبين لهم ما يتقون،و نادى و ينادي،و ناجى و يناجي،و وعد و أوعد،و يسأل عباده يوم القيامة و يخاطبهم،و يكلم كلاّ منهم ليس بينه و بينه ترجمان و لا حاجب،و يراجعه عبده مراجعة.

و هذه كلها أنواع الكلام و التكليم،و ثبوتها بدون صفة التكلم له ممتنع،فردها الجهمية مع إحكامها صراحتها و تعيينها للمراد منها،بحيث لا تحتمل غيره بالمتشابه من قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ .

المثال الحادي عشر:ردوا محكم قوله: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ [الأعراف:54]و قوله:

وَ لكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي [السجدة:13]و قوله: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [النحل:

102]و قوله: وَ كَلَّمَ اللّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النساء:164]و قوله: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النّاسِ بِرِسالاتِي وَ بِكَلامِي [الأعراف:144]،و غيرها من النصوص المحكمة بالمتشابه من قوله: خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ [الرعد:16]و قوله: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40)[التكوير]و الآيتان حجة عليهم، فإن صفات اللّه جل جلاله داخلة في مسمى اسمه،فليس اللّه اسما لذات لا سمع لها،و لا

ص: 186

بصر لها،و لا حياة لها،و لا كلام لها،و لا علم،و ليس هذا رب العالمين،و كلامه تعالى، و علمه و حياته و قدرته و مشيئته و رحمته،داخلة في مسمى اسمه،فهو-سبحانه-بصفاته و كلامه الخالق،و كل ما سواه مخلوق.

و أما إضافة القرآن إلى الرسول فإضافة تبليغ محض لا إنشاء.و الرسالة تستلزم تبليغ كلام المرسل،و لو لم يكن للمرسل كلام يبلغه الرسول لم يكن رسولا،و لهذا قال غير واحد من السلف:من أنكر أن يكون اللّه متكلما،فقد أنكر رسالة رسله،فإن حقيقة رسالتهم تبليغ كلام من أرسلهم.

فالجهمية و إخوانهم ردوا تلك النصوص المحكمة بالمتشابه،ثم صيّروا الكل متشابها، ثم ردوا الجميع،فلم يثبتوا للّه فعلا يقوم به يكون به فاعلا،كما لم يثبتوا له كلاما يقوم به يكون به متكلما.فلا كلام له عندهم و لا أفعال،بل كلامه و فعله عندهم مخلوق،منفصل عنه،و ذلك لا يكون صفة له،لأنه سبحانه إنما يوصف بما قام به،لا بما لم يقم به.

المثال الثاني عشر:و قد تقدم ذكره مجملا فنذكره هاهنا مفصلا:رد الجهمية النصوص المتنوعة المحكمة على علو اللّه على خلقه،و كونه فوق عباده من ثمانية عشر نوعا:

أحدها:التصريح بالفوقية مقرونة بأداة«من»المعينة لفوقية الذات،نحو: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50)[النحل].

الثاني:ذكرها مجردة عن الأداة،كقوله: وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ [الأنعام:18].

الثالث:التصريح بالعروج إليه،نحو: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج:4]،و قوله النبي صلى اللّه عليه و سلم:«فيعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم» (1).

الرابع:التصريح بالصعود إليه،كقوله: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر:10].

الخامس:التصريح برفعه بعض المخلوقات إليه،كقوله: بَلْ رَفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ [النساء:

158]،و قوله: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران:55].

السادس:التصريح بالعلو المطلق الدال على جميع مراتب العلو ذاتا و قدرا و شرفا، كقوله: وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255]، وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23]، إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى:51].

السابع:التصريح بتنزيل الكتاب منه،كقوله: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّا.

ص: 187


1- أخرجه البخاري(522)في مواقيت الصلاة،و مسلم(1001)في المساجد،و رواه غيرهما.

[النحل:102].و هذا يدل على شيئين:على أن القرآن ظهر منه لا من غيره،و أنه الذي تكلم به لا غيره.

الثاني:على علوه على خلقه،و أن كلامه نزل به الروح الأمين من عنده،من أعلى مكان إلى رسوله.

الثامن:التصريح باختصاص بعض المخلوقات بأنها عنده،و أن بعضها أقرب إليه من بعض،كقوله: فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ [فصلت:38]و قوله: وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ لا يَسْتَحْسِرُونَ (19)[الأنبياء]،ففرق بين من له عموما،و من عنده من مماليكه و عبيده خصوصا،و قوله النبي صلى اللّه عليه و سلم في الكتاب الذي كتبه الرب تعالى على نفسه «أنه عنده على العرش» (1).

التاسع:التصريح بأنه-سبحانه في السماء،و هذا عند أهل السنة على أحد وجهين،إما أن تكون«في»بمعني«على»،و ما أن يراد بالسماء العلو،لا يختلفون في ذلك،و لا يجوز حمل النص على غيره.

العاشر:التصريح بالاستواء مقرونا بأداة«على»،مختصا بالعرش الذي هو أعلى المخلوقات،مصاحبا في الأكثر لأداة«ثم»الدالة على الترتيب و المهملة،و هو بهذا السياق صريح في معناه الذي لا يفهم المخاطبون غيره من العلو و الارتفاع،و لا يحتمل غيره البتة.

الحادي عشر:التصريح برفع الأيدي إلى اللّه-سبحانه-كقوله صلى اللّه عليه و سلم:«إن اللّه يستحي من عبده إذا رفع يديه أن يردهما صفرا» (2).

الثاني عشر:التصريح بنزوله كل ليلة إلى السماء الدنيا (3)،و النزول المعقول عند جميع الأمم إنما يكون من علو إلى أسفل.

الثالث عشر:الإشارة إليه حسا إلى العلو،كما أشار إليه من هو أعلم به،و ما يجب له و يمتنع عليه من أفراخ الجهمية و المعتزلة و الفلاسفة،في أعظم مجمع على وجه الأرض يرفع إصبعه إلى السماء،و يقول:«اللهم اشهد»ليشهد الجميع أن الرب الذي أرسله،و دعا إليه، و استشهده هو الذي فوق سماواته على عرشه.ه.

ص: 188


1- أخرجه البخاري(2955)في بدء الخلق،و مسلم(4931)في التوبة.
2- حديث صحيح،رواه غير واحد بألفاظ متقاربة،رواه أبو داود-الصحيح-(1337)و ابن ماجة (3117)و غيرهما.
3- سبق تخريجه.

الرابع عشر:التصريح بلفظ«الأين»،الذي هو عند الجهمية بمنزلة«متى»في الاستحالة،و لا فرق بين اللفظين عندهم البتة،فالقائل:أين اللّه؟و متى كان اللّه؟عندهم سواء،كقول أعلم الخلق به،و أنصحهم لأمته و أعظمهم بيانا عن المعنى الصحيح،بلفظ لا يوهم باطلا بوجه:«أين اللّه؟» (1)في غير موضع.

الخامس عشر:شهادته-التي هي أصدق شهادة عند اللّه و ملائكته و جميع المؤمنين-لمن قال:إن ربه في السماء بالإيمان،و شهد عليه أفراخ جهم بالكفر،و صرح الشافعي بأن هذا الذي وصفته-من أن ربها في السماء-إيمان،فقال في كتاب في باب:عتق الرقبة المؤمنة، و ذكر حديث الأمة-السوداء التي سودت وجوه الجهمية،و بيضت وجوه المحمدية-فلما و صفت الإيمان قال:«أعتقها،فإنها مؤمنة»،و هي إنما و صفت كون ربها في السماء،و أن محمدا عبده و رسوله،فقرنت بينهما في الذكر،فجعل الصادق المصدق مجموعها هو الإيمان.

السادس عشر:إخباره-سبحانه-عن فرعون أنه رام الصعود إلى السماء ليطلع إلى إله موسى،فيكذبه فيما أخبره به من أنه فوق السموات،فقال: يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ(36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً (37)[غافر:36، 37]،فكذب فرعون موسى في إخباره إياه بأن ربه فوق السماء.و عند الجهمية:لا فرق بين الإخبار بذلك،و بين الإخبار بأنه يأكل و يشرب،و على زعمهم يكون فرعون قد نزه الرب عما لا يليق به،و كذب موسى في إخباره بذلك،إذ من قال عندهم:إن ربه فوق السموات فهو كاذب،فهم في هذا التكذيب موافقون لفرعون،مخالفون لموسى و لجميع الأنبياء.

و لذلك سماهم أئمة السنة:فرعونية،قالوا:و هم شر من الجهمية،فإن الجهمية يقولون:إن اللّه في كل مكان بذاته،و هؤلاء عطلوه بالكلية،و أوقعوا عليه الوصف المطابق للعدم المحض.فأي طائفة من طوائف بني آدم أثبتت الصانع على أي وجه،كان قولهم خيرا من قولهم.

السابع عشر:إخباره صلى اللّه عليه و سلم أنه تردد بين موسى،و بين اللّه،و يقول له موسى:«ارجع إلى ربك،فسله التخفيف» (2)،فيرجع إليه ثم ينزل إلى موسى،فيأمره بالرجوع إليه-سبحانه-ت.

ص: 189


1- يشير إلى حديث معاوية بن الحكم السلمي و صفعه لجاريته فأراد أن يعتقها فأتى بها النبي صلى اللّه عليه و سلم فسألها: «أين اللّه؟»قالت:في السماء،قال من أنا،قالت:أنت رسول اللّه...إلخ. أخرجه مسلم(836)في المساجد،و رواه غير واحد من أئمة الحديث.
2- مسلم(259/162)في الإيمان،باب:الإسراء برسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إلى السماوات و فرض الصلوات.

فيصعد إليه-سبحانه-ثم ينزل من عنده إلى موسى عدة مرار.

الثامن عشر:إخباره تعالى عن نفسه،و إخبار رسوله عنه أن المؤمنين يرونه عيانا جهرة كرؤية الشمس في الظهيرة و القمر ليلة البدر.و الذي تفهمه الأمم على اختلاف لغاتها و أوهامها من هذه الرؤية رؤية المقابلة و المواجهة،التي تكون بين الرائي و المرئي فيها مسافة محدودة غير مفرطة في البعد،فتمتنع الرؤية،و لا في القرب،فلا تمكن الرؤية،لا تعقل الأمم غير هذا.فإما أن يروه سبحانه من تحتهم-تعالى اللّه-أو من خلفهم،أو من أمامهم،أو عن أيمانهم أو عن شمائلهم أو من فوقهم،و لا بد من قسم من هذه الأقسام إن كانت الرؤية حقا، و كلها باطل سوى رؤيتهم له من فوقهم،كما في حديث جابر الذي في المسند و غيره:«بينا أهل الجنة في نعيمهم،إذ سطع لهم نور،فرفعوا رءوسهم،فإذا الجبار قد أشرف عليهم من فوقهم،و قال:يا أهل الجنة،سلام عليكم» (1)،ثم قرأ قوله: سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (85) [يس]ثم يتوارى عنهم،و تبقى رحمته و بركته عليهم في ديارهم.و لا يتم إنكار الفوقية إلا بإنكار الرؤية،و لهذا طرد الجهمية أصلهم،و صرحوا بذلك،و ركبوا النفيين معا،و صدق أهل السنة بالأمرين معا،و أقروا بهما،و صار من أثبت الرؤية،و نفى علو الرب على خلقه، و استواءه على عرشه،مذبذبا بين ذلك لا إلى هؤلاء،و لا إلى هؤلاء.

فهذه أنواع من الأدلة السمعية المحكمة،و إذا بسطت أفرادها كانت ألف دليل على علو الرب على خلقه و استوائه على عرشه.فترك الجهمية ذلك كله و ردوه بالمتشابه من قوله: وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [الحديد:4]،و رده زعيمهم المتأخر بقوله: قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ (1)، و بقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11].

ثم ردوا تلك الأنواع كلها متشابهة،فسلطوا المتشابه على المحكم،و ردوه به،ثم ردوا المحكم متشابها،فتارة يحتجون به على الباطل،و تارة يدفعون به الحق،و من له أدنى بصيرة يعلم أنه لا شيء في النصوص أظهر،و لا أبين دلالة من مضمون هذه النصوص،فإذا كانت متشابهة،فالشريعة كلها متشابهة،و ليس فيها شيء محكم البتة!

و لازم هذا القول-لزوما لا محيد عنه-أن ترك الناس بدونها خير لهم من إنزالها إليهم فإنها أوهمتهم،و أفهمتهم غير المراد،و أوقعتهم في اعتقاد الباطل،و لم يتبين لهم ما هوق.

ص: 190


1- ابن ماجة(184)في المقدمة،باب:فيما أنكرت الجهمية،و ضعفه الألباني،و قال الهيثمي في مجمع الزوائد(100/7،101):«رواه البزار و فيه الفضل بن عيسي الرقاشي و هو ضعيف»،و يغني عنه الأحاديث الصحيحة في هذا الباب كما سبق.

الحق في نفسه،بل أحيلوا فيه على ما يستخرجونه بعقولهم و أفكارهم و مقايسهم.فنسأل اللّه مثبت القلوب-تبارك و تعالى-أن يثبت قلوبنا على دينه،و ما بعث به رسوله من الهدى و دين الحق،ألاّ يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا،إنه قريب مجيب.

المثال الثالث عشر:رد الرافضة النصوص الصحيحة الصريحة المحكمة المعلومة عند خاص الأمة و عامتها بالضرورة في مدح الصحابة و الثناء عليهم،و رضاء اللّه عنهم،و مغفرته، و تجاوزه عن سيئاتهم،و وجوب محبة الأمة،و اتباعهم لهم و استغفارهم لهم،و اقتدائهم بهم بالمتشابه من قوله:«لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض» (1)،و نحوه.

كما ردوا المحكم الصريح من أفعالهم و إيمانهم و طاعتهم بالمتشابه من أفعالهم،كفعل إخوانهم من الخوارج،حين ردوا النصوص الصحيحة المحكمة في موالاة المؤمنين و محبتهم،و إن ارتكبوا بعض الذنوب التي تقع مكفرة بالتوبة النصوح و الاستغفار،و الحسنات الماحية،و المصائب المكفرة،و دعاء المسلمين لهم في حياتهم و بعد موتهم،و بالامتحان في البرزخ،و في موقف القيامة،و بشفاعة من يأذن اللّه له في الشفاعة،و بصدق التوحيد، و برحمة أرحم الراحمين.فهذه عشرة أسباب تمحق أثر الذنوب،فإن عجزت هذه الأسباب عنها،فلا بد من دخول النار،ثم يخرجون منها.

فتركوا ذلك كله بالمتشابه من نصوص الوعيد وردوا المحكم من أفعالهم و إيمانهم و طاعتهم بالمتشابه من أفعالهم الذي يحتمل أن يكونوا قصدوا به طاعة اللّه،فاجتهدوا، فأداهم اجتهادهم إلى ذلك،فحصلوا فيه على الأجر المنفرد،و كان حظ أعدائهم منه تكفيرهم و استحلال دمائهم و أموالهم،و إن لم يكونوا قصدوا ذلك كان غايتهم أن يكونوا قد أذنبوا،و لهم من الحسنات و التوبة و غيرها ما يرفع موجب الذنب،فاشتركوا هم و الرافضة في رد المحكم من النصوص،و أفعال المؤمنين بالمتشابه منها،فكفروهم و خرجوا عليهم بالسيف يقتلون أهل الإيمان و يدعون أهل الأوثان،ففساد الدنيا و الدين من تقديم المتشابه على المحكم،و تقديم الرأي على الشرع،و الهوى على الهدى،و باللّه التوفيق.

المثال الرابع عشر:رد المحكم الصريح الذي لا يحتمل إلا وجها واحدا من وجوب الطمأنينة و توقف أجزاء الصلاة،و صحتها عليها،كقوله:«لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيهال.

ص: 191


1- أخرجه البخاري(1739)في الحج،باب:الخطبة أيام منى،و مسلم(29/1679)في القسامة، باب:تغليط تحريم الدماء و الأعراض و الأموال.

صلبة في ركوعه و سجوده» (1)،و قوله لمن تركها:«وصل فإنك لم تصل» (2)و قوله:«ثم اركع حتى تطمئن راكعا» (3)،فنفى إجزاءها بدون الطمأنينة،و نفى مسماها الشرعي بدونها،و أمر بالإتيان بها،فرد هذا المحكم الصريح بالمتشابه من قوله: اِرْكَعُوا وَ اسْجُدُوا [الحج:77].

المثال الخامس عشر:رد المحكم الصريح من تعيين التكبير للدخول في الصلاة بقوله:

«إذا قمت إلى الصلاة فكبر» (4)،و قوله:«تحريمها التكبير» (5)،و قوله:«لا يقبل اللّه صلاة أحدكم،حتى يضع الوضوء مواضعه،ثم يستقبل القبلة،و يقول:اللّه أكبر» (6)،و هي نصوص في غاية الصحة،فردت بالمتشابه من قوله: وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّى (15).[الأعلى].

المثال السادس عشر:رد النصوص المحكمة الصريحة الصحيحة في تعيين قراءة فاتحة الكتاب فرضا،بالمتشابه من قوله: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل:20]،و ليس ذلك في الصلاة،و إنما هو بدل عن قيام الليل،و بقوله للأعرابي:«ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن» (7)،و هذا يحتمل:أن يكون قبل تعيين الفاتحة للصلاة،و أن يكون الأعرابي لا يحسنها،و أن يكون لم يسئ في قراءتها فأمره أن يقرأ معها ما تيسر من القرآن،و أن يكون أمره بالاكتفاء بما تيسر عنها،فهو متشابه يحتمل هذه الوجوه،فلا يترك له المحكم الصريح.0)

ص: 192


1- أبو داود(855)في الصلاة،باب:صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع و السجود،و الترمذي(265)في الصلاة،باب:ما جاء فيمن لا يقيم صلبه في الركوع و السجود.
2- البخاري(793)في الأذان،باب:أمر النبي صلى اللّه عليه و سلم الذي لا يتم ركوعه بالإعادة،و مسلم(45/397)في الصلاة،باب:وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة.
3- سبق تخريجه في الحاشية السابقة.
4- أبو داود(61)في الطهارة،باب:فرض الوضوء،و الترمذي(238)في أبواب الصلاة باب:ما جاء في تحريم الصلاة و تحليلها،و قال:«حسن».
5- رواه أبو داود(857)في الصلاة،باب:من لا يقيم صلبه،و ضعفه الألباني رحمه اللّه تعالى.
6- سبق تخريجه.
7- إعلام الموقعين(304/2-320)

الناسخ و المنسوخ

حكمة النسخ في القرآن

اشارة

إذا كان الرب تعالى لا حجر عليه بل يفعل ما يشاء،و يحكم ما يريد و يبتلي عباده بما يشاء و يحكم و لا يحكم عليه،فما الذي يحيل عليه و يمنعه أن يأمر أمة بأمر من أوامر الشريعة،ثم ينهى أمة أخرى عنه،أو يحرم محرما على أمة و يبيحه لأمة أخرى.

بل أي شيء يمنعه سبحانه أن يفعل ذلك في الشريعة الواحدة في وقتين مختلفين بحسب المصلحة و قد بين ذلك سبحانه و تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)[البقرة:106]فأخبر سبحانه أن عموم قدرته و ملكه و تصرفه في مملكته و خلقه لا يمنعه أن ينسخ ما يشاء و يثبت ما يشاء،كما أنه يمحو من أحكامه القدرية الكونية ما يشاء و يثبت (1)فهكذا أحكامه الدينية الأمرية،ينسخ منها ما يشاء و يثبت منها ما يشاء.

فمن أكفر الكفر و أظلم الظلم:أن يعارض الرسول الذي جاء بالبينات و الهدى و تدفع نبوته و تجحد رسالته؛بكونه أتى بإباحة بعض ما كان محرما على من قبله أو تحريم بعض ما كان مباحا لهم،و باللّه التوفيق يضل من يشاء و يهدي من يشاء.

و من العجب أن هذه الأمة الغضبية (2)تحجر على اللّه تعالى أن ينسخ ما يشاء من شرائعه،و قد تركوا شريعة موسى عليه السلام في أكثر ما هم عليه،و تمسكوا بما شرعه لهم أحبارهم و علماؤهم فمن ذلك:

أنهم يقولون في صلاتهم ما ترجمته هكذا:اللهم اضرب ببوق عظيم لفيفنا و اقبضنا جميعا من أربعة أقطار الأرض إلى قدسك سبحانك يا جامع شتات قوم إسرائيل.

ص: 193


1- قال تعالى: يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39)[الرعد:39]و هي مذكورة بعد بيان أن الرسل لا تأتي بشيء من نفسها إنما بالوحي،و أن الآجال مقدرة في كتابه يقول تعالى عن ذلك وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ [الرعد:38]فهذا المحور إما لكتب الآجال أو نسخ ما في شرائع و اللّه أعلم.
2- يعني اليهود لعنهم اللّه تعالى.

و يقولون كل يوم ما ترجمته هكذا:اردد حكامنا كالأولين و مسراتنا كالابتداء و ابن أورشليم قرية قدسك و أعزنا بابتنائها سبحانك يا باني يورشليم.

فهذا قولهم في صلاتهم مع علمهم بأن موسى و هارون عليهما السّلام لم يقولا شيئا من ذلك و لكنها فصول لفقوها بعد زوال دولتهم.

و كذلك صيامهم كصوم إحراق بيت المقدس،و صوم أحصا و صوم كدليا التي جعلوها فرضا لم يصمها موسى،و لا يوشع بن نون،و كذلك صوم صلب هامان،ليس شيء من ذلك في التوراة،و إنما وضعوها لأسباب اقتضت وضعها عندهم.

هذا مع أن في التوراة ما ترجمته:لا تزيدوا على الأمر الذي أنا موصيكم به شيئا،و لا تنقصوا منه شيئا (1).

حكم نسخ القرآن بالسنة

قول رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:«الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة» (2):هذا الحكم متفق عليه بين الأمة،حتى عند من قال:إن الزيادة على النص نسخ (3)،و القرآن لا ينسخ بالسنة،فإنه اضطر إلى قبول هذا الحكم و إن كان زائدا على ما في القرآن،سواء سماه نسخا أو لم يسمه.كما اضطر إلى تحريم الجمع بين المرأة و عمتها،و بينها و بين خالتها،مع أنه زيادة على نص القرآن،و ذكرها هذا مع حديث أبي القعيس في تحريم لبن الفحل على أن المرضعة و الزوج صاحب اللبن قد صارا أبوين للطفل،و صار الطفل ولدا لهما،فانتشرت الحرمة من هذه الجهات الثلاث،فأولاد الطفل و إن نزلوا أولاد ولدهما،و أولاد كل واحد من المرضعة و الزوج من الآخر و من غيره،إخوته و أخواته من الجهات الثلاث،فأولاد أحدهما من الآخر إخوته و أخواته لأبيه و أمه،و أولاد الزوج من غيرها إخوته و أخواته من أبيه،و أولاد المرضعة من غيره إخوته و أخواته لأمه،و صار آباؤها أجداده و جداته،و صار إخوة المرأة و أخواتها أخواله و خالاته،و إخوة صاحب اللبن و أخواته أعمامه و عماته فحرمة الرضاع تنتشر من هذه الجهات الثلاث فقط (4).

ص: 194


1- إغاثة اللهفان[327/2،326].
2- البخاري(5099)في النكاح،باب: وَ أُمَّهاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ [النساء:23]،و مسلم(2/1444)في الرضاع،باب:يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة.
3- انظر ما كتبناه في المقدمة عن مسألة النسخ.
4- زاد المعاد(556/5).

أمثلة على النسخ

[1] قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) [البقرة]،فأمرهم تعالى أن يتركوا ما بقي من الربا و هو ما لم يقبض و لم يأمرهم برد المقبوض،لأنهم قبضوه قبل التحريم فأقرهم عليه،بل أهل قباء صلوا إلى القبلة المنسوخة بعد بطلانها و لم يعيدوا ما وصلوا،بل استداروا في صلاتهم و أتموها،لأن الحكم لم يثبت في حقهم إلا بعد بلوغه إليهم،و في هذا الأصل ثلاثة أقوال للفقهاء و هي لأصحاب أحمد، هذا أحدها و هو أصحها،و هو اختيار شيخنا رضي اللّه عنه.

و الثاني:أن الخطاب إذا بلغ طائفة ترتب في حق غيرهم و لزمهم كما لزم من بلغه، و هذا اختيار كثير من أصحاب الشافعي و غيرهم.

الثالث:الفرق بين الخطاب الابتدائي و الخطاب الناسخ،فالخطاب الابتدائي يعم ثبوته من بلغه و غيره،و الخطاب الناسخ لا يترتب في حق المخاطب إلا بعد بلوغه،و الفرق بين الخطابين أنه في الناسخ مستصحب لحكم مشروع مأمور به،بخلاف الخطاب الابتدائي، ذكره القاضي أبو يعلى في بعض كتبه (1).

و نصوص القرآن و السنة تشهد للقول الأول،و ليس هذا موضع استقصاء هذه المسألة و إنما أشرنا إليها إشارة.

قال أبو القاسم (2):و في الحديث دليل على أن النبي صلى اللّه عليه و سلم كان يصلي بمكة إلى بيت المقدس،و هو قول ابن عباس يعني قوله للبراء:«لقد كنت على قبلة» (3).

و قالت طائفة:ما صلى إلى بيت المقدس إلا منذ قدم المدينة سبعة عشر شهرا أو ستة عشر شهرا.

ص: 195


1- هو الإمام العلامة شيخ الحنابلة،محمد بن الحسن بن محمد بن خلف البغدادي الحنبلي صاحب التصانيف المبهرة منها«مسائل الإيمان»و«العدة»في أصول الفقه و انظر منه(780/3)و ما بعدها. -انظر السير(89/18)،و طبقات الحنابلة(193/2-230).
2- هو العلامة السهيلي،انظر الروض الأنف(113/4-114).
3- السيرة النبوية لابن هشام(86/2-88)،و الحديث في كنز العمال معزولا لأبي نعيم(28/8).و انظر الإصابة(238/1).

فعلى هذا يكون في القبلة نسخان،نسخ سنة بسنة،و نسخ سنة بقرآن،و قد بين حديث ابن عباس منشأ الخلاف في هذه المسألة،فروي عنه من طرق صحاح أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كان إذا صلى بمكة استقبل بيت المقدس و جعل الكعبة بينه و بين بيت المقدس (1)،فلما كان صلى اللّه عليه و سلم يتحرى القبلتين جميعا لم يبن توجهه إلى بيت المقدس للناس حتى خرج من مكة،و لذلك -و اللّه أعلم-قال اللّه تعالى في الآية الناسخة: وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [البقرة:150]،أي من أي جهة جئت إلى الصلاة و خرجت إليها فاستقبل الكعبة مستدبرا بيت المقدس أو لم تكن،لأنه كان بمكة يتحرى في استقباله بيت المقدس أن تكون الكعبة بين يديه.قال و تدبر قوله: وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ و قال لأمته: وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:150]،و لم يقل:«حيث ما خرجتم»،و ذلك لأنه صلى اللّه عليه و سلم كان إمام المسلمين،فكان يخرج إليهم في كل صلاة ليصلي بهم،و كان ذلك واجبا عليه إذ كان الإمام المقتدى به،فأفاد ذكر الخروج في خاصته هذا المعنى و لم يكن غيره هكذا يقتضي الخروج، و لا سيما النساء و من لا جماعة عليه.

قلت:و يظهر في هذا معنى آخر و هو أن قوله: وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:150]،خطاب عام له و لأمته،يقتضي أمرهم بالتوجه إلى المسجد الحرام في أي موضع كانوا من الأرض و قوله: وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ خطاب بصيغة الإفراد و المراد هو و الأمة كقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللّهَ [الأحزاب:1]،و نظائره.

و هو يفيد الأمر باستقبالها من أي جهة و مكان خرج منه و قوله: وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ يفيد الأمر باستقبالها في أي موضع استقر فيه و هو تعالى لم يقيد الخروج بغاية،بل أطلق غايته كما عم مبدأه،فمن حيث خرج إلى أي مخرج كان من صلاة أو غزو أو حج أو غير ذلك فهو مأمور باستقبال المسجد هو و الأمة،و في أي بقعة كانوا من الأرض فهو مأمور هو و الأمة باستقباله.

فتناولت الآيتان أحوال الأمة كلها،في مبدأ تنقلهم من حيث خرجوا و في غايته إلى حيث انتهوا و في حال استقرارهم حيثما كانوا،فأفاد ذلك عموم الأمر بالاستقبال في الأحوال الثلاث التي لا ينفك منها العبد،فتأمل هذا المعنى و وازن بينه و بين ما أبداه أبو).

ص: 196


1- راجع تفسير الطبري(19/2).

القاسم يتبين لك الرجحان،و اللّه أعلم بما أراد من كلامه،و إنما هو كد أفهام أمثالنا من القاصرين.

فقوله: وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ يتناول مبدأ الخروج و غايته له و للأمة و كان أولى بهذا الخطاب لأن مبدأ التوجه على يديه كان،و كان شديد الحرص على التحويل.

و قوله: وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ يتناول أماكن الكون كلها له و للأمة،و كانوا أولى بهذا الخطاب لتعدد أماكن أكوانهم و كثرتها بحسب كثرتهم و اختلاف بلادهم و أقطارهم، و استدارتها حول الكعبة شرقا و غربا و يمنا و عراقا،فكان الأحسن في حقهم أن يقال لهم:

وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ أي من أقطار الأرض في شرقها و غربها و سائر جهاتها،و لا ريب أنهم أدخل في هذا الخطاب منه صلى اللّه عليه و سلم،فتأمل هذه النكت البديعة فلعلك لا تظفر بها في موضع غير هذا،و اللّه أعلم.

قال أبو القاسم:و كرر الباري تعالى الأمر بالتوجه إلى البيت الحرام في ثلاث آيات، لأن المنكرين لتحويل القبلة كانوا ثلاثة أصناف من الناس:اليهود لأنهم لا يقولون بالنسخ في أصل مذهبهم،و أهل الريب و النفاق اشتد إنكارهم له،لأنه كان أول نسخ نزل،و كفار قريش قالوا:ندم محمد على فراق ديننا فسيرجع إليه كما رجع إلى قبلتنا.و كانوا قبل ذلك يحتجون عليه فيقولون:يزعم محمد أنه يدعونا إلى ملة إبراهيم و إسماعيل،و قد فارق قبلة إبراهيم و إسماعيل و آثر عليها قبلة اليهود،فقال اللّه له حين أمره بالصلاة إلى الكعبة: لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ على الاستثناء المنقطع،أي لكن الذين ظلموا منهم لا يرجعون و لا يهتدون،و قال: اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)[البقرة]أي من الذين شكوا و امتروا.و معنى اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أي الذي أمرتك به من التوجه إلى البيت الحرام هو الحق الذي كان عليه الأنبياء قبلك فلا تمتر في ذلك.فقال: وَ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة:144]،و قال: وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:146]أي يكتمون ما علموا أن الكعبة هي قبلة الأنبياء.

ثم ساق من طريق أبي داود في كتاب«الناسخ و المنسوخ»،قال:حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عنبسة عن يونس عن ابن شهاب،قال:كان سليمان بن عبد الملك لا يعظم إيليا كما يعظمها أهل بيته،قال:فسرت معه و هو ولي عهد،قال:و معه خالد بن يزيد بن معاوية فقال سليمان و هو جالس فيه:و اللّه إن في هذه القبلة التي صلى إليها المسلمون و النصارى لعجبا -كذا رأيته،و الصواب اليهود-قال خالد بن يزيد:أما و اللّه إني لأقرأ الكتاب الذي أنزله اللّه

ص: 197

على محمد صلى اللّه عليه و سلم،و أقرأ التوراة،فلم تجدها اليهود في الكتاب الذي أنزله اللّه عليهم و لكن تابوت السكينة كان على الصخرة،فلما غضب اللّه عز و جل على بني إسرائيل رفعه،فكانت صلاتهم إلى الصخرة عن مشاورة منهم.

و روى أبو داود أيضا أن يهوديا خاصم أبا العالية في القبلة،فقال أبو العالية:إن موسى كان يصلي عند الصخرة و يستقبل البيت الحرام فكانت الكعبة قبلته،و كانت الصخرة بين يديه.و قال اليهودي:بيني و بينك مسجد النبي صلى اللّه عليه و سلم.فقال أبو العالية:فإني صليت في مسجد صالح و قبلته الكعبة،انتهى.

قلت:و قد تضمن هذا الفصل فائدة جليلة،و هي:أن استقبال أهل الكتاب لقبلتهم لم يكن من جهة الوحي و التوفيق من اللّه،بل كان عن مشورة منهم و اجتهاد.

أما النصارى فلا ريب أن اللّه لم يأمرهم في الإنجيل و لا في غيره باستقبال المشرق أبدا.

و هم مقرون بذلك و مقرون أن قبلة المسيح كانت قبلة بني إسرائيل و هي الصخرة.

إنما وضع لهم شيوخهم و أسلافهم هذه القبلة،و هم يعتذرون عنهم بأن المسيح فوض إليهم التحليل و التحريم و شرع الأحكام،و أن ما حللوه و حرموه فقد ح للّه هو و حرمه في السماء.فهم مع اليهود متفقون على أن اللّه لم يشرع استقبال المشرق على لسان رسوله أبدا،و المسلمون شاهدون عليهم بذلك.

و أما قبلة اليهود فليس في التوراة الأمر باستقبال الصخرة البتة،إنما كانوا ينصبون التابوت و يصلون إليه من حيث خرجوا،فإذا قدموا نصبوه على الصخرة و صلوا إليه،فلما رفع صلوا إلى موضعه و هو الصخرة.

و أما السامرة فإنهم يصلون إلى طور لهم بأرض الشام يعظمونه و يحجون إليه،و رأيته أنا و هو في بلد نابلس و ناظرت فضلاءهم في استقباله.و قلت:هو قبلة باطلة مبتدعة،فقال مشار إليه في دينهم:هذه هي القبلة الصحيحة،و اليهود أخطئوها لأن اللّه تعالى أمر في التوراة باستقباله عينا،ثم ذكر نصا يزعمه من التوراة في استقباله،فقلت له:هذا خطأ قطعا على التوراة،لأنها إنما أنزلت على بني إسرائيل،فهم المخاطبون بها و أنتم فرع عليهم فيها، و إنما تلقيتموها عنهم،و هذا النص ليس في التوراة التي بأيديهم و أنا رأيتها و ليس هذا فيها، فقال لي:صدقت،إنما هو في توراتنا خاصة،قلت له:فمن المحال أن يكون أصحاب التوراة المخاطبون بها و هم الذين تلقوها عن الكليم و هم متفرقون في أقطار الأرض قد

ص: 198

كتموا هذا النص و أزالوه و بدلوا القبلة التي أمروا بها و حفظتموها أنتم و حفظتم النص بها! فلم يرجع إلى الجواب.

قلت:و هذا كله مما يقوي أن يكون الضمير في قوله تعالى: وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها راجعا إلى وَ لِكُلٍّ أي هو موليها وجهه،ليس المراد أن اللّه موليه إياها لوجوه هذا أحدها.

الثاني:أنه لم يتقدم لاسمه تعالى ذكر يعود الضمير عليه في الآية و إن كان مذكورا فيما قبلها،ففي إعادة الضمير إليه دون«كلّ»رد الضمير إلى غير من هو أولى به،و منعه من القريب منه اللاحق به.

الثالث:أنه لو عاد الضمير عليه تعالى لقال:هو موليه إياها،هذا وجه الكلام كما قال تعالى: نُوَلِّهِ ما تَوَلّى [النساء:115]فوجه الكلام أن يقال:ولاه القبلة،لا يقال:ولي القبلة إياه،فتأمله.

و قول أبي القاسم:أنه تعالى كرر ذكر الأمر باستقبالها ثلاثا ردا على الطوائف الثلاث، ليس بالبين و لا في اللفظ إشعار بذلك.

و الذي يظهر فيه أنه أمر به في كل سياق لمعنى يقتضيه فذكره أول مرة ابتداء للحكم و نسخا للاستقبال الأول فقال: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144]،ثم ذكر أن أهل الكتاب يعلمون أن هذا هو الحق من ربهم،حيث يجدونه في كتبهم كذلك.ثم أخبر عن عبادتهم و كفرهم،و أنه لو أتاهم بكل آية ما تبعوا قبلته،و لا هو أيضا بتابع قبلتهم،و لا بعضهم بتابع قبلة بعض،ثم حذره من اتباع أهوائهم،ثم كرر معرفة أهل الكتاب به،كمعرفتهم بأبنائهم،و أنهم ليكتمون الحق عن علم.

ثم أخبر أن هذا هو الحق من ربه،فلا يلحقه فيه امتراء.

ثم أخبر أن لكل من الأمم وجهة هو مستقبلها و موليها وجهة،فاستبقوا أنتم أيها المؤمنون الخيرات.

ثم أعاد الأمر باستقبالها من حيث خرج في ضمن هذا السياق الزائد على مجرد النسخ، ثم أعاد الأمر به غير مكرر له تكررا محضا،بل في ضمنه أمرهم باستقبالها حيثما كانوا، كما أمرهم باستقبالها أولا حيثما كانوا عند النسخ و ابتداء شرع الحكم،فأمرهم باستقبالها حيثما كانوا عند شرع الحكم و ابتداءه و بعد.

المحاجة و المخاصمة و الحكم لهم و بيان عنادهم و مخالفتهم مع علمهم فذكر الأمر

ص: 199

بذلك في كل موطن لاقتضاء السياق له فتأمله،و اللّه أعلم (1).

[2] عن البراء-و هو ابن عازب-قال:كان الرجل إذا صام فنام لم يأكل إلى مثلها،و إن صرمة بن قيس الأنصاري أتى امرأته،و كان صائما،فقال:عندك شيء؟قالت:لا،لعلي أذهب فأطلب لك شيئا،فذهبت،و غلبته عينه،فجاءت فقالت:خيبة لك،فلم ينتصف النهار حتى غشي عليه،و كان يعمل يومه في أرضه،فذكر ذلك للنبي صلى اللّه عليه و سلم،فنزلت: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ قرأ إلى قوله: مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187] (2).

و أخرجه البخاري و الترمذي و النسائي (3).

و قد اختلف السلف في هذه الآية على أربعة أقوال:

أحدها:أنها ليست بمنسوخة،قاله ابن عباس.

الثاني:أنها منسوخة،كما قاله سلمة و الجمهور.

و الثالث:أنها مخصوصة،خص منها القادر الذي لا عذر له،و بقيت متناولة للمرضع و الحامل.

الرابع:أن بعضها منسوخ،و بعضها محكم (4).

[3] قال صالح بن أحمد:قال أبي:لا تجوز شهادة أهل الذمة إلا في السفر،الذي قال اللّه تعالى فيه: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ [المائدة:106]،فأجازها أبو موسى الأشعري،و قد روي عن ابن عباس«أو آخران من غيركم من أهل الكتاب»،و هذا موضع ضرورة؛لأنه في سفر،و لا نجد من يشهد من المسلمين،و إنما جاءت في هذا المعنى.اه.

و قال إسماعيل بن سعيد الشالنجي:سألت أحمد-فذكر هذا المعنى-قلت:فإن كان).

ص: 200


1- بدائع الفوائد(168/4-173).
2- أبو داود(2314)في الصوم،باب:مبدأ فرض الصيام. -البخاري و الترمذي(2894). -و النسائي(2139). -و أبو داود(1970).
3- في تفسير القرآن،باب:و من سورة البقرة.
4- تهذيب السنن(208/3،207).

ذلك على وصية المسلمين هل تجوز شهادتهم؟قال:نعم،إذا كان على الضرورة،قلت:

أ ليس يقال:هذه الآية منسوخة؟قال:من يقول؟و أنكر ذلك،و قال:هل يقول ذلك إلا إبراهيم؟

و قال في رواية ابنيه عبد اللّه و حنبل:تجوز شهادة النصراني و اليهودي في الميراث،على ما أجاز أبو موسى في السفر،و أحلفه.

و قال في رواية أبي الحارث:لا تجوز شهادة اليهودي و النصراني في شيء إلا في الوصية في السفر،إذا لم يكن يوجد غيرهم.قال اللّه تعالى: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ،فلا تجوز شهادتهم إلا في هذا الموضع،و هذا مذهب قاضي العلم و العدل شريح،و قول سعيد بن المسيب،و حكاه أحمد عن ابن عباس،و أبي موسى الأشعري.

قال المروزي:حدثنا ابن نصير قال:حدثني يعلى بن الحارث،عن أبيه،عن غيلان بن جامع،عن إسماعيل بن خالد عن عامر قال:شهد رجلان من أهل دقوقا على وصية مسلم، فاستحلفهما أبو موسى بعد العصر:ما اشترينا به ثمنا قليلا.و لا كتمنا شهادة اللّه إنّا إذا لمن الآثمين،ثم قال:إن هذه القضية ما قضي فيها مذ مات رسول اللّه إلى اليوم.

و ذكر محمد بن إسحاق عن أبي النضر،عن باذان (1)-مولى أم هانئ-عن ابن عباس،عن تميم الداري في قوله عز و جلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [المائدة:106]،قال:برئ الناس منها غيري و غير عدي بن بداء،و كانا نصرانيين يختلفان إلى الشام،فأتيا الشام،و قدم زيد بن أبي مريم-مولى بني سهم-و معه جام من فضة،و هو أعظم تجارته،فمرض فأوصى إليهما.

قال تميم:فلما مات أخذنا الجام فبعناه بألف درهم،ثم اقتسمناه أنا وعدي بن بداء، فلما قدمنا ماله إلى أهله فسألوا عن الجام؟فقلنا:ما دفع إلينا غير هذا،فلما أسلمت تأثمت من ذلك فأتيت أهله،فأخبرتهم الخبر،و أديت إليهم خمسمائة درهم،و أخبرتهم أن عند صاحبي مثلها،فأتوا به إلى النبي صلى اللّه عليه و سلم،فسألهم البينة فلم يجيبوا،فأحلفهم بما يعظم به على أهل دينهم،فأنزل اللّه عز و جلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ [المائدة:106]،فحلف عمرو بن).

ص: 201


1- هو محمد بن السائب الكلبي وضاع. -و الحديث عند الترمذي(241/5)(3059). و قال غريب،و لا يصح إسناده. -و انظر الطبري(100/7)و ابن كثير(120/2)و«بدائع التفسير»(125/2).

العاص و أخو سهم،فنزعت الخمسمائة درهم من عدي بن بداء (1).

و روى يحيى بن أبي زائدة،عن محمد بن القاسم،عن عبد الملك بن سعيد بن جبير عن أبيه،عن ابن عباس قال:كان تميم الداري وعدي بن بداء يختلفان إلى مكة بالتجارة،فخرج معهم رجل من بني سهم،فتولى بأرض ليس فيها مسلم فأوصى إليهما، فدفعا تركته إلى أهله،و حبسا جاما من فضه مخوصا بالذهب،فتفقده أولياؤه،فأتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم،فحلفهما:ما كتمنا،و لا أضعنا،ثم عرف الجام بمكة،فقالوا:اشتريناه من تميم و عدي،فقام رجلان من أولياء السهمي،فحلفا باللّه:إن هذا لجام السهمي،و لشهادتنا أحق من شهادتهما و ما اعتدينا،إنا إذا لمن الظالمين،فأخذا الجام،و فيهما نزلت هذه الآية (2).

و القول بهذه الآية هو قول جمهور السلف،قالت عائشة رضي اللّه عنها:سورة المائدة آخر سورة نزلت،فما وجدتم فيها حلالا فحللوه،و ما وجدتم حراما فحرموه.

و صح عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية (3):هذا لمن مات و عنده المسلمون،فأمر اللّه أن يشهد في وصيته عدلين من المسلمين،ثم قال تعالى: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ [المائدة:106]،فهذا لمن مات و ليس عنده أحد من المسلمين،فأمر اللّه عز و جلّ أن يشهد رجلين من غير المسلمين،فإن ارتيب بشهادتهما استحلفا بعد الصلاة باللّه:لا نشتري بشهادتنا ثمنا،و قد تقدم أن أبا موسى حكم بذلك.

و قال سفيان الثوري:عن أبي إسحاق السبيعي،عن عمرو بن شرحبيل،قال:لم ينسخ من سورة المائدة شيء.و قال وكيع:عن شعبة،عن قتادة،عن سعيد بن المسيب: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ،قال:من أهل الكتاب.و في رواية صحيحة عنه:من غير أهل ملتكم.

و صح عن شريح قال:لا تجوز شهادة المشركين على المسلمين إلا في الوصية،و لا تجوز في الوصية إلا أن يكون مسافرا.

و صح عن إبراهيم النخعي:(من غيركم):من غير أهل ملتكم.و صح عن سعيد بن جبير:(أو آخران من غيركم)،قال:إذا كان في أرض الشرك،فأوصى إلى رجلين من أهل).

ص: 202


1- -أخرجه البخاري(480/5)في الوصايا،-و الترمذي(242/5). -و أبو داود(16/10)(التحفة).
2- الحاكم في المستدرك(311/2)و صححه و وافقه الذهبي.
3- الطبري(108/7).

الكتاب،فإنهما يحلفان بعد العصر،فإن اطلع بعد حلفهما على أنهما خانا،حلف أولياء الميت أنه كذا و كذا،و استحقوا.

و صح عن الشعبي: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ،قال:من اليهود و النصارى.

و صح ذلك عن مجاهد قال:من غير أهل الملة.و صح عن يحيى مثله،و صح عن ابن سيرين ذلك.

فهؤلاء أئمة المؤمنين:أبو موسى الأشعري،و ابن عباس،و روى نحو ذلك عن علي رضي اللّه عنه،و ذكر ذلك أبو محمد بن حزم (1)،و ذكره أبو يعلى عن ابن مسعود،و لا مخالف لهم من الصحابة.

و من التابعين:عمرو بن شرحبيل،و شريح،و عبيدة،و النخعي،و الشعبي،و السعيدان، و أبو مجلز،و الأوزاعي.

و بعد هؤلاء:كأبي عبيد،و أحمد بن حنبل،و جمهور فقهاء أهل الحديث،و هو قول جميع أهل الظاهر.

و خالفهم آخرون.ثم اختلفوا في تخريج الآية على ثلاث طرق:

أحدها:أن المراد بقوله: مِنْ غَيْرِكُمْ ،أي من غير قبيلتكم،و روى ذلك عن الحسن،و روى عن الزهري أيضا.

و الثاني:أن الآية منسوخة،و هذا مروي عن زيد بن أسلم و غيره.

و الثالث:أن المراد بالشهادة فيها:إيمان الوصي-باللّه تعالى-للورثة،لا الشهادة المعروفة.

قال القائلون بها:أما دعوى النسخ فباطلة،فإنه يتضمن أن حكمها باطل،لا يحل العمل به،و أنه ليس من الدين،و هذا ليس بمقبول إلا بحجة صحيحة لا معارض لها و لا يمكن أحدا قط أن يأتي بنص صحيح صريح متأخر عن هذه الآية مخالف لها،و لا يمكن الجمع بينه و بينها،فإن وجد إلى ذلك سبيلا صح النسخ،و إلا فما معه إلا مجرد الدعوى الباطلة،ثم قد قالت أعلم نساء الصحابة بالقرآن:إنه لا منسوخ في المائدة،و قاله غيرها أيضا من السلف،و عمل بها أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بعده.

و لو جاز قبول دعوى النسخ بلا حجة لكان لكل من احتج عليه بنص يقول:هو).

ص: 203


1- المحلى(405/9-406).

منسوخ،و كأن القائل لذلك لم يعلم أن كون النص منسوخا:أن اللّه سبحانه حرم العمل به، و أبطل كونه من الدين و الشرع و دون هذا مفاوز تنقطع فيها الأعناق.

قالوا:و أما قول من قال:المراد بقوله:(من غيركم)،أي:من غير قبيلتكم،فلا يخفى بطلانه و فساده،فإنه ليس في أول الآية خطاب لقبيلة دون قبيلة،بل هو خطاب عام لجميع المؤمنين فلا يكون غير المؤمنين إلا من الكفار،هذا مما لا شك فيه،و الذي قال من غير قبيلتكم،زلة عالم غفل عن تدبر الآية (1).

[4] قال اللّه تعالى في سورة المائدة و هي من آخر القرآن نزولا و ليس فيها منسوخ:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللّهِ وَ لاَ الشَّهْرَ الْحَرامَ وَ لاَ الْهَدْيَ وَ لاَ الْقَلائِدَ [المائدة:2]، و قال في سورة البقرة: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ [البقرة:217]،فهاتان آيتان مدنيتان،بينهما في النزول نحو ثمانية أعوام،و ليس في كتاب اللّه و لا سنن رسوله ناسخ لحكمهما،و لا أجمعت الأمة على نسخه،و من استدل على نسخه بقوله تعالى: وَ قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التوبة:36]و نحوها من العمومات،فقد استدل على النسخ بما لا يدل عليه،و من استدل عليه بأن النبي صلى اللّه عليه و سلم:«بعث أبا عامر في سرية إلى (2)أوطاس في ذي القعدة»،فقد استدل بغير دليل،لأن ذلك كان من تمام الغزوة التي بدأ فيها المشركون بالقتال،و لم يكن ابتداء منه لقتالهم في الشهر الحرام (3).

[5] عن عبد اللّه-و هو ابن مسعود-قال:من شاء لاعنته،لأنزلت سورة النساء القصرى بعد الأربعة الأشهر و عشرا (4)،و أخرجه النسائي و ابن ماجة (5).

و هذا يدل على أن ابن مسعود يرى نسخ الآية في البقرة بهذه الآية،التي في الطلاق و هي قوله: وَ أُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4]،و هذا على عرف السلف في..

ص: 204


1- الطرق الحكمية(192-195).و انظر تتمة الأقوال في الآية في بدائع التفسير(129/2).
2- في عام أوطاس،و هو عام الفتح،و غزوة أوطاس متصلة بفتح مكة و هو موضع بين مكة و الطائف.و قيل هي غزوة حنين،انظر زاد المعاد(465/3).
3- زاد المعاد(341/3).
4- أبو داود(2307)في الطلاق،باب:في عدة الحامل.
5- ابن ماجة(2030)في الطلاق،باب:الحامل و المتوفى عنها زوجها....

النسخ،فإنهم يسمون التخصيص و التقييد نسخا،و في القرآن ما يدل على تقديم آية الطلاق في العمل بها،و هو أن قوله تعالى أَجَلَهُنَّ مضاف إليه،و هو يفيد العموم،أي هذا مجموع أجلهن،لا أجل لهن غيره،و أما قوله:

يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ [البقرة:234]،فهو فعل مطلق لا عموم له،فإذا عمل به في غير الحامل كان تقييدا بآية الطلاق،فالحديث مطابق للمفهوم من دلالة القرآن.و اللّه أعلم (1).).

ص: 205


1- تهذيب السنن(202/3).

الاستدلال في القرآن الكريم

الاستدلال على اللّه تعالى

بالآيات الأفقية و النفسية

إن اللّه سبحانه أخبر-و خبره الصدق و قوله الحق-أنه لا بد أن يرى العباد من الآيات الأفقية و النفسية ما يبين لهم أن الوحي الذي بلغته رسله حق (1).فقال تعالى:

سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت:53]أي القرآن.

فإنه هو المتقدم في قوله: قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ [فصلت:52] ثم قال: أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت]فشهد-سبحانه-لرسوله بقوله:أن ما جاء به حق،و وعده أن يرى العباد من آياته الفعلية الخلقية ما يشهد بذلك أيضا.ثم ذكر ما هو أعظم من ذلك و أجل،و هو شهادته-سبحانه-على كل شيء،فإن من أسمائه«الشهيد»الذي لا يغيب عنه شيء،و لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض و لا في السماء،بل هو مطلع على كل شيء مشاهد له،عليم بتفاصيله.و هذا استدلال بأسمائه و صفاته،و الأول استدلال بقوله و كلماته،و الاستدلال بالآيات الأفقية و النفسية استدلال بأفعاله و مخلوقاته.

فإن قلت:قد فهمت الاستدلال بكلماته و الاستدلال بمخلوقاته،فبين لي كيفية الاستدلال بأسمائه و صفاته،فإن ذلك أمر لا عهد لنا به في تخاطبنا و كتبنا؟.

قلت:أجل هو لعمر اللّه كما ذكرت،و شأنه أجل و أعلى،فإن الرب تعالى هو المدلول عليه،آياته هي الدليل و البرهان.

فاعلم أن اللّه-سبحانه-في الحقيقة هو الدال على نفسه بآياته،فهو الدليل (2)لعباده في الحقيقة بما نصبه لهم من الدلالات و الآيات،و قد أودع في الفطر التي لم تتنجس بالتعطيل

ص: 206


1- انظر ما كتبناه في المقدمة عن التفسير العلمي،و إعجاز القرآن الكريم.
2- انظر تعليقنا الآتي على وصفه تعالى بالكمال.

و الجحود:أنه-سبحانه-الكامل في أسمائه و صفاته،و أنه الموصوف بكل كمال (1)، المنتزه عن كل عيب و نقض.

فالكمال كله،و الجمال و الجلال و البهاء،و العزة و العظمة و الكبرياء؛كله من لوازم ذاته،يستحيل أن يكون على غير ذلك.فالحياة كلها له،و العلم كله له،و القدرة كلها له، و السمع و البصر و الإرادة،و المشيئة و الرحمة و الغنى،و الجود و الإحسان و البر،كله خاص له قائم به.و ما خفي على الخلق كماله أعظم و أعظم مما عرفوه منه،بل لا نسبة لما عرفوه من ذلك إلى ما لم يعرفوه.

و من كماله المقدس:اطلاعه على كل شيء،و شهادته عليه،بحيث لا يغيب عنه وجه من وجوه تفاصيله،و لا ذرة من ذراته،باطنا و ظاهرا،و من هذا شأنه:كيف يليق بالعباد أن يشركوا به و أن يعبدوا معه غيره؟و أن يجعلوا معه إلها آخر؟و كيف يليق بكماله أن يقر من يكذب عليه أعظم الكذب،و يخبر عنه بخلاف ما الأمر عليه.ثم ينصره على ذلك و يؤيده، و يعلي كلمته،و يرفع شأنه،و يجيب دعوته،و يهلك عدوه،و يظهر على يديه من الآيات و البراهين و الأدلة ما تعجز عن مثله قوى البشر،و هو-مع ذلك-كاذب عليه مفتر،ساع في الأرض بالفساد.

و معلوم أن شهادته-سبحانه-على كل شيء،و قدرته على كل شيء،و حكمته و عزته و كماله المقدس يأبى ذلك كل الإباء.و من ظن به،و جوزه عليه؛فهو من أبعد الخلق من معرفته،و إن عرف منه بعض صفاته،كصفة القدرة،و صفة المشيئة.

و القرآن مملوء من هذه الطريق،و هي طريق الخاصة،بل خاصة الخاصة هم الذين يستدلون باللّه على أفعاله،و ما يليق به أن يفعله و ما لا يفعله.

و إذا تدبرت القرآن رأيته ينادي على ذلك،فيبديه و يعبده لمن له فهم و قلب واع عن اللّه، قال اللّه تعالى: وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ(44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ(45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ(46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47)[الحاقة]أ فلا تراه كيف يخبر-سبحانه-أن كماله و حكمته و قدرته تأبى أن يقر من تقول عليه بعض الأقاويل؟بل لا بد أن يجعله عبرة لعباده،كما جرت بذلك سنته في المتقولين عليه.و قال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللّهُم.

ص: 207


1- يجري على ألسنة بعض المسلمين قولهم:«الكمال للّه تعالى»و إن كان المعنى حق و صدق-كما يبين ابن القيم هنا-إلا إن لفظة الكمال لم أقف عليها في السنة أو عند سلفنا الصالح رحمهم اللّه تعالى و إن دلت جميع الأسماء و الصفات على معناها كالحكيم و العليم...و اللّه تعالى أعلم.

يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ [الشورى:24]هاهنا انتهى جواب الشرط.ثم أخبر خبرا جازما غير معلق:

أنه وَ يَمْحُ اللّهُ الْباطِلَ وَ يُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [الشورى:24]،و قال تعالى:

وَ ما قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:91]،فأخبر أن من نفى عنه الإرسال و الكلام لم يقدره حق قدره،و لا عرفه كما ينبغي،و لا عظمه كما يستحق، فكيف من ظن أنه ينصر الكاذب المفتري عليه و يؤيده؟و يظهر على يديه الآيات و الأدلة؟ و هذا في القرآن كثير جدا،يستدل بكماله المقدس،و أوصافه و جلاله على صدق رسله، و على وعده و وعيده.و يدعو عباده إلى ذلك،كما يستدل باسمائه و صفاته على وحدانيته، و على بطلان الشرك،كما في قوله:

هُوَ اللّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللّهِ عَمّا يُشْرِكُونَ (23)[الحشر]و أضعاف أضعاف ذلك في القرآن.

الاستدلال بأسماء اللّه و صفاته

على بطلان وصفه تعالى بما لا يليق

-و يستدل-سبحانه-بأسمائه و صفاته على بطلان ما نسب إليه من الأحكام و الشرائع الباطلة،و أن كماله المقدس يمنع من شرعها،كقوله: وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَ اللّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (28)[الأعراف]، و قوله عقيب ما نهى عنه و حرمه من الشرك و الظلم و الفواحش و القول عليه بلا علم: كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38)[الإسراء]،فأعلمك أن ما كان سيئة في نفسه فهو يكرهه، و كماله يأبى أن يجعله شرعا له و دينا.فهو-سبحانه-يدل عباده بأسمائه و صفاته على ما يفعله و يأمر به،و ما يحبه و يبغضه،و يثيب عليه و يعاقب عليه.و لكن هذه الطريق لا يصل إليها إلا خاصة الخاصة.فلذلك كانت طريقة الجمهور الدلالات بالآيات المشاهدة،فإنها أوسع تناولا.و اللّه-سبحانه-يفضل بعض خلقه على بعض،و يرفع درجات من يشاء،و هو العليم الحكيم.

فالقرآن العظيم قد اجتمع فيه ما لم يجتمع في غيره،فإنه هو الدعوة و الحجة،و هو الدليل و المدلول عليه،و هو الشاهد و المشهود،و هو الحكم و الدليل،و هو الدعوى و البينة، قال تعالى: أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ [هود:17]أي من ربه،و هو القرآن.

ص: 208

و قال تعالى لمن طلب آية تدل على صدق رسله أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَ ذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(51) قُلْ كَفى بِاللّهِ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَ كَفَرُوا بِاللّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52)[العنكبوت]فأخبر-سبحانه-أن الكتاب الذي أنزله على رسوله يكفي عن كل آية؛ ففيه الحجة و الدلالة على أنه من اللّه،و أن اللّه-سبحانه-أرسل به رسله،و فيه بيان ما يوجب لمن اتبعه السعادة،و ينجيه من العذاب.

ثم قال:(قل كفى باللّه بيني و بينكم شهيدا يعلم ما في السموات و الأرض)فإذا كان اللّه -سبحانه-عالما بجميع الأشياء،كانت شهادته أصدق شهادة و أعدلها،فإنها شهادة بعلم تام،محيط بالمشهود به.

فيكون الشاهد به أعدل الشهداء و أصدقهم،و هو-سبحانه-يذكر علمه عند شهادته، و قدرته و ملكه عند مجازاته،و حكمته عند خلقه و أمره،و رحمته عند ذكر إرسال رسوله، و حمله عند ذكر ذنوب عباده و معاصيهم،و سمعه عند ذكر دعائهم و مسألته،و عزته و علمه عند قضائه و قدره.

فتأمل ورود أسمائه الحسنى في كتابة،و ارتباطها بالخلق و الأمر،و الثواب و العقاب.

الاستدلال على صدق رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم

و من هذا قوله تعالى: وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43)[الرعد]،فاستشهد على رسالته بشهادة اللّه له.و لا بد أن تعلم هذه الشهادة،و تقوم بها الحجة على المكذبين له،و كذلك قوله: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ [الأنعام:19]،و كذلك قوله: لكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَ الْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً (166)[النساء]،و كذلك قوله يس(1) وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ(2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3)[يس]،و قوله: تِلْكَ آياتُ اللّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)[البقرة]،و قوله: وَ اللّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ [المنافقون:1]،و قوله:

مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّهِ [الفتح:29]،فهذا كله شهادة منه لرسوله،قد أظهرها و بينها،و بين صحتها غاية البيان،بحيث قطع العذر بينه و بين عباده،و أقام الحجة عليهم.فكونه-سبحانه-شاهدا لرسوله،معلوم بسائر أنواع الأدلة؛عقليها و نقليها و فطريها و ضروريها و نظريها.

و من نظر في ذلك و تأمله،علم أن اللّه-سبحانه-شهد لرسوله أصدق الشهادة.

ص: 209

و أعدلها و أظهرها؛و صدقه بسائر أنواع التصديق:بقوله الذي أقام البراهين على صدقه فيه، و بفعله و إقراره،و بما فطر عليه عباده،من الإقرار بكماله،و تنزيهه عن القبائح،و عما لا يليق به.

و في كل وقت يحدث من الآيات الدالة على صدق رسوله ما يقيم به الحجة،و يزيل به العذر،و يحكم له و لأتباعه بما وعدهم به من العز و النجاة و الظفر و التأييد.و يحكم على أعدائه و مكذبيه بما توعدهم به من الخزي و النكال و العقوبات المعجلة،الدالة على تحقيق العقوبات المؤجلة، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً (28)[الفتح]،فيظهره ظهورين:ظهورا بالحجة،و البيان،و الدلالة.و ظهورا بالنصر و الظفر و الغلبة،و التأييد،حتى يظهره على مخالفيه.و يكون منصورا.

و قوله: لكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَ الْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً (166)[النساء]،فما فيه من الخبر عن علم اللّه الذي لا يعلمه غيره،من أعظم الشهادة بأنه هو الذي أنزله.كما قال في الآية الأخرى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ(13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللّهِ وَ أَنْ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)[هود]،و ليس المراد مجرد الإخبار بأنه أنزله-و هو معلوم له،كما يعلم سائر الأشياء،فإن كل شيء معلوم له من حق و باطل- و إنما المعنى:أنزله مشتملا على علمه (1).فنزوله مشتملا علمه،هو آية كونه من عنده،و أنه حق و صدق.و نظير هذا قوله: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً [الفرقان:6]،ذكر ذلك-سبحانه-تكذيبا وردا على من قال: اِفْتَراهُ [الفرقان:4] (2).).

ص: 210


1- و قال في الصواعق المرسلة«أنزله و فيه علم لا يعلمه البشر»(877/3).
2- مدارج السالكين(466/3-471).

من أساليب القرآن الكريم

التحدي

قوله تعالى: وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23)[البقرة]:إن حصل لكم ريب في القرآن و صدق من جاء به و قلتم:إنه مفتعل،فأتوا و لو بسورة واحدة تشبهه.و هذا خطاب لأهل الأرض أجمعهم، و من المحال أن يأتي واحد منهم بكلام يفتعله و يختلقه من تلقاء نفسه،ثم يطالب أهل الأرض بأجمعهم أن يعارضوه في أيسر جزء منه يكون مقداره ثلاث آيات من عدة ألوف،ثم تعجز الخلائق كلهم عن ذلك.حتى إن الذي راموا معارضته كان ما عارضوه من أقوى الأدلة على صدقه،فإنهم أتوا بشيء يستحيي العقلاء من سماعه و يحكمون بسماجته و قبح ركاكته و خسته.

فهو كمن أظهر طيبا لم يشم أحد مثل ريحه قط،و تحدى الخلائق ملوكهم و سوقتهم بأن يأتوا بذرة طيب مثله،فاستحى العقلاء و عرفوا عجزهم،و جاء الحمقان بعذرة منتنة خبيثة، و قالوا:قد جئنا بمثل ما جئت به،فهل يزيد هذا ما جاء به إلا قوة و برهانا و عظمة و جلالة؟ و أكد تعالى هذا التوبيخ و التقريع و التعجيز بأن قال: وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [البقرة:23]كما يقول المعجز لمن يدعي مقاومته:اجهد علي بكل من تقدر عليه من أصحابك و أعوانك و أوليائك،و لا تبق منهم أحدا حتى تستعين به،فهذا لا يقدم عليه إلا أجهل العالم و أحمقه و أسخفه عقلا إن كان غير واثق بصحة ما يدعيه،أو أكملهم و أفضلهم و أصدقهم و أوثقهم بما يقوله.و النبي صلى اللّه عليه و سلم يقرأ هذه الآية و أمثالها على أصناف الخلائق؛ أمّيّهم و كتابيهم و عربهم و عجمهم،و يقول:لن تستطيعوا ذلك و لن تفعلوه أبدا فيعدلون معه إلى الحرب بقتل المحاربة الأحباب،فلو قدروا على الإتيان بصورة واحدة لم يعدلوا عنها إلى اختيار أيتام الأولاد،و قتل النفوس،و الإقرار بالعجز عن معارضته.

و تقرير النبوة بهذه الآية وجوه متعددة،هذا أحدها.

و ثانيا:إقدامه صلى اللّه عليه و سلم على هذا الأمر و إسجاله على الخلائق إسجالا عاما إلى يوم القيامة

ص: 211

أنهم لن يفعلوا ذلك أبدا.فهذا لا يقدم عليه و يخبر به إلا عن علم لا يخالجه شك مستند إلى وحي من اللّه تعالى،و إلا فعلم البشر و قدرته يضعفان عن ذلك.

و ثالثهما:النظر إلى نفس ما تحدى به و ما اشتمل عليه من الأمور التي تعجز قوى البشر على الإتيان بمثله،الذي فصاحته و نظمه و بلاغته فرد من أفراد إعجازه.

و هذا الوجه يكون معجزة لمن سمعه و تأمله و فهمه،و بالوجهين الأولين يكون معجزة لكل من بلغه خبره و لو لم يفهمه و لم يتأمله.فتأمل هذا الموضع من إعجاز القرآن تعرف فيه قصور من المتكلمين،و تقصيرهم في بيان إعجازه،و أنهم لن يوفوه معشار حقه،حتى قصر بعضهم الإعجاز على صرف (1)الدواعي عن معارضته مع القدرة عليها،و بعضهم قصر الإعجاز على مجرد فصاحته و بلاغته،و بعضهم على مخالفة أسلوب نظمه لأساليب نظم الكلام،و بعضهم على ما اشتمل عليه من الإخبار بالغيوب،إلى غير ذلك من الأقوال القاصرة التي لا تشفي و لا تجدي (2)،و إعجازه فوق ذلك و وراء ذلك كله،فإذا ثبتت النبوة بهذه الحجة القاطعة فقد وجب على الناس تصديق الرسول في خبره و طاعة أمره،و قد أخبر عن اللّه تعالى و أسمائه و صفاته و أفعاله و عن المعاد و الجنة و النار فثبتت صحة ذلك يقينا (3).).

ص: 212


1- انظر المقدمة في هذه المسألة.
2- لكن هذه الأنواع من أنواع الإعجاز حق و ما ذهب إليه ابن القيم من إن إعجاز القرآن فوق كل هذا حق أيضا،و فوق كل ذي علم عليم.
3- بدائع الفوائد(134/4-136).

القرآن الكريم

اشارة

محكم جامع

سمى النبي صلى اللّه عليه و سلم هذه الآية جامعة فاذة: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ(7) وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)[الزلزلة]و من هذا قوله تعالى:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) [المائدة]،فدخل في الخمر كل مسكر،جامدا كان أو مائعا،من العنب أو من غيره،و دخل في الميسر كل أكل مال بالباطل،و كل عمل محرم يوقع العداوة و البغضاء،و يصد عن ذكر اللّه و عن الصلاة.و دخل في قوله:

قَدْ فَرَضَ اللّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَ اللّهُ مَوْلاكُمْ وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (1)[التحريم:2]كل يمين منعقدة.

و دخل في قوله: يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ [المائدة:4]كل طيب (2)من المطاعم و المشارب و الملابس و الفروج.

و دخل في قوله: وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى:40] فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [البقرة:194]،ما لا تحصى أفراده من الجنايات و عقوباتها،حتى اللطمة و الضربة و الكسعة (2)كما فهم الصحابة.

و دخل في قوله: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ وَ الْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ أَنْ تُشْرِكُوا بِاللّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33)[الأعراف]تحريم كل فاحشة،ظاهرة و باطنة،و كل ظلم و عدوان في مال أو نفس أو عرض،و كل شرك باللّه،و إن دق في قول أو عمل أو إرادة،بأن يجعل للّه عدلا بغيره في اللفظ أو القصد أو الاعتقاد،و كل قول على اللّه لم يأت به نص عنه،و لا عن رسوله في تحريم أو تحليل،أو إيجاب أو إسقاط،أو خبر عنه باسم أو صفة،نفيا أو إثباتا أو خبرا عن فعله،فالقول عليه بلا علم حرام في أفعاله و صفاته و دينه.

ص: 213


1- الكسعة:الحمير و الكسع:الضرب باليد أو الرجل إنسانا أو غيره.
2- و الطيب هو ما أحله الشرع و الخبيث ما حرمه.

و دخل في قوله: وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ [المائدة:45]وجوبه في كل جرح يمكن القصاص منه،و ليس هذا تخصيصا،بل هو مفهوم من قوله: قِصاصٌ ،و هو المماثلة.

و دخل في قوله: وَ عَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ [البقرة:233]وجوب نفقة الطفل و كسوته و نفقة مرضعته،على كل وارث قريب أو بعيد.

و دخل في قوله: وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228]جميع الحقوق التي للمرأة،و عليها،و أن مرد ذلك إلى ما يتعارفه الناس بينهم،و يجعلونه معروفا لا منكرا، و القرآن و السنة كفيلان بهذا أتم كفالة (1)(2).

بيان فساد إضافة الشر إلى اللّه تعالى

قوله صلى اللّه عليه و سلم في الحديث الصحيح:«لبيك و سعديك و الخير في يديك و الشر ليس إليك» (1)معناه أجل و أعظم من قول من قال:و الشر لا يتقرب به إليك،و قول من قال:و الشر لا يصعد إليك،و أن هذا الذي قالوه و إن تضمن تنزيهه عن صعود الشر إليه و التقرب به إليه، فلا يتضمن تنزيهه في ذاته و صفاته و أفعاله عن الشر،بخلاف لفظ المعصوم الصادق المصدق،فإنه يتضمن تنزيهه في ذاته تبارك و تعالى عن نسبة الشر إليه بوجه ما لا في صفاته و لا في أفعاله و لا في أسمائه،و إن دخل في مخلوقاته كقوله: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ(2) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (3)[الفلق]،و تأمل طريقة القرآن في إضافة الشر تارة إلى سببه و من قام به، كقوله: وَ الْكافِرُونَ هُمُ الظّالِمُونَ [البقرة]،و قوله: وَ اللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ [التوبة]،و قوله:

فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا [النساء:160]و قوله: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ [الأنعام:146]و قوله:

وَ ما ظَلَمْناهُمْ وَ لكِنْ كانُوا هُمُ الظّالِمِينَ (76)[الزخرف]و هو في القرآن أكثر من أن يذكر هاهنا عشر معشاره،و إنما المقصود التمثيل،و تارة يحذف فاعله،كقوله تعالى حكاية عن مؤمن الجن: وَ أَنّا لا نَدْرِي أَ شَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10)[الجن]فحذفوا فاعل الشر و مريده،و صرحوا بمريد الرشد.

و نظيره في الفاتحة: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ الضّالِّينَ

ص: 214


1- بدائع الفوائد(215/2،214).
2- و هذا كله يدخل تحت قوله تبارك و تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]و قوله تعالى: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3]و قوله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38].
3- إعلام الموقعين(412/1،413).

[الفاتحة:7]،فذكر النعمة مضافة إليه سبحانه،و الضلال منسوبا إلى من قام به،و الغضب محذوفا فاعله.

و مثله قول الخضر في السفينة: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها [الكهف:79]و في الغلامين: فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَ يَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الكهف:82]مثل قوله: وَ لكِنَّ اللّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَ الْفُسُوقَ وَ الْعِصْيانَ [الحجرات:7]،فنسب هذا التزيين المحبوب إليه،و قال: زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِينَ [آل عمران:14]، فحذف الفاعل المزين.

و مثله قول الخليل: اَلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ(78) وَ الَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِ(79) وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ(80) وَ الَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ(81) وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) [الشعراء]فنسب إلى ربه كل كمال من هذه الأفعال،و نسب إلى نفسه النقص منها و هو المرض و الخطيئة.

و هذا كثير في القرآن،ذكرنا منه أمثلة كثيرة في كتاب«الفوائد الملكية»،و بينا هناك السر في مجيء اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ و اَلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ،و الفرق بين الموضعين و أنه حديث ذكر الفاعل كان من آتاه الكتاب واقعا في سياق المدح،و حيث حذفه كان من أوتيه واقعا في سياق الذم أو منقسما،و ذلك من أسرار القرآن.و مثله: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا [فاطر:32]و قال: وَ إِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ [الشورى:14]،و قوله: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى [الأعراف:

169]و بالجملة فالذي يضاف إلى اللّه تعالى كله خير و حكمة و مصلحة و عدل و الشر ليس إليه (1).

التدرج في التكليف

تأمل الحكمة في التشديد في أول التكليف،ثم التيسير في آخره بعد توطين النفس على العزم و الامتثال،فيحصل للعبد الأمران:الأجر على عزمه و توطين نفسه على الامتثال و التيسير و السهولة بما خفف اللّه عنه.فمن ذلك أمر اللّه تعالى و رسوله بخمسين صلاة ليلة الإسراء ثم خففها و تصدق بجعلها خمسا (2).و من ذلك:أنه أمر أولا بصبر الواحد إلى العشرة،ثم خفف عنهم ذلك إلى الاثنين (3).

ص: 215


1- بدائع الفوائد(215/2،214).
2- سبق تخريجه ص(118).
3- في سورة الأنفال(65-66).

و من ذلك:أنه حرم عليهم في الصيام إذا نام أحدهم أن يأكل بعد ذلك أو يجامع،ثم خفف عنهم بإباحة ذلك إلى الفجر (1).

و من ذلك:أنه أوجب عليهم تقديم الصدقة بين يدي مناجاة رسوله صلى اللّه عليه و سلم،فلما وطنوا له أنفسهم على ذلك،خففه عنهم (2).و من ذلك تخفيف الاعتداد بالحول بأربعة أشهر و عشرا (3).

و هذا كما قد يقع في الابتلاء بالأوامر،فقد يقع في الابتلاء بالقضاء و القدر؛يشدد على العبد أولا ثم يخفف عنه و حكمه تسهيل الثاني بالأول و تلقي الثاني بالرضا و شهود المنة و الرحمة.و قد يفعل الملوك ببعض رعاياهم قريبا من هذا،فهؤلاء المصادرون يطلب منهم الكثير جدا،الذي ربما عجزوا عنه ثم يحطون إلى ما دونه لتطوع لهم أنفسهم بذلة و يسهل عليهم.و قد يفعل بعض الحمالين قريبا من هذا،فيزيدون على الحمل شيئا لا يحتاجونه إليها،ثم يحط تلك الأشياء،فيسهل حمل الباقي عليهم.

و المقصود أن هذا الباب من الحكمة خلقا و أمرا،و يقع في الأمر و القضاء و القدر أيضا ضد هذا،فينقل عباده بالتدريج من اليسير إلى ما هو أشد منه؛لئلا يفجأ هذا التشديد بغتة فلا تحمله و لا تنقاد له.و هذا كتدريجهم في الشرائع شيئا بعد شيء دون أن يؤمروا بها كلها وهلة واحدة،و كذلك المحرمات.و من هذا أنهم أمروا بالصلاة أولا ركعتين ركعتين،فلما ألفوها زيد فيها ركعتين أخريين في الحضر.و من هذا أنهم أمروا بالصيام و خيروا فيه بين الصوم عينا و بين التخيير بينه و بين الفدية،فلما ألفوه أمروا بالصوم عينا.و من هذا أنهم أذن لهم بالجهاد أولا من غير أن يوجبه عليهم،فلما توطنت نفوسهم و باشروا حسن عاقبته و ثمرته أمروا به فرضا.

و كذلك يقع مثل هذا في قضائه و قدره مقدر على عبده بل لا بد منه اقتضاء حمده و حكمته فيبتليه بالأخف أولا،ثم يرقبه إلى ما هو فوقه حتى يستكمل ما كتب عليه منه.

و لهذا قد يسعى العبد في أول البلاء في دفعه و زواله و لا يزداد إلا شدة؛لأنه كالمرض في أوله و تزايده،فالعاقل يستكين له أولا و ينكسر و يذل لربه،و يمد عنقه خاضعا ذليلا لعزته، حتى إذا مر به معظمه و عمرته و أذن ليله بالصباح،فإذا سعى في زواله ساعدته الأسباب.).

ص: 216


1- سبق بيانه.
2- سورة المجادلة(12).
3- آية التخفيف في سورة البقرة(234)و الآية المنسوخة(240).

و من تأمل هذا في الخلق انتفع به انتفاعا عظيما و لا حول و لا قوة إلا باللّه (1).

العطف في القرآن الكريم

الكلام على واو الثمانية (2):

قولهم:إن الواو تأتي لثمانية ليس عليه دليل مستقيم،و قد ذكروا ذلك في مواضع، فلنتكلم عليها واحدا واحدا.

الموضع الأول:قوله تعالى: اَلتّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السّائِحُونَ الرّاكِعُونَ السّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة:112]فقيل:الواو في وَ النّاهُونَ واو الثمانية لمجيئها بعد استيفاء الأوصاف السبعة،و ذكروا في الآية وجوها أخر،منها:أن هذا من التفنن في الكلام أن يعطف بعضه،و يترك بعضه.و منها:أن الصفات التي قبل هاتين الصفتين صفات لازمة متعلقة بالعامل،و هاتان الصفتان متعديتان متعلقتان بالغير فقطعتا عما قبلها بالعطف.

و منها:أن المراد التنبيه على أن الموصوفين بالصفات المتقدمة هم الآمرون بالمعروف و الناهون عن المنكر.و كل هذه الأجوبة غير سديدة،و أحسن ما يقال فيها:إن الصفات إذا ذكرت في مقام التعداد،فتارة يتوسط بينها حرف العطف لتغيرها في نفسها،و للإيذان بأن المراد ذكر كل صفة بمفردها.و تارة لا يتوسطها العاطف لاتحاد موصوفها و تلازمها في نفسها،و للإيذان بأنها في تلازمها كالصفة الواحدة.و تارة يتوسط العاطف بين بعضها و يحذف مع بعض،بحسب هذين المقامين،فإذا كان المقام مقام تعداد الصفات من غير نظر إلى جمع أو انفراد،حسن إسقاط حرف العطف،و إن أريد الجمع بين الصفات أو التنبيه على تغايرها،حسن إدخال حرف العطف.فمثال الأول: اَلتّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ [التوبة:112]و قوله: مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ [التحريم:5]،و مثال الثاني قوله تعالى:

هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظّاهِرُ وَ الْباطِنُ [الحديد:3].

و تأمل كيف اجتمع النوعان في قوله تعالى:

حم(1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(2) غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي

ص: 217


1- بدائع الفوائد(183/3-185).
2- انظر تحقيق المسألة و الأقوال فيها في كلامنا على جزء اللغة لابن القيم،و راجع المغني لابن هشام (402)و الواو المزيدة للعلائي(142).

اَلطَّوْلِ [غافر:1-3]،فأتي بالواو في الوصفين الأولين و حذفها في الوصفين الأخيرين؛لأن غفران الذنب و قبول التوب قد يظن أنهما يجريان مجرى الوصف الواحد لتلازمهما فمن غفر الذنب قبل التوب،فكان في عطف أحدهما على الآخر،ما يدل على أنهما صفتان و فعلان متغايران،و مفهومان مختلفان لكل منهما حكمه.أحدهما يتعلق بالإساءة و الاعتراض و هو المغفرة.و الثاني يتعلق بالإحسان و الإقبال على اللّه،و الرجوع إليه و هو التوبة،فتقبل هذه الحسنة و تغفر تلك السيئة،و حسن العطف هاهنا هذا التغاير الظاهر و كلما كان التغاير أبين، كان العطف أحسن،و لهذا جاء العطف في قوله: هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظّاهِرُ وَ الْباطِنُ [الحديد:3]،و ترك في قوله: اَلْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ [غافر:3]،فترك العطف بينهم لنكتة بديعة،و هي الدلالة على اجتماع هذين الأمرين في ذاته-سبحانه-و أنه حال كونه شديد العقاب فهو ذو الطول،و طوله لا ينافي شدة عقابه،بل هما مجتمعان له بخلاف الأول و الآخر فإن الأولية لا تجامع الآخرية،و لهذا فسرها النبي صلى اللّه عليه و سلم بقوله:«أنت الأول فليس قبلك شيء،و أنت الآخر فليس بعدك شيء» (1).فأوليته و آخريته أبديته.

فإن قلت فما تصنع بقوله: وَ الظّاهِرُ وَ الْباطِنُ فإن ظهوره تعالى ثابت مع بطونه،فيجتمع في حقه الظهور و البطون،و النبي صلى اللّه عليه و سلم فسر الظاهر بأنه الذي ليس فوقه شيء،و الباطن الذي ليس دونه شيء،و هذا العلو و الفوقية مجامع لهذا القرب و الدنو و الإحاطة.

قلت:هذا سؤال حسن،و الذي حسن دخول الواو هاهنا أن هذه الصفات متقابلة متضادة،و قد عطف الثاني منهما على الأول للمقابلة التي بينهما،و الصفتان الأخريان كالأولين في المقابلة،و نسبة الباطن إلى الظاهر كنسبة الآخر إلى الأول،فكما حسن العطف بين الأولين حسن بين الأخريين.

فإذا عرف هذا فالآية التي نحن فيها يتضح بما ذكرناه معنى العطف و تركه فيها؛لأن كل صفة لم تعطف على ما قبلها،كان فيه تنبيه على أنها في اجتماعها كالوصف الواحد لموصوف واحد،فلم يحتج إلى عطف،فلما ذكر الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و هما متلازمان مستمدان من مادة واحدة،حسن العطف ليتبين أن كل وصف منهما قائم على حدته،مطلوب تعيينه،لا يكتفي فيه بحصول الوصف الآخر،بل لا بد أن يظهر أمر بالمعروف بصريحه و نهيه عن المنكر بصريحه،و أيضا فحسن العطف هاهنا ما تقدم من التضاد،فلما كانع.

ص: 218


1- مسلم(61/2713)في الذكر و الدعاء و التوبة و الاستغفار،باب:ما يقول عند النوم و أخذ المضجع.

الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ضدين؛أحدهما طلب الإيجاد،و الآخر طلب الإعدام،كانا كالنوعين المتغايرين المتضادين فحسن لذلك العطف.

الموضع الثاني:قوله تعالى: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ ،إلى قوله: ثَيِّباتٍ وَ أَبْكاراً [التحريم:5]،فقيل:هذه واو الثمانية،لمجيئها بعد الوصف السابع،و ليس كذلك،و دخول الواو هاهنا متعين؛لأن الأوصاف التي قبلها المراد اجتماعها في النساء،و أما وصفا البكارة و الثيوبة فلا يمكن اجتماعهما،فتعين العطف لأن المقصود أن يزوجه بالنوعين:الثيبات و الإبكار.

الموضع الثالث:قوله تعالى: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَ يَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَ يَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف:22]قيل:المراد إدخال الواو هاهنا لأجل الثمانية.و هذا يحتمل أمرين:أحدهما:هذا.و الثاني:أن يكون دخول الواو هاهنا إيذانا بتمام كلامهم عند قولهم:سبعة ثم ابتدأ قوله: وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ،و ذلك يتضمن تقرير قولهم(سبعة)،كما إذا قال لك:زيد فقيه فقلت:و نحوي،و هذا اختيار السهيلي.و قد تقدم الكلام عليه و أن هذا إنما يتم إذا كان قوله: وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ليس داخلا في المحكي بالقول،و الظاهر خلافه.و اللّه أعلم.

الموضع الرابع:قوله تعالى: وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتّى إِذا جاؤُها وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر:71]،لما كانت سبعة.و هذا في غاية البعد،و لا دلالة في اللفظ على الثمانية حتى تدخل الواو لأجلها،بل هذا من باب حذف الجواب لنكتة بديعة،و هي أن تفتيح أبواب النار كان حال موافاة أهلها،ففتحت في وجوههم،لأنه أبلغ في مفاجأة المكروه.و أمّا الجنة فلما كانت ذات الكرامة و هي مأدبة اللّه،و كان الكريم إذا دعا أضيافه إلى داره شرع لهم أبوابها،ثم استدعاهم إليها مفتحة الأبواب،أتي بالواو العاطفة هنا الدالة على أنها جاءوها بعد ما فتحت أبوابها،و حذف الجواب تفخيما لشأنه و تعظيما لقدره،كعادتهم في حذف الأجوبة (1).

و كذلك القاعدة أن الشيء لا يعطف على نفسه؛لأن حروف العطف بمنزلة تكرار العامل،لأنك إذا قلت:قام زيد و عمرو،فهي بمعنى قام زيد و قام عمرو.و الثاني غير الأول فإذا وجدت مثل قولهم:كذبا و مينا،فهو لمعنى زائد في اللفظ الثاني و إن خفي عنك.و لهذا).

ص: 219


1- بدائع الفوائد(51/3-55).

يبعد جدا أن يجيء في كلامهم:جاءني عمر و أبو حفص،و رضي اللّه عن أبي بكر و عتيقه، فإن الواو إنما تجمع بين الشيئين لا بين الشيء الواحد،فإذا كان في الاسم الثاني فائدة زائدة على معنى الاسم الأول كنت مخيرا في العطف و تركه،فإن عطفت فمن حيث قصدت تعداد الصفات و هي متغايرة و إن لم تعطف فمن حيث كان في كل منهما ضمير هو الأول فعلى الوجه الأول تقول:زيد فقيه شاعر كاتب.و على الثاني:فقيه و شاعر و كاتب.كأنك عطفت بالواو الكتابة على الشعر.و حيث لم تعطف اتبعت الثاني الأول،لأنه هو هو من حيث اتحد الحامل للصفات.

و أما في أسماء الرب تبارك و تعالى فأكثر ما يجيء في القرآن بغير عطف نحو:

اَلسَّمِيعُ الْبَصِيرُ اَلْعَزِيزُ الْحَكِيمُ اَلْغَفُورُ الرَّحِيمُ اَلْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ ،إلى آخرها.و جاءت معطوفة في موضعين:أحدهما في أربعة أسماء،و هي: اَلْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظّاهِرُ وَ الْباطِنُ و الثاني في بعض الصفات بالاسم الموصول،مثل قوله: اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوّى (2) وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى(3) وَ الَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4)[الأعلى]،و نظيره: اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَ جَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(10) وَ الَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ(11) وَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها [الزخرف:10-12].

فأما ترك العطف في الغالب فلتناسب معاني تلك الأسماء،و قرب بعضها من بعض و شعور الذهن بالثاني منها شعوره بالأول.أ لا ترى أنك إذا شعرت بصفة المغفرة،انتقل ذهنك منها إلى الرحمة؟و كذلك إذا شعرت بصفة السمع انتقل الذهن إلى البصر،و كذلك:

اَلْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ [الحشر:24].و أما تلك الأسماء الأربعة فهي ألفاظ متباينة المعاني متضادة الحقائق في أصل موضوعها،و هي متفقة المعاني متطابقة في حق الرب تعالى لا يبقى منها حقه.فكان دخول الواو صرفا لوهم المخاطب قبل التفكر و النظر عن توهم المحال و احتمال الأضداد؛لأن الشيء لا يكون ظاهرا باطنا من وجه واحد،و إنما يكون ذلك باعتبارين،فكان العطف هاهنا أحسن من تركه لهذه الحكمة،هذا جواب السهيلي.

و أحسن منه أن يقال:لما كانت هذه الألفاظ دالة على معاني متباينة،و أن الكمال في الاتصاف بها على تباينها أتى بحرف العطف الدال على التغاير بين المعطوفات،إيذانا بأن هذه المعاني مع تباينها فهي ثابتة للموصوف بها.

و وجه آخر و هو أحسن منها:و هو أن الواو تقتضي تحقيق الوصف المتقدم،و تقريره يكون في الكلام متضمنا لنوع من التأكيد،من المزيد التقرير.و بيان ذلك بمثال نذكره مرقاة

ص: 220

إلى فهم ما نحن فيه:إذا كان لرجل مثلا أربع صفات:هو عالم و جواد و شجاع و غني،و كان المخاطب لا يعلم ذلك أو لا يقر به،و يعجب من اجتماع هذه الصفات في رجل فإذا قلت:

زيد عالم،و كان ذهنه استبعد ذلك،فتقول:و جواد،أي:و هو مع ذلك جواد.فإذا قدرت استبعاده لذلك،قلت:و شجاع،أي و هو مع ذلك شجاع و غني،فيكون في العطف مزيد تقرير و توكيد،لا يحصل بدونه،تدرأ به توهم الإنكار.

و إذا عرفت هذا فالوهم قد يعتريه إنكار لاجتماع هذه المقابلات في موصوف واحد؛ فإذا قيل:هو الأول ربما سرى الوهم إلى أن كونه أولا يقتضي أن يكون الآخر غيره لأن الأولية و الآخرية من المتضايفات.و كذلك الظاهر و الباطن إذا قيل:هو ربما سرى الوهم إلى أن الباطن مقابله،فقطع هذا الوهم بحرف العطف،الدال على أن الموصوف بالأولية هو الموصوف بالآخرية،فكأنه قيل:هو الأول و هو الآخر و هو الظاهر و هو الباطن لا سواه،فتأمل ذلك،فإنه من لطيف العربية و دقيقها.

و الذي يوضح لك ذلك أنه إذا كان للبلد مثلا قاض و خطيب و أمير فاجتمعت في رجل، حسن أن تقول:زيد هو الخطيب و القاضي و الأمير،و كان لعطف هنا مزية ليست للنعت المجرد،فعطف الصفات هاهنا أحسن،قطعا لوهم متوهم أن الخطيب غيره و أن الأمير غيره.

و أما قوله تعالى: غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)[غافر:3]،فعطف في الاسمين الأولين دون الآخرين.فقال السهيلي:إنما حسن العطف بين الاسمين الأولين لكونهما من صفات الأفعال،فعله-سبحانه-في غيره لا في نفسه،فدخل حرف العطف للمغايرة الصحيحة بين المعنيين و لتنزلهما منزلة الجملتين؛ لأنه يريد تنبيه العباد على أنه يفعل هذا ليرجوه و يؤملوه،ثم قال: شَدِيدُ الْعِقابِ بغير واو؛ لأن هذه راجعة إلى معنى القوة و القدرة و هو معنى خارج عن صفات الأفعال،فصار بمنزلة قوله: اَلْعَزِيزِ الْعَلِيمِ و كذلك قوله: ذِي الطَّوْلِ لأن لفظ:«ذي»عبارة عن ذاته،هذا جوابه (1)،و هو كما ترى غير شاف و لا كاف،فإن شدة عقابه من صفات الأفعال،و طوله من صفات الأفعال،و لفظة«ذي»فيه لا تخرجه عن كونه صفة فعل،كقوله: عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ ،بل لفظ الوصف بغافر و قابل أدل على الذات من الوصف بذي لأنها بمعنى صاحب كذا.فالوصف المشتق أدل على الذات من الوصف بها فلم يشف جوابه بل زاد السؤال سؤالا.ى.

ص: 221


1- قد يكون غير شاق أو كاف بما يراه ابن القيم،لكن نظر جيد هذا كلام العلامة السهيلي رحمه اللّه تعالى.

فاعلم أن هذه الجملة مشتملة على ستة أسماء كل اثنين منها قسم،فابتدأها ب اَلْعَزِيزِ الْعَلِيمِ و هما اسمان مطلقان و صفتان من صفات ذاته و هما مجردان عن العطف.ثم ذكر بعدهما اسمين من صفات أفعاله،فأدل بينهما العطف.ثم ذكر اسمين آخرين بعدهما و جردهما من العاطف،فأما الأولان فتجردهما من العاطف؛لكونهما مفردين صفتين جاريتين على اسم اللّه،و هما متلازمان فتجريدهما عن العطف هو الأصل،و هو موافق لبيان ما في الكتاب العزيز من ذلك ك اَلْعَزِيزِ الْعَلِيمِ و اَلسَّمِيعُ الْبَصِيرُ و اَلْغَفُورُ الرَّحِيمُ .و أما غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ ،فدخل العاطف بينهما؛لأنهما في معنى الجملتين،و إن كان مفردين لفظا،فهما يعطيان معنى يغفر الذنب و يقبل التوب،أي:هذا شأنه و وصفه في كل وقت.

فأتى الاسم الدال على أن هذا وصفه و نعته المتضمن لمعنى الفعل الدال على أنه لا يزال يفعل ذلك،فعطف أحدهما على الآخر على نحو عطف الجمل بعضها على بعض و لا كذلك الاسمان الأولان،و لما لم يكن الفعل ملحوظا في قوله: شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ ؛إذ لا يحسن وقوع الفعل فيهما،و ليس في لفظ:(ذي)ما يصاغ منه فعل،جرى مجرى المقردين من كل وجه،و لم يعطف أحدهما على الآخر كما لم يعطف في اَلْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ،فتأمله فإنه واضح.

و أما العطف في قوله: اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوّى(2) وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3)[الأعلى]،فلما كان المقصود الثناء عليه بهذه الأفعال،و هي جملة،دخلت الواو عاطفة جملة على جملة و إن كانت الجملة مع الموصول في تقدير المفرد،فالفعل مراد مقصود،و العطف يصير كلاّ منها جملة مستقلة مقصودة بالذكر،بخلاف ما لو أتي بها في خبر موصول واحد فقيل: اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَ الَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً وَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها [الزخرف:

10-12]كانت كلها في حكم جملة واحدة،فلما غاير بين الجمل بذكر الاسم الوصول مع كل جملة دل على أن المقصود وصفه بكل من هذه الجمل على حدتها (1).).

ص: 222


1- بدائع الفوائد(189/1-193).

تقديم بعض الكلام

على بعض

قال سيبويه (1):الواو لا تدل على الترتيب و لا التعقيب،تقول:صمت رمضان و شعبان،و إن شئت شعبان و رمضان،بخلاف«الفاء»و«ثم»،إلا أنهم يقدمون في كلامهم ما هم به أهم،و هم ببيانه أعنى،و إن كان جميعا يهمانهم و يغنيانهم.هذا لفظه.

قال السهيلي:و هو كلام مجمل يحتاج إلى بسط و تبيين،فيقال:متى يكون أحد الشيئين أحق بالتقدم،و يكون المتكلم ببيانه أعنى قال:و الجواب:أن هذا الأصل يجب الاعتناء به؛ لعظم منفعته في كتاب اللّه و حديث رسوله،إذ لا بد من الوقوف على الحكمة في تقديم ما قدم و تأخير ما أخر نحو: اَلسَّمِيعُ الْبَصِيرُ و اَلظُّلُماتِ وَ النُّورَ و اَللَّيْلِ وَ النَّهارِ و اَلْجِنِّ وَ الْإِنْسِ في الأكثر.و في بعضها الإنس و الجن و تقديم السماء على الأرض في الذكر، و تقديم الأرض عليها في بعض الآي و نحو سَمِيعٌ عَلِيمٌ ،و لم يجيء«عليم سميع»و كذلك «عزيز حكيم»و«غفور رحيم»و في موضع واحد«الرحيم الغفور»إلى غير ذلك مما لا يكاد ينحصر،و ليس شيء من ذلك يخلو عن فائدة و حكمة لأنه كلام الحكيم الخبير،و سنقدم بين يدي الخوض في هذا الغرض أصلا يقف بك على الطريق الأوضح،فنقول:

ما تقدم من الكلم فتقديمه في اللسان على حساب تقدم المعاني في الجنان،و المعاني تتقدم بأحد خمسة أشياء:إما بالزمان،و إما بالطبع،و إما بالرتبة،و إما بالسبب،و إما بالفضل و الكمال.

فإذا سبق معنى من المعاني إلى الخفة و الثقل بأحد هذه الأسباب الخمسة أو بأكثرها، سبق اللفظ الدال على ذلك المعنى السابق،و كان ترتب الألفاظ بحسب ذلك،نعم؛و ربما كان ترتب الألفاظ بحسب الخفة و الثقل،لا بحسب المعنى كقولهم:ربيعة،و مضر،و كان تقديم مضر أولى من جهة الفضل،و لكن آثروا أخفه.لأنك لو قدمت مضر في اللفظ كثرت

ص: 223


1- الكتاب لسيبويه و انظر«الواو المزيدة».

الحركات و توالت،فلما أخرت،وقف عليها بالسكون،قلت:و من هذا النحو الجن و الإنس،فإن لفظ الإنس أخف،لمكان النون الخفيفة و السين المهموسة،فكان الأثقل أولى بأول الكلام من الأخف لنشاط المتكلم جماعة (1).و أما في القرآن فلحكمة أخرى سوى هذه:قدم الجن على الإنس في الأكثر الأغلب،و سنشير إليها في آخر الفصل إن شاء اللّه.

أما تقدم بتقدم الزمان،فكعاد و ثمود،و الظلمات و النور،فإن الظلمة سابقة للنور في المحسوس و المعقول،و تقدمها في المحسوس معلوم بالخبر المنقول،و تقدم الظلمة المعقولة معلوم بضرورة العقل،قال سبحانه: وَ اللّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ [النحل:78]،فالجهل ظلمة معقولة،و هي متقدمة بالزمان على نور العلم؛و لذلك قال تعالى: فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ [الزمر:6]فهذه ثلاث محسوسات:ظلمة الرحم،و ظلمة البطن،و ظلمة المشيمة (2).و ثلاث معقولات و هي عدم الإدراكات الثلاثة المذكورة في الآية المتقدمة،إذ لكل آية ظهر و بطن،و لكل حرف حد،و لكل حد مطلع،و في الحديث:«إن اللّه خلق عباده في ظلمة،ثم ألقي عليهم من نوره» (3).

و من المتقدم بالطبع نحو مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ [النساء:3]،و نحو: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاّ هُوَ رابِعُهُمْ الآية[المجادلة:7]و ما يتقدم من الأعداد بعضها على بعض إنما يتقدم بالطبع.كتقدم الحيوان على الإنسان،و الجسم على الحيوان.و من هذا الباب تقدم اَلْعَزِيزُ على اَلْحَكِيمُ لأنه عز،فلما عز حكم،و ربما كان هذا من تقدم السبب على المسبب،و مثله كثير في القرآن نحو يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة]لأن التوبة سبب الطهارة،و كذلك كُلِّ أَفّاكٍ أَثِيمٍ (222)[الشعراء]لأن الإفك سبب الإثم،و كذلك كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ [المطففين:12].

و أما ما تقدم«هماز»على«مشاء بنميم»فبالرتبة لأن المشي مرتب على القعود في المكان،و الهماز:هو العياب،و ذلك لا يفتقر إلى حركة و انتقال من موضعه،بخلاف النميمة.و أما تقدم«مناع للخير»على«معتد»فبالرتبة أيضا؛لأن المناع يمنع من نفسه،».

ص: 224


1- أي راحته.
2- يقول الأطباء أن الأقرب لمعنى الكلمات الثلاث:-ظلمة البطن ثم الرحم ثم ما يسمى بالكيس الأميني (AMINOTIC SAC) و هو المحيط بالطفل و يحتوي على ماء،أما المشيمة فيها مجموعة أوعية دموية تشبه الطحال تنقل الغذاء للطفل و اللّه أعلم.
3- أحمد(176/2)،و الترمذي(2642)في الإيمان،باب:ما جاء في افتراق هذه الأمة،و قال:«حسن».

و المعتدي يعتدي على غيره و نفسه قبل غيره،و من المتقدم بالرتبة يَأْتُوكَ رِجالاً وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ [الحج:27]لأن الذي يأتي راجلا يأتي من المكان القريب،و الذي يأتي على الضامر يأتي من المكان البعيد،على أنه قد روي عن ابن عباس أنه قال:وددت أني حججت راجلا؛لأن اللّه قدم الرجالة على الركبان في القرآن،فجعله ابن عباس من باب تقدم الفاضل على المفضول.و المعنيان موجودان.و ربما قدم الشيء لثلاثة معان و أربعة و خمسة، و ربما قدم لمعنى واحد من الخمسة.

و مما قدم للفضل و الشرف فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ [المائدة:6]،و قوله اَلنَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ [النساء:69]،و منه تقديم اَلسَّمِيعُ على اَلْبَصِيرُ و سَمِيعٌ على بَصِيرٌ .و منه تقديم اَلْجِنَّ على اَلْإِنْسِ في أكثر المواضع؛ لأن الجن تشتمل على الملائكة،و غيرهم مما اجتن عن الأبصار،قال تعالى: وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [الصافّات:158].

و قال الأعشى:

و سخر من جن الملائك شيعة قياما لديه يعملون بلا أجر

و أما قوله تعالى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لا جَانٌّ [الرحمن:56]،و قوله: لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌّ [الرحمن:39]،و قوله: ظَنَنّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلَى اللّهِ كَذِباً [الجن:5]فإن لفظ الجن هاهنا لا يتناول الملائكة بحال،لنزاهتهم عن العيوب و أنهم لا يتوهم عليهم الكذب و لا سائر الذنوب،فلما لم يتناولهم عموم لفظ لهذه القرينة،بدأ بلفظ الإنس لفضلهم و كمالهم.

و أما تقديم السماء على الأرض فبالرتبة أيضا و بالفضل و الشرف.

و أما تقديم الأرض في قوله: وَ ما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ [يونس:61]فبالرتبة أيضا،لأنها منتظمة بذكر ما هي أقرب إليه و هم المخاطبون بقوله: وَ لا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ [يونس:61]فاقتضى حسن النظم تقديمها مرتبة في الذكر مع المخاطبين الذين هم أهلها بخلاف الآية التي في سبأ فإنها منتظمة بقوله: عالِمُ الْغَيْبِ [الجن:26].

و أما تقديمه المال على الولد في كثير من الآي فلأن الولد بعد وجود المال نعمة و مسرة،و عند الفقر و سوء الحال هم و مضرة،فهذا من باب تقديم السبب على المسبب؛ لأن المال سبب تمام النعمة بالولد.

و أما قوله: حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِينَ [آل عمران:14]،فتقديم النساء على

ص: 225

البنين بالسبب،و تقدم الأموال على البنين بالرتبة.

و مما تقدم بالرتبة ذكر السمع و العلم حيث وقع،فإنه خبر يتضمن التخويف و التهديد، فبدأ بالسمع لتعلقه بما قرب كالأصوات و همس الحركات،فإن من سمع حسّك و صوتك، أقرب إليك في العادة ممن يقول لك:إنه يعلم،و إن كان علمه تعالى متعلقا بما ظهر و بطن و واقعا على ما قرب و شطن،و لكن ذكر«السميع»أوقع في باب التخويف من ذكر«العليم» فهو أولى بالتقديم.

و أما تقديم«الغفور»على«الرحيم»،فهو أولى بالطبع؛لأن المغفرة سلامة،و الرحمة غنيمة و السلامة تطلب قبل الغنيمة.

و في الحديث:أن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال لعمرو بن العاص:«أبعثك وجها يسلمك اللّه فيه و يغنمك،و أرغب لك رغبة من المال».فهذا من الترتيب البديع بدأ بالسلامة قبل الغنيمة، و بالغنيمة قبل الكسب.

و أما قوله: وَ هُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ في سبأ،فالرحمة هناك متقدمة على المغفرة،فإما الفضل و الكمال و إما بالطبع؛لأنها منتظمة بذكر أصناف الخلق من المكلفين و غيرهم من الحيوان،فالرحمة تشملهم و المغفرة تخصهم و العموم بالطبع قبل الخصوص،كقوله: فاكِهَةٌ وَ نَخْلٌ وَ رُمّانٌ [الرحمن:68]،و كقوله: وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ [البقرة:98]،و مما قدم بالفضل قوله: وَ اسْجُدِي وَ ارْكَعِي مَعَ الرّاكِعِينَ [آل عمران:43]؛لأن السجود أفضل و «أقرب ما يكون العبد من ربه و هو ساجد» (1)،فإن قيل:فالركوع قبله بالطبع و الزمان و العادة،لأنه انتقال من علو إلى انخفاض و العلو بالطبع قبل الانخفاض،فهلا قدم الركوع؟

الجواب أن يقال:انتبه لمعنى الآية من قوله: وَ ارْكَعِي مَعَ الرّاكِعِينَ ،و لم يقل:

اسجدي مع الساجدين،فإنما عبر بالسجود عن الصلاة و أراد صلاتها في بيتها؛لأن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها مع قومها،ثم قال لها: وَ ارْكَعِي مَعَ الرّاكِعِينَ أي صلّي مع المصلين في بيت المقدس،و لم يرد أيضا الركوع وحده دون أجزاء الصلاة،و لكنه عبر بالركوع عن الصلاة،كما تقول:ركعت ركعتين و أربع ركعات،يريد الصلاة لا الركوع بمجرده.فصارت الآية متضمنة لصلاتين صلاتها وحدها عبر عنها بالسجود.لأن السجود أفضل حالات العبد،و كذلك صلاة المرأة في بيتها أفضل لها،ثم صلاتها في المسجد عبرد.

ص: 226


1- مسلم(482/215)في الصلاة،باب:ما يقال في الركوع و السجود.

عنها بالركوع لأنه في الفضل دون السجود،و كذلك صلاتها مع المصلين دون صلاتها وحدها في بيتها و محرابها،و هذا نظم بديع و فقه دقيق،و هذه نبذ تشير لك إلى ما وراء أو سدل و أنت صحيح (1).

قالوا:و مما ذكره بهذا الباب قوله: طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَ الْعاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة:125]،بدأ بالطائفين للرتبة و القرب من البيت المأمور بتطهيره من أجل الطوافين، و جمعهم جمع السلامة؛لأن جمع السلامة أدل على لفظ الفعل الذي هو علة تعلق بها حكم التطهير و لو كان مكان الطائفين الطواف،لم يكن في هذا اللفظ من بيان قصد الفعل ما في قوله للطائفين،أ لا ترى أنك تقول:تطوفون،كما تقول:طائفون،فاللفظان متشابهان.

فإن قيل:فهلا أتي بلفظ الفعل بعينه فيكون أبين،فيقول:و طهرا بيتي للذين يطوفون.

قيل:إن الحكم يعلل بالفعل لا بذوات الأشخاص،و لفظ الذين ينبئ عن الشخص و الذات و لفظ الطواف بخفي معنى الفعل و لا يبينه،فكان لفظ الطائفين أولى بهذا الموطن ثم يليه في الترتيب القائمين؛لأنه في معنى العاكفين،و هو في معنى قوله: إِلاّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً [آل عمران:75]،أي مثابرا ملازما و هو كالطائفين في تعلق حكم التطهر به،ثم يليه بالرتبة لفظ الراكع؛لأن المستقبلين البيت بالركوع لا يختصون بما قرب منه كالطائفين و العاكفين؛و لذلك لم يتعلق حكم التطهير بهذا الفعل الذي هو ركوع،و أنه لا يلزم أن يكون في البيت و لا عنده؛فلذلك لم يجئ بلفظ جمع السلامة؛لأنه لا يحتاج فيه إلى بيان لفظ الفعل،كما احتيج فيما قبله،ثم وصف الركع بالسجود و لم يعطف بالواو كما عطف ما قبله؛لأن الركع هم السجود و الشيء لا يعطف بالواو على نفسه.

و لفائدة أخرى و هو أن السجود أغلب ما يجيء عبارة عن المصدر و المراد به هنا الجمع،فلو عطف بالواو لتوهم أنه يريد السجود الذي هو المصدر دون الاسم الذي هو النعت.

و فائدة ثالثة:أن الراكع إن لم يسجد فليس براكع في حكم الشريعة فلو عطفت هاهنا بالواو لتوهم أن الركوع حكم يجري على حياله.

فإن قيل:فلم قال:السجود على وزن«فعول»،و لم يقل:السّجد كالرّكع و في آيةم.

ص: 227


1- هكذا العبارة في الأصل و فيها مقصودة و لعل مقصوده:و هذه نبذة تشير إلى ما وراء الألفاظ و ما أسدل عليها،تنتفع بها لو تيقظت أو ما شابه و للّه أعلم.

أخرى: رُكَّعاً سُجَّداً ،و لم جمع«ساجد»على«السجود»،و لم يجمع«راكع»على «ركوع»؟.

فالجواب:إن السجود في الأصل مصدر كالخشوع و الخضوع،و هو يتناول السجود الظاهر و الباطن و لو قال:«السجد»في جمع«ساجد»،لم يتناول إلا المعنى الظاهر،و كذلك الركع،أ لا تراه يقول: تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً [الفتح:29]،و هذه رؤية العين و هي لا تتعلق إلا بالظاهر.و المقصود هنا الركوع الظاهر؛لعطفه على ما قبله مما يراد به قصد البيت،و البيت لا يتوجه عليه إلا بالعمل الظاهر،و أما الخشوع و الخضوع الذي تناوله لفظ الركوع دون لفظ اركع،فليس مشروطا بالتوجه إلى البيت،و أما السجود فمن حيث أنبأ عن المعنى الباطن جعل وصفا للركع و متمما لمعناه؛إذا لا يصح الركوع الظاهر إلا بالسجود الباطن،و من حيث تناول لفظه أيضا السجود الظاهر الذي يشترط فيه التوجه إلى البيت حسن انتظامه أيضا مع ما قبله مما هو معطوف على الطائفين الذي ذكرهم بذكر البيت،فمن لحظ هذه المعاني بقلبه و تدبر هذا النظم البديع بلبه،ارتفع في معرفة الإعجاز عن التقليد،و أبصر بعين اليقين أنه تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42].تم كلامه (1).

قلت:و قد تولج رحمة اللّه مضايق تضايق عنها أن تولجها الإبر و أتى بأشياء حسنة، و بأشياء غيرها أحسن منها،فأما تعليله تقديم ربيعة على مضر،ففي غاية الحسن،و هذان الاسمان لتلازمهما في الغالب صار كاسم واحد،فحسن فيهما ما ذكره.

و أما ما ذكره في تقديم الجن على الإنس من شرف الجن،فمستدرك عليه،فإن الإنس أشرف من الجن من وجوه عديدة قد ذكرناها في غير هذا الموضع.

و أما قوله:إن الملائكة منهم أو هم أشرف فالمقدمتان ممنوعتان،أمّا الأول فلأن أصل الملائكة و مادتهم التي خلقوا منها هي النور،كما ثبت ذلك مرفوعا عن النبي صلى اللّه عليه و سلم في صحيح مسلم (2).و أما الجان فمادتهم النار بنص القرآن،و لا يصح التفريق بين الجن و الجان لغة و لا شرعا و لا عقلا.

و أما المقدمة الثانية:و هي كون الملائكة خيرا و أشرف من الإنس فهي المسألة المشهورة و هي تفضيل الملائكة أو البشر؟.و الجمهور على تفضيل البشر (3)،و الذين فضلوا الملائكةه.

ص: 228


1- أي السهيلي رحمه اللّه تعالى،و قد أبدع إبداعا.
2- مسلم(60/2996)في الزهد و الرقائق،باب:في أحاديث متفرقة.
3- كما في حادي الأرواح و غيره.

هم المعتزلة و الفلاسفة و طائفة ممن عداهم،بل الذي ينبغي أن يقال في التقديم هنا:إنه تقديم الزمان؛لقول تعالى: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ(26) وَ الْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27)[الحجر].

و أما تقديم الإنس على الجن في قوله: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لا جَانٌّ [الرحمن:56]، فلحكمة أخرى سوى ما ذكر،و هو:أن النفي تابع لما تعقله القلوب من الإثبات،فيرد النفي عليه و علم النفوس بطمث الإنس و نفرتها ممن طمثها الرجال هو المعروف،فجاء النفي على مقتضى ذلك،و كان تقديم الإنس في هذا النفي أهم.

و أما قوله: وَ أَنّا ظَنَنّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلَى اللّهِ كَذِباً (5)[الجن]فهذا يعرف سره من السياق،فإن هذا حكاية كلام مؤمني الجن حين سماع القرآن،كما قال تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1)الآيات[الجن].

و كان القرآن أول ما خوطب به الإنس و نزل على نبيهم،و هم أول من بدأ بالتصديق و التكذيب قبل الجن،فجاء قول مؤمني الجن: وَ أَنّا ظَنَنّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلَى اللّهِ كَذِباً (5)[الجن]بتقديم الإنس لتقدمهم في الخطاب بالقرآن،و تقديمهم في التصديق و التكذيب.

و فائدة ثالثة،و هي:أن هذا حكاية كلام مؤمني الجن لقومهم،بعد أن رجعوا إليهم فأخبروهم بما سمعوا من القرآن و عظمته و هدايته إلى الرشد،ثم اعتذروا عما كانوا يعتقدونه أولا بخلاف ما سمعوه من الرشد،بأنهم لم يكونوا يظنون أن الإنس و الجن يقولون على اللّه كذبا،فذكرهم الإنس هنا في التقديم أحسن في الدعوة و أبلغ في عدم التهمة،فإنهم خالفوا ما كانوا يسمعونه من الإنس و الجن لما تبين لهم كذبهم،فبداءتهم بذكر الإنس أبلغ في نفي الغرض و التهمة،و ألا يظن بهم قومهم أنهم ظاهروا الإنس عليهم،فإنهم أول ما أقروا بتقولهم الكذب على اللّه،و هذا من ألطف المعاني و أدقها،و من تأمل مواقعه في الخطاب عرف صحته.

و أما تقديم«عاد»على«ثمود»حيث وقع في القرآن فما ذكره من تقدمهم بالزمان، فصحيح و كذلك الظلمات و النور،و كذلك«مثنى»و بابه.

و أما تقديم«العزيز»على«الحكيم»فإن كان من الحكم و هو الفصل و الأمر،فما ذكره من المعنى صحيح،و إن كان من الحكمة و هي كمال العلم و الإرادة،لمتضمنين اتساق صنعه و جريانه على أحسن الوجوه.و أكملها و وضعه الأشياء مواضعها و هو الظاهر من هذا (1)و هي من مسائل الخلاف الشهيرة.

ص: 229

الاسم،فيكون وجه التقديم أن العزة كمال القدرة و الحكمة كمال العلم و هو-سبحانه- الموصوف من كل صفة كمال بأكملها و أعظمها و غايتها،فتقدم وصف القدرة،لأن متعلقه أقرب إلى مشاهدة الخلق و هو مفعولاته تعالى و آياته،و أما الحكمة فمتعلقها بالنظر و الفكر و الاعتبار غالبا و كانت متأخرة عن متعلق القدرة.

و وجه ثان:أن النظر في الحكمة بعد النظر في المفعول و العلم به،فينتقل منه إلى النظر فيما أودعه من الحكم و المعاني.

و وجه الثالث:أن الحكمة غاية الفعل،فهي متأخرة عنه تأخر الغايات عن وسائلها، فالقدرة تتعلق بإيجاده،و الحكمة تتعلق بغايته،فقدم الوسيلة على الغاية؛لأنها أسبق في الترتيب الخارجي.

و أما قوله تعالى: يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222]،ففيه معنى آخر سوى ما ذكره،هو أن الطهر طهران:طهر بالماء من الأحداث و النجاسات،و طهر بالتوبة من الشرك و المعاصي.

و هذا الطهور أصل لطهور الماء،و طهور الماء لا ينفع بدونه،بل هو مكمل له معد مهيأ بحصوله،فكان أولى بالتقديم؛لأن العبد أول ما يدخل في الإسلام فقد تطهر بالتوبة من الشرك ثم يتطهر بالماء من الحدث.

و أما قوله: كُلِّ أَفّاكٍ أَثِيمٍ (222)[الشعراء:222]،فالإفك:هو الكذب و هو في القول، و الإثم:هو الفجور و هو في الفعل،و الكذب يدعو إلى الفجور،كما في الحديث الصحيح:

«أن الكذب يدعو إلى الفجور و أن الفجور يدعو إلى النار» (1)،فالذي قاله صحيح.

و أما كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ [المطففين:12]ففيه معنى ثان غير ما ذكره،و هو أن العدوان مجاوزة الحد الذي حد للعبد،فهو ظلم في القدر و الوصف،و أما الإثم فهو محرم الجنس، و من تعاطى تعدى الحدود،تخطى إلى الجنس الآخر و هو الإثم.

و معنى ثالث،و هو أن المعتدي الظالم لعباد اللّه عدوانا عليهم،و الأثيم الظالم لنفسه بالفجور،فكان تقديمه هنا على الأثيم أولى؛لأنه في سياق ذمه و النهي عن طاعته،فمن كان معتديا على العباد ظالما لهم فهوى أحرى بأن لا يطيعه و يوافقه.

و فيه معنى رابع،و هو أنه قدمه على الأثيم ليقترن بما قبله و هو وصف المنع للخير،ه.

ص: 230


1- مسلم(103/2607)في البر و الصلة،باب:قبح الكذب،و حسن الصدق،و فضله.

فوصفه بأنه لا خير فيه للناس و أنه مع ذلك معتد عليهم فهو متأخر عن المناع،لأنه يمنع خيره أولا ثم يعتدي عليهم ثانيا؛و لهذا يحمد الناس من يوجد لهم الراحة و يكف عنهم الأذى و هذا هو حقيقة التصوف (1)،و هذا لا راحة يوجدها و لا أذى يكفه.

و أما تقديم«هماز»على«مشاء بنميم»ففيه معنى آخر غير ما ذكره،و هو أن همزه عيب للمهموز و إزراء به و إظهار لفساد حالة في نفسه فإن قاله يختص بالمهموز لا يتعداه إلى غيره، و المشي بالنميمة يتعداه إلى من ينم عنده،فهو ضرر متعد،و الهمز ضرره لازم للمهموز إذا شعر به ما ينتقل من الأذى اللازم إلى الأذى المتعدي المنتشر.

و أما تقديم«الرجال»على«الركبان»ففيه فائدة جليلة و هي أن اللّه شرط في الحج الاستطاعة و لا بد من السفر إليه لغالب الناس،فذكر نوعي الحجاج،لقطع توهم من يظن أنه لا يجب إلا على راكب،و قدم الرجال اهتماما بهذا المعنى و تأكيدا،و من الناس من يقول:قدمهم جبرا لهم؛لأن نفوس الركبان تزدريهم و توبخهم،و تقول:إن اللّه لم يكتبه عليكم و لم يرده منكم،و ربما توهموا أنه غير نافع لهم،فبدأ بهم جبرا لهم و رحمة.

و أما تقديم غسل الوجه ثم اليد،ثم مسح الرأس ثم الرجلين في الوضوء،فمن يقول:

إن هذا الترتيب واجب و هو الشافعي و أحمد و من وافقهما،فالآية عندهم اقتضت التقديم وجوبا لقرائن عديدة:

أحدها:أنه أدخل ممسوحا بين مغسولين،وقع النظير عن نظيره،و لو أريد الجمع المطلق،لكان المناسب أن يذكر المغسولات متسقة في النظم،و الممسوح بعدها،فلما عدل إلى ذلك،دل على وجوب ترتيبها على الوجه الذي ذكره اللّه.

الثاني:أن هذه الأفعال هي أجزاء فعل واحد مأمور به،و هو الوضوء فدخلت الواو لأجزائه بعضها على بعض،و الفعل الواحد يحصل من ارتباط أجزائه بعضها ببعض،فدخلت بعضها على بعض،و الفعل الواحد يحصل من ارتباط أجزائه بعضها ببعض،فدخلت الواو بين الأجزاء للربط فأفادت الترتيب؛إذ هو الربط المذكور في الآية و لا يلزمه من كونها لا تفيد الترتيب بين الأفعال لا ارتباط بينهما،نحو: وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ [البقرة:110]، أ لا تفيده بين أجزاء فعل مرتبطة بعضها ببعض،فتأمل هذا الموضع و لطفه،و هذا أحد».

ص: 231


1- هذا من إنصاف العلامة ابن القيم رحمه اللّه تعالى حيث ينصف في أقواله و يأخذ الفائدة و الحكمة حيث وجدت و من تصفح مدارج السالكين وجد من ذلك الكثير،و انظر مقدمة«بدائع التفسير».

الأقوال الثلاثة في إفادة الواو للترتيب.و أكثر الأصوليين لا يعرفونه و لا يحكونه و هو قول ابن أبي موسى-من أصحاب أحمد-و لعله أرجح الأقوال (1).

الثالث:أن لبداءة الرب تعالى بالوجه دون سائر الأعضاء خاصة فيجب مراعاتها ألا تلغى و تهدر،فيهدر ما اعتبره اللّه،و يؤخر ما قدمه اللّه.

و قد أشار النبي صلى اللّه عليه و سلّم إلى أن«ما قدمه اللّه فإنه ينبغي تقديمه و لا يؤخر» (2)،بل يقدم ما قدمه اللّه و يؤخر ما أخره اللّه،فلما طاف بين الصفا و المروة بدأ بالصفا و قال:«نبدأ بما بدأ اللّه به».و في رواية للنسائي:«ابدءوا بما بدأ اللّه به» (3)على الأمر،فتأمل بداءته بالصفا معللا ذلك بكون اللّه بدأ به فلا ينبغي تأخيره،و هكذا يقول المرتبون للوضوء سواء:نحن نبدأ بما بدأ اللّه به،و لا يجوز تأخير ما قدمه اللّه،و يتعين البداءة بما بدأ اللّه به و هذا هو الصواب؛لمواظبة المبين عن اللّه مراده على الوضوء المرتب،فاتفق جميع من نقل عنه وضوءه كلهم على إيقاعه مرتبا،و لم ينقل عنه أحد قط أنه أخل بالترتيب مرة واحدة فلو كان الوضوء المنكوس مشروعا لفعله و لو في عمره مرة واحدة،لتبين جوازه لأمته هذا بحمد اللّه أوضح (4).

و أما تقديم«النبيين»على«الصديقين»فلما ذكره،و لكون الصديق تابعا للنبي،فإنما استحق اسم«الصديق»بكمال تصديقه للنبي،فهو تابع محض،و تأمل تقديم الصديقين على الشهداء؛لفضل الصديقين عليهم،و تقديم«الشهداء»على«الصالحين»؛لفضلهم عليهم.

و أما تقديم«السمع»على«البصر»،فهو متقدم عليه حيث وقع في القرآن مصدرا أو فعلا أو اسما،فالأول كقوله تعالى: إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً [الإسراء:36].الثاني:كقوله تعالى: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَ أَرى [طه:46].و الثالث:

كقوله تعالى: سَمِيعٌ بَصِيرٌ [الحج:61] إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء:1] وَ كانَ اللّهُ سَمِيعاً بَصِيراً [النساء:134]فاحتج بهذا من يقول:إن السمع أشرف من البصر،و هذا قوله.

ص: 232


1- انظر المقدمة.
2- مسلم(147/1218)في الحج:باب:حجة النبي صلى اللّه عليه و سلم،و أبو داود(1905)في الحج،باب:أمر الصفا و المروة.
3- النسائي(2970)في الحج،باب:ذكر الصفا و المروة.
4- و لو تأمل أهل التحقيق هذه المسألة،لكان كثير من الخلاف قد اضمحل،و كثير من النزاع تلاشى و لكن هي الآراء التي أفسدت كثيرا من الأحوال و لا حول و لا قوّة إلا باللّه.

الأكثرين،و هو الذي ذكره أصحاب الشافعي،و حكوا هم و غيرهم عن أصحاب أبي حنيفة أنهم قالوا:البصر أفضل.و نصبوا معهم الخلاف،و ذكروا الحجاج من الطرفين و لا أدري ما يترتب على هذا المسألة من الأحكام حتى تذكر في كتب الفقه،و كذلك القولان للمتكلمين و المفسرين (1).

و حكى أبو المعالي عن ابن قتيبة تفضيل البصر،ورد عليه،و احتج مفضلو السمع بأن اللّه تعالى يقدمه في القرآن حيث وقع،و بأن بالسمع تنال سعادة الدنيا و الآخرة،فإن السعادة بأجمعها في طاعة الرسل و الإيمان بما جاءوا به،و هذا إنما يدرك بالسمع؛و لهذا في الحديث الذي رواه أحمد و غيره من حديث الأسود بن سريع:«ثلاثة كلهم يدلي على اللّه بحجته يوم القيامة»فذكر منهم رجلا أصم يقول:«يا رب،لقد جاء الإسلام و أنا لا أسمع شيئا» (2).و احتجوا بأن العلوم الحاصلة من السمع أضعاف أضعاف العلوم الحاصلة من البصر،فإن البصر لا يدرك إلا بعض الموجودات المشاهدة بالبصر القريبة،و السمع يدرك الموجودات و المعدومات،و الحاضر و الغائب،و القريب و البعيد،و الواجب و الممكن و الممتنع،فلا نسبة لإدراك البصر إلى إدراكه.

و احتجوا بأن فقد السمع ثلم القلب و اللسان،و لهذا كان الأطرش خلقه..لا ينطق في الغالب،و أما فقد البصر فربما كان معينا على قوة إدراك البصيرة و شدة ذكائها،فإن نور البصر ينعكس إلى البصيرة باطنا فيقوي إدراكها و يعظم؛و لهذا تجد كثيرا من العميان أو أكثرهم عندهم من الذكاء الوقاد،و الفطنة،و ضياء الحس الباطن،ما لا تكاد تجده عند البصير،و لا ريب أن سفر البصر في الجهات و الأقطار و مباشرته للمبصرات على اختلافها يوجب تفرق القلب و تشتيته؛و لهذا كان الليل أجمع للقلب و الخلوة و أعون على إصابة الفكرة،قالوا:فليس نقص فاقد السمع كنقص فاقد البصر.و لهذا كثير في العلماء و الفضلاء و أئمة الإسلام،من هو أعمى و لم يعرف فيهم واحد أطرش،بل لا يعرف في الصحابة أطرش،فهذا و نحوه من احتجاجهم على تفضيل البصر.

قال منازعوهم:يفصل بيننا و بينكم أمران:

أحدهما:أن مدرك البصر النظر إلى وجه اللّه تعالى في الدار الآخرة،و هو نعيم أهل».

ص: 233


1- انظر هامش(3)في الصفحة السابقة،و رحم ابن القيم صاحب الفقه الحي،لا الآراء التي هي كالشوك في خلق العلم و أهله.
2- أحمد(24/4)،و قال الهيثمي في المجمع(218/7،219):«رجال أحمد رجال الصحيح».

الجنة إليهم،و لا شيء أكمل من المنظور إليه-سبحانه-فلا حاسة في العبد أكمل من حاسة تراه بها.

الثاني:أن هذا النعيم و هذا العطاء إنما نالوه بواسطة السمع،فكان السمع كالوسيلة لهذا المطلوب الأعظم،فتفضيله عليه كفضيلة الغايات على وسائلها.و أما ما ذكرتم من سعة إدراكاته و عمومها،فيعارضه كثرة الخيانة فيها و وقوع الغلط،فإن الصواب فيما يدركه السمع بالإضافة إلى كثرة المسموعات قليل في كثير،و يقابل كثير مدركاته صحة مدركات البصر و عدم الخيانة،و أن ما يراه و يشاهده لا يعرض فيه من الكذب ما يعرض فيه فيما يسمعه، و إذا تقابلت المرتبتان بقي الترجيح بما ذكرناه.

و قال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية-قدس اللّه روحه و نوّر ضريحه-:و فصل الخطاب أن إدراك السمع أعم و أشمل،و إدراك البصر أتم و أكمل،فهذا له التمام و الكمال، و ذاك له العموم و الشمول،فقد ترجح كل منهما على الآخر بما اختص به،تم كلامه (1).

و قد ورد في الحديث المشهور:أن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال لأبي بكر و عمر:«هذان السمع و البصر» (2).و هذا يحتمل أربعة أوجه:

أحدها:أن يكون المراد أنهما مني بمنزلة السمع و البصر.

و الثاني:أن يريد أنهما من دين الإسلام بمنزلة السمع و البصر من الإنسان،فيكون الرسول صلى اللّه عليه و سلم بمنزلة القلب و الروح،و هما بمنزلة السمع و البصر من الدين.

و على هذا فيحتمل وجهين،أحدهما:التوزيع،فيكون أحدهما بمنزلة السمع و الآخر بمنزلة البصر.

و الثاني:الشركة،فيكون هذا التنزيل و التشبيه بالحاستين ثابتا لكل واحد منهما،فكل منهما بمنزلة السمع و البصر.

فعلى احتمال التوزيع و التقسيم تكلم الناس أيهما هو السمع و أيهما هو البصر،و بنوا ذلك على أي الصفتين أفضل،فهي صفة الصديق.

و التحقيق أن صفة البصر للصديق و صفة السمع للفاروق.و يظهر لك هذا من كون عمر محدثا كما قال النبي صلى اللّه عليه و سلم:«قد كان في الأمم قبلكم محدثون،فإن يكن في هذه الأمة أحد».

ص: 234


1- و هذا الكلام من فتح اللّه تعالى عليه،رحمه اللّه،و حسمه للمسألة إرشاد للباحث إلى وسائل قطع النزاع.
2- مجمع الزوائد(55/9)،و قال:«رواه الطبراني،و فيه فرات بن السائب و هو متروك».

فعمر»

(1) .و التحديث المذكور هو ما يلقى في القلب من الصواب و الحق و هذا طريقة السمع الباطن،و هو بمنزلة التحديث و الإخبار في الأذن،و أما الصديق فهو الذي كمل مقام الصديقية لكمال بصيرته،حتى كأنه قد باشر بصره مما أخبر به الرسول،ما باشر قلبه،فلم يبق بينه و بين إدراك البصر إلا حجاب الغيب،فهو كأنه ينظر إلى ما أخبر به من الغيب من وراء ستوره.و هذا لكمال البصيرة،و هذا أفضل مواهب العبد،و أعظم كراماته التي يكرم بها،و ليس بعد درجة النبوة إلا هي،و لهذا جعلها-سبحانه-بعدها فقال: وَ مَنْ يُطِعِ اللّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصّالِحِينَ [النساء:69] و هذا هو الذي سبق به الصديق لا بكثرة صوم و لا بكثرة صلاة،و صاحب هذا يمشي رويدا و يجيء في الأول.و لقد تعناه من لم يكن سيره على هذا الطريق و تشميره إلى هذا العلم، و قد سبق من شمر إليه و إن كان يزحف زحفا و يحبو حبوا.

و لا تستطل هذا الفصل فإنه أهم مما قصد بالكلام.فليعد إليه.

فقيل:تقديم السمع على البصر له سببان،أحدهما:أن يكون السياق يقتضيه،بحيث يكون ذكرها بين الصفتين،متضمنا للتهديد و الوعيد،كما جرت عادة القرآن بتهديد المخاطبين و تحذيرهم بما يذكره من صفاته التي تقتضي الحذر و الاستقامة،كقوله: فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)[البقرة]،و قوله: مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ كانَ اللّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134)[النساء].

و القرآن مملوء من هذا،و على هذا فيكون في ضمن ذلك أني أسمع ما يردون به عليك و ما يقابلون به رسالاتي،و أبصر ما يفعلون،و لا ريب أن المخاطبين بالرسالة بالنسبة إلى الإجابة و الطاعة نوعان:

أحدهما:قابلوها بقولهم:صدقت ثم عملوا بموجبها.

و الثاني:قابلوها بالتكذيب،ثم عملوا بخلافها،فكانت مرتبة المسموع منهم قبل مرتبة البصر،فقدم ما يتعلق به على ما يتعلق بالمبصر،و تأمل هذا المعنى في قوله تعالى لموسى:

إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَ أَرى [طه:46]،هو يسمع ما يجيبهم و يرى ما يصنعه.و هذا لا يعم سائر المواضع،بل يختص منها بما هذا شأنه.

و السبب الثاني:أن إنكار الأوهام الفاسدة لسمع الكلام،مع غاية البعد بين السامع و المسموع،أشد من إنكارها لرؤيته مع بعده.و في«الصحيحين»عن ابن مسعود قال:اجتمع عند البيت ثلاثة نفر:ثقفيان و قرشي،أو قرشيان و ثقفي،فقال أحدهم:أ ترون اللّه يسمع ماا.

ص: 235


1- أخرجه البخاري(3210)في المناقب،و مسلم(46)و رواه غيرهما.

نقول؟فقال الآخر:يسمع إن جهرنا و لا يسمع إن أخفينا،فقال الثالث:إن كان يسمع إذا جهرنا فهو يسمع إذا أخفينا.و لم يقولوا:أ ترون اللّه يرانا،فكان تقديم السمع أهم، و الحاجة إلى العلم به أمس.

و سبب ثالث:و هو أن حركة اللسان بالكلام أعظم حركات الجوارح و أشدها تأثيرا في الخير و الشر و الصلاح و الفساد،بل عامة ما يترتب في الوجود من الأفعال إنما ينشأ بعد حركة اللسان،فكان تقديم الصفة المتعلقة به أهم و أولى،و بهذا يعلم تقديمه على العليم،حيث وقع.

و أما تقديم السماء على الأرض ففيه معنى آخر غير ما ذكره و هو أن غالبا تذكر السموات و الأرض في سياق آيات الرب الدالة على وحدانيته و ربوبيته،و معلوم أن الآيات في السموات أعظم منها في الأرض لسعتها و عظمها و ما فيها من كواكبها و شمسها و قمرها و بروجها و علوها و استغنائها عن عمد تقلها أو علاقة ترفعها،إلى غير ذلك من عجائبها التي تعتبر الأرض و ما فيها كقطرة في سعتها،و لهذا أمر-سبحانه-بأن يرجع الناظر البصر فيها كرة بعد كرة،و يتأمل استواءها و اتساقها و براءتها من الخلل و الفطور،فالآية فيها أعظم من الأرض و في كل شيء له آية سبحانه و بحمده.

و أما تقديم الأرض عليها في قوله: وَ ما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ [يونس:61]،و تأخيرها عنها في«سبأ»فتأمل كيف وقع هذا الترتيب في«سبأ»في ضمن قول الكفار: لا تَأْتِينَا السّاعَةُ قُلْ بَلى وَ رَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ [سبأ:3]،كيف قدم السموات هنا؟لأن الساعة إنما تأتي من قبلها و هي غيب فيها و من جهتها تبتدئ و تنشأ،و لهذا قدم صعق أهل السموات على أهل الأرض عندها، فقال تعالى: وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ [الزمر:68].

و أما تقديم الأرض على السماء في سورة يونس[الآية 61]،فإنه لما كان السياق سياق تحذير و تهديد للبشر و إعلامهم أنه-سبحانه-عالم بأعمالهم دقيقها و جليلها،و أنه لا يغيب عنه منها شيء،اقتضى ذلك ذكر محلهم و هو الأرض قبل ذكر السماء،فتبارك من أودع كلامه من الحكم و الأسرار و العلوم ما يشهد أنه كلام اللّه،و أن مخلوقا لا يمكن أن يصدر منه مثل هذا الكلام أبدا.

و أما تقديم المال على الولد فلم يطرد في القرآن بل قد جاء مقدما كذلك في قوله:

وَ ما أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ [سبأ:37]،و قوله: أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15]،و قوله: لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ [المنافقون:9]و جاء

ص: 236

ذكر البنين مقدما كما في قوله: قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ وَ إِخْوانُكُمْ وَ أَزْواجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ وَ أَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها [التوبة:24]،و قوله: زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِينَ وَ الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ [آل عمران:14].

فأما تقديم الأموال في تلك المواضع الثلاثة،فلأنها ينتظمها معنى واحد،و هو التحذير من الاشتغال بها و الحرص على تحصيلها،حتى يفوته حظه من اللّه و الدار الآخرة،نهى (1)في موضع عن الالتهاء بها،و أخبر في موضع أنها فتنة،و أخبر في موضع آخر أن الذي يقرب عباده إليه إيمانهم و عملهم الصالح لا أموالهم و لا أولادهم،ففي ضمن هذا النهي عن الاشتغال بها عما يقرب إليه.و معلوم أن اشتغال الناس بأموالهم و التلاهي بها،أعظم من اشتغالهم بأولادهم.و هذا هو الواقع حتى إن الرجل ليستغرقه اشتغاله بماله عن مصلحة ولده و عن معاشرته و قربه.

و أما تقديمهم على الأموال في تينك الآيتين فلحكمة باهرة،و هي أن«براءة»متضمنة لوعيد من كانت تلك الأشياء المذكورة فيها،أحب إليه من الجهاد في سبيل اللّه،و معلوم أن تصور المجاهد فراق أهله و أولاده و آبائه و إخوانه و عشيرته،تمنعه من الخروج عنهم أكثر مما يمنعه مفارقته ماله،فإن تصور مع هذا أن يقتل فيفارقهم فراق الدهر نفرت نفسه عن هذه أكثر و أكثر،و لا يكاد عند هذا التصور يخطر له مفارقة ماله،بل يغيب بمفارقة الأحباب عن مفارقة المال،فكان تقديم هذا الجنس أولى من تقديم المال.

و تأمل هذا الترتيب البديع في تقديم ما قدم و تأخير ما أخر،يطلعك على عظمة هذا الكلام و جلالته،فبدأ أولا بذكر أصول العبد،و هم آباؤه المتقدمون طبعا و شرفا و رتبة، و كان فخر القوم بآبائهم و محاماتهم عن آبائهم و مناضلتهم عنهم إلى أن احتملوا القتل و سبي الذرية،و لا يشهدون على آبائهم بالكفر و النقيصة،و يرغبون عن دينهم لما في ذلك من إزرائهم بهم.

ثم ذكر الفروع و هم الأبناء لأنهم يتلونهم في الرتبة،و هم أقرب أقاربهم إليهم و أعلق بقلوبهم و ألصق بأكبادهم من الإخوان و العشيرة.

ثم ذكر الإخوان و هم الكلالة و حواشي النسب،فذكر الأصول أولا ثم الفروع ثانيا،ثم النظراء ثالثا،ثم الأزواج رابعا؛لأن الزوجة أجنبية عنده،و يمكن أن يتعوض عنها بغيرها،».

ص: 237


1- في المطبوعة«فهي».

و هي إنما تراد للشهوة.و أما الأقارب من الآباء و الأبناء و الإخوان فلا عوض عنهم، و يرادون للنصرة و الدفاع،و ذلك مقدم على مجرد الشهوة.

ثم ذكر القرابة البعيدة خامسا و هي العشيرة و بنو العم؛فإن عشائرهم كانوا بني عمتهم غالبا و إن كانوا أجانب فأولى بالتأخير.

ثم انتقل إلى ذكر الأموال بعد الأقارب سادسا،و وصفها بكونها مقترفة أي مكتسبة؛ لأن القلوب إلى ما اكتسبته من المال أميل و له أحب و بقدره أعرف لما حصل له فيه من التعب و المشقة،بخلاف مال جاء عفوا بلا كسب من ميراث أو هبة أو وصية،فإن حفظه للأول و مراعاته له و حرصه على بقائه أعظم من الثاني،و الحس شاهد بهذا،و حسبك به.

ثم ذكر التجارة سابعا؛لأن محبة العبد للمال أعظم من محبته للتجارة التي يحصله بها، فالتجارة عنده وسيلة إلى المال المقترف،فقدم المال على التجارة تقديم الغايات على وسائلها،ثم وصف التجارة بكونها مما يخشى كسادها،و هذا يدل على شرفها و خطرها، و أنه قد بلغ قدرها إلى أنها مخوفة الكساد.

ثم ذكر الأوطان ثامنا آخر المراتب؛لأن تعلق القلب بها دون تعلقه بسائر ما تقدم،فإن الأوطان تتشابه،و قد يقوم الوطن الثاني مقام الأول من كل وجه و يكون خيرا منه،فمنها عوض.و أما الآباء و الأبناء و الأقارب و العشائر فلا يتعوض منها بغيرها،فالقلب و إن كان يحن إلى وطنه الأول،فحنينه إلى آبائه و أبنائه و زوجاته أعظم،فمحبة الوطن آخر المراتب، و هذا هو الواقع إلا لعارض يترجح عنده إيثار البعيد على القريب فذلك جزئي لا كلي فلا تناقض به،و أما عند عدم العوارض،فهذا هو الترتيب المناسب و الواقع.

و أما آية آل عمران،فإنها لما كانت في سياق الإخبار بما زين للناس من الشهوات التي آثروها على ما عند اللّه و استغنوا بها،قدم ما تعلق الشهوة به أقوى و النفس إليه أشد سعرا و هو النساء،التي فتنتهن أعظم فتن الدنيا،و هي القيود التي حالت بين العباد و بين سيرهم إلى اللّه،ثم ذكر البنين المتولدين منهن،فالإنسان يشتهي المرأة للّذة و الولد،و كلاهما مقصود له لذاته،ثم ذكر شهوة الأموال،لأنها تقصد لغيرها فشهوتها شهوة الوسائل،و قدم أشرف أنواعها،و هو الذهب،ثم الفضة بعده،ثم ذكر الشهوة المتعلقة بالحيوان الذي لا يعاشر عشرة النساء و الأولاد،فالشهوة المتعلقة به دون الشهوة المتعلقة بها.و قدم أشرف هذا النوع و هو الخيل،فإنها حصون القوم و معاقلهم و عزهم و شرفهم،فقدمها على الأنعام التي هي الإبل و البقر و الغنم،ثم ذكر الأنعام و قدمها على الحرث؛لأن الجمال بها

ص: 238

و الانتفاع أظهر و أكثر من الحرث كما قال تعالى: وَ لَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَ حِينَ تَسْرَحُونَ (6)[النحل].و الانتفاع بها أكثر من الحرث،فإنها ينتفع بها ركوبا و أكلا و شربا و لباسا و أمتعة و أسلحة و دواء و قنية،إلى غير ذلك من وجوه الانتفاع،و أيضا فصاحبها أعز من صاحب الحرث و أشرف و هذا هو الواقع فإن صاحب الحرث لا بد له من نوع مذلة؛و لهذا قال بعض السلف-و قد رأى سكة:ما دخل هذا دار قوم إلا دخلهم الذل،فجعل الحرث في آخر المراتب وضعا له في موضعه.

و يتعلق بهذا نوع آخر من التقديم لم يذكره،و هو تقديم الأموال على الأنفس في الجهاد حيث ما وقع في القرآن إلا في موضع واحد و هو قوله:

إِنَّ اللّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ [التوبة:111]،و أما سائر المواضع فقدم فيها المال نحو قوله: وَ تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ [الصف:11]و قوله: وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ [التوبة:20]،و هو كثير فما الحكمة في تقديم المال على النفس،و ما الحكمة في تأخيره في هذا الموضع وحده؟و هذا لم يتعرض له السهيلي رحمه اللّه.

فيقال أولا:هذا دليل على وجوب الجهاد بالمال،كما يجب بالنفس،فإذا دهم العدو وجب على القادر الخروج بنفسه،فإن كان عاجزا وجب عليه أن يكتري بماله،و هذا إحدى الروايتين عن الإمام أحمد،و الأدلة عليها أكثر من أن تذكر هنا.

و من تأمل أحوال النبي صلى اللّه عليه و سلم و سيرته في أصحابه و أمرهم بإخراج أموالهم في الجهاد قطع بصحة هذا القول،و المقصود تقديم المال في الذكر،و إن ذلك مشعر بإنكار،و هم من يتوهم أن العاجز بنفسه إذا كان قادرا على أن يغزي بماله لا يجب عليه شيء،فحيث ذكر الجهاد قدم ذكر المال فكيف يقال:لا يجيب به،و لو قيل:إن وجوبه بالمال أعظم و أقوى من وجوبه بالنفس،لكان هذا القول أصح من قول من قال:لا يجب بالمال،و هذا بين و على هذا فتظهر الفائدة في تقديمه في الذكر.

و فائدة ثانية على تقدير عدم الوجوب،و هي:أن المال محبوب النفس و معشوقها التي تبذل ذاتها في تحصيله و ترتكب الأخطار و تتعرض للموت في طلبه،و هذا يدل على أنه هو محبوبها و معشوقها،فندب اللّه تعالى محبيه المجاهدين في سبيله،إلى بذل معشوقهم و محبوبهم في مرضاته فإن المقصود أن يكون اللّه هو أحب شيء إليهم،و لا يكون في الوجود شيء أحب إليهم منه،فإذا بذلوا محبوبهم في حبه،نقلهم إلى مرتبة أخرى أكمل منها،و هي

ص: 239

بذل نفوسهم له.فهذا غاية الحب فإن الإنسان لا شيء أحب إليه من نفسه،فإذا أحب شيئا بذل له محبوبه من نفعه و ماله،فإذا آل الأمر إلى بذل نفسه ضن بنفسه و آثرها على محبوبه.

و هذا هو الغالب و هو مقتضى الطبيعة الحيوانية و الإنسانية؛و لهذا يدافع الرجل عن ماله و أهله و ولده،فإذا أحس بالمغلوبية و الوصول إلى مهجته و نفسه،فر و تركهم فلم يرض اللّه من محبيه بهذا،بل أمرهم أن يبذلوا له نفوسهم بعد أن بذلوا له محبوباتها.و أيضا فبذل النفس آخر المراتب،فإن العبد يبذل ماله أولا يقي به نفسه،فإذا لم يبق له مال بذل نفسه،فكان تقديم المال على النفس في الجهاد مطابقا للواقع.

و أما قوله: إِنَّ اللّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ [التوبة:111]فكان تقديم الأنفس هو الأولى لأنها هي المشتراة في الحقيقة و هي مورد العقد و هي السلعة التي استامها ربها و طلب شراءها لنفسه و جعل ثمن هذا العقد رضاء و جنته،فكانت هي المقصود بعقد الشراء،و الأموال تبع لها؛فإذا ملكها مشتريها ملك مالها،فإن العبد و ما يملكه لسيده ليس له فيه شيء،فالمالك الحق إذا ملك النفس ملك أموالها و متعلقاتها،فحسن تقديم النفس على المال في هذه الآية حسنا لا مزيد عليه.

فلنرجع إلى كلام السهيلي-رحمه اللّه-و أما ما ذكره من تقديم الغفور على الرحيم فحسن جدا.

و أما تقديم الرحيم على الغفور في موضع واحد و هو«أول سبأ»،ففيه معنى غير ما ذكره،يظهر لمن تأمل سياق أوصافه العلى،و أسمائه الحسنى،في أول السورة إلى قوله:

وَ هُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ،فإنه ابتدأ-سبحانه-السورة بحمده الذي هو أعم المعارف و أوسع العلوم،و هو متضمن لجميع صفات كماله و نعوت جلاله،مستلزم لها كما هو متضمن لحكمته في جميع أفعاله و أوامره،فهو المحمود على كل حال و على كل ما خلقه و شرعه،ثم عقب هذا الحمد بملكه الواسع المديد،فقال: اَلْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ، ثم عقبه بأن هذا الحمد ثابت له في الآخرة غير منقطع أبدا،فإنه حمد يستحقه لذاته و كمال أوصافه،و ما يستحقه لذاته دائم بدوامه لا يزول أبدا،و قرن بين الملك و الحمد على عادته تعالى في كلامه،فإن اقتران أحدهما بالآخر له كمال زائد على الكمال بكل واحد منهما،فله كمال من ملكه و كمال و من حمده و كمال من اقتران أحدهما بالآخر،فإن الملك بلا حمد يستلزم نقصا،و الحمد بلا ملك يستلزم عجزا،و الحمد مع الملك غاية الكمال،و نظير هذا العزة و الرحمة،و العفو و القدرة،و الغنى و الكرم.فوسط الملك بين الجملتين،فجعله

ص: 240

محفوفا بحمد قبله و حمد بعده،ثم عقب هذا الحمد و الملك باسم اَلْحَكِيمُ الْخَبِيرُ الدالين على كمال الإرادة و أنها لا تتعلق بمراد إلا لحكمة بالغة و على كمال العلم،و أنه يتعلق بظواهر المعلومات فهو متعلق ببواطنها التي لا تدرك إلا بخبرة،فنسبة الحكمة إلى الإرادة كنسبة الخبرة إلى العلم،فالمراد ظاهر و الحكمة باطنه،و العلم ظاهر و الخبرة باطنه،فكمال الإرادة أن تكون واقعة على وجه الحكمة،و كمال العلم أن يكون كاشفا عن الخبرة،فالخبرة باطن العلم و كماله و الحكمة باطن الإرادة و كمالها.فتضمنت الآية إثبات حمده و ملكه،و حكمته و علمه على أكمل الوجود.

ثم ذكر تفاصيل علمه بما ظهر و ما بطن في العالم العلوي و السفلي،فقال: يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَ ما يَخْرُجُ مِنْها وَ ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَ ما يَعْرُجُ فِيها [الحديد:4]ثم ختم الآية بصفتين تقتضيان غاية الإحسان إلى خلقه،و هما الرحمة و المغفرة،فيجلب لهم الإحسان و النفع على أتم الوجوه برحمته،و يعفو عن زلتهم،و يهب لهم ذنوبهم و لا يؤاخذهم بها بمغفرته،فقال:

وَ هُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ [سبأ:2]،فتضمنت هذه الآية سعة علمه و رحمته و مغفرته،و هو -سبحانه-يقرن بين سعة العلم و الرحمة كما يقرن بين العلم و الحلم،فمن الأول قوله:

رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً [غافر:7]؛و من الثاني: وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ [النساء:

12]فما قرن شيء إلى شيء أحسن من حلم إلى علم،و من رحمة إلى علم.و حملة العرش أربعة:اثنان يقولان:سبحانك اللهم ربنا و بحمدك،لك الحمد على حلمك بعد علمك، و اثنان يقولان:سبحانك اللهم ربنا و بحمدك،لك الحمد على عفوك بعد قدرتك (1).

فاقتران العفو بالقدرة كاقتران الحلم و الرحمة بالعلم؛لأن العفو إنما يحسن عند القدرة، و كذلك الحلم و الرحمة إنما يحسنان مع العلم،و قدم الرحيم في هذا الموضع لتقدم صفة العلم فحسن ذكر«الرحيم»بعده ليقترن به فيطابق قوله: رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً [غافر:7]ثم ختم الآية بذكر صفة المغفرة لتضمنها دفع الشر و تضمن ما قبلها جلب الخير،و لما كان دفع الشر مقدما على جلب الخير،قدم اسم الغفور على الرحيم حيث وقع.و لما كان في هذا الموضع تعارض يقتضي تقديم اسمه الرحيم لأجل ما قبله قدم على الغفور.

و أما قوله تعالى: يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَ اسْجُدِي وَ ارْكَعِي مَعَ الرّاكِعِينَ (43)[آل عمران]فقدب.

ص: 241


1- انظر الدرر المنثور للسيوطي(274/7)عن هارون بن رئاب بلفظ«حملة العرش ثمانية»و قال:أخرجه ابن المنذر و أبو الشيخ و البيهقي في الشعب.و ذكره ابن كثير(78/4)عن شهر بن حوشب.

أبعد النجعة فيما تعسفه من فائدة التقديم،و أتى بما ينبو اللفظ عنه.و قال غيره:السجود كان في دينهم قبل الركوع،و هذا قائل ما لا علم له به.

و الذي يظهر في الآية-و اللّه أعلم بمراده من كلامه-أنها اشتملت على مطلق العبادة و تفصيلها،فذكر الأعم ثم ما هو أخص منه،ثم ما هو أخص من الأخص.فذكر القنوت أولا و هو الطاعة الدائمة فيدخل فيه القيام و الذكر و الدعاء،و أنواع الطاعة.ثم ذكر ما هو أخص منه و هو السجود الذي يشرع وحده كسجود الشكر و التلاوة،و يشرع في الصلاة،فهو أخص من مطلق القنوت.

ثم ذكر الركوع الذي لا يشرع إلا في الصلاة،فلا يسن الإتيان به منفردا فهو أخص مما قبله.

ففائدة الترتيب النزول من الأعم إلى الأخص إلى أخص منه،و هما طريقتان معروفتان من الكلام:النزول من الأعم إلى الأخص و عكسها و هو الترقي من الأخص،إلى ما هو أعم منه الى ما هو أعمّ.

و نظيرها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ [الحج:77]فذكر أربعة أشياء،أخصها:الركوع،ثم السجود أعم منه،ثم العبادة أعم من السجود،ثم فعل الخير العام المتضمن لذلك كله و الذي يزيد هذا وضوحا الكلام على ما ذكره بعد هذه الآية من قوله: وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَ الْقائِمِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ [الحج:26]، فإنه ذكر أخص هذه الثلاثة،و هو الطواف الذي لا يشرع إلا بالبيت خاصة،ثم انتقل منه إلى الاعتكاف و هو القيام المذكور في الحج،و هو أعم من الطواف،لأنه يكون في كل مسجد و يختص بالمساجد لا يتعداها-ثم ذكر الصلاة التي تعم سائر بقاع الأرض سوى ما منع منه مانع أو استثنى شرعا.

و إن شئت قلت:ذكر الطواف الذي هو أقرب العبادات بالبيت،ثم الاعتكاف الذي يكون في سائر المساجد ثم الصلاة التي تكون في البلد كله بل في كل بقعة،فهذا تمام الكلام على ما ذكره من الأمثلة و له-رحمه اللّه-مزيد السبق و فضل التقدم (1).).

ص: 242


1- بدائع الفوائد(61/1-81).

دخول الشرط على الشرط

[صور دخول الشرط على الشرط]

دخول الشرط على الشرط له صور:

إحداها:إن خرجت و لبست فأنت طالق،لا يحنث إلا بهما كيفما كانا.

الثانية:إن لبست فخرجت،لم يحنث إلا بخروج بعد لبس.

الثالثة:إن لبست ثم خرجت،لا يحنث بخروجها بعد لبسها لا معه،و يكون متراخيا، هذا بناء على ظاهر اللفظ،و أما قصده فيراعى و لا يلتفت إلى هذا.

الرابعة:إن خرجت لا إن لبست،يحنث بالخروج وحده،و لا يحنث باللبس.

و يحتمل هذا التعليق أمرين:أحدهما:أن يجعل الخروج شرطا و يبقى أن يكون اللبس شرطا،فحكمه ما ذكرنا.الثاني:أن يجعل الخروج مع عدم اللبس شرطا فلا يحنث بخروج معه لبس،و يكون المعنى إن خرجت لا لابسة أو غير لابسة.فإن خرجت لابسة لم يحنث.

الخامسة:إن خرجت بل إن لبست،فلا يحنث إلا باللبس دون الخروج.و يحتمل هذا التعليق أيضا أمرين:أحدهما:هذا.و الثاني:أن يكون كل منهما شرطا،فيحنث بأيهما وجد،و يكون الإضراب إضراب اقتصار لا إضراب إلغاء،فكأنه يقول:لا أقتصر على جعل الأول وحده شرطا،بل أيهما وجد فهو شرط.فعلى التقدير الأول يكون إضراب إلغاء و رجوع،و على الثاني:إضراب اقتصار و إفراد.

السادسة:إن خرجت أو إن لبست يحنث بأيهما وجد.

السابعة:إن لبست لكن إن خرجت،فالشرط الثاني قد لغا الأول بلكن،لأنها للاستدراك.

الثامنة:و هي أشكلها:إن لبست إن خرجت،و هذه مسألة دخول الشرط على الشرط، و يحتمل التعليق في ذلك أمرين:أحدهما:أن يجعل كل واحد منهما شرطا مستقلا فيكون كالمعطوف بالواو سواء و لا إشكال.و الثاني:أن يجعل أحدهما شرطا في الآخر.

و اختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة؛فقال أصحاب مالك:هو تعليق للتعليق.ففي هذا الكلام تعليقان:أحدهما:إن لبست فأنت طالق،ثم علق هذه الجملة المعلقة

ص: 243

بالخروج.فكأنه قال:شرط نفوذ هذا التعليق الخروج،فعلى هذا لا يحنث حتى يوجد الخروج بعد اللبس،و ممن نص عليها ابن شاش في«الجواهر».

و قال أبو اسحاق في«المهذب».و قد صور المسألة:إن كلمت زيدا إن دخلت الدار فأنت طالق.ثم كلمت زيدا طلقت.و إن كلمت زيدا أولا،ثم دخلت الدار،لم تطلق؛لأنه جعل دخول الدار شرطا في كلام زيد،فوجب تقديمه عليه،و هكذا عكس قول المالكية.

و رجح أبو المعالي قول المالكية في نهايته،و قد وقع هذا التعليق في كتاب اللّه عز و جلّ في مواضع.

أحدها:قوله حكاية عن نوح وَ لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ [هود:34]و هذا ظاهر في أن الشرط الثاني شرط في الشرط الأول،و المعنى:إن أراد اللّه أن يغويكم لم ينفعكم نصحي إن أردته،و هذا يشهد لصحة ما قال الشيخ أبو إسحاق.

الموضع الثاني:قوله تعالى وَ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ [الأحزاب:50].قالوا:فهذه الآية ظاهرة في قول المالكية؛لأن إرادة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم متأخرة عن هبتها،فإنها تجري مجرى القبول في هذا العقد،و الإيجاب هو هبتها.و نظير هذا أن يقول:إن وهب لي شيئا إن أردت قبوله أخذته،فإرادة القبول متأخرة عن الهبة،فلا يكون شرطا فيها.قال الأولون:يجوز أن تكون إرادة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم متقدمة،فلما فهمت المرأة منه ذلك و هبت نفسها له،فيكون كالآية الأولى.و هذا غير صحيح،و القصة تأباه؛فإن المرأة قامت و قالت:يا رسول اللّه،إني وهبت لك نفسي.

فصعد فيها النظر و صوبه،ثم لم يتزوجها و زوجها غيره (1).

الموضع الثالث:قوله تعالى: فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ(86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87)[الواقعة].المعنى:فلو لا ترجعونها،أي تردون الروح إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مربوبين مملوكين إن كنتم صادقين.و هنا:الثاني شرط للأول،و المعنى:إن كنتم صادقين في قولكم فهلا تردونها إن كنتم غير مدينين.و يدل عليه قول الشاعر،أنشده عبد اللّه بن مالك:د.

ص: 244


1- البخاري(5635)في النكاح،باب:السلطان ولي،و مسلم(76/1425)في النكاح،باب:الصداق و جواز كونه تعليم قرآن و خاتم حديد.

إن تستغيثوا بنا إن تذعروا تجنوا منا معاقل عز زانها الكرم

و معلوم أن الاستغاثة إنما تكون بعد الذعر،فالذعر شرط فيها.و من هذا قول الدريدي:

فإن عثرت بعدها إن والت نفسي من هاتا فقولا لا لعا

و معلوم أن العثور مرة ثانية إنما يكون بعد النجاة من الأولى،ف«والت»شرط في الشرط الثاني.و على هذا فإذا ذكرت الشرطين و أتيت بالجواب كان جوابا للأول خاصة، و الثاني جرى معه مجرى الفضلة و التتمة كالحال و غيرها من الفضلات،قاله ابن مالك.

و أحسن من هذا أن يقال:ليس الكلام بشرطين يستدعيان جوابين،بل هو شرط واحد و تعليق واحد اعتبر في شرطه قيد خاص جعل شرطا فيه،و صار الجواب للشرط المقيد فهو جواب لهما معا بهذا الاعتبار.و إيضاحه أنك إذا قلت:إن كلمت زيدا إن رأيته فأنت طالق.جعلت الطلاق جزاء على كلام مقيد بالرؤية لا على كلام مطلق،و كأنه قال:إن كلمته ناظرة إليه فأنت طالق،و هذا يبين لك حرف المسألة،و يزيل عنك إشكالها جملة،و باللّه التوفيق (1)...

ص: 245


1- بدائع الفوائد(245/3-248)..

الروابط بين الجملتين

الروابط بين الجملتين هي الأدوات التي تجعل بينهما تلازما لم يفهم قبل دخولها و هي أربعة أقسام:

أحدها:ما يوجب تلازما مطلقا بين الجملتين،إما بين ثبوت و ثبوت أو بين نفي و نفي أو بين نفي و ثبوت و عكسه في المستقبل خاصة و هو حرف الشرط البسيط ك«إن»،فإنها تلازم بين هذه الصور كلها تقول:إن اتقيت اللّه أفلحت،و إن لم تتق اللّه لم تفلح،و إن أطعت اللّه لم تخب،و إن لم تطع اللّه خسرت؛و لهذا كانت أمّ الباب و أعم أدواته تصرفا.

القسم الثاني:أداة تلازم بين هذه الأقسام الأربعة تكون في الماضي خاصة و هي«لما» تقول:لما قام أكرمته،و كثير من النحاة يجعلها ظرف زمان.و تقول:إذا دخلت على الفعل الماضي فهي اسم،و إن دخلت على المستقبل فهي حرف.و نص سيبويه على خلاف ذلك، و جعلها من أقسام الحروف التي تربط بين الجملتين.

و مثال الأقسام الأربعة:لما قام أكرمته،و لما لم يقم لم أكرمه،و لما لم يقم أكرمته، و لما قام لم أكرمه.

القسم الثالث:أداة تلازم بين امتناع الشيء لامتناع غيره،و هي«لو»،نحو:لو أسلم الكافر نجا من عذاب اللّه.

القسم الرابع:أداة تلازم بين امتناع الشيء و وجود غيره،و هي«لو لا»،نحو:لو لا أن هدانا اللّه لضللنا،و تفصيل هذا الباب يرسم عشر مسائل:

المسألة الأولى:المشهور أن الشرط و الجزاء لا يتعلقان إلا بالمستقبل،فإن كان ماضي اللفظ كان مستقبل المعنى،كقولك:إن مت على الإسلام دخلت الجنة.ثم للنحاة فيه تقديران،أحدهما:أن الفعل ذو تغير في اللفظ،و كان الأصل:إن تمت مسلما تدخل الجنة.فغير لفظ المضارع إلى الماضي،تنزيلا له منزلة المحقق.و الثاني:أنه ذو تغير في المعنى و أن حرف الشرط لما دخل عليه قلب معناه إلى الاستقبال و بقي لفظه على حاله.

و التقدير الأول أفقه في العربية،لموافقته تصرف العرب في إقامتها الماضي مقام

ص: 246

المستقبل،و تنزيلها المنتظر منزلة الواقع المتيقن،نحوى أَتى أَمْرُ اللّهِ [النحل:1] وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ [الزمر:68]و نظائره،فإذا تقرر ذلك في الفعل المجرد،فليفهم مثله المقارن لأداة الشرط.و أيضا فإن تغيير الألفاظ أسهل عليهم من تغيير المعاني؛لأنهم يتلاعبون بالألفاظ مع محافظتهم على المعنى.و أيضا فإنهم إذا أعربوا الشرط أتوا بأداته،ثم أتبعوها فعله يتلوه الجزاء،فإذا أتوا بالأداة جاءوا بعدها بالفعل،و كان حقه أن يكون مستقبلا لفظا و معنى، فعدلوا عن لفظ المستقبل إلى الماضي لما ذكرنا،فعدلوا عن صيغة إلى صيغة.و على التقدير الثاني،كأنهم وضعوا فعل الشرط و الجزاء أولا ماضيين،ثم أدخلوا عليهما الأداة فانقلبا مستقبلين،و الترتيب و القصد يأبى ذلك فتأمله.

المسألة الثانية:قال تعالى عن عيسى عليه الصلاة و السلام: إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ [المائدة:116]فهذا شرط دخل على ماضي اللفظ،و هو ماضي المعنى قطعا؛لأن المسيح إما أن يكون صدر هذا الكلام منه بعد رفعه إلى السماء،أو يكون حكاية ما يقوله يوم القيامة.

و على التقديرين:فإنما تعلق الشرط و جزاؤه بالماضي.و غلط على اللّه من قال:إن هذا القول وقع منه في الدنيا قبل رفعه،و التقدير:إن أكن أقول هذا،فإنك تعلمه.و هذا تحريف للآية؛لأن هذا الجواب إنما صدر منه بعد سؤال اللّه له عن ذلك،و اللّه لم يسأله،و هو بين أظهر قومه و لا اتخذوه و أمه إلهين إلا بعد رفعه بمئين من السنين،فلا يجوز تحريف كلام اللّه انتصارا لقاعدة نحوية،هدم مائة أمثالها أسهل من تحريف معنى الآية.

و قال ابن السراج في«أصوله»:يجب تأويلهما بفعلين مستقبلين،تقديرهما:إن ثبت في المستقبل أني قلته في الماضي،يثبت أنك علمته،و كل شيء تقرر في الماضي كان ثبوته في المستقبل،فيحسن عليه.

و هذا الجواب أيضا ضعيف جدا،و لا ينبئ عنه اللفظ،و ليت شعري ما يصنعون بقول النبي صلى اللّه عليه و سلم:«إن كنت ألممت بذنب فاستغفري اللّه و توبي إليه» (1)هل يقول عاقل:إن الشرط هنا مستقبل؟أما التأويل الأول فمنتف هنا قطعا،و أما الثاني فلا يخفي وجه التعسف فيه، و أنه لم يقصد أنه يثبت في المستقبل أنك أذنبت في الماضي فتوبي،و لا قصد هذا المعنى، و إنما المقصود المراد ما دل عليه الكلام:إن كان صدر منك ذنب فيما مضى فاستقبليه بالتوبة،لم يرد إلا هذا الكلام.ف.

ص: 247


1- البخاري(4750)في التفسير،باب: وَ لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ [النور:16]،و مسلم(56/2770)في التوبة،باب:في حديث الإفك و قبول توبة القاذف.

و إذا ظهر فساد الجوابين فالصواب أن يقال:جملة الشرط و الجزاء تارة تكون تعليقا محضا غير متضمن جوابا لسائل:هل كان كذا؟و لا يتضمن لنفي قول من قال:قد كان كذا،فهذا يقتضي الاستقبال و تارة يكون مقصوده و مضمنه جواب سائل:هل وقع كذا؟أو رد قوله:قد وقع كذا؟فإذا علق الجواب هنا على شرط،لم يلزم أن يكون مستقبلا لا لفظا و لا معنى،بل لا يصح فيه الاستقبال بحال،كمن يقول لرجل:هل أعتقت عبدك؟فيقول:

إن كنت قد أعتقته،فقد أعتقه اللّه،فما للاستقبال هنا معنى قط.و كذلك إذا قلته لمن قال:

صحبت فلانا؟فيقول:إن كنت صحبته فقد أصبت بصحبته خيرا.و كذلك إذا قلت له:هل أذنبت؟فيقول:إن كنت قد أذنبت فإني قد تبت إلى اللّه و استغفرته،و كذلك إذا قال:هل قلت لفلان كذا؟و هو يعلم أنه علم بقوله له،فيقول:إن كنت قلته فقد علمته.فقد عرفت أن هذه المواضع كلها،مواضع ماض لفظا و معنى،ليطابق السؤال الجواب،و يصح التعليق الخبري لا الوعدي،فالتعليق الوعدي يستلزم الاستقبال،و أما التعليق الخبري فلا يستلزمه.

و من هذا الباب قوله تعالى: إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَ هُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ* وَ إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَ هُوَ مِنَ الصّادِقِينَ (27)[يوسف]،و تقول:إن كانت البينة شهدت بكذا و كذا فقد صدقت.و هذه دقيقة خلت عنها كتب النحاة و الفضلاء،و هي كما ترى وضوحا و برهانا،و للّه الحمد.

المسألة الثالثة:المشهور عند النحاة و الأصوليين و الفقهاء أن أداة«إن»لا يعلق عليها إلا محتمل الوجود و العدم،كقولك:إن تأتني أكرمك.و لا يعلق عليها محقق الوجود،فلا نقول:إن طلعت الشمس أتيتك.بل تقول:إذا طلعت الشمس أتيتك.و«إذا»يعلق عليها النوعان،و استشكل هذا بعض الأصوليين فقال:قد وردت«إن»في القرآن في معلوم الوقوع قطعا،كقوله: وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا [البقرة:23]،و هو-سبحانه-يعلم أن الكفار في ريب منه.و قوله: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النّارَ [البقرة:24]،و معلوم قطعا انتفاء فعلهم.

و أجاب عن هذا بأن قال:إن الخصائص الإلهية لا تدخل في الأوضاع العربية،بل الأوضاع العربية مبنية على خصائص الخلق.و اللّه تعالى أنزل القرآن بلغة العرب و على منوالهم،فكل ما كان في عادة العرب حسنا أنزل القرآن على ذلك الوجه،أو قبيحا لم ينزل في القرآن،فكل ما كان شأنه أن يكون في العادة مشكوكا فيه بين الناس حسن تعليقه ب«إن» من قبل اللّه و من قبل غيره،سواء كان معلوما للمتكلم أو للسامع أم لا.

ص: 248

و كذلك يحسن من الواحد منا أن يقول:إن كان زيد في الدار فأكرمه مع علمه بأنه في الدار،لأن حصول زيد في الدار شأنه أن يكون في العادة مشكوكا فيه فهذا هو الضابط لما تعلق على«إن»فاندفع الإشكال.

قلت:هذا السؤال لا يرد،فإن الذي قاله القوم أن الواقع و لا بد لا يعلق ب«إن»و أما ما يجوز أن يقع و يجوز ألا يقع،فهو الذي يعلق بها و إن كان بعد وقوعه متعين الوقوع.و إذا عرفت هذا فتدبر قوله تعالى: وَ إِنّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ [الشورى:48]كيف أتى في تعليق الرحمة المحققة إصابتها من اللّه تعالى،«بإذا»و أتى في إصابة السيئة«بإن»،فإن ما يعفو اللّه عنه أكثر،و أتى في الرحمة بالفعل الماضي الدال على تحقيق الدال على تحقيق الوقوع،و في حصول السيئة بالمستقبل الدال على أنه غير محقق و لا بد،و كيف أتى في وصول الرحمة بفعل الإذاقة الدال على مباشرة الرحمة لهم،و أنها مذوقة لهم و الذوق هو أخص أنواع الملابسة و أشدها، و كيف أتى في الرحمة بحرف ابتداء الغاية مضافا إليه،فقال: مِنّا رَحْمَةً [الشورى:48] و أتى في السيئة بباء السببية مضافة إلى كسب أيديهم؟و كيف أكد الجملة الأولى التي تضمنت إذاقة الرحمة بحرف«إن»دون الجملة الثانية.

و أسرار القرآن كثر و أعظم من أن تحيط بها عقول البشر.

و تأمل قوله تعالى: وَ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاّ إِيّاهُ [الإسراء:67]، كيف أتى بإذا هاهنا لما كان مس الضر لهم في البحر محققا؛بخلاف قوله: لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَ إِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49) (1)[فصلت]،فإنه لم يقيد مس الشر هنا بل أطلقه،و لما قيده بالبحر الذي هو متحقق فيه ذلك أتى بأداة«إذا».

و تأمل قوله تعالى: وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَ نَأى بِجانِبِهِ وَ إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (83) [الإسراء]،كيف أتى هنا بإذا المشعرة بتحقيق الوقوع المستلزم لليأس،فإن اليأس إنما حصل عند تحقق مس الشر له،فكان الإتيان بإذا هاهنا أدل على المعنى المقصود من«إن»،بخلاف قوله: وَ إِذا 2مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ ،فإنه بقلة صبره و ضعف احتماله متى توقع الشر أعرض و أطال في الدعاء،فإذا تحقق وقوعه كان يئوسا.».

ص: 249


1- في المطبوعة«و إن مسه الشر فذو دعاء عريض».

و مثل هذه الأسرار في القرآن لا يرقى إليها إلا بموهبة من اللّه و فهم يؤتيه عبدا في كتابه.

فإذا قلت:فما تصنع بقوله تعالى: إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ [النساء:176]،و الهلاك محقق؟قلت:التعليق ليس على مطلق الهلاك بل على هلاك مخصوص و هو هلاك لا عن ولد.

فإن قلت:فما تصنع بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ اشْكُرُوا لِلّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ (172)[البقرة:172]و قوله: فَكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)[الأنعام]و تقول العرب:إن كنت ابني فأطعني.و في الحديث في السلام على الموتى:«و إنا إن شاء اللّه بكم لاحقون» (1)و اللحاق محقق و في قول الموصي:إن مت فثلث مالي صدقة.

قلت:أما قوله إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ ،الذي حسن مجيء«إن»هاهنا الاحتجاج و الإلزام،فإن المعنى:إن عبادتكم للّه تستلزم شكركم له،بل هي الشكر نفسه،فإن كنتم ملتزمين لعبادته داخلين في جملتها،فكلوا من رزقه و اشكروه على نعمه،و هذا كثيرا ما يورد في الحجاج كما تقول للرجل:إن كان اللّه ربك و خالقك فلا تعصه.و إن كان لقاء اللّه حقا فتأهب له.و إن كانت الجنة حقا فتزود إليها.و هذا أحسن من جواب من أجاب بأن«إن» هنا قامت مقام«إذا»،و كذا قوله: إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ و كذا قولهم:إن كنت ابني فأطعني،و نظائر ذلك.

و أما قوله:«إنا إن شاء اللّه بكم لاحقون»فالتعليق هنا ليس لمطلق الموت،و إنما هو للحاقهم بالمؤمنين و مصيرهم إلى حيث صاروا.و أما قول الموصي:إن مت فثلث مالي صدقة؛فلأن الموت و إن كان محققا،لكن لما لم يعرف تعين وقته و طال الأمد و انفردت مسافة أمنية الحياة،نزل منزلة المشكوك،كما هو الواقع الذي يدل عليه أحوال العباد.فإن عاقلا لا يتيقن الموت و يرضى بإقامته على حال لا يحب الموت عليها أبدا،كما قال بعض السلف:ما رأيت يقينا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت.

و على هذا حمل بعض أهل المعاني: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ(15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16)[المؤمنون]فأكد الموت باللام،و أتى فيه باسم الفاعل الدال على الثبوت، و أتى في البعث بالفعل و لم يؤكده.ا.

ص: 250


1- مسلم(102/974)في الجنائز،باب:ما يقال عند دخول القبور و الدعاء لأهلها.

المسألة الرابعة:قد تعلق الشرط بفعل محال ممتنع الوجود،فيلزمه محال آخر و تصدق الشرطية دون مفرديها،أما صدقها فلاستلزام المحال المحال،و أما كذب مفرديها فلاستحالتهما،و عليه: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81)[الزخرف:81]،و منه قوله لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء:22].و منه: قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لاَبْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42)[الإسراء]و نظائره كثيرة.

و فائدة الربط بالشرط في مثل هذا أمران؛أحدهما:بيان استلزم إحدى القضيتين للأخرى.و الثاني:أن اللازم منتف فالملزوم كذلك،فقد تبين من هذا الشرط تعلق به المحقق الثبوت و الممتنع الثبوت و الممكن الثبوت.

المسألة الخامسة:اختلف سيبويه و يونس في الاستفهام الداخل على الشرط؛فقال سيبويه:يعتمد على الشرط و جوابه،فيتقدم عليهما و يكون بمنزلة القسم،و نحو قوله: أَ فَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34)[الأنبياء]و قوله: أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ [آل عمران:

144].و قال يونس:يعتمد على الجزاء،فتقول:إن مت أ فأنت خالد.و القرآن مع سيبويه و القياس أيضا كما يتقدم القسم ليكون جملة الشرط و الجزاء مقسما عليها و مستفهما عنها، و لو كان كما قال يونس،لقال:فإن مت أفهم الخالدون.

المسألة السادسة:اختلف الكوفيون و البصريون فيما إذا تقدم أداة الشرط جملة تصلح أن تكون جزاء،ثم ذكر فعل الشرط و لم يذكر له جزاء،نحو:أقوم إن قمت.فقال ابن السراج:الذي عندي أن الجواب محذوف يغني عنه الفعل المتقدم،قال:و إنما يستعمل هذا على وجهين؛إما أن يضطر إليه شاعر،و إما أن يكون المتكلم به محققا بغير شرط و لا نية.

فقال:أجيئك،ثم يبدو له ألا يجيئه إلا بسبب،فيقول:إن جئتني،فيشبه الاستثناء و يغني عن الجواب ما تقدم.

و هذا قول البصريين،و خالفهم أهل الكوفة،و قالوا:المتقدم هو الجزاء،و الكلام مرتبط به.و قولهم في ذلك هو الصواب،و هو اختيار الجرجاني،قال:الدليل على أنك إذا قلت:

آتيك إن أتيتني كان الشرط متصلا«بآتيك»،و أن الذي يجري في كلامهم لا بد من إضمار الجزاء ليس على ظاهره،و أما إن عملنا على ظاهره و توقفنا أن الشرط متقدم في النفس على الجزاء،صار من ذلك شيئان ابتداء كلام ثان.

ثم اعتقاد ذلك يؤدي إلى إبطال ما اتفق عليه العقلاء في الإيمان،من افتراق الحكم بين أن يصل الشرط في نطقه،و بين أن يقف ثم يأتي بالشرط،و أنه إذا قال لعبده:أنت حر إن

ص: 251

شاء اللّه،فوصل،لم يعتق،و لو وقف ثم قال:إن شاء اللّه،فإنه يعتق.

فإذا سمعت ما قلنا عرفت خلاف المسألة،فالمشهور من مذهب البصريين امتناع تقديم الجزاء على الشرط،هذا كلامه.

قلت:و لم يكن به حاجة في تقرير الدليل إلى الوقف بين الجملة الأولى و جملة الشرط، فالدلالة قائمة و لو وصل،فإنه إذا قال:أنت حر،فهذه جملة خبرية ترتب عليها حكمها عند تمامها،و قوله:إن شاء اللّه،ليس تعليقا لها عندكم،فإن التعليق إنما يعمل في الجزاء، و هذه ليست بجزاء،و إنما هي خبر محض و الجزاء عندكم محذوف.فلما قالوا:إنه لا يعتق،دل على أن المتقدم نفسه جزاء معلق.

هذا تقرير الدلالة و لكن ليس هذا باتفاق،فقد ذهبت طائفة من السلف و الخلف إلى أن الشرط إنما يعمل في تعليق الحكم إذا تقدم على الطلاق،فتقول:إن شاء اللّه فأنت طالق.

فأما إن تقدم الطلاق ثم عقبه بالتعليق فقال:أنت طالق إن شاء اللّه،طلقت و لا ينفع التعليق،و على هذا فلا يبقى فيما ذكر حجة.و لكن هذا المذهب شاذ و الأكثرون على خلافه،و هو الصواب،لأنه إما جزاء لفظا و معنى قد اقتضاه التعليق على قول الكوفيين،إما أن يكون جزاء في المعنى،و هو نائب الجزاء المحذوف و دل عليه،فالحكم تعلق به على التقديرين،و المتكلم إنما بنى كلامه عليه.

و أما قول ابن السراج:إنه قصد الخبر جزما،ثم عقبه بالجزاء.فليس كذلك بل بنى كلامه على الشرط كما لو قال له:عليّ عشرة إلا درهما.فإنه لم يقر بالعشرة ثم أنكر درهما.و لو كان كذلك لم ينفعه الاستثناء.و من هنا قال بعض الفقهاء:إن الاستثناء لا ينفع في الطلاق؛لأنه إذا قال:أنت طالق ثلاثا إلا واحدة،فقد أوقع الثلاثة ثم رفع منها واحدة.

و هذا مذهب باطل؛فإن الكلام مبني على آخره مرتبط أجزاؤه بعضها ببعض،كارتباط التوابع من الصفات و غيرها بمتبوعاتها،و الاستثناء لا يستقل بنفسه فلا يقبل إلا بارتباطه بما قبله،فجرى مجرى الصفة و العطف.

و يلزم أصحاب هذا المذهب ألا ينفع الاستثناء في الإقرار؛لأن المقر به لا يرفع ثبوته، و في إجماعهم على صحته دليل على إبطال هذا المذهب،و إنما احتاج الجرجاني إلى ذكر الفرق بين أن يقف أو يصل؛لأنه إذا وقف عتق العبد و لم ينفعه الاستثناء و إذا وصل لم يعتق،فدل على أن الفرق بين وقوع العتق و عدمه هو السكوت،و الوصل هو المؤثر في

ص: 252

الحكم لا تقدم الجزاء و تأخره،فإنه لا تأثير له بحال كما ذكره ابن السراج:أنه إنما يأتي في الضرورة،ليس كما قال-فقد جاء في أفصح الكلام و هو كثير جدا،كقوله تعالى:

وَ اشْكُرُوا لِلّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172]و قوله: فَكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)[الأنعام:118]و قوله: قَدْ بَيَّنّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)[آل عمران]و هو كثير،فالصواب المذهب الكوفي،و التقدير إنما يصار إليه عند الضرورة،بحيث لا يتم الكلام إلا به،فإذا كان الكلام تاما بدونه فأي حاجة بنا إلى التقدير؟و أيضا،فتقديم الجزاء ليس بدون تقديم الخبر و المفعول و الحال و نظائرها.

فإن قيل:الشرط له التصدير وصفا،فتقديم الجزاء عليه يخل بتصديره،قلنا هذه هي الشبهة التي منعت القائلين بعدم تقديمه.

و جوابها:إنكم إن عنيتم بالتصدير أنه لا يتقدم معموله عليه،و الجزاء معمول له فيمتنع تقديمه فهو نفس المتنازع فيه،فلا يجوز إثبات الشيء بنفسه،و إن عنيتم به أمرا آخر لم يلزم منه امتناع التقديم،ثم نقول:الشرط و الجزاء جملتان قد صارتا بأداة الشرط جملة واحدة، و صارت الجملتان بالأداة كأنهما مفردان فأشبها الفردين في باب الابتداء و الخبر،فكما لا يمتنع تقديم الخبر على المبتدأ فكذلك تقديم الجزاء،و أيضا فالجزاء هو المقصود و الشرط قيد فيه و تابع له،فهو من هذا الوجه رتبته التقديم طبعا،و لهذا كثيرا ما يجيء الشرط متأخرا عن المشروط؛لأن المشروط هو المقصود و هو الغاية،و الشرط وسيلة،فتقديم المشروط هو تقديم الغايات على وسائلها و رتبتها التقديم ذهنا و إن تقدمت الوسيلة وجودا،فكل منهما له التقدم بوجه،و تقدم الغاية أقوى،فإذا وقعت في مرتبتها فأي حاجة إلى أن نقدرها متأخرة؟و إذا انكشف الصواب فالصواب أن تدور معه حيثما دار.

المسألة السابعة:«لو»يؤتى بها للربط لتعلق ماض بماض،كقولك:لو زرتني لأكرمتك؛و لهذا لم تجزم إذا دخلت على مضارع،لأن الموضع للماضي لفظا و معنى، كقولك:لو يزورني زيد لأكرمته فهي في الشرط نظير«إن»في الربط بين الجملتين لا في العمل و لا في الاستقبال،و كان بعض فضلاء المتأخرين و هو تاج الدين الكندي ينكر أن تكون«لو»حرف شرط،و غلّط الزمخشري في عدها في أدوات الشرط.قال الأندلسي في «شرح المفصل»:فحكيت ذلك لشيخنا أبي البقاء،فقال:غلط تاج الدين في هذا التغليظ، فإن«لو»تربط شيئا بشيء كما تفعل إن.

قلت:و لعل النزاع لفظي،فإن أريد بالشرط الربط المعنوي الحكمي،فالصواب ما قاله

ص: 253

أبو البقاء و الزمخشري،و إن أريد بالشرط ما يعمل في الجزءين فليست من أدوات الشرط (1).

المسألة الثامنة:المشهور أن«لو»إذا دخلت على ثبوتين نفتهما،أو نفيين أثبتتهما،أو نفلي و ثبوت،أثبتت المنفي و نفت المثبت،و ذلك لأنها تدل على امتناع الشيء لامتناع غيره، و إذا امتنع النفي صار إثباتا فجاءت الأقسام الأربعة،و أورد على هذا أمور.

أحدها:قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللّهِ و مقتضى ما ذكرتم أن تكون كلمات اللّه تعالى قد نفدت،و هو محال؛لان الأول ثبوت و هو كون أشجار الأرض أقلاما و البحار مدادا لكلماته،و هذا منتف،و الثاني و هو قوله: ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللّهِ فيلزم أن يكون ثبوتا.

الثاني:قول عمر:نعم العبد صهيب لو لم يخف اللّه لم يعصه،فعلى ما ذكرتم يكون الخوف ثابتا لأنه منفي،و المعصية كذلك لأنها منفية أيضا.

و قد اختلف أجوبة الناس عن ذلك،فقال أبو الحسن بن عصفور:«لو»في الحديث بمعنى«إن»لمطلق الربط،فلا يكون نفيها إثباتا،و لا إثباتا نفيا،فاندفع الإشكال.و في هذا الجواب ضعف بين،فإنه لم يقصد في الحديث مطلق الربط كما قال،و إنما قصد ارتباط متضمن لنفي الجزاء و لا سيق الكلام إلا لهذا،ففي الجواب إبطال خاصية«لو»التي فارقت بها سائر أدوات الشرط.و قال غيره:«لو»في اللغة لمطلق الربط،و إنما اشتهرت في العرف في انقلاب ثبوتها نفيا و بالعكس،و الحديث إنما ورد بمعنى اللفظ في اللغة حكى هذا الجواب القرافي،و هو أفسد من الذي قبله بكثير،فإن اقتضاء«لو»لنفي الثابت بعدها و إثبات المنفي متلقى من أصل وضعها لا من العرف الحادث،كما أن معاني سائر الحروف من نفي أو تأكيد أو تخصيص أو بيان أو ابتداء أو انتهاء،إنما هو متلقى من الوضع لا من العرف فما قاله ظاهر البطلان.

الجواب الثالث:جواب الشيخ أبي محمد بن عبد السلام و غيره،و هو أن الشيء الواحد قد يكون له سبب واحد فينتفي عند انتفائه،و قد يكون له سببان فلا يلزم من عدم أحدهما عدمه؛لأن السبب الثاني يخلف السبب الأول كقولنا في زوج:هو ابن عم.لو لم يكن زوجا لورث أي بالتعصيب،فإنهما سببان لا يلزم من عدم أحدهما عدم الآخر.و كذلك الناس هاهنا في الغالب،إنما لم يعصوا لأجل الخوف،فإذا ذهب الخوف عنهم عصواة.

ص: 254


1- انظر مناقشة ذلك في جزء اللغة من الموسوعة.

لاتحاد السبب في حقهم.فأخبر عمر أن صهيبا اجتمع له سببان يمنعانه المعصية الخوف و الإجلال فلو انتفى الخوف في حقه،لانتفى العصيان للسبب الآخر و هو الإجلال.و هذا مدح عظيم له.

قلت:و بهذا الجواب بعينه يجاب عن قوله صلى اللّه عليه و سلم في ابنة حمزة:«إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري لما حلت لها ابنة أخي من الرضاعة» (1)،أي فيها سببان يقتضيان التحريم فلو قدر انتفاء أحدهما لم ينتف التحريم للسبب الثاني،و هذا جواب حسن جدا.

الجواب الرابع:ذكره بعضهم بأن قال:جواب«لو»محذوف،و تقديره لو لم يخف اللّه لعصمه فلم يعصه بإجلاله و محبته إياه،فإن اللّه يعصم عبده بالخوف تارة و المحبة و الإجلال تارة،و عصمة الإجلال و المحبة أعظم من عصمة الخوف،لأن الخوف يتعلق بعقابه و المحبة و الإجلال يتعلقان بذاته و ما يستحقه تبارك و تعالى (2)،فأين أحدهما من الآخر.و لهذا كان دين الحب أثبت و أرسخ من دين الخوف،و أمكن و أعظم تأثيرا و شاهد ما نراه من طاعة المحب لمحبوبه،و طاعة الخائف لمن يخافه،كما قال بعض الصحابة:إنه ليستخرج حبه مني من الطاعة ما لا يستخرجه الخوف،و ليس هذا موضع بسط هذا الشأن العظيم القدر و قد بسطته في كتاب«الفتوحات القدسية».

الجواب الخامس:أن«لو»أصلها أن تستعمل للربط بين شيئين كما تقدم،ثم أنها قد تستعمل لقطع الربط فتكون جوابا لسؤال محقق أو متوهم وقع فيه ربط،فتقطعه أنت لاعتقادك بطلان ذلك الربط،كما لو قال القائل:إن لم يكن زيد زوجا لم يرث.فتقول أنت:لو لم يكن زوجا لورث زيد.إن ما ذكره من الربط بين عدم الزوجية و عدم الإرث ليس بحق فمقصودك قطع ربط كلامه لا ربطه،و تقول:لو لم يكن عالما لأكرم،أي لشجاعته جوابا لسؤال سائل يتوهم أنه لو لم يكن عالما لما أكرم،فتربط بين عدم العلم و الإكرام،فتقطع أنت ذلك الربط و ليس مقصودك أن تربط بين عدم العلم و الإكرام؛لأن ذلك ليس بمناسب و لا من أغراض العقلاء،و لا يتجه كلامك إلا على عدم الربط،كذلك الحديث لما كان الغالب على الناس أن يرتبط عصيانهم بعدم خوفهم،و إن ذلك في الأوهام قطع عمر هذا الربط،و قال:لو لم يخف اللّه لم يعصه،و كذلك لما كان الغالب على).

ص: 255


1- البخاري(5101)في النكاح،باب: وَ أُمَّهاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ ،و مسلم(15/1449)في الرضاع، باب:تحريم الربيبة و أخت المرأة.
2- كذا الأصل،و لعل في الكلام حذفا تقديره:لذاته أعظم مما يستحقه بعقابه(من هامش المطبوعة).

الأوهام أن الشجر كلها إذا صارت أقلاما،و البحار المذكورة كلها تكتب به الكلمات الإلهية،فلعل الوهم يقول:ما يكتب بهذا شيء إلا نفد كائنا ما كان،فقطع اللّه تعالى هذا الربط،و نفى هذا الوهم،و قال:ما نفدت.

قلت:و نظير هذا في الحديث أن زوجته لما توهمت أن ابنة عمه حمزة تحل له،لكونها بنت عمه،فقطع هذا الربط بقوله:إنها لا تحل،و ذكر للتحريم سببين:الرضاعة،و كونها ربيبة له.و هذا جواب القرافي،قال:و هو أصلح من الأجوبة المتقدمة من وجهين، أحدهما:شموله للحديث و الآية و بعض الأجوبة لا تنطبق على الآية.و الثاني:أن ورود «لو»بمعنى«إن»خلاف الظاهر،و ما ذكره لا يتضمن خلاف الظاهر.

قلت:و هذا الجواب فيه ما فيه،فإنه إن ادعى أن«لو»وضعت أو جيء بها لقطع الربط فغلط،فإنها حرف من حروف الشرط التي مضمونها ربط السبب بمسببه و الملزوم بلازمه، و لم يؤت بها لقطع هذا الارتباط،و لا وضعت له أصلا فلا يفسر الحرف بضد موضوعه.

و نظير هذا قول من يقول:إن«إلا»قد تكون بمعنى الواو،و هذا فاسد،فإن الواو للتشريك و الجمع،و«إلا»للإخراج و قطع التشريك،و نظائر ذلك.و إن أراد أن قطع الربط الموهم مقصود للمتكلم من أدلة،فهذا حق،و لكن لم ينشأ هذا من حرف«لو»،و إنما جاء من خصوصية ما صحبها من الكلام المتضمن لنفي ما توهمه القائل أو ادعاه،و لم يأت من قبل«لو»فهذا كلام هؤلاء الفضلاء في هذه المسألة،و إنما جاء الإشكال سؤالا و جوابا من عدم الإحاطة بمعنى الحرف و مقتضاه و حقيقته،و أنا أذكر حقيقة هذا الحرف ليتبين سر المسألة بعون اللّه.

فاعلم أن«لو»حرف وضع للملازمة بين أمرين يدل على أن الحرف الأول منهما ملزوم،و الثاني لازم هذا وضع هذا الحرف و طبيعته و موارده في هذه الملازمة أربعة،فإنه ما أن يلازم بين نفيين أو ثبوتين،أو بين ملزوم مثبت و لازم منفي أو عكسه و نعني بالثبوت و النفي هنا الصوري اللفظي لا المعنوي.

فمثال الأول: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ [الإسراء:

100] وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِيماً (64)[النساء:64] وَ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً [النساء]و نظائره.

و مثال الثاني:لو لم تكن ربيبتي في حجري لما حلت لي،و لو لم يخف اللّه لم يعصه.

ص: 256

و مثال ثالث: وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللّهِ [لقمان:27].

و مثال الرابع:«لو لم تذنبوا لذهب اللّه بكم و لجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم».

فهذه صورة وردوها على النفي و الإثبات.

و أما حكم ذلك فأمران،أحدهما:نفي الأول لنفي الثاني لأن الأول ملزوم،و الثاني لازم و الملزوم عدم عند عدم لازمه.و الثاني:تحقق الثاني لتحقق الأول؛لأن تحقق الملزوم يستلزم تحقق لازمه.

فإذا عرفت هذا فليس في طبيعة«لو»و لا وضعها ما يؤذن بنفي واحد من الجزءين و لا إثباته،و إنما طبعها و حقيقتها الدلالة على التلازم المذكور،لكن إنما يؤتى بها للتلازم المتضمن نفي اللازم أو الملزوم أو تحققها،و من هنا نشأت الشبهة فلم يؤت بها لمجرد التلازم مع قطع النظر عن ثبوت الجزءين أو نفيهما،فإذا دخلت على جزءين متلازمين قد انتفى اللازم منهما،استفيد نفي الملزوم من قضية اللزوم لا من نفس الحرف.

و بيان ذلك أن قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء:22]لم يستفد نفي الفساد من حرف«لو»،بل الحرف دخل على أمرين قد علم انتفاء أحدهما حسا، فلازمت بينه و بين من يريد نفيه من تعدد الآلهة-و قضية الملازمة انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه -فإذا كان اللازم منتف قطعا و حسا،انتفى ملزومه لانتفائه،لا من حيث الحرف.فهنا أمران،أحدهما:الملازمة التي فهمت من الحرف،و الثاني:انتفاء اللازم المعلوم بالحس.

فعلى هذا الوجه ينبغي أن يفهم انتفاء اللازم و الملزوم ب«لو»فمن هنا قالوا:إن دخلت على مثبتين صارا منتفيين،بمعنى:أن الثاني منهما قد علم انتفاؤه من خارج،فينتفي الأول لانتفائه.و إذا دخلت على منفيين أثبتتهما لذلك أيضا؛لأنها تدخل على ملزوم محقق الثبوت من خارج فيتحقق ثبوت ملزومه،كما في قوله:«لو لم تذنبوا» (1).

فهذا الملزوم-و هو صدور الذنب-متحقق في الخارج من البشر فتحقق لازمه و هو بقاء النوع الإنساني و عدم الذهاب به؛لأن الملازمة وقعت بين عدم الذنب و عدم البقاء،لكن عدم الذنب منتف قطعا،فانتفى لازمه و هو عدم الذهاب بنا فثبت الذنب و ثبت البقاء و كذلك نفيه الأقسام الأربعة يفهم على هذا الوجه.ة.

ص: 257


1- مسلم(11/2749)في التوبة،باب:سقوط الذنوب بالاستغفار توبة.

و إذا عرف هذا،فاللازم الواحد قد يلزم ملزومات متعددة كالحيوانية اللازمة للإنسان و الفرس و غيرهما،فيقصد المتكلم إثبات الملازمة بين بعض تلك الملزومات و اللازم على تقدير انتفاء البعض الآخر،فيكون مقصوده أن الملازمة حاصلة على تقدير انتفاء ذلك الملزوم الآخر،فلا يتوهم المتوهم انتفاء اللازم عند نفي ملزوم معين،فإن الملازمة حاصلة بدونه،و على هذا يخرجه:لو لم يخف اللّه لم يعصه،و لو لم تكن ربيبتي لما حلت لي.

فإن عدم المعصية له ملزومات فهي الخشية و المحبة و الإجلال،فلو انتفى بعضها و هو الخوف مثلا لم يبطل اللازم؛لأن له ملزومات أخر غيره.و كذلك لو انتفى كون البنت ربيبة لما انتفى التحريم؛لحصول الملازمة بينه و بين وصف آخر و هو الرضاع،و ذلك الوصف ثابت.و هذا القسم إنما يأتي في لازم له ملزومات متعددة فيقصد المتكلم تحقق الملازمة على تقدير نفي ما نفاه منها.

و أما قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ [لقمان:27]،فإن الآية سيقت لبيان أن أشجار الأرض لو كانت أقلاما و البحار مدادا فكتبت بها كلمات اللّه،لنفدت البحار،و الأقلام و لم تنفد كلمات اللّه،فالآية سيقت لبيان الملازمة بين عدم نفاد كلماته و بين كون الأشجار أقلاما و البحار مدادا يكتب بها،فإذا كانت الملازمة ثابتة على هذا التقدير الذي هو أبلغ تقدير يكون في نفاد المكتوب،فثبوتها على غيره من التقادير أولى.

و نوضح هذا بضرب مثل يرتقى منه إلى فهم مقصود الآية.

إذا قلت لرجل لا يعطى أحدا شيئا:لو أن لك الدنيا بأسرها ما أعطيت أحدا منها شيئا.فإنك إذا قصدت أن عدم إعطائه ثابت على أعظم التقادير التي تقتضي الإعطاء، فلازمت بين عدم إعطائه و بين أعظم أسباب الإعطاء،و هو كثرة ما يملكه.فدل هذا على أن عدم إعطائه ثابت على ما هو دون هذا التقدير،و إن عدم الإعطاء لازم لكل تقدير.فافهم نظير هذا المعنى في الآية،و هو عدم نفاد كلمات اللّه تعالى،على تقدير أن الأشجار أقلام، و البحار مداد يكتب بها،فإذا لم تنفد على هذا التقدير كان عدم نفادها لازما له،فكيف بما دونه من التقديرات؟

فافهم هذه النكتة التي لا يسمح بمثلها كل وقت،و لا تكاد تجدها في الكتب،و إنما هي من فتح اللّه و فضله،فله الحمد و المنة و نسأله المزيد من فضله.

فانظر كيف اتفقت القاعدة العقلية مع القاعدة النحوية،و جاءت النصوص بمقتضاهما معا من غير خروج عن موجب عقل و لا لغة و لا تحريف لنص،و لو لم يكن في هذا التعليق

ص: 258

إلا هذه الفائدة لساوت رحله،فكيف و قد تضمن من غرر الفوائد ما لا ينفق إلا على تجارة، و أما من ليس هناك فإنه يظن الجوهرة زجاجة،و الزجاجة المستديرة المثقوبة جوهرة،و يزري على الجوهري و يزعم أنه لا يفرق بينهما،و اللّه المعين.

المسألة التاسعة:في دخول الشرط على الشرط و نذكر فيه ضابطا مزيلا للإشكال إن شاء اللّه،فنقول:الشرط الثاني تارة يكون معطوفا على الأول،و تارة لا يكون،و المعطوف تارة يكون معطوفا على فعل الشرط وحده،و تارة يعطف على الفعل مع الأداة.فمثال غير المعطوف:إن قمت إن قعدت فأنت طالق.و مثال المعطوف على فعل الشرط وحده:إن قمت و قعدت.و مثال المعطوف على الفعل مع الأداة:إن قمت و إن قعدت فهذه الأقسام الثلاثة أصول الباب،و هي عشر صور.

أحدها:إن خرجت و لبست،فلا يقع المشروط إلا بهما كيفما اجتمعا.

الثانية:إن لبست فخرجت،لم يقع المشروط إلا بالخروج بعد اللبس،فلو خرجت ثم لبست،لم يحنث.

الثالثة:إن لبست ثم خرجت،فهذا مثل الأول و إن كان ثم للتراخي فإنه لا يعتبر هنا إلا حيث يظهر قصده.

الرابعة:إن خرجت لا إن لبست،فيحتمل هذا التعليق أمرين،أحدهما:جعل الخروج شرطا و نفى اللبس أن يكون شرطا.الثاني:أن يجعل الشرط هو الخروج المجرد عن اللبس،و المعنى:إن خرجت لا لابسة،أي غير لابسة.و يكون المعنى:إن كان منك خروج لا مع اللبس،فعلى هذا التقدير الأول يحنث بالخروج وحده،و على الثاني لا يحنث إلا بخروج لا لبس معه.

الخامسة:إن خرجت بل إن لبست،و يحتمل هذا التعليق أمرين،أحدهما:أن يكون الشرط هو اللبس دون الخروج فيختص الحنث به لأجل الإضراب،و الثاني:أن يكون كل منهما شرطا فيحنث بأيهما وجد و يكون الإضراب عن الاقتصار،فيكون إضراب اقتصار لا إضراب إلغاء كما تقول:أعطه درهما بل درهما آخر.

السادسة:إن خرجت أو إن لبست،فالشرط أحدهما،أيهما كان.

السابعة:إن لبست لكن إن خرجت،فالشرط الثاني وقع،لغا الأول لأجل الاستدراك بلكن.

الثامنة:أن يدخل الشرط على الشرط،و يكون الثاني معطوفا بالواو نحو:إن لبست و إن

ص: 259

خرجت.فهذا يحنث بأحدهما.

فإن قيل:فكيف لم تحنثوه في صورة العطف على الفعل وحده إلا بهما و حنثتموه هاهنا بأيهما كان؟قيل:لأن هناك جعل الشرط مجموعهما،و هنا جعل كل واحد منهما شرطا برأسه،و جعل لهما جوابا واحدا.و فيه رأيان،أحدهما:أن الجواب لهما جميعا،و هو الصحيح.و الثاني:أن جواب أحدهما حذف لدلالة المذكور عليه،و هي أخت مسألة الخبر عن المبتدأ بجزءين.

التاسعة:أن يعطف الشرط الثاني بالفاء نحو قوله تعالى: فَإِمّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً [طه:

123]فالجواب المذكور جواب الشرط الثاني و هو و جوابه جواب الأول،فإذا قال:إن خرجت فإن كلمت أحدا فأنت طالق،لم تطلق حتى تخرج و تكلم أحدا.

العاشرة:و هي أن المسألة التي تكلم فيها الفقهاء دخول الشرط على الشرط بلا عطف، نحو:إن خرجت إن لبست.و اختلف أقوالهم فيها:فمن قائل:إن المؤخر في اللفظ مقدم في المعنى،و أنه لا يحنث حتى يتقدم اللبس على الخروج.و من قائل:بل المقدم لفظا هو المقدم معنى و ذكر كل منهم حججا لقوله.و ممن نص على المسألة الموفق الأندلسي في شرحه،فقال:إذا دخل الشرط على الشرط وعيد حرف الشرط توقف وقوع الجزاء على وجود الشرط الثاني قبل الأول،كقولك:إن أكلت إن شربت فأنت طالق،فلا تطلق حتى يوجد الشرب منها قبل الأكل،لأنه تعلق على أكل معلق على شرب.

و هذا الذي ذكره أبو إسحاق في«المهذب».و حكى ابن شاس في«الجواهر»عن أصحاب مالك عكسه.و الوجهان لأصحاب الشافعي،و لا بد في المسألة من تفصيل،و هو أن الشرط الثاني إن كان متأخرا في الوجود عن الأول،كان مقدرا بالفاء و تكون الفاء جواب الأول،و الجواب المذكور جواب الثاني.مثاله:إن دخلت المسجد إن صليت فيه،لك أجر.تقديره:فإن صليت فيه،و حذفت الفاء لدلالة الكلام عليها.و إن كان الثاني متقدما في الوجود على الأول،فهو في نية التقدم و ما قبله جوابه،و الفاء مقدرة فيه.و مثله قوله عز و جل: وَ لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ [هود:34]أي فإن أردت أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي.و تقول:إن دخلت المسجد إن توضأت فصل ركعتين.تقديره:إن توضأت فإن دخلت المسجد فصل ركعتين،فالشرط الثاني هنا متقدم، و إن لم يكن أحدهما متقدما في الوجود على الآخر،بل كان محتملا للتقدم و التأخر لم يحكم على أحدهما بتقدم و لا تأخر،بل يكون الحكم راجعا إلى تقدير المتكلم و نيته،

ص: 260

فأيهما قدر شرطا كان الآخر جوابا له،و كان مقدرا بالفاء،تقدم في اللفظ أو تأخر،و إن لم يظهر نيته و لا تقديره احتمل الأمرين،فمما ظهر فيه تقديم المتأخر قول الشاعر:

إن تستغيثوا بنا إن تذعروا تجدوا منا معاقل عز زانها الكرم

لأن الاستغاثة لا تكون إلا بعد الذعر،و منه قول ابن دريد:

فإن عثرت بعدها إن والت نفسي من هاتا فقولا لا لعا

و معلوم أن العثور مرة ثانية إنما يكون بعد الذعر.

و من المحتمل قوله تعالى: وَ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:50]،يحتمل أن تكون الهبة شرطا،و يكون فعل الإرادة جوابا له،و يكون التقدير إن وهبت نفسها للنبي فإن أراد النبي أن يستنكحها فخالصة له،و يحتمل أن تكون الإرادة شرطا و الهبة جوابا له،و التقدير:إن أراد النبي أن يستنكحها فإن وهبت نفسها،فهي خالصة له.يحتمل الأمرين،فهذا ما ظهر لي من التفصيل في هذه المسألة و تحقيقها،و اللّه أعلم (1).).

ص: 261


1- بدائع الفوائد(43/1-60).

القسم في القرآن

من أحكام القسم

و هو-سبحانه-يقسم بأمور على أمور،و إنما يقسم بنفسه الموصوفة بصفاته،و آياته المستلزمة لذاته و صفاته،و إقسامه ببعض المخلوقات دليل على أنه من عظيم آياته.

فالقسم إما على جملة خبرية-و هو الغالب-كقوله تعالى: فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ [الذاريات:23]،و إما على جملة طلبية،كقوله تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92) عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:92-93].مع أن هذا قد يراد به تحقيق المقسم عليه فيكون من باب الخبر،و قد يراد به تحقيق القسم.

و المقسم عليه يراد بالقسم توكيده و تحقيقه،فلا بد أن يكون مما يحسن فيه ذلك، كالأمور الغائبة و الخفية إذا أقسم على ثبوتها.فأما الأمور الظاهرة المشهورة،كالشمس، و القمر،و الليل،و النهار،و السماء،و الأرض،فهذه يقسم بها و لا يقسم عليها.

و ما أقسم عليه الرب فهو من آياته،فيجوز أن يكون مقسما به و لا ينعكس.

و هو-سبحانه-يذكر جواب القسم تارة-و هو الغالب-و تارة يحذفه،كما يحذف جواب(راجع البدائع)لو كثيرا،كقوله تعالى: كَلاّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5)[التكاثر] و قوله: وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ [الرعد:31]، وَ لَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ [الأنفال:50] وَ لَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ [سبأ:51] وَ لَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ [الأنعام:30]و مثل هذا حذفه من أحسن الكلام؛لأن المراد أنك لو رأيت ذلك لرأيت هولا عظيما،فليس في ذكر الجواب زيادة على ما دل عليه الشرط.

و هذه عادة الناس في كلامهم،إذا رأوا أمورا عجيبة و أرادوا أن يخبروا بها الغائب عنها يقول أحدهم:لو رأيت ما جري يوم كذا بموضع كذا؟و منه قوله تعالى: وَ لَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165)[البقرة]فالمعنى في أظهر الوجهين:لو يرى الذين ظلموا في الدنيا إذ يرون العذاب في الآخرة،و الجواب محذوف، ثم قال: أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً ،كما قال تعالى: وَ لَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ [سبأ:51]،

ص: 262

وَ لَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ [الأنفال:50]أي لو ترى ذلك الوقت و ما فيه.

و أما القسم،فإن الحالف قد يحلف على الشيء ثم يكرر القسم،فلا يعيد المقسم عليه؛لأنه قد عرف ما يحلف عليه.فيقول:و اللّه إن لي عليه ألف درهم،ثم يقول:و رب السموات و الأرض،و الذي نفسي بيده،و حق القرآن العظيم،و لا يعيد المقسم عليه؛لأنه قد عرف المراد.

و القسم لما كان يكثر في الكلام اختصر،فصار فعل القسم يحذف و يكتفى بالباء،ثم عوض من الباء الواو في الأسماء الظاهرة و التاء في أسماء اللّه،كقوله: وَ تَاللّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ [الأنبياء:57]و قد نقل:ترب الكعبة،و أما الواو فكثيرة (1).

أمثلة من قسم القرآن

من ذلك قوله في قصة لوط عليه السّلام و مراجعته قومه له: قالُوا أَ وَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ(71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)[الحجر:70-72] أكثر المفسرين من السلف و الخلف-بل لا يعرف عن السلف فيه نزاعا،أن هذا قسم من اللّه بحياة رسوله صلى اللّه عليه و سلم.و هذا من أعظم فضائله أن يقسم الرب عز و جلّ بحياته،و هذه مزية لا تعرف لغيره.و لم يوافق (2)الزمخشري على ذلك،فصرف القسم إلى أنه بحياة لوط،و أنه من قول الملائكة فقال:هو على إرادة القول،أي قالت الملائكة للوط عليه الصلاة و السلام:لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون،و ليس في اللفظ ما يدل على واحد من الأمرين،بل ظاهر اللفظ و سياقه إنما يدل على ما فهمه السلف لا أهل التعطيل و الاعتزال.

قال ابن عباس رضي اللّه عنهما:لعمرك،أو حياتك،قال:و ما أقسم اللّه تعالى بحياة نبي غيره.

و العمر و العمر واحد،إلا أنهم خصوا القسم بالمفتوح؛لإثبات الأخف،لكثرة دوران الحلف على ألسنتهم،و أيضا فإن العمر حياة مخصوصة.

فهو عمر شريف عظيم أهل أن يقسم به؛لمزيته على كل من أعمار بني آدم.و لا ريب أن عمره و حياته صلى اللّه عليه و سلم من أعظم النعم و الآيات،فهو أهل أن يقسم به.و القسم به أولى من القسم بغيره من المخلوقات (3).

ص: 263


1- التبيان(1-3).
2- قال الزمخشري:و قيل الخطاب-يعني في الآية-لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و أنه أقسم بحياته و ما أقسم بحياة أحد قط كرامة له...)الكشاف(317/2-318).و انظر الطبري(44/14).
3- التبيان(429).

باب منه:

و من ذلك قوله-سبحانه: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ(15) اَلْجَوارِ الْكُنَّسِ(16) وَ اللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَ الصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18)[التكوير]،أقسم-سبحانه-بالنجوم في أحوالها الثلاثة،من طلوعها،و جريانها،و غروبها.هذا قول على،و ابن عباس،و عامة المفسرين.و هو الصواب.

و الخنس جمع خانس،و الخنس الانقباض و الاختفاء،و منه سمي الشيطان خناسا، لانقباضه و انكماشه حين يذكر العبد ربه،و منه قول أبي هريرة:فانخنست.

و الكنس جمع كانس،و هو الداخل في كناسه،أي في بيته،و منه تكنست المرأة إذا دخلت في هودجها و منه كنس الظباء،إذا أوت إلى أكناسها.

و الجواري جمع جارية،كغاشية و غواش.قال علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه:النجوم تخنس بالنهار و تظهر بالليل،و هذا قول مقاتل و عطاء و قتادة،و غيرهم،قالوا:الكواكب تخنس بالنهار،فتختفي و لا ترى،و تكنس في وقت غروبها.و معنى تخنس-على هذا القول- تتأخر عن البصر،و تتوارى عنه بإخفاء النهار لها.

و فيه قول آخر،و هو أن خنوسها رجوعها،و هي حركتها الشرقية،فإن لها حركتين حركة بفعلها و حركة بنفسها،فخنوسها حركتها بنفسها راجعة.و على هذا فهو قسم بنوع من الكواكب،و هي السيارة و هذا قول الفراء.

و فيه قول ثالث،و هو أن خنوسها و كنوسها اختفاؤها وقت مغيبها،فتغيب في مواضعها التي تغيب فيها،و هذا قول الزجاج.

و لما كان للنجوم حال ظهور،و حال اختفاء،و حال جريان،و حال غروب-أقسم- سبحانه-بها في أحوالها كلها.و نبه بخنوسها على حال ظهورها؛لأن الخنوس هو الاختفاء بعد الظهور،و لا يقال لما لا يزال مختفيا:إنه قد خنس.فذكر-سبحانه-جريانها و غروبها صريحا،و خنوسها و ظهورها،و اكتفى من ذكر طلوعها بجريانها الذي مبدؤه الطلوع، فالطلوع أول جريانها.

فتضمن القسم طلوعها،و غروبها،و جريانها،و اختفاءها،و ذلك من آيات و دلائل ربوبيته.

و ليس قول من فسرها بالظباء و بقر الوحش بالظاهر لوجوه:

ص: 264

أحدها:أن هذه الأحوال في الكواكب السيارة أعظم آية و عبرة.

و الثاني:اشترك أهل الأرض في معرفته بالمشاهدة و العيان (1).

الثالث:أن البقر و الظباء ليست لها حالة تختفي فيها عن العيان مطلقا،بل لا تزال ظاهرة في الفلوات.

الرابع:أن الذين فسروا الآية بذلك قالوا:ليس خنوسها من الاختفاء،قال الواحدي:

هو من الخنس في الأنف،و هو تأخر الأرنبة و قصر القصبة،و البقر و الظباء أنوفهن خنس، و البقرة خنساء،و الظبي أخنس.و منه سميت الخنساء (2)لخنس أنفها.و معلوم أن هذا أمر خفي يحتاج إلى تأمل،و أكثر الناس لا يعرفونه.و آيات الرب التي يقسم بها لا تكون إلا ظاهرة جلية،يشترك في معرفتها الخلائق،و ليس الخنس في أنف البقرة و الظباء بأعظم من الاستواء و الاعتدال في أنف ابن آدم،فالآية فيه أظهر.

الخامس:أن كنوسها في أكنتها ليس بأعظم من دخول الطير و سائر الحيوانات في بيته الذي يأوي فيه،و لا أظهر منه،حتى يتعين للقسم.

السادس:أنه لو كان جمعا للظبي لقال الخنس-بالتسكين-لأنه جمع أخنس،فهو كأحمر و حمر،و لو أريد به جمع بقرة خنساء،لكان على وزن«فعلاء»أيضا،كحمراء و حمر،فلما جاء جمعه على«فعّل»-بالتشديد-استحال أن يكون جمعا لواحد من الظباء و البقر.و تعين أن يكون جمعا لخانس،كشاهد و شهد،و صائم و صوم،و قائم و قوم، و نظائرها.

السابع:أنه ليس بالبين إقسام الرب تعالى بالبقر و الغزلان،و ليس هذا عرف القرآن و لا عادته.و إنما يقسم-سبحانه-من كل جنس بأعلاه،كما أنه لما أقسم بالنفوس أقسم بأعلاها،و هي النفس الإنسانية.و لما أقسم بكلامه أقسم بأشرفه و أجله،و هو القرآن.و لما أقسم بالعلويات أقسم بأشرفها و هي السماء،و شمسها و قمرها،و نجومها.و لما أقسم بالزمان أقسم بأشرفه،و هو الليالي العشر،و إذا أراد-سبحانه-أن يقسم بغير ذلك أدرجه في العموم،كقوله: فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ(38) وَ ما لا تُبْصِرُونَ (39)[الحاقة]و قوله: اَلذَّكَرَ وَ الْأُنْثى [القيامة:39]في قراءة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و نحو ذلك..

ص: 265


1- انظر المقدمة في الكلام عن«الإعجاز في القرآن»في العلوم الطبيعية.
2- هي تماضر بنت عمرو بن الشريد السلمية الشاعرة الصحابية.توفيت سنة 24 ه.

الثامن:أن اقتران القسم بالليل و الصبح يدل على أنها النجوم،و إلا فليس باللائق اقتران البقر و الغزلان و الليل و الصبح في قسم واحد.و بهذا احتج أبو إسحاق على أنها النجوم،فقال:هذا أليق بذكر النجوم منه بذكر الوحش.

التاسع:أنه لو أراد ذلك-سبحانه-لبيته و ذكر ما يدل عليه،كما أنه لما أراد بالجواري السفن،قال وَ مِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32)[الشورى]و هنا ليس في اللفظ و لا في السياق ما يدل على أنها البقر و الظباء.و فيه ما يدل على أنها النجوم من الوجوه التي ذكرناها و غيرها.

العاشر:أن الارتباط الذي بين النجوم التي هي هداية للسالكين و رجوم للشياطين و بين المقسم عليه-و هو القرآن،الذي هو هدى للعالمين،و زينة للقلوب،و داحض لشبهات الشيطان-أعظم من الارتباط الذي بين البقر و الظباء و القرآن،و اللّه أعلم (1).

باب منه:

فكم من قسم في القرآن بها كقوله: وَ السَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1)[البروج]، وَ السَّماءِ وَ الطّارِقِ (1)[الطارق]، وَ السَّماءِ وَ ما بَناها (5)[الشمس]، وَ السَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11)[الطارق]، وَ الشَّمْسِ وَ ضُحاها (1)[الشمس]، وَ النَّجْمِ إِذا هَوى (1)[النجم]، اَلنَّجْمُ الثّاقِبُ (3)[الطارق]، فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15)[التكوير]،و هي الكواكب التي تكون خنسا عند طلوعها.جواريا في مجراها و مسيرها،كنسا عند غروبها،فأقسم بها في أحوالها الثلاثة،و لم يقسم في كتابه بشيء من مخلوقاته أكثر من السماء و النجوم و الشمس و القمر.

و هو-سبحانه-يقسم بما يقسم به من مخلوقاته،لتضمنه الآيات و العجائب الدالة عليه،و كلما كان أعظم آية و أبلغ في الدلالة،كان إقسامه به أكثر من غيره-و لهذا يعظم- سبحانه-هذا القسم،كقوله: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ(75) وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)[الواقعة]،و أظهر القولين،أنه قسم بمواقع هذه النجوم التي في السماء،فإن اسم النجوم عند الإطلاق إنما ينصرف إليها،و أيضا فإنه لم تجر عادته-سبحانه-باستعمال النجوم في آيات القرآن و لا في موضع واحد من كتابه حتى تحمل عليه هذه الآية،و جرت عادته باستعمال النجوم في الكواكب في جميع القرآن.

و أيضا فإن نظير الإقسام بمواقعها هنا،إقسامه بهوى النجوم في قوله: وَ النَّجْمِ إِذا هَوى (1)[النجم]).

ص: 266


1- التبيان(115-118).

و أيضا فإن هذا قول جمهور أهل التفسير،و أيضا فإنه-سبحانه-يقسم بالقرآن نفسه لا بوصوله إلى عباده.

هذه طريقة القرآن قال اللّه تعالى: ص وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)[ص]، يس(1) وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)[يس]، ق وَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)[ق]، حم(1) وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) [الدخان]،و نظائره.

و المقصود أنه-سبحانه-إنما يقسم من مخلوقاته بما هو من آياته الدالة على ربوبيته و وحدانيته (1).).

ص: 267


1- مفتاح دار السعادة(2/5).

ألفاظ القرآن و مقاصدها

بيان الوجوه التي تنقسم إليها معاني ألفاظ القرآن

الوجوه التي تنقسم إليها معاني ألفاظ القرآن عشرة أقسام:

القسم الأول:تعريفه-سبحانه-لعباده بأسمائه،و صفات كماله،و نعوت جلاله و أفعاله مثال(إن ربكم اللّه)،و أنه واحد لا شريك له،و ما يتبع ذلك.

القسم الثاني:ما استشهد به على ذلك من آيات قدرته،و آثار حكمته فيما خلق و ذرأ في العالم الأعلى و الأسفل من أنواع بريته و أصناف خليقته؛محتجا به على من ألحد في أسمائه و توحيده،و عطله عن صفات كماله و عن أفعاله،و كذلك البراهين العقلية التي أقامها على ذلك،و الأمثال المضروبة،و الأقيسة العقلية التي تقدمت الإشارة إلى الشيء اليسير منها.

القسم الثالث:ما اشتمل عليه بدء الخلق،و إنشاؤه،و مادته،و ابتداعه له،و سبق بعضه على بعض،و عدد أيام التخليق،و خلق آدم،و إسجاد الملائكة،و شأن إبليس و تمرده و عصيانه،و ما يتبع ذلك.

القسم الرابع:ذكر المعاد و النشأة الأخرى،و كيفيته و صورته،إحالة الخلق فيه من حال إلى حال،و إعادتهم خلقا جديدا.

القسم الخامس:ذكر أحوالهم في معادهم،و انقسامهم إلى شقي و سعيد،و مسرور بمنقلبه و مثبور به،و ما يتبع ذلك.

القسم السادس:ذكر القرون الماضية و الأمم الخالية،و ما جرى عليهم،و ذكر أحوالهم مع أنبيائهم،و ما نزل بأهل العناد و التكذيب منهم من المثلات،و ما حل بهم من العقوبات؛ ليكون ما جرت عليه أحوال الماضيين عبرة للمعاندين فيحذروا سلوك سبيلهم في التكذيب و العصيان.

القسم السابع:الأمثال التي ضربها لهم،و المواعظ التي وعظهم بها،ينبههم بها على قدر الدنيا،و قصر مدتها و آفاقها؛ليزهدوا فيها،و يتركوا الإخلاد إليها،و يرغبوا فيما أعد لهم في الآخرة من نعيمها المقيم و خيرها الدائم.

ص: 268

القسم الثامن:ما تضمنه من الأمر و النهي و التحليل و التحريم و بيان ما فيه طاعته و معصيته،و ما يحبه من الأعمال و الأقوال و الأخلاق،و ما يكرهه،و يبغضه منها،و ما يقرب إليه،و يدني من ثوابه،و ما يبعد منه،و يدني من عقابه،و قسم هذا القسم إلى فروض فرضها،و حدود حدها و زواجر زجر عنها،و أخلاق و شيم رغب فيها.

القسم التاسع:ما عرفهم إياه من شأن عدوهم و مداخله عليهم،و مكايده لهم،و ما يريده بهم،و عرفهم إياه من طريق التحصن منه و الاحتراز من بلوغ كيده منهم،و ما يتداركون به ما أصيبوا به في معركة الحرب بينهم و بينه،و ما يتبع ذلك.

القسم العاشر:ما يختص بالسفير بينه و بين عباده عن أوامره و نواهيه،و ما اختصه به، من الإباحة و التحريم،و ذكر حقوقه على أمته،و ما يتعلق بذلك.

فهذه عشرة أقسام عليها مدار القرآن،و إذا تأملت الألفاظ المتضمنة لها وجدتها ثلاثة أنواع:

أحدها:ألفاظ في غاية العموم،فدعوى التخصيص فيها:يبطل مقصودها،و فائدة الخطاب بها.

الثاني:ألفاظ في غاية الخصوص،فدعوى العموم فيها لا سبيل إليه.

الثالث:ألفاظ متوسطة بين العموم و الخصوص (1).

من أنواع استعمال القرآن لبعض الألفاظ

إن في القرآن الكريم ألفاظا استعملت في معان لم تكن تعرفها العرب؛و هي أسماء الشريعة؛كالصلاة و الزكاة،و الصيام و الاعتكاف و نحوها.

و الأسماء الدينية كالإسلام و الإيمان و الكفر و النفاق و نحوها.و أسماء مجملة لم يرد ظاهرها،كالسارق و السارقة،و الزاني و الزانية،و نحوه.و أسماء مشتركة كالقرء، و«عسعس»،و نحوهما،فهذه الأسماء لا تفيد اليقين بالمراد منها.

فيقال:هذه الأسماء جارية في القرآن ثلاثة أنواع:نوع بيانه معه،فهو مع بيانه يفيد اليقين بالمراد منه،و نوع بيانه في آية أخرى،فيستفاد اليقين بالمراد من مجموع الاثنين، و نوع بيانه موكل إلى الرسول صلى اللّه عليه و سلم،فيستفاد اليقين من المراد منه ببيان الرسول.

ص: 269


1- الصواعق المرسلة(648/2-686).

و لم نقل نحن و لا أحد من العقلاء:إن كل لفظ فهو مفيد لليقين بالمراد منه بمجرد من غير احتياج إلى لفظ آخر،متصل به،أو منفصل عنه،بل نقول:إن مراد المتكلم يعلم من لفظه المجرد تارة،و المقرون تارة و منه و من لفظ آخر يفيدان اليقين بمراده تارة و منه و من بيان آخر بالفعل أو القول يحيل المتكلم عليه تارة،و ليس في القرآن خطاب أريد منه العلم بمدلوله إلا و هو داخل في هذه الأقسام (1).

خطأ تحميل اللفظ فوق ما يحتمله

العلم بمراد المتكلم يعرف تارة:من عموم لفظه،و تارة من عموم علته،و الحوالة على الأول أوضح لأرباب الألفاظ،و على الثاني أوضح لأرباب المعاني و الفهم و التقدير.

و قد يعرض لكل من الفريقين ما يخل بمعرفة مراد المتكلم،فيعرض لأرباب الألفاظ التقصير بها عن عمومها و هضمها تارة،و تحميلها فوق ما أريد بها تارة،و يعرض لأرباب المعاني فيها نظير ما يعرض لأرباب الألفاظ.

فهذه أربع آفات هي منشأ غلط الفريقين،و نحن نذكر بعض الأمثلة لذلك ليعتبر به غيره، فتقول:قال اللّه تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)[المائدة]،فلفظ الخمر عام في كل مسكر،فإخراج بعض الأشربة المسكرة عن شمول اسم الخمر لها تقصير به،و هضم لعمومه،بل الحق ما قاله صاحب الشرع:«كل مسكر خمر».

و إخراج بعض أنواع الميسر عن شمول اسمها لها تقصير أيضا به،و هضم لمعناه،فما الذي جعل النرد الخالي عن العوض من الميسر،و أخرج الشطرنج عنه مع أنه من أظهر أنواع الميسر،كما قال غير واحد من السلف:إنه ميسر،و قال علي كرم اللّه وجهه:هو ميسر العجم.

و أما تحميل اللفظ فوق ما يحتمله،فكما حمل لفظ قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ [النساء:29]و قوله في آية البقرة إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ [البقرة:282]مسألة العينة (2)التي هي ربا بحيلة و جعلها من التجارة،و لعمر اللّه إن الربا الصريح تجارة للمرابي،و أي تجارة.

ص: 270


1- الصواعق المرسلة(753/2-754).
2- هي أن يشتري من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمى،ثم يبيعها له بأقل من الثمن الذي اشتراها به.

و كما حمل قوله تعالى: فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة:230]على مسألة التحليل،و جعل التيس المستعار الملعون على لسان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم،داخلا في اسم الزوج،و هذا في التجارة يقابل الأول في التقصير.

و لهذا كان معرفة حدود ما أنزل اللّه على رسوله أصل العلم،و قاعدته و آخيته،التي يرجع إليها،فلا تخرج شيئا من معاني ألفاظه عنها،و لا يدخل فيها ما ليس منها،بل يعطيها حقها و يفهم المراد منها.

و من هذا لفظ الأيمان و الحلف،أخرجت طائفة منه الأيمان الالتزامية التي يلتزم صاحبها بها إيجاب شيء أو تحريمه،و أدخلت طائفة فيها التعليق المحض الذي لا يقتضي حضا و لا منعا،الأول:نقص من المعاني،و الثاني:تحميل له فوق معناه.

و من ذلك لفظ الربا أدخلت فيه طائفة ما لا دليل على تناول اسم الربا كبيع الشيرج بالسمسم،و الدبس بالعنب،و الزيت بالزيتون،و كل ما استخرج من ربوي،و عمل منه بأصله،و إن خرج عن اسمه،و مقصوده و حقيقته.و هذا لا دليل عليه يوجب المصير إليه،لا من كتاب،و لا من سنة،و لا إجماع،و لا ميزان صحيح.

و أدخلت فيه مسائل:مد عجوة ما هو أبعد شيء عن الربا،و أخرجت طائفة أخرى منه ما هو من الربا الصحيح حقيقة قصدا و شرعا كالحيل الربوية التي هي أعظم مفسدة من الربا الصريح،و مفسدة الربا البحت التي لا يتوصل إليه بالسلاليم أقل بكثير،و أخرجت منه طائفة بيع الرطب بالتمر،و إن كان كونه من الربا أخفى من كون الحيل الربوية منه،فإن التماثل موجود فيه في الحال دون المال،و حقيقة الربا في الحيل الربوية أكمل،و أتم منها في العقد الربوي الذي لا حيلة فيه.

و من ذلك لفظ البينة قصرت بها طائفة.فأخرجت منه الشاهد و اليمين و شهادة العبيد العدول الصادقين المقبولي القول على اللّه و رسوله،و شهادة النساء منفردات في المواضع التي لا يحضرهن فيه الرجال كالأعراس و الحمامات.و شهادة الزوج في اللعان إذا نكلت المرأة،و أيمان المدعين الدم إذا ظهر اللوث،و نحو ذلك مما يبين الحق أعظم من بيان الشاهدين.و شهادة القاذف،و شهادة الأعمى على ما يتيقنه،و شهادة أهل الذمة على الوصية في السفر إذا لم يكن هناك مسلم،و شهادة الحال في تداعي الزوجين متاع البيت،و تداعي النجار و الخياط آلتهما و نحو ذلك.

و أدخلت فيه طائفة ما ليس منه كشهادة مجهول الحال الذي لا يعرف بعدالة،و لا فسق،

ص: 271

و شهادة وجوه الأجر و معاقد القمط و نحو ذلك.

و الصواب:أن كل ما بين الحق فهو بينة،و لم يعطل اللّه و لا رسوله حقا بعد ما تبين بطريق من الطرق أصلا،بل حكم اللّه و رسوله الذي لا حكم له سواه أنه متى ظهر الحق، و وضح بأي طريق كان،وجب تنفيذه،و نصره و حرم تعطيله و إبطاله.

و هذا باب يطول استقصاؤه،و يكفي المستبصر التنبيه عليه،و إذا فهم هذا في جانب اللفظ فهم نظيره في جانب المعنى سواء (1).

من الألفاظ المكروهة

منها:أن يسمى أدلة القرآن و السنة ظواهر لفظية و مجازات،فإن هذه التسمية تسقط حرمتها من القلوب،و لا سيما إذا أضاف إلى ذلك تسمية شبه المتكلمين و الفلاسفة قواطع عقلية..فلا إله إلا اللّه،كم حصل بهاتين التسميتين من فساد في العقول،و الأديان،و الدنيا و الدين (2).

و كذلك:و ليحذر كل الحذر من طغيان«أنا»،«ولي»،«و عندي»،فإن هذه الألفاظ الثلاثة ابتلي بها إبليس،و فرعون،و قارون، قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ [الأعراف:12]لإبليس،و لِي مُلْكُ مِصْرَ [الزخرف:51]لفرعون،و إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي [القصص:78]لقارون.

و أحسن ما وضعت«أنا»في قول العبد:أنا العبد المذنب،المخطئ،المستغفر،المعترف و نحوه.«ولي»،في قوله:لي الذنب،ولي الجرم،ولي المسكنة،ولي الفقر و الذل:

«و عندي»في قوله«اغفر لي جدي،و هزلي،و خطئي،و عمدي،و كل ذلك عندي» (3)(4).

ص: 272


1- إعلام الموقعين(282/1-285).
2- زاد المعاد(473/2).
3- البخاري(6399)في الدعوات،باب:قول النبي صلى اللّه عليه و سلم:«اللهم اغفر لي ما قدمت و ما أخرت»،و مسلم (70/2719)في الذكر و الدعاء و التوبة و الاستغفار،باب:التعوذ من شر ما عمل و من شر ما لم يعمل.
4- زاد المعاد(475/2).

بعض ألفاظ القرآن الكريم و مقاصدها

اشارة

كالطبع و الختم و الغشاوة و الغطاء و غيرها

قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(6) خَتَمَ اللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7)[البقرة].

و قال تعالى: أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللّهُ عَلى عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللّهِ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (23)[الجاثية].

و قال تعالى: وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ [النساء:155].

و قال تعالى: كَذلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ [الأعراف:101].

و قال تعالى: وَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ [الأعراف:100].

و قال تعالى: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24)[محمد:24].

و قال: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(7) إِنّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ(8) وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9) وَ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10)[يس].

و قد دخل هذه الآيات و نحوها طائفتا القدرية و الجبرية،فحرفها القدرية بأنواع من التحريف المبطل لمعانيها و ما أريد منها.

و زعمت الجبرية أن اللّه أكرهها على ذلك؛و قهرها عليه،و أجبرها من غير فعل منها، و لا إرادة،و لا اختيار،و لا كسب البتة،بل حال بينها و بين الهدى ابتداء من غير ذنب،و لا سبب من العبد يقتضي ذلك،بل أمره،و حال مع أمره بينه و بين الهدى،فلم ييسر إليه سبيلا،و لا أعطاه عليه قدرة،و لا مكنه منه بوجه.

و أراد بعضهم:بل أحب له الضلال و الكفر و المعاصي و رضيه منه.

فهدى أهل السنة،و الحديث و أتباع الرسول لما اختلف فيه هاتان الطائفتان من الحق بإذنه،و اللّه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

ص: 273

قالت القدرية:لا يجوز حمل هذه الآيات على أنه منعهم من الإيمان،و حال بينهم و بينه،إذ يكون لهم الحجة على اللّه،و يقولون كيف يأمرنا بأمر،ثم يحول بيننا و بينه، و يعاقبنا عليه،و قد منعنا من فعله؟و كيف يكلفنا بأمر لا قدرة لنا عليه؟و هل هذا إلا بمثابة من أمر عبده بالدخول من باب ثم سد عليه الباب سدا محكما لا يمكنه الدخول معه البتة ثم عاقبه أشد العقوبة على عدم الدخول؟،و بمنزلة من أمره بالمشي إلى مكان ثم قيده بقيد لا يمكنه معه نقل قدمه،ثم أخذ يعاقبه على ترك المشي؟

و إذا كان هذا قبيحا في حق المخلوق الفقير المحتاج،فكيف ينسب إلى الرب تعالى مع كمال غناه،و علمه،و إحسانه،و رحمته؟

قالوا:و قد كذّب اللّه-سبحانه-الذين قالوا قلوبنا غلف،و في أكنة،و إنها قد طبع عليها،و ذمهم على هذا القول فكيف ينسب إليه تعالى؟

و لكن القوم لما أعرضوا،و تركوا الاهتداء بهداه الذي بعث به رسله حتى صار ذلك الإعراض و النفار كالإلف،و الطبيعة،و السجية أشبه حالهم حال من منع عن الشيء و صد عنه،و صار هذا وقرا في آذانهم،و ختما على قلوبهم،و غشاوة على أعينهم،فلا يخلص إليها الهدى.

و إنما أضاف اللّه تعالى ذلك إليه؛لأن هذه الصفة قد صارت في تمكنها،و قوة ثباتها كالخلقة التي خلق عليها العبد.قالوا:و لهذا قال تعالى: كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14)[المطففين].

و قال: بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ [النساء:155]و قال: فَلَمّا زاغُوا أَزاغَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5].

و قال: فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللّهَ ما وَعَدُوهُ وَ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77)[التوبة].

و لعمر اللّه إن الذي قاله هؤلاء،حقه أكثر من باطله و صحيحه أكثر من سقيمه،و لكن لم يوفوه حقه؛و عظموا اللّه من جهة،و أخلوا بتعظيمه من جهة؛فعظموه بتنزيهه عن الظلم؛ و خلاف الحكمة،و أخلوا بتعظيمه من جهة التوحيد،و كمال القدرة و نفوذ المشيئة.

و القرآن يدل على صحة ما قالوه في الران،و الطبع،و الختم من وجه،و بطلانه من وجه.

و أما صحته فإنه سبحانه جعل ذلك عقوبة لهم،و جزاء على كفرهم و إعراضهم عن الحق بعد

ص: 274

أن عرفوه،كما قال تعالى: فَلَمّا زاغُوا أَزاغَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ وَ اللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ [الصف:5].

و قال: كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14)[المطففين].

و قال: وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ نَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) [الأنعام].

و قال: ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ [التوبة:127].

و قد اعترف بعض القدرية بأن ذلك خلق اللّه-سبحانه-و لكنه عقوبة على كفرهم و إعراضهم السابق،فإنه سبحانه يعاقب على الضلال المقدور بإضلال بعده و يثيب على الهدى بهدى بعده،كما يعاقب على السيئة بسيئة مثلها،و يثيب على الحسنة بحسنة مثلها.

قال تعالى: وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَ آتاهُمْ تَقْواهُمْ (17)[محمد].

و قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ قُولُوا قَوْلاً سَدِيداً(70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ [الأحزاب:

70-71].

و قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَ يُكَفِّرْ [الأنفال:29].

و من الفرقان الهدى الذي يفرق به بين الحق و الباطل.

قال في ضد ذلك: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَ اللّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا [النساء:88].

و قال: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً [البقرة:10].

و قال: ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ [التوبة:127].

و هذا الذي ذهب إليه هؤلاء حق،و القرآن دل عليه،و هو موجب العدل،-و اللّه سبحانه- ماض في العبد حكمه،عدل في عبده قضاؤه،فإنه إذا دعا عبده إلى معرفته،و محبته، و ذكره،و شكره فأبى العبد إلا إعراضا و كفرا قضى عليه؛بأن أغفل قلبه عن ذكره،و صده عن الإيمان به،و حال بين قلبه و بين قبول الهدى،و ذلك عدل منه فيه،و تكون عقوبته بالختم،و الطبع و الصد عن الإيمان،كعقوبته له بذلك في الآخرة مع دخول النار،كما قال:

كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ(15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16)[المطففين].

فحجابه عنهم إضلال لهم،و صد عن رؤيته،و كمال معرفته كما عاقب قلوبهم في هذه الدار بصدها عن الإيمان.

و كذلك عقوبته لهم بصدهم عن السجود له يوم القيامة مع الساجدين هو جزاء امتناعهم من السجود له في الدنيا.

ص: 275

و كذلك عماهم عن الهدى في الآخرة عقوبة لهم على عماهم في الدنيا،لكن أسباب هذه الجرائم في الدنيا كانت مقدورة لهم واقعة باختيارهم،و إرادتهم و فعلهم،فإذا وقعت عقوبات لهم تكن مقدورة،بل قضاء جار ماض عدل فيهم.و قال تعالى: وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَ أَضَلُّ سَبِيلاً (72)[الإسراء].

و من هاهنا ينفتح للعبد باب واسع عظيم النفع جدا،في قضاء اللّه المعصية و الكفر و الفسوق على العبد،و أن ذلك محض عدل فيه.

و ليس المراد بالعدل ما يقوله الجبرية:إنه الممكن،فكل ما يمكن فعله بالعبد فهو عندهم عدل،و الظلم هو الممتنع لذاته،فهؤلاء قد سدوا على أنفسهم باب الكلام في الأسباب و الحكم.

و لا المراد به ما يقوله القدرية النفاة:إنه إنكار عموم قدرة اللّه و مشيئته على أفعال عباده،و هدايتهم و إضلالهم،و عموم مشيئته لذلك،و إن الأمر إليهم لا إليه.

و تأمل قول النبي صلى اللّه عليه و سلم:«ماض فيّ حكمك،عدل فيّ قضاؤك» (1)،كيف ذكر العدل في القضاء مع الحكم النافذ،و في ذلك رد لقول الطائفتين القدرية و الجبرية،فإن العدل الذي أثبتته الجبرية مناف للحكمة و الرحمة،و لحقيقة العدل.

و العدل الذي هو اسمه و صفته و نعته-سبحانه-خارج عن هذا و هذا،و لم يعرفه إلا الرسل و أتباعهم.و لهذا قال هود-عليه الصلاة و السلام-لقومه إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَ رَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)[هود].

فأخبر عن عموم قدرته،و نفوذ مشيئته،و تصرفه في خلقه كيف شاء،ثم أخبر أنه في هذا التصرف و الحكم على صراط مستقيم.

و قال أبو إسحاق:أي:هو سبحانه،و إن كانت قدرته تنالهم بما شاء؛فإنه لا يشاء إلا العدل.

و قال ابن الأنباري،لما قال: هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها ،كان في معنى:لا يخرج من قبضته،و أنه قاهر بعظيم سلطانه لكل دابة فأتبعه قوله: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ .

قال:و هذا نحو كلام العرب إذا وصفوا بحسن السيرة و العدل و الإنصاف؛قالوا:فلان على طريقة حسنة،و ليس ثم طريق،ثم ذكر وجها آخر فقال:لما ذكر أن سلطانه قد قهر كل).

ص: 276


1- رواه الإمام أحمد(391/1)،و قال الهيثمي في المجمع(139/10):«رجال أحمد الصحيح غير أبي سلمة الجهني و قد وثقه ابن حبان»،و صحّح إسناده الشيخ أحمد شاكر(3712).

دابة،أتبع هذا قوله:إن ربي على صراط مستقيم،أي:لا تخفى عليه مشيئة،و لا يعدل عنه هارب،فذكر الصراط المستقيم و هو يعني به:الطريق الذي لا يكون لأحد مسلك إلا عليه، كما قال: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14)[الفجر].

قلت:فعلى هذا القول الأول يكون المراد:أنه في تصرفه في ملكه يتصرف بالعدل، و مجازاة المحسن بإحسانه،و المسيء بإساءته،و لا يظلم مثقال ذرة،و لا يعاقب أحدا بما لم يجنه،و لا يهضمه ثواب ما عمله،و لا يحمل عليه ذنب غيره،و لا يأخذ أحدا بجريرة أحد، و لا يكلف نفسا ما لا تطيقه،فيكون من باب: لَهُ الْمُلْكُ وَ لَهُ الْحَمْدُ [التغابن:1].

و من باب:«ماض فيّ حكمك،عدل فيّ قضاؤك» (1).

و من باب: اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2)[الفاتحة]،أي:كما أنه رب العالمين المتصرف فيهم بقدرته و مشيئته،فهو المحمود على هذا التصرف،و له الحمد على جميعه.

و على القول الثاني،المراد به:التهديد و الوعيد،و أن مصير العباد إليه و طريقهم عليه لا يفوته منهم أحد،كما قال تعالى: قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)[الحجر].

قال الفراء:يقول مرجعهم إليّ فأجازيهم،كقوله: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14)[الفجر].

قال:و هذا كما تقول في الكلام:طريقك عليّ،و أنا على طريقك،لمن أوعدته.

و كذلك قال الكلبي و الكسائي،و مثل قوله: وَ عَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَ مِنْها جائِرٌ [النحل:9] على أحد القولين في الآية.

و قال مجاهد:الحق يرجع إلى اللّه و عليه طريقة،و«منها»أي:و من السبيل ما هو جائر عن الحق وَ لَوْ شاءَ لَهَداكُمْ [النحل:9].

فأخبر عن عموم مشيئته،و أن طريق الحق عليه موصلة إليه،فمن سلكه فإليه يصل،و من عدل عنها فإنه يضل عنه.

و المقصود:أن هذه الآيات تتضمن عدل الرب تعالى و توحيده،و اللّه يتصرف في خلقه بملكه،و حمده و عدله،و إحسانه فهو على صراط مستقيم في قوله و فعله و شرعه و قدره و ثوابه و عقابه،يقول الحق،و يفعل العدل، وَ اللّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الأحزاب:4].

فهذا العدل و التوحيد اللذان دل عليهما القرآن لا يتناقضان،و أما توحيد أهل القدر و الجبر،و عدلهم فكل منهما يبطل الآخر،و يناقضه.).

ص: 277


1- جزء من حديث صحيح سبق تخريجه ص(202).

فصل

و من سلك من القدرية هذه الطريق فقد توسط بين الطائفتين،لكنه يلزمه الرجوع إلى مثبتي القدر قطعا،و إلا تناقض أبين تناقض.فإنه زعم أن الضلال،و الطبع،و الختم، و القفل،و الوقر،و ما يحول بين العبد و بين الإيمان مخلوق للّه،و هو واقع بقدرته و مشيئته، فقد أعطى:أن أفعال العباد مخلوقة،و أنها واقعة بمشيئته،فلا فرق بين الفعل الابتدائي و الفعل الجزائي إن كان هذا مقدورا للّه واقعا بمشيئته،و الآخر كذلك،و إن لم يكن ذلك مقدورا و لا يصح دخوله تحت المشيئة،فهذا كذلك.

و التفريق بين النوعين تناقض محض.

و قد حكى هذا الفريق عن بعض القدرية:أبو القاسم الأنصاري في«شرحه الإرشاد»، فقال:و لقد اعترف بعض القدرية بأن الختم و الطبع توابع غير أنها عقوبات من اللّه لأصحاب الجرائم،قال:و ممن صار إلى هذا المذهب عبد الواحد بن زيد البصري،و بكر ابن أخته، قال:و سبيل المعاقبين بذلك سبيل المعاقبين بالنار،و هؤلاء قد بقي عليهم درجة واحدة، و قد تحيزوا إلى أهل السنة و الحديث.

فصل

و قالت طائفة منهم:الكافر هو الذي طبع على قلبه بنفسه في الحقيقة و ختم على قلبه، و الشيطان أيضا فعل ذلك،و لكن لما كان اللّه-سبحانه-هو الذي أقدر العبد و الشيطان على ذلك نسب الفعل إليه؛لإقداره للفاعل على ذلك لا لأنه هو الذي فعله.

قال أهل السنة و العدل:هذا الكلام فيه حق و باطل،فلا يقبل مطلقا و لا يرد مطلقا.

فقولكم:إن اللّه-سبحانه-أقدر الكافر و الشيطان على الطبع،و الختم كلام باطل، فإنه لم يقدر إلا على التزيين و الوسوسة،و الدعوة إلى الكفر،و لم يقدره على خلق ذلك في قلب العبد البتة،و هو أقل من ذلك و أعجز.

و قد قال النبي صلى اللّه عليه و سلم:«بعثت داعيا و مبلغا؛و ليس إليّ من الهداية شيء،و خلق إبليس مزينا،و ليس إليه من الضلالة شيء» (1).

فمقدور الشيطان أن يدعو العبد إلى فعل الأسباب التي إذا فعلها ختم اللّه على قلبه

ص: 278


1- انظر الضعفاء الكبير للعقيلي(9/2)،و ضعفه الألباني في الضعيف الجامع(2338).

و سمعه،و طبع عليه،كما يدعوه إلى الأسباب التي إذا فعلها عاقبه اللّه بالنار،فعقابه بالنار كعقابه بالختم و الطبع،و أسباب العقاب فعله،و تزيينها و تحسينها:فعل الشيطان،و الجميع مخلوق للّه.

و أما ما في هذا الكلام من الحق فهو أن اللّه-سبحانه-أقدر العبد على الفعل الذي أوجب الطبع و الختم على قلبه،فلو لا إقدار اللّه على ذلك لم يفعله.

و هذا حق،لكن القدرية لم توف هذا الموضع حقه.و قالت:أقدره قدرة تصلح للضدين،فكان فعل أحدهما باختياره و مشيئته التي لا تدخل تحت مقدور الرب،و إن دخلت قدرته الصالحة لها تحت مقدوره سبحانه،فمشيئته،و اختياره،و فعله غير واقع تحت مقدور الرب.و هذا من أبطل الباطل،فإن كل ما سواه تعالى مخلوق له داخل تحت قدرته،واقع بمشيئته،و لو لم يشأ لم يكن.

قالت القدرية:لما أعرضوا عن التدبر،و لم يصغوا إلى التذكر،و كان ذلك مقارنا لإيراد اللّه-سبحانه-حجته عليهم أضيفت أفعالهم إلى اللّه؛لأن حدوثها إنما اتفق عند إيراد الحجة عليهم.

قال أهل السنة:هذا من أمحل المحال،أن يضيف الرب إلى نفسه أمرا لا يضاف إليه البتة لمقارنته ما هو من فعله.

و من المعلوم:أن الضد يقارن الضد،فالشر يقارن الخير،و الحق يقارن الباطل، و الصدق يقارن الكذب،و هل يقال إن اللّه يحب الكفر و الفسوق و العصيان؛لمقارنتها ما يحبه من الإيمان و الطاعة،و إنه يحب إبليس؛لمقارنة وجوده لوجود الملائكة؟فإن قيل:قد ينسب الشيء إلى الشيء لمقارنته له،و إن لم يكن له فيه تأثير،كقوله تعالى: وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ(124) وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَ ماتُوا وَ هُمْ كافِرُونَ (125)[التوبة].

و معلوم:أن السورة لم تحدث لهم زيادة رجس،بل قارن رجسهم نزولها،فنسب إليها.

قيل:لم ينحصر الأمر في هذين الأمرين اللذين ذكرتموهما،و هما إحداث السورة الرجس،و الثاني مقارنته لنزولها،بل هاهنا أمر ثالث،و هو أن السورة لما أنزلت اقتضى نزولها الإيمان بها،و التصديق،و الإذعان لأوامرها و نواهيها و العمل بما فيها.

فوطن المؤمنون أنفسهم على ذلك فازدادوا إيمانا بسببها؛فنسبت زيادة الإيمان إليها؛إذ هي السبب في زيادته.

ص: 279

و كذب بها الكافرون و جحدوها،و كذبوا من جاء بها،و وطنوا أنفسهم على مخالفة ما تضمنته و إنكاره؛فازدادوا بذلك رجسا فنسب إليها؛إذ كان نزولها و وصولها إليهم هو السبب في تلك الزيادة.

فأين هذا من نسبة الأفعال القبيحة عندكم التي لا تجوز نسبتها إلى اللّه،عند دعوتهم إلى الإيمان و تدبر آياته.

على أن أفعالهم القبيحة لا تنسب إلى اللّه سبحانه،و إنما هي منسوبة إليهم،و المنسوب إليه سبحانه أفعاله الحسنة الجميلة المتضمنة للغايات المحمودة،و الحكم المطلوبة.

و الختم،و الطبع،و القفل،و الإضلال أفعال حسنة من اللّه وضعها في أليق المواضع بها؛إذ لا يليق بذلك المحل الخبيث غيرها.

و الشرك و الكفر و المعاصي و الظلم أفعالهم القبيحة التي لا تنسب إلى اللّه فعلا،و إن نسبت إليه خلقا،فخلقها غيرها و الخلق غير المخلوق،و الفعل غير المفعول،و القضاء غير المقضي،و القدر غير المقدور.

و ستمر بك هذه المسألة مستوفاة-إن شاء اللّه-في باب اجتماع الرضا بالقضاء، و سخط الكفر و الفسوق و العصيان-إن شاء اللّه.

قال القدرية:لما بلغوا في الكفر إلى حيث لم يبق طريق إلى الإيمان لهم إلا بالقسر و الإلجاء،و لم تقتض حكمته-تعالى-أن يقسرهم على الإيمان،لئلا تزول حكمة التكليف،عبر عن ترك الإلجاء و القسر بالختم و الطبع إعلاما لهم بأنهم انتهوا في الكفر و الاعتراض إلى حيث لا ينتهون عنه إلا بالقسر.و تلك الغاية في وصف لجاجهم،و تماديهم في الكفر.

قال أهل السنة:هذا كلام باطل فإنه-سبحانه-قادر على أن يخلق فيهم مشيئة الإيمان،و إرادته،و محبته فيؤمنون بغير قسر و لا إلجاء،بل إيمان اختيار و طاعة،كما قال تعالى: وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً [يونس:99].

و إيمان القسر و الإلجاء لا يسمى إيمانا،و لهذا يؤمن الناس كلهم يوم القيامة،و لا يسمى ذلك إيمانا؛لأنه عن إلجاء و اضطرار،قال تعالى: وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها [السجدة:13].

و ما يحصل للنفوس من المعرفة و التصديق بطريق الإلجاء و الاضطرار و القسر لا يسمى هدى،و كذلك قوله: أَ فَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللّهُ لَهَدَى النّاسَ جَمِيعاً [الرعد:31].

ص: 280

فقولكم لم يبق طريق إلى الإيمان إلا بالقسر باطل،فإنه بقي إلى إيمانهم طريق لم يرهم اللّه إياه،و هو مشيئته و توفيقه و إلهامه،و إمالة قلوبهم إلى الهدى،و إقامتها على الصراط المستقيم.ذلك أمر لا يعجز عنه رب كل شيء و مليكه،بل هو القادر عليه،كقدرته على خلقه ذواتهم و صفاتهم و ذرياتهم،و لكن منعهم ذلك؛لحكمته و عدله فيهم،و عدم استحقاقهم و أهليتهم لبذل ذلك لهم،كما منع السفيل خصائص العلو،و منع الحار خصائص البارد، و منع الخبيث خصائص الطيب.

و لا يقال فلم يليق فعل هذا؟فإن ذلك من لوازم ملكه،و ربوبيته،و من مقتضيات أسمائه و صفاته،و هل يليق بحكمته أن يسوي بين الطيب و الخبيث،و الحسن و القبيح،و الجيد و الرديء؟

و من لوازم الربوبية خلق الزوجين،و تنويع المخلوقات و أخلاقها.

فقول القائل لم خلق الرديء و الخبيث و اللئيم؟سؤال جاهل بأسمائه و صفاته،و ملكه و ربوبيته.

و هو سبحانه فرق بين خلقه أعظم تفريق،و ذلك من كمال قدرته،و ربوبيته،فجعل منه ما يقبل جميع الكمال الممكن،و منه ما لا يقبل شيئا منه،و بين ذلك درجات متفاوتة لا يحصيها إلا الخلاّق العليم.و هدى كل نفس إلى حصول ما هي قابلة له،و القابل و المقبول كله مفعوله و مخلوقه،و أثر فعله و خلقه.و هذا هو الذي ذهب عن الجبرية و القدرية،و لم يهتدوا إليه،و باللّه التوفيق.

قالت القدرية:الختم الطبع هو شهادته سبحانه عليهم بأنهم لا يؤمنون،و على أسماعهم، و على قلوبهم.

قال أهل السنة:هذا هو قولكم:بأن الختم و الطبع هو الإخبار عنهم ذلك،و قد تقدم فساد هذا بما فيه كفاية،و أنه لا يقال في لغة من لغات الأمم لمن أخبر عن غيره بأنه مطبوع على قلبه،و إن عليه ختما،و إنه قد طبع على قلبه و ختم عليه،بل هذا كذب على اللغات، و على القرآن.

و كذلك قول من قال إن ختمه على قلوبهم اطلاعه على ما فيها من الكفر.

و كذلك قول من قال إنه إحصاؤه عليهم حتى يجازيهم به،و قول من قال:إنه إعلامها بعلامة تعرفها بها الملائكة،و قد بينا بطلان ذلك بما فيه كفاية (1)...

ص: 281


1- سبق ذلك في فصل تحميل اللفظ ما لا يحتمل(213)..

قالت القدرية:لا يلزم من الطبع و الختم و القفل أن تكون مانعة من الإيمان،بل يجوز أن يجعل اللّه فيهم من غير أن يكون منعهم من الإيمان،بل يكون ذلك من جنس الغفلة، و البلادة،و العشا في البصر فيورث ذلك إعراضا عن الحق و تعميا عنه،و لو أنعم النظر، و تفكر و تدبر لما آثر على الإيمان غيره.

و هذا الذي قالوه يجوز أن يكون في أول الأمر فإن تمكن و استحكم من القلب و رسخ فيه امتنع معه الإيمان،و مع هذا فهو أثر فعله،و إعراضه و غفلته و إيثار شهوته و كبره على الحق و الهدى،فلما تمكن فيه و استحكم صار صفة راسخة،و طبعا،و ختما و قفلا،و رينا، فكان مبدؤه حائلا بينهم و بين الإيمان،و الإيمان ممكن معه لو شاءوا لآمنوا مع مبادئ تلك الموانع فلما استحكمت لم يبق إلى الإيمان سبيل.

و نظير هذا أن العبد يستحسن ما يهواه فيميل إليه بعض الميل،ففي هذه الحال يمكن صرف الداعية له؛إذ الأسباب لم تستحكم،فإذا استمر على ميله،و استدعى أسبابه و استمكنت لم يمكنه صرف قلبه عن الهوى،و المحبة فيطبع على قلبه،و يختم عليه فلا يبقى فيه محل لغير ما يهواه و يحبه،و كان الانصراف مقدورا له في أول الأمر،فلما تمكنت أسبابه لم يبق مقدورا له كما قال الشاعر:

تولع بالعشق حتى عشق فلما استقل به لم يطق

رأى لجة ظنها موجة فلما تمكن منها غرق

فلو أنهم بادروا في مبدأ الأمر إلى مخالفة الأسباب الصادة عن الهدى لسهل عليهم، و لما استعصى عليهم،و لقدروا عليه.

و نظير ذلك المبادرة إلى إزالة العلة قبل استحكام أسبابها،و لزومها للبدن لزوما لا ينفك منها،فإذا استحكمت العلة و صارت كالجزء من البدن عز على الطبيب استنفاذ العليل منها.

و نظير ذلك المتوحل في حمأة،فإنه ما لم يدخل تحتها فهو قادر على التخلص،فإذا توسط معظمها عز عليه و على غيره إنقاذه،فمبادئ الأمور مقدورة للعبد،فإذا استحكمت أسبابها و تمكنت لم يبق الأمر مقدورا له.

فتأمل هذا الموضع حق التأمل فإنه من أنفع الأشياء في باب القدر،و اللّه الموفق للصواب.

و اللّه-سبحانه-جاعل ذلك كله،و خالقه فيهم بأسباب منهم،و تلك الأسباب قد تكون أمورا عدمية يكفي فيها عدم مشيئة أضدادها،فلا يشاء-سبحانه-أن يخلق للعبد أسباب

ص: 282

الهدى فيبقي على العدم الأصلي،و إن أراد من عبده الهداية فهي لا تحصل حتى يريد من نفسه إعانته و توفيقه،فإذا لم يرد-سبحانه-من نفسه ذلك لم تحصل الهداية.

فصل

و مما ينبغي أن يعلم أنه لا يمتنع مع الطبع و الختم و القفل حصول الإيمان،بأن يفك الذي ختم على القلب،و طبع عليه،و ضرب عليه القفل ذلك الختم و الطابع و القفل،و يهديه بعد ضلاله،و يعلمه بعد جهله،و يرشده بعد غيه،و يفتح قفل قلبه بمفاتيح توفيقه التي هي بيده،حتى لو كتب على جبينه الشقاوة و الكفر لم يمتنع أن يمحوها،و يكتب عليه السعادة و الإيمان.

و قرأ قارئ عند عمر بن الخطاب أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24) [محمد]،و عنده شاب فقال:اللهم عليها أقفالها و مفاتيحها بيدك لا يفتحها سواك؛فعرفها له عمر و زادته عنده خيرا.

و كان عمر يقول في دعائه:اللهم إن كنت كتبتني شقيا فامحني و اكتبني سعيدا فإنك تمحو ما تشاء و تثبت.فالرب تعالى فعال لما يريد،لا حجر عليه.

و قد ضل هاهنا فريقان:

القدرية حيث زعمت أن ذلك ليس مقدّرا للرب،و لا يدخل تحت فعله؛إذ لو كان مقدورا له،و منعه العبد لناقض جوده و لطفه.

و الجبرية حيث زعمت أنه-سبحانه-إذا قدر،أو علم شيئا فإنه لا يغيره بعد هذا،و لا يتصرف فيه بخلاف ما قدره و علمه.

و الطائفتان حجرت على من لا يدخل تحت حجر أحد أصلا،و جميع خلقه تحت حجره شرعا و قدرا.و هذه المسألة من أكبر مسائل القدر،و المقصود:أنه مع الطبع و الختم و القفل لو تعرض العبد أمكنه فك ذلك الختم و الطابع،و فتح ذلك القفل،يفتحه من بيده مفاتيح كل شيء،و أسباب الفتح مقدورة للعبد غير ممتنعة عليه.و إن كان فك الختم،و فتح القفل غير مقدور له،كما أن شرب الدواء مقدور له،و زوال العلة و حصول العافية غير مقدور،فإذا استحكم به المرض و صار صفة لازمة له لم يكن له عذر في تعاطي ما إليه من أسباب الشفاء،و إن كان غير مقدور له.

و لكن لما ألف العلة و ساكنها،و لم يحب زوالها،و لا آثر ضدها عليها مع معرفته بما

ص: 283

بينها و بين ضدها من التفاوت فقد سد على نفسه باب الشفاء بالكلية.

و اللّه-سبحانه-يهدي عبده إذا كان ضالا،و هو يحسب أنه على هدى،فإذا تبين له الهدى لم يعدل عنه؛لمحبته و ملاءمته لنفسه.

فإذا عرف الهدى فلم يحبه،و لم يرض به و آثر عليه الضلال مع تكرر تعريفه منفعة هذا و خيره،و مضرة هذا و شره فقد سد على نفسه باب الهدى بالكلية،فلو أنه في هذه الحال تعرض و افتقر إلى من بيده هداه،و علم أنه ليس إليه هدى نفسه،و أنه إن لم يهده اللّه فهو ضال،و سأل اللّه أن يقيل قلبه،و أن يقيه شر نفسه و فقه و هداه.

بل لو علم اللّه منه كراهية لما هو عليه من الضلال،و أنه مرض قاتل إن لم يشفه منه أهلكه،لكانت كراهته و بغضه إياه مع كونه مبتلى به من أسباب الشفاء و الهداية.

و لكن من أعظم أسباب الشقاء و الضلال محبته له،و رضاه به،و كراهته الهدى و الحق، فلو أن المطبوع على قلبه المختوم عليه كره ذلك،و رغب إلى اللّه في فك ذلك عنه،و فعل مقدوره لكان هداه أقرب شيء إليه،و لكن إذا استحكم الطبع و الختم حال بينه و بين كراهة ذلك و سؤال الرب فكه و فتح قلبه.

فصل

فإن قيل:فإذا جوزتم أن يكون الطبع و الختم و القفل عقوبة و جزاء على الجرائم و الإعراض و الكفر السابق على فعل الجرائم-قيل:هذا موضع يغلط فيه أكثر الناس، و يظنون باللّه-سبحانه-خلاف موجب أسمائه و صفاته.

و القرآن من أوله إلى آخره إنما يدل على أن الطبع،و الختم،و الغشاوة لم يفعلها الرب سبحانه بعبده من أول وهلة حين أمره بالإيمان أو بينه له،و إنما فعله بعد تكرار الدعوة منه- سبحانه-و التأكيد في البيان و الإرشاد و تكرار الإعراض منهم و المبالغة في الكفر و العناد، فحينئذ يطبع على قلوبهم و يختم عليها فلا تقبل الهدى بعد ذلك.

و الإعراض و الكفر الأول لم يكن مع ختم و طبع،بل كان اختيارا،فلما تكرر منهم صار طبيعة و سجية،فتأمل هذا المعنى في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(6) خَتَمَ اللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7)[البقرة].

و معلوم أن هذا ليس حكما يعم جميع الكفار،بل الذين آمنوا و صدقوا الرسل كان

ص: 284

أكثرهم كفارا قبل ذلك،و لم يختم على قلوبهم،و على أسماعهم.فهذه الآيات في حق أقوام مخصوصين من الكفار،فعل اللّه بهم ذلك عقوبة منه لهم في الدنيا بهذا النوع من العقوبة العاجلة،كما عاقب بعضهم بالمسخ قردة و خنازير،و بعضهم بالطمس على أعينهم.

فهو سبحانه يعاقب بالطمس على القلوب كما يعاقب بالطمس على الأعين،و هو سبحانه قد يعاقب بالضلال عن الحق عقوبة دائمة مستمرة،و قد يعاقب به إلى وقت ثم يعافي عبده و يهديه،كما يعاقب بالعذاب كذلك.

فصل

و هنا عدة أمور عاقب بها الكفار بمنعهم عن الإيمان،و هي:الختم،و الطبع،و الأكنة و الغطاء،و الغلاف،و الحجاب،و الوقر،و الغشاوة،و الران،و الغل،و السد،و القفل، و الصمم،و البكم،و العمي،و الصد،و الصرف،و الشد على القلب،و الضلال،و الإغفال، و المرض،و تقليب الأفئدة،و الحول بين المرء و قلبه،و إزاغة القلوب،و الخذلان، و الإركاس،و التثبيط،و التزيين،و عدم إرادة هداهم و تطهيرهم،و إماتة قلوبهم بعد خلق الحياة فيها فتبقى على الموت الأصلي،و إمساك النور عنها فتبقى في الظلمة الأصلية،و جعل القلب قلبا قاسيا لا ينطبع فيه مثال الهدى و صورته،و جعل الصدر ضيقا حرجا لا يقبل الإيمان.

و هذه الأمور منها ما يرجع إلى القلب:كالختم،و الطبع،و القفل،و الأكنة،و الإغفال و المرض و نحوها.

و منها ما يرجع إلى رسوله الموصل إليه الهدى كالصمم و الوقر.

و منها ما يرجع إلى طليعته و رائده كالعمى و العشا.

و منها ما يرجع إلى ترجمانه و رسوله المبلغ عنه كالبكم النطقي،و هو نتيجة البكم القلبي،فإذا بكم القلب بكم اللسان.

و لا تصغ إلى قول من يقول:إن هذه مجازات و استعارات،فإنه قال بحسب مبلغه من العلم و الفهم عن اللّه و رسوله.

و كأن هذا القائل حقيقة القفل عنده أن يكون من حديد،و الختم أن يكون بشمع أو طين،و المرض أن يكون حمى بنافض (1)،أو قولنج (2)أو غيرهما من أمراض البدن،

ص: 285


1- نافض:حمى الرعدة.
2- و قد تكسر لامه أو هو مكسور اللام و يفتح القاف و يضم:مرض معوي مؤلم،يعسر معه خروج الثفل و الريح.

و الموت:هو مفارقة الروح للبدن ليس إلا،و العمى:ذهاب ضوء العين الذي تبصر به.

و هذه الفرقة من أغلظ الناس حجابا،فإن هذه الأمور إذا أضيفت إلى محالها كانت بحسب تلك المحال،فنسبة قفل القلب إلى القلب كنسبة قفل الباب إليه،و كذلك الختم، و الطابع الذي هو عليه هو بالنسبة إليه كالختم،و الطابع الذي على الباب و الصندوق و نحوهما،و كذلك نسبة الصمم و العمى إلى الأذن و العين،و كذلك موته و حياته نظير موت البدن و حياته،بل هذه الأمور ألزم للقلب منها للبدن.

فلو قيل:إنها حقيقة في ذلك مجاز في الأجسام المحسوسة لكان مثل قول هؤلاء و أقوى منه،و كلاهما باطل،العمى في الحقيقة و البكم و الموت و القفل للقلب،ثم قال تعالى: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46].

و المعنى:أنه معظم العمى و أصله،و هذا كقوله صلى اللّه عليه و سلم:«إنما الربا في النسيئة» (1).

و قوله:«إنما الماء من الماء» (2).

و قوله:«ليس الغنى عن كثرة العرض (3)إنما الغنى غنى النفس» (4).

و قوله:«ليس المسكين الذي ترده اللقمة و اللقمتان و التمرة و التمرتان إنما المسكين الذي لا يجد ما يغنيه و لا يفطن له فيتصدق عليه» (5).

و قوله:«ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» (6).

و لم يرد نفي الاسم عن هذه المسميات،إنما أراد أن هؤلاء أولى بهذه الأسماء،و أحق ممن يسمونه بها،فهكذا قوله: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ .

و قريب من هذا قوله: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِب.

ص: 286


1- البخاري(2178،2179)في البيوع،باب:بيع الدينار بالدينار نساء،و مسلم(101/1596)في المساقاة،باب:بيع الطعام مثلا بمثل.
2- مسلم(80/343)في الحيض،باب:إنما الماء من الماء.
3- العرض:هو ما يتموله الإنسان و يقتنيه من المال و غيره.
4- البخاري(6446)في الرقاق،باب:الغنى غنى النفس،و مسلم(120/1051)في الزكاة،باب: ليس الغنى عن كثرة العرض.
5- البخاري(1476)في الزكاة،باب:قول اللّه تعالى: لا يَسْئَلُونَ النّاسَ إِلْحافاً ،و مسلم(/1039 101)في الزكاة،باب:المسكين الذي لا يجد غنى،و لا يفطن له فيتصدق عليه.
6- البخاري(6114)في الأدب،باب:الحذر من الغضب،و مسلم(107/2609)في البر و الصلة، باب:فضل من يملك نفسه عند الغضب،و بأي شيء يذهب الغضب.

وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ الآية[البقرة:177].

و على التقديرين فقد أثبت للقلب عمى حقيقة،و هكذا جميع ما نسب إليه.و لما كان القلب ملك الأعضاء،و هي جنوده،و هو الذي يحركها و يستعملها،و الإرادة و القوى و الحركة الاختيارية تنبعث كانت هذه الأمثال أصلا و للأعضاء تبعا.

فلنذكر هذه الأمور مفصلة و مواقعها في القرآن،فقد تقدم الختم،قال الأزهري:و أصله التغطية،و ختم البذر في الأرض إذا غطاه.قال أبو إسحاق:معنى ختم و طبع في اللغة واحدة، و هو التغطية على الشيء و الاستيثاق منه فلا يدخله شيء،كما قال تعالى: أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد:24]،و كذلك قوله: طَبَعَ اللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [محمد:16].

قلت:الختم و الطبع يشتركان فيما ذكر و يفترقان في معنى آخر،و هو أن الطبع ختم يصير سجية و طبيعة،فهو تأثير لازم لا يفارق.

و أما الأكنة ففي قوله تعالى: وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ [الأنعام:25]،و هي جمع كنان،كعنان و أعنة،و أصله من الستر و التغطية،و يقال:كنه و أكنه و ليسا بمعنى واحد،بل بينهما فرق،فأكنه إذا ستره و أخفاه،كقوله تعالى: أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ [البقرة:235]، و كنه إذا صانه و حفظه،كقوله: بَيْضٌ مَكْنُونٌ [الصافات:49]،و يشتركان في الستر.و الكنان ما أكن الشيء و ستره و هو كالغلاف،و قد أقروا على أنفسهم بذلك فقالوا: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت:5]،فذكروا غطاء القلب؛و هي الأكنة،و غطاء الأذن؛و هو الوقر،و غطاء العين؛و هو الحجاب.

و المعنى:لا نفقه كلامك و لا نسمعه و لا نراك،و المعنى:أنا في ترك القبول منك بمنزلة من لا يفقه ما تقول،و لا يراك.قال ابن عباس:قلوبنا في أكنة مثل الكنانة التي فيها السهام،و قال مجاهد:كجعبة النبل،و قال مقاتل:عليها غطاء فلا نفقه ما تقول.

فصل

و أما الغطاء فقال تعالى: وَ عَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً(100) اَلَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَ كانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101)[الكهف].

و هذا يتضمن معنيين:

أحدهما:أن أعينهم في غطاء عما تضمنه الذكر من آيات اللّه،و أدلة توحيده،و عجائب قدرته.

ص: 287

و الثاني:أن أعين قلوبهم في غطاء عن فهم القرآن،و تدبره و الاهتداء به،و هذا الغطاء للقلب أولا ثم يسري منه إلى العين.

فصل

و أما الغلاف فقال تعالى: وَ قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ [البقرة:88]،و قد اختلف في معنى قولهم: قُلُوبُنا غُلْفٌ فقالت طائفة:المعنى:قلوبنا أوعية للحكمة و العلم، فما بالها لا تفهم عنك ما أتيت به أو لا تحتاج إليك.

و على هذا فيكون غلف جمع غلاف،و الصحيح قول أكثر المفسرين:إن المعنى:قلوبنا لا تفقه و لا تفهم ما تقول،و على هذا فهو جمع أغلف كأحمر و حمر.

قال أبو عبيدة:كل شيء في غلاف فهو أغلف،كما يقال:سيف أغلف،و قوس أغلف،و رجل أغلف غير مختون.

قال ابن عباس و قتادة و مجاهد:على قلوبنا غشاوة،فهي في أوعية فلا تعي،و لا تفقه ما تقول.و هذا هو الصواب في معنى الآية لتكرر نظائره في القرآن كقولهم: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ [فصلت:5]،و قوله تعالى: كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي [الكهف:101]،و نظائر ذلك.

و أما قول من قال:هي أوعية للحكمة فليس في اللفظ ما يدل عليه البتة،و ليس له في القرآن نظير يحمل عليه،و لا يقال مثل هذا اللفظ في مدح الإنسان نفسه بالعلم و الحكمة، فأين وجدتم في الاستعمال قول القائل:قلبي غلاف،و قلوب المؤمنين العالمين غلف،أي أوعية للعلم؟

و الغلاف قد يكون وعاء للجيد و الرديء،فلا يلزم من كون القلب غلافا أن يكون داخله العلم و الحكمة.و هذا ظاهر جدا،فإن قيل:فالإضراب ب«بل»على هذا القول الذي قويتموه ما معناه؟

و أما على القول الآخر فظاهر،أي ليست قلوبكم محلا للعلم و الحكمة،بل مطبوع عليها.

قيل:وجه الإضراب في غاية الظهور،و هو أنهم احتجوا بأن اللّه لم يفتح لهم الطريق إلى فهم ما جاء به الرسول و معرفته،بل جعل قلوبهم داخلة في غلف فلا تفقهه،فكيف تقوم به عليهم الحجة؟و كأنهم ادعوا أن قلوبهم خلقت في غلف،فهم معذورون في عدم

ص: 288

الإيمان،فكذبهم اللّه و قال: بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ [النساء:155]،و في الآية الأخرى:

بَلْ لَعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ [البقرة:88].

فأخبر-سبحانه-أن الطبع و الإبعاد عن توفيقه و فضله،إنما كان بكفرهم الذي اختاروه لأنفسهم و آثروه على الإيمان فعاقبهم عليه بالطبع و اللعنة،و المعنى:لم نخلق قلوبهم غلفا لا تعي و لا تفقه ثم نأمرهم بالإيمان و هم لا يفهمونه و لا يفقهونه،بل اكتسبوا أعمالا عاقبناهم عليها بالطبع على القلوب،و الختم عليها.

فصل

و أما الحجاب ففي قوله-تعالى-كحكاية عنهم: وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت:5].

و قوله: وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45)[الإسراء] على أصح القولين،و المعنى:جعلنا بين القرآن إذا قرأته و بينهم حجابا يحول بينهم و بين فهمه و تدبره و الإيمان به،و يبينه قوله: وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً [الأنعام:25].

و هذه الثلاثة المذكورة في قوله: وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت:5].

فأخبر-سبحانه-أن ذلك جعله،فالحجاب يمنع رؤية الحق،و الأكنة تمنع من فهمه، و الوقر يمنع من سماعه.

و قال الكلبي:الحجاب هاهنا مانع يمنعهم من الوصول إلى رسول اللّه بالأذى من الرعب،و نحوه مما يصدهم عن الإقدام عليه.و وصفه بكونه مستورا،فقيل:بمعنى ساتر، و قيل:على النسب،أي ذو ستر،و الصحيح:أنه على بابه،أي مستورا عن الإبصار فلا يرى.و مجيء مفعول بمعنى فاعل لا يثبت،و النسب في مفعول لم يشتق من فعله،كمكان مهول،أي:ذي هول،و رجل مرطوب أي:ذي رطوبة،فأما مفعول فهو جار على فعله فهو الذي وقع عليه الفعل كمضروب،و مجروح،و مستور.

فصل

و أما الران فقد قال تعالى: كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14)[المطففين].

قال أبو عبيدة:غلب عليها،و الخمر ترين على عقل السكران،و الموت يرين على الميت فيذهب به،و من هذا حديث أسيفع جهينة،و قول عمر:«فأصبح قد رين به»أي غلب عليه و أحاط به الرين.

ص: 289

و قال أبو معاذ النحوي:الرين:أن يسود القلب من الذنوب،و الطبع:أن يطبع على القلب،و هو أشد من الرين،و الإقفال أشد من الطبع،و هو أن يقفل على القلب.

و قال الفراء:كثرت الذنوب و المعاصي منهم فأحاطت بقلوبهم؛فذلك الرين عليها.

قال أبو إسحاق:ران:غطى،يقال:ران على قلبه الذنب يرين رينا أي غشيه.

قال:و الرين كالغشاء يغشى القلب،و مثله الغين.

قلت:أخطأ أبو إسحاق،فالغين ألطف شيء و أرقه،قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:«إنه ليغان (1)على قلبي و إني لأستغفر اللّه في اليوم مائة مرة» (2).

و أما الرين و الران فهو من أغلظ الحجب على القلب و أكثفها.و قال مجاهد:هو الذنب على الذنب حتى تحيط الذنوب بالقلب و تغشاه فيموت القلب.و قال مقاتل:غمرت القلوب أعمالهم الخبيثة.

و في سنن النسائي و الترمذي من حديث أبي هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال:«إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء،فإن هو نزع و استغفر و تاب صقل قلبه،و إن زاد زيد فيها حتى تعلو قلبه».و هو الران الذي ذكر اللّه: كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) [المطففين].قال الترمذي:هذا حديث صحيح (3).

و قال عبد اللّه بن مسعود:كلما أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء حتى يسود القلب كله، فأخبر-سبحانه-أن ذنوبهم التي اكتسبوها أوجبت لهم رينا على قلوبهم،فكان سبب الران منهم،و هو خلق اللّه فيهم،فهو خالق السبب و مسببه،لكن السبب باختيار العبد،و المسبب خارج عن قدرته و اختياره.

فصل

و أما الغل فقال تعالى لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(7) إِنّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ(8) وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ

ص: 290


1- ليغان على قلبي:قال ابن الأثير الجزري في جامع الأصول(386/4)أي:ليغطى و يغش،و المراد به: السهو،لأنه كان صلى اللّه عليه و سلم لا يزال في مزيد من الذكر و القربة و دوام المراقبة،فإذا سها عن شيء منها في بعض الأوقات،أو نسي،عده ذنبا على نفسه،ففزع إلى الاستغفار،انتهى.
2- مسلم(41/2702)في الذكر و الدعاء و التوبة و الاستغفار،باب:استحباب الاستغفار و الاستكثار منه.
3- الترمذي(3334)في التفسير،باب:و من سورة وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)قال:«حسن صحيح»،و النسائي في الكبرى(11658)في التفسير،باب: كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14).

فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9)[يس].

قال الفراء:حبسناهم عن الإنفاق في سبيل اللّه.

و قال أبو عبيدة:منعناهم عن الإيمان بموانع.

و لما كان الغل مانعا للمغلول من التصرف و التقلب كان الغل الذي على القلب مانعا من الإيمان.

فإن قيل:فالغل المانع من الإيمان هو الذي في القلب فكيف ذكر الغل الذي في العنق؟ قيل:لما كان عادة الغل أن يوضع في العنق ناسب ذكر محله،و المراد به:القلب، كقوله تعالى: وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [الإسراء:13]

و من هذا قولهم:إثمي في عنقك،و هذا في عنقك.

و من هذا قوله: وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ [الإسراء:29]شبه الإمساك عن الإنفاق باليد إذا غلت إلى العنق.

و من هذا قال الفراء:إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا،حبسناهم عن الإنفاق.قال أبو إسحاق:و إنما يقال للشيء اللازم:هذا في عنق فلان،أي:لزومه كلزوم القلادة من بين ما يلبس في العنق،قال أبو علي:هذا مثل قولهم:طوقتك كذا و قلدتك كذا،و منه:قلده السلطان كذا،أي صارت الولاية في لزومها له في موضع القلادة و مكان الطوق.

قلت:و من هذا قولهم:قلدت فلانا حكم كذا و كذا،كأنك جعلته طوقا في عنقه.

و قد سمى اللّه التكاليف الشاقة أغلالا في قوله: وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف:157]،فشبهها بالأغلال لشدتها،و صعوبتها.

قال الحسن:هي الشدائد التي كانت في العبادة كقطع أثر البول،و قتل النفس في التوبة،و قطع الأعضاء الخاطئة،و تتبع العروق من اللحم.

و قال ابن قتيبة:هي تحريم اللّه-سبحانه-عليهم كثيرا مما أطلقه لأمة محمد صلى اللّه عليه و سلم، و جعلها أغلالا لأن التحريم يمنع كما يقض الغل اليد.

و قوله: فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ ،قالت طائفة:الضمير يعود إلى الأيدي و إن لم تذكر، لدلالة السياق عليها،قالوا:لأن الغل يكون في العنق فتجمع إليه اليد،و لذلك سمي جامعة،و على هذا فالمعنى:فأيديهم،أو فأيمانهم مضمومة إلى أذقانهم هذا قول الفراء و الزجاج.

ص: 291

و قالت طائفة:الضمير يرجع إلى الأغلال،و هذا هو الظاهر،و قوله:فهي إلى الأذقان أي:واصلة و ملزوزة إليها،فهو غل عريض قد أحاط بالعنق حتى وصل إلى الذقن.

و قوله: فَهُمْ مُقْمَحُونَ قال الفراء و الزجاج:المقمح:هو الغاض بصره بعد رفع رأسه، و معنى الإقماح في اللغة:رفع الرأس و غض البصر،يقال:أقمح البعير رأسه و قمح.

و قال الأصمعي:بعير قامح إذا رفع رأسه عن الحوض،و لم يشرب.

قال الأزهري:لما غلت أيديهم إلى أعناقهم رفعت الأغلال أذقانهم،و رءوسهم صعدا، كالإبل الرافعة رءوسها،انتهى.

فإن قيل:فما وجه التشبيه بين هذا و بين حبس القلب عن الهدى و الإيمان؟قيل أحسن وجه و أبينه،فإن الغل إذا كان في العنق،و اليد مجموعة إليها منع اليد عن التصرف و البطش،فإذا كان عريضا قد ملأ العنق و وصل إلى الذقن،منع الرأس من تصويبه،و جعل صاحبه شاخص الرأس منتصبة لا يستطيع له حركة،ثم أكد هذا المنع و الحبس بقوله:

وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا [يس:9].

قال ابن عباس:منعهم من الهدى؛لما سبق في علمه.

و السد الذي جعل من بين أيديهم و من خلفهم هو الذي سد عليهم طريق الهدى،فأخبر -سبحانه-عن الموانع التي منعهم بها من الإيمان عقوبة لهم،و مثلها بأحسن تمثيل و بغلّه.

و ذلك حال قوم قد وضعت الأغلال العريضة الواصلة إلى الأذقان في أعناقهم و ضمت أيديهم إليها،و جعلوا بين السدين لا يستطيعون النفوذ من بينهما،و أغشيت أبصارهم فهم لا يرون شيئا.

و إذا تأملت حال الكافر الذي عرف الحق،و تبين له،ثم جحده و كفر به،و عاداه أعظم معاداة وجدت المثل مطابقا له أتم مطابقة،و أنه قد حيل بينه و بين الإيمان كما حيل بين هذا و بين التصرف،و اللّه المستعان.

فصل

و أما القفل فقال تعالى: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24)[محمد]

قال ابن عباس:يريد على قلوب هؤلاء أقفال.و قال مقاتل:يعني:الطبع على القلب، و كأن القلب بمنزلة الباب المرتج الذي قد ضرب عليه قفل،فإنه ما لم يفتح القفل لا يمكن فتح الباب و الوصول إلى ما وراءه،و كذلك ما لم يرفع الختم و القفل عن القلب لم يدخل الإيمان و القرآن.

ص: 292

و تأمل تنكير القلب و تعريف الأقفال،فإن تنكير القلوب يتضمن إرادة قلوب هؤلاء و قلوب من هم بهذه الصفة،و لو قال:أم على القلوب أقفالها،لم تدخل قلوب غيرهم في الجملة.

و في قوله: أَقْفالُها بالتعريف:نوع تأكيد،فإنه لو قال:«أقفال»لذهب الوهم إلى ما يعرف بهذا الإسم فلما أضافها إلى القلوب علم أن المراد بها ما هو للقلب منزلة القفل للباب،فكأنه أراد أقفالها المختصة بها التي لا تكون لغيرها،و اللّه أعلم.

فصل

و أما الصمم و الوقر ففي قوله تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [البقرة:18،171]

و قوله: أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْمى أَبْصارَهُمْ (23)[محمد].

و قوله: وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179) [الأعراف].

و قوله: وَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَ هُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [فصلت:44].

قال ابن عباس:في آذانهم صمم عن استماع القرآن،و هو عليهم عمى:أعمى اللّه قلوبهم فلا يفقهون،أولئك ينادون من مكان بعيد مثل البهيمة التي لا تفهم إلا دعاء و نداء.

و قال مجاهد:بعيد من قلوبهم.

و قال الفراء:نقول للرجل الذي لا يفهم:كذلك أنت تنادي من مكان بعيد.قال:و جاء في التفسير كأنما ينادون من السماء فلا يسمعون،انتهى.

المعنى:أنهم لا يسمعون و لا يفهمون كما أن من دعى من مكان بعيد لم يسمع و لم يفهم.

فصل

و أما البكم فقال تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [البقرة 18،171]و البكم:جمع أبكم،و هو الذي لا ينطق.و البكم نوعان:بكم القلب،و بكم اللسان،كما أن النطق نطقان:نطق القلب،و نطق اللسان،و أشدهما بكم القلب،كما أن عماه و صممه أشد من عمى العين، و صمم الأذن،فوصفهم سبحانه بأنهم لا يفقهون الحق،و لا تنطلق به ألسنتهم.

ص: 293

و العلم يدخل إلى العبد من ثلاثة أبواب،من سمعه و بصره و قلبه،و قد سدت عليهم هذه الأبواب الثلاثة،فسد السمع بالصمم،و البصر بالعمى،و القلب بالبكم.

و نظيره قوله تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها [الأعراف:179].

و قد جمع-سبحانه-بين الثلاثة في قوله: وَ جَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَ أَبْصاراً وَ أَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَ لا أَبْصارُهُمْ وَ لا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللّهِ [الأحقاف:26].

فإذا أراد اللّه-سبحانه-هداية عبد فتح قلبه و سمعه و بصره،و إذا أراد ضلاله أصمه و أعماه و أبكمه و باللّه التوفيق.

فصل

و أما الغشاوة فهو غطاء العين كما قال تعالى: وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً [الجاثية:33].

و هذا الغطاء سرى إليها من غطاء القلب،فإن ما في القلب يظهر على العين من الخير الشر،فالعين مرآة القلب تظهر ما فيه.

و أنت إذا أبغضت رجلا بغضا شديدا،أو أبغضت كلامه و مجالسته،تجد على عينك غشاوة عند رؤيته و مخالطته،فتلك أثر البغض و الإعراض عنه،و غلظت على الكفار عقوبة لهم على إعراضهم و نفورهم عن الرسول.

و جعل الغشاوة عليها يشعر بالإحاطة على ما تحته،كالعمامة،و لما عشوا عن ذكره الذي أنزله صار ذلك العشا غشاوة على أعينهم فلا تبصر مواقع الهدى.

فصل

و أما الصد فقال تعالى: وَ كَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَ صُدَّ عَنِ السَّبِيلِ [غافر:37].

قرأ أهل الكوفة على البناء للمفعول،حملا على زين،و قرأ الباقون(و صدّ)بفتح الصاد،و يحتمل وجهين أحدهما:أعرض،فيكون لازما،و الثاني:صد غيره،فيكون متعديا،و القراءتان كالآيتين لا تتناقضان (1).

و أما الشد على القلب ففي قوله تعالى: وَ قالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَ مَلَأَهُ

ص: 294


1- قرأ عاصم و حمزة و الكسائي:(و صدّ)بضم الصاد. و قرأ ابن كثير و نافع و أبو عمر و ابن عامر:(و صدّ)بفتح الصاد.«السبعة في القراءات»لابن مجاهد.

زِينَةً وَ أَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَ اشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88)[يونس]

فهذا الشد على القلب هو الصد و المنع،و لهذا قال ابن عباس:يريد امنعها،و المعنى قسها و اطبع عليها حتى لا تلين و لا تنشرح للإيمان.و هذا مطابق لما في التوراة أن-اللّه سبحانه و تعالى-قال لموسى:اذهب إلى فرعون فإني سأقسي قلبه فلا يؤمن حتى تظهر آياتي و عجائبي بمصر.

و هذا الشد و التقسية من كمال عدل الرب-سبحانه-في أعدائه،جعله عقوبة لهم على كفرهم و إعراضهم كعقوبته لهم بالمصائب،و لهذا كان محمودا عليه.فهو حسن منه و أقبح شيئ منهم،فإنه عدل منه و حكمة،و هو ظلم منهم و سفه.فالقضاء و القدر فعل عادل حكيم غني عليم يضع الخير و الشر في أليق المواضع بهما،و المقضى المقدر يكون ظلما و جورا و سفها هو فعل جاهل ظالم سفيه.

فصل

و أما الصرف فقال تعالى: وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127)[التوبة].

فأخبر-سبحانه-عن فعلهم و هو الانصراف،و عن فعله فيهم و هو صرف قلوبهم عن القرآن و تدبره؛لأنهم ليسوا أهلا له،فالمحل غير صالح،و لا قابل،فإن صلاحية المحل بشيئين:حسن فهم،و حسن قصد،و هؤلاء قلوبهم لا تفقه،و قصودهم سيئة.

و قد صرح-سبحانه-بهذا في قوله: وَ لَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ (23)[الأنفال].

فأخبر-سبحانه-عن عدم قابلية الإيمان فيهم،و أنهم لا خير فيهم يدخل بسببه إلى قلوبهم فلم يسمعهم سماع إفهام ينتفعون به،و إن سمعوه سماعا تقوم به عليهم حجة،فسماع الفهم الذي سمعه به المؤمنون لم يحصل لهم.

ثم أخبر-سبحانه-عن مانع آخر قام بقلوبهم يمنعهم من الإيمان لو أسمعهم هذا السماع الخاص،و هو الكبر و التولي و الإعراض،فالأول مانع من الفهم،الثاني مانع من الانقياد و الإذعان،فأفهام سيئة،و قصود رديئة،و هذه نسخة الضلال،و علم الشقاء كما أن نسخة الهدى،و علم السعادة فهم صحيح و قصد صالح.و اللّه المستعان.

ص: 295

و تأمل قوله سبحانه: ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ [التوبة:127]كيف جعل هذه الجملة الثانية سواء كانت خبرا أو إعادة عقوبة؛لانصرافهم فعاقبهم عليه بصرف آخر غير الصرف الأول،فإن انصرافهم كان لعدم إرادته-سبحانه-و مشيئته لإقبالهم.لأنه لا صلاحية فيهم و لا قبول،فلم ينلهم الإقبال و الإذعان فانصرفت قلوبهم بما فيها من الجهل و الظلم عن القرآن-فجازاهم على ذلك صرفا آخر غير الصرف الأول كما جازاهم على زيغ قلوبهم عن الهدى إزاغة غير الزيغ الأول كما قال: فَلَمّا زاغُوا أَزاغَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ وَ اللّهُ [الصف:5].

و هكذا إذا أعرض العبد عن ربه سبحانه جازاه بأن يعرض عنه فلا يمكنه من الإقبال عليه.

و لتكن قصة إبليس منك على ذكره تنتفع بها أتم انتفاع،فإنه لما عصى ربه تعالى و لم ينقد لأمره،و أصر على ذلك عاقبه بأن جعله داعيا إلى كل معصية،فعاقبه على معصيته الأولى بأن جعله داعيا إلى كل معصية،و فروعها صغيرها و كبيرها.و صار هذا الإعراض و الكفر منه عقوبة لذلك الإعراض و الكفر السابق،فمن عقاب السيئة السيئة بعدها،كما أن من عقاب الحسنة الحسنة بعدها.

فإن قيل:فكيف يلتئم إنكاره-سبحانه-عليهم الانصراف و الإعراض عنه،و قد قال تعالى: فَأَنّى تُصْرَفُونَ [يونس:32].و قال فَأَنّى تُؤْفَكُونَ [الأنعام:95]و قال: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49)[المدثر:49].فإذا كان هو الذي صرفهم و جعلهم معرضين و مأفوكين فكيف ينفي ذلك عليهم؟

قيل:هم دائرون بين عدله و حجته عليهم،فمكنهم،و فتح لهم الباب،و نهج لهم الطريق و هيأ لهم الأسباب،فأرسل إليهم رسله و أنزل عليهم كتبه،و دعاهم على ألسنة رسله،و جعل لهم عقولا تميز بين الخير و الشر،و النافع و الضار،و أسباب الردي و أسباب الفلاح،و جعل لهم أسماعا و أبصارا،فآثروا الهوى على التقوى و استحبوا العمى على الهدى،و قالوا:

معصيتك آثر عندنا من طاعتك،و الشرك أحب إلينا من توحيدك،و عبادة سواك أنفع لنا في دنيانا من عبادتك،فأعرضت قلوبهم عن ربهم و خالقهم و مليكهم،و انصرفت عن طاعته و محبته.

فهذا عدله فيهم،و تلك حجته عليهم،فهم سدوا على أنفسهم باب الهدى إرادة منهم و اختيارا فسده عليهم اضطرارا،فخلاهم،و ما اختاروا لأنفسهم و ولاهم ما تولوه،و مكنهم فيما ارتضوه،و أدخلهم من الباب الذي استبقوا إليه،و أغلق عنهم الباب الذي تولوا عنه

ص: 296

و هم معرضون،فلا أقبح من فعلهم،و لا أحسن من فعله،و لو شاء لخلقهم على غير هذه الصفة،و لأنشأهم على غير هذه النشأة،و لكنه سبحانه خالق العلو و السفل،و النور و الظلمة،و النافع و الضار،الطيب و الخبيث،و الملائكة و الشياطين،و الشاء و الذئاب، و معطيها آلاتها و صفاتها،و قواها و أفعالها،و مستعملها فيما خلقت له،فبعضها بطباعها، و بعضها بإرادتها و مشيئتها،و كل ذلك جار على وفق حكمته،و هو موجب حمده و مقتضى كماله المقدس،و ملكه التام،و لا نسبة لما علمه الخلق من ذلك إلى ما خفي عليهم بوجه ما،إن هو إلا كنقرة عصفور من البحر

فصل

و أما الإغفال فقال تعالى: وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَ اتَّبَعَ هَواهُ وَ كانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف:28].

سئل أبو العباس ثعلب عن قوله: أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا [الكهف:28]فقال:جعلناه غافلا،قال:و يكون في الكلام«أغفلته سميته غافلا،و وجدته غافلا».

قلت:الغفل:الشيء الفارغ،و الأرض الغفل:التي لا علامة بها،و الكتاب الغفل:

الذي لا شكل عليه،فأغفلناه:تركناه غفلا عن الذكر فارغا منه،فهو إبقاء له على العدم الأصلي؛لأنه-سبحانه-لم يشأ له الذكر فبقي غافلا،فالغفلة وصفه،و الإغفال فعل اللّه فيه بمشيئته،و عدم مشيئته لتذكره،فكل منهما مقتض لغفلته،فإذا لم يشأ له التذكر لم يتذكر، و إذا شاء غفلته امتنع منه الذكر.

فإن قيل:فهل تضاف الغفلة و الكفر و الإعراض و نحوها إلى عدم مشيئة الرب أضدادها أم إلى مشيئته لوقوعها؟

قيل:القرآن قد نطق بهذا،و بهذا قال تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ [المائدة:41].

و قال: وَ مَنْ يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً [المائدة:41] وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ [الأنعام:125].

فإن قيل:فكيف يكون عدم السبب المقتضى موجبا للأثر؟

قيل:الأثر و إن كان وجوديا فلا بد له من مؤثر وجودي،و أما العدم فيكفي فيه عدم سببه و موجبه فيبقى على العدم الأصلي،فإذا أضيف إليه كان من باب إضافته الشيء إلى

ص: 297

دليله،فعدم السبب دليل على عدم المسبب،و إذا سمي موجبا و مقتضيا بهذا الاعتبار فلا مشاحة في ذلك،و أما أن يكون العدم أثرا و مؤثرا فلا.

و هذا الإغفال ترتب عليه اتباع هواه و تفريطه في أمره،قال مجاهد:كان أمره فرطا أي ضياعا.و قال قتادة:أضاع أكبر الضيعة.و قال السدي:هلاكا.و قال أبو الهيثم:أمر فرط أي متهاون به مضيع،التفريط تقديم العجز.قال أبو إسحاق:من قدم العجز في أمر أضاعه و أهله.قال الليث:الفرط:الأمر الذي يفرط فيه،يقال:كل أمر فلان فرط.قال الفراء:

فرطا متروكا يفرط فيما لا ينبغي التفريط فيه و اتبع ما لا ينبغي اتباعه و غفل عما لا يحسن الغفلة عنه.

فصل

و أما المرض فقال تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً [البقرة:10]

و قال: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32].

و قال: يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ لِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللّهُ بِهذا مَثَلاً [المدثر:31].

و مرض القلب خروج عن صحته و اعتداله،فإن صحته أن يكون عارفا بالحق محبا له مؤثرا له على غيره،فمرضه إما بالشك فيه،و إما بإيثار غيره عليه.فمرض المنافقين مرض شك و ريب،و مرض العصاة مرض غي،و شهوة.و قد سمى اللّه سبحانه كلا منهما مرضا.

قال ابن الأنباري:أصل المرض في اللغة:الفساد،مرض فلان:فسد جسمه و تغيرت حاله،و مرضت الأرض:تغيرت و فسدت.

قالت ليلى الأخيلية:

إذا هبط الحجاج أرضا مريضة تتبع أقصى دائها فشفاها

و قال آخر:

أ لم تر أن الأرض أضحت مريضة لفقد الحسين و البلاد اقشعرت

و المرض يدور على أربعة أشياء:فساد،و ضعف،و نقصان،و ظلمة،و منه مرض الرجل في الأمر إذا ضعف فيه و لم يبالغ،و عين مريضة النظر أي:فاترة ضعيفة،و ريح مريضة:إذا هب هبوبها،كما قال:

راحت لأربعك الرياح مريضة

ص: 298

أي:لينة ضعيفة حتى لا يعفى أثرها.و قال ابن الأعرابي:أصل المرض النقصان،و منه بدن مريض أي:ناقص القوة،و قلب مريض:ناقص الدين،و مرض في حاجتي إذا نقصت حركته.

و قال الأزهري:عن المنذري عن بعض أصحابه:المرض إظلام الطبيعة و اضطرابها بعد صفائها.قال:و المرض:الظلمة،و أنشد:

و ليلة مرضت من كل ناحية فلا يضيء لها شمس و لا قمر

هذا أصله في اللغة،ثم الشك و الجهل و الحيرة و الضلال و إرادة الغي و شهوة الفجور في القلب تعود إلى هذه الأمور الأربعة،فيتعاطى العبد أسباب المرض حتى يمرض فيعاقبه اللّه بزيادة المرض لإيثاره أسبابه و تعاطيه لها.

فصل

و أما تقليب الأفئدة فقال تعالى: وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ نَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)[الأنعام:110].

و هذا عطف على أنها إذا جاءت لا يؤمنون،أي نحول بينهم و بين الإيمان،و لو جاءتهم تلك الآية فلا يؤمنون.

و اختلف في قوله: كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام:110]فقال كثير من المفسرين:

المعنى نحول بينهم و بين الإيمان لو جاءتهم الآية،كما حلنا بينهم و بين الإيمان أول مرة.قال ابن عباس،و في رواية عطاء عنه:و نقلب أفئدتهم و أبصارهم حتى يرجعوا إلى ما سبق عليهم من علمي.قال:و هذا كقوله: وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ [الأنفال 77].

و قال آخرون:المعنى:و نقلب أفئدتهم و أبصارهم لتركهم الإيمان به أول مرة فعاقبناهم بتقليب أفئدتهم و أبصارهم.و هذا معنى حسن،فإن كاف التشبيه تتضمن نوعا من التعليل كقوله: وَ أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللّهُ إِلَيْكَ [القصص:77].

و قوله: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَ يُزَكِّيكُمْ وَ يُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ(151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:151-152].

و الذي حسن اجتماع التعليل و التشبيه الإعلام بأن الجزاء من جنس العمل في الخير و الشر.

و التقليب:تحويل الشيء من وجه إلى وجه،و كان الواجب من مقتضى إنزال الآية

ص: 299

و وصولهم إليها،كما سألوا أن يؤمنوا إذا جاءتهم؛لأنهم رأوها عيانا،و عرفوا أدلتها و تحققوا صدقها،فإذا لم يؤمنوا كان ذلك تقليبا لقلوبهم و أبصارهم عن وجهها الذي ينبغي أن تكون عليه.

و قد روى مسلم في صحيحه من حديث عبد اللّه بن عمرو أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول:

«إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء»،ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:«اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك» (1).

و روى الترمذي من حديث أنس قال:كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يكثر أن يقول:«يا مقلب القلوب،ثبت قلبي على دينك»،فقلت:يا رسول اللّه،آمنا بك و بما جئت به فهل تخاف علينا؟قال:«نعم،إن القلوب بين إصبعين من أصابع اللّه يقلبها كيف يشاء» (2)قال:هذا حديث حسن.

و روى حماد عن أيوب و هشام و يعلى بن زياد عن الحسن قال:قالت عائشة رضي اللّه عنها:دعوة كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يكثر أن يدعو بها:«يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك»،فقلت:يا رسول اللّه،دعوة كثيرا ما تدعو بها،قال:«إنه ليس من عبد إلا و قلبه بين إصبعين من أصابع اللّه فإذا شاء أن يقيمه أقامه،و إذا شاء أن يزيغه أزاغه» (3).

و قوله: وَ نَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام:110].قال ابن عباس:أخذلهم و أدعهم في ضلالهم يتمادون.

فصل

و أما إزاغة القلوب فقال تعالى: فَلَمّا زاغُوا أَزاغَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5].

و قال عن عباده المؤمنين إنهم سألوه: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا [آل عمران:8].

و أصل الزيغ:الميل،و منه زاغت الشمس إذا مالت،فإزاغة القلب:إمالته،و زيغه:

ميله عن الهدى إلى الضلال.و الزيغ يوصف به القلب و البصر،كما قال تعالى: وَ إِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [الأحزاب:10]و قال قتادة و مقاتل:شخصت فرقا.

و هذا تقريب للمعنى،فإن الشخوص غير الزيغ،و هو أن يفتح عينيه ينظر إلى الشيء فلا

ص: 300


1- مسلم(17/2654)في القدر،باب:تصريف اللّه تعالى القلوب كيف شاء.
2- الترمذي(2140)في القدر،باب:ما جاء أن القلوب بين إصبعي الرحمن.
3- أحمد(91/6).

يطرق،و منه شخص بصر الميت،و لما مالت الأبصار عن كل شيء فلم تنظر إلا إلى هؤلاء الذين أقبلوا إليهم من كل جانب اشتغلت عن النظر إلى شيء أخر،فمالت عنه و شخصت بالنظر إلى الأحزاب.

و قال الكلبي:مالت أبصارهم إلا من النظر إليهم.

و قال الفراء:زاغت عن كل شيء فلم تلتفت إلا إلى عدوها متحيرة تنظر إليه.

قلت:القلب إذا امتلأ رعبا شغله عن ملاحظة ما سوى المخوف،فزاغ البصر عن الوقوع عليه،و هو مقابله.

فصل

و أما الخذلان فقال تعالى: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَ إِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ [آل عمران:160].

و أصل الخذلان:الترك و التخلية،و يقال للبقرة و الشاة إذا تخلفت مع ولدها في المرعى و تركت صواحباتها:خذول.

قال محمد بن إسحاق في هذه الآية:إن ينصرك اللّه فلا غالب لك من الناس و لن يضرك خذلان من خذلك،و إن يخذلك فلن ينصرك الناس،أي لا تترك أمري للناس،و ارفض الناس لأمري.

و الخذلان:أن يخلي اللّه تعالى بين العبد و بين نفسه و يكله إليها،و التوفيق ضده:ألا يدعه و نفسه،و لا يكله إليها بل يصنع له و يلطف به،و يعينه و يدفع عنه،و يكلأه كلاءة الوالد الشفيق للولد العاجز عن نفسه،فمن خلى بينه و بين نفسه فقد هلك كل الهلاك؛و لهذا كان من دعائه صلى اللّه عليه و سلم:«يا حي يا قيوم يا بديع السموات و الأرض،يا ذا الجلال و الإكرام،لا إله إلا أنت،برحمتك أستغيث،أصلح لي شأني كله،و لا تكلني إلى نفسي طرفة عين،و لا إلى أحد من خلقك» (1).

فالعبد مطروح بين اللّه،و بين عدوه إبليس،فإن تولاه اللّه لم يظفر به عدوه،و إن خذله، و أعرض عنه افترسه الشيطان كما يفترس الذئب الشاة.

فإن قيل:فما ذنب الشاة إذا خلى الراعي بين الذئب و بينها،و هل يمكنها أن تقوى على الذئب و تنجو منه؟

ص: 301


1- أبو داود(5090)في الأدب،باب:ما يقول إذا أصبح،و أحمد(42/4).

قيل:لعمر اللّه إن الشيطان ذئب الإنسان كما قاله الصادق المصدوق،و لكن لم يجعل اللّه لهذا الذئب اللعين على هذه الشاة سلطانا مع ضعفها،فإذا أعطت بيدها و سالمت الذئب و دعاها فلبت دعوته و أجابت أمره و لم تتخلف،بل أقبلت نحوه سريعة مطيعة،و فارقت حمى الراعي الذي ليس للذئاب عليه سبيل،و دخلت في محل الذئاب الذي من دخله كان صيدا لهم-فهل الذنب كل الذنب إلا على الشاة!فكيف و الراعي يحذرها و يخوفها و ينذرها،و قد أراها مصارع الشاة التي انفردت عن الراعي و دخلت وادي الذئاب؟!

قال أحمد بن مروان المالكي في كتاب«المجالسة»:سمعت ابن أبي الدنيا يقول:إن للّه سبحانه من العلوم ما لا يحصى،و يعطى كل واحد من ذلك ما لا يعطى غيره.

لقد حدثنا أبو عبد اللّه أحمد بن محمد بن سعيد القطان،ثنا عبيد اللّه بن بكر السهمي عن أبيه أن قوما كانوا في سفر فكان فيهم رجل يمر بالطائر،فيقول:أ تدرون ما تقول هؤلاء؟فيقولون:لا،فيقول:تقول:كذا و كذا،فيحيلنا على شيء لا ندري أ صادق فيه هو أم كاذب،إلى أن مروا على غنم،و فيها شاة قد تخلفت على سخلة لها فجعلت تحنو عنقها إليها و تثغو،فقال:أ تدرون ما تقول هذه الشاة؟قلنا:لا،قال:تقول للسخلة؟الحقي لا يأكلك الذئب كما أكل أخاك عام أول في هذا المكان.

قال:فانتهينا إلى الراعي فقلنا له:ولدت هذه الشاة قبل عامك هذا؟قال:نعم،ولدت سخلة عام أول فأكلها الذئب بهذا المكان.

ثم أتينا على قوم فيهم ظعينة على جمل لها و هو يرغو،و يحنو عنقه إليها فقال:أ تدرون ما يقول هذا البعير؟قلنا:لا،قال:فإنه يلعن راكبته و يزعم أنها رحلته على مخيط و هو في سنامه.

قال:فانتهينا إليهم فقلنا:يا هؤلاء إن صاحبنا هذا يزعم أن هذا البعير يلعن راكبته، و يزعم أنها رحلته على مخيط،و أنه في سنامه،قال:فأناخوا البعير و حطوا عنه فإذا هو كما قال.

فهذه شاة قد حذرت سخلتها من الذئب مرة فحذرت.و قد حذر اللّه-سبحانه-ابن آدم من ذئبه مرة بعد مرة،و هو يأبى إلا أن يستجيب له إذا دعاه،و يبيت معه و يصبح: وَ قالَ الشَّيْطانُ لَمّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَ ما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22)[إبراهيم:22].

ص: 302

فصل

و أما الإركاس فقال تعالى: *فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَ اللّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88)[النساء].

قال الفراء:أركسهم:ردهم إلى الكفر،و قال أبو عبيدة:يقال:ركست الشيء و أركسته،لغتان،إذا رددته،و الركس:قلب الشيء على رأسه.أو رد أوله على آخره.

و الارتكاس:الارتداد.قال أمية:

فأركسوا في حميم النار إنهم كانوا عصاة و قالوا الإفك و الزورا

و من هذا يقال للروث:الركس؛لأنه رد إلى حال النجاسة،و لهذا المعنى سمي رجيعا، و الركس و النكس و المركوس و المنكوس بمعنى واحد.

قال الزجاج:أركسهم:نكسهم وردهم.و المعنى:أنه ردهم إلى حكم الكفر من الذل و الصغار.

و أخبر-سبحانه-عن حكمه و قضائه فيهم و عدله،و إن كان إركاسه كان بسبب كسبهم و أعمالهم،كما قال: بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14]فهذا توحيده،و هذا عدله،لا ما تقوله القدرية المعطلة من أن التوحيد إنكار الصفات و العدل و التكذيب بالقدر.

فصل

و أما التثبيط فقال تعالى: وَ لَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَ لكِنْ كَرِهَ اللّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَ قِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46)[التوبة].

و التثبيط:رد الإنسان عن الشيء الذي يفعله،قال ابن عباس:يريد خذلهم و كسلهم عن الخروج.و قال في رواية أخرى:حبسهم،قال مقاتل:و أوحى إلى قلوبهم اقعدوا مع القاعدين.

و قد بين-سبحانه-حكمته في هذا التثبيط و الخذلان قبل و بعد فقال: إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)[التوبة:45] وَ لَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَ لكِنْ كَرِهَ اللّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَ قِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46)[التوبة:46].

فلما تركوا الإيمان به و بلقائه و ارتابوا بما لا ريب فيه و لم يريدوا الخروج في طاعة اللّه، و لم يستعدوا له و لا أخذوا أهبة ذلك كره-سبحانه-انبعاث من هذا شأنه،فإن من لم يرفع

ص: 303

به،و برسوله،أو كتابه رأسا،و لم يقبل هديته التي أهداها إليه على يد أحب خلقه إليه و أكرمهم عليه،و لم يعرف قدر هذه النعمة و لا شكرها،بل بدلها كفرا،فإن طاعة هذا و خروجه مع رسوله يكرهه اللّه-سبحانه-فثبطه لئلا يقع ما يكره من خروجه و أوحى إلى قلبه قدرا و كونا أن يقعد مع القاعدين.

ثم أخبر-سبحانه-عن الحكمة التي تتعلق بالمؤمنين في تثبيط هؤلاء عنهم فقال: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاّ خَبالاً وَ لَأَوْضَعُوا [التوبة:47].

و الخبال:الفساد و الاضطراب،فلو خرجوا مع المؤمنين لأفسدوا عليهم أمرهم، فأوقعوا بينهم الاضطراب و الاختلاف.قال ابن عباس:ما زادوكم إلا خبالا و عجزا و جبنا، يعني:يجبنوهم عن لقاء العدو بتهويل أمرهم،و تعظيمهم في صدورهم.ثم قال: وَ لَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ أي:أسرعوا في الدخول بينكم للتفريق و الإفساد.قال ابن عباس:يريد:ضعفوا شجاعتكم،يعني:بالتفريق بينهم لتفرق الكلمة فيجبنوا عن العدو.و قال الحسن:لأوضعوا خلالكم بالنميمة لإفساد ذات البين.و قال الكلبي:ساروا بينكم يبغونكم العيب،قال امرؤ القيس:

أرانا موضعين لحتم غيب و نسحر بالطعام و بالشراب

أي مسرعين،و منه قول عمر بن أبي ربيعة:

تبا لهن بالعرفان لما عرفنني و قلن امرؤ باغ أكل و أوضعا

أي:أسرع حتى كلت مطيته: يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَ فِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ [التوبة:47].

قال قتادة:و فيكم من يسمع كلامهم،و يطيعهم.و قال ابن إسحاق:و فيكم قوم أهل محبة لهم و طاعة فيما يدعونهم إليه لشرفهم فيهم.

و معناه على هذا القول:و فيكم أهل سمع و طاعة لهم لو صحبهم هؤلاء المنافقون أفسدوهم عليكم.

قلت:فتضمن«سماعين»معنى«مستجيبين».

و قال مجاهد و ابن زيد و الكلبي:المعنى:و فيكم عيون لهم ينقلون إليهم ما يسمعون منكم،أي:جواسيس.و القول هو الأول،كما قال تعالى: سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ [المائدة:

41]أي:قابلون له،و لم يكن في المؤمنين جواسيس للمنافقين،فإن المنافقين،كانوا مختلطين بالمؤمنين،ينزلون معهم و يرحلون و يصلون معهم و يجالسونهم،و لم يكونوا متحيزين عنهم قد أرسلوا فيهم العيون ينقلون إليهم أخبارهم،فإن هذا إنما يفعله من انحاز عن طائفة،

ص: 304

و لم يخالطها و أرصد بينهم عيونا له.فالقول قول قتادة،و ابن إسحاق.و اللّه أعلم.

فإن قيل انبعاثهم إلى طاعته طاعة له فكيف يكرهها؟و إذا كان-سبحانه-يكرهها فهو يحب ضدها لا محالة إذ كراهة أحد الضدين تستلزم محبة الضد الآخر،فيكون قعودهم محبوبا له فكيف يعاقبهم عليه؟

قيل:هذا سؤال له شأن،و هو من أكبر الأسئلة في هذا الباب،و أجوبة الطوائف على حسب أصولهم.

فالجبرية تجيب عنه بأن أفعاله لا تعلل بالحكم و المصالح،و كل ممكن فهو جائز عليه، و يجوز أن يعذبهم على فعل ما يحبه و يرضاه و ترك ما يبغضه و يسخطه،و الجميع بالنسبة إليه سواء،و هذه الفرقة قد سدت على نفسها باب الحكمة و التعليل.

و القدرية تجيب عنه على أصولها بأنه-سبحانه-لم يثبطهم حقيقة،و لم يمنعهم بل هم منعوا أنفسهم،و ثبطوها عن الخروج،و فعلوا ما لا يريد،و لما كان في خروجهم المفسدة التي ذكرها اللّه-سبحانه-ألقى في نفوسهم كراهة الخروج مع رسوله-قالوا:و جعل- سبحانه-إلقاء كراهة الانبعاث في قلوبهم كراهة مشيئة من غير أن يكره هو سبحانه انبعاثهم، فإنه أمرهم به،قالوا:و كيف يأمرهم بما يكرهه.

و لا يخفى على من نوّر اللّه بصيرته،فساد هذين الجوابين و بعدهما من دلالة القرآن.

فالجواب الصحيح:أنه-سبحانه-أمرهم بالخروج؛طاعة له و لأمره،و اتباعا لرسوله صلى اللّه عليه و سلم و نصرة له و للمؤمنين و أحب ذلك منهم و رضيه لهم دينا،و علم سبحانه أن خروجهم لو خرجوا لم يقع على هذا الوجه،بل يكون خروجهم خروج خذلان لرسوله و للمؤمنين فكان خروجا يتضمن خلاف ما يحبه و يرضاه،و يستلزم وقوع ما يكرهه و يبغضه،فكان مكروها من هذا الوجه،و محبوبا له من الوجه الذي خرج عليه أولياؤه.و هو يعلم أنه لا يقع منهم إلا على الوجه المكروه إليه فكرهه و عاقبهم على ترك الخروج الذي يحبه و يرضاه،لا على ترك الخروج الذي يبغضه و يسخطه.

و على هذا فليس الخروج الذي كرهه منهم طاعة،حتى لو فعلوه لم يثبهم عليه و لم يرضه منهم.و هذا الخروج المكروه له ضدان:أحدهما:الخروج المرضيّ المحبوب،و هذا الضد هو الذي يحبه،و الثاني:التخلف عن رسوله،و القعود عن الغزو معه.و هذا الضد يبغضه و يكرهه أيضا،و كراهته للخروج على الوجه الذي كانوا يخرجون عليه لا ينافي كراهته لهذا الضد.

ص: 305

فنقول للسائل:قعودهم مبغوض له،،لكن هاهنا أمران مكروهان له سبحانه و أحدهما أكره له من الآخر؛لأنه أعظم مفسدة.فإن قعودهم مكروه له،و خروجهم على الوجه الذي ذكره أكره إليه،و لم يكن لهم بد من أحد المكروهين إليه-سبحانه-فدفع المكروه الأعلى بالمكروه الأدنى،فإن مفسدة قعودهم عنه أصغر من مفسدة خروجهم معه،فإن مفسدة قعودهم تختص بهم،و مفسدة خروجهم تعود على المؤمنين،فتأمل هذا الموضع.

فإن قلت:فهلا وفقهم للخروج الذي يحبه و يرضاه،و هو الذي خرج عليه المؤمنون؟

قلت:قد تقدم جواب مثل هذا السؤال مرارا.و إن حكمته-سبحانه-تأبى أن يضع التوفيق في غير محله،و عن غير أهله،فاللّه أعلم حيث يجعل هداه و توفيقه و فضله.و ليس كل محل يصلح لذلك،و وضع الشيء في غير محله لا يليق بحكمته.

فإن قلت:و على ذلك فهلا جعل المحال كلها صالحة؟

قلت:يأباه كمال ربوبيته و ملكه،و ظهور أسمائه و صفاته،و في الخلق و الأمر.و هو -سبحانه-لو فعل ذلك لكان محبوبا له،فإنه يحب أن يذكر،و يشكر،و يطاع،و يوحد، و يعبد،و لكن كان ذلك يستلزم فوات ما هو أحب إليه من استواء أقدام الخلائق في الطاعة و الإيمان،و هو محبته لجهاد أعدائه،و الانتقام منهم،و إظهار قدر أوليائه و شرفهم، و تخصيصهم بفضله و بذل نفوسهم له في معاداة من عاداه،و ظهور عزته و قدرته و سطوته و شدة أخذه و أليم عقابه،و أضعاف أضعاف هذه الحكم التي لا سبيل للخلق و لو تناهوا في العلم و المعرفة-إلى الإحاطة بها،و نسبة ما عقلوه منها إلى ما خفى عليهم كنقرة عصفور في بحر.

فصل

و أما التزيين فقال تعالى: كَذلِكَ زَيَّنّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [الأنعام:108].

و قال أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [فاطر:8].

و قال: وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:43].

أضاف التزيين إليه منه-سبحانه-خلقا-و مشيئة و حذف فاعله تارة-و نسبه إلى سببه و من أجراه على يده تارة.

و هذا التزيين منه-سبحانه-حسن،إذ هو ابتلاء و اختبار بعيد؛ليتميز المطيع منهم من العاصي،و المؤمن من الكافر،كما قال تعالى: إِنّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7)[الكهف].و هو من الشيطان قبيح.

ص: 306

و أيضا فتزيينه-سبحانه-للعبد عمله السيئ عقوبة منه له على إعراضه عن توحيده و عبوديته،و إيثار سيئ العمل على حسنه،فإنه لا بد أن يعرفه-سبحانه-المسيء من المحسن،فإذا آثر القبيح،و اختاره،و أحبه و رضيه لنفسه زينه اللّه له،و أعماه عن رؤية قبيحه بعد أن رآه قبيحا.

و كل ظالم و فاجر و فاسق لا بد أن يريه اللّه تعالى ظلمه و فجوره و فسقه قبيحا،فإذا تمادى عليه ارتفعت رؤية قبحه من قلبه فربما رآه حسنا عقوبة له،فإنه إنما يكشف له عن قبحه بالنور الذي في قلبه،و هو حجة اللّه عليه،فإذا تمادى في غية و ظلمه ذهب ذلك النور فلم ير قبحه في ظلمات الجهل و الفسوق و الظلم.

و مع هذا فحجة اللّه قائمة عليه بالرسالة و بالتعريف الأول،فتزيين الرب تعالى عدل و عقوبته حكمة،و تزيين الشيطان إغواء و ظلم،و هو السبب الخارج عن العبد،و السبب الداخل فيه حبه و بغضه و إعراضه.

و الرب-سبحانه-خالق الجميع-و الجميع واقع بمشيئته و قدرته،و لو شاء لهدى خلقه أجمعين.و المعصوم من عصمه اللّه،و المخذول من خذله اللّه أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ تَبارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [الأعراف:54].

فصل

و أما عدم مشيئته سبحانه و إرادته فكما قال تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ [المائدة 41].

و قال: وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها [السجدة:13] وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ [يونس:99]

و عدم مشيئته للشيء مستلزم لعدم وجوده،كما أن مشيئته تستلزم وجوده،فما شاء اللّه وجب وجوده،و ما لم يشأ امتنع وجوده.

و قد أخبر-سبحانه-أن العباد لا يشاءون إلا بعد مشيئته-و لا يفعلون شيئا إلا بعد مشيئته.فقال: وَ ما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ [الإنسان:30]، وَ ما يَذْكُرُونَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ [المدثر:56].

فإن قيل:فهل يكون الفعل مقدورا للعبد في حال عدم مشيئة اللّه له أن يفعله؟

قيل:إن أريد بكونه مقدورا سلامة آلة العبد التي يتمكن بها من الفعل،و صحة أعضائه،

ص: 307

و وجود قواه،و تمكينه من أسباب الفعل،و تهيئة طريق فعله،و فتح الطريق له فنعم هو مقدور بهذا الاعتبار.

و إن أريد بكونه مقدورا القدرة المقارنة للفعل،و هي الموجبة له التي إذا وجدت لم يتخلف عنها الفعل فليس بمقدور بهذا الاعتبار.

و تقرير ذلك أن القدرة نوعان:

قدرة مصححة و هي قدرة الأسباب و الشروط و سلامة الآلة،و هي مناط التكليف،و هذه متقدمة على الفعل غير موجبة له.

و قدرة مقارنة للفعل مستلزمة له لا يتخلف الفعل عنها،و هذه ليست شرطا في التكليف فلا يتوقف صحته و حسنه عليها،فإيمان من لم يشأ اللّه إيمانه،و طاعة من لم يشأ اللّه طاعته مقدور بالاعتبار الأول غير مقدور بالاعتبار الثاني.

و بهذا التحقيق تزول الشبهة في تكليف ما لا يطاق،كما يأتي بيانه في موضعه إن شاء اللّه تعالى.

فإذا قيل:هل خلق لمن علم أنه لا يؤمن قدرة على الإيمان،أم لم يخلق له قدرة؟

قيل:خلق له قدرة مصححة متقدمة على الفعل هي مناط الأمر و النهي،و لم يخلق له قدرة موجبة للفعل مستلزمة له لا يتخلف عنها،فهذه فضله يؤتيه من يشاء،و تلك عدله التي تقوم بها حجته على عبده.

فإن قيل:فهل يمكنه الفعل:و لم يخلق هذه القدرة؟

قيل:هذا هو السؤال السابق بعينه،و قد عرفت جوابه،و باللّه التوفيق.

فصل

و أما إماتة قلوبهم ففي قوله: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى [النمل:80]

و قوله: أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها [الأنعام:122].

و قوله: لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا [يس:70].

و قوله: وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [فاطر:22].

فوصف الكافر بأنه ميت،و أنه بمنزلة أصحاب القبور،و ذلك أن القلب الحي هو الذي يعرف الحق،و يقبله و يحبه و يؤثره على غيره،فإذا مات القلب لم يبق فيه إحساس و لا تمييز

ص: 308

بين الحق و الباطل،و لا إرادة للحق و كراهة للباطل،بمنزلة الجسد الميت الذي لا يحس بلذة الطعام و الشراب و ألم فقدهما.

و كذلك وصف-سبحانه و تعالى-كتابه و وحيه بأنه روح؛لحصول حياة القلب به، فيكون القلب حيا و يزداد حياة بروح الوحي،فيحصل له حياة على حياة،و نور على نور، نور الوحي على نور الفطرة قال: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [غافر:15].

و قال: وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لاَ الْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا [الشورى:52].

فجعله روحا؛لما يحصل به من الحياة،و نورا لما يحصل به من الهدى و الإضاءة، و ذلك نور و حياة زائدة على نور الفطرة و حياتها،فهو نور على نور،و حياة على حياة.

و لهذا يضرب-سبحانه-لمن عدم ذلك مثلا بمستوقد النار التي ذهب عنه ضوؤها، و بصاحب الصيب الذي كان حظه منه الصواعق،و الظلمات و الرعد و البرق،فلا استنار بما أوقد من النار،و لا حيي بما في الصيب من الماء.

و لذلك ضرب هذين المثلين في سورة الرعد لمن استجاب له فحصل على الحياة و النور و لمن لم يستجب له،و كان حظه الموت و الظلمة،فأخبر عمن أمسك عنه نوره بأنه في الظلمة ليس له من نفسه نور،فقال تعالى: اَللّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَضْرِبُ اللّهُ الْأَمْثالَ لِلنّاسِ وَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)[النور:35].

ثم ذكر من أمسك عنه هذا النور:و لم يجعله له فقال: وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَ وَجَدَ اللّهَ عِنْدَهُ فَوَفّاهُ حِسابَهُ وَ اللّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ(39) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40)[النور].

و في المسند من حديث عبد اللّه بن عمرو قال:قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:«إن اللّه خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره،فمن أصابه من ذلك النور اهتدى و من أخطأه ضل فلذلك أقول جف القلم على علم اللّه» (1).».

ص: 309


1- أحمد(176/2)،و قال الشيخ أحمد شاكر(6644):«إسناده صحيح».

و قال تعالى: وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَ بُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَ مَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)[الأنعام].

و هذه الظلمات ضد الأنوار التي يتقلب فيها المؤمن فإن نور الإيمان في قلبه،و مدخله نور،و مخرجه نور،و علمه نور،و مشيئته في الناس نور،و كلامه نور،و مصيره إلى نور، و الكافر بالضد.

و لما كان النور من أسمائه الحسنى و صفاته،كان دينه نوا،و رسوله نورا،و كلامه نورا، و داره نورا يتلألأ،و النور يتوقد في قلوب عباده المؤمنين،و يجري على ألسنتهم و يظهر على وجوههم.

و كذلك لما كان الإيمان صفته،و اسمه المؤمن لم يعطه إلا أحب خلقه إليه.

و كذلك الإحسان صفته،و هو المحسن و يحب المحسنين،و هو صابر يحب الصابرين، شاكر يحب الشاكرين،عفو يحب أهل العفو،حيي يحب أهل الحياء،ستير يحب أهل الستر،قوي يحب أهل القوة من المؤمنين،عليم يحب أهل العلم من عباده،جواد يحب أهل الجود،جميل يحب المتجملين،بر يحب الأبرار،رحيم يحب الرحماء،عدل يحب أهل العدل،رشيد يحب أهل الرشد،و هو الذي جعل من يحبه من خلقه كذلك،و أعطاه من الصفات ما شاء،و أمسكها عمن يبغضه و جعله على أضدادها،فهذا عدله،و ذاك فضله، و اللّه ذو الفضل العظيم.

فصل

و أما جعله القلب قاسيا فقال تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنّاهُمْ وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ نَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة:13].

و القسوة:الشدة و الصلابة في كل شيء،يقال:حجر قاس،و أرض قاسية لا تنبت شيئا،قال ابن عباس:قاسية عن الإيمان،و قال الحسن:طبع عليها.

و القلوب الثلاثة (1):قلب قاس؛و هو اليابس الصلب الذي لا يقبل صورة الحق،و لا

ص: 310


1- جاء عن حذيفة رضي اللّه عنه موقوفا(القلوب أربعة:قلب مصفح فذلك قلب المنافق،و قلب أغلف فذلك قلب الكافر،و قلب أجرد كأن فيه سراج يزهر فذاك قلب المؤمن،و قلب فيه نفاق و إيمان،فمثله مثل قرحة يحدها قيح و دم،و مثله شجرة يسقيها ماء خبث و طيب،فأيما غلب عليها غلب)المسند(10705)عن أبي سعيد و في كنز العمال و أشار إلى أنه رواه أحمد و الطبراني في الأوسط،و ابن أبي شيبة عن حذيفة، موقوفا،و ابن أبي حاتم عن سلمان موقوفا.كنز العمال(244/1).

تنطبع فيه،و ضده القلب اللين المتماسك،و هو السليم من المرض الذي لا يقبل صورة الحق بلينه،و يحفظه بتماسكه،بخلاف المريض الذي لا يحفظ ما ينطبع فيه لمعانه و رخاوته كالمائع الذي إذا طبعت فيه الشيء قبل صورته بما فيه من اللين و لكن رخاوته تمنعه من حفظها،فخير القلوب القلب الصلب الصافي اللين،فهو يرى الحق بصفائه و يقبله بلينه، و يحفظه بصلابته.

و في المسند و غيره عن النبي صلى اللّه عليه و سلم:«القلوب آنية اللّه في أرضه،فأحبها إليه أصلبها و أرقدها و أصفاها» (1).

و قد ذكر-سبحانه-أنواع القلوب في قوله: لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ الظّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ(53) وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ [الحج:53-54].

فذكر القلب المريض،و هو الضعيف المنحل الذي لا تثبت فيه صورة الحق،و القلب القاسي اليابس الذي لا يقبلها و لا تنطبع فيه،فهذان القلبان شقيان معذبان.

ثم ذكر القلب المخبت المطمئن إليه،و هو الذي ينتفع بالقرآن و يزكو به.قال الكلبي:

فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ فترق للقرآن قلوبهم.

و قد بين-سبحانه-حقيقة الإخبات،و وصف المخبتين في قوله: وَ بَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ(34) اَلَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ الصّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَ الْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35) [الحج:34-35].

فذكر للمخبتين أربع علامات؛و جل قلوبهم عند ذكره-و الوجل:خوف مقرون بهيبة و محبة-و صبرهم على أقداره،و إتيانهم بالصلاة قائمة الأركان ظاهرا و باطنا،و إحسانهم إلى عباده بالإنفاق مما آتاهم.

و هذا إنما يتأتى للقلب المخبت،قال ابن عباس:«المخبتين»:المتواضعين،و قال مجاهد:المطمئنين إلى اللّه،و قال الأخفش:الخاشعين.

و قال ابن جرير:الخاضعين.و قال الزجاج:اشتقاقه من الخبت و هو المنخفض من الأرض،و كل مخبت متواضع،فالإخبات سكون الجوارح على وجه التواضع و الخشوع للّه.

فإن قيل:فإذا كان معناه التواضع و الخشوع فكيف عدى بإلى في قوله: وَ أَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ [هود:23]).

ص: 311


1- انظر حلية الأولياء(79/1)،لم نقف إلا على أوله في أحمد(177/2).

قيل:ضمن معنى أنابوا،و اطمأنوا و تابوا،و هذه عبارات السلف في هذا الموضع.

و المقصود:أن القلب المخبت ضد القاسي و المريض،و هو سبحانه الذي جعل بعض القلوب مخبتا إليه،و بعضها قاسيا،و جعل للقسوة آثارا و للإخبات آثارا.

فمن آثار القسوة:تحريف الكلم عن مواضعه،و ذلك من سوء الفهم،و سوء القصد، و كلاهما ناشئ عن قسوة القلب،و منها نسيان ما ذكر به،و هو ترك ما أمر به علما و عملا.

و من آثار الإخبات:و جل القلوب لذكره سبحانه،و الصبر على أقداره،و الإخلاص في عبوديته،و الإحسان إلى خلقه.

فصل

و أما تضييق الصدر،و جعله حرجا لا يقبل الإيمان فقال تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ [الأنعام:125].

و الحرج:هو الشديد الضيق في قول أهل اللغة جميعهم،يقال:رجل حرج و حرج أي:

ضيق الصدر،قال الشاعر:

لا حرج الصدر و لا عنيف

و قال عبيد بن عمير:قرأ ابن عباس هذه الآية فقال:هل هنا أحد من بني بكر؟قال رجل:نعم،ما الحرجة فيكم؟قالوا:الوادي الكثير الشجر الذي لا طريق فيه.فقال ابن عباس:كذلك قلب الكافر.

و قرأ عمر بن الخطاب الآية فقال:ايتوني رجلا من كنانة،و جعلوه راعيا فأتوه به،فقال عمر:يا فتى ما الحرجة فيكم؟فقال:الشجرة تحدث بها الأشجار الكثيرة فلا تصل إليها راعية و لا وحشية،فقال عمر:كذلك قلب الكافر لا يصل إليه شيء من الخير.

قال ابن عباس:يجعل صدره ضيقا حرجا،إذا سمع ذكر اللّه اشمأز قلبه،و إن ذكر شيء من عبادة الأصنام ارتاح إلى ذلك.

و لما كان القلب محلا للمعرفة و العلم و المحبة و الإنابة،و كانت هذه الأشياء إنما تدخل في القلب إذا اتسع لها،فإذا أراد اللّه هداية عبد وسع صدره و شرحه فدخلت فيه و سكنته، و إذا أراد ضلاله ضيق صدره،و أحرجه فلم يجد محلا يدخل فيه فيعدل عنه،و لا يساكنه.

و كل إناء فارغ إذا دخل في الشيء ضاق به،و كلما أفرغت فيه الشيء ضاق،إلا القلب

ص: 312

اللين،فكلما أفرغ الإيمان و العلم اتسع و انفسح،و هذا من آيات قدرة الرب تعالى.

و في الترمذي و غيره عن النبي صلى اللّه عليه و سلم:«إذا دخل النور القلب انفسح و انشرح»قالوا:فما علامة ذلك يا رسول اللّه؟قال:«الإنابة إلى دار الخلود،و التجافي عن دار الغرور، و الاستعداد للموت قبل نزوله» (1).

فشرح الصدر من أعظم أسباب الهدى،و تضييقه من أسباب الضلال،كما أن شرحه من أجل النعم،و تضييقه من أعظم النقم،فالمؤمن منشرح الصدر منفسحه في هذه الدار على ما ناله من مكروهها،و إذا قوي الإيمان و خالطت بشاشته القلوب كان على مكارهها أشرح صدار منه على شهواتها و محابها.فإذا فارقها كان انفساح روحه و الشرح الحاصل له لفراقها أعظم بكثير،كحال من خرج من سجن ضيق إلى فضاء واسع موافق له،فإنها سجن المؤمن،فإذا بعثه اللّه يوم القيامة رأى من انشراح صدره وسعته ما لا نسبة لما قبله إليه، فشرح الصدر كما أنه سبب الهداية فهو أصل كل نعمة،و أساس كل خير.

و قد سأل كليم الرحمن موسى بن عمران ربه أن يشرح له صدره؛لما علم أنه لا يتمكن من تبليغ رسالته و القيام بأعبائها إلا إذا شرح له صدره.

و قد عدد-سبحانه-من نعمه على خاتم أنبيائه و رسله شرح صدره له،و أخبر عن أتباعه أنه شرح صدورهم للإسلام.

فإن قلت:فما الأسباب التي تشرح الصدر و التي تضيقه؟

قلت:السبب الذي يشرح الصدر:النور الذي يقذفه اللّه فيه،فإذا دخله ذلك النور أنار و انشرح.

فإن قلت:فهل يمكنه اكتساب هذا النور أم هو وهبي؟

قلت:هو وهبي و كسبي:و اكتسابه أيضا مجرد موهبة من اللّه تعالى فالأمر كله للّه و الحمد كله له و الخير كله بيديه،و ليس مع العبد من نفسه شيء البتة،بل اللّه واهب الأسباب و مسبباتها و جاعلها أسبابا،و مانحها من يشاء،و مانعها من يشاء،إذا أراد بعبده خيرا وفقه لاستفراغ وسعه،و بذل جهده في الرغبة،و الرهبة إليه؛فإنهما مادتا التوفيق فبقدر قيام الرغبة و الرهبة في القلب يحصل التوفيق.

فإن قلت:فالرغبة و الرهبة بيده لا بيد العبد.ي.

ص: 313


1- انظر:الدرر المنثور(44/3)و عزاه لعبد بن حميد،و لم نقف عليه في الترمذي.

قلت:نعم و اللّه،و هما مجرد فضله و منته،و إنما يجعلهما في المحل الذي يليق بهما و يحبسهما عمن لا يصلح لهما،فإن قلت:فما ذنب من لا يصلح؟

قلت:أكثر ذنوبه أنه لا يصلح؛لأن صلاحيته بما اختاره لنفسه و آثره و أحبه من الضلال و الغي على بصيرة من أمره،فآثر هواه على حق ربه و مرضاته،استحب العمى على الهدى، و كان كفر المنعم عليه بصنوف النعم و جحد إلاهيته و الشرك به و السعي في مساخطه أحب إليه من شكره و توحيده و السعي في مرضاته،فهذا من عدم صلاحيته لتوفيق خالقه و مالكه،و أي ذنب فوق هذا؟

فإذا أمسك الحكم العدل توفيقه عمن هذا شأنه كان قد عدل فيه و انسدت عليه أبواب الهداية،و طرق الرشاد فأظلم قلبه فضاق عن دخول الإسلام و الإيمان فيه،لو جاءته كل آية لم تزده إلا ضلالا و كفرا.

و إذا تأمل من شرح اللّه صدره للإسلام و الإيمان هذا الآية،و ما تضمنته من أسرار التوحيد و القدر و العدل و عظمة شأن الربوبية صار لقلبه عبودية أخرى،و معرفة خاصة،و علم أنه عبد من كل وجه و بكل اعتبار،و أن الرب تعالى رب كل شيء و مليكه من الأعيان و الصفات الأفعال،و الأمر كله بيده و الحمد له و أزمّة الأمور بيده و مرجعها كلها إليه.

و لهذه الآية شأن فوق عقولنا و أجل من أفهامنا،و أعظم مما قال فيها المتكلمون الذين ظلموها معناها،و أنفسهم كانوا يظلمون تاللّه لقد غلظ عنها حجابهم و كثفت عنها أفهامهم، و منعتهم من الوصول إلى المراد بها أصولهم التي أصلوها و قواعدهم التي أسسوها.

فإنها تضمنت إثبات التوحيد و العدل الذي بعث اللّه به رسله و أنزل به كتبه،لا التوحيد و العدل الذي يقوله معطلو الصفات،و نفاة القدر.

و تضمنت إثبات الحكمة و القدرة و الشرع و القدر و السبب و الحكم و الذنب و العقوبة ففتحت للقلب الصحيح بابا واسعا من معرفة الرب تعالى بأسمائه،و صفات كماله،و نعوت جلاله،و حكمته في شرعه،و قدره،و عدله في عقابه،و فضله في ثوابه.

و تضمنت كمال توحيده و ربوبيته و قيوميته و إلهيته،و أن مصادر الأمور كلها عن محض إرادته و مردها إلى ممال حكمته،و أن المهدي من خصه اللّه بهدايته-و شرح صدره لدينه و شريعته،و أن الضال من جعل صدره ضيقا حرجا عن معرفته،و محبته،كأنما يتصاعد في السماء،و ليس ذلك في قدرته،و أن ذلك عدل في عقوبته لمن لم يقدره حق قدره و جحد كمال ربوبيته،و كفر بنعمته،و آثر عبادة الشيطان على عبوديته،فسد عليه باب توفيقه و هدايته

ص: 314

و فتح عليه أبواب غيه و ضلاله فضاق صدره،و قسا قلبه و تعطلت من عبودية ربها جوارحه، و امتلأت بالظلمة جوانحه.

و الذنب له حيث أعرض عن الإيمان،و استبدل به الكفر و الفسوق و العصيان،و رضي بموالاة الشيطان،و هانت عليه معاداة الرحمن،فلا يحدث نفسه بالرجوع إلى مولاه،و لا يعزم يوما عن إقلاعه عن هواه،قد ضاد اللّه في أمره،بحب ما يبغضه و يبغض ما يحبه، و يوالي من يعاديه،و يعادي من يواليه،يغضب إذا رضي الرب،و يرضى إذا غضب.

هذا و هو يتقلب في إحسانه،و يسكن في داره،و يتغذى برزقه،و يتقوى على معاصيه بنعمه،فمن أعدل منه-سبحانه-عما يصفه به الجاهلون و الظالمون إذا جعل الوحي على أمثال هذا من الذين لا يؤمنون.

فصل

و إذا شرح اللّه صدر عبده بنوره الذي يقذفه في قلبه أراه في ضوء ذلك النور حقائق الأسماء و الصفات التي تضل فيها معرفة العبد إذ لا يمكن أن يعرفها العبد على ما هي عليه في نفس الأمر.

و أراه في ضوء ذلك النور حقائق الإيمان،و حقائق العبودية،و ما يصححها،و ما يفسدها،و تفاوتت معرفة الأسماء و الصفات،و الإيمان و الإخلاص و أحكام العبودية بحسب تفاوتهم في هذا النور.قال تعالى: أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها [الأنعام:122].

و قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ [الحديد:28].

فيكشف لقلب المؤمن في ضوء ذلك النور عن حقيقة المثل الأعلى مستويا على عرش الإيمان في قلب العبد المؤمن،فيشهد بقلبه ربا عظيما قاهرا قادرا أكبر من كل شيء في ذاته و في صفاته و في أفعاله.السموات السبع قبضة إحدى يديه،و الأرضون السبع قبضة اليد الأخرى،يمسك السموات على إصبع،و الأرضين على إصبع،و الجبال على إصبع و الشجر على إصبع،و الثري على إصبع،ثم يهزهن ثم يقول:«أنا الملك» (1).

ص: 315


1- البخاري(7513)في التوحيد،باب:كلام الرب عز و جل يوم القيامة مع الأنبياء و غيرهم،و مسلم (19/2786)في صفات المنافقين،باب:صفة القيامة و الجنة و النار.

فالسماوات السبع في كفه كخردلة في كف العبد،يحيط و لا يحاط به،و يحصر خلقه و لا يحصرونه،و يدركهم و لا يدركونه،لو أن الناس من لدن آدم إلى آخر الخلق قاموا صفا واحدا ما أحاطوا به-سبحانه.

ثم يشهده في علمة فوق كل عليم،و في قدرته فوق كل قدير،و في جوده فوق كل جواد،و في رحمته فوق كل رحيم،و في جماله فوق كل جميل،حتى لو كان جمال الخلائق كلهم على شخص واحد منهم ثم أعطى الخلق كلهم مثل ذلك الجمال لكانت نسبته إلى جمال الرب-سبحانه-دون نسبة سراج ضعيف إلى ضوء الشمس.

و لو اجتمعت قوى الخلائق على شخص واحد منهم ثم أعطي كل منهم مثل تلك القوة لكانت نسبتها إلى قوته-سبحانه-دون نسبة قوة البعوضة إلى حملة العرش.

و لو كان جودهم على رجل واحد،و كل الخلائق على ذلك الجود لكانت نسبته إلى جوده دون نسبة قطرة إلى البحر.

و كذلك علم الخلائق إذا نسب إلى علمه كان كنقرة عصفور من البحر.

و كذلك سائر صفاته كحياته و سمعه و بصره و إرادته،فلو فرض البحر المحيط بالأرض مدادا تحيط به سبعة أبحر،و جميع أشجار الأرض شيئا بعد شيء أقلاما لفنى ذلك المداد و الأقلام و لا تفنى كلماته و لا تنفذ،فهو أكبر في عمله من كل عالم،و في قدرته من كل قادر،و في جوده من كل جواد،و في غناه من كل غنى،و في علوه من كل عال،و في رحمته من كل رحيم.

استوى على عرشه،و استولى على خلقه،منفرد بتدبير مملكته،فلا قبض،و لا بسط و لا منع،و لا هدى،و لا ضلال،و لا سعادة،و لا شقاوة،و لا موت،و لا حياة،و لا نفع و لا ضر إلا بيده،لا مالك غيره،و لا مدبر سواه،لا يستقل أحد معه بملك مثقال ذرة في السموات و الأرض،و لا له شركة في ملكها.و لا يحتاج إلى وزير،و لا ظهير،و لا معين، و لا يغيب فيخلفه غيره،و لا يعي فيعينه سواه،و لا يتقدم أحد بالشفاعة بين يديه إلا من بعد إذنه لمن شاء و فيمن شاء.

فهو أول مشاهد المعرفة ثم يترقى منه إلى مشهد فوقه لا يتم إلا به،و هو مشهد الإلهية فيشهد-سبحانه-متجليا في كماله بأمره و نهيه-و وعده و وعيده،و ثوابه و عقابه،و فصله في ثوابه،فيشهد ربا قيوما،متكلما آمرا ناهيا،يحب و يبغض،و يرضى و يغضب.قد أرسل رسله،و أنزل كتبه،و أقام على عباده الحجة البالغة،و أتم عليهم نعمته السابغة،يهدي من

ص: 316

يشاء منه نعمة و فضلا،و يضل من يشاء حكمة منه و عدلا،ينزل إليهم أوامره،و تعرض عليه أعمالهم.لم يخلقهم عبثا،و لم يتركهم سدى،بل أمره جار عليهم في حركاتهم و سكناتهم و ظواهرهم و بواطنهم،فللّه عليهم حكم و أمر في كل تحريكة و تسكينة و لحظة و لفظة.

و ينكشف له في هذا النور عدله و حكمته و رحمته و لطفه و إحسانه،و بره في شرعه و أحكامه،و أنها أحكام رب رحيم محسن لطيف حكيم،قد بهرت حكمته العقول،و أقرت بها الفطر،و شهدت لمنزلها بالوحدانية،و لمن جاء بها بالرسالة و النبوة.

و ينكشف له في ضوء ذلك النور إثبات صفات الكمال و تنزيهه،سبحانه-عن النقص و المثال،و أن كل كمال في الوجود فمعطيه و خالقه أحق به أولى،و كل نقص و عيب فهو- سبحانه-منزّه متعال عنه.

و ينكشف له في ضوء هذا النور حقائق المعاد و اليوم الآخر،و ما أخبر به الرسول عنه حتى كأنه يشاهده عيانا،و كأنه يخبر عن اللّه و أسمائه و صفاته و أمره و نهيه و وعده و وعيده إخبار من كأنه قد رأى و عاين و شاهد ما أخبر به.

فمن أراد-سبحانه-هدايته شرح صدره لهذا فاتسع له و انفسح،و من أراد ضلالته جعل صدره من ذلك في ضيق و حرج لا يجد فيه مسلكا،و لا منفذا،و اللّه الموفق المعين.

و هذا الباب يكفي اللبيب في معرفة القدر و الحكمة،و يطلعه على العدل و التوحيد اللذين تضمنهما قوله: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَ الْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)[آل عمران] (1).

السلطان في القرآن

قال ابن عباس رضي اللّه عنه:كل سلطان في القرآن فهو حجة،و هذا كقوله تعالى: قالُوا اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (68)[يونس]،يعني:ما عندكم من حجة بما قلتم إن هو إلا قول على اللّه بلا علم؛و قال تعالى: إِنْ هِيَ إِلاّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ [النجم:23]،يعني ما أنزل بها حجة و لا برهانا بل هي من تلقاء أنفسكم و آبائكم؛و قال تعالى: أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ(156) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (157)[الصافات].يعني حجة واضحة فأتوا بها إن كنتم صادقين في دعواكم.إلا موضعا

ص: 317


1- شفاء العليل(225/1-281).

واحدا اختلف فيه و هو قوله: ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ(28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29)[الحاقة]،فقيل:

المراد به القدرة و الملك أي:ذهب عني مالي و ملكي فلا مال لي و لا سلطان.و قيل:هو على بابه أي:انقطعت حجتي و بطلت فلا حجة لي.

و المقصود أن اللّه-سبحانه-سمى علم الحجة سلطانا لأنها توجب تسلط صاحبها و اقتداره فله بها سلطان على الجاهلين بل سلطان العلم أعظم من سلطان اليد؛و لهذا ينقاد الناس للحجة ما لا ينقادون لليد،فإن الحجة تنقاد لها القلوب و أما اليد فإنما ينقاد لها البدن،فالحجة تأسر القلب و تقوده و تذل المخالف و إن أظهر العناد المكابرة،فقلبه خاضع لها ذليل مقهور تحت سلطانها،بل سلطان الجاه إن لم يكن معه علم يستاس به فهو بمنزلة سلطان السباع و الأسود،و نحوها قدرة بلا علم و لا رحمة،بخلاف سلطان الحجة فإنه قدرة بعلم و رحمة و حكمة،و من لم يكن له اقتدار في علمه فهو إمّا لضعف حجته و سلطانه و إما لقهر سلطان اليد و السيف له،و إلا فالحجة ناصرة نفسها ظاهرة على الباطل قاهرة له (1).

و أيضا لما كان الغضب مركب الشيطان،فتتعاون النفس الغضبية و الشيطان على النفس المطمئنة التي تأمر بدفع الإساءة بالإحسان،أمر أن يعاونها بالاستعاذة منه.فتمد الاستعاذة النفس المطمئنة فتقوى على مقاومة جيش النفس الغضبية،و يأتي مدد الصبر الذي يكون النصر معه،و جاء مدد الإيمان و التوكل،فأبطل سلطان الشيطان،ف إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)[النحل].

قال مجاهد و عكرمة و المفسرون:ليس له حجة.

و الصواب:أن يقال:ليس له طريق يتسلط به عليهم،و لا من جهة الحجة،و لا من جهة القدرة.و القدرة داخلة في مسمى السلطان،و إنما سميت الحجة سلطانا لأن صاحبها يتسلط بها تسلط صاحب القدرة بيده،قد أخبر-سبحانه-أنه لا سلطان لعدوه على عباده المخلصين و المتوكلين،فقال في سورة الحجر: قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(39) إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ(40) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ(41) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42)[الحجر].

و قال في سورة النحل: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(99)).

ص: 318


1- مفتاح دار السعادة(63-64).

إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ الَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)[النحل].

فتضمن ذلك أمرين:أحدهما:نفي سلطانه و إبطاله على أهل التوحيد و الإخلاص و الثاني:إثبات سلطانه على أهل الشرك و على من تولاه.

و لما علم عدو اللّه أن اللّه تعالى لا يسلطه على أهل التوحيد و الإخلاص قال: قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83].

فعلم عدو اللّه أن من اعتصم باللّه،عز و جل،و أخلص له و توكل عليه،لا يقدر على إغوائه و إضلاله،و إنما يكون له السلطان على من تولاه و أشرك مع اللّه،فهؤلاء رعيته فهو وليهم و سلطانهم و متبوعهم.

فإن قيل:فقد أثبت له السلطان على أوليائه في هذا الموضع،فكيف ينفيه في قوله:

وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(20) وَ ما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ [سبأ:20-21].

و قيل:إن كان الضمير في قوله: وَ ما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ عائدا على المؤمنين فالسؤال ساقط،و يكون الاستثناء منقطعا:أي لكن امتحنّاهم بإبليس،لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك،و إن كان عائدا على ما عاد عليه في قوله: وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ و هو الظاهر،ليصح الاستثناء المنقطع بوقوعه بعد النفي،و يكون المعنى:و ما سلطناه عليهم إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة.

قال ابن قتيبة:إن إبليس لما سأل اللّه تعالى النظرة فأنظره قال:لأغوينهم و لأضلنهم و لآمرنهم بكذا،و لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا (1)و ليس هو في وقت هذه المقالة.

مستيقنا أن ما قدره فيه يتم،و إنما قال ظانا،فلما اتبعوا و أطاعوه صدق عليهم ما ظنه فيهم،فقال تعالى:و ما كان تسليطنا إياه إلا لنعلم المؤمنين من الشاكين،يعني نعلمهم موجودين ظاهرين فيحق القول و يقع الجزاء.

و على هذا فيكون السلطان هاهنا على من لم يؤمن بالآخرة و شك فيها،و هم الذين تولوه و أشركوا به،فيكون السلطان ثابتا لا منفيا،فتتفق هذه الآية مع سائر الآيات.).

ص: 319


1- قال تعالى في سورة النساء: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ إِناثاً وَ إِنْ يَدْعُونَ إِلاّ شَيْطاناً مَرِيداً(117) لَعَنَهُ اللّهُ وَ قالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً(118) وَ لَأُضِلَّنَّهُمْ وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَ مَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119).

فإن قيل:فما تصنع بالتي في سورة إبراهيم،حيث يقول لأهل النار وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم:22]،و هذا و إن كان قوله فاللّه-سبحانه-أخبر به عنه مقررا له،لا منكرا،فدل على أنه كذلك.

قيل:هذا سؤال جيد،و جوابه:أن السلطان المنفي في هذا الموضع:هو الحجة و البرهان،أي:ما كان لي عليكم من حجة و برهان أحتج به عليكم،كما قال ابن عباس:ما كان لي من حجة أحتج بها عليكم.أي:ما أظهرت لكم حجة إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي، و صدقتم مقالتي،و اتبعتموني بلا برهان و لا حجة.و أما السلطان الذي أثبته في قوله: إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ فهو تسلطه عليهم بالإغواء و الإضلال و تمكنه منهم،بحيث يؤزهم إلى الكفر و الشرك و يزعجهم إليه،و لا يدعهم يتركونه،كما قال تعالى أَ لَمْ تَرَ أَنّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)[مريم:83]قال ابن عباس:تغريهم إغراء.و في رواية:

تشليهم إشلاء (1).و في لفظ:تحرضهم تحريضا.و في آخر:تزعجهم إلى المعاصي إزعاجا.

و في آخر:توقدهم:أي تحركهم كما يحرك الماء بالإيقاد تحته.قال الأخفش:توهجهم.

و حقيقة ذلك أن(الأز)هو التحريك و التهييج،و منه يقال لغليان القدر:الأزيز:لأن الماء يتحرك عند الغليان.و منه الحديث:«لجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء» (2)قال أبو عبيدة:«الأزيز»الالتهاب و الحركة،كالتهاب النار في الحطب،يقال أز قدرك،أي ألهب تحتها بالنار؛و أيزت القدر إذا اشتد غليانها،فقد حصل للأز معنيان:أحدهما:التحريك، و الثاني:الإيقاد و الإلهاب،و هما متقاربان فإنه تحريك خاص بإزعاج و إلهاب.

فهذا من السلطان الذي له على أوليائه و أهل الشرك،و لكن ليس له على ذلك حجة و برهان،و إنما استجابوا له بمجرد دعوته إياهم،لما وافقت أهواءهم و أغراضهم فهم الذين أعانوا على أنفسهم و مكنوا عدوهم من سلطانه عليهم،بموافقته و متابعته فلما أعطوا بأيديهم و استأسروا له سلّط عليهم،عقوبة لهم.

و بهذا يظهر معنى قوله سبحانه: وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء:141].ء.

ص: 320


1- قال ابن جرير قال ابن زيد: تَؤُزُّهُمْ أَزًّا فقرأ: وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36)قال تؤزهم أزا:تشليهم إشلاء على معاصى اللّه تبارك و تعالى و تغريهم عليها كما يغري الإنسان الآخر على الشيء ا.ه.في القاموس:أشلى دابته:أراها المخلاة لتأتيه،و الناقة:دعاها للحلب.
2- رواه الإمام أحمد و أبو داود و النسائي و الترمذي-و صححه-و ابن حبان و ابن خزيمة:عن مطرف بن عبد اللّه بن الشخير عن أبيه قال:رأيت النبي صلى اللّه عليه و سلم يصلي و لصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء.

فالآية على عمومها و ظاهرها،و إنما المؤمنون يصدر منهم من المعصية و المخالفة التي تضاد الإيمان،ما يصير به للكافرين عليهم سبيل بحسب تلك المخالفة،فهم الذين تسببوا إلى جعل السبيل عليهم،كما تسببوا إليه يوم أحد بمعصية الرسول و مخالفته.

و اللّه-سبحانه-لم يجعل للشيطان على العبد سلطانا،حتى جعل له العبد سبيلا إليه بطاعته و الشرك به،فجعل اللّه حينئذ له عليه تسلط و قهرا،فمن وجد خيرا فليحمد اللّه تعالى،و من وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.

فالتوحيد و التوكل و الإخلاص يمنع سلطانه،و الشرك و فروعه يوجب سلطانه،و الجميع بقضاء من أزمة الأمور بيده،و مردها،و له الحجة البالغة،فلو شاء لجعل الناس أمة واحدة، و لكن أبت حكمته و حمده و ملكه إلا ذلك: فَلِلّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَ رَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) وَ لَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)[الجاثية] (1).

السمع في القرآن

و السمع يراد به إدراك الصوت،و يراد به فهم المعنى،و يراد به القبول و الإجابة.

و الثلاثة في القرآن.

فمن الأول:قوله: قَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَ تَشْتَكِي إِلَى اللّهِ وَ اللّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)[المجادلة].

و هذا أصرح ما يكون في إثبات صفة السمع للّه،ذكر الماضي و المضارع و اسم الفاعل، سمع و يسمع و هو سميع و له السمع،كما قالت عائشة رضي اللّه عنها:الحمد للّه الذي وسع سمعه الأصوات،لقد جاءت المجادلة تشكو إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و أنا في جانب البيت،و إنه ليخفى عليّ بعض كلامها،فأنزل اللّه: قَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها (2).

و الثاني:سمع الفهم،كقوله: وَ لَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ أي:لأفهمهم وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ (23)[الأنفال]لما في قلوبهم من الكبر و الإعراض عن قبول الحق،ففيهم آفتان،إحداهما:أنهم لا يفهمون الحق لجهلهم،و لو فهموه لتولوا عنه و هم معرضون عنه لكبرهم،و هذا غاية النقص و العيب.

ص: 321


1- إغاثة اللهفان(98/1-101).
2- البخاري معلقا(الفتح 372/13)في التوحيد،باب: وَ كانَ اللّهُ سَمِيعاً بَصِيراً ،و النسائي(3460)في الطلاق،باب:الظهار،و ابن ماجة(188)في المقدمة،باب:فيما أنكرت الجهمية،أحمد(46/6).

و الثالث:سمع القبول و الإجابة:كقوله تعالى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاّ خَبالاً وَ لَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَ فِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ وَ اللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ (47)[التوبة:47]،أي قابلون مستجيبون،و منه قوله: سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ [المائدة:42]أي قابلون له مستجيبون لأهله،و منه قول المصلى:«سمع اللّه لمن حمده»،أي أجاب اللّه حمد من حمده و دعاء من دعاه.

و قول النبي صلى اللّه عليه و سلم:«إذا قال الإمام:سمع اللّه لمن حمد،فقولوا:ربنا و لك الحمد، يسمع اللّه لكم» (1)أي يجيبكم (2).

الصبر في القرآن

قال الإمام أحمد-رحمه اللّه:ذكر اللّه-سبحانه-الصبر في القرآن في تسعين موضعا.

و نحن نذكر الأنواع التي سيق فيها الصبر،و هي عدة أنواع:

أحدها:الأمر به كقوله: وَ اصْبِرْ وَ ما صَبْرُكَ إِلاّ بِاللّهِ [النحل:127]. وَ اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ [الطور:48].

الثاني:النهي عما يضاده،كقوله: وَ لا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ [الأحقاف:35]،و قوله: وَ لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا [آل عمران:139]،و قوله: وَ لا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ [القلم:48].و بالجملة فكل ما نهى عنه فإنه يضاد الصبر المأمور به.

الثالث:تعليق الفلاح به كقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَ صابِرُوا وَ رابِطُوا [آل عمران:200]فعلق الفلاح بمجموع هذه الأمور.

الرابع:الإخبار عن مضاعفة أجر الصابرين على غيره كقوله: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا [القصص:54]،و قوله: إِنَّما يُوَفَّى الصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [الزمر:10]قال سليمان بن القاسم:كل عمل يعرف ثوابه إلا الصبر،قال اللّه تعالى: إِنَّما يُوَفَّى الصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [الزمر:10]،قال:كالماء المنهمر.

الخامس:تعليق الإمامة في الدين به و باليقين،قال اللّه تعالى: وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24)[السجدة]فبالصبر و اليقين تنال الإمامة في الدين.

ص: 322


1- البخاري(796)في الأذان،باب:فضل:«اللهم ربنا لك الحمد»و مسلم(71/409)في الصلاة، باب:التسميع و التحميد و التأمين.
2- مفتاح دار السعادة(85-86).

السادس:ظفرهم بمعية اللّه-سبحانه-لهم،قال تعالى: إِنَّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِينَ [الأنفال:46].قال أبو علي الدقاق:فاز الصابرون بعز الدارين لأنهم نالوا من اللّه معيته.

السابع:أنه جمع للصابرين ثلاثة أمور لهم يجمعها لغيرهم،و هي:الصلاة منه عليهم، و رحمته لهم،و هدايته إياهم؛قال تعالى: وَ بَشِّرِ الصّابِرِينَ* اَلَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ(156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) [البقرة].قال بعض السلف:و قد عزي على مصيبة نالته،فقال:ما لي لا أصبر و قد وعدني اللّه على الصبر ثلاث خصال كل خصلة منها خير من الدنيا و ما عليها.

الثامن:أنه-سبحانه-جعل الصبر عونا و عدّة،و أمر بالاستعانة به،فقال، وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ [البقرة:45]،فمن لا صبر له لا عون له.

التاسع:أنه سبحانه-علق النصر بالصبر و التقوى،فقال تعالى: بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)[آل عمران]لهذا قال النبي صلى اللّه عليه و سلم:«و اعلم أن النصر مع الصبر».

العاشر:أنه-سبحانه-جعل الصبر و التقوى جنة عظيمة من كيد العدو و مكره،فما استجن العبد من ذلك جنة أعظم منهما،قال تعالى: وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً [آل عمران:120].

الحادي عشر:أنه-سبحانه-أخبر أن ملائكته تسلم عليهم في الجنة بصبرهم كما قال:

وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ(23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدّارِ (24)[الرعد].

الثاني عشر:أنه-سبحانه-أباح لهم أن يعاقبوا على ما عوقبوا به،ثم أقسم قسما مؤكدا غاية التأكيد أن صبرهم خير لهم فقال: وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصّابِرِينَ (126)[النحل].فتأمل هذا التأكيد بالقسم المدلول عليه بالواو ثم باللام بعده ثم باللام التي في الجواب.

الثالث عشر:أنه-سبحانه-رتب المغفرة و الأجر الكبير على الصبر و العمل الصالح فقال: إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ (11)[هود].و هؤلاء ثنية اللّه (1)من نوع الإنسان المذموم الموصوف باليأس و الكفر عند المصيبة،و الفرح و الفخر عند النعمة،و لا خلاص من هذا الذم إلا بالصبر و العمل الصالح،كما لا تنال المغفرة و الأجر الكبير إلا بهما.ه.

ص: 323


1- ثنية اللّه:أي الذين استثناهم اللّه.

الرابع عشر:أنه-سبحانه-جعل الصبر على المصائب من عزم الأمور،أي مما يعزم من الأمور التي إنما يعزم على أجلها و أشرفها فقال: وَ لَمَنْ صَبَرَ وَ غَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)[الشورى]،و قال لقمان لابنه: وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَ انْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ اصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان:17].

الخامس عشر:أنه-سبحانه-وعد المؤمنين بالنصر و الظفر،و هي كلمته التي سبقت لهم و هي الكلمة الحسنى،و أخبر أنه إنما أنالهم ذلك بالصبر،فقال تعالى: وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا [الأعراف:137].

السادس عشر:أنه-سبحانه-علق محبته بالصبر و جعلها لأهله فقال: وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ ما ضَعُفُوا وَ مَا اسْتَكانُوا وَ اللّهُ يُحِبُّ الصّابِرِينَ (146)[آل عمران].

السابع عشر:أنه سبحانه-قال عن خصال الخير:إنه لا يلقاها إلا الصابرون،في موضعين من كتابه،في سورة القصص في قصة قارون،و أن الذين أوتوا العلم قالوا للذين تمنوا مثل ما أوتي: وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً وَ لا يُلَقّاها إِلاَّ الصّابِرُونَ (80)[القصص:80].و في سورة حم السجدة،حيث أمر العبد أن يدفع بالتي هي أحسن، فإذا فعل ذلك صار الذي بينه و بينه عداوة حبيب قريب،ثم قال: وَ ما يُلَقّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَ ما يُلَقّاها إِلاّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)[فصلت].

الثامن عشر:أنه-سبحانه-أخبر أنه إنما ينتفع بآياته و يتعظ بها الصبار الشكور،فقال تعالى: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيّامِ اللّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ (5)[إبراهيم:5]،و قال تعالى في لقمان أَ لَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ (31)[لقمان]،و قال في قصة سبأ: فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَ مَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ [سبأ:19]،و قال تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ (33) [الشورى].فهذه أربع مواضع في القرآن تدل على أن آيات الرب إنما ينتفع بها أهل الصبر و الشكر.

التاسع عشر:أنه أثنى على عبده أيوب بأحسن الثناء على صبره فقال: إِنّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوّابٌ [ص:44]،فأطلق عليه نعم العبد بكونه وجده صابرا.و هذا يدل على أن من لم يصبر إذا ابتلي فإنه بئس العبد.

ص: 324

العشرون:أنه-سبحانه-حكم بالخسران حكما عاما على كل من لم يؤمن من أهل الحق و الصبر،و هذا يدل على أنه لا رابح سواهم فقال تعالى: وَ الْعَصْرِ(1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ(2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3)[سورة العصر].

و لهذا قال الشافعي:لو فكر الناس كلهم في هذه الآية لوسعتهم،و ذلك أن العبد كماله في تكميل قوتيه:قوة العلم و قوة العمل،و هما الإيمان و العمل الصالح،و كما هو محتاج إلى تكميل نفسه فهو محتاج إلى تكميل غيره،و هو التواصي بالحق و التواصي بالصبر و أخيه ذلك و قاعدته و ساقه الذي يقوم عليه إنما هو الصبر.

الحادي و العشرون:أنه-سبحانه-خص أهل الميمنة بأنهم أهل الصبر و المرحمة الذين قامت بهم هاتان الخصلتان و وصوا بهما غيرهم،فقال تعالى: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَ تَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ(17) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18)[البلد].و هذا حصر لأصحاب الميمنة فيمن قام به هذان الوصفان،و الناس بالنسبة إليهما أربعة أقسام هؤلاء خير الأقسام،و شرهم من لا صبر له و لا رحمة فيه،و يليه من له صبر و لا رحمة عنده،و يليه القسم الرابع و هو من له رحمة و رقة و لكن لا صبر له.

الثاني و العشرون:أنه-سبحانه-قرن الصبر بأركان الإسلام و مقامات الإيمان كلها، فقرنه بالصلاة،كقوله: وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ [البقرة:45].

و قرنه بالأعمال الصالحة عموما،كقوله: إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ [هود:11] و جعله قرين التقوى،كقوله: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ [يوسف:90].

و جعله قرين الشكر كقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ [إبراهيم:5] و جعله قرين الحق،كقوله: وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3].

و جعله قرين الرحمة،كقوله: وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَ تَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ [البلد:17].

و جعله قرين اليقين كقوله: لَمّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24)[السجدة:24].

و جعله قرين الصدق كقوله: وَ الصّادِقِينَ وَ الصّادِقاتِ وَ الصّابِرِينَ وَ الصّابِراتِ [الأحزاب:35].

و جعله سبب محبته و معيته و نصره و عونه و حسن جزائه،و يكفي بعض ذلك شرفا و فضلا،و اللّه أعلم (1).).

ص: 325


1- عدة الصابرين(71-76).

صلاة اللّه عز و جلّ على عباده في القرآن

صلاة اللّه سبحانه نوعان:عامة،و خاصة:

أما العامة:فهي صلاته على عباده المؤمنين قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلائِكَتُهُ [الأحزاب:43]و منه دعاء النبي صلى اللّه عليه و سلم بالصلاة على آحاد المؤمنين كقوله:«اللهم صلّ على آل أبي أوفى» (1)و في حديث آخر أن امرأة قالت له:صل عليّ و علي زوجي.

قال:«صلى اللّه عليك و على زوجك» (2).

النوع الثاني:صلاته الخاصة:على أنبيائه و رسله خصوصا على خاتمهم و خيرهم محمد صلى اللّه عليه و سلم.

فاختلف الناس في معنى الصلاة منه سبحانه على أقوال:

أحدها:أنها رحمته.

قال إسماعيل:حدثنا نصر بن علي،حدثنا محمد بن سواء،عن جويبر،عن الضحاك قال:صلاة اللّه رحمته،و صلاة الملائكة:الدعاء.

و قال المبرد:أصل الصلاة الرحمة،فهي من اللّه رحمة،و من الملائكة رحمة، و استدعاء الرحمة من اللّه.

و هذا القول هو المعروف عند كثير من المتأخرين.

و القول الثاني:أن صلاة اللّه مغفرته.

قال إسماعيل:ثنا محمد بن أبي بكر،ثنا محمد بن سواء،عن جويبر،عن الضحاك هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ ،قال:صلاة اللّه مغفرته،و صلاة الملائكة الدعاء-و هذا القول هو من جنس الذي قبله و هما ضعيفان لوجوه:

أحدها:أن اللّه-سبحانه-فرق بين صلاته على عباده و رحمته فقال: وَ بَشِّرِ الصّابِرِينَ (155) اَلَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ(156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)[البقرة]فعطف الرحمة على الصلاة فاقتضى ذلك تغايرهما،هذا أصل العطف و أما قولهم:

و ألفى قولها كذبا و مينا

ص: 326


1- البخاري(6359)في الدعوات،باب:هل يصلى على غير النبي صلى اللّه عليه و سلم.
2- أبو داود(1533)في الصلاة،باب:الصلاة على غير النبي صلى اللّه عليه و سلم.

فهو شاذ نادر لا يحمل عليه أفصح الكلام مع أن المين أخص من الكذب.

الوجه الثاني:أن صلاة اللّه-سبحانه-خاصة بأنبيائه و رسله و عباده المؤمنين،و أما رحمته فوسعت كل شيء،فليست الصلاة مرادفة للرحمة،لكن الرحمة من لوازم الصلاة و موجباتها و ثمراتها،فمن فسرها بالرحمة فقد فسرها ببعض ثمرتها و مقصودها،و هذا كثيرا ما يأتي في تفسير ألفاظ القرآن،و الرسول صلى اللّه عليه و سلم يفسر اللفظة بلازمها و جزء معناها كتفسير الريب بالشك،و الشك جزء مسمى الريب،و تفسير المغفرة بالستر،و هي جزء مسمى المغفرة،و تفسير الرحمة بإرادة الإحسان،و هو لازم الرحمة و نظائر ذلك كثيرة قد ذكرناها في أصول التفسير (1).

الفاجر في عرف القرآن

و اسم الفاجر في عرف القرآن و السنة يتناول الكافر قطعا،كقوله،تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ(13) وَ إِنَّ الْفُجّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)[الانفطار]و قوله تعالى: كَلاّ إِنَّ كِتابَ الفُجّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7)[المطففين]،و في لفظ آخر في حديث البراء:«إن الكافر إذا كان في الآخرة و انقطاع من الدنيا نزل إليه ملائكة شداد غضاب معهم ثياب نار و سرابيل من قطران فيحتوشونه،فتنزع روحه كما ينزع السفود الكثير الشعب من صفوف المبتل،فإذا أخرجت لعنه كل ملك بين السماء و الأرض و كل ملك في السماء» (2)(3).

القضاء و الحكم و الإرادة و الكتابة

و الأمر و الإذن و الجعل و الكلمات و البعث و الإرسال

و التحريم و الإنشاء في القرآن و بيان انقسامها إلى كوني و ديني

ما كان من الكوني فهو متعلق بربوبيته و خلقه.و ما كان من الديني فهو متعلق بإلهيته؟ و شرعه.و هو كما أخبر عن نفسه-سبحانه-له الخلق و الأمر،فالخلق قضاؤه و قدره و فعله.

و الأمر شرعه و دينه،فهو الذي خلق و شرع و أمر و أحكامه جارية على خلقه قدرا و شرعا،و لا خروج لأحد عن حكمه الكوني القدري.

ص: 327


1- جلاء الإفهام(82،83).
2- أبو داود(4753)في السنة،باب:في المسائلة في القبر و في عذاب القبر،و أحمد(287/4)،و قال الهيثمي في المجمع(53/5):«رجال أحمد رجال صحيح».
3- الروح(85).

و أما حكمه الديني الشرعي فيعصيه الفجار و الفساق،و الأمران غير متلازمين.فقد يقضي و يقدر ما لا يأمره به و لا يشرعه،و قد يشرع و يأمر بما لا يقضيه و لا يقدره.و يجتمع الأمران فيما وقع من طاعات عباده و إيمانهم،و ينتفي الأمران عما لم يقع من المعاصي و الفسق و الكفر.و ينفرد القضاء الديني و الحكم الشرعي في ما أمر به و شرعه و لم يفعله المأمور،و ينفرد الحكم الكوني فيما وقع من المعاصي.

إذا عرف ذلك فالقضاء في كتاب اللّه نوعان:كوني قدري،كقوله تعالى: فَلَمّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ [سبأ:14]،و قوله: وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ [الزمر:69]

و شرعي ديني،كقوله: وَ قَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ [الإسراء:23]أي أمر و شرع.

و لو كان قضاء كونيا لما عبد غير اللّه.

و الحكم أيضا نوعان:فالكوني كقوله: قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ [الأنبياء:112]،أي افعل ما تنصر به عبادك و تخذل به أعداءك.

و الديني كقوله: ذلِكُمْ حُكْمُ اللّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ [الممتحنة:10]،و قوله: إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ [المائدة:1].

و قد يرد بالمعنيين معا كقوله: وَ لا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً [الكهف:26].فهذا يتناول حكمه الكوني،و حكمه الشرعي.

و الإرادة أيضا نوعان:فالكونية كقوله تعالى: فَعّالٌ لِما يُرِيدُ [هود:107]،و قوله:

وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً [الإسراء:16]،و قوله: إِنْ كانَ اللّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ [هود:34]، و قوله:: وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ [القصص:5].

و الدينية كقوله: يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]،و قوله:

وَ اللّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ [النساء:27]،فلو كانت هذه الإرادة كونية لما حصل العسر لأحد منا،و لوقعت التوبة من جميع المكلفين.

و بهذا التفصيل يزول الاشتباه في مسألة الأمر و الإرادة هل هما متلازمان أم لا؟

فقالت القدرية:الأمر يستلزم الإرادة،و احتجوا بحجج لا تندفع.

و قالت المثبتة:الأمر لا يستلزم الإرادة،و احتجوا بحجج لا تندفع.

و الصواب:أن الأمر يستلزم الإرادة الدينية و لا يستلزم الإرادة الكونية،فإنه لا يأمر إلا بما يريده شرعا و دينا،و قد يأمر بما لا يريده كونا و قدرا،كإيمان من أمره،و لم يوفقه

ص: 328

للإيمان مراد له دينا و لا كونا.و كذلك أمر خليله بذبح ابنه و لم يرده كونا و قدرا.و أمر رسوله بخمسين صلاة و لم يرد ذلك كونا و قدرا.

و بين هذين الأمرين و أمر من لم يؤمن بالإيمان فرق فإنه سبحانه-لم يحب من إبراهيم ذبح ولده،و إنما أحب منه عزمه على الامتثال و أن يوطن نفسه عليه.و كذلك أمره محمدا صلى اللّه عليه و سلم ليلة الإسراء بخمسين صلاة.و أما أمره من علم أنه لا يؤمن بالإيمان فإنه-سبحانه-يحب من عباده أن يؤمنوا به و برسوله،و لكن اقتضت حكمته أن أعان بعضهم على فعل ما أمره و وفقه له،و خذل بعضهم فلم يعنه و لم يوفقه فلم تحصل مصلحة الأمر منهم و حصلت من الأمر بالذبح.

و أما الكتابة:فالكونية كقوله: كَتَبَ اللّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) [المجادلة:21]،و قوله: وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ (105)[الأنبياء].

و قوله: كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَ يَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4)[الحج].

و الشرعية الأمرية كقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [البقرة:183].

و قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النساء:23].

إلى قوله: كِتابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ [النساء:24].

و قوله: وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45].

فالأولى كتابة بمعنى القدر،و الثانية كتابة بمعنى الأمر.

فالأمر الكوني كقوله: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)[يس].

و قوله: وَ ما أَمْرُنا إِلاّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)[القمر].

و قوله: وَ كانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً [النساء:47].

و قوله: مِنّا وَ كانَ أَمْراً مَقْضِيًّا [مريم:21].

و قوله: وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها [الإسراء:16]

فهذا أمر تقدير كوني لا أمر ديني شرعي،فإن اللّه لا يأمر بالفحشاء،و المعنى قضينا ذلك و قدرناه.

و قالت طائفة:بل هو أمر ديني.و المعنى قضينا ذلك و قدرناه.

و قالت طائفة:بل هو أمر ديني،و المعنى أمرناهم بالطاعة فخالفونا و فسقوا،و القول

ص: 329

الأول أرجح لوجوه:

أحدها:أن الإضمار على خلاف الأصل،فلا يصار إليه إلا إذا لم يمكن تصحيح الكلام بدونه.

الثاني:أن ذلك يستلزم إضمارين:أحدهما:أمرناهم بطاعتنا،و الثاني:فخالفونا أو عصونا،و نحو ذلك.

الثالث:أن ما بعد الفاء في مثل هذا التركيب هو المأمور به نفسه.كقولك:أمرته ففعل،و أمرته فقام،و أمرته فركب،لا يفهم المخاطب غير هذا.

الرابع:أنه-سبحانه-جعل سبب هلاك القرية أمره المذكور،و من المعلوم أن أمره بالطاعة و التوحيد لا يصلح أن يكون سبب الهلاك،بل هو سبب للنجاة و الفوز.

فإن قيل:أمره بالطاعة مع الفسق هو سبب الهلاك.

قيل:هذا يبطل بالوجه الخامس:و هو أن هذا الأمر لا يختص بالمترفين،بل هو سبحانه يأمر بطاعته و اتباع رسله؛المترفين و غيرهم،فلا يصح تخصيص الأمر بالطاعة بالمترفين.

يوضحه الوجه السادس:أن الأمر لو كان الطاعة لكان هو نفس إرسال رسله إليهم.

و معلوم أنه لا يحسن أن يقال:أرسلنا رسلنا إلى مترفيها ففسقوا فيها،فإن الإرسال لو كان إلى المترفين لقال من عداهم:نحن لم يرسل إلينا.

السابع:أن إرادة اللّه-سبحانه-لإهلاك القرية إنما يكون بعد إرسال الرسل إليهم و تكذيبهم،و إلا فقيل ذلك:هو لا يريد إهلاكهم؛لأنهم معذورون بغفلتهم و عدم بلوغ الرسالة إليهم.قال تعالى: وَ ما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها مُصْلِحُونَ (117) [هود].

فإذا أرسل الرسل فكذبوهم يوم أراد إهلاكها،فأمر رؤساءها و مترفيها أمرا كونيا قدريا لا شرعيا دينيا،بالفسق في القرية،فاجتمع أهلها على تكذيبهم،و فسق رؤسائهم فحينئذ جاءها أمر اللّه و حق عليها قوله بالإهلاك.

و المقصود ذكر الأمر الكوني الديني،و من الديني قوله: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ [النحل:90].

و قوله: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها [النساء:58].و هو كثير.

و أما الإذن الكوني فكقوله تعالى: وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ

ص: 330

[البقرة:102]أي بمشيئته و قدره.

و أما الديني فكقوله: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللّهِ [الحشر:5]أي بأمره و رضاه.

و قوله: قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَ حَلالاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ (59)[يونس:59].

و قوله: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللّهُ [الشورى:21]

و أما الجعل الكوني فكقوله: إِنّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا [يس:9].

و قوله: وَ يَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ [يونس:100]

و قوله: وَ اللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً [النحل:72]،و هو كثير.

و أما الجعل الديني فكقوله: ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لا سائِبَةٍ وَ لا وَصِيلَةٍ وَ لا حامٍ [المائدة:103]،أي ما شرع ذلك و لا أمر به،و إلا فهو مخلوق له واقع بقدره و مشيئته.

و أما قوله: جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنّاسِ [المائدة:97].فهذا يتناول الجعلين.فإنه جعلها كذلك بقدره و شرعه.و ليس هذا استعمالا للمشترك في معنييه،بل إطلاق اللفظ و إرادة المشترك بين معنييه،فتأمله.

و أما الكلمات الكونية فكقوله: كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33)[يونس]،و قوله: وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا [الأعراف:

137].

و قوله صلى اللّه عليه و سلم:«أعوذ بكلمات اللّه التامات التي لا يجاوزهن بر و لا فاجر من شر ما خلق» (1).

فهذه كلماته الكونية التي يخلق بها و يكون،و لو كانت الكلمات الدينية التي يأمر بها و ينهى لكانت ما يجاوزهن الفجار و الكفار.

و أما الديني فكقوله. وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلامَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6)[التوبة:6]و المراد به القرآن.».

ص: 331


1- أحمد(419/3)،و قال الهيثمي في المجمع(130/10):«رجال أحد إسنادي أحمد رجال صحيح».

و قوله صلى اللّه عليه و سلم في النساء:«و استحللتم فروجهن بكلمة الله» (1)،أي إباحته و دينه.

و قوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء:3].

و قلة اجتمع النوعان في قوله: وَ صَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَ كُتُبِهِ [التحريم:12]

فكتبه كلماته التي يأمر بها و ينهى و يحرم،و كلماته التي يخلق بها و يكون،فأخبر أنها ليست جهمية تنكر كلمات دينه و كلمات تكوينه و تجعلها خلقا من جملة مخلوقاته.

و أما البعث الكوني فكقوله: فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ [الإسراء:5].

و قوله: فَبَعَثَ اللّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ [المائدة:31].

و أما البعث الديني فكقوله: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ [الجمعة:2].

و قوله: كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ [البقرة:213].

و أما الإرسال الكوني فكقوله: أَ لَمْ تَرَ أَنّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) [مريم].

و قوله: وَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ [الفرقان:48].

و أما الديني فكقوله: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ [التوبة:33].

و قوله: إِنّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15)[المزمل].

و أما التحريم الكوني فكقوله: وَ حَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ [القصص:12].

و قوله: قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً [المائدة:26].

و قوله: وَ حَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95)[الأنبياء].

و أما التحريم الديني فكقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النساء:23]، حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة:3]و وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً [المائدة:96]،و وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا [البقرة:275].

و أما الإيتاء الكوني فكقوله: وَ اللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ [البقرة:247]،و قوله:

قُلِ اللّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ [آل عمران:26]و قوله: وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً [النساء:54].).

ص: 332


1- مسلم(147/1218)في الحج،باب:حجة النبي صلى اللّه عليه و سلم،و أبو داود(1905)في المناسك،باب:صفة حج النبي صلى اللّه عليه و سلم،و أحمد(73/5).

و أما الإيتاء الديني كقوله: وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر:7]،و قوله: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ [البقرة:63].

و أما قوله: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة:

269]،فهذا يتناول النوعين،فإنه يؤتيها من يشاء أمرا و دينا و توفيقا و إلهاما.

و أنبياؤه و رسله و أتباعهم حظهم من هذه الأمور،الديني منها،و أعداؤه واقفون مع القدر الكوني،فحيث ما مال القدر مالوا معه،فدينهم دين القدر،و دين الرسل و أتباعهم دين الأمر.فهم يدينون بأمره و يؤمنون بقدره،و خصماء اللّه يعصون أمره و يحتجون بقدره، و يقولون:نحن واقفون مع مراد اللّه نعم مع مراده الكوني لا الديني و لا ينفعكم وقوفكم مع المراد الكوني،و لا يكون ذلكم عذرا لكم عنده،إذ لو عذر بذلك لم يذم أحدا من خلقه، و لم يعاقبه،و لم يكن في خلقه عاص و لا كافر.و من زعم ذلك فقد كفر باللّه و كتبه كلها و جميع رسله.و باللّه التوفيق (1).).

ص: 333


1- شفاء العليل(287/2-297).

تفسير القرآن و تأويله

حقيقة التأويل

هو إدراك الحقيقة التي يؤول إليها المعنى التي هي آخيته و أصله،و ليس كل من فقه في الدين عرف التأويل،فمعرفة التأويل يختص به الراسخون في العلم،و ليس المراد به تأويل التحريف،و تبديل المعنى،فإن الراسخين في العلم يعلمون بطلانه،و اللّه يعلم بطلانه (1).

و أيضا قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ [الأعراف:53].تأويل ما أخبرت به الرسل هو مجيء حقيقته و رؤيتها عيانا،و منه تأويل الرؤيا و هو حقيقتها الخارجة التي ضربت للرائي في عالم المثال.

و منه التأويل بمعنى العاقبة كما قيل في قوله تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59]قيل:أحسن عاقبة، فإن عواقب الأمور هي حقائقها التي تؤول إليها.

و منه التأويل بمعنى التفسير،لأن تفسير الكلام هو بيان معناه و حقيقته التي يراد منه، قالوا و منه الأول لأنه أصل العدد و مبناه الذي يتفرع (2).

درجات التأويل

التأويل ثلاث درجات:قريب،و بعيد،و متوسط،و لا تنحصر أفراده،و المعتقد أنه لا يحنث بفعله تقليدا سواء كان المفتي مصيبا أو مخطئا،كمن قال لامرأته:إن خرجت من بيتي،فأنت طالق،أو الطلاق يلزمني لا تخرجين من بيتي،فأفتاه مفت بأن هذه اليمين لا يلزم بها الطلاق بناء على أن الطلاق المعلق لغو،كما يقوله بعض أصحاب الشافعي كأبي عبد الرحمن الشافعي،و بعض أهل الظاهر،كما صرح به صاحب«المحلى»،فقال:

ص: 334


1- إعلام الموقعين(410/1،411).
2- جلاء الأفهام(115،116).

و الطلاق بالصفة عندنا كالطلاق باليمين كل ذلك لا يلزم (1).

ما يدخل فيه التأويل و المجاز

المجاز و التأويل لا يدخل في النصوص،و إنما يدخل في الظاهر المحتمل له.

و هنا نكتة ينبغي التفطن لها و هي:أن كون اللفظ نصا يعرف بشيئين:أحدهما:عدم احتماله لغير معناه وضعا كالعشرة،و الثاني:ما اطرد استعماله على طريقة واحدة في جميع موارده فإنه نص في معناه لا يقبل تأويلا،و لا مجازا،و إن قدر تطرق ذلك إلى بعض أفراده.و صار هذا بمنزلة خبر المتواتر لا يتطرق احتمال الكذب إليه،و إن تطرق إلى كل واحد من أفراده بمفرده.

و هذه عصمة نافعة تدلك على خطأ كثير من التأويلات السمعيات التي اطرد استعمالها في ظاهرها و تأويلها،و الحالة هذه غلط،فإن التأويل إنما يكون الظاهر قد ورد شاذا مخالفا لغيره،و من السمعيات،فيحتاج إلى تأويله لتوافقها،فأما إذا اطردت كلها على وتيرة واحدة،صارت بمنزلة النص و أقوى،و تأويلها ممتنع فتأمل هذا (2).

الأقوال في التأويل و بيان خطورته

اشارة

إذا سئل عن تفسير آية من كتاب اللّه أو سنة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم،فليس له أن يخرجها عن ظاهرها بوجوه التأويلات الفاسدة لموافقة نحلته و هواه،و من فعل ذلك استحق المنع من الإفتاء،و الحجر عليه،و هذا الذي ذكرناه هو الذي صرح به أئمة الإسلام قديما و حديثا.

قال أبو حاتم الرازي:حدثني يونس بن عبد الأعلى قال:قال لي محمد بن إدريس الشافعي:الأصل قرآن أو سنة،فإن لم يكن فقياس عليهما،و إذا اتصل الحديث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم،و صح الإسناد فهو المنتهى،و الإجماع أكبر من الخبر الفرد،و الحديث على ظاهره،و إذا احتمل المعاني فما أشبه منها ظاهره أولاها به،فإذا تكافأت الأحاديث.

فأصحها إسنادا أولاها،و ليس المنقطع بشيء،ما عدا منقطع سعيد بن المسيب،و لا يقاس أصل على أصل،و لا يقال لأصل:لم؟و كيف؟و إنما يقال للفرع:لم؟فإذا صح قياسه على الأصل و قامت به الحجة،رواه الأصم عن ابن أبي حاتم.

ص: 335


1- أعلام الموقعين(107/4).
2- بدائع الفوائد(15/1).

رأي الجويني في الكف عن التأويل

و قال أبو المعالي الجويني في«الرسالة النظامية،في الأركان الإسلامية»:ذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل،و إجراء الظواهر على مواردها و تفويض معانيها إلى الرب تعالى.و الذي نرتضيه رأيا،و ندين اللّه به عقد اتباع سلف الأمة:فالأولى:الاتباع،و ترك الابتداع،و الدليل السمعي القاطع في ذلك أن إجماع الأمة حجة متبعة،و هو مستند معظم الشريعة،و قد درج صحب الرسول صلى اللّه عليه و سلم،و رضي عنهم على ترك التعرض لمعانيها،و درك ما فيها،و هم صفوة الإسلام،و المستقلون بأعباء الشريعة،و كانوا لا يألون جهدا في ضبط قواعد الملة و التواصي بحفظها،و تعليم الناس ما يحتاجون إليه منها.و لو كان تأويل هذه الظواهر مسوغا أو محتوما،لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، و إذا انصرم عصرهم و عصر التابعين لهم على الإضراب عن التأويل،كان ذلك قاطعا بأنه الوجه المتبع.

فحق على ذي الدين أن يعتقد تنزيه الباري عن صفات المحدثين،و لا يخوض في تأويل المشكلات،و يكل معناها إلى الرب تعالى.و عند إمام القراء و سيدهم الوقوف على قوله تعالى: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ [آل عمران:7]من العزائم،ثم الابتداء بقوله: وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ [آل عمران:7].

و مما استحسن من كلام مالك أنه سئل عن قوله تعالى: اَلرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه:5]كيف استوى؟فقال:الاستواء معلوم،و الكيف مجهول،و الإيمان به واجب، و السؤال عنه بدعة،فلتجر آية الاستواء و المجيء،و قوله: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]، و قوله: وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن:27]،و قوله: تَجْرِي بِأَعْيُنِنا [القمر:14]و ما صح من أخبار الرسول كخبر النزول و غيره على ما ذكرنا،انتهى كلامه.

رأي الغزالي في التأويل

و قال أبو حامد الغزالي:الصواب للخلف سلوك مسلك السلف في الإيمان المرسل و التصديق المجمل،و ما قاله اللّه و رسوله،بلا بحث و تفتيش.

و قال في كتاب«التفرقة»:الحق:الاتباع و الكف عن تغيير الظاهر رأسا،و الحذر عن اتباع تأويلات لم يصرح بها الصحابة،و حسم باب السؤال رأسا،و الزجر عن الخوض في الكلام و البحث...

ص: 336

إلى أن قال:و من الناس من يبادر إلى التأويل ظنا لا قطعا،فإن كان فتح هذا الباب و التصريح به يؤدي إلى تشويش قلوب العوام بدع صاحبه،و كل ما لم يؤثر عن السلف ذكره،و ما يتعلق من هذا الجنس بأصول العقائد المهمة فيجب تكفير من يغير الظواهر بغير برهان قاطع.

و قال أيضا:كل ما يحتمل التأويل في نفسه،و تواتر نقله،و لم يتصور أن يقوم على خلافه برهان،فمخالفته تكذيب محض،و ما تطرق إليه احتمال تأويل و لو بمجاز بعيد،فإن كان برهانه قاطعا وجب القول به،و إن كان البرهان يفيد ظنا غالبا،و لا يعظم ضرره في الدين فهو بدعة،و إن عظم ضرره في الدين فهو كفر.

قال:و لم تجر عادة السلف بهذه المجادلات،بل شددوا القول على من يخوض في الكلام،و يشتغل بالبحث و السؤال.

و قال أيضا:الإيمان المستفاد من الكلام ضعيف.و الإيمان الراسخ إيمان العوام الحاصل في قلوبهم في الصبا بتواتر السماع،و بعد البلوغ بقرائن يتعذر التعبير عنها.

قال:و قال شيخنا أبو المعالي:يحرص الإمام ما أمكنه على جمع عامة الخلق على سلوك سبيل السلف في ذلك.انتهى.

و قال بعض أهل العلم:كيف لا يخشى الكذب على اللّه و رسوله،من يحمل كلامه على التأويلات المستنكرة و المجازات المستكرهة التي هي بالألغاز و الأحاجي أولى منها بالبيان و الهداية؟و هل يأمن على نفسه أن يكون ممن قال اللّه فيهم: وَ لَكُمُ الْوَيْلُ مِمّا تَصِفُونَ [الأنبياء:18].

قال الحسن:هي و اللّه لكل واصف كذبا إلى يوم القيامة،هل يأمن أن يتناول قوله تعالى: وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ [الأعراف:152].

قال ابن عيينة:هي لكل مفتر من هذه الأمة إلى يوم القيامة،و قد نزه سبحانه نفسه عن كل ما يصفه به خلقه إلاّ المرسلين فإنهم إنما يصفونه بما أذن لهم أن يصفوه به؛فقال تعالى: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمّا يَصِفُونَ(180) وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181)[الصافات]،و قال تعالى: سُبْحانَ اللّهِ عَمّا يَصِفُونَ(159) إِلاّ عِبادَ اللّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)[الصافات].

و يكفي المتأولين كلام اللّه و رسوله بالتأويلات التي لم يردها،و لم يدل عليها كلام اللّه أنهم قالوا برأيهم على اللّه،و قدموا آراءهم على نصوص الوحي،و جعلوها عيارا على كلام اللّه و رسوله،و لو علموا أي باب شر فتحوا على الأمة بالتأويلات الفاسدة.و أي بناء للإسلام هدموا بها،و أي معاقل و حصون استباحوها؛لكان أحدهم أن يخر من السماء إلى

ص: 337

الأرض أحب إليه من أن يتعاطى شيئا من ذلك.

فكل صاحب باطل قد جعل ما تأوله المتأولون عذرا له فيما تأوله هو،و قال:ما الذي حرم عليّ التأويل و أباحه لكم؟فتأولت الطائفة المنكرة للمعاد نصوص المعاد،و كان تأويلهم من جنس تأويل منكري الصفات،بل أقوى منه لوجوه عديدة يعرفها من وازن بين التأويلين، و قالوا:كيف نحن نعاقب على تأويلنا.و تؤجرون أنتم على تأويلكم؟

قالوا:و نصوص الوحي بالصفات أظهر و أكثر من نصوصه بالمعاد،و دلالة النصوص عليها أبين فكيف يسوغ تأويلها بما يخالف ظاهرها و لا يسوغ لنا تأويل نصوص المعاد؟

و كذلك فعلت الرافضة في أحاديث فضائل الخلفاء الراشدين و غيرهم من الصحابة(رضي اللّه عنهم)،و كذلك فعلت المعتزلة في تأويل أحاديث الرؤية و الشفاعة،و كذلك القدرية في نصوص القدر،و كذلك الحرورية و غيرهم من الخوارج في النصوص التي تخالف مذاهبهم،و كذلك القرامطة و الباطنية طردت الباب،و طمت الوادي على القرى (1)،و تأولت الدين كله.

فأصل خراب الدين و الدنيا إنما هو من التأويل الذي لم يرده اللّه و رسوله بكلامه، و لا دلّ عليه أنه مراده،و هل اختلفت الأمم على أنبيائهم إلاّ بالتأويل؟و هل وقعت في الأمة فتنة كبيرة أو صغيرة إلاّ بالتأويل؟فمن بابه دخل إليها،و هل أريقت دماء المسلمين في الفتن إلاّ بالتأويل؟

التأويل عدوّ كل الأديان

و ليس هذا مختصا بدين الإسلام فقط،بل سائر أديان الرسل لم تزل على الاستقامة و السداد حتى دخلها التأويل،فدخل عليها من الفساد ما لا يعلمه إلاّ رب العباد.

و قد تواترت البشارات بصحة نبوة محمد صلى اللّه عليه و سلم في الكتب المتقدمة،و لكن سلطوا عليها التأويلات فأفسدوها،كما أخبر سبحانه عنهم من التحريف و التبديل و الكتمان.فالتحريف تحريف المعاني بالتأويلات التي لم يردها المتكلم بها،و التبديل تبديل لفظ بلفظ آخر، و الكتمان جحده.و هذه الأدواء الثلاثة منها غيّرت الأديان و الملل،و إذا تأملت دين المسيح وجدت النصارى إنما تطرقوا إلى إفساده بالتأويل بما لا يكاد يوجد قط مثله في شيء من

ص: 338


1- طم الماء:غمر،و طم الإناء:ملأه،و القرى كغنى:ميل من التلاع،أو موقعه من الربو في الروضة. (مصدر).

الأديان،و دخلوا إلى ذلك من باب التأويل.و كذلك زنادقة الأمم جميعهم إنما تطرقوا إلى إفساد ديانات الرسل-صلوات اللّه و سلامه عليهم-بالتأويل،و من بابه دخلوا،و على أساسه بنوا،و على نقطه خطوا.

أصناف المتأولة

و المتأولون أصناف عديدة،بحسب الباعث لهم على التأويل،و بحسب قصور أفهامهم و وفورها.و أعظمهم توغلا في التأويل الباطل من فسد قصده و فهمه،فكلما ساء قصده و قصر فهمه كان تأويله أشد انحرافا.

فمنهم من يكون تأويله لنوع هوى من غير شبهة،بل يكون على بصيرة من الحق.

و منهم من يكون تأويله لنوع شبهة عرضت له أخفت عليه الحق.

و منهم من يكون تأويله لنوع هدى من غير شبهة،بل يكون على بصيرة من الحق.

و منهم من يجتمع له الأمران:الهوى في القصد،و الشبهة في العلم.

فتنة التأويل و بعض ما أحدثت

و بالجملة فافتراق أهل الكتابين،و افتراق هذه الأمة على ثلاث و سبعين فرقة إنما أوجبه التأويل،و إنما أريقت دماء المسلمين يوم الجمل و صفين و الحرة و فتنة ابن الزبير،و هلم جرا بالتأويل.و إنما دخل أعداء الإسلام من المتفلسفة و القرامطة و الباطنية و الإسماعيليّة و النصيرية من باب التأويل.فما امتحن الإسلام بمحنة قط إلا و سببها التأويل.فإن محنته إما من المتأولين،و إما أن يسلط عليهم الكفار بسبب ما ارتكبوا من التأويل،و خالفوا ظاهر التنزيل و تعللوا بالأباطيل.

فما الذي أراق دماء بني جذيمة و قد أسلموا غير التأويل!حتى رفع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يديه و تبرأ إلى اللّه من فعل المتأول بقتلهم و أخذ أموالهم؟

و ما الذي أوجب تأخر الصحابة رضي اللّه عنهم يوم الحديبية عن موافقة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم غير التأويل،حتى اشتد غضبه لتأخرهم عن طاعته حتى رجعوا عن ذلك التأويل؟

و ما الذي سفك دم أمير المؤمنين عثمان ظلما و عدوانا،و أوقع الأمة فيما وقّعها فيه حتى الآن غير التأويل؟

و ما الذي سفك دم علي رضي اللّه عنه،و ابنه الحسين،و أهل بيته رضي اللّه تعالى عنهم غير التأويل؟

ص: 339

و ما الذي أراق دم عمار بن ياسر و أصحابه غير التأويل؟

و ما الذي أراق دم ابن الزبير،و حجر بن عدي،و سعيد بن جبير و غيرهم من سادات الأمة غير التأويل؟

و ما الذي أريقت عليه دماء العرب في فتنة أبي مسلم غير التأويل؟

و ما الذي جرد الإمام أحمد بين العقابين،و ضرب السياط حتى عجت الخليقة إلى ربها تعالى غير التأويل؟

و ما الذي قتل الإمام أحمد بن نصر الخزاعي،و خلد خلقا من العلماء في السجون حتى ماتوا غير التأويل؟

و ما الذي سلط سيوف التتار على دار الإسلام حتى ردوا أهلها غير التأويل؟

و هل دخلت طائفة الإلحاد من أهل الحلول و الاتحاد إلا من باب التأويل؟

و هل فتح باب التأويل إلا مضادة و مناقضة لحكم اللّه في تعليمه عبادة البيان الذي امتن اللّه في كتابه على الإنسان بتعليمه إياه؛فالتأويل بالألغاز و الأحاجي و الأغلوطات أولى منه بالبيان و التبيين.و هل فرق بين دفع حقائق ما أخبرت به الرسل عن اللّه و أمرت به بالتأويلات الباطلة المخالفة له و بين رده و عدم قبوله،و لكن هذا رد جحود و معاندة،و ذاك رد خداع و مصانعة.

رأي ابن رشد في التأويل

قال أبو الوليد بن رشد المالكي في كتابه المسمى ب«الكشف عن مناهج الأدلة».و قد ذكر التأويل و جنايته على الشريعة،إلى أن قال: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ [آل عمران:7]،و هؤلاء أهل الجدل و الكلام،و أشد ما عرض على الشريعة من هذا الصنف أنهم تأولوا كثيرا مما ظنوه ليس على ظاهره،و قالوا:إن هذا التأويل هو المقصود به،و إنما أمر اللّه به في صورة المتشابه ابتلاء لعباده و اختبارا لهم،و نعوذ باللّه من سوء الظن باللّه بل نقول:إن كتاب اللّه العزيز إنما جاء معجزا من جهة الوضوح و البيان.

فما أبعد من مقصد الشارع من قال فيما ليس بمتشابه:إنه متشابه،ثم أول ذلك المتشابه بزعمه،و قال لجميع الناس:إن فرضكم هو اعتقاد هذا التأويل،مثل ما قالوه في آية الاستواء على العرش و غير ذلك مما قالوا:إن ظاهره متشابه،ثم قال:و بالجملة فأكثر التأويلات التي زعم القائلون بها أنها المقصود من الشرع إذا تأملت وجدت ليس يقوم عليها برهان.

ص: 340

مثل من أوّل شيئا من القرآن

إلى أن قال:و مثال من أوّل شيئا من الشرع و زعم أن ما أوله هو الذي قصده الشرع:

مثال من أتى إلى دواء قد ركبه طبيب ماهر ليحفظ صحة جميع الناس أو أكثرهم،فجاء رجل فلم يلائمه ذلك الدواء الأعظم لرداءة مزاج كان به،ليس يعرض إلا للأقل من الناس،فزعم أن بعض تلك الأدوية التي صرح باسمها الطبيب الأول في ذلك الدواء العام المنفعة لم يرد به ذلك الدواء العام الذي جرت العادة في اللسان أن يدل بذلك الاسم عليه،و إنما أراد به دواء آخر،مما يمكن أن يدل عليه بذلك باستعارة بعيدة،فأزال ذلك الدواء الأول من ذلك المركب الأعظم،و جعل فيه بدله الدواء الذي ظن أنه قصده الطبيب،و قال للناس:هذا هو الذي قصده الطبيب الأول،فاستعمل الناس ذلك الدواء المركب على الوجه الذي تأوله عليه هذا المتأول،ففسدت أمزجة كثير من الناس.

فجاء آخرون فشعروا بفساد أمزجة الناس من ذلك الدواء المركب،فراموا إصلاحه بأن بدلوا بعض أدويته بدواء آخر غير الدواء الأول؛فعرض من ذلك للناس نوع من المرض غير النوع الأول.

فجاء ثالث فتأول في أدوية ذلك المركب غير التأويل الأول و الثاني؛فعرض للناس من ذلك نوع ثالث من المرض غير النوعين المتقدمين.

فجاء متأول رابع فتأول دواء آخر غير الأدوية المتقدمة فعرض منه للناس نوع رابع من المرض غير الأمراض المتقدمة،فلما طال الزمان بهذا الدواء المركب الأعظم،و سلط الناس التأويل على أدويته،و غيروها و بدلوها عرض منه للناس أمراض شتى،حتى فسدت المنفعة المقصودة بذلك الدواء المركب في حق أكثر الناس و هذه هي حالة الفرق الحادثة في هذه الشريعة مع الشريعة،و ذلك أن كل فرقة منهم تأولت غير التأويل الذي تأولته الفرقة الأخرى،و زعمت أنه هو الذي قصده صاحب الشرع حتى تمزق الشرع كل ممزق،و بعد جدا عن موضوعه الأول،و لما علم صاحب الشرع صلوات اللّه و سلامه عليه و على آله أن مثل هذا يعرض-و لا بد-في شريعته قال صلى اللّه عليه و سلم:«ستفترق أمتي على ثلاث و سبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة» (1)يعني بالواحدة:التي سلكت ظاهر الشرع و لم تؤوله.

ص: 341


1- أبو داود(4597)في السنة،باب:شرح السنة،و الترمذي(2641)في الإيمان،باب:ما جاء في افتراق هذه الأمة،و قال:«هذا حديث غريب...إلخ»،و ابن ماجة(3992)في الفتن،باب:افتراق

و أنت إذا تأملت ما عرض في هذه الشريعة في هذا الوقت من الفساد العارض فيها من قبل التأويل تبينت أن هذا المثال صحيح.

و أول من غير هذا الدواء الأعظم هم الخوارج،ثم المعتزلة بعدهم،ثم الأشعرية،ثم الصوفية،ثم جاء أبو حامد (1)فطم الوادي على القرى.هذا كلامه بلفظه.

و لو ذهبنا نستوعب ما جناه التأويل على الدنيا و الدين،و ما نال الأمم قديما و حديثا بسببه من الفساد؛لاستدعى ذلك عدة أسفار،و اللّه المستعان (2).

و أيضا إن بلاء الإسلام و محنته عظمت من هاتين الطائفتين:أهل المكر و المخادعة،و الاحتيال في العمليات،و أهل التحريف و السفسطة و القرمطة في العمليات،و كل فساد في الدين-بل و الدنيا-فمنشؤه من هاتين الطائفتين.فبالتأويل الباطل قتل عثمان رضي اللّه عنه و عاثت الأمة في دمائها،و كفر بعضها بعضا،و تفرقت على بضع و سبعين فرقة،فجرى على الإسلام من تأويل هؤلاء،و خداع هؤلاء و مكرهم ما جرى،و استولت الطائفتان،و قويت شوكتهما،و عاقبوا من لم يوافقهم و أنكر عليهم،و يأبى اللّه إلا أن يقيم لدينه من يذب عنه،و يبين أعلامه و حقائقه،لكيلا تبطل حجج اللّه و بيناته على عباده (3).

أمثلة للتأويل الفاسد

[1] من هذا إخباره-سبحانه-بأنه طبع على قلوب الكافرين،و ختم عليها و أنه أصمها عن الحق و أعمى أبصارها عنه،كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(6) خَتَمَ اللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ [البقرة]و الوقف التام هنا ثم قال: وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ [البقرة:7]كقوله: أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللّهُ عَلى عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً [الجاثية:23].

و قال تعالى: وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ [النساء:155].

ص: 342


1- الأمم،و في الزوائد:«إسناد حديث عوف بن مالك فيه مقال....إلخ»،و أحمد(145/3).
2- إعلام الموقعين(305/4-315).
3- إغاثة اللهفان(120/2،121).

و قال تعالى: كَذلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ [الأعراف:101]، كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ [يونس:74]، وَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ [الأعراف:100].

و أخبر-سبحانه-أن على بعض القلوب أقفالا تمنعها من أن تنفتح لدخول الهدى إليها،و قال: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَ شِفاءٌ وَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَ هُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [فصلت:44].

فهذا الوقر و العمى حال بينهم و بين أن يكون لهم هدى و شفاء.

و قال تعالى: إِنّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً [الكهف:57].

و قال تعالى: وَ كَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَ صُدَّ عَنِ السَّبِيلِ [غافر:37]قرأها الكوفيون«و صد»بضم الصاد،حملا على(زين).و قال تعالى: إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّابٌ [غافر].

و قال: إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ [الأحقاف:10]،و معلوم أنه لم ينف هدى البيان و الدلالة الذي تقوم به الحجة فإنه حجته على عباده.

و القدرية ترد هذا كله إلى المتشابه،و تجعله من متشابه القرآن،و تتأوله على غير تأويله، بل تتأوله بما يقطع ببطلانه و عدم إرادة المتكلم له،كقول بعضهم:«المراد من ذلك تسمية العبد مهتديا و ضالا»فجعلوا هداه و إضلاله مجرد تسمية العبد بذلك،و هذا مما يعلم قطعا أنه لا يصح حمل هذه الآيات عليه،و أنت تأملتها وجدتها لا تحتمل ما ذكروه البتة.

و ليس في لغة أمة من الأمم،فضلا عن أفصح اللغات و أكملها،«هداه»بمعنى سماه مهتديا،«و أضله»سماه ضالا،و هل يصح أن يقال:«علمه»إذا سماه عالما،و«فهمه»إذا سماه فهما؟!

و كيف يصح هذا في مثل قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَ لكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [البقرة:272].فهل فهم أحد غير القدرية المحرفة للقرآن من هذا:ليس عليك تسميتهم مهتدين،و لكن اللّه يسمي من يشاء مهتديا.

و هل فهم أحد قط من قوله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56]لا تسميه مهتديا و لكن اللّه يسميه بهذا الاسم؟!

و هل فهم أحد من قول الداعي: اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)[الفاتحة]و قوله:«اللهم اهدني من عندك»و نحوه،اللهم:سمني مهتديا؟

ص: 343

و هذا من جناية القدرية على القرآن،و معناه نظير جناية إخوانهم من الجهمية (1)على نصوص الصفات و تحريفها عن مواضعها،و فتحوا للزنادقة و الملاحدة جنايتهم على نصوص المعاد و تأويلها بتأويلات إن لم تكن أقوى من تأويلاتهم لم تكن دونها،و فتحوا للقرامطة و الباطنية تأويل نصوص الأمر و النهي بنحو تأويلاتهم.

فتأويل التحريف الذي سلسلته هذه الطوائف أصل فساد الدين و خراب العالم،و سنفرد إن شاء اللّه كتابا نذكر فيه جناية المتأولين على الدنيا و الدين.

و أنت إذا وازنت بين تأويلات القدرية و الجهمية و الرافضة لم تجد بينها و بين تأويلات الملاحدة و الزنادقة من القرامطة و الباطنية و أمثالهم كبير فرق.

و التأويل الباطل يتضمن تعطيل ما جاء به الرسول،و الكذب على المتكلم أنه أراد ذلك المعنى،فتضمن إبطال الحق و تحقيق الباطل،و نسبة المتكلم إلى ما لا يليق به من التلبيس و الإلغاز مع القول عليه بلا علم:إنه أراد هذا المعنى.

فالمتأول عليه أن يبين صلاحية اللفظ للمعنى الذي ذكره أولا،و استعمال المتكلم له في ذلك المعنى في أكثر المواضع حتى إذا استعمله فيما يحتمل غيره حمل على ما عهد منه استعماله فيه.

و عليه أن يقيم دليلا سالما عن المعارض على الموجب لصرف اللفظ عن ظاهره و حقيقته إلى مجازه و استعارته،و إلا كان ذلك مجرد دعوى منه فلا تقبل.

و تأول بعضهم هذه النصوص على أن المراد بها هداية البيان و التعريف لا خلق الهدى في القلب،فإن اللّه سبحانه لا يقدر على ذلك عند هذه الطائفة،و هذا التأويل من أبطل الباطل (2).

[2] الذي عليه أهل الحديث و السنة قاطبة،و الفقهاء كلهم،و جمهور المتكلمين،و الصوفية -أنه سبحانه-يكره بعض الأعيان و الأفعال و الصفات،و إن كانت واقعة بمشيئته،فهو يبغضها و يمقتها كما يبغض ذات إبليس و ذوات جنوده،و يبغض أعمالهم،و لا يحب ذلك).

ص: 344


1- الجهمية:هم أصحاب جهم بن صفوان الذي أظهر نفي الصفات و التعطيل آخذا ذلك عن الجعد بن درهم الذي قتله خالد القسري يوم الأضحى،و مما انفرد به جهم قوله:إن الجنة و النار تفنيان و إنّ الإيمان المعرفة فقط،و إن الإنسان مجبور،و إن ما تنسب إليه الأفعال على سبيل المجاز فقط،قتله سالم بن أحوز بمرو في آخر ملك بني أمية.
2- شفاء العليل(216/1-219).

و إن وجد بمشيئته.

قال تعالى: وَ اللّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ [البقرة:205]،و قال: وَ اللّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِينَ [آل عمران:57]،و قال: إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ [لقمان:18]،و قال: لا يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاّ مَنْ ظُلِمَ [النساء:148]،و قال: وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [المائدة:87]،و قال: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَ لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ [الزمر:7].

فهذا إخبار عن عدم محبته لهذه الأمور و رضاه بها بعد وقوعها.فهذا صريح في إبطال قول من تأول النصوص على أنه لا يحبها ممن لم تقع منه،و يحبها إذا وقعت،فهو يحبها ممن وقعت منه،و لا يحبها ممن لم تقع منه.و هذا من أعظم الباطل و الكذب على اللّه،بل هو-سبحانه-يكرهها و يبغضها قبل وقوعها،و حال وقوعها،و بعد وقوعها؛فإنها قبائح و خبائث،و اللّه منزه عن محبة القبيح و الخبيث،بل أكره شيء إليه.

قال اللّه تعالى: كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38)[الإسراء].

و قد أخبر-سبحانه أنه يكره طاعات المنافقين،و لأجل ذلك يثبطهم عنها،فكيف يحب نفاقهم و يرضاه و يكون أهله محبوبين له مصطفين عنده مرضيين؟

و من هذا الأصل الباطل نشأ قولهم باستواء الأفعال بالنسبة إلى الرب-سبحانه-و أنها لا تنقسم في نفسها إلى حسن و قبيح،فلا فرق بالنسبة إليه-سبحانه-بين الشكر و الكفر، و لذلك قالوا:لا يجب شكره على نعمه عقلا.

فمن هذا الأصل قالوا:إن مشيئته هي عين محبته،و إن كل ما شاءه فهو محبوب له و مرضى له و مصطفى و مختار.فلم يمكنهم بعد تأصل هذا الأصل أن يقولوا:إنه يبغض الأعيان و الأفعال التي خلقها و يحب بعضها،بل كل ما فعله و خلقه فهو محبوب له، و المكروه المبغوض ما لم يشأه و لم يخلقه.

و إنما أصلوا هذا الأصل محافظة منهم على القدر،فحثوا به على الشرع و القدر، و التزموا لأجله لوازم شوشوا بها القدر و الحكمة،و كابروا لأجلها صريح العقل،و سووا بين أقبح القبائح و أحسن الحسنات في نفس الأمر،و قالوا هما سواء لا فرق بينهما إلا بمجرد الأمر و النهي،فالكذب عندهم و الظلم و البغي و العدوان مسار للصدق و العدل و الإحسان في نفس الأمر.ليس في هذا ما يقتضي حسنه،و لا في هذا ما يقتضي قبحه،و جعلوا هذا المذهب شعار لأهل السنة،و القول بخلاف قول أهل البدع من المعتزلة و غيرهم.

ص: 345

و لعمر اللّه إنه لمن أبطل الأقوال و أشدها منافاة للعقل و الشرع،و لفطرة اللّه التي فطر عليها خلقه،و قد بينا بطلانه من أكثر من خمسين وجها في كتاب المفتاح (1).

و المقصود أنه لما انضم القول به إلى القول بأنه سبحانه لا يحب شيئا و يبغض شيئا بل كل موجود فهو محبوب له،و كل معدوم فهو مكروه له،و انضم إلى هذين الآخرين إنكار الحكم و الغايات المطلوبة في أفعاله-سبحانه-و أنه لا يفعل شيئا لمعنى البتة،و انضم إلى ذلك إنكار الأسباب،و أنه لا يفعل شيئا بشيء و إنكار القوى و الطبائع و الغرائز،و أن تكون أسبابا أو يكون لها أثر،انسد عليهم باب الصواب في مسائل القدر و التزموا هذه الأصول الباطلة لوازم هي أظهر بطلانا و فسادا،و هي من أدل شيء على فساد هذه الأصول و بطلانها،فإن فساد اللازم من فساد ملزومه.

فإن قيل:الكراهة و المحبة ترجع إلى المنافرة و الملاءمة للطبع،و ذلك محال في حق من لا يوصف بطبع و لا منافرة و لا ملاءمة.

قيل:قد دلت النصوص التي لا تدفع على وصفه تعالى بالمحبة و الكراهة،فتبيينكم حقائق ما دلت عليه بالتعبير عنها بملاءمة الطبع و منافرته باطل،و هو كنفي كل مبطل حقائق أسمائه و صفاته بالتعبير عنها بعبارات اصطلاحية توصل بها إلى نفي وصف به نفسه،كتسمية الجهمية المعطلة صفاته إعراضا،ثم توصلوا بهذه التسمية إلى نفيها.

و سموا أفعاله القائمة به حوادث،ثم توصلوا بهذه التسمية إلى نفيه،و قالوا:لا تحله الحوادث،كما قالت المعطلة و لا تقوم به الأعراض.

و سموا علوه على خلقه،و استواءه على عرشه،و كونه قاهرا فوق عباده،تحيزا و تجسما،ثم توصلوا بنفي ذلك إلى نفي علوه عن خلقه و استوائه على عرشه.

و سموا ما أخبر به عن نفسه من الوجه و اليدين و الإصبع جوارح و أعضاء،ثم نفوا ما أثبته لنفسه بتسميتهم له بغير تلك الأسماء، إِنْ هِيَ إِلاّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ ما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23)[النجم].

فتوصلوا بالتشبيه و التجسيم و التركيب و الحوادث و الأعراض و التحيز إلى تعطيل صفات كماله و نعوت جلاله و أفعاله،و أخلوا تلك الأسماء من معانيها و عطلوها من حقائقها.

فيقال لمن نفى محبته و كراهته لاستلزامهما ميل الطبع و نفرته:ما الفرق بينك و بين منة.

ص: 346


1- مفتاح دار السعادة.

نفى كونه مريدا لاستلزام الإرادة حركة النفس إلى جلب ما ينفعها بالمسموع و المبصر، و انطباع صورة المرئي في الرائي و حمل الهواء الصوت المسموع إلى أذن السامع (1).

[3] ظن كثير من الجهال أن الفاحشة بالمملوك كالمباحة،أو مباحة،أو أنهما أيسر من ارتكابها من الحر،و تأولت هذه الفرقة القرآن على ذلك،و أدخلت المملوك في قوله: إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)[المؤمنون:30]،حتى إن بعض النساء لتمكن عبدها من نفسها،و تتأول القرآن على ذلك،كما رفع إلى عمر بن الخطاب امرأة تزوجت عبدها،و تأولت هذه الآية،ففرق عمر رضي اللّه عنه بينهما،و أدبها،و قال:ويحك، إنما هذا للرجال لا للنساء.

و من تأول هذه الآية على وطء الذكران من المماليك فهو كافر باتفاق الأمة.

قال شيخنا:و من هؤلاء من يتأول قوله تعالى: وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكُمْ [البقرة:221]على ذلك،قال:و قد سألني بعض الناس عن هذه الآية،و كان ممن يقرأ القرآن،فظن أن معناها في إباحة ذكران العبيد المؤمنين (2).

[4] إن إثبات الصفات دل عليها الوحي الذي جاء من عند اللّه على لسان رسوله،و الحس الذي شاهد به البصير آثار الصنعة؛فاستدل بها على صفات صانعها،و العقل الذي طابت حياته بزرع الفكر،و القلب الذي حيى بحسن النظر بين التعظيم و الاعتبار.

فأما الرسالة:فإنها جاءت بإثبات الصفات إثباتا على وجه أزال الشبهة،و كشف الغطاء،و حصل العلم اليقيني،و رفع الشك و الريب،فثلجت له الصدور،و اطمأنت به القلوب،و استقر به الإيمان في نصابه،ففصلت الرسالة الصفات و النعوت و الأفعال أعظم من تفصيل الأمر و النهي،و قررت إثباتها أكمل تقرير في أبلغ لفظ،و أبعده من الإجمال و الاحتمال،و أمنعه من قبول التأويل.و كذلك كان تأويل آيات الصفات و أحاديثها بما يخرجها عن حقائقها من جنس تأويل آيات المعاد و أخباره،بل أبعد منه لوجوه كثيرة، ذكرتها في كتاب«الصواعق المرسلة على الجهمية و المعطلة»،بل تأويل آيات الصفات بما).

ص: 347


1- شفاء العليل(323/1-325).
2- إغاثة اللهفان(145/2).

يخرجها عن حقائقها،كتأويل آيات الأمر و النهي سواء،فالباب كله باب واحد،و مصدره واحد،و مقصوده واحد،و هو إثبات حقائقه و الإيمان بها.

و كذلك سطا على تأويل آيات المعاد قوم،و قالوا:فعلنا فيها كفعل المتكلمين في آيات الصفات،بل نحن أعذر،فإن اشتمال الكتب الإلهية على الصفات و العلو و قيام الأفعال أعظم من نصوص المعاد للأبدان بكثير؛فإذا ساغ لكم تأويلها،فكيف يحرم علينا نحن تأويل آيات المعاد؟

و كذلك سطا قوم آخرون على تأويل آيات الأمر و النهي،و قالوا:فعلنا فيها كفعل أولئك في آيات الصفات،مع كثرتها و تنوعها،و آيات الأحكام لا تبلغ زيادة على خمسمائة آية.

قالوا:و ما يظن أنه معارض من العقليات لنصوص الصفات،فعندنا معارض عقلي لنصوص المعاد،من جنسه أو أقوى منه.

و قال متأولو آيات الأحكام على خلاف حقائقها و ظواهرها:الذي سوغ لنا هذا التأويل القواعد التي اصطلحتموها لنا،و جعلتموها أصلا نرجع إليه،فلما طردناها كان أن اللّه ما تكلم بشيء قط و لا يتكلم،و لا يأمر و لا ينهى،و لا له صفة تقوم به،و لا يفعل شيئا،و طرد هذا الأصل لزوم تأويل آيات الأمر و النهى،و الوعد و الوعيد،و الثواب و العقاب.

و قد ذكرنا في كتاب«الصواعق»أن تأويل آيات الصفات و أخبارها-بما يخرجها عن حقائقها-هو أصل فساد الدنيا و الدين،و زوال الممالك،و تسليط أعداء الإسلام عليه إنما كان بسبب التأويل،و يعرف هذا من له اطلاع و خبرة بما جرى في العالم؛و لهذا يحرم عقلاء الفلاسفة التأويل مع اعتقادهم لصحته؛لأنه سبب لفساد العالم،و تعطيل الشرائع.

و من تأمل كيفية ورود آيات الصفات في القرآن و السنة علم قطعا بطلان تأويلها بما يخرجها عن حقائقها،فإنها وردت على وجه لا يحتمل معه التأويل بوجه.

فانظر إلى قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ [الأنعام:158]هل يحتمل هذا التقسيم و التنويع تأويل إتيان الرب جل جلاله بإتيان ملائكته أو آياته؟و هل يبقي مع هذا السياق شبهة أصلا أنه إتيانه بنفسه؟و كذلك قوله: إِنّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ إلى أن قال: وَ كَلَّمَ اللّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النساء:163،164]ففرق بين الإيحاء العام،و التكليم الخاص،و جعلهما نوعين،ثم أكد فعل التكليم بالمصدر الرافع لتوهم ما يقوله المحرفون،و كذلك قوله: وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً [الشورى:51]،فنوع تكليمه إلى:تكليم

ص: 348

بواسطة،و تكليم بغير واسطة،و كذلك قوله لموسى عليه السّلام إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النّاسِ بِرِسالاتِي وَ بِكَلامِي [الأعراف:144]ففرق بين الرسالة و الكلام،و الرسالة إنما هي بكلامه.و كذلك قول النبي صلى اللّه عليه و سلم:«إنكم ترون ربكم عيانا كما ترون القمر ليلة البدر في الصحو،ليس دونه سحاب،و كما ترون الشمس في الظهيرة صحوا ليس دونها سحاب» (1)،و معلوم أن هذا البيان و الكشف و الاحتراز ينافي إرادة التأويل قطعا،و لا يرتاب في هذا من له عقل و دين (2).).

ص: 349


1- البخاري(6،8)في الأذان،باب:فضل السجود،و الترمذي(2554)في صفة الجنة،باب:رقم(17) و قال:«حسن صحيح غريب..إلخ».
2- مدارج السالكين(352/3-354).

التفسير بالرأي

اشارة

الرأي في الأصل مصدر،رأى الشيء يراه رأيا،ثم غلب استعماله على المرئي نفسه من باب استعمال المصدر في المفعول.كالهوى في الأصل مصدر هويه يهواه هوى،ثم استعمل في الشيء الذي يهوى،فيقال:هذا هوى فلان،و العرب تفرق بين مصادر فعل الرؤية بحسب محالها،فتقول:رأى كذا في النوم رؤيا،و رآه في اليقظة رؤية،و رأى كذا لما يعلم بالقلب،و لا يرى بالعين رأيا،و لكنهم خصوه بما يراه القلب،بعد فكر و تأمل و طلب لمعرفة وجه الصواب،مما تتعارض فيه الأمارات،فلا يقال لمن رأى أمرا غائبا عنه مما يحس به أنه رأيه،و لا يقال أيضا للأمر المعقول الذي لا تختلف فيه العقول،و لا تتعارض فيه الأمارات أنه رأى،و إن احتاج إلى فكر و تأمل كدقائق الحساب و نحوها.

أقسام الرأي

اشارة

و إذا عرف هذا فالرأي ثلاثة أقسام:

رأي باطل بلا ريب،و رأي صحيح،و رأي هو موضع الاشتباه.

و الأقسام الثلاثة قد أشار إليها السلف،فاستعملوا الرأي الصحيح،و عملوا به،و أفتوا به،و سوغوا القول به.و ذموا الباطل،و منعوا من العمل و الفتيا و القضاء به،و أطلقوا ألسنتهم بذمه و ذم أهله.

و القسم الثالث سوغوا العمل و الفتيا و القضاء به عند الاضطرار إليه،حيث لا يوجد منه بدو لم يلزموا أحدا العمل به،و لم يحرموا مخالفته،و لا جعلوا مخالفه مخالفا للدين،بل غايته أنهم خيروا بين قبوله و رده،فهو بمنزلة ما أبيح للمضطر من الطعام و الشراب الذي يحرم عند عدم الضرورة إليه.كما قال الإمام أحمد:سألت الشافعي عن القياس فقال لي:

عند الضرورة.

و كان استعمالهم لهذا النوع بقدر الضرورة لم يفرطوا فيه و يفرعوه و يولدوه و يوسعوه كما صنع المتأخرون بحيث اعتاضوا به عن النصوص و الآثار،و كان أسهل عليهم من حفظها.

كما يوجد كثير من الناس يضبط قواعد الإفتاء لصعوبة النقل عليه،و تعسر حفظه،فلم

ص: 350

يتعدوا في استعماله قدر الضرورة،و لم يبغوا بالعدل إليه مع تمكنهم من النصوص و الآثار، كما قال اللّه تعالى في المضطر إلى الطعام المحرم: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)[البقرة]؛فالباغي الذي يبتغي الميتة مع قدرته على التوصل إلى المذكي،و العادي الذي يتعدى قدر الحاجة بأكلها.

فالرأي الباطل أنواع:

أحدها:الرأي المخالف للنص:و هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام فساده و بطلانه،و لا تحل الفتيا به،و لا القضاء و إن وقع فيه من وقع بنوع تأويل و تقليد.

النوع الثاني:هو الكلام في الدين بالخرص و الظن مع التفريط و التقصير في معرفة النصوص و فهمها،و استنباط الأحكام منها.فإن من جهلها و قاس برأيه،فما سئل عنه بغير علم،بل لمجرد قدر جامع بين الشيئين ألحق أحدهما بالآخر أو لمجرد قدر فارق يراه بينهما،يفرق بينهما في الحكم من غير نظر إلى النصوص و الآثار،فقد وقع في الرأي المذموم الباطل.

فصل و أصل النوع الثالث:الرأي المتضمن تعطيل أسماء الرب و صفاته و أفعاله بالمقاييس الباطلة،التي وضعها أهل البدع و الضلال من الجهمية و المعتزلة و القدرية،و من ضاهاهم.

حيث استعمل أهله قياساتهم الفاسدة،و آراءهم الباطلة،و شبههم الداحضة في رد النصوص الصحيحة الصريحة،فردوا لأجلها ألفاظ النصوص التي وجدوا السبيل إلى تكذيب رواتها، و تخطئتهم،و معاني النصوص التي لم يجدوا إلى رد ألفاظها سبيلا،فقابلوا النوع الأول بالتكذيب،و النوع الثاني بالتحريف و التأويل.

فأنكروا لذلك رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة،و أنكروا كلامه و تكليمه لعباده،و أنكروا مباينته للعالم،و استواءه على عرشه،و علوه على المخلوقات و عموم قدرته على كل شيء، بل أخرجوا أفعال عباده من الملائكة و الأنبياء و الجن و الإنس عن تعلق قدرته و مشيئته و تكوينه لها.و نفوا لأجلها حقائق ما أخبر به عن نفسه و أخبر به رسوله من صفات كماله و نعوت جلاله،و حرفوا لأجلها النصوص عن مواضعها،و أخرجوها عن معانيها و حقائقها بالرأي المجرد الذي حقيقته:أنه ذبالة الأذهان،و نخالة الأفكار،و عفارة الآراء،و وساوس الصدور،فملئوا به الأوراق سوادا،و القلوب شكوكا و العالم فسادا.

ص: 351

و كل من له مسكة من عقل يعلم أن فساد العالم و خرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي،و الهوى على العقل.و ما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استحكم هلاكه،و في أمة إلا و فسد أمرها أتم فساد،فلا إله إلا اللّه!كما نفى بهذه الآراء من حق، و أثبت بها من باطل،و أميت بها من هدى،و أحيى بها من ضلالة،و كم هدم بها من معقل الإيمان،و عمر بها من دين الشيطان.

و أكثر أصحاب الجحيم.هم أهل هذه الآراء الذين لا سمع لهم،و لا عقل بل هم شر من الحمر،و هم الذين يقولون يوم القيامة: لَوْ كُنّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ [الملك:10].

النوع الرابع:الرأي الذي أحدثت به البدع،و غيرت به السنن،و عم به البلاء و تربى عليه الصغير،و هرم فيه الكبير،فهذه الأنواع الأربعة من الرأي الذي اتفق سلف الأمة و أئمتها،على ذمه و إخراجه من الدين.

النوع الخامس:ما ذكره أبو عمر بن عبد البر عن جمهور أهل العلم أن الرأي المذموم في هذه الآثار عن النبي صلى اللّه عليه و سلم،و عن أصحابه و التابعين رضي اللّه عنهم،أنه القول في أحكام شرائع الدين بالاستحسان و الظنون،و الاشتغال بحفظ المعضلات و الأغلوطات،ورد الفروع بعضها على بعض قياسا دون ردها على أصولها،و النظر في عللها و اعتبارها،فاستعمل فيها الرأي قبل أن ينزل،و فرعت و شقت قبل أن تقع،و تكلم فيها قبل أن يكون بالرأي المضارع للظن،قالوا:

و في الاشتغال بهذا و الاستغراق فيه تعطيل السنن و البعث على جهلها،و ترك الوقوف على ما يلزم الوقوف عليه منها،و من كتاب اللّه عز و جلّ و معانيه،احتجوا على ما ذهبوا إليه بأشياء.

ثم ذكر من طريق أسد بن موسى:ثنا شريك عن ليث عن طاوس عن ابن عمر قال:لا تسألوا عما لم يكن؛فإني سمعت عمر يلعن من يسأل عما لم يكن.

ثم ذكر من طريق أبي داود،ثنا إبراهيم بن موسى الرازي،ثنا عيسى بن يونس عن الأوزاعي عن عبد اللّه بن سعد عن الصنابحي عن معاوية أن النبي صلى اللّه عليه و سلم نهى عن الأغلوطات.

و قال أبو بكر بن أبي شيبة:ثنا عيسى بن يونس عن الأوزاعي بإسناده مثله،و قال:فسره الأوزاعي:يعني صعاب المسائل.

و قال الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن عبد اللّه بن سعد عن عبادة بن قيس الصنابحي عن معاوية بن أبي سفيان أنهم ذكروا المسائل عنده،فقال:أ تعلمون أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم نهى عن عضل المسائل؟

قال أبو عمر:و احتجوا أيضا بحديث سهل و غيره:أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كره المسائل

ص: 352

و عابها،و بأنه صلى اللّه عليه و سلم قال:«إن اللّه يكره لكم قيل و قال:و كثرة السؤال...» (1).

و قال ابن أبي خيثمة.ثنا أبي،ثنا عبد الرحمن بن مهدي،ثنا مالك عن الزهري عن سهل بن سعد قال:لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم المسائل و عابها،قال أبو بكر:هكذا ذكره أحمد بن زهير بهذا الإسناد،و هو خلاف لفظ«الموطأ».قال أبو عمر:و في سماع أشهب سئل مالك عن قول رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:«أنهاكم عن قيل و قال،و كثرة السؤال».

فقال:أما كثرة السؤال،فلا أدري أ هو ما أنتم فيه مما أنهاكم عنه من كثرة المسائل فقد كره رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم المسائل و عابها.

و قال اللّه عز و جل: لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [المائدة:101]فلا أدري أ هو هذا أم السؤال في مسألة الناس في الاستعطاء.

و قال الأوزاعي عن عبدة بي أبي لبابة:وددت أن حظي من أهل هذا الزمان أن لا أسألهم عن شيء،و لا يسألوني،و يتكاثرون بالمسائل كما يتكاثر أهل الدراهم بالدراهم.

قال:و احتجوا أيضا بما رواه ابن شهاب عن عامر بن سعد بن أبي وقاص أنه سمع أباه يقول:قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:«أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين،فحرم عليهم من أجل مسألته» (2).

و روى ابن وهب أيضا قال:حدثني ابن لهيعة عن الأعرج عن أبي هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم،قال:«ذروني مما تركتكم،فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم و اختلافهم على أنبيائهم،فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه،و إذا أمرتكم بشيء،فخذوا منه ما استطعتم» (3)

و قال سفيان بن عيينة،عن عمرو،عن طاوس قال:قال عمر بن الخطاب و هو على المنبر:«أحرج باللّه على كل امرئ سأل عن شيء لم يكن فإن اللّه قد بين ما هو كائن».

و قال أبو عمر:و روى جرير بن عبد الحميد،و محمد بن فضيل،عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير،عن ابن عباس،قال:ما رأيت قوما خيرا من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسالة،حتى قبض صلى اللّه عليه و سلم كلهن في القرآن: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ).

ص: 353


1- البخاري(2408)في كتاب الاستقراض،باب:ما ينهى عن إضاعة المال،و أحمد(327/2)،
2- البخاري(7289)في الاعتصام،باب:ما يكره من كثرة السؤال...إلخ،و مسلم(132/2358)في الفضائل،باب:توقيره صلى اللّه عليه و سلم و ترك إكثار سؤاله...إلخ
3- مسلم(412/3244)في الحج،باب:فرض الحج مرة في العمر،و الترمذي(2679)في العلم،باب: الانتهاء عما نهى عنه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم،و أحمد(247/2).

[البقرة:222]، يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ [البقرة:217]، وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى [البقرة:

220] (1)ما كانوا يسألونه إلا عما ينفعهم.

قال أبو عمر:ليس في الحديث من الثلاث عشرة مسألة إلا ثلاث.

قلت:و مراد ابن عباس بقوله ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة،المسائل حكاها اللّه في القرآن عنهم،و إلا فالمسائل التي سألوه عنها،و بين لهم أحكامها بالسنة لا تكاد تحصى،و لكن إنما كانوا يسألون عما ينفعهم من الواقعات،و لم يكونوا يسألونه عن المقدرات و الأغلوطات،و عضل المسائل،و لم يكونوا يشتغلون بتفريع المسائل و توليدها، بل كانت هممهم مقصورة على تنفيذ ما أمرهم به،فإذا وقع بهم أمر سألوا عنه،فأجابهم.

و قد قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَ إِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْها وَ اللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ(101) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102)[المائدة].

و قد اختلف في هذه الأشياء المسئول عنها:هل هي أحكام قدرية أو أحكام شرعية؟ على قولين،فقيل:إنها أحكام شرعية،عفا اللّه عنها،أي:سكت على تحريمها فيكون سؤالهم عنها سبب تحريمها،و لو لم يسألوا،لكانت عفوا.و منه قوله صلّى اللّه عليه و سلّم و قد سئل عن الحج:أ في كل عام؟فقال:«لو قلت نعم لوجبت،ذروني ما تركتكم،فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم،و اختلافهم على أنبيائهم» (2).

و يدل على هذا التأويل حديث أبي ثعلبة المذكور:«إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما»الحديث (3)،و منه الحديث الآخر:«إن اللّه فرض فرائض فلا تضيعوها،و حد حدودا فلا تعتدوها،و حرم أشياء فلا تنتهكوها،و سكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان،فلا تبحثوا عنها» (4)،و فسرت بسؤالهم عن أشياء من الأحكام القدرية،كقول عبد اللّه ابن حذافة:من أبي يا رسول اللّه؟ (5)و قول آخر:أين أبي يا رسول اللّه؟قال:«في النار» (6).خ.

ص: 354


1- الطبراني في الكبير(12288)،و قال الهيثمي في مجمع الزوائد(164/1):«فيه عطاء بن السائب، و هو ثقة و لكنه اختلط،و بقية رجاله ثقات».
2- سبق تخريجهما في الصفحة السابقة،هامش(2،3).
3- سبق تخريجهما في الصفحة السابقة،هامش(2،3).
4- البيهقي في السنن الكبرى(12/10)،و الحاكم في المستدرك(115/4)و سكت عنه هو و الذهبي.
5- البخاري(92)في العلم،باب:الغضب في الموعظة و التعليم إذا رأى ما يكره،و مسلم(138/6078) في الفضائل،باب:توقيره صلّى اللّه عليه و سلّم و ترك إكثار سؤاله...إلخ.
6- مسلم(347/203)في الإيمان،باب:بيان أن من مات على الكفر فهو في النار...إلخ.

و التحقيق أن الآية تعم النهي عن النوعين،و على هذا فقوله تعالى: إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [المائدة:101]أما في أحكام الخلق و القدر فإنه يسوؤهم أن يبدو لهم ما يكرهونه،مما يسألون عنه،و أما في أحكام التكليف،فإنه يسوؤهم أن يبدو لهم ما يشق عليهم تكليفه مما سألوا عنه.

و قوله تعالى: وَ إِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ فيه قولان:

أحدهما:أن القرآن إذا نزل بها ابتداء بغير سؤال،فسألتم عن تفصيلها و علمها،أبدى لكم،و بين لكم،و المراد بحين النزول:زمنه المتصل به لا الوقت المقارن للنزول،و كأن في هذا إذنا لهم في السؤال عن تفصيل المنزل و معرفته بعد إنزاله،ففيه رفع لتوهم المنع من السؤال عن الأشياء مطلقا.

و القول الثاني:أنه من باب التهديد و التحذير،أي ما سألتم عنها في وقت نزول الوحي جاءكم ما سألتم عنه بما يسوؤكم،و المعنى:لا تتعرضوا للسؤال عما يسوؤكم بيانه،و إن تعرضتم له في زمن الوحي أبدى لكم.و قوله: عَفَا اللّهُ عَنْها أي عن بيانها خبرا و أمرا،بل طوى بيانها عنكم رحمة و مغفرة و حلما و اللّه غفور رحيم،فعلى القول الأول:عفا اللّه عن التكليف بها توسعة عليكم،و على القول الثاني عفا اللّه عن بيانها؛لئلا يسوؤكم بيانها.

و قوله: قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102)[المائدة]أراد نوع تلك المسائل لا أعيانها،أي قد تعرض قوم من قبلكم لأمثال هذه المسائل،فلما بينت لهم كفروا بها،فاحذروا مشابهتهم،و التعرض لما تعرضوا له،و لم ينقطع حكم هذه الآية بل لا ينبغي للعبد أن يتعرض للسؤال عما إن بدا له ساءه،بل يستعفي ما أمكنه و يأخذ بعفو اللّه؛و من هاهنا قال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه:يا صاحب الميزاب،لا تخبرنا،لما سأله رفيقه عن مائه أ طاهر،أم لا؟

و كذلك لا ينبغي للعبد أن يسأل ربه أن يبدي له من أحواله و عاقبته ما طواه عنه و ستره، فلعله يسوؤه،إن أبدى له،فالسؤال عن جميع ذلك تعرض لما يكرهه اللّه؛فإنه-سبحانه- يكره إبداءها،و لذلك سكت عنها،و اللّه أعلم.

الآثار عن التابعين في ذم الرأي

قالوا:و من تدبر الآثار المروية في ذم الرأي وجدها لا تخرج عن هذه الأنواع المذمومة،و نحن نذكر آثار التابعين،و من بعدهم بذلك؛ليتبين مرادهم،قال الخشني:ثنا

ص: 355

محمد بن بشار،ثنا يحيي.بن سعيد القطان،عن مجالد،عن الشعبي.قال:لعن اللّه أ رأيت،قال:يحيي بن سعيد:و ثنا صالح بن مسلم،قال:سالت الشعبي عن مسألة من النكاح،فقال إن أخبرتك برأيي فبل عليه.

قالوا:فهذا قول الشعبي في رأيه،و هو من كبار التابعين،و قد لقي مائة و عشرين من الصحابة،و أخذ عن جمهورهم.

و قال الطحاوي:ثنا سليمان بن شعيب،ثنا عبد الرحمن بن خالد،ثنا مالك بن مغول، عن الشعبي قال:ما جاءكم به هؤلاء من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فخذوه،و ما كان رأيهم، فاطرحوه في الحش (1).

و قال البخاري:حدثنا سنيد بن داود،ثنا حماد بن زيد،عن زيد،عن عمرو بن دينار قال:قيل لجابر بن زيد إنهم يكتبون ما يسمعون منكم،قال:إنا للّه و إنا إليه راجعون، يكتبونه و أنا أرجع عنه غدا!

قال إسحاق بن راهويه:قال سفيان بن عيينة:اجتهاد الرأي هو مشاورة أهل العلم،لا أن يقول هو برأيه.

و قال ابن أبي خيثمة:ثنا الحوطي،ثنا إسماعيل بن عياش،عن سوادة بن زياد و عمرو بن المهاجر،عن عمر بن عبد العزيز:أنه كتب إلى الناس أنه لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.

قال أبو بصيرة:سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن يقول للحسن البصري:بلغني أنك تفتي برأيك،فلا تفت برأيك إلا أن يكون سنة عن رسول اللّه.

و قال البخاري:حدثني محمد بن محبوب،ثنا عبد الواحد،ثنا ابن الزبرقان بن عبد اللّه الأسيدي أن أبا وائل شقيق بن سلمة قال:إياك و مجالسة من يقول:أ رأيت أ رأيت.

و قال أبان بن عيسى بن دينار،عن أبيه،عن ابن القاسم،عن مالك عن ابن شهاب، قال:دعوا السنة تمضي لا تعرضوا لها بالرأي.

و قال يونس عن أبي الأسود،و هو محمد بن عبد الرحمن بن نوفل سمعت عروة بن الزبير يقول:ما زال أمر بني إسرائيل معتدلا،حتى نشأ فيهم المولدون أبناء سبايا الأمم،ن.

ص: 356


1- الحش بضم الحاء و فتحها و كسرها:البستان و المخرج أيضا؛لأنهم كانوا يقضون حوائجهم في البساتين.

فأخذوا فيهم بالرأي،فأضلوهم.

و ذكر ابن وهب عن ابن شهاب أنه قال و هو يذكر ما وقع فيه الناس من هذا الرأي، و تركهم السنن،فقال:إن اليهود و النصارى إنما انسلخوا من العلم الذي بأيديهم حين اتبعوا الرأي،و أخذوا فيه.و قال ابن وهب:حدثني ابن لهيعة أن رجلا سأل سالم بن عبد اللّه بن عمر عن شيء فقال:لم أسمع في هذا شيئا،فقال له الرجل:فأخبرني أصلحك اللّه برأيك، فقال:لا،ثم أعاد عليه:إني أرضى برأيك،فقال سالم:إني لعلي إن أخبرتك برأيي ثم تذهب فأرى بعد ذلك رأيا غيره،فلا أجدك.

و قال البخاري:حدثنا عبد العزيز بن عبد اللّه الأويسي،ثنا مالك بن أنس،قال:كان ربيعة يقول لابن شهاب:إن حالي ليس يشبه حالك أنا أقول برأيي،من شاء أخذه و عمل به،و من شاء تركه.

و قال الفرياني:ثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي،قال:سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول:سمعت حماد بن زيد يقول:قيل لأيوب السختياني:مالك لا تنظر في الرأي؟فقال:

أيوب:قيل للحمار:مالك لا تجتر؟قال:أكره مضغ الباطل!

و قال الفرياني:ثنا العباس بن الوليد بن مزيد:أخبرني أبي،قال سمعت الأوزاعي يقول:

عليك بآثار من سلف،و إن رفضك الناس،و إياك و آراء الرجال و إن زخرفوا لك القول.

و قال أبو زرعة:ثنا أبو مسهر،قال:كان سعيد بن عبد العزيز إذا سئل لا يجيب حتى يقول:لا حول و لا قوة إلا باللّه،هذا الرأي،و الرأي يخطئ و يصيب.

و قد روى أبو يوسف،و الحسن بن زياد،كلاهما عن أبي حنيفة أنه قال:علمنا هذا رأي،و هو أحسن ما قدرنا عليه،و من جاءنا بأحسن منه قبلناه منه.

و قال الطحاوي:ثنا محمد بن عبد اللّه بن عبد الحكم،ثنا أشهب بن عبد العزيز،قال:

كنت عند مالك،فسئل عن البتة (1).فأخذت ألواحي،لأكتب ما قال،فقال لي مالك:لا تفعل،فعسى في العشى أقول:إنها واحدة.و قال معن بن عيسى القزاز:سمعت مالكا يقول:إنما أنا بشر أخطئ و أصيب،فانظروا في قولي،فكل ما وافق الكتاب و السنة فخذوا به،و ما لم يوافق الكتاب و السنة،فاتركوه.فرضي اللّه عن أئمة الإسلام،و جزاهم عن نصيحتهم خيرا،و لقد امتثل وصيتهم،و سلك سبيلهم أهل العلم و الدين من أتباعهم.ة.

ص: 357


1- طلقها بتة و بتاتا أي بائنة.

موقف أهل الرأي من السنة

و أما المتعصبون فإنهم عكسوا القضية و نظروا في السنة فما وافق أقوالهم منها قبلوه، و ما خالفها تحيلوا في رده أو رد دلالته،و إذا جاء نظير ذلك أو أضعف منه سندا و دلالة، و كان يوافق قولهم قبلوه و لم يستجيزوا رده،و اعترضوا به على منازعيهم،و أشاحوا و قرروا الاحتجاج بذلك السند و دلالته،فإذا جاء ذلك السند بعينه أو أقوى منه،و دلالته كدلالة ذلك أو أقوى منه في خلاف قولهم،دفعوه و لم يقبلوه،و سنذكر من هذا إن شاء اللّه طرفا عند ذكر غائلة التقليد و فساده،و الفرق بينه و بين الاتباع.

كلام أئمة الفقهاء عن الرأي

و قال بقي بن مخلد:ثنا سحنون و الحارث بن مسكين،عن القاسم،عن مالك،أنه كان يكثر أن يقول: إِنْ نَظُنُّ إِلاّ ظَنًّا وَ ما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية:32].

و قال القعنبي:دخلت على مالك بن أنس في مرضه الذي مات فيه،فسلمت عليه،ثم جلست،فرأيته يبكي،فقلت له:يا أبا عبد الرحمن،ما الذي يبكيك؟فقال لي:يا ابن قعنب،و ما لي لا أبكي،و من أحق بالبكاء مني؟و اللّه لوددت أني ضربت بكل مسالة أفتيت فيها بالرأي سوطا،و قد كانت لي السعة فيما قد سبقت إليه،وليتني لم أفت بالرأي.

و قال ابن أبي داود:ثنا أحمد بن سنان،قال:سمعت الشافعي يقول:مثل الذي ينظر في الرأي،ثم يتوب منه مثل المجنون الذي عولج حتى برأ،فأعقل ما يكون قد هاج به.

و قال ابن أبي داود:حدثنا عبد اللّه بن أحمد بن حنبل،قال:سمعت أبي يقول:لا تكاد ترى أحدا نظر في الرأي إلا و في قلبه دغل.و قال عبد اللّه بن أحمد أيضا:سمعت أبي يقول:الحديث الضعيف أحب إليّ من الرأي،فقال عبد اللّه:سألت أبي عن الرجل يكون ببلد،لا يجد فيه إلا صاحب حديث،لا يعرف صحيحه من سقيمه،و أصحاب رأي،فتنزل به النازلة،فقال أبي:يسأل أصحاب الحديث،و لا يسأل أصحاب الرأي،ضعيف الحديث أقوى من الرأي (1).

النهي عن تفسير القرآن بمجرد الاحتمال النحوي الإعرابي

لا يجوز أن يحمل كلام اللّه عز و جلّ و يفسر بمجرد الاحتمال النحوي الإعرابي الذي يحتمله

ص: 358


1- إعلام الموقعين(103/1-114).

تركيب الكلام،و يكون الكلام به له معنى ما،فإن هذا مقام غلط فيه أكثر المعربين للقرآن.

فإنهم يفسرون الآية و يعربونها بما يحتمله تركيب تلك الجملة،و يفهم من ذلك التركيب أي معنى اتفق.و هذا غلط عظيم يقطع السامع بأن مراد القرآن غيره و إن احتمل ذلك التركيب هذا المعنى في سياق آخر و كلام آخر،فإنه لا يلزم أن يحتمله القرآن.

مثل قول بعضهم في قراءة من قرأ: وَ الْأَرْحامَ إِنَّ اللّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء]بالجر أنه قسم.

و مثل قول بعضهم في قوله تعالى: وَ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وَ كُفْرٌ بِهِ وَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [البقرة:217]أن المسجد مجرور بالعطف على الضمير المجرور في«به».

و مثل قول بعضهم في قوله تعالى: لكِنِ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَ الْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ [النساء:162]أن المقيمين مجرور بواو القسم،و نظائر ذلك أضعاف أضعاف ما ذكرنا و أوهى بكثير.

بل للقرآن عرف خاص و معان معهودة لا يناسبه تفسيره بغيرها و لا يجوز تفسيره بغير عرفه و المعهود من معانيه،فإن نسبة معانيه إلى المعاني كنسبة ألفاظه إلى الألفاظ بل أعظم، فكما أن ألفاظه ملوك الألفاظ و أجلها و أفصحها و لها من الفصاحة أعلى مراتبها التي يعجز عنها قدر العالمين،فكذلك معانيه أجل المعاني و أعظمها و أفخمها،فلا يجوز تفسيره بغيرها من المعاني التي لا تليق به،بل غيرها أعظم منها و أجل و أفخم،فلا يجوز حمله على المعاني القاصرة بمجرد الاحتمال النحوي الإعرابي.

فتدبر هذه القاعدة،و لتكن منك على بال،فإنك تنتفع بها في معرفة ضعف كثير من أقوال المفسرين و زيفها،و تقطع أنها ليست مراد المتكلم تعالى بكلامه.و سنزيد هذا إن شاء اللّه تعالى بيانا و بسطا في الكلام على أصول التفسير،فهذا أصل من أصوله بل هو أهم أصوله (1).8)

ص: 359


1- بدائع الفوائد(27/3،28)

من فوائد الإخبار عن المحسوس الواقع

اشارة

إخبار الرب-تبارك و تعالى-عن المحسوس الواقع له عدة فوائد،منها:

أن يكون توطئة و تقدمة لإبطال ما بعده.

و منها:أن يكون موعظة و تذكيرا.

و منها:أن يكون شاهدا على ما أخبر به من توحيده و صدق رسوله و إحياء الموتى.

و منها:أن يذكر في معرض الامتنان.

و منها:أن يذكر في معرض اللوم و التوبيخ.

و منها:أن يذكر في معرض المدح و الذم.

و منها:أن يذكر في معرض الإخبار عن اطلاع الرب عليه،و غير ذلك من الفوائد (1).

«عسى»من اللّه واجب

في حديث أبا (2)لبابة لما بلغ النبي صلّى اللّه عليه و سلّم ارتباطه،قال:«لو أتاني لاستغفرت له،و إذا فعل فلست أطلقه حتى يطلقه اللّه» (3)؛فأنزل اللّه تعالى: وَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ [التوبة:

102]إلى قوله: عَسَى اللّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [التوبة:102]،فأطلقه النبي صلّى اللّه عليه و سلّم حينئذ.

و في هذا ما يدل على صحة قول المفسرين:إن عسى من اللّه واجب،و فيه أن فاطمة جاءت تحله فقال:لا،إلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقال:«فاطمة بضعة مني» (4)فإن قيل:فهل يبر الحالف بمثل هذا لو اتفق اليوم؟قيل:لا،إما لأنه مختص بالنبي صلّى اللّه عليه و سلّم،و إما لأن فاطمة بضعة منه قطعا،و اللّه أعلم (5).

ص: 360


1- بدائع الفوائد(10/4).
2- هذا على لغة القصر،و على لغة التمام(أبي).
3- دلائل النبوة للبيهقي(271/5،272).
4- البخاري(3714)في فضائل الصحابة ن باب:مناقب قرابة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم
5- بدائع الفوائد(212/3).

تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد

استدل على تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد،بتخصيص آية الميراث بقوله:«لا نورث،ما تركناه صدقة» (1)،و الصديق أول من خصصه.قال ابن عقيل:و هذه بلاهة من هذا المستدل؛فإن الصديق لم يخصصه إلا بما سمعه شفاها من النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فهو قطعي و ليس النزاع فيه (2).

هل نقل من القرآن آحادا؟

الكلام فيما نقل من القرآن آحادا في فصلين:أحدهما:كونه من القرآن،و الثاني:

وجوب العمل به،و لا ريب أنهما حكمان متغايران؛فإن الأول يوجب انعقاد الصلاة به و تحريم مسه على المحدث،و قراءته على الجنب،و غير ذلك من أحكام القرآن؛فإذا انتفت هذه الأحكام لعدم التواتر لم يلزم انتفاء العمل به،فإنه يكفي فيه الظن.

و قد احتج كل واحد من الأئمة الأربعة به في موضع،فاحتج به الشافعي و أحمد في هذا الموضع،و احتج به أبو حنيفة في وجوب التتابع في صيام الكفارة بقراءة ابن مسعود:

«فصيام ثلاثة أيام متتابعات».

و احتج به مالك و الصحابة قبله في فرض الواحد من ولد الأم،أنه السدس بقراءة أبي:

وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ [النساء:12]،فالناس كلهم احتجوا بهذه القراءة،و لا مستند للإجماع سواها.

قالوا:و أما قولكم إما أن يكون نقله قرآنا أو خبرا،قلنا:بل قرآنا صريحا.قولكم:

فكان يجب نقله متواترا،قلنا:حتى إذا نسخ لفظه،أو بقي،أما الأول:فممنوع،و الثاني:

مسلم،و غاية ما في الأمر أنه قرآن نسخ لفظه و بقي حكمه؛فيكون له حكم قوله:«الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما» (3)،مما اكتفى بنقله آحادا،و حكمه ثابت،و هذا مما لا جواب عنه (4).

ص: 361


1- البخاري(6726)في الفرائض،باب:قول النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«لا نورث ما تركناه صدقة»،و مسلم(/4552 49)في الجهاد و السير،باب:حكم الفيء،و أحمد(4/1).
2- بدائع الفوائد(44/4).
3- ابن ماجة(2553)في الحدود،باب:الرجم،و أحمد(183/5).
4- زاد المعاد(573/5).

تفسير القرآن بالسنة

اشارة

و سنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم مفسرة للقرآن و مترجمة عنه،و على هذا أكثر الأحكام،كقوله:«لا وصية لوارث» (1)،و«الرجم على المحصن» (2)،و«النهي عن نكاح المرأة على عمتها و خالتها» (3)،و«يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» (4)،«و قطع الموارثة بين أهل الإسلام و أهل الكفر» (5)،و«إيجابه على المطلقة ثلاثا:مسيس الزوج الآخر» (6)في شرائع كثيرة،لا يوجد لفظها في ظاهر الكتاب،و لكنها سنن شرعها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.فعلى الأمة اتباعها، كاتباع الكتاب.و كذلك الشاهد و اليمين لما قضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بهما.و إنما في الكتاب:

فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ [البقرة:282]علم أن ذلك إذا وجدتا،فإذا عدمتا قامت اليمين مقامهما، كما علم حين مسح النبي صلّى اللّه عليه و سلّم على الخفين أن قوله تعالى: وَ أَرْجُلَكُمْ [المائدة:6]معناه:

أن تكون الأقدام بادية.

و كذلك لما رجم المحصن في الزنا:علم أن قوله: فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2]للبكرين.

و كذلك كل ما ذكرنا من السنن على هذا فما بال الشاهد و اليمين ترد من بينهما،و إنما هي ثلاث منازل في شهادات الأموال اثنتان بظاهر الكتاب و واحدة بتفسير السنة له.

فالمنزلة الأولى:الرجلان.

ص: 362


1- البخاري(2747)في الوصايا،باب:لا وصية لوارث و أبو داود(3565)في البيوع،باب:في تضمين العارية،و الترمذي(2120)في الوصايا،باب:ما جاء لا وصية لوارث.
2- البخاري(6825)في الحدود،باب:سؤال الإمام المقر:هل أحصنت؟و مسلم(15/4394)في الحدود،باب:رجم الثيب في الزنا.
3- البخاري(5109)في النكاح،باب:لا تنكح المرأة على عمتها،و مسلم(33/3422)في النكاح، باب:تحريم الجمع بين المرأة و عمتها أو خالتها في النكاح.
4- البخاري(2645)في الشهادات،باب:الشهادة على الأنساب...إلخ،و مسلم(9/1445)في الرضاع،باب:تحريم الرضاعة من ماء الفحل.
5- أبو داود(2909)في الفرائض،باب:هل يرث المسلم الكافر؟و الترمذي(2107)في الفرائض، باب:ما جاء في إبطال الميراث بين المسلم و الكافر،و قال«حسن صحيح»،و أحمد(178/2).
6- البخاري(5265)في الطلاق،باب:من قال لامرأته:أنت عليّ حرام،و أحمد(214/1).

و الثانية:الرجل و المرأتان.

و الثالثة:الرجل و اليمين.فمن أنكر هذه لزمه إنكار كل شيء ذكرناه لا يجد من ذلك بدّا حتى يخرج من قول العلماء.

قال أبو عبيدة:و يقال لمن أنكر الشاهد و اليمين،و ذكر أنه خلاف القرآن:ما تقول في الخصم يشهد له الرجل و المرأتان،و هو واجد لرجلين يشهدان له؟

فإن قالوا:الشهادة جائزة.قيل:ليس هذا أولى بالخلاف،و قد اشترط القرآن فيه ألا يكون للمرأتين شهادة إلا مع فقد أحد الرجلين.فإنه سبحانه قال: فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ [البقرة:282]،و لم يقل:و استشهدوا شهيدين من رجالكم أو رجلا و امرأتين:

فيكون فيه الخيار،كما جعله في الفدية كما قال تعالى: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196]،و مثل ما جعله في كفارة اليمين بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة،فهذه أحكام الخيار.و لم يقل ذلك في آية الدين.و لكنه قال فيها كما قال في آية الفرائض: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ [النساء:11].

و كذلك الآية التي بعدها فقوله هاهنا:«إن لم يكن»كقوله في آية الشهادة:«فإن لم يكونا»كذلك قال في آية الطهور: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً [المائدة:6]و في آية الظهار: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ [المجادلة:4]و كذلك في متعة الحج و كفارة اليمين:أن الصوم لا يجزى الواحد:فأي الحكمين أولى بالخلاف:هذا أم الشاهد و اليمين،الذي ليس فيه من اللّه اشتراط منع،إنما سكت عنه،ثم فسرته السنة؟.

قال أبو عبيدة:و قد وجدنا في حكمهم ما هو أعجب من هذا،و هو قولهم في رضاع اليتيم الذي لا مال له،و له خال و ابن عم موسران:إن الخال يجبر على رضاعه،لأنه محرم و إنما اشترط التنزيل غيره.فقال: وَ عَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ [البقرة:233]،و قد أجمع المسلمون أن لا ميراث للخال مع ابن العم.ثم لم نجد هذا الحكم في السنة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،و لا عن أحد من سلف العلماء.و قد وجدنا الشاهد و اليمين في آثار متواترة عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم،و عن غير واحد من الصحابة و من التابعين.

و قال الربيع:قال الشافعي:قال بعض الناس في اليمين مع الشاهد قولا أسرف فيه على نفسه،قال:أرد حكم من حكم بها،لأنه خالف القرآن.فقلت له:اللّه تعالى أمر بشاهدين أو شاهد و امرأتين؟قال:نعم.فقلت:أ حتم من اللّه ألا يجوز أقل من شاهدين؟قال:فإن قلته؟قلت:فقله،قال:قد قلته،قلت:و تحد في الشاهدين اللذين أمر اللّه بهما حدا؟قال:

ص: 363

نعم،حران مسلمان بالغان عدلان.قلت:و من حكم بدون ما قلت خالف حكم اللّه؟قال:

نعم،قلت له:إن كان كما زعمت،خالفت حكم اللّه.قال:و أين؟قلت:أجزت شهادة أهل الذمة،و هم غير الذين شرط اللّه أن تجوز شهادتهم و أجزت شهادة القابلة وحدها على الولادة،و هذان وجهان أعطيت بهما من جهة الشهادة،ثم أعطيت بغير شهادة في القسامة و غيرها.قلت:و القضاء باليمين مع الشاهد ليس يخالف حكم اللّه،بل هو موافق لحكم اللّه،إذ فرض اللّه تعالى طاعة رسوله،فإن اتبعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فعن اللّه-سبحانه-قبلت، كما قبلت عن رسوله.

قال:أ فيوجد لهذا نظير في القرآن؟قلت:نعم،أمر اللّه-سبحانه-في الوضوء بغسل القدمين،أو مسحهما فمسحنا على الخفين بالسنة.

و قال تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ الآية[الأنعام:145] فحرمنا نحن و أنت كل ذي ناب من السباع بالسنة.

و قال: وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء:24].

فحرمنا نحن و أنت الجمع بين المرأة و عمتها،و بينها و بين خالتها.

و ذكر الرجم و نصاب السرقة،قال:و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم المبين عن اللّه معنى ما أراد خاصا و عاما.

و قال شيخ الإسلام ابن تيمية:القرآن لم يذكر الشاهدين،و الرجل و المرأتين في طرق الحكم التي يحكم بها الحاكم.و إنما ذكر النوعين من البينات في الطرق التي يحفظ بها الإنسان حقه.فقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَ لا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَ لْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَ لْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَ لا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ [البقرة:282].

فأمرهم-سبحانه-بحفظ حقوقهم بالكتاب.و أمر من عليه الحق أن يملي الكاتب فإن لم يكن ممن يصح إملاؤه أملى عنه وليه.ثم أمر من له الحق أن يستشهد على حقه رجلين، فإن لم يجد فرجل و امرأتان.ثم نهى الشهداء المحتملين للشهادة عن التخلف عن إقامتها إذا طلبوا لذلك.

ثم رخص لهم في التجارة الحاضرة:ألا يكتبوها.ثم أمرهم بالإشهاد عند التبايع.

ص: 364

ثم أمرهم إذا كانوا على سفر-و لم يجدوا كاتبا-أن يستوثقوا بالرهان المقبوضة.

كل هذا نصيحة لهم،و تعليم و إرشاد لما يحفظون به حقوقهم.

و ما تحفظ به الحقوق شيء و ما يحكم به الحاكم شيء.

فإن طرق الحكم أوسع من الشاهدين و المرأتين،فإن الحاكم يحكم بالنكول و اليمين المردودة.و لا ذكر لهما في القرآن.فإن كان الحكم بالشاهد الواحد و اليمين مخالفا لكتاب اللّه،فالحكم بالنكول،و الرد اشد مخالفة.

و أيضا،فإن الحاكم يحكم بالقرعة بكتاب اللّه و سنة رسوله الصريحة الصحيحة.

و يحكم بالقافة بالسنة الصريحة الصحيحة التي لا معارض لها.

و يحكم بالقسامة بالسنة الصحيحة الصريحة.

و يحكم بشاهد الحال إذا تداعى الزوجان أو الصانعان متاع البيت و الدكان.

و يحكم-عند من أنكر الحكم بالشاهد و اليمين-بوجود الآجر في الحائط،فيجعله للمدعي إذا كانت إلى جهته.

و هذا كله ليس في القرآن،و لا حكم به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و لا أحد من أصحابه.

فكيف ساغ الحكم به،و لم يجعل مخالفا لكتاب اللّه،ورد ما حكم به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و خلفاؤه الراشدون و غيرهم من الصحابة،و يجعل مخالفا لكتاب اللّه؟بل القول ما قاله أئمة الحديث:إن الحكم بالشاهد و اليمين:حكم بكتاب اللّه،فإنه حق،و اللّه-سبحانه-أمر بالحكم بالحق،فهاتان قضيتان ثابتتان بالنص.

أما الأولي:فلأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و خلفاءه من بعده حكموا به و لا يحكمون بباطل.

و أما الثانية:فلقوله تعالى: وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ [المائدة:49].

و قوله: إِنّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِما أَراكَ اللّهُ [النساء:105] فالحكم بالشاهد و اليمين مما أراد اللّه إياه قطعا.

و قوله: فَلِذلِكَ فَادْعُ وَ اسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ قُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللّهُ مِنْ كِتابٍ وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ [الشورى:15].

و هذا مما حكم به،فهو عدل مأمور به من اللّه و لا بدّ.و الذين ردوا هذه المسألة لهم طرق:

الطريق الأول:أنها خلاف كتاب اللّه،فلا تقبل.و قد بين الأئمة-كالشافعي و أحمد

ص: 365

و أبي عبيد و غيرهم-أن كتاب اللّه لا يخالفها بوجه،و إنها لموافقة لكتاب اللّه.و أنكر الإمام أحمد و الشافعي على من رد أحاديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،لزعمه أنها تخالف ظاهر القرآن، و للإمام أحمد في ذلك كتاب مفرد سماه:(كتاب طاعة الرسول).

و الذي يجب على كل مسلم اعتقاده:أنه ليس في سنن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم الصحيحة سنة واحدة تخالف كتاب اللّه،بل السنن مع كتاب اللّه على ثلاث منازل:

المنزلة الأولى:سنة موافقة شاهدة بنفس ما شهد به الكتاب المنزل.

المنزلة الثانية:سنة تفسر الكتاب،و تبين مراد اللّه منه،و تقيد مطلقه.

المنزلة الثالثة:سنة متضمنة لحكم سكت عنه الكتاب فتبينه بيانا مبتدأ.

و لا يجوز رد واحدة من هذه الأقسام الثلاثة.

و ليس للسنة مع كتاب اللّه منزلة رابعة.

و قد أنكر الإمام أحمد على من قال:«السنة تقضي على الكتاب»فقال:بل السنة تفسر الكتاب و تبينه.

و الذي يشهد اللّه و رسوله به:أنه لم تأت سنة صحيحة واحدة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم تناقض كتاب اللّه و تخالفه البتة.

كيف و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم هو المبين لكتاب اللّه،و عليه أنزل،و به هداه اللّه،و هو مأمور باتباعه،و هو أعلم الخلق بتأويله و مراده؟و لو ساغ رد سنن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لما فهمه الرجل من ظاهر الكتاب،لردت بذلك أكثر السنن،و بطلت بالكلية.

فما من أحد يحتج عليه بسنة صحيحة تخالف مذهبه و نحلته،إلا و يمكنه أن يتشبث بعموم آية أو إطلاقها و يقول:هذه السنة مخالفة لهذا العموم و الإطلاق فلا تقبل.

حتى إن الرافضة-قبحهم اللّه-سلكوا هذا المسلك بعينه في رد السنن الثابتة المتواترة، فردوا قوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«لا نورث ما تركناه صدقة» (1)،و قالوا:هذا حديث يخالف كتاب اللّه،قال تعالى: يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء:11].

وردت الجهمية ما شاء اللّه من الأحاديث الصحيحة في إثبات الصفات بظاهر قوله:

لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11].

وردت الخوارج من الأحاديث الدالة على الشفاعة و خروج أهل الكبائر من الموحدين1.

ص: 366


1- سبق تخريجه ص 361.

من النار،بما فهموه من ظاهر القرآن.

وردت الجهمية أحاديث الرؤية-مع كثرتها و صحتها-بما فهموه من ظاهر القرآن في قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام:103].

وردت القدرية أحاديث القدر الثابتة بما فهموه من ظاهر القرآن.

وردت كل طائفة ما ردته من السنة بما فهموه من ظاهر القرآن.

فإما أن يطرد الباب في رد هذه السنن كلها،و إما أن يطرد الباب في قبولها و لا يرد شيء منها لما يفهم من ظاهر القرآن.

أما أن يرد و يقبل بعضها-و نسبة المقبول إلى ظاهر القرآن كنسبة المردود-فتناقض ظاهر،و ما من أحد رد سنة بما فهمه من ظاهر القرآن إلا و قد قبل أضعافها مع كونها كذلك.

و قد أنكر الإمام أحمد و الشافعي و غيرهما على من رد أحاديث تحريم كل ذي ناب من السباع بظاهر قوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً الآية[الأنعام:145].

و قد أنكر النبي صلّى اللّه عليه و سلّم على من رد سنته التي لم تذكر في القرآن و لم يدع معارضة القرآن لها،فكيف يكون إنكاره على من ادعى أن سنته تخالف القرآن و تعارضه؟ (1)

منزلة السنة من القرآن

و السنة مع القرآن على ثلاثة أوجه:

أحدها:أن تكون موافقة له من كل وجه،فيكون توارد القرآن و السنة على الحكم الواحد من باب توارد الأدلة و تضافرها.

الثاني:أن تكون بيانا لما أريد بالقرآن،و تفسيرا له.

الثالث:أن تكون موجبة لحكم سكت القرآن عن إيجابه،أو محرمة لما سكت عن تحريمه،و لا تخرج عن هذه الأقسام.

فلا تعارض القرآن بوجه ما،فما كان منها زائدا على القرآن،فهو تشريع مبتدأ من النبي صلّى اللّه عليه و سلّم تجب طاعته فيه،و لا تحل معصيته و ليس هذا تقديما لها على كتاب اللّه،بل امتثال لما أمر اللّه به من طاعة رسوله،و لو كان رسوله اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لا يطاع في هذا القسم،لم يكن لطاعته معنى،

ص: 367


1- الطرق الحكيمة(77-84).

و سقطت طاعته المختصة به،و إنه إذا لم تجب إلا فيما وافق القرآن،لا فيما زاد عليه،لم يكن له طاعة خاصة تختص به،و قال اللّه تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللّهَ [النساء:80].

و كيف يمكن أحدا من أهل العلم ألا يقبل حديثا زائدا على كتاب اللّه،فلا يقبل حديث تحريم المرأة على عمتها،و لا على خالتها،و لا حديث التحريم بالرضاعة لكل ما يحرم من النسب،و لا حديث خيار الشرط،و لا أحاديث الشفعة،و لا حديث الرهن في الحضر مع أنه زائد على ما في القرآن،و لا حدث ميراث الجدة،و لا حديث تخيير الأمة إذا عتقت تحت زوجها،و لا حديث منع الحائض من الصوم و الصلاة،و لا حديث وجوب الكفارة على من جامع في نهار رمضان،و لا أحاديث إحداد المتوفى عنها زوجها مع زيادتها على ما في القرآن من العدة.

فهلا قلتم:إنها نسخ للقرآن،و هو لا ينسخ بالسنة،و كيف أوجبتم الوتر،مع أنه زيادة محضة على القرآن بخبر مختلف فيه،و كيف زدتم على كتاب اللّه فجوزتم الوضوء بنبيذ التمر بخبر ضعيف؟و كيف زدتم على كتاب اللّه،فشرطتم في الصداق أن يكون أقله عشرة دراهم بخبر لا يصح البتة،و هو زيادة محضة على القرآن؟

و قد أخذ الناس بحديث:«لا يرث المسلم الكافر و لا الكافر المسلم» (1)،و هو زائد على القرآن و أخذوا بحديث توريثه صلّى اللّه عليه و سلّم بنت الابن السدس مع البنت،و هو زائد على ما في القرآن،و أخذ الناس كلهم بحديث استبراء المسبية بحيضة،و هو زائد على ما في كتاب اللّه، و أخذوا بحديث:«من قتل قتيلا فله سلبه» (2)،و هو زائد على ما في القرآن من قسمة الغنائم،و أخذوا كلهم بقضائه صلّى اللّه عليه و سلّم الزائد على ما في القرآن من أن أعيان بني الأبوين يتوارثون دون بني العلات (3)،الرجل يرث أخاه لأبيه،و أمه دون أخيه لأبيه.و لو تتبعنا هذا لطال جدا.

فسنن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أجل في صدورنا،و أعظم،و أفرض علينا ألا نقبلها إذا كانت زائدة على ما في القرآن،بل على الرأس و العينين.

و كذلك فرض على الأمة الأخذ بحديث القضاء بالشاهد و اليمين،و إن كان زائدا على ما في القرآن،و قد أخذ به أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و جمهور التابعين و الأئمة،و العجب ممند.

ص: 368


1- سبق تخريجه(362).
2- أبو داود(2717)في الجهاد،باب:في السلب يعطي القاتل،و أحمد(114/3).
3- بنو العلات:بنو أمهات من رجل واحد.

يرده؛لأنه زائد على ما في كتاب اللّه.ثم يقضي بالنكول،و معاقد القمط،و وجوه الآجر (1)في الحائط،و ليست في كتاب اللّه،و لا سنة رسوله،و أخذتم أنتم و جمهور الأمة بحديث:

«لا يقاد الوالد بالولد» (2)مع ضعفه،و هو زائد على ما في القرآن،و أخذتم أنتم و الناس بحديث أخذ الجزية من المجوس،و هو زائد على ما في القرآن،و أخذتم مع سائر الناس بقطع رجل السارق في المرة الثانية،مع زيادته على ما في القرآن،و أخذتم أنتم و الناس بحديث النهي عن الاقتصاص من الجرح قبل الاندمال،و هو زائد على ما في القرآن، و أخذت الأمة بأحاديث الحضانة،و ليست في القرآن،و أخذتم أنتم و الجمهور باعتداد المتوفى عنها في منزلها،و هو زائد على ما في القرآن و أخذتم مع الناس بأحاديث البلوغ بالسن و الإثبات،و هي زائدة على ما في القرآن إذ ليس فيه الاحتلام،و أخذتم مع الناس بحديث:«الخراج بالضمان» (3)مع ضعفه،و هو زائد على القرآن،و بحديث النهي عن بيع الكالئ بالكالئ و هو زائد على ما في القرآن،و أضعاف أضعاف ما ذكرنا.

بل أحكام السنة التي ليست في القرآن إن لم تكن أكثر منها لم تنقص عنها فلو ساغ لنا رد كل سنة زائدة كانت على نص القرآن،لبطلت سنن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كلها إلا سنة دل عليها القرآن،و هذا هو الذي أخبر النبي صلّى اللّه عليه و سلّم بأنه سيقع،و لا بد من وقوع خبره.

فإن قيل:السنن الزائدة على ما دل عليه القرآن تارة تكون بيانا له،و تارة تكون منشئه لحكم لم يتعرض القرآن له،و تارة تكون مغيرة لحكمه،و ليس نزاعنا في القسمين الأولين فإنهما حجة باتفاق،و لكن النزاع في القسم الثالث و هو ترجمته بمسألة الزيادة على النص.

و قد ذهب الشيخ أبو الحسن الكرخي،و جماعة كثيرة من أصحاب أبي حنيفة إلى أنها نسخ،و من هاهنا جعلوا إيجاب التغريب مع الجلد نسخا،كما لو زاد عشرين سوطا على الثمانين في حد القذف.

و ذهب أبو بكر الرازي إلى أن الزيادة إن وردت بعد استقرار حكم النص منفردة عنه، كانت ناسخة،و إن وردت متصلة بالنص قبل استقرار حكمه لم تكن ناسخة،و إن وردت و لاا.

ص: 369


1- اللبن المحرق المعد للبناء.
2- الترمذي(1400)في الديات،باب:ما جاء في الرجل يقتل ابنه يقاد منه أم لا،و ابن ماجة(2662) في الديات،باب:لا يقتل الوالد بولده.
3- الترمذي(1285)في البيوع،باب:ما جاء فيمن يشتري العبد و يستغله...إلخ،و قال:«حسن صحيح»،و أبو داود(3365)في البيوع،باب:فيمن اشترى عبدا فاستعمله ثم وجد به عيبا.

يعلم تاريخها،فإن وردت من جهة يثبت النص بمثلها،فإن شهدت الأصول من عمل السلف أو النظر على ثبوتهما معا أثبتناهما،و إن شهدت بالنص منفردا عنها أثبتناه دونها،و إن لم يكن في الأصول دلالة على أحدهما،فالواجب أن يحكم بورودهما معا،و يكونان بمنزلة الخاص و العام،و إذا لم يعلم تاريخها،و لم يكن في الأصول دلالة على وجوب القضاء بأحدهما على الآخر،فإنهما يستعملان معا،و إن كان ورود النص من جهة توجب العلم كالكتاب و الخبر المستفيض،و ورود الزيادة من جهة أخبار الآحاد لم يجز إلحاقها بالنص، و لا العمل بها.

و ذهب أصحابنا إلى أن الزيادة إن غيرت حكم المزيد عليه تغييرا شرعيا بحيث إنه لو فعل على حد ما كان يفعل قبلها لم يكن معتدا به بل يجب استئنافه،كان نسخا نحو ضم ركعة إلى ركعتي الفجر،و إن لم يغير حكم المزيد عليه،بحيث لو فعل على حد ما كان يفعل قبلها كان معتدا به،و لا يجب استئنافه،لم يكن نسخا،و لم يجعلوا إيجاب التغريب مع الجلد نسخا،و إيجاب عشرين جلدة مع الثمانين نسخا،و كذلك إيجاب شرط منفصل عن العبادة،لا يكون نسخا كإيجاب الوضوء بعد فرض الصلاة،و لم يختلفوا أن إيجاب زيادة عبادة على عبادة كإيجاب الزكاة بعد إيجاب الصلاة لا يكون نسخا،و لم يختلفوا أيضا أن إيجاب صلاة سادسة على الصلوات الخمس لا يكون نسخا.

الكلام عن الزيادة المغيرة لحكم شرعي

فالكلام معكم في الزيادة المغيرة في ثلاثة مواضع:في المعنى و الاسم و الحكم.

أما المعنى:فإنها تفيد معنى النسخ؛لأنه الإزالة.و الزيادة تزيل حكم الاعتداد بالمزيد عليه،و توجب استئنافه بدونها،و تخرجه عن كونه جميع الواجب،و تجعله بعضه،و توجب التأثيم على المقتصر عليه،بعد أن لم يكن إثما،و هذا معنى النسخ،و عليه يرتب الاسم، فإنه تابع للمعنى؛فإن الكلام في زيادة شرعية مغيرة للحكم الشرعي بدليل شرعي،متراخ عن المزيد عليه،فإن اختل وصف من هذه الأوصاف،لم يكن نسخا،فإن لم تغير حكما شرعيا، بل رفعت حكم البراءة الأصلية لم تكن نسخا،كإيجاب عبادة بعد أخرى،و إن كانت الزيادة مقارنة للمزيد عليه،فإن اختل وصف من هذه الأوصاف،لم يكن نسخا،فإن لم تغير حكما شرعيا،بل رفعت حكم البراءة الأصلية لم تكن نسخا،كإيجاب عبادة بعد أخرى،و إن كانت الزيادة مقارنة للمزيد عليه،لم تكن نسخا،و إن غيرته،بل تكون تقييدا،أو تخصيصا.

و أما الحكم فإن كان النص المزيد عليه ثابتا بالكتاب،أو السنة المتواترة لم يقبل خبر

ص: 370

الواحد بالزيادة عليه،و إن كان ثابتا بخبر الواحد قبلت الزيادة،فإن اتفقت الأمة على قبول خبر الواحد في القسم الأول علمنا أنه ورد مقارنا للمزيد عليه،فيكون تخصيصا لا نسخا.

قالوا:و إنما لم يقبل خبر الواحد بالزيادة على النص؛لأن الزيادة لو كانت موجودة معه لنقلها إلينا من نقل النص؛إذ غير جائز أن يكون المراد إثبات النص معقودا بالزيادة،فيقتصر النبي صلّى اللّه عليه و سلّم على إبلاغ النص منفردا عنها،فواجب إذا أن يذكرها معه،و لو ذكرها لنقلها إلينا من نقل النص،فإن كان النص مذكورا في القرآن،و الزيادة واردة من جهة السنة،فغير جائز أن يقتصر النبي صلّى اللّه عليه و سلّم على تلاوة الحكم المنزل في القرآن،دون أن يعقبها بذكر الزيادة؛لأن حصول الفراغ من النص الذي يمكننا استعماله بنفسه يلزمنا اعتقاد مقتضاه من حكمه، كقوله: اَلزّانِيَةُ وَ الزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2]فإن كان الحد هو الجلد و التغريب،فغير جائز أن يتلو النبي صلّى اللّه عليه و سلّم الآية على الناس عارية من ذكر النفي عقبها؛لأن سكوته عن ذكر الزيادة معها يلزمنا اعتقاد موجبها،و أن الجلد هو كمال الحد،فلو كان معه تغريب لكان بعض الحد لا كماله،فإذا أخلى التلاوة من ذكر النفي عقيبها،فقد أراد منا اعتقاد أن الجلد المذكور في الآية هو تمام الحد و كماله،فغير جائز إلحاق الزيادة معه إلا على وجه النسخ.و لهذا كان قوله:«و اغد يا أنيس على امرأة هذا،فإن اعترفت فارجمها» (1)ناسخا لحديث عبادة بن الصامت:«الثيب بالثيب؛جلد مائة،و الرجم» (2)،و كذلك لما رجم ماعزا،و لم يجلده كذلك يجب أن يكون قوله: اَلزّانِيَةُ وَ الزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2]ناسخا لحكم التغريب في قوله:«البكر بالبكر جلد مائة و تغريب عام» (3)

و المقصود أن هذه الزيادة لو كانت ثابتة مع النص لذكرها النبي صلّى اللّه عليه و سلّم عقيب التلاوة، و لنقلها إلينا من نقل المزيد عليه؛إذ غير جائز عليهم أن يعلموا أن الحد مجموع الأمرين، و ينقلوا بعضه دون بعض،و قد سمعوا الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم يذكر الأمرين،فامتنع حينئذ العمل بالزيادة إلا من الجهة التي ورد منها الأصل،فإذا وردت من جهة الآحاد،فإن كانت قبلب.

ص: 371


1- البخاري(7260)في أول أخبار الآحاد،و مسلم(1697،25/1698)في الحدود،باب:من اعترف على نفسه بالزنى.
2- مسلم(12/1690)في الحدود،باب:حد الزنى،و أبو داود(4416)في الحدود،باب:في الرجم، و الترمذي(1434)في الحدود،باب ما جاء في الرجم على الثيب،و ابن ماجة(2550)في الحدود، باب:حد الزنى.
3- مسلم(13/1690)في الحدود،باب:حد الزنى،و أبو داود(4415)في الحدود،باب:في الرجم، و الترمذي(1434)في الحدود،باب:ما جاء في الرجم على الثيب.

النص فقد نسخها النص المطلق عاريا من ذكرها،و إن كانت بعده،فهذا يوجب نسخ الآية بخبر الواحد و هو ممتنع،فإن كان المزيد عليه ثابتا بخبر الواحد جاز إلحاق الزيادة بخبر الواحد على الوجه الذي يجوز نسخ به،فإن كانت واردة مع النص في خطاب واحد لم تكن نسخا،و كانت بيانا.

فالجواب من وجوه:

أحدها:أنكم أول من نقض هذا الأصل الذي أصلتموه،فإنكم قبلتم خبر الوضوء بنبيذ التمر،و هو زائد على ما في كتاب اللّه،مغير لحكمه؛فإن اللّه سبحانه جعل حكم عادم الماء التيمم،و الخبر يقتضي أن يكون حكمه الوضوء بالنبيذ،فهذه الزيادة بهذا الخبر الذي لا يثبت رافعة لحكم شرعي غير مقارنة له،و لا مقاومة بوجه.

و قبلتم خبر الأمر بالوتر مع رفعه لحكم شرعي،و هو اعتقاد كون الصلاة الخمس هي جميع الواجب،و رفع التأثيم بالاقتصار عليها،و إجراء الإتيان في التعبد بفريضة الصلاة، و الذي قال هذه الزيادة هو الذي قال سائر الأحاديث الزائدة على ما في القرآن،و الذي نقلها إلينا هو الذي نقل تلك بعينه،أو أوثق منه،أو نظيره،و الذي فرض علينا طاعة رسوله، و قبول قوله في تلك الزيادة هو الذي فرض علينا طاعته،و قبول قوله في هذه،و الذي قال لنا: وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر:7]هو الذي شرع لنا هذه الزيادة على لسانه،و اللّه سبحانه ولاه منصب التشريع عنه ابتداء،كما ولاه منصب البيان لما أراده بكلامه،بل كلامه كله بيان عن اللّه،و الزيادة بجميع وجوهها لا تخرج عن البيان بوجه من الوجوه.بل كان السلف الصالح الطيب إذا سمعوا الحديث عنه،وجدوا تصديقه في القرآن،و لم يقل أحد منهم قط في حديث واحد أبدا:إن هذا زيادة على القرآن،فلا نقبله،و لا نسمعه،و لا نعمل به.

و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أجل في صدورهم،و سنته أعظم عندهم من ذلك و أكبر،و لا فرق أصلا بين مجيء السنة بعدد الطواف،و عدد ركعات الصلاة،و مجيئها بفرض الطمأنينة و تعيين الفاتحة و النية؛فإن الجميع بيان لمراد اللّه أنه أوجب هذه العبادات على عباده على الوجه هذا.

فهذا هو الوجه المراد،فجاءت السنة بيانا للمراد في جميع وجوهها،حتى في التشريع المبتدأ،فإنها بيان لمراد اللّه من عموم الأمر بطاعته و طاعة رسوله،فلا فرق بين بيان هذا المراد،و بين المراد من الصلاة و الزكاة و الحج و الطواف و غيرها،بل هذا بيان المراد من شيء،و ذاك بيان المراد من أعم منه.

فالتغريب بيان محض للمراد من قوله: أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً [النساء:15]،و قد

ص: 372

صرح النبي صلّى اللّه عليه و سلّم بأن التغريب بيان لهذا السبيل المذكور في القرآن،فكيف يجوز رده بأنه مخالف للقرآن،معارض له.

و يقال:لو قبلناه لأبطلنا به حكم القرآن،و هل هذا إلا قلب للحقائق،فإن حكم القرآن العام و الخاص يوجب علينا قبوله فرضا،لا يسعنا مخالفته،فلو خالفناه لخالفنا القرآن، و لخرجنا عن حكمه و لا بد،و لكان في ذلك مخالفة للقرآن و الحديث معا.

يوضحه الوجه الثاني:أن اللّه-سبحانه-نصّب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم منصب المبلغ المبين عنه،فكل ما شرعه للأمة فهو بيان منه عن اللّه أن هذا شرعه و دينه،و لا فرق بين ما يبلغه عنه من كلامه المتلو،و من وحيه الذي هو نظير كلامه في وجوب الاتباع،و مخالفة هذا كمخالفة هذا.

يوضحه الوجه الثالث:أن اللّه-سبحانه-أمرنا بإقام الصلاة و إيتاء الزكاة،و حج البيت،و صوم رمضان،و جاء البيان عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بمقادير ذلك و صفاته و شروطه، فوجب على الأمة قبوله؛إذ هو تفصيل لما أمر اللّه به،كما يجب علينا قبول الأصل المفصل،و هكذا أمر اللّه-سبحانه-بطاعته و طاعة رسوله،فإذا أمر الرسول بأمر كان تفصيلا،و بيانا للطاعة المأمور بها،و كان فرض قبوله كفرض قبول الأصل المفصل،و لا فرق بينهما.

أنواع بيان الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم

يوضحه الوجه الرابع:أن البيان من النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أقسام:

أحدها:بيان نفس الوحي بظهوره على لسانه بعد أن كان خفيا.

الثاني:بيان معناه و تفسيره لمن احتاج إلى ذلك،كما بين أن الظلم المذكور في قوله:

وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82]هو الشرك،و أن الحساب اليسير هو العرض،و أن الخيط الأبيض و الأسود هما بياض النهار و سواد الليل،و أن الذي رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى:هو جبريل.

كما فسر قوله: أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ [الأنعام:158]أنه طلوع الشمس من مغربها.

و كما فسر قوله: أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ [إبراهيم:24] بأنها النخلة.

و كما فسر قوله: يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ

ص: 373

[إبراهيم:27]أن ذلك في القبر حين يسأل من ربك،و ما دينك؟

و كما فسر الرعد بأنه ملك من الملائكة موكل بالسحاب،و كما فسر اتخاذ أهل الكتاب أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون اللّه بأن ذلك باستحلال ما أحلوه من الحرام،و تحريم ما حرموه عليهم من الحلال،و كما فسر«القوة»التي أمر اللّه أن نعدها لأعدائه بالرمي،و كما فسر قوله مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النساء:123]بأنه ما يجزى به العبد في الدنيا من النصب و الهم و الخوف و اللأواء.

و كما فسر الزيادة بأنها النظر إلى وجه اللّه الكريم (1)و كما فسر«الدعاء»في قوله: وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]بأنه العبادة،و كما فسر«إدبار النجوم»بأنه الركعتان قبل الفجر،و«أدبار السجود»بالركعتين بعد المغرب،و نظائر ذلك.

الثالث:بيانه بالفعل كما بين أوقات الصلاة للسائل بفعله.

الرابع:بيان ما سئل عنه من الأحكام التي ليست في القرآن،فنزل القرآن ببيانها،كما سئل عن قذف الزوجة،فجاء القرآن باللعان و نظائره.

الخامس:بيان ما سئل عنه بالوحي،و إن لم يكن قرآنا،كما سئل عن رجل أحرم في جبة

بعد ما تضمّخ بالخلوق (2)فجاء الوحي بأن ينزع عنه الجبة،و يغسل أثر الخلوق.

السادس:بيانه للأحكام بالسنة ابتداء من غير سؤال،كما حرم عليهم لحوم الحمر، و المتعة،و صيد المدينة،و نكاح المرأة على عمتها و خالتها،و أمثال ذلك.

السابع:بيانه للأمور جواز الشيء بفعله هو له،و عدم نهيهم عن التأسي به.

الثامن:بيانه جواز الشيء بإقراره لهم على فعله،و هو يشاهده،أو يعلمهم يفعلونه.

التاسع:بيانه إباحة الشيء عفوا بالسكوت عن تحريمه،و إن لم يأذن فيه نطقا.

العاشر:أن يحكم القرآن بإيجاب شيء أو تحريمه،أو إباحته،و يكون لذلك الحكم شروط و موانع و قيود و أوقات مخصوصة،و أحوال و أوصاف،فيحيل الرب سبحانه و تعالى على رسوله في بيانها كقوله تعالى: وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء:24]،فالحل موقوفب.

ص: 374


1- يعني التي وردت في قوله سبحانه و تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَ زِيادَةٌ و قد ذكر تفسيره بذلك في حديث رواه أحمد و مسلم و ابن جرير و ابن أبي حاتم.
2- ضرب من الطيب.

على شروط النكاح،و انتفاء موانعه،و حضور وقته و أهلية المحل،فإذا جاءت السنة ببيان ذلك كله لم يكن شيء منه زائدا على النص،فيكون نسخا له،و إن كان رفعا لظاهر إطلاقه،فهكذا كل حكم منه صلّى اللّه عليه و سلّم زائدا على القرآن هذا سبيله سواء بسواء؛و قد قال تعالى: يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء:11]،ثم جاءت السنة بأن القاتل و الكافر و الرقيق لا يرث،و لم يكن نسخا للقرآن مع أنه زائد عليه قطعا،أعني في موجبات الميراث؛فإن القرآن أوجبه بالولادة وحدها،فزادت السنة مع وصف الولادة اتحاد الدين،و عدم الرق و القتل.

فهلا قلتم:إن هذا زيادة على النص،فيكون نسخا،و القرآن لا ينسخ بالسنة،كما قلتم ذلك في كل موضع تركتم فيه الحديث؛لأنه زائد على القرآن.

و الوجه الخامس:أن تسميتكم للزيادة المذكورة نسخا لا توجب،بل لا تجوز مخالفتها،فإن تسمية ذلك نسخا اصطلاح منكم،و الأسماء المتواضع عليها التابعة للاصطلاح منكم لا توجب رفع أحكام النصوص،فأين سمى اللّه و رسوله ذلك نسخا،و أين قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إذا جاءكم حديثي زائدا على ما في كتاب اللّه فردوه،و لا تقبلوه،فإنه يكون نسخا لكتاب اللّه؟و أين قال اللّه:إذا قال رسولي قولا زائدا على القرآن،فلا تقبلوه، و لا تعملوا به،و ردوه؟و كيف يسوغ رد سنن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بقواعد قعدتموها أنتم و آباؤكم ما أنزل اللّه بها من سلطان؟!

الوجه السادس:أن يقال:ما تعنون بالنسخ الذي تضمنته الزيادة بزعمكم؟أ تعنون أن حكم المزيد عليه من الإيجاب و التحريم و الإباحة بطل بالكلية؟أم تعنون به تغير وصفه بزيادة شيء عليه من شرط،أو قيد،أو حال أو مانع،أو ما هو أعم من ذلك؟

فإن عنيتم الأول،فلا ريب أن الزيادة لا تتضمن ذلك،فلا تكون ناسخة،و إن عنيتم الثاني،فهو حق،و لكن لا يلزم منها بطلان حكم المزيد عليه،و لا رفعه،و لا معارضته،بل غايتها مع المزيد عليه كالشرط و الموانع و القيود و المخصصات،و شيء من ذلك لا يكون نسخا يوجب إبطال الأول و رفعه رأسا.

و إذا كان نسخا بالمعنى الذي يسميه السلف نسخا،و هو رفع الظاهر بتخصيص،أو تقييد،أو شرط،أو مانع،فهذا كثير من السلف يسميه نسخا حتى سمي الاستثناء نسخا، فإن أردتم هذا المعنى،فلا مشاحة (1)في الاسم،و لكن ذلك لا يسوغ رد السنن الناسخةة.

ص: 375


1- لا مجادلة.

للقرآن بهذا المعنى،و لا ينكر أحد نسخ القرآن بالسنة بهذا المعنى،بل هو متفق عليه بين الناس،و إنما تنازعوا في جواز نسخه بالسنة النسخ الخاص الذي هو رفع أصل الحكم و جملته،بحيث يبقى بمنزلة ما لم يشرع البتة،و إن أردتم بالنسخ ما هو أعم من القسمين، و هو رفع الحكم بجملته تارة،و تقييد مطلقه،و تخصيص عامه،و زيادة شرط،أو مانع تارة كنتم قد أدرجتم في كلامكم قسمين:مقبولا،و مردودا كما تبين،فليس الشأن في الألفاظ فسموا الزيادة ما شئتم؛فإبطال السنن بهذا الاسم مما لا سبيل إليه.

يوضحه الوجه السابع:أن الزيادة لو كانت ناسخة لما جاز اقترانها بالمزيد،لأن الناسخ لا يقارن المنسوخ،و قد جوزتم اقترانها به،و قلتم:تكون بيانا أو تخصيصا،فهلا كان حكمها مع التأخير كذلك،و البيان لا يجب اقترانه بالمبين،بل يجوز تأخيره إلى وقت حضور العمل،و ما ذكرتموه من إيهام اعتقاد خلاف الحق،فهو منتقض بجواز،بل وجوب تأخير الناسخ،و عدم الإشعار بأنه سينسخه،و لا محذور في اعتقاد موجب النص،ما لم يأت ما يرفعه،أو يرفع ظاهره،فحينئذ يعتقد موجبه كذلك،فكان كل من الاعتقادين في وقته هو المأمور به؛إذ لا يكلف اللّه نفسا إلا وسعها.

يوضحه الوجه الثامن:أن المكلف إنما يعتقده على إطلاقه و عمومه مقيدا بعدم ورود ما يرفع ظاهره،كما يعتقد المنسوخ مؤيدا اعتقادا مقيدا بعدم ورود ما يبطله،و هذا هو الواجب عليه الذي لا يمكنه سواه.

الوجه التاسع:أن إيجاب الشرط الملحق بالعبادة بعدها لا يكون نسخا،و إن تضمن رفع الإجزاء بدونه،كما صرح بذلك بعض أصحابكم و هو الحق،فكذلك إيجاب كل زيادة، بل أولى ألا تكون نسخا،فإن إيجاب الشرط يرفع إجزاء المشروط عن نفسه،و عن غيره، و إيجاب الزيادة إنما يرفع إجزاء المزيد عن نفسه خاصة.

الوجه العاشر:أن الناس متفقون على أن إيجاب عبادة مستقلة بعد الثانية لا يكون نسخا،و ذلك أن الأحكام لم تشرع جملة واحدة،و إنما شرعها أحكم الحاكمين شيئا بعد شيء،و كل منها زائد على ما قبله،و كان ما قبله جميع الواجب،و الإثم محطوط عمن اقتصر عليه،و بالزيادة تغير هذان الحكمان،فلم يبق الأول جميع الواجب،و لم يحط الإثم عمن اقتصر عليه،و مع ذلك فليس الزائد ناسخا للمزيد عليه؛إذ حكمه من الوجوب و غيره باق.فهذه الزيادة المتعلقة بالمزيد،لا تكون نسخا له،حيث لم ترفع حكمه بل هو باق على حكمه و قد ضم إليه غيره.

ص: 376

يوضحه الوجه الحادي عشر:أن الزيادة إن رفعت حكما خطابيا كانت نسخا،و زيادة التغريب و شروط الحكم و موانعه و حراحق لا ترفع حكم الخطاب،و إن رفع حكم الاستصحاب.

يوضحه الوجه الثاني عشر:أن ما ذكره من كون الأول جميع الواجب،و كونه مجزئا وحده،و كون الإثم محطوطا عمن اقتصر عليه،إنما هو من أحكام البراءة الأصلية،فهو حكم استصحابي لم نستفده من لفظ الأمر الأول،و لا أريد به،فإن معنى كون العبادة مجزئة:أن الذمة بريئة بعد الإتيان بها،و حط الذم عن فاعلها معناه:أنه قد خرج من عهدة الأمر،فلا يلحقه ذم،و الزيادة-و إن رفعت هذه الأحكام-لم ترفع حكما دل عليه لفظ المزيد.

هل يجوز تخصيص كلام اللّه بحديث؟

يوضحه الوجه الثالث عشر:أن تخصيص القرآن بالسنة جائز كما أجمعت الأمة على تخصيص قوله تعالى: وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء:24]بقوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«لا تنكح المرأة على عمتها و لا على خالتها» (1)و عموم قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء:11] بقوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«لا يرث المسلم الكافر» (2)،و عموم قوله تعالى: وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [المائدة:38]بقوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«لا قطع في ثمر و لا كثر» (3)،و نظائر ذلك كثيرة،فإذا جاز التخصيص و هو رفع بعض ما تناوله اللفظ،و هو نقصان من معناه،فلأن تجوز الزيادة التي لا تتضمن رفع شيء من مدلوله،و لا نقصانه بطريق الأولى و الأخرى.

عودة إلى حجج أن الزيادة لا توجب نسخا

الوجه الرابع عشر:أن الزيادة لا توجب رفع المزيد لغة،و لا شرعا و لا عرفا و لا عقلا،و لا تقول العقلاء لمن ازداد خيره،أو ماله،أو جاهه،أو علمه،أو ولده إنه قد ارتفع شيء مما في الكيس.

بل تقول في الوجه الخامس عشر:أن الزيادة قررت حكم المزيد،و زادته بيانا و تأكيدا، فهي كزيادة العلم و الهدى و الإيمان،قال تعالى وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114)[طه]،و قال:

ص: 377


1- سبق تخريجه ص(362).
2- سبق تخريجه ص(362).
3- الترمذي(1449)في الحدود،باب:ما جاء لا قطع في الثمر و لا كثر،و ابن ماجة(2593)في الحدود،باب:لا يقطع في ثمر و لا كثر.

وَ ما زادَهُمْ إِلاّ إِيماناً وَ تَسْلِيماً [الأحزاب:22]،و قال: وَ زِدْناهُمْ هُدىً (13)[الكهف]، و قال: وَ يَزِيدُ اللّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً [مريم:76]،فكذلك زيادة الواجب على الواجب إنما يزيده قوة و تأكيدا و ثبوتا،فإن كانت متصلة به اتصال الجزاء و الشرط،كان ذلك أقوى له و أثبت و آكد،و لا ريب أن هذا أقرب إلى المعقول و المنقول،و الفطرة من جعل الزيادة مبطلة للمزيد عليه ناسخة له.

الوجه السادس عشر:أن الزيادة لم تتضمن النهي عن المزيد،و لا المنع منه،و ذلك حقيقة النسخ،و إذا انتفت حقيقة النسخ استحال ثبوته.

الوجه السابع عشر:أنه لا بد في النسخ من تنافي الناسخ و المنسوخ،و امتناع اجتماعهما،و الزيادة غير منافية للمزيد عليه،و لا اجتماعهما ممتنع.

الوجه الثامن عشر:أن الزيادة لو كانت نسخا لكانت إما نسخا بانفرادها عن المزيد،أو بانضمامها إليه،و القسمان محال،فلا يكون نسخا،أما الأول فظاهر فلأنها لا حكم لها بمفردها البتة،فإنها تابعة للمزيد عليه في حكمه.

و أما الثاني فكذلك أيضا؛لأنها إذا كانت ناسخة بانضمامها إلى المزيد،كان الشيء ناسخا لنفسه،و مبطلا لحقيقته،و هذا غير معقول.

و أجاب بعضهم عن هذا:بأن النسخ يقع على حكم الفعل دون نفسه و صورته،و هذا الجواب لا يجدي عليهم شيئا،و الالزام قائم بعينه،فإنه يوجب أن يكون المزيد عليه قد نسخ حكم نفسه،و جعل نفسه إذا انفرد عن الزيادة غير مجزئ بعد أن كان مجزئا.

الوجه التاسع عشر:أن النقصان من العبادة لا يكون نسخا لما بقي منها،فكذلك الزيادة عليها لا تكون نسخا لها،بل أولى لما تقدم.

الوجه العشرون:أن نسخ الزيادة للمزيد عليه،إما أن يكون نسخا لوجوبه أو لإجزائه، أو لعدم وجوب غيره،أو لأمر رابع،و هذا كزيادة التغريب مثلا على المائة جلدة،لا يجوز أن تكون ناسخة لوجوبها؛فإن الوجوب بحاله،و لا لإجزائها،لأنها مجزئة عن نفسها،و لا لعدم وجوب الزائد،لأنه رفع حكم عقلي،و هو البراءة الأصلية،فلو كان رفعها نسخا كان كلما أوجب اللّه شيئا بعد الشهادتين،قد نسخ به ما قبله،و الأمر الرابع غير متصور و لا معقول،فلا يحكم عليه.

فإن قيل:بل هاهنا أمر رابع معقول،و هو الاقتصار على الأول؛فإنه نسخ بالزيادة، و هذا غير الأقسام الثلاثة.

ص: 378

فالجواب:أنه لا معنى للاقتصار غير عدم وجوب غيره،و كونه جميع الواجب،و هذا هو القسم الثالث بعينه غيرتم التعبير عنه،و كسوتموه عبارة أخرى.

الوجه الحادي و العشرون:أن الناسخ و المنسوخ لا بد أن يتواردا على محل واحد يقتضي المنسوخ ثبوته،و الناسخ رفعه،أو بالعكس،و هذا غير متحقق في الزيادة على النص.

الوجه الثاني و العشرون:أن كل واحد من الزائد و المزيد عليه دليل قائم بنفسه،مستقل بإفادة حكمه،و قد أمكن العمل بالدليلين،فلا يجوز إلغاء أحدهما و إبطاله،و إلقاء الحرب بينه و بين شقيقه و صاحبه،فإن كل ما جاء من عند اللّه فهو حق يجب اتباعه،و العمل به و لا يجوز إلغاؤه،و إبطاله إلا حيث أبطله اللّه و رسوله بنص آخر ناسخ له،لا يمكن الجمع بينه و بين المنسوخ،و هذا بحمد اللّه منتف في مسألتنا،فإن العمل بالدليلين ممكن،و لا تعارض بينهما،و لا تناقض بوجه،فلا يسوغ لنا إلغاء ما اعتبره اللّه و رسوله،كما لا يسوغ لنا اعتبار ما ألغاه.و باللّه التوفيق.

الوجه الثالث و العشرون:أنه إن كان القضاء بالشاهد و اليمين ناسخا للقرآن و إثبات التغريب ناسخا للقرآن،فالوضوء بالنبيذ أيضا ناسخ للقرآن و لا فرق بينهما البتة،بل القضاء بالنكول و معاقد القمط يكون ناسخا للقرآن،و حينئذ فنسخ كتاب اللّه بالسنة الصحيحة الصريحة التي لا مطعن فيها أولى من نسخه بالرأي و القياس و الحديث الذي لا يثبت (1).

و إن لم يكن ناسخا للقرآن لم يكن هذا نسخا له،و أما أن يكون هذا نسخا و ذاك ليس بنسخ، فتحكم باطل،و تفريق بين متماثلين.

الوجه الرابع و العشرون:أن ما خالفتموه من الأحاديث التي زعمتم أنها زيادة على نص القرآن إن كانت تستلزم نسخه،فقطع رجل السارق في المرة الثانية نسخ؛لأنه زيادة على القرآن و إن لم يكن هذا نسخا فليس ذلك نسخا.

الوجه الخامس و العشرون:أنكم قلتم:لا يكون المهر أقل من عشرة دراهم (2)،و ذلكء.

ص: 379


1- لا ينسخ شيء من كتاب اللّه بهذا،و لا بذاك،فهو المهيمن على كل كتاب،و كل كلام.
2- أخرج مسلم عن أبي الزبير قال:سمعت جابرا يقول:كنا نستمتع بالقبض من التمر و الدقيق الأيام على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.قال البيهقي و هذا و إن كان في نكاح المتعة،و نكاح المتعة صار منسوخا فإنما نسخ منه شرط الأجل،فأما ما يجعلونه صداقا،فإنه لم يرد فيه نسخ.و في حديث رواه الجماعة:«أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم رأى على عبد الرحمن بن عوف أثر صفرة،فقال:«ما هذا؟»قال:تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب.قال:«بارك اللّه لك،أو لم و لو بشاة»،و جزم الخطابي أنها كانت تساوي خمسة دراهم، و اختاره الأزهري،و نقله عياض عن أكثر العلماء.

زيادة على ما في القرآن،فإن اللّه سبحانه أباح استحلال البضع بكل ما يسمى مالا،و ذلك يتناول القليل و الكثير،فزدتم على القرآن بقياس في غاية الضعف،و بخبر في غاية البطلان، فإن جاز نسخ القرآن بذلك فلم لا يجوز نسخه بالسنة الصحيحة الصريحة؟و إن كان هذا ليس بنسخ لم يكن الآخر نسخا.

الوجه السادس و العشرون:أنكم أوجبتم الطهارة للطواف بقوله:«الطواف بالبيت صلاة»و ذلك زيادة على القرآن،فإن اللّه إنما أمر بالطواف،و لم يأمر بالطهارة،فكيف لم تجعلوا ذلك نسخا للقرآن،و جعلتم القضاء بالشاهد و اليمين و التغريب في حد الزنا نسخا للقرآن.

الوجه السابع و العشرون:أنكم مع الناس أوجبتم الاستبراء في جواز وطء المسبية بحديث ورد زائدا على كتاب اللّه،و لم تجعلوا ذلك نسخا له،و هو الصواب بلا شك،فهلا فعلتم ذلك في سائر الأحاديث الزائدة على القرآن.

الوجه الثامن و العشرون:أنكم وافقتم على تحريم الجمع بين المرأة و عمتها،و بينها و بين خالتها بخبر الواحد،و هو زائد على كتاب اللّه تعالى قطعا،و لم يكن ذلك نسخا،فهلا فعلتم ذلك في خبر القضاء بالشاهد و اليمين و التغريب،و لم تعدوه نسخا،و كل ما تقولونه في محل الوفاق يقوله لكم منازعوكم في محل النزاع حرفا بحرف.

الوجه التاسع و العشرون:أنكم قلتم:لا يفطر المسافر،و لا يقصر في أقل من ثلاثة أيام،و اللّه تعالى قال: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ [البقرة:

184]،و هذا يتناول الثلاثة و ما دونها،فأخذتم بقياس ضعيف،أو أثر لا يثبت في التحديد بالثلاث،و هو زيادة على القرآن،و لم تجعلوا ذلك نسخا،فكذلك الباقي.

الوجه الثلاثون:أنكم منعتم قطع من سرق ما يسرع إليه الفساد من الأموال،مع أنه سارق حقيقة و لغة و شرعا،لقوله:«لا قطع في ثمر و لا كثر» (1)و لم تجعلوا ذلك نسخا للقرآن و هو زائد عليه.

الوجه الحادي الثلاثون:أنكم رددتم السنن الثابتة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في المسح على العمامة،و قلتم:إنها زائدة على نص القرآن،فتكون ناسخة له،فلا تقبل،ثم ناقضتم فأخذتم بأحاديث المسح على الخفين و هي زائدة على القرآن،و لا فرق بينهما،و اعتذرتمر.

ص: 380


1- أبو داود(4388)في الحدود،باب:ما لا يقطع فيه،و الترمذي(1449)في الحدود،باب:ما جاء لا قطع في ثمر و لا كثر.

بالفرق بأن أحاديث المسح على الخفين متواترة،بخلاف المسح على العمامة،و هو اعتذار فاسد؛فإن من له اطلاع على الحديث لا يشك في شهرة كل منهما،و تعدد طرقها، و اختلاف مخارجها و ثبوتها عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قولا و فعلا.

الوجه الثاني و الثلاثون:أنكم قبلتم شهادة المرأة الواحدة على الرضاع و الولادة، و عيوب النساء مع أنه زائد على ما في القرآن،و لم يصح الحديث به صحته بالشاهد و اليمين،و رددتم هذا و نحوه بأنه زائد على القرآن.

الوجه الثالث و الثلاثون:أنكم رددتم السنة الثابتة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في أنه لا يحرم أقل من خمس رضعات،و لا تحرم الرضعة و الرضعتان،و قلتم:هي زائدة على القرآن،ثم أخذتم بخبر لا يصح بوجه ما في أنه لا قطع في أقل من عشرة دراهم،أو ما يساويها،و لم تروه زيادة على القرآن،و قلتم:هذا بيان للفظ السارق،فإنه مجمل،و الرسول بينه بقوله:

«لا تقطع اليد في أقل من عشرة دراهم» (1)

فيا للّه العجب كيف كان هذا بيانا،و لم يكن حديث التحريم بخمس رضعات بيانا لمجمل قوله: وَ أُمَّهاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ [النساء:23]و لا تأتون بعذر في آية القطع إلا كان مثله،أو أولى منه في آية الرضاع سواء بسواء!

الوجه الرابع و الثلاثون:أنكم رددتم السنة الثابتة،عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بالمسح على الجوربين،و قلتم:هي زائدة على القرآن،و جوزتم الوضوء بالخمر المحرمة من نبيذ التمر المسكر بخبر لا يثبت،و هو بخلاف القرآن.

الوجه الخامس و الثلاثون:أنكم رددتم السنة الثابتة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في الصوم عن الميت و الحج عنه،و قلتم هو زائد على قوله تعالى: وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى (39) [النجم:39]،ثم جوزتم أن تعمل أعمال الحج كلها عن المغمى عليه،و لا تروه زائدا على قوله: وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى (39)،و أخذتم بالسنة الصحيحة،و أصبتم في حمل العاقلة الدية عن القاتل خطأ،و لم تقولوا هو زائد على قوله: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (2)وَ لا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاّ عَلَيْها [الأنعام:164]و اعتذاركم بأن الإجماع ألجأكم إلى ذلك لا .

ص: 381


1- مسلم(2/1684)في الحدود،باب:حد السرقة و نصابها،و النسائي(4917)في قطع السارق،باب: ذكر الاختلاف على الزهري،و ابن ماجة(2585)في الحدود،باب:حد السارق،و أحمد(104/6).
2- في الأنعام:164،و الإسراء:15،و فاطر:18،و الزمر:7،أما في النجم: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى .

يفيد؛لأن عثمان البتى،و هو من فقهاء التابعين يرى أن الدية على القاتل و ليس على العاقلة منها شيء،ثم هذا حجة عليكم أن تجمع الأمة على الأخذ بالخبر،و إن كان زائدا على القرآن.

الوجه السادس و الثلاثون:أنكم رددتم السنة الثابتة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في اشتراط المحرم أن يحل حيث حبس،و قلتم:هو زائد على القرآن،فإن اللّه أمر بإتمام الحج و العمرة،و الإحلال خلاف الإتمام،ثم أخذتم و أصبتم بحديث تحريم لبن الفحل،و هو على ما في القرآن قطعا.

الوجه السابع و الثلاثون:ردكم السنة الثابتة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بالوضوء من مس الفرج، و أكل لحوم الإبل،و قلتم:ذلك زيادة على القرآن؛لأن اللّه تعالى إنما ذكر الغائط،ثم أخذتم بحديث ضعيف في إيجاب الوضوء من القهقهة،و خبر ضعيف في إيجابه من القيء، و لم يكن إذ ذاك زائدا على ما في القرآن،إذ هو قول متبوعكم.

فمن العجب،إذا قال من قلدتموه قولا زائدا على ما في القرآن قبلتموه،و قلتم ما قاله لا بدليل،و سهل عليكم مخالفة ظاهر القرآن حينئذ،و إذا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قولا زائدا على ما في القرآن،قلتم:هذا زيادة على النص و هو نسخ،و القرآن لا ينسخ بالسنة،فلم تأخذوا به،و استعصيتم خلاف ظاهر القرآن،فهان خلافه إذا وافق قول من قلدتموه،و صعب خلافه إذا وافق قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم!

الوجه الثامن و الثلاثون:أنكم أخذتم بخبر ضعيف لا يثبت في إيجاب المضمضة و الاستنشاق في الغسل من الجنابة،و لم تروه زائدا على القرآن،و رددتم السنة الصحيحة الصريحة في أمر المتوضئ بالاستنشاق،و قلتم:هو زائد على القرآن،فهاتوا لنا الفرق بين ما يقبل من السنن الصحيحة و ما يرد منها،فإما أن تقبلوها كلها،و إن زادت على القرآن،و إما أن تردوها كلها إذا كانت زائدة على القرآن،و أما التحكم في قبول ما شئتم منها،ورد ما شئتم منها،فما لم يأذن به اللّه و لا رسوله،و نحن نشهد اللّه شهادة يسألنا عنها يوم نلقاه أنا لا نرد لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم سنة واحدة صحيحة أبدا إلا بسنة صحيحة مثلها نعلم أنها ناسخة لها.

الوجه التاسع و الثلاثون:أنكم رددتم السنة الصحيحة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في القسم للبكر سبعا،يفضلها بها على من عنده من النساء،و للثيب ثلاثا إذا أعرس بهما،و قلتم:هذا زائد على العدل المأمور به في القرآن،و مخالف له فلو قبلنا كنا قد نسخنا به القرآن،ثم أخذتم بقياس فاسد واه لا يصح في جواز نكاح الأمة لواجد الطّول غير خائف العنت،و إذا لم تكن تحته حرة،و هو خلاف ظاهر القرآن،و زائد عليه قطعا.

ص: 382

الوجه الأربعون:ردكم السنة الثابتة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بإسقاط نفقة المبتوتة و سكناها، و قلتم:هو مخالف للقرآن،فلو قبلناه كان نسخا للقرآن به،ثم أخذتم بخبر ضعيف لا يصح أن عدة الأمة قرءان،و طلاقها طلقتان مع كونه زائدا على ما في القرآن قطعا.

الوجه الحادي و الأربعون:ردكم السنة الثابتة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في تخيير ولي الدم بين الدية،أو القود،أو العفو بقولكم:إنها زائدة على ما في القرآن،ثم أخذتم بقياس من أفسد القياس أنه لو ضربه بأعظم دبوس يوجد حتى ينثر دماغه على الأرض،فلا قود عليه و لم تروا ذلك مخالفا لظاهر القرآن،و اللّه تعالى يقول: اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45]،و يقول:

فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [البقرة:194].

الوجه الثاني و الأربعون:أنكم رددتم السنة الثابتة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بقوله:«لا يقبل مسلم بكافر» (1)و قوله:«المسلمون تتكافأ دماؤهم» (2)و قلتم:هذا خلاف ظاهر القرآن؛لأن اللّه تعالى يقول: اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ و أخذتم بخبر لا يصح عن رسول اللّه بأنه:«لا قود إلا بالسيف» (3)و هو مخالف لظاهر القرآن،فإنه سبحانه قال: وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى:40]،و قال: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [البقرة:194].

الوجه الثالث و الأربعون:و قال أنكم أخذتم بخبر لا يصح عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في أنه:

«لا جمعة إلا في مصر جامع»،و هو مخالف لظاهر القرآن قطعا،و زائد عليه،و رددتم الخبر الصحيح الذي لا شك في صحته عند أحمد من أهل العلم في أن كل بيعين،فلا بيع بينهما حتى يتفرقا و قلتم:هو خلاف ظاهر القرآن في وجوب الوفاء بالعقد.

الوجه الرابع و الأربعون:أنكم أخذتم بخبر ضعيف:«لا تقطع الأيدي في الغزو»،و هو زائد على القرآن،و عديتموه إلى سقوط الحدود على من فعل أسبابها في دار الحرب، و تركتم الخبر الصحيح الذي لا ريب في صحته في المصراة،و قلتم:هو خلاف ظاهر القرآن من عدة أوجه.

الوجه الخامس و الأربعون:أنكم أخذتم بخبر ضعيف بل باطل في أنه لا يؤكل الطافيي.

ص: 383


1- البخاري(111)في العلم،باب:كتابة العلم،و أحمد(79/1).
2- أبو داود(2751)في الجهاد،باب:في السرية[ترد على أهل العسكر]،و ابن ماجة(2683)في الديات،باب:المسلمون تتكافأ دماؤهم،و أحمد(119/1).
3- ابن ماجة(2667)في الديات،باب:لا قود إلا بالسيف،و في الزوائد:«في إسناده جابر الجعفي، و هو كذاب»و ضعفه الألباني.

من السمك،و هو خلاف القرآن،إذ يقول تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَ طَعامُهُ [المائدة:

96]،فصيده ما صيد منه حيا و طعامه قال أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:هو ما مات فيه،صح ذلك عن الصديق و ابن عباس و غيرهما،ثم تركتم الخبر الصحيح المصرح بأن ميتته حلال، مع موافقته لظاهر القرآن.

الوجه السادس و الأربعون:أنكم أخذتم و أصبتم بحديث تحريم كل ذي ناب من السباع،و مخلب من الطير،و هو زائد على ما في القرآن،و لم تروه ناسخا،ثم تركتم حديث حل لحوم الخيل الصحيح الصريح،و قلتم:و هو مخالف لما في القرآن زائد عليه و ليس كذلك.

الوجه السابع و الأربعون:أنكم أخذتم بحديث المنع من توريث القاتل مع أنه زائد على القرآن،و حديث عدم القود على قاتل ولده،و هو زائد على ما في القرآن مع أن الحديثين ليسا في الصحة بذاك،و تركتم الأخذ بحديث إعتاق النبي صلّى اللّه عليه و سلّم لصفية،و جعل عتقها صداقها،فصارت بذلك زوجة،و قلتم:هذا خلاف ظاهر القرآن،و الحديث في غاية الصحة.

الوجه الثامن و الأربعون:أنكم أخذتم بالحديث الضعيف الزائد على ما في القرآن، و هو:«كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه» (1)،فقلتم:هذا يدل على وقوع طلاق المكره و السكران،و تركتم السنة الصحيحة التي لا ريب في صحتها فيمن وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس،فهو أحق به و قلتم:و هو خلاف ظاهر القرآن بقوله: لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [النساء:29]و العجب أن ظاهر القرآن مع الحديث متوافقان متطابقان،فإن منع البائع من الوصول إلى الثمن،و إلى عين ماله إطعام له بالباطل الغرماء،فخالفتم ظاهر القرآن من السنة الصحيحة الصريحة.

الوجه التاسع و الأربعون:أنكم أخذتم بالحديث الضعيف و هو:«من كان له إمام فقراءة الإمام قراءة له» (2)و لم تقولوا:هو زائد على القرآن في قوله: وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى (39)[النجم]و تركتم الحديث الصحيح في بقاء الإحرام بعد الموت،و أنه لا ينقطع به، و قلتم:هو خلاف ظاهر القرآن في قوله: هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النمل:90]).

ص: 384


1- الترمذي(1191)في الطلاق،باب:ما جاء في طلاق المعتوه،و قال:«هذا حديث لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث عطاء بن عجلان،و عطاء بن عجلان ضعيف،ذاهب الحديث».
2- أحمد(339/3).

و خلاف ظاهر قوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«إذا مات ابن آدم انقطع منه عمله إلا من ثلاث» (1).

الوجه الخمسون:رد السنة الثابتة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في وجوب الموالاة حيث أمر الذي ترك لمعة (2)من قدمه بأن يعيد الوضوء و الصلاة،و قالوا:هو زائد على كتاب اللّه،ثم أخذوا بالحديث الضعيف الزائد على كتاب اللّه في أن أقل الحيض ثلاثة أيام،و أكثره عشرة.

الوجه الحادي و الخمسون:رد الحديث الثابت عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في:«أنه لا نكاح إلا بولي» (3)و أن من أنكحت نفسها فنكاحها باطل،و قالوا:هو زائد على كتاب اللّه،فإن اللّه تعالى يقول: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ [البقرة:232]،و قال فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:234]،ثم أخذوا بالحديث الضعيف الزائد على القرآن قطعا في اشتراط الشهادة في صحة النكاح،و العجب أنهم استدلوا على ذلك بقوله«لا نكاح إلا بولي مرشد،و شاهد عدل» (4)،ثم قالوا:لا يفتقر إلى حضور الولي،و لا عدالة الشاهدين،فهذا طرف من بيان تناقض من رد السنن بكونها زائدة على القرآن،فتكون ناسخة فلا تقبل.

الوجه الثاني و الخمسون:أنكم تجوزون الزيادة على القرآن بالقياس الذي أحسن أحواله أن يكون للأمة فيه قولان:أحدهما:أنه باطل مناف للدين،و الثاني:أنه صحيح مؤخر على الكتاب و السنة،فهو في المرتبة الأخيرة،و لا تختلفون في جواز إثبات حكم زائد على القرآن به،فهلا قلتم:إن ذلك يتضمن نسخ الكتاب بالقياس.

فإن قيل:قد دل القرآن على صحة القياس و اعتباره و إثبات الأحكام به،فما خرجنا عن موجب القرآن،و لا زدنا على ما في القرآن إلا بما دلنا عليه القرآن.

قيل:فهل قلتم مثل هذا سواء في السنة الزائدة على القرآن،و كان قولكم ذلك في السنة أسعد و أصلح من القياس الذي هو محل آراء المجتهدين،و عرضة للخطأ،بخلاف قول من ضمنت لنا العصمة في أقواله،و فرض اللّه علينا اتباعه و طاعته.د.

ص: 385


1- مسلم(14/1631)في الوصية،باب:ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته،و أبو داود(3880)في الوصايا،باب:في الصدقة عن الميت،و الترمذي(1376)في الأحكام،باب:في الوقف.
2- بقعة يسيرة من جسده لن ينلها الماء.
3- أبو داود(2085)في النكاح،باب:في الولى،و الترمذي(1101)في النكاح باب:ما جاء لا نكاح إلا بولي،و ابن ماجة(1881)في النكاح،باب:لا نكاح إلا بولي.
4- موارد الظمآن(1247)في النكاح،باب:ما جاء في الولي و الشهود،بدون لفظ مرشد.

فإن قيل:القياس:بيان لمراد اللّه و رسوله من النصوص،و أنه أريد بها إثبات الحكم في المذكور في نظيره،و ليس ذلك زائدا على القرآن،بل تفسير له و تبيين.

قيل:فهلا قلتم أن السنة بيان لمراد اللّه من القرآن تفصيلا لما أجمله،و تبيينا لما سكت عنه،و تفسيرا لما أبهمه؛فإن اللّه سبحانه أمر بالعدل و الإحسان و البر و التقوى،و نهى عن الظلم و الفواحش و العدوان و الإثم،و أباح لنا الطيبات،و حرم علينا الخبائث،فكل ما جاءت به السنة،فإنها تفصيل لهذا المأمور به،و المنهى عنه،و الذي أحل لنا هو الذي حرم علينا.

و هكذا يتبين بالمثال التاسع عشر،و هو أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أمر في حديث النعمان بن بشير أن يعدل بين الأولاد في العطية،فقال:«اتقوا اللّه و اعدلوا بين أولادكم» (1).و في حديث:«إني لا أشهد على جور» (2)فسماه جورا،و قال:«أشهد على هذا غيري» (3)تهديدا له،و إلا فمن الذي يطلب هذا من المسلمين أن يشهد على ما حكم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم بأنه جور،و أنه لا يصلح،و أنه على خلاف تقوى اللّه،و أنه خلاف العدل؟و هذا الحديث من تفاصيل العدل الذي أمر اللّه به في كتابه،و قامت به السموات و الأرض و أسست عليه الشريعة،فهو أشد موافقة للقرآن من كل قياس عن وجه الأرض،و هو محكم الدلالة غاية الإحكام،فرد بالمتشابه من قوله:«كل أحد أحق بماله من ولده و والده و الناس أجمعين» (4)فكونه أحق به يقتضي جواز تصرفه كما يشاء،و بقياس متشابه على إعطاء الأجانب.و من المعلوم بالضرورة أن هذا المتشابه من العموم و القياس لا يقاوم هذا المحكم المبين غاية البيان (5).

تخصيص القرآن بالسنة

عن أبي إسحاق-و هو السبيعي-قال:كنت في المسجد الجامع مع الأسود،فقال:

أتت فاطمة بنت قيس عمر بن الخطاب،فقال:ما كنا لندع كتاب ربنا و سنة نبينا صلّى اللّه عليه و سلّم لقول امرأة،لا ندري أحفظت أم لا؟ (6).

ص: 386


1- البخاري(2587)في الهبة،باب:الإشهاد في الهبة،و مسلم(13/1623)في الهبات،باب:كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة.
2- مسلم(14/1623)في الهبات،باب:كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة،و أحمد(268/4).
3- مسلم(17/1268)في الهبات،باب:كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة،و أحمد(269/4).
4- البيهقي في الكبرى(481/7)،و الدار قطني(236/4).
5- إعلام الموقعين(323/2-348).
6- البيهقي في الكبرى(475/7)،و الدار قطني(27/4).

قال أبو داود في«المسائل»:سمعت أحمد بن حنبل،و ذكر له قول عمر:لا ندع كتاب ربنا و سنة نبينا لقول امرأة.فلم يصحح هذا عن عمر،و قال الدارقطني:هذا الكلام لا يثبت عن عمر،يعني قوله:سنة نبينا.ثم ذكر أحاديث الباب،ثم قال بعد انتهاء آخر الباب:

اختلف الناس في المبتوتة،هل لها نفقة،أو سكنى؟على ثلاثة مذاهب،و على ثلاث روايات عن أحمد:

أحدها:أنه لا سكنى لها و لا نفقة،و هو ظاهر مذهبه،و هذا قول علي بن أبي طالب، و عبد اللّه بن عباس،و جابر،و عطاء،و طاوس،و الحسن،و عكرمة،و ميمون ابن مهران، و إسحاق بن راهويه،و داود بن علي،و أكثر فقهاء الحديث،و هو مذهب صاحبة القصة فاطمة بنت قيس،و كانت تناظر عليه.

و الثاني:و يروى عن عمر و عبد اللّه بن مسعود:أن لها السكنى و النفقة.و هو قول أكثر أهل العراق،و قول ابن شبرمة،و ابن أبي ليلى،و سفيان الثوري،و الحسن بن صالح،و أبي حنيفة و أصحابه،و عثمان البتي،و العنبري،و حكاه أبو يعلى القاضي في«مفرداته»رواية عن أحمد،و هي غريبة جدا.

و الثالث:أن لها السكنى دون النفقة،و هذا قول مالك و الشافعي و فقهاء المدينة السبعة، و هو مذهب عائشة أم المؤمنين رضي اللّه عنها.

و أسعد الناس بهذا الخبر من قال به،و أنه لا نفقة لها،و لا سكنى،و ليس مع من رده حجة تقاومه،و لا تقاربه.

قال ابن عبد البر:أما من طريق الحجة و ما يلزم منها،فقول أحمد بن حنبل و من تابعه أصح و أرجح؛لأنه ثبت عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم نصا صريحا،فأي شيء يعارض هذا إلا مثله عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم،الذي هو المبين على اللّه مراده؟و لا شيء يدفع ذلك،و معلوم أنه أعلم بتأويل قول اللّه تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ [الطلاق:6].

و أما قول عمر و من وافقه،فقد خالفه علي و ابن عباس و من وافقهما.و الحجة معهم، و لو لم يخالفهم أحد منهم لما قبل المخالف لقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،فإن قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم حجة على عمر و على غيره.و لم يصح عن عمر أنه قال:لا ندع كتاب ربه و سنة نبينا لقول امرأة،فإن أحمد أنكره،و قال:أما هذا فلا،و لكن قال:لا نقبل في ديننا قول امرأة.و هذا أمر يرده الإجماع على قبول قول المرأة في الرواية،فأي حجة في شيء يخالفه الإجماع؛ و ترده السنة،و يخالفه فيه علماء الصحابة؟

ص: 387

و قال إسماعيل بن إسحاق:نحن نعلم أن عمر لا يقول:«لا ندع كتاب ربنا»إلا لما هو موجود في كتاب اللّه تعالى،و الذي في الكتاب أن لها النفقة إذا كانت حاملا،لقوله تعالى:

وَ إِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:6]و أما غير ذوات الحمل فلا يدل الكتاب إلا على أنهن لا نفقة لهن،لاشتراطه الحمل في الأمر بالإنفاق،آخر كلامه.

و الذين ردوا كلام فاطمة هذا ظنوه معارضا للقرآن،فإن اللّه تعالى قال: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ [الطلاق:6]و قال: لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَ لا يَخْرُجْنَ [الطلاق:1]، و هذا لو كان كما ظنوه لكان في السكنى خاصة،و أما إيجاب النفقة لها فليس في القرآن إلا ما يدل على أنه لا نفقة لهنّ،كما قال القاضي إسماعيل؛لأن اللّه-سبحانه و تعالى-شرط في وجوب الإنفاق أن يكن من أولات الحمل،و هو يدل على أنها إذا كانت حائلا (1)فلا نفقة لها،كيف و إن القرآن لا يدل على وجوب السكنى للمتبوبة بوجه ما؟فإن السياق كله إنما هو في الرجعية.

و يبين ذلك قوله تعالى: لا تَدْرِي لَعَلَّ اللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1)[الطلاق:1]و قوله:

فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [الطلاق:2]و هذا في البائن مستحيل، ثم قال: أَسْكِنُوهُنَّ و اللاتي قال فيهن: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [الطلاق:2]قال فيهن: أَسْكِنُوهُنَّ [الطلاق:6]و لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ [الطلاق:1]،و هذا ظاهر جدا.

و شبهة من ظن أن الآية في البائن قوله تعالى: وَ إِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:6].

قالوا:و معلوم أن الرجعية لها النفقة؛حاملا كانت أم حائلا،و هذا لا حجة فيه،فإنه إذا أوجب نفقتها حاملا لم يدل ذلك على أنه لا نفقة لها إذا كانت حائلا،بل فائدة التقييد بالحمل التنبيه على اختلاف جهة الإنفاق بسبب الحمل قبل الوضع و بعده،فقبل الوضع لها النفقة حتى تضعه،فإذا وضعته صارت النفقة بحكم الإجارة و رضاعة الولد،و هذه قد يقوم غيرها مقامها فيه فلا تستحقها،لقوله تعالى: وَ إِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى [الطلاق:6]، و أما نفقة حال الحمل فلا يقوم غيرها مقامها فيه،بل هي مستمرة حتى تضعه،فجهة الإنفاق مختلفة.و أما الحائل فنفقتها معلومة من نفقة الزوجات،فإنها زوجة ما دامت في العدة،فلا حاجة إلى بيان وجوب نفقتها.».

ص: 388


1- في المطبوعة«حاملا».

و أما الحامل فلما اختلفت جهة النفقة عليها قبل الوضع و بعده،ذكر سبحانه الجهتين و السببين.و هذا من أسرار القرآن و معانيه التي يختص اللّه بفهمها من شاء.

و أيضا،فلو كان قوله تعالى: وَ إِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ في البوائن لكان دليلا ظاهرا على أن الحائل البائن لا نفقة لها؛لاشتراط الحمل في وجوب الإنفاق،و الحكم المعلق بالشرط يعدم عند عدمه،و أما آية السكنى،فلا يقول أحد:إنها مختصة بالبائن؛لأن السياق يخالفه،و يبين أن الرجعية مرادة منها،فإما أن يقال:هي مختصة بالرجعية كما يدل عليه سياق الكلام،و تتحد الضمائر،و لا تختلف مفسراتها،بل يكون مفسر قوله: فَأَمْسِكُوهُنَّ هو مفسر قوله: أَسْكِنُوهُنَّ و على هذا فلا حجة في سكنى البائن.و إما أن يقال:هي عامة للبائن و الرجعية.

و على هذا فلا يكون حديث فاطمة منافيا للقرآن،بل غايته:أن يكون مخصصا لعمومه، و تخصيص القرآن بالسنة جائز واقع،هذا لو كان قوله: أَسْكِنُوهُنَّ عاما،فكيف لا يصح فيه العموم،لما ذكرناه؟

و قول النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«لا نفقة لك و لا سكنى» (1)و قوله في اللفظ الآخر:«إنما النفقة و السكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة» (2)رواه الإمام أحمد و النسائي،و إسناده صحيح،و في لفظ لأحمد:«إنما النفقة و السكنى للمرأة على زوجها ما كانت له عليها الرجعة،فإذا لم يكن له عليها رجعة فلا نفقة و لا سكنى» (3)،و هذا يبطل كل ما تأولوا به حديث فاطمة،فإن هذا فتوى عامة،و قضاء عام في حق كل مطلقة،فلو لم يكن لشأن فاطمة ذكر في المبين لكان هذا اللفظ العام مستقلا بالحكم،لا معارض له بوجه من الوجوه.فقد تبين أن القرآن لا يدل على خلاف هذا الحديث،بل إنما يدل على موافقته، كما قالت فاطمة:بيني و بينكم القرآن.

و لما ذكر لأحمد قول عمر:لا ندع كتاب ربنا لقول امرأة تبسم أحمد و قال:أي شيء في القرآن خلاف هذا (4)؟).

ص: 389


1- البخاري(5323،5324)في الطلاق،باب:قصة فاطمة بنت قيس،و مسلم(37/1480)في الطلاق،باب:المطلقة ثلاثا لا نفقة لها.
2- النسائي(3403)في الطلاق،باب:الرخصة في الطلاق الثلاث،و أحمد(373/6).
3- أحمد(417/6).
4- تهذيب السنن(190/3-193).

من تفسيرات النبي صلّى اللّه عليه و سلّم للقرآن

اشارة

سئل صلّى اللّه عليه و سلّم عن قوله تعالى: يا أُخْتَ هارُونَ [مريم:28]،فقال:«كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم و الصالحين من قومهم» (1).

و في الترمذي أنه سئل صلّى اللّه عليه و سلّم عن قوله تعالى: وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) [الصافات:147]:كم كانت الزيادة؟قال:«عشرة آلاف» (2).

و سأله صلّى اللّه عليه و سلّم أبو ثعلبة عن قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ [المائدة:105] فقال:«ائتمروا بالمعروف،و انهوا عن المنكر،حتى إذا رأيت شحا مطاعا،و هوى متبعا، و دنيا مؤثرة،و إعجاب كل ذي رأي برأيه،فعليك بنفسك ودع عنك العوام؛فإن من ورائكم أياما،الصبر فيهن مثل القبض على الجمر،للعامل فيهن مثل أجر خمسين يعملون مثل عملكم» (3).ذكره أبو داود (4).

باب:منه قد فسر النبي صلّى اللّه عليه و سلّم العدة التي أمر اللّه أن تطلق لها النساء بالأطهار،فلا التفات بعد ذلك إلى شيء خالفه،بل كل تفسير يخالف هذا فباطل (5).

تفسير الصحابة للقرآن و الأقوال في الاحتجاج به

و قد اختلف في تفسير الصحابي،هل له حكم المرفوع،أو الموقوف،على قولين:

الأول:اختبار أبي عبد اللّه الحاكم،و الثاني:هو الصواب،و لا نقول على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ما لم نعلم أنه قاله (6).

ص: 390


1- مسلم(9/2135)في الأدب،باب:النهي عن التكني بأبي القاسم،و الترمذي(3155)في تفسير القرآن،باب:و من سورة مريم و قال:«صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن إدريس».
2- الترمذي(3229)في تفسير القرآن،باب:من سورة الصافات،و قال:«حديث غريب»،و ضعفه الألباني.
3- أبو داود(4341)في الملاحم،باب:الأمر و النهي،و ضعفه الألباني.
4- إعلام الموقعين(496/4).
5- زاد المعاد(620/5).
6- طريق الهجرتين(383).

لا ريب أن أقوالهم في التفسير أصوب من أقوال من بعدهم،و قد ذهب بعض أهل العلم إلى أن تفسيرهم في حكم المرفوع.

قال أبو عبد اللّه الحاكم في«مستدركه»:و تفسير الصحابي عندنا في حكم المرفوع.

و مراده أنه في حكمه في الاستدلال به و الاحتجاج،لا أنه إذا قال الصحابي في الآية قولا فلنا أن نقول:هذا القول قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،أو قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.

و له وجه آخر،و هو أن يكون في حكم المرفوع بمعنى أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بين لهم معاني القرآن،و فسره لهم كما وصفه تعالى بقوله: لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]،فبين لهم القرآن بيانا شافيا كافيا.

و كان إذا أشكل على أحد منهم معنى سأله عنه فأوضحه له،و كما سأله الصديق عن قوله: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النساء:123]فبين له المراد،و كما سأله الصحابة عن قوله تعالى: اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82]،فبين لهم معناها.

و كما سألته أم سلمة عن قوله تعالى: فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8)[الانشقاق]،فبين لها أنه العرض،و كما سأله عمر عن الكلالة فأحاله على آية الصيف (1)التي في آخر السورة، و هذا كثير جدا.

فإذا نقلوا لنا تفسير القرآن فتارة ينقلونه عنه بلفظه؛و تارة بمعناه،فيكون ما فسروا بألفاظهم من باب الرواية بالمعنى،كما يروون عنه السنة تارة بلفظها و تارة بمعناها،و هذا أحسن الوجهين،و اللّه أعلم.

بعض تفسير الصحابة يخالف الأحاديث

فإن قيل:فنحن نجد لبعضهم أقوالا في التفسير تخالف الأحاديث المرفوعة الصحاح، و هذا كثير.كما فسر ابن مسعود الدخان بأنه الأثر الذي حصل عن الجوع الشديد و القحط، و قد صح عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أنه دخان يأتي قبل يوم القيامة يكون من أشراط الساعة مع الدابة و الدجال،و طلوع الشمس من مغربها.

و فسر عن عمر بن الخطاب قوله تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ [الطلاق:

6]،بأنها للبائنة و الرجعية،حتى قال:لا ندع كتاب ربنا لقول امرأة،مع أن السنة الصحيحة في البائن تخالف هذا التفسير.

ص: 391


1- هي آية الكلالة التي في آخر النساء لأنها نزلت في الصيف،أما الأولى فنزلت في الشتاء.

و فسر علي بن أبي طالب-كرم اللّه وجهه-قوله تعالى: وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً [البقرة:234]أنها عامة في الحامل و الحائل،فقال:

تعتد أبعد الأجلين،و السنة الصحيحة بخلافه.

و فسر ابن مسعود قوله: وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَ رَبائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ [النساء:23]،بأن الصفة لنسائكم الأولى و الثانية،فلا تحرم أم المرأة حتى يدخل بها.و الصحيح خلاف قوله،و أن أم المرأة تحرم بمجرد العقد على ابنتها و الصفة راجعة إلى قوله: وَ رَبائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ،و هو قول جمهور الصحابة.

و فسر ابن عباس:«السجل»بأنه كتاب للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم يسمى السجل،و ذلك وهم،و إنما السجل الصحيفة المكتوبة،و اللام مثلها في قوله تعالى: وَ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات:103]،و في قول الشاعر:

فخر صريعا لليدين و للفم (1)

أي يطوي السماء كما يطوي السجل على ما فيه من الكتاب:و هذا كثير جدا.فكيف يكون تفسير الصحابي حجة في حكم المرفوع؟

قيل:الكلام في تفسيره كالكلام في فتواه سواء،و صورة المسألة هنا كصورتها هناك سواء بسواء؛و صورتها ألا يكون في المسألة نص يخالفه،و يقول في الآية قولا لا يخالفه فيه أحد من الصحابة،سواء علم استشهاره أو لم يعلم،و ما ذكر من هذه الأمثلة فقد فقد فيه الأمران،و هو نظير ما روي عن بعضهم من الفتاوى التي تخالف النص و هم مختلفون فيها سواء.

فإن قيل:لو كان قوله حجة بنفسه لما أخطأ،و لكان معصوما؛لتقوم الحجة بقوله،فإذا كان يفتي بالصواب تارة و بغيره أخرى،و كذلك تفسيره فمن أين لكم أن هذه الفتوى المعينة و التفسير المعين من قسم الصواب؟إذ صورة المسألة أنه لم يقم على المسألة دليل غير قوله، و قوله ينقسم،فما الدليل على أن هذا القول المعين من القسمين و لا بد؟

قيل:الأدلة المتقدمة تدل على انحصار الصواب في قوله في الصورة المفروضة الواقعة،و هو أن من الممتنع أن يقولوا في كتاب اللّه الخطأ المحض،و يمسك الباقون عنن.

ص: 392


1- هذا عجز بيت،و صدره:ضممت إليه بالسنان قميصه.مغني اللبيب(238/1)تحقيق:محي الدين.

الصواب فلا يتكلمون به،و هذه الصورة المذكورة و أمثالها قد تكلم فيها غيرهم بالصواب، و المحظور إنما هو خلو عصرهم عن ناطق بالصواب،و اشتماله على ناطق بغيره فقط،فهذا هو المحال؛و بهذا خرج الجواب عن قولكم:لو كان قول الواحد منهم حجة لما جاز عليه الخطأ،فإن قوله لم يكن بمجرده حجة؛بل بما انضاف إليه مما تقدم ذكره من القرائن (1).

ما أشكل على بعض الصحابة

و أنكر على عائشة إذ فهمت من قوله تعالى: فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8)[الانشقاق] معارضته لقوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«من نوقش الحساب عذب» (2)،و بين لها أن الحساب اليسير،هو العرض،أي حساب العرض،لا حساب المناقشة.

و أنكر على من فهم من قوله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النساء:123]أن هذا الجزاء إنما هو في الآخرة،و أنه لا يسلم أحد من عمل السوء،و بين أن هذا الجزاء قد يكون في الدنيا بالهم و الحزن و المرض و النصب،و غير ذلك من مصائبها،و ليس في اللفظ تقييد الجزاء بيوم القيامة.

و أنكر على من فهم من قوله تعالى: اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ (82)[الأنعام]أنه ظلم النفس بالمعاصي،و بين أنه الشرك،و ذكر قول لقمان لابنه: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)[لقمان]مع أن سياق اللفظ عند إعطائه حقه من التأمل يبين ذلك،فإن اللّه سبحانه لم يقل،و لم يظلموا أنفسهم بل قال: وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ ،و لبس الشيء بالشيء:تغطيته به و إحاطته به من جميع جهاته،و لا يغطي الإيمان و يحيط به و يلبسه إلا الكفر.

و من هذا قوله تعالى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81)[البقرة]،فإن الخطيئة لا تحيط بالمؤمن أبدا،فإن إيمانه يمنعه من إحاطة الخطيئة به،و مع أن سياق قوله: وَ كَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَ لا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) [الأنعام]،ثم حكم اللّه أعدل حكم و أصدقه أن من آمن،و لم يلبس إيمانه بظلم فهو أحق بالأمن و الهدى،فدل على أن الظلم:الشرك.

ص: 393


1- إعلام الموقعين(195/4-198).
2- مسلم(79/2876)في الجنة و صفة نعيمها و أهلها،باب:إثبات الحساب.

و سأله عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه عن الكلالة و راجعه فيها مرارا،فقال«تكفيك آية الصيف» (1):و اعترف عمر بأنه خفي عليه فهمها،و فهمها الصديق.

و قد نهى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم عن لحوم الحمر الأهلية،ففهم بعض الصحابة من نهيه أنه لكونها لم تحمس،و فهم بعضهم أن النهي لكونها كانت حمولة القوم و ظهرهم،و فهم بعضهم أنه لكونها كانت جوال القرية.و فهم علي بن أبي طالب-كرم اللّه وجهه في الجنة-و كبار الصحابة ما قصده رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بالنهي،و صرح بعلته من كونها رجسا.

و فهمت المرأة من قوله تعالى: وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً [النساء:20]جواز المغالاة في الصداق،فذكرته لعمر،فاعترف به.و فهم ابن عباس من قوله تعالى: وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً [الأحقاف:15]مع قوله: وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ [البقرة:233]أن المرأة قد تلد لستة أشهر،و لم يفهمه عثمان فهم برجم امرأة ولدت لها،حتى ذكره ابن عباس،فأقر به.

و لم يفهم عمر من قوله:«أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه،فإذا قالوها عصموا مني دماءهم و أموالهم،إلا بحقها» (2)قتال مانعي الزكاة،حتى بين له الصديق فأقر به.

و فهم قدامة بن مظعون من قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَ آمَنُوا [المائدة:93]رفع الجناح عن الخمر، حتى بين له عمر أنه لا يتناول الخمر،و لو تأمل سياق الآية لفهم المراد منها،فإنه إنما رفع الجناح عنهم فيما طعموه متقين له فيه،و ذلك إنما يكون باجتناب ما حرمه من المطاعم، فالآية لا تتناول المحرم بوجه ما.و قد فهم من قوله تعالى: وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]انغماس الرجل في العدو،حتى بين له أبو أيوب الأنصاري أن هذا ليس من الإلقاء بيده إلى التهلكة،بل هو من بيع الرجل نفسه ابتغاء مرضاة اللّه،و أن الإلقاء بيده إلى التهلكة هو ترك الجهاد،و الإقبال على الدنيا و عمارتها.

و قال الصديق رضي اللّه عنه:أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية،و تضعونها على غير مواضعها:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105]،و إني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول:«إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه،أوشك أن يعمهم اللّه بالعقابخ.

ص: 394


1- مسلم(9/1617)في الفرائض،باب:ميراث الكلالة.
2- البخاري(1399)في الزكاة،باب:وجوب الزكاة،و مسلم(33/21)في الإيمان،باب:الأمر بقتال الناس حتى يقولوا:لا إله إلا الله...إلخ.

من عنده» (1)فأخبرهم أن يضعونها على غير مواضعها في فهمهم منها خلاف ما أريد بها.

و أشكل على ابن عباس أمر الفرقة الساكتة التي لم ترتكب ما نهيت عنه من اليهود:هل عذبوا أو نجوا،حتى بين له مولاه عكرمة دخولهم في الناجين دون المعذبين،و هذا هو الحق؛لأنه سبحانه قال عن الساكتين: وَ إِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً [الأعراف:164]،فأخبر أنهم أنكروا فعلهم،و غضبوا عليهم و إن لم يواجهوهم بالنهي،فقد واجههم به من أدى الواجب عنهم،فإن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، فرض كفاية،فلما قام به أولئك سقط عن الباقين،فلم يكونوا ظالمين بسكوتهم.

و أيضا،فإن اللّه-سبحانه-إنما عذب الذين نسوا ما ذكروا به،و عتوا عما نهوا عنه، و هذا لا يتناول الساكتين قطعا،فلما بين عكرمة لابن عباس أنهم لم يدخلوا في الظالمين المعذبين كساه بردة و فرح به.

و قد قال عمر بن الخطاب للصحابة:ما تقولون في: إِذا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَ الْفَتْحُ (1)السورة؟قالوا:أمر اللّه نبيه إذا فتح عليه أن يستغفره،فقال لابن عباس ما تقول أنت؟ قال:هو أجل رسول اللّه أعلمه إياه،فقال:ما أعلم منها غير ما تعلم.

و هذا من أدق الفهم و ألطفه،و لا يدركه كل أحد،فإنه-سبحانه-لم يعلق الاستغفار بعمله،بل علقه بما يحدثه هو-سبحانه-من نعمة فتحه على رسوله،و دخول الناس في دينه،و هذا ليس بسبب للاستغفار.فعلم أن سبب الاستغفار غيره،و هو حضور الأجل الذي من تمام نعمة اللّه على عبده توفيقه للتوبة النصوح و الاستغفار بين يديه ليلقى ربه طاهرا من كل ذنب،فيقدم عليه مسرورا راضيا عنه،و يدل عليه أيضا قوله: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ [النصر:3]،و هو صلّى اللّه عليه و سلّم كان يسبح بحمده دائما،فعلم أن المأمور به من ذلك التسبيح بعد الفتح،و دخول الناس في الدين أمر أكبر من ذلك المتقدم،و ذلك مقدمة بين يدي انتقاله إلى الرفيق الأعلى،و أنه قد بقيت عليه من عبودية التسبيح و الاستغفار التي ترقيه إلى ذلك المقام بقية،فأمره بتوفيتها.و يدل عليه أيضا أنه سبحانه شرع التوبة و الاستغفار في خواتيم الأعمال،فشرعها في خاتمة الحج و قيام الليل،و كان النبي صلّى اللّه عليه و سلّم إذا سلم من الصلاة استغفر ثلاثا،و شرع للمتوضئ بعد كمال وضوئه أن يقول:«اللهم اجعلني من التوابين،).

ص: 395


1- أبو داود(4338)في الملاحم،باب:الأمر و النهي،و الترمذي(2168)في الفتن،باب:ما جاء في نزول العذاب إذا لم يغير المنكر،و أحمد(5/1).

و اجعلني من المتطهرين» (1)،فعلم أن التوبة مشروعة عقيب الأعمال الصالحة،فأمر رسوله بالاستغفار عقيب توفيته ما عليه من تبليغ الرسالة و الجهاد في سبيله حين دخل الناس في دينه أفواجا،فكأن التبليغ عبادة قد أكملها،و أداها،فشرع له الاستغفار عقيبها (2).).

ص: 396


1- الترمذي(55)في الطهارة،باب:فيما يقال بعد الوضوء،و قال:«في إسناده اضطراب و لا يصح عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم...إلخ». و قال الشيخ أحمد شاكر: «و قد أخطأ الترمذي فيما زعم من اضطراب الإسناد في هذا الحديث،و من أنه لا يصح في الباب كبير شيء.و أصل الحديث صحيح مستقيم الإسناد،و إنما جاء الاضطراب في الأسانيد التي نقلها الترمذى- منه أو ممن حدثه بها»و بعد أن ذكر عدة روايات للحديث قال: كل الروايات التي ذكرنا ليس فيها قوله:«اللهم اجعلني من التوابين و اجعلني من المتطهرين»إلا في رواية الترمذي وحدها.و لا يكفي ذلك في صحتها،لما علمت من الاضطراب و الخطأ فيها،و إنما جاءت في حديث بهذا المعنى عن ثوبان مرفوعا،نقله الهيثمي في مجمع الزوائد(239/1)و قال:«رواه الطبراني في الأوسط و الكبير باختصار،و قال في الأوسط:تفرد به مسور بن مورع،و لم أجد من ترجمه،و فيه أحمد بن سهيل الوراق،ذكره ابن حبان في الثقات.و في إسناد الكبير:أبو سعيد البقال، و الأكثر على تضعيفه،و وثقه بعضهم». و انظر تخريج الحديث مفصلا في الإرواء رقم(96).
2- إعلام الموقعين(433/1-437).

فضائل القرآن

مكانة القرآن بين الكتب المنزّلة

إذا تأملت التوراة و الإنجيل و الكتب،و تأملت القرآن وجدته كالتفصيل لمجملها و التأويل لأمثالها و الشرح لرموزها،و هذا حقيقة قول المسيح عليه السّلام:«أجيئكم بالأمثال و يجيئكم بالتأويل،و يفسر لكم كل شيء»و إذا تأملت قوله:«و كل شيء عده اللّه لكم به»و تفاصيل ما أخبر به من الجنة و النار و الثواب و العقاب،تيقنت صدق الرسولين الكريمين،و مطابقة الأخبار المفصلة من محمد صلّى اللّه عليه و سلّم للخبر المجمل من أخيه المسيح (1).

القرآن كثير الخير عظيم النفع

قال تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77)فوصفه بما يقتضي حسنه،و كثرة خيره،و منافعه، و جلالته،فإن الكريم هو البهي الكثير الخير العظيم النفع،و هو من كل شيء أحسنه و أفضله،و اللّه-سبحانه-وصف نفسه بالكرم،و وصف به كلامه،و وصف به عرشه، و وصف به ما كثر خيره،و حسن منظره:من النبات،و غيره.و لذلك فسر السلف الكريم بالحسن قال الكلبي: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77)،أي حسن كريم على اللّه.و قال مقاتل:كرمه اللّه و أعزه،لأنه كلامه.

و قال الأزهري:الكريم اسم جامع لما يحمد،و اللّه كريم جميل الفعال،و إنه لقرآن كريم يحمد،لما فيه من الهدى و البيان و العلم و الحكمة.و بالجملة فالكريم الذي من شأنه أن يعطي الخير الكثير بسهولة و يسر (2).

القرآن كفيل بمصالح العباد في المعاش و المعاد

لما كان كمال الإنسان إنما هو بالعلم النافع،و العمل الصالح،و هما الهدى و دين الحق،و بتكميله لغيره في هذين الأمرين،كما قال تعالى: وَ الْعَصْرِ(1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ(2)

ص: 397


1- هداية الحيارى(108).
2- التبيان(225).

إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3)[سورة العصر]أقسم -سبحانه-أن كل أحد خاسر إلا من كمل قوته العلمية بالإيمان،و قوته العملية بالعمل الصالح،و كمل غيره بالتوصية بالحق و الصبر عليه،فالحق هو الإيمان و العمل،و لا يتمان إلا بالصبر عليهما،و التواصي بهما-كان حقيقا بالإنسان أن ينفق ساعات عمره-بل أنفاسه-فيما ينال به المطالب العالية،و يخلص به من الخسران المبين،و ليس ذلك إلا بالإقبال على القرآن و تفهمه و تدبره و استخراج كنوزه و إثارة دفائنه،و صرف العناية إليه، و العكوف بالهمة عليه،فإنه الكفيل بمصالح العباد،في المعاش و المعاد.و الموصل لهم إلى سبيل الرشاد،فالحقيقة و الطريقة،و الأذواق و المواجيد الصحيحة،كلها لا تقتبس إلا من مشكاته،و لا تستثمر إلا من شجراته (1).

القرآن باب اللّه الأعظم الذي منه الدخول

فهو كتابه الدال عليه لمن أراد معرفته،و طريقه الموصلة لسالكها إليه،و نوره المبين الذي أشرقت له الظلمات،و رحمته المهداة التي بها صلاح جميع المخلوقات،و السبب الواصل بينه و بين عباده،إذا انقطعت الأسباب،و بابه الأعظم الذي منه الدخول،فلا يغلق إذا غلقت الأبواب.و هو الصراط المستقيم الذي لا تميل به الآراء،و الذكر الحكيم الذي لا تزيغ به الأهواء،و النزل الكريم الذي لا يشبع منه العلماء،لا تفنى عجائبه،و لا تقلع سحائبه،و لا تنقضي آياته،و لا تختلف دلالاته،كلما ازدادت البصائر فيه تأملا و تفكرا زادها هداية و تبصيرا،و كلما بجّست معينه فجر لها ينابيع الحكمة تفجيرا.

فهو نور البصائر من عماها،و شفاء الصدور من أدوائها و جواها،و حياة القلوب،و لذة النفوس،و رياض القلوب،و حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح،و المنادى بالمساء و الصباح:يا أهل الفلاح،حي على الفلاح.نادى منادي الإيمان على رأس الصراط المستقيم: يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللّهِ وَ آمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31)[الأحقاف].

أسمع-و اللّه-لو صادف آذانا واعية،و بصّر لو صادف قلوبا من الفساد خالية.

لكن عصفت على القلوب هذه الأهواء فأطفأت مصابيحها،و تمكنت منها آراء الرجال فأغلقت أبوابها و أضاعت مفاتيحها،و ران عليها كسبها فلم تجد حقائق القرآن إليها منفذا، و تحكمت فيها أسقام الجهل فلم تنتفع معها بصالح العمل.

ص: 398


1- مدارج السالكين(6/1،7).

وا عجبا لها!كيف جعلت غذاءها من هذه الآراء التي لا تسمن و لا تغني من جوع،و لم تقبل الاغتذاء بكلام رب العالمين،و نصوص حيث نبيه المرفوع؟أم كيف اهتدت في ظلم الآراء إلى التمييز بين الخطأ و الصواب،و خفي عليها ذلك في مطالع الأنوار من السنة و الكتاب؟.

وا عجبا!كيف ميزت بين صحيح الآراء و سقيمها،و مقبولها و مردودها،و راجحها و مرجوحها،و أقرت على أنفسها بالعجز عن تلقي الهدى و العلم من كلام من كلامه لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه،و هو الكفيل بإيضاح الحق مع غاية البيان؟و كلام من أوتي جوامع الكلم،و استولى كلامه على الأقصى من البيان.

كلا،بل هي-و اللّه-فتنة أعمت القلوب عن مواقع رشدها،و حيرت العقول عن طرائق قصدها،يربى فيها الصغير،و يهرم فيها الكبير.

و ظنت خفافيش البصائر أنها الغاية التي يتسابق إليها المتسابقون،و النهاية التي تنافس فيها المنافسون،و تزاحموا عليها،و هيهات،أين السهى من شمس الضحى؟،و أين الثرى من كواكب الجوزاء؟،و أين الكلام الذي لم تضمن لنا عصمة قائله بدليل معلوم،من النقل المصدق عن القائل المعصوم؟،و أين الأقوال التي أعلى درجاتها:أن تكون سائغة الاتباع، من النصوص الواجب على كل مسلم تقديمها و تحكيمها و التحاكم إليها في محل النزاع؟ و أين الآراء التي نهى قائلها عن تقليده فيها و حذر،من النصوص التي فرض على كل عبد أن يهتدي بها و يتبصر؟،و أين المذاهب التي إذا مات أربابها (1)؛فهي من جملة الأموات،من النصوص التي لا تزول إذا زالت الأرض و السموات؟

سبحان اللّه!ما ذا حرم المعرضون عن نصوص الوحي،و اقتباس العلم من مشكاته من كنوز الذخائر؟!،و ما ذا فاتهم من حياة القلوب و استنارة البصائر؟قنعوا بأقوال استنبطتها معاول الآراء فكرا،و تقطعوا أمرهم بينهم لأجلها زبرا،و أوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا،فاتخذوا لأجل ذلك القرآن مهجورا.

درست معالم القرآن في قلوبهم فليسوا يعرفونها.و دثرت معاهده عندهم فليسوا يعمرونها، و وقعت ألويته و أعلامه من أيديهم فليسوا يرفعونها،و أفلت كواكبه النيرة من آفاق نفوسهم فلذلك لا يحبونها.و كسفت شمسه عند اجتماع ظلم آرائهم و عقدها فليسوا يبصرونها.).

ص: 399


1- كذا في الأصل،و لعل الصواب(أربابها).

خلعوا نصوص الوحي عن سلطان الحقيقة،و عزلوها عن ولاية اليقين.و شنوا عليها غارات التأويلات الباطلة.فلا يزال يخرج عليها من جيوشهم كمين بعد كمين.نزلت عليهم نزول الضيف على أقوام لئام،فعاملوها بغير ما يليق بها من الإجلال و الإكرام،و تلقوها من بعيد،و لكن بالدفع في صدورها و الأعجاز.و قالوا:مالك عندنا من عبور،و إن كان و لا بد،فعلى سبيل الاجتياز:أنزلوا النصوص منزلة الخليفة في هذا الزمان،له السكة و الخطبة و ما له حكم نافذ و لا سلطان.المتمسك عندهم بالكتاب و السنة صاحب ظواهر،مبخوس حظه من المعقول،و المقلد للآراء المتناقضة المتعارضة و الأفكار المتهافتة لديهم هو الفاضل المقبول،و أهل الكتاب و السنة،المقدمون لنصوصها على غيرها،جهال لديهم منقوصون:

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النّاسُ قالُوا أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَ لكِنْ لا يَعْلَمُونَ (31)[البقرة:13].

حرموا-و اللّه-الوصول،بعدولهم عن منهج الوحي و تضييعهم الأصول،و تمسكوا بأعجاز لا صدور لها فخانتهم أحرص ما كانوا عليها،و تقطعت بهم أسبابها أحوج ما كانوا إليها.حتى إذا بعثر ما في القبور،و حصل ما في الصدور،و تميز لكل قوم حاصلهم الذي حصلوه،و انكشفت لهم حقيقة ما اعتقدوه،و قدموا على ما قدموه، وَ بَدا لَهُمْ مِنَ اللّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47].و سقط في أيديهم عند الحصاد لما عاينوا غلة ما بذروه.

فيا شدة الحسرة عند ما يعاين المبطل سعيه و كده هباء منثورا!،و يا عظم المصيبة عند ما يتبين بوارق أمانيه خلبا و آماله كاذبة غرورا.فما ظن من انطوت سريرته على البدعة و الهوى و التعصب للآراء بربه يوم تبلى السرائر؟،و ما عذر من نبذ الوحيين وراء ظهره في يوم لا تنفع الظالمين فيه المعاذر؟

أ فيظن المعرض عن كتاب ربه و سنة رسوله أن ينجو من ربه بآراء الرجال؟أو يتخلص من بأس اللّه بكثرة البحوث و الجدال،و ضروب الأقيسة و تنوع الأشكال؟،أو بالإشارات و الشطحات،و أنواع الخيال؟

هيهات و اللّه،لقد ظن أكذب الظن،و منته نفسه أبين المحال.و إنما ضمنت النجاة لمن حكم هدى اللّه على غيره،و تزود التقوى،و ائتم بالدليل،و سلك الصراط المستقيم، و استمسك من الوحي بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها و اللّه سميع عليم (1).).

ص: 400


1- مدارج السالكين(3/1-6).

القرآن حق و صدق

و من شهادته أيضا:ما أودعه في قلوب عباده:من التصديق الجازم،و اليقين الثابت، و الطمأنينة بكلامه و وحيه.فإن العادة تحيل حصول ذلك بما هو من أعظم الكذب،و الافتراء على رب العالمين،و الإخبار عنه بخلاف ما هو عليه من أسمائه و صفاته.بل ذلك يوقع أعظم الريب و الشك.و تدفعه الفطر و العقول السليمة،كما تدفع الفطر-التي فطر عليها الحيوان-الأغذية الخبيثة الضارة التي لا تغذى.كالأبوال و الأنتان.فإن اللّه-سبحانه- فطر القلوب على قبول الحق و الانقياد له،و الطمأنينة به،و عدم السكون إليه.و لو بقيت الفطر على حالها لما آثرت على الحق سواه،و لما سكنت إلا إليه،و لا اطمأنت إلا به،و لا أحبت غيره.

و لهذا ندب اللّه عز و جل عباده إلى تدبر القرآن،فإن كل من تدبره أوجب له تدبره علما ضروريا و يقينا جازما:أنه حق و صدق.بل أحق كل حق،و أصدق كل صدق.و أن الذي جاء به أصدق خلق اللّه،و أبرهم،و أكملهم علما و عملا،و معرفة.كما قال تعالى: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82)[النساء]،و قال تعالى:

أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24)[محمد]فلو رفعت الأقفال عن القلوب لباشرتها حقائق القرآن،و استنارت فيها مصابيح الإيمان.و علمت علما ضروريا يكون عندها كسائر الأمور الوجدانية-من الفرح،و الألم،و الحب،و الخوف-أنه من عند اللّه،تكلم به حقا،و بلغه رسوله جبريل عنه إلى رسوله محمد صلّى اللّه عليه و سلّم.

فهذا الشاهد في القلب من أعظم الشواهد،و به احتج هرقل على أبي سفيان حيث قال له:فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه،بعد أن يدخل فيه؟فقال:لا.فقال له:و كذلك الإيمان إذا خالطت حلاوته بشاشة القلوب لا يسخطه أحد،و قد أشار تعالى إلى هذا المعنى في قوله: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49]،و قوله:

وَ لِيَعْلَمَ 1الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ [الحج:54]،و قوله: وَ يَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَ يَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) [سبأ]،و قوله: أَ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى [الرعد:19]،و قوله:

ص: 401

وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27)[الرعد]يعني:أن الآية التي يقترحونها لا توجب هداية،بل اللّه هو الذي يهدي و يضل.ثم نبههم على أعظم آية و أجلها،و هي:طمأنينة قلوب المؤمنين بذكره الذي أنزله، فقال: اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللّهِ أي:بكتابه و كلامه، أَلا بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]فطمأنينة القلوب الصحيحة،و الفطرة السليمة به،و سكونها إليه:من أعظم الآيات؛إذ يستحيل في العادة:أن تطمئن القلوب و تسكن إلى الكذب و الافتراء و الباطل (1).

القرآن ذكر اللّه الأكبر

و أما الإخبار عنه بأنه أكبر من كل شيء فكقوله تعالى: اُتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَ أَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُ اللّهِ أَكْبَرُ وَ اللّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45)[العنكبوت]و فيها أربعة (2)أقوال:

أحدها:أن ذكر اللّه أكبر من كل شيء.فهو أفضل الطاعات؛لأن المقصود بالطاعات كلها:إقامة ذكره،فهو سر الطاعات و روحها.

الثاني:أن المعنى:أنكم إذا ذكرتموه ذكركم،فكان ذكره لكم أكبر من ذكركم له.فعلى هذا:المصدر مضاف إلى الفاعل،و على الأول:مضاف إلى المذكور.

الثالث:أن المعنى:و لذكر اللّه أكبر من أن يبقى معه فاحشة و منكر،بل إذا تم الذكر:

محق كل خطيئة و معصية،هذا ما ذكره المفسرون.

و سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه اللّه-يقول:معنى الآية:أن في الصلاة فائدتين عظيمتين:

إحداهما:نهيها عن الفحشاء و المنكر.

و الثانية:اشتمالها على ذكر اللّه و تضمنها له،و لما تضمنته من ذكر اللّه أعظم من نهيها عن الفحشاء (3)و المنكر (4).

ص: 402


1- مدارج السالكين(471/3،472).
2- هكذا في المطبوعة،و ذكر ثلاثة فقط.
3- و لعل في الآية معنى آخر:أن الصلاة هي أكبر الذكر.فقد قال اللّه: وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: 14].و هى أكبر و أقوى و أشد ناه عن الفحشاء و المنكر.
4- مدارج السالكين(426/2).

القرآن فضل اللّه و رحمته

قال تعالى: يا أَيُّهَا النّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ(57) قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ (58)[يونس].

قال أبو سعيد الخدري:(فضل اللّه):القرآن،و(رحمته):أن جعلكم من أهله.و قال هلال بن يساف:بالإسلام الذي هداكم إليه،و بالقرآن الذي علمكم إياه،و هو خير مما تجمعون من الذهب و الفضة،و كذلك قال:ابن عباس و الحسن و قتادة:فضله:الإسلام، و رحمته:القرآن،و قالت طائفة من السلف:فضله:القرآن،و رحمته:الإسلام (1).

باب منه و أغنانا بالفرح بفضله و رحمته-هما القرآن و الإيمان-عن الفرح بما يجمعه أهل الدنيا من المتاع،و العقار،و الأثمان،فقال تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ (58)[يونس] (2).

القرآن ذكر للعباد

أخبر تعالى عن القرآن بأنه ذكر للعالمين،و في موضع آخر تذكرة للمتقين،و في موضع آخر ذكر لرسوله صلّى اللّه عليه و سلّم و لقومه،و في موضع آخر ذكر مطلق،و في موضع آخر ذكر مبارك،و في موضع آخر وصفه بأنه ذو الذكر.

و يجمع هذه المواضع تبين المراد من كونه ذكرا عاما و خاصا،و كونه ذا ذكر،فإنه يذكر العباد بمصالحهم في معاشهم و معادهم،و يذكرهم بالمبدإ و المعاد،و يذكرهم بالرب تعالى و أسمائه و صفاته و أفعاله،و حقوقه على عباده،و يذكرهم بالخير ليقصدوه،و بالشر ليجتنبوه.

و يذكرهم بنفوسهم،و أحوالها و آفاتها،و ما تكمل به،و يذكرهم بعدوهم و ما يريد منهم، و بما ذا يحترزون من كيده،و من أي الأبواب و الطرق يأتي إليهم.و يذكرهم بفاقتهم و حاجتهم إليه،و أنهم مضطرون إليه لا يستغنون عنه نفسا واحدا.و يذكرهم بنعمه عليهم،و يدعوهم بها إلى نعم أخرى أكبر منها و يذكرهم بأسه و شدة بطشه،و انتقامه ممن عصى أمره،و كذب رسله و يذكرهم بثوابه و عقابه.

ص: 403


1- إغاثة اللهفان(31/1).
2- إغاثة اللهفان(70/2).

و لهذا يأمر-سبحانه-عباده أن يذكروا ما في كتابه،كما قال: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:63]،و إذا كان كذلك فأحق و أولى و أول من كان ذاكرا له من أنزل عليه،ثم لقومه،ثم لجميع العالمين و حيث خص به المتقين فلأنهم الذين انتفعوا بذكره (1).

القرآن تبصرة للعباد

قال تعالى عن أوليائه: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ (8)[آل عمران]،و قال تعالى: وَ لَمّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَ فِي نُسْخَتِها هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)[الأعراف]،و قال تعالى: هذا بَصائِرُ لِلنّاسِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)[الجاثية]،و قال تعالى: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَ لكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)[يوسف]،و قال تعالى: يا أَيُّهَا النّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)[يونس].

فقوله هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ عام مطلق،و قوله: وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ خاص بأهل اليقين.

و نظير ذلك قوله: يا أَيُّهَا النّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57).

و نظيره في الخصوص قوله تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ،و قوله يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ [المائدة:16].

و نظيره أيضا،قوله هذا بَيانٌ لِلنّاسِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)[آل عمران]و قد أخبر أنه هدى عام لجميع المكلفين.فقال: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ ما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى [النجم:23].

فأخبر سبحانه أن القرآن بصائر لجميع الناس،و البصائر جمع بصيرة،و هي فعلية بمعنى مفعلة،أي مبصرة لمن تبصر،و منه قوله تعالى: وَ آتَيْنا ثَمُودَ النّاقَةَ مُبْصِرَةً [الإسراء:59]أي مبينة موجبة للتبصر.و فعل الإبصار يستعمل لازما و متعديا.يقال:أبصرته،بمعنى أريته، و أبصرته،بمعنى رأيته.فمبصرة في الآية:بمعنى مرئية لا بمعنى رائية،و الذين ظنوها بمعنى رائية غلطوا في الآية،و تحيروا في معناها.

ص: 404


1- التبيان(128-129).

فإنه يقال:بصر به،و أبصره،فيعدى بالباء تارة،و الهمزة تارة.ثم يقال:أبصرته كذا، أي أريته إياه،كما يقال بصرته به،و بصر هو به.

فهاهنا بصيرة،و تبصرة،و مبصرة.فالبصيرة:التي تبصر،و التبصرة مصدر،مثل التذكرة،و سمى بها ما يوجب التبصرة،فيقال:هذا الآية تبصرة،لكونها آلة التبصر، و موجبه.

فالقرآن بصيرة و تبصرة،و هدى و شفاء،و رحمة،بمعنى عام،و بمعنى خاص.و لهذا يذكر اللّه-سبحانه-هذا و هذا،فهو هدى للعالمين،و موعظة للمتقين،و هدى للمتقين، و شفاء للعالمين،و شفاء للمؤمنين،و موعظة للعالمين،و موعظة للمتقين فهو في نفسه هدى و رحمة،و شفاء و موعظة.

فمن اهتدى به و اتعظ و اشتفى،كان بمنزلة من استعمل الدواء الذي يحصل به الشفاء فهو دواء له بالفعل،و إن لم يستعمله فهو دواء له بالقوة،و كذلك الهدى.

فالقرآن هدى بالفعل لمن اهتدى به،و بالقوة لمن لم يهتد به،فإنما يهتدي به و يرحم و يتعظ المتقون الموقنون.

و الهدى في الأصل:مصدر هدى يهدي هدى.

فمن لم يعمل بعلمه لم يكن مهتديا،كما في الأثر:«من ازداد علما و لم يزدد هدى لم يزدد من اللّه تعالى إلا بعدا»و لكن يسمى هدى،لأن من شأنه أن يهدى.

و هذا أحسن من قول من قال:إنه هدى،بمعنى هاد،فهو مصدر بمعنى الفاعل،كعدل بمعنى العادل،و زور بمعنى الزائر،و رجل صوم أي بمعنى صائم،فإن اللّه-سبحانه-قد أخبر أنه يهدى به.

فاللّه الهادي،و كتابه الهدى الذي يهدى به على لسان رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم.

فهاهنا ثلاثة أشياء:فاعل،و قابل،و آلة.فالفاعل:هو اللّه تعالى:و القابل:قلب العبد،و الآلة:هو الذي يحصل به الهدى،و هو الكتاب المنزل،و اللّه سبحانه يهدي خلقه هدى،كما يقال:دلهم دلالة،و أرشدهم إرشادا،و بين لهم بيانا (1).

محتوى خطاب القرآن

تأمل خطاب القرآن تجد ملكا له الملك كله و له الحمد كله،أزمّة الأمور كلها بيده

ص: 405


1- إغاثة اللهفان(169/2-171).

و مصدرها منه و مردها إليه،مستويا على سرير ملكه لا تخفى عليه خافية في أقطار مملكته، عالما بما في نفوس عبيده،مطلعا على أسرارهم و علانيتهم،منفردا بتدبير المملكة،يسمع و يرى،و يعطي و يمنع،و يثيب و يعاقب،و يكرم و يهين،و يخلق و يرزق،و يميت و يحيي،و يقدر و يقضي و يدبر.الأمور نازلة من عنده دقيقها و جليلها،و صاعدة إليه لا تتحرك في ذرة إلا بإذنه و لا تسقط ورقة إلا بعلمه.فتأمل كيف تجده يثني على نفسه و يمجد نفسه و يحمد نفسه و ينصح عباده و يدلهم على ما فيه سعادتهم و فلاحهم و يرغبهم فيه،و يحذرهم مما فيه هلاكهم،و يتعرف إليهم بأسمائه و صفاته و يتحبب إليهم بنعمه و آلائه.فيذكرهم بنعمه عليهم و يأمرهم بما يستوجبون به تمامها،و يحذرهم من نقمه،و يذكرهم بما أعد لهم من الكرامة إن أطاعوه،و ما أعلم لهم من العقوبة إن عصوه.و يخبرهم بصنعه في أوليائه و أعدائه و كيف كانت عاقبة هؤلاء و هؤلاء.

و يثني على أوليائه بصالح أعمالهم و أحسن أوصافهم،و يذم أعداءه بسيئ أعمالهم و قبيح صفاتهم.و يضرب الأمثال و ينوع الأدلة و البراهين،و يجيب عن شبه أعدائه أحسن الأجوبة،و يصدق الصادق و يكذب الكاذب،و يقول الحق و يهدي السبيل.و يدعو إلى دار السلام،و يذكر أوصافها و حسنها و نعيمها،و يحذر من دار البوار و يذكر عذابها و قبحها و آلامها،و يذكّر عباده فقرهم إليه و شدة حاجتهم إليه من كل وجه و أنهم لا غنى لهم عنه طرفة عين،و يذكر غناه عنهم و عن جميع الموجودات،و أنه الغنى بنفسه عن كل ما سواه، و كل ما سواه فقير إليه بنفسه و أنه لا ينال أحد ذرة من الخير فما فوقها إلا بفضله و رحمته، و لا ذرة من الشر فما فوقها إلا بعدله و حكمته.و يشهد من خطابه عتابه لأحبابه ألطف عتاب،و أنه مع ذلك مقيل عثراتهم و غافر زلاتهم و مقيم أعذارهم و مصلح فسادهم و الدافع عنهم،و المحامي عنهم،و الناصر لهم،و الكفيل بمصالحهم،و المنجي لهم من كل كرب، و الموفي لهم بوعده.و أنه وليهم الذي لا ولي لهم سواه فهو مولاهم الحق و نصيرهم على عدوهم،فنعم المولى و نعم النصير.

فإذا شهدت القلوب من القرآن ملكا عظيما رحيما جوادا جميلا،هذا شأنه،فكيف لا تحبه و تنافس في القرب منه و تنفق أنفاسها في التودد إليه و يكون أحب إليها من كل ما سواه، و رضاه آثر عندها من رضا كل ما سواه؟و كيف لا تلهج بذكره و يصير حبه و الشوق إليه و الأنس به هو غذاؤها و قوتها و دواؤها بحيث إن فقدت ذلك فسدت و هلكت و لم تنتفع بحياتها؟ (1).).

ص: 406


1- الفوائد(30).

فضل قارئ القرآن

ثبت في الصحيح عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أنه قال:«مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب،و ريحها طيب» (1).

في الأترج منافع كثيرة،و هو مركب من أربعة أشياء:قشر،و لحم،و حمض،و بزر، و لكل واحد منها مزاج يخصه؛فقشره حار يابس،و لحمه حار رطب،و حمضه بارد يابس، و بزره حار يابس.

و من منافع قشره:أنه إذا جعل في الثياب منع السوس،و رائحته تصلح فساد الهواء و الوباء،و يطيب النكهة إذا أمسكه في الفم،و يحلل الرياح.و إذا جعل في الطعام كالأبازير أعان على الهضم،قال صاحب«القانون»:و عصارة قشره تنفع من نهش الأفاعي شربا، و قشره ضمادا،و حراقة قشره طلاء جيد للبرص.انتهى.

و أما لحمه:فملطف لحرارة المعدة،نافع لأصحاب المرة الصفراء،قامع للبخارات الحارة.و قال الغافقي:أكل لحمه ينفع البواسير.انتهى.

و أما حمضه:فقابض كاسر للصفراء،و مسكن للخفقان الحار،نافع من اليرقان شربا و اكتحالا،قاطع للقيء الصفراوي،مشه للطعام،عاقل للطبيعة،نافع من الإسهال الصفراوي،و عصارة حمضه يسكن غلمة النساء،و ينفع طلاء من الكلف،و يذهب بالقوباء (2)و يستدل على ذلك من فعله في الحبر إذا وقع في الثياب قلعه،و له قوة تلطف و تقطع،و تبرد،و تطفئ حرارة الكبد،و تقوي المعدة،و تمنع حدة المرة الصفراء،و تزيل الغم العارض منها،و تسكن العطش.

و أما بزره:فله قوة محللة مجففة.و قال ابن ماسويه (3):خاصية حبه النفع من السموم القاتلة إذا شرب منه وزن مثقال مقشرا بماء فاتر،و طلاء مطبوخ.

و إن دق و وضع على موضع اللسعة نفع،و هو ملين للطبيعة،مطيب للنكهة،و أكثر هذا

ص: 407


1- البخاري(5020)في فضائل القرآن،باب فضل القرآن على سائر الكلام،و مسلم(243/797)في صلاة المسافرين و قصرها،باب:فضيلة حافظ القرآن.
2- القوباء:داء في الجسد يتقشر منه الجلد،و يعرف عند العامة بالحزاز.
3- هو يوحنا بن ماسويه البغدادي،طبيب سرياني،نشأ في بغداد،و اتصل بهارون الرشيد،و عهد إليه بترجمة الكتب الطبية،و كان طبيب البلاط العباسي من أيام الرشيد حتى المتوكل،توفي بسامراء(243) ه،تاريخ الحكماء(380-391)للقفطي.

الفعل موجود في قشره،و قال غيره:خاصية حبه النفع من لسعات العقارب إذا شرب منه وزن مثقالين مقشرا بماء فاتر،و كذلك إذا دق و وضع على موضع اللدغة.و قال غيره:حبه يصلح للسموم كلها،و هو نافع من لدغ الهوام كلها.

و ذكر أن بعض الأكاسرة غضب على قوم من الأطباء،فأمر بحبسهم،و خيرهم أدما لا يزيد لهم عليه،فاختاروا الأترج،فقيل لهم:لم اخترتموه على غيره؟فقالوا:لأنه في العاجل ريحان،و منظره مفرح،و قشره طيب الرائحة،و لحمه فاكهة،و حمضه أدم،و حبه ترياق،و فيه دهن.

و حقيق بشيء هذه منافعه أن يشبه به خلاصة الوجود،و هو المؤمن الذي يقرأ القرآن، و كان بعض السلف يحب النظر إليه لما في منظره من التفريح (1).

النهي عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو

إنه صلّى اللّه عليه و سلّم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو (2)،فإنه ذريعة إلى أن تناله أيديهم (3).

القرآن متضمن لأدوية القلب،و علاجه من جميع أمراضه

قال اللّه عز و جلّ: يا أَيُّهَا النّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ [يونس:57] و قال تعالى: وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82].

و قد تقدم أن جماع أمراض القلب هي أمراض الشبهات و الشهوات.و القرآن شفاء للنوعين،ففيه من البينات و البراهين القطعية ما يبين الحق من الباطل،فتزول أمراض الشبه المفسدة للعلم و التصور و الإدراك،بحيث يرى الأشياء على ما هي عليه.

و ليس تحت أديم السماء كتاب متضمن للبراهين و الآيات على المطالب العالية:من التوحيد،و إثبات الصفات،و إثبات المعاد و النبوات،ورد النحل الباطلة و الآراء الفاسدة، مثل القرآن.فإنه كفيل بذلك كله،متضمن له على أتم الوجوه و أحسنها،و أقربها إلى العقول و أفصحها بيانا.

فهو الشفاء على الحقيقة من أدواء الشبه و الشكوك،و لكن ذلك موقوف على فهمه

ص: 408


1- زاد المعاد(283/4-285).
2- البخاري(2990)في الجهاد،باب:كراهية السفر بالمصاحف إلى أرض العدو،و مسلم(1869)في الإمارة،باب:النهي أن يسافر بالمصحف إلى أرض الكفار...إلخ.
3- إعلام الموقعين(201/3).

و معرفة المراد منه.فمن رزقه اللّه تعالى ذلك أبصر الحق و الباطل عيانا بقلبه،كما يرى الليل و النهار،و علم أن ما عداه من كتب الناس و آرائهم و معقولاتهم:بين علوم لا ثقة بها،و إنما هي آراء و تقليد،و بين ظنون كاذبة لا تغني عن الحق شيئا،و بين أمر صحيحة لا منفعة للقلب فيها؛و بين علوم صحيحة قد و عروا الطريق إلى تحصيلها،و أطالوا الكلام في إثباتها،و مع قلة نفعها.فهي:«لحم جمل غث على رأس جبل وعر ،لا سهل فيرتقى،و لا سمين فينتقل» (1).

و أحسن ما عند المتكلمين و غيرهم فهو في القرآن أصح تقريرا و أحسن تفسيرا،فليس عندهم إلا التكليف و التطويل و التعقيد،كما قيل:

لو لا التنافس في الدنيا لما وضعت كتب التناظر،لا المغني و لا العمد

يحللون بزعم منهم عقدا و بالذي وضعوه زادت العقد

فهم يزعمون أنهم يدفعون بالذي وضعوه الشبه و الشكوك،و الفاضل الذكي يعلم أن الشبه و الشكوك زادت بذلك،و من المحال ألا يحصل الشفاء و الهدى؛و العلم و اليقين من كتاب اللّه تعالى و كلام رسوله،و يحصل من كلام هؤلاء المتحيرين المتشككين الشاكين، الذين أخبر الواقف على نهايات إقدامهم بما انتهى إليه من مرامهم،حيث يقول:

نهاية إقدام العقول عقال و أكثر سعي العالمين ضلال

و أرواحنا في وحشة من جسومنا و حاصل دنيانا أذى و وبال

و لم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل و قالوا

لقد تأملت الطرق الكلامية،و المناهج الفلسفية،فما رأيتها تشفي عليلا،و لا تروي غليلا.و رأيت أقرب الطرق طريقة القرآن،أقرأ في الإثبات: اَلرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5)[طه]، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10]،و أقرأ في النفي:

لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110)[طه:110].و من جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي،فهذا إنشاده و ألفاظه في آخر كتبه.و هو أفضل أهل زمانه على الإطلاق في علم الكلام و الفلسفة،و كلام أمثاله في مثل ذلك كثير جدا،قد ذكرنا في كتاب«الصواعق»و غيره.ل.

ص: 409


1- من وصف المرأة الأولى لزوجها في حديث أم زرع الذي رواه البخاري(5189)في النكاح،باب: حسن المعاشرة مع الأهل.

و ذكرنا قول بعض العارفين بكلام هؤلاء:آخر أمر المتكلمين الشك،و آخر أمر المتصوفين الشطح.و القرآن يوصلك إلى نفس اليقين في هذه المطالب التي هي أعلى مطالب العباد،و لذلك أنزله من تكلم به،و جعله شفاء لما في الصدور،و هدى و رحمة للمؤمنين.

و أما شفاؤه لمرض الشهوات فذلك بما فيه من الحكمة و الموعظة الحسنة بالترغيب و الترهيب،و التزهيد في الدنيا،و الترغيب في الآخرة،و الأمثال و القصص التي فيها أنواع العبر و الاستبصار،فيرغب القلب السليم إذا أبصر ذلك فيما ينفعه في معاشه و معاده، و يرغب عما يضره،فيصير القلب محبا للرشد،مبغضا للغي،فالقرآن مزيل للأمراض الموجهة للإرادات الفاسدة،فيصلح القلب،فتصلح إرادته،و يعود إلى فطرته التي فطر عليها،فتصلح أفعاله الاختيارية الكسبية،كما يعود البدن بصحته و صلاحه إلى الحال الطبيعي،فيصير بحيث لا يقبل إلا الحق،كما أن الطفل لا يقبل إلا اللبن.

و عاد الفتى كالطفل ليس بقابل سوى المحض شيئا و استراحت عواذله (1).

فيتغذى القلب من الإيمان و القرآن بما يزكيه و يقويه،و يؤيده،و يسره و ينشطه،و يثبت ملكه،كما يتغذى البدن بما ينميه و يقويه.و كل من القلب و البدن محتاج إلى أن يتربى فينمو و يزيد،حتى يكمل و يصلح،فكما أن البدن محتاج إلى أن يزكو بالأغذية المصلحة له و الحمية عما يضره،فلا ينمو إلا بإعطائه ما ينفعه،و منع ما يضره فكذلك القلب لا يزكو و لا ينمو،و لا يتم صلاحه إلا بذلك،و لا سبيل له إلى الوصول إلى ذلك إلا من القرآن،و إن وصل إلى شيء منه من غيره فهو نزر يسير،لا يحصل له به تمام المقصود،و كذلك الزرع لا يتم إلا بهذين الأمرين،فحينئذ يقال:زكا الزرع و كمل (2).

الآيات و السور التي يعتصم بها العبد من الشيطان

و يستدفع بها شره و يحترز بها منه

و ذلك عشرة أسباب:

أحدها:الاستعاذة باللّه من الشيطان،قال تعالى: وَ إِمّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)[فصلت]،و في موضع آخر إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف:

200]و قد تقدم أن السمع المراد به هاهنا سمع الإجابة لا مجرد السمع العام.و تأمل سر

ص: 410


1- المحض:اللبن الخالص.
2- إغاثة اللهفان(44/1-46).

القرآن كيف أكد الوصف بالسميع العليم بذكر صيغة«هو»الدال على تأكيد النسبة و اختصاصها،و عرف الوصف بالألف و اللام في سورة«حم»؛لاقتضاء المقام لهذا التأكيد، و تركه في سورة الأعراف؛لاستغناء المقام عنه.

فإن الأمر بالاستعاذة في سورة«حم»وقع بعد الأمر بأشق الأشياء على النفس و هو مقابلة إساءة المسيء بالإحسان إليه،و هذا أمر لا يقدر عليه إلا الصابرون،و لا يلقاه إلا ذو حظ عظيم كما قال اللّه تعالى،و الشيطان لا يدع العبد يفعل هذا بل يريه أن هذا ذل و عجز و يسلط عليه عدوه فيدعوه إلى الانتقام و يزينه له فإن عجز عنه دعاه إلى الإعراض عنه،و ألا يسيء إليه،و لا يحسن فلا يؤثر الإحسان إلى المسيء إلا من خالفه و آثر اللّه و ما عنده على حظ العاجل فكان المقام مقام تأكيد و تحريض فقال فيه: وَ إِمّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)[فصلت]،و أما في سورة الأعراف،فإنه أمره أن يعرض عن الجاهلين،و ليس فيها الأمر بمقابلة إساءتهم بالإحسان،بل بالإعراض و هذا سهل على النفوس غير مستعص عليها،فليس حرص الشيطان و سعيه في دفع هذا كحرصه على دفع المقابلة بالإحسان فقال: وَ إِمّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)[الأعراف]،و قد تقدم ذكر الفرق بين هذين الموضعين،و بين قوله في«حم» المؤمن فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [غافر:56]،و في صحيح البخاري عن عدي بن ثابت،عن سليمان بن صرد قال:كنت جالسا مع النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و رجلان يستبان:

فأحدهما احمر وجهه،و انتفخت أوداجه،فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد،لو قال:أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم ذهب عنه ما يجد» (1).

الحرز الثاني:قراءة هاتين السورتين؛فإن لهما تأثيرا عجيبا في الاستعاذة باللّه من شره و دفعه و التحصن منه؛و لهذا قال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«ما تعوذ المتعوذون بمثلهما» (2)،و قد تقدم أنه كان يتعوذ بهما كل ليلة عند النوم و أمر عقبة أن يقرأ بهما دبر كل صلاة،و تقدم قوله صلّى اللّه عليه و سلّم:

«إن من قرأهما مع سورة الإخلاص ثلاثا حين يمسي و ثلاثا حين يصبح كفته من كل شيء» (3).».

ص: 411


1- البخاري(6115)في الأدب،باب:الحذر من الغضب.
2- أبو داود(1463)في الصلاة،باب:في المعوذتين،و النسائي(5431)في الاستعاذة.
3- أبو داود(5082)في الأدب،باب:ما يقول إذا أصبح،و الترمذي(3575)في الدعوات،باب: (117)،و قال:«حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه».

الحرز الثالث:قراءة آية الكرسي،ففي الصحيح من حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال:وكلني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بحفظ زكاة رمضان فأتى آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته فقلت:لأرفعنك إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،فذكر الحديث فقال:إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي،فإنه لن يزال عليك من اللّه حافظ،و لا يقربك شيطان حتى تصبح.فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:

«صدقك و هو كذوب،ذاك الشيطان» (1)،و سنذكر-إن شاء اللّه-السر الذي لأجله كان لهذه الآية العظيمة هذا التأثير العظيم في التحرز من الشيطان،و اعتصام قارئها بها في كلام مفرد عليها و على أسرارها و كنوزها بعون اللّه و تأييده.

الحرز الرابع:قراءة سورة البقرة،ففي الصحيح من حديث سهل عن عبد اللّه عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«لا تجعلوا بيوتكم قبورا،و إن البيت الذي تقرأ فيه البقرة لا يدخله الشيطان» (2).

الحرز الخامس:خاتمة سورة البقرة،فقد ثبت في الصحيح من حديث أبي موسى الأنصاري قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه» (3)، و في الترمذي عن النعمان بن بشير عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«إن اللّه كتب كتابا قبل أن يخلق الخلق بألفي عام،أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة فلا يقرءان في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان» (4).

الحرز السادس:أول سورة حم المؤمن،إلى قوله: إِلَيْهِ الْمَصِيرُ مع آية الكرسي، ففي الترمذي من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر عن ابن أبي مليكة عن زرارة بن مصعب، عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«من قرأ حم المؤمن،إلى إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ،و آية الكرسي حين يصبح،حفظ بهما حتى يمسي،و من قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح» (5)،و عبد الرحمن المليكي و إن كان قد تكلم فيه من قبل حفظه،فالحديث له شواهد في قراءة آية الكرسي،و هو محتمل على غرابته (6).).

ص: 412


1- البخاري(2311)في الوكالة،باب:إذا وكل رجلا فترك الموكل شيئا فهو جائز.
2- مسلم(212/780)في صلاة المسافرين و قصرها،باب:استحباب صلاة النافلة في بيته و جوازها في المسجد.
3- البخاري(5009)في فضائل القرآن،باب:فضل سورة البقرة،عن أبي مسعود.
4- الترمذي(2882)في فضائل القرآن،باب:ما جاء في آخر سورة البقرة،و قال:«حسن غريب».
5- الترمذي(2879)في فضائل القرآن،باب:ما جاء في فضل سورة البقرة و آية الكرسي،و قال: «غريب»،و ضعفه الألباني.
6- بدائع القوائد(267/2-269).

باب:منه ليس لشفاء القلوب دواء قط أنفع من القرآن؛فإنه شفاؤها التام الكامل الذي لا يغادر فيها سقما إلا أبرأه،و يحفظ عليها صحتها المطلقة،و يحميها الحمية التامة من كل مؤذ و مضر،و مع هذا فإعراض أكثر القلوب عنه،و عدم اعتقادها الجازم الذي لا ريب فيه أنه كذلك،و عدم استعماله و العدول عنه إلى الأدوية التي ركبها بنو جنسها حال بينها و بين الشفاء به،و غلبت العوائد و اشتد الإعراض،و تمكنت العلل و الأدواء المزمنة من القلوب، و تربى المرضى و الأطباء على علاج بني جنسهم و ما وضعه لهم شيوخهم،و من يعظمونه و يحسنون به ظنونهم،فعظم المصاب و استحكم الداء،و تركبت أمراض و علل أعياهم علاجها،و كلما عالجوها بتلك العلاجات الحادثة تفاقم أمرها،و قويت،و لسان الحال ينادي عليهم:

و من العجائب و العجائب جمة قرب الشفاء و ما إليه وصول

كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ و الماء فوق ظهورها محمول (1)

العلاج بالقرآن

و رأى جماعة من السلف أن تكتب له الآيات من القرآن،ثم يشربها.قال مجاهد:لا بأس أن يكتب القرآن،و يغسله،و يسقيه المريض،و مثله عن أبي قلابة.و يذكر عن ابن عباس:أنه أمر أن يكتب لامرأة تعسر عليها ولادها أثر من القرآن ثم يغسل و تسقى.و قال أيوب:رأيت أبا قلابة كتب كتابا من القرآن،ثم غسله بماء،و سقاه رجلا كان به وجع (2).

هديه صلّى اللّه عليه و سلّم في رقية اللديغ بالفاتحة

أخرجا في«الصحيحين»من حديث أبي سعيد الخدري،قال:انطلق نفر من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و سلّم في سفرة سافروها حتى نزلوا على حي من أحياء العرب،فاستضافوهم،فأبوا أن يضيفوهم،فلدغ سيد ذلك الحي،فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء،فقال بعضهم:لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعلهم أن يكون عند بعضهم شيء،فأتوهم،فقالوا:يا أيها الرهط إن سيدنا لدغ،و سعينا له بكل شيء لا ينفعه،فهل عند أحد منكم من شيء؟فقال بعضهم:

ص: 413


1- زاد المعاد(101/4).
2- زاد المعاد(170/4).

نعم و اللّه و إني لأرقي،و لكن استضفناكم،فلم تضيفونا،فما أنا براق حتى تجعلوا لنا جعلا، فصالحوهم على قطيع من الغنم فانطلق يتفل عليه،و يقرأ:الحمد للّه رب العالمين،فكأنما أنشط من عقال،فانطلق يمشي و ما به قلبة،قال:فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم:اقتسموا،فقال الذي رقى:لا تفعلوا حتى نأتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فنذكر له الذي كان،فننظر ما يأمرنا،فقدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،فذكروا له ذلك،فقال:«و ما يدريك أنها رقية؟»،ثم قال:«قد أصبتم،اقسموا و اضربوا لي معكم سهما» (1).

و قد روى ابن ماجة في«سننه»من حديث علي قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«خير الدواء القرآن» (2).

و من المعلوم أن بعض الكلام له خواص و منافع مجربة،فما الظن بكلام رب العالمين، الذي فضله على كل كلام كفضل اللّه على خلقه الذي هو الشفاء التام،و العصمة النافعة، و النور الهادي،و الرحمة العامة،الذي لو أنزل على جبل لتصدع من عظمته و جلالته.قال تعالى: وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82]«و من» هاهنا لبيان الجنس لا للتبعيض»هذا أصح القولين كقوله تعالى: وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً [الفتح:29]،و كلهم من الذين آمنوا و عملوا الصالحات.فما الظن بفاتحة الكتاب التي لم ينزل في القرآن،و لا في التوراة،و لا في الإنجيل،و لا في الزبور مثلها،المتضمنة لجميع معاني كتب اللّه،المشتملة على ذكر أصول أسماء الرب-تعالى- و مجامعها،و هي:اللّه،و الرب،و الرحمن،و إثبات المعاد،و ذكر التوحيدين:توحيد الربوبية،و توحيد الإلهية،و ذكر الافتقار إلى الرب-سبحانه-في طلب الإعانة و طلب الهداية،و تخصيصه-سبحانه-بذلك،و ذكر أفضل الدعاء على الإطلاق و أنفعه و أفرضه، و ما العباد أحوج شيء إليه،و هو الهداية إلى صراطه المستقيم،المتضمن كمال معرفته و توحيده و عبادته بفعل ما أمر به،و اجتناب ما نهى عنه،و الاستقامة عليه إلى الممات، و يتضمن ذكر أصناف الخلائق و انقسامهم إلى:منعم عليه بمعرفة الحق و العمل به و محبته و إيثاره،و مغضوب عليه بعدوله عن الحق بعد معرفته له،و ضال بعدم معرفته له.و هؤلاء».

ص: 414


1- البخاري(5749)في الطب،باب النفث في الرقية،و مسلم(65/2201)في السلام،باب:جواز أخذ الأجر على الرقية بالقرآن و الأذكار.
2- ابن ماجة(3501)في الطب،باب:الاستشفاء بالقرآن،و في الزوائد:«في إسناد الحارث الأعور، و هو ضعيف».

أقسام الخليقة مع تضمنها لإثبات القدر،و الشرع،و الأسماء،و الصفات،و المعاد، و النبوات،و تزكية النفوس،و إصلاح القلوب،و ذكر عدل اللّه و إحسانه،و الرد على جميع أهل البدع و الباطل،كما ذكرنا ذلك في كتابنا الكبير«مدارج السالكين»في شرحها.و حقيق بسورة هذا بعض شأنها،أن يستشفي بها من الأدواء،و يرقى بها اللديغ.

و بالجملة،فما تضمنته الفاتحة من إخلاص العبودية و الثناء على اللّه،و تفويض الأمر كله إليه،و الاستعانة به،و التوكل عليه،و سؤاله مجامع النعم كلها،و هي الهداية التي تجلب النعم،و تدفع النقم،من أعظم الأدوية الشافية الكافية.

و قد قيل:إن موضع الرقية منها: إِيّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ (5)[الفاتحة]،و لا ريب أن هاتين الكلمتين من أقوى أجزاء هذا الدواء،فإن فيهما من عموم التفويض و التوكل، و الالتجاء و الاستعانة،و الافتقار و الطلب،و الجمع بين أعلى الغايات،و هي عبادة الرب وحده،و أشرف الوسائل و هى الاستعانة به على عبادته ما ليس في غيرها،و لقد مر بي وقت بمكة سقمت فيه،و فقدت الطبيب و الدواء،فكنت أتعالج بها،آخذ شربة من ماء زمزم، و أقرؤها عليه مرارا،ثم أشربه،فوجدت بذلك البرء التام،ثم صرت أعتمد ذلك عند كثير من الأوجاع،فانتفع بها غاية الانتفاع.

و في تأثير الرقى بالفاتحة و غيرها في علاج ذوات السموم سر بديع،فإن ذوات السموم أثرت بكيفيات نفوسها الخبيثة و سلاحها حماتها التي تلدغ بها،و هي لا تلدغ حتى تغضب، فإذا غضبت،ثار فيها السم،فتقذفه بآلتها،و قد جعل اللّه-سبحانه-لكل داء دواء،و لكل شيء ضدا،و نفس الراقي تفعل في نفس المرقى،فيقع بين نفسيهما فعل و انفعال،كما يقع بين الداء و الدواء،فتقوى نفس الراقي و قوته بالرقية على ذلك الداء،فيدفعه بإذن اللّه،و مدار تأثير الأدوية و الأدواء على الفاعل و الانفعال،و هو كما يقع بين الداء و الدواء الطبيعيين،يقع بين الداء و الدواء الروحانيين،و الروحاني،و الطبيعي،و في النفث و التفل استعانة بتلك الرطوبة و الهواء،و النفس المباشر للرقية،و الذكر و الدعاء،فإن الرقية تخرج من قلب الراقي و فمه، فإذا صاحبها شيء من أجزاء باطنه من الريق و الهواء و النفس كانت أتم تأثيرا،و أقوى فعلا و نفوذا،و يحصل بالازدواج بينهما كيفية مؤثرة شبيهة بالكيفية الحادثة عند تركيب الأدوية.

و بالجملة:فنفس الراقي تقابل تلك النفوس الخبيثة،و تزيد بكيفية نفسه،و تستعين بالرقية و بالنفث على إزالة ذلك الأثر،و كلما كانت كيفية نفس الراقي أقوى،كانت الرقية أتم، و استعانته بنفثه كاستعانة تلك النفوس الرديئة بلسعها.

ص: 415

و في النفث سر آخر،فإنه مما تستعين به الأرواح الطيبة و الخبيثة،و لهذا تفعله السحرة كما يفعله أهل الإيمان.قال تعالى: وَ مِنْ شَرِّ النَّفّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4)[الفلق]؛و ذلك لأن النفس تتكيف بكيفية الغضب و المحاربة،و ترسل أنفاسها سهاما لها،و تمدها بالنفث و التفل الذي معه شيء من الريق مصاحب لكيفية مؤثرة،و السواحر تستعين بالنفث استعانة بينة،و إن لم تتصل بجسم المسحور،بل تنفث على العقدة و تعقدها،و تتكلم بالسحر،فيعمل ذلك في المسحور بتوسط الأرواح السفلية الخبيثة،فتقابلها الروح الزكية الطيبة بكيفية الدفع و التكلم بالرقية،و تستعين بالنفث،فأيهما قوي كان الحكم له،و مقابلة الأرواح بعضها لبعض،و محاربتها و آليتها من جنس مقابلة الأجسام،و محاربتها و آلتها سواء،بل الأصل في المحاربة و التقابل للأرواح و الأجسام آلتها و جندها،و لكن من غلب عليه الحس لا يشعر بتأثيرات الأرواح و أفعالها و انفعالاتها لاستيلاء سلطان الحس عليه،و بعده من عالم الأرواح،و أحكامها،و أفعالها.

و المقصود أن الروح إذا كانت قوية و تكيفت بمعاني الفاتحة،و استعانت بالنفث و التفل، قابلت ذلك الأثر الذي حصل من النفوس الخبيثة،فأزالته،و اللّه أعلم (1).

هديه صلّى اللّه عليه و سلّم في علاج لدغة العقرب بالرقية

روى ابن أبي شيبة في«مسنده»،من حديث عبد اللّه بن مسعود،قال:بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يصلي،إذ سجد فلدغته عقرب في إصبعه،فانصرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و قال:«لعن اللّه العقرب ما تدع نبيا و لا غيره»،قال:ثم دعا بإناء فيه ماء و ملح،فجعل يضع موضع اللدغة في الماء و الملح،و يقرأ قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ (1)،و المعوذتين حتى سكنت (2).

ففي هذا الحديث العلاج بالدواء المركب من الأمرين:الطبيعي و الإلهي،فإن في سورة الإخلاص من كمال التوحيد العلمي الاعتقادي،و إثبات الأحدية للّه،المستلزمة نفي كل شركة عنه،و إثبات الصمدية المستلزمة لإثبات كل كمال له مع كون الخلائق تصمد إليه في حوائجها،أي تقصده الخليقة،و تتوجه إليه،علويها و سفليها،و نفي الوالد و الولد و الكفء عنه،المتضمن لنفي الأصل و الفرع و النظير،و الماثل مما اختصت به و صارت تعدل ثلث

ص: 416


1- زاد المعاد(176/4-180).
2- الأحكام النبوية في الصناعة الطبية للكحال(65/1)،و بلفظ قريب السلسلة الصحيحة للألباني رقم (547).

القرآن،ففي اسمه الصمد إثبات كل الكمال،و في نفي الكفء التنزيه عن الشبيه و المثال.

و في الأحد نفي كل شريك لذي الجلال،و هذه الأصول الثلاثة هي مجامع التوحيد.

و في المعوذتين الاستعاذة من كل مكروه جملة و تفصيلا فإن الاستعاذة من شر ما خلق تعم كل شر يستعاذ منه،سواء كان في الأجسام أو الأرواح،و الاستعاذة من شر الغاسق، و هو الليل،و آيته و هو القمر إذا غاب،تتضمن الاستعاذة من شر ما ينتشر فيه من الأرواح الخبيثة التي كان نور النهار يحول بينها و بين الانتشار،فلما أظلم الليل عليها و غاب القمر، انتشرت و عاثت.

و الاستعاذة من شر النفاثات في العقد تتضمن الاستعاذة من شر السواحر و سحرهن.

و الاستعاذة من شر الحاسد تتضمن الاستعاذة من النفوس الخبيثة المؤذية بحسدها نظرها.

و السورة الثانية:تتضمن الاستعاذة من شر شياطين الإنس و الجن،فقد جمعت السورتان الاستعاذة من كل شر،و لهما شأن عظيم في الاحتراس و التحصن من الشرور قبل وقوعها؛ و لهذا أوصى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم عقبة بن عامر بقراءتهما عقب كل صلاة،ذكره الترمذي في «جامعه» (1)و في هذا سر عظيم في استدفاع الشرور من الصلاة إلى الصلاة.

و قال:«ما تعوذ المتعوذون بمثلهما» (2).و قد ذكر أنه صلّى اللّه عليه و سلّم سحر في إحدى عشرة عقدة، و أن جبريل نزل عليه بهما،فجعل كلما قرأ آية منهما انحلت عقدة،حتى انحلت العقد كلها،و كأنما أنشط من عقال.

و أما العلاج الطبيعي فيه،فإن في الملح نفعا لكثير من السموم،و لا سيما لدغة العقرب، قال صاحب«القانون»:يضمد به مع بزر الكتان للسع العقرب،و ذكره غيره أيضا.و في الملح من القوة الجاذبة المحللة ما يجذب السموم و يحللها،و لما كان في لسعها قوة نارية تحتاج إلى تبريد و جذب و إخراج جمع بين الماء المبرد لنار اللسعة،و الملح الذي فيه جذب و إخراج،و هذا أتم ما يكون من العلاج و أيسره و أسهله،و فيه تنبيه على أن علاج هذا الداء بالتبريد و الجذب و الإخراج،و اللّه أعلم.

و قد روى مسلم في«صحيحه»عن أبي هريرة قال:جاء رجل إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فقال:

يا رسول اللّه،ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة فقال:«أما لو قلت حين أمسيت:أعوذ).

ص: 417


1- الترمذي(2903)في فضائل القرآن،باب:ما جاء في المعوذتين،و قال:«حسن غريب».
2- النسائى(5429)في الاستعاذة،باب:(1).

بكلمات اللّه التامات من شر ما خلق،لم تضرك» (1).

و اعلم أن الأدوية الطبيعية الإلهية تنفع من الداء بعد حصوله،و تمنع من وقوعه،و إن وقع لم يقع وقوعا مضرا،و إن كان مؤذيا.و الأدوية الطبيعية إنما تنفع بعد حصول الداء، فالتعوذات و الأذكار،أما أن تمنع وقوع هذه الأسباب،و إما أن تحول بينها و بين كمال تأثيرها بحسب كمال التعوذ و قوته و ضعفه،فالرقى و العوذ تستعمل لحفظ الصحة،و لإزالة المرض.

أما الأول:فكما في«الصحيحين»من حديث عائشة كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ (1)و المعوذتين،ثم يمسح بهما وجهه،و ما بلغت يده من جسده (2).

و كما في حديث عوذة أبي الدرداء المرفوع:«اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت عليك توكلت و أنت رب العرش العظيم»،و فيه:«من قالها أول نهاره لم تصبه مصيبة حتى يسمي، و من قالها آخر نهاره لم تصبه مصيبة حتى يصبح» (3).

و كما في«الصحيحين»:«من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه» (4).و كما في«صحيح مسلم»عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«من نزل منزلا فقال:أعوذ بكلمات اللّه التامات من شر ما خلق،لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك» (5).

و كما في«سنن أبي داود»أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كان في السفر يقول بالليل:«يا أرض،ربي و ربك اللّه،أعوذ باللّه من شرك و شر ما فيك،و شر ما يدب عليك،أعوذ باللّه من أسد و أسود،و من الحية و العقرب،و من ساكن البلد،و من والد و ما ولد» (6).

و أما الثاني:فكما تقدم من الرقية بالفاتحة،و الرقية للعقرب و غيرها.ل.

ص: 418


1- مسلم(55/2709)في الذكر و الدعاء،باب:في التعوذ من سوء القضاء و درك الشقاء و غيره.
2- البخاري(6319)في الدعوات،باب:التعوذ و القراءة عند المنام،و مسلم(50/2192)في السلام، باب:رقية المريض بالمعوذات و النفث.
3- انظر:الأذكار للنووي ص(108،109)رقم(221)،و عزاء لابن السني.
4- البخاري(5009)في فضائل القرآن،باب:فضل سورة البقرة،و مسلم(256/808)في صلاة المسافرين و قصرها،باب:فضل الفاتحة و خواتيم سورة البقرة.
5- مسلم(54/2708)في الذكر و الدعاء و التوبة و الاستغفار،باب:في التعوذ من سوء القضاء و درك الشقاء و غيره.
6- أبو داود(2603)في الجهاد،باب:ما يقول الرجل إذا نزل المنزل.

فضل سورة الفاتحة

هي فاتحة الكتاب،و أم القرآن،و السبع المثاني و الشفاء التام و الدواء النافع،و الرقية التامة،و مفتاح الغني و الفلاح،و حافظة القوة،و دافعة الهم و الغم و الخوف و الحزن لمن عرف مقدارها،و أعطاها حقها،و أحسن تنزيلها على دائه،و عرف وجه الاستشفاء و التداوي بها،و السر الذي لأجله كانت.

و لما وقع بعض الصحابة على ذلك،رقى بها اللديغ،فبرأ لوقته،فقال له النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:

«و ما أدراك أنها رقية؟» (1).

و من ساعده التوفيق،و أعين بنور البصيرة حتى وقف على أسرار هذه السورة،و ما اشتملت عليه من التوحيد،و معرفة الذات و الأسماء و الصفات و الأفعال،و إثبات الشرع و القدر و المعاد،و تجريد توحيد الربوبية و الإلهية،و كمال التوكل و التفويض إلى من له الأمر كله،و له الحمد كله،و بيده الخير كله،و إليه يرجع الأمر كله،و الافتقار إليه في طلب الهداية التي هي أصل سعادة الدارين،و علم ارتباط معانيها بجلب مصالحها،و دفع مفاسدها،و أن العافية المطلقة التامة،و النعمة الكاملة منوطة بها،موقوفة على التحقيق بها أغنته عن كثير من الأدوية و الرقى،و استفتح بها من الخير أبوابه،و دفع بها من الشر أسبابه.

و هذا أمر يحتاج استحداث فطرة أخرى،و عقل آخر،و إيمان آخر،و تاللّه لا يجد مقالة فاسدة،و لا بدعة باطلة إلا و فاتحة الكتاب متضمنة لردها و إبطالها بأقرب الطرق،و أصحها و أوضحها،و لا تجد بابا من أبواب المعارف الإلهية،و أعمال القلوب و أدويتها من عللها و أسقامها إلا و في فاتحة الكتاب مفتاحه و موضع الدلالة عليه،و لا منزلا من منازل السائرين إلى رب العالمين إلا و بدايته و نهايته فيها.

و لعمر اللّه إن شأنها لأعظم من ذلك،و هي فوق ذلك،و ما تحقق عبد بها،و اعتصم بها،و عقل عمن تكلم بها،و أنزلها شفاء تاما،و عصمة بالغة،و نورا مبينا،و فهمها و فهم لوازمها كما ينبغي و وقع في بدعة و لا شرك،و لا أصابه مرض من أمراض القلوب إلا

ص: 419


1- سبق تخريجه ص(414).

لماما،غير مستقر.

هذا،و إنها المفتاح الأعظم لكنوز الأرض،كما أنها المفتاح لكنوز الجنة،و لكن ليس كل واحد يحسن الفتح بهذا المفتاح،و لو أن طلاب الكنوز وقفوا على سر هذه السورة، و تحققوا بمعانيها،و ركبوا لهذا المفتاح أسنانا،و أحسنوا الفتح به،لوصلوا إلى تناول الكنوز من غير معاوق،و لا ممانع.

و لم نقل هذا مجازفة و لا استعارة،بل حقيقة،و لكن للّه-تعالى-حكمة بالغة في إخفاء هذا السر عن نفوس أكثر العالمين،كما له حكمة بالغة في إخفاء كنوز الأرض عنهم.

و الكنوز المحجوبة قد استخدم عليها أرواح خبيثة شيطانية تحول بين الإنس و بينها،و لا تقهرها إلا أرواح علوية شريفة غالبة لها بحالها الإيماني،معها منه أسلحة لا تقوم لها الشياطين،و أكثر نفوس الناس ليست بهذه المثابة،فلا يقاوم تلك الأرواح و لا يقهرها،و لا ينال من سلبها شيئا،فإن«من قتل قتيلا فله سلبه» (1)(2).).

ص: 420


1- البخاري(4321)في المغازي،باب:قول اللّه تعالى وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً... و مسلم(41/1751)في الجهاد و السير،باب:استحقاق القاتل سلب القتيل.
2- زاد المعاد(347/4،348).

فضل آية الكرسي

سئل صلّى اللّه عليه و سلّم:أي آية في القرآن أعظم؟فقال: اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة 255].ذكره أبو داود (1)(2).

و قد ذكر النسائي في(السنن الكبير)من حديث أبي أمامة قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة،لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت» (3)،و هذا الحديث تفرد به محمد بن حمير،عن محمد بن زياد الألهاني،عن أبي أمامة،و رواه النسائي عن الحسين بن بشر،عن محمد بن حمير.و هذا الحديث من الناس من يصححه، و يقول:الحسين بن بشر قد قال فيه النسائي:لا بأس به،و في موضع آخر:ثقة.و أما المحمدان،فاحتج بهما البخاري في«صحيحه»قالوا:فالحديث على رسمه،و منهم من يقول:هو موضوع.

و أدخله أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه«الموضوعات»و تعلق محمد بن حمير،و أن أبا حاتم الرازي قال:لا يحتج به،و قال يعقوب بن سفيان:ليس بقوي،و أنكر ذلك عليه بعض الحفاظ،و وثقوا محمدا،و قال:هو أجل من أن يكون له حديث موضوع،و قد احتج به أجل من صنف في الحديث الصحيح؛و هو البخاري،و وثقه أشد الناس مقالة في الرجال:

يحيى ابن معين.

و قد رواه الطبراني في«مجمعه»أيضا من حديث عبد اللّه بن حسن عن أبيه،عن جده قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«من قرأ آية الكرسي في دبر الصلاة المكتوبة،كان في ذمة اللّه إلى الصلاة الأخرى» (4).و قد روى هذا الحديث من حديث أبي أمامة،و علي بن أبي طالب،و عبد اللّه بن عمر،و المغيرة بن شعبة،و جابر بن عبد اللّه،و أنس بن مالك،و فيها

ص: 421


1- أبو داود(1460)في الصلاة،باب:ما جاء في آية الكرسي.
2- إعلام الموقعين(378/4).
3- النسائي في الكبرى(9928)في عمل اليوم و الليلة،باب:ثواب من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة.
4- الطبراني في الكبير(83/3،84)رقم(2733)،و قال الهيثمي فى المجمع(151/2):«إسناده حسن».

كلها ضعف،و لكن إذا انضم بعضها إلى بعض مع تباين طرقها و اختلاف مخارجها،دلت على أن الحديث له أصل،و ليس بموضوع.و بلغني عن شيخنا أبي العباس ابن تيمية-قدس اللّه روحه-أنه قال:ما تركتها عقيب كل صلاة (1).

أجمع آية لمكارم الأخلاق

قد جمع اللّه له صلّى اللّه عليه و سلّم مكارم الأخلاق في قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199)[الأعراف]قال جعفر بن محمد:أمر اللّه نبيه صلّى اللّه عليه و سلّم بمكارم الأخلاق،و ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية.

و قد ذكر:أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لجبريل:«ما هذا؟»قال:لا أدري حتى أسأل.ثم رجع إليه،فقال:«إن اللّه يأمرك أن تصل من قطعك،و تعطي من حرمك، و تعفو عمن ظلمك» (2)(3).

فضل سورة الملك

و سأله صلّى اللّه عليه و سلّم رجل فقال:ضربت خبائي على قبر،و أنا لا أحسب أنه قبر،فإذا إنسان يقرأ سورة الملك،حتى ختمها،فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر» (4).ذكره الترمذي،و قال ابن عبد البر:هو صحيح (5).

فضل سورة الزلزلة

و سأله صلّى اللّه عليه و سلّم رجل فقال:أقرئني سورة جامعة،فأقرأه: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ ،«أول الزلزلة»،حتى فرغ منها،فقال الرجل:و الذي بعثك بالحق لا أزيد عليها أبدا،ثم أدبر الرجل،فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم«أفلح الرويجل»،مرتين،ذكره أبو داود (6)(7).

ص: 422


1- زاد المعاد(303/1،304).
2- انظر:الدر المنثور(153/3)و عزاه إلى ابن أبي الدنيا و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ.
3- مدارج السالكين(304/2).
4- الترمذي(2890)في فضائل القرآن،باب:ما جاء في فضل سورة الملك،و قال:«حسن غريب من هذا الوجه».
5- إعلام الموقعين(378/4).
6- أبو داود(1399)في الصلاة،باب:تحزيب القرآن،و ضعفه الألباني.
7- إعلام الموقعين(378/4).

فضل المعوذتين

و في المسند و السنن،عن عقبة بن عامر قال:أمرني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:أن أقرأ بالمعوذات في دبر كل صلاة (1)و رواه أبو حاتم بن حبان في«صحيحه» (2)،و الحاكم في «المستدرك» (3)،و قال:صحيح على شرط مسلم.و لفظ الترمذي«بالمعوذتين» (4).

و أيضا و قال له صلّى اللّه عليه و سلّم عقبة بن عامر:أقرأ سورة هود،و سورة يوسف؟فقال:«لن تقرأ شيئا أبلغ عند اللّه من قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ (1)».ذكره النسائي (5)(6).

باب:منه عن عقبة بن عامر قال:كنت أقود برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ناقته،فقال لي:«أ لا أعلمك سورتين،لم يقرأ بمثلهما؟»قلت:بلى،فعلمني قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ (1)،فلم يرني أعجب بهما،فلما نزل للصبح قرأ بهما،ثم قال:«كيف رأيت يا عقبة؟» (7).

و في رواية:«أ لا أعلمك خير سورتين قرئتا؟»قلت:بلى،قال: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ (1)،فلما نزل صلى بهما الغداة،قال:«كيف ترى يا عقبة؟».رواه الإمام أحمد و أبو داود (8).

فضل سورة الإخلاص

و في«معجم الطبراني»،و«مسند أبي يعلى الموصلي»من حديث عمر بن نبهان،و قد

ص: 423


1- أحمد(155/4)،و أبو داود(1523)في الصلاة،باب:في الاستغفار،و الترمذي(2903)في فضائل القرآن،باب:ما جاء في المعوذتين،و قال:«حسن صحيح»،و النسائي(1336)في السهو، باب:الأمر بقراءة المعوذات بعد التسليم من الصلاة.
2- ابن حبان(موارد)(2347)في الأذكار،باب:قراءة المعوذات دبر الصلاة.
3- الحاكم في المستدرك(253/1).
4- زاد المعاد(304/1).
5- النسائي(953)في الإمامة،باب:الفضل في قراءة المعوذتين.
6- إعلام الموقعين(304/4).
7- أحمد(144/4)،و أبو داود(1462)في الصلاة،باب:في المعوذتين.
8- الصلاة(163).

تكلم فيه،عن جابر يرفعه:«ثلاث من جاء بهن مع الإيمان،دخل من أي أبواب الجنة شاء،و زوج من الحور العين حيث شاء،من عفا عن قاتله،و أدى دينا خفيا،و قرأ في دبر كل صلاة مكتوبة عشر مرات،قل هو اللّه أحد».فقال أبو بكر رضي اللّه عنه:أو إحداهن يا رسول اللّه؟:قال:«أو إحداهن» (1)(1).

و أيضا و سأله صلّى اللّه عليه و سلّم رجل فقال:إني أحب سورة: قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ (1)،فقال:«حبك إياها أدخلك الجنة» (2)(3).

و أيضا في صحيح ابن حبان عنه صلّى اللّه تعالى عليه و سلّم:«أفضل الذكر لا إله إلا اللّه» (4)

و الآية المتضمنة لها و لتفضيلها سيدة آي القرآن،و السورة المختصة بتحقيقها تعدل ثلث القرآن (5)(6).

فضل سور:الإخلاص و الكافرون و الزلزلة

سورة قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ (7):متضمنة لتوحيد الاعتقاد و المعرفة،و ما يجب إثباته للرب تعالى من الأحدية المنافية لمطلق المشاركة بوجه من الوجوه،و الصمدية المثبتة له جميع صفات الكمال التي لا يلحقها نقص بوجه من الوجوه،و نفي الولد،و الوالد الذي هو من لوازم الصمدية،و غناه و أحديته،و نفي الكفء المتضمن لنفي التشبيه،و التمثيل، و التنظير.

فتضمنت هذه السورة إثبات كل كمال له،و نفي كل نقص عنه،و نفي إثبات شبيه،أو مثيل له في كماله،و نفي مطلق الشريك عنه.و هذه الأصول هي مجامع التوحيد العلمي

ص: 424


1- إعلام الموقعين(378/4).
2- البخاري(774 م)في الأذان،باب:الجمع بين السورتين في الركعة،و أحمد(141/3).
3- زاد المعاد(304/1،305).
4- ابن حبان(843).
5- أحمد(418/5)،و النسائي(996)في الافتتاح،باب:الفضل في قراءة: قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ .
6- إغاثة اللهفان(134/2).
7- أبو يعلى(794)،و الطبراني في الأوسط(3361)،و قال الهيثمي في المجمع(105/10):«فيه عمر ابن نبهان و هو متروك».

الاعتقادي الذي يباين صاحبه جميع فرق الضلال،و الشرك؛و لذلك كانت تعدل ثلث القرآن.

فإن القرآن مداره على الخبر و الإنشاء،و الإنشاء ثلاثة:أمر و نهي،و إباحة.

و الخبر نوعان:خبر عن الخالق تعالى،و أسمائه و صفاته و أحكامه،و خبر عن خلقه.

فأخلصت سورة قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ (1)الخبر عنه،و عن أسمائه،و صفاته،فعدلت ثلث القرآن،و خلصت قارئها المؤمن بها من الشرك العلمي،كما خلصت سورة قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1)من الشرك العملي الإرادي القصدي.

و لما كان العلم قبل العمل،و هو إمامه و قائده،و سائقه،و الحاكم عليه و منزله منازله، كانت سورة قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ (1)تعدل ثلث القرآن.و الأحاديث بذلك تكاد تبلغ مبلغ التواتر.

و قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1)تعدل ربع القرآن،و الحديث بذلك في الترمذي من رواية ابن عباس رضي اللّه عنه يرفعه:«إذا زلزلت تعدل نصف القرآن،و قل هو اللّه أحد،تعدل ثلث القرآن، و قل يا أيها الكافرون،تعدل ربع القرآن».رواه الحاكم في«المستدرك»و قال:صحيح الإسناد (1).

و لما كان الشرك العملي الإرادي أغلب على النفوس لأجل متابعتها هواها،و كثير منها ترتكبه مع علمها بمضرته و بطلانه،لما لها فيه من نيل الأغراض،و إزالته،و قلعه منها أصعب،و أشد من قلع الشرك العلمي،و إزالته؛لأن هذا يزول بالعلم و الحجة،و لا يمكن صاحبه أن يعلم الشيء على غير ما هو عليه،بخلاف شرك الإرادة و القصد،فإن صاحبه يرتكب ما يدله العلم على بطلانه،و ضرره؛لأجل غلبة هواه،و استيلاء سلطان الشهوة، و الغضب على نفسه،فجاء من التأكيد و التكرار في سورة قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1)المتضمنة لإزالة الشرك العملي،ما لم يجئ مثله في سورة قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ (1).

لما كان القرآن شطرين:شطرا في الدنيا و أحكامها،و متعلقاتها،و الأمور الواقعة فيها من أفعال المكلفين و غيرها،و شطرا في الآخرة،و ما يقع فيها،و كانت سورة إِذا زُلْزِلَتِ قد أخلصت من أولها و آخرها لهذا الشطر،فلم يذكر فيها إلا الآخرة.).

ص: 425


1- الترمذي(2894)في فضائل القرآن،باب:ما جاء في إذا زلزلت،و قال:«حديث غريب»،و الحاكم في المستدرك(566/1).

و ما يكون فيها من أحوال الأرض و سكانها،كانت تعدل نصف القرآن،فأحرى بهذا الحديث أن يكون صحيحا و اللّه أعلم.

و لهذا كان يقرأ بهاتين السورتين في ركعتي الطواف،و لأنهما سورتا الإخلاص و التوحيد،كان يفتتح بهما عمل النهار،و يختمه بهما،و يقرأ بهما في الحج الذي هو شعار التوحيد (1).

ما صح من أحاديث في فضائل السور و الآيات

و الذي صح في أحاديث السور:حديث فاتحة الكتاب،و أنه«لم ينزل في التوراة،و لا في الإنجيل،و لا في الزبور مثلها» (2).

و حديث البقرة،و آل عمران:أنهما«الزهراوان» (3).

و حديث:آية الكرسي و أنها«سيدة آي القرآن» (4).

و حديث الآيتين من آخر سورة البقرة«من قرأهما في ليلة كفتاه» (5).

و حديث سورة البقرة:«لا تقرأ في بيت فيقربه شيطان» (6).

و حديث:العشر آيات من أول سورة الكهف«من قرأها عصم من فتنة الدجال» (7).

و حديث:قل هو اللّه أحد،و أنها«تعدل ثلث القرآن» (8).و لم يصح في فضائل سورة ما صح فيها.

و حديث المعوذتين،و أنه«ما تعوذ المتعوذون بمثلهما» (9).

ص: 426


1- زاد المعاد(316/1-318).
2- الترمذي(2875)في فضائل القرآن،باب:ما جاء في فضل فاتحة الكتاب،و قال:«هذا حديث حسن صحيح»،و النسائي(914)في الافتتاح،باب:تأويل قول اللّه عز و جلّ: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ،و أحمد(357/2).
3- مسلم(252/804)في صلاة المسافرين،باب فضل قراءة القرآن و سورة البقرة.
4- سبق تخريجة ص(421).
5- سبق تخريجهما ص(412).
6- سبق تخريجهما ص(412).
7- مسلم(257/809)في صلاة المسافرين،باب:فضل سورة الكهف و آية الكرسي،و أبو داود(4323) في الملاحم،باب:خروج الدجال.
8- سبق تخريجه ص(425).
9- سبق تخريجه ص(411).

و قوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«أنزل على آيات لم ير مثلهن،ثم قرأهما» (1).

و يلي هذه الأحاديث و هو دونها في الصحة:حديث:«إذا زلزلت تعدل نصف القرآن» (2).

و حديث:«قل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن» (3).

و حديث:«تبارك الذي بيده الملك،هي المنجية من عذاب القبر» (4)(5).

ما وضع في فضائل السور

«ذكر فضائل السور و ثواب من قرأ سورة كذا فله أجر كذا»،من أول القرآن إلى آخره، كما ذكر ذلك الثعلبي و الواحدي في أول كل سورة،و الزمخشري في آخرها قال عبد اللّه بن المبارك:أظن الزنادقة وضعوها (6).

ص: 427


1- مسلم(264/814)في صلاة المسافرين،باب:فضل قراءة المعوذتين.
2- الترمذي(2893)في فضائل القرآن،باب:ما جاء في إذا زلزلت.
3- سبق تخريجه ص(425).
4- سبق تخريجه ص(422).
5- المنار المنيف(113،114).
6- المنار المنيف(113).

آداب القرآن الكريم

سماع القرآن الكريم

و من منازل إِيّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ (5)[الفاتحة:5].

و هو اسم مصدر كالنبات.و قد أمر اللّه به في كتابه،و أثنى على أهله،و أخبر أن البشرى لهم،فقال تعالى: وَ اتَّقُوا اللّهَ وَ اسْمَعُوا [المائدة:108]و قال: وَ اسْمَعُوا وَ أَطِيعُوا [التغابن:

16]و قال وَ لَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ اسْمَعْ وَ انْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَقْوَمَ [النساء:46] فَبَشِّرْ عِبادِ (17) اَلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18) [الزمر:17-18] وَ إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا [الأعراف:204]و قال وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [المائدة:83].

و جعل الإسماع منه و السماع منهم دليلا على علم الخير فيهم،و عدم ذلك دليلا على عدم الخير فيهم.فقال وَ لَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال:23].

و أخبر عن أعدائي:أنهم هجروا السماع و نهوا عنه:فقال: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ [فصلت:22].

فالسماع رسول الإيمان إلى القلب و داعيه و معلمه.و كم في القرآن من قوله أَ فَلا يَسْمَعُونَ ؟[السجدة:26]و قال: أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها [الحج:46] (1).

السمع المستحب

و أما السمع المستحب:فكاستماع المستحب من العلم،و قراءة القرآن،و ذكر اللّه و استماع كل ما يحبه اللّه،و ليس بفرض.

و المكروه:عكسه.و هو استماع كل ما يكره و لا يعاقب عليه.

و المباح ظاهر (2).

ص: 428


1- مدارج السالكين(481/1).
2- مدارج السالكين(177/1).

أدب استماع القراءة

و أدبه في استماع القراءة:أن يلقي السمع و هو شهيد (1).

فضل سماع القرآن من الغير

قال القائل:المحبون لا شيء ألذ لهم و لقلوبهم من سماع كلام محبوبهم و فيه غاية مطلوبهم،و لهذا لم يكن شيء ألذ لأهل المحبة من سماع القرآن.

و قد ثبت في الصحيح عن ابن مسعود رضي اللّه عنه قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«اقرأ عليّ»، قلت:أقرأ عليك و عليك أنزل؟قال:«إني أحب أن أسمعه من غيري»،فقرأت عليه من أول سورة النساء حتى إذا بلغت قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41)[النساء]قال:«حسبك الآن»،فرفعت رأسي فإذا عيناه تذرفان (2).

و كان أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إذا اجتمعوا أمروا قارئا أن يقرأ و هم يستمعون.

و كان عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه إذا دخل عليه أبو موسى يقول:يا أبا موسى،ذكرنا ربنا، فيقرأ أبو موسى و ربما بكى عمر.

و مر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بأبي موسى رضي اللّه عنه و هو يصلي من الليل فأعجبته قراءته فوقف و استمع لها،فلما غدا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«مررت بك البارحة و أنت تقرأ فوقفت و استمعت لقراءتك».فقال:لو أعلم أنك كنت تسمع لحبرته لك تحبيرا (3).

و اللّه-سبحانه-و هو الذي تكلم بالقرآن يأذن و يستمع للقارئ الحسن الصوت من محبته لسماع كلامه منه كما قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«للّه أشد أذنا إلى القارئ الحسن الصوت من صاحب القينة إلى قينته» (4).و الأذن بفتح الهمزة و الذال،مصدر أذن يأذن:إذا استمع.

قال الشاعر:

أيها القلب تعلل بددن إن قلبي في سماع و أذن

ص: 429


1- مدارج السالكين(387/2).
2- البخاري(5050)في فضائل القرآن،باب قول المقرئ للقارئ حسبك،و مسلم(248/800)في صلاة المسافرين و قصرها،باب::فضل استماع القرآن.
3- أبو يعلى(7279)،و قال الهيثمي في المجمع(174/7):«و فيه خالد بن نافع الأشعري و هو ضعيف».
4- ابن ماجة(1340)في إقامة الصلاة و السنة فيها،باب:في حسن الصوت بالقرآن،و في الزوائد: «إسناده حسن»،و أحمد(19/6)،و الحاكم في المستدرك(571/1)و قال:«هذا حديث صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه»و تعقبه الذهبي و قال:«بل هو منقطع»،و ضعفه الألباني.

و قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«زينوا القرآن بأصواتكم» (1)و غلط من قال:إن هذا من المقلوب و إن المراد زينوا أصواتكم بالقرآن،فهذا و إن كان حقا فالمراد تحسين الصوت بالقرآن.

و صح عنه أنه قال:«ليس منا من لم يتغن بالقرآن» (2)و وهم من فسره بالغنى الذي هو ضد الفقر من وجوه:

أحدها:أن ذلك المعنى إنما يقال فيه استغنى لا تغنى.

الثاني:أن تفسيره قد جاء في نفس الحديث يجهر به،هذا لفظه،قال أحمد:نحن أعلم بهذا من سفيان و إنما هو تحسين الصوت به يحسنه ما استطاع.

الثالث:أن هذا المعنى لا يتبادر إلى الفهم من إطلاق هذا اللفظ و لو احتمله،فكيف و بنية اللفظ لا تحتمله كما تقدم.

و بعد هذا فإذا كان من التغني بالصوت ففيه معنيان:أحدهما:كجعله له مكان الغناء لأصحابه من محبته له و لهجه به كما يحب صاحب الغناء لغنائه،و الثاني:أنه يزينه بصوته و يحسنه ما استطاع كما يزين المتغنى غناءه بصوته،و كثير من المحبين ماتوا عند سماع القرآن بالصوت الشجي،فهؤلاء قتلى القرآن،لا قتلى عشاق المردان و النسوان (3).

المستمع للقرآن مستمع للّه عز و جلّ

من قرئ عليه القرآن فليقدر نفسه،كأنما يسمعه من اللّه يخاطبه به.فإذا حصل له-مع ذلك-السماع به و له و فيه؛ازدحمت معاني المسموع و لطائفه و عجائبه على قلبه،و ازدلفت إليه بأيهما يبدأ،فما شئت من علم و حكمة،و تعرف و بصيرة،و هداية و غيره (4).

سماع الناس القرآن يوم القيامة

حرام على قلب قد تربى على غذاء السماع الشيطاني:أن يجد شيئا من ذلك في سماع القرآن،بل إن حصل له نوع لذة؛فهن من قبل الصوت المشترك،لا من قبل المعنى الخاص.

ص: 430


1- أبو داود(1468)في الصلاة،باب:استحباب الترتيل في القراءة،و النسائي(1015)في الافتتاح، باب:تزيين القرآن بالصوت.
2- البخاري(7527)في التوحيد،باب:قول اللّه تعالى: وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13).
3- روضة المحبين(252-254).
4- مدارج السالكين(504/1).

و ليس في نعيم أهل الجنة أعلى من رؤيتهم وجه اللّه محبوبهم-سبحانه و تعالى-عيانا و سماع كلامه منه.

و ذكر عبد اللّه ابن الإمام أحمد في كتاب السنة أثرا-لا يحضرني الآن:هل هو موقوف أو مرفوع«إذا سمع الناس القرآن يوم القيامة من الرحمن-عز و جلّ-فكأنهم لم يسمعوه قبل ذلك» (1).

و أيضا قال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«أحب العمل إلى اللّه ما داوم عليه صاحبه» (2)،و هذا إنما هو في السماع القرآني لا في السماع الشعري؛فإنه دائم بدوام المتكلم به،تزول الدنيا بأهلها و هو دائم لا يزول.و إذا سمعه المؤمنون في الجنة من الرحمن-عز و جل-فكأنهم لم يسمعوه قبل ذلك،و تنسيهم لذة سماعه ما هم فيه من النعيم حتى يستفرغ جميع ما هم فيه من النعيم كما ينسيهم ذلك لذة نظرهم إلى وجهه (3).

الشهقة عند سماع القرآن

الشهقة التي تعرض عند سماع القرآن أو غيره لها أسباب:

أحدها:أن يلوح له عند السماع درجة ليست له فيرتاح إليها فتحدث له الشهقة فهذه شهقة شوق.

و ثانيها:أن يلوح له ذنب ارتكبه فيشهق خوفا و حزنا على نفسه،و هذه شهقة خشية.

و ثالثها:أن يلوح له نقص فيه لا يقدر على دفعه فيحدث له ذلك حزنا فيشهق شهقة حزن.

و رابعها:أن يلوح له كمال محبوبه و يرى الطريق إليه مسدودة عنه فيحدث ذلك شهقة أسف و حزن.

و خامسها:أن يكون قد توارى عنه محبوبه و اشتغل بغيره فذكره السماع محبوبه،و فلاح له جماله،و رأى الباب مفتوحا و الطريق ظاهرة،فشهق فرحا و سرورا بما لاح له.

ص: 431


1- مدارج السالكين(412/2).
2- البخاري(43)في الإيمان،باب:أحب الدين إلى اللّه أدومه،و مسلم(221/785)في صلاة المسافرين باب:أمر من نسي في صلاته...إلخ.
3- حكم مسألة السماع(286،287).

و بكل حال،فسبب الشهقة قوة الوارد و ضعف المحل عن الاحتمال.و القوة أن يعمل ذلك الوارد عمله داخلا و لا يظهر عليه،و ذلك أقوى له و أدوم،فإنه إذا أظهره ضعف أثره و أوشك انقطاعه.هذا حكم الشهقة من الصادق،فإن الشاهق إما صادق و إما سارق و إما منافق (1).

عشق سماع القرآن

و العشق إذا تعلق بما يحبه اللّه و رسوله كان عشقا ممدوحا مثابا عليه،و ذلك أنواع:

أحدها:محبة القرآن بحيث يغنى بسماعه عن سماع غيره،و يهيم قلبه في معانيه،و مراد المتكلم سبحانه منه،و على قدر محبة اللّه تكون محبة كلامه،فمن أحب محبوبا أحب حديثه،و الحديث عنه،كما قيل:

إن كنت تزعم حبي فلم هجرت كتابي

أما تأملت ما فيه من لذيذ خطابي (2)

سماع القرآن يغني عن سماع الشيطان

و أغنانا عن سماع الأبيات و قرآن الشيطان بسماع الآيات و كلام الرحمن (3).

ص: 432


1- الفوائد(191،192).
2- روضة المحبين(199).
3- إغاثة اللهفان(70/2).

تدبر القرآن و كيفية ذلك

اشارة

و رأس الأمر و عموده في ذلك،إنما هو دوام التفكر و تدبر آيات اللّه،حيث تستولي على الفكر و تشغل القلب.فإذا صارت معاني القرآن مكان الخواطر من قلبه و جلس على كرسيه، و صار له التصرف،و صار هو الأمير المطاع أمره،فحينئذ يستقيم له سيره،و يتضح له الطريق،و تراه ساكنا و هو يباري الريح وَ تَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88)[النمل].

فإن قلت:إنك قد أشرت إلى مقام عظيم فافتح لي بابه،و اكشف لي حجابه،و كيف تدبر القرآن و تفهمه و الإشراف على عجائبه و كنوزه؟و هذه تفاسير الأئمة بأيدينا فهل في البيان غير ما ذكروه؟.

قلت:سأضرب لك أمثالا تحتذى عليها،و تجعلها إماما لك في هذا المقصد.

قال اللّه تعالى: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24)إلى قوله تعالى اَلْحَكِيمُ الْعَلِيمُ [الذاريات:30].

فعهدي بك إذا قرأت هذه الآية و تطلعت إلى معناها و تدبرتها،فإنما تطلع منها على أن الملائكة أتوا إبراهيم في صورة الأضياف يأكلون و يشربون،و بشروه بغلام عليم،و إنما امرأته عجبت من ذلك،فأخبرتها الملائكة أن اللّه قال ذلك-و لم يتجاوز تدبرك غير ذلك.

فاسمع الآن بعض ما في هذه الآيات من أنواع الأسرار.و كم قد تضمنت من الثناء على إبراهيم عليه السّلام.

و كيف جمعت الضيافة و حقوقها.

و ما تضمنت من الرد على أهل الباطل من الفلاسفة و المعطلة.

و كيف تضمنت علما عظيما من أعلام النبوة.

و كيف تضمنت جميع صفات الكمال،التي ردها إلى العلم و الحكمة.

و كيف أشارت إلى دليل إمكان المعاد بألطف إشارة و أوضحها،ثم أفصحت وقوعه.

و كيف تضمنت الإخبار عن عدل الرب و انتقامه من الأمم المكذبة.

ص: 433

و تضمنت ذكر الإسلام و الإيمان و الفرق بينهما.

و تضمنت بقاء آيات الرب الدالة على توحيده و صدق رسله،و على اليوم الآخر.

و تضمنت أنه لا ينتفع بهذا كله إلا من في قلبه خوف من عذاب الآخرة،و هم المؤمنون بها.

و أما من لا يخاف الآخرة و لا يؤمن بها،فلا ينتفع بتلك الآيات.

*فاسمع الآن بعض تفاصيل هذه الجملة:

قال اللّه تعالى: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24)[الذاريات].

افتتح-سبحانه-القصة بصيغة موضوعه للاستفهام،و ليس المراد بها حقيقة الاستفهام، و لهذا قال بعض الناس:إن«هل»في مثل هذا الموضع بمعنى«قد»التي تقتضي التحقيق؟ و لكن في ورود الكلام في مثل هذا بصيغة الاستفهام سر لطيف،و معنى بديع،فإن المتكلم إذا أراد أن يخبر المخاطب بأمر عجيب ينبغي الاعتناء به،و إحضار الذهن له،صدر له الكلام بأداة الاستفهام،لتنبيه سمعه و ذهنه للمخبر به،فتارة يصدره بألا،و تارة يصدره بهل، فقول:هل علمت ما كان من كيت و كيت؟إما مذكرا به،و إما واعظا له مخوفا،و إما منبها على عظمة ما يخبر به،و إما مقررا له.

فقوله تعالى: وَ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9)[طه]،و وَ هَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ [ص:

21]،و هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1)[الغاشية]،و هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) [الذاريات]،متضمن لتعظيم هذه القصص و التنبيه على تدبرها و معرفة ما تضمنته.

ففيه أمر آخر:

و هو التنبيه على أن إتيان هذا إليك علم من أعلام النبوة،فإنه من الغيب الذي لا تعلمه أنت و لا قومك،فهل أتاك من غير إعلامنا و إرسالنا و تعريفنا؟أم لم يأتك إلا من قبلنا؟

فانظر ظهور هذا الكلام بصيغة الاستفهام،و تأمل عظم موقعه من جميع موارده،يشهد أنه من الفصاحة في ذروتها العليا.

و قوله: ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ [الذاريات:24]متضمن لثنائه على خليله إبراهيم.فإن في اَلْمُكْرَمِينَ قولين:

أحدهما:إكرام إبراهيم لهم،ففيه مدح إبراهيم بإكرام الضيف.

و الثاني:أنهم مكرمون عند اللّه كقوله تعالى: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء:26]،و هو متضمن أيضا لتعظيم خليله و مدحه؛إذ جعل ملائكته المكرمين أضيافا له،فعلى كلا التقديرين فيه مدح لإبراهيم عليه السّلام.

ص: 434

و قوله: فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ [الذاريات:25]متضمن بمدح آخر لإبراهيم،حيث رد عليهم السلام أحسن مما حيوه به،فإن تحيتهم باسم منصوب متضمن لجملة فعلية،تقديره:

سلمنا عليك سلاما.و تحية إبراهيم لهم باسم مرفوع متضمن لجملة اسمية،تقديره:سلام دائم أو ثابت أو مستمر عليكم،و لا ريب أن الجملة اسمية،تقتضي الثبوت و اللزوم، و الفعلية تقتضي العدد و الحدوث،فكانت تحية إبراهيم أكمل و أحسن.

ثم قال: قَوْمٌ مُنْكَرُونَ [الذاريات:25]،و في هذا من حسن مخاطبة الضيف و التذمم منه وجهان في المدح:

أحدهما:أنه حذف المبتدأ و التقدير:أنتم قوم منكرون،فتذمم منهم و لم يواجههم بهذا الخطاب لما فيه من بعض الاستيحاش.

و كان النبي صلّى اللّه عليه و سلّم لا يواجه أحد بما يكرهه بل يقول:«ما بال أقوام يقولون كذا و يفعلون كذا».

و الثاني:قوله: قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ،فحذف فاعل الإنكار و هو الذي كان أنكرهم،كما قال في موضع آخر: نَكِرَهُمْ [هود:70].و لا ريب أن قوله: مُنْكِرُونَ ألطف من أن يقول:

أنكرتم (1).

دعوة القرآن إلى تدبره و بيان أنواع التدبر

تدبر كلامه و ما تعرف به-سبحانه-إلى عباده على ألسنة رسله من أسمائه و صفاته و أفعاله و ما نزه نفسه عنه مما لا يسعى له و لا يليق به-سبحانه-و تدبر أيامه و أفعاله في أوليائه و أعدائه التي قصها على عباده و أشهدهم إياها؛ليستدلوا بها على أنه إلههم الحق المبين الذي لا تنبغي العبادة إلا له و يستدلوا بها على أنه على كل شيء قدير و أنه بكل شيء عليم،و أنه شديد العقاب،و أنه غفور رحيم،و أنه العزيز الحكيم،و أنه الفعال لما يريد، و أنه الذي وسع كل شيء رحمة و علما،و أن أفعاله كلها دائرة بين الحكمة و الرحمة و العدل و المصلحة،لا يخرج شيء عنها عن ذلك.و هذه الثمرة لا سبيل إلى تحصيلها إلا بتدبر كلامه و النظر في آثار أفعاله.

و إلى هذين الأصلين ندب عباده في القرآن،فقال في الأصل الأول: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء:82]، أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ [المؤمنون:68]، كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ [ص:29]، إِنّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)[يوسف]، كِتابٌ فُصِّلَتْ

ص: 435


1- الرسالة التبوكية(72-76).

آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)[فصلت:3].

و قال في الأصل الثاني: قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ [يونس:101]، إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ(190) اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ [آل عمران:190-191]، إِنَّ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ(3) وَ فِي خَلْقِكُمْ وَ ما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ(4) وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ما أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)[الجاثية]، أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ [غافر:21]، قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ [الروم:42]، وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ(20) وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)إلى قوله وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) [الروم:25].

و نوّع-سبحانه-الآيات في هذه السور فجعل خلق السموات و الأرض و اختلاف لغات الأمم و ألوانهم آيات للعالمين كلهم،لا لاشتراكهم في العلم بذلك و ظهوره و وضوح دلالته، و جعل خلق الأزواج التي يسكن إليها الرجال و إلقاء المودة و الرحمة بينهم آيات لقوم يتفكرون،فإن سكون الرجل إلى امرأة و ما يكون بينهما من المودة و التعاطف و التراحم أمر باطن مشهود بعين الفكر و البصيرة،فمتى نظر بهذه العين إلى الحكمة و الرحمة و القدرة التي صدر عنها ذلك دله فكره على أنه الإله الحق المبين،الذي أقرت الفطر بربوبيته و إلهيته و حكمته و رحمته،و جعل المنام بالليل و النهار للتصرف في المعاش و ابتغاء فضله آيات لقوم يسمعون،و هو سمع الفهم و تدبر هذه الآيات و ارتباطها بما جعلت آية له مما أخبرت به الرسل من حياة العباد بعد موتهم و قيامهم من قبورهم كما أحياهم-سبحانه-بعد موتهم و أقامهم للتصرف في معاشهم،فهذه الآية إنما ينتفع بها من سمع ما جاءت به الرسل و أصغى إليه،و استدل بهذه الآية عليه و جعل إراؤهم البرق و إنزال الماء من السماء و إحياء الأرض به آيات لقوم يعقلون،فإن هذه أمور مرئية بالأبصار مشاهدة بالحس،فإذا نظر فيها ببصر قلبه و هو عقله استدل بها على وجود الرب تعالى و قدرته و علمه و رحمته و حكمته و إمكان ما أخبر به من إحياء الخلائق بعد موتهم كما أحيا هذه الأرض بعد موتها،و هذه أمور لا تدرك إلا ببصر القلب و هو العقل،فإن الحس دل على الآية و العقل دل على ما

ص: 436

جعلت آية له فذكر-سبحانه-الآية المشهودة بالبصر و المدلول عليه المشهود بالعقل،فقال:

وَ مِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)[الروم]فتبارك الذي جعل كلامه حياة للقلوب و شفاء لما في الصدور.

و بالجملة فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر و التفكر،فإنه جامع لجميع منازل السائرين و أحوال العاملين و مقامات العارفين،و هو الذي يورث المحبة و الشوق و الخوف و الرجاء و الإنابة و التوكل و الرضا و التفويض و الشكر و الصبر،و سائر الأحوال التي بها حياة القلب و كماله،و كذلك يزجر عن جميع الصفات و الأفعال المذمومة التي بها فساد القلب و هلاكه،فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها فإذا قرأه بتفكر حتى مر بآية و هو محتاج إليها في شفاء قلبه كررها و لو مائة مرة و لو ليلة.فقراءة آية بتفكر و تفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر و تفهم،و أنفع للقلب و أدعى إلى حصول الإيمان و ذوق حلاوة القرآن،و هذه كانت عادة السلف يردد أحدهم الآية إلى الصباح،و قد ثبت عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أنه قام بآية يرددها حتى الصباح و هي قوله: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)[المائدة].

فقراءة القرآن بالتفكر هي أصل صلاح القلب،و لهذا قال ابن مسعود،لا تهذوا القرآن هذّ الشعر،و لا تنثروه نثر الدقل،وقفوا عند عجائبه،و حركوا به القلوب،لا يكن همّ أحدكم آخر السورة.و روى أبو أيوب عن أبي جمرة قال:قلت لابن عباس:إني سريع القراءة،إني أقرأ القرآن في ثلاث.قال:لأن أقرأ سورة من القرآن في ليلة فأتدبرها و أرتلها،أحب إليّ من أن أقرأ القرآن كما تقرأ.

و التفكر في القرآن نوعان:تفكر فيه ليقع على مراد الرب تعالى منه و تفكر في معاني ما دعا عباده إلى التفكر فيه فالأول تفكر في الدليل القرآني،و الثاني تفكر في الدليل العياني، الأول تفكر في آياته المسموعة،و الثاني تفكر في آياته المشهودة؛و لهذا أنزل اللّه القرآن ليتدبر و يتفكر فيه و يعمل به لا لمجرد تلاوته مع الإعراض عنه.قال الحسن البصري:أنزل القرآن ليعمل به،فاتخذوا تلاوته عملا.

و إذا تأملت ما دعى اللّه-سبحانه و تعالى-في كتابه إلى الفكر فيه أوقعك على العلم به -سبحانه و تعالى-و بوحدانيته و صفات كماله و نعوت جلاله من عموم قدرته و علمه و كمال حكمته و رحمته و إحسانه و بره و لطفه و عدله و رضاه و غضبه و ثوابه و عقابه،فبهذا تعرف إلى

ص: 437

عباده ندبهم إلى الفكر في آياته.

و نذكر لذلك أمثلة مما ذكرها اللّه-سبحانه-في كتابه ليستدل بها على غيرها.

فمن ذلك:خلق الإنسان و قد ندب-سبحانه-إلى التفكر فيه و النظر في غير موضع من كتابه كقوله تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5)[الطارق]و قوله تعالى: وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ (21)[الذاريات]و قال تعالى: يا أَيُّهَا النّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَ نُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفّى وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً [الحج:5]و قال تعالى: أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً(36) أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى(37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى(38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى(39) أَ لَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40)[القيامة:36-40]،و قال تعالى: أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ(20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ(21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ(22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) [المرسلات:20-23]،و قال: أَ وَ لَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77)[يس:77]،و قال: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ(12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ(13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14)[المؤمنون:12-14].

و هذا كثير في القرآن يدعو العبد إلى النظر و الفكر في مبدأ خلقه و وسطه و آخره،إذ نفسه و خلقه من أعظم الدلائل على قدرة خالقه و فاطره،و أقرب شيء إلى الإنسان نفسه.و فيه من العجائب الدالة على عظمة اللّه ما تنقضي الأعمار في الوقوف على بعضه،و هو غافل عنه معرض عن التفكر فيه،و لو فكر في نفسه لزجره ما يعلم من عجائب خلقها عن كفره.

قال اللّه تعالى: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ(17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ(18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ(19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ(20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ(21) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22)[عبس:17-22]فلم يكرر سبحانه على أسماعنا و عقولنا ذكر هذا لنسمع لفظ النطفة و العلقة و المضغة و التراب،و لا لنتكلم بها فقط و لا لمجرد تعريفنا بذلك.بل لأمر وراء ذلك كله هو المقصود بالخطاب و إليه جرى ذلك الحديث.

فانظر الآن إلى النطفة بعين البصيرة و هي قطرة من ماء مهين ضعيف مستقذر،لو مرت بها ساعة من الزمان فسدت و أنتنت.كيف استخرجها رب الأرباب العليم القدير من بين الصلب و الترائب،منقادة لقدرته مطيعة لمشيئته مذللة الانقياد على ضيق طرقها،و اختلاف

ص: 438

مجاريها إلى أن ساقها إلى مستقرها و مجمعها.و كيف جمع سبحانه بين الذكر و الأنثى و ألقى المحبة بينهما و كيف قادهما بسلسلة الشهوة و المحبة إلى الاجتماع الذي هو سبب تخليق الولد و تكوينه،و كيف قدر اجتماع ذينك الماءين مع بعد كل منهما عن صاحبه،و ساقهما من أعماق العروق و الأعضاء و جمعهما في موضع واحد جعل لهما قرارا مكينا لا يناله هواء يفسده،و لا برد يجمده و لا عارض يصل إليه و لا آفة تتسلط عليه.ثم قلب تلك النطفة البيضاء المشربة علقة حمراء تضرب إلى سواد ثم جعلها مضغة لحم مخالفة للعلقة في لونها و حقيقتها و شكلها،ثم جعله عظاما مجردة لا كسوة عليها مباينة للمضغة في شكلها و هيأتها و قدرها و ملمسها و لونها.و انظر كيف قسم تلك الأجزاء المتشابهة المتساوية إلى الأعصاب و العظام و العروق و الأوتار،و اليابس و اللين،و بيّن ذلك.ثم كيف ربط بعضها ببعض أقوى رباط و أشده و أبعده عن الانحلال.و كيف كساها لحما ركبه عليها و جعله وعاء لها و غشاء و حافظا و جعلها حاملة له مقيمة له،فاللحم قائم بها و هي محفوظة به و كيف صورها فأحسن صورها و شق لها السمع و البصر و الفم و الأنف و سائر المنافذ (1).

و لهذا كانت آيات اللّه المتلوة و المشهودة ذكرى كما قال في المتلوة: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَ أَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ(53) هُدىً وَ ذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54)[غافر]،و قال عن القرآن: وَ إِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48)[الحاقة:48]،و قال في آياته المشهودة: أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَ زَيَّنّاها وَ ما لَها مِنْ فُرُوجٍ(6) وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها وَ أَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ(7) تَبْصِرَةً وَ ذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)[ق:6-8]فالتبصرة آلة البصر و«التذكرة»آلة الذكر،و قرن بينهما و جعلهما لأهل الإنابة.لأن العبد إذا أناب إلى اللّه أبصر مواقع الآيات و العبر،فاستدل بها على ما هي آيات له.فزال عنه الإعراض بالإنابة،و العمى بالتبصرة،و الغفلة بالتذكرة.لأن التبصرة توجب له حصول صورة المدلول في القلب بعد غفلته عنها،فترتب المنازل الثلاثة أحسن ترتيب ثم إن كلا منها يمد صاحبه و يقويه و يثمره.

و قال تعالى في آياته المشهورة: وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ(36) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ (37)[ق:

36-37]،و الناس ثلاثة:رجل قلبه ميت فذلك الذي لا قلب له فهذا ليست هذه الآية ذكرى في حقه.ه.

ص: 439


1- مفتاح دار السعادة(188/1-189).و قد ذكر ابن القيم رحمه اللّه تعالى في ذلك فصلا ممتعا فانظره.

الثاني:رجل له قلب حيّ مستعد،لكنه غير مستمع للآيات المتلوة،التي يخبر بها اللّه عن الآيات المشهودة:إما لعدم ورودها أو لوصولها إليه،و لكن قلبه مشغول عنها بغيرها فهو غائب القلب،ليس حاضرا،فهذا أيضا لا تحصل له الذكرى،مع استعداده و وجود قلبه.

و الثالث:رجل حي القلب مستعد،تليت عليه الآيات فأصغى بسمعه و ألقى السمع و أحضر قلبه و لم يشغله بغير فهم ما يسمعه،فهو شاهد القلب ملق السمع،فهذا القسم هو الذي ينتفع بالآيات المتلوة و المشهودة فالأول:بمنزلة الأعمى الذي لا يبصر.

و الثاني بمنزلة البصير الطامح ببصره إلى غير جهة المنظور إليه،فكلاهما لا يراه.

و الثالث بمنزلة البصير الذي قد حدق إلى جهة المنظور،و أتبعه بصره،و قابله على توسط من البعد و القرب.فهذا هو الذي يراه.

فسبحان من جعل كلامه شفاء لما في الصدور.

فإن قيل:فما موقع«أو»من هذا النظم على ما قررت؟

قيل:فيها سر لطيف،و لسنا نقول:إنها بمعنى الواو.كما يقوله ظاهرية النحاة.

فاعلم أن الرجل قد يكون له قلب و قاد مليء باستخراج العبر،و استنباط الحكم.فهذا قلبه يوقعه على التذكر و الاعتبار.فإذا سمع الآيات كانت له نورا على نور.و هؤلاء أكمل خلق اللّه و أعظمهم إيمانا و بصيرة حتى كأن الذي أخبرهم به الرسول مشاهد لهم،لكن لم يشعروا بتفاصيله و أنواعه.حتى قيل:إن مثل حال الصديق مع النبي صلّى اللّه عليه و سلّم.كمثل رجلين دخلا دارا.فرأى أحدهما تفاصيل ما فيها و جزئياته.و الآخر:وقعت يده على ما في الدار و لم ير تفاصيله و لا جزئياته.لكن علم أن فيها أمورا عظيمة،لم يدرك بصره تفاصيلها.ثم خرجا.فسأله عما رأى في الدار؟فجعل كلما أخبره بشيء صدقه،لما عنا،من شواهده.

و هذه أعلى درجات الصدوقية.و لا تستبعد أن يمن اللّه المنان على عبد بمثل هذا الإيمان.

فإن فضل اللّه لا يدخل تحت حصر و لا حسبان.

فصاحب هذا القلب إذا سمع الآيات و في قلبه نور من البصيرة:ازداد بها نورا على نوره،فإن لم يكن للعبد مثل هذا القلب فألقى السمع و شهد قلبه و لم يغب حصل له التذكر أيضا فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ [البقرة:265]،و الوابل و الطل في جميع الأعمال و آثارها، و موجباتها.و أهل الجنة سابقون مقربون،و أصحاب يمين،و بينهما في درجات التفضيل ما بينهما،حتى إن شراب أحد النوعين الصرف يطيب به شراب النوع الآخر و يمزج به مزجا، قال اللّه تعالى: وَ يَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَ يَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)[سبأ]فكل مؤمن يرى هذا.و لكن رؤية أهل العلم له لون،و رؤية غيرهم له لون أخر.

ص: 440

فصاحب هذا القلب إذا سمع الآيات و في قلبه نور من البصيرة:ازداد بها نورا على نوره،فإن لم يكن للعبد مثل هذا القلب فألقى السمع و شهد قلبه و لم يغب حصل له التذكر أيضا فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ [البقرة:265]،و الوابل و الطل في جميع الأعمال و آثارها، و موجباتها.و أهل الجنة سابقون مقربون،و أصحاب يمين،و بينهما في درجات التفضيل ما بينهما،حتى إن شراب أحد النوعين الصرف يطيب به شراب النوع الآخر و يمزج به مزجا، قال اللّه تعالى: وَ يَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَ يَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)[سبأ]فكل مؤمن يرى هذا.و لكن رؤية أهل العلم له لون،و رؤية غيرهم له لون أخر.

قال صاحب«المنازل»:«أبنية التذكر ثلاثة:الانتفاع بالعظة،و الاستبصار بالعبرة، و الظفر بثمرة الفكرة».

و الانتفاع بالعظة:هو أن يقدح في القلب قادح الخوف و الرجاء.فيتحرك للعمل،طلبا للخلاص من الخوف،و رغبة في حصول المرجو.

و«العظة»هي الأمر و النهي،المعروف بالترغيب و الترهيب.

و«العظة»نوعان:عظة بالمسموع،و عظة بالمشهود،فالعظة بالمسموع:الانتفاع بما يسمعه من الهدى و الرشد،و النصائح التي جاءت على لسان الرسل و ما أوحى إليهم و كذلك الانتفاع بالعظة من كل ناصح و مرشد في مصالح الدين و الدنيا.

و«العظة»بالمشهود:الانتفاع بما يراه و يشهده في العلم من مواقع العبر،و أحكام القدر،و مجاريه،و ما يشاهده من آيات اللّه الدالة على صدق رسله.

و أما استبصار العبرة:فهو زيادة البصيرة عما كانت عليه في منزل التفكر بقوة الاستحضار؛لأن التذكر يعتقل المعاني التي حصلت بالتفكر في مواقع الآيات و العبر،فهو يظفر بها بالتفكر.و تنصقل له و تنجلي بالتذكر.فيقوي العزم على السير بحسب قوة الاستبصار؛لأنه يوجب تحديد النظر فيما يحرك المطلب إذ الطلب فرع الشعور.فكلما قوي الشعور بالمحبوب اشتد سفر القلب إليه.و كلما اشتغل الفكر به ازداد الشعور به و البصيرة فيه.و التذكر له.

و أما الظفر بثمرة الفكرة،فهذا موضع لطيف.

و للفكرة ثمرتان:حصول المطلوب تاما بحسب الإمكان،و العمل بموجب رعاية لحقه، فإن القلب حال التفكر كان قد كلّ بأعماله في تحصيل المطلوب.

فلما حصلت له المعاني و تخمرت في القلب،و استراح العقل:عاد فتذكر ما كان حصله و طالعه،فابتهج به و فرح به.و صحح في هذا المنزل ما كان فإنه في منزل التفكر؛لأنه قد أشرف عليه في مقام التذكر،الذي هو أعلى منه؛فأخذ حينئذ في الثمرة المقصودة و هي العمل بموجبه مراعاة لحقه،فإن العمل الصالح:هو ثمرة العلم النافع،الذي هو ثمرة التفكر.

و إذا أردت فهم هذا بمثال حسي؛فطالب المال ما دام جادا في طلبه،فهو في كلال

ص: 441

و تعب،حتى إذا ظفر به استراح من كد الطلب،و قدم من سفر التجارة.فطالع ما حصله و أبصره،و صحح في هذا الحال ما عساه غلط فيه في حال اشتغاله بالطلب،فإذا صح له و بردت غنيمته له،أخذ في صرف المال في وجوه الانتفاع المطلوبة منه،و اللّه أعلم (1).

فوائد تدبر القرآن

التأمل في القرآن،هو تحديق ناظر القلب إلى معانيه،و جمع الفكر على تدبره و تعقله.

و هو المقصود بإنزاله،لا مجرد تلاوته بلا فهم،و لا تدبر.قال اللّه تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29)[ص].و قال تعالى: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24)[محمد].و قال تعالى: أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ [المؤمنون:68].و قال تعالى: إِنّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)[الزخرف].

و قال الحسن:نزل القرآن ليتدبر و يعمل به؛فاتخذوا تلاوته عملا فليس شيء أنفع للعبد في معاشه و معاده،و أقرب إلى نجاته:من تدبر القرآن،و إطالة التأمل،و جمع فيه الفكر على معاني آياته،فإنها تطلع العبد على معالم الخير و الشر بحذافيرهما،و على طرقاتهما و أسبابهما و غايتهما و ثمراتهما،و مآل أهلهما.

و تتل (2)في يده مفاتيح كنوز السعادة و العلوم النافعة،و تثبت قواعد الإيمان في قلبه، و تشيد بنيانه،و توطد أركانه،و تريه صورة الدنيا و الآخرة،و الجنة و النار في قلبه،و تحضره بين الأمم،و تريه أيام اللّه فيهم،و تبصره مواقع العبر،و تشهده عدل اللّه و فضله.

و تعرفه ذاته،و أسماءه و صفاته و أفعاله،و ما يحبه و ما يبغضه،و صراطه الموصل إليه، و ما لسالكيه بعد الوصول و القدوم عليه،و قواطع الطريق و آفاتها.

و تعرفه النفس و صفاتها،و مفسدات الأعمال مصححاتها،و تعرفه طريق أهل الجنة و أهل النار و أعمالهم،و أحوالهم و سيماهم،و مراتب أهل السعادة و أهل الشقاوة،و أقسام الخلق و اجتماعهم فيما يجتمعون فيه،و افتراقهم فيما يفترقون فيه.

و بالجملة،تعرفه الرب المدعو إليه،و طريق الوصول إليه،و ما له من الكرامة إذا قدم عليه.

و تعرفه في مقابل ذلك ثلاثة أخرى:ما يدعو إليه الشيطان،و الطريق الموصلة إليه،و ما للمستجيب لدعوته من الإهانة و العذاب بعد الوصول إليه.

ص: 442


1- مدارج السالكين(440/1-445).
2- تل الشيء في يده،بالمثناة الفوقية المفتوحة:وضعه فيها(لسان العرب:تلل).

فهذه ستة أمور،ضروري للعبد معرفتها،و مشاهدتها و مطالعتها:فتشهده الآخرة حتى كأنه فيها،و تغيبه عن الدنيا حتى كأنه ليس فيها.و تميز له بين الحق و الباطل في كل ما اختلف فيه العالم؛فتريه الحق حقا،و الباطل باطلا،و تعطيه فرقانا و نورا يفرق به بين الهدى و الضلال،و الغي و الرشاد،و تعطيه قوة في قلبه،و حياة وسعة و انشراحا و بهجة و سرورا؛ فيصير في شأن و الناس في شأن آخر.

فإن معاني القرآن دائرة على التوحيد و براهينه،و العلم باللّه و ما له من أوصاف الكمال، و ما ينزه عنه من سمات النقص.

و على الإيمان بالرسل،و ذكر براهين صدقهم،و أدلة صحة نبوتهم،و التعريف بحقوقهم، و حقوق مرسلهم.

و على الإيمان بملائكته،و هم رسله في خلقه و أمره،و تدبيرهم الأمور بإذنه و مشيئته، و ما جعلوا عليه من أمر العالم العلوي و السفلي.

و ما يختص بالنوع الإنساني منهم،من حين يستقر في رحم أمه إلى يوم يوافي ربه و يقدم عليه.

و على الإيمان باليوم الآخر،و ما أعد اللّه فيه لأوليائه من دار النعيم المطلق،التي لا يشعرون فيها بألم و لا نكد و تنغيص،و ما أعد لأعدائه من دار العقاب الوبيل،التي لا يخالطها سرور و لا رخاء و لا راحة و لا فرح.

و تفاصيل ذلك أتم تفصيل و أبينه،و على تفاصيل الأمر و النهي،و الشرع و القدر، و الحلال و الحرام،و المواعظ و العبر،و القصص و الأمثال،و الأسباب و الحكم،و المبادئ و الغايات،في خلقه و أمره.

فلا تزال معانيه تنهض العبد إلى ربه بالوعد الجميل،و تحذره و تخوفه بوعيده من العذاب الوبيل،و تحثه على التضمر و التخفف للقاء اليوم الثقيل.و تهديه في ظلم الآراء و المذاهب إلى سواء السبيل،و تصده عن اقتحام طرق البدع و الأضاليل،و تبعثه على الازدياد من النعم بشكر ربه الجليل،و تبصره بحدود الحلال و الحرام.و توقفه عليها؛لئلا يتعداها فيقع في العناء الطويل.و تثبت قلبه عن الزيغ و الميل عن الحق و التحويل،و تسهل عليه الأمور الصعاب،و العقبات الشاقة غاية التسهيل،و تناديه كلما فترت عزماته،و ونى في سيره تقدم الركب وفاتك الدليل؛فاللحاق اللحاق،و الرحيل الرحيل،و تحدو به و تسير أمامه سير الدليل،و كلما خرج عليه كمين من كمائن العدو،أو قاطع من قطاع الطريق نادته:الحذر

ص: 443

الحذر!فاعتصم باللّه،و استعن به،و قل:حسبي اللّه و نعم الوكيل.

و في تأمل القرآن و تدبره و تفهمه أضعاف أضعاف ما ذكرنا من الحكم و الفوائد.

و بالجملة،فهو أعظم الكنوز،طلسمه الغوص بالفكر إلى قرار معانيه.

نزه فؤادك عن سوى روضاته فرياضه حلّ لكل منزه

و الفهم طلّسم لكنز علومه فاقصد إلى الطّلّسم تحظ بكنزه

لا تخش من بدع لهم و حوادث ما دمت في كنف الكتاب و حرزه

من كان حارسه الكتاب و درعه لم يخش من طعن العدو و وخزه

لا تخش من شبهاتهم و احمل إذا ما قابلتك بنصره و بعزه

و اللّه ما هاب امرؤ شبهاتهم إلا لضعف القلب منه و عجزه

يا ويح تيس ظالع يبغي مسا بقه الهزبر بعدوه و بجمزه

و دخان زبل يرتقي للشمس يس تر عينها لما سرى في أزه

و جبان قلب أعزل،قد رام يأس ر فارسا شاكي السلاح بهزه (1)

باب:منه فهم القرآن و تدبره هو الذي يثمر الإيمان،و أما مجرد التلاوة من غير فهم و لا تدبر، فيفعلها البر و الفاجر،و المؤمن و المنافق،كما قال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«و مثل المنافق الذي يقرأ القرآن،كمثل الريحانة،ريحها طيب،و طعمها مر» (2).

و الناس في هذا أربع طبقات:أهل القرآن و الإيمان،و هم أفضل الناس.

و الثانية:من عدم القرآن و الإيمان.

الثالثة:من أوتي قرآنا،و لم يؤت إيمانا.

الرابعة:من أوتي إيمانا و لم يؤت قرآنا.

قالوا:فكما أن من أوتي إيمانا بلا قرآن أفضل ممن أوتي قرآنا بلا إيمان،فكذلك من أوتي تدبرا،و فهما في التلاوة أفضل ممن أوتي كثرة قراءة و سرعتها بلا تدبر.قالوا:و هذان.

ص: 444


1- مدارج السالكين(451/1-453).
2- البخاري(7560)في التوحيد،باب:قراءة الفاجر المنافق،و مسلم(243/797)في صلاة المسافرين،باب:فضيلة حافظ القرآن.

هدى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم،فإنه كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها،و قام بآية حتى الصباح.

و قال أصحاب الشافعي رحمه اللّه:كثرة القراءة أفضل،و احتجوا بحديث ابن مسعود رضي اللّه عنه قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«من قرأ حرفا من كتاب اللّه،فله به حسنة،و الحسنة بعشر أمثالها،لا أقول الم حرف،و لكن ألف حرف،و لام حرف،و ميم حرف».رواه الترمذي، و صححه (1).

قالوا:و لأن عثمان بن عفان قرأ القرآن في ركعة،و ذكروا آثارا عن كثير من السلف في كثرة القراءة.

و الصواب في المسألة أن يقال:إن ثواب قراءة الترتيل و التدبر أجل و أرفع قدرا،و ثواب كثرة القراءة أكثر عددا،فالأول:كمن تصدق بجوهرة عظيمة،أو أعتق عبدا قيمته نفيسة جدا،و الثاني:كمن تصدق بعدد كثير من الدراهم،أو أعتق عددا من العبيد قيمتهم رخيصة، و في صحيح البخاري عن قتادة قال:سألت أنسا عن قراءة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم،فقال:كان يمد مدا (2).

و قال شعبة:حدثنا أبو جمرة،قال:قلت لابن عباس:إني رجل سريع القراءة،و ربما قرأت القرآن في ليلة مرة أو مرتين،فقال ابن عباس:لأن أقرأ سورة واحدة أعجب إليّ من أن أفعل ذلك الذي تفعل،فإن كنت فاعلا و لا بد،فاقرأ قراءة تسمع أذنيك،و يعيها قلبك.

و قال إبراهيم:قرأ علقمة على ابن مسعود،و كان حسن الصوت،فقال رتل فداك أبي و أمي،فإنه زين القرآن.

و قال ابن مسعود:لا تهذوا القرآن هذّ الشعر،و لا تنثروه نثر الدقل،وقفوا عند عجائبه، و حركوا به القلوب و لا يكن همّ أحدكم آخر السورة.

و قال عبد اللّه أيضا:إذا سمعت اللّه يقول يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فأصغ لها سمعك؛ فإنه خير تؤمر به،أو شر تصرف عنه.

و قال عبد الرحمن بن أبي ليلى:دخلت عليّ امرأة،و أنا أقرأ«سورة هود»فقالت ياة.

ص: 445


1- الترمذي(2910)في فضائل القرآن،باب:ما جاء فيمن قرأ حرفا من القرآن ما له من الأجر،و قال: «حسن صحيح غريب».
2- البخاري(5045)في فضائل القرآن،باب:مد القراءة.

عبد الرحمن،هكذا تقرأ سورة هود؟!و اللّه إني فيها منذ ستة أشهر،و ما فرغت من قراءتها (1).

علاج المدبر عن سماع القرآن

إذا لم يكن بد من المحاكمة إلى الذوق،فهلم نحاكمك إلى ذوق لا ننكره نحن و لا أنت،غير هذه الأذواق التي ذكرناها.

فالقلب يعرض له حالتان:حالة حزن و أسف على مفقود،و حالة فرح و رضى بموجود، و له بمقتضى هاتين الحالتين عبوديتان.

و له بمقتضى الحالة الأولى:عبودية الرضاء،و هي للسابقين.و الصبر،و هي لأصحاب اليمين.

و له بمقتضى الحالة الثانية:عبودية الشكر،و الشاكرون فيها أيضا نوعان:سابقون و أصحاب يمين.فاقتطعته النفس و الشيطان عن هاتين العبوديتين،بصوتين أحمقين فاجرين، هما للشيطان لا للرحمن:صمت الندب و النياحة عند الحزن و فوات المحبوب،و صوت اللهو و المزمار و الغناء عند الفرح و حصول المطلوب فعوضه الشيطان بهذين الصوتين عن تينك العبوديتين.

و قد أشار النبي صلّى اللّه عليه و سلّم إلى هذا المعنى بعينه في حديث أنس رضي اللّه عنه:«إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين:صوت ويل عند مصيبة،و صوت مزمار عند نعمة» (2).

و وافق ذلك راحة من النفس و شهوة و لذة،و سرت فيها تلك الرقائق حتى تعبد بها من قل نصيبه من النور النبوي،و قل مشربه من العين المحمدية،و انضاف ذلك إلى صدق و طلب و إرادة مضادة لشهوات أهل الغي و أهل البطالة.و رأوا قساوة قلوب المنكرين لطريقتهم، و كثافة حجبهم،و غلظة طباعهم،و ثقل أرواحهم.و صادف ذلك تحريكا لسواكنهم؛و انقيادا للواعج الحب،و إزعاجا للنفوس إلى أوطانها الأولى (3)و معاهدها التي سبيت منها، و النفوس الطالبة المرتاضة السائرة لا بد لها من محرك يحركها،و حاد يحدوها.و ليس لها من

ص: 446


1- زاد المعاد(337/1-340).
2- الترمذي(1005)في الجنائز،باب:ما جاء في الرخصة في البكاء على الميت،و قال:«هذا حديث حسن».
3- إن الذي يتحرك عند سماع الغناء و الموسيقى،و يطرب و يستيقظ و يتلذذ:هو النفس البهيمية،لا النفس الإنسانية.و لذلك استدلوا عليه بما تجده البهائم و الطيور و الوحوش عند سماعها للغناء و الموسيقى و الحداء،فهي تتحرك حركة بهيمية لا تجد من الإنسانية الكريمة المفكرة المميزة يقظة و رشدا تكبح به

حادي القرآن عوض عن حادي السماع.

فتركب من هذه الأمور:إيثار منهم للسماع.و محبة صادقة له.تزول الجبال عن أماكنها و لا تفارق قلوبهم،إذ هو مثير عزماتهم و محرك سواكنهم،و مزعج بواطنهم.

فدواء صاحب مثل هذا الحال:أن ينقل بالتدريج إلى سماع القرآن بالأصوات الطيبة، مع الإمعان في تفهم معانيه،و تدبر خطابه قليلا قليلا،إلى أن ينخلع من قلبه سماع الأبيات، و يلبس محبة سماع الآيات،و يصير ذوقه و شربه و حاله و وجده فيه،فحينئذ يعلم هو من نفسه:أنه لم يكن على شيء و يتمثل حينئذ بقول القائل:

و كنت أرى أن قد تناهى بي الهوى إلى غاية ما فوقها لي طلب

فلما تلاقينا و عاينت حسنها تيقنت أني إنما كنت ألعب (1)

هل الأفضل قلة القراءة مع التدبر أو الكثرة بدونه؟

قد اختلف الناس في الأفضل من الترتيل و قلة القراءة أو السرعة مع كثرة القراءة:أيهما أفضل؟على قولين.

فذهب ابن مسعود و ابن عباس رضي اللّه عنهما و غيرهما إلى أن الترتيل و التدبر مع قلة القراءة أفضل من سرعة القراءة مع كثرتها.

و احتج أرباب هذا القول بأن المقصود من القراءة فهمه و تدبره،و الفقه فيه و العمل به، و تلاوته و حفظه وسيلة إلى معانيه كما قال بعض السلف:نزل القرآن ليعمل به،فاتخذوا تلاوته عملا،و لهذا كان أهل القرآن هم العالمون به،و العاملون بما فيه،و إن لم يحفظوه عن ظهر قلب.

ص: 447


1- مدارج السالكين(498/1،499)

و أما من حفظه و لم يفهمه،و لم يعمل بما فيه؛فليس من أهله و إن أقام حروفه أقامه السهم (1).

و أيضا قراءة سورة بتدبر و معرفة و تفهم،و جمع القلب عليها،أحب إلى اللّه تعالى من قراءة ختمة سردا و هذّا،و إن كثر ثواب هذه القراءة (2).

العلم بالقرآن أفضل العلوم

إن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قدم بالفضائل العلية،في أعلى الولايات الدينية و أشرفها و قدم بالعلم بالأفضل على غيره.

فروى مسلم في صحيحه من حديث أبي مسعود البدري عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم«يؤم القوم أقرؤهم لكتاب اللّه،فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة،فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم إسلاما أو سنا» (3)و ذكر الحديث،فقدم في الإمامة تفضيله على تقدم الإسلام و الهجرة.و لما كان العلم بالقرآن أفضل من العلم بالسنة لشرف معلومه على معلوم السنة،قدم العلم به،ثم قدم العلم بالسنة على تقدم الهجرة و فيه من زيادة العمل ما هو متميز به،لكن إنما راعى التقديم بالعلم ثم بالعمل،و راعى التقديم بالعلم بالأفضل على غيره،و هذا يدل على شرف العلم و فضله و إن أهله هم أهل التقدم إلى المراتب الدينية (4).

تعلم قراءة القرآن

سأله صلّى اللّه عليه و سلّم رجل،فقال:ما يمنعني أن أتعلم القرآن إلا خشية ألا أقوم به،فقال:«تعلم القرآن و اقرأه و ارقد،فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأه و قال به،كمثل جراب محشو مسكا يفوح ريحه على كل مكان،و من تعلمه و رقد و هو في جوفه كمثل جراب و كى على مسك» (5)(6).

ص: 448


1- زاد المعاد(337/1،338).
2- المنار المنيف(29).
3- مسلم(290/673)في المساجد و مواضع الصلاة،باب:من أحق بالإمامة.
4- مفتاح دار السعادة(80).
5- الترمذي(2876)في فضائل القرآن،باب:ما جاء في فضل سورة البقرة و آية الكرسي،و قال:«هذا حديث حسن»،و ابن ماجة(217)في المقدمة،باب:فضل من تعلم القرآن و علمه.
6- إعلام الموقعين(390/4).

المقصود من تعلم القرآن

ثبت في صحيح البخاري من حديث عثمان بن عفان رضي اللّه عنه عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أنه قال:

«خيركم من تعلم القرآن و علمه» (1)و تعلم القرآن و تعليمه يتناول تعلم حروفه و تعليمها،و تعلم معانيه و تعليمها،و هو أشرف قسمى علمه و تعليمه.

فإن المعنى هو المقصود و اللفظ وسيلة إليه،فتعلم المعنى و تعليمه تعلم الغاية و تعليمها، و تعلم اللفظ المجرد و تعليمه تعلم الوسائل و تعليمها،و بينهما كما بين الغايات و الوسائل (2).

تحسين الصوت بالقرآن

قال صاحب الغناء:و ندب النبي صلّى اللّه عليه و سلّم إلى تحسين الصوت بالقرآن،فروى البراء بن عازب قال:سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول:«حسنوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا» (3).و عن أنس عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«لكل شيء حلية و حلية القرآن الصوت الحسن» (4).

و قد صح عنه صلّى اللّه عليه و سلّم أنه قال:«ليس منا من لم يتغن بالقرآن» (5).

و قد قال الإمام أحمد في تفسيره:«يحسنه بصوته ما استطاع»و قال الشافعي:«نحن أعلم بهذا من سفيان»ينكر عليه قوله يستغنى به.

و إنما هو تحسين الصوت و قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«للّه أشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته» (6)فإذا ندب إلى تحسين الصوت بالقرآن و التغني به،جاز أن يحسن الصوت بالشعر و يتغنى به،و أي حرج في تحسين الصوت بالشعر.

قال صاحب القرآن:هذه الأدلة إنما تدل على فضل الصوت الحسن بكتاب اللّه لا على فضل الصوت الحسن بالغناء،الذي هو مزمور الشيطان،و من قاس هذا بهذا،و شبه أحدهما بالآخر فقد شبه الباطل بالحق،و قاس قرآن الشيطان على كتاب الرحمن.و هل هذا إلا نظير

ص: 449


1- البخاري(5027)في فضائل القرآن،باب:خيركم من تعلم القرآن و علمه.
2- مفتاح دار السعادة(80).
3- الدارمي(474/2)في فضائل القرآن،باب:التغني بالقرآن.
4- عبد الرزاق(4173)،و الهيثمي في المجمع(174/7)و قال:«رواه البزار و فيه عبد اللّه بن محرز و هو متروك».
5- سبق تخريجه ص(430)
6- سبق تخريجه ص(429)

قول من يقول:إذا أمر اللّه بالقتال في سبيله بالسيف و الرمح و النشاب (1)دل ذلك على فضيلة الطعن و الضرب و الرمي،ثم يحتج بذلك على جواز الضرب و الطعن و الرمي في غير سبيل اللّه،بل على استحبابه،و نظير من قال:إذا أمر اللّه بإنفاق المال في سبيله.دلّ على فضيلة المال ثم يحتج بذلك على جواز إنفاق المال أو استحبابه في غير سبيله،و نظيره:قول من يقول:إذا أمر اللّه بالاستعفاف بالنكاح دل على فضيلة النساء،ثم يحتج بذلك على جواز ما لم يأمر به من ذلك،و كذلك كل ما يعين على طاعة اللّه و محابه و مراضيه،و لا يدل ذلك على أنه في نفسه محمود على الإطلاق،حتى يحتج على أنه محمود حال كونه معينا على غير طاعة اللّه من البدع و الفجور و المعاصي.

إذا ثبت هذا؛فتحسين الصوت ندب إليه،و حمد الصوت الحسن لما تضمنه من الإعانة على ما يحبه اللّه من سماع القرآن،و يحصل به من تنفيذ معانيه إلى القلوب ما يزيدها إيمانا، و يقربها إلى ربها،و يدنيها من محابه،فالصوت الحسن بالقرآن منفذ لحقائق الإيمان،معين على إيصالها إلى القلوب،فكيف يجعل نظير الصوت الحسن بالغناء الذي ينبت النفاق في القلب،و أخف أنواعه و أقلها شرا:«ما وضعته الزنادقة يصدون به الناس عن القرآن»، فالصوت الحسن من هذا ينفذ حقائق النفاق و الفجور و الفسوق إلى القلب؛و لهذا يظهر في الأفعال و على اللسان،فالسماع الشيطاني الذي يتقرب به أهله إلى اللّه،ينفذ الصوت الحسن فيه حقائق النفاق إلى القلب،و السماع الآخر الذي يعده أهله لهوا و لعبا،ينفذ ما يكرهه اللّه من شهوات الفسوق إلى القلب فالاعتبار بحقائق المسموع،و الصوت الحسن آلة و منفذ (2).

باب:منه قوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«ليس منا من لم يتغن بالقرآن» (3).إما أن يريد به الحض على أصل الفعل، هو نفس التغني به،أو على صفته و هو أن يكون تغنيه إذا تغنى به لا بغيره (4)،و هذا نظير ما حمل عليه قوله تعالى: وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ [المائدة:49]،هل هو أمر بأصل).

ص: 450


1- النشاب:السهام.
2- الكلام على مسألة السماع(314-317).
3- البخاري(7527)في التوحيد،باب:قول اللّه تعالى: وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ.. ،و أبو داود (1469)في الصلاة،باب:استحباب الترتيل في الصلاة،و أحمد(172/1).
4- قال ابن الأعرابي:كانت العرب تتغنى بالركباني[غناء الركباني و هو النشيد بالمد و التمطيط]إذا ركبت الإبل،و إذا جلست في الأفنية،و على أكثر أحوالها،فلما نزل القرآن أحب النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أن يكون هجيراهم بالقرآن مكان التغني بالركباني.(لسان العرب:غنا).

الحكم،أو بصفته إذا حكم؟فيه قولان،و نظيره:أمره صلّى اللّه عليه و سلّم بالدعاء في السجود،هل هو أمر بأصل الدعاء أو المعنى إذا دعوتم فاجعلوا دعاءكم في السجود،فإنه«فمن أن يستجاب لكم» (1)فقوله:«ليس منا من لم يتغن بالقرآن»،إن أريد به الحض على نفس الفعل كان ذما لمن ترك التغني به،و إن أريد به المعنى الثاني،و هو أنه إذا تغنى فليتغن بالقرآن،كان ذما لمن تغنى بغيره لا لمن ترك التغني به،و بين المعنيين فرق ظاهر،و قد يصح أن يرادا معا، و أنه ذم من ترك التغني به،و من تغنى بغيره،و اللّه أعلم (2).

و أيضا إن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم ندب إلى تحسين الصوت بالقرآن و تزيينه به،و استمعه هو و أصحابه فقال:

«زينوا القرآن بأصواتكم» (3)،و قال:«ما أذن اللّه لشيء كإذنه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن» (4)،و قال لأبي موسى:«لقد مررت بك البارحة و أنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك».فقال:لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا (5)و قال:«للّه أشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته» (6)،و مع هذا فلا يسوغ أن يقرأ القرآن بألحان الغناء،و تقرن به من الألحان و آلات اللهو ما يقرن بالغناء حتى و لا عند من يقول بإباحة ذلك في الشعر بل المسلمون مجمعون على تحريمه (7).

مسألة قال صاحب السماع:إذا كان النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قد أخبر عن ربه أنه يستمع للصوت الحسن، و النبي صلّى اللّه عليه و سلّم استمع صوت أبي موسى و أعجبه،و أثنى عليه،و قال:«قد أوتي هذا مزمارا من).

ص: 451


1- مسلم(207/479)في الصلاة،باب:النهي عن قراءة القرآن في الركوع و السجود،و أحمد(/1 155)،و قال الشيخ أحمد شاكر:«إسناده ضعيف من أجل عبد الرحمن بن إسحاق».
2- الكلام(314-318)،حكم سماع الغناء(201:204).
3- أبو داود(1468)في الصلاة،باب:استحباب الترتيل في القراءة،و ابن ماجة(1342)في إقامة الصلاة،باب:حسن الصوت بالقرآن.
4- البخاري(5024)في فضائل القرآن،باب الوصاة بكتاب اللّه عز و جلّ،و مسلم(232/792)في صلاة المسافرين،باب:استحباب تحسين الصوت بالقرآن.
5- سبق تخريجه ص(429).
6- سبق تخريجه ص(429).
7- الكلام على مسألة السماع ص(271)،حكم سماع الغناء(71).

مزامير آل داود»،فقال له أبو موسى:لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا (1).أي:زينته و حسنته،و منه البرد المحبر.

و قد روي أن داود كان يستمع لصوته الحسن الإنس و الجن و الطير و الوحوش،و كان يحمل من مجلسه أربعمائة جنازة ممن قد مات من قراءته (2).

قال صاحب القرآن:عجبا لكم أيها السماعاتية و لاستدلالكم،فلو أن المنكرين عليكم كرهوا حسن الصوت و عابوه و ذموه مطلقا؛لكان في ذلك احتجاج عليهم،كيف و هم أخبر الناس في الصوت الحسن؟لكن الشأن فيما يؤدي بالصوت.

فهذه الآثار التي ذكرتموها،و أكثر منها إنما تدل على استحباب تحسين الصوت بالقرآن، و من نازع في هذا؟فالاستدلال بها على تحسين الصوت بالغناء الذي هو قرآن الشيطان، و مادة النفاق و رقية الفواحش أفسد من قياس الربا على البيع،فإن بين الغناء و القرآن من التباين أعظم مما بين البيع و الربا،و مما بين النكاح و السفاح،و مما بين الشراب الحلال و الشراب الحرام.

فأين سماع المكاء و التصدية الذي ذمه اللّه في كتابه،و أخبر أنه سماع المشركين،من سماع أنبيائه و رسله و أوليائه و حزبه المفلحين؟.

و أين سماع المخانيث و القينات و الفساق و المغنين من سماع الخلفاء الراشدين و المهاجرين و الأنصار و الذين اتبعوهم بإحسان،و اقتفوا طريقتهم المثلى،و سبيلهم الأقوم، و سلكوا منهاجهم الواضح؟و كيف يقاس مؤذن الشيطان الداعي بحي على غير الفلاح،على مؤذن الرحمن الداعي إلى السعادة و النجاح،و قد تقدم ذكر الحديث الذي رواه الطبراني الكبير في معجمه عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«أن الشيطان قال:يا رب اجعل لي قرآنا قال قرآنك الشعر، قال:اجعل لي مؤذنا قال:مؤذنك المزمار» (3).

فمن قاس قرآن الشيطان و مؤذنه على قرآن الرحمن و مؤذنه فاللّه حسيبه و مجازيه،و سيعلم يوم الحشر أي بضاعة أضاع،و عند الميزان أ يثقل أم يخف بما قدم به من السماع،و هاهنا الناس أربعة أقسام.».

ص: 452


1- سبق تخريجه ص(429).
2- انظر الرسالة القشيرية(2،6)
3- الطبراني في الكبير(245/8،246)(7837)،و قال الهيثمي في المجمع(122/8):«و فيه علي بن يزيد الألهاني و هو ضعيف،و قد تقدم لهذا طرق في كتاب الإيمان».

أحدها:من يشتغل بسماع القرآن عن سماع الشيطان.

و الثاني:عكسه.

و الثالث:من له نصيب من هذا و هذا.

و الرابع:ليس له نصيب لا من هذا و لا من هذا.

فالاشتغال بسماع القرآن الرحماني،حال السابقين الأولين و أتباعهم و من سلك سبيلهم.

و الثاني حال المشركين و المنافقين و الفجار و الفساق و المبطلين و من سلك سبيلهم.

و الثالث حال مؤمن له مادتان:مادة من القرآن،و مادة من الشيطان،و هو للغالب عليه منهما.

و الرابع حال الفارغ من ذوق هذا و هذا،فهو في شأن،و أولئك في شأن،فهذه الآثار التي تضمنت مدح الصوت الحسن بالقرآن،و ما يحبه اللّه،و من احتج بها على السماع الشيطاني فقد بخس حظه من العلم و المعرفة.

و أيضا،فإن العبد لو سمع كلام اللّه بلا واسطة،كما سمعه موسى بن عمران،لم يكن سماعه بعد الأصوات و الألحان و الغناء محركا لذلك مذكرا به،بل المأثور أن موسى مقت الآدميين و أصواتهم و كلامهم لما وقر في مسامعه من كلام ربه جلّ جلاله (1)(2).

هديه صلّى اللّه عليه و سلّم في قراءة القرآن،و استماعه و خشوعه،

و بكائه عند قراءته،و استماعه و تحسين صوته به و توابع ذلك

كان له صلّى اللّه عليه و سلّم حزب يقرؤه،و لا يخل به،و كانت قراءته ترتيلا لا هذّا و لا عجلة،بل قراءة مفسرة حرفا حرفا و كان يقطع قراءته آية آية.و كان يمد عند حروف المد،فيمد«الرحمن» و يمد«الرحيم»،و كان يستعيذ باللّه من الشيطان الرجيم في أول قراءته،فيقول:«أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم»،و ربما كان يقول:«اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه و نفخه،و نفثه» (3).و كان تعوذه قبل القراءة.

ص: 453


1- عزاه ابن كثير في تفسيره(589/1)لابن مردويه من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس موقوفا عليه و قال ابن كثير:إسناد ضعيف،فإن جويبرا ضعف،و الضحاك لم يدرك ابن عباس رضي اللّه عنه.
2- الكلام على مسألة السماع(376،383)،حكم سماع الغناء(245،246،251).
3- أبو داود(764)في الصلاة،باب:ما يستفتح به الصلاة من الدعاء،و ابن ماجة(807)في إقامة الصلاة و السنة فيها،باب:الاستعاذة في الصلاة،و ضعفه الألباني.

و كان يحب أن يسمع القرآن من غيره،و أمر عبد اللّه بن مسعود،فقرأ عليه و هو يسمع، و خشع صلّى اللّه عليه و سلّم لسماع القرآن منه،حتى ذرفت عيناه (1).

و كان يقرأ القرآن قائما،و قاعدا،و مضطجعا و متوضئا،و محدثا،و لم يكن يمنعه من قراءته إلا الجنابة.

و كان صلّى اللّه عليه و سلّم يتغنى به،و يرجع صوته به أحيانا كما رجع يوم الفتح في قراءته: إِنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1)[الفتح].و حكى عبد اللّه بن مغفل ترجيعه،آآآ ثلاث مرات،ذكره البخاري (2).

و إذا جمعت هذه الأحاديث إلى قوله:«زينوا القرآن بأصواتكم» (3)،و قوله:«ليس منا من لم يتغن بالقرآن» (4)،و قوله:«زينوا القرآن بأصواتكم ليس منا من لم يتغن بالقرآن ما أذن اللّه لشيء كإذنه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن» (5)علمت أن هذا الترجيع منه صلّى اللّه عليه و سلّم كان اختيارا لا اضطرارا لهز الناقة له،فإن هذا لو كان لأجل هز الناقة،لما كان داخلا تحت الاختيار،فلم يكن عبد اللّه بن مغفل يحكيه و يفعله اختيارا ليؤتسى به،و هو يرى هز الراحلة له حتى ينقطع صوته،ثم يقول:كان يرجع في قراءته،فنسب الترجيع إلى فعله،و لو كان من هز الراحلة،لم يكن منه فعل يسمى ترجيعا.

و قد استمع ليلة لقراءة أبي موسى الأشعري،فلما أخبره بذلك،قال:لو كنت أعلم أنك تسمعه؛لحبرته لك تحبيرا (6)،أي:حسنته و زينته بصوتي تزيينا،و روى أبو داود في «سننه»عن عبد الجبار بن الورد،قال:سمعت ابن أبي مليكة يقول:قال عبد اللّه بن أبي يزيد:مر بنا أبو لبابة،فاتبعناه حتى دخل بيته،فإذا رجل رث الهيئة،فسمعته يقول:سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول:«ليس منا من لم يتغن بالقرآن».قال:فقلت لابن أبي مليكة:يا أبا محمد،أ رأيت إذا لم يكن حسن الصوت؟قال:يحسنه ما استطاع.

قلت:لا بد من كشف هذه المسألة،و ذكر اختلاف الناس فيها،و احتجاج كل فريق،و ما).

ص: 454


1- البخاري(5049)في فضائل القرآن،باب:من أحب أن يستمع القرآن من غيره.
2- البخاري(4835)في التفسير،باب إِنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1).
3- سبق تخريجه ص(451).
4- سبق تخريجه ص(450).
5- سبق تخريجه ص(451).
6- سبق تخريجه ص(429).

لهم و عليهم في احتجاجهم،و ذكر الصواب في ذلك بحول اللّه-تبارك و تعالى-و معونته.

فقالت طائفة:تكره قراءة الألحان،و ممن نص على ذلك أحمد و مالك و غيرهما،فقال أحمد في رواية علي بن سعيد في قراءة الألحان:ما تعجبني و هو محدث.

و قال في رواية المروزي القراءة بالألحان بدعة لا تسمع.

و قال في رواية عبد الرحمن المتطبب قراءة الألحان بدعة.

و قال في رواية ابن عبد اللّه،و يوسف بن موسى،و يعقوب بن بختان،و الأثرم، و إبراهيم بن الحارث:القراءة بالألحان لا تعجبني إلا أن يكون ذلك حزنا،فيقرأ بحزن مثل صوت أبي موسى.

و قال في رواية صالح:«زينوا القرآن بأصواتكم»،معناه:أن يحسنه.

و قال في رواية المروزي:«ما أذن اللّه لشيء كإذنه لنبي حسن الصوت أن يتغنى بالقرآن»،و في رواية قوله:«ليس منا من لم يتغن بالقرآن»،فقال:كان ابن عيينة يقول:

يستغنى به.و قال الشافعي:يرفع صوته،و ذكر له حديث معاوية بن قرة في قصة قراءة سورة الفتح و الترجيع فيها،فأنكر أبو عبد اللّه أن يكون على معنى الألحان،و أنكر الأحاديث التي يحتج بها في الرخصة في الألحان.

و روى ابن القاسم،عن مالك،أنه سئل عن الألحان في الصلاة،فقال:لا تعجبني، و قال:إنما هو غناء يتغنون به،ليأخذوا عليه الدراهم.

و ممن رويت عنه الكراهة،أنس بن مالك،و سعيد بن المسيب،و سعيد بن جبير، و القاسم بن محمد،و الحسن،و ابن سيرين،و إبراهيم النخعي.

و قال عبد اللّه بن يزيد العكبري:سمعت رجلا يسأل أحمد،و ما تقول في القراءة بالألحان؟فقال:ما اسمك؟قال محمد:قال:أ يسرك أن يقال لك:يا موحمد ممدودا، قال القاضي أبو يعلى:هذه مبالغة في الكراهية.

و قال الحسن بن عبد العزيز الجروي:أوصى إلى رجل بوصية،و كان فيما خلف جارية تقرأ بالألحان،و كانت أكثر تركته أو عامتها،فسألت أحمد بن حنبل و الحارث بن مسكين، و أبا عبيد،كيف أبيعها؟فقالوا:بعها ساذجة،فأخبرتهم بما في بيعها من النقصان،فقالوا:

بعها ساذجة.قال القاضي و إنما قالوا ذلك؛لأن سماع ذلك منها مكروه،فلا يجوز أن يعارض عليه كالغناء.

ص: 455

قال ابن بطال:و قالت طائفة:التغني بالقرآن،هو تحسين الصوت به،و الترجيع بقراءته،قال:و التغني بما شاء من الأصوات و اللحون هو قول ابن المبارك،و النضر بن شميل،قال:و ممن أجاز الألحان في القرآن:ذكره الطبري،عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، أنه كان يقول لأبي موسى:ذكرنا ربنا؛فيقرأ أبو موسى و يتلاحن،و قال:من استطاع أن يتغنى بالقرآن غناء أبي موسى،فليفعل.و كان عقبة بن عامر من أحسن الناس صوتا بالقرآن، فقال له عمر:أعرض عليّ سورة كذا،فعرض عليه،فبكى عمر،و قال:ما كنت أظن أنها نزلت.قال:و أجازه ابن عباس،و ابن مسعود،و روي عن عطاء بن أبي رباح،قال:و كان عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد،يتتبع الصوت الحسن في المساجد في شهر رمضان.و ذكر الطحاوي عن أبي حنيفة و أصحابه:أنهم كانوا يستمعون القرآن بالألحان.و قال محمد بن عبد الحكم:رأيت أبي و الشافعي و يوسف بن عمر يستمعون القرآن بالألحان،و هذا اختيار ابن جرير الطبري.

قال المجوزون:-و اللفظ لابن جرير:الدليل على أن معنى الحديث تحسين الصوت، و الغناء المعقول الذي هو تحزين القارئ سامع قراءته،كما أن الغناء بالشعر هو الغناء المعقول الذي يطرب سامعه:ما روى سفيان،عن الزهري،عن أبي سلمة،عن أبي هريرة، أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم،قال:«ما أذن اللّه لشيء ما أذن لنبي حسن الترنم بالقرآن» (1)،و معقول عند ذوي الحجا،أن الترنم لا يكون إلا بالصوت إذا حسنه المترنم و طرب به.و روي في هذا الحديث:«ما أذن اللّه لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به».قال الطبري:«و هذا الحديث من أبين البيان أن ذلك كما قلنا،قال:و لو كان كما قال ابن عيينة،يعني:يستغني به عن غيره،لم يكن لذكر حسن الصوت و الجهر به معنى،و المعروف في كلام العرب أن التغني إنما هو الغناء الذي هو حسن الصوت بالترجيع،قال الشاعر:

تغن بالشعر إما كنت قائله إن الغناء لهذا الشعر مضمار

قال:و أما ادعاء الزاعم أن تغنيت بمعنى استغنيت فاش في كلام العرب فلم نعلم أحدا قال به من أهل العلم بكلام العرب.

و أما احتجاجه لتصحيح قوله بقول الأعشى:

و كنت امرأ زمنا بالعراق عفيف المناخ طويل التغن).

ص: 456


1- سبق تخريجه ص(451).

و زعم أنه أراد بقوله:طويل التغني طويل الاستغناء،فإنه غلط منه،و إنما عنى الأعشى بالتغني في هذا الموضع:الإقامة من قول العرب:غنى بمكان كذا:إذا أقام به،و منه قوله تعالى: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا [الأعراف:92]،و استشهاده بقول الآخر:

كلانا غنى عن أخيه حياته و نحن إذا متنا أشد تغانيا

فإنه إغفال منه،و ذلك لأن التغاني تفاعل من تغنى:إذا استغنى كل فلان منهما عن صاحبه،كما يقال:تضارب الرجلان،إذا ضرب كل واحد صاحبه،و تشاتما،و تقاتلا.

و من قال:هذا في فعل اثنين،لم يجز أن يقول مثله في فعل الواحد،فيقول:تغانى زيد،و تضارب عمر،و ذلك غير جائز أن يقول تغنى زيد بمعنى استغنى،إلا أن يريد به قائله أنه أظهر الاستغناء،و هو غير مستغن،كما يقال:تجلد فلان:إذا أظهر جلدا من نفسه، و هو غير جليد،و تشجع،و تكرم.

فإن وجه موجه التغني بالقرآن إلى هذا المعنى على بعده من مفهوم كلام العرب،كانت المصيبة في خطئه في ذلك أعظم؛لأنه يوجب على من تأوله أن يكون اللّه-تعالى ذكره-لم يأذن لنبيه أن يستغني بالقرآن،و إنما أذن له أن يظهر من نفسه لنفسه خلاف ما هو به من الحال،و هذا لا يخفى فساده.قال:و مما يبين فساد تأويل ابن عيينة أيضا أن الاستغناء عن الناس بالقرآن من المحال أن يوصف أحد به أنه يؤذن له فيه أو لا يؤذن،إلا أن يكون الأذن عند ابن عيينة بمعنى الإذن،الذي هو إطلاق و إباحة،و إن كان كذلك،فهو غلط من وجهين،أحدهما:من اللغة،و الثاني:من إحالة المعنى عن وجهه.أما اللغة،فإن الأذن مصدر قوله:أذن فلان لكلام فلان،فهو يأذن له:إذا استمع له و أنصت،كما قال تعالى:

وَ أَذِنَتْ لِرَبِّها وَ حُقَّتْ (2)[الانشقاق]،بمعنى سمعت لربها و حق لها ذلك،كما قال عدي بن زيد:إن همي في سماع و أذن،بمعنى،في سماع و استماع.

فمعنى قوله:ما أذن اللّه لشيء،إنما هو:ما استمع اللّه لشيء من كلام الناس ما استمع لنبي يتغنى بالقرآن.

و أما الإحالة في المعنى؛فلأن الاستغناء بالقرآن عن الناس غير جائز؛وصفه بأنه مسموع و مأذون له،انتهى كلام الطبري.

قال أبو الحسن بن بطال:و قد وقع الإشكال في هذه المسألة أيضا بما رواه ابن أبي شيبة،حدثنا زيد بن الحباب،قال:حدثني موسى بن علي بن رباح،عن أبيه،عن عقبة بن عامر،قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم«تعلموا القرآن و تغنوا به،و اكتبوه،فوالذي نفسي بيده،لهو

ص: 457

أشد تفصيا من المخاض من العقل» (1).

قال:و ذكر عمر بن شبة،قال ذكر لأبي عاصم النبيل تأويل ابن عيينة في قوله:«يتغنى بالقرآن»يستغنى به،فقال:لم يصنع ابن عيينة شيئا،حدثنا ابن جريج،عن عطاء،عن عبيد بن عمير،قال:كانت لداود نبي اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم معزفة يتغنى عليها يبكي و يبكي.

و قال ابن عباس:إنه كان يقرأ الزبور بسبعين لحنا،تكون فيهن،و يقرأ قراءة يطرب منها الجموع.و سئل الشافعي-رحمه اللّه-عن تأويل ابن عيينة فقال:نحن أعلم بهذا،لو أراد به الاستغناء؛لقال:«من لم يستغن بالقرآن»،و لكن لما قال:«يتغنى بالقرآن»،علمنا أنه أراد به التغني.قالوا:و لأن تزيينه،و تحسين الصوت به،و التطريب بقراءته أوقع في النفوس، و أدعى إلى الاستماع و الإصغاء إليه،ففيه تنفيذ للفظه إلى الأسماع،و معانية إلى القلوب، و ذلك عون على المقصود،و هو بمنزلة الحلاوة التي تجعل في الدواء لتنفذه إلى موضع الداء،و بمنزلة الأفاوية و الطيب الذي يجعل في الطعام؛لتكون الطبيعة أدعى له قبولا، و بمنزلة الطيب و التحلي،و تجمل المرأة لبعلها؛ليكون أدعى إلى مقاصد النكاح.قالوا:و لا بد للنفس من طرب و اشتياق إلى الغناء،فعوضت عن طرب الغناء بطرب القرآن،كما عوضت عن كل محرم و مكروه بما هو خير لها منه،و كما عوضت عن الاستقسام بالأزلام بالاستخارة التي هي محض التوحيد و التوكل،و عن السفاح بالنكاح،و عن القمار بالمراهنة بالنصال و سباق الخيل،و عن السماع الشيطاني بالسماع الرحماني القرآني،و نظائره كثيرة جدا.

قالوا:و المحرم،لا بد أن يشتمل على مفسدة راجحة،أو خالصة،و قراءة التطريب و الألحان لا تتضمن شيئا من ذلك،فإنها لا تخرج الكلام عن وضعه،و لا تحول بين السامع و بين فهمه،و لو كانت متضمنة لزيادة الحروف كما ظن المانع منها:لأخرجت الكلمة عن موضعها،و حالت بين السامع و بين فهمها،و لم يدر ما معناها،و الواقع بخلاف ذلك.

قالوا:و هذا التطريب و التلحين،أمر راجع إلى كيفية الأداء،و تارة يكون سليقة و طبيعة، و تارة يكون تكلفا و تعملا،و كيفيات الأداء لا تخرج الكلام عن وضع مفرداته،بل هي صفات لصوت المؤدي،جارية مجرى ترقيقه و تفخيمه و إمالته،و جارية مجرى مدود القراء الطويلة و المتوسطة،لكن تلك الكيفيات متعلقة بالحروف،و كيفيات الألحان و التطريب، متعلقة بالأصوات،و الآثار في هذه الكيفيات،لا يمكن نقلها،بخلاف كيفيات أداء».

ص: 458


1- أحمد(146/4)،و قال الهيثمي في المجمع(172/7):«و رجال أحمد رجال الصحيح».

الحروف؛فلهذا نقلت تلك بألفاظها،و لم يمكن نقل هذه بألفاظها،بل نقل منها ما أمكن نقله،كترجيع النبي صلّى اللّه عليه و سلّم في سورة الفتح بقوله:«آآآ».قالوا:و التطريب و التلحين راجع إلى أمرين:مد و ترجيع،و قد ثبت عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم،أنه كان يمد صوته بالقراءة يمد«الرحمن» و يمد«الرحيم»،و ثبت عنه الترجيع كما تقدم.

قال المانعون من ذلك:الحجة لنا من وجوه،أحدها:ما رواه حذيفة بن اليمان،عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«اقرءوا القرآن بلحون العرب و أصواتها،و إياكم و لحون أهل الكتاب و الفسق،فإنه سيجيء من بعدي أقوام يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء و النوح،لا يجاوز حناجرهم،مفتونة قلوبهم،و قلوب الذين يعجبهم شأنهم» (1).رواه أبو الحسن رزين في«تجريد الصحاح»و رواه أبو عبد اللّه الحكيم الترمذي في«نوادر الأصول» (2).و احتج به القاضي أبو يعلى في«الجامع»، و احتج معه بحديث آخر،أنه صلّى اللّه عليه و سلّم ذكر شرائط الساعة،و ذكر أشياء،منها:«أن يتخذ القرآن مزامير،يقدمون أحدهم ليس بأقرئهم و لا أفضلهم ما يقدمونه إلا ليغنيهم غناء» (3).

قالوا:و قد جاء زياد النهدي إلى أنس رضي اللّه عنه مع القراء،فقيل له:اقرأ،فرفع صوته و طرب،و كان رفيع الصوت،فكشف أنس عن وجهه،و كان على وجهه خرقة سوداء، و قال:يا هذا،ما هكذا كانوا يفعلون،و كان إذا رأى شيئا ينكره،رفع الخرقة عن وجهه.

قالوا:و قد منع النبي صلّى اللّه عليه و سلّم المؤذن المطرب في أذانه من التطريب،كما روى ابن جريج،عن عطاء،عن ابن عباس قال:كان لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم مؤذن يطرب،فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«إن الأذان سهل سمح،فإن كان أذانك سهلا سمحا،و إلا فلا تؤذن».رواه الدارقطني (4).

و روى عبد الغني بن سعيد الحافظ من حديث قتادة،عن عبد الرحمن بن أبي بكر،عن أبيه،قال:كانت قراءة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم المد،ليس فيها ترجيع.

قالوا:و الترجيع و التطريب يتضمن همز ما ليس بمهموز،و مد ما ليس بممدود،و ترجيع الألف الواحد ألفات،و الواو واوات،و الياء ياءات؛فيؤدي ذلك إلى زيادة في القرآن،».

ص: 459


1- الطبراني في الأوسط(7223)،و قال الهيثمي في المجمع(172/8):«فيه راو لم يسم،و بقية أيضا».
2- نوادر الأصول في معرفة أحاديث الرسول(394/2)في الأصل الثالث و الخمسون و المائتان.
3- أحمد(494/3)،و البزار(241/2،242)(1610)،و الطبراني في الكبير(36/18)(60)،و قال الهيثمي في المجمع(248/5):«في إسناد أحمد عثمان بن عمير البجلي و هو ضعيف و أحد إسنادي الكبير رجاله رجال الصحيح».
4- الدارقطني(239/1)(11)،و الحديث ضعيف انظر:المجروحين(137/1)و قال:«ليس لهذا الحديث أصل من حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم».

و ذلك غير جائز.

قالوا:و لا حد لما يجوز من ذلك،و ما لا يجوز منه،فإن حد بحد معين،كان تحكما في كتاب اللّه-تعالى-و دينه،و إن لم يحد بحد،أفضى إلى أن يطلق لفاعله ترديد الأصوات،و كثرة الترجيعات،و التنويع في أصناف الإيقاعات و الألحان المشبهة للغناء،كما يفعل أهل الغناء بالأبيات،و كما يفعله كثير من القراء أمام الجنائز،و يفعله كثير من قراء الأصوات،مما يتضمن تغيير كتاب اللّه،و الغناء به على نحو ألحان الشعر و الغناء،و يوقعون الإيقاعات عليه مثل الغناء سواء،اجتراء على اللّه و كتابه،و تلاعبا بالقرآن،و ركونا إلى تزيين الشيطان،و لا يجيز ذلك أحد من علماء الإسلام،و معلوم:أن التطريب و التلحين ذريعة مفضية إلى هذا إفضاء قريبا،فالمنع منه،كالمنع من الذرائع الموصلة إلى الحرام،فهذا نهاية إقدام الفريقين،و منتهى احتجاج الطائفتين.

و فصل النزاع أن يقال:التطريب و التغني على وجهين:

أحدهما:ما اقتضته الطبيعة،و سمحت به من غير تكلف و لا تمرين و لا تعليم،بل إذا خلى و طبعه،و استرسلت طبيعته؛جاءت بذلك التطريب و التلحين،فذلك جائز،إن أعان طبيعته بفضل تزيين و تحسين،كما قال أبو موسى الأشعري للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا» (1)،و الحزين و من هاجه الطرب،و الحب و الشوق لا يملك من نفسه دفع التحزين و التطريب في القراءة،و لكن النفوس تقبله و تستحليه لموافقته الطبع،و عدم التكلف و التصنع فيه؛فهو مطبوع لا متطبع،و كلف لا متكلف،فهذا هو الذي كان السلف يفعلونه و يستمعونه،و هو التغني الممدوح المحمود،و هو الذي يتأثر به التالي و السامع، و على هذا الوجه تحمل أدلة أرباب هذا القول كلها.

الوجه الثاني:ما كان من ذلك صناعة من الصنائع،و ليس في الطبع السماحة به،بل لا يحصل إلا بتكلف و تصنع و تمرن،كما يتعلم أصوات الغناء بأنواع الألحان البسيطة، و المركبة على إيقاعات مخصوصة،و أوزان مخترعة،لا تحصل إلا بالتعلم و التكلف،فهذه هي التي كرهها السلف و عابوها،و ذموها،و منعوا القراءة بها،و أنكروا على من قرأ بها، و أدلة أرباب هذا القول إنما تتناول هذا الوجه،و بهذا التفصيل يزول الاشتباه،و يتبين الصواب من غيره،و كل من له علم بأحوال السلف؛يعلم قطعا أنهم برآء من القراءة بألحان).

ص: 460


1- سبق تخريجه ص(429).

الموسيقى المتكلفة،التي هي إيقاعات و حركات موزونة معدودة محدودة،و أنهم أتقى للّه من أن يقرءوا بها،و يسوغوها و يعلم قطعا أنهم كانوا يقرءون بالتحزين و التطريب،و يحسنون أصواتهم بالقرآن،و يقرءونه بشجى تارة،و بطرب تارة،و بشوق تارة،و هذا أمر مركوز في الطباع تقاضيه،و لم ينه عنه الشارع مع شدة تقاضي الطباع له بل أرشد إليه و ندب إليه، و أخبر عن استماع اللّه لمن قرأ به،و قال:«ليس منا من لم يتغن بالقرآن» (1).و فيه وجهان:

أحدهما:أنه أخبار بالواقع الذي كلنا نفعله،و الثاني:أنه نفي لهدى من لم يفعله عن هديه صلّى اللّه عليه و سلّم و طريقته صلّى اللّه عليه و سلّم (2).

البكاء عند سماع القرآن

و أما بكاؤه صلّى اللّه عليه و سلّم،فكان من جنس ضحكه،لم يكن بشهيق و رفع صوت،كما لم يكن ضحكه بقهقهة،و لكن كانت تدمع عيناه حتى تهملا،يسمع لصدره أزيز،و كان بكاؤه تارة -رحمه اللّه-للميت،و تارة خوفا على أمته،و شفقة عليها،و تارة من خشية اللّه،و تارة عند سماع القرآن،و هو بكاء اشتياق،و محبة،و إجلال،مصاحب للخوف و الخشية.

و لما مات ابنه إبراهيم دمعت عيناه و بكى رحمة له،و قال:«تدمع العين،و يحزن القلب،و لا نقول إلا ما يرضي ربنا و إنا بك يا إبراهيم لمحزونون» (3)و بكى لما شاهد إحدى بناته و نفسها تفيض،و بكى لما قرأ عليه ابن مسعود سورة النساء و انتهى فيها إلى قوله تعالى:

فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41)[النساء] (4)(5).

تلاوة القرآن

قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللّهِ [فاطر:29]،و قوله اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ [البقرة:121]المعنى:يتبعون كتاب اللّه حق اتباعه،و قال تعالى: اُتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَ أَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45]،و قال:

ص: 461


1- سبق تخريجه ص(450).
2- زاد المعاد(482/1-493).
3- البخاري(1303)في الجنائز،باب:قول النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«إنا بك لمحزونون»،و مسلم(62/2315)في الفضائل،باب:رحمته الصبيان و العيال.
4- البخاري(4582)في التفسير،باب: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً ،و مسلم(247/800)في صلاة المسافرين باب:فضل استماع القرآن.
5- زاد المعاد(183/1).

إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَ أَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ [النمل:91،92].فحقيقة التلاوة في هذه المواضع هي التلاوة المطلقة التامة،و هي تلاوة اللفظ و المعنى،فتلاوة اللفظ جزء مسمى التلاوة المطلقة،و حقيقة اللفظ إنما هي الاتباع،يقال:اتل أثر فلان و تلوت أثره و قفوته و قصصته بمعنى:تبعت خلفه.

و منه قوله تعالى: وَ الشَّمْسِ وَ ضُحاها(1) وَ الْقَمَرِ إِذا تَلاها (2)[الشمس]،أي تبعها في الطلوع بعد غيبتها.و يقال:جاء القوم يتلو بعضهم بعضا،أي:يتبع.و سمي تالي الكلام تاليا؛لأنه يتبع بعض الحروف بعضا لا يخرجها جملة واحدة،بل يتبع بعضها بعضا مرتبة، كلما انقضى حرف أو كلمة أتبعه بحرف آخر و كلمة أخرى.

و هذه التلاوة وسيلة و طريقة،و المقصود التلاوة الحقيقية و هي تلاوة المعنى و اتباعه، تصديقا بخبره،و ائتمارا بأمره،و انتهاء بنهيه،و ائتماما به،حيث ما قادك انقدت معه،فتلاوة القرآن تتناول تلاوة لفظه و معناه تلاوة المعنى أشرف من مجرد تلاوة اللفظ،و أهلها هم أهل القرآن الذين لهم الثناء في الدنيا و الآخرة،فإنهم أهل تلاوة و متابعة حقا (1).

شروط الانتفاع بالقرآن

إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته و سماعه،و ألق سمعك،و احضر حضور من يخاطبه به من تكلم به-سبحانه-منه إليه (2)،فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله،قال تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ (37)[ق]،و ذلك أن تمام التأثير لما كان موقوفا على مؤثر مقتض،و محل قابل،و شرط لحصول الأثر و انتفاء المانع الذي يمنع منه؛تضمنت الآية بيان ذلك كله بأوجز لفظ و أبينه و أدله على المراد.

فقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى إشارة إلى ما تقدم من أول السورة إلى هاهنا،و هذا هو المؤثر،و قوله: لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ ،فهذا هو المحل القابل،و المراد به القلب الحي الذي يعقل عن اللّه كما قال تعالى: إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ، لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا [يس 69- 70]،أي حي القلب.و قوله: أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ ،أي وجه سمعه و أصغى حاسة سمعه إلى ما يقال له،و هذا شرط التأثر بالكلام.

و قوله: وَ هُوَ شَهِيدٌ ،أي شاهد القلب حاضر غير غائب.قال ابن قتيبة:استمع كتاب اللّه

ص: 462


1- مفتاح دار السعادة(45،46).
2- الضمير في لفظة«منه»يعود إلى اللّه عز و جلّ.و في«إليه»يعود إلى المخاطب،بفتح الطاء.

و هو شاهد القلب و الفهم،ليس بغافل و لا ساه،و هو إشارة إلى المانع من حصول التأثير،و هو سهو القلب و غيبته عن تعقل ما يقال له و النظر فيه و تأمله فإذا حصل المؤثر و هو القرآن،و المحل القابل و هو القلب الحي،و وجد الشرط و هو الإصغاء،و انتفى المانع و هو اشتغال القلب و ذهوله عن معنى الخطاب و انصرافه عنه إلى شيء آخر؛حصل الأثر و هو الانتفاع و التذكر.

فإن قيل:إذا كان التأثير إنما يتم بمجموع هذه،فما وجه دخول أداة«أو»في قوله:

أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ ،و الموضع موضع واو الجمع لا موضع«أو»التي هي لأحد الشيئين؟قيل:

هذا سؤال جيد،و الجواب عنه أن يقال:خرج الكلام بأو باعتبار حال المخاطب المدعو، فإن من الناس من يكون حي القلب واعيه تام الفطرة،فإذا فكر بقلبه،و جال بفكره؛دله قلبه و عقله على صحة القرآن،و أنه الحق،و شهد قلبه بما أخبر به القرآن،فكان ورود القرآن على قلبه نورا على نور الفطرة،و هذا وصف الذين قيل فيهم: وَ يَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ [سبأ:6]

و قال في حقهم: اَللّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ [النور:35].

فهذا نور الفطرة على نور الوحي،و هذا حال صاحب القلب الحي الواعي (1).

قال إمام أهل هذا السماع عثمان بن عفان رضي اللّه عنه«لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله» (2)،و في وصفه القرآن:«لا تنقضي عجائبه و لا يشبع منه العلماء» (3)فهو قوت القلوب و غذاؤها،و دواؤها من أسقامها و شفاؤها (4).).

ص: 463


1- الفوائد(605).
2- أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق(232/3).
3- هذا جزء من حديث علي رضي اللّه عنه عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«إنها ستكون فتنة...»أخرجه الترمذي في جامعه(/5 198-199)برقم(2906)و قال:«هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه،و إسناده مجهول.و في الحارث مقال».و أحمد في مسنده(91/1)بنحوه،و الدارمي في سننه(435/2)،و أورده ابن كثير في فضائل القرآن-ذيل تفسير ابن كثير-و قال:و الحديث مشهور من رواية الحارث الأعور،و قد تكلموا فيه،بل قد كذبه بعضهم من جهة رأيه و اعتقاده أما أنه تعمد الكذب في الحديث فلا،و قصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين علي رضي اللّه عنه،و قد وهم بعضهم في رفعه،و هو كلام حسن صحيح،على أنه قد روى له شاهد عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم.
4- حكم مسألة السماع(275).

موانع الانتفاع بالقرآن

اعلم أن للغناء خواص لها تأثير في صبغ القلب بالنفاق،و نباته فيه كنبات الزرع بالماء.

فمن خواصه:أنه يلهي القلب و يصده عن فهم القرآن و تدبره،و العمل بما فيه،فإن القرآن و الغناء لا يجتمعان في القلب أبدا لما بينهما من التضاد،فإن القرآن ينهى عن اتباع الهوى،و يأمر بالعفة،و مجانبة شهوات النفس،و أسباب الغي،و ينهى عن اتباع خطوات الشيطان.و الغناء يأمر بضد ذلك كله،و يحسنه،و يهيج النفوس إلى شهوات الغي.فيثير كامنها،و يزعج قاطنها،و يحركها إلى كل قبيح،و يسوقها إلى وصل كل مليحة و مليح.فهو و الخمر رضيعا لبان،و في تهييجهما على القبائح فرسا رهان.فإنه صنور الخمر و رضيعه و نائبه و حليفه،و خدينه و صديقه.عقد الشيطان بينهما عقد الإخاء الذي لا يفسخ،و أحكم بينهما شريعة الوفاء التي لا تنسخ،و هو جاسوس القلب.و سارق المروءة،وسوس العقل، يتغلغل في مكامن القلوب،و يطلع على سرائر الأفئدة،و يدب إلى محل التخيل.فيثير ما فيه من الهوى و الشهوة و السخافة و الرقاعة و الرعونة و الحماقة.فبينما ترى الرجل و عليه سمة الوقار و بهاء العقل،و بهجة الإيمان،و وقار الإسلام،و حلاوة القرآن،فإذا استمع الغناء و مال إليه نقص عقله،و قل حياؤه،و ذهبت مروءته،و فارقه بهاؤه،و تخلى عنه وقاره ،و فرح به شيطانه،و شكا إلى اللّه تعالى إيمانه،و ثقل عليه قرآنه،و قال:يا رب،لا تجمع بيني و بين قرآن عدوك في صدر واحد.فاستحسن ما كان قبل السماع يستقبحه،و أبدى من سره ما كان يكتمه و انتقل من الوقار و السكينة إلى كثرة الكلام و الكذب،و الزهزهة و الفرقعة بالأصابع فيميل برأسه،و يهز منكبيه،و يضرب الأرض برجليه،و يدق على أم رأسه بيديه،و يثب و ثبات الدباب،و يدور دوران الحمار حول الدولاب،و يصفق بيديه تصفيق النسوان،و يخور من الوجد و لا كخوار الثيران،و تارة يتأوه تأوه الحزين،و تارة يزعق زعقات المجانين (1)و لقد صدق الخبير به من أهله حيث يقول:

أتذكر ليلة و قد اجتمعنا على طيب السماع إلى الصباح؟

و دارت بيننا كأس الأغاني فأسكر النفوس بغير راح

فلم تر فيهم إلا نشاوى سرورا،و السرور هناك صاحي

إذا نادى أخو اللذات فيه أجاب اللهو:حى على السماح

ص: 464


1- تعليق مطابق للواقع و ذلك حال الشباب.

و لم نملك سوى المهجات شيئا أرقناها لألحاظ الملاح

و قال بعض العارفين:السماع يورث النفاق في قوم،و العناد في قوم،و الكذب في قوم،و الفجور في قوم،و الرعونة في قوم.

و أكثر ما يورث عشق الصور،و استحسان الفواحش،و إدمانه يثقل القرآن على القلب، و يكرهه إلى سماعه بالخاصية،و إن لم يكن هذا نفاقا فما للنفاق حقيقة.

و سر المسألة:أنه قرآن الشيطان فلا يجتمع هو و قرآن الرحمن في قلب أبدا.

و أيضا،فإن أساس النفاق:أن يخالف الظاهر الباطن،و صاحب الغناء بين أمرين،إما أن يتهتك فيكون فاجرا،أو يظهر النسك فيكون منافقا،و فإنه يظهر الرغبة في اللّه و الدار الآخرة و قلبه يغلي بالشهوات،و محبة ما يكرهه اللّه و رسله:من أصوات المعازف،و آلات اللهو،و ما يدعو إليه الغناء و يهيجه،فقلبه بذلك معمور،و هو من محبة ما يحبه اللّه و رسوله و كراهة ما يكرهه قفر،و هذا محض النفاق.

و أيضا،فإن الإيمان قول و عمل:قول بالحق،و عمل بالطاعة.و هذا ينبت على الذكر، و تلاوة القرآن.و النفاق قول الباطل،و عمل البغي،و هذا ينبت على الغناء.

و أيضا،فمن علامات النفاق:قلة ذكر اللّه،و الكسل عند القيام إلى الصلاة،و نقر الصلاة،و قل أن تجد مفتونا بالغناء إلا و هذا وصفه.

و أيضا،فإن النفاق مؤسس على الكذب،و الغناء من أكذب الشعر،فإنه يحسن القبيح و يزينه،و يأمر به،و يقبح الحسن و يزهد فيه،و ذلك عين النفاق.

و أيضا،فإن النفاق غش و مكر و خداع،و الغناء مؤسس على ذلك.

و أيضا،فإن المنافق يفسد من حيث يظن أنه يصلح،كما أخبر اللّه سبحانه بذلك عن المنافقين،و صاحب السماع يفسد قلبه و حاله من حيث يظن أنه يصلحه،و المغني يدعو القلوب إلى فتنة الشهوات،و المنافق يدعوها إلى فتنة الشبهات.قال الضحاك:الغناء مفسدة للقلب،مسخطة للرب.

و كتب عمر بن عبد العزيز إلى مؤدب ولده:ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي،التي بدؤها من الشيطان،عاقبتها سخط الرحمن.فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم:أن صوت المعازف،و استماع الأغاني،و اللهج بها ينبت النفاق في القلب كما ينبت العشب على الماء.فالغناء يفسد القلب،و إذا فسد القلب هاج فيه النفاق.

ص: 465

و بالجملة،فإذا تأمل البصير حال أهل الغناء،و حال أهل الذكر و القرآن،تبين له حذق الصحابة و معرفتهم بأدواء القلوب،و أدويتها،و باللّه التوفيق (1).

باب:منه انظر وقت أخذك في القراءة إذا أعرضت عن واجبها و تدبرها و تعقلها،و فهم ما أريد بكل آية،و حظك من الخطاب بها،و تنزيلها على أدواء قلبك و التقيد بها،كيف تدرك الخدمة أو أكثرها،أو ما قرأت منها،بسهولة و خفة،مستكثرا من القراءة.فإذا ألزمت نفسك التدبر و معرفة المراد،و النظر إلى ما يخصك منه و التعبد به،و تنزيل دوائه على أدواء قلبك، و الاستشفاء به،لم تكد تجوز السورة أو الآية إلى غيرها (2).

أسباب تفاوت الناس في فهم القرآن

في الصحيحين من حديث أبي موسى رضي اللّه عنه قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«إن مثل ما بعثني اللّه به من الهدى و العلم كمثل غيث أصاب أرضا،فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ و العشب الكثير،و كان منها أجادب أمسكت الماء فنفع اللّه بها الناس،فشربوا منها و سقوا و زرعوا،و أصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان،لا تمسك ماء و لا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين اللّه و نفعه ما بعثني اللّه به فعلم و علم،و مثل من لم يرفع بذلك رأسا و لم يقبل هدى اللّه الذي أرسلت به» (3).شبه صلّى اللّه عليه و سلّم العلم و الهدى الذي جاء به بالغيث لما يحصل بكاء واحد منهما من الحياة و المنافع و الأغذية و الأدوية و سائر مصالح العباد، فإنها بالعلم و المطر،و شبه القلوب بالأراضي التي يقع عليها المطر؛لأنها المحل الذي يمسك الماء فينبت سائر أنواع النبات النافع،كما أن القلوب تعي العلم فيثمر فيها و يزكو و تظهر بركته و ثمرته.

ثم قسم الناس إلى ثلاثة أقسام بحسب قبولهم و استعدادهم لحفظه و فهم معانيه، و استنباط أحكامه و استخراج حكمه و فوائده:

أحدها:أهل الحفظ و الفهم الذين حفظوه و عقلوه،و فهموا معانيه،و استنبطوا وجوه

ص: 466


1- إغاثة اللهفان(248-251).
2- مدارج السالكين(258/1).
3- البخاري(79)في العلم،باب:فضل من علم و علّم،و مسلم(15/2282)في الفضائل،باب:بيان مثل ما بعث النبي صلّى اللّه عليه و سلّم من الهدى و العلم.

الأحكام و الحكم و الفوائد منه،فهؤلاء بمنزلة الأرض التي قبلت الماء،و هذا بمنزلة للحفظ فأنبتت الكلأ و العشب الكثير،و هذا هو الفهم فيه و المعرفة و الاستنباط،فإنه بمنزلة إنبات الكلأ و العشب بالماء،فهذا مثل الحفاظ الفقهاء أهل الرواية و الدراية.

القسم الثاني:أهل الحفظ الذين رزقوا حفظه و نقله و ضبطه،و لم يرزقوا تفقها في معانيه و لا استنباطا و لا استخراجا لوجوه الحكم و الفوائد منه،فهم بمنزلة من يقرأ القرآن و يحفظه، و يراعي حروفه و إعرابه و لم يرزق فيه فهما خاصا عن اللّه،كما قال علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه:

«إلا فهما يؤتيه اللّه عبدا في كتابه».

و الناس متفاوتون في الفهم عن اللّه و رسوله أعظم تفاوت فرب شخص يفهم من النص حكما أو حكمين و يفهم منه الآخر مائة أو مائتين،فهؤلاء بمنزلة الأرض التي أمسكت الماء للناس فانتفعوا به،هذا يشرب منه،و هذا يسقى،و هذا يزرع،فهؤلاء القسمان هم السعداء، و الأولون أرفع درجة و أعلى قدرا ذلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) [الحديد].

القسم الثالث:الذين لا نصيب لهم منه لا حفظا و لا فهما و لا رواية و لا دراية،بل هم بمنزلة الأرض التي هي قيعان لا تنبت و لا تمسك الماء،و هؤلاء هم الأشقياء.و القسمان الأولان اشتركا في العلم و التعليم كل بحسب ما قبله و وصل إليه،فهذا يعلم ألفاظ القرآن و يحفظها،و هذا يعلم معانيه و أحكامه و علومه،و القسم الثالث لا علم و لا تعليم،فهم الذين لم يرفعوا بهدي اللّه رأسا و لم يقبلوه،و هؤلاء شر من الأنعام،و هو وقود النار.

فقد اشتمل هذا الحديث الشريف العظيم على التنبيه على شرف العلم و التعليم و عظم موقعه،و شقاء من ليس من أهله،و ذكر أقسام بني آدم بالنسبة فيه إلى شقيهم و سعيدهم، و تقسم سعيدهم إلى سابق مقرب و صاحب يمين مقتصد،و فيه دلالة على أن حاجة العباد إلى العلم كحاجتهم إلى المطر بل أعظم،و أنهم إذا فقدوا العلم فهم بمنزلة الأرض التي فقدت الغيث.

قال الإمام أحمد:الناس محتاجون إلى العلم أكثر من حاجتهم إلى الطعام و الشراب؛ لأن الطعام و الشراب يحتاج إليه في اليوم مرة أو مرتين،و العلم يحتاج إليه بعدد الأنفاس.

و قد قال تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَ مِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَ الْباطِلَ [الرعد:17].شبه-سبحانه- العلم الذي أنزله على رسوله بالماء الذي أنزله من السماء لما يحصل لكل واحد منهما من

ص: 467

الحياة،و مصالح العباد في معاشهم و معادهم،ثم شبه القلوب بالأودية،فقلب كبير يسع علما كثيرا كواد عظيم يسع ماء كثيرا،و قلب صغير إنما يسع علما قليلا كواد صغير إنما يسع ماء قليلا،فقال: فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً ،هذا مثل ضربه اللّه تعالى للعلم حين تخالط القلوب بشاشته،فإنه يستخرج منها زبد الشبهات الباطلة فيطفوا على وجه القلب،كما يستخرج السيل من الوادي زبدا يعلو فوق الماء،و أخبر-سبحانه-أنه راب يطفو و يعلو على الماء لا يستقر في أرض الوادي،كذلك الشبهات الباطلة إذا أخرجها العلم ربت فوق القلوب و طغت،فلا يستقر فيه،بل تجفى و ترمى،فيستقر في القلب ما ينفع صاحبه و الناس من الهدى و دين الحق،كما يستقر في الوادي الماء الصافي و يذهب الزبد جفاء،و ما يعقل عن اللّه أمثاله إلا العالمون.

ثم ضرب-سبحانه-لذلك مثلا آخر فقال: وَ مِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ [الرعد:17]يعني أن مما يوقد عليه بنو آدم من الذهب و الفضة و النحاس و الحديد يخرج منه خبثه،و هو الزبد الذي تلقيه النار و تخرجه من ذلك الجوهر بسبب مخالطتها،فإنه يقذف و يلقى به،و يستقر الجوهر الخاص وحده.و ضرب-سبحانه-مثلا بالماء لما فيه من الحياة و التبريد و المنفعة،و مثلا بالنار لما فيها من الإضاء و الإشراق و الإحراق.فآيات القرآن تحيي القلوب كما تحيا الأرض بالماء،و تحرق خبثها و شبهاتها و شهواتها و سخائمها كما تحرق النار ما تلقي فيها و تميز جيدها من زبدها،كما تميز النار الخبث من الذهب و الفضة و النحاس و نحوه منه،فهذا بعض ما في المثل العظيم من العبر و العلم.قال اللّه تعالى: وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ وَ ما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (43)[العنكبوت] (1).

كيفية تلاوة القرآن

كان صلّى اللّه عليه و سلّم يقطع قراءته،و يقف عند كل آية فيقول: اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2)، و يقف اَلرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ،و يقف: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) (2).

و ذكر الزهري:أن قراءة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كانت آية آية،و هذا هو الأفضل.الوقوف على رءوس الآيات و إن تعلقت بما بعدها،و ذهب بعض القراء إلى تتبع الأغراض و المقاصد،

ص: 468


1- مفتاح دار السعادة(15-17).
2- أبو داود(4001)في الحروف و القراءات،و الترمذي(2927)في القراءات،باب:في فاتحة الكتاب، و قال:«غريب».

و الوقوف عند انتهائها،و اتباع هدى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و سنته أولى.و ممن ذكر ذلك البيهقي في «شعب الإيمان»و غيره،و رجح الوقوف على رءوس الآي و إن تعلقت بما بعدها.

و كان صلّى اللّه عليه و سلّم يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها،و قام بآية يرددها حتى الصباح (1).

حكم قراءة الجماعة بصوت واحد

و هذه مسألة اختلف فيها أهل العلم،و هي قراءة الجماعة بصوت واحد فكرهها طائفة، و استحبوا قراءة الإدارة،و هي[أن] (2)يقرأ هذا،ثم يسكت فيقرأ الآخر حتى ينتهوا، و استحبتها طائفة،و قالوا:تعاون الأصوات يكسو القراءة طيبا و تجلالة (3)و تأثيرا في القلوب،و تأمل هذا في تعاون الحركات بالآلات المطربة كيف يحدث لها كيفية أخرى؟فإن الهيئة الاجتماعية لها من الحكم ما ليس لأفرادها،و فضلت طائفة و قالوا:كان أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و سلّم إذا اجتمعوا أمروا واحدا منهم يقرأ و الباقون يستمعون فلم يكونوا يقرءون جملة، و لم يكونوا يديرون القراءة بل القارئ واحد،و الباقون مستمعون،و لا ريب أن هذا أكمل الأمور الثلاثة،و اللّه أعلم (4).

في كم يختم القرآن؟

سأله صلّى اللّه عليه و سلّم عبد اللّه بن عمرو بن العاص،في كم أقرأ القرآن؟فقال:«في شهر»،فقال:

أطيق أفضل من ذلك،فقال:«في عشرين»،فقال:أطيق أفضل من ذلك،فقال:«في خمس عشر»،فقال:أطيق أفضل من ذلك،قال:«في عشرة»،فقال:أطيق أفضل من ذلك،قال:

«في خمس»،قال:أطيق أفضل من ذلك،قال:«لا يفقه القرآن من قرأه في أقل من ثلاث».ذكره أحمد (5)(6).

ص: 469


1- زاد المعاد(337/1).
2- ساقطة من المطبوعة،للسياق.
3- تجلالة:مبالغة من الجلالة.
4- حكم مسألة السماع(291،292).
5- أحمد(163/2)و قال الشيخ أحمد شاكر(6516):«إسناده صحيح».
6- إعلام الموقعين(380/4).

دعاء ختم القرآن

نص الإمام أحمد-رحمه اللّه-على الدعاء عقيب الختمة فقال في رواية أبي الحارث:«كان أنس إذا ختم القرآن جمع أهله و ولده».و قال في رواية يوسف بن موسى،و قد سئل عن الرجل يختم القرآن فيجتمع إليه قوم فيدعون،قال:نعم رأيت معمرا يفعله إذا ختم.

و قال في رواية حرب:«استحب إذا ختم الرجل القرآن أن يجمع أهله و يدعو».و روى ابن أبي داود في فضائل القرآن عن الحكم قال:«أرسل إليّ مجاهد و عنده ابن أبي لبابة:

أرسلنا إليك أنا نريد أن نختم القرآن،و كان يقول:إن الدعاء يستجاب عند ختم القرآن ثم يدعو بدعوات».

و روى أيضا في كتابه عن ابن مسعود أنه قال:«من ختم القرآن فله دعوة مستجابة».

و عن مجاهد قال:«تنزل الرحمة عند ختم القرآن».

و روى أبو عبيد في كتاب«فضائل القرآن»عن قتادة قال:«كان بالمدينة رجل يقرأ القرآن من أوله إلى آخره على أصحاب له،فكان ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما يضع عليه الرقباء فإذا كان عند الختم جاء ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما فشهده.

و نص أحمد-رحمه اللّه تعالى-على استحباب ذلك في صلاة التراويح،قال حنبل:

سمعت أحمد يقول في ختم القرآن:«إذا فرغت من قراءتك قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ (1)، فارفع يديك في الدعاء قبل الركوع،قلت:إلى أي شيء تذهب في هذا؟قال:رأيت أهل مكة يفعلونه»،و كان سفيان بن عيينة يفعله معهم بمكة.

قال عباس بن عبد العظيم:و كذلك أدركت الناس بالبصرة و بمكة،و يروي أهل المدينة في هذا أشياء،و ذكر عن عثمان بن عفان.

و قال الفضل بن زياد:سألت أبا عبد اللّه فقلت:«أختم القرآن أجعله في التراويح و في الوتر؟قال اجعله في التراويح،حتى يكون لنا دعاء بين اثنين،قلت:كيف أصنع؟قال:إذا فرغت من آخر القرآن فارفع يديك قبل أن تركع و ادع بنا،و نحن في الصلاة،و أطل القيام، قلت:بم أدعو؟قال:بما شئت،قال:ففعلت كما أمرني و هو خلفي يدعو قائما و يرفع يديه».

و إذا كان هذا من آكد مواطن الدعاء و أحقها بالإجابة فهو من آكد مواطن الصلاة على النبي صلّى اللّه عليه و سلّم (1).

ص: 470


1- جلاء الأفهام(242،243).

و في الترمذي عنه أنه سئل صلّى اللّه عليه و سلّم:أي الأعمال أحب إلى الله؟قال:«الحال المرتحل» (1)،و فهم بعضهم من هذا أنه إذا فرغ من ختم القرآن قرأ فاتحة الكتاب،و ثلاث آيات من سورة البقرة؛لأنه حل بالفراغ و ارتحل بالشروع.و هذا لم يفعله أحد من الصحابة و لا التابعين،و لا استحبه أحد من الأئمة.

و المراد بالحديث الذي كلما حل من غزاة ارتحل في أخرى،أو كلما حل من عمل ارتحل إلى غيره تكميلا له كما كمل الأول،و أما هذا الذي يفعله بعض القراء فليس مراد الحديث قطعا،و باللّه التوفيق.

و قد جاء تفسير الحديث متصلا به أن يضرب من أول القرآن إلى آخره،كلما حل ارتحل،و هذا له معنيان:أحدهما:أنه كلما حل من سورة أو جزء ارتحل في غيره، و الثاني:أنه كلما حل من ختمة ارتحل في أخرى (2).

حكم قراءة القرآن بالفارسية

و من العجب:تجويز قراءة القرآن بالفارسية (3).

النهي عن الجهر بالقرآن بحضرة العدو

إن اللّه تعالى منع رسوله حيث كان بمكة من الجهر بالقرآن،حيث كان المشركون يسمعونه فيسبون القرآن،و من أنزله و من جاء به،و من أنزل عليه (4).

و أيضا نهيه سبحانه رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم عن الجهر بالقرآن بحضرة العدو،لما كان ذريعة إلى سبهم للقرآن و من أنزله (5).

حكم الوضوء لقراءة القرآن

قالوا (6):و السجود هو من جنس ذكر اللّه،و قراءة القرآن و الدعاء؛و لهذا شرع في

ص: 471


1- الترمذي(2948)في القراءات،باب:(13)،و قال:«غريب».
2- إعلام الموقعين(379/4).
3- إعلام الموقعين(408/3).
4- إعلام الموقعين(190/3).
5- إعلام الموقعين(367/1).
6- أي:المانعون من الوضوء.

الصلاة و خارجها،فكما لا يشترط الوضوء لهذه الأمور-و إن كانت من أجزاء الصلاة- فكذا لا يشترط للسجود،و كونه جزءا من أجزائها لا يوجب ألا يفعل إلا بوضوء.

و احتج البخاري بحديث ابن عباس أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:سجد بالنجم،و سجد معه المسلمون،و المشركون و الجن و الإنس (1)و معلوم أن الكافر لا وضوء له.

قالوا:و أيضا،فالمسلمون الذين سجدوا معه صلّى اللّه عليه و سلّم لم ينقل أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أمرهم بالطهارة، و لا سألهم:هل كنتم متطهرين أم لا؟و لو كانت الطهارة شرطا فيه للزم أحد الأمرين:إما أن يتقدم أمره لهم بالطهارة،و إما أن يسألهم بعد السجود،ليبين لهم الاشتراط،و لم ينقل مسلم واحدا منهما.

فإن قيل:فلعل الوضوء تأخرت مشروعيته عن ذلك،و هذا جواب بعض الموجبين.

قيل:الطهارة شرعت للصلاة من حين المبعث،و لم يصلّ قط إلا بطهارة،أتاه جبريل عليه السّلام فعلمه الطهارة و الصلاة.و في حديث إسلام عمر أنه لم يمكن من مس القرآن إلا بعد تطهره (2)،فكيف تظن أنهم كانوا يصلون بلا وضوء؟

قالوا:و أيضا فيبعد جدا أن يكون المسلمون كلهم إذ ذاك على وضوء!

قالوا:و أيضا،ففي الصحيحين عن عبد اللّه بن عمر قال:كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقرأ القرآن، فيقرأ السورة فيها السجدة فيسجد،و نسجد معه،حتى ما يجد بعضنا موضعا لمكان جبهته (3).

قالوا:و قد كان يقرأ القرآن عليهم في المجامع كلها،و من البعيد جدا أن يكون كلهم إذ ذاك على وضوء،و كانوا يسجدون حتى لا يجد بعضهم مكانا لجبهته،و معلوم أن مجامع الناس تجمع المتوضئ و غيره.

قالوا:و أيضا،فقد أخبر-اللّه تعالى-في غير موضع من القرآن:أن السحرة سجدوا للّه سجدة،فقبلها اللّه منهم و مدحهم عليها،و لم يكونوا متطهرين قطعا،و منازعونا يقولون مثل هذا السجود حرام،فكيف يمدحهم و يثني عليهم بما لا يجوز؟فإن قيل:شرع من قبلنا ليس بشرع لنا.قيل:قد احتج الأئمة الأربعة بشرع من قبلنا،و ذلك منصوص عنهم أنفسهم في غير موضع.ة.

ص: 472


1- البخاري(4862)في التفسير،باب:فاسجدوا لله و اعبدوا.
2- ابن هشام(371/1،372).
3- البخاري(1075)في سجود القرآن،باب:من سجد سجود القارئ،و مسلم(103/575)في المساجد و مواضع الصلاة،باب:سجود التلاوة.

قالوا:سلمنا،لكن ما لم يرد شرعنا بخلافه.

قال المجوزون:فأين ورد في شرعنا خلافه؟

قالوا:و أيضا فأفضل أجزاء الصلاة و أقوالها هو القراءة،و يفعل بلا وضوء،فالسجود أولى.

قالوا:و أيضا فاللّه-سبحانه و تعالى-أثنى على كل من سجد عن التلاوة،فقال تعالى:

قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) [الإسراء].و هذا يدل على أنهم سجدوا عقب تلاوته بلا فصل،سواء كانوا بوضوء أو بغيره؛ لأنه أثنى عليهم بمجرد السجود عقب التلاوة،و لم يشترط وضوءا،و كذلك قوله تعالى: إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَ بُكِيًّا [مريم:58] (1).

حكم قراءة الحائض القرآن و إعلال حديث المنع

جواز قراءة القرآن لها،و هي حائض؛إذ لا يمكنها التعويض عنها زمن الطهر؛لأن الحيض،قد يمتد بها غالبه أو أكثره،فلو منعت من القراءة لفاتت عليها مصلحتها،و ربما نسيت ما حفظته زمن طهرها،و هذا مذهب مالك،و إحدى الروايتين عن أحمد،و أحد قولي الشافعي.

و النبي صلّى اللّه عليه و سلّم لم يمنع الحائض من قراءة القرآن،و حديث:«لا تقرأ الحائض و الجنب شيئا من القرآن» (2).لم يصح فإنه حديث معلول باتفاق أهل العلم بالحديث (3).

حكم مس المصحف للجنب و غيره

قال تعالى: فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78)[الواقعة]،اختلف المفسرون في هذا فقيل:هو اللوح المحفوظ،و الصحيح أنه الكتاب الذي بأيدي الملائكة،و هو المذكور في قوله: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ(13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ(14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ(15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16)[عبس]،و يدل على أنه الكتاب الذي بأيدي الملائكة قوله: لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79)[الواقعة]،فهذا يدل على

ص: 473


1- تهذيب السنن(54/1،55).
2- الترمذي(131)في الطهارة،باب:ما جاء في الجنب و الحائض،و قال:«حديث ابن عمر حديث لا نعرفه إلا من حديث إسماعيل بن عياش....،و ابن ماجة(596)في الطهارة و سننها،باب:ما جاء في قراءة القرآن من غير طهارة،و قال الألباني:«منكر».
3- إعلام الموقعين(30/3).

أنه بأيديهم يمسونه،و هذا هو الصحيح في معنى الآية،و من المفسرين من قال:إن المراد به أن المصحف لا يمسه إلا طاهر.

و الأول أرجح لوجوه:

أحدهما:أن الآية سيقت تنزيها للقرآن أن تنزل به الشياطين،و أن محله لا يصل إليه فيمسه إلا المطهرون،فيستحيل على أخابث خلق اللّه،و أنجسهم أن يصلوا إليه أو يمسوه، كما قال تعالى: وَ ما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ(210) وَ ما يَنْبَغِي لَهُمْ وَ ما يَسْتَطِيعُونَ(211) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) [الشعراء]،فنفي الفعل و تأتيه منهم،و قدرتهم عليه،فما فعلوا ذلك و لا يليق بهم،و لا يقدرون عليه،فإن الفعل قد ينتفي عمن يحسن منه،و قد يليق بمن لا يقدر عليه،فنفى عنهم الأمور الثلاثة،و كذلك قوله في سورة عبس: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ(13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ(14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ(15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16)[عبس]،فوصف محله بهذه الصفات بيانا أن الشيطان لا يمكنه أن يتنزل به،و تقرير هذا المعنى أهم و أجل و أنفع من بيان كون المصحف لا يمسه إلا طاهر.

الوجه الثاني:أن السورة مكية،و الاعتناء في السور المكية إنما هو بأصول الدين،من تقرير التوحيد و المعاد و النبوة؛و أما تقرير الأحكام و الشرائع فمظنة السور المدنية.

الوجه الثالث:أن القرآن لم يكن في مصحف عند نزول هذه الآية،و لا في حياة رسول الله صلّى اللّه عليه و سلّم،و إنما جمع في المصحف في خلافة أبي بكر،و هذا إن جاز أن يكون باعتبار ما يأتي،فالظاهر أنه إخبار بالواقع حال الأخبار،يوضحه:

الرابع:و هو قوله: فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78)،و المكنون:المصون المستور عن الأعين الذي لا تناله أيدي البشر،كما قال تعالى: كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)[الصافات]،و هكذا قال السلف.قال الكلبي:مكنون من الشياطين،و قال مقاتل:مستور،و قال مجاهد:لا يصيبه تراب و لا غبار.و قال أبو إسحاق:مصون في السماء يوضحه.

الوجه الخامس:أن وصفه بكونه مكنونا نظير وصفه بكونه محفوظا فقوله: فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78)كقوله: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ(21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)[البروج]يوضحه.

الوجه السادس:أن هذا أبلغ في الرد على المكذبين،و أبلغ في تعظيم القرآن،من كون المصحف لا يمسه محدث.

الوجه السابع:قوله: لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79)بالرفع،فهذا خبر لفظا و معنى، و لو كان نهيا لكان مفتوحا،و من حمل الآية على النهي احتاج إلى صرف الخبر عن ظاهره إلى معنى النهي،و الأصل في الخبر و النهي حمل كل منهما على حقيقته،و ليس هاهنا

ص: 474

موجب يوجب صرف الكلام عن الخبر إلى النهي.

الوجه الثامن:أنه قال إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ و لم يقل إلا المتطهرون.و لو أراد به منع المحدث من مسه لقال:إلا المتطهرون،كما قال تعالى: إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)[البقرة]،و في الحديث«اللهم اجعلني من التوابين و اجعلني من المتطهرين» (1)،فالمتطهر فاعل التطهير،و المطهر الذي طهره غيره،فالمتوضئ متطهر و الملائكة مطهرون.

الوجه التاسع:أنه لو أريد به المصحف الذي بأيدينا لم يكن في الإخبار عن كونه مكنونا كبير فائدة،إذ مجرد كون الكلام مكنونا في كتاب،لا يستلزم ثبوته،فكيف يمدح القرآن بكونه مكنونا في كتاب،و هذا أمر مشترك،و الآية إنما سيقت لبيان مدحه و تشريفه، و ما اختص به من الخصائص التي تدل على أنه منزل من عند اللّه،و أنه محفوظ مصون،لا يصل إليه شيطان بوجه ما،و لا يمس محله إلا المطهرون،و هم السفرة الكرام البررة.

الوجه العاشر:ما رواه سعيد بن منصور في سننه:حدثنا أبو الأحوص،حدثنا عاصم الأحول،عن أنس بن مالك في قوله: لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79)قال:المطهرون الملائكة..و هذا عند طائفة من أهل الحديث في حكم المرفوع،قال الحاكم:تفسير الصحابة عندنا في حكم المرفوع،و من لم يجعله مرفوعا فلا ريب أنه عنده أصح من تفسير من بعد الصحابة،و الصحابة أعلم الأمة بتفسير القرآن،و يجب الرجوع إلى تفسيرهم.

و قال حرب في مسائله:سمعت إسحاق في قوله: لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79)قال:

النسخة التي في السماء لا يمسها إلا المطهرون،قال:الملائكة.

و سمعت شيخ الإسلام يقرر الاستدلال بالآية على أن المصحف لا يمسه المحدث بوجه آخر فقال:هذا من باب التنبيه و الإشارة،إذ كانت الصحف التي في السماء لا يسمها إلا المطهرون،فكذلك الصحف التي بأيدينا من القرآن لا ينبغي أن يمسها إلا طاهر،و الحديث مشتق من هذه الآية.».

ص: 475


1- رواه الترمذي(55)في أبواب الطهارة،باب:فيما يقال بعد الوضوء،عن أبي إدريس الخولاني عن عمر عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«من توضأ فأحسن الوضوء،ثم قال:أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له و أشهد أن محمدا عبده و رسوله،اللهم اجعلني من التوابين و اجعلني من المتطهرين.فتحت له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيها شاء»قال الترمذي:«و هذا حديث في إسناده اضطراب.و لا يصح عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم في هذا الباب كثير شيء.قال البخاري:أبو إدريس لم يسمع من عمر شيئا».

و قوله:«لا تمس القرآن إلا و أنت طاهر» (1)رواه أهل السنن من حديث الزهري عن بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده،أن في الكتاب الذي كتبه النبي صلّى اللّه عليه و سلّم إلى أهل اليمن في السنن،و الفرائض،و الديات:«أن لا يمس القرآن إلا طاهر»،قال أحمد:أرجو أن يكون صحيحا،و قال أيضا:لا أشك أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كتبه.

و قال أبو عمر بن عبد البر:هو كتاب مشهور عند أهل السير،معروف عند أهل العلم، معرفة يستغنى بشهرتها عن الإسناد؛لأنه أشبه التواتر في مجيئه،لتلقي الناس له بالقبول و المعرفة،ثم قال:و هو كتاب معروف عند العلماء،و ما فيه فمتفق عليه إلا قليلا،و قد رواه ابن حبان في صحيحه،و مالك في موطئه،و في المسألة آثار أخر مذكورة في غير هذا الموضع (2).

باب:منه قوله تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79)[الواقعة]:الصحيح في الآية أن المراد به:

الصحف التي بأيدي الملائكة،لوجوه عديدة:

منها:أنه وصفه بأنه«مكنون»،و«المكنون»المستور عن العيون.و هذا إنما هو في الصحف التي بأيدي الملائكة.

و منها:أنه قال: لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79)و هم الملائكة.و لو أراد المتوضئين لقال:لا يمسه إلا المتطهرون.كما قال تعالى: إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222]فالملائكة مطهرون،و المؤمنون متطهرون.

و منها:أن هذا إخبار،و لو كان نهيا لقال:لا يمسسه بالجزم.و الأصل في الخبر:أن يكون خبرا صورة و معنى.

و منها:أن هذا رد على من قال:إن الشيطان جاء بهذا القرآن،فأخبر تعالى أنه في كتاب مكنون لا تناله الشياطين.و لا وصول لها إليه،كما قال تعالى في آية الشعراء وَ ما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ(210) وَ ما يَنْبَغِي لَهُمْ وَ ما يَسْتَطِيعُونَ (211)[الشعراء]و إنما تناله الأرواح المطهرة:

و هم الملائكة.).

ص: 476


1- مالك في الموطأ(199/1)في القرآن،باب:الأمر بالوضوء من مس القرآن،قال ابن عبد البر:«لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث،و قد روى مسندا من وجه صالح».انظر:الحاكم في المستدرك(485/3)في معرفة الصحابة،باب:مناقب حكيم بن حزام،و قال:«حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه»و وافقه الذهبي.
2- التبيان(226-230).

و منها:أن هذا نظير الآية التي في سورة عبس: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ(12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ(13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ(14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ(15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16)[عبس].

قال مالك في موطئه:أحسن ما سمعت في تفسير قوله: لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (97) أنها مثل هذه الآية التي في سورة عبس.

و منها أن الآية مكية من سورة مكية،تتضمن تقرير التوحيد و النبوة و المعاد،و إثبات الصانع،و الرد على الكفار.و هذا المعنى أليق بالمقصود من فرع عملي.و هو حكم مس المحدث المصحف.

و منها:أنه لو أريد به الكتاب الذي بأيدي الناس لم يكن في الإقسام على ذلك بهذا القسم العظيم كثير فائدة؛إذ من المعلوم:أن كل كلام فهو قابل لأن يكون في كتاب حقا أو باطلا.بخلاف ما إذا وقع القسم على أنه في كتاب مصون،مستور عن العيون عند اللّه،لا يصل إليه شيطان،و لا ينال منه،و لا يمسه إلا الأرواح الطاهرة الزكية.فهذا المعنى أليق و أجل و أخلق بالآية و أولى بلا شك.

فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية-قدس اللّه روحه-يقول:لكن تدل الآية بإشارتها على أنه لا يمس المصحف إلا طاهر،لأنه إذا كانت تلك الصحف لا يمسها إلا المطهرون، لكرامتها على اللّه،فهذه الصحف أولى ألا يمسها إلا طاهر (1).

النهي عن المراء في القرآن

عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«المراء في القرآن كفر» (2).

و في الصحيحين من حديث جندب بن عبد اللّه قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم،فإذا اختلفتم عنه فقوموا» (3).

و في الصحيحين عن عائشة عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«أبغض الرجال إلى اللّه الألد الخصم» (4).

ص: 477


1- مدارج السالكين(416/2-418).
2- أبو داود(4603)في السنة،باب:النهي عن الجدال في القرآن.
3- البخاري(5060)في فضائل القرآن،باب:اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم،و مسلم(4/2667) في العلم،باب:النهي عن اتباع متشابه القرآن.
4- البخاري(7188)في الأحكام،باب:الألد الخصم....إلخ،و مسلم(5/2668)في العلم،باب: الألد الخصم.

و في سنن ابن ماجة من حديث أبي أمامة قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«ما ضل قوم بعد هدي كانوا عليه إلا أوتوا الجدل» (1)،ثم تلا تلك الآية: ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزخرف:58] (2).

حكم التسمية بأسماء القرآن

و مما يمنع منه:التسمية بأسماء القرآن،و سوره مثل:طه،و يس،و حم.

و قد نص مالك على كراهة التسمية بيس.ذكره السهيلي،و أما ما يذكره العوام:أن «يس»،و«طه»من أسماء النبي-عليه الصلاة و السلام-فغير صحيح،ليس ذلك في حديث صحيح و لا حسن و لا مرسل و لا أثر عن صحابي،و إنما هذه الحروف مثل:«الم»، و«حم»،و«الر»،و نحوها (3).

حكم قراءة القرآن للميت

و قد ذكر عن جماعة من السلف أنهم أوصوا أن يقرأ عند قبورهم وقت الدفن،قال عبد الحق:يروى أن عبد اللّه بن عمر أمر أن يقرأ عند قبره سورة البقرة.و ممن رأى ذلك المعلى بن عبد الرحمن،و كان الإمام أحمد ينكر ذلك أولا حيث لم يبلغه فيه أثر ثم رجع عن ذلك.

و قال الخلال في الجامع،كتاب القراءة عند القبور:أخبرنا العباس بن محمد الدوري، حدثنا يحيى بن معين،حدثنا مبشر الحلبي،حدثني عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه قال:قال أبي:إذا أنا مت فضعني في اللحد،و قل:بسم اللّه،و على سنة رسول اللّه، و سن عليّ التراب سنا،و اقرأ عند رأسي بفاتحة البقرة فإني سمعت عبد اللّه بن عمر يقول ذلك،قال عباس الدوري:سألت أحمد بن حنبل قلت:تحفظ في القراءة شيئا؟فقال:لا و سألت يحيى بن معين فحدثني بهذا الحديث.

قال الخلال و أخبرني الحسين بن أحمد الوراق،حدثني علي بن موسى الحداد،و كان صدوقا،قال:كنت مع أحمد بن حنبل،و محمد بن قدامة الجوهري في جنازة،فلما دفن الميت جلس رجل ضرير يقرأ عند القبر فقال له أحمد:يا هذا،إن القراءة عند القبر بدعة،

ص: 478


1- ابن ماجة(48)في المقدمة،باب:اجتناب البدع و الجدل.
2- تهذيب السنن(726/7).
3- تحفة المودود(116،117).

فلما خرجنا من المقابر،قال محمد بن قدامة لأحمد بن حنبل:يا أبا عبد اللّه،ما تقول في مبشر الحلبي؟قال:ثقة،قال:كتبت عنه شيئا،قال:نعم فأخبرني مبشر عن عبد الرحمن ابن العلاء بن اللجلاج عن أبيه:أنه أوصى إذا دفن أن يقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة و خاتمتها،و قال:سمعت ابن عمر يوصي بذلك،فقال له أحمد:فارجع،و قل للرجل يقرأ.

و قال الحسن بن الصباح الزعفراني سألت الشافعي عن القراءة على القبر قال:لا بأس بها.

و ذكر الخلال عن الشعبي قال:كانت الأنصار إذا مات لهم الميت اختلفوا إلى قبره يقرءون عنده القرآن.

قال:و أخبرني أبو يحيى الناقد سمعت الحسن بن الجروي يقول:مررت على قبر أخت لي فقرأت عندها«تبارك»؛لما يذكر فيها،فجاءني رجل فقال:إني رأيت أختك في المنام تقول:جزى اللّه أبا علي خيرا فقد انتفعت بما قرأ.أخبرني الحسن بن الهيثم قال:سمعت أبا بكر بن الأطروش ابن بنت أبي نصر بن التمار يقول:كان رجل يجيء إلى قبر أمه يوم الجمعة فيقرأ سورة يس،فجاء في بعض أيامه فقرأ سورة يس ثم قال:اللهم إن كنت قسمت لهذه السورة ثوابا فاجعله في أهل هذه المقابر،فلما كان يوم الجمعة التي تليها جاءت امرأة فقالت:أنت فلان بن فلانة؟قال:نعم،قالت:إن بنتا لي ماتت فرأيتها في النوم جالسة على شفير قبرها فقلت:ما أجلسك هاهنا؟فقالت:إن فلان بن فلانة جاء إلى قبر أمه فقرأ سورة يس و جعل ثوابها لأهل المقابر،فأصابنا من روح ذلك أو غفر لنا أو نحو ذلك.

و في النسائي و غيره من حديث معقل بن يسار المزني عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أنه قال:«اقرءوا «يس»عند موتاكم» (1).و هذا يحتمل أن يراد به قراءتها على المحتضر عند موته مثل قوله:

«لقنوا موتاكم لا إله إلا اللّه» (2).و يحتمل أن يراد به القراءة عند القبر،و الأول أظهر لوجوه:

الأول:أنه نظير قوله:«لقنوا موتاكم لا إله إلا اللّه».

الثاني:انتفاع المحتضر بهذه السورة لما فيها من التوحيد و المعاد و البشرى بالجنة لأهل التوحيد و غبطة من مات عليه بقوله: يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ(26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَ جَعَلَنِي مِنَن.

ص: 479


1- أبو داود(3121)في الجنائز،باب:القراءة عند الميت،و النسائي في الكبرى(10913)في عمل اليوم و الليلة،باب:ما يقرأ على الميت،و انظر تخريجه مفصلا في:إرواد العليل(688).
2- مسلم(1/916)في الجنائز،باب:تلقين الموتى لا إله إلا الله،و أبو داود(3117)في الجنائز، باب:في التلقين.

اَلْمُكْرَمِينَ (27)[يس]فتستبشر الروح فتحب لقاء اللّه،فيحب اللّه لقائها،فإن هذه السورة قلب القرآن و لها خاصية عجيبة في قراءتها عند المحتضر.

و قد ذكر أبو الفرج ابن الجوزي قال:كنا عند شيخنا أبي الوقت عبد الأول و هو في السياق،و كان آخر عهدنا به أن نظر إلى السماء و ضحك و قال: يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ(26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)[يس]و قضى.

الثالث:أن هذا عمل الناس و عادتهم قديما و حديثا يقرءون«يس»عند المحتضر.

الرابع:أن الصحابة لو فهموا من قوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«اقرءوا«يس»عند موتاكم» (1)قراءتها عند القبر؛لما أخلوا به و كان ذلك أمرا معتادا مشهورا بينهم.

الخامس:أن انتفاعه باستماعها و حضور قلبه و ذهنه عند قراءتها في آخر عهده بالدنيا هو المقصود،و أما قراءتها عند قبره،فإنه لا يثاب على ذلك؛لأن الثواب إما بالقراءة أو بالاستماع و هو عمل،و قد انقطع من الميت (2).

و أيضا و بالجملة،فأفضل ما يهدى إلى الميت العتق و الصدقة و الاستغفار له و الدعاء له و الحج عنه.

و أما قراءة القرآن و إهداؤها له تطوعا بغير أجرة،فهذا يصل إليه كما يصل ثواب الصوم و الحج.

فإن قيل:فهذا لم يكن معروفا في السلف و لا يمكن نقله عن واحد منهم مع شدة حرصهم على الخير،و لا أرشدهم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم إليه،و قد أرشدهم إلى الدعاء و الاستغفار و الصدقة و الحج و الصيام،فلو كان ثواب القراءة يصل لأرشدهم إليه و لكانوا يفعلونه.

فالجواب:أن مورد هذا السؤال إن كان معترفا بوصول ثواب الحج و الصيام و الدعاء و الاستغفار.

قيل له:ما هذه الخاصية التي منعت وصول ثواب القرآن و اقتضت وصول ثواب القرآن و اقتضت وصول ثواب هذه الأعمال؟و هل هذا إلا تفريق بين المتماثلات،و إن لم يعترف بوصول تلك الأشياء إلى الميت فهو محجوب بالكتاب و السنة و الإجماع و قواعد الشرع.

و أما السبب الذي لأجله لم يظهر ذلك في السلف،فهو أنهم لم يكن لهم أوقاف على2)

ص: 480


1- سبق تخريجه في رقم 1.
2- الروح(10-12)

من يقرأ و يهدي إلى الموتى،و لا كانوا يعرفون ذلك البتة،و لا كانوا يقصدون القبر للقراءة عنده كما يفعله الناس اليوم،و لا كان أحدهم يشهد من حضره من الناس على أن ثواب هذه القراءة لفلان الميت،بل و لا ثواب هذه الصدقة و الصوم.

ثم يقال لهذا القائل:لو كلفت أن تنقل عن واحد من السلف أنه قال:اللهم ثواب هذا الصوم لفلان لعجزت،فإن القوم كانوا أحرص شيء على كتمان أعمال البر،فلم يكونوا ليشهدوا على اللّه بإيصال ثوابها إلى أمواتهم.

فإن قيل:فرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أرشدهم إلى الصوم و الصدقة و الحج دون القراءة؟

قيل:هو صلّى اللّه عليه و سلّم لم يبتدئهم بذلك،بل خرج ذلك منه مخرج الجواب لهم،فهذا سأله عن الحج عن ميته فأذن له،و هذا سأله عن الصيام عنه فأذن له،و هذا سأله عن الصدقة فأذن له،و لم يمنعهم مما سوى ذلك.

و أي فرق بين وصول ثواب الصوم الذي هو مجرد نية و إمساك و بين وصول ثواب القراءة و الذكر؟

و القائل:إن أحدا من السلف لم يفعل ذلك،قائل ما لا علم له به،فإن هذه شهادة على نفي ما لم يعلمه،فما يدريه أن السلف كانوا يفعلون ذلك و لا يشهدون من حضرهم عليه،بل يكفي اطلاع علام الغيوب على نياتهم و مقاصدهم لا سيما و التلفظ بنية الإهداء لا يشترط.

و سر المسألة:أن الثواب ملك للعامل،فإذا تبرع به و أهداه إلى أخيه المسلم أوصله اللّه إليه،فما الذي خص من هذا ثواب قراءة القرآن و حجر على العبد أن يوصله إلى أخيه،و هذا عمل سائر الناس حتى المنكرين في سائر الأعصار و الأمصار من غير نكير من العلماء (1).

شرط الواقف قراءة قرآن عند قبر

و من ذلك (2):أن يشترط القراءة عند قبره دون البيوت التي أذن اللّه أن ترفع و يذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو و الآصال،و الناس لهم قولان:

أحدهما:أن القراءة لا تصل إلى الميت،فلا فرق بين أن يقرأ عند القبر أو بعيدا منه عند هؤلاء.

ص: 481


1- الروح(142-143).
2- أي:من شروط الواقفين المخالفة للشرع.

و الثاني:أنها تصل،و وصولها فرع حصول الثواب للقارئ،ثم ينتقل منه إلى الميت، فإذا كانت قراءة القارئ و مجيئه إلى القبر إنما هو لأجل الجعل و لم يقصد به التقرب إلى اللّه لم يحصل له ثواب،فكيف ينتقل عنه إلى الميت و هو فرعه؟فما زاد بمجيئه إلى التربة إلا العناء و التعب،بخلاف ما إذا قرأ للّه في المسجد أو غيره في مكان يكون أسهل عليه و أعظم لإخلاصه،ثم جعل ثواب ذلك للميت وصل إليه.

و ذاكرت مرة بهذا المعنى بعض الفضلاء،فاعترف به،و قال:لكن بقي شيء آخر،و هو أن الواقف قد يكون قصد انتفاعه بسماع القرآن على قبره و وصول بركة ذلك إليه،فقلت له:

انتفاعه بسماع القرآن مشروط بحياته،فلما مات انقطع عمله كله و استماع القرآن من أفضل الأعمال الصالحة،و قد انقطع بموته،و لو كان ممكنا لكان السلف الطيب من الصحابة و التابعين و من بعدهم أولى بهذا الحظ العظيم لمسارعتهم إلى الخير و حرصهم عليه.و لو كان خيرا لسبقونا إليه،فالذي لا شك فيه أنه لا يجب حضور التربة و لا تتعين القراءة عند القبر (1).

و أيضا فإذا شرط الواقف القراءة على القبر،كانت القراءة في المسجد أولى،و أحب إلى اللّه و رسوله،و أنفع للميت (2)،فلا يجوز تعطيل الأحب إلى اللّه الأنفع لعبده،و اعتبار ضده.

و قد رام بعضهم الانفصال عن هذا،بأنه قد يكون قصد الواقف حصول الأجر له باستماعه للقرآن في قبره،و هذا غلط،فإن ثواب الاستماع مشروط بالحياة،فإنه عمل اختياري،و قد انقطع بموته (3).

النهي عن قراءة القرآن في الركوع و السجود

و سمعته يقول (4)في نهيه صلّى اللّه عليه و سلّم عن قراءة القرآن في الركوع و السجود:«إن القرآن هو أشرف الكلام،و هو كلام اللّه،و حالتا الركوع و السجود حالتا ذل،و انخفاض من العبد».

فمن الأدب مع كلام اللّه:ألا يقرأ في هاتين الحالتين،و يكون حال القيام و الانتصاب

ص: 482


1- إعلام الموقعين(230/4،231).
2- ليس القراءة للميت من هدى النبوة.المسألة فيها تفصيل كما في زاد المعاد!
3- إعلام الموقعين(130/3).
4- أي شيخ الإسلام ابن تيمية.

أولى به» (1)(1).

سجدات القرآن

كان صلّى اللّه عليه و سلّم،إذا مر بسجدة،كبر و سجد،و ربما قال في سجوده:«سجد وجهي للذي خلقه و صوره و شق سمعه و بصره بحوله و قوته» (2):

و ربما قال:«اللهم احطط عني بها وزرا،و اكتب لي بها أجرا،اجعلها لي عندك ذخرا، و تقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود» (3).ذكرهما أهل السنن.

و لم يذكر عنه أنه كان يكبر للرفع من هذا السجود؛و لذلك لم يذكره الخرقي و متقدمو الأصحاب،و لا نقل فيه عنه تشهد،و لا سلام البتة.و أنكر أحمد و الشافعي السلام فيه، فالمنصوص عن الشافعي:أنه لا تشهد فيه و لا تسليم،و قال أحمد:أما التسليم،فلا أدري ما هو؟

و هذا هو الصواب الذي لا ينبغي غيره.

و صح عنه صلّى اللّه عليه و سلّم،أنه سجد في الم تَنْزِيلُ ،و في ص ،و في اَلنَّجْمِ و في إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (4)[الانشقاق:1]،و في سورة اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)[العلق].

و ذكر أبو داود عن عمرو بن العاص:أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أقرأه خمس عشرة سجدة؛منها ثلاث في المفصل،و في سورة الحج سجدتان (5).

ص: 483


1- مدارج السالكين(385/2،386).
2- أبو داود(1414)في الصلاة،باب:ما يقول إذا سجد،و الترمذي(580)في الصلاة،باب:ما يقول في سجود القرآن،و قال:«حسن صحيح».
3- الترمذي(579)في الصلاة،باب:ما يقول في سجود القرآن،و ابن ماجة(1053)في إقامة الصلاة و السنة فيها،باب:سجود القرآن.
4- في هذا نظر،فإنها حالة عز و رفعة؛لأنها ذل للّه الأكبر،و انخفاض من العبودية لعظمة الربوبية و جلالها شرف و رفعة،و لعل السر في ذلك:أن المصلي حين قرأ قائما،تجلى للمتدبر الفقيه في كتاب ربه:ما لله عليه من النعم العظيمة المتتالية،و بالأخص،و قد شرف بالنعمة العظمى،نعمة مناجاة ربه؛فإنه يحسن عندئذ أنه يحمل من النعم ما ينوء به ظهره؛فيخر راكعا؛فيناسب ذلك أن يسبح بحمد ربه العظيم، الذي تجلت له عظمته في هذه النعم،ثم يشعر أن ربه سمع تسبيحه بحمد ربه و يتذكر نعمه،فيرفع من الركوع شاكرا لربه،قائلا:«سمع اللّه لمن حمده...إلخ»فيحس إحساسا آخر أنه من الحمادين الشكارين،فيجد أن النعم قد زادت زيادة عظيمة؛فينوء ظهره أكثر من قبل؛فيخر ساجدا.و اللّه أعلم. و هو الموفق.
5- أبو داود(1401)في الصلاة،باب:تفريع أبواب السجود،و ابن ماجة(1057)في إقامة الصلاة و السنة فيها،باب:عدد سجود القرآن،و ضعفه الألباني.

و أما حديث أبي الدرداء،سجدت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إحدى عشرة سجدة،ليس فيها من المفصل شيء:(الأعراف)،و(الرعد)و(النحل)،و(بني إسرائيل)،و(مريم)،و(الحج)، و(سجدة الفرقان)،و(النمل)،و(السجدة)،و(ص)،و(سجدة الحواميم).فقال أبو داود:

روى أبو الدرداء عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم إحدى عشرة سجدة،و إسناده واه (1).

و أما حديث ابن عباس رضي اللّه عنه:أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لم يسجد في المفصل منذ تحول إلى المدينة.رواه أبو داود (1)،فهو حديث ضعيف،في إسناده أبو قدامة الحارث بن عبيد،لا يحتج بحديثه.قال الإمام أحمد:أبو قدامة مضطرب الحديث.و قال يحيى بن معين:

ضعيف.و قال النسائي:صدوق عنده مناكير.و قال أبو حاتم البستي:كان شيخا صالحا ممن كثر و همه.و عبد اللّه ابن القطان بمطر الوراق،و قال:كان يشبهه في سوء الحفظ محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى،و عيب على مسلم إخراج حديثه.انتهى كلامه.

و لا عيب على مسلم في إخراج حديثه؛لأنه ينتقي من أحاديث هذا الضرب ما يعلم أنه حفظه،كما يطرح من أحاديث الثقة ما يعلم أنه غلط فيه،فغلط في هذا المقام من استدرك عليه إخراج جميع حديث الثقة،و من ضعف جميع حديث سيئ الحفظ،فالأولى:طريقة الحاكم و أمثاله.و الثانية:طريقة أبي محمد بن حزم و أشكاله.و طريقة مسلم هي طريقة أئمة هذا الشأن،و اللّه المستعان.

و قد صح عن أبي هريرة أنه سجد مع النبي صلّى اللّه عليه و سلّم في اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) [العلق]،و في إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1)[الانشقاق] (2)،و هو إنما أسلم بعد مقدم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم المدينة بست سنين أو سبع،فلو تعارض الحديثان من كل وجه،و تقاوما في الصحة؛لتعين تقديم حديث أبي هريرة؛لأنه مثبت معه زيادة علم خفيت على ابن عباس،فكيف و حديث أبي هريرة في غاية الصحة متفق على صحته،و حديث ابن عباس فيه من الضعف ما فيه.و اللّه أعلم (3).

سجود التلاوة في الانشقاق

عمل أهل المدينة الذي كأنه رأي عين في سجودهم في: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (4)أول

ص: 484


1- أبو داود(1403)في الصلاة،باب:من لم ير السجود في المفصل،و ضعفه الألباني.
2- مسلم(109/578)في المساجد و مواضع الصلاة،باب:سجود التلاوة.
3- زاد المعاد(362/1-364).
4- الترمذي(568)في الصلاة،باب:ما جاء في سجود القرآن،و ابن ماجة(1056)في إقامة الصلاة و السنة فيها،باب:عدد سجود القرآن،و في الزوائد:«في إسناده عثمان بن فائد،و هو ضعيف».

كانت مرادة،فهي ثابتة في نفس الأمر،أو أوهم أنها مرادة لضرب من المصلحة.

فكل هؤلاء في صدورهم حرج من القرآن،و هم يعلمون ذلك من نفوسهم،و يجدونه في صدورهم.و لا تجد مبتدعا في دينه قط إلا و في قلبه حرج من الآيات التي تحول بينه و بين إرادته.فتدبر هذا المعنى ثم ارض لنفسك بما تشاء (1).

جزاء المعرض عن القرآن

قال تعالى: وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً [طه:124]أي عن الذكر الذي أنزلته،فالذكر هنا مصدر مضاف إلى الفاعل،كقيامي و قراءاتي،لا إلى المفعول.و ليس المعنى:من أعرض عن أن يذكرني،بل هذا لازم المعنى و مقتضاه من وجه آخر سنذكره.

و أحسن من هذا الوجه أن يقال:الذكر هنا مضاف إضافة الأسماء لا إضافة المصادر إلى معمولاتها.و المعنى:من أعرض عن كتابي و لم يتبعه،فإن القرآن يسمى ذكرا قال تعالى:

وَ هذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ [الأنبياء:50]،و قال تعالى: ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَ الذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)[آل عمران]،و قال تعالى: وَ ما هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52)[القلم]،و قال تعالى:

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمّا جاءَهُمْ وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41)[فصلت]،و قال تعالى: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَ خَشِيَ الرَّحْمنَ [يس:11]،و على هذا فإضافته كإضافة الأسماء الجوامد التي لا يقصد بها إضافة العامل إلى معموله،و نظيره في إضافة اسم الفاعل: غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ [غافر:3]،فإن هذه الإضافات لم يقصد بها قصد الفعل المتجدد، و إنما قصد بها قصد الوصف الثابت اللازم،و كذلك جرت أوصافا على أعرف المعارف، و هو اسم اللّه تعالى في قوله تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(2) غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)[غافر].

و قوله تعالى: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً فسرها غير واحد من السلف بعذاب القبر،و جعلوا هذه الآية أحد الأدلة الدالة على عذاب القبر،و لهذا قال: وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى(124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً(125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَ كَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126) [طه]،أي تترك في العذاب كما تركت العمل بآياتنا،فذكر عذاب البرزخ و عذاب دار البوار.

و نظيره قوله تعالى في حق آل فرعون: اَلنّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا فهذا البرزخ، وَ يَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غافر:46]فهذا في يوم القيامة الكبرى.

ص: 485


1- الفوائد(82).

و نظيره قوله تعالى: وَ لَوْ تَرى إِذِ الظّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَ الْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَ كُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)[الأنعام]فقول الملائكة:اليوم تجزون عذاب الهون،المراد به عذاب البرزخ الذي أوله يوم القبض و الموت.و نظيره قوله تعالى: وَ لَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ وَ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (50)[الأنفال]،فهذه الإذاقة هي في البرزخ، و أولها حين الوفاة فإنه معطوف على قوله: يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ و هو في القول المحذوف مقولة لدلالة الكلام عليه كنظائره و كلاهما واقع وقت الوفاة.

و في«الصحيح»عن البراء بن عازب رضي اللّه عنه في قوله تعالى: يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ [إبراهيم:27]قال:نزل في عذاب القبر (1).

و الأحاديث في عذاب القبر تكاد تبلغ حد التواتر.

و المقصود:أن اللّه-سبحانه-أخبر أن من أعرض عن ذكره و هو الهدى الذي من اتبعه،لا يضل و لا يشقى،فإن له معيشة ضنكا،و تكفل لمن حفظ عهده أن يحييه حياة طيبة و يجزيه أجره في الآخرة،فقال تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (97)[النحل]فأخبر-سبحانه-عن فلاح ما تمسك بعهده علما و عملا في العاجلة بالحياة الطيبة،و في الآخرة بأحسن الجزاء، و هذا بعكس من له المعيشة الضنك في الدنيا و البرزخ،و نسيانه في العذاب بالآخرة و قال سبحانه: وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ(36) وَ إِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)[الزخرف]،فأخبر-سبحانه-أن من ابتلاه بقرينه من الشياطين و ضلاله به،إنما كان بسبب إعراضه و عشوّه عن ذكره الذي أنزله على رسوله، فكان عقوبة هذا الإعراض أن قيض له شيطانا يقارنه فيصده عن سبيل ربه و طريق فلاحه و هو يحسب أنه مهتد،حتى إذا وافى ربه يوم القيامة مع قرينه و عاين هلاكه و إفلاسه قال: يا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38)[الزخرف]،و كل من أعرض عن الاهتداء بالوحي الذي هو ذكر اللّه،فلا بد أن يقول هذا يوم القيامة.

فإن قيل:فهل لهذا عذر في ضلاله إذا كان يحسب أنه على هدى،كما قال تعالى:

وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الأعراف:30].قيل:لا عذر لهذا و أمثاله من الضّلال الذين منشأ ضلالهم الإعراض عن الوحي الذي جاء به الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم،و لو ظن أنه مهتد فإنه مفرطر.

ص: 486


1- البخاري(1369)في الجنائز،باب ما جاء في عذاب القبر.

بإعراضه عن اتباع داعي الهدى فإذا ضل فإنما أتى من تفريطه و إعراضه،و هذا بخلاف من كان ضلاله لعدم بلوغ الرسالة و عجزه عن الوصول إليها،فذاك له حكم آخر.و الوعيد في القرآن إنما يتناول الأول،و أما الثاني فإن اللّه لا يعذب أحدا إلا بعد إقامة الحجة عليه،كما قال تعالى: وَ ما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء:15]،و قال تعالى: رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165]،و قال تعالى في أهل النار:

وَ ما ظَلَمْناهُمْ وَ لكِنْ كانُوا هُمُ الظّالِمِينَ (76)[الزخرف]،و قال تعالى: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللّهِ وَ إِنْ كُنْتُ لَمِنَ السّاخِرِينَ(56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ(57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ(58) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَ اسْتَكْبَرْتَ وَ كُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59)[الزمر]و هذا كثير من القرآن.

و قوله تعالى: وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى(124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125)[طه]:اختلف فيه:هل هو من عمى البصيرة أو من عمى البصر.و الذين قالوا:هو من عمى البصيرة،إنما حملهم على ذلك قوله: أَسْمِعْ بِهِمْ وَ أَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا [مريم:38].

و قوله: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)[ق]،و قوله: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَ يَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22)[الفرقان]،و قوله: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ(6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7)[التكاثر]و نظائر هذا مما يثبت لهم الرؤية في الآخرة،كقوله تعالى: وَ تَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ [الشورى:45]،و قوله: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا(13) هذِهِ النّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14) أَ فَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (15)[الطور]،و قوله: وَ رَأَى الْمُجْرِمُونَ النّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَ لَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53)[الكهف]،و الذين رجحوا أنه من عمى البصر قالوا:

السياق لا يدل إلا عليه؛لقوله: قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125)[طه]،و هو لم يكن بصيرا في كفره قط،بل قد تبين له حينئذ أنه كان في الدنيا في عمى عن الحق، فكيف يقول:و قد كنت بصيرا؟و كيف يجاب بقوله: كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَ كَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى [طه:126]،بل هذا الجواب فيه تنبيه على أنه من عمى البصر،و أنه جوزي من جنس عمله؛فإنه لما أعرض عن الذكر الذي بعث اللّه به رسوله،و عميت عنه بصيرته،أعمى اللّه بصره يوم القيامة،و تركه في العذاب كما ترك الذكر في الدنيا،فجازاه على عمى بصيرته عمى بصره في الآخرة،و على تركه ذكره تركه في العذاب (1).).

ص: 487


1- مفتاح دار السعادة(46-49).

و أيضا قال تعالى: وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى(124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً(125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَ كَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126) [طه]،أي:تنسى في العذاب كما نسيت آياتي فلم تذكرها و لم تعمل بها.و إعراضه عن ذكره يتناول إعراضه عن الذكر الذي أنزله،و هو أن يذكر الذي أنزله في كتابه،و هو المراد بتناول إعراضه عن أن يذكر ربه بكتابه،و أسمائه و صفاته و أوامره و آلائه،و نعمه،فإن هذه كلها توابع إعراضه عن كتاب ربه تعالى،فإن الذكر في الآية إما مصدر مضاف إلى الفاعل،أو مضاف إضافة الأسماء المحضة،أي:من أعرض عن كتابي و لم يتله،و لم يتدبره،و لم يعمل به،و لا فهمه،فإن حياته و معيشته لا تكون إلا مضيقة عليه منكدة معذبا فيها.

و الضنك:الضيق و الشدة و البلاء.و وصف المعيشة نفسها بالضنك مبالغة،و فسرت هذه المعيشة بعذاب البرزخ،و الصحيح:أنها تتناول معيشته في الدنيا و حاله في البرزخ،فإنه يكون في ضنك في الدارين،و هو شدة و جهد و ضيق.و في الآخرة ينسى في العذاب.و هذا عكس أهل السعادة و الفلاح،فإن حياتهم في الدنيا أطيب الحياة،و لهم في البرزخ و في الآخرة أفضل الثواب (1).

سلط اللّه تعالى عليهم (2)من أزال ملكهم،و شردهم من أوطانهم،و سبى ذراريهم،كما هي عادته-سبحانه-و سنته في عباده إذا أعرضوا عن الوحي،و تعوضوا عنه بكلام الملاحدة و المعطلة من الفلاسفة و غيرهم،كما سلط النصارى على بلاد المغرب لما ظهرت فيها الفلسفة و المنطق،و اشتغلوا بها،فاستولت النصارى على أكثر بلادهم،و أصاروهم رعية لهم.و كذلك لما ظهر ذلك ببلاد الشرق،سلط عليهم عساكر التتار،فأبادوا أكثر البلاد الشرقية،و استولوا عليها.و كذلك في أواخر المائة الثالثة،و أول الرابعة،لما اشتغل أهل العراق بالفلسفة و علوم أهل الإلحاد،سلط عليهم القرامطة الباطنية،فكسروا عسكر الخليفة عدة مرات،و استولوا على الحاج،و استعرضوهم قتلا و أسرا،و اشتدت شوكتهم،و اتهم بموافقتهم في الباطن كثير من الأعيان،من الوزراء و الكتاب،و الأدباء و غيرهم،و استولى أهل دعوتهم على بلاد المغرب،و استقرت دار مملكتهم بمصر (3)،و بنيت في أيامهم).

ص: 488


1- الوابل الصيب(59).
2- أي:بنو إسرائيل.
3- هم العبيديون المدعون كذبا و زورا أنهم فاطميون.وجدهم الذي دخل إلى المغرب،و أظهر دعوته هو المدعو:عبيد اللّه المهدى.قال القاضي عبد الجبار المصري:اسم جد الخلفاء المصريين:سعيد، و يلقب بالمهدي.و كان أبوه يهوديا حدادا بسلمية،ثم زعم سعيد هذا أنه ابن الحسين بن أحمد بن عبد اللّه بن ميمون القداح و قال القاضي أبو بكر الباقلاني:القداح-جد عبيد اللّه-كان مجوسيا.و دخل عبيد اللّه المغرب.و ادعى أنه علوي.و لم يعرفه أحد من علماء النسب.و كان باطنيا خبيثا،حريصا على إزالة ملة الإسلام.أعدم الفقه و العلم ليتمكن من إغراء الخلق.و جاء أولاده على أسلوبه،فأباحوا الخمر و الفروج و أشاعوا الرفض و بثوا دعاتهم فأفسدوا عقائد جبال الشام،كالنصيرية،و الدروزية، و كان القداح كذابا ممخرقا.و هو أصل دعاة القرامطة 1.ه من النجوم الزاهرة(ج 4 ص 75،76).

القاهرة،و استولوا على الشام و الحجاز و اليمن و المغرب،و خطب لهم على منبر بغداد (1).).

ص: 489


1- إغاثة اللهفان(269/2،270).

المحتويات

إهداء 5

مقدمة 7

فصل:علوم القرآن و الرد على الشبهات 27

(1)نزول القرآن الكريم 28

فصل:في منهج ابن القيم في التفسير 34

في بيان معنى تيسير القرآن للذكر و بيان معنى التفسير 34

أهم قواعد منهج ابن القيم 38

عرف القرآن 42

فصل:موقف ابن القيم من الإسرائيليات:48

بيان تعظيمه للقرآن الكريم 50

ابن القيم و التفسير العلمي 54

فصل:في ترجمة الإمام ابن القيم 57

فصل:مكتبة ابن القيم 61

فصل:مؤلفات ابن القيم مرتبة على الحروف 64

فصل:الفوائد المشوق إلى علوم القرآن 72

أولا:التعريف بكتاب«الفوائد المشوق»:73

ثانيا:إن وسائل إثبات صحة نسبة الكتاب لمؤلفه،هي عديدة نذكر منها:73

ثالثا:محاولة تطبيق ما سبق على«الفوائد المشوق»:74

ضرورة الوحي 81

مكانة الوحي 81

مراتب الوحي 81

مراتب الهداية الخاصة و العامة و الفرق بين الإلهام و الوحي و التحديث 82

مسألة 94

قلم تعبير الرؤيا 95

نزول القرآن الكريم 97

وقت نزول القرآن 97

أول ما نزل من القرآن 97

مثال لأوقات النزول وقت نزول فرض الحج 99

ص: 490

وقت نزول سورة براءة 99

أسباب النزول 100

أمثلة من أسباب النزول من سورة البقرة 100

من سورة آل عمران 100

من سورة النساء 100

من سورة المائدة 100

من سورة المائدة 104

من سورة الأنعام 104

من سورة إبراهيم 105

من سورة الأحزاب 107

المعوذتين 108

المكي و المدني 110

مثال المكي 110

مثال المدني 111

جمع القرآن الكريم 113

كتّاب الوحي 113

جمع عثمان رضي اللّه عنه الناس على مصحف واحد 113

المصاحف و جمع الناس على مصحف واحد من أهم السياسات الشرعية 113

القراءات 115

القراءة بالأحرف السبعة و غيرها 115

الجمع بين القراءات 115

النهي عن التنطع و الغلو في النطق بالحرف 116

مثال للقراءات 117

فواتح السور 121

بيان دلالات فواتح السور و عظم شأنها 121

مقاصد السور و الآيات 123

بيان بعض ما تشير إليه دلالة الآيات و السور 124

دلالة السور و الآيات على الغزوات 124

بعض الحكم و الغايات في وقعة أحد 124

الأمثال في القرآن الكريم 141

قيمة المثل في القرآن 141

حكمة ضرب المثل في القرآن 141

أصول و قواعد من أمثال القرآن الكريم لعلم التعبير 141

ص: 491

فصل تدبر الأمثال التي وقعت في القرآن 143

مثل المقلّدين 144

مثل المنفقين في سبيل الله 145

مثل من أنفق ماله في غير طاعة اللّه عز و جلّ 147

مثل فيمن انسلخ من آيات الله 148

مثل الحياة الدنيا 152

مثل المؤمنين و الكافرين 153

المثال المائي و الناري في حق المؤمنين 153

مثل في بطلان أعمار الكفار 154

مثل في الكلمة الطيبة 155

مثل الكلمة الخبيثة 158

مثل في تثبيت المؤمن 159

التمثيل بالعبد المملوك 162

في تشبيه من أعرض عن مثل الشرك 166

قدرة الذين يدعوهم المشركون من دون الله 166

تمثيل أعمال الكافرين بالسراب 167

مثل في بيان حال الكفار 170

مثل في الذين اتخذوا أولياء من دون اللّه تعالى 171

مثل في ضلال المشركين 172

مثل الموحد و المشرك 172

مثل المغتاب 173

مثل من حمّل الكتاب و لم يعمل به 174

مثل للكفار و مثلان للمؤمنين 174

مثل في تشبيه من أعرض عن كلامه و تدبره 176

فصل في الفوائد و الحكم من ضرب الأمثال 177

الخلاصة 178

المحكم و المتشابه 179

المتشابه و أنواع الإحكام 179

في الناسخ و المنسوخ 193

حكمة النسخ في القرآن 193

أمثلة على النسخ 195

الاستدلال في القرآن الكريم 206

ص: 492

الاستدلال على اللّه تعالى بالآيات الأفقية و النفسية 206

الاستدلال بأسماء اللّه و صفاته 208

الاستدلال على صدق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم 209

من أساليب القرآن الكريم 211

التحدي 211

القرآن الكريم محكم جامع 213

بيان فساد إضافة الشر إلى اللّه تعالى 214

التدرج في التكليف 215

العطف في القرآن الكريم 217

تقديم بعض الكلام على بعض 223

دخول الشرط على الشرط 243

الروابط بين الجملتين 246

القسم في القرآن 262

من أحكام القسم 262

أمثلة من قسم القرآن 263

ألفاظ القرآن و مقاصدها 268

بيان الوجوه التي تنقسم إليها معاني ألفاظ القرآن 268

من أنواع استعمال القرآن لبعض الألفاظ 269

خطأ تحميل اللفظ فوق ما يحتمله 270

من الألفاظ المكروهة 272

بعض ألفاظ القرآن الكريم و مقاصدها كالطبع و الختم و الغشاوة و الغطاء و غيرها 273

السلطان في القرآن 317

السمع في القرآن 321

الصبر في القرآن 322

صلاة اللّه عز و جلّ على عباده في القرآن 326

الفاجر في عرف القرآن 327

القضاء و الحكم و الإرادة و الكتابة و الأمر و الإذن 327

تفسير القرآن و تأويله 334

حقيقة التأويل 334

درجات التأويل 334

ما يدخل فيه التأويل و المجاز 335

الأقوال في التأويل و بيان خطورته 335

ص: 493

رأي الجويني في الكف عن التأويل 336

رأي الغزالي في التأويل 336

التأويل عدو كل الأديان 338

أصناف المتأولة 339

فتنة التأويل و بعض ما أحدثت 339

رأي ابن رشد في التأويل 340

مثل من أوّل شيئا من القرآن 341

أمثلة للتأويل الفاسد 342

التفسير بالرأي 350

أقسام الرأي 350

الآثار عن التابعين في ذم الرأي 355

موقف أهل الرأي من السنة 358

كلام أئمة الفقهاء عن الرأي 358

النهي عن تفسير القرآن بمجرد الاحتمال النحوي الإعرابي 358

من فوائد الإخبار عن المحسوس الواقع 360

«عسى»من اللّه واجب 360

هل نقل من القرآن آحادا؟361

تفسير القرآن بالسنة 362

منزلة السنة من القرآن 367

الكلام عن الزيادة المغيرة لحكم شرعي 370

أنواع بيان الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم 373

هل يجوز تخصيص كلام اللّه بحديث؟377

عودة إلى حجج أن الزيادة لا توجب نسخا 377

تخصيص القرآن بالسنة 386

من تفسيرات النبي صلّى اللّه عليه و سلّم للقرآن 390

تفسير الصحابة للقرآن و الأقوال في الاحتجاج به 390

بعض تفسير الصحابة يخالف الأحاديث 391

ما أشكل على بعض الصحابة 393

فضائل القرآن 397

مكانة القرآن بين الكتب المنزّلة 397

القرآن كثير الخير عظيم النفع 397

القرآن كفيل بمصالح العباد في المعاش و المعاد 397

القرآن باب اللّه الأعظم الذي منه الدخول 398

ص: 494

القرآن حق و صدق 401

القرآن ذكر اللّه الأكبر 402

القرآن فضل اللّه و رحمته 403

القرآن ذكر للعباد 403

القرآن تبصرة للعباد 404

محتوى خطاب القرآن 405

فضل قارئ القرآن 407

النهي عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو 408

القرآن متضمن لأدوية القلب،و علاجه من جميع أمراضه 408

الآيات و السور التي يعتصم بها العبد من الشيطان و يستدفع بها شره و يحترز بها منه 410

العلاج بالقرآن 413

هديه صلّى اللّه عليه و سلّم في رقية اللديغ بالفاتحة 413

هديه صلّى اللّه عليه و سلّم في علاج لدغة العقرب بالرقية 416

فضل سورة الفاتحة 419

فضل آية الكرسي 421

أجمع آية لمكارم الأخلاق 422

فضل سورة الملك 422

فضل سورة الزلزلة 422

فضل المعوذتين 423

فضل سورة الإخلاص 423

فضل سور:الإخلاص و الكافرون و الزلزلة 424

ما صح من أحاديث في فضائل السور و الآيات 426

ما وضع في فضائل السور 427

آداب القرآن الكريم 428

سماع القرآن الكريم 428

السمع المستحب 428

أدب استماع القراءة 429

فضل سماع القرآن من الغير 429

المستمع للقرآن مستمع للّه عز و جلّ 430

سماع الناس القرآن يوم القيامة 430

الشهقة عند سماع القرآن 431

عشق سماع القرآن 432

سماع القرآن يغني عن سماع الشيطان 432

ص: 495

تدبر القرآن و كيفية ذلك 433

دعوة القرآن إلى تدبره و بيان أنواع التدبر 435

فوائد تدبر القرآن 442

علاج المدبر عن سماع القرآن 446

هل الأفضل قلة القراءة مع التدبر أو الكثرة بدونه؟447

العلم بالقرآن أفضل العلوم 448

تعلم قراءة القرآن 448

المقصود من تعلم القرآن 449

تحسين الصوت بالقرآن 449

مسألة 451

هديه صلّى اللّه عليه و سلّم في قراءة القرآن،و استماعه و خشوعه 453

البكاء عند سماع القرآن 461

تلاوة القرآن 461

شروط الانتفاع بالقرآن 462

موانع الانتفاع بالقرآن 464

أسباب تفاوت الناس في فهم القرآن 466

كيفية تلاوة القرآن 468

حكم قراءة الجماعة بصوت واحد 469

في كم يختم القرآن؟469

دعاء ختم القرآن 470

حكم قراءة القرآن بالفارسية 471

النهي عن الجهر بالقرآن بحضرة العدو 471

حكم الوضوء لقراءة القرآن 471

حكم قراءة الحائض القرآن و إعلال حديث المنع 473

حكم مس المصحف للجنب و غيره 473

النهي عن المراء في القرآن 477

حكم التسمية بأسماء القرآن 478

حكم قراءة القرآن للميت 479

شرط الواقف قراءة قرآن عند قبر 482

النهي عن قراءة القرآن في الركوع و السجود 483

سجدات القرآن 484

سجود التلاوة في الانشقاق 485

جزاء المعرض عن القرآن 485

ص: 496

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.