الاتجاه العقلي في التفسير

اشارة

سرشناسه : ابوزيد، نصرحامد

Abuzayd, Nasr Hamid

عنوان و نام پديدآور : الاتجاه العقلي في التفسير: دراسة في قضيه المجاز في القرآن عند المعتزلة/ نصرحامد ابوزيد

مشخصات نشر : بيروت : المركز الثقافي العربي 1998م = 1377.

مشخصات ظاهري : ص 280

يادداشت : كتابنامه ص 254 - 247

موضوع : كلام -- معتزله موضوع : قرآن -- مجاز

موضوع : قرآن -- مسائل ادبي موضوع : معتزله رده بندي كنگره : BP203/2/الف2الف2 1377

شماره كتابشناسي ملي : م 80-32206

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

مقدمة

تنبّه الباحثون إلى أثر القرآن الكريم في نشأة العلوم العربية عامة، و في نشأة علوم النقد و البلاغة بصفة خاصة. و حاولوا في أبحاث كثيرة الكشف عن هذا الأثر و تحديد ملامحه و أبعاده. و اختلفت زوايا التركيز بين الباحثين تبعا لاختلاف زاوية الاهتمام.

و لم يحظ أهم مبحث من مباحث البلاغة، و هو مبحث «المجاز» بدراسة مستقلة تعنى بتقصي ظروف نشأته، و أثر القرآن في تحديد ماهيته و وظيفته في التعبير البليغ. و لقد أشار الباحثون إلى أثر المعتزلة بصفة خاصة في انضاج مفهوم «المجاز» من خلال سعيهم الدائب لنفي التصورات الشعبية عن الذات الالهية و عن أفعالها.

غير أن هذه الاشارات جاءت مجملة في سياق موضوع أعم هو موضوع الصورة الأدبية في النقد العربي. و أهم هذه الاشارات الفصل الذي خصصه الدكتور مصطفى ناصف للمؤثرات الروحية في بحث الاستعارة، و ذلك في كتابه عن «الصورة الادبية» و كذلك ما أشار اليه الدكتور جابر عصفور في تمهيده للفصل الخاص بالأنواع البلاغية للصورة، و ذلك في كتابه عن «الصورة الفنية في التراث النقدي و البلاغي». و كان لهذه الإشارات - على عموميتها - الفضل في تنبيه الباحث إلى أهمية الموضوع، و ضرورة التوفّر على دراسته دراسة تفصيلية تهدف إلى الكشف عن تلك العلاقة الوثيقة بين الفكر الاعتزالي و بين بحث المجاز في القرآن.

و هي علاقة كان لها أثرها - دون شك - في توجيه مبحث المجاز وجهة خاصة في دراسة الشعر و النثر على السواء.

و لكي يحقق الباحث هذه الغاية، كان عليه أن يعتمد بصفة أساسية على المصادر الأصلية للفكر الاعتزالي، دون غيرها من المصادر التي تؤرّخ لهم أو تحكي آراءهم. و قد أتيح لتلك المصادر أن ترى النور منذ فترة قليلة لا تزيد على السنوات العشر. و أهم هذه المصادر مؤلفات القاضي عبد الجبار الأسدآبادي المتوفى عام

ص: 5

415 ه، و هي مؤلفات كثيرة و متنوعة. و أهم هذه المؤلفات موسوعته الضخمة «المغني في أبواب التوحيد و العدل» التي تقع في عشرين جزءا ما تزال ستة أجزاء منها مفقودة، و هي الأجزاء: الأول، و الثاني، و الثالث، و العاشر، و الثامن عشر، و التاسع عشر، و لم يكن حجم هذه المؤلفات يمثّل صعوبة للباحث، و إنما. تركّزت الصعوبة الحقيقية في معاناة فهم هذه المادة المتشعبة بلغتها المعقدة التي كثيرا ما ألجأت الباحث إلى محاولة إعادة تركيب الجمل تقديما و تأخيرا، بل و إعرابها كلمة كلمة في أحيان كثيرة، حتى يطمئن إلى فهمه للفكرة التي يراد التعبير عنها. فإذا اضفنا إلى ذلك أن عملية تحقيق هذا الكتاب الضخم لا تكاد تتجاوز نسخ المخطوط الوحيد الذي تعتمد عليه في أغلب الأحيان، إلى شرح للمصطلحات أو بيان لأفكار المؤلف. إذا أضفنا ذلك كله أدركنا العبء المزدوج الذي كان على الباحث أن يقوم به. عبء الفهم و تقويم النص معا.

و نظرا لهذه الصعوبات، أحسّ الباحث أنه من الضروري أن يقف بالحدود الزمنية لبحثه عند القرن الرابع الهجري - عصر القاضي عبد الجبار - دون أن يتجاوزه، هذا القرن الذي يمثّل النضج النهائي للفكر الاعتزالي في عصر نهضته الثانية في بلاط الدولة البويهية. و كانت الإشارة للمؤلفات المتأخرة في بعض الاحيان تهدف إلى بيان الفكرة و توضيحها دون التركيز على تحليلها في هذه المؤلفات.

و من الطبيعي أن تفرض طبيعة المادة على الباحث طريقة التناول و منهج العرض. و إذا كانت الأبحاث اللغوية و الدلالية في مؤلفات المعتزلة قد جاءت متناثرة و متفرقة، فقد كان على الباحث أن يحاول وضعها في نسق يحقق مبدأ الوحدة الفكرية التي حرص المعتزلة أنفسهم على تحقيقها، و إن حققوها بوسائلهم الخاصة التي خضعت في الغالب لمنهج التأليف القديم، ذلك المنهج الذي يعتمد على الاستطراد و الاسهاب و التفريع. هذا علاوة على ما تميّز به المعتزلة خاصة من الجدل عن طريق الرد على اعتراضات الخصوم أو توهم اعتراضات يوردها المؤلف على نفسه.

و إذا كان المجاز وسيلة خاصة من وسائل الأداء اللغوي، فإن أي فهم لطبيعة المجاز و لوظيفته لا يمكن أن ينفصل عن تصور ما لطبيعة اللغة و دلالتها. و هذا التصور لطبيعة اللغة إنما يتمّ في ضوء تصور أعم لطبيعة النشاط العقلي في سعيه نحو المعرفة. و لقد كان لإعلاء المعتزلة من شأن العقل، هذا الإعلاء الذي ميّزهم عن غيرهم من المتكلمين، أثره في تنبههم للترابط بين مبحث المجاز و بين مجالات اللغة و المعرفة بشكل عام. و نتيجة لذلك كان من الطبيعي أن ينقسم البحث إلى

ص: 6

تمهيد و ثلاثة فصول.

يتناول التمهيد نشأة الفكر الاعتزالي و يحاول أن يفسّرها في ضوء الظروف الاجتماعية للمجتمع الاسلامي أواخر القرن الأول و أوائل القرن الثاني الهجري، و ذلك لإدراك العلاقة بين الواقع و الفكر الاعتزالي بأبعاده المتعددة. و يتناول الفصل الأول العلاقة بين المعرفة و الدلالة اللغوية عند المعتزلة، و يكشف عن أثر الفكر الديني الاعتزالي في صوغ اللغة بين أنواع الدلالة العقلية، و جعلها آخر هذه الأنواع. و كانت الشروط التي وضعها المعتزلة لصحة الدلالة اللغوية بمثابة مدخل طبيعي لمناقشة مفهوم المجاز عند المعتزلة، كان من الضروري الإشارة إلى التطور التاريخي لمفهوم الانتقال في الدلالة و ذلك منذ المراحل الأولى لنشأة علم التفسير، و بيان العلاقة بين نضج المفاهيم البلاغية عامة، و بين تأويل النص القرآني لخدمة الخلافات العقائدية بين الفرق المختلفة. غير أن هذه العلاقة بين المجاز و التأويل كانت في حاجة لفصل خاص - الفصل الثالث - للكشف - بشكل أعمق - عن هذه العلاقة على المستويين المعرفي و الديني على السواء.

و لقد اعتمد البحث بشكل رئيسي على المقارنة بين المعتزلة و الأشاعرة خاصة، و هي مقارنة تهدف إلى الكشف بعمق عن خصوصية الفكر الاعتزالي دون أن تتجاوز ذلك إلى بيان الأصول الفكرية للأشاعرة، فذلك أمر يحتاج إلى بحث مستقل.

و كل ما يرجوه الباحث، أن يكون قد وفق في الكشف عن جانب هام من جوانب تراثنا الديني الاسلامي في مجال البحث النقدي و البلاغي.

ص: 7

ص: 8

تمهيد الإطار التاريخي لنشأة الفكر الاعتزالي

ص: 9

ص: 10

لا تطمح هذه الصفحات لرصد العوامل التاريخية لنشأة الفكر الاعتزالي، بقدر ما تحاول تفهم هذه الظروف بغية فهم الفكر الاعتزالي نفسه في إطار ظروفه البيئية و التاريخية، و ذلك ايمانا بأن الفكر لا ينشأ من فراغ، أو مستقلا عن الظروف الموضوعية - الاجتماعية و السياسية - التي يكون هذا الفكر نفسه استجابة لها و محاولة للتصدي لها تغييرا أو تأييدا. و من جهة أخرى فتفسير الفكر الاعتزالي بعوامل التأثير الثقافي الأجنبي - و هو ما درج عليه كثير من المستشرقين و بعض الدارسين العرب (1) -هو نفي لفعالية هذه الظروف الموضوعية، أو إعطاء دور سلبي لها في أحسن الفروض. و إنكار هذا التأثير الاجنبي - و هو ما حاوله بعض الباحثين المتحمسين من العرب (2) -رد فعل يناقض الحقيقة التاريخية و العلمية.

و لكن الأساس في التأثير الفكري بين ثقافتين أو حضارتين، أن الأفكار الواردة على الثقافة و الحضارة من الصعب أن تمارس تأثيرها الفعّال و المثمر في هذه الحضارة ما لم تكن الظروف الموضوعية - الاجتماعية و السياسية - مهيأة لتلقي هذه البذور و احتضانها، و تهيئة المناخ الملائم لها لكي تنمو و تزدهر و تؤتي أكلها.

هذا الأساس يصدق على الفكر الاعتزالي، و على ظروف نشأته في الفكر الاسلامي. و إذا كانت المبادئ الفكرية للمعتزلة - بعد تطورها و نضجها - قد أمكن تلخيصها في مبدأين رئيسيين هما «أن اللّه واحد... و أنه العدل في قضائه الرحيم بخلقه» (3) و هما ما أطلق عليهما مبدأي «التوحيد و العدل» فإن باقي أفكار المعتزلة، أو مبادئها الخمسة يمكن أن ترتدّ - في التحليل النهائي - إلى هذين المبدأين. فمبدأ «الوعد و الوعيد» داخل في العدل لأنه كلام في أنه تعالى إذا وعد المطيعين بالثواب، و توعّد العصاة بالعقاب، فلا بدّ من أن يفعل و لا يخلف في وعده و لا في وعيده و من العدل أن لا يخلف و لا يكذب، و كذلك المنزلة بين المنزلتين داخل في باب العدل... و كذا الكلام في «الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر» (4) .و معنى ذلك

ص: 11


1- 1. انظر على سبيل المثال نللينو: بحوث في المعتزلة، في (التراث اليوناني في الحضارة الاسلامية) ص 203،202. أوليري: الفكر العربي و مركزه في التاريخ ص 67، دي بور: تاريخ الفلسفة في الاسلام/48-49 زهدي جار اللّه: المعتزلة ص 75،36،2
2- 2. انظر: محمد عمارة: المعتزلة و مشكلة الحرية الانسانية/17-24.
3- 3. الخياط: الانتصار 13-14
4- 4. القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة/123

أن مبدأ «العدل» يتضمن كل مبادئ المعتزلة - عدا التوحيد - و منها القول بالمنزلة بين المنزلتين، و هو القول الذي تجمع المصادر على أن واصل بن عطاء خالف به أستاذه الحسن البصري، و انفصل بسببه عن حلقته مكوّنا حلقة جديدة كانت اللبنة الأولى في بناء المذهب الاعتزالي.

و الواقع أن هذا الخلاف بين واصل و أستاذه الحسن حول وصف مرتكب الكبيرة، و الحكم عليه، يظلّ مجرد خلاف فقهي ما لم ننظر إليه في ظل الظروف التاريخية التي طرحت هذا السؤال على علماء العالم الاسلامي، و التي حددت في نفس الوقت طبيعة الاجابات التي طرحت عليه من كافة الإتجاهات السياسية و الدينية في ذلك الوقت.

(1) تعدّ الفتنة التي انتهت بمقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان مفتاح كل الخلافات السياسية و العقائدية في المجتمع الاسلامي. و يحدّد الأشعري (ت 330 ه) هذه البداية بقوله «و كان الاختلاف بعد الرسول صلى اللّه عليه و سلم في الامامة. و لم يحدث خلاف غيره في حياة أبي بكر رضوان اللّه عليه و أيام عمر إلى أن وليّ عثمان ابن عفان - رضوان اللّه عليه - و أنكر قوم عليه في آخر أيامه أفعالا... فصار ما أنكروه عليه اختلافا إلى اليوم، ثم قتل رضوان اللّه عليه، و كانوا في قتله مختلفين، فأمّا أهل السنّة و الاستقامة فإنهم قالوا: كان رضوان اللّه عليه مصيبا في أفعاله، قتله قاتلوه ظلما و عدوانا، و قال قائلون بخلاف ذلك، و هذا اختلاف بين الناس إلى اليوم» (2)

و إذن فقد كانت نقطة البداية هي الخلاف حول الإمامة و شروطها و مدى السلطة المخوّلة للخليفة. و قد أثار قتل عثمان على أيدي الثوار من الأمصار - و على رأسهم ثوار مصر - قضية شرعية الخروج على الإمام و الثورة على الخليفة. و لقد حدّدت ظروف الفتنة منذ بدايتها طبيعة القوى التي اشتركت في الثورة، و من ثمّ ساهمت في الجدل الفكري و العقائدي حول الإمامة و الخلافة. و لقد بدأت هذه القوى تتشكّل ملامحها حين أباح عثمان لأعلام قريش «أن يتملّكوا الضياع و يشيدوا القصور في الولايات الاسلامية المفتوحة كالعراق و الشام و مصر، كما سمح لهم أن يستبدلوا بأملاكهم في الحجاز أملاكا في تلك الأمصار» (3) و كانت هذه السياسة مخالفة تمام المخالفة لسياسة الخليفة عمر بن الخطاب الذي حظّر على الصحابة مغادرة المدينة أو الإقامة في الأمصار خوفا عليهم أن تفتنهم الدنيا و تشغلهم عن أمور الدين. و كان من الطبيعي أن تثير هذه السياسة المتساهلة - إلى جانب مجاملة

ص: 12


1- 1. انظر على سبيل المثال نللينو: بحوث في المعتزلة، في (التراث اليوناني في الحضارة الاسلامية) ص 203،202. أوليري: الفكر العربي و مركزه في التاريخ ص 67، دي بور: تاريخ الفلسفة في الاسلام/48-49 زهدي جار اللّه: المعتزلة ص 75،36،2
2- 5. مقالات الاسلاميين 47/1-49
3- 6. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 357/1

عثمان لأقاربه و تساهله معهم - غضب أتقياء الصحابة مثل عمار بن ياسر و أبي ذر الغفاري اللذين لم يخفيا غضبهما. و لم تتسم سياسة عثمان إزاء هذين الصحابيين بالحلم و الكياسة، بل قابل اعتراضهما على سياسته بالشدّة و النفي حتى صارا من أشدّ المعارضين لخلافته.

و إذا كانت سياسة عثمان أثارت ضدّه بعض الصحابة، فإنها - من جانب آخر - أثارت سخط مسلمي الأمصار الأخرى كالكوفة و البصرة و مصر. و قد كان من شأن سياسته الاقتصادية المتساهلة، و تهاونه مع أقاربه، أن تكوّنت طبقة من الأرستقراطية الدينية و القرشية في مقابل أهل الأمصار و فقراء المقاتلين الذين وقع عليهم الغبن على يد ولاة عثمان و حكامه «باستئثارهم بالفيء و الغنائم لأنفسهم و خزائن دولتهم و حرمان المقاتلين منها، مدّعين أن الفيء للّه و ليس للمحارب إلاّ أجر قليل يدفع إليه» (1)

و لا نريد الخروج عن مهمة هذا البحث بتتبع الجذور الاقتصادية و السياسية للفتنة (2) بقدر ما تهمنا الإشارة إليها لتحديد طبيعة القوى التي أسهمت فيها و من ثمّ أسهمت في الحوار الفكري حول قضاياها. و الذي يكشف عن طبيعة هذه القوى «اختلاف الوفود التي أتت من الولايات الإسلامية لخلع عثمان، على من توليه خلفا له، حتى قال أهل البصرة نولي الزبير، و قال أهل الكوفة نولي طلحة» (3) و تمسك أهل البصرة بالزبير، و أهل الكوفة بطلحة، و كلاهما من أثرياء الصحابة ينمّ عن طبيعة القوى التي تساندهما، و هي قوى لها أسبابها للثورة ضد عثمان الذي رفع أسرته فوق قريش كلها بما فيها الصحابة.

أما ثوار مصر الذين اشتركوا في الثورة، فقد كان لهم منحى آخر، إذ ذهبوا إلى المطالبة بتولية علي بن أبي طالب. و لقد قام عبد اللّه بن سبأ بدور خطير في الثورة ضد عثمان، و في تأليب الأمصار ضده. و علاقة عبد اللّه بن سبأ بأبي ذر الغفاري في الشام، و اعتراضهما معا على سياسة معاوية يؤكّد الأساس الاقتصادي للفتنة، و الثورة. و قد وجد عبد اللّه بن سبأ لدعوته في مصر صدى لم يجده في كل من الكوفة و البصرة. و كان يخطب في المصريين قائلا «أن عثمان أخذ الخلافة بغير حق، و هذا علي وصي رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، فانهضوا في هذا الأمر فحركوه، و ابدءوا بالطعن على أمرائكم، و أظهروا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر تستميلوا الناس و ادعوهم إلى هذا الأمر» (4) .و من الواضح أن عبد اللّه بن سبأ قد استغلّ بعض الأفكار الدينية اليهودية - كالقول بوصاية علي - للدعوة للثورة ضد عثمان.

و لكن هذا لا يجعلنا نلجأ لتفسير حركة التاريخ بالهوى الفردي كما يذهب إلى

ص: 13


1- 7. المرجع السابق 357/1-358
2- 8. انظر المرجع السابق 354/1 و ما بعدها، طه حسين: الفتنة الكبرى 180/1-185.
3- 9. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 357/1-358
4- 10. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 360/1 نقلا عن الطبري.

ذلك كل من قالوا بأن عبد اللّه بن سبأ سعى للفتنة لحقده على الإسلام و رغبته في الكيد لأهله.

و قد كان أهل الشام - تحت أمرة معاوية بن أبي سفيان - من القوى المساندة لعثمان بحكم أن معاوية من المستفيدين بخلافته، و لذلك كان من الطبيعي أن لا يستطيع أهل الشام المشاركة في الثورة على عثمان. و لقد احتفظ معاوية بقواه العسكرية في حالة حياد، حتى ليغلب على الظن أنه تماطل في إرسال العون إلى عثمان بالمدينة حتى قتله الثوار، ثم ثار بعد ذلك مطالبا بدمه و قاتله و مرتديا قميصه الملطّخ بالدم. و قد بلغ من ذكاء معاوية السياسي أنه لم يتدخل في الحرب بين علي و طلحة و الزبير مكتفيا بالمساندة الكلامية لطلحة و الزبير، و ذلك حتى تقضي إحدى القوتين على الاخرى، ثم ينشط هو بقواته الكاملة للقضاء على القوة المنتصرة. من الصعب إذن التيقن مما إذا كان معاوية - و القوى التي ساندته - يعمل لحساب بني أمية منذ أول الفتنة، أم أنه كان يعمل لحساب عثمان حتى قتل ثم تحوّل ليعمل لحساب نفسه بعد ذلك، و كلا الأمرين على أي حال سواء في الدلالة على الجذور الاقتصادية و الاجتماعية للفتنة و ما ترتّب عليها من خلاف سياسي و ديني.

نجحت الثورة في تحقيق هدفها، و استطاع الثوار - و المصريون على رأسهم - ان يفرضوا علي بن أبي طالب خليفة على المسلمين بعد عثمان. و لكن الفتنة كانت قد كسرت - فيما كسرت - إجماع أهل الحل و العقد في الدولة الاسلامية، أعني الصحابة أنفسهم. و قد تجلّى ذلك في أن البيعة لعلي لم ينعقد عليها الإجماع الذي انعقد لسابقيه، و إن انعقد عليها إجماع من نوع جديد، هو إجماع عامة المسلمين الذين كانوا يشكّلون جماهير الثورة ضد عسف حكّام عثمان و ولاته. (1)

و قد كان على علي أن يواجه كل القوى المناهضة له، و منها زعامات لها قدرها و شرفها الديني مثل طلحة و الزبير و السيدة عائشة. و من الطبيعي أن يكون دم الخليفة المقتول هو الستار الذي يخفي حقيقة الصراع و أبعاده. و كانت موقعة «الجمل» التي انتهت بانتصار علي بن أبي طالب هي المواجهة العسكرية الاولى للقوى المتصارعة. و ظلّ معاوية في انتظار ما تسفر عنه الأحداث. و حين انتصرت القوى الموالية لعلي، خرج معاوية مرتديا نفس الرداء و مطالبا بقاتل عثمان و ثأره.

و ليس من قبيل الصدفة أن يوجد في معسكر علي كل من عمار بن ياسر و أبو ذر الغفاري و عبد اللّه بن سبأ المعترضين على سياسة عثمان و معاوية، و الذين تعرّضوا للنفي و التشريد، رغم جلال قدر بعضهم وصلتهم بالرسول صلى اللّه عليه و سلم و صحبتهم الطويلة له.

ص: 14


1- 11. راجع فلهوزن: تاريخ الدولة العربية 51-52

و في هذا الصراع الدموي كانت ثمّة قوة أخرى اعتزلت هذا الصراع، و خشيت الخوض في الفتنة كسعد بن أبي وقاص و عبد اللّه بن عمر و عمران ابن الحصين و أبي بكرة و غيرهم ممن وقف موقف الحياد في النزاع، و حجتها في ذلك الحديث الشريف الذي رواه أبو بكرة عن الرسول صلى اللّه عليه و سلم «ستكون فتنة، القاعد فيها خير من الماشي، و الماشي فيها خير من الساعي إليها، إلاّ إذا نزلت أو وقعت فمن كان له ابل فليلحق بإبله، و من كان له غنم فليلحق بغنمه، و من كان له أرض فليلحق بأرضه» (1) فالقعود هنا يعني التحرّج عن الخوض في هذا الصراع الذي لا يعرف المحق فيه من المبطل. و لقد تطوّر هذا التوقف فيما بعد - بعد انتهاء الأمر الى معاوية - إلى نزعة تبريرية أطلق عليها اسم الإرجاء و أطلق على أصحابها اسم المرجئة. و إذا كان القعود - الذي حاول أن يتزيا بالدين و يعتصم به - كانت له مبرراته في الصراع بين علي و غيره من الصحابة و فيهم زوج الرسول صلى اللّه عليه و سلم، السيدة عائشة، فإنه بعد ذلك تحوّل الى طاقة تبريرية وصلت إلى حد القول - رواية عن الرسول-«و كن حلس بيتك فإن دخل عليك فادخل مخدعك فإن دخل عليك فقل بؤ بإثمي و إثمك و كن عبد اللّه المقتول و لا تكن عبد اللّه القاتل» (2) «أي افعل هذا في زمن الفتنة، و اختلاف الناس على التأويل و تنازع سلطانين كل واحد منهما يطلب الأمر و يدّعيه لنفسه بحجة. يقول فكن حلس بيتك في هذا الوقت و لا تسل سيفا و لا تقتل أحدا فإنك لا تدري من المحق من الفريقين و من المبطل و اجعل دمك دون دينك» (3) و من شأن هذا المنطق السلبي أن يضيف للظلم قوة عن طريق الانتقاص من قوى الحق بهذه السلبية، و هو ما عبّر عنه الرسول بقوله:«الساكت عن الحق شيطان أخرس». و لكن المرجئة في الواقع لم تظل على سلبيتها هذه، بل شاركت - في اواخر العصر الأموي - في الثورة و كان لها دورها الذي لا ينكر في القضاء على الأمويين كما سنشير بعد قليل.

و ننتهي من ذلك كله إلى أن الفتنة تمخّضت عن وجود ثلاث قوى أساسية في الصراع هي قوة العلويين في مواجهة قوة الأمويين. و بينهما القاعدون أو المتحرّجون أو معتزلة الصراع الذين تطوروا إلى المرجئة فيما بعد. و لقد أدّت مهزلة التحكيم المعروفة إلى انقسام القوة الكبرى التي كانت تقف خلف علي إلى ما عرف بالشيعة و الخوارج. و كان من شأن هذا الانقسام - بمستوييه العسكري و الفكري - أن ينتهي إلى انتصار الأمويين، و استيلائهم على السلطة و انفرادهم بها. و تنازل الحسن بن علي لمعاوية عن حقه في الخلافة، و تنازل بالتالي عن حقوق كل القوى التي كانت تقف خلف أبيه و تسانده. و كان هذا الاستسلام من جانب الزعامة الأساسية يعني التسليم بسلطان الأمويين المطلق في كافة الولايات الاسلامية.

ص: 15


1- 12. أحمد أمين: فجر الاسلام 333/1 و ما بعدها.
2- 13. ابن قتيبة: تأويل مختلف الحديث 3-4
3- 14. المرجع السابق 193

و لقد اعتبر المسلمون - فيما يقول نيكلسون-«انتصار بني أمية و على رأسهم معاوية انتصارا للأرستقراطية الوثنية التي ناصبت الرسول و أصحابه العداء، و التي جاهدها رسول اللّه حتى قضى عليها و صبر معه المسلمون على جهادها و مقاومتها حتى نصرهم اللّه، فقضوا عليها و أقاموا على أنقاضها دعائم الاسلام... لذلك لا ندهش إذا كره المسلمون بني أمية و غطرستهم و كبرياءهم و إثارتهم الأحقاد القديمة، و نزوعهم للروح الجاهلية، و لا سيما أن جمهور المسلمين كانوا يرون بين الأمويين رجالا كثيرين لم يعتنقوا الاسلام إلاّ سعيا وراء مصالحهم الشخصية.

و لا غرو فقد كان معاوية يرمي إلى جعل الخلافة ملكا كسرويا. و ليس أدلّ على ذلك من قوله - فيما يروي اليعقوبي-«أنا أول الملوك» (1) .

(2) لم يكف الخوارج و كذلك الشيعة عن نضالهم السياسي و العسكري ضد الحكم الأموي. و في مواجهة الأفكار التبريرية للمرجئة كان لا بدّ من التسلح بالفكر الديني الذي يلتزم النص القرآني لمواجهة الصراع الفكري جنبا إلى جنب مع الصراع السياسي و العسكري. و كانت قضية الإمامة و الحكم على الإمام الجائر هي أساس الحوار الفكري و العقائدي الذي تمايزت به القوى السياسية، و اصطبغت من خلاله بالصبغة الدينية و العقائدية.

«و الخوارج بأسرها يثبتون إمامة أبي بكر و عمر، و ينكرون إمامة عثمان - رضوان اللّه عليهم - في وقت الأحداث التي نقم عليه من أجلها، و يقولون بإمامة علي قبل أن يحكم، و ينكرون إمامته لمّا أجاب إلى التحكيم، و يكفّرون معاوية و عمرو بن العاص و أبا موسى الأشعري، و يرون أن الإمامة في قريش و غيرهم إذا كان القائم بها مستحقا لذلك، و لا يرون إمامة الجائر» (3) و هو موقف واضح و صريح و يتسم بالشجاعة و الجرأة و قليل من المغالاة خصوصا في إنكارهم إمامة علي لقبوله التحكيم. و من جانب آخر فرأيهم في الخلافة و في جواز أن تكون في قريش أو غيرها، و رأيهم في إنكار إمامة الجائر، كل ذلك يتطابق تطابقا كاملا مع سعيهم الدائب لإزالة حكم بني أمية بالسيف حتى كانوا - فيما يقال - يتهافتون على الموت تهافت الفراش على النار.

و لقد كان من الطبيعي أن يستقطب الفكر السياسي الثوري للخوارج «الطبقات المعدمة الرقيقة الحال في المجتمع الاسلامي، التي راقتها كثيرا ميول الخوارج الديموقراطية و احتجاجهم على مظالم الحكام و الولاة» (4) كما انضم إليهم أيضا «اولئك العرب الخلّص من رجال الصحراء و بخاصة بعض القبائل العربية

ص: 16


1- 15. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 278/1-279، و انظر جولد تسيهر: العقيدة و الشريعة في الاسلام/70-71.
2- 2. انظر: محمد عمارة: المعتزلة و مشكلة الحرية الانسانية/17-24.
3- 16. الأشعري «مقالات الاسلاميين»204/1.
4- 17. جولد تسيهر: العقيدة و الشريعة في الاسلام/172.

ذات الخطر و الشأن مثل قبيلة تميم و أبطال القادسية و رؤساء الجند» (1) .

أمّا المرجئة - و هم مفكرو الحزب الأموي - فلم يتناولوا مسألة الإمامة تناولا صريحا. و ليس في أقدم مصادر الفرق و المقالات أيّ إشارة لرأي لهم في هذا الخلاف المستعر حولهم، بل كانت القضية التي شغلتهم هي تعريف الايمان و الكفر و تأويل آيات الوعيد. و تتفق كل فرق المرجئة على أن الايمان هو المعرفة باللّه و التصديق دون العمل، أو هو المعرفة و التصديق و الإقرار باللسان. و كلهم تقريبا لا يجعلون العمل شرطا من شروط الايمان. هذا التعريف للايمان من شأنه أن يحكم على الحاكم الجائر بأنه مؤمن، لا كافر كما حكمت الخوارج، و ذلك تأسيسا على أن التصديق بالقلب و الإقرار باللسان كافيان للحكم على الايمان. و ما دام الحاكم - مهما اشتد ظلمه - مؤمنا، فلا يحق لأحد الخروج عليه.

«و أجمعت المرجئة بأسرها أن الدار دار الايمان، و حكم أهلها الايمان، إلاّ من ظهر منه خلاف الايمان» (2) و يجمع المرجئة أيضا على تأويل آيات الوعيد الواردة في القرآن الكريم على أساس أن فيها استثناء مضمرا، أو أنها خاص وردت مورد العام. و هو مسلك تبريري يفتح الباب على مصراعيه للمظالم و المفاسد، ما دام الايمان هو التصديق بالقلب أو الإقرار باللسان دون العمل، و ما دام باب الغفران مفتوحا بلا حدود و لا ضوابط،«و ما دامت لا تضر مع الايمان معصية» (3) و لا شك أن المرجئة - بهذا التحرّج و الخشية من اتخاذ موقف صريح و واضح - يعدّون امتدادا طبيعيا لأولئك الذين اعتزلوا صراع علي و طلحة و الزبير، و توقفوا في الحكم على عثمان. (4)

و كان من الطبيعي - في مجال الصراع الفكري - أن يقرن الخوارج بين الايمان و العمل، و أن ينكروا ما يقول المرجئة من أن الايمان هو التصديق بالقلب أو الإقرار باللسان دون العمل. و من الصعب على الباحث أن يحدّد بدقة الفترة التي بدأ الخوارج فيها يساهمون في الجدل الفكري، إلى جانب تحمّلهم عبء المقاومة العسكرية. و يشير بعض الباحثين إلى أن الخوارج بدءوا هذه المساهمة في خلافة عبد الملك بن مروان حيث مزجوا بين آرائهم في الإمامة و هي آراء سياسية ذات صبغة دينية، و بين الابحاث الدينية البحتة، أو التي تبدو كذلك «فقالوا إن العمل بأوامر الدين من صلاة و صيام و صدق و عدل جزء من الايمان، و ليس الايمان الاعتقاد باللّه و رسالة محمد صلى اللّه عليه و سلم فحسب. فمن اعتقد أن لا إله إلاّ اللّه و أن محمدا رسول اللّه ثم لم يعمل بما يفرضه الدين و ارتكب الكبائر فهو كافر» (5) .

و إذن فالصراع السياسي بين الخوارج و الأمويين، وازاه صراع فكري حول

ص: 17


1- 18. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 388/1.
2- 19. الأشعري: مقالات الاسلاميين 225/1.
3- 20. المرجع السابق 225/1-234.
4- 21. انظر جولد تسيهر: العقيدة و الشريعة في الاسلام/77-78.
5- 22. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 389/1.

قضيتين أساسيتين، هما قضية الإمامة، و قضية الحكم على مرتكب الكبيرة، أو الإمام الجائر إذا استخدمنا لغة الخوارج. و المعسكران اللذان أسهما في الحوار هما الخوارج و المرجئة. و لمّا كان المرجئة هم ممثلو الحزب الأموي فقد امتنعوا عن الخوض في أحقية الإمامة أو شروطها، لأن واقع الخلفاء الأمويين و مسلكهم العملي إزاء عامة المسلمين اتّسم بالعسف و الجور، الأمر الذي منع مفكريهم من الخوض في قضية الإمامة، لأنها بكل المعايير ستكون قضية خاسرة. و بناء على ذلك تحوّلوا بالقضية الى خلاف فقهي حول تعريف الايمان و الكفر و علاقتهما بالعمل. و تصدّى الخوارج للرد على هذه النزعة التبريرية التي تخلّ في النهاية بمعايير الثواب و العقاب، و تؤدي إلى نوع من الفوضى الأخلاقية و الاجتماعية، نتيجة لفتح باب الغفران على مصراعيه.

غير أن البعد السياسي لهذه الخلافات الدينية لا ينبغي أن يلفتنا عن الوجه المتصل بالتقوى الدينية، تلك التقوى التي جعلت كثيرا من المسلمين - و الذين لم يكونوا من الخوارج - لا يستريحون لسلوك كثير من خلفاء بني أمية، هؤلاء الخلفاء الذين قتلوا آل بيت رسول اللّه و هدموا بيت اللّه و نبشوا القبور و مثّلوا بالجثث..

الخ. كان أتقياء المسلمين إذن غير راضين عن أحوال الدولة، و لكنهم لم يكونوا يملكون سوى الصمت. و بديهي أن أفكار المرجئة «لم تكن تتفق و عاطفة أولئك الورعين الذين لا يرون في سياسة وصول الأمويين للحكم، و في رجالاتهم و عمالهم، إلاّ عدم تقوى، بل كفرا». (1) و لقد حاول الأمويون الدفاع عن سياستهم القائمة على العسف و الظلم، و كان طبيعيا أن يحاولوا استغلال التصور الديني - القائم على التقوى أيضا - الذي يرى أن كل شيء في هذا الكون إنما هو خاضع لإرادة اللّه و مشيئته، تلك الإرادة الحرّة التي لا يمكن أن تحدّ منها الإرادة الانسانية. حاول الأمويون أن يستغلوا هذا التصور لتثبيت دعائم سلطانهم على أساس ديني مكين.

و لمّا كان من الصعب على وجدان المسلم التقي أن يحدّ من قدرة اللّه و إرادته، و أن يضع الإرادة الانسانية كمقابل للإرادة الإلهية فقد كان من الطبيعي أن يتلقى العلماء المسلمون الردّ على ذلك من علماء الكلام أو اللاهوت المسيحيين «فدمشق المركز العقلي للاسلام في عصر الخلافة الأموية، كانت في الوقت نفسه مركز التفكير النظري في القدر، و في المذهب الجبري أيضا، و من هناك انتشر هذا التفكير سريعا في ميدان أكثر اتساعا» (2) .

و لقد كان من الطبيعي أن يكون للموالي في هذا الصراع الفكري، و في التأثّر بالأفكار اللاهوتية المسيحية أو اليهودية دور ليس للعرب الخلّص بحكم ثقافتهم

ص: 18


1- 23. جولد تسيهر: العقيدة و الشريعة في الاسلام/76.
2- 24. المرجع السابق/84، و انظر أيضا زهدي جاد اللّه: المعتزلة/23 و ما بعدها.

المزدوجة أولا، و بحكم المكانة التي وضعتهم فيها الدولة الأموية بسبب طبيعتها العربية لا الاسلامية. و كان من الطبيعي ان يمثّل الموالي قطاعا كبيرا من قطاعات الثورة ضد الحكم الأموي، و من ثمّ انضموا للأحزاب المناوئة لهذا الحكم و التي كانت تمنحهم حقوقا مساوية لحقوق العرب الخلّص تحت راية التعاليم الاسلامية «و قد سبق الخوارج إلى ذلك، فقبلوا الموالي في جماعتهم و في جيشهم، و جعلوهم على قدم المساواة مع العرب. و قد ترسّم الشيعة خطى الخوارج في ذلك و نجحوا أكثر منهم بكثير» (1) .

و يبدو أن إعلان مقولة «الجبر» كنوع من التبرير الديني، كان القصد منه أن توحي إلى أتقياء المسلمين «أن اللّه قد حكم أزلا ان تصل هذه الأسرة إلى الحكم و أن ما يعملون ليس إلا أثرا أو نتيجة لقدر إلهي محكم» (2) و لذلك وقف خلفاء بني أمية موقفا غاية في العنف من أولئك المفكرين الأوائل الذين قالوا بحرية الإرادة الانسانية و بمسئولية الانسان عن فعله. فالخليفة عبد الملك بن مروان لم يتورع عن قتل معبد الجهني (ت 80 ه) و لم يتورع خالد بن عبد اللّه القسري أن يذبح الجعد بن درهم (ت 120 ه) أسفل المنبر بعد صلاة العيد. و كلاهما ذهب إلى «القول بالقدر و إنكار إضافة الخير و الشر إلى القدر» (3) أما غيلان الدمشقي (ت 99 ه) فقد قتله هشام بن عبد الملك أيضا. و تنسب المصادر إلى معبد الجهني أنه أخذ فكرته في القدر عن معلّم نصراني لا تتفق في تحديد اسمه (4) ،أما الجعد بن درهم فقد «كان يقيم بدمشق إذ كانت له دار بالقرب من القلاسين إلى جانب الكنيسة» (5) .و جدير بالذكر أن الجعد بن درهم كان مؤدّبا لمروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، و ذلك أيام كان واليا على الجزيرة و قبل أن يتولى الخلافة و في هذا دلالة على ثقافته و سمعته الطيبة.

و لقد كان من الطبيعي أن ترتبط مقولة «التوحيد» و نفي مشابهة اللّه للبشر بمقولة «العدل» و مسئولية الانسان عن أفعاله منذ البداية، و ذلك رغم التعارض الظاهري بينهما. و يبدو هذا التعارض في توهّم أن القول بحرية الإرادة الانسانية يعني الحدّ من حرية الإرادة الالهية، أو التعارض معها على الأقل.

و لقد كان الوجدان المسلم أقرب إلى التسليم بحرية الإرادة الالهية حرية مطلقة، و باعتبار الارادة الانسانية محكومة بإرادة اللّه القادر على كل شيء و خاضعة لها. و بدت أفكار معبد الجهنى و الجعد بن درهم و غيلان الدمشقي غريبة على التفكير الديني حتى «تبّرأ منهم المتأخرون من الصحابة كعبد اللّه بن عمر، و جابر ابن عبد اللّه، و أبي هريرة، و ابن عباس،؛ و أنس بن مالك، و عبد اللّه بن أبي أوفى،

ص: 19


1- 25. فلهوزن: تاريخ الدولة العربية/67-68.
2- 26. جولد تسيهر: العقيدة و الشريعة في الاسلام/86.
3- 27. الشهرستاني: الملل و النحل 30/1، انظر أيضا البغدادي: الفرق بين الفرق/18-19.
4- 28. انظر حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 419/1، أيضا مقالات الاسلاميين: المقدمة/10-11.
5- 29. خالد العلي: جهم بن صفوان و مكانته في الفكر الاسلامي/49.

و عقبة بن عامر الجهني و أقرانهم» (1) .لكن هذا التعارض الظاهري بين «العدل» و «التوحيد» لم يكن قائما في ذهن مؤسسيه الأوائل، على أساس أن الواقع الاجتماعي و السياسي الذي حاول تبرير قبحه برفع مقولة «الجبر» كان، بالتالي، ينسب كل مظاهر الظلم و الشر إلى الإرادة الالهية باعتبارها هي الإرادة النافذة. و ثمة حادثة لها دلالتها في هذا الصدد بصرف النظر عن الصدق الحرفي لوقائعها. و ليس من قبيل الصدفة ان تقع هذه الواقعة في عهد عبد الملك بن مروان أيضا، إذ يروى أنه لمّا قتل عمرو بن سعيد «أمر برمي رأسه إلى جمهور المخلصين له الذين كانوا ينتظرون أمام القصر عودته، كما أمر باعلامهم أن «أمير المؤمنين قد قتل صاحبكم بما كان من القضاء السابق و الأمر النافذ» (2) و معنى ذلك أن كل مظالم بني أمية كانت تنسب - تحت مقولة الجبر - إلى الإرادة الالهية. و كان على الذين يحملون لواء المعارضة، بعد أن أعلنوا مقولة «الاختيار» ضد «الجبر» أن ينفوا عن اللّه إرادة الظلم و القتل و العسف. هذا النفي كان من شأنه أن يؤدي إلى التفرقة بين الصفة الانسانية و الصفة الإلهية، و إلى نفي مشابهة اللّه للبشر ذاتا و فعلا، ما دام البشر - بإرادتهم المختارة - هم الذين يفعلون الشر.

و من المؤسف أن أقوال هؤلاء المفكرين الاوائل في حرية الإرادة و التوحيد لم تصلنا مفصلة باستثناء إنكار الجعد بن درهم أن يكون اللّه متكلّما و قوله بخلق القرآن، و هما القولان اللذان تجعلهما المصادر سببا لذبحه. أمّا غيلان الدمشقي فقد ذهب إلى جانب قوله «بالقدر خيره و شره من العبد في الإمامة أنها تصلح في غير قريش و كل من كان قائما بالكتاب و السنة كان مستحقا لها، و أنها لا تثبت إلاّ بإجماع الأمّة» (3) و هو قول يضعه في معسكر الخوارج و يخرجه من معسكر المرجئة الذي يضعه فيه مؤرخو المقالات كالأشعري و البغدادي و الشهرستاني. و لكن علينا أن نلاحظ أن الإرجاء لم يثبت على أفكاره السلبية التبريرية في أوائل العصر الأموي، و إنما تحوّل بحكم عوامل كثيرة، من أهمها العنف الذي واجه به الأمويون كل مخالف في الرأي، ثم سوء معاملة الموالي، و جلّ مفكري المرجئة المتأخرين من الموالي. كل ذلك جعل أفكار المرجئة تتطور من السلبية إلى الايجابية، بل جعل المرجئة أنفسهم يشاركون في الثورة على بني أمية. و يقابلنا أول تقسيم لفرق المرجئة عند البغدادي حيث يقول «و المرجئة ثلاثة أصناف. صنف منهم قال بالإرجاء في الايمان و بالقدر على مذاهب القدرية المعتزلة، كغيلان و أبي شمر، و محمد بن شبيب البصري... و صنف منهم قالوا بالإرجاء في الايمان، و بالجبر في الأعمال على مذهب جهم بن صفوان، فهم إذا من جملة الجهمية، و الصنف الثالث منهم خارجون عن الجبرية و القدرية» (4) أما الشهرستاني فإنه يضيف فرقة رابعة يطلق

ص: 20


1- 30. البغدادي: الفرق بين الفرق/19.
2- 31. جولد تسيهر: العقيدة و الشريعة في الاسلام/87 نقلا عن ابن قتيبة: الإمامة و السياسة.
3- 32. الشهرستاني: الملل و النحل 143/1.
4- 33. البغدادي: الفرق بين الفرق/202.

عليها «مرجئة الخوارج» (1) و لعل في ذلك ما يؤكّد ما يذهب إليه بعض الباحثين من أن المرجئة حاولوا «تثوير» عقائدهم»«إذ تأثّرت بآراء الخوارج و الشيعة في الثورة على الظلم، كما تبنّت بعض مبادئ القدرية في الحرية الانسانية» (2) .

و لقد يبدو في الجمع بين آراء القدرية أو الشيعة أو الخوارج و بين القول بالإرجاء نوع من التناقض. فالإرجاء أو التوقف عن الحكم على الحاكم الجائر أو مرتكب الكبيرة يعني السلبية إزاء معطيات الواقع اليومية، كما أنه يتناقض مع الخروج و حمل السيف و هو ما فعله جهم بن صفوان (ت 128 ه) حيث كان في صفوف الحارث بن سريج الذي خرج على هشام بن عبد الملك لأنه «فاجأ...

الموالي بضريبة خراجية لا قبل لهم باحتمالها» (3) .و يبدو التناقض أشد مع جهم ابن صفوان بالذات لأنه جبري إلى جانب أنه مرجئ. و لكن هذا التناقض تخف حدته إذا نظرنا لثورة جهم و فكره في ظل السياسة المالية و الضرائبية إزاء الموالي في العصر الأموي. و إذا استثنينا عصر عمر بن عبد العزيز من الخلفاء الأمويين، وجدنا سياستهم تتسم بالاستغلال. فقد ألغى الحجاج - والي عبد الملك بن مروان - رفع الجزية عمّن يدخل الاسلام من أهل الذمّة، و وضع بذلك مبدأ خطيرا يتناقض مع نصوص الاسلام الصريحة و ذلك تلافيا للنقص في بيت المال. و كان من شأن هذا القرار أن يثير ثائرة الموالي المسلمين، الذين رفع عنهم الاسلام هذا القيد المادي.

فإذا أضفنا إلى ذلك سوء معاملة الموالي بشكل عام، و اعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية «لم يصلوا إلى التمتع بالحقوق المدنية للمواطنين و لا بالحقوق الحربية و مزاياها المادية، فاعتبروا موالي للقبائل العربية، و لم تتسع لهم الدولة الثيوقراطية إلاّ على هذه الصورة، أعني صورة التبعية للقبائل العربية» (4) إذا وضعنا في اعتبارنا كل ذلك، نجد من الطبيعي أن يشترك جهم بن صفوان في ثورة الحارث بن سريج و هي ثورة كانت موجهة أصلا ضد هشام بن عبد الملك الذي فرض على الموالي ضرائب جديدة لا قبل لهم باحتمالها. و كان عمر بن عبد العزيز قبل ذلك قد رفع عنهم الجزية و عاملهم معاملة المسلمين العرب بكل حقوقهم و واجباتهم.

و ليس من الطبيعي أن يتحوّل جهم بن صفوان من التبرير إلى الثورة دون أن تتطور أفكاره. و مع ذلك فالمصادر التي بين أيدينا تكتفي بذكر المقالات كاملة دون بيان لتطورها عند نفس المفكر أو عند اتباعه الأمر الذي يجعلنا نظلّ في مجال التخمينات و الافتراضات. و يفترض محمد عمارة أن جهم بن صفوان نقم على الأمويين «موقفهم الذي يرفض الاعتراف باسلام الموالي من أهل فارس و خراسان، بحجة أن اسلامهم غير خالص للّه» و يضيف «فالجهمية كالأمويين كانوا جبرية

ص: 21


1- 34. الملل و النحل 139/1.
2- 35. محمود اسماعيل: الحركات السرية في الاسلام/53.
3- 36. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 333/1.
4- 37. فلهوزن: تاريخ الدولة العربية/67.

مرجئة و إن كان الخلاف بينهما قد كان في حقل الإرجاء، و على من يستفيد من هذا الإرجاء... الحكام الأمويون؟ أم الجماهير التي أسلمت من موالي فارس و خراسان؟» (1) و إذا كان هذا الافتراض - على وجاهته - قد فسّر إرجاء جهم، فإنه لم يفسّر جبريته، و من ثمّ يحتاج ذلك إلى افتراض آخر ذي شقين: الشق الأول يكمن في الروح العدائية التي قوبل بها القول بالقدر عند معبد الجهني و الجعد بن درهم و غيلان الدمشقي من جانب الخلفاء الأمويين و أتقياء المسلمين معا، أمّا الشق الثاني فيكمن في ذلك التعارض القائم بين القول بالقدر و التوحيد المطلق. و إذا استعرضنا أقوال جهم في الجبر و التوحيد فسنلحظ على الفور أنه أوقع نفسه في التناقض الذي لا يمكن حلّه إلاّ عن طريق القول بالجبر. و التوحيد - عند جهم - هو نفي مشابهة اللّه للأشياء «لا أقول أن اللّه سبحانه شيء لأن ذلك تشبيه له بالأشياء» (2) «و امتنع عن وصف اللّه تعالى بأنه شيء أو حي أو عالم أو مريد، و قال: لا أصفه بوصف يجوز إطلاقه على غيره كشيء، و موجود، و حي، و عالم، و مريد، و نحو ذلك. و وصفه بأنه قادر، و موجد، و فاعل، و خالق، و محيي، و مميت.

لأن هذه الأوصاف مختصة به وحده، و قال بحدوث كلام اللّه تعالى كما قالت القدرية، و لم يسم اللّه متكلما به» (3) و هذا الفصل الكامل بين صفات اللّه و صفات غيره بحيث لا يقع بينهما وصف مشترك يطلق على كليهما، هو الذي أدّى بجهم - لكي يكون مخلصا لمبادئه - إلى القول بالجبر. فكل الصفات التي أحسّ جهم أنها تطلق على الانسان - أو الاشياء - نفى أن تطلق على اللّه. و في مقابل ذلك فقد وصف جهم اللّه بصفات نفى أن تطلق على الانسان و منها الوصف بأنه قادر. و نفي القدرة عن الانسان، و جعلها من صفات اللّه أدّت بجهم إلى أن يقول «أنه لا فعل لأحد في الحقيقة إلاّ اللّه وحده، و أنه هو الفاعل، و أن الناس انما تنسب اليهم أفعالهم على المجاز، كما يقال: تحركت الشجرة، و دار الفلك، و زالت الشمس، و إنما فعل ذلك بالشجرة و الفلك و الشمس اللّه - سبحانه - إلاّ أنه خلق للانسان قوة كان بها الفعل، و خلق له إرادة للفعل و اختيارا له منفردا بذلك، كما خلق له طولا كان به طويلا، و لونا كان به متلونا» (4) .

القول بالجبر إذن عند جهم هو محاولة لتأكيد التوحيد و تثبيته، و علينا أن نلاحظ - إن صحّت رواية الأشعري السابقة - أنه جبر لا ينفي فعالية الانسان نفيا كاملا كجبر الامويين، فللانسان قوة و إرادة، و لكنهما مخلوقتان للّه، بمعنى أنهما خاضعتان للمشيئة الالهية التي لا يندّ شيء في العالم عن قدرتها. و الدليل على ذلك ما يرويه الأشعري أيضا من أن جهما كان «ينتحل الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر» (5) و هو اتجاه يقرّبه من الخوارج الذين كان هذا المبدأ من أهم مبادئهم بعد

ص: 22


1- 38. محمد عمارة: المعتزلة و مشكلة الحرية الانسانية/29،28.
2- 39. الأشعري: مقالات الاسلاميين 338/1.
3- 40. البغدادي: الفرق بين الفرق/211-212، و انظر أيضا الشهرستاني: الملل و النحل 86/1-87.
4- 41. الأشعري: مقالات الاسلاميين:338/1، انظر الشهرستاني: الملل و النحل 87/1.
5- 42. المقالات 338/1.

رأيهم في الإمامة و محاربة الإمام الجائر.

إذا كان المرجئة قد تطوّرت أفكارهم و مبادئهم مع ازدياد الضغط الأموي ضد الثوار و الموالي حتى أنهم التقوا مع الخوارج في بعض أفكارهم الثورية، خصوصا رأيهم في الإمامة الذي عبّر عنه غيلان الدمشقي و الذي أشرنا له سالفا، فإنهم من جانب آخر قد اقتربوا من الشيعة في قولهم بالمهدي المنتظر، فيروى عن الحارث بن سريج، الذي حارب جهم بن صفوان في صفة و كان متحدّثا باسمه في المفاوضات بينه و بين سلم بن أحوز أنه كان «يزعم أنه المهدي الذي أرسله اللّه لتخليص المضطهدين و الأخذ بناصر المظلومين حتى انضم إليه في ثورته هذه أنصار من العرب، و سرعان ما استولى على المدن الواقعة على ضفاف نهر سيجون» (1) غير أن أفكار الشيعة تحتاج لوقفة هادئة.

(2) أشرنا إلى دور عبد اللّه بن سبأ في الثورة على عثمان و في الدعوة لعلي في الكوفة و البصرة و مصر. و يبدو أن عداء عبد اللّه بن سبأ لمسلك معاوية في الشام كان وراء ثورته على عثمان، فقد كان يقول لأبي ذر الغفاري «يا أبا ذر أ لا تعجب إلى معاوية يقول المال مال اللّه؟ ألا أن كل شيء للّه، كأنه يريد أن يحتجنه دون المسلمين، و يمحو اسم المسلمين» (3) .و قد ذهب عبد اللّه بن سبأ - متأثرا في ذلك بمعتقداته اليهودية - إلى القول بوصاية علي في أول الأمر، و برجعة الرسول صلى اللّه عليه و سلم و قال في ذلك «إني لأعجب ممن يقول برجعة عيسى و لا يقول برجعة محمد» و قد قال اللّه عزّ و جلّ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ (سورة القصص 28:

85)» (4) .

و تطوّرت أفكار ابن سبأ مع تطور الفتنة، ففي البداية «زعم أنه كان نبيا، ثم غلا فيه حتى زعم أنه إله، و دعا إلى ذلك قوما من غواة الكوفة... و خاف (علي) إختلاف أصحابه عليه، فنفى ابن سبأ إلى ساباط المدائن، فلمّا قتل علي رضي اللّه عنه زعم ابن سبأ أن المقتول لم يكن عليا، و إنما كان شيطانا تصور للناس في صورة علي و أن عليا صعد إلى السماء كما صعد إليها عيسى بن مريم عليه السلام، و قال:

كذبت اليهود و النصارى في دعواها قتل عيسى كذلك كذبت النواصب و الخوارج في دعواها قتل علي، و إنما رأت اليهود و النصارى شخصا مصلوبا شبهوه بعيسى، و كذلك القائلون بقتل علي رأوا قتيلا يشبه عليا فظنوا أنه علي، و علي قد صعد إلى السماء، و أنه سينزل إلى الدنيا و ينتقم من أعدائه، و زعم بعض السبئية أن عليا في السحاب و أن الرعد صوته، و البرق سوطه، و من سمع من هؤلاء صوت الرعد

ص: 23


1- 43. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 333/1
2- 3. الخياط: الانتصار 13-14
3- 44. المرجع السابق 358/1-359 نقلا عن الطبري.
4- 45. السابق: نفس الصفحة.

قال: عليك السلام يا أمير المؤمنين. و قد روي عن عامر بن شراحيل الشعبي أن ابن سبأ قيل له: ان عليا قد قتل، فقال: إن جئتمونا بدماغه في صرّة لم نصدّق بموته، لا يموت حتى ينزل من السماء، و يملك الأرض بحذافيرها» (1) .

و إذا حاولنا أن نعيد ترتيب هذه الوقائع في نسق تاريخي، فمن السهل أن نقدّر أن فكر عبد اللّه بن سبأ قد مرّ بثلاث مراحل. المرحلة الأولى هي فكره إبّان الثورة على عثمان و الدعوة لعلي حيث قال بوصاية علي للرسول صلى اللّه عليه و سلم مثلما كان يوشع ابن نون وصيا لموسى عليه السلام، و ليس ببعيد أن يكون عبد اللّه بن سبأ قد ذهب في هذه المرحلة إلى رجعة النبي قياسا على ايمان المؤمنين برجعة عيسى عليه السلام مستدلاّ بالآية التي أوردناها. أمّا المرحلة الثانية فهي مرحلة الصراع الذي خاضه علي ضد طلحة و الزبير أولا، ثم معاوية ثانيا، و الخوارج ثالثا. في هذه المرحلة لا يستبعد أن يكون عبد اللّه بن سبأ قد رفع عليا إلى مرتبة النبوة و ذلك لتأكيد حقه في الخلافة خصوصا بعد مهزلة التحكيم المشهورة. و تأتي المرحلة الثالثة بعد قتل علي على يد عبد الرحمن بن ملجم، فذهب ابن سبأ إلى وجود جزء إلهي في علي رضي اللّه عنه، و أنه لم يمت، و أنه سيعود ليملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا، و سيملك الأرض و ينتقم من أعدائه. و هذا الترتيب يستبعد أن يكون عبد اللّه ابن سبأ قد ادّعى كل هذه الشناعات في حياة علي، إذ ليس من المعقول أن يكتفي علي بنفيه إلى المدائن على حين حرق قوما من أتباعه. و ما يورده البغدادي في هذا الصدد لا يكاد يتفق مع شخصية علي التي لا تعرف هوادة فيما يتصل بالدين. يقول «فنهاه ابن عباس عن ذلك (يعني عن قتل ابن سبأ) و قال له: إن قتلته اختلف عليك أصحابك، و أنت عازم على العود إلى قتال أهل الشام، و تحتاج إلى مداراة أصحابك» (2) و لا أظنّ أن سوء الحال كان قد بلغ بعلي رضي اللّه عنه مبلغا يجعله يتجاوز عن مثل هذا التخريب العقائدي في الدين. و لو كان علي يداري أصحابه لتاب من قبوله التحكيم لكي يرضي الخوارج و هم القوة التي لم يكن يستهان بها قوة و عددا و شجاعة و الذين أدّى انشقاقهم عليه إلى التعجيل بانتصار معاوية.

و لا شك أن هذه الأفكار على ما فيها من بعد عن الاسلام، كانت محاولة لرفع الروح المعنوية للشيعة، و دفعهم للتماسك و الاستمرار ما دام إمامهم ما يزال حيا، و ما دام باب الأمل مفتوحا و أنه سيعود - يوما ما - ليقودهم إلى النصر النهائي ضد الظلمة الجبارين. و لا ينبغي - في نفس الوقت - أن يغيب عن الأذهان أن هذا التفسير لنشأة الفكر الحلولي التجسيدي لا ينفي وجود المؤثّرات اليهودية و المسيحية، و خصوصا تلك المؤثّرات غير المباشرة، فالعقائد المسيحية و اليهودية

ص: 24


1- 46. البغدادي: الفرق بين الفرق 233-234، و انظر المقالات 86/1، الملل و النحل 174/1.
2- 47. الفرق بين الفرق/235.

موجودة في الجزيرة العربية، و في المدينة خصوصا، منذ فترة باكرة و قبل البعثة النبوية «فعند اليهود و النصارى أن النبي ايليا قد رفع إلى السماء، و أنه لا بدّ أن يعود إلى الأرض في آخر الزمان لإقامة دعائم الحق و العدل، و لا شك أن ايليا هو الانموذج الأول لأئمة الشيعة المختفين الغائبين، الذين يحيون لا يراهم أحد، و الذين سيعودون يوما كمهديين منقذين للعالم» (1)

و إذا كنا لا ننكر التأثير غير المباشر للفكر اليهودي أو المسيحي، و نربطه بواقع المجتمع الاسلامي، فاننا لا نتقبل ببساطة تلك الفكرة الساذجة التي ترى في هذه الأفكار محاولة مقصودة لهدم الاسلام من الداخل عن طريق اعتناقه و تخريبه بعقائد أجنبية «فالحركة العلوية نشأت في أرض عربية بحتة و لم تمتد إلى العناصر الاسلامية غير السامية إلاّ خلال ثورة المختار، بل إن قواعد نظرية الإمامة، و الفكرة الثيوقراطية المناهضة لنظرية الحكم الدنيوية، و كذا الفكرة المهدية التي أدّت إليها نظرية الإمامة و التي تجلّت معالمها في الاعتقاد بالرجعة ينبغي ان نرجعها كلها، كما رأينا، إلى المؤثرات اليهودية و المسيحية. كما أن الإغراق في تأليه علي، الذي صاغه في مبدأ الأمر عبد اللّه بن سبأ، حدث في بيئة سامية عذراء لم تكن قد تسربت إليها بعد الأفكار الآرية، و انضم لهذه الحركة في بدء قيامها جموع غفيرة من العرب، حتى أن أول الواضعين لجزء من مبادئ التجسيم و الحلول قوم لا شك أنهم من الجنس العربي الصميم» (2)

و يؤكّد ابن خلدون فكرة التأثير غير المباشر حين يقول «و أهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم. و لا يعرفون من ذلك.(يعني من بدء الخليقة و أسرار الوجود) إلاّ ما تعرفه العامة من أهل الكتاب» (3) .و لا شك أن النزعة التجسيدية و التشبيهية كانت كامنة في نفوس بعض العرب الذين كانوا ما يزالون قريبي عهد بالجاهلية، و كان الانتماء لعلي بن أبي طالب باعتباره ابن عم رسول اللّه و زوج ابنته و أقربهم إليه يعبّر عن عاطفة دينية عميقة خصوصا في ظروف تعرّض فيها المجتمع الاسلامي لمحنة التمزق الداخلي. و لم يكن معاوية - بكل تاريخ أسرته في محاربة الاسلام - بالذي يستطيع أن يجمع حوله قلوب المسلمين و إن استطاع أن يشتري سيوفهم.

بعد انتهاء الصراع لصالح الحزب الأموي، و استسلام الحسن بن علي له فيما سمي بعام الجماعة على شرط أن يجعل الأمر بعده شورى للمسلمين، سكن الشيعة لبعض الوقت حتى بدأ معاوية يأخذ البيعة لابنه يزيد. و مع خلافة يزيد كان واضحا أن الدولة الدينية تتحوّل إلى ملك كسروي وراثي. و إذا أضفنا إلى ذلك

ص: 25


1- 48. جولد تسيهر: العقيدة و الشريعة في الاسلام/192.
2- 49. المرجع السابق/205.
3- 50. المقدمة/375.

السيرة الخاصة ليزيد، و التي لم تكن مقبولة من أي مسلم تقي، أدركنا أن خروج الشيعة كان ضرورة حتمية للدفاع عن مصالحهم من جهة، و لإقامة حكم الاسلام من جهة أخرى. و بعد فشل ثورة الحسين و ارتكاب الأمويين لمذبحة كربلاء، ثار عبد اللّه بن الزبير باعتباره ممثلا للقوى التي سبق أن ناهضت علي بن أبي طالب في موقعة الجمل. و مع ثورة عبد اللّه بن الزبير حاول أن يستعين بالخوارج، و لكنهم حاولوا امتحانه عن طريق سؤاله عن رأيه في عثمان، و حين وجدوه مخالفا لهم حيث قال:«أشهدكم و من حضرني أني ولي لابن عفان و عدو لأعدائه» (1) لم يساعدوه، و كان ذلك في عصر عبد الملك بن مروان. و على الجانب الثاني حاول عبد اللّه بن الزبير أن يستعين بمحمد بن الحنفية على حرب الأمويين، و لكنه رفض. (2) و لعل في هذه الواقعة دلالة على بداية الإحساس بضرورة التجمّع و التوحّد في وجه العدو المشترك. و من ناحية أخرى يؤكّد ذلك أن الخلاف حول الحكم على المتحاربين في الفتنة ظلّ هو جذر الخلاف بين الفرق المختلفة، و هو خلاف لسنا بحاجة إلى تأكيد نشأته على يد الخوارج بعد التحكيم.

الذي نريد التأكيد عليه هنا هو أن الشيعة رفعوا فكرة الدولة الدينية و الإمام المقدّس في مواجهة الدولة الدنيوية التي أسسها الأمويون، و كان للضربات المتلاحقة التي وجهها الأمويون ضدهم، تلك الضربات التي بلغت قمتها المأساوية في التمثيل بسبط الرسول بكربلاء، أثرها في تأكيد فكرة المهدي المنتظر الذي ألحّ الشيعة على قداسته «و هكذا غلب الجانب الديني في التشيع على الجانب السياسي و تقدّم عليه، و وجد الشيعة في أقدم دولة ناوءوها و هي دولة الأمويين، الفرصة الأولى في أن يتجهوا في حركتهم اتجاها دينيا، و كان مسلك الأمويين دائما - إذا تركنا جانبا مسألة الحق الشرعي في الخلافة - عنوانا للمخازي و الفضائح في نظر الأتقياء، لأنهم كانوا يضعون نصب أعينهم المصلحة الدنيوية للحكومة الاسلامية و يجعلونها في المحل الأول، بينما رأى الأتقياء تغليب المصلحة الدينية» (3)

و إذا كان الشيعة قد انقسموا إلى ثلاث فرق رئيسية تندرج تحت كل منها فروع كثيرة، فإن الفرق الثلاث و هي الغالية و الإمامية و الزيدية تتفق في امامة علي و أحقيته للخلافة. و يعتبر عبد اللّه بن سبأ مؤسس «الغالية» لأنه غالى في علي حتى جعله إلها، أما مؤسس الامامية فهو المختار بن عبيد «الذي خرج و طالب بدم الحسين بن علي و دعا إلى محمد بن الحنفية» (4) عام 66 ه في عهد عبد الملك بن مروان. و كان محمد بن الحنفية بعد مقتل أخيه الحسين «قد اختار العزلة، فآثر الخمول على الشهرة» (5) و دون أن نتعرض لتفاصيل أفكار المختار أو «الكيسانية»

ص: 26


1- 51. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 382/1-383 نقلا عن ابن الأثير.
2- 52. انظر حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 403/1-404.
3- 53. جولد تسيهر: العقيدة و الشريعة في الاسلام/176.
4- 54. الأشعري: المقالات 91/1.
5- 55. الشهرستاني: الملل و النحل 150/1.

كما يسميها كتّاب الفرق، فإن فكرة الإمامة هي الفكرة الأساسية التي قامت عليها دعوة المختار. و واضح أن دعوة المختار كانت أول انشقاق في صفوف الشيعة و ذلك عن طريق الدعوة لمحمد بن الحنفية، و كانت الإمامة قبل ذلك مقصورة على أولاد علي من فاطمة و هما الحسن و الحسين و أعقابهما. و على يد المختار نمت فكرة عصمة الإمام و انفراده بعلم تأويل الشريعة، و اختفائه و رجعته. و الفارق بين السبئية و الكيسانية يكمن في أن السبئية يعتبرون إمامهم شخصا مقدسا بطبيعته، أما الكيسانية فيعتبرونه رجلا رفيع المقام محيطا بعلوم ما وراء الطبيعة. و بصرف النظر عما تحكيه كتب المقالات من استنكار ابن الحنفية لمثل هذه الافكار، فإن الذي يهمنا هو بيان تطور فكرة الامامة لتلائم طبيعة الظروف المتغيرة في الدولة الاسلامية.

و الذي لا شك فيه أن المختار نجح في اثارة القلق في أرجاء الدولة الأموية. و لو استطاع مع ابن الزبير أن يكوّنا جبهة واحدة مع الخوارج، لكان للتاريخ قول آخر، و لكن اختلاف مصالح القوى كان كفيلا بأن يفرّق بينها.

أمّا الفرقة الثالثة من فرق الشيعة فهي الزيدية و هم ينتسبون إلى زيد بن علي زين العابدين «و كان زيد بن علي بويع له بالكوفة في أيام هشام بن عبد الملك و كان أمير الكوفة يوسف بن عمر الثقفي، و كان زيد بن علي يفضّل علي بن أبي طالب على سائر أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، و يتولى أبا بكر و عمر، و يرى الخروج على أئمة الجور، فلمّا ظهر في الكوفة في أصحابه الذين بايعوه سمع من بعضهم الطعن على أبي بكر و عمر، فأنكر ذلك على من سمعه منه، فتفرّق عنه الذين بايعوه» (1) و سنتعرض بعد قليل لفكر الشيعة الزيدية و مدى اتفاقه مع فكر المعتزلة في كثير من المبادئ و التفاصيل باستثناء فكرة النص على إمامة علي. و الذي يهمنا الآن أن نلمح الطابع الواقعي لفكر الشيعة الزيدية، و هو طابع تخفف كثيرا من غلواء السبئية و الكيسانية، و كذلك من غلواء الخوارج في تكفير عثمان و علي بعد أن قبل التحكيم. و في خلاف زيد بن علي مع أصحابه في تكفير أبي بكر و عمر ما يؤكّد لنا مرة ثانية أن الخلاف حول الحكم على الائمة و الخلفاء ظلّ خلافا أساسيا يفرّق بين الاتجاهات المختلفة حتى داخل حزب واحد كالشيعة.

(2) يعدّ عصر عبد الملك بن مروان(65-86 ه) عصر العواصف التي ملأت كل مدة خلافته تقريبا (3) فهو الذي قتل عمرو بن سعيد - كما سبقت الاشارة - و ألقى بجثته إلى اتباعه زاعما أنه قتله بقضاء اللّه السابق. و هو الذي قتل معبدا الجهني(80 ه) أول من قال بالقدر. و هو الذي فرض ضرائب جديدة على

ص: 27


1- 56. الأشعري: المقالات 136/1-137.
2- 4. القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة/123
3- 57. انظر فلهوزن: الدولة العربية/196.

الموالي أثقلت كواهلهم حتى خرج عليه الحارث بن سريج. و هو الذي ولّى الحجاج بن يوسف الثقفي الذي قال عنه الحسن البصري «ما زال النفاق مقموعا حتى عمم هذا عمامة و قلّد سيفا» (1) هذا كله إلى جانب العصبيات القبلية التي أسهب المؤرخون في وصفها. و إذا كان يعدّ بحق «المؤسس الثاني للدولة الأموية» (2) ، فإنه من جانب آخر يعدّ مؤصل العداوة الأصيلة ضد الدولة الأموية. و يحسّ الباحث أن هذا العصر قد شهد تحولا في مشاعر أولئك المسلمين الأتقياء الذين تعايشوا - بحكم الأمر الواقع - مع خلفاء بني أمية.

و إذا كان القول بالقدر و بمسئولية الانسان و حريته في الاختيار، لم يجد صدى في قلوب أولئك الأتقياء الذين يميلون في الغالب إلى التسليم بقدرة اللّه القاهرة، فإن تستّر الأمويين وراء القول بالجبر كان كفيلا - مع ازدياد جرائمهم - برفع الغشاوة عن هذه العيون المؤمنة لتدرك المغزى السياسي لهذه الدعوى. و لا شك أن المؤمن العميق الايمان، و حتى الزاهد الورع، يؤمن ايمانا عميقا بالثواب و العقاب، و أنهما يكونان حسب العمل، فالثواب هو جزاء العمل الخيّر، و العقاب جزاء العمل الشرير و يستطيع المؤمن الورع أن يجمع - دون أدنى تعارض - بين ايمانه هذا، و بين الايمان بقدرة اللّه القاهرة و إرادته الشاملة التي لا يمكن لإرادة الانسان أن تتصدى لها أو تخالفها. و لذلك من السهل أن نفسّر كراهية الصحابة المتأخرين للقول بالقدر و نفورهم من قائله على أساس أنهم - دون ادراك لمغزاه السياسي - اعتبروه دعوة مناقضة للايمان الكامل. و من ناحية أخرى فإن القول بالقدر - كما سبقت الاشارة - كان يحمل في طيّاته رائحة الفكر المسيحي الذي كان شائعا في دمشق، و هذا من شأنه أن يؤدّي إلى نفور المسلم الورع. و لكن هذا النفور و لم يدم طويلا، إذ سرعان ما كشفت سياسة الخلفاء الأمويين عن طابعها اللاديني، و بذلك فقدت صمت هؤلاء المتدينين الورعين و استسلامهم للأمر الواقع، كما فقدت أيضا توقف المرجئة و تبريريتهم حتى تحول بعضهم إلى مشاكرين في الخروج على خلفائها كما رأينا في حالة جهم بن صفوان.

و إذا كانت المصادر الاعتزالية و الشيعية ترد القول بالقدر إلى علي بن أبي طالب، و تربطه على لسانه بالوعد و الوعيد، على أساس أن نفي قدرة الانسان و اختياره تؤدي إلى إبطال الثواب و العقاب، و سقوط الوعد و الوعيد (3) ،فإن ذلك يعدّ - في نظر الباحث - محاولة لتأصيل هذا الفكر و رده إلى الإمام الأول عند الشيعة، أو إلى صحابي جليل القدر عند المعتزلة. و قد يكون علي بن أبي طالب قد واجه هذا السؤال في عصره، و قد يكون قد أجاب عليه مثبتا مسئولية الانسان عن

ص: 28


1- 58. المرتضى: الأمالي 161/1. و انظر أيضا أقوالا مشابهة للحسن: الجاحظ: الحيوان 100/5،225/1.
2- 59. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 292/1.
3- 60. انظر على سبيل المثال: المرتضى: الأمالي:150/1-151.

فعله، لكن هذا الربط بين القول بالقدر و الوعد و الوعيد و الثواب و العقاب هو بلا شك من اجتهاد المعتزلة و الشيعة و الزيدية. و واضح من هذه الرواية أن المعتزلة و الشيعة معا يحاولون أن يلصقوا بخصومهم - على لسان علي - ما اتهموهم به من تهمة القدرية، و من ثمّ يجعلون عليا يقول عن منكري القدر «تلك مقالة عبدة الأوثان، و حزب الشيطان، و خصماء الرحمن و شهداء زور، و قدرية هذه الأمة و مجوسها» (1)

و أقرب الشخصيات التي يمكن اعتبارها أساس نشأة الاعتزال هو الحسن البصري (ت 110 ه) أستاذ كل من واصل بن عطاء و عمرو بن عبيد مؤسسي المذهب الاعتزالي باتفاق المصادر القديمة. و ينتمي الحسن البصري من حيث أصوله الاجتماعية إلى قطاع الموالي، فهو من «أهل ميسان» مولى لبعض الأنصار،«و كان اسم أمه خيره، مملوكة لأم سلمة زوج النبي صلى اللّه عليه و آله» (2) .و من الطبيعي أن يكون الحسن - بكل تقواه و ورعه - ناقما على بني أمية مظالمهم.

و لقد بلغت سطوة الأمويين على العراق أشدها في عصر عبد الملك بن موران حين ولّي الحجاج بن يوسف عليها بعد أن قضى على ثورة ابن الزبير و هدم الكعبة. و لا شك أن مشاعر المسلمين قد استاءت إزاء هذا الاعتداء على الكعبة و مهبط الوحي، غير أنهم كانوا يتّقون سطوة الحجاج. و لم يكن الحجاج يعرف أقدار الأتقياء، فقد أراد أن يقتل الحسن لقول قاله في غيبته، و ما أكثر أقوال الحسن في الحجاج،«و أمر بالنطع و السيف فأحضرا، و وجه إليه، فلمّا دنا الحسن من الباب، حرّك شفتيه و الحاجب ينظر إليه، فلمّا دخل قال له الحجاج: هاهنا، و أجلسه قريبا من فرشه، و قال له: ما تقول في علي و عثمان؟ قال: أقول قول من هو خير مني عند من هو شر منك قال موسى عليه السلام لفرعون إذ قال له: فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى. قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَ لا يَنْسى: (طه:51-52):

علم علي و عثمان عند اللّه تعالى» (3) .

و لقد كان من شأن هذه القسوة في معاملة الحسن و أمثاله - على قدرهم و ورعهم - أن تجعلهم أقرب إلى المهادنة و التقية، على الأقل في مواجهة الحجاج و أمثاله. و إن كانوا حين يخلون إلى تلاميذهم يعلنون رأيهم بصراحة. و قد روي أن الحسن تلا يوما: إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ (الاحزاب:72)، ثم قال:«إن قوما غدوا في المطارف العتاق، و العمائم الرقاق، يطلبون الامارات و يضيعون الأمانات، يتعرضون للبلاء و هم منه في عافية، حتى إذا أخافوا من فوقهم من أهل العفّة، و ظلموا من تحتهم من أهل الذمّة أهزلوا دينهم

ص: 29


1- 61. السابق: نفس الصفحة، و انظر أيضا: القاضي عبد الجبار: فرق و طبقات المعتزلة/24.
2- 62. السابق 152/1.
3- 63. الأمالي 161/1.

و أسمنوا براذينهم، و وسعوا دينهم، و ضيقوا قبورهم» (1) .

و إشارة الحسن إلى إخافة أهل العفّة، و ظلم أهل الذمّة، لها دلالتها في تحديد طبيعة الثورة النفسية التي تعتمل في نفس رجل من الأتقياء، يدرك الظلم و يلمس مظاهره الاجتماعية في الاثراء على حساب الدين و فقراء المسلمين و غيرهم من أهل الأديان الأخرى. و جاء رجل يسأله يوما عن عطاء له عند بني أمية فقال «آخذ عطائي أم أدعه حتى آخذه من حسناتهم يوم القيامة؟ فقال له: قم ويحك خذ عطاءك فإن القوم مفاليس من الحسنات يوم القيامة» (2) .و معنى ذلك أن نزعة الزهد التي اشتهر بها الحسن لم تمنعه من ادراك الظلم الاجتماعي و الاقتصادي الذي يمارسه رجال الدولة الأموية ضد جماهير المسلمين، و لم تحل بين عينيه و بين رؤية مظاهر هذا الظلم.

و إذا كان عداء الأمويين السافر كان موجها ضد الخوارج و الشيعة و من حمل السلاح في وجوههم، و لم يمنع ذلك الحجاج من امتحان الحسن و سؤاله عن رأيه في علي و عثمان، فقد كان من الطبيعي أن يلجأ الحسن إلى التقيّة حين يحدث عن علي بن أبي طالب، رغم أنه لم يكن شيعيا. فقد صار حب علي تهمة يعاقب عليها «و كان الحسن إذا أراد أن يحدث في زمن بني أمية عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: قال أبو زينب» (3) .

لم يكن من الطبيعي أن يظلّ أمثال الحسن على سلبيتهم إزاء مظاهر الظلم المتعددة أمام أعينهم. و إذا كان متأخرو الصحابة قد استشعروا كثيرا من سوء الظن بقول معبد الجهني بالقدر، فإن تعلل الأمويين - و عبد الملك بن مروان بالذات - بالجبر تبريرا لأفعالهم و جرائمهم كان كفيلا برفع الغشاوة عن أعين هؤلاء المؤمنين الأتقياء من أمثال الحسن. و لم يتردد الحسن في تبني القول بالقدر على مذهب معاصره معبد الجهني. و ليس من المستبعد أن يكون الحسن قد عدل قليلا من قول معاصره الذي ذهب إلى أن القدر خيره و شره من العبد كما تحكي عنه كتب المقالات. و لقد كان تعديل هذا القول ضرورة لا غنى عنها حتى لا يؤدي ذلك إلى نفي قدرة اللّه أو الانتقاص منها.

و لمّا كان بنو أمية يرفعون القول بالجبر لتبرير معاصيهم، فإن اسناد المعاصي إلى قدرة العبد كاف في الرد عليهم دون أن يؤدي ذلك إلى الانتقاص من قدرة اللّه. لذلك كله عدّل الحسن من قول معبد و غيلان و الجعد، و قال «كل شيء بقضاء و قدر إلاّ المعاصي» (4) و هذه الصياغة لمبدأ القدر تنفي عن اللّه فعل الشر و تثبت قدرة العبد عليه. و من شأن هذه الصياغة للمبدإ أن تجعله مقبولا لدى أتقياء

ص: 30


1- 64. السابق 154/1.
2- 65. السابق 159/1.
3- 66. الأمالي 162/1.
4- 67. السابق 153/1.

المسلمين، لأنها رفعت عنه الحرج السابق الذي يؤدي إلى ايهام انه يتناقض مع الايمان الحق. كما أنها من جانب آخر تثبت مبدأ الثواب و العقاب الذي يعدّ ركنا أساسيا في العقيدة الدينية، ذلك المبدأ الذي يخلّ به القول بالجبر و ينفي مسئولية الانسان عن فعله.

و يقول الحسن مؤكدا مبدأه و كاشفا عن مراميه «من زعم أن المعاصي من اللّه عزّ و جلّ جاء يوم القيامة مسودا وجهه، ثم قرأ: وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ (الزمر:60)» (1) .و يشير ابن قتيبة إلى علاقته بمعبد الجهني عرضا حين يقول:«و كان (أي الحسن) تكلّم في شيء من القدر ثم رجع عنه و كان عطاء بن يسار قاصا و يرى القدر... فكان يأتي الحسن هو و معبد الجهني فيسألانه و يقولان يا أبا سعيد إن هؤلاء الملوك يسفكون دماء المسلمين و يأخذون الأموال و يفعلون و يقولون إنما تجري أعمالنا على قدر اللّه فقال كذب أعداء اللّه» (2) .و هذه العلاقة التي تجعل معبدا الجهني يأتي ليسأل الحسن عن رأيه في القدر، تؤكّد ما نذهب إليه من تعديل الحسن لمقولة معبد. و يبدو أن الحسن - خلافا لما يزعمه ابن قتيبة - كان يتحرّج من القول بالقدر، و يبدو أن سؤال معبد له، بهذه الطريقة الاستفزازية، كان المقصود منه ضمه إلى رأيه حتى يكتسب أنصارا من كبار التابعين أمثال الحسن. و سرعان ما استجاب الحسن لرأي معبد بعد أن صاغه تلك الصياغة التي توائم بينه و بين الايمان المطلق بقدرة اللّه. و أغلب الظن أن قتل معبد على قوله كان له دخل كبير في تمسّك الحسن بقوله و المجاهرة به، بعد أن كان لا يقوله إلاّ في خاصته.

و قد وصلتنا عن الحسن رسالة في نفي القدر ترجع إلى عصر عبد الملك بن مروان. و ينكر الشهرستاني نسبة هذه الرسالة إلى الحسن، و ينسبها إلى واصل بن عطاء، على أساس «أن الحسن ما كان ممن يخالف السلف في أن القدر خيره و شره من اللّه تعالى» (3) و هو قول ينكره ما أوردناه لابن قتيبة سالفا و هو مصدر أقدم من الشهرستاني. و من جهة أخرى فسواء نسبت الرسالة للحسن أو لواصل بن عطاء، فإن دلالتها على ما نحن بصدده تظلّ قائمة.

و تبدو أهمية الرسالة فيما تثيره من اعتراض عبد الملك بن مروان، فالرسالة رد على تساؤل من عبد الملك بن مروان وجهه للحسن حول ما بلغه عنه من أنه يقول بالقدر. و لم يكن عبد الملك بن مروان بالساذج حتى يفعل بالحسن ما فعله بمعبد الجهني، فالحسن - بزهده و ورعه و تقواه - قد يثير سخط العامة، و لذلك يلجأ عبد الملك إلى أسلوب النقاش «و قد كان أمير المؤمنين يعلم منك صلاحا في حالك،

ص: 31


1- 68. الأمالي 153/1.
2- 69. المعارف/153.
3- 70. الملل و النحل 47/1. و يلاحظ أن واصلا ولد عام 80 ه، و لا يتفق هذا مع أن الرسالة موجهة لعبد الملك بن مروان(65-86 ه).

و فضلا في دينك و دراية للفقه، و طلبا له و حرصا عليه. ثم أنكر أمير المؤمنين هذا القول من قولك، فاكتب إلى أمير المؤمنين بمذهبك، و الذي به تأخذ، أ عن أحد من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم؟ أم عن رأي رأيته؟ أم عن أمر يعرف تصديقه في القرآن؟ فإنّا لم نسمع في هذا الكلام مجادلا و لا ناطقا قبلك» (1) و تبدو في لهجة الرسالة نبرة الضيق التي ترى تناقضا بين الصلاح و الفضل و الفقه و بين القول بالقدر، مما يؤكّد أن انتماء الحسن إلى صف القائلين بالقدر أقلق الخليفة الأموي و دفعه لهذه التساؤلات حول أصل هذا الرأي و منشئه في القرآن أو السنة أو آراء السلف الصالح. و لم يكن صعبا على الحسن أن يستشهد بالقرآن على صحة مذهبه، ففي القرآن آيات كثيرة تحمّل الانسان مسئولية فعله. و يلجأ الحسن إلى تأويل تلك الآيات الأخرى التي توهم بالجبر، و هذه مسألة سنتعرّض لها في الفصل الخاص بالتأويل و المجاز. أمّا الذي نريد التركيز عليه الآن فهو لمز الحسن لمعاصريه على قولهم بالجبر «و قد أدركنا، يا أمير المؤمنين، السلف الذين عملوا بأمر اللّه، و رووا حكمته، و استنوا بسنة رسوله، صلى اللّه عليه و سلم، فكانوا لا ينكرون حقا و لا يحقون باطلا، و لا يلحقون بالرب، تبارك و تعالى إلاّ ما ألحق بنفسه، و لا يحتجون إلاّ بما احتج اللّه به على خلقه في كتابه» (2) ثم ينتهي إلى أنه «لمّا أحدث المحدثون الكلام في دينهم ذكرت من كتاب اللّه خلافا لما قالوا و أحدثوا» (3) و الحسن في هذا الرد يتهم معاصريه بأنهم أحدثوا - بالقول الجبر - قولا لم يقل به أحد من السلف الصالح، و ألحقوا بالرب ما لم يلحق بنفسه من نسبة معاصيهم إليه، فكان عليه أن يتصدّى لهم، و يكشف عن زيف معتقدهم.

و ننتهي من ذلك كله إلى أن القول بالقدر و بمسئولية الانسان عن فعله كان سلاحا فكريا و عقائديا ضد تستر الأمويين وراء مبدأ الجبر لتبرير أعمالهم. و قد رفع لواء هذا المبدأ مفكرون دفعوا حياتهم ثمنا له، و تحرّج متأخرو الصحابة و التابعون من القول به لما يوهمه من انتقاص للقدرة الإلهية. و ظلّ الأمر كذلك حتى عدل الحسن البصري من صياغة هذا المبدأ بما يجعله يتلاءم مع الايمان المطلق بقدرة اللّه و مشيئته اللانهائية. و كان الذي دفع الحسن إلى ذلك هو انكشاف البعد السياسي لمقولة «الجبر» في عهد عبد الملك ابن مروان. و يعدّ ما فعله الحسن بذلك بمثابة اعطاء شرعية دينية و فقهية لمبدأ يثير الشك في وجدان المسلم العادي و ذلك عن طريق الاستشهاد بآيات القرآن التي تتمشى مع المبدأ، و في نفس الوقت تأويل تلك الآيات التي يوهم نصها الحرفي مناقضة هذا المبدأ.

ص: 32


1- 71. محمدة عمارة: رسائل العدل و التوحيد 82/1.
2- 72. نفس المصدر 83/1.
3- 73. نفس المصدر 88/1.

(1) سبقت الاشارة إلى أن الخلاف الذي اعتزل بسببه واصل بن عطاء (ت 131 ه) حلقة أستاذه الحسن هو الخلاف حول مرتكب الكبيرة. و لقد رأينا في الصفحات السابقة أن هذا الخلاف يمتد إلى بداية نشأة حركة الخوارج، و إن أطلقوا عليه «الإمام الجائر» لا «مرتكب الكبيرة». و لقد كان الخوارج واضحين و متسقين مع نزوعهم الثوري، فذهبوا إلى تكفير كل من خالفهم، و ذهبوا إلى ضرورة الخروج على الإمام الجائر و محاربته بالسيف. و لم يفرّق الخوارج بين امامهم الأول «علي بن أبي طالب» و بين «معاوية بن أبي سفيان» ما داموا قد آمنوا بأن كليهما على باطل، و إن اختلفت درجة باطل كل منهما. و في الجانب الآخر كان المرجئة يحكمون على «مرتكب الكبيرة» بالايمان و ذلك تأسيسا على تعريفهم للايمان الذي سبقت الاشارة إليه. و قد انشغل الشيعة، الغالية منهم و الإمامية، بقضية الإمامة دون غيرها من القضايا. أمّا الحسن البصري - الفقيه الورع الزاهد - فقد تحرّج في تكفير من شهد أن لا إله إلاّ اللّه و أن محمدا رسول اللّه، كما أنه من جانب آخر لم يكن يستطيع أن يفصل الايمان عن العمل كما فعلت المرجئة. و لذلك انتهى إلى أن مرتكب الكبيرة منافق، ليس كافرا و ليس مؤمنا.

و مما يرتبط بهذا الخلاف ما سبقت الاشارة إليه من أن الحكم على عثمان و علي و طلحة و الزبير كان جزءا من الخلاف بين الفرق و الاتجاهات المختلفة. و لقد امتحن الخوارج عبد اللّه بن الزبير و حين خالفهم لم يحاربوا معه. و كذلك امتحن زيد بن علي أصحابه في هذه القضية، و انفضوا عنه حين رفض الخوض في أبي بكر و عمر. و ليس ببعيد عنا امتحان الحجاج للحسن البصري حين سأله عن عثمان و علي.

و إذن فالخلاف حول قضايا مرتكب الكبيرة و الحكم على المتنازعين لم يكن مجرد خلاف فقهي و إن بدا كذلك على يد الحسن و تلميذه واصل، و مرد ذلك إلى طبيعة الضغوط التي تعرّض لها الحسن على يد الحجاج، و هي ضغوط جعلته في كثير من الأحيان يلجأ للتقيّة و المداراة.

لم يقبل واصل بن عطاء رأي الخوارج في الحكم على مرتكب الكبيرة بأنه كافر، و كذلك لم يقبل رأي المرجئة بأنه مؤمن، ثم خرج على أستاذه الحسن أخيرا و لم يقتنع بقوله أنه منافق. و خرج بوصف له بأنه فاسق في منزلة بين المنزلتين، أي بين منزلة المؤمن و الكافر. و حكم عليه بأنه يخلد في النار إن مات على غير توبة.

و قد يبدو هذا الرأي الذي أثاره واصل في مرتكب الكبيرة مذهبا رابعا يضاف إلى

ص: 33


1- 5. مقالات الاسلاميين 47/1-49

المذاهب الثلاثة السابقة عليه. و من الواضح أن هذا المذهب ليس مذهبا محايدا كما ذهب إلى ذلك نللينو (1) كما أنه ليس خروجا عن الإجماع كما ذهب إلى ذلك كل خصوم المعتزلة. فواصل يتفق مع الخوارج في خلود مرتكب الكبيرة في النار، و يشترط عدم التوبة. و هو شرط لا يجعله مخالفا لهم و إن لم ينصوا عليه. و سلوك الخوارج العملي في استتابة مخالفيهم يؤكّد الاتفاق بينهم و بين واصل في هذه النقطة. و هو لم يتفق مع المرجئة الذين يجعلونه مؤمنا و يفتحون أمامه باب الأمل في رحمة اللّه الواسعة. و يبدو أن خلاف واصل مع أستاذه - بحسب ما تتيحه المصادر - هو خلاف في التسمية فقط. و معنى ذلك كله أن واصلا في حكمه على مرتكب الكبيرة - إذا أضفنا شرط التوبة - يتفق مع الخوارج و يختلف مع المرجئة.

و فيما يرتبط بمسألة اطلاق الأسماء، يبدو أن واصلا كان يسعى لتوحيد الحكم على مرتكب الكبيرة بين الفرق المختلفة بدلا من هذا الخلاف في تسميته و الحكم عليه. و كان اشتراط التوبة هو الحل السعيد لطرفي النقيض بين الخوارج و المرجئة، فالتوبة تمثّل باب الأمل المشروط عند واصل، بدلا من الباب المفتوح على مصراعيه عند المرجئة. و ينكر الخياط خروج واصل في قوله في مرتكب الكبيرة عن الإجماع بقوله «وجد الأمة مجمعة على تسمية أهل الكبائر بالفسق و الفجور، مختلفة فيما سوى ذلك من أسمائهم، فأخذ بما أجمعوا عليه و أمسك عمّا اختلفوا فيه. و تفسير ذلك أن الخوارج و أصحاب الحسن كلهم مجمعون على أن صاحب الكبيرة فاسق فاجر. ثم تفرّدت الخوارج وحدها فقالت: هو مع فسقه و فجوره كافر. و قالت المرجئة وحدها: هو مع فسقه و فجوره مؤمن. و قال الحسن و من تابعه: هو مع فسقه و فجوره منافق. فقال لهم واصل: قد أجمعتم أن سميتم صاحب الكبيرة بالفسق و الفجور، فهذا اسم له صحيح بإجماعكم و قد نطق به القرآن في آية القاذف و غيرها من القرآن فوجب تسميته به» (2) .و هذا الموقف الذي اتخذه واصل من مرتكب الكبيرة وقفه الشيعة الزيدية فيما يقول صاحب المقالات (3) .

أمّا الحكم على المتحاربين: علي و طلحة و الزبير، و كذلك على عثمان و قاتليه فقد كان أيضا محل خلاف بين الخوارج و الشيعة من جانب، و بين الشيعة بفرقها المختلفة من جانب آخر. ذهبت الشيعة إلى تكفير كل من حارب عليا و تخطئته، بل غالى بعضهم و خاض في أبي بكر و عمر و شكك في أحقيتهما للخلافة، و ذهبت الخوارج كذلك إلى تخطئة عثمان في أواخر خلافته و كذلك خطئوا عليا بعد قبوله التحكيم، و لم ينج من أحكامهم أحد من مخالفيهم كما سبقت الاشارة. أمّا موقف واصل من عثمان «فقد توقف فيه و في خاذليه و قاتليه و ترك البراءة من واحد

ص: 34


1- 74. بحوث في المعتزلة/181.
2- 75. الانتصار/118-119 و انظر أيضا الأمالي 165/1-169 مناقشة بين واصل و عمرو بن عبيد تؤكد الفكرة التي نذهب إليها.
3- 76.167/2.

منهم... و ذلك أنه قد صحّت عنده لعثمان أحداث في الست الأواخر فأشكل عليه أمره فأرجأه الى عالمه» (1) و نفس الموقف يقفه هو و زميله عمرو بن عبيد من علي و محاربيه طلحة و عائشة و الزبير «فقد كان القوم عندهما أبرارا أتقياء مؤمنين قد تقدّمت لهم سوابق حسنة مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و هجرة و جهاد و أعمال جميلة، ثم وجداهم قد تحاربوا و تجالدوا بالسيوف فقالا: قد علمنا أنهم ليسوا بمحقين جميعا، و جائز أن تكون إحدى الطائفتين محقة و الأخرى مبطلة و لم يتبين لنا من المحق منهم من المبطل فوكّلنا أمر القوم إلى عالمه، و تولينا القوم على أصل ما كانوا عليه قبل القتال، فإذا اجتمعت الطائفتان: قلنا: قد علمنا أن إحداكما عاصية لا ندري أيكما هي» (2)

و يبدو مذهب واصل و عمرو بن عبيد في هذه القضية أقرب إلى المرجئة منه إلى الخوارج، و لكنهم مرجئة لا ينفون الخطأ و لا يغمضون أعينهم عنه، فثمّ أخطاء وقعت في الست الأواخر من حكم عثمان، و لكن النفس التقية التي تتأثم من الرجم بالغيب تتوقف في الحكم، و ترجئ الأمر لعلام الغيوب. و المعتزلة - على عكس المرجئة - لا يفتحون باب الرحمة و لا يحكمون بالايمان أو الكفر، بل يتوقفون مع الاقرار بوقوع الخطأ. و هم يختلفون مع المرجئة في اقرارهم بالخطإ دون تحديد المخطئ، و يختلفون مع الشيعة و الخوارج كذلك بتوقفهم عن تحديد المخطئ.

أمّا الموقف من الأمويين فهو مختلف تماما، فالحكم الأموي قائم، و التوقف عن الحكم عليه إرجاء واضح و مظالم الأمويين تملأ الآفاق. و موقف أستاذهم الحسن من الأمويين واضح وضوحا بينا، و لذلك فهم «مجمعون على البراءة من عمرو و معاوية و من كان في شقهما... و هذا قول لا تبرأ المعتزلة منه و لا تعتذر من القول به» (3) و في هذا القول يتفق المعتزلة مع كل من الشيعة و الخوارج، و يختلفون مع المرجئة بكل اتجاهاتها و مذاهبها. (4)

و تثير مسألة خلاف واصل مع أستاذه الحسن حول وصف مرتكب الكبيرة علامة استفهام تحتاج للاجابة و التوضيح، خصوصا و هما يشتركان في كراهية بني أمية. و يحسّ الباحث أن هذا الخلاف كان خلافا شكليا يتصل بالتسمية دون أن يرتدّ إلى خلاف أعمق من ذلك. و ليس معنى وصف الخلاف بأنه شكلي التهوين من شأنه، فمن الواضح أن هذا الخلاف كانت له أهميته عند واصل حتى ناظر عليه عمرو بن عبيد و اكتسبه إلى جانبه. (5) و ترتدّ هذه الأهمية في نظرنا إلى ما سبق أن ألمحنا إليه من رغبة واصل في رفع الخلاف حول تسمية مرتكب الكبيرة و الحكم عليه، و توحيده بهدف توحيد قوى المعارضة، و إزالة أسباب الخلاف بينها.

ص: 35


1- 77. الخياط: الانتصار/73.
2- 78. الخياط: الانتصار/73-74.
3- 79. السابق/74.
4- 80. راجع رأي المرجئة مفصلا في المقالات 229/1-230.
5- 81. انظر الشريف المرتضى: الأمالي 165/1-169، القاضي عبد الجبار: فرق و طبقات المعتزلة/50-51.

و لسنا بحاجة لتأكيد أن الحسن كان يمثّل تلك الجماعة من أتقياء المسلمين و زهادهم الذين تعايشوا - لفترة - مع الحكم الأموي بحكم الأمر الواقع، و إن لم يجاهروا بعدائه خوفا من سطوة حكامه و جبروتهم خصوصا في عهد عبد الملك بن مروان، و واليه على العراق الحجاج بن يوسف الثقفي. و لم تمنعهم هذه المعايشة من محاولة التصدي - فكريا - لكل الأفكار التي حاولت أن تدعم هذا النظام و تسانده. و لقد كان من الطبيعي أن تؤدي هذه النظرة التقية المسالمة إلى الحكم على مرتكب الكبيرة بأنه منافق «و حكم اللّه في المنافق أنه إن ستر نفاقه فلم يعلم به و كان ظاهره الاسلام فهو عندنا مسلم له ما للمسلمين و عليه ما عليهم» (1) و من المؤكد أن أحدا من الحكام الأمويين لم يعلن نفاقه، و من ثم فمعاملتهم معاملة المسلمين أمر واجب على أتقياء المسلمين. و من الضروري ألاّ يغيب عن الأذهان أثر الضغط الأموي، و تزايد سياستهم الارهابية في تكوين هذه النظرة المسالمة إذا قورنت بنظرة الخوارج الواضحة كالسيف.

و لقد كان من الطبيعي أن ينفر أمثال الحسن من الخروج و من شهر السيوف، و أن يؤدي بهم هذا النفور إلى معاداة الخوارج، خصوصا مع مبالغتهم في استخدام مبدأ «التكفير» و العرض على السيف لكل من خالفهم في الأصول أو التفاصيل.

و لم يكن هذا الموقف المهادن وقفا على الحسن و أمثاله، فالشيعة ركنت - بعد مأساة كربلاء - إلى مهادنة الأمويين. و إذا استثنينا ثورة التوّابين و ثورة المختار، و هي ثورات لم تكن تحت قيادة علوية مباشرة، لا نجد خروجا شيعيا مسلحا إلاّ مع ثورة زيد بن علي بن الحسين (ت 95 ه) في عهد هشام بن عبد الملك. و لقد رفض محمد بن الحنفية الخروج مع عبد اللّه بن الزبير، كما أنه - فيما يقال - استنكر أقوال المختار الذي خرج باسمه. و لم يخرج من أبناء الحسن أو الحسين أحد حتى قرر زيد بن علي الخروج. و يبدو أن خروج زيد لم يكن أمرا متفقا عليه بينه و بين باقي أهل البيت من إخوته، و فيهم من هو أحق بالإمامة و الخروج منه بحكم السن. و دون الخوض في تفاصيل هذا الخلاف و أسبابه، يهمنا أن نشير إلى أن الموقف السياسي كان وراء رفض بعض الائمة الخروج «و كان الباعث على ذلك الشدة التي اتبعها الامويون تجاه من يخرج على سلطانهم. فقد أدرك أئمة الشيعة أن الثورات المحلية المسلحة لا تجدي نفعا ما دامت الدولة الأموية تعزّز سلطانها بالجند و المال، لهذا أشاعوا بين أتباعهم التزام الهدوء أمام الأحداث التي كانت جارية آنذاك، مهما بلغت من العنف و القسوة، اللهم إلاّ في حالة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و في حدود معينة لا يتعرّض فيها المؤمن إلى فتك السلطان» (2) و يبدو أن الخلاف

ص: 36


1- 82. الخياط: الانتصار/119.
2- 83. ناجي حسن: ثورة زيد بن علي/148.

الذي واجهه زيد بن علي كان حادا حتى أنه - فيما يقول الشهرستاني - ذهب إلى أن «كل فاطمي عالم شجاع سخي خرج بالإمامة، أن يكون إماما واجب الطاعة سواء من أولاد الحسن أو من أولاد الحسين رضي اللّه عنهما» (1) و هو قول يجعل القدرة على الخروج و حمل السيف شرطا للإمامة و مسوّغا لها. و لقد كان من الطبيعي أن يعترض أخوه محمد الباقر على قوله هذا حتى قال له يوما «على مقتضى مذهبك والدك ليس بإمام فإنه لم يخرج و لا تعرض للخروج» (2)

و لم يكن واصل بن عطاء على أي حال بعيدا عن جو الخلاف الشيعي هذا.

و نحن بالقطع لا نستطيع أن نتقبل تلك الرواية التي تجعل من واصل تلميذا مباشرا لمحمد بن الحنفية، بل و تدّعي أنه «أخذ علم الكلام عنه، و صار كالأصل لسنده» (3) و تبالغ حتى تنسب إليه أنه «ربي واصلا و علّمه حتى تخرّج و استحكم» (4) و السبب في ذلك أن واصلا ولد عام 81 ه و هو نفس العام الذي توفي فيه ابن الحنفية. و من المحتمل ان يكون واصل قد عرف أفكار ابن الحنفية عن طريق ابنه أبي هاشم عبد اللّه بن محمد (ت 98 ه) و هذا أمر تؤكّده سلسلة السند التي يعتزّ بها كل من المعتزلة و الشيعة، و التي تنتهي إلى واصل و عمرو «و هما أخذا عن عبد اللّه بن محمد، و عبد اللّه أخذ عن أبيه محمد بن الحنفية» (5) و من جهة أخرى تؤكّد هذه المصادر صلة واصل بأبي هاشم هذا «و كان معه في المكتب» (6) .و لسنا نذهب من هذه الرواية إلى نسبة الاعتزال إلى محمد بن الحنفية كما تحاول المصادر الاعتزالية و الشيعية أن تفعل، بقدر ما نحاول إثبات الصلة بين واصل و الشيعة في هذه الفترة لرصد التأثير المتبادل بينهما. و من المحتمل أن يكون ابن الحنفية الذي «اختار العزلة، فآثر الخمول على الشهرة» قد ذهب إلى الإرجاء أو التقيّة تبريرا لهذا الموقف الذي فرضته عليه الظروف.

و لقد ظلّ هذا الرأي الذي يرى الهدوء و التريث و التقيّة سائدا بين صفوف الشيعة حتى قرر زيد بن علي الخروج. و كان قراره هذا موضعا لخلاف أخيه محمد الباقر و ابن أخيه جعفر بن محمد الصادق. و يبدو أن واصلا كان على رأي زيد في ضرورة الخروج حتى اتهمه جعفر بن محمد بأنه أتى أمرا يفرّق الكلمة و يطعن به على الأئمة. و كان رد واصل على هذا الاتهام - في حضور زيد بن علي و غيره من آل البيت «و إنك يا جعفر ابن الأئمة شغلك حب الدنيا فأصبحت بها كلفا» (7) .

و يمكننا أن نستنبط من الاتهام و الرد معا أن الخلاف بين واصل و بين جعفر لم يكن حول قضية من قضايا الفكر الاعتزالي الشهيرة، أو أصولهم الخمسة، لأن هذه الأصول لا تتضمن أي اساءة للأئمة. و أغلب الظن أن هذا الخلاف كان حول

ص: 37


1- 84. الملل و النحل 154/1-155.
2- 85. السابق 156/1.
3- 86. القاضي عبد الجبار: فرق و طبقات المعتزلة/29.
4- 87. السابق/17.
5- 88. القاضي عبد الجبار: فرق و طبقات المعتزلة 31،18.
6- 89. السابق/32.
7- 90. راجع القصة كلها: طبقات المعتزلة/44-46. و يقول الشهرستاني عن جعفر بن محمد أنه «دخل العراق و أقام بها مدة ما تعرض للامامة قط، و لا نازع أحدا في الخلافة قط» الملل و النحل 166/1.

مشروعية الخروج و شهر السيف ضد الخليفة الأموي، و هو أمر لم يكن يراه جعفر بن محمد، و كان يراه زيد بن علي الذي عضده واصل. و ليس أدل على صدق هذا الاستنتاج من أن اشتراط زيد لصحة الإمامة القدرة على الخروج و الثورة - و هو ما أنكره باقي آل البيت خصوصا أخوه الباقر - يتفق مع قول المعتزلة في هذه القضية.

و موقف زيد من أبي بكر و عمر و توليهما و عدم الخوض فيهما - و هو ما أنكره بعض أنصاره - يؤكّد أثر واصل و أثر الفكر الاعتزالي في الشيعة الزيدية. و يؤكّد الشهرستاني هذا الأثر بقوله عن زيد بن علي «فتلمذ لواصل بن عطاء الغزال الألثغ رأس المعتزلة، و رئيسهم... و صارت أصحابه كلهم معتزلة» (1)

يرى بعض الباحثين أن ثورة زيد بن علي «كانت أول دعوة علوية نهجت نهجا سريا في نشر مبادئها» (2) .و لس من المستبعد - و الحالة هذه - أن يكون واصل بن عطاء قد ساهم بشكل ما في تنظيم هذه الدعوة، فلقد كان لواصل دعاة كثيرون أرسلهم إلى الآفاق «بعث عبد اللّه بن الحارث إلى المغرب فأجابه خلق كثير، و بعث إلى خراسان حفص بن سالم... و بعث القاسم إلى اليمن، و بعث أيوب إلى الجزيرة، و بعث الحسن بن ذكوان إلى الكوفة، و عثمان الطويل إلى أرمينية» (3) .و ليس من المعقول أن تكون مهمة هؤلاء الدعاة هي مجرد الدعوة إلى أفكار المعتزلة في العدل و التوحيد، أو في نشر الاسلام، دون أن ترتبط هذه الأفكار بمغزاها الاجتماعي و السياسي، و بالدعوة للثورة ضد النظام الأموي.

و إذا كانت ثورة زيد بن علي قد أمكن القضاء عليها، فإن العلاقة بين المعتزلة و الثورات الزيدية التالية ظلّت قائمة، حتى مع انتهاء الخلافة الأموية و قيام دولة بني العباس. و تتبدى علاقة عمرو بن عبيد بمحمد بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي المعروف بالنفس الزكية (قتله المنصور 145 ه) من نص يورده الشريف المرتضى عن حوار دار بينه و بين الخليفة المنصور «قال: بلغني أن محمد بن عبد اللّه بن الحسن كتب إليك كتابا، قال: قد جاءني كتاب يشبه أن يكون كتابه، قال: فبما ذا أجبته؟ قال: أ و لست قد عرفت رأيي في السيف أيام كنت تختلف إلينا و أني لا أراه، قال: أجل و لكن تحلف لي ليطمئن قلبي، قال: لئن كذبتك تقية لأحلفن لك تقية» (4) و هي علاقة من الواضح أنها تقلق الخليفة المنصور الذي يطلب من عمرو بن عبيد - رغم ثقته فيه و احترامه الزائد له - أن يقسم له.

و لقد شارك المعتزلة بشكل ايجابي و فعّال في ثورة إبراهيم بن عبد اللّه بن الحسن أخي محمد النفس الزكية الذي ثار بالبصرة «فغلب عليها و على الأهواز و على فارس و أكثر السواد، و شخص عن البصرة في المعتزلة و غيرهم من الزيدية

ص: 38


1- 91. الملل و النحل 155/1.
2- 92. ناجي حسين: ثورة زيد بن علي/109.
3- 93. القاضي عبد الجبار: فرق و طبقات المعتزلة/44.
4- 94. الأمالي:175/1. حاول المعتزلة أحيانا احتواء بعض الخلفاء و ترشيدهم دون اللجوء للسيف كما فعلوا مع يزيد بن الوليد بن عبد الملك و محمد بن مروان آخر خلفاء بني أمية. انظر محمد اسماعيل: الحركات السرية في الاسلام/141.

يريد محاربة المنصور و معه عيسى بن زيد بن علي فبعث اليه أبو جعفر بعيسى بن موسى و سعيد بن سلم فحاربهما إبراهيم حتى قتل، و قتلت المعتزلة بين يديه» (1) .

و جدير بالذكر أن هذين الثائرين من الزيدية (كانا ممن دعاهما واصل إلى القول بالعدل، فاستجابا له، و ذلك لمّا حج واصل، و دعا الناس بمكة و المدينة» (2) .

و معنى ذلك كله أن القول «بالمنزلة بين المنزلتين»- رغم توفيقيته الظاهرة - كان محاولة للخروج من حالة التقيّة التي غلبت على موقف الحسن و عبّرت عن نفسها بالقول بنفاق مرتكب الكبيرة من جهة، و كانت أيضا محاولة لبث روح الثورة في موقف الشيعة الذي كان قد سكن و ركن للهدوء. و من جهة أخرى يعدّ هذا الموقف وقوفا ضد النزعة الدموية التي سيطرت على الفكر الخارجي خصوصا الأزارقة الذين فقدوا عطف أتقياء المسلمين. غير أن هذا الخلاف بين واصل و الخوارج ليس خلافا جوهريا، إذ أن اشتراط التوبة لدخول مرتكب الكبيرة الجنة يرفع الخلاف بين واصل و بين الخوارج. و يظلّ خلاف واصل مع المرجئة في قضية مرتكب الكبيرة هو الخلاف الأساسي و الجوهري. و الفارق بين واصل و المرجئة أن واصلا لم يفتح باب العفو و الأمل على مصراعيه، بل جعله؟؟ بالتوبة الصادقة.

و هذا كله يؤكّد البعد السياسي لقضية مرتكب الكبيرة و ينفي عنها تلك الصبغة الفقهية الخالصة التي تصبغها بها كتب المقالات (3) .

و يؤكّد أيضا ما نذهب إليه من أن واصلا كان يسعى للتوفيق بين قوى المعارضة و خلق جبهة موحدة ضد حكم الأمويين ما سبق أن بيّناه من رأيه في عثمان و علي و طلحة و الزبير رغم ما يبدو عليه من طابع الإرجاء في مواجهة أحداث الماضي. و من الواضح أن مرتكب الكبيرة الذي اختلف الناس حول الحكم عليه «كان المقصود به تحديد الموقف من الأمويين، باعتبارهم مرتكبي الكبائر هم و عمالهم و أنصارهم في حق جماهير المسلمين» (4) و ذلك خلافا لما يذهب إليه زهدي جار اللّه من أن المقصود بهم عامة المسلمين «الذين كثر إقدامهم على ارتكاب الكبائر بسبب اختلاف القادة على الخلافة و ما جرّ وراءه من فتن أدّت إلى مصرع عثمان بن عفان... يضاف إلى هذا أن المسلمين انتقلوا بعد الفتح من محيط الصحراء الضيق إلى محيط واسع فيه كثير من ضروب اللهو و الترف و أسباب الفساد» (5) .

و يرتبط بهذا القول، القول بمسئولية الانسان عن الفعل و قدرته عليه في مواجهة مبدأ «الجبر» الذي رفعه الحزب الأموي، و هو مبدأ أخذه واصل عن أستاذه الحسن الذي أخذه بدوره عن معبد الجهني. و من المحتمل أن يكون واصل قد

ص: 39


1- 95. الأشعري: مقالات الاسلاميين 154/1.
2- 96. المرتضى: الأمالي 169/1.
3- 97. انظر محمود اسماعيل: الحركات السرية في الاسلام/140،133.
4- 98. محمد عمارة: رسائل العدل و التوحيد. المقدمة/67.
5- 99. المعتزلة/64.

أخذه مباشرة عن غيلان الدمشقي، ذلك أن الحسن بن محمد ابن الحنفية هو «أستاذ غيلان و يميل إلى الإرجاء، و لهذا قالت به الغيلانية من المعتزلة، (1) و يؤكّد هذه العلاقة بين غيلان و المعتزلة احتفاؤهم به في كتبهم و وضعهم إياه في الطبقة الرابعة منهم. و القارئ لقصة اعتراضه على استغلال بني أمية لفقراء المسلمين و اعتراضه على ثرائهم الفاحش، ثم قتلهم إياه على هذا الموقف. القارئ لذلك في كتابات المعتزلة يدرك مكانته عندهم حتى أنهم حوّلوا عملية صلبه في عهد هشام بن عبد الملك إلى مظاهرة سياسية تجعله - في كتبهم - بطلا يبكيه الناس، و تحفّ به أرواح الشهداء (2)

و تؤدّي هذه الأفكار بالضرورة إلى تأكيد فكرة الثواب و العقاب، فمسئولية الانسان عن فعله و قدرته عليه، تجعل مرتكب الكبيرة مسئولا عن كبيرته و محاسبا عليها، إذ لا يمكن أن يتساوى المطيع و العاصي و إلاّ أدّى ذلك إلى نفي صفة العدل عن اللّه. و لتأكيد هذه الصفة كان لا بدّ من القول بأن اللّه لا بدّ أن يحقق وعده للمؤمن و وعيده للكافر. و في هذا المبدأ «الوعد و الوعيد» يتفق المعتزلة مع الخوارج بكل اتجاهاتهم ما عدا مرجئتهم، و يختلفون مع المرجئة بكل اتجاهاتهم.

أمّا المبدأ الرابع - الذي يرتبط بالعدل - فهو «الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر» و هو مبدأ لا يختلف عليه أحد من المسلمين، شيعة أو خوارج أو مرجئة.

و يتركّز الخلاف حول كيفية تحقيق هذا الهدف. فالخوارج رأت ضرورة الخروج و العرض على السيف لمخالفيهم. و رأى زيد بن علي - متأثرا بواصل - أن القدرة على الخروج شرط للإمامة، و بذلك قرن بين فكر الشيعة و فكر الخوارج. و من المؤكد أن واصلا له أثره في هذا الربط و التقريب بين المذاهب كما سبقت الاشارة.

و إذن فقد ضمّ مبدأ «العدل» في اهابه كل أفكار المعتزلة، و هي أفكار يغلب عليها - إذا استثنينا القول بالمنزلة بين المنزلتين - الطابع الانتقائي الذي يؤكّد ما سبق أن افترضناه من أن واصلا كان يسعى لتوحيد الفرق المختلفة لا الخروج عليها. و لا يخرج عن هذا التفسير قول واصل بالتوحيد و نفي مشابهة اللّه للبشر.

و إذا كانت الاتجاهات التجسيدية و التشبيهية قد تركّزت في فرق الشيعة الغالية التي ترتدّ إلى الأثر اليهودي الذي أدخله عبد اللّه بن سبأ لتأكيد إمامة علي، فإن مبدأ «التوحيد» و نفي مشابهة اللّه للبشر يعدّ - في هذا الإطار - محاولة لتأكيد المفهوم القرآني عن اللّه، و هو مفهوم يؤكد الهوّة الواسعة بين اللّه و الانسان، و إن استخدم تعبيرات و صفات لها طابعها الانساني بحكم طبيعة اللغة الانسانية. و لقد كان من الطبيعي أن يذهب القائلون بالقدر إلى نفي مشابهة اللّه للبشر، على أساس أن

ص: 40


1- 100. القاضي عبد الجبار: فرق و طبقات المعتزلة/38،32.
2- 101. انظر المرجع السابق/38-41.

النموذج البشري المستقرّ على قمة الهرم الاجتماعي، و المتمثل في الخليفة الاموي كان عنوانا للظلم و الشر. و كان القول بعدل اللّه و رحمته يعني بالضرورة الفصل بين صفاته و بين صفات البشر. و قد سبقت الاشارة إلى تأثر معبد الجهني و غيلان الدمشقي بالاتجاهات اللاهوتية المسيحية، كما سبقت الاشارة إلى نفور جيل الصحابة الأواخر من قولهم بالقدر لما يوهمه من الانتقاص من قدرة اللّه الشاملة.

و إذا كان الحسن البصري قد استطاع أن يعدّل صياغة مبدأ القدر لكي يجعله مناسبا لروح التسليم المطلق بقدرة اللّه و إرادته الشاملة، فمن الطبيعي أن يفتح هذا التعديل الباب لتأثرات أخرى مما كان شائعا في دمشق من أقوال يحيى الدمشقي في المسائل الدينية التي كان يعالجها عن صفات اللّه في الكتاب المقدس و ضرورة تأويلها بما يتفق مع التوحيد السليم الذي ينفي مشابهة اللّه للبشر (1)

و لقد استعرضنا فيما سبق قول جهم بن صفوان في صفات اللّه، و حاولنا تفسير جمعه بين القول بنفي الصفات و بين القول بالجبر. و من المؤكد أن واصل ابن عطاء قد عرف أفكار جهم و تأثر بها، بل تنسب كتب المعتزلة لواصل أنه علّم جهما كيف يردّ على السمنية و يدلل على وجود اللّه. (2) و لكنها من جانب آخر تجعل من واصل خصما لجهم يرسل إليه حفص بن سالم يناظره و يقطعه في ترمذ، حتى «رجع إلى قول الحق، فلمّا عاد حفص إلى البصرة رجع جهم إلى قول الباطل» (3) و الروايتان ليستا متعارضتين على أي حال، فواصل يتفق مع جهم في مبدأ التوحيد و نفي مشابهة اللّه للبشر، و يختلفان حول «القدر»، فجهم جبري ينفي قدرة الانسان ليثبت تفرّد اللّه بصفة «القدرة» وحده كما سبقت الاشارة، بينما واصل قدري على مذهب الحسن و معبد و غيلان. و معنى ذلك أن المناظرة التي دارت بين حفص و جهم كانت حول القدر. و من المؤسف أن المصادر لا تدلنا كيف استطاع واصل أن يحلّ المأزق الذي لم يستطع جهم أن يحلّه و الذي أوقعه في مقولة «الجبر». و من المحتمل أن واصلا لم يواجه هذا المأزق أصلا لأن الحسن أثبت قدرة العبد على المعصية حين قال «كل شيء بقضاء و قدر إلاّ المعاصي»، و هو القول الذي خفف به من قول معبد و غيلان حتى صار مقبولا في الأوساط المؤمنة.

غير أن البعد السياسي الواضح لنشأة الاعتزال يمكن أن يفسّر لنا ما يرويه الشهرستاني من أن «القول بنفي صفات الباري تعالى، من العلم و القدرة، و الإرادة و الحياة. و كانت هذه المقالة في بدئها غير نضيجة. و كان واصل بن عطاء يشرع فيها على قول ظاهر، و هو الاتفاق على استحالة وجود إلهين قديمين أزليين. قال و من أثبت معنى صفة قديمة فقد أثبت إلهين» (4) و معنى ذلك أن قضية «التوحيد» و نفي

ص: 41


1- 102. انظر زهدي جار اللّه: المعتزلة/26 و ما بعدها.
2- 103. انظر القاضي عبد الجبار: فرق و طبقات المعتزلة/46-47.
3- 104. المرجع السابق/44.
4- 105. الملل و النحل 46/1، و انظر أيضا محمد عبد الهادي أبو ريده: إبراهيم بن سيّار النظّام و آراؤه الكلامية/80. 1. راجع في هذا الصدد ما يرويه صاحب «فرق و طبقات المعتزلة» من فشل الفقهاء في التصدي لمجادلة أصحاب الأديان الأخرى، و اضطرار الرشيد للاستعانة في ذلك بالمتكلمين/63 - 65. 2. المرجع السابق/55-56، و انظر البغدادي: الفرق بين الفرق/131. 3. انظر بحث جولد تسيهر عن هذا الحديث: العناصر الأفلاطونية المحدثة و الغنوصية في الحديث/218 و ما بعدها. التراث اليوناني في الحضارة الاسلامية. 4. عبد المنعم ماجد: العصر العباسي الأول 67/1 و انظر أيضا أوليري: الفكر العربي و مركزه في التاريخ/60-61. 5. محمود اسماعيل: الحركات السرية في الاسلام/135. 6. الأشعري: مقالات الاسلاميين 214/1. 7. المرجع السابق 217/1. 8. علي مصطفى الغرابي: أبو الهذيل العلاف/90 نقلا عن المقالات. 9. البغدادي: الفرق بين الفرق/129. 10. ماجد فخري: دراسات في الفكر العربي/78. 11. الخياط: الانتصار/28. 12. البغدادي: الفرق بين الفرق/138. 13. القاضي عبد الجبار: المغني في أبواب التوحيد و العدل 11/9. 14. السابق 12/9. 15. الجاحظ: الحيوان 36/5. 16. البغدادي: أصول الدين/6. 17. الخياط: الانتصار/40-41. 18. الحيوان 542/5-543. 19. الحيوان 56/7. 20. السابق 42/1. 21. السابق 116/2. 22. الشهرستاني: الملل و النحل 75/1. و أنظر أيضا البغدادي: الفرق بين الفرق/175. 23. المغني في أبواب التوحيد و العدل 11/9. 24. البغدادي: الفرق بين الفرق/175-176. 25. انظر حسين القوتلي: مقدمة «العقل»، «فهم القرآن»/107 نقلا عن ابن الأثير و الخطيب البغدادي. 26. البغدادي: أصول الدين/308. 27. أبو الحسن الأشعري: مقالات الاسلاميين 346/1. 28. الباقلاني: الانصاف/127. 29. الحارث المحاسبي: العقل/203. 30. المرجع السابق/205. 31. المرجع السابق/201-202. 32. المرجع السابق/232. 33. العقل/215. 34. السابق/216. 35. السابق/207. 36. محمد عبد الهادي أبو ريده: مقدمة كتاب «التمهيد» للباقلاني/14. 37. الشهرستاني: الملل و النحل 97/1. 38. المرجع السابق 98/1. 39. التمهيد/34 و انظر الانصاف/12. 40. المرجع السابق/35، الانصاف/13. 41. المرجع السابق/35، الانصاف/13. 42. المرجع السابق/نفس الصفحة، الانصاف/نفس الصفحة. 43. الانصاف/13. 44. التمهيد/37. 45. السابق/نفس الصفحة. 46. السابق/نفس الصفحة. 47. السابق/36. 48. الانصاف/13. 49. الانصاف/14 و في التمهيد/40 هو تقسيم المستدل و فكره في المستدل عليه و تأمله له. 50. الانصاف/14. 51. التمهيد/38-39. 52. التمهيد/39. 53. التمهيد/39. 54. الانصاف/18. 55. انظر عبد الرحمن بدوي: في النفس. المقدمة/2. 56. مفاتيح العلوم/81. 57. الشريف الجرجاني: التعريفات/81. 58. الشريف الجرجاني: التعريفات/81. 59. الشريف الجرجاني: التعريفات/81. 60. الشهرستاني: الملل و النحل 82/1. 61. الشهرستاني: الملل و النحل 49/1. 62. الشهرستاني: الملل و النحل 95/1. 63. الملل و النحل 85/1. 64. المغني في أبواب التوحيد و العدل 354/16. 65. الملل و النحل 81/1. 66. القاضي عبد الجبار: المغني 403/16. 67. القاضي عبد الجبار: المغني 174/4-175. 68. انظر القاضي عبد الجبار: المغني 93/11 و ما بعدها. 69. القاضي عبد الجبار: المغني 371/11-372. 70. المغني 372/11. 71. المغني 375/11. 72. المغني 380/11. 73. المغني 380/11. 74. المغني 229/13-230. 75. المغني 47/12. 76. المغني 48/12. 77. المغني 48/12. 78. المغني 326/4. 79. المغني 16/12. 80. المغني 13/12. 81. المغني 58/12. 82. الحيوان 207/1. 83. المغني في أبواب التوحيد و العدل 383/11. 84. المغني في أبواب التوحيد و العدل 384/11. 85. البغدادي: أصول الدين/24. 86. المغني في أبواب التوحيد و العدل 375/11. 87. المغني في أبواب التوحيد و العدل 483/11-484. 88. المغني في أبواب التوحيد و العدل 387/12. 89. المغني في أبواب التوحيد و العدل 11/12. 90. المغني في أبواب التوحيد و العدل 12/12. 91. الحيوان 35/6-36. 92. المغني 401/12. 93. المغني 402/12-403. 94. المغني 44/12. 95. المغني 431/12-432 و انظر أيضا ص 433 صياغة أخرى للخاطر. 96. القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة/68، و انظر المغني 210/11. 97. القاضي عبد الجبار: المغني 11/12. 98. المغني 349/16 و انظر أيضا نفس المصدر 152/15. 99. انظر القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة/65-66 و أنظر أيضا ماجد فخري: دراسات في الفكر العربي/96. 100. القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة/66. 101. القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة/66. 102. القاضي عبد الجبار: المغني 215/8. 103. انظر زهدي جار اللّه: المعتزلة/72 و ما بعدها. 104. الأشعري: المقالات 245/1. 105. المغني في أبواب التوحيد و العدل 136/7.

مشابهة اللّه للبشر لم تكن قضية ملحة، على عكس قضية العدل - بكل تفريعاتها - التي ارتبطت بظروف الخلافات السياسية، و من ثمّ ارتبطت باهداف اجتماعية و عملية. و علينا أن نلاحظ أن نفي إلهين قديمين فكرة قرآنية أصلا لا تحتاج لتأصيل فلسفي، إلى جانب أنها تتضمن ردّا على فكر الشيعة الغالية في تأليه علي و رجعته، و هي فكرة أدّت إلى السلبية الكاملة لهذا القطاع من الشيعة، حيث أنهم رفضوا الخروج إلاّ مع إمامهم المهدي المنتظر الذي اختلفوا في تحديده و تعيينه. و كان من آثار فكرة المهدي الذي يحمل جانبا إلهيا - الغرق في الفكر الغنوصي الإشراقي الذي يتناقض بطبيعته مع الفعّالية الانسانية التي سعى المعتزلة لتأكيدها و الدفاع عنها.

ص: 42

الفصل الأول: المعرفة و الدلالة اللغوية

اشارة

ص: 43

ص: 44

إذا كان الفكر الاعتزالي في بواكيره الأولى قد نشأ - كما أسلفنا - استجابة لظروف اجتماعية و سياسية اصطبغت بالصبغة الدينية، فإنه في تطوره و حركته التاريخية قد اصطدم بثقافات دينية أخرى لا تسلّم بداهة بما جاء به القرآن من أدلة على العدل و التوحيد و غيرها من القضايا التي جاهد المعتزلة في سبيل تأصيلها. و إذا كانت أقوال واصل في «التوحيد» لم تكن «نضيجة» كما قال الشهرستاني، فإن الجدل مع الفرق الأخرى و أهل الأديان المخالفة بما تصطبغ به من فلسفات مختلفة كان كفيلا بانضاجها. (1) و لقد كان على المعتزلة أن ينظموا وسائلهم الاستدلالية لمواجهة هذه التيارات و الرد عليها بشكل مقنع. و إذا كانت هذه الأديان و العقائد تسندها فلسفات لها قدر من العمق و الشمول النظري، فقد كان من الضروري للمعتزلة ان يتخلّوا عن أدلتهم الدينية المستمدة من الكتاب و السنة - و هي أدلة لا تقنع الخصم - إلى أدلة جديدة لا يجد الخصم بدا من التسليم بها. و بعبارة أخرى كان على المعتزلة أن يميزوا بين أدلّة العقل و أدلّة الشرع، أو ما عرف بعد ذلك في علم الكلام بالعقل و النقل.

و ينسب المؤرخون إلى أبي الهذيل العلاف (ت 235 ه) و تلميذه إبراهيم ابن سيار النظّام (ت 230 ه) الاطلاع على كتب الفلاسفة و التأثر بها (2) و يعدانهما بداية التحول من المنهج الديني الخالص إلى الطريقة الجدلية التي يهمها الانتصار على الخصم عن طريق ايراد مقدمات شائعة مشهورة لا يستطيع الخصم المنازعة في صحتها. و كما نفر رجال الحديث و الفقهاء من القول «بالقدر» و نفي الصفات عن اللّه، فقد نفروا كذلك من طريقة المتكلمين في تثبيت العقيدة و الدفاع عنها، حتى أصبح الصاق صفة الكلام بالمحدّث كافيا لاطراح مروياته و التشكك في صدقها.

غير أن البحث في الأدلّة العقلية، و الإعلاء من شأن العقل عند المعتزلة لم

ص: 45


1- 1. انظر على سبيل المثال نللينو: بحوث في المعتزلة، في (التراث اليوناني في الحضارة الاسلامية) ص 203،202. أوليري: الفكر العربي و مركزه في التاريخ ص 67، دي بور: تاريخ الفلسفة في الاسلام/48-49 زهدي جار اللّه: المعتزلة ص 75،36،2
2- 2. انظر: محمد عمارة: المعتزلة و مشكلة الحرية الانسانية/17-24.

يكن أثرا من آثار الفكر الأجنبي فحسب، ذلك أن القول بقدرة الانسان على الفعل و الاختيار و مسئوليته عن هذا الفعل يتضمن بالضرورة اعترافا بوجود قوة مميّزة لدى الانسان تدفعه للاختيار بين الممكنات المختلفة، و من ثم تحدد مسئوليته عن اختياره. و القرآن الكريم نفسه قد أعلى من شأن العقل و جعله مناط المسئولية الانسانية، و ذمّ أولئك الذين لا يعقلون و لا يفقهون. و لقد احتفت الأوساط الدينية الاسلامية منذ أوائل القرن الثاني الهجري و أواخر القرن الأول بحديث يعلي من شأن العقل و يجعله أول المخلوقات و أكرمها على اللّه «أول ما خلق اللّه العقل. فقال له: أقبل، فأقبل. ثم قال له: أدبر، فأدبر. ثم قال اللّه عزّ و جلّ: و عزّتي و جلالي ما خلقت خلقا أكرم عليّ منك، بك آخذ، و بك أعطي، و بك أثيب و بك أعاقب». و بصرف النظر عن المعاني التي حملها هذا الحديث بعد ذلك (1) فإن الذي يهمنا من الاستشهاد به هو بيان مدى احتفاء كافة الفرق و الإتجاهات الاسلامية بالعقل و إن اختلفت في تحديد مدى نشاطه و ميادينه.

و ثم عامل هام له أثره في تمجيد المعتزلة لشأن العقل، و اعتبار المعرفة هي أساس التمايز بين البشر بدلا من عوامل العرق و النسب و الوراثة. و نعني بذلك العامل تلك العصبية البغيضة التي بدأت بوادرها في أواخر العصر الأموي - مقارنة لنشأة الاعتزال تقريبا - و التي وصلت أقصى درجات تطرفها في العصر العباسي «فقد كانت القومية الفارسية تعتبر نفسها ندّا للقومية العربية منذ آخر عهد الأمويين، مما مهّد لنصرها بقيام الخلافة العباسية على أكتافها» (2) و بالتالي ازدادت المشكلة حدة، خصوصا في عهد المأمون الذي أعطى للعنصر الفارسي سيادة مطلقة في شئون الحكم و الدولة. و إذا كان الفرس يفخرون على العرب بحضارتهم و فلسفتهم و تراثهم الفكري، و يتهمونهم بأنهم شعب بدوي لا تسنده حضارة أو فلسفة، و من ناحية أخرى إذا كان العرب يفخرون على الفرس بأنهم أشرف الأمم لأن التنزيل إليهم نزل، و منهم النبي... الخ، كل ذلك مما نجده مبثوثا في كتب الجاحظ و رسائله. إذا كان الأمر كذلك، فقد كان من الطبيعي أن يحاول المعتزلة أن يقفوا من هذا الصراع موقفا يتسم بالتعقل. و يعدّ الاعلاء من شأن العقل و المعرفة محاولة لرفع التفاخر بالأنساب و العصبيات و الأجناس، ورد قيمة الانسان - اجتماعيا و دينيا - إلى قيمة يتساوى الناس في ملكيتهم لها، و إن اختلفوا تبعا لمدى استخدامهم لها. و لا يجب - في هذا الصدد - أن ننسى أن كبار رجال المعتزلة و رؤساءهم كانوا من الموالي «فواصل بن عطاء و عمرو بن عبيد مؤسسا المذهب و المعروفان بالتقوى و الصلاح كانا من الموالي، و أبو الهذيل العلاف شيخ معتزلة البصرة من موالي عبد القيس، و إبراهيم بن سيّار النظّام - أستاذ الجاحظ - بصري

ص: 46


1- 3. الخياط: الانتصار 13-14
2- 4. القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة/123

من موالي آل زياد، و ثمامة بن أشرس من شيوخ معتزلة البصرة من موالي بني نمير، و الجاحظ العالم المعتزلي الأشهر ذو الثقافة الموسوعية كان من موالي البصرة كذلك» (1)

1 - المعرفة و الايمان و القدرة

و لقد ارتبطت قضية المعرفة - و هي أساس البحث في العقل - منذ نشأة الفرق الكلامية - بقضية الايمان، و ذلك على يد المرجئة. و انقسم المرجئة - كما سبقت الاشارة - إلى جبرية على رأسهم جهم بن صفوان (ت 128 ه) و إلى قدرية و على رأسهم غيلان الدمشقي (ت 99 ه). و إذا كانوا جميعا قد اتفقوا على تحديد الايمان بأنه معرفة اللّه «و زعموا أن الكفر باللّه هو الجهل به» (2) كما يحكى عن جهم، فمن الطبيعي أن يختلفوا حول قدرة الانسان على المعرفة بناء على اختلافهم في الجبر و الاختيار. و إذا كان جهم قد ذهب إلى انكار أي قدرة للانسان على الفعل و ذلك حتى تثبت القدرة للّه وحده سعيا منه إلى اقامة مبدأ التوحيد و نفي مشابهة اللّه للبشر، فإن غيلان الدمشقي متسقا مع مبدئه في القدر ذهب إلى «ان الايمان باللّه هو المعرفة الثانية» (3) و من حقنا أن نستنتج أن المعرفة الثانية هي المعرفة الناتجة عن النظر، و ذلك للتفرقة بينها و بين المعرفة الأولى التي يجدها الانسان في نفسه دون نظر أو استدلال، و هو ما يطلق عليه في اصطلاح المتكلمين التالين المعرفة الضرورية.

و معنى ذلك أن معرفة اللّه - عند غيلان - تعدّ نتيجة لفعل انساني هو النظر، و هو فعل يقع تحت مقدور الانسان و بحسب ارادته. و يمكننا - بناء على ذلك - أن نلمح في هذه المرحلة الباكرة ارتباط قضية المعرفة - بالايمان من جانب، و ارتباطها بالقدرة الانسانية و حرية الاختيار من جانب آخر.

و ظلّ هذا الارتباط بين المعرفة و القدرة و الايمان قائما عند أبي الهذيل، حتى اشترط لقدرة الانسان على الشيء «أن يكون عارفا لكيفيته و ما لا يعرف كيفيته لا يقدر عليه فهو يقول: جائز أن يقدر اللّه عباده على الحركات و السكون و الأصوات و الآلام و سائر ما يعرفون كيفيته فأمّا الأعراض التي لا يعرفون كيفيتها كالألوان و الطعوم و الأراييح و الحياة و الموت و العجز و القدرة فليس يجوز أن يوصف الباري بالقدرة على أن يقدرهم على شيء من ذلك» (4) .و هذه التفرقة بين ما يقدر الانسان عليه و ما لا يقدر ترتدّ إلى المعرفة الانسانية. و قدرة الانسان نفسها هي قدرة من فعل اللّه القادر على كل شيء. و واضح أن أبا الهذيل - هنا - كان يفرّق بين قدرة اللّه و قدرة الانسان، و يبدو أنه كان يحاول رفع التناقض الذي ظلّ قائما بين القول بقدرة

ص: 47


1- 5. مقالات الاسلاميين 47/1-49
2- 6. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 357/1
3- 7. المرجع السابق 357/1-358
4- 8. انظر المرجع السابق 354/1 و ما بعدها، طه حسين: الفتنة الكبرى 180/1-185.

الانسان على الفعل، و بين الايمان بقدرة اللّه الشاملة و إرادته النافذة، ذلك الايمان الذي يعدّ أساس التوحيد المطلق عند أتقياء المسلمين. و لكن أبا الهذيل يظلّ - رغم ذلك - معترفا بأن المعرفة فعل انساني، و أن القدرة - التي يمنحها اللّه للانسان - تتعلّق بهذه المعرفة. و من شأن هذا التصور أن يؤدي - من جديد - إلى ما حاول أبو الهذيل الهرب منه، بمعنى أنه يؤدي إلى ربط القدرة الإلهية الممنوحة للعبد بفعل من أفعال العبد هو المعرفة. و للخروج من هذا المأزق يضطر أبو الهذيل إلى القول بأن «المعارف ضربان: أحدهما باضطرار و هو معرفة اللّه عزّ و جل، و معرفة الدليل الداعي إلى معرفته، و ما بعدهما من العلوم الواقعة عن الحواس أو القياس فهو علم اختيار و اكتساب» (1) و هو بذلك يقف موقفا وسطا بين جبرية جهم في المعرفة، و اختيارية غيلان الدمشقي. و لكن جبريته في معرفة اللّه عن طريق اعتبارها معرفة ضرورية يعدّ أمرا غريبا، و لكنه من جانب آخر يكشف عن ذلك التصادم بين أهم مبدأين من مبادئ المعتزلة، و هما «العدل» و «التوحيد»«فبينا كان من شأن اثبات الوحدانية الإلهية أن يفضي آخر الأمر إلى الإقرار بسلطة اللّه المطلقة على الكون، كان فحوى قولهم أن الانسان خالق أفعاله هو الحدّ من هذه السلطة» (2) .

و تزداد هذه المشكلة حدة عند كل من النظّام (ت 230 ه) و الجاحظ (ت 255 ه)، فقد أراد النظّام أن ينفي عن اللّه القدرة على الظلم و الكذب و سائر القبائح، و غالى في ذلك حتى أخضع الفعل الإلهي لقانون أخلاقي صارم جعله يقترب من أن يكون سبحانه مجبورا في أفعاله غير مخيّر. و الغاية التي كان يسعى لها النظّام من اخضاع الفعل الإلهي للقانون الأخلاقي هي نفي مشابهته للبشر الذين يقع منهم الظلم، ذلك «أن الظلم و الكذب لا يقعان إلاّ من جسم ذي آفة... فالواصف للّه بالقدرة عليهما قد وصفه بأنه جسم ذو آفة، لأن القادر على شيء غير محال وقوعه منه فلو وقعا منه لدلّ وقوعهما منه على أنه جسم ذو آفة» (3) .غير أن نفي قدرة اللّه على فعل من الأفعال كان من شأنه أن يخلّ بمبدإ التوحيد الذي يسعى النظّام لتأكيده، و لذلك كان على النظّام أن يؤكّد خيرية اللّه المطلقة في مواجهة الانسان الذي يتأتى منه الخير و الشر. و ليس من المستبعد - في هذه الحالة - أن يكون النظّام قد تأثر في أفكاره تلك بالأفكار المانوية التي قام بجهد كبير في مجادلة معتنقيها و محاولة نفي قولهم بالاثنينية التي تفسّر وجود الشر و الخير في العالم تفسيرا يسلّم بصدورهما عن قوتين متعارضتين.

و كان من الطبيعي أن يخضع تأثر النظّام بهذه الأفكار لاتجاهات الفكر الديني الاعتزالي، و أن يوظّف لخدمة مقولاته الأساسية و هي العدل و التوحيد. و ما دام قد

ص: 48


1- 9. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 357/1-358
2- 10. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 360/1 نقلا عن الطبري.
3- 11. راجع فلهوزن: تاريخ الدولة العربية 51-52

ذهب إلى توحيد الفعل الإلهي الذي لا يمكن إلاّ أن يتصف بصفة الخيرية المطلقة، فقد كان من الطبيعي أن يوحّد الفعل الحيواني، فذهب إلى أن «أفعال الحيوان كلها من جنس واحد و هي كلها حركة و سكون، و السكون عنده حركة اعتماد، و العلوم و الإرادات عنده من جملة الحركات، و هي الأعراض، و الأعراض كلها عنده جنس واحد، و هي كلها حركات» (1) .فالفعل الانساني - متضمنا العلوم و الإرادات - جنس واحد يرجع كله إلى الحركة و السكون. و السكون عند النظّام هو حركة الاعتماد، فهو نوع من الحركة أيضا. و إذا كانت الأعراض عند النظّام كلها حركات، فإن الانسان لا يقدر بذلك إلاّ على الأعراض، و ذلك على عكس اللّه الذي يقدر على الأعراض و الجواهر معا، و بذلك تتميز قدرة اللّه على قدرة الانسان و تعلو عليها.

غير أن الفعل الانساني - الحركة - ينقسم إلى فعل مباشر، و هو ما يفعله الانسان في نفسه، و فعل متولّد، و هو ما يتجاوز نطاق ذاته و ذلك كأن يلقي الانسان بحجر في ماء راكد، فيتحرك الماء بحركة الحجر. فحركة الحجر تعدّ فعلا مباشرا للانسان، أمّا حركة الماء فهي فعل متولد عن حركة الحجر. و لقد كان النقاش حول الفعل المتولّد و مدى مسئولية الانسان عنه امتدادا للبحث في مسئولية الانسان عن فعله نتيجة لتأكيد المعتزلة على قدرة الانسان على الفعل.

و لقد كان رأي أبو الهذيل العلاف - كما أشرنا - أن ما يعرف الانسان كيفيته من الأفعال هو ما يقدر عليه، و يعدّ - بالتالي - مسئولا عنه. سواء كان فعلا مباشرا أو متولّدا. أمّا النظّام فقد ذهب إلى أن الفعل المتولّد ليس فعلا للانسان على الحقيقة، و إنما هو «فعل اللّه جل و عز بايجاب الخلقة، بمعنى أنه تعالى طبع الحجر طبعا و خلقه خلقا إذا دفعته ذهب» (2) و ليست فكرة الطبع هذه عند النظّام إلاّ محاولة لتأكيد القدرة الإلهية الشاملة التي قد يقلل منها اخضاع الفعل الإلهي للقانون الأخلاقي. و لكن القدرة الإلهية هنا تعبّر عن نفسها من خلال قوانين طبيعية من صنعها و غير مفروضة عليها من الخارج. و يصبح الانسان نفسه - بكل قدرته على الفعل - جزءا من هذا القانون، و بذلك ينتفي التعارض و يزول اعتراض المعترضين.

و الإدراك - أول مراتب المعرفة - يتولّد عن حركة الحواس، فإدراك المرئيات يتولّد عن فتح العين و توجهها تجاه المرئي. و هو بهذا الفهم يعدّ جزءا من الأفعال المتولّدة التي تقع عن الطبع الذي خلقه اللّه «و كان أبو اسحاق النظّام يقول في الإدراك خاصة أن اللّه سبحانه يفعله بايجاب خلقه و بحواس» (3) و على ذلك

ص: 49


1- 12. أحمد أمين: فجر الاسلام 333/1 و ما بعدها.
2- 13. ابن قتيبة: تأويل مختلف الحديث 3-4
3- 14. المرجع السابق 193

يمنع النظّام أن يقول قائل «إنما رأيتك لأني التفت. و هو إنما رآه لطبع في البصر الدرّاك» (1) الذي يتولّد عنه الرؤية أو الإدراك. و إذا كان الإدراك يعدّ فعلا للّه لأنه فعل متولّد، فإن المعرفة بأكملها - و هي متولّدة عن النظر - فعل اللّه أيضا بايجاب حركة القلب، و ذلك تأسيسا على تعريف النظّام للعلم بأنه «حركة من حركات القلب» (2) .و لقد بلغ من سيطرة فكرة الطبع على ذهن النظّام أن جعلها مدخله لإثبات وجود اللّه، و ذلك على أساس أن اجتماع الضدين دليل على أن ثمّ من قهرهما على غير طبعهما «وجدت الحر مضادا للبرد و وجدت الضدين لا يجتمعان في موضع واحد من ذات أنفسهما، فعلمت بوجودهما مجتمعين أن لهما جامعا جمعهما و قاهرا قهرهما على خلاف شأنهما. و ما جرى عليه القهر و المنع فضعيف، و ضعفه و نفوذ تدبير قاهرة فيه دليل على حدوثه و على أن له محدثا أحدثه و مخترعا اخترعه لا يشبهه، لأن حكم ما أشبهه حكمه في دلالته على الحدث، و هو اللّه رب العالمين» (3) و هذا كله يؤكّد ارتباط قضية المعرفة و البحث فيها بقضايا العدل و التوحيد أساس الفكر الاعتزالي.

لا يختلف الجاحظ عن أستاذه كثيرا في منحاه الفكري العام، و في موقفه من قضية المعرفة و القدرة و الطبع أيضا. يتميّز الانسان - عند الجاحظ - عن غيره من الكائنات الحيوانية بقدرته و استطاعته على الفعل و الاختيار. و يترتب على القدرة و الاستطاعة وجود العقل «إن الفرق الذي بين الانسان و البهيمة، و الانسان و السبع و الحشرة، و الذي صيّر الانسان الى استحقاق قول اللّه عز و جل: وَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ليس هو الصورة، و أنه خلق من نطفة و أن أباه خلق من تراب، و لا أنه يمشي على رجليه، و يتناول حوائجه بيديه، لأن هذه الخصال كلها مجموعة في البله و المجانين، و الأطفال و المنقوصين. و الفرق إنما هو الاستطاعة و التمكين. و في وجود الاستطاعة وجود العقل و المعرفة. و ليس يوجب وجودهما وجود الاستطاعة» (4) .فالعقل تابع من توابع الاستطاعة، و المعرفة نتيجة لها، بمعنى أن انعدام القدرة و الاستطاعة يلغي فاعلية العقل و يهدم أساس المعرفة، و على ذلك تعدّ الاستطاعة أساسا لوجود العقل الذي يترتب على وجوده وجود المعرفة.

غير أن الجاحظ يربط المعرفة و العقل بالحاجة الانسانية و ضروراتها، فهو يحكي على لسان أحد الحكماء «و قيل لأحد الحكماء: متى عقلت؟ قال: ساعة ولدت. فلما رأى انكارهم لكلامه قال: أمّا أنا فقد بكيت حين خفت، و طلبت الأكل حين جعت، و طلبت الثدي حين احتجت، و سكت حين أعطيت. يقول هذه مقادير حاجاتي، و من عرف مقادير حاجاته إذا منعها و إذا أعطيها، فلا حاجة

ص: 50


1- 15. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 278/1-279، و انظر جولد تسيهر: العقيدة و الشريعة في الاسلام/70-71.
2- 16. الأشعري «مقالات الاسلاميين»204/1.
3- 17. جولد تسيهر: العقيدة و الشريعة في الاسلام/172.
4- 18. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 388/1.

به في ذلك الوقت إلى أكثر من ذلك العقل» (1) .و معنى ذلك أن حاجات الطفل الحيوية الطبيعية هي التي تحدد له معارفه، التي أطلق عليها الجاحظ اسم العقل، و هو الإحساس بما يريد و يحتاج.

ينتقل الجاحظ بعد ذلك من حالة الطفل، أو الانسان منفردا، إلى الجماعة فيرى «أن حاجة بعض الناس إلى بعض، صفة لازمة في طبائعهم و خلقة قائمة في جواهرهم، و ثابتة لا تزايلهم، و محيطة بجماعتهم، و مشتملة على أدناهم و أقصاهم» (2) .و إذا كان الطفل لا يحتاج من العقل - أو المعرفة - إلاّ بمقدار حاجاته الحيوية، فإن الجماعة البشرية - و الاجتماع في طبائع الناس - لها بالضرورة احتياجاتها الجديدة، التي تتطلّب وسائل جديدة تعين الانسان على المعرفة و إدراك عالميه الطبيعي و الانساني معا، ثم بعد ذلك معرفة عالم الغيب و معرفة اللّه الذي سخّر له كل ما في العالم من جماد و نبات و حيوان، ليستعين به في حياته أولا، و ليستدلّ به ثانيا. و بذلك كله تصبح المعرفة بمعناها العام - ضرورة للاجتماع البشري. و تترقى المعرفة - تبعا لذلك - من التمييز بين الضار و النافع - و هذه هي المرحلة الدنيا للوجود الانساني - حتى تصل إلى المعرفة التي تؤدّي إلى السعادة، و بذلك يترقى الانسان «من معرفة الحواس إلى معرفة العقول. و من معرفة الروية من غاية إلى غاية، حتى لا يرضى من العلم و العمل إلاّ بما أدّاه إلى الثواب الدائم، و نجّاه من العقاب الدائم» (3) .

بهذا الربط بين المعرفة و الحاجة الانسانية، كان من الطبيعي أن يعتبر الجاحظ المعرفة ضرورة من ضرورات الوجود البشري. و لمّا كانت فكرة الصلاح و الأصلح - و هي الفكرة التي وضع النظّام أساسها الفلسفي - تقتضي أن يفعل اللّه ما فيه خير البشر و نفعهم و صلاحهم، كان من الطبيعي القول بأن المعرفة فعل للّه. غير أن اسناد المعرفة للّه من شأنه أن يخلّ بمبدإ القدرة الانسانية التي اعتبرها الجاحظ أساس وجود العقل و المعرفة، و لذلك يحلّ الجاحظ هذا التعارض باللجوء لفكرة «الطبائع» التي لجأ إليها استاذه، و من ثمّ يذهب إلى أن «المعارف كلها ضرورية طباع، و ليس شيء من ذلك من أفعال العباد. و ليس للعبد كسب سوى الإرادة، و تحصل أفعاله منه طباعا» (4) و يؤكّد القاضي عبد الجبار ما يرويه البغدادي و الشهرستاني عن الجاحظ و غيره من المعتزلة من اعتبار كل أفعال الانسان من فعل اللّه و إن وقع من الانسان بطبعه باستثناء الإرادة التي يعدونها هي الفعل الانساني الذي تترتّب عليه مسئولية الانسان عن فعله، و من ثمّ استحقاقه للثواب و العقاب. يقول «و منهم من قال إن الانسان إنما يفعل الإرادة فقط دون ما عداه، و هو قول ثمامة و الجاحظ،

ص: 51


1- 19. الأشعري: مقالات الاسلاميين 225/1.
2- 20. المرجع السابق 225/1-234.
3- 21. انظر جولد تسيهر: العقيدة و الشريعة في الاسلام/77-78.
4- 22. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 389/1.

و اختلفوا فيما سوى الإرادة، فقال أبو عثمان الجاحظ أنه يقع من الانسان بطبعه، و أنه ليس باختيار له» (1) .و يترتب على القول بضرورية المعرفة و ربطها بقانون الطبائع عند الجاحظ و غيره من المعتزلة نوع من الجبرية في الايمان تؤدي إلى القول بأن الكافر ليس قادرا على الايمان لانه مما لا يحتمله طبعه الذي هو من خلق اللّه فيه. و لكن الجاحظ يحاول إنكار هذه النتيجة و ذلك عن طريق القول بأن الكافر قد وقعت له المعرفة الضرورية باللّه و صفاته، و لكنه كفر بعناده و انكاره و اصراره على هذا العناد و الانكار «و الكفار عنده ما بين معاند و عارف قد استغرقه حبه لمذهبه» (2) .

و ننتهي من كل ذلك إلى أن قضية المعرفة ارتبطت في أصولها الكلامية بقضية الايمان من جانب، و القدرة الانسانية من جانب آخر. و من السهل أن نردّ كل محاولات العلاف و النظّام و الجاحظ لرفع التناقض بين القول بقدرة الانسان و القول بضرورة المعرفة إلى رغبتهم في رفع التناقض بين «العدل» و «التوحيد» ذلك التناقض الذي كان يطرحه خصوم المعتزلة دائما في وجوههم لدرجة اتهامهم بالشرك لأنهم يجعلون مع اللّه خالقا آخر هو الانسان. غير أنه من الصعب على الباحث تقويم جهود المعتزلة في هذه القضية، و الحكم عليها سلبا أو ايجابا، فذلك أمر يخرج عن نطاق البحث، كما أنه يخرج عن حدود امكانيات الباحث و أدواته. و الذي يهمنا هو محاولة استجلاء رأيهم في طبيعة النشاط العقلي وصولا إلى المعرفة لنرى حدود هذا النشاط و مجالاته.

2 - مفهوم العقل و مراحل المعرفة عند الحارث المحاسبي

و الباقلاني

يعدّ كتاب «العقل» للحارث المحاسبي (ت 243 ه) أول مؤلّف - فيما نعلم - يتناول تعريف العقل و يعين حدود نشاطه. و يعدّ الحارث المحاسبي نفسه أول من تكلم في اثبات الصفات و إليه ينسب أكثر متكلمي الصفاتية (3) و هو ينتسب إلى المدرسة الكلابية التي تزعمها عبد اللّه الكلابي (ت 240 ه) و التي يعدها الأشاعرة أساس مدرستهم «و على كتب الحارث بن أسد في الكلام و الفقه و الحديث معول متكلمي أصحابنا و فقهائهم و صوفيتهم» (4) و يؤمن رجال هذه المدرسة «أنه لا خالق إلاّ اللّه، و أن سيئات العباد يخلقها اللّه، و أن أعمال العباد يخلقها اللّه عز و جل، و أن العباد لا يقدرون أن يخلقوا منها شيئا» (5) .و لقد حاول الأشاعرة - و رائدهم تربّى في أحضان المعتزلة - التخفيف من هذه الصياغة الجبرية لمبدأ التوحيد، فذهبوا إلى أن الفعل الانساني مخلوق للّه و يكتسب من جهة العبد

ص: 52


1- 23. جولد تسيهر: العقيدة و الشريعة في الاسلام/76.
2- 24. المرجع السابق/84، و انظر أيضا زهدي جاد اللّه: المعتزلة/23 و ما بعدها.
3- 25. فلهوزن: تاريخ الدولة العربية/67-68.
4- 26. جولد تسيهر: العقيدة و الشريعة في الاسلام/86.
5- 27. الشهرستاني: الملل و النحل 30/1، انظر أيضا البغدادي: الفرق بين الفرق/18-19.

بالقدرة الحادثة التي يخلقها اللّه فيه مقارنة للفعل «فهي منه خلق و للعباد كسب» (1) .

في اطار هذه النظرة للقدرة الانسانية، و هي نظرة تظلّ - رغم مقولة الكسب الأشعرية - أقرب إلى الجبر منها إلى الحرية، يصبح مفهوم العقل أنه «غريزة جعلها اللّه في الممتحنين من عباده، أقام به على البالغين للحلم الحجة» (2) و هو «غريزة يولد العبد بها ثم يزيد فيه معنى بعد معنى بالمعرفة بالأسباب الدالّة على المعقول» (3) .و التفرقة بين الغريزة التي يولد العبد بها، و بين المعرفة التي تسبب زيادة العقل تفترض بالضرورة أن العقل - الذي هو الغريزة - أساس و وسيلة للمعرفة. و المعرفة نفسها تنشأ عن استخدام العقل و ذلك عن طريق النظر في الأدلّة. و معنى ذلك أن ثمّ ثلاث مراحل للمعرفة الكاملة: المرحلة الأولى هي الغريزة الفطرية التي «وضعها اللّه سبحانه في أكثر خلقه لم يطّلع عليها العباد بعضهم من بعض و لا اطّلعوا عليها من أنفسهم بروية، و لا بحس و لا ذوق، و لا طعم. و إنما عرّفهم اللّه إياها بالعقل منه» (4) أي أنها غريزة لا يمكن التعرّف عليها إلاّ بالعقل نفسه، فهي غريزة غير مرئية أو محسوسة أو ملموسة. أمّا المرحلة الثانية فهي مرحلة الاستدلال و النظر. و يقسم الحارث المحاسبي الأدلّة إلى نوعين «عيان ظاهر، أو خبر قاهر. و العقل مضمّن بالدليل، و الدليل مضمّن بالعقل.

و العقل هو المستدلّ. و العيان و الخبر هما علّة الاستدلال و أصله. و محال كون الفرع مع عدم الأصل، و كون الاستدلال مع عدم الدليل. فالعيان شاهد يدلّ على الغيب. و الخبر يدلّ على صدق، فمن تناول الفرع قبل احكام الأصل سفّه» (5) .

و الفرع هنا هو الاستدلال، و الأصل هو الأدلة. و تقسيم الأدلة إلى هذين النوعين،؛ العيان و الخبر، و اعتبار العقل هو المستدلّ يعبّر عن ايمان بفاعلية العقل و قدرته على الوصول إلى المعرفة عن طريق النظر في الأدلّة. غير أننا يجب أن لا ننسى أن العقل غريزة من خلق اللّه، و كذلك علينا أن لا ننسى أن الأدلّة هي التي أقامها اللّه أمام أعين المكلفين لينظروا فيها و يستدلوا، فالعيان هو الأدلّة المادية القائمة في العالم و التي تدلّ على احكام الصنعة و وجود الخالق و المبدع و المخترع.

و الخبر - على مستوى المعرفة الدينية - هو خطاب اللّه للبشر على ألسنة رسله.

و المرحلة الثالثة بعد مرحلة الاستدلال و النظر هي مرحلة المعرفة أو كمال العقل. و يتفاوت البشر في هذه المرحلة، بناء على تفاوتهم في القدرة على النظر و الاستدلال. و في هذا الصدد يقسم الحارث المحاسبي الناس على أربع فرق «فرقة عقلت عن اللّه تعالى عظم قدره و قدرته و ما وعد و توعد، فأطاعت و خشعت و فرقة

ص: 53


1- 28. انظر حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 419/1، أيضا مقالات الاسلاميين: المقدمة/10-11.
2- 29. خالد العلي: جهم بن صفوان و مكانته في الفكر الاسلامي/49.
3- 30. البغدادي: الفرق بين الفرق/19.
4- 31. جولد تسيهر: العقيدة و الشريعة في الاسلام/87 نقلا عن ابن قتيبة: الإمامة و السياسة.
5- 32. الشهرستاني: الملل و النحل 143/1.

عقلت البيان ثم جحدت كبرا و عنادا لطلب الدنيا» (1) .«و فرقة طغت، و أعجبت، و قلّدت، فعميت عن الحق أن تتبينه ثم تقربه، ثم تجحده كبرا و طلب دنيا بعد عقلها للبيان فظنت أنها على حق و دين و هي على باطل و شر و ضلال. و فرقة رابعة عقلت قدر اللّه عز و جل في تدبيره و تفرّده بالصنع، و عرفت قدر الايمان في النجاة بالتمسك به، و قدر العقاب في ضرره في مجانبة الايمان، فلم يجحدوا كبرا و لا أنفة و لا طلب دنيا لعقلها أن عاجل الدنيا يفنى، و عذاب الآخرة لا يفنى. فأقرّت و آمنت، و لم تعقل عظيم قدر اللّه في هيبته، و جلاله، و عظيم قدر ثوابه و عقابه في اتيان معاصيه، و القيام بفرائضه، فعصت، و ضيّعت، و غفلت، و نسيت، إلاّ أنها علمت عظيم قدر الايمان في النجاة، و عظيم ضرر الكفر، قد عقلته عن اللّه تعالى فهي قائمة به، دائمة عليه» (2) .و رغم أن الفارق بين هذه الفرق الأربع يكمن في السلوك العملي المترتب على المعرفة، فإن الحارث يعتبره فارقا في الفهم و المعرفة و العقل. و لا ينبغي أن ننسى في هذا الصدد أن الحارث صوفي يعطي للعمل و السلوك الديني و المجاهدة الروحية دورا خطيرا في الحكم على البشر، و من ثمّ لا يفصل بين المعرفة و السلوك العملي، و يعتبر التهاون في العمل نقصا في المعرفة الحقّة كما يفهمها المتصوفة. و يكاد الحارث يقترب مما قاله الجاحظ من أن المعرفة حاصلة لكل البشر لو لا أنهم جحدوا و عاندوا طلبا للدنيا، أو تقليدا و جريا وراء ما ألفوه. و الفارق بينه و بين الجاحظ أنه يرى أن اللّه «قد يخصّ بالتنبيه و التوفيق من يشاء من عباده، و يختصّ بجواره من أحبّ من خلقه» (3) و بالتالي يردّ التهاون في العمل و الكفر و كل معاصي الانسان إلى إرادة اللّه الشاملة.

يعدّ الباقلاني (ت 403 ه) أول متكلم أفرد في مؤلفاته مقدمات أسهب فيها في الحديث عن المعرفة و وسائلها و شروطها. و إذا كان الباقلاني يعدّ من مؤصلي الفكر الأشعري، فإنه ليس مجرد مواصل لحمل تراث الأشاعرة المتقدمين عليه، بل قد تمّ على يديه توضيح بعض النقط و تحديد بعض المفهومات مما أدّى إلى تعديل مذهب الأشعري من بعض الوجوه و إلى تقريبه من رأي المعتزلة» (4) .و النقطة التي تهمنا في هذا المجال هي تعديله لمذهب الأشعري في الكسب و القدرة الحادثة للعبد. فقد ذهب الأشعري إلى أن الفعل مكتسب للعبد بالقدرة الحادثة التي يخلقها اللّه فيه مقارنة للفعل، و لم يجعل لهذه القدرة الحادثة أي فعالية في الفعل نفسه «غير أن اللّه تعالى أجرى سنته بأن يحقق عقيب القدرة الحادثة، أو تحتها، أو معها، الفعل الحاصل إذا أراده العبد و تجرّد له، و يسمى هذا الفعل كسبا، فيكون خلقا من اللّه تعالى ابداعا و احداثا، و كسبا من العبد: حصولا تحت القدرة الحادثة» (5) .

و قد ذهب الباقلاني - متأثرا في ذلك بالمعتزلة - إلى اثبات تأثير للقدرة الحادثة في

ص: 54


1- 33. البغدادي: الفرق بين الفرق/202.
2- 34. الملل و النحل 139/1.
3- 35. محمود اسماعيل: الحركات السرية في الاسلام/53.
4- 36. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 333/1.
5- 37. فلهوزن: تاريخ الدولة العربية/67.

حال الفعل، بمعنى أن الحركة التي يأتيها الانسان هي فعل للّه يكتسبه العبد بالقدرة الحادثة، و لكن هذه القدرة الحادثة هي التي تؤثر في الحال الحركة فتجعلها قياما أو قعودا أو صلاة أو سجودا. و بكلمات أخرى فإن تحويل الحركة المخلوقة للّه و المكتسبة من العبد إلى طاعة أو إلى معصية، و الحركة تحتمل الأمرين، أمر من فعل العبد بهذه القدرة الحادثة «و تلك الجهة هي المتعينة لأن تكون مقابلة بالثواب و العقاب. فإن الوجود من حيث هو وجود لا يستحق عليه ثواب و عقاب. خصوصا على أصل المعتزلة، فإن جهة الحسن و القبح هي التي تقابل بالجزاء. و الحسن و القبح صفتان ذاتيتان وراء الوجود. فالموجود من حيث هو موجود ليس بحسن و لا قبيح» (1) و هكذا انتهى الباقلاني إلى تحميل الانسان مسئولية قبح الفعل و حسنه، و نفى ذلك عن اللّه نفيا تاما، و بذلك نجح في سد الثغرة التي كانت قائمة بين «العدل» و «التوحيد» و أخضع كل ما يحدث في العالم لقدرة اللّه و إرادته الشاملة.

و إذا كانت مقدمات الباقلاني عن المعرفة في كتبه تعدّ أول مقدمات وافية تصلنا عن هذا الموضوع، فمن المؤكد أنه تأثر فيها خطى المعتزلة و آراءهم، تلك الآراء التي لم تصلنا متكاملة، و إن بقيت منها شذرات حاولنا - قدر الامكان - أن نتعرّف عليها فيما سبق.

يعرّف الباقلاني العلم بأنه «معرفة المعلوم على ما هو به» (2) و يقسمه إلى نوعين «فعلم قديم، و هو علم اللّه، عز و جل، و ليس بعلم ضرورة و لا استدلال، و علم محدث، و هو كل ما يعلم به المخلوقون من الملائكة و الجن و الأنس و غيرهم من الحيوان» (3) .و ينقسم علم المخلوقين إلى قسمين «فقسم منها علم ضرورة، و الثاني منها علم نظر و استدلال» (4) .

أمّا العلم الضروري فهو «علم يلزم نفس المخلوق لزوما لا يمكنه معه الخروج عنه و لا الانفكاك منه، و لا يتهيأ له الشك في متعلقه و لا الارتياب به» (5) و هذه العلوم الضرورية «تقع للخلق من ستة طرق. فمنها درك الحواس الخمس و هي: حاسة الرؤية، و حاسة السمع، و حاسة الذوق، و حاسة الشم، و حاسة اللمس. و كل مدرك بحاسة من هذه الحواس من جسم، و لون و كون، و كلام، و صوت، و رائحة، و طعم، و حرارة، و برودة، و لين، و خشونة، و صلابة، و رخاوة، فالعلم به يقع ضرورة. و الطريق السادس هو العلم المبتدأ في النفس لا عن درك ببعض الحواس و ذلك نحو علم الانسان بوجود نفسه و ما يحدث فيها و ينطوي عليها من اللذّة و الألم، و الغمّ و الفرح، و القدرة، و العجز، و الصحة، و السقم. و العلم

ص: 55


1- 38. محمد عمارة: المعتزلة و مشكلة الحرية الانسانية/29،28.
2- 39. الأشعري: مقالات الاسلاميين 338/1.
3- 40. البغدادي: الفرق بين الفرق/211-212، و انظر أيضا الشهرستاني: الملل و النحل 86/1-87.
4- 41. الأشعري: مقالات الاسلاميين:338/1، انظر الشهرستاني: الملل و النحل 87/1.
5- 42. المقالات 338/1.

بأن الضدين لا يجتمعان، و أن الأجسام لا تخلو من الاجتماع و الافتراق و كل معلوم بأوائل العقول» (1) .و من الواضح أن هذا العلم الضروري هو علم المحسوسات أو الإدراك الناتج عن استخدام الحواس الخمسة. و المعرفة الحسية عند الباقلاني معرفة ضرورية لا يمكن الشك فيها أو الارتياب بمتعلقها. و يضاف إلى هذه الحواس الخمسة ما يطلق عليه الباقلاني «أوائل العقول» التي «تخترع في النفس ابتداء من غير أن تكون موجودة ببعض هذه الحواس» (2) .و يبدو أن الباقلاني بذلك يساوي بين المعرفة الحسية و المعرفة البديهية - أوائل العقول - و لا يعلّق ثانيتهما بأولاهما. بل هو يؤكّد هذا الانفصال الكامل بينهما بقوله «فكل هذه العلوم الواقعة لنا بالمعلومات التي وصفناها توجد مخترعة في النفس، وجدت هذه الحواس و ما يوجد بها من الإدراكات أو لم توجد» (3) و ليس من المستبعد أن تكون هذه العلوم الضرورية بجانبيها الحسي و البديهي من خلق اللّه، و لا قدرة للانسان عليها أصلا، فهي مما يجده الانسان في نفسه دون إرادة لها أو قصد إليها» و حقيقة وصفه بذلك في اللغة أنه مما أكره العالم به على وجوده، لأن الاضطرار في اللغة هو الحمل و الاكراه، و هو الالجاء» (4) .

و على العكس من ذلك، العلم النظري فهو «علم يقع عقيب استدلال و تفكّر في حال المنظور فيه أو تذكر لما نظر فيه، فكل ما احتاج من العلوم إلى تقدم الفكر و الرويّة و تأمل حال المعلوم فهو الموصوف بقولنا علم نظري. و قد يجعل مكان هذه الألفاظ أن نقول: العلم النظري هو ما بني على علم الحس و الضرورة، أو على ما بني العلم بصحته عليهما. و معنى قولنا في هذا العلم أنه كسبي أنه مما وجد بالعالم، و له عليه قدرة محدثة» (5) فالعلم النظري بذلك مباين للعلم الضروري من جميع الوجوه، فهو - أولا - علم استدلالي يقع بعد نظر و تفكّر في حال المنظور فيه. و هو - من هذه الزاوية - مباين للعلم الضروري لأن «من حكمه جواز الرجوع عنه و الشك في متعلقه» (6) .و العلم النظري - ثانيا - مباين للعلم الضروري في أنه مما يقدر عليه العالم بالقدرة الحادثة، فهو علم من فعل العبد و يقع تحت قدرته، و لذلك يسمى علما كسبيا. و العلم النظري - ثالثا - ليس علما مبتدأ كالعلم الضروري، بل هو علم يبنى على علم الحس و الضرورة، بمعنى أنه لا يمكن أن يوجد أو يتوصّل إليه إلاّ بعد وجود العلم الضروري بجانبيه الحسي و البديهي اللذين يعدّان مقدمات ضرورية له.

و ثمّ مرحلة وسطى بين العلم الضروري و العلم النظري لا بدّ من اجتيازها، ألا و هي مرحلة النظر و الاستدلال. و يعرّف الباقلاني الاستدلال بأنه «هو نظر

ص: 56


1- 43. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 333/1
2- 44. المرجع السابق 358/1-359 نقلا عن الطبري.
3- 45. السابق: نفس الصفحة.
4- 46. البغدادي: الفرق بين الفرق 233-234، و انظر المقالات 86/1، الملل و النحل 174/1.
5- 47. الفرق بين الفرق/235.
6- 48. جولد تسيهر: العقيدة و الشريعة في الاسلام/192.

القلب المطلوب به علم ما غاب عن الضرورة و الحس» (1) و يعرّف الدليل بأنه «هو ما أمكن أن يتوصّل بصحيح النظر فيه إلى معرفة ما لا يعلم باضطرار. و هو على ثلاثة أضرب: عقلي له تعلق بمدلوله نحو دلالة الفعل على فاعله و ما يجب كونه عليه من صفاته نحو حياته، و علمه، و قدرته، و إرادته. و سمعي شرعي دال من طريق النطق بعد المواضعة و من جهة معنى مستخرج من النطق. و لغوي دال من جهة المواطأة و المواضعة على معاني الكلام و دلالات الأسماء و الصفات و سائر الألفاظ» (2) .

و الذي يهمنا الإشارة إليه هنا هو وضع اللغة بين أنواع الدلالة، و اعتبار وجه دلالتها هو المواطأة و المواضعة على معاني الكلام. و تفصيل ذلك - كما يرى الباقلاني - أنه «قد يستدل بتوقيف أهل اللغة لنا على أنه لا نار إلاّ حارة ملتهبة، و لا انسان إلاّ ما كانت له هذه البنية على أن كل من خبّرنا من الصادقين بأنه رأى نارا أو انسانا، و هو من أهل لغتنا، يقصد إلى إفهامنا أنه ما شاهد إلاّ مثل ما سمي بحضرتنا نارا أو انسانا، لا نحمل بعض ذلك على بعض، لكن بموجب الاسم، و موضوع اللغة، و وجوب استعمال الكلام على ما استعملوه و وضعه حيث وضعوه» (3) .

و من حقنا أن نتساءل - و الحالة هذه - عن الفارق بين الدلالة اللغوية و الدلالة السمعية الشرعية، إذا كان كلاهما يدلّ من جهة المواطأة و المواضعة؟ و بالرغم من أن الباقلاني يعتبر الدلالة السمعية «فرعا لأدلّة العقول و قضاياها» (4) فإنه - من جانب آخر - يرى أنه «قد يستدلّ أيضا على بعض القضايا العقلية و على الأحكام الشرعية بالكتاب، و السنّة، و إجماع الأمة و القياس الشرعي المنتزع من الأصول المنطوق بها» (5) و هو بذلك يختلف - كأشعري - عن المعتزلة الذين يفصلون - بحسم - بين الدلالة العقلية، و الدلالة الشرعية، و يعتبرون النوع الأول أصلا للثاني كما سنتعرض لذلك فيما بعد. و الباقلاني - خلافا للقاضي عبد الجبار مثلا - يسلك في تقرير قضايا مؤلفاته مسلك الأشاعرة، الذين يبدءون بالأدلة الشرعية من آيات القرآن و الأحاديث النبوية، و الأخبار و الآثار الواردة عن الصحابة و التابعين، ثم ينتهي بالأدلّة العقلية التي تؤكّد هذه القضايا. و هذا المسلك يتسق مع إعلاء الأشاعرة من شأن الوحي و تقديمهم إياه على العقل. و يقرر الباقلاني هذا المبدأ بقوله «إن طرق البيان عن الأدلّة التي يدرك بها الحق و الباطل خمسة أوجه:

-1 - كتاب اللّه عز و جل و-2 - سنّة رسوله صلى اللّه عليه و سلم و-3 - إجماع الأمة و-4 - ما استخرج من هذه النصوص و بني عليها بطريق القياس و الاجتهاد و-5 - حجج العقول» (6) .

ص: 57


1- 49. المرجع السابق/205.
2- 50. المقدمة/375.
3- 51. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 382/1-383 نقلا عن ابن الأثير.
4- 52. انظر حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 403/1-404.
5- 53. جولد تسيهر: العقيدة و الشريعة في الاسلام/176.
6- 54. الأشعري: المقالات 91/1.

و إذا كان الباقلاني لم يتعرّض لتحديد ماهية العقل و مراحله المختلفة، فإن تقسيمه للعلوم إلى ضرورية و نظرية ينبئ عن تصور ما لطبيعة النشاط العقلي و انتقاله من مرحلة إلى مرحلة. و من المؤكد أن الباقلاني و غيره من متكلمي القرن الرابع لم يكونوا بعيدين عن المباحث الفلسفية التي تأثرت خطى أرسطو في التفرقة بين مراحل النشاط العقلي في كتابه «في النفس» ابتداء من الإدراك الحسي و انتهاء إلى العقل الفعّال مرورا بالحس المشترك. غير أن المتكلمين ركّزوا نشاطهم العلمي في البحث عن مظاهر النشاط العقلي دون البحث في ماهيته. و إذا كان الفلاسفة قد تأثّروا خطى الاسكندر الأفروديسي - أحد شرّاح أرسطو - في التمييز بين ثلاثة أنواع من العقول هي «العقل الهيولاني، و العقل بالملكة، و العقل الفعّال» (1) فإن العقل الهيولاني ليس إلاّ الغريزة التي وهبها اللّه للممتحنين كما أشار إليها الحارث المحاسبي، و بعبارة الخوارزمي «هو القوة في الانسان و هي في النفس بمنزلة القوة الناظرة في العين» (2) .أو «هو الاستعداد المحض لإدراك المعقولات، و هو قوة محضة خالية عن الفعل كما للأطفال و إنما نسب إلى الهيولى الأولى الخالية في حد ذاتها عن الصور كلها» (3) .و أمّا العقل بالملكة فهو يساوي عند الباقلاني ما أطلق عليه العلم الضروري، و «هو علم بالضروريات و استعداد النفس بذلك لاكتساب النظريات» (4) .و أخيرا فإن العقل الفعّال - أو المستفاد - هو ما أطلق عليه الباقلاني العلم النظري و «هو أن تصير النظريات مخزونة عند قوة العاقلة بتكرار الاكتساب، بحيث يحصل لها ملكة الاستحضار متى شاءت من غير تجشم كسب جديد» (5) و من الملاحظ أن الباقلاني لم يشر إلى «العقل الهيولاني» أو إلى الغريزة التي تعدّ مقدمة لتلقي العلوم الضرورية بجانبيها الحسي و البديهي، و اكتفى بالحديث عن أقسام العلوم و قسّمها إلى علم إلهي قديم ليس بعلم ضرورة أو استدلال، و علم المخلوقين المحدث بقسميه الضروري و النظري. و هذه القسمة تكشف عن المنطلق الذي حدد للمتكلمين دروبهم الخاصة في البحث في قضية العقل و المعرفة، فلم تنفصل هذه القضية - كما سبقت الإشارة - عن قضايا التوحيد و العدل. و هي مرتبطة عند الباقلاني بقضية العلم الالهي و التفرقة بينه و بين العلم البشري. و يبدو تأثر الباقلاني في هذه المشكلة واضحا بأبي هاشم الجبّائي (ت 330 ه) الذي ذهب إلى أن اللّه «عالم لذاته، بمعنى أنه ذو حالة هي صفة معلومة وراء كونه ذاتا موجودا، و إنما تعلم الصفة على الذات لا بانفرادها» (6) أي أنه يثبت العلم صفة وراء الذات و ليست منفصلة عنها أو مغايرة لها. و هو في هذه النقطة يختلف عن أبي الهذيل العلاف الذي اعتبر أن «علمه ذاته» (7) و لم يثبت العلم صفة أو حالا وراء الذات. يقول الباقلاني متفقا مع أبي هاشم «الحال الذي

ص: 58


1- 55. الشهرستاني: الملل و النحل 150/1.
2- 56. الأشعري: المقالات 136/1-137.
3- 57. انظر فلهوزن: الدولة العربية/196.
4- 58. المرتضى: الأمالي 161/1. و انظر أيضا أقوالا مشابهة للحسن: الجاحظ: الحيوان 100/5،225/1.
5- 59. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 292/1.
6- 60. انظر على سبيل المثال: المرتضى: الأمالي:150/1-151.
7- 61. السابق: نفس الصفحة، و انظر أيضا: القاضي عبد الجبار: فرق و طبقات المعتزلة/24.

أثبته أبو هاشم هو الذي نسميه صفة خصوصا إذا أثبت حالة أوجبت تلك الصفات» (1) .

و تأثر الباقلاني بأبي هاشم في مسألة العلم، و تأثره - الذي أشرنا إليه سابقا - بالمعتزلة عموما في مسألة القدرة الحادثة و دورها في تحديد حالة الفعل، يكشفان عن التقارب الفكري بين المعتزلة و الأشاعرة، و هو تقارب يعدّ ثمرة للحوار المتصل و الجدل المستمر بين متكلمي الفريقين. و لقد كان من ثمرة هذا التقارب ما نجده من تطابق كبير بين أفكار الباقلاني في المعرفة و العلم و أفكار القاضي عبد الجبار (ت 415 ه) الذي انتهج أيضا - فيما يروي الشهرستاني-«طريقة أبي هاشم» (2) يؤكّد ذلك كثرة روايات القاضي عن أبي علي الجبّائي (ت 302 ه) و أبي هاشم اللذين يعدّهما أساتذته المباشرين، و ينقل عنهما دائما، و يكتفي - في أحيان قليلة - بمناقشتهما و محاولة التوفيق بين رأييهما. و تكاد آراء القاضي في العلم و المعرفة أن تكون هي آراء الجبائيين مع خلافات يسيرة في مسائل فرعية لا يعتدّ بها، الأمر الذي يجعلنا نفترض - دون مغالاة - أن كلا من الباقلاني و القاضي عبد الجبار أخذا من معين واحد جلّ أفكارهما في هذه القضية. و لا يجب أن ننسى أيضا أن أبا الحسن الأشعري كان تلميذا مباشرا لأبي علي الجبائي. غير أن ذلك لا يجب أن ينسينا الفروق الأساسية بين المعتزلة و الأشاعرة.

3 - مفهوم العقل و مراحل المعرفة عند المعتزلة

و الفارق الأساسي بينهما يكمن في دور العقل و هل هو سابق على الشرع أم تابع له، و لقد ذهب الأشاعرة إلى أسبقية الشرع على العقل كما رأينا عند الباقلاني، و ذلك على عكس المعتزلة الذين اعطوا للعقل دورا أوليا و سابقا على الشرع، و جعلوا الدليل السمعي تابعا للدليل العقلي و مترتبا عليه. أي أنهم جعلوا الدليل العقلي أصلا، و الدليل الشرعي فرعا على الدليل العقلي، حتى ذهب القاضي إلى أن «كلامه تعالى لا يدلّ على العقليات، من التوحيد و العدل، لأن العلم بصحة كونه دلالة، مفتقر إلى ما تقدم بذلك، فلو دلّ عليه لوجب كونه دالاّ على أصله، و من حق الفرع أن لا يدلّ على الأصل، لأن ذلك يتناقض» (3) و يرتدّ هذا الفصل بين الدليل العقلي و الدليل الشرعي، و تقرير أسبقية الأول على الثاني إلى الجبائيين أبي علي و أبي هاشم اللذين اتفقا - فيما يروي الشهرستاني-«على أن المعرفة و شكر المنعم و معرفة الحسن و القبح واجبات عقلية، و أثبتا شريعة عقلية و ردّا الشريعة النبوية إلى مقدرات الأحكام و مؤقتات الطاعات التي لا يتطرق إليها عقل، و لا يهتدي

ص: 59


1- 62. السابق 152/1.
2- 63. الأمالي 161/1.
3- 64. السابق 154/1.

إليها فكر» (1) بمعنى أن العقل يستطيع أن يصل إلى كليات الأحكام المتصلة باللّه و صفاته من التوحيد و العدل و وجوب شكره، كما أنه يمكن أن يعرف الحسن و القبح على الجملة. و تختصّ الشريعة بأنها تكشف له عن الطرائق التي يستطيع عن طريقها أن يؤدي هذه الواجبات العقلية. تختصّ الشريعة بأن تعرّف العقل مقادير الطاعات - كالصلاة و الصوم و الزكاة - و مواقيتها، و هي أمور لا يستطيع العقل أن يعرفها، و إن عرف - على الجملة دون التفصيل - وجوب رد الوديعة و شكر المنعم.

غير أن القول بأسبقية الدليل العقلي على الدليل الشرعي، و اعتبار الأول أصلا، و الثاني فرعا، لا يعني وجود التعارض بينهما، فهما متفقان و متطابقان إذ «ليس في القرآن إلاّ ما يوافق طريقة العقل، و لو جعل ذلك دلالة على أنه من عند اللّه، من حيث لا يوجد في أدلّته إلاّ ما يسلم على طريقة العقول و يوافقها، إمّا على جهة الحقيقة، أو على المجاز لكان أقرب» (2) غاية الأمر أن المعتزلة - لأسباب كثيرة بيّناها في أول هذا الفصل - حاولوا الاحتكام إلى العقل وحده و اعتبروه أساسا لفهم الشريعة، و اعتبروا الشريعة مؤكّدة لما في العقول و متفقة معه، دون أن تكون هي وحدها الدليل على وحدانية اللّه و عدله و سائر الأحكام العقلية «إن سائر ما ورد به القرآن في التوحيد و العدل ورد مؤكّدا لما في العقول. فأمّا ان يكون دليلا بنفسه يمكن الاستدلال به ابتداء فمحال» (3) .

و لكي يؤكد المعتزلة هذا الاتفاق بين العقل و النقل، كان عليهم تحديد ماهية العقل و التعرّف على طبيعة الوسائل التي يمكنه عن طريقها الوصول إلى المعرفة اليقينية، ثم تحديد طبيعة الأفكار التي يستطيع العقل - بمفرده - الوصول إليها.

و تتحدد ماهية العقل عند المعتزلة بناء على تحديدهم لطبيعة وظيفته و حاجة الانسان الضرورية له. فإذا كان اللّه قد خلق الانسان لا لعلّة إلاّ لنفعه (4) ثم جعل التكليف وسيلته إلى هذا النفع، فمن الطبيعي أن يزوده بكل الوسائل التي تعينه على أداء ما كلّفه به. و كما زوّده بالقدرة التي يستطيع بها مزاولة الفعل أو الامتناع عنه، فقد زوّده أيضا بالقدرة على معرفة ما كلّفه به و تمييزه، و ذلك حتى يتأتى منه الفعل على وجه الاختيار الناتج عن العلم بأحواله. و هذا الاختيار القائم على المعرفة و العلم هو مناط الثواب و العقاب و المسئولية. و هكذا يصبح العقل ضرورة من ضرورات التكليف الالهي للبشر، و هو ضرورة بحكم مسئولية الانسان و قدرته على الفعل.«اعلم أن المكلّف كما يحتاج أن يكون ممكنا من احداث الفعل بالقدرة و الآلات ليصحّ منه أداء ما كلّف فكذلك يحتاج إلى أن يكون عالما بما كلّف و صفاته، و الفصل بينه و بين غيره، ليصحّ أن يقصد إلى إحداثه، و ليصحّ أن يعلم

ص: 60


1- 65. السابق 159/1.
2- 66. الأمالي 162/1.
3- 67. السابق 153/1.
4- 68. الأمالي 153/1.

أنه قد أدّى ما كلّف» (1) و هذه المعرفة تحتاج للقوة المميزة بين الأشياء و الأفعال.

و خلافا لما ذهب إليه العلاف و النظّام من ضرورية هذه المعرفة، التي تردّ الانسان إلى حالة الجبر و تنفي عنه الاختيار، ذهب القاضي عبد الجبار إلى ضرورة أن تكون المعرفة من فعل الانسان. و الوسيلة التي يتوصّل بها الانسان إلى المعرفة هي العقل، و من ثمّ فلا بدّ من أن يزوّد اللّه الانسان بالعقل ليمكّنه من أداء ما كلّف به على الوجه الذي تتحدد به مسئوليته عن الفعل.«و إن كان العلم بذلك الشيء مما لا يكون إلاّ ضروريا فلا بدّ من أن يخلقه - تعالى - فيه. و إن صحّ كونه مكتسبا حسن من القديم - تعالى - أن يمكّنه منه ليصحّ أن يعلم و يؤدي ما علمه، على الوجه الذي كلف» (2)

العقل - إذن - ضروري للمكلّف حتى يستطيع أداء ما كلّفه اللّه به.

و المعرفة التي يحتاج إليها المكلف تنقسم إلى ضرورية، و مكتسبة. و المعارف الضرورية لا بدّ أن يخلقها اللّه في العبد، كما أنه يحسن أن يمكّنه من العلوم المكتسبة. و لمّا كانت العلوم الضرورية مقدمة للعلوم المكتسبة و تمهيدا لها، لم يفصل القاضي عبد الجبار بين العلوم الضرورية و العقل. و عرّف العقل بناء على ذلك بأنه «عبارة عن جملة من العلوم مخصوصة، متى حصلت في المكلّف صحّ منه النظر و الاستدلال و القيام بأداء ما كلّف» (3) و يرفض القاضي أن يسمي العقل جوهرا أو آلة أو حاسّة أو قدرة إلاّ على سبيل التشبيه و التوسع، و ذلك لأن الجواهر و الآلات و الحواس و القدرة مما تقع فيها الزيادة و النقصان». و هذا الحرص على عدم الفصل بين العقل و العلوم الضرورية عند المعتزلة يعبّر عن ايمانهم بتساوي البشر في هذه العلوم الضرورية، أي تساويهم فيما وهبهم اللّه من عقل. و من هذه العلوم الضرورية ضرورة العلم بالمدركات، فلا بدّ للانسان «من أن يكون عالما بما يدركه، و يعلم من حاله أنه لو أدركه غيره لعلمه إذا لم يكن هناك لبس» (4) و وجه الضرورة في هذا أن الانسان «لو لم يحصل عالما بالمدرك لم يصح أن يعرف أحوال المدركات، و لما تمّ منه استدلال على اثبات الأعراض و حدوث الأجسام و صفات الفاعل و لا على العدل بأسره. فالحاجة إليه في التكليف ماسّة» (5) و القاضي بذلك يحدد الغاية من التكليف و من المعرفة معا و هي معرفة اللّه - المكلّف - و معرفة صفاته من التوحيد و العدل للتوصّل من وراء ذلك إلى معرفة التكليف و أدائه.

و بناء على هذه الغاية تتحدد طبيعة العقل، أي العلوم الضرورية التي لا بدّ للمكلّف من معرفتها. و أول هذه العلوم هو العلم بالمدركات. و العلم بالمدركات لا يصحّ أن يختلف عليه اثنان، بل لا بدّ أن يتساوى فيها البشر إذا لم يكن هناك لبس. و هو من هذه الزاوية يعدّ علما ضروريا لا يحتاج لا ثبات، فغاية المستدلّ على

ص: 61


1- 69. المعارف/153.
2- 70. الملل و النحل 47/1. و يلاحظ أن واصلا ولد عام 80 ه، و لا يتفق هذا مع أن الرسالة موجهة لعبد الملك بن مروان(65-86 ه).
3- 71. محمدة عمارة: رسائل العدل و التوحيد 82/1.
4- 72. نفس المصدر 83/1.
5- 73. نفس المصدر 88/1.

شيء ما أن يصل به إلى مرحلة أن يجعله كالمدرك بالحواس، و بهذا يكون الإدراك أوضح طرق العلم «اعلم أنه لا طريق للعلم بالشيء أوضح من الإدراك. فمتى تناول الإدراك شيئا فقد استغنى في اثباته عن دليل، لأن نهاية ما يبلغه المستدلّ على اثبات الشيء أن يردّه إلى المدرك. فإذا حصل الشيء مدركا فالواجب في اثباته أن يكون أصلا و أن يستغني عن دليل. و لهذه الجملة لم يحتج في اثبات السواد إلى دليل و إن احتجنا إلى ضرب من التأمل في كونه غير المحل» (1) و معنى ذلك ان المعرفة الإدراكية أو الحسيّة تختلف عن المعرفة الاستدلالية - و هي مرحلة النظر - في أنها أكثر منها وضوحا و بيانا. و لكن هذه الثقة في الإدراك الحسي قد يعترض عليها معترضون زاعمين أنه «لا حقيقة للأشياء في نفسها و حقيقتها» (2) و أن المدرك هو الذي يحدد حقيقة الشيء حسب ما يعتقده و يدركه، بمعنى أن الأشياء ليس لها وجود مستقل عن مدرك يهبها - عن طريق عملية الإدراك - وجودها الذي لا ينفصل او يستقلّ عن معتقداته و أفكاره. و يتصدّى القاضي عبد الجبار للفصل بين المدرك و الشيء المدرك على أساس أن عملية الإدراك لا دخل لها في تحديد طبيعة الشيء أو تحديد صفاته. و هذا الفصل بين طرفي الإدراك هو ما يثبت عند المعتزلة وجود الواقع الخارجي، و يثبت نتيجة لذلك عملية الإدراك، و من ثمّ يهبها موضوعيتها. و يلزم القاضي أصحاب هذا الرأي الوقوع في التناقض، على أساس أن «هذا يوجب أن يصحّ منا الجسم و القدرة إذا اعتقدنا ذلك فيهما، بل يوجب أن يكون تعالى موجودا و مختصا بسائر ما هو عليه من جهتنا إذا اعتقدنا كونه كذلك، بل يوجب إذا اعتقد المعتقد، في الشيء، جوهرا و سوادا، أن يحصل بهذه الصفة، و قد بينا فساد ذلك، بل يجب على هذا صحة كون الشيء الواحد بياضا سوادا إذا اعتقد المعتقد أن ذلك فيه، و قديما محدثا، و موجودا معدوما. و قد بيّنا أن العلم باستحالة ذلك ضروري» (3)

و يزيد القاضي هذه الفكرة وضوحا حين يردّ على من يسميهم «أصحاب التجاهل» الذين يعتمدون في نفي المعرفة الحسية على ما هو مشاهد من خداع الحواس. يقودنا القاضي في ردّه عليهم إلى شروط صحة المعرفة الحسية، أو الإدراك، و هي سلامة الحاسّة و ارتفاع الموانع. يقول «فأمّا تعلقهم بأن المدرك يسكن إلى أن السراب ماء، و أن العسل إذا غلب عليه الصفراء مرّ، كسكونه إلى سائر ما يدركه، ثم ينكشف له خلاف ما اعتقد، فما الذي نؤمنه من مثله في سائر المدركات التي يعلمها، فبعيد. لأن نفسه لا تسكن إلى أن ما رآه ماء و انما تشاهده بصفة الماء لتشبهه به في البياض و اللمعان و اضطرابه في الموضع الذي أدركه. فما

ص: 62


1- 74. بحوث في المعتزلة/181.
2- 75. الانتصار/118-119 و انظر أيضا الأمالي 165/1-169 مناقشة بين واصل و عمرو بن عبيد تؤكد الفكرة التي نذهب إليها.
3- 76.167/2.

أدركه صحيح، و إن أخطأ في اعتقاده. و ليس كذلك ما يعلمه من كون الماء ماء، عند مشاهدته له» (1)

و على ذلك فالمعرفة الحسية معرفة صحيحة بشرط سلامة الحاسّة و ارتفاع الموانع التي قد تخدع الحواس أو تضللها. و إذا كانت الحاسّة سليمة، و الموانع مرتفعة، وجب اثبات ما ندركه و نفي ما لا ندركه «إذا ما كان طريق العلم به الإدراك بالحواس وجب نفيه إذا لم يدرك مع سلامة الحاسة و ارتفاع الموانع المعقولة لعدم الطريق الذي به يتوصّل إلى معرفته» (2) هذا الحرص على اثبات الإدراك الحسي، و اعتباره علما ضروريا عند كل من الأشاعرة و المعتزلة، يعدّ مسألة هامة و ضرورية لا ثبات العالم الخارجي الذي يستدلّ بوجوده على وجود الصانع. غير أن المعرفة الحسية ليست الطريق الوحيد للمعرفة، بل هي أول طريق المعرفة، فالحس «إنما نعبّر به عن أول العلم بالمدركات» (3) .

إذا كانت المعرفة الحسية هي أول العلم بالمدركات، فما هي العلاقة بينها و بين المعرفة العقلية؟ يعرّف القاضي العلم بأنه «المعنى الذي يقتضي سكون نفس العالم إلى ما تناوله» (4) فكل معرفة أدّت إلى سكون النفس إلى ما عليه المعلوم اعتبرت علماء، سواء أ كانت علما بالمدركات أم علما ضروريا، أم علما مكتسبا. و من هذه الزاوية تعدّ هذه العلوم علوما منفصلة لا يقضي صحة أحدها على صحة آخر.

غير أن هذه العلوم - من جانب آخر - تتصل اتصالا وثيقا، فالعلم بالمدركات - الذي هو نتيجة للإدراك الحسي - يعدّ مقدمة للعلوم الضرورية. و هذه بدورها تعدّ مقدمة للوصول إلى العلوم المكتسبة عن طريق النظر و الاستدلال. و على ذلك لا يصحّ القول بأن علوم الحواس قاضية على علوم العقل و حكما على صحته، إلاّ على معنى «أنه لو لا العلم بما يدرك بالحواس، لما صحّ أن يعلم الانسان سائر الأمور. و إن أرادوا بذلك أن بالإدراك تعلم صحة العلوم العقلية فذلك باطل...

و يجب على هذا، أن يكون العقل قاضيا على صحة العلم بالمدركات، لأن به نعلم صحتها» (5) أي أن هذه العلوم ترتبط ببعضها البعض ارتباط العلّة بالنتيجة، و لا يقضي الإدراك الحسي على العلوم العقلية و لا يحكم بصحتها. و الصحيح أن علوم العقل هي الحاكمة على علوم الإدراك الحسي، و هو ما عبّر عنه الجاحظ بقوله:«للأمور حكمان: حكم ظاهر للحواس، و حكم باطن للعقول، و العقل هو الحجّة» (6) و معنى ذلك أن علوم الحس إذا أدّت إلى العلم الذي يقتضي سكون النفس كانت علما منفصلا بذاته. و العلاقة بينها و بين علوم العقل أن هذه تبنىّ عليها. و هذا الانفصال و الاستقلال لا يمنع أن يكون العقل حاكما على الحس،

ص: 63


1- 77. الخياط: الانتصار/73.
2- 78. الخياط: الانتصار/73-74.
3- 79. السابق/74.
4- 80. راجع رأي المرجئة مفصلا في المقالات 229/1-230.
5- 81. انظر الشريف المرتضى: الأمالي 165/1-169، القاضي عبد الجبار: فرق و طبقات المعتزلة/50-51.
6- 82. الخياط: الانتصار/119.

و قاضيا على صحة ما تؤدّي إليه الحواس. و هذا أمر ضروري خصوصا للرد على أولئك الذين يتشككون في صحة المعرفة الحسية لما يعتورها أحيانا من خداع و عوائق تمنع عن الإدراك الصحيح.

و إذا كان الإدراك الحسي يعدّ أول العلم بالمدركات كما قرّر القاضي، فإنه أيضا يعدّ مقدمة للعلوم الضرورية التي هي من كمال العقل، أو التي هي العقل في تعريف القاضي. و إذا كانت غاية المعرفة هي معرفة اللّه لمعرفة أوامره و نواهيه - التكليف - فإن المعرفة الإدراكية تحتاج لقدر آخر من المعارف التي يعتبرها القاضي معرفة ضرورية من كمال العقل.«و من كمال العقل أن يعرف من حال المدركات التي هي الأجسام ما تحصل عليه: من كونها مجتمعة أو متفرقة، و من استحالة كونها في مكانين، لأن متى لم يعلم ذلك لم يسلم له من العلوم ما يجري مجراها، و لا يصحّ منه الاستدلال على اثبات الأعراض و حدوثها، و حدوث الأجسام، و تعلق الفعل بالفاعل، لأن كل ذلك يستند إلى هذا العلم» (1) و هذه المعرفة بحال المدركات - بعد العلم بها - تعدّ ضرورية في نظر القاضي لارتباطها بأدلّة التوحيد، لأنها مقدمة لاثبات جواز الاجتماع و الافتراق على الأجسام، و بالتالي اثبات حدوثها. و يؤدي إثبات حدوثها إلى اثبات صانع مخالف لها غير محدث، و من ثمّ لا بدّ أن يكون قديما.. الخ كل هذه الاستدلالات التي تؤدّي إلى اثبات اللّه بصفاته من القدرة و العلم و الحياة.

«و من كمال العقل أن يعرف بعض المقبحات، و بعض المحسنات، و بعض الواجبات، فيعرف قبح الظلم و كفر النعمة و الكذب الذي لا نفع فيه و لا دفع ضرر، و يعلم حسن الاحسان و التفضّل، و يعلم وجوب شكر النعم و وجوب رد الوديعة عند المطالبة، و الانصاف، و يعلم حسن الذم على القبيح إذا لم يكن هناك منع، و حسن الذم على الاخلال بالواجب مع ارتفاع الموانع و إنما يجب حصول هذه العلوم، لأنها لو لم تحصل لم يحصل للمكلّف الخوف من ألاّ يفعل النظر، و ابتداء التكليف متعلق به، و لأنه لا يصحّ منه العلم بالعدل إلاّ معه، لأنه متى لم يعرف الفرق بين الحسن و القبيح لم يصح أن ينزّه القديم - تعالى - عن المقبحات، و يضيف إليه المحسنات» (2) و لا شك أن القاضي عبد الجبار، و من قبله مشايخه، بوضعهم كل هذه المعارف في إطار العلم الضروري، كانوا يسعون إلى تأكيد أفكارهم العقلية في العدل و التوحيد تأكيدا يلزم خصومهم التسليم بها. و من الواضح أن هذه المقدمات - أو العلوم الضرورية - فيها الكثير مما يحتاج إلى نظر و استدلال. فكون الجسم لا يخلو من الاجتماع و الافتراق و كافة الاعراض - و هو

ص: 64


1- 83. ناجي حسن: ثورة زيد بن علي/148.
2- 84. الملل و النحل 154/1-155.

مقدمتهم لا ثبات الصانع بصفاته من القدرة و العلم و الحياة - يعدّ من لطيف الكلام الذي يحتاج لنظر و استدلال، و من الصعب اعتباره معرفة ضرورية. أمّا العلوم الضرورية المتصلة بالعدل، فهي علوم لا يسلم لهم خصومهم ببديهيتها «فأمّا وجوب الأفعال و حظرها و تحريمها على العباد فلا يعرف إلاّ من طريق الشرع» (1)

و اعتبار العقل هو كل هذه العلوم الضرورية لا ثبات التوحيد و العدل، يعدّ تعريفا يخلط بين المعرفة نفسها و بين مفهوم العقل باعتباره أداة للمعرفة و نشاطا متميزا للوصول إلى المعرفة. و يعدّ هذا التعريف - من جانب آخر - متناقضا مع ما يقرره القاضي من أن «المكلّف يحتاج إليه (يعني العقل)، لأن به يعلم الكثير مما كلّف، نحو وجوب رد الوديعة و شكر المنعم و قبح الظلم و حسن الاحسان» (2) فكيف تعرف بالعقل هذه الأشياء مع اعتبارها من العلوم الضرورية التي هي العقل في تعريف القاضي؟ و كيف تكون هذه الأشياء من التكليف الذي يحتاج المكلّف إلى العقل لمعرفتها، و هي في نفس الوقت من علوم العقل الضرورية؟ هنا يحسّ الباحث أن القاضي قد خلط بين العقل كوسيلة و أداة للمعرفة، و بين المعرفة ذاتها التي هي نتيجة و محصلة لنشاط العقل في ربطه بين المدركات و تحصيل الكليات.

و يذهب القاضي إلى اعتبار كل هذه العلوم بديهية و فطرية و من كمال العقل، بمعنى أنها علوم لا ينفك عنها العاقل المكلّف، و لا تؤثر فيها عوامل الزمان و المكان و البيئة «إن العلم بالمدح و الذم و استحقاقهم على الأفعال... من كمال العقل، و ليس بموقوف على أن ذلك قد وقع، بل لو خالط الناس و لم يقع من أحد معصية لما وقع الذم، و لو لم يقع منهم طاعة لما وقع المدح على جهة، و لم يؤثر ذلك في كون ما ذكرناه من كمال العقل. و كذلك القول فيه لو خلق في أرض فلاة في أنه يحسن أن يكلّف متى كمل عقله و علم مكان الحمد و الذم، و إن لم يعلم فاعلا لهما» (3) .

و على هذا فالعقل شرط في التكليف، رأى الانسان الخير و الشر متجسّدين أم لم يرهما. و العقل وحده يستطيع أن يعرف ما يستحق المدح من الأفعال و ما يستحق المدح من الأفعال و ما يستحق منها الذم، دون أن يعرف الأفعال نفسها.

*** يعدّ النظر أو الاستدلال هو الوسيلة الأساسية للانتقال من مرحلة العلوم الضرورية التي يتساوى فيها البشر، إلى مرحلة العلوم النظرية، أو الاكتسابية، التي يتفاوت فيها البشر نتيجة تفاوتهم في قدراتهم على النظر و الاستدلال. و النظر هو أول مراحل التكليف العقلي. و يتمّ هذا التكليف عن طريق باعث أو داع أو خاطر يسلّطه اللّه على نفس المكلّف «و تلك الأمارة هي تنبيه الداعي و الخاطر، لأنهما

ص: 65


1- 85. السابق 156/1.
2- 86. القاضي عبد الجبار: فرق و طبقات المعتزلة/29.
3- 87. السابق/17.

يفيدانه ما يخاف عنده من العقاب بترك النظر، و يدلانه على ما ترتب في عقله من الخوف الذي يجده فاعل القبيح و النقص الذي يختصّ به. فإنه لا يأمن من مضرّة عظيمة تستحق به، فيخاف عند ذلك» (1) و يقوم تخويف الداعي و الخاطر على ما ترتب في العقل من ضرورة حسن الذم على القبيح إذا لم يكن هناك منع، فيخشى الانسان، إن هو لم يستجب للداعي و الخاطر في حسن النظر، أن يكون بترك النظر واقعا في قبيح يستحق عليه الذم. و يدفعه هذا الخوف من الوقوع في القبيح إلى النظر ليصل بذلك إلى المعرفة.

غير أن النظر، شأنه شأن الإدراك الحسي، لا بدّ له من شروط حتى يؤدّى إلى العلم و المعرفة. و كما اشترط القاضي لصحة الإدراك الحسي سلامة الحاسّة و ارتفاع الموانع، فإنه يشترط وجود الشك، و كأن الشك يعتبر بذلك مقدمة طبيعية و ضرورية للفكر المؤدي إلى النظر «و من حق النظر ألاّ يصحّ إلاّ مع الشك في المدلول» (2) و تعدّ فكرة الشك فكرة أساسية عند جميع المعتزلة تقريبا، على اعتبار أن الشك ترجيح بين احتمالات مختلفة أو وجوه متعددة. و من شأن هذا الشك أن يثير التأمل و يحرّك الفكر، مما يجعل الشاك أقرب إلى معرفة الحقيقة ممن يثق بظنه، و يستنيم إلى فكره و وهمه «و الذي حصّلناه في هذا الباب، أن النظر لا يصحّ إلاّ مع تجويز كون المدلول على صفة و أنه ليس عليها، فيجب أن يقارنه هذا التجويز. و قد يحصل ذلك مع الشك، و قد يحصل مع الظن، و قد يحصل مع الاعتقاد على جهة التبخيت. و لا يصحّ ذلك مع العلم، و لا مع الجهل الواقع بالشبهة، لأن العالم و الجاهل بهذا العلم و الجهل يتساويان في أنهما لا يجوّزان خلاف ما اعتقداه» (3) بمعنى أن العالم تسكن نفسه إلى ما علمه، و كذلك الجاهل، و كلاهما لا يمكن أن يقع منهما النظر، و ذلك على عكس الشاك أو المتردد بين احتمالات مختلفة.

و تلتقي فكرة الداعي و الخاطر - أساس التكليف العقلي للنظر - مع فكرة الشك و التجويز و إثارة الاحتمالات المختلفة في الذهن، تلك الاحتمالات التي تكون مثيرا يدفع للنظر و الفحص و الاستدلال. و يؤكّد الجاحظ تلك العلاقة بين الشك و الوصول إلى اليقين فيما يرويه عن أستاذه النظّام «نازعت من الملحدين الشاك و الجاحد فوجدت الشاك أبصر بجواهر الكلام من أصحاب الجحود...

الشاك أقرب إليك من الجاحد، و لم يكن يقين قط حتى كان قبله شك، و لم ينتقل أحد عن اعتقاد إلى اعتقاد غيره حتى يكون بينهم حال شك» (4) .

و الداعي و الخاطر يثيران الشك في الانسان، و يخيفانه من أن يكون على باطل، و من أن يكون جاهلا بالحقيقة. و هذا الخوف يدفعه للتأمل و الاستدلال

ص: 66


1- 88. القاضي عبد الجبار: فرق و طبقات المعتزلة 31،18.
2- 89. السابق/32.
3- 90. راجع القصة كلها: طبقات المعتزلة/44-46. و يقول الشهرستاني عن جعفر بن محمد أنه «دخل العراق و أقام بها مدة ما تعرض للامامة قط، و لا نازع أحدا في الخلافة قط» الملل و النحل 166/1.
4- 91. الملل و النحل 155/1.

و النظر حتى يصل إلى الحقيقة التي تسكن إليها نفسه و يهدأ لها باله. و على ذلك تقوم المعرفة عند القاضي على أساسين: أساس نفسي هو الخوف من أن يكون على خطأ، أو على جهل قد يهدد مصيره الانساني. و أساس معرفي هو الشك فيما يعتقده، و تجويز أن يكون الواقع على خلاف ما يعتقد. و بناء على هذين الاساسين تتحدد الغاية الدينية للمعرفة، و هي غاية ذات شقين: غاية دينية أخلاقية هدفها أن تجنب الانسان القبيح الذي يترتب عليه استحقاقه للذم، و أن تؤدي به إلى فعل الحسن الذي يستحق به المدح. و غاية أخروية هدفها خلاص الانسان من العذاب الذي يمكن أن يلاقيه نتيجة جهله بخالقه، و تقصيره في أداء ما كلّف به. و أساسا المعرفة - الشك و الخوف - و غايتاها - الدنيوية و الأخروية - غير منفصلتين بأي حال من الأحوال، فكلاهما تفضي إلى الأخرى.

يختلف كل من أبي علي الجبائي و ابنه أبي هاشم في تحديد طبيعة الخاطر الذي يدعو إلى ضرورة النظر، فذهب أبو علي إلى «أنه ليس بكلام و أنه اعتقاد» (1) بينما ذهب أبو هاشم إلى «أنه كلام، إمّا أن يفعله اللّه تعالى أو يأمر بعض الملائكة بفعله» (2) و حاول القاضي عبد الجبار التوسّط فذهب إلى أنه معنى «لأنه أمر حادث يختصّ من ورد عليه، و لا بدّ إذا كان معنى، من أن يكون من أفعال القلوب أو أفعال الجوارح، لأن اثباته سوى هذين لا يصح» (3) .و بصرف النظر عن هذا الخلاف الدقيق، فإن مهمة الداعي و الخاطر تنحصر - عند أبي هاشم - في بيان وجه الضرر الذي يلحق بالمكلّف إذا ترك النظر و من ثمّ يتوجّه إليه قائلا «انظر لتعلم أن لك صانعا صنعك و مدبرا دبرك، و تعلم استحقاق الثواب من جهته على فعل الواجب و العقاب على فعل القبيح. و متى لم تعرفه و تعرف هذا الثواب و العقاب، كنت إلى فعل القبيح أقرب، لأنك تجد شهوته فيك، و أنت إذا عرفته كنت إلى التباعد منه أقرب، لأنك تجد استحقاق الذم على القبيح مع ما يؤثّر فيك من غم و نقيصة، فلا تأمن أن تستحق به المضار العظيمة» (4) عند ذلك يخاف المكلّف من ترك النظر «حتى لو لم يخف البتة لم يكن مكلّفا و لا عاقلا، إذ العاقل إذا خوّف بأمارة صحيحة خاف لا محالة» (5) .

و من اللافت للانتباه أن القاضي عبد الجبار إذا كان قد اعتبر العقل فطريا و قاسما مشتركا بين البشر، لا يتأثر بظروف الزمان أو المكان او البيئة، فإنه أدرك أن الباعث على النظر و الاستدلال و اكتساب العلوم النظرية يأتي من خارج الانسان - الداعي و الخاطر - و من داخله - الشك - معا، فالخاطر يثير الخوف من العقاب الخارجي، و الشك يثير الرغبة في التوازن الداخلي وصولا لليقين. و لكن هل من

ص: 67


1- 92. ناجي حسين: ثورة زيد بن علي/109.
2- 93. القاضي عبد الجبار: فرق و طبقات المعتزلة/44.
3- 94. الأمالي:175/1. حاول المعتزلة أحيانا احتواء بعض الخلفاء و ترشيدهم دون اللجوء للسيف كما فعلوا مع يزيد بن الوليد بن عبد الملك و محمد بن مروان آخر خلفاء بني أمية. انظر محمد اسماعيل: الحركات السرية في الاسلام/141.
4- 95. الأشعري: مقالات الاسلاميين 154/1.
5- 96. المرتضى: الأمالي 169/1.

الضروري أن يؤدي النظر إلى المعرفة؟ أ لا يجوز أن يؤدي بنا للجهل؟ و في هذه الحالة لا يكون ثمّة ضرورة له ما دام سينقلنا إلى جهل آخر. ينكر القاضي أن يؤدي النظر إلى الجهل و إن جوّز أن يؤدّي إلى غالب الظن أو أن يؤدّي - على أسوأ تقدير - إلى الشك مرة أخرى. و لكنه إذا كان نظرا من عاقل في دليل معلوم، فلا بدّ أن يؤدي إلى العلم «و من حق النظر أن يكون فيه ما يولّد العلم، إذا كان نظرا من عاقل في دليل معلوم له على الوجه الذي يدلّ، و يكون فيه ما لا يولّد العلم، بل يقتضى غالب الظن في أمور الدنيا، و قد يكون فيه ما لا يحصل عنده الوجهان جميعا. و لا يصحّ أن يكون فيه ما يولّد الشبهة أو الجهل... و كما لا يجوز أن يولّد الجهل، فكذلك لا يجوز أن يولّد غير الاعتقاد من أفعال القلوب» (1) .

و معنى ذلك أن النظر من شأنه أن يولّد العلم إذا كان نظرا في دليل معلوم على الوجه الذي يدلّ. و عدم الوصول بالنظر إلى مرحلة العلم يعني وجود نوع من الخطأ في استخدام الدليل، أو في معرفة وجه الاستدلال به.

و تتحدد أنواع الأدلّة عند القاضي عبد الجبار بناء على تحديده لغاية المعرفة.

و غاية المعرفة هي الوصول إلى معرفة المكلّف بكل صفاته من التوحيد و العدل، ثم الوصول بعد ذلك إلى معرفة أوامره و نواهيه حتى يمكن أداء التكاليف الشرعية التي تؤدي إلى الثواب و تعصم من العقاب، و من الطبيعي أن تنقسم الأدلّة تبعا لهذا الترتيب المعرفي. فثمّ أدلّة تعرف بها قضايا التوحيد. و ثمّ أدلّة تعرف بها قضايا العدل. و نوع ثالث تعرف به النبوات و الشرائع. و هكذا تنقسم الأدلّة إلى أنواع ثلاثة يختصّ كل منها بمرحلة من مراحل المعرفة «فمنها ما يدلّ على الصحة و الوجوب، و منها ما يدلّ في الدواعي و الاختيار، و منها ما يدلّ بالمواضعة و القصد. و رتبنا كل واحد من هذه الوجوه، بأن بيّنا: أن المقدّم على ما يدلّ من حيث الصحة، و هو الذي يتطرّق به إلى معرفة التوحيد، ثم يتلوه ما يدلّ بالدواعي، و هو الذي يعرف به العدل، ثم يتلوه ما يدلّ بالمواضعة و تعرف - به - النبوات و الشرائع (2) .

يختصّ النوع الأول من الأدلّة بأنه يعرف به التوحيد. و تفصيل ذلك أن هذا النوع الأول يدلّ على الصحة و الوجوب، بمعنى أن وجود الفعل أو وقوعه يدلّ - وجوبا - على وجود الفاعل. و إن وقع الفعل محكما دلّ على أن فاعله عالم و لا دخل لحال الفاعل أو الفعل في هذه الدلالة. أي أنها دلالة مجردة منفصلة عن أحوال الفعل و أحوال الفاعل معا. و تستند هذه الدلالة - في حركة العقل الفكرية للنظر و الاستدلال - إلى العلوم الضرورية القائمة في الذهن و التي اعتبرها القاضي من كمال العقل. و أول هذه الحركة الاستدلالية البدء بالضروريات، و أهمها أن

ص: 68


1- 97. انظر محمود اسماعيل: الحركات السرية في الاسلام/140،133.
2- 98. محمد عمارة: رسائل العدل و التوحيد. المقدمة/67.

الفعل يتعلّق بالفاعل، و أن ثمّ أجسادا في العالم لا نقدر عليها، فلا بدّ من فاعل لها مغاير لها و لنا. و أن هذه الاجسام لا تخلو من الاجتماع و الافتراق و الحركة و السكون و كافة الأعراض، و هذه الأعراض محدثة و لا يجوز عليها البقاء و كل ما لا يخلو من الحدوث محدث مثله. و هكذا ينتهي المتكلم إلى اثبات حدوث العالم.

لا يمكن لفاعل العالم أن يكون محدثا و إلاّ كان مثلها، و بذلك تثبت صفة القدم للّه.

ثم يستدلّ بوقوع الفعل أيضا على القدرة، و بوقوعه محكما على العلم. و يستدلّ بوجود القدرة و العلم على الحياة (1) .

أمّا النوع الثاني من الأدلّة، و هو ما يدلّ بالدواعي و الاختيار، فهو النوع الذي يتوصّل به إلى معرفة «العدل». و هذا النوع يقع في الترتيب تاليا للنوع الأول. بمعنى أننا إذا عرفنا اللّه بصفاته و أنه ليس جسما و لا عرضا «و لا يجوز عليه ما يجوز على الأجسام من الصعود و الهبوط و الارتفاع و الانحدار و الانتقال من مكان إلى مكان و لا تجوز عليه الزيادة و النقصان» (2) .. الخ، إذا عرفنا ذلك أمكننا أن نعرف ما يختاره من الأفعال و ما يمتنع عنه. و ما دمنا علمنا أنه عالم، فلا بدّ أنه عالم بقبح القبيح و مستغن عنه، و عالم باستغنائه عن فعله. و من شأن هذا العلم أن يكون داعيا له لاختيار الأفعال الحسنة دون القبيحة. و ينتهي بنا كل ذلك إلى «العلم بكونه عدلا حكيما، لا يفعل القبيح و لا يخلّ بالواجب، و لا يأمر بالقبيح، و لا ينهى عن الحسن، و أن أفعاله كلها حسنة. فبهذه الطرق يحصل المرء لنفسه علوم التوحيد و العدل» (3) .

و النوع الثالث من الأدلّة و هو الذي يدلّ بالمواضعة و تعرف به النبوات و الشرائع، أو بكلمات أخرى هو الوحي، الذي نستطيع عن طريقه معرفة الشريعة. غير أن علينا أن نلاحظ أن القاضي قد رتّب الأنواع الثلاثة من الأدلّة ترتيبا بحسب أهميتها المعرفية. فأدلّة التوحيد أولا، ثم أدلّة العدل فأدلّة الشرع.

و معنى هذا أننا - كما سبقت الاشارة - لا نستطيع معرفة الشرع إلاّ بعد معرفة التوحيد و العدل إذ أن معرفة الشرع فرع عليهما.

و يفرّق القاضي عبد الجبار بين أنواع الأدلّة من وجه آخر يكشف بشكل أوضح عن الدلالة الشرعية «اعلم أن الأدلّة على ضربين: أحدهما يدلّ على ما يدلّ عليه، لوجه يختصه لا يتعلق باختيار الفاعل له و ما جرى مجراه فهذا لا يجوز أن تتغير حاله في الدلالة، و ذلك كدلالة الأعراض على حدوث الاجسام، و الفعل بمجرده على أن فاعله قادر، و بكونه محكما على أنه عالم. و الثاني يدلّ على مدلوله، لوقوعه على وجه له تعلق باختيار فاعله، كدلالة الكلام على ما يدلّ عليه، لأن الخبر إنما

ص: 69


1- 99. المعتزلة/64.
2- 100. القاضي عبد الجبار: فرق و طبقات المعتزلة/38،32.
3- 101. انظر المرجع السابق/38-41.

يدلّ على المخبر عنه من حيث قصد به الاخبار عما هو خبر عنه، و من حيث كان فاعله على صفة و لا يدلّ بجنسه» (1) و معنى ذلك أن الكلام - الدلالة الشرعية - لا يدلّ إلاّ بعد فهم دواعي المتكلم و قصده. و لا يمكن فهم الدواعي إلاّ بعد معرفة التوحيد و العدل. أي معرفة اللّه بصفاته و ما يجوز عليه و ما لا يجوز. و هذا هو الشرط الأول لفهم الدلالة الشرعية. أمّا الشرط الثاني فهو المواضعة، فالكلام - الدلالة الشرعية - لا يمكن أن يدلّ على ما يدلّ عليه إلاّ مع قدم المواضعة.

هذه التفرقة الحاسمة بين أنواع الدلالات الثلاث، و الفصل بينها، و ترتيبها ترتيبا تنازليا يبدأ بالأهم فالمهم، أو بالعلّة فالنتيجة، هو لبّ الخلاف بين المعتزلة و الأشاعرة. (2) فلقد رأينا أن الباقلاني لم يميز بوضوح بين الدليل العقلي و الدليل الشرعي من حيث الترتيب و الأهمية، فأحيانا يعتبر العقل حكما على الشرع، و أحيانا يفعل العكس. و كان سلوكه العملي تطبيقا حرفيا لمبدأ سيادة الشرع على العقل.

و من جهة أخرى لم نجد عنده فرقا حاسما بين الدلالة الشرعية و دلالة اللغة، بالرغم من أنه اعتبرهما دلالتين. أمّا القاضي عبد الجبار فقد وحّد بينهما، و كان هذا مدخله الطبيعي لدراسة القرآن و لقضية التأويل و من ثمّ تحتاج لوقفة متمهلة.

4 - الدلالة اللغوية و شرط المواضعة

يعدّ البحث في «الكلام» قضية خلافية حادة بين المعتزلة و خصومهم، خصوصا الأشاعرة. و إذا كان كل من الباقلاني و القاضي عبد الجبار قد اعتبر الدلالة الشرعية تدلّ من جهة المواضعة و المواطأة، و أضاف القاضي إليها شرط «القصد»، فإنهما لم يتفقا على تحديد مفهوم الكلام، و لا على تحديد جهة المواضعة و المواطأة. و الجذر الديني لهذه المشكلة يتصل - في الفكر الاعتزالي - بقضية التوحيد و بقضية خلق القرآن. و قد كان هدف المعتزلة من اثارة هذه المشكلة - متأثرين بمن سبقهم من المتكلمين كالجعد بن درهم و غيلان الدمشقي - مرتبطا برغبتهم في نفي وجود أي صفة قديمة خارجة عن الذات الإلهية، و ذلك ليخلص لهم مبدأ التنزيه و التوحيد نقيا من أي ايهام بالتعدد و لذلك فصلوا بين صفات الذات و صفات الفعل. و اقتصرت الصفات الذاتية عندهم على العلم و القدرة و الحياة و القدم، و هي صفات ليست منفصلة عن الذات، بل هي هو؛ فاللّه - عند أبي. الهذيل العلاف-«عالم بعلم هو هو، و قادر بقدرة هي هو، و هو حي بحياة هي هو» (3) .أمّا الكلام فقد اعتبره المعتزلة من صفات الفعل. و هي صفات لا تختلف في الغائب عنها في الشاهد، و بالتالي يجوز فيها القياس، و اقامة معرفتنا لما

ص: 70


1- 102. انظر زهدي جار اللّه: المعتزلة/26 و ما بعدها.
2- 103. انظر القاضي عبد الجبار: فرق و طبقات المعتزلة/46-47.
3- 104. المرجع السابق/44.

غاب عنا قياسا على معرفتنا لما نشاهده. و يقسم القاضي عبد الجبار الصفات الإلهية على أقسام «منها ما يجب له في كل حال، ككونه عالما و قادرا. و منها ما يستحيل عليه في كل حال، ككونه متحركا و ساكنا، إلى سائر ما يختصّ ما خالفه من الجواهر و الأعراض. و منها ما يستحيل عليه فيما لم يزل و يصحّ عليه فيما بعد ذلك، كصفات الأفعال أجمع، ككونه محسنا و متفضّلا و رازقا و خالقا، فلا يجب إذا قلنا أنه يستحيل كونه متكلّما فيما لم يزل أن يستحيل ذلك عليه أبدا، بل يصحّ ذلك عليه إذا صحّ أن يفعل الكلام، كما ذكرناه في صفات الأفعال» (1) فصفة الكلام إذن صفة فعل، و ليست صفة ذات. و صفة الفعل لا يمكن أن يوصف بها اللّه فيما لم يزل، بل هي صفة حادثة مع وجود الحاجة للكلام. و إذا كان الأمر كذلك، فإن كلام اللّه ليس قديما، بل هو محدث لارتباطه بوجود من يخاطبه عز و جل من الملائكة أو البشر، و وجودهم محدث لا مراء. و الكلام الإلهي - من ناحية أخرى - لا بدّ أن يكون مفيدا، لأنه يتوجه إلى مخاطب. فإن لم يكن مفيدا دخل في العبث الذي يتنزّه اللّه عنه، لوقوع أفعاله كلها في دائرة الحكمة و الصواب. و وجوب الإفادة في كلام اللّه مع وجوب الحدوث يؤديان معا إلى ضرورة أن يكون كلامه سبحانه مسبوقا بالمواضعة «لأن الكلام لا يكون مفيدا إلاّ و قد تقدّمت المواضعة عليه، و إلاّ كانت حاله و حال سائر الحوادث لا تختلف» (2) .

لا يختلف الأشاعرة مع المعتزلة في اعتبار المواضعة شرطا من شروط الدلالة اللغوية كما رأينا عند الباقلاني. و لكنهم يختلفون معهم في تحديد صفة الكلام الإلهي على أساس «أن كلام اللّه تعالى صفة لذاته لم يزل و لا يزال موصوفا به و أنه قائم به و مختص بذاته» (3) .و هذا الخلاف بين قدم الكلام الإلهي - قول الأشاعرة - و بين حدوثه - قول المعتزلة - كان من شأنه أن يثير خلافا حول أصل المواضعة في اللغة هل هي توقيف من اللّه أم اصطلاح من البشر؟ و كان من الطبيعي أن يذهب الأشاعرة إلى اعتبار المواضعة توقيفا، ما دام الكلام صفة ذاتية قديمة من صفات اللّه عز و جل. و إلى العكس من ذلك ذهب المعتزلة اتساقا مع نظرتهم للكلام الإلهي على أنه صفة من صفات الفعل.

و إذا كانت هذه القضية تبدو ناضجة جدا و واضحة المعالم في القرن الرابع حيث يعبّر ابن فارس عن رأي القائلين بالتوقيف، و يعبّر القاضي عبد الجبار عن رأي القائلين بالاصطلاح، و بينهما يتراوح ابن جني - رغم اعتزاليته - بين التوقيف و الاصطلاح و تقليد أصوات الطبيعة. إذا كان الأمر كذلك، فمن المؤكد أن القضية أقدم من ذلك، إذ هي ترتدّ - كما أشرنا - للخلاف حول صفة الكلام و خلق

ص: 71


1- 105. الملل و النحل 46/1، و انظر أيضا محمد عبد الهادي أبو ريده: إبراهيم بن سيّار النظّام و آراؤه الكلامية/80. 1. راجع في هذا الصدد ما يرويه صاحب «فرق و طبقات المعتزلة» من فشل الفقهاء في التصدي لمجادلة أصحاب الأديان الأخرى، و اضطرار الرشيد للاستعانة في ذلك بالمتكلمين/63 - 65. 2. المرجع السابق/55-56، و انظر البغدادي: الفرق بين الفرق/131. 3. انظر بحث جولد تسيهر عن هذا الحديث: العناصر الأفلاطونية المحدثة و الغنوصية في الحديث/218 و ما بعدها. التراث اليوناني في الحضارة الاسلامية. 4. عبد المنعم ماجد: العصر العباسي الأول 67/1 و انظر أيضا أوليري: الفكر العربي و مركزه في التاريخ/60-61. 5. محمود اسماعيل: الحركات السرية في الاسلام/135. 6. الأشعري: مقالات الاسلاميين 214/1. 7. المرجع السابق 217/1. 8. علي مصطفى الغرابي: أبو الهذيل العلاف/90 نقلا عن المقالات. 9. البغدادي: الفرق بين الفرق/129. 10. ماجد فخري: دراسات في الفكر العربي/78. 11. الخياط: الانتصار/28. 12. البغدادي: الفرق بين الفرق/138. 13. القاضي عبد الجبار: المغني في أبواب التوحيد و العدل 11/9. 14. السابق 12/9. 15. الجاحظ: الحيوان 36/5. 16. البغدادي: أصول الدين/6. 17. الخياط: الانتصار/40-41. 18. الحيوان 542/5-543. 19. الحيوان 56/7. 20. السابق 42/1. 21. السابق 116/2. 22. الشهرستاني: الملل و النحل 75/1. و أنظر أيضا البغدادي: الفرق بين الفرق/175. 23. المغني في أبواب التوحيد و العدل 11/9. 24. البغدادي: الفرق بين الفرق/175-176. 25. انظر حسين القوتلي: مقدمة «العقل»، «فهم القرآن»/107 نقلا عن ابن الأثير و الخطيب البغدادي. 26. البغدادي: أصول الدين/308. 27. أبو الحسن الأشعري: مقالات الاسلاميين 346/1. 28. الباقلاني: الانصاف/127. 29. الحارث المحاسبي: العقل/203. 30. المرجع السابق/205. 31. المرجع السابق/201-202. 32. المرجع السابق/232. 33. العقل/215. 34. السابق/216. 35. السابق/207. 36. محمد عبد الهادي أبو ريده: مقدمة كتاب «التمهيد» للباقلاني/14. 37. الشهرستاني: الملل و النحل 97/1. 38. المرجع السابق 98/1. 39. التمهيد/34 و انظر الانصاف/12. 40. المرجع السابق/35، الانصاف/13. 41. المرجع السابق/35، الانصاف/13. 42. المرجع السابق/نفس الصفحة، الانصاف/نفس الصفحة. 43. الانصاف/13. 44. التمهيد/37. 45. السابق/نفس الصفحة. 46. السابق/نفس الصفحة. 47. السابق/36. 48. الانصاف/13. 49. الانصاف/14 و في التمهيد/40 هو تقسيم المستدل و فكره في المستدل عليه و تأمله له. 50. الانصاف/14. 51. التمهيد/38-39. 52. التمهيد/39. 53. التمهيد/39. 54. الانصاف/18. 55. انظر عبد الرحمن بدوي: في النفس. المقدمة/2. 56. مفاتيح العلوم/81. 57. الشريف الجرجاني: التعريفات/81. 58. الشريف الجرجاني: التعريفات/81. 59. الشريف الجرجاني: التعريفات/81. 60. الشهرستاني: الملل و النحل 82/1. 61. الشهرستاني: الملل و النحل 49/1. 62. الشهرستاني: الملل و النحل 95/1. 63. الملل و النحل 85/1. 64. المغني في أبواب التوحيد و العدل 354/16. 65. الملل و النحل 81/1. 66. القاضي عبد الجبار: المغني 403/16. 67. القاضي عبد الجبار: المغني 174/4-175. 68. انظر القاضي عبد الجبار: المغني 93/11 و ما بعدها. 69. القاضي عبد الجبار: المغني 371/11-372. 70. المغني 372/11. 71. المغني 375/11. 72. المغني 380/11. 73. المغني 380/11. 74. المغني 229/13-230. 75. المغني 47/12. 76. المغني 48/12. 77. المغني 48/12. 78. المغني 326/4. 79. المغني 16/12. 80. المغني 13/12. 81. المغني 58/12. 82. الحيوان 207/1. 83. المغني في أبواب التوحيد و العدل 383/11. 84. المغني في أبواب التوحيد و العدل 384/11. 85. البغدادي: أصول الدين/24. 86. المغني في أبواب التوحيد و العدل 375/11. 87. المغني في أبواب التوحيد و العدل 483/11-484. 88. المغني في أبواب التوحيد و العدل 387/12. 89. المغني في أبواب التوحيد و العدل 11/12. 90. المغني في أبواب التوحيد و العدل 12/12. 91. الحيوان 35/6-36. 92. المغني 401/12. 93. المغني 402/12-403. 94. المغني 44/12. 95. المغني 431/12-432 و انظر أيضا ص 433 صياغة أخرى للخاطر. 96. القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة/68، و انظر المغني 210/11. 97. القاضي عبد الجبار: المغني 11/12. 98. المغني 349/16 و انظر أيضا نفس المصدر 152/15. 99. انظر القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة/65-66 و أنظر أيضا ماجد فخري: دراسات في الفكر العربي/96. 100. القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة/66. 101. القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة/66. 102. القاضي عبد الجبار: المغني 215/8. 103. انظر زهدي جار اللّه: المعتزلة/72 و ما بعدها. 104. الأشعري: المقالات 245/1. 105. المغني في أبواب التوحيد و العدل 136/7.
2- 106. المغني في أبواب التوحيد و العدل 92/7.
3- 107. الباقلاني: الانصاف/23.

القرآن و هي خلافات أدّت إلى فتن دامية، انتهت بالقضاء على الإزدهار الاعتزالي في التاريخ الاسلامي (1) .

و يقرر القرآن أن اللّه هو الذي علّم آدم الاسماء كلها، و لذلك استند اصحاب التوقيف إلى هذه الآية (سورة البقرة/31) للاستدلال على صحة رأيهم.

أمّا القائلون بالاصطلاح فقد وقعوا في مآزق حاولوا الخروج منها بالتأويل.

و اضطرب المعتزلة جميعا أمام هذه الآية اضطرابا عظيما. ذهب أبو علي الجبائي (ت 303 ه) مستندا إلى هذه الآية إلى أن «هذه اللغات أصلها التوقيف» (2) و بذلك أراح نفسه، لأنه كان يعتبر الخاطر الداعي إلى النظر - أساس التكليف - اعتقاد، و بالتالي لا بدّ قبل وقوع التكليف من جهة اللّه من التوقيف على بعض اللغات ليصحّ النظر، و يحسن ارسال الرسل. و لقد خالف أبو هاشم (ت 321 ه) أباه في هذه القضية، و يهاجم ابن القيّم الجوزية أبا هاشم على أساس «أنه زعم أن اللغات اصطلاحية، و أن أهل اللغة اصطلحوا على ذلك» (3) و أنه أول من ابتدع هذه البدعة. و يبدو في حديث أبي هاشم أنه يردّ على أبيه تعليقه بعثة الرسل و الوحي على التوقيف على بعض اللغات حين يقول:«إن التوقيف في تعليم الأسماء و الصفات لا يصحّ. و يقول (متأوّلا آية سورة البقرة) إن تعليم اللّه تعالى آدم الأسماء لا يصحّ إلاّ و قد عرف، مواضعة، على لغة الملائكة، ثم وقعت المخاطبة بها، فعرف عند ذلك ما عرفه اللّه تعالى» (4) و هكذا يفترض أبو هاشم أن ثمّة لغة تواضعت عليها الملائكة، و أن آدم كان قد عرف هذه اللغة قبل أن يعلّمه اللّه اسماء الأشياء، ثم علّمه اللّه اسماء هذه الأشياء باللغة التي عرفها آدم عن الملائكة. و ينسى أبو هاشم أنه يرتدّ بقضية المواضعة إلى الملائكة الذين هم خلق للّه، و يسلب آدم أي فعّالية في المواضعة اللغوية. و حقيقة المعضلة التي لم يدركها أبو هاشم أن سياق الآية نفسها كان في معرض بيان فضل آدم على الملائكة، و اختيار اللّه له للخلافة في الأرض، و من ثمّ تزويده ببعض الوسائل التي تعينه على الحياة و منها تعليمه أسماء الأشياء، و هي أسماء لم تكن الملائكة تعرفها، حتى أنها عجزت عن الإنباء بأسماء هذه الأشياء، و بذلك تميّز عنهم آدم بهذا العلم الذي وهبه اللّه إياه.

و تعدّ فكرة الاصطلاح في اللغة - عند المعتزلة - ضرورية لنفي مشابهة اللّه للبشر، و ذلك إلى جانب اتصالها بقضية الكلام و حدوثه. فالمواضعة تحتاج للاشارة المادية الحسية بمعنى أن المواضعة بين اثنين مثلا على تسمية شيء ما باسم ما تستلزم أن يشير أحدهما للشيء و ينطق الاسم عدة مرات، و ذلك «على حسب ما نجد الطفل ينشأ عليه فيتعلم لغة والديه، إذا تكررت منهما الإشارات» (5) .هذه

ص: 72


1- 108. و القضية على أي حال طرحت في القديم من وجهة نظر فلسفية عند اليونان، و ليست لدينا قرائن تؤيد أو تنفي اطلاع المفكرين المسلمين على هذا الجانب من الفكر اليوناني. و من وجهة نظر الكتب المقدسة فالقضية مطروحة في العهد القديم بشكل يوحي أن آدم هو الذي أعطى للأشياء أسماءها. فقد جاء في سفر التكوين بعد خلق آدم «و قال الرب الإله ليس جيدا أن يكون آدم وحده. فأصنع له معينا نظيره. و جبل الرب الإله من الأرض كل حيوانات البرية و كل طيور السماء. فأحضرها إلى آدم ليرى ما ذا يدعوها. و كل ما دعا به آدم ذات نفس حية فهو اسمها. فدعا آدم بأسماء جميع البهائم و طيور السماء و جميع حيوانات البرية». فالعهد القديم ينسب إلى آدم تسمية الأشياء التي عرضها الرب عليه، و هي تسمية صارت لها فيما بعد، بمعنى أن آدم هو الذي وضع الأسماء دون أن يتلقى من اللّه تعليما مباشرا لهذه الأسماء.(الاصحاح الثاني/19-21 و قد راجعت النص على الأصل العبري بمعونة الأستاذ الدكتور محمود فهمي حجازي فوجدناه مطابقا.).
2- 109. القاضي عبد الجبار: المغني 106/15.
3- 110. الصواعق المرسلة 244/2.
4- 111. القاضي عبد الجبار: المغني 106/15.
5- 112. القاضي عبد الجبار: المغني 106/15.

الإشارة المادية - التي هي جزء من المواضعة - لا تجوز على اللّه لأنه ليس جسما، و هي فكرة يطرحها كل من ابن جني و القاضي عبد الجبار. يقول ابن جنى:

«و القديم سبحانه لا يجوز أن يوصف بأن يواضع أحدا من عباده على شيء، إذ قد ثبت أن المواضعة لا بدّ معها من ايماء و إشارة بالجارحة، نحو المومى إليه، و المشار نحوه، و القديم سبحانه لا جارحة له، فيصحّ الايماء و الإشارة بها منه. فبطل عندهم أن تصحّ المواضعة على اللغة منه» (1) .و يقول القاضي مؤكدا نفس الفكرة:«و أمّا أول المواضعات فلا بدّ فيه من تقدم الإشارة التي تخصص المسمى... و لذلك جوّزنا من القديم تعالى تعليمه لغة بعد تقدم المواضعة على لغة، و لم نجوّز أن يبتدئ بالمواضعة لاستحالة الإشارة عليه سبحانه» (2) .

و ينتهي المعتزلة - تأكيدا لمبدأ التوحيد - إلى أن المواضعة على اللغات لا بدّ أن تسبق كلام اللّه حتى يقع مفيدا، و لا يجوز أن يبدأ اللّه المواضعة على اللغة، لأن المواضعة تستلزم الإشارة الحسية التي لا تجوز عليه سبحانه فإذا تقدّمت المواضعة على لغة ما بين البشر، فلا مانع عند المعتزلة بعد ذلك من أن يبدأ اللّه مواضعة على لغة أخرى. و هذه المواضعة الثانية لا تستلزم الإشارة الحسية، لأن الكلام باللغة المتواضع عليها سابقا يغني - في هذه الحالة - عن الإشارة الحسية التي لا تجوز على اللّه.«يجوز أن ينقل اللّه اللغة التي قد وقع التواضع بين عباده عليها، بأن يقول:

الذي كنتم تعبّرون عنه بكذا، عبّروا عنه بكذا، و الذي كنتم تسمونه كذا ينبغي أن تسموه كذا، و جواز هذا منه سبحانه كجوازه من عباده» (3) .

و إلى جانب ارتباط فكرة الاصطلاح في المواضعة اللغوية بقضية التوحيد، فإنها ترتبط بقضية المعرفة من جانب التفرقة بين العلم الضروري و العلم الاكتسابي. فالإشارة الحسية - و هي شرط في المواضعة - قرينة المعرفة الضرورية، أي أن الإسم حين يرتبط نطقه بالإشارة الحسية، يقع العلم الضروري بأن هذا الشيء المشار اليه يدعى بهذا الاسم. و هذه المعرفة الضرورية تعدّ نتيجة للاشارة الحسية، إذ هي معرفة ادراكية، أو علم بالمدركات كما يقول المعتزلة. و إذا كانت هذه الاشارة الحسية لا تجوز على اللّه، فإننا من جانب آخر لا يمكن أن نعرف قصده تعالى باضطرار، كما نعرف قصد المتكلم العادي الذي يزاوج - عادة - بين الكلام و الاشارة «أنه لا طريق إلى العلم بالمقاصد على جهة الاكتساب بالكلام، و تعلقه بالمسمى» (4) .و نحن لا يمكن أن نعرف قصد اللّه تعالى باضطرار، لأن هذه المعرفة لا تجوز «في حال التكليف كما لا نعلم ذاته باضطرار في حال التكليف» (5) .

و ليس الانسان وحده هو الذي لا يجوز عليه معرفة قصد اللّه معرفة ضرورية،

ص: 73


1- 113. الخصائص 43/1.
2- 114. المغني 164/5 و انظر نفس المرجع 109/7.
3- 115. ابن جني: الخصائص 43/1.
4- 116. القاضي عبد الجبار: المغني 163/5.
5- 117. القاضي عبد الجبار: المغني 164/5 و أنظر نفس المرجع 162/15.

بل الملائكة أيضا لا يتسنى لها ذلك «لأنها مكلّفة و لم يكن لها قبل التكليف حال علمت فيه القديم، جل و عز، ضرورة لأن هذه الحال إنما تجوز في أهل الآخرة و من يجري مجراهم دون غيرهم» (1) و هكذا إذا كانت معرفة اللّه بصفاته لا يجوز أن تكون ضرورية، سواء للملائكة أو البشر لتساويهما في التكليف العقلي، فإن معرفة قصده لا يمكن أن تكون ضرورية، بل كلاهما معرفة نظرية كسبية استدلالية.

كل ذلك ينفي أن يبدأ اللّه الملائكة أو البشر مواضعة على لغة، لأن من شرط المواضعة الإشارة الحسية التي تؤدّي إلى معرفة قصد المتكلم و المشير باضطرار. و كلا الأمرين مستحيل في حق اللّه، لأنه يؤدّي إلى هدم مبدأ التكليف العقلي، و هو حجر الزاوية في الفكر الاعتزالي، إلى جانب ما يؤدي اليه من مشابهة اللّه للأجساد.

و إذا كانت قضية المواضعة و الاصطلاح في اللغة تعدّ هامة في الفكر الاعتزالي، لاتصالها بالتوحيد من جانب و بالمعرفة الاستدلالية باللّه من جانب آخر، فقد كان من الطبيعي أن يعتبر القاضي عبد الجبار - خلافا للباقلاني - القصد شرطا من شروط الدلالة الشرعية و هي الكلام. فإذا كان المتكلم الماثل أمامنا يمكن أن نفهم قصده باضطرار بحكم ما يقارن كلامه من اشارات، فإن هذه المقارنة ليست متوفرة في كلام اللّه، لأنه ليس ماثلا أمامنا، و لا هو ممن تجوز عليه الإشارة.

و من جهة أخرى فإن صفات اللّه - صفات الذات و الفعل معا - يمكن التوصّل إلى معرفتها عن طريق الدليل العقلي. و صفات الفعل هي التي تكشف عن دواعي اللّه و اختياراته، أي هي التي تكشف للعقل عما يجوز عليه من الأفعال و ما لا يجوز منه، فهو عدل لا يختار القبيح و لا يأمر به و لا ينهى عن الحسن و لا يظلم و لا يكذب في أخباره.. الخ كل صفات العدل التي يمكن الاستدلال عليها بالعقل. و صفات الفعل هذه يمكن أن تحدد لنا مقاصد اللّه بكلامه. و هكذا ترتدّ الدلالة اللغوية - الكلام - إلى العقل الذي يعرف قصد اللّه استدلالا قبل ورود الشرع، و هذا أمر سنتعرّض له تفصيلا عند حديثنا عن المجاز و التأويل.

قضية الاصطلاح في المواضعة إذن ليست قضية فرعية أو ثانوية، فهي تمتد بجذورها في كل قضايا الفكر الاعتزالي. و لقد كان من الطبيعي أن تتجمع خيوط هذه القضية حول الآية الكريمة وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها. و هي آية كانت تواجه كل مفكر معتزلي يبحث في أصل اللغة و منشئها. و لقد سبق أن رأينا تسليم أبي علي الجبائي بمنطوقها، و افتراضات أبي هاشم لتأويلها. أمّا القاضي عبد الجبار فيكاد يجمع كل تفاصيل النقاش في القضية عند تأويله لهذه الآية «إن اللّه لا يصحّ أن

ص: 74


1- 118. القاضي عبد الجبار: المغني 267/5.

يعرّف المكلّف الأسماء كلها لأنه لا بدّ من مواضعة متقدمة على لغة واحدة، ليفهم بها سائر اللغات، فمتى لم تتقدم، لم يصح أن يعرّفه مع التكليف، لأن تعريف الأسماء يقتضي تعريف المقاصد و لا يصحّ فيمن يعرف اللّه باستدلال أن يعرف مقاصده ضرورة، حتى إذا عرف لغة واحدة صحّ أن يخاطبه بها فيعرفه سائر اللغات، فلا بدّ أن يكون آدم قد عرف مواضعة الملائكة على لغة ما، ثم علّمه الاسماء في سائر اللغات بتلك اللغة» (1) و إذا كانت الآية تنصّ على أن اللّه قد علّم آدم كل الأسماء، فسلاح التأويل كفيل بحل المشكلة. و الدليل العقلي على استحالة أن يكون قد علّمه كل الأسماء، لاستحالة ابتداء المواضعة على اللّه، كفيل بتخصيص عموم لفظ «كل». فإذا كان هذا اللفظ يدلّ على العموم، و ليس في لفظ الآية ما يدلّ على تخصيص هذا العموم كالاستثناء أو غيره من أدوات التخصيص اللغوية، فإن هذا الدليل العقلي يخصص عموم الآية. و من جهة أخرى فالعقل يحدد قصد اللّه و يعرفه، و هو بذلك لا يقلّ دلالة عن القرينة اللفظية إن لم يزد عليها.«إذا صحّ بما ذكرناه من دليل العقل أن العلم بمراده بالخطاب لا يصحّ إلاّ على الوجه الذي قدّمناه (يعني تقدم المواضعة) وجب تخصيص قوله «الأسماء كلها، و القطع على أنه لا بدّ من لغة عرفها إمّا بمواضعة بينه و بين حواء أو الملائكة، أو على جهة الإتباع للغتهم، ثم علّمه أسماء تلك الأجناس باللغات الأخر، و إن لم يمتنع أن يعرّفه أسماء أشياء لم يتواضع عليها في تلك اللغة، لأن ذلك غير ممتنع في بعض الأسماء، إذا حصلت المواضعة على غيرها من الأسماء.

و بعد، فإن ظاهر الآية يقتضي أن ما علمه من الأسماء هو ما تقدّمت المواضعة عليها، و صارت بذلك أسماء، لأن الاسم إنما يسمى بذلك متى تقدّمت فيه مواضعة أو ما يجري مجراه، لانه إنما يصير اسما للمسمى بالقصد، و متى لم يتقدّم تعلقه بالمسمى لأجل القصد، لم يسم بذلك» (2) .

*** خالف أهل السنة و الأشاعرة المعتزلة في قضية المواضعة الاصطلاحية للغة.

و هذا الخلاف يرتدّ في جذوره الحقيقية، إلى قضية خلق القرآن من جهة، و قضية المعرفة من جهة أخرى. ذهب أبو الحسن الأشعري إلى أن القرآن «كلام اللّه غير مخلوق» (3) ،و ذهب إلى تقديم النقل على العقل. يقول فيما يحكيه الباقلاني عنه و يوافقه عليه «لا مدخل للعقل و القياس في ايجاب معرفته و تسميته و إنما يعلم ذلك بفضله من جهته» (4) .و إذا كان أول من قال بالمواضعة الاصطلاحية للغات هو أبو هاشم الجبائي، فإن أول من قال بالتوقيف من غير المعتزلة هو أبو الحسن

ص: 75


1- 119. متشابه القرآن/83-84.
2- 120. المغني في أبواب التوحيد و العدل 169/5.
3- 121. المقالات 346/1.
4- 122. الانصاف/36.

الأشعري، وصلة كليهما بأبي علي الجبائي معروفة. فقد جمعت بين التلمذة و البنوة الصريحة عند أبي هاشم، و بين التلمذة و بنوة التربية عند الأشعري. و ينقل السيوطي عن الفخر الرازي آراء المختلفين حول هذه القضية «الألفاظ إمّا أن تدلّ على المعاني بذواتها، أو وضع اللّه إياها، أو بوضع الناس، أو يكون البعض بوضع اللّه و الباقي بوضع الناس، و الأول مذهب عباد بن سليمان، و الثاني مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري و ابن فورك، و الثالث مذهب أبي هاشم، و أمّا الرابع فإمّا أن يكون الابتداء من الناس و التتمة من اللّه، و هو مذهب قوم. أو الابتداء من اللّه و التتمة من الناس، و هو مذهب الاستاذ أبي إسحاق الأسفراييني»(المزهر 6/1) و من الواضح أن هذا القسم الرابع بفرعيه يمكن إدراجه تحت القسمين الثاني و الثالث، فالفرع الأول منه يدخل تحت القول بالاصطلاح، و قد قال به القاضي عبد الجبار فيما تقدم. أمّا الفرع الثاني فهو يدخل بالضرورة تحت القول بالتوقيف. و من الواضح أن القول الأول - قول عباد بن سليمان - لم يكتب له الذيوع و الانتشار و لم يتحمس له أحد من المشاركين في بحث المشكلة، بل رفضوه جميعا «و دليل فساده أن اللفظ لو دلّ بالذات لفهم كل واحد منهم كل اللغات، لعدم اختلاف الدلالات الذاتية» (1) .

و من الطبيعي أن يستدلّ القائلون بالتوقيف على صحة رأيهم بالآية الكريمة وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها و كل تفسيرات المفسّرين القدماء ابتداء من ابن عباس يمكن - في هذه الحالة - أن يستدلّ بها. (2) أما الدليل العقلي فيعرضه ابن فارس على النحو التالي: لو كانت اللغة اصطلاحا لجاز الاستشهاد بأشعار المحدثين و بكلامنا نحن المحدثين، و الدليل على أنها توقيف «اجماع العلماء على الاحتجاج بلغة القوم فيما يختلفون فيه أو يتفقون عليه، ثم احتجاجهم بأشعارهم. و لو كانت اللغة مواضعة و اصطلاحا لم يكن أولئك في الاحتجاج بهم بأولى منا في الاحتجاج بنا لو اصطلحنا على لغة اليوم و لا فرق» (3) غير أن هذا الرأي يؤدّي - بداهة - إلى انكار فكرة التطور في اللغة، ما دام دليل التوقيف هو الاستشهاد بلغة القدماء دون المحدثين. و يبدو أن ابن فارس بالفعل يؤمن بذلك، و إن كان لا ينكر حدوث التجديد و التطور في اللغة و لكنه يقف بالتطور عند عصر الرسول صلى اللّه عليه و سلم حيث بلغت اللغة غاية نضجها و تمامها. و معنى ذلك أن التوقيف في اللغة لم يتم دفعة واحدة، بل بدأ بآدم، و ظلّ يتطور و تنمو اللغة مع احتياج البشر و ارسال الرسل، حتى كانت بعثة محمد صلى اللّه عليه و سلم «فأتاه اللّه - عز و جل - من ذلك ما لم يؤته أحدا قبله تماما على ما أحسنه من اللغة المتقدمة. ثم قرّ الأمر قراره فلا نعلم لغة من بعده حدثت» (4) .

و هكذا ينتهي ابن فارس إلى ربط الحاجة للغة بالبعثة، تماما كما فعل أبو علي

ص: 76


1- 123. المزهر 16/1.
2- 124. انظر الطبري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن 170/1-171.
3- 125. الصاحبي/33.
4- 126. الصاحبي/33.

الجبائي، و ما دامت البعثة و الشريعة تأتي من عند اللّه، و اللغة من لوازمها ليفهم عن اللّه ما أنزل، فهي بدورها توقيف من اللّه علّمه عباده حتى يفهموا عنه.

*** ذهب أبو علي الفارسي - أستاذ ابن جني - إلى ما ذهب إليه أبو علي الجبائي من أن اللغات «من عند اللّه» و احتج بقوله سبحانه، وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها (1) و رغم محاولة ابن جني رفع التناقض و تأويل الآية و جعلها بعيدة عن أن تكون موضع خلاف على أساس «أنه قد يجوز أن يكون تأويله أقدر آدم على أن واضع عليها، و هذا المعنى من عند اللّه لا محالة. فإذا كان ذلك محتملا، غير مستنكر، سقط الاستدلال به» (2) .و هو تأويل يخرج من الافتراضات التي افترضها كل من أبي هاشم و القاضي عبد الجبار و تأوّلا الآية على أساسها. رغم هذه المحاولة الناجحة إلى حد كبير، و التي تقترب من حل المشكلة، يعود ابن جني ليفترض ان اللّه قد يجوز أن يواضع ابتداء، و دون مواضعة على لغة سابقة و ذلك «بأن يحدث في جسم من الأجسام، خشبة أو غيرها، اقبالا على شخص من الأشخاص، و تحريكا لها نحوه، و يسمع في نفس تحريك الخشبة نحو ذلك الشخص صوتا يضعه اسما له، و يعيد حركة تلك الخشبة نحو ذلك الشخص دفعات، مع أنه - عز اسمه - قادر على أن يقنع في تعريفه ذلك، بالمرة الواحدة، فتقوم الخشبة في هذا الايماء، و هذه الاشارة، مقام جارحة ابن آدم في الاشارة بها في المواضعة» (3) و هو افتراض لا يختلف كثيرا عن افتراض زملائه المعتزلة أن اللّه يخلق كلاما في جسم، شجرة مثلا، يسمعه النبي، و أنه لا يجوز أن يكون اللّه متكلما إلاّ على هذا النحو، دون أن يحلّ الكلام - و هو عرض - في ذاته. غير أن هذا الافتراض قصد منه نفي قدم الكلام الإلهي، و افتراض ابن جني مجرد محاولة للجمع بين جواز أن تكون اللغة توقيفا من اللّه، و بين نفي الاشارة و الجارحة عن اللّه. و الواقع أن ابن جني ظلّ مترددا بين الأمرين - بين الاصطلاح و التوقيف - و سجّل لنا هذه الحيرة و التردد.«و اعلم فيما بعد، أنني على تقادم الوقت، دائم التنقير و البحث في هذا الموضع، فأجد الدواعي و الخوالج قوية التجاذب لي، مختلفة جهات التغول على فكري، و ذلك أنني إذا تأمّلت حال هذه اللغة الشريفة، الكريمة، اللطيفة، وجدت فيها من الحكمة، و الدقة، و الارهاف، و الرقة، ما يملك عليّ جانب الفكر، حتى يكاد يطمح به أمام غلوة السحر، فمن ذلك ما نبّه عليه أصحابنا رحمهم اللّه، و منه ما حذوته على أمثلتهم، فعرفت بتتابعه و انقياده، و بعد مراميه و آماده، صحة ما وفقوا لتقديمه منه، و لطف ما أسعدوا به، و فرق لهم عنه، و انضاف الى ذلك

ص: 77


1- 127. الخصائص 39/1.
2- 128. الخصائص 39/1.
3- 129. الخصائص 44/1.

وارد الأخبار المأثورة، بأنها من عند اللّه جل و عز، فقوي في نفسي اعتقاد كونها توقيفا من اللّه سبحانه، و أنها وحي. ثمّ أقول في ضد هذا كما وقع لأصحابنا و لنا، و تنبهوا و تنبهنا، على تأمّل هذه الحكمة الرائعة الباهرة كذلك لا ننكر أن يكون اللّه تعالى قد خلق من قبلنا، و إن بعد مداه عنا، من كان ألطف منا أذهانا، و أسرع خواطر، و أجرأ جنانا، فأقف بين هاتين الخلتين حسيرا، و أكاثرهما فأنكفئ مكسورا، و إن خطر خاطر فيما بعد، يعلق الكف باحدى الجهتين، و يكفيها عن صاحبتها، قلنا به، و باللّه التوفيق» (1) و هو تردد عالم باحث مدقق لا يجد مرجّحا بين المذهبين، فيصل به الأمر إلى موقف «لا أدري».

و قد كان يمكن لابن جني أن يتوقف عند رأيه الثالث، الذي ذهب فيه إلى أن اللغة نشأت تقليدا لأصوات الطبيعة «كدوي الريح، و حنين الرعد، و خرير الماء، و شحيج الحمار، و نعيق الغراب، و صهيل الفرس، و نزيب الظبي و نحو ذلك. ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد، و هذا عندي وجه صالح و مذهب متقبل» (2) قد كان لابن جني أن يتوقف عند هذا الرأي الذي ينفرد به بين الباحثين في هذه القضية، و لكن يبدو أن هذا الرأي - بدوره - قد اعتبر تفريعا على القول بالاصطلاح، و هذا ما جعل ابن جني يقصر حيرته و تردده بين الاصطلاح و التوقيف.

*** و يرتبط الخلاف حول أصل المواضعة - أيضا - بخلاف آخر حول تحديد مفهوم الكلام. فالكلام عند المعتزلة - كما يعبّر عنهم القاضي عبد الجبار-«ما حصل فيه نظام مخصوص من هذه الحروف المعقولة حصل في حرفين أو حروف.

فما اختصّ بذلك وجب كونه كلاما، و ما فارقه لم يجب كونه كلاما. و إن كان من جهة التعارف لا يوصف بذلك، إلاّ إذا وقع ممن يفيد أو يصحّ أن يفيد، فلذلك لا يوصف منطق الطير كلاما، و إن كان قد يكون حرفين أو حروفا منظومة» (3) و يقوم هذا التعريف عند القاضي - و هو تعريف يشترط في الكلام الافادة - على أساس مبدأ أثير عند المعتزلة، هو «قياس الغائب على الشاهد» أي أن «كلام اللّه عز و جل من جنس الكلام المعقول في الشاهد، و هو حروف منظومة و أصوات مقطعة» (4) و الفارق بين الشاهد و الغائب أننا نحتاج في إحداث الكلام إلى بنية مخصوصة «لأن ذلك آلة لنا في ايجاده» (5) لأننا قادرون بقدرة «و ليس كذلك حكم القادر لنفسه، لأنه ليس يحتاج في ايجاده لما يوجده إلى آلة، و لا إلى سبب» (6) .

و بذلك ينتهي القاضي إلى أن كلام اللّه «عرض يخلقه اللّه سبحانه في الأجسام على

ص: 78


1- 130. الخصائص 45/1-46.
2- 131. الخصائص 45/1.
3- 132. المغني 6/7 يرى أبو علي الجبائي أن الكلام هو الحروف لا الأصوات. راجع خلاف أبي هاشم معه نفس الجزء/31.
4- 133. المغني 3/7.
5- 134. المغني 40/7.
6- 135. المغني 41/7.

وجه يسمع، و يفهم معناه، و يؤدي الملك ذلك إلى الأنبياء - عليهم السلام - بحسب ما يأمر به عز و جل و يعلمه صلاحا، و يشتمل على الأمر و النهي و الخبر و سائر الأقسام، ككلام العباد» (1) و بذلك ينتهي المعتزلة إلى اثبات حدوث كلام اللّه و نفي قدمه و ذلك حفاظا على وحدة اللّه الأزلية.

أمّا الأشاعرة فقد كان لهم منحى آخر، و اتجاه مغاير، و إن كانت غايتهم و غاية المعتزلة واحدة و هي التنزيه و التوحيد. فقد فهم بعض المسلمين أن نفي الكلام عن اللّه في الأزل يعني وصفه بنقيض الكلام و هو الخرس. و الخرس صفة نقص لا تجوز على اللّه الذي جمع صفات الكمال المطلقة. و لم يكن هذا الاعتراض واردا في ذهن المعتزلة، لأنهم - كما سبقت الاشارة - اعتبروا الكلام صفة من صفات الفعل لا من صفات الذات كما ذهب الاشاعرة، و ربطوه ببعثة الرسل التي يفترض - قبلها - وجود البشر الذين تبعث الرسل لمصلحتهم. و يعبّر الأشعري عن هذا المنحى حين يقول:«و مما يدلّ من القياس على أن اللّه لم يزل متكلما أنه لو كان لم يزل غير متكلم و هو ممن لا يستحيل عليه الكلام لكان موصوفا بضد من أضداد الكلام من السكوت أو الآفة. و لو كان لم يزل موصوفا بضد الكلام لكان ضد الكلام قديما. و لو كان ضد الكلام قديما لاستحال أن يعدم و أن يتكلم الباري لأن القديم لا يجوز عدمه كما لا يجوز حدوثه فكان يجب أن لا يكون الباري تعالى قائلا و لا آمرا و لا ناهيا على وجه من الوجوه و هذا فاسد عندنا و عندهم - و إذا فسد هذا صحّ أن الباري لم يزل متكلما قائلا» (2) و المعتزلة - على عكس ما يقول الأشعري - لا يعتبرون اللّه قائلا و لا آمرا فيما لم يزل. فقوله تعالى، و أوامره، و نواهيه، محدثة لتعلقها بمن يتوجه إليهم الكلام و الأمر و النهي، و هم المكلّفون الذين يستحيل وصفهم بأنهم موجودون فيما لم يزل. و يذهب ابن متويه (ت 469 ه) أحد تلامذة القاضي عبد الجبار - ردا على هذا الرأي - إلى أن الخرس و السكوت «ليس بينهما و بين الكلام تضاد، لأن الخرس فساد يلحق آلة الكلام» (3) و اللّه - عند المعتزلة - ليس متكلما بآلة.

و إذا كان تعريف المعتزلة للكلام أنه الأصوات المنظومة المفيدة التي تترتب في الحدوث على وجه مخصوص، فقد كان من الطبيعي أن يعترض الأشاعرة على هذا التعريف لما يؤدي إليه من حدوث الكلام، و بالتالي خلق القرآن. و يعدّ الباقلاني أول من تعرّض للرد على هذا التعريف، فذهب إلى «أن الكلام الحقيقي هو المعنى الموجود في النفس لكن جعل عليه امارات تدلّ عليه. فتارة تكون قولا بلسان على حكم أهل ذلك اللسان و ما اصطلحوا عليه و جرى به

ص: 79


1- 136. المغني 3/7.
2- 137. اللمع/17.
3- 138. التذكرة/340.

و جعل لغة لهم» (1) .و إذا كان الكلام هو المعنى القائم في النفس، و الكلام أمارة تدلّ عليه، فمن الطبيعي أن يساوي الباقلاني بين دلالة الكلام و غيره من الدلالات كالكتابة و الاشارة و الرموز الأخرى. و لا يكتفي الباقلاني بقصر هذا التعريف على الكلام الإلهي - محور المعضلة - بل يمتدّ بتعريفه أيضا للكلام البشري «إن حقيقة الكلام على الاطلاق في حق الخالق و المخلوق إنما هو المعنى القائم بالنفس لكن جعل لنا دلالة عليه تارة بالصوت و الحروف نطقا، و تارة بجمع الحروف بعضها إلى بعض كتابة دون الصوت و وجوده و تارة إشارة و رمزا دون الحروف و الأصوات و وجودهما» (2) و يكون الفارق بين كلام اللّه و كلام الخلق عنده أن «الخلق كلامهم مخلوق ك هم، و كلام اللّه ليس بمخلوق ك هو سبحانه و تعالى» (3)

و هذا التوحيد بين المعنى النفسي و الكلام عند الأشاعرة، و كذلك توحيدهم بين الدلالة الصوتية و غيرها من أنواع الدلالات، ثم عدم تفرقتهم بين الكلام الإلهي و الكلام البشري، قد يوقعهم في مجموعة من الاعتراضات و الالزامات لو استخدمنا طريقة المعتزلة في الجدل. و أول هذه الالزامات أنه يلزمهم وصف الأخرس بأنه متكلم لأن نفسه لا تخلو من معان. و يلزمهم وصف من يدل أخرسا على الطريق بأنه متكلم و إن كان يشير دون صوت. و أهم من ذلك كله أنه يلزمهم وصف كل صامت في الحال بأنه متكلم، لأنه لا يخلو - رغم صمته - من التفكير في أمر من الأمور. غير أن المعتزلة لا ينكرون المعاني القائمة بالنفس، و إن كانوا لا يعتبرونها كلاما، بل يتوقفون عند حد اعتبارها معاني و يكون «غرضهم بقولهم» في نفس الكلام «أني عالم بأمر أريد أن أبديه لك بالخطاب، و أنا عازم عليه» (4) «و قولهم: فلان يرتّب الكلام في نفسه ثمّ يتكلم به يعنون به أنه يرتّب معنى الكلام، و إلاّ كان قولهم: ثم يتكلم به ناقضا له، لأن ما رتّب و فعل لا يجوز أن يفعل من بعد» (5)

و يبدو الخلاف هنا خلافا شكليا، خصوصا و المعتزلة - أيضا - يعتبرون الكلام دلالة على ما في النفس و لا ينكرون ذلك، و إن كانوا يفرّقون بينهما و لا يوحّدون كما فعل الباقلاني «فلو كان الكلام معنى في النفس لم يصح أن يقال في العبارة أنها تدلّ عليه، لأن لا نسبة بينها و بينه و لا تعلق» (6) و لكن ارتباط القمية - برمتها - بقضية التوحيد هو الذي جعل المعتزلة ينفرون من اعتبار الكلام هو المعاني القائمة في النفس، لأن المعاني - عندهم - هي الصفات، و هم لا يثبتون للّه صفة مغايرة لذاته كما يفعل الأشاعرة. و لعل هذا يفسّر لنا استخدام القاضي لمصطلح «القصد» الذي اعتبره - إلى جانب المواضعة - شرطا لاعتبار الكلام دلالة، و سنتعرّض

ص: 80


1- 139. الانصاف/94.
2- 140. الانصاف/95.
3- 141. الانصاف/95.
4- 142. القاضي عبد الجبار: المغني 17/7.
5- 143. السابق نفس الجزء/18.
6- 144. السابق/نفس الجزء/19.

لدلالة هذا المصطلح عمّا قريب.

وحّد الباقلاني - كما لاحظنا - بين دلالة الصوت و الكتابة و الاشارة و الرمز.

و يقارن القاضي عبد الجبار - من جانب المواضعة - بين الكلام من جانب، و بين الإشارات و المعجزات من جانب آخر. و مقارنته بين الكلام و الاشارات ينتهي منها إلى أن الإشارة يمكن أن تحلّ محلّ الأصوات إذا سبقت عليها مواضعة، غير أن الأصوات تعبّر بشكل أوسع عمّا لا تستطيع الإشارة التعبير عنه بحكم تعدد الأصوات و كثرتها. و ينتهي من مقارنته بين الكلام و المعجزات إلى أن المعجزة أشدّ دلالة على ما تدلّ عليه من الكلام، لأن الكلام قد يقع فيه الاشتراك و المجاز و الاستعارة. و كلتا المقارنتين ضرورية لفهم طبيعة المواضعة من جانب، و لفهم خصوصية الدلالة الكلامية من جانب آخر. و هي خصوصية لم يتعرّض لها الأشاعرة تفصيلا لتوحيدهم بين أنواع الدلالات الوضعية من جهة، و لقولهم بالتوقيف في المواضعة من جهة أخرى.

و المقارنة التي يعقدها القاضي بين الاشارة و الكلام توحّد بينهما بشرط وجود المواضعة «و لذلك نجد أحدنا يستدعي من غلامه سقي الماء بالإشارة، على حد ما يستدعيه بالعبارة، لعادة تقدّمت، يعرف بها أن الاشارة تحلّ محل العبارة التي تقدّمت معرفة فائدتها» (1) .

و كما تدلّ الإشارة إذا تقدّمت عليها مواضعة، تدلّ المعجزة كدلالة الكلام، إذا وقعت بعد ادّعاء النبي أنه نبي، و أن علامة صدقه أن تنقلب العصا حية. فإذا انقلبت العصا حية كان هذا الفعل دلالة على صدق النبي، و ذلك للاتفاق السابق بينه و بين من يتحدث إليه. فإذا انتفى شرط الاتفاق السابق بين النبي و قومه لم يكن لانقلاب العصا أي دلالة. و معنى ذلك أن المعجزة لا تدلّ على صدق النبي إلاّ باتفاق سابق أو مواضعة سابقة على دلالتها «و على هذا الوجه تنزل المعجزات منزلة التصديق بالقول فنقول: إذا صحّ لو صدقه تعالى، عند ادّعائه النبوة و الرسالة كونه نبيا، فكذلك إذا فعل ما يحلّ هذا المحل من المعجزات، لأن مجموع قوله: اللهم إن كنت صادقا فيما ادّعيت من الرسالة فاقلب العصا حية، ثم وقوع ما سأل عنه مطابقا لمسألته بمنزلة المواضعة المتقدمة على التصديق، بل ذلك أقوى في بابه، لأن من حق التصديق بالقول أن يقع فيه، و الحال هذه، المجاز و الاستعارة لأمر يرجع إلى ذات الكلام، و صحة هذه الطريقة فيه. و لا يتأتى ذلك في الفعل المخصوص إذا التمسه الرسول من المرسل للمرسل اليه» (2) فالمعجزة شأنها شأن الكلام إذا وقعت تصديقا لادّعاء النبي. بل يذهب القاضي إلى أنها أشدّ

ص: 81


1- 145. المغني 161/15.
2- 146. المغني 161/15.

دلالة، و أقوى في بابه، لأنها لا تحتمل المجاز و لا الاستعارة الذي يحتمله الكلام لأمر يرجع إلى طبيعته الخاصة.

و إذا كانت دلالة الكلام - في باب المعجزات - أقلّ من الفعل لجواز وقوع المجاز و الاستعارة فيه، فإن الكلام يتميّز عن الاشارات و الحركات بأنه يعبّر باتساع عن حاجات الناس و مطالبهم، و هي حاجات لا تستطيع الاشارات و الحركات - لضيقها و محدوديتها - أن تتسع له. و يربط الجاحظ بين وسائل البيان و الحاجات البشرية الاجتماعية. و إذا كان الانسان - في نظر الجاحظ - اجتماعيا بطبعه، فمن الطبيعي أن يحسّ بالحاجة للابانة عن نفسه و التواصل مع غيره من بني البشر «فحاجة الغائب موصولة بحاجة الشاهد، لاحتياج الأدنى إلى معرفة الأقصى، و احتياج الأقصى إلى معرفة الأدنى... و جعل حاجتنا إلى معرفة أخبار من كان قبلنا، كحاجة من كان قبلنا إلى اخبار من كان قبلهم، و حاجة من يكون بعدنا إلى أخبارنا» (1) فلا بدّ إذن من وسيلة لنقل المعرفة و الخبرة، و التواصل بين القريب و البعيد، و بين الماضي و الحاضر و المستقبل. و لا تترك العناية الإلهية الانسان دون أن تكمل له وسائله و حاجاته. و على قدر تعدد الحاجات للابانة، تتعدد وسائل الابانة، و على ذلك فإن اللّه «لم يرض لهم من البيان بصنف واحد... و جعل آلة البيان التي بها يتعارفون معانيهم، و الترجمان الذي إليه يرجعون عند اختلافهم في أربعة أشياء... هي: اللفظ، و الخط، و الإشارة، و العقد» (2)

يتفق القاضي عبد الجبار مع الجاحظ في تأكيد وجه المصلحة في وجود وسيلة للابانة، و إن اختلف معه في التفرقة بين الاشارة و الكلام، اللذين وحّد الجاحظ بينهما في النص السابق، و ذلك بناء على تفرقته بينهما من حيث الضيق و الاتساع «إن حاجة العقلاء لمّا دعت إلى الإنباء عمّا في النفس، لما فيه من النفع، و دفع الضرر، و علموا أن ذلك و إن صح بالمواضعة على الحركات و غيرها فلا يتسع ذلك اتساع الكلام، اقتضى ذلك المواضعة على الكلام الذي عند التأمل تعرف أنه أشدّ اتساعا من كل ما تصح فيه المواضعة. و ليس يمتنع أن يعرفوا ذلك الهاما، أو بالتأمل، أو الاختبار، و للاجتماع في ذلك من التأثير ما ليس للانفراد، لأن جميعهم إذا تعارفوا على المراد قل فيه اللبس و ظهر فيه الغرض» (3) .

ص: 82


1- 147. الحيوان 43/1.
2- 148. الحيوان 45/1.
3- 149. المغني 202/16، و انظر نفس المصدر 160/15،162/5.

5 - الدلالة اللغوية و شرط القصد

بعد أن انتهينا من مناقشة الجوانب المتعددة لشرط المواضعة الذي بدونه لا يصحّ وقوع الكلام دلالة، من الضروري - أيضا - أن نناقش الجوانب المختلفة لمفهوم «القصد» الشرط الثاني للدلالة الكلامية. و أول هذه الجوانب معنى «القصد» عند القاضي عبد الجبار. و قد لاحظنا - من قبل - أن الباقلاني لم يشترط في حديثه عن الدلالة الشرعية و الدلالة اللغوية سوى شرط المواضعة و المواطأة، و لم يتعرض لشرط القصد من بعيد أو قريب.

و أول معنى من معاني «القصد» عند القاضي عبد الجبار يمكن لنا أن نتلمّسه في حديثه عن علاقة الاسم بالمسمى، و هي قضية خلافية - أيضا - بين المعتزلة و الأشاعرة. و لقد كان من نتائج تسوية الاشاعرة بين المعنى النفسي و الكلام أنهم على مستوى الدلالة اللغوية لم يفرّقوا بين الاسم و المسمى و اعتبروهما شيئا واحدا «إن الاسم هو المسمى بعينه و ذاته و التسمية الدالّة عليه تسمى اسما على سبيل المجاز» (1) و قد كانت التفرقة بين المعاني النفسية و الكلام هي المقدمة الطبيعية لتفرقة المعتزلة بين الاسم و المسمى، و اعتبار الاسم إشارة إلى المسمى. غير أن هذا الخلاف يرتدّ - بدوره - إلى قضية الخلاف حول صفات اللّه عز و جل - و منها صفة الكلام - و حول حدوثها و قدمها. و اتفق المعتزلة و الخوارج و كثير من المرجئة و كثير من الزيدية على أن «أسماء الباري هي غيره و كذلك صفاته» و ذهبوا إلى أن «الأسماء و الصفات هي الأقوال، و هي قولنا اللّه عالم، اللّه قادر، و ما أشبه ذلك» (2) و كان من الطبيعي أن يمتدّ هذا الخلاف و يسحب ظلّه على قضايا الدلالة اللغوية. و كلا الفريقين على أي حال متسق مع وجهة نظره العامة في التوحيد و الكلام و المواضعة اللغوية.

و كان على المعتزلة أن يكشفوا - بطريقة أو بأخرى - عن طبيعة العلاقة بين الاسم و المسمى. تلك العلاقة التي سكت عنها الأشاعرة بحكم توحيدهم بين الكلام و المعاني النفسية، و من ثمّ بين الاسم و المسمى. و من الطبيعي كذلك أن يدور هذا الخلاف حول الآية التي سبق أن دار الخلاف حولها في قضية المواضعة و هي قوله تعالى: وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها (البقرة/31). و من استعراض آراء المفسّرين القدماء لهذه الآية لا نجد أي ظل لهذا الخلاف (3) غير أن الطبري نفسه (ت 310 ه) و هو أقرب إلى أهل السنة منه إلى المعتزلة - يفرّق بين الاسم

ص: 83


1- 150. الباقلاني: الانصاف/53 و انظر أيضا البغدادي: أصول الدين/114-115 و هو يوحد - أيضا - بين الاسم و الصفة.
2- 151. الأشعري: مقالات الاسلاميين 253/2.
3- 152. انظر تفسير الطبري 170/1-171.

و المسمى و لا يعتبرهما شيئا واحدا. و يهاجم - عند تفسير البسملة - أبا عبيدة معمر بن المثنى (ت 207 ه) لقوله في بيت لبيد:

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما و من يبك حولا كاملا فقد اعتذر

ان اسم السلام هو السلام، و يهاجمه على أساس أنه «لو جاز ذلك... لجاز أن يقال: رأيت اسم زيد، و أكلت اسم الطعام، و شربت اسم الشراب» (1) و لكن هذا الخلاف يظلّ خلافا لغويا لا يمتدّ إلى أبعد من تفسير البيت أو تفسير البسملة عند الطبري.

و يكشف الجاحظ، و هو بصدد الرد على متأولي هذه الآية عن فهمه للعلاقة بين الاسم و المسمى في اللغة، أو بين الدال و المدلول كما يقول:«لا يجوز أن يعلّمه (أي يعلّم اللّه آدم) الاسم و يدع المعنى، و يعلّمه الدلالة و لا يضع له المدلول عليه، و الاسم بلا معنى لغو كالظرف الخالي. و الأسماء في معنى الأبدان و المعاني في معنى الأرواح. اللفظ للمعنى بدن و المعنى للفظ روح. و لو أعطاه الأسماء بلا معان لكان كمن وهب شيئا جامدا لا حركة له، و شيئا لا حس فيه، و شيئا لا منفعة عنده.

و لا يكون اللفظ اسما إلاّ و هو مضمّن بمعنى، و قد يكون المعنى و لا اسم له، و لا يكون اسم إلاّ و له معنى» (2) و هذا النص يكشف أمرين: الأمر الأول هو اشتراط تضمّن الاسم لمعنى و إلاّ صار لغوا و ظرفا خاليا و جسدا ميتا لا منفعة فيه، و معنى ذلك أن تعليم اللّه آدم الأسماء لا بدّ أنه تضمّن تعليمه محتويات هذه الأسماء و مضامينها و هي المعاني و من حقنا هنا أن نستنتج أن العلاقة بين الاسم و المسمى هي ما يطلق عليه الجاحظ «المعنى». أمّا الأمر الثاني الذي يكشف عنه النص، فهو تلك التفرقة الحادة بين الأسماء و المعاني. و رغم اعتبار اللفظ جسما و المعنى روحا، و هو تشبيه ينبئ عن قوة العلاقة بين الألفاظ و المعاني، فالجاحظ يفترض وجود معان بلا أسماء، و ذلك يؤكّد الفاصل الحاد بينهما في ذهن الجاحظ. و إن كان من ناحية أخرى يحيل وجود أسماء بلا معان.

و يكاد القاضي عبد الجبار - في تأويله للآية - يكرر نفس ألفاظه. غير أنه يستخدم كلمة «القصد» بدلا من كلمة «المعنى» التي يستخدمها الجاحظ. يقول:

«و لا يصحّ أن يعرف المكلّف الأسماء كلها لأنه لا بدّ من مواضعة متقدمة على لغة واحدة ليفهم بها سائر اللغات، فمتى لم تتقدم، لم يصح أن يعرفه مع التكليف، لأن تعريف الأسماء يقتضي تعريف المقاصد و لا يصحّ فيمن يعرف اللّه باستدلال أن يعرف مقاصده ضرورة» (3) .و إذا كان القاضي قد ربط بين المواضعة و القصد و التكليف من جانب، و بين التفرقة بين العلم الاستدلالي و العلم

ص: 84


1- 153. السابق/نفس الجزء/40.
2- 154. رسائل الجاحظ 262/1.
3- 155. القاضي عبد الجبار: متشابه القرآن 83/1-84.

الضروري من جانب آخر، و هو أمر لم يتعرّض له الجاحظ بحكم استطراداته، فإن استخدام القاضي لكلمة «القصد» بدلا من كلمة «المعنى» التي استخدمها الجاحظ، يجعلهما بمعنى واحد. و يؤكّد ذلك ما يقوله القاضي في مكان آخر حول نفس الآية «إن ظاهر الاسم إنما يسمى بذلك متى تقدّمت فيه مواضعة، أو ما يجري مجراها، لأنه إنما يصير اسما للمسمى بالقصد» (1) و هي نفس الفكرة التي طرحها الجاحظ من أن الاسم لا يكون اسما إلاّ و هو مضمّن بمعنى و يظلّ الخلاف حول تفسير الآية، و حول علاقة الاسم بالمسمى يتردد عند المفسّرين، فالزمخشري يقول في تفسير «الاسماء كلها»«أسماء المسميات، فحذف المضاف إليه لكونه معلوما مدلولا عليه بذكر الاسماء لأن الاسم لا بدّ له من مسمى و عوّض عنه باللام» و يهاجمه ابن المنير السني لأنه «يفرّ من اعتقاد ان الاسم هو المسمى لأن ذلك معتقد أهل السنة فيعمل الحيلة في ابعاده عن مقتضى الآية» (2) .

و إذا كانت كلمة «القصد»، عند القاضي تعطي نفس مفهوم كلمة «معنى» عند الجاحظ، فمعنى ذلك أن المواضعة و القصد - جانبي الدلالة اللغوية - غير منفصلين، إذ المواضعة لا بدّ أن ترتبط بقصد المتواضعين و إلاّ استحال التفاهم بينهم. و لكي تؤدي اللغة وظيفة «الإنباء» عند القاضي أو «الابانة» عند الجاحظ، لا بدّ من المواضعة. و المواضعة تعدّ بديلا للاشارة للأشياء بهدف الإخبار عنها. و إذا كانت الاشارة كافية في حالة حضور الأشياء، فإن التسمية تصبح ضرورية للإخبار عنها حالة غيابها عن الإدراك «إذا ثبت أنه يحسن من العاقل أن يشير إلى ما علمه ليعرف به حاله، لم يمتنع أن يعبّر عنه ببعض الأسماء ليعرف غيره حاله... و يدلّ على ذلك أن هذه الأسماء إنما احتيج إليها ليقع بها التعريف، و يصحّ بها الإخبار عند غيبة المسميات، لأن الاشارة تتعذّر إليه و الحال هذه، فأقيم الاسم عند ذلك مقام الاشارة عند الحضور. فكما تحسن الاشارة عند الحضور، إذا حضر المشار إليه لوقوع الفائدة به للمشير و المشار إليه، فكذلك يحسن الاسم لهذا الغرض عند غيبة المسمى، أو يكون المسمى مما لا يظهر للحواس لأن ذلك في أن الاشارة لا تصحّ إليه على كل وجه بمنزلة المشاهد إذا غاب» (3) و هكذا تتحدد المواضعة بأنها بديل عن الاشارة للأشياء الحسية، و ذلك بهدف الاخبار عنها حالة غيابها عن الحواس.

و تصبح المواضعة ضرورية للإخبار عن تلك الأشياء التي لا تظهر للحواس، و ذلك كالأفكار المجرّدة التي لا تقع على متعين مخصوص كالبقاء و الفناء و القدم.. الخ كل هذه الألفاظ التي لا يمكن أن تشير إلى موجودات حسية. و التفرقة بين المحسوسات التي يحسن تسميتها، و بن الذهنيات التي يجب تسميتها لاستحالة الاشارة إليها يمكن اعتبارها موازاة للمعرفة الإدراكية الضرورية، و المعرفة النظرية الاستدلالية. و كلا

ص: 85


1- 156. المغني 169/5.
2- 157. الكشاف 272/1 ورد ابن المنير على الهامش.
3- 158. القاضي عبد الجبار: المغني 174/5-175.

المستويين من المعرفة يتطلّب الإخبار عنه، و هي الحاجة التي تجعل المواضعة ضرورية، ما دامت وظيفة اللغة هي «الإنباء» عمّا في النفس لتبادل المعرفة و الخبرة.

و مما يؤكّد هذه الموازاة أن القاضي كما فصل بين المدرك و المدرك حين ردّ على منكري الإدراك الحسي، و بين العلم و المعلوم و اعتبر أن الادراك و العلم يتعلقان بالمدركات و بالمعلومات على ما هي به، دون أن تؤثرا فيها سلبا أو ايجابا، و كذلك كما فصل بين الدلالة العقلية و ما تدلّ عليه و اعتبرها دلالة مجردة تدلّ بذاتها و لا تؤثر في حال المدلول عليه. كما فعل ذلك كله، نراه يفصل الدلالة اللغوية عن مدلولها فصلا كاملا، و يربط بين التسمية و العلم ربطا تاما «فقد ثبت أن الاسم في تعلقه بالمسمى بمنزلة الخبر عن الشيء، و العلم به، و الدلالة عليه، بل هو في ذلك دون مرتبته. فإذا كان العلم و الدلالة و الخبر لا تؤثر فيما تتعلق به، فالاسم بألا يؤثر أولى. و كذلك لا يصحّ استعماله على وجه يفيد إلاّ بعد تقدّم العلم بالمعنى أو الاعتقاد له» (1) .و يظلّ «القصد» هو الرابط الوحيد بين الدلالة اللغوية و ما تدلّ عليه. و معنى ذلك أن المواضعة - وحدها - تتساوى مع الاشارة. أمّا «القصد» فهو الذي يعطي للمواضعة ثباتها و يحوّل الأصوات إلى دلالة «و لذلك يصحّ أن تتغير اللغات بحسب الدواعي و الأغراض» (2) .

إذا كان مفهوم «القصد» عند القاضي عبد الجبار يعني «المعنى» و هو العلاقة بين الاسم و المسمى على مستوى المفردات اللغوية. و هذا القصد ليس من صنع الفرد، بل هو من صنع الجماعة عن طريق المواضعة على مسميات الأشياء. إذا كان الأمر كذلك، فإن مفهوم «القصد» يتسع على مستوى التركيب اللغوي ليعبّر عن «المعنى القائم في النفس» عند الباقلاني.

و إذا كانت وظيفة التسمية - و من ثمّ اللغة - قد تحددت في «الإنباء» عمّا في النفس، و الإخبار عن الأشياء و الأفكار، فمن الطبيعي أن يراعى حال المتكلم و قصده حين نحاول فهم كلامه أو الاستدلال به. و معنى ذلك أن فهم قصد المتكلم ضروري - إلى جانب المواضعة - حتى يتمكن أن يفيد الكلام. و اصرار المعتزلة هنا على فكرة «القصد»- من جانب المتكلم - تؤكّد أن المواضعة وحدها في التركيب لا تكفي، فالكلام «قد يحصل من غير قصد فلا يدلّ، و مع القصد فيدلّ، و يفيد. فكما أن المواضعة لا بدّ منها فكذلك المقاصد التي بها يصير الكلام مطابقا للمواضعة» (3) .فالمواضعة - على أهميتها و ضروريتها - لا تكفي وحدها لوقوع الكلام دلالة، لأنها، و إن جعلت الكلام مفيدا و محتملا للمعاني المتواضع عليها، لا يمكن أن تنفصل فائدتها عن قصد المتكلم الذي يقصد بالكلام إلى أن يكون

ص: 86


1- 159. القاضي عبد الجبار: المغني 172/5.
2- 160. القاضي عبد الجبار: المغني 172/5.
3- 161. المغني 162/15.

دلالة. و خير مثال يوضح ذلك أن المجنون قد يتكلم بكلام مفيد، بمعنى أن ألفاظه و عباراته من الممكن أن تفيد معاني سبقت المواضعة عليها بهذه الألفاظ و تلك العبارات، لكن هذا الكلام الصادر عن المجنون لا يمكن أن يدلّ على قصده. أو بمعنى آخر لا يمكن أن يقع دلالة. و لذلك كله فلا بدّ - إلى جانب المواضعة - من أن يراعى حال المتكلم و قصده ليستدلّ بكلامه على ما يريد «و إنما اعتبر حال المتكلم لأنه لو تكلم به و لا يعرف المواضعة، أو عرفها و نطق بها على سبيل ما يؤدّيه الحافظ، أو يحكيه الحاكي، أو يتلقنه المتلقن، أو تكلم به من غير قصد لم يدل.

فإذا تكلم به، و قصد وجه المواضعة فلا بدّ من كونه دالا، إذا علم من حاله أنه يبين مقاصده، و لا يريد القبيح و لا يفعله، فإذا تكاملت هذه الشروط فلا بدّ من كونه دالا، و متى لم تتكامل فموضوعه أن يدل، و إن كان متى وقع ممن ليس هذا حاله، لم يصح أن يستدلّ به» (1) .

و السؤال الآن: كيف يمكن للمستمع أن يعرف قصد المتكلم حتى يستدلّ بكلامه؟ و قد يبدو السؤال غريبا على الحس المعاصر الذي لا يفصل بين القصد و الكلام، و يعتبر الكلام دليلا على القصد، بل هو الوسيلة الوحيدة لمعرفة قصد المتكلم. أما اشتراط معرفة القصد - سلفا - قبل معرفة الكلام، فهو أمر ينفي عن الكلام أي دور ايجابي في الدلالة على القصد. غير أن المعتزلة لم يكونوا يواجهون مثل هذا التساؤل، و لم يكن يعنيهم الرد عليه أو حتى مناقشته. فالكلام عندهم هو الدلالة الشرعية عند الباقلاني. بمعنى أن الكلام - عندهم - هو كلام اللّه. و في هذا الاطار يمكن فهم تمسكهم بشرط القصد - إلى جانب المواضعة - لوقوع الكلام دلالة، و هو شرط لم يشر إليه الباقلاني و إن أشار للمواضعة و اعتبرها شرطا.

و في هذا الاطار أيضا يمكن فهم اشتراطهم معرفة قصد المتكلم قبل الاستدلال بكلامه. فالمتكلم بالدلالة الشرعية هو اللّه عز و جل. و كما اشترط المعتزلة سبق المواضعة على كلام اللّه، اشترطوا معرفة قصد اللّه. و هذه المعرفة - كما أسلفنا - هي معرفة صفة أفعاله و ما يجوز عليه منها و ما لا يجوز، و هذه المعرفة عندهم معرفة عقلية سابقة - في الترتيب - على المعرفة الشرعية. و هكذا ينتهي المعتزلة في قضية الدلالة اللغوية إلى اعتبارها تابعة للدلالة العقلية و مترتبة عليها.

و لمّا كان جذر الخلاف بين المعتزلة و الأشاعرة يكمن في هذه القضية - قضية المعرفة - فقد كان من الطبيعي أن يكتفي الأشاعرة بشرط المواضعة دون الاشارة إلى شرط القصد، لأن القصد عندهم لا يمكن معرفته إلا بدلالة الكلام، و لذلك وحّد الأشاعرة بين الكلام - الدلالة - و المعاني النفسية - المدلول - و اعتبروهما شيئا

ص: 87


1- 162. المغني 347/16.

واحدا قديما أزليا قائما باللّه. و لعل في هذا كله ما يؤكّد أن مفهوم «القصد» على مستوى التركيب عند المعتزلة يتساوى مع مفهوم «المعاني النفسية» عند الأشاعرة.

غاية الأمر أن المعتزلة يتحرجون من اعتبار المعاني و الصفات قائمة بالذات لأن ذلك يؤدي إلى التركيب و التعدد اللذين يتنافيان مع التنزيه المطلق.

و مما يؤكّد ما نذهب إليه من أن المعتزلة لم يكونوا مشغولين بقضية المتكلم في الشاهد، أن القاضي عبد الجبار يعتبر أن معرفة قصد المتكلم في الشاهد هي معرفة اضطرارية، على عكس معرفة قصد اللّه عز و جل التي هي معرفة استدلالية نظرية.

و هي معرفة سابقة على وقوع الدلالة الشرعية - الكلام - و ضرورية لفهمها «إن الكلام في الشاهد صح أن يدلّ بالمواضعة و القصد، و لنا طريق إلى معرفة الكلام بالادراك و المواضعة بالأخبار، و ما يجري مجراها، و القصد بالاضطرار. فصحّ، عند ذلك، أن يعرف به الغرض، و يصير كالدلالة في الشاهد. و لا يصحّ أن نعرف قصده تعالى باضطرار، لتعذر ذلك مع التكليف. فوجب أن نعرفه بالاستدلال» (1) .

انتهينا من مناقشة جانبي الدلالة اللغوية، أو دلالة الكلام، و نرى من الضروري أن نشير إلى جانب الوظيفة في دلالة الكلام. و لقد ركّز الجاحظ على جانب «الابانة» بينما ركّز القاضي على جانب «الإنباء». و مفهوم «الابانة» أوسع دون شك من مفهوم «الإنباء» لأنه يتضمّن علاوة على جانب «الإنباء» جوانب أخرى تناولها الجاحظ، لا باعتباره معتزليا، بل باعتباره كاتبا منشئا أديبا. و يهمنا هنا أن نحاول تفهم مفهوم «الإنباء» عند القاضي عبد الجبار.

و لقد رأينا - فيما سبق - أن التسمية، أو اطلاق الاسماء على الأشياء تعدّ مسألة ضرورية و ذلك للإخبار عن الأشياء حالة غيابها عن الحواس. و أنها بذلك تعدّ بديلا للاشارة التي لا تتمّ إلاّ في حضور الشيء. أمّا الاشياء التي لا تظهر للحواس أصلا، فيجب تسميتها ليمكن الاخبار عنها و التعريف بها. و رأينا أن العلاقة بين الاسم و المسمى هي علاقة انفصام كاملة، و لا يربط بينهما سوى قصد المتواضعين، و لذلك يجوّز المعتزلة قلب الاسماء عن مسمياتها «و لو أن أهل اللغة بدا لهم في العربية على الوجه الذي تواضعوا عليه و غيروه حتى يجعلوا (قديما) مكان (محدث) و (عالما) مكان (جاهل) و (طويلا) مكان (قصير) كان لا يمتنع... فلو سمي السواد بياضا و الجوهر عرضا لم يؤثر ذلك فيه و لكان حاله كحاله الآن و هو مسمى بما يسمى به» (2) .

و إذا كانت العلاقة على مستوى المفردات اللغوية علاقة انفصام، فإنها كذلك

ص: 88


1- 163. المغني 162/15-163 و انظر نفس المرجع 166/5 «ان العلم بقصده فرع على العلم بذاته، فلا يصح أن يكون ضروريا و العلم بذاته مكتسبا».
2- 164. المغني 172/5-173.

أيضا على مستوى التركيب. فثمّ معان في النفس. و ثمّ عبارات تدلّ عليها. و إذا كان الأشاعرة قد وحّدوا بين الدلالة و المدلول فقد فصل المعتزلة بينهما. و على مستوى الكلام الإلهي امتنع المعتزلة عن استخدام عبارة «المعاني النفسية» و استخدموا بدلا منها كلمة «القصد». و كما أن التسمية تحسن للاخبار عن الشيء، فكذلك العبارة «تنبئ» أو «تخبر» عن قصد المتكلم.

و لا يكفّ القاضي عبد الجبار في حديثه عن الدلالة اللغوية، من ادخال الخبر فيها حتى ينتهي به الأمر إلى التوحيد بينهما. فلا يكفي في الخبر - لكي يكون خبرا - الصيغة اللغوية المعروفة بالجملة الخبرية، و لا تكفي المواضعة السابقة، بل لا بدّ من اعتبار إرادة المتكلم للاخبار و قصده إليه «اعلم أنه لا يكفي في كونه خبرا صيغة القول و نظامه، و لا المواضعة المتقدمة، بل لا بدّ من أن يكون المتكلم مريدا للاخبار به عما هو خبر عنه، لأن جميع ما قدمناه، قد يحصل و لا يكون خبرا، إذا لم يكن مريدا لما قلناه. و متى حصل مريدا صار خبرا، فيجب أن يكون لأجله يكون خبرا، و إن كان لا بدّ من تقدم المواضعة، أو ما يجري مجراها، كما لا بدّ من ظهور القول و كما لا بدّ من وقوعه من قبل المريد، و كل ذلك شروط مصححة لكونه خبرا» (1) .

و يؤكّد القاضي هذه الفكرة مرة أخرى، و لكن على مستوى الكلام الإلهي، حيث يوحّد - أيضا - بين الكلام و الخبر. و هو هنا يشترط معرفة حال «المخبر» من أنه لا يكذب و لا يختار القبيح، و ذلك حتى نعلم صدقه في خبره «لأن الخبر إذا جاز، و الصنعة واحدة، أن يقع كذبا، فيجب أن يعلم من حال فاعله أنه ممن لا يفعل الكذب، حتى يكون دلالة. لأن هذا الخبر نفسه قد يجوز كونه خبرا عن المخبر الذي إذا كان خبرا عنه كان كذبا، و عن المخبر الذي إذا كان خبرا عنه كان صدقا، فلا بدّ من أمر به يعلم أنه بأن يكون صدقا أولى من أن يكون كذبا، و هو أن يعلم من حال فاعله أنه لا يختار الكذب» (2) .

و لا يكتفي القاضي بهذا التوحيد بين الخبر و الدلالة اللغوية، بل إنه يوحّد بين كل الصيغ التعبيرية في اللغة كالأمر و النهي و الطلب و الاستفهام و التعجب، و النداء، و يعتبر «الخبر» هو أصل كل هذه الصيغ «اعلم أن الخبر هو الأصل في الكلام المفيد، لأن الفوائد الواقعة بالكلام أجمع لا بدّ من أن تكون راجعة إلى الخبر أو إلى معناه. لكنه ربما تتأوّل الفائدة بصريح لفظه فيكون خبرا، و ربما أفاد من جهة المعنى فلا يسمى خبرا، و الفائدة لا تختلف. يبين ذلك أن الأمر يحل محلّ قوله (أريد منك أن تفعل) و النهي يحلّ محلّ قوله (أكره أن تفعل). و إذا استخبر غيره

ص: 89


1- 165. المغني 323/15.
2- 166. المغني 215/8.

حلّ محلّ قوله (أريد منك أن تخبر). و إذا دعا و نادى حلّ محلّ قوله (أريد منك أن تصغي إلى ما أقول و تتوجه إلى) إلى ما شاكل ذلك. لكن اللغة لمّا ثبتت على طريق الحكمة فصل بين أن يكون المتكلم مفيدا للأمور الثابتة أو المنفية و كلامه الذي هو عبارة عنه، و بين أن يظهر إرادته لما يريده، و كراهيته لما يكرهه منه، لأن ذلك أمر متجدد ليس بظاهر. فإذا أراد إظهاره للغير بقول موضوع لذلك خالف القول الذي وضع ليعبّر به عن الأمور الثابتة، فلذلك ما صاغوا، عند المواضعة، أقوالا مختلفة النظام لهذه الفروق المعقولة، ثم وجدوا الخبر تختلف حاله في الفائدة، فقسّموه أقساما يرجع جميعها إلى الخبر، لأن زيادة فوائده لا تخرجه عن أن يكون خبرا. و ذلك نحو وصفهم لبعض الأخبار بأنه جحود، و تشبيه، و نفي، و اثبات، و وعد، و وعيد، و قسم، و خصوص، و عموم، إلى غير ذلك» (1) و معنى ذلك أن الخبر أو «الإخبار» هو الوظيفة الأساسية للغة، و إلى معناه ترتدّ كل أبنية اللغة. و كما أن اللغة تدلّ بشرطين هما المواضعة و القصد، فكذلك الخبر لا يقع خبرا إلاّ بإرادة المتكلم، و لا نستطيع الحكم عليه بالصدق و الكذب إلاّ بعد العلم بحال المتكلم و أنه لا يختار القبيح و لا يكذب في أخباره.

و ننتهي من قضية البحث في الدلالة اللغوية عند المعتزلة إلى ملاحظة هذا التداخل الكامل بين وظيفة اللغة من جانب، و بين شرطي دلالتها من جانب آخر، و هما المواضعة و القصد. و إذا كانت العلاقة بين الاسم و المسمى علاقة انفصام لا يربطها سوى قصد الجماعة التي تتواضع على هذه العلاقة، فإن العلاقة بين العبارة - التركيب - و ما تدلّ عليه من المعنى النفسي على المستوى البشري، و من القصد على المستوى الإلهي هي أيضا علاقة انفصام. و بذلك انتهى المعتزلة إلى الفصل بين المعنى و اللفظ على مستوى الأفراد، و إلى الفصل بين العبارة و المعنى على مستوى التركيب.

و ليس معنى ذلك أن الأشاعرة لم ينتهوا إلى نفس النتيجة، رغم أنهم - كما سبقت الاشارة - وحّدوا بين الكلام و المعنى القائم في النفس. فاعتبار الكلام دلالة على ما في النفس، و التسوية بين الكلام و بين الخط و الاشارة في الدلالة على هذا المعنى يؤكد هذا الانفصال بين الدلالة و المدلول عليه و الخلاف بين الأشاعرة و المعتزلة من هذا الجانب خلاف ديني أو كلامي كما سبقت الاشارة.

أما كيف تنتقل الدلالة اللغوية من مستوى الحقيقة إلى مستوى المجاز، و كيف يمكن أن تعبّر، من ثمّ، عن قصد المتكلم و معانيه؟ فذلك أمر سيتناوله النص التالي بالتفصيل.

ص: 90


1- 167. المغني 325/15. 1. تأويل مشكل القرآن/20-21. 2. معجم ألفاظ القرآن الكريم 612/2. 3. السابق 5/2. 4. راجع المعجم المفهرس 527/2-627. 5. راجع المعجم المفهرس 207/2. 6. انظر لسان العرب «مثل» و غيره من المعاجم أيضا، القاموس و أساس البلاغة. 7. الميداني: مجمع الأمثال 51/1. 8. انظر تفسير الآية في الطبري 398/1 و ما بعدها. 9. الطبري: التفسير 544/5-545. 10. الطبري 504/1 و انظر مواضع أخرى يرد فيها نفس التفسير 505،487/3، 118/5. 11. السيوطي: الاتقان 142/1. 12. الطبري:198/6. 13. الطبري 114/3 و انظر رد الطبري لهذه القراءة و تفسيره للآية. 14. الطبري 399/5. و راجع أمثلة أخرى كثيرة لهذا الجدل المبكر حول القرآن: محمد يوسف موسى: القرآن و الفلسفة/32 و ما بعدها. 15. الطبري 397/5. 16. الطبري 172/2-173. 17. جولد تسيهر: مذهب التفسير الاسلامي/132، و انظر أيضا طبقات المفسرين للداودي 307/2-308. 18. السابق/133. 19. الاتقان 141/1. 20. السيوطي: الاتقان 141/1. 21. الأشباه و النظائر/226-228. 22. الأشباه و النظائر. انظر على الترتيب 313،215،139،127،116،108. 23. السابق/116-117. 24. الأشباه و النظائر/181. و انظر أيضا الوجوه المختلفة لكلمة «نار»/223. 25. الأشعري: مقالات الاسلاميين 198/1، و انظر الجاحظ: البيان و التبيين 273/1-274، الزمخشري:293/2-294. 26. Graham Hough:Styleand Stylistics.p.37-38. 27. أحمد مصطفى المراغي: تاريخ علوم البلاغة العربية/43 و انظر ايضا: شوقي ضيف: البلاغة تطور و تاريخ/29. 28. أحمد مصطفى المراغي: تاريخ علوم البلاغة العربية/49. 29. محمد زغلول سلام: أثر القرآن في تطور النقد العربي/39-40 نقلا عن ياقوت: ارشاد الأريب. 30. السيوطي: الاتقان 119/1. 31. محمد زغلول سلام: أثر القرآن في تطور النقد العربي/42-43. 32. مجاز القرآن 100/1-101. 33. السابق 47/1 و لمزيد من الأمثلة في مجاز الحذف انظر 386،298،297،229/1. 34. مجاز القرآن على الترتيب 110/1-19/2،366،192،171،101،111، 150،126،64. 35. مجاز القرآن 93/2. 36. السابق 153،162،196/2. 37. اللسان (جوز) و انظر القاموس ايضا. 38. معاني القرآن 14/1-15. 39. معاني القرآن 363/2. 40. معاني القرآن 182/3. 41. السابق 384/2-385. 42. السابق 406/2. 43. السابق 89/3. 44. السابق 231/1. 45. معاني القرآن 40/1-41. 46. السابق 228/1-229. 47. معاني القرآن 230/1. 48. السابق 305/1. 49. معاني القرآن 34/2-35. 50. السابق 155/2-156. 51. معاني القرآن 242/2. 52. معاني القرآن 90/3. 53. معاني القرآن 15/1. 54. السابق 16،20/3،135،118/2،393،303/1. 55. معاني القرآن 272/2-273. 56. السابق 388/2. 57. Warren.A.Shibles:An Anagysis of Metaphor,P.32. 58. محمد عبد الهادي أبو ريدة: إبراهيم بن سيار النظّام و آراؤه الكلامية/53 نقلا عن البيان و التبيين. 59. انظر العثمانية/230. 60. الحيوان 76/4. 61. الحيوان 57/7. 62. السابق 32/5 و انظر أمثلة لهذه الاستخدامات 23/5-31 و انظر البيان و التبيين 3 /28-29 و لم أورد هذه الأمثلة لكثرة الاستشهاد بها في الدراسات الحديثة. انظر شوقي ضيف: البلاغة تطور و تاريخ 55-56 محمد زغلول سلام: أثر القرآن في تطور النقد /84. 63. العثمانية/230. 64. الحيوان 295/5. 65. البيان و التبيين 222/2. 66. الحيوان 210/6-213 و انظر أيضا 39/4-40. 67. الحيوان 211/1 و انظر أيضا جابر عصفور: الصورة الفنية في التراث النقدي و البلاغي /211 68. الحيوان 211/1. 69. الحيوان 280/5-281. 70. الحيوان 348/1. 71. الحيوان 15/2. 72. رسالة في نفي التشبيه. ضمن رسائل الجاحظ 289/1، و انظر أيضا الحيوان 153/1-154. 73. انظر الجزء الأول 188/1-208،189 و الجزء الرابع 8-20،15،9، 37-77،40-85،80-95،87-103،100،96-199،104-200، 271-275،273-278،278-289، الجزء الخامس 23-92،31-93، 161،100،99-279،162-425،280-426 الجزء السادس 162-164، 210-214،213-248،218،215-260،252-499،272-500 الجزء السابع 57،56،50. 74. البخلاء/144. 75. رسائل الجاحظ 339/1. 76. الحيوان 84/4-85. 77. السابق 133/5. 78. أنظر محمد زغلول سلام: أثر القرآن في تطور النقد العربي/84 و ما بعدها. و أنظر أيضا: مصطفى ناصف: الصورة الأدبية/78. 79. أنظر شوقي ضيف: البلاغة تطور و تاريخ/56. 80. تأويل مشكل القرآن/20-21. 81. النكت في اعجاز القرآن/75. 82. السابق/نفس الصفحة. 83. السابق/75-76. 84. انظر الرسالة/112،95. و الاستشهاد نفسه يؤكّد ما نذهب إليه. 85. انظر الرسالة/76. 86. النكت في اعجاز القرآن/76-77. 87. السابق/80. 88. السابق/81. 89. السابق/نفس الصفحة. 90. السابق/نفس الصفحة. 91. النكت في اعجاز القرآن/82. 92. السابق/85-86. 93. النكت في اعجاز القرآن/86. 94. السابق/نفس الصفحة. 95. السابق/نفس الصفحة. 96. السابق/نفس الصفحة. 97. النكت/88. 98. السابق/104. 99. السابق/نفس الصفحة. 100. السابق/نفس الصفحة. 101. النكت/105. 102. السابق/104. 103. المغني 161/15. 104. المغني 172/5-173. 105. السابق 209،130/7. 106. شرح الأصول الخمسة/436. 107. شرح الأصول/436. 108. السيوطي: الاتقان 36/2 و انظر أيضا ابن القيم الجوزية: الصواعق المرسلة 242/2-243. 109. المغني 178/15-180. 110. المغني 158/13. 111. المغني 198/5-199. 112. المغني 17/7. 113. انظر المغني 85،36،35/8-86. 114. المغني 187/5. 115. س. أولمان: دور الكلمة في اللغة/62. 116. المغني 186/5، انظر أيضا في قياس الغائب على الشاهد 76،49/7،229/5. 233،228/8-135/11.234. 117. المغني 198/5-199. 118. عبد القاهر الجرجاني: أسرار البلاغة 269/2. 119. المغني 227/5-228. 120. السابق 215/5. 121. السابق 111/5. 122. السابق 188/5 123. شرح الأصول/468. 124. المغني 213/7. 125. المغني 231/8 126. السابق 18/12. 127. المغني 187/5. 128. السابق 197/5. 129. السابق 188/5. 130. انظر هذا الخلاف: المغني 188/5-189. 131. المغني 190/5. 132. المغني 189/5، و انظر أيضا نفس المصدر 186/7. 133. المغني 323/15. 134. المغني 166/5. 135. المغني 280/13. 136. السابق 114/15. 137. المغني 6 (القسم الثاني)15-16. 138. السابق 28/17. 139. المغني 37/17. 140. السابق 324/15. 141. أنظر: الامام الشافعي: الرسالة/17-18. و مناقشة القاضي عبد الجبار لقضية دلالة العموم و الخصوص: المغني 81/17-84. 1. الطبري 198/6. 2. السابق/نفس الجزء و الصفحة. 3. الطبري 197/6-180 و أنظر الرواية كاملة 216/1-218 و نقد المرحوم أحمد شاكر للرواية بالهامش 218 و ما بعدها. 4. الطبري 186/6-187. 5. انظر في تعضيد هذا الرأي: النيسابوري: أسباب النزول/53. و الطبري نفسه يورد هذا السبب في رواية أخرى عن محمد بن جعفر ابن الزبير 151/6-154. 6. الطبري 187/6 و طبقات المفسرين 44/2. 7. الطبري 189/6. 8. الطبري 175/6. 9. السابق 174/6. 10. الطبري 203/6. 11. الداودي: طبقات المفسرين 308/2. 12. الطبري 177/6. 13. انظر 262،59/1-616/2،265. 14. انظر 19-137،20. 15. الحسن البصري: رسالة في القدر: ضمن (رسائل العدل و التوحيد)84/1. 16. السابق/86-87. 17. السابق/87. 18. جولد تسيهر: مذاهب التفسير الاسلامي/132 و لمزيد من التفاصيل انظر طبقات المفسرين 307/2-308. 19. جولد تسيهر: مذاهب التفسير الاسلامي/133. 20. الطبري 177/6. 21. الطبري 177/6. 22. الطبري 199/6. 23. السابق 200/6. 24. السابق 201/6-203. 25. رسالة في القدر (ضمن رسائل العدل و التوحيد)83/1. 26. الزمخشري: الكشاف 49/2. 27. الداودي: طبقات المفسرين 331/2. 28. الأشباه و النظائر: المقدمة/81. 29. انظر محمد يوسف موسى: القرآن و الفلسفة:35 نقلا عن الملطي. 30. الأشباه و النظائر/131. 31. السابق/25-26. 32. الأشباه و النظائر/321. 33. السابق/321-322. 34. السابق/232. 35. الأشباه و النظائر/322. 36. الكشاف 543/3. 37. الانتصاف (على هامش الكشاف)543/3. 38. جابر عصفور: الصورة الفنية في التراث النقدي و البلاغي/94. 39. الأشباه و النظائر/234. 40. الكشاف 9/2. 41. الأشباه و النظائر/111. 42. الأشباه/292. 43. السابق/235-236 و انظر أيضا مادة «نرى»236-237. 44. الأشباه و النظائر/239. 45. مقدمة الأشباه و النظائر/52. 46. مقدمة الأشباه و النظائر/57. 47. الأشباه و النظائر/137-138. 48. السابق/244. 49. تنزيه القرآن عن المطاعن/184 و انظر ايضا متشابه القرآن/384-386. 50. الجاحظ: الحيوان 47/3. 51. البيان و التبيين 273/1-274 و انظر أيضا الكشاف 293/2-294، و انظر مقالات الاسلاميين 198/1. 52. مجاز القرآن 112/2. 53. السابق 190/2. 54. السابق 266/1. 55. السابق 290/1. 56. السابق 276/1. 57. السابق 170/1. 58. السابق 20/2. 59. السابق 73/2. 60. السابق 82/1. 61. السابق 244/1. 62. السابق 215/1،132/2. 63. السابق 164/1. 64. السابق 160/1. 65. السابق 243/1. 66. السابق 147/2. 67. السابق 113/2. 68. مجاز القرآن 359/1. 69. السابق 372/1. 70. متشابه القرآن 462/2 و تنزيه القرآن عن المطاعن/227. 71. الكشاف 442/2. 72. مجاز القرآن 270/7. 73. المدارس النحوية 195،193،192. 74. أثر القرآن في تطور النقد العربي/58. 75. معاني القرآن 360/2-361. 76. Toshihko Izutsu:Revelation as Alinguistic Concept in Islam.p.129. 77. و كأنما لم يكن جبريل يستطيع أن يرفعه للسماء دون كوّة. 78. معاني القرآن 218/1. 79. معاني القرآن 384/2 و انظر أيضا جولد تسيهر: مذاهب التفسير في الاسلام/ 33-35. 80. معاني القرآن 325/1 و انظر أيضا جولد تسيهر/36-37. 81. معاني القرآن 249/1 و لمزيد من الامثلة انظر:101،89،34/3،204/2، 261،158،116. 82. س. أولمان: دور الكلمة في اللغة/169. 83. راحة العقل/53. 84. راحة العقل/50. 85. السابق/42-43. 86. السابق/51-52. 87. معاني القرآن 314/2. 88. السابق 65/3. 89. السابق 177/3. 90. معاني القرآن 412/2. 91. السابق 329/1. 92. السابق 132/2. 93. السابق 366/1 و انظر أيضا 124/1. 94. السابق 89/3. 95. الصواعق المرسلة 11/1. 96. الصواعق المرسلة 12/1-13. 97. السابق 11/1-12. 98. الكشاف 382/3. 99. معاني القرآن 119/2. 100. معاني القرآن 89/3. 101. انظر متشابه القرآن/628-629 و تنزيه القرآن عن المطاعن 402. 102. الكشاف 21/4. 103. معاني القرآن 415/2 و لمزيد من الأمثلة في قضية العدل انظر 257/2-258، 271،187/3. 104. رسائل العدل و التوحيد 96/1. 105. السابق/نفس الجزء و الصفحة. 106. رسائل العدل و التوحيد 97/1. 107. السابق/نفس الجزء و الصفحة. 108. القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة/606-607. 109. رسائل العدل و التوحيد 106/1. 110. السابق 109/1. 111. انظر هذه الأدلة القرآنية و مناقشة القاضي لها: المغني 87/7-91. 112. للقاضي عبد الجبار جزء كامل من كتابه المغني هو الجزء السابع أفرده لقضية خلق القرآن. و انظر أيضا أحمد أمين: ضحى الاسلام 161/3 و ما بعدها. 113. تأويل مشكل القرآن/111. 114. السابق/112-115. 115. المغني 90/7. 116. انظر الشهرستاني: الملل و النحل 162/1، محمد عمارة: رسائل العدل و التوحيد. المقدمة/50. 117. أبو المعين النسفي: بحر الكلام في علوم التوحيد/68. 118. جولد تسيهر: مذاهب التفسير الاسلامي/3. 119. ابن قتيبة: تأويل مختلف الحديث/55-57. 120. رسائل العدل و التوحيد 97/1-98. 121. تأويل مختلف الحديث/55. 122. انظر العثمانية/115،100-119. 123. انظر تأويل مختلف الحديث/71-73. 124. انظر تأويل مشكل القرآن 115-121. 125. السابق/103. 126. السابق/104 و أنظر أيضا القاضي عبد الجبار في تأويل هذه الصفة في الكتاب المقدس، المغني 110/5-111. 127. تأويل مشكل القرآن/132-133. 128. تأويل مشكل القرآن/112-115. 129. مصطفى ناصف: الصورة الأدبية/79، و انظر أيضا جابر عصفور الصورة الفنية /164. 130. تأويل مشكل القرآن/101. 131. تأويل مشكل القرآن/86. 132. السابق/98-99. 133. تأويل مشكل القرآن/100-101. 134. تأويل مشكل القرآن: انظر على الترتيب/105،382،138،137،254، 311،191،181-277،434،312 و ما بعدها،280. 135. تأويل مختلف الحديث/34-35. 136. تأويل مشكل القرآن/123-125. 137. الزمخشري: الكشاف 426/2-427. 138. تأويل مشكل القرآن/282. 139. تأويل مشكل القرآن/481-482. 140. السابق/76. 141. السابق/76-78. 142. السابق/76-78. 143. السابق/76-78. 144. المحكم و المتشابه (ضمن رسائل العدل و التوحيد)107/2. 145. المحكم و المتشابه 37/2. 146. السابق 108/2. 147. المحكم و المتشابه انظر على الترتيب:85/2-89،86-92،91-93، 94-98،97. 148. رسائل العدل و التوحيد انظر على الترتيب 100،99/2-103،102-106. 149. رسائل العدل و التوحيد 87/2-88. 150. رسائل العدل و التوحيد 90/2. 151. متشابه القرآن/10. 152. المغني 176/12. 153. متشابه القرآن/1، انظر أيضا المغني 395/16. 154. المغني 394/16-395. 155. متشابه القرآن/1. 156. متشابه القرآن/23-24. 157. متشابه القرآن/18. 158. السابق/33. 159. السابق/34. 160. متشابه القرآن/34. 161. متشابه القرآن/35-36. 162. متشابه القرآن/4 و لمزيد من التفاصيل حول هذه الفكرة انظر نفس المصدر/24 و ما بعدها، المغني 373/16-376، شرح الأصول الخمسة/599-600. 163. متشابه القرآن/34. 164. المغني 395/16. 165. كان الخلاف حول تعريف المحكم و المتشابه ما يزال مستمرا، و كذلك الخلاف حول امكانية معرفة المتشابه، و بالتالي التوجيه النحوي للآية على العطف أو الاستثناء. انظر مقالات الاسلاميين 293/1-295. 166. متشابه القرآن/20. 167. انظر الخلاف حول تفسير هذه الظاهرة الطبري 205/1 و ما بعدها.

الفصل الثاني: مفهوم المجاز نشأته و تطوره

اشارة

ص: 91

ص: 92

1 - نظرة تاريخية

اشارة

يحسّ الباحث أن من الضروري قبل بيان كيفية الانتقال في اللغة عند المعتزلة من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، البدء ببيان الجوانب المتعددة التي دخلت تحت مفهوم المجاز. و يعدّ الجاحظ - كما سنرى - أول من تبلور على يديه مصطلح المجاز باعتباره قسيما للحقيقة و مقابلا لها. و قد حدد ابن قتيبة (ت 276 ه) - المتأثر بالجاحظ بشكل واضح - جوانب المجاز و جعلها تشمل «الاستعارة و التمثيل و القلب و التقديم و التأخير و الحذف و التكرار و الاخفاء و الاظهار و التعريض و الافصاح و الكناية و الايضاح و مخاطبة الواحد مخاطبة الجميع، و الجميع خطاب الواحد، و الواحد و الجميع خطاب الاثنين، و القصد بلفظ الخصوص لمعنى العموم و بلفظ العموم لمعنى الخصوص، مع أشياء أخرى كثيرة» (1) و هي كلها ظواهر أسلوبية تعني التغير في الدلالة، و الخروج بها عن دلالة المواضعة الشائعة. و الذي يهمنا هنا هو تحديد كيفية بلورة هذه الجوانب على يدي المفسّرين منذ ابن عباس حتى وصلت إلى الجاحظ و ابن قتيبة.

و يعدّ مصلح «المثل» أكثر المصطلحات المجازية ورودا في القرآن الكريم، سواء في أصله الثلاثي أو في مشتقاته المتعددة، و هو يتراوح بين عدّة معان أهمها «الصفة العجيبة كأنها لغرابتها يشبّه بها و يتمثّل» (2) و معنى ذلك أن مصطلح «المثل» يصبح قريبا جدا من معنى «التشبيه» و يدلّ عليه. و مما يؤكّد هذا التطابق الذي يكاد يكون تاما بين «المثل» و «التشبيه» أن مادة «شبه» في القرآن لا تأتي إلاّ بمعنى الاشتباه و الاختلاط و التداخل و عدم القدرة على التمييز «شبه الشيء تشبيها، أشكل. و شبه عليه. خلط عليه الأمر حتى اشتبه بغيره. و شبه عليه الأمر: لبس عليه» (3) و المعنى واضح في المشتقات الأخرى للمادة أنه هو الاختلاط، و ذلك في «تشابه» و «مشتبه» و «متشابه».

و لم يرد لفظ «الكناية» في القرآن، و إن وردت المادة في معنى الاخفاء

ص: 93


1- 1. انظر على سبيل المثال نللينو: بحوث في المعتزلة، في (التراث اليوناني في الحضارة الاسلامية) ص 203،202. أوليري: الفكر العربي و مركزه في التاريخ ص 67، دي بور: تاريخ الفلسفة في الاسلام/48-49 زهدي جار اللّه: المعتزلة ص 75،36،2
2- 2. انظر: محمد عمارة: المعتزلة و مشكلة الحرية الانسانية/17-24.
3- 3. الخياط: الانتصار 13-14

و الستر. (1) و ترد في معنى «الكناية» أو قريبا منها «التعريض» و هي خلاف التصريح و هو «ما توسع في دلالته فصار له وجهان ظاهر و باطن» (2) و ذلك في قوله تعالى فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ (البقرة/235).

و قد وردت مادة «جوز» بمعنى القطع و العبور، و هذا المعنى ليس بعيدا عن المفهوم المتأخر لكلمة «مجاز» على أساس أن المجاز هو تجاوز المعنى الحقيقي للعبارة الى معنى آخر يتعلق به تعلقا تاما..

أمّا مادة «عير» الأصل الاشتقاقي لمصطلح «الاستعارة» فلم ترد في القرآن الكريم، و لذلك كان من الطبيعي أن يكون هذا المصطلح أكثر المصطلحات البلاغية تأخرا في الظهور. و على العكس من ذلك كان مصطلح «المثل» مع ما يشتق منه كالتمثيل هو أكثر المصطلحات ظهورا عند المفسرين، و ذلك بحكم كثرة دورانه في القرآن الكريم و دلالته على معنى «التشبيه». و كان مصطلح «الكناية» أقل ظهورا من مصطلح «المثل» لقلة وروده في القرآن من جانب، و لعدم وضوح دلالته البلاغية من جانب آخر.

أ - مصطلح المثل عند المفسرين

و لقد شاع استخدام مصطلح «المثل» على ألسنة المفسّرين مثل ابن عباس و مجاهد و قتادة و السدى، ثم على ألسنة اللغويين كأبي عبيدة و الفراء من بعد في تحليلهم للعبارات القرآنية. و إذا كانت الكلمة تعدّ مرادفة لمفهوم التشبيه، فإنها - من جانب آخر قد تتسع للدلالة على معنى التصوير «و مثّل له الشيء صوّره حتى ينظر إليه و امتثله هو تصوره» (3) و هي بذلك تشير - إلى جانب دلالتها على التشبيه - إلى القدرة على التجسيد و التصوير بالعبارات و الكلمات. و للكلمة معان أخرى في سياقات مختلفة يحاول المبرد أن يردّها كلها إلى معنى «التشبيه»«المثل مأخوذ من المثال، و هو قول سائر يشبه به حال الثاني بالأول، و الأصل فيه التشبيه، فقولهم «مثل بين يديه» إذا انتصب، معناه أشبه الصورة المنتصبة، و «فلان أمثل من فلان» أي أشبه بماله من الفضل. و المثال القصاص لتشبيه حال المقتص منه بحال الأول.

فحقيقة المثل ما جعل كالعلم للتشبيه بحال الأول» (4) .

و من الضروري الاشارة إلى ما أثارته بعض محتويات الصور القرآنية - التي عبر عنها بالمثل - من الجدل و الاستنكار من غير المسلمين. و قد عبر القرآن نفسه عن هذا الاعتراض بقوله تعالى: إِنَّ اللّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما

ص: 94


1- 4. القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة/123
2- 5. مقالات الاسلاميين 47/1-49
3- 6. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 357/1
4- 7. المرجع السابق 357/1-358

فَوْقَها، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً، وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (البقرة/26) (1) و تنسب الروايات إلى عمر بن الخطاب أنه لم يفهم معنى بعض الآيات التي سيقت مساق المثل. و يتساءل عن معنى قوله تعالى: أَ يَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَ أَصابَهُ الْكِبَرُ وَ لَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ، فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ (البقرة/266). و لكن أحدا من الحاضرين لم يستطع أن يفسّر له معنى هذه الآية «حتى قال ابن عباس - و هو خلفه: يا أمير المؤمنين، اني أجد في نفسي منها شيئا.

قال: فتلفت إليه فقال: تحول هاهنا، لم تحقر نفسك؟ قال: هذا مثل ضربه اللّه عز و جل فقال: أ يود أحدكم أن يعمل عمره بعمل أهل الخير و أهل السعادة، حتى إذا كان أحوج ما يكون إلى أن يختمه بخير حين فني عمره و اقترب أجله، ختم ذلك بعمل من عمل أهل الشقاء - فأفسده كله، فحرقه أحوج ما يكون اليه» (2) و هذه الرواية، إن صحّت، و لم تكن مجرد رغبة من الرواة لبيان فضل ابن عباس و علمه، تعدّ دلالة على تلك الجدة الأسلوبية التي أثارت اعجاب العرب و حيرتهم في نفس الوقت، حتى اضطربوا في تحديد تلك الخاصية المميزة للقرآن، و من ثم حاولوا ربطه بالشعر و السحر و الكهانة. و الآية في سياقها العام لا تخرج عن فهم ابن عباس لها، و كلمة «المثل» ترد في صدر الآية التي قبلها.

و إلى جانب مصطلح «المثل» يرد مصطلح «الكناية» في تفسير ابن عباس قريبا جدا من معناه البلاغي، بل إن ابن عباس يلمح الفارق بين التعبير المباشر و الكناية، و ذلك عند ما يفسر كلمات مثل «الرفث» و «المباشرة» و «المس» بقوله إنها تعنى «الجماع و لكن اللّه كريم يكني ما شاء بما يشاء» (3) و بذلك يلمح - من بعيد - وظيفة التعبير بالكناية، و ترك المعنى المباشر الذي قد يخدش الحياء، أو يصدم الشعور، أو ترى فيه الجماعة عيبا لا يجب التفوه به صراحة. و لكن هذا المصطلح يرد على قلة، على عكس مصطلح «المثل» الذي يرد كثيرا.

و من الضروري الاشارة إلى أن اجتهادات ابن عباس في تفسير النص القرآني، لم تكن بعيدة عن جو التأويل و الجدل الديني الذي بدأ بانشقاق الخوارج على علي ابن أبي طالب نتيجة رفضهم لمبدأ التحكيم. و لقد كان ابن عباس - فيما يقال - هو رسول علي بن أبي طالب لمجادلة الخوارج و محاولة إقناعهم بخطإ موقفهم و صحة موقف علي. و لم يخل هذا الجدل من الاستشهاد بالقرآن من كلا الطرفين على صحة موقفه و اتساقه مع معطيات القرآن، حتى تحوّل النزاع - على مستوى

ص: 95


1- 8. انظر المرجع السابق 354/1 و ما بعدها، طه حسين: الفتنة الكبرى 180/1-185.
2- 9. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 357/1-358
3- 10. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 360/1 نقلا عن الطبري.

الجدل الديني - إلى فهم النص القرآني نفسه و الاستدلال به. و هذا كله ما جعل علي بن أبي طالب ينهى ابن عباس عن مجادلة الخوارج بالقرآن «فخاصمهم و لا تحاجهم بالقرآن فإنه ذو وجوه و لكن خاصمهم بالسنّة» (1) .و لكن ابن عباس - فيما يبدو - لم يكن في موقف الاختيار. و الذي نودّ أن نشير إليه - إن صحّت الرواية - أن هذا الاحساس المبكر بتعدد الوجوه في التعبير القرآني ينبئ عن تصور ما لا مكانية تعدد الدلالة. و ابن عباس هو الذي يتهم الخوارج بقصور الفهم و العجز عن ادراك معاني القرآن فقد «ذكر عنده الخوارج و ما يلفون عند القرآن قال: يؤمنون بمحكمه، و يهلكون عند متشابهه» (2) .

و مما يرويه الطبري عن ابن عباس رواية مؤداها أنه لم يتقبل القراءة المشهورة للآية الكريمة فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا (البقرة/137) على أساس أنها تثبت مثلا للّه يمكن الايمان به «لا تقولوا فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا» - فإنه ليس للّه مثل - و لكن قولوا:«فإن آمنوا بالذي آمنتم به فقد اهتدوا» (3) .

و من المحتمل - إن صحّت الرواية - أن ابن عباس كان مدفوعا إلى ذلك رغبة منه في نفي أي شبيه أو مثل للّه، خصوصا مع ما ذهب إليه ابن سبأ من تأليه الأئمة و القول بالرجعة.

و لم يكن الجدل حول القرآن وقفا على الفرق وحدها، أو على الجدل بين المسلمين و غيرهم من أهل الأديان، كاليهود و النصارى كما سنشير من بعد. بل توقف كثير من المسلمين عند بعض آيات القرآن متسائلين عن المعنى الحقيقي وراء صورتها اللفظية. فيروي الطبري عن الربيع أنه «لمّا نزلت وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ قال أصحاب النبي صلى اللّه عليه و سلم يا رسول اللّه، هذا الكرسي وسع السموات و الأرض، فكيف العرش؟ فأنزل اللّه تعالى: وَ ما قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إلى قوله:

سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ (4) .و إذا كان الرسول قد سكت عن تساؤل المتسائلين تاركا للّه - عز و جل - الرد عليهم و استنكار هذا السؤال الذي ينمّ عن جهل بحقيقة الألوهية، فإن ابن عباس - و الجدل قد اشتد و اتسع مداه - يفسّر الآية على أن «كرسيه: علمه» (5) و هو تأويل يقرّبنا من جو التأويل الاعتزالي الذي يهدف إلى نفي مشابهة اللّه للبشر أو حلوله في المكان.

لم يكن المفسّر القديم إذن بعيدا عن الجدل و الصراع الكلامي، و من ثم لم يكن استخدامه لوسائله التحليلية للنص القرآني بعيدا عن هذا الجدل. و ليست كلمة «المثل» في الآية التي حاول ابن عباس تعديل قراءتها بعيدة عن المصطلح البلاغي الذي كثيرا ما استخدمه لتحليل آيات القرآن، بل إن ما توهمه من معنى

ص: 96


1- 11. راجع فلهوزن: تاريخ الدولة العربية 51-52
2- 12. أحمد أمين: فجر الاسلام 333/1 و ما بعدها.
3- 13. ابن قتيبة: تأويل مختلف الحديث 3-4
4- 14. المرجع السابق 193
5- 15. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 278/1-279، و انظر جولد تسيهر: العقيدة و الشريعة في الاسلام/70-71.

«الشبه» هو الذي دفعه لتغيير قراءتها. و لقد استخدم مجاهد - تلميذ ابن عباس - هذا المصطلح في تأويل آية على غير ظاهرها، و هو تأويل استنكره الطبري استنكارا شديدا، و ذلك في قوله تعالى: وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ حيث يقول:«لم يمسخوا، إنما هو مثل ضربه اللّه لهم، مثل ما ضرب مثل الحمار يحمل أسفارا» (1) و لم يكن مجاهد بعيدا عن الجدل العقائدي، و ما يحكى عن نزعته العقلية، و ما نسب إليه «من الميل إلى تتبع التصورات الاسطورية بالدرس و الفحص، و الانتقال بنفسه إلى الأماكن التي يتصل بها شيء من الخوارق الخرافية، ليجد لنفسه تفسيرا لها عن عيان و شهادة» (2) كل ذلك يقرّبه من المعتزلة أكثر مما يباعده عنهم. و تأويلاته الكثيرة لآيات القرآن تتفق مع التأويلات الاعتزالية حتى ليعده جولد تسيهر رائدا لهم في مسائل كثيرة في التأويل، و ينحصر فضل المعتزلة عنده في أنهم «جعلوا هذه الطريقة تستوعب جميع دائرة العبارات القرآنية الدالة على التشبيه» (3) .

ب - مقاتل بن سليمان و الاحساس بتعدد الدلالة

و مما يؤكّد الارتباط بين تطور المصطلح البلاغي، و الخلافات العقائدية أن أول كتاب متخصص يصلنا في تحليل النص القرآني هو لمقاتل بن سليمان (ت 150 ه) الذي تنسب إليه المصادر القول بالتجسيم، كما تنسب إليه مجادلته لجهم بن صفوان (ت 128 ه). و قد سبقت الاشارة - في التمهيد - إلى دور جهم في ثورة الحارث بن سريج في عهد هشام بن عبد الملك، و كان مقاتل في المعسكر المعادي للحارث. و التقى كل من جهم و مقاتل كممثلين لا تجاهين متعارضين، سياسيا و فكريا. و عنوان الكتاب «الأشباه و النظائر» بل و الكتاب نفسه بمنهجه و طريقة تناوله للنص القرآني يكشف عن ذلك الاحساس بتعدد دلالات اللفظ الواحد تبعا لتعدد السياقات و اختلافها، و هو بذلك يقرّبنا خطوة إلى جو «المجاز» بمعناه الاصطلاحي. و يعدّ الكتاب بذلك تطبيقا لما سبق أن ألمح إليه علي بن أبي طالب من قبل من أن «القرآن حمّال أوجه» و هذا الاحساس بتعدد دلالات اللفظ الواحد في القرآن ظلّ يلحّ على أفئدة المفسرين و يؤرقهم حتى صار موضوع «الوجوه و النظائر» فرعا من فروع الدراسات القرآنية، كالناسخ و المنسوخ، و الاعراب.. الخ و هو فرع يعرّفه السيوطي بقوله:«فالوجوه اللفظ المشترك الذي يستعمل في عدة معان كلفظ الأمة... و قيل النظائر في اللفظ و الوجوه في المعاني» (4) و كتاب مقاتل يتعرض لبعض الألفاظ و العبارات، بل و الحروف أيضا، التي وردت في القرآن، و يحاول أن يحصر «وجوه» معاني هذه الألفاظ و العبارات

ص: 97


1- 16. الأشعري «مقالات الاسلاميين»204/1.
2- 17. جولد تسيهر: العقيدة و الشريعة في الاسلام/172.
3- 18. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 388/1.
4- 19. الأشعري: مقالات الاسلاميين 225/1.

و الحروف، مستشهدا على كل وجه من هذه الوجوه بمجموعة من الآيات القرآنية.

و الذي نلاحظه أن مقاتلا معني بالدرجة الأولى بشرح معنى اللفظ في سياقاته المختلفة. و معنى ذلك أن فكرة الانتقال في الدلالة من معنى إلى معنى باللفظ الواحد كانت واردة في ذهن مقاتل، و إن لم يشغل نفسه بمحاولة الكشف عن العلاقة القائمة بين هذه الدلالات أو الوجوه المختلفة للفظ الواحد. و تسمية المعاني نفسها باسم «وجوه» يؤكّد وجود ذلك الاحساس بتعدد الدلالات للفظ الواحد و اختلافها من سياق إلى سياق و من تركيب إلى تركيب. يقول مقاتل معبرا عن ذلك الاحساس «لا يكون الرجل فقيها كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوها كثيرة» (1) .

و يدرك مقاتل ادراكا واضحا أن للفظ الواحد معنى محددا أو وجها محددا، و يدرك أن باقي الوجوه أو المعاني فروع لذلك المعنى أو الوجه. و حين يشير إلى ذلك الوجه أو المعنى الأصلي - إن صحّ لنا استخدام هذه الكلمة الآن - يقول «كذا عينه».

و هو يعني بذلك أن هذا الوجه من وجوه معاني اللفظ هو الوجه المعروف المتداول، و الذي يطرأ على الذهن لأول وهلة. فكلمة «الموت» مثلا لها خمسة وجوه، الأربعة الأولى كلها معان فرعية، كأن يشار بها في القرآن إلى النطف التي لم تخلق، أو إلى الضال عن التوحيد، أو إلى جدوبة الأرض و قلة النبات، أو إلى ذهاب الروح عقوبة بغير أن يستوفوا الأرزاق. ثم يشير مقاتل إلى الوجه الخامس - الأصلي - بقوله:«الموت بعينه. ذهاب الروح بالآجال و هو الموت الذي لا يرجع صاحبه إلى الدنيا، فذلك قوله إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ و قوله: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ (2) و هذا الوجه الخامس هو المعنى المباشر - أو الأصلي - لكلمة «الموت» أمّا باقي الوجوه الأربعة فهي معان فرعية أو دلالات ثانوية.

و يسلك مقاتل نفس المسلك ازاء بعض العبارات و التراكيب القرآنية، فيتوقف عند عبارات «الحسنة و السيئة» و «الظلمات و النور» و «الطيب و الخبيث» و «أقام الصلاة» و «ما بين أيديهم و ما خلفهم» و «مستقر و مستودع» (3) و لا يختلف بيانه لوجوه هذه العبارات و معانيها كثيرا عن بيانه لوجوه الألفاظ، بمعنى أنه يشير إلى الوجوه الفرعية، أو الدلالات غير المباشرة، كما يشير إلى الوجه الأصلي أو الدلالة المباشرة. فعبارة «الظلمات و النور»- على سبيل المثال - لها وجهان «فوجه منهما: الظلمات يعني الشرك، فذلك قوله في البقرة اَللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ يعني يخرجهم من الشرك إلى الايمان، نظيرها عنده. و قال في الأحزاب هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ يعني من الشرك إلى الايمان و نحوه كثير. و الوجه الثاني: الظلمات: الليل، و النور، يعني النهار، فذلك قوله في الأنعام: اَلْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ يعني جعل الليل و النهار ليس مثلهما في القرآن» (4) .و لا يتوقف مقاتل - و هذا طبيعي - أمام التعبير بالظلمات و النور عن الشرك و الايمان ليبين العلاقة بين الوجهين، و ذلك لأن غايته هي ايراد المعنى المباشر لهذه الألفاظ و العبارات و وجوهها المختلفة في القرآن.

ص: 98


1- 20. المرجع السابق 225/1-234.
2- 21. انظر جولد تسيهر: العقيدة و الشريعة في الاسلام/77-78.
3- 22. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 389/1.
4- 23. جولد تسيهر: العقيدة و الشريعة في الاسلام/76.

و يسلك مقاتل نفس المسلك ازاء بعض العبارات و التراكيب القرآنية، فيتوقف عند عبارات «الحسنة و السيئة» و «الظلمات و النور» و «الطيب و الخبيث» و «أقام الصلاة» و «ما بين أيديهم و ما خلفهم» و «مستقر و مستودع» (1) و لا يختلف بيانه لوجوه هذه العبارات و معانيها كثيرا عن بيانه لوجوه الألفاظ، بمعنى أنه يشير إلى الوجوه الفرعية، أو الدلالات غير المباشرة، كما يشير إلى الوجه الأصلي أو الدلالة المباشرة. فعبارة «الظلمات و النور»- على سبيل المثال - لها وجهان «فوجه منهما: الظلمات يعني الشرك، فذلك قوله في البقرة اَللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ يعني يخرجهم من الشرك إلى الايمان، نظيرها عنده. و قال في الأحزاب هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ يعني من الشرك إلى الايمان و نحوه كثير. و الوجه الثاني: الظلمات: الليل، و النور، يعني النهار، فذلك قوله في الأنعام: اَلْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ يعني جعل الليل و النهار ليس مثلهما في القرآن» (2) .و لا يتوقف مقاتل - و هذا طبيعي - أمام التعبير بالظلمات و النور عن الشرك و الايمان ليبين العلاقة بين الوجهين، و ذلك لأن غايته هي ايراد المعنى المباشر لهذه الألفاظ و العبارات و وجوهها المختلفة في القرآن.

و كما تتعدد وجوه اللفظ الواحد، تتعدد كذلك وجوه الحرف الواحد، و يتعرض مقاتل في هذا الصدد للوجوه المختلفة للحروف، و لكنه لا يشير في أي من هذه الحروف أو الأدوات إلى وجه أصلي و وجوه فرعية أو ثانوية، بل تتساوى وجوه الحرف الواحد في امكانية ورودها. و الكتاب - من هذه الوجهة - يعدّ أقدم كتاب وصلنا في معاني الحروف، مما يؤكّد أن تفسير القرآن، أو الدراسات القرآنية عموما، كانت في الحضارة الاسلامية هي البيئة الطبيعية التي نضجت في أحضانها كل فروع الدراسات اللغوية و البلاغية.

و إلى جانب هذه الدراسة التي قرّبت المفسّر من مفهوم «المجاز» نرى أن مصطلح «المثل» يتقدم خطوة للامام، حيث يكشف مقاتل عن العلاقة بين المعنى الأصلي و المعنى المجازي في المثل و ذلك حين يفسّر الوجوه المختلفة لكلمة «ماء» في القرآن، فهو يرى أن لها وجوها ثلاثة هي المطر، و النطفة،«و الوجه الثالث: الماء:

يعني القرآن، كما أن الماء حياة الناس، كذلك القرآن حياة لمن آمن به» (3)

ج - أبو عبيدة و أنواع المجاز

و إذا كان مقاتل بن سليمان صاحب ميول تجسيدية واضحة، و ذا نزعة ارجائية معروفة، و هو أول من وصلنا عنه كتاب في «الأشباه و النظائر» فإن أول كتاب يصلنا بعنوان «مجاز القرآن» هو لأبي عبيدة معمر بن المثنى (ت 207 ه) الخارجي (4) .و في نفس الفترة تقريبا نلتقي بكتاب «معاني القرآن» للفراء (ت 209 ه) و له ميول اعتزالية أشار إليها الدارسون. و كما فعلنا مع كتاب مقاتل، سنكتفي هنا بمحاولة رصد ما يندرج تحت مفهوم المجاز من أساليب، تاركين الكشف عن الجوانب الكلامية في هذه المؤلفات للفصل الخاص بالتأويل.

و لا شك أن طبيعة ثقافة كل من أبي عبيدة و الفراء قد أثّرت - بشكل أو بآخر - على زاوية رؤية كل منهما للتركيب القرآني، و على طريقة تحليلهما لهذا التركيب و تذوقهما له. و الدوافع التي دفعت كلا منهما لتأليف كتابه تكشف - من جانب آخر - عن وجود مجموعة من العوامل الخارجية أهمها استغلاق النص القرآني على أفهام كثيرين من رجال الدولة ذوي الأصول الأعجمية في غالب الأحيان، هذا إلى جانب أخطائهم في نطق القرآن أو اللحن فيه. و كان من أثر ذلك كله أن تطورت مهمة

ص: 99


1- 22. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 389/1.
2- 23. جولد تسيهر: العقيدة و الشريعة في الاسلام/76.
3- 24. المرجع السابق/84، و انظر أيضا زهدي جاد اللّه: المعتزلة/23 و ما بعدها.
4- 25. فلهوزن: تاريخ الدولة العربية/67-68.

المفسّر قليلا عن ذي قبل، فصار عليه أن يتناول النص القرآني من زاوية التركيب كما يتناوله من زاوية شرح الغامض من ألفاظه. و علاوة على ذلك كان عليه أن يتناول الجانب الاعرابي. و بمعنى آخر كان على هؤلاء المفسرين أن يخوضوا في مباحث بلاغية و أسلوبية أكثر اتساعا مما تعرّض له المفسرون السابقون، بحكم هذه المهمة التي كانت تواجههم.

و إذا كانت الدراسات الأسلوبية المعاصرة لا تفصل بين اللغة و البلاغة، و تدخل في صميم عملها جنبا إلى جنب دراسة «موقع اللفظ، و التكرار، و الوسائل الايقاعية و الموسيقية، و الاستعارة و الرمز و الصورة» (1) فكذلك كان الأمر في تراثنا القديم، حيث كانت الدراسة البلاغية متداخلة مع الدراسة اللغوية في كتب النحاة الأوائل أمثال «سيبويه» حتى اعتبره بعض الباحثين «واضع علمي المعاني و البيان» (2) و اعتبر أن أبا عبيدة في كتابه «مجاز القرآن» لم يفعل أكثر من أنه سلك مسلك سابقيه من اللغويين من ربط النحو بالأساليب و التراكيب، على عكس ما فعل المتأخرون حيث قصروه على أنه «علم يعرف به أحوال أواخر الكلم اعرابا و بناء»«و النحو بالمعنى الذي عناه المتقدمون هو الذي عنى مثله أبو عبيدة معمر بن المثنى بالمجاز عند ما سمّى كتابه «المجاز في القرآن» و هو طريق العرب في التعبير عن مقاصدهم و أغراضهم و بيان ما قد يطرأ على الجملة العربية من تقديم أو تأخير أو حذف إلى نحو ذلك» (3) و معنى ذلك أن مفهوم المجاز عند أبي عبيدة يتسع ليشمل كل ما يندرج تحت دراسة الأساليب. و مما يؤكد هذا المفهوم عند أبي عبيدة ما يحكيه هو نفسه عن سبب تأليف كتابه من أن كاتبا للفضل بن ربيع سأله عن قوله تعالى طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ و قال: إنما يقع الوعد و الايعاد بما عرف مثله و هذا لم يعرف، فقال له أبو عبيدة:«إنما كلم اللّه تعالى العرب على قدر كلامهم، أما سمعت قول امرئ القيس:

أ يقتلني و المشرفي مضاجعي و مسنونة زرق كأنياب أغوال

و هم لم يروا الغول قط، و لكنهم لمّا كان أمر الغول يهولهم أوعدوا به.

فاستحسن الفضل ذلك و استحسنه السائل، و عزمت في ذلك اليوم أن أضع كتابا في القرآن في مثل هذا و أشباهه و ما يحتاج إليه من علمه، فلما رجعت إلى البصرة عملت كتابي الذي سميته «المجاز» (4) .و هذا الذي يحكيه أبو عبيدة يلفتنا إلى أمرين: الأمر الأول أن التساؤل يصدر عن كاتب للفضل بن ربيع، و هو في الغالب من الفرس المتعربين الذين لا يدركون أسرار التركيب العربي، و إن عرفوا مفرداته و أساليبه الشائعة. و مثل هذا يتوقف أمام التركيب اللغوي الذي لا يتفق

ص: 100


1- 26. جولد تسيهر: العقيدة و الشريعة في الاسلام/86.
2- 27. الشهرستاني: الملل و النحل 30/1، انظر أيضا البغدادي: الفرق بين الفرق/18-19.
3- 28. انظر حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 419/1، أيضا مقالات الاسلاميين: المقدمة/10-11.
4- 29. خالد العلي: جهم بن صفوان و مكانته في الفكر الاسلامي/49.

و القواعد التي درس على أساسها اللغة، و قد يدفعه ذلك إلى رفض التركيب و اتهامه بالخطإ. و غني عن البيان أن أي قاعدة نحوية أو لغوية تضيق دائما عن امكانيات الواقع الحي للغة و ثرائه، و يظل من يتعلم اللغة - و لفترة طويلة جدا - في حدود القواعد و الحدود، دون أن يتجاوز ذلك إلى رحابة الأساليب الفنية للغة، تلك الأساليب التي تخضع القواعد لها دون أن تخضع هي للقواعد. و الأمر الثاني الذي يلفتنا إليه كلام أبي عبيدة أنه يردّ المثال القرآني الذي سئل عنه إلى طريقة العرب التي نزل القرآن عليها. و منهجه في الكتاب كله يقوم على ذلك، بمعنى أنه يحاول شرح التركيب، ثم يستشهد على صحته بأبيات من الشعر أو العبارات القرآنية.

و يعدّ هذا المسلك من جانب أبي عبيدة استمرارا للتقليد الذي رفع شعاره ابن عباس «إذا سألتموني عن غريب القرآن فالتمسوه في الشعر فإن الشعر ديوان العرب» (1) .

و معنى هذا كله أن مصطلح «المجاز» عند أبي عبيدة، و إن ظلّ شديد الالتصاق بمعناه اللغوي، فإنه كان يديره «على أمر في نفسه، و أنه التزم فكرة بعينها كانت تشغل ذهنه، فلم تكن هذه الكلمة تعبر عن مدلول كلمة تفسير، أو كلمة معنى بصفة مطلقة، و إن كان هذا لا ينفي اطلاقها أحيانا في ذلك المعنى» (2) .

و الحذف - و هو ظاهرة أسلوبية - يعدّ من المجاز عند أبي عبيدة. و يشترط في الحذف، أو في المحذوف أن يكون مما يمكن أن يعلمه المخاطب. و في تعليقه على قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَ كَفَرْتُمْ يقول:«العرب تختصر لعلم المخاطب بما أريد به فكأنه خرج مخرج قولك: فأمّا الذين اسودت وجههم فيقال لهم أكفرتم، فحذف هذا و اختصر في الكلام» و يستشهد على ذلك بما قال الأسدي:

كذبتم و بيت اللّه لا تنكحونها بنى شاب قرناها تصر و تحلب

و يقول:«أراد بنى التي شاب قرناها، و قال النابغة الذبياني:

كأنك من جمال بني أقيش يقعقع خلف رجليه بشن

يقول: كأنك جمل يقعقع خلف الجمل بشن، ففهم عنه ما أراد» (3) و من الواضح أن وظيفة الحذف هي الاختصار، و شرطه أن لا يخلّ الحذف بوضوح المعنى.

و مثال ثان يؤكد ما نذهب اليه، و ذلك في تحليله لقوله تعالى وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ حيث يقول:«سقوه حتى غلب عليهم، مجازه، مجاز الاختصار، أشربوا في قلوبهم العجل، حب العجل، و في القرآن وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ

ص: 101


1- 30. البغدادي: الفرق بين الفرق/19.
2- 31. جولد تسيهر: العقيدة و الشريعة في الاسلام/87 نقلا عن ابن قتيبة: الإمامة و السياسة.
3- 32. الشهرستاني: الملل و النحل 143/1.

مجازها: أهل القرية» (1)

فإذا تركنا الحذف إلى وسائل التعبير التصويرية كالتشبيه و التمثيل و الاستعارة فسنجد أبا عبيدة يلجأ لتبسيط التراكيب الاستعارية و التمثيلية بدلا من أن يحللها و يتذوقها و يكشف عن مناحي الجمال فيها، فقوله سبحانه كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ يصبح معناه «ميتة» و قوله ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَ الْمَسْكَنَةُ يتحول إلى «الزموا المسكنة» و قوله وَ أَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ يصير «جعلنا». أمّا أخذ اللّه للأسماع و الأبصار في الآية قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَ أَبْصارَكُمْ «فمجازه إن أصمّ اللّه أسماعكم و أعمى أبصاركم». و قوله تعالى فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ معناه «قالوا: إنكم لكاذبون. و تصبح الهبة الالهية وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي «مجازه جعلت محبة مني في صدور الناس». و تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ مجازه تقبلونه و يأخذه بعضكم عن بعض». و كذلك قوله وَ أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ «مجازه و جعل فيها رواسي أي جبالا قد رست أي ثبتت» و قوله تعالى قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاّمُ الْغُيُوبِ تصير «يأتي بالحق» (2) .

و في هذه الآيات كلها يبدو التركيب القرآني - في شرح أبي عبيدة - كما لو كان فيه اطالة تحتاج للحذف و الاختصار. و بذلك يتعادل التركيب المعقد و التركيب البسيط ليعبرا عن معنى واحد في النهاية. و معنى ذلك كله أن أبا عبيدة أدرك أن في هذه التعبيرات جميعا شيئا غير عادي، شيئا يحتاج للتوضيح كما احتاج التشبيه برءوس الشياطين إلى الشرح و التوضيح. و هو و إن كان لم يبيّن الفارق الدقيق بين مستويي التعبير المجازي و التعبير الحقيقي، فإن مجرد توقفه أمام هذه النماذج و وضعه اياها تحت المجاز يعدّ نقلة كبيرة في انضاج مفهوم المجاز و تطويره.

و من انجازات أبي عبيدة أنه يلتفت إلى ما يمكن أن نطلق عليه أسلوب «التشخيص» في القرآن، و هو اطلاق صفات انسانية على الحيوان و الجماد. غير أن ما يلفت نظر أبي عبيدة إلى هذا الأسلوب هو استخدام ضمائر العاقل بدلا من ضمائر غير العاقل. و الأمثلة التي يتوقف أمامها هي قوله تعالى قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ يقول:«هذا من الحيوان الذي خرج مخرج الآدميين.

و العرب قد تفعل ذلك. قال:

شربت إذا ما الديك يدعو صباحه إذا ما بنو نعش دنوا فتصوبوا» (3)

و يقول في قوله تعالى قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ «هذا مجاز الموات الذي يشبه تقدير فعله بفعل الآدميين» و هي نفس النظرة التي ينظر بها إلى الآيات وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ و كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى (4) .

ص: 102


1- 33. البغدادي: الفرق بين الفرق/202.
2- 34. الملل و النحل 139/1.
3- 35. محمود اسماعيل: الحركات السرية في الاسلام/53.
4- 36. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 333/1.

شربت إذا ما الديك يدعو صباحه إذا ما بنو نعش دنوا فتصوبوا» (1)

و يقول في قوله تعالى قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ «هذا مجاز الموات الذي يشبه تقدير فعله بفعل الآدميين» و هي نفس النظرة التي ينظر بها إلى الآيات وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ و كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى (2) .

د - الفراء و بلورة المصطلح

إذا تركنا أبا عبيدة، و انتقلنا لمعاصره الفراء، فسنجد تحديدا أدق لمفهوم المجاز، أو التجاوز في الدلالة عموما. و إذا كان الفراء لم يستخدم كلمة «مجاز» التي جعلها أبو عبيدة عنوانا لكتابه، فإنه استخدم صيغة الفعل «تجوز» و ذلك حين تعرّض لقوله تعالى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ حيث اعتبر اسناد الربح الى التجارة تجوزا في التعبير. و هذا الاستعمال للفعل «تجوز» في هذا السياق يعني أن مفهوم «المجاز» أو «التجوز» قد تقدّم على يد الفراء خطوة بعد أبي عبيدة، و ذلك أن معنى «تجوز في كلامه أي تكلم بالمجاز» (3) .

يقول الفراء في تعليقه على هذه الآية «ربما قال القائل: كيف تربح التجارة و إنما يربح الرجل التاجر؟ و ذلك من كلام العرب: ربح بيعك و خسر بيعك، فحسن القول بذلك، لأن الربح و الخسران إنما يكون في التجارة، فعلم معناه، و مثله من كلام العرب: هذا ليل نائم. و مثله من كتاب اللّه: فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ و إنما العزيمة للرجال، و لا يجوز الضمير إلاّ في مثل هذا. فلو قال قائل: قد خسر عبدك، لم يجز ذلك إن كنت تريد أن تجعل العبد تجارة يربح فيه أو يوضع، لأنه قد يكون العبد تاجرا فيربح أو يوضع، فلا يعلم معناه إذا ربح هو من معناه إذا كان متجوزا فيه.

فلو قال قائل: قد ربحت دراهمك و دنانيرك و خسر بزك و رقيقك، كان جائزا لدلالة بعضه على بعض» (4) و لعله من المفيد أن نتوقف قليلا أمام هذا النص محاولين استجلاء مفهوم التجاوز في التعبير عند الفراء. و أول ما يلفت الانتباه في هذا النص محاولة الفراء - شأن أبي عبيدة و المفسرين قبله - أن يردّ العبارة القرآنية إلى كلام العرب، ثم أن يبين أن سبب التجاوز هو أن «الربح و الخسران إنما يكون في التجارة فعلم معناه» أي أن التجاوز في الاسناد لم يؤدّ إلى غموض المعنى بسبب تلك الصلة القائمة بين التاجر - الفاعل الحقيقي للربح - و بين التجارة - التي يحدث فيها الربح - و لذلك فذهن القارئ ينصرف فورا إلى أن المعنى هو ربح التاجر في التجارة. و الرغبة في وضوح المعنى هي التي تجعل الفراء يرفض التجاوز في مثل «خسر عبدك» إذا كنت تريد أن تجعل العبد تجارة لا تاجرا. و الذي يجعل الفراء يرفض التجاوز في هذا التركيب أن جملة «خسر عبدك» تحتمل معنيين: المعنى الأول: أن يكون العبد تاجرا في مال سيده فيخسر، و بذلك يكون الاسناد حقيقيا لا مجازيا. و المعنى الثاني: أن يكون العبد نفسه تجارة يخسر فيها السيد، و هنا يكون الاسناد مجازيا، أو متجوزا فيه على حد تعبير الفراء. يرفض الفراء هذا التركيب

ص: 103


1- 35. محمود اسماعيل: الحركات السرية في الاسلام/53.
2- 36. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 333/1.
3- 37. فلهوزن: تاريخ الدولة العربية/67.
4- 38. محمد عمارة: المعتزلة و مشكلة الحرية الانسانية/29،28.

لأنه يؤدي إلى غموض يعوقنا عن فهم المراد، و ذلك لأنه يحتمل الاسناد الحقيقي و المجازي معا دون مرجح أو قرينة ترجح بينهما. فإذا ورد تركيب مشابه لهذا التركيب في سياق يفهم منه المعنى كأن تقول «قد ربحت دراهمك و دنانيرك، و خسر بزك و رقيقك» كان جائزا لدلالة بعضه على بعض. و الذي يهمنا في هذا النص هو التفات الفراء لمعنى التجاوز في التعبير، و استخدامه لكلمة «التجوز» التي هي أقرب إلى كلمة «مجاز» ثم ادراكه للعلاقة بين المجاز و الحقيقة في اسناد الفعل إلى غير فاعله، و ذلك لوجود علاقة بين الفاعل الأصلي و الفاعل النحوي في العبارة.

و إذا كان الفراء قد تنبه - في النص السابق - إلى التجاوز في إسناد الفعل إلى غير فاعله، فهو في مواطن كثيرة يتنبه إلى هذا التجاوز، دون أن يشير إلى كلمة «التجوز» التي كثرت اشارته إليها في النص السابق، بل يستخدم كلمة قريبة جدا من معنى التجوز هي «الاتساع». يقف أمام قوله بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ و يقول:

«المكر ليس لليل و لا للنهار، و انما المعنى: بل مكركم بالليل و النهار. و قد يجوز أن نضيف الفعل إلى الليل و النهار، و يكونا كالفاعلين، لأن العرب تقول: نهارك صائم، و ليلك نائم، ثم تضيف الفعل إلى الليل و النهار، و هو في المعنى للآدميين كما تقول: نام ليلك، و عزم الأمر، إنما عزمه القوم. فهذا مما يعرف معناه فتتسع به العرب» (1) .و يلح الفراء هنا كما في المثال السابق على وضوح الدلالة «فهذا مما يعرف معناه».

و إذا كان التجاوز في المثالين السابقين تجاوزا في الاسناد، فثم نوع آخر من التجاوز يكون في دلالة الصيغة الصرفية، فصيغة «فاعل» تدل على اسم الفاعل، و لكنها قد يتجوز بها فتدل على اسم المفعول. و من الطبيعي أن يقف نحوي كالفراء أمام هذه الظواهر ليتأملها و يحاول أن يردّها إلى ما هو معروف من كلام العرب.

يتوقف مثلا أمام قوله تعالى: فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ فيقول:«فيها الرضاء، و العرب تقول: هذا ليل نائم، و سر كاتم، و ماء دافق، فيجعلونه فاعلا، و هو مفعول في الأصل، و ذلك أنهم يريدون وجه المدح و الذم، فيقولون ذلك لا على بناء الفعل، و لو كان فعلا مصرحا لم يقل ذلك فيه، لأنه لا يجوز أن تقول للضارب: مضروب، و لا للمضروب: ضارب، لأنه لا مدح فيه و لا ذم» (2) و الفراء هنا يحدد وظيفة للانتقال بالصيغة عمّا وضعت له من دلالتها الصرفية إلى دلالة أخرى، هذه الوظيفة هي المدح أو الذم. و المقصود بالمدح و الذم هنا هو التعبير عن شيء وراء الوصف الظاهري. و بدون هذا الشيء لا يصح استخدام الصيغة في غير ما وضعت له، و معنى ذلك أن الانتقال بالصيغة من معنى الفاعل إلى معنى المفعول يتضمن مدحا أو ذما لا تعبر عنه الصيغة في دلالتها الأصلية.

ص: 104


1- 39. الأشعري: مقالات الاسلاميين 338/1.
2- 40. البغدادي: الفرق بين الفرق/211-212، و انظر أيضا الشهرستاني: الملل و النحل 86/1-87.

يتوقف الفراء أيضا أمام ما سيطلق عليه فيما بعد اسم «المجاز المرسل» و ذلك عند قوله تعالى: كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ يقول:«كنتم تأتوننا من قبل اليمين، أي تأتوننا تخدعوننا بأقوى الوجوه. و اليمين: القدرة و القوة. و كذلك قوله فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ أي بالقوة و القدرة. و قال الشاعر:

إذا ما غاية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين

أي بالقدرة و القوة» (1) .و كذلك يتوقف الفراء أمام قوله تعالى أُولِي الْأَيْدِي وَ الْأَبْصارِ ليقول:«يريد أولى القوة و البصر في أمر اللّه» (2) «و قوله عز و جل:

بِأَيْدٍ بقوة» (3) .و لا يشير الفراء في هذه الأمثلة للعلاقة المجازية بين الأيدي و القوة. و لكنه في مثال آخر يحاول توضيح هذه العلاقة، و ذلك حين يتعرّض لقوله تعالى يَتْلُونَ آياتِ اللّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَ هُمْ يَسْجُدُونَ حيث يقول «السجود في هذا الموضع اسم للصلاة لا للسجود، لأن التلاوة لا تكون في السجود و لا في الركوع» (4) .و العلاقة التي يشير اليها الفراء هنا هي علاقة تعبير الجزء عن الكل، فالسجود جزء من الصلاة، و لذلك عبر عن الصلاة - الكل - بالسجود - الجزء.

و القرينة التي تسمح بهذا التجوز أن التلاوة لا تكون في السجود و لا في الركوع، بل تكون في الصلاة عموما و لهذا السبب - أي بسبب عدم غموض المعنى - جاز هذا التعبير.

و يتوقف الفراء، شأن معاصره أبي عبيدة، أمام مجاز الحذف في آيات كثيرة.

و هو يسلك مسلكه في الحرص على تعيين المحذوف و تحديده. يقف أمام قوله تعالى:

اِضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً ليقول «معناه - و اللّه أعلم - فضرب فانفجرت. فعرف بقوله «فانفجرت» أنه قد ضرب، فاكتفى بالجواب، لأنه أدّى عن المعنى. فكذلك قوله أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ و مثله في الكلام أن تقول: أنا الذي أمرتك بالتجارة فاكتسبت الأموال، فالمعنى فتجرت فاكتسبت» (5) .و من الواضح أن الفراء يهتم بوضوح المعنى الذي يجوز معه الحذف، ما دام الحذف لن يعوق المتلقي عن فهم المعنى المراد.

و مما يؤكد المدخل النحوي للوقوف الطويل أمام مجاز الحذف، بحث الفراء عن «الفاء» في جواب «أمّا» في قوله تعالى فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَ كَفَرْتُمْ و هي نفس الآية التي توقف أمامها أبو عبيدة، و إن لم تشغله قضية «الفاء» و هذا هو الفارق بين لغوي - كأبي عبيدة - يبحث عن استواء العبارة، و بين نحوي كالفراء يبحث عن استواء القاعدة. يقول الفراء:«إن «أمّا» لا بدّ لها من الفاء جوابا فأين هي؟ فيقال: إنها كانت مع قول مضمر، فلما سقط القول سقطت الفاء معه.

ص: 105


1- 41. الأشعري: مقالات الاسلاميين:338/1، انظر الشهرستاني: الملل و النحل 87/1.
2- 42. المقالات 338/1.
3- 43. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 333/1
4- 44. المرجع السابق 358/1-359 نقلا عن الطبري.
5- 45. السابق: نفس الصفحة.

و المعنى - و اللّه أعلم - فأمّا الذين اسودت وجوههم فيقال: أكفرتم، فسقطت الفاء مع (فيقال) و القول قد يضمر. و منه في كتاب اللّه شيء كثير، من ذلك قوله وَ لَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا و قوله وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا و في قراءة عبد اللّه و يقولون ربنا (1) و الاستشهاد بقراءة ابن مسعود هنا يؤكد ما يذهب إليه الفراء من أن القول قد يضمر. و من الطبيعي أن لا يلتفت الفراء و أبو عبيدة للوظيفة الاسلوبية لما أسموه «الحذف» خصوصا في فعل القول، تلك الوظيفة التي «تنبع من الرغبة في التمثيل أكثر من مجرد القص أو الإخبار بأحداث القصة»(2) و ذلك لأنهما كانا مشغولين بتوضيح النص القرآني و شرحه و جعله مفهوما. و كان من الطبيعي أيضا - أن يتعاملا مع الشعر من نفس الناحية، منتهيا إلى الاهتمام بتحديد المحذوف و تعيينه. و يتوقف الفراء أمام قول الشاعر مستشهدا به على وجود الحذف في لغة العرب:

رأتني بحبليها فصدت مخافة و في الحبل روعاء الفؤاد فروق

ليقول: أقبلت بحبليها

و يتوقف أمام قول الآخر:

حنتني حانيات الدهر حتى كأني خاتل أدنو لصيد

قريب الخطو يحسب من رآني و لست مقيدا أنى بقيد

يريد مقيدا بقيد» (3)

و كما اشترط الفراء في التجاوز الاسنادي وضوح المعنى و الدلالة، كذلك يشترط لجواز الحذف أن يكون المعنى مفهوما. فإذا كان الحذف سيخلّ بالمعنى فهو غير جائز. و الذي يثير القضية عند الفراء قوله تعالى: فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ،«و لم يقل قال الذي لم يتقبل منه لأقتلنك و مثله في الكلام أن نقول: إذا اجتمع السفيه و الحليم حمد، تنوي بالحمد الحليم، و إذا رأيت الظالم و المظلوم أعنت، و أنت تنوي: أعنت المظلوم للمعنى الذي لا يشكل. و لو قلت مرّ بي رجل و امرأة فأعنت، و أنت تريد أحدهما لم يجز حتى يبين، لأنهما ليس فيهما علامة تستدل بها على موضع المعونة، إلاّ أن تريد فأعنتهما جميعا» (4) .و معنى ذلك أن وضوح الدلالة لا بدّ أن يقارن الحذف، و معه يجوز. فإذا لم يتعين المحذوف من سياق الكلام لم يجز الحذف. و قد كان الفراء يستطيع - ببساطة - أن يحلّ المشكلة دون تقدير المحذوف أو تعيينه، ذلك أن المعنى واضح في الآية من السياق. و لو

ص: 106


1- 46. البغدادي: الفرق بين الفرق 233-234، و انظر المقالات 86/1، الملل و النحل 174/1.
2- Graham Hough:Style and Stylistics.P.36.
3- 47. الفرق بين الفرق/235.
4- 48. جولد تسيهر: العقيدة و الشريعة في الاسلام/192.

تتبعنا مسلك النحاة، لقلنا إن الضمير في «قال» يعود إلى أقرب اسم و هو «الآخر».

و يكون المعنى «قال الآخر لأقتلنك» و ذلك دون حاجة لتقدير محذوف في الكلام.

و يدخل في أسلوب التجاوز عند الفراء، استخدام الضمائر العاقلة لغير العاقل من الحيوان و الجماد، و هي ما أطلقنا عليه ظاهرة «التشخيص» و لا تختلف وقفة الفراء عند هذه الظاهرة عن وقفة أبي عبيدة إلاّ في التناول التفصيلي حيث اكتفى أبو عبيدة بالاشارة المجملة. يقول الفراء في قوله تعالى رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ «فإن هذه النون و الواو إنما تكونان في جمع ذكران الجن و الانس و ما أشبههم. فيقال: الناس ساجدون، و الملائكة ساجدون. فإذا عدوت هذا صار المؤنث و المذكر إلى التأنيث فيقال الكباش قد ذبحن و ذبحت و مذبحات. و لا يجوز مذبحون. و إنما جاز في الشمس و القمر و الكواكب بالنون و الياء لأنهم وصفوا بأفاعيل الآدميين، أ لا ترى أن السجود و الركوع لا يكونان إلاّ من الآدميين فأخرج فعلهم على فعال الآدميين، و مثله وَ قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا فكأنهم خاطبوا رجالا إذ كلمتهم و كلموها. و كذلك يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ فما أتاك موافقا لفعل الآدميين من غيرهم أجريته على هذا» (1) و يمكن لنا أن نستنتج من هذا النص أن المبرر الذي يسمح لنا باستخدام ضمائر العقلاء لغير العقلاء هو التشبيه بين أفعال النوعين، بمعنى أننا إذا اسندنا لغير العاقل فعل العاقل كالكلام للجلود و السجود للكواكب و الحديث للنمل، جاز لنا استخدام ضمائر العقلاء.

غير أن اسناد أفعال العقلاء إلى الجماد يعدّ - من جانب آخر - تجاوزا في الاسناد. و هذا أمر يكشف عنه الفراء حين يتوقف أمام قوله تعالى يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ حيث يقول:«يقال: كيف يريد الجدار أن ينقض؟ و ذلك من كلام العرب أن يقولوا: الجدار يريد أن يسقط. و مثله قول اللّه وَ لَمّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ و الغضب لا يسكت إنما يسكت صاحبه و إنما معناه: سكن، و قوله: فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ و إنما يعزم أهله و قد قال الشاعر:

إن دهرا يلف شملي بحمل لزمان يهم بالاحسان

و قال الآخر:

شكا إلي جملي طول السرى صبرا جميع فكلانا مبتلى

و الجمل لم يشك، و إنما تكلم به على أنه لو نطق لقال ذلك. و كذلك قول عنترة:

فازورّ من وقع القنا بلبانه و شكا إلي بعبرة و تحمحم» (2)

ص: 107


1- 49. المرجع السابق/205.
2- 50. المقدمة/375.

و بهذا التحليل للأسلوب التصويري في القرآن، بما يتممنه من اسناد فعل الانسان إلى الحيوان، و هو تحليل يركّز على زاوية الرؤية النحوية في المجاز، يمكن لنا أن نعلل عدم وجود مصطلح «الاستعارة» عند الفراء. على أن تحليله لبعض الصور الاستعارية لم يخل من احساس بدور التعبير الاستعاري في تجسيد المعنوي.

يقف أمام قوله تعالى: وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ ليقول «البرزخ من يوم يموت إلى يوم يبعث. و قوله وَ جَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً يقول: حاجزا. و الحاجز المسافة البعيدة، و تنوي الأمر المانع، مثل اليمين و العداوة، فصار المانع في المسافة كالمانع في الحوادث، فوقع عليهما البرزخ» (1) و هو شرح يركز على وجه الشبه الذي يسمح باستعمال اللفظ الواحد في معنيين متقاربين، أحدهما حسي و الآخر معنوي.

فالحاجز في الأصل - هو المسافة البعيدة، و هذا هو المعنى الحسي، و لكن اللفظة قد تستخدم في كل ما يمنع من اللقاء مثل اليمين و العداوة.. الخ فاستعمال اللفظ في المعنى الثاني و نقله عن المعنى الأول يمكن لعلاقة المشابهة بينهما. و قد لاحظنا من قبل أن اسناد أفعال الآدميين لغير الآدميين و كذلك ضمائرهم لا بدّ أن يقوم على أساس المشابهة. و هذا كله يجعل التشابه هو أساس التجاوز أو الانتقال في الدلالة عند الفراء. و مثال آخر يؤكد هذا المنحى في فكر الفراء نجده في قوله تعالى فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً حيث يقول «و الذنوب في كلام العرب: الدلو العظيمة، و لكن العرب تذهب بها إلى النصيب و الحظ. و بذلك أتى التفسير: فان للذين ظلموا حظا من العذاب، كما نزل بالذين من قبلهم، و قال الشاعر:

لنا ذنوب و لكم ذنوب فإن أبيتم فلنا القليب» (2)

و إذا كان التشبيه هو الأصل في التجاوز. سواء في اسناد الأفعال أو الضمائر، فمن الطبيعي أن يتوقف الفراء عند «المثل»- التشبيه - وقفة تكشف عن طبيعة فهمه له. و من الطبيعي أيضا أن تكون وقفته في تحليل المثل - التشبيه - هي وقفة النحوي الذي تستلفت نظره ظواهر نحوية في الأسلوب. يتوقف عند قوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً و الظاهرة التي تستوقفه في هذه الآية أن المشبه جمع بينهما المشبه به مفرد، فكيف يمكن أن يقع التشبيه على ذلك؟ و يدفعه هذا التساؤل إلى تحليل لوجه الشبه «فانما ضرب المثل - و اللّه أعلم - للفعل لا للاعيان، و إنما هو مثل للنفاق، فقال مثلهم كمثل الذي استوقد نارا، و لم يقل الذين استوقدوا. و هو كما قال اللّه تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ و قوله ما خَلْقُكُمْ وَ لا بَعْثُكُمْ إِلاّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ، فالمعنى - و اللّه أعلم - إلاّ كبعث نفس واحدة، و لو كان التشبيه للرجال لكان مجموعا كما قال كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ... و قال كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ فكان مجموعا إذا أراد تشبيه أعيان الرجال، فأجز الكلام على هذا. و إن جاءك تشبيه جمع الرجال موحدا في شعر فأجزه. و إن جاءك التشبيه للواحد مجموعا في شعر فهو أيضا يراد به الفعل فأجزه، كقولك ما فعلك إلاّ كفعل الحمير، و ما أفعالكم إلاّ كفعل الذئب، فابن على هذا، ثم تلقى الفعل فتقول: ما فعلك إلاّ كالحمير و كالذئب» (3) فالتشبيه بالأعيان لا بدّ فيه من مطابقة المشبه للمشبه به مطابقة نحوية كاملة، أعني من حيث الافراد و التثنية و الجمع. و لا تشترط هذه المطابقة النحوية إذا كان التشبيه بالأفعال. و يسمح الفراء بتلقي هذه التشبيهات و اجازتها في الشعر حتى مع حذف المشبه الذي هو الفعل.

ص: 108


1- 51. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 382/1-383 نقلا عن ابن الأثير.
2- 52. انظر حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 403/1-404.
3- 53. جولد تسيهر: العقيدة و الشريعة في الاسلام/176.

لنا ذنوب و لكم ذنوب فإن أبيتم فلنا القليب» (1)

و إذا كان التشبيه هو الأصل في التجاوز. سواء في اسناد الأفعال أو الضمائر، فمن الطبيعي أن يتوقف الفراء عند «المثل»- التشبيه - وقفة تكشف عن طبيعة فهمه له. و من الطبيعي أيضا أن تكون وقفته في تحليل المثل - التشبيه - هي وقفة النحوي الذي تستلفت نظره ظواهر نحوية في الأسلوب. يتوقف عند قوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً و الظاهرة التي تستوقفه في هذه الآية أن المشبه جمع بينهما المشبه به مفرد، فكيف يمكن أن يقع التشبيه على ذلك؟ و يدفعه هذا التساؤل إلى تحليل لوجه الشبه «فانما ضرب المثل - و اللّه أعلم - للفعل لا للاعيان، و إنما هو مثل للنفاق، فقال مثلهم كمثل الذي استوقد نارا، و لم يقل الذين استوقدوا. و هو كما قال اللّه تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ و قوله ما خَلْقُكُمْ وَ لا بَعْثُكُمْ إِلاّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ، فالمعنى - و اللّه أعلم - إلاّ كبعث نفس واحدة، و لو كان التشبيه للرجال لكان مجموعا كما قال كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ... و قال كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ فكان مجموعا إذا أراد تشبيه أعيان الرجال، فأجز الكلام على هذا. و إن جاءك تشبيه جمع الرجال موحدا في شعر فأجزه. و إن جاءك التشبيه للواحد مجموعا في شعر فهو أيضا يراد به الفعل فأجزه، كقولك ما فعلك إلاّ كفعل الحمير، و ما أفعالكم إلاّ كفعل الذئب، فابن على هذا، ثم تلقى الفعل فتقول: ما فعلك إلاّ كالحمير و كالذئب» (2) فالتشبيه بالأعيان لا بدّ فيه من مطابقة المشبه للمشبه به مطابقة نحوية كاملة، أعني من حيث الافراد و التثنية و الجمع. و لا تشترط هذه المطابقة النحوية إذا كان التشبيه بالأفعال. و يسمح الفراء بتلقي هذه التشبيهات و اجازتها في الشعر حتى مع حذف المشبه الذي هو الفعل.

و من الملاحظ أن الحذف هنا لا يعوق عملية التشبيه أو التمثيل، و علينا أن نلاحظ أن الفراء يقدّر المحذوف محافظة على وضوح المعنى. و بذلك يكون الفراء - رغم زاوية التحليل - قد أضاء بعض جوانب عملية التشبيه أو التمثيل التي أعتبرها أساس كل تجاوز في دلالة اللفظ أو العبارة.

فإذا تركنا «المثل» لا نجد الفراء يضيف كثيرا إلى ما شرحه أبو عبيدة و المفسرون مثله لمفهوم «الكناية» (3) فهو ما يزال عنده مرتبطا بالمعنى اللغوي و هو الاضمار و الاخفاء، و كثيرا ما يستخدم كمصطلح نحوي يقابل مصطلح «الاضمار» عند البصريين. و حين يفسّر الفراء قول اللّه تعالى إِنّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ يقول:«فكنىّ عن هي، و هي للايمان و لم تذكر. و ذلك أن الغل لا يكون إلاّ باليمين. و العنق جامعا لليمين و العنق، فيكفي ذكر أحدهما عن صاحبه، كما قال فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فضمّ الورثة إلى الوصي و لم يذكروا، لأن الصلح إنما يقع بين الوصي و الورثة. و مثله قول الشاعر:

و ما أدري إذا يممت وجها أريد الخير أيهما يليني

الخير الذي أنا مبتغيه أم الشر الذي لا يأتليني

فكنىّ عن الشر و إنما يذكر الخير وحده، و ذلك أن الشر يذكر مع الخير، و هي في قراءة عبد اللّه إنّا جعلنا في أيمانهم أغلالا فهي إلى الأذقان فكفّت الأيمان عن ذكر الأعناق في حرف عبد اللّه، و كفّت الأعناق من الأيمان في قراءة العامة...

و معناه: إنّا حبسناهم عن الانفاق في سبيل اللّه» (4) و من الملاحظ أن فكرة الحذف متضمنة في الكناية - بهذا المفهوم - بشكل واضح بمعنى أننا نكتفي بذكر شيء واحد عن ذكر شيئين لتضمن أحدهما للآخر، سواء في المفهوم اللفظي أو السياق المعنوي.

و مما يرتبط بالكناية التعريض و التورية، و هي فكرة يتوقف الفراء عندها لينفي

ص: 109


1- 52. انظر حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 403/1-404.
2- 53. جولد تسيهر: العقيدة و الشريعة في الاسلام/176.
3- 54. الأشعري: المقالات 91/1.
4- 55. الشهرستاني: الملل و النحل 150/1.

ارتباطها بالكذب، و هو يستند في ذلك لكلمة لعمر بن الخطاب، و تسند أحيانا لعلي بن أبي طالب. و يبدو أن الآية التي تثير هذه المسألة - و هي على لسان إبراهيم عليه السلام - كان لا بدّ أن تثير قضية الكذب، و من ثم فلا بدّ من أن يسعى المفسر لنفي الكذب عن نبي من أنبياء اللّه المعصومين. يقول الفراء تعليقا على قوله تعالى حكاية لقول إبراهيم لقومه إِنِّي سَقِيمٌ «أي مطعون من الطاعون. و يقال إنها كلمة فيها معراض، أي ان كل من كان في عنقه الموت فهو سقيم، و إن لم يكن به حين قالها سقم ظاهر. و هو وجه حسن. حدثنا أبو العباس قال حدثنا محمد قال حدثنا الفراء قال حدثني يحيى بن المهلب أبو كدينة، عن الحسن بن عمارة عن المنهال بن عمرو و عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب الأنصاري في قوله لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ قال: لم ينس و لكنها من معاريض الكلام و قد قال عمر في قوله:(إن في معاريض الكلام لما يغنينا عن الكذب)» (1)

و من الواضح في كل هذه التحليلات للتراكيب المجازية في القرآن، أن الفراء و كذلك أبا عبيدة توقفا عند مرحلة الكشف عن المعنى، و بيان توافق التركيب القرآني مع تراكيب اللغة الشائعة في الشعر و كلام العرب و كانت زاوية التحليل عند كل منهما متأثرة بثقافتهما من ناحية، و بطبيعة المهمة التي واجهاها من ناحية أخرى.

و كان من الطبيعي - في هذه المرحلة - أن لا يدرك المفسر الفارق بين التركيب المباشر، و التعبير الاستعاري. أو المجازي، ذلك التركيب الذي نعتبره اليوم «أكثر الوسائل أهمية لاكتشاف المعاني الجديدة» و من ثم يعدّ ضرورة لغوية تتطور من خلاله اللغة للتعبير عن مدركات جديدة، أو تعبر من خلاله «ما هو معروف إلى ما لم يعرف بعد» (2) .

و مع ذلك كله فقد كشف كل من أبي عبيدة و الفراء عن هذه الأساليب المجازية، و استطاعا أن يبلورا كثيرا من عناصر المجاز التي لم تنفصل عنه بعد ذلك، و بذلك مهّدا الطريق - من بعدهما - للجاحظ و ابن قتيبة و القاضي عبد الجبار ليفيدوا من هذه الجهود في تأويل النص القرآني ليتفق مع ما ذهب إليه كل منهم في قضايا التوحيد و العدل. و لم يكن كل من أبي عبيدة و الفراء و المفسرون قبلهم منفصلين عن هذه المهمة التأويلية التي أجّلنا التعرّض لجهودهم فيها إلى الفصل التالي، مكتفين هنا برصد تطور مفهوم المجاز و تحديد العناصر التي دخلت تحته.

ص: 110


1- 56. الأشعري: المقالات 136/1-137.
2- 57. انظر فلهوزن: الدولة العربية/196.

2 - الجاحظ و نضج المصطلح

تحددت وظيفة اللغة عند الجاحظ بأنها هي «الابانة» التي اعتبرها ضرورة من ضرورات الاجتماع البشري لتبادل المعرفة و نقل الخبرة. و ما دام الأمر كذلك فمن حق أهل اللغة أن يستخدموها و يتعاملوا بها بالطريقة التي يرونها محققة لهذه الوظيفة و مؤدية لهذه الغاية. و ثمّة مجالات يرى كل من النظّام و الجاحظ ضرورة أن تراعى فيها الدقة في استخدام اللغة دون توسع أو تجاوز في دلالاتها. فقد ذهب النظّام إلى «أن طلاق الكناية مثل قول الانسان: الخلية و البرية و البتة، أو حبلك على غاربك.

لا يقع، و إن قارنته نية الطلاق» (1) .و ليس أشدّ من الطلاق التصاقا بحياة الناس و مصالحهم و لذلك يمنع النظّام من وقوع طلاق الكناية و المجاز، حتى مع توفر النية، بل لا بدّ من استخدام التعبير المباشر.

و الجاحظ و إن كان لا يرى رأي أستاذه في طلاق الكناية (2) -و هو خلاف فقهي على أي حال - يتفق معه في المبدأ العام، و هو استبعاد مجال المعاملات من الحرية في استخدام الكلمات، على أساس أن المعاملات حاجات نفعية مباشرة لا تحتمل اللبس أو التأويل و الخلاف. فإذا استبعدنا هذا المجال النفعي الخالص جاز للناس «أن يضعوا كلامهم حيث أحبوا إذا كان لهم مجاز، إلاّ في المعاملات» (3) .

و هذا كله يؤكد حرص الجاحظ على وظيفة اللغة العملية في حياة الناس.

و لكن هذه الحرية في نقل الألفاظ و العبارات ليست حرية مطلقة كما توهم العبارة السابقة، فلها شرطان لا بدّ من مراعاتهما: الشرط الأول أن يكون بين المعنى المنقول إليه اللفظ و المعنى المنقول عنه علاقة ما. أمّا الشرط الثاني فهو أن الحرية في النقل من حق الجماعة لا من حق الفرد، و على الفرد أن يتبع في عباراته و أساليبه طرق الدلالة التي سارت عليها الجماعة قبله، دون أن يخرج على هذه الأطر الدلالية أو التعبيرية، أو دون حتى أن يسمح لنفسه القياس عليها. و الغاية وراء هذين الشرطين هي الوضوح الذي لا بدّ منه لأداء اللغة لوظيفتها الاجتماعية، وظيفة الابانة. فلو لم توجد علاقة بين المعنى المنقول عنه اللفظ و المعنى المنقول إليه لاختلّت دلالة الألفاظ على المعاني. و لو ترك الأمر لكل متكلم و حريته يستخدم الألفاظ حيث شاء، و يجريها حيث أراد، لصار كل فرد جزيرة لغوية منعزلة لا تستطيع التواصل و الابانة لغيرها عن نفسها. و تفقد الابانة - و الحالة هذه - أهميتها و ضرورتها، بل لا تصبح إبانة على الاطلاق. و كلا الأمرين سيؤدي في النهاية إلى القضاء على الوظيفة الاجتماعية للغة. و هي الابانة، و من ثم ينفضّ عقد

ص: 111


1- 58. المرتضى: الأمالي 161/1. و انظر أيضا أقوالا مشابهة للحسن: الجاحظ: الحيوان 100/5،225/1.
2- 59. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 292/1.
3- 60. انظر على سبيل المثال: المرتضى: الأمالي:150/1-151.

الاجتماع البشري، و يعود الانسان إلى عالم البهيمة و السبع، بل يعود إلى عالم الجماد أو النبات، فالحيوانات لها منطقها الخاص الذي يعبر عن احتياجاتها و يكفي «لتفاهمهم حاجة بعضهم إلى بعض» (1) .

و الشرط الأول للحرية في نقل الألفاظ لا يذكره الجاحظ بشكل مباشر و تفصيلي، و إنما يشير إليه أثناء تحليله لبعض العبارات و التراكيب. و جدير بالذكر أن المصطلحات ما تزال متداخلة عند الجاحظ. فهو مرة يستخدم مصطلح المجاز، و أخرى يستخدم المثل، و ثالثة الاشتقاق. و قد يجمع بينهم جميعا في تحليل عبارة واحدة، و ذلك للدلالة على استخدام اللفظ في غير ما وضع له في اللغة. فكلمات المجاز و المثل و التشبيه و الكناية و الاشتقاق تدل على معنى واحد. يقول «و للعرب اقدام على الكلام ثقة بفهم أصحابهم عنهم. و هذه أيضا فضيلة أخرى و كما جوزوا لقولهم أكل و انما عض، و أكل و انما أفنى، و أكل و انما أحاله، و أكل و انما أبطل عينه.

جوزوا أيضا أن يقولوا: ذقت ما ليس بطعم ثم قالوا طعمت لغير الطعام... و قد يقولون ذلك أيضا على المثل و على الاشتقاق و على التشبيه» (2) .و شرط الوضوح أساس في الانتقال باللفظ من معنى إلى معنى، و هو شرط ينفي عن الكلام مظنة الكذب «و قد يكون اخلاص ظاهر لفظة على شيء و معناه غيره، فلا يكون كذبا، لمعرفة القائل بفهم المستمع عنه، و هذا باب كثيرا ما يستعمله العرب» (3) .

و يعدّ الجاحظ الكناية نوعا من أنواع الاشتقاق في المعاني أيضا، و بذلك يدخلها في المجاز «و يقال لموضع الغائط: الخلاء، و المذهب، و المخرج، و الكنيف، و الحش، و المرحاض، و المرفق، و كل ذلك كناية و اشتقاق» (4) .

و تلحّ فكرة الوضوح على الجاحظ الحاحا شديدا لما لها من خطرها على وظيفة البيان التي هي إحدى شروط الاجتماع «و من الكلام كلام يذهب السامع منه إلى معاني أهله و قصد صاحبه» (5) .و هي فكرة تجعل الجاحظ يعود للآية التي كانت - فيما يبدو - مطعنا في عدم وضوح بعض الآيات القرآنية، و هي الآية التي سئل عنها أبو عبيدة معمر بن المثنى، و كانت سببا في تأليفه كتابه. يعود الجاحظ إلى هذه الآية فيرفض تفسير المفسرين الذين قالوا إن رءوس الشياطين نبات في اليمن، و ذلك ليردوا التشبيه في الآية إلى مدرك حسي واضح للعيان. يقول الجاحظ «و قد قال الناس في قوله تعالى: إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ فزعم أناس أن رءوس الشياطين ثمر شجرة. تكون ببلاد اليمن، لها منظر كريه. و المتكلمون لا يعرفون هذا التفسير، و قالوا: ما عنى إلاّ رءوس

ص: 112


1- 61. السابق: نفس الصفحة، و انظر أيضا: القاضي عبد الجبار: فرق و طبقات المعتزلة/24.
2- 62. السابق 152/1.
3- 63. الأمالي 161/1.
4- 64. السابق 154/1.
5- 65. السابق 159/1.

الشياطين المعروفين بهذا الاسم، من فسقة الجن و مردتهم. فقال أهل الطعن و الخلاف كيف يجوز أن يضرب المثل بشيء لم نره فنتوهمه، و لا وصف لنا صورته في كتاب ناطق، أو خبر صادق، و مخرج الكلام يدل على التخويف بتلك الصورة و التفزيع منها. و على أنه لو كان شيء أبلغ في الزجر من ذلك لذكره. فكيف يكون الشأن كذلك، و الناس لا يفزعون إلاّ من شيء هائل شنيع، قد عينوه، أو صوره لهم واصف صدوق اللسان، بليغ في الوصف، و نحن لم نعاينها، و لا صورها لنا صادق. و على أن أكثر الناس من هذه الأمم التي لم تعايش أهل الكتابين و حملة القرآن من المسلمين، و لم تسمع الاختلاف لا يتوهمون ذلك، و لا يقفون عليه، و لا يفزعون منه، فكيف يكون ذلك وعيدا عاما؟!

قلنا، و إن كنا نحن لم نر شيطانا قط، و لا صوّر رءوسها لنا صادق بيده، ففي اجماعهم على ضرب المثل بقبح الشيطان حتى صاروا يضعون ذلك في مكانين، أحدهما أن يقولوا:«لهو أقبح من شيطان» و الوجه الآخر أن يسمى الجميل شيطانا، على جهة التطيّر له، كما نسمي الفرس الكريمة شوهاء، و المرأة الجميلة صمّاء، و قرناء، و خنساء، و جرباء، و أشباه ذلك، على جهة التطيّر له. ففي اجماع المسلمين و العرب و كل من لقيناه، على ضرب المثل بقبح الشيطان، دليل على أنه في الحقيقة أقبح من كل قبيح» (1) .

و الجاحظ في هذا النص الطويل يقرن بين المثل و التشبيه مما يؤكد تداخل المصطلحات عنده و دلالتها كلها على المجاز، و هو من ناحية أخرى يلحّ على فكرة الوضوح مستدلا عليها بما ثبت في طبائع العرب من استقباح صورة الشيطان حتى ضربوا به المثل استقباحا أو تطيرا. و ربط وضوح الدلالة بالمعرفة من جهة، و ربط المجاز بعلاقة المشابهة أو الاشتقاق المعنوي من جهة أخرى يؤكد وظيفة اللغة البيانية عند الجاحظ. و هكذا يرتبط الشرط الأول في الانتقال بالدلالة من معنى إلى معنى - شرط التشبيه و الاشتقاق - بالغاية النهائية للغة. و ليس من شأن المشابهة أو الاشتقاق أن تلغي الفواصل بين الأشياء، أو أن تؤدي إلى الخلط بين الدلالات، بل لا بدّ من المحافظة على تمايز الأسماء و دلالاتها. فإذا كان الاسم علامة على الشيء، فحين ننقله لنعبر به عن شيء آخر لمشابهة بينهما في المعنى، فإننا لا ننقله على أنه علامة، بل ننقله لنؤكد وجه المشابهة مدحا أو ذما، دون أن ندخل الشيئين أو المعنيين في حدود بعضهما، و الشعراء أنفسهم حين يشبهون - و التشبيه مجاز - لا ينبغي لهم أن يدخلوا الشيء في حد غيره «و قد يشبّه الشعراء و البلغاء الانسان بالقمر و الشمس، و الغيث و البحر، و بالاسد و السيف، و بالحية و بالنجم،

ص: 113


1- 66. الأمالي 162/1.

و لا يخرجون بهذه المعاني إلى حد الانسان. و إذا ذمّوا قالوا: هو الكلب و الخنزير، و هو القرد و الحمار، و هو التيس، و هو الذئب، و هو العقرب، و هو الجعل، و هو القرنبى ثم لا يدخلون هذه الأشياء في حدود الناس و لا أسمائهم، و لا يخرجون بذلك الانسان إلى هذه الحدود و هذه الأسماء» (1)

أما الشرط الثاني للانتقال باللفظ من معنى إلى معنى - إلى جانب علاقة المشابهة بين المعنيين - فهو أن يكون هذا النقل من صنع الجماعة لا من صنع الفرد، و لا يجوز للفرد - و الحالة هذه - إلاّ السير على الدرب الذي مهّدته الجماعة قبله و ذلك حفاظا على الابانة اللغوية أن يعتورها الغموض. و قد يبدو أحيانا أن الجاحظ يعطي هذا الحق - حق النقل و الاشتقاق - للشعراء وحدهم، و يجعلهم سدنة على اللغة لهم كل الحرية في تغييرها و استخدامها كيف شاءوا. و لكن المؤسف أن الجاحظ يتحدث عن طبقة من الشعراء - شعراء العصر الجاهلي - كان لها وحدها هذا الحق، أمّا الشعراء بعدهم فعليهم الاحتذاء و التقليد. و الدليل على ذلك أنه يعدد - في نص طويل - تشبيهات الشعراء كأنه يقوم بعملية حصر ليهتدي بها و يتعلم منها شعراء عصره، و هو من ناحية أخرى يمنع الشعراء من القياس على تشبيهات الشعراء السابقين يقول:«و سموا الجارية غزالا، و سموها أيضا خشفا، و مهره، و فاختة و حمامة، و زهرة، و قضيبا و خيزرانا على ذلك المعنى... و ليس هذا مما يطرد لنا أن نقيسه و إنما نقدم على ما أقدموا و نحجم عمّا أحجموا و ننتهي إلى حيث انتهوا و نراهم يسمون الرجل جملا و لا يسمونه بعيرا، و لا يسمون المرأة ناقة، و يسمون الرجل ثورا. و لا يسمون المرأة بقرة، و يسمون الرجل حمارا و لا يسمون الرجل أتانا، و يسمون المرأة نعجة و لا يسمونها شاة» (2) و هكذا يفقد الفرد المعبر - باستثناء طبقة الشعراء القدماء - أي فعالية في اثراء اللغة، أو اثراء التجربة الشعورية التي هي موضوع الشعر أو النص البليغ.

هذا التقييد من حرية الفرد في الاشتقاق المجازي كان ضروريا عند الجاحظ للمحافظة على الوظيفة البيانية للغة كما فهمها الجاحظ. و لكن هذا التقييد في مجال البيان الانساني، قابلته حرية واسعة في مجال البيان القرآني. و ذلك على أساس أن اللغة، ملك للّه و هي عارية في أيدي البشر، و من ثم فله كل الحرية في وضعها حيث شاء. و من جهة أخرى فقد ربط الجاحظ اللغة بالمعرفة. و قد تفرّد اللّه سبحانه بمعرفة ما لا يمكن أن يعرفه أحد من خلقه «فإذا كان للنابغة أن يبتدئ» الأسماء على الاشتقاق من أصل اللغة، كقوله:

و النؤى كالحوض بالمظلومة الجلد

ص: 114


1- 67. السابق 153/1.
2- 68. الأمالي 153/1.

و حتى اجتمعت العرب على تصويبه، و على اتباع أثره، و على أنها لغة عربية فاللّه الذي له أصل اللغة أحق بذلك» (1) فالمعارف كلها، بل العالم كله بما فيه من كائنات و موجودات و طبائع من خلق اللّه، و هو الذي خلق الانسان و مكّنه، و زوده بكل ما يساعده على تحقيق وجوده الأكمل، و زوده باللغة ليبين بها عن نفسه «فإذا كانت العرب يشتقون كلاما من كلامهم و أسماء من أسمائهم، و اللغة عارية في أيديهم ممن خلقهم و مكنهم و ألهمهم و علمهم، و كان ذلك منهم صوابا عند جميع الناس، فالذي أعارهم هذه النعمة أحق بالاشتقاق» (2) و قد كانت التفرقة بين معارف البشر و معارف اللّه، ثم هذا التسليم بحق اللّه في الاشتقاق و الابتداء بوضع الأسماء، كانت هذه التفرقة كفيلة بأن توجه مبحث المجاز في القرآن وجهة مختلفة عن تلك الوجهة السائدة منذ أبي عبيدة و الفراء و التى تبحث عن سند لمجازات القرآن و عباراته في الشعر الجاهلي. غير أن غاية التعليم و التوضيح - و لم تكن بعيدة عن جهود الجاحظ بأي حال - حاولت رد كل تعبير مجازي في القرآن إلى الشعر العربي أو كلام فصحاء العرب. و الجاحظ نفسه تابع أسلافه، و اعتبر لغة العرب هي الأساس في فهم القرآن. و لا ينكر الباحث أن يكون الشعر العربي دليلا في فهم النص القرآني، ما دام كلام اللّه قد اتخذ اللغة العربية أداة للتوصيل. و لكن الآيات الخلافية التي كانت مثار جدل بين المعتزلة و خصومهم، سواء المجبرة او المشبهة، لا يمكن النظر إليها من خلال الشعر وحده و مواضعات اللغة منفردة.

فالاسلام قد جاء برؤية جديدة لطبيعة الذات الالهية. و هي رؤية تتناقض مع واقع المعتقدات العربية الجاهلية. و على ذلك تعبر هذه الآيات - التي تصف اللّه - عن وعي ديني جديد تماما على الشعور العربي، و على المدركات و المعارف التي تعبر عنها اللغة و الشعر. و هذا الوعي كان يستخدم اللغة العربية للتعبير عن نفسه، و من ثم كان من الضروري أن يحدث تغيير في النسق المتعارف عليه للغة من أجل أن تتسع لحمل هذا الوعي الجديد.

و على ذلك فارجاع هذه الآيات للشعر العربي و مجازه هو ردّ لهذا الوعي و المعرفة إلى معرفة و وعي متخلفين عن هذا الوعي الجديد. و لعل الجاحظ أحس بهذه المشكلة احساسا غامضا، حتى اشترط لمن يتعرّض لقضايا الدين أن يكون متكلما إلى جانب علمه باللغة العربية، و ذلك حتى يستطيع الوصول إلى تلك المعرفة التي يعبر عنها القرآن «و لو كان أعلم الناس باللغة، لم ينفعك حتى يكون عالما بالكلام» (3) و مع ذلك كله فقد سار الجاحظ - في كتاب لم يصلنا في الرد على المشبهة - على درب أسلافه اللغويين. يقول:«و قد كتبت... في الرد على المشبهة كتابا لا يرتفع عنه الحاذق المستغني، و لا يرتفع عن الريض المبتدئ، و أكثر ما يعتمد

ص: 115


1- 69. المعارف/153.
2- 70. الملل و النحل 47/1. و يلاحظ أن واصلا ولد عام 80 ه، و لا يتفق هذا مع أن الرسالة موجهة لعبد الملك بن مروان(65-86 ه).
3- 71. محمدة عمارة: رسائل العدل و التوحيد 82/1.

عليه العامة و دهماء أهل التشبيه من هذه الأمور و يشتمل عليه الفضل من حشوة الناس، و يختدع به المحدثون من الجمهور الأعظم، تحريف آي كثيرة إلى غير تأويلها، و روايات كثيرة إلى غير معانيها. و قد بيّنت ذلك بالوجوه المختصرة و بالأشعار الصحيحة، و الأمثال السائرة، و استشهدت بالكلام المعروف، و بالقياس على الموجود» (1) و لا ينبغي أن ننسى أن الجاحظ نفسه لم ينج من أثر الغايتين الدفاعية و التعليمية اللتين شغل بهما كل من أبي عبيدة و الفراء، إلى جانب أن وظيفة اللغة البيانية عنده كانت تبرر هذا السلوك. و من جهة ثالثة كان استشهاد المشبهة و الظاهرية بمواضعات اللغة و الشعر العربي كفيلا بأن يحدد لا مسلك الجاحظ وحده، بل مسلك المعتزلة جميعا في تناول المجاز في القرآن. يؤكد ذلك عند الجاحظ وقفاته الطويلة في كتبه كلها - خاصة كتاب الحيوان - للرد على المؤولين و الطاعنين في القرآن (2) و هي كلها وقفات يستدل فيها الجاحظ على صحة العبارات القرآنية و التجوز فيها بالشعر العربي و أقوال العرب. و من المؤسف أننا لا نجد في أي من هذه الآيات التي توقف عندها الجاحظ آية واحدة من تلك الآيات الخلافية بين المعتزلة و خصومهم، فكلها آيات ترتبط باستطرادات الجاحظ في الكتاب، مثل قصة الهدهد، و حديث النمل، و علاقة الأنس بالجن، و رءوس الشياطين التي أشرنا اليها.. الخ كل هذه الموضوعات و الآيات القرآنية التي تمسّ موضوع الحيوان من قريب أو بعيد. و لسنا بصدد درس نهج الجاحظ في تفسير القرآن عامة حتى نتوقف أمام هذه الآيات محللين أو كاشفين عن طريقة الجاحظ في تفسير القرآن.

و إذا كان الجاحظ قد استخدم كلمات الاشتقاق و التشبيه و المثل و المجاز بمعنى واحد، فإننا لأول مرة نواجه مصطلح «المجاز» باعتباره قسيما للحقيقة، و إن لم نعدم في كتابات الجاحظ بعض الاستخدامات اللغوية له. بمعنى أننا إذا كنا عند أبي عبيدة وجدنا المصطلح واسع الدلالة يتناول أساليب العربية أو طرق التعبير عامة، و إذا كنا عند الفراء وجدنا استعمالا لكلمة «تجوز» بدل المجاز و معنى أقرب للمعنى الاصطلاحي، فاننا عند الجاحظ نجد المصطلح قد تحدد تحددا كاملا ليشير إلى كل الأنواع البلاغية كالمثل و التشبيه و الاستعارة و الكناية. و المواضع التي تحدث فيها الجاحظ عن المجاز كمقابل للحقيقة بشكل مباشر قليلة جدا، و إن كان سياق استخداماته الكثيرة للفظ يدل على فهمه الاصطلاحي لها. من هذه المواضع القليلة قوله في البخلاء «فلاسم الجود موضعان: أحدهما حقيقة، و الآخر مجاز فالحقيقة ما كان من اللّه، و المجاز المشتق له من هذا الاسم» (3) .و أشار إليه بنفس المعنى في كتاب فصل ما بين العداوة و الحسد حين تحدث عن العلماء المشهورين بالحسد

ص: 116


1- 72. نفس المصدر 83/1.
2- 73. نفس المصدر 88/1.
3- 74. بحوث في المعتزلة/181.

فقال:«و قد وسموا انفسهم بسمات الباطل و تسموا بأسماء العلم على المجاز من غير الحقيقة» (1) أمّا في كتاب الحيوان فأغلب استعمال اللفظ، و إن فهم منه أنه مقابل الحقيقة، فإنه لم يرد بهذا المعنى بشكل مباشر. فحين يحاول الجاحظ تأويل تهديد سيدنا سليمان للهدهد بالذبح، ردا على من طعنوا في الآية على أساس أن تهديد الهدهد تهديد في غير محله، لأن الهدهد ليس مكلفا أو عاقلا من جانب، و الذبح أكبر من جرم الهدهد إن صحّ أنه مكلف أو عاقل ثانيا. يردّ الجاحظ على هذا الطعن بردود كثيرة، منها «على أنّا لو تأولنا الذبح على مثال تأويل قولنا في ذبح إبراهيم اسماعيل عليهما السلام - و إنما كان ذلك ذبحا في المعنى لغيره - أو على معنى قول القائل: أمّا أنا فقد ذبحته و ضربت عنقه و لكن السيف خانني. أو على قولهم، المسك الذبيح، أو على قولهم، فجئت و قد ذبحني العطش، لكان ذلك مجازا» (2) .و في موضع آخر من الحيوان يضع الجاحظ كلمة «مثل» في مقابل كلمة «حقيقة» و هو بذلك يساوي بين «المثل» و «المجاز» في وضعهما في مقابل الحقيقة.

يقول:«و يذكرون نارا أخرى. و هي على طريق المثل لا على طريق الحقيقة، كقولهم في نار الحرب» (3) .

و هذا كله يؤكد تداخل الحدود بين التشبيه و المثل و المجاز من ناحية (4) و يؤكد أن مصطلح «المجاز» صار أكثر تحديدا، باعتباره الوجه الآخر للحقيقة من جهة أخرى (5) و بذلك صار هو المصطلح الأثير لدى المعتزلة الذي يؤولون على أساسه كل الآيات التي يوهم ظاهرها - أو حقيقتها - بالتعارض مع آرائهم و أفكارهم العقلية.

3 - الرماني و الكشف عن الأثر النفسي.

لم ينفصل «المجاز» عن «التأويل» عند ابن قتيبة (ت 276 ه) و من ثم اتسع كما هو الحال عند السابقين عليه ليضم كل الوسائل الأسلوبية من «الاستعارة و التمثيل و القلب و التقديم و التأخير و الحذف و التكرار و الاخفاء و الاظهار و التعريض و الافصاح و الكناية و الايضاح و مخاطبة الواحد مخاطبة الجميع، و الجميع خطاب الواحد، و الواحد و الجميع خطاب الاثنين، و العقد بلفظ الخصوص لمعنى العموم، و بلفظ العموم لمعنى الخصوص مع أشياء أخرى كثيرة» (6) .و إذا كان الجاحظ و من قبله الفراء قد ركزا على جانب المشابهة باعتبارها أساس الانتقال في الدلالة، فإن ابن قتيبة لم يتوقف كثيرا ليشرح كيفية الانتقال من الحقيقة إلى المجاز، و ذلك بحكم

ص: 117


1- 75. الانتصار/118-119 و انظر أيضا الأمالي 165/1-169 مناقشة بين واصل و عمرو بن عبيد تؤكد الفكرة التي نذهب إليها.
2- 76.167/2.
3- 77. الخياط: الانتصار/73.
4- 78. الخياط: الانتصار/73-74.
5- 79. السابق/74.
6- 80. راجع رأي المرجئة مفصلا في المقالات 229/1-230.

غلبة الجانب التأويلي على كتابه، تلك الغاية التي ينمّ عليها عنوان الكتاب نفسه «تأويل مشكل القرآن». و لذلك أجّلنا الدراسة التفصيلية لهذا الكتاب للفصل التالي.

و إذا كان ابن قتيبة سلك مسلك سابقيه في رد العبارة القرآنية إلى الشعر العربي أسلوبا و تركيبا، فثم جهود أخرى حول القرآن كانت أقرب إلى ادراك تميز الأسلوب القرآني و تباينه عن أسلوب الشعر العربي. و قد كان لأصحاب هذه الجهود بالتالي أثر كبير في تحديد مجالات المجازات القرآنية، و الكشف عن أثرها النفسي و وظيفتها البيانية. تلك هي الجهود حول «اعجاز القرآن» و فكرة «الاعجاز» نفسها تسلم - بداهة - بمبدإ التباين بين كلام اللّه و كلام البشر من حيث الأسلوب و الصياغة، و من ثم تسعى للكشف عن هذا التباين و أثره و ملامحه. و يعدّ كتاب الرماني (ت 386 ه)«النكت في اعجاز القرآن» أهم هذه الجهود لمجال بحثنا، و ذلك بحكم أن صاحبه معتزلي من جهة، و بحكم أن البحث البلاغي لم ينفصل عنده عن التأويل من جهة أخرى. غير أن التأويل عند الرماني ليس هو الهدف، بل يأتي عرضا في سياق التحليل البلاغي.

يعرّف الرماني البلاغة «بأنها ايصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ» (1) و لا يكتفي بوظيفة «الافهام» التي ركّز عليها سابقوه «لأنه قد يفهم المعنى متكلمان أحدهما بليغ و الآخر عيي» (2) و إذا كان قد قسم البلاغة إلى ثلاث طبقات، فإنه اعتبر أن «أعلاها طبقة في الحسن بلاغة القرآن» (3) و كان من الطبيعي - و الأمر كذلك - أن تخلو رسالته من الاستشهاد بالشعر خلوا يكاد يكون تاما إلاّ في موضعين اثنين (4) .

و قد قسم الرماني البلاغة إلى عشرة أقسام يهمنا منها هنا «الايجاز» و «التشبيه» و «الاستعارة» و «المبالغة».

و يقسم الرماني الايجاز إلى وجهين «حذف، و قصر، فالحذف اسقاط كلمة للاجتزاء عنها، بدلالة غيرها من الحال أو فحوى الكلام. و القصر بنية الكلام على تقليل اللفظ و تكثير المعنى من غير حذف» (5) .و يضرب للنوع الأول - الحذف - المثال الشائع «و اسأل القرية»، و حذف جواب الشرط. و إذا كان المحذوف مدلولا عليه بغيره فإن الرماني لا يعنى بتحديد المحذوف و تعيينه. بقدر ما يعنى بابراز الأثر النفسي للحذف، خصوصا في جواب الشرط «و إنما صار الحذف في مثل هذا أبلغ من الذكر لأن النفس تذهب فيه كل مذهب، و لو ذكر الجواب لقصر على الوجه الذي تضمنه البيان» (6) .

ص: 118


1- 81. انظر الشريف المرتضى: الأمالي 165/1-169، القاضي عبد الجبار: فرق و طبقات المعتزلة/50-51.
2- 82. الخياط: الانتصار/119.
3- 83. ناجي حسن: ثورة زيد بن علي/148.
4- 84. الملل و النحل 154/1-155.
5- 85. السابق 156/1.
6- 86. القاضي عبد الجبار: فرق و طبقات المعتزلة/29.

و هكذا يحدد الرماني الوظيفة النفسية للحذف، و يتجاوز بذلك وقفات أبي عبيدة و الفراء و الجاحظ و ابن قتيبة جميعا.

يفرّق الرماني بين التشبيه بمعناه اللغوي و التشبيه بمعناه البلاغي فيرى أن التشبيه عموما «هو العقد على أن أحد الشيئين يسدّ مسد الآخر في حس أو عقل» (1) أمّا التشبيه البليغ فهو «اخراج الأغمض إلى الأظهر بأداة التشبيه مع حسن التأليف» (2) .و إذا كانت المشابهة عادة تؤدي إلى التسوية بين الطرفين، فالتشبيه البليغ هو مقارنة بين طرفين بهدف الكشف عن أحدهما أو اظهاره «فبلاغة التشبيه الجمع بين شيئين بمعنى يجمعهما يكسب بيانا فيهما» (3) ،و يسهب الرماني في الكشف عن وجوه الأظهر الذي يقع فيه البيان بالتشبيه «منها اخراج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه الحاسة. و منها اخراج ما لم تجريه عادة إلى ما جرت به عادة، و منها اخراج ما لا يعلم بالبديهة إلى ما يعلم بالبديهة. و منها اخراج ما لا قوة له في الصفة إلى ما له قوة في الصفة. فالأول نحو تشبيه المعدوم بالموجود، و الثاني نحو تشبيه البعث بعد الموت بالاستيقاظ بعد النوم، و الثالث تشبيه اعادة الأجساد باعادة الكتاب، و الرابع تشبيه ضياء السراج بضياء النهار» (4) و كل هذه الوجوه التي يقع عليها التشبيه بهدف بيان المشبه عن طريق مقارنته بما هو أظهر منه، تتفق مع تفريق المعتزلة بين مستويى المعرفة الحسية و العقلية. و غاية التشبيه هي بيان الشيء عن طريق مقارنته بما هو أظهر منه و أوضح و أجلى، بنفس الطريقة التي يؤدي بها الاستدلال وظيفته في الانتقال من الواضح الى الغامض. و لم يكن الرماني على أي حال بعيدا عن انجاز المعتزلة في هذه الجوانب، فقد كان متكلما إلى جانب كونه لغويا و بلاغيا.

و من أمثلة التشبيه الذي أخرج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه في القرآن قوله تعالى وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ (الأعراف/17)«و قد اجتمعا في ترك الطاعة على وجه من وجوه التدبير و في التخسيس، فالكلب لا يطيعك في ترك اللهث حملت عليه أو تركته، و كذلك الكافر لا يطيع بالايمان على رفق و لا على عنف، و هذا يدل على حكمة اللّه سبحانه و تعالى في أنه لا يمنع اللطف» (5) و من هذا التحليل لعلاقة المشابهة في الآية يشير الرماني إلى انكشاف المعنى الغامض عن طريق الصورة الحسية فحسب، دون أن يلحظ التركيب كله خصوصا صورة «الانسلاخ» بدلالتها و ايقاعها الصوتي معا. و علينا أن نلاحظ - من جانب آخر - كيف استدل الرماني من الآية - بهذا التحليل البلاغي - على أن الكافر يمتنع عن

ص: 119


1- 87. السابق/17.
2- 88. القاضي عبد الجبار: فرق و طبقات المعتزلة 31،18.
3- 89. السابق/32.
4- 90. راجع القصة كلها: طبقات المعتزلة/44-46. و يقول الشهرستاني عن جعفر بن محمد أنه «دخل العراق و أقام بها مدة ما تعرض للامامة قط، و لا نازع أحدا في الخلافة قط» الملل و النحل 166/1.
5- 91. الملل و النحل 155/1.

الايمان بارادته، لا بالاجبار، فاللّه قد وهبه الآيات و لكنه هو الذي انسلخ منها بارادته الحرة و لا يلمح الرماني وجه الشبه فقط، و لكنه يشير أيضا إلى أثر هذه الصورة فيما أطلق عليه «التخسيس» فالآية - بهذا التشبيه - تحقّر من شأن الكافر عن طريق تشبيهه بالكلب في صورة اللهث المستمر، و هي صورة لا شك مقززة.

و تقوم الاستعارة كذلك على أساس المشابهة، و الفارق بينهما - عند الرماني - وجود الأداة في التشبيه، ذلك «أن ما كان - من التشبيه - بأداة التشبيه في الكلام فهو على أصله، لم يغير عنه في الاستعمال، و ليس كذلك الاستعارة، لأن مخرج الاستعارة ما العبارة ليست له في أصل اللغة» (1) و من الواضح أن الرماني يدخل التشبيه البليغ - المحذوف الأداة - في حد الاستعارة. و يؤكد هو هذا التداخل بقوله:«و كل استعارة بليغة فهي جمع بين شيئين بمعنى مشترك بينهما يكسب بيان أحدهما بالآخر كالتشبيه، إلاّ أنه بنقل الكلمة، و التشبيه بأداته الدالّة عليه في اللغة» (2) .و يكون الفارق بين التشبيه و الاستعارة هو أن الاستعارة تعتمد على النقل من معنى أصلي إلى معنى مجازي، و ذلك على عكس التشبيه الذي لا ينقل فيه اللفظ من معنى إلى معنى و ذلك لوجود أداة التشبيه التي تقوم بهذا النقل. و ينتقل اللفظ في الاستعارة بنفسه. و اعتماد الاستعارة على النقل عند الرماني - دون التشبيه - يجعلنا نعتبره أول من أخرج التشبيه من دائرة المجاز، و ذلك على الرغم من أن مصطلح «المجاز» لم يرد له ذكر في رسالته. غير أنه من جانب آخر يجعل الاستعارة مقابلا للحقيقة «و كل استعارة فلا بدّ لها من حقيقة، و هي أصل الدلالة على المعنى في اللغة» (3) و إذا كان التشبيه البليغ داخلا في حد الاستعارة فهو بالتالي داخل في حد المجاز بحكم أن النقلة تتم فيه دون وجود الأداة. و إذا كانت مهمة التشبيه هو البيان عن طريق المقارنة بين شيئين أحدهما أظهر من الآخر و أجلى منه، فإن مهمة الاستعارة لا تخرج عن ذلك «و كل استعارة حسنة فهي توجب بلاغة بيان لا تنوب منابه الحقيقة، و ذلك أنه لو كان تقوم مقامه الحقيقة، كانت أولى به، و لم تجز الاستعارة» (4) غير أن الرماني لا يكشف لنا بشكل واضح عن الفارق بين التعبير الحقيقي و التعبير الاستعاري، و يكتفي فحسب بتقريره.

و يرتبط هذا التحديد للاستعارة بغاية التأويل عند الرماني، فمن استعارات القرآن وَ قَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (الفرقان/23) «حقيقة قدمنا هنا عمدنا و قدمنا أبلغ منه لأنه يدل على أنه عاملهم معاملة القادم من سفر، لأنه من أجل امهاله لهم كمعاملة الغائب عنهم، ثم قدم فرآهم على خلاف ما أمرهم. و في هذا تحذير من الاغترار بالامهال، و المعنى الذي يجمعهما

ص: 120


1- 92. ناجي حسين: ثورة زيد بن علي/109.
2- 93. القاضي عبد الجبار: فرق و طبقات المعتزلة/44.
3- 94. الأمالي:175/1. حاول المعتزلة أحيانا احتواء بعض الخلفاء و ترشيدهم دون اللجوء للسيف كما فعلوا مع يزيد بن الوليد بن عبد الملك و محمد بن مروان آخر خلفاء بني أمية. انظر محمد اسماعيل: الحركات السرية في الاسلام/141.
4- 95. الأشعري: مقالات الاسلاميين 154/1.

العدل، لأن العمد إلى ابطال الفاسد عدل، و القدوم أبلغ لما بيّنا» (1) .و واضح أن الرماني يريد أن ينفي عن اللّه الحركة و الانتقال، فلذلك ما حاول الكشف عن أصل النقل في الفعل «قدم» و أنه بمعنى العمد. غير أن الرماني يكتفي بالقول بأن القدوم أبلغ و ذلك لما يؤديه من غاية حددها بأنها هي التحذير من الاغترار بالامهال، و بذلك يكشف عن الوظيفة النفسية للاستعارة في هذه الآية.

ثم آية أخرى يسلك الرماني ازاءها نفس المسلك و هي قوله تعالى سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (الرحمن/31)«و اللّه عز و جل لا يشغله شأن عن شأن، و لكن هذا أبلغ في الوعيد، و حقيقته سنعمد، إلاّ أنه لمّا كان الذي يعمد إلى شيء قد يقصر فيه لشغله بغيره معه، و كان الفارغ له هو البالغ في الغالب مما يجري به التعارف، دللنا بذلك على المبالغة من الجهة التي هي أعرف عندنا لما كانت بهذه المنزلة، ليقع الزجر بالمبالغة التي هي أعرف عند العامة و الخاصة موقع الحكمة» (2) و التحليل هنا لا يختلف كثيرا عن تحليل الآية السابقة من حيث بيان وجه المشابهة في الاستعارة، و الكشف عن أثرها النفسي في المتلقي، غير أن الرماني يستخدم هنا كلمة «المبالغة» للدلالة على الاستعارة. و هذا يقودنا لمعنى المبالغة عنده، و الفارق بينها و بين الاستعارة.

و تعريف الرماني للمبالغة بأنها «الدلالة على كبر المعنى على جهة التغيير عن أصل اللغة لتلك الابانة» (3) فهو تعريف يدخلها في حد المجاز و الفارق بين الاستعارة و المبالغة أن الاولى تقوم على التشبيه، بينما تقوم الثانية على علاقة غير علاقة المشابهة. و يحدد الرماني هذه العلاقة على وجوه «منها المبالغة في الصفة المعدولة عن الجارية بمعنى المبالغة و ذلك على أبنية كثيرة منها: فعلان، و منها فعال، و فعول، و مفعل، و مفعال ففعلان كرحمان عدل عن راحم للمبالغة» (4) أما الوجه الثاني فهو استخدام صيغة العموم للتعبير عن الخصوص للمبالغة. و الثالث «اخراج الكلام مخرج الاخبار، عن الأعظم الأكبر للمبالغة كقول القائل: جاء الملك إذا جاء جيش عظيم له» (5) و من الواضح أن النوعين الثاني و الثالث من وجوه المبالغة يدخلان فيما سمي بعد ذلك بالمجاز المرسل، بينما يدخل النوع الأول في المبالغة بالصيغة. و من الواضح أيضا أن الرماني لم يدخل هذا الباب في باب الاستعارة، حتى لا تختلط الحدود بين التجاوز الذي يقوم على التشبيه، و التجاوز الذي يقوم على علاقة من نوع آخر. و قد كانت هذه التفرقة مدخلا لتأويل بعض الآيات في التوحيد و العدل، و هي آيات يصعب تأويلها على أساس الاستعارة و إلاّ أدّى هذا التأويل إلى افتراض مشابهة اللّه للبشر، أو امكانية وجود هذه المشابهة على الأقل.

ص: 121


1- 96. المرتضى: الأمالي 169/1.
2- 97. انظر محمود اسماعيل: الحركات السرية في الاسلام/140،133.
3- 98. محمد عمارة: رسائل العدل و التوحيد. المقدمة/67.
4- 99. المعتزلة/64.
5- 100. القاضي عبد الجبار: فرق و طبقات المعتزلة/38،32.

مثال ذلك قول اللّه تعالى وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (الفجر/22) و هي آية يضعها الرماني في النوع الثالث من أنواع المبالغة «فجعل مجيء دلائل الآيات مجيئا له على المبالغة في الكلام. و منه: فَأَتَى اللّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ أي أتاهم بعظم بأسه فجعل ذلك اتيانا له على المبالغة. و منه قوله تعالى فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا (1) و من الصعب على الرماني تحليل هذه الآيات على الاستعارة، لأن ذلك سيؤدي إلى وجود مشابهة - في حس أو عقل - بين اللّه و البشر الذين يجوز عليهم الحركة و المجيء و الاتيان. و يكون تأويل هذه الآيات على ذلك أن الفعل أسند للّه - مبالغة - و إن كان في الحقيقة لغيره. غير أن استعمال الرماني لكلمة «المبالغة» في تحليل آية في باب «الاستعارة» يجعلنا نفترض أنهما يعبران - مع التساهل - عن مدلول واحد، خصوصا إذا اعتبرنا المبالغة - البيان عن طريق الكشف و الاظهار - هي الوظيفة الأساسية للتشبيه و الاستعارة معا.

و مما يدخل في النوع الثاني من المبالغة، و هو استخدام صيغة العموم للخصوص، قول اللّه تعالى خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ (الانعام/102) و الذي يجعل الرماني يضع الآية هذا الموضع هو ما يذهب إليه المعتزلة من أن الانسان هو خالق أفعاله عن حرية و اختيار، و بالتالي تكون لفظة «كل» في الآية لا يقصد عمومها، لأن أفعال الناس مستثناة - بالدليل العقلي - من هذا العموم. غاية الأمر أن الآية وردت مورد المبالغة «كقول القائل: أتاني الناس، و لعله لا يكون أتاه إلاّ خمسة فاستكثرهم، و بالغ في العبارة» (2) .

و خلاصة الأمر أن الرماني استطاع أن يفيد من جهود سابقيه، و أن يفرّق تفرقة واضحة بين التشبيه و الاستعارة. كما استطاع أن يكشف عن علاقة الاستعارة بالمجاز، و في نفس الوقت استطاع أن يفرّق بين الاستعارة و المجاز المرسل. و لم تكن كل هذه الجهود البلاغية بعيدة عن غايته التأويلية كمعتزلي، بل كانت مرتبطة بها و في خدمتها كما رأينا.

4 - مفهوم المجاز عند القاضي عبد الجبار

وضع القاضي عبد الجبار اللغة بين أنواع الدلالة العقلية، كما اعتبرها الجاحظ إحدى الوسائل البيانية كما سبقت الاشارة. و قد ميّز القاضي اللغة من أنواع الدلالة الأخرى بأنها تدل على شرطين: المواضعة السابقة، و مراعاة حال المتكلم و قصده حتى يمكن فهم المراد بكلامه. و قد تحدد مفهوم المواضعة عنده بأنها

ص: 122


1- 101. انظر المرجع السابق/38-41.
2- 102. انظر زهدي جار اللّه: المعتزلة/26 و ما بعدها.

المواضعة الاشارية البحتة التي تنفي وجود أي علاقة بين الاسم و المسمى، أو الدال و المدلول. و إذا كان هناك اسم و مسمى، فإن المتكلم هو الذي يشير بالاسم لمسماه في حالة غياب هذا المسمى و ذلك بهدف الاخبار عنه، و على ذلك يقوم المتكلم بايجاد علاقات بين الاشارات اللغوية. فالعبارة (السماء جميلة) مثلا تشير إلى شيئين:

إلى السماء و إلى معنى الجمال، و المتكلم هو الذي أسند الجمال إلى السماء ليخبر، بمعنى أن المتكلم حين يخبر - و و وظيفة الاخبار هي الوظيفة المركزية للغة عند القاضي - فإنه يشير بالاسم إلى الشيء ثم يسند إليه الخبر. و على ذلك فدور المتكلم في الدلالة اللغوية يعادل دور المواضعة و لا غناء لأحدهما عن الآخر.

و حين قارن القاضي عبد الجبار بين دلالة المعجزة و دلالة الكلام، اعتبر أن المعجزة أشد دلالة «لأن من حق التصديق بالقول أن يصح فيه... المجاز و الاستعارة لأمر يرجع إلى ذات الكلام» (1) و على ذلك يرفع من شأن التصديق بالمعجزة على حساب التصديق بالكلام الذي يمكن أن يقع فيه المجاز و الاستعارة و هما أمران ثابتان في الكلام لا زمان له. أي أن الكلام و إن وقع دلالة - بالشرطين السابقين - فإنه يتأخر عن أنواع الدلالات الأخرى بقابليته للاشتراك و الاحتمال.

و لذلك لا بدّ من وضع ضوابط لهذا الاشتراك و الاحتمال و المجاز و الاستعارة. لا بدّ من وضع ضوابط لهذه الأمور و إلاّ خرج الكلام عن أن يكون دلالة. و من الضروري - و الحالة هذه - أن يحدد القاضي عبد الجبار الوجه الذي يقع منه المجاز في الكلام. و من البديهي أن لا يكون المجاز واقعا في أصل المواضعة. فإذا كان المعتزلة قد انتهوا - كما بيّنا سالفا - إلى أن العالم الخارجي ثابت و قائم بصرف النظر عن ادراكنا و معرفتنا به، و إذا كانوا قد ذهبوا إلى أن الادراك لا يؤثر في المدرك و لا في صفة من صفاته سلبا أو ايجابا، و إذا كانت الاسماء اللغوية مجرد اشارات للأشياء، فمن الطبيعي أن تكون المواضعة اللغوية لها ثبات الأشياء، بمعنى أن يصبح الاسم كالسمة و العلامة للشيء. و اللغة - من هذه الجهة (المواضعة)- لا يجوز أن تدخلها الاستعارة أو المجاز. غير أن من حق الجماعة اللغوية أن تنتقل بالمواضعة في الاسم عن معناه الحقيقي الى معنى آخر مجازي بشرط وجود علاقة بين المعنى المنقول منه الاسم و المعنى المنقول إليه «و بذلك جوّزنا نقل الألفاظ إلى الاحكام الشرعية، و جوزنا انتقال حكم اللفظة بالتعارف عن المجاز إلى الحقيقة و عن الحقيقة إلى المجاز، و كل ذلك لا يوجب قلب المعاني» (2) و معنى ذلك أن المواضعة يجوز أن يحدث فيها التجاوز مع مراعاة قصد الجماعة، أي مراعاة المعنى الذي تقصد إليه الجماعة حيث تطلق اسما على شيء من الأشياء أو صفة من الصفات. و هذا التجاوز لا يعني عند القاضي قلب المعانى أو التداخل بين حدود

ص: 123


1- 103. انظر القاضي عبد الجبار: فرق و طبقات المعتزلة/46-47.
2- 104. المرجع السابق/44.

الأشياء. و يكون المجاز حينئذ مواضعة طارئة على المواضعة الأصلية. و على ذلك يشترط القاضي عبد الجبار أن يكون للاسم اللغوي حقيقة سابقة قبل استعماله في المجاز «لأن كون اللفظة مجازا و لا حقيقة لها لا يصح في اللغة» (1) و «لأن التجوز هو أن يستعمل اللفظ في غير ما وضع له في الأصل» (2)

و تدخل الاستعارة و المجاز أيضا في الكلام من الجانب الثاني للدلالة اللغوية، أعني جانب المتكلم الذي يعبر، و يستخدم اللغة للتعبير عن قصده و ارادته. و ما دام المتكلم عنصرا ثانيا من عناصر الدلالة اللغوية و ما دام قصده شرطا لاعتبار اللغة دلالة، فمن الطبيعي أن يدخل المجاز و الاستعارة اللغة من هذا الجانب. فالمواضعة تظل حتى مع التجاوز فيها مواضعة اجتماعية لا بدّ فيها من تواطؤ الجماعة صاحبة اللغة بأكملها إلى جانب أن المجاز الذي يدخل المواضعة يرتبط بالأسماء المفردة، و لا يتناول جانب التركيب الذي لا يتم إلاّ من جانب المتكلم للتعبير عن قصده و ارادته. و على ذلك فالمجاز و الاستعارة في التركيب يختصان بارادة المتكلم و رغبته في التعبير عمّا يريد و ذلك «لأن الأمر لا يكون أمرا إلاّ بالارادة و كذلك الخبر» (3) .

*** و وقوع الاتساع و الاشتراك و المجاز في اللغة من شأنه أن يثير اعتراضا في وجه المعتزلة على اعتبارهم اللغة دلالة، بمعنى أن ذلك يخلّ بمبدإ الاشارة اللغوية. فإذا كانت المعجزة تقع موقع التصديق عند ادعاء النبوة، و إذا كان الفعل بمجرده يدل على وجود الفاعل، و بوقوعه محكما يدل على أن فاعله عالم، فهذه - في النهاية - دلالات مباشرة لا يدخلها الاتساع و المجاز الذي قد يخلّ بمبدإ الدلالة. لكن اللغة مع ما يدخلها من الاتساع و المجاز قد تضلل بدلا من أن تدل. و هذا الاعتراض كان واردا على المعتزلة من كثيرين «منهم الظاهرية و ابن القاص من الشافعية و ابن خويزمنداذ من المالكية و شبهتهم أن المجاز أخو الكذب و القرآن منزّه عنه و أن المتكلم لا يعدل إليه إلاّ إذا ضاقت به الحقيقة فيستعير و ذلك محال على اللّه تعالى» (4) .

و يتضمن رد المعتزلة على هذا الاعتراض التفرقة بين أمرين: الأمر الأول المتكلم نفسه، أما الثاني فالكلام. و من ناحية المتكلم يفرّق المعتزلة بين من ثبتت حكمته - و هو اللّه تعالى - و بين من لم يعرف حاله - و هو المتكلم العادي. أمّا كلام من ثبتت حكمته فهو يدل لا محالة لأنه لا يقع فيه الكذب أو محاولة التضليل. و كلام

ص: 124


1- 105. الملل و النحل 46/1، و انظر أيضا محمد عبد الهادي أبو ريده: إبراهيم بن سيّار النظّام و آراؤه الكلامية/80. 1. راجع في هذا الصدد ما يرويه صاحب «فرق و طبقات المعتزلة» من فشل الفقهاء في التصدي لمجادلة أصحاب الأديان الأخرى، و اضطرار الرشيد للاستعانة في ذلك بالمتكلمين/63 - 65. 2. المرجع السابق/55-56، و انظر البغدادي: الفرق بين الفرق/131. 3. انظر بحث جولد تسيهر عن هذا الحديث: العناصر الأفلاطونية المحدثة و الغنوصية في الحديث/218 و ما بعدها. التراث اليوناني في الحضارة الاسلامية. 4. عبد المنعم ماجد: العصر العباسي الأول 67/1 و انظر أيضا أوليري: الفكر العربي و مركزه في التاريخ/60-61. 5. محمود اسماعيل: الحركات السرية في الاسلام/135. 6. الأشعري: مقالات الاسلاميين 214/1. 7. المرجع السابق 217/1. 8. علي مصطفى الغرابي: أبو الهذيل العلاف/90 نقلا عن المقالات. 9. البغدادي: الفرق بين الفرق/129. 10. ماجد فخري: دراسات في الفكر العربي/78. 11. الخياط: الانتصار/28. 12. البغدادي: الفرق بين الفرق/138. 13. القاضي عبد الجبار: المغني في أبواب التوحيد و العدل 11/9. 14. السابق 12/9. 15. الجاحظ: الحيوان 36/5. 16. البغدادي: أصول الدين/6. 17. الخياط: الانتصار/40-41. 18. الحيوان 542/5-543. 19. الحيوان 56/7. 20. السابق 42/1. 21. السابق 116/2. 22. الشهرستاني: الملل و النحل 75/1. و أنظر أيضا البغدادي: الفرق بين الفرق/175. 23. المغني في أبواب التوحيد و العدل 11/9. 24. البغدادي: الفرق بين الفرق/175-176. 25. انظر حسين القوتلي: مقدمة «العقل»، «فهم القرآن»/107 نقلا عن ابن الأثير و الخطيب البغدادي. 26. البغدادي: أصول الدين/308. 27. أبو الحسن الأشعري: مقالات الاسلاميين 346/1. 28. الباقلاني: الانصاف/127. 29. الحارث المحاسبي: العقل/203. 30. المرجع السابق/205. 31. المرجع السابق/201-202. 32. المرجع السابق/232. 33. العقل/215. 34. السابق/216. 35. السابق/207. 36. محمد عبد الهادي أبو ريده: مقدمة كتاب «التمهيد» للباقلاني/14. 37. الشهرستاني: الملل و النحل 97/1. 38. المرجع السابق 98/1. 39. التمهيد/34 و انظر الانصاف/12. 40. المرجع السابق/35، الانصاف/13. 41. المرجع السابق/35، الانصاف/13. 42. المرجع السابق/نفس الصفحة، الانصاف/نفس الصفحة. 43. الانصاف/13. 44. التمهيد/37. 45. السابق/نفس الصفحة. 46. السابق/نفس الصفحة. 47. السابق/36. 48. الانصاف/13. 49. الانصاف/14 و في التمهيد/40 هو تقسيم المستدل و فكره في المستدل عليه و تأمله له. 50. الانصاف/14. 51. التمهيد/38-39. 52. التمهيد/39. 53. التمهيد/39. 54. الانصاف/18. 55. انظر عبد الرحمن بدوي: في النفس. المقدمة/2. 56. مفاتيح العلوم/81. 57. الشريف الجرجاني: التعريفات/81. 58. الشريف الجرجاني: التعريفات/81. 59. الشريف الجرجاني: التعريفات/81. 60. الشهرستاني: الملل و النحل 82/1. 61. الشهرستاني: الملل و النحل 49/1. 62. الشهرستاني: الملل و النحل 95/1. 63. الملل و النحل 85/1. 64. المغني في أبواب التوحيد و العدل 354/16. 65. الملل و النحل 81/1. 66. القاضي عبد الجبار: المغني 403/16. 67. القاضي عبد الجبار: المغني 174/4-175. 68. انظر القاضي عبد الجبار: المغني 93/11 و ما بعدها. 69. القاضي عبد الجبار: المغني 371/11-372. 70. المغني 372/11. 71. المغني 375/11. 72. المغني 380/11. 73. المغني 380/11. 74. المغني 229/13-230. 75. المغني 47/12. 76. المغني 48/12. 77. المغني 48/12. 78. المغني 326/4. 79. المغني 16/12. 80. المغني 13/12. 81. المغني 58/12. 82. الحيوان 207/1. 83. المغني في أبواب التوحيد و العدل 383/11. 84. المغني في أبواب التوحيد و العدل 384/11. 85. البغدادي: أصول الدين/24. 86. المغني في أبواب التوحيد و العدل 375/11. 87. المغني في أبواب التوحيد و العدل 483/11-484. 88. المغني في أبواب التوحيد و العدل 387/12. 89. المغني في أبواب التوحيد و العدل 11/12. 90. المغني في أبواب التوحيد و العدل 12/12. 91. الحيوان 35/6-36. 92. المغني 401/12. 93. المغني 402/12-403. 94. المغني 44/12. 95. المغني 431/12-432 و انظر أيضا ص 433 صياغة أخرى للخاطر. 96. القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة/68، و انظر المغني 210/11. 97. القاضي عبد الجبار: المغني 11/12. 98. المغني 349/16 و انظر أيضا نفس المصدر 152/15. 99. انظر القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة/65-66 و أنظر أيضا ماجد فخري: دراسات في الفكر العربي/96. 100. القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة/66. 101. القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة/66. 102. القاضي عبد الجبار: المغني 215/8. 103. انظر زهدي جار اللّه: المعتزلة/72 و ما بعدها. 104. الأشعري: المقالات 245/1. 105. المغني في أبواب التوحيد و العدل 136/7.
2- 106. المغني في أبواب التوحيد و العدل 92/7.
3- 107. الباقلاني: الانصاف/23.
4- 108. و القضية على أي حال طرحت في القديم من وجهة نظر فلسفية عند اليونان، و ليست لدينا قرائن تؤيد أو تنفي اطلاع المفكرين المسلمين على هذا الجانب من الفكر اليوناني. و من وجهة نظر الكتب المقدسة فالقضية مطروحة في العهد القديم بشكل يوحي أن آدم هو الذي أعطى للأشياء أسماءها. فقد جاء في سفر التكوين بعد خلق آدم «و قال الرب الإله ليس جيدا أن يكون آدم وحده. فأصنع له معينا نظيره. و جبل الرب الإله من الأرض كل حيوانات البرية و كل طيور السماء. فأحضرها إلى آدم ليرى ما ذا يدعوها. و كل ما دعا به آدم ذات نفس حية فهو اسمها. فدعا آدم بأسماء جميع البهائم و طيور السماء و جميع حيوانات البرية». فالعهد القديم ينسب إلى آدم تسمية الأشياء التي عرضها الرب عليه، و هي تسمية صارت لها فيما بعد، بمعنى أن آدم هو الذي وضع الأسماء دون أن يتلقى من اللّه تعليما مباشرا لهذه الأسماء.(الاصحاح الثاني/19-21 و قد راجعت النص على الأصل العبري بمعونة الأستاذ الدكتور محمود فهمي حجازي فوجدناه مطابقا.).

من لم يعرف حاله يكون طريقا للنظر و التثبت و التيقن، و على هذا فكلام كليهما يقع دلالة.

أمّا الأمر الثاني و هو الكلام نفسه، فيفرّق القاضي عبد الجبار بين الكلام إذا وقع مجردا عن قرينة، أو إذا قارنته قرينة تصرفه عن ظاهر المراد به. في الحالة الأولى يدل الكلام بظاهر المواضعة، بينما يدل في الحالة الثانية بالقرينة على اعتبار أنها جزء من الدلالة. و هذه التفرقة بين المتكلم الذي ثبتت حكمته و غيره، و بين اللغة مجردة عن القرينة أو بها، تظل تفرقة تدور في اطار الغرض الديني للمعتزلة الذي يهدف إلى معرفة كلام اللّه - القرآن - و ما يدل عليه «فأمّا من يقول: إن المعجز، إذا كان إنما يدل كدلالة التصديق، و كان الكلام لا يدل على شيء لصحة وقوعه مجملا و مشتركا، و لدخول الاتساع و المجاز (فيه)، فما يحل محله، بألاّ يدل أولى «فقوله في ظاهر السقوط، لأنه جعل ما نصب منصب الأدلة خارجا عن أن يكون دلالة، لأن الكلام نصب هذه النصبة، ليدل بالمواضعة، على ما لا يدل عليه الفعل، و على ما لا يعلم بالمشاهدة. لكن المتكلم قد يكون حكيما، فيجب في كلامه أن يكون دالاّ، و قد لا نعلم حكمته، فكلامه يكون طريقا للنظر، لا لأنه ليس بدلالة، لأنا لو علمنا من حاله أنه حكيم، لكان دلالة، و إنما لا نعدّه دلالة، إذا وقع من جهة (من) لم تثبت حكمته، لأمر يرجع إلى أنه لم يقع منه على الوجه الذي يدل، من حيث لا نعلم أن مقاصده صحيحة، و ذلك أمر لا يقدح في دلالته.

يبين ذلك أن الفعل المحكم يدل على كون فاعله عالما، إذا وقع مرتبا على طريقة مخصوصة، و متى وقع على طريقة الاحتذاء، أو على غير جهة الترتيب، لم يدل. و لا يخرج ذلك الفعل المحكم من أن يكون دلالة. فكذلك القول في الكلام.

فإن كان ما ظنه السائل من الاشتراك و دخول المجاز يمنع من كون الكلام دلالة، فلما قلناه في الفعل المحكم و صحة وقوعه ممن ليس بعالم، على بعض الوجوه، يجب أن يمنع من كونه دلالة... فكذلك القول فيما ذكرناه من دلالة الكلام، لأنّا نقول إنه يدل، إذا تجرد و جرى من قرينة، على خلاف الوجه الذي يدل عليه إذا ضامه قرينة، و لم يتجرد. و نقول: إنه يدل، إذا وقع من الحكيم الذي مقاصده صحيحة، على خلاف الوجه الذي يدل ممن لم تثبت حكمته. فقد صار افتراق هذين الوجهين اللذين على أحدهما يدل، و على الآخر لا يدل، أو يدل على أحد الوجهين بخلاف دلالته على الوجه الآخر، بمنزلة افتراق الجنسين... لأن الكلام إنما يدل، متى تجرد، على ما وضع له، لأنه يخالف حاله إذا قارنه غيره فقد صار باختلاف هاتين الحالتين، تختلف دلالته» (1) .

ص: 125


1- 109. القاضي عبد الجبار: المغني 106/15.

و كل هذه المقارنة الطويلة بين الفعل إذا وقع محكما و دلالته على علم فاعله، و بينه إذا وقع على جهة الاحتذاء فلا يدل، و بين اللغة و كيف أن وقوعها من جهة الحكيم يجعلها تدل، بينما وقوعها من جهة من لم تثبت حكمته يجعلها طريقا للنظر.

كل ذلك يؤكّد النظرة الدينية لطبيعة اللغة و دلالتها عند المعتزلة. هذا من جهة التفرقة بين المتكلمين. أمّا من جهة الكلام نفسه، فالكلام يدل إذا تجرّد عن القرينة بطريقة تختلف عن دلالته مع وجود القرينة، لكنها تدل على أي حال.

و المهم أن نفهم قصد المتكلم و غرضه. و القرينة في حالة المتكلم العادي - من لم تثبت حكمته - لا بدّ أن تكون قرينة لفظية موجودة في الكلام نفسه. أمّا في حالة المتكلم الحكيم - و هو اللّه - فمعرفتنا بحكمته و أنه لا يكذب و لا يفعل القبيح - و هي معرفة عقلية سابقة على الشرع عند المعتزلة - هي القرينة التي تعلو على كل قرينة، و التي تجعل كلامه دلالة لا محالة. و سواء كانت القرينة لفظية أو عقلية فوضوح قصد المتكلم يظل هو الهدف ما دامت اللغة دلالة، و على ذلك «لا يمتنع اطلاق العبارة في غير حقيقتها إذا فهم الغرض» (1)

*** إذا كان الاتساع و الاشتراك يدخل من جهة المواضعة، كما يدخل من جانب المتكلم، فليس من حق المتكلم أن ينقل أي لفظ شاء إلى أي معنى يريد، و إلاّ اختلّت الدلالة اللغوية. فهناك في اللغة نوعان من الأسماء: الألقاب المحضة، و أسماء المعاني أو الصفات. و الفارق بين هذين النوعين أن اللقب لا يفيد فيما يشير إليه أكثر من مجرد الاشارة، و ذلك كاسم العلم الذي يشير إلى مسماه دون أن يحدد صفة من صفاته أو يبرز خاصية من خواصه. و لذلك قد يطلق اسم واحد على أفراد كثيرين دون أن تختل دلالة الاشارة في اللقب. أمّا اسماء الصفات أو أسماء المعاني فهي تشير إلى خاصية في الشيء المشار إليه، فكلمة «أسود» تشير إلى صفة «السواد» في الشيء المشار إليه «اعلم أن الاسم على ضربين: أحدهما لا يفيد في المسمى به و إنما يقوم مقام الاشارة في وقوع التعريف به من غير أن يقع التعريف بما يفيده، و هو الذي سميناه بأنه لقب محض. و منه ما يفيد في المسمى به جنسا أو صفة... و هو الذي يسميه شيوخنا صفات، و لا يجعلون الفارق بين الاسم و الصفة ما يقوله أهل العربية في ذلك و مثال اللقب المحض هو قولنا زيد و عمرو إلى ما شاكله. و القول في أن ذلك لا يفيد بين، لأنه يقع موقع الاشارة فكما أن الاشارة تعرف و لا تفيد في المشار إليه حالا و صفة، فكذلك ما أقيم مقامها، و لذلك يصح تبديل اللقب و صفة الملقب واحدة، و تختلف الألقاب و الصفة واحدة، و تتفق

ص: 126


1- 110. الصواعق المرسلة 244/2.

و الصفة مختلفة» (1) .

فاللقب المحض على ذلك لا يحمل أي معنى، بعكس الصفة التي تدل على معنى، و هذا المعنى الذي تدل عليه الصفة لا بدّ أن يكون ثابتا - أولا - بالدليل العقلي، ثم تأتي العبارة أو الصفة للدلالة عليه «إن اثبات المعاني بالأقوال و الأسماء لا يصح، لأن الواجب اثباتها بالطريق الذي تثبت منه، ثم يعبر عنها» (2) و لذلك يمنع المعتزلة خصومهم في مواضع كثيرة من الاستدلال بوجود العبارات على وجود المعاني (3) على أساس أن العبارات يجب أن تدل على معان سبقت معرفتها بالأدلة العقلية، أمّا العبارات التي لا تدل على معان فتعدّ من قبيل الخطأ اللغوي. و يتبدّى حرص المعتزلة على وضوح الدلالة اللغوية في هذه المسألة في تأكيدهم على ضرورة أن تستعمل أسماء الصفات في معانيها، و إلاّ تحول الكلام من أن يكون صدقا إلى أن يكون كذبا «اعلم أن كل اسم يفيد و لم يكن لقبا محضا لا يحسن أن يستعمل إلاّ فيما علم فيه ما يفيده. و غلبة الظن في ذلك لا يقوم مقام العلم في الاخبار لما فيه من تجويز كونه كذبا. فأمّا في ابتداء الوضع فإنه يقوم مقامه... و لا يحسن استعمال العبارة المفيدة إلاّ على الوجه الذي وضعت له في سائر ما تنقسم إليه من الكلام، و إلاّ كان المتكلم بها عابثا أو في حكم العابث. و لذلك لا يحسن اتباع أهل اللغة في مواضعاتهم إلاّ بعد العلم بمقاصدهم فيما وضعوه من اللغة. فثبت بذلك أن اجراءهم الاسم المفيد لا يحسن إلاّ بعد العلم بفائدته كما أن ما علم فيه فائدة الاسم يحسن اجراء الاسم عليه» (4) .و هذا الحرص على استعمال أسماء الصفات في معانيها المعقولة أولا، حتى أنه لا يجب اتباع أهل اللغة في اسمائهم إلاّ بعد العلم بمقاصدهم، هذا الحرص لا يمنع من اجراء هذه الأسماء على ما علم فيه فائدة الاسم. بمعنى أننا يجب أن نعقل معنى «الطول» أولا، ثم نجري عليه الاسم الدال عليه، ثم لا مانع بعد ذلك من أن نطلق هذا الاسم على كل ما علمنا فيه فائدة «الطول» و ليست هذه محاولة منا لاستنتاج أن اسماء الصفات هي التي يجوز فيها الاستعارة و المجاز دون الألقاب المحضة التي تنبئ و لا تعني فيما يقول ستيوارت مل» (5) ،فالقاضي نفسه - تمشيا مع مبدأ المعتزلة الأثير (قياس الغائب على الشاهد) لا يمنع من اطلاق الاسماء - و هي أسماء المعاني كما سنرى بعد ذلك - على الغائب إذا ثبتت صحتها في الشاهد و ذلك على أساس أن المواضعة إنما تتم على الشاهد المحسوس المدرك، ثم يمكن للمتكلم أن ينتقل بعد ذلك في اطلاق هذه الاسماء على ما غاب عنه، إذا أفادت مثل هذه المعاني المعقولة في الشاهد «اعلم أن المواضعة إنما تقع على المشاهدات و ما جرى مجراها، لأن الأصل فيها الاشارة، على ما بيناه. فإذا ثبت ذلك، فيجب، متى أردنا التكلم بلغة مخصوصة، أن نعقل معاني

ص: 127


1- 111. القاضي عبد الجبار: المغني 106/15.
2- 112. القاضي عبد الجبار: المغني 106/15.
3- 113. الخصائص 43/1.
4- 114. المغني 164/5 و انظر نفس المرجع 109/7.
5- 115. ابن جني: الخصائص 43/1.

الأوصاف و الأسماء فيها في الشاهد، ثم ننظر، فما حصلت فيه تلك الفائدة نجري عليه الاسم في الغائب. و هذا في بابه بمنزلة معرفة ما له أصل في الشاهد في أنه يجب أن يعلم أولا ثم يبنى عليه الغائب، نحو ما بيّناه في الاستدلال بالشاهد على الغائب» (1) و مبدأ قياس الغائب على الشاهد مبدأ أثير لدى المعتزلة، بل هو حجر الزاوية في فلسفتهم كلها سواء ما اتصل منها بالعدل أم التوحيد.

و الذي يصحّ أن ننقله من الأسماء من الشاهد إلى الغائب لا يمكن أن يكون الألقاب المحضة، لأنها كما سبق أن أشرنا تشير و لا تفيد، و الأسماء التي تنقل من الشاهد إلى الغائب يجب أن تفيد إلى جانب وظيفتها الاشارية، و إلاّ لم يكن لاطلاقها على ما غاب عنا أي معنى. و إذا جاز أن نطلق الألقاب المحضة على ما غاب عنا فما حاجتنا إلى أن نعقل معانيها في الشاهد، و هي أصلا لا تحمل أي معنى، و لا تؤدي أي وظيفة سوى مجرد الاشارة العارية عن أي معنى؟

لا يتركنا القاضي عبد الجبار للاستنتاج و التخمين، فإذا كان اللقب المحض لا يفيد معنى أو صفة، و إنما يشير إلى مسماه فحسب، فإن الالقاب المحضة لا يجوز أن تطلق على اللّه، لأنه ليس مما يشار إليه ليقع به التعريف أولا، و إنما هو سبحانه مما يجوز عليه الوصف، فلذلك نطلق عليه الأوصاف التي تفيد فيه معنى أو وصفا دون تلك الألقاب التي لا تفيد شيئا «و أمّا ما لا يفيد التعريف، و لكنه تعريف من المفيد في إبانة نوع من الأنواع أو جملة أو ضرب من الفعل من نحو قولنا إرادة و قدرة و حياة، و قولنا انسان و دابة، و قولنا ضرب و عدد، فذلك، و إن كان من باب الألقاب، فمن حيث حل محل المفيد، أجري مجراه في حكم الاستعمال.

و الأسماء المفيدة أو الجارية مجرى المفيد يحسن استعمالها في اللّه تعالى. فأمّا الألقاب المحضة فاستعمالها فيه لا يحسن إلاّ أن يرد التقييد به... فإذا ثبت أنها لا تفيد فيجب أن لا يحسن استعمالها فيه، لأنه عبث لا فائدة فيه» (2) و لعل هذا كله يسمح لنا باستنتاج أن الألقاب المحضة التي لا تفيد أي معنى سوى دلالتها الاشارية لا يصح فيها المجاز كما أنها لا يصح أن تطلق على ما غاب عنا من المعاني. و على عكس ذلك فأسماء الصفات و المعاني هي التي يصح فيها النقل و المجاز و الاستعارة «و لذلك تراهم لا يطلقون المجاز في الأعلام اطلاقهم لفظ النقل فيها» (3) .

*** المجاز إذن لا يكون في الألقاب المحضة - أسماء الأعلام - لأنها تنبئ و لا تعني، تشير و لا تدل، و إنما يكون في الصفات و أسماء المعاني. و إذا كانت هذه الاسماء نفسها لا تطلق إلاّ بعد أن تعقل المعاني، فمن الطبيعي أن يكون نقلها

ص: 128


1- 116. القاضي عبد الجبار: المغني 163/5.
2- 117. القاضي عبد الجبار: المغني 164/5 و أنظر نفس المرجع 162/15.
3- 118. القاضي عبد الجبار: المغني 267/5.

من مجال إلى مجال، أو من الشاهد إلى الغائب، مرتبطا بوجود علاقة بين معنى الاسم و بين ما ينقل إليه على سبيل المجاز أو الاستعارة. و يخشى المعتزلة - أعني القاضي عبد الجبار - اطلاق لفظ المشابهة على هذه العلاقة بين المعاني، و ذلك لأنهم في اطار فكرهم و فلسفتهم يحاولون نفي مشابهة اللّه للبشر في ذاته و صفاته.

و لكن معنى المشابهة بين المعاني المجازية و المعاني الحقيقية يمكن أن يفهم من تحليلاتهم لبعض العبارات المجازية في القرآن. فإذا وصف اللّه نفسه بقوله وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَ أَحْصى كُلَّ شَيْ ءٍ عَدَداً «فمجاز لأن الاحاطة في الحقيقة تستعمل فيما يحتوي على الشيء، و ذلك من صفة الاجسام، و إنما وصف نفسه بذلك من حيث علم جميع المعلومات، فتشبه من حيث علمها أجمع، بالمحيط بالشيء، لأنه من حيث أحاط به يعلم أحواله» (1) و إذا وصف الرجل العظيم بأنه رفيع فإنما يكون ذلك «على جهة المجاز تشبيها له بمن ارتفع مكانه» (2) و إذا سمي عيسى بأنه كلمة اللّه فالغرض «أن الناس يهتدون به كاهتدائهم بالكلمة» (3) .. الخ كل هذه الأمثلة المبثوثة في الجزء الخامس من كتاب المغني و التي تؤكد جميعا فكرة المشابهة كأساس للعلاقة بين المعنى الحقيقي و المعنى المجازي للفظ الواحد.

غير أن فكرة المشابهة لا تعني التطابق، و إلاّ لتحوّل المجاز الى حقيقة، و لضاعت الحدود بين العوالم، خصوصا بين عالمي الشاهد و الغائب، و هي حدود يحرص المعتزلة على وجودها و صلابتها. و إن كان ذلك لا يمنع قياس احدهما - الغائب - على الآخر - الشاهد. و مبدأ القياس نفسه يقوم على نوع من المشابهة التي لا تتطابق و لا تلغي الحدود بين العالمين. و هذا هو الذي يجعل القاضي عبد الجبار يمنع من استعمال اللفظ مجازا على جهة الحقيقة، أي يمنع من الخلط بين الاستعمالين الحقيقي و المجازي للفظ الواحد:«اعلم أن من حق المجاز إذا استعمل أن لا يراعى معناه كما يراعى ذلك في الحقائق، لأن ذلك يوجب كونه في حكم الحقيقة. لأنه إن روعي معناه و جعل تابعا له؛ و أجري حيث يجري معناه، حلّ محل الحقيقة» (4) و هي نفس الفكرة التي سبقت الاشارة إليها عند الجاحظ.

و غاية كل من الجاحظ و القاضي واحدة على أي حال. فالجاحظ قد اشترط ذلك للمحافظة على الوظيفة البيانية للغة، و كذلك يشترط القاضي عبد الجبار محافظة على الوظيفة الدلالية. و يظلّ الالحاح - عند كليهما - و الحالة هذه على علاقة المشابهة التي ينتقل اللفظ على أساسها من معنى إلى معنى آخر. و أي نسيان لمبدأ المشابهة من شأنه أن يخلّ بمبدإ الدلالة في المجاز من ناحية، و أن يخلّ بتمايز عالمي الغيب و الشهادة إذا كان المجاز في صفات اللّه و أحواله من ناحية أخرى.

و قد كان متوقعا و قد ربط المعتزلة الدلالة اللغوية بقصد المتكلم و ارادته بما في

ص: 129


1- 119. متشابه القرآن/83-84.
2- 120. المغني في أبواب التوحيد و العدل 169/5.
3- 121. المقالات 346/1.
4- 122. الانصاف/36.

ذلك الانتقال من الحقيقة إلى المجاز، أن يتنبهوا إلى الوظيفة النفسية و الانفعالية للمجاز في التعبير عن حالات و أحوال تعجز اللغة العادية - لغة الحقيقة و الاشارة - عن الافصاح عنها بحكم ثبات دلالتها و فقرها الايحائي. إلاّ أننا لا نجد شيئا من ذلك على الاطلاق. إذ أن اطار الجدل الديني، و تركز البحث حول اللّه، باعتباره متكلما، و حول القرآن باعتباره كلام اللّه، و الرغبة الدينية في استخراج الدلالة المعرفية من النص القرآني. كل ذلك كان له تأثيره في توجيه مبحث المجاز هذه الوجهة التي تعنى في المحل الأول بالدلالة أكثر من عنايتها بالصورة، و من ثم تحولت ايحاءات المجاز التصويرية - على يد المعتزلة - إلى دلالات إشارية. و بناء على ذلك لم يجد المعتزلة من وظيفة للمجاز في القرآن سوى اثارة التأمل العقلي و الاجتهاد النظري الذي عدّوه جزءا من التكليف الغرض منه تعريض الناظر لمزيد من الثواب يزيد على ثواب المقلّد و يربو عليه.

و من أجل تثبيت الدلالة المجازية، و المحافظة على وضوح الدلالة اللغوية، يمنع المعتزلة المتكلم من استعمال المجاز فيما لم يستعمل، حتى لو كانت علاقة المشابهة واضحة بارزة. فاللفظان قد يتفقان في المعنى، و مع ذلك ينقل أحدهما عن الحقيقة إلى المجاز و لا ينقل الآخر، مع امكانية أن تقوم المشابهة بين استعمالهما معا في الحقيقة و استعمالهما معا في المجاز. و الأصل في المنع أو التجويز يظل - في النهاية - هو استعمال الجماعة لا الفرد. فما استعملته الجماعة مجازا جاز استعماله، و ما امتنعت عن استعمال المجاز فيه لا يجوز استعماله «و لا يمتنع في اللفظتين المتفقتين في المعنى أن تستعمل أحدهما مجازا حيث لا تستعمل الأخرى، و على هذا فان الغائط و المكان المطمئن كانا في الأصل واحدا، ثم استعمل أحدهما في الكناية عن قضاء الحاجة و لم يستعمل الآخر» (1)

و مما يدخل في الحرص على تثبيت الدلالة اللغوية و يؤكدها أن المعتزلة لا يحبون التوسع كثيرا في الاستعمالات المجازية، و يحرصون على البعد عن التأويلات المجازية كلما وجدوا في حقيقة اللغة مخرجا. و بالرغم من أن خصومهم قد اتهموهم بأنهم يحملون الآيات على التأويلات المجازية المستكرهة، فواقع الامر أن المعتزلة - شأن غيرهم من الفرق - يعدّون من أنصار الحقيقة، و كل الخلاف أنهم يعتمدون إلى جانب القرينة اللفظية على القرينة العقلية التي تسمح لهم بتأويل كل ما لا يتفق و تصورهم للّه و لعدله. لكن الأساس أن الحقيقة عندهم أكثر دلالة من المجاز، و على ذلك يمنعون من حمل اللفظ على المجاز إذا أمكن حمله على الحقيقة «لأن اللفظة متى أمكن حمل معناها في كل موضع على حقيقة واحدة،

ص: 130


1- 123. المزهر 16/1.

فحملها على فوائد مختلفة، أو على المجاز في موضع و الحقيقة في موضع آخر لا يجوز» (1) .

و هم لا يمنعون تأويل اللفظ على المجاز فحسب بل يمنعون استعماله كذلك إلاّ فيما استعمل فيه، فإذا استعمل لفظ «جائر» في السهم إذا زال عن سمته، فلا يصح أن تنقل اللفظة إلى كل ما أدّى هذا المعنى من الخروج عن عادته، و إلاّ تساوى المجاز و الحقيقة، و صعبت التفرقة بينهما. و كل هذا من شأنه أن يخلّ بمبدإ الوضوح المطلوب في الدلالة اللغوية حتى تظل دلالة «و وصفهم للسهم إذا زال عن سمته بأنه جائر، مجاز عندنا، لأنهم لا يصفون كل ما زال عن سمته بذلك. فلا يصفون الحجر المرمي بذلك،؛ و لا غيره، فعلم أنه مجاز، و إلاّ كان يشيع في هذه الفائدة. أ لا ترى أنه لمّا أفاد وقوع الجور منه، استمر في كل من فعل الجور؟ و أمّا وصفهم السحاب بأنها ظالمة، إذا جادت بالمطر في غير حينه، فمجاز. لأنه لو كان حقيقة لاستمر في كل ما له حكم و حصل له ذلك أو به في غير الوقت المعتاد، حتى يقال في الشجرة إذا تأخر نضج ثمارها، بأنها ظالمة فعلم بذلك، أنه استعمل فيها تشبيها بفاعل الظلم لما كان المبتغى منها المطر في حين ما أخطأ به كما أخطأ الظالم طريق العدل فأقدم على الظلم» (2) .و إذا لم يكن ثم ما يمنع من وصف شجرة بأنها ظالمة، إذا كانت هذه الصفة في السياق الذي ترد فيه تؤدي وظيفة في نقل خبرة أو انفعال أو تجربة، فإن القاضي عبد الجبار يمنع ذلك - رغم وجه المشابهة الواضح - حتى لا تتداخل الحدود بين الحقيقة و المجاز. و تظل هذه الشروط التي تحدّ من طاقة المجاز على التعبير عن مدركات و خبرات و أحوال جديدة خاضعة للمبدإ الاعتزالي عن اللغة و هو أنها نوع من أنواع الدلالة. و يظلّ الالحاح على علاقة المشابهة التي أقامت على أساسها الجماعة عبارتها المجازية هو الأساس في الاستخدام المجازي و ذلك بهدف التفرقة بين الدلالتين الحقيقية و المجازية حتى لا تختلط احداهما بالأخرى في ذهن المتكلم أو المستمع، الأمر الذي قد يؤدي للبس و الابهام، و يعوق عملية التوصيل التي هي وظيفة الدلالة اللغوية. و على ذلك لا يمتنع أن يطلق اللفظ في معنى ما يشبهه و يكون حقيقة في هذا المعنى الثاني، إذا كانت الجماعة استعملته في كليهما على الحقيقة «و قد أنكر بعضهم أن يوصف العلم بأنه اعتقاد على الحقيقة. لأن العاقل يحكم ما عرفه، كاحكام من يعقد الحبل و الخيط بالعقد المحكم. و هذا و ان لم يبعد أن يكون الأصل فيه ما قاله، فذلك غير دال على أنه ليس بحقيقة في الاعتقادات. لأنه لا يمتنع في الأسماء أن توجد من غيرها و تصير مع ذلك حقيقة في الثاني، إلاّ أن نثبت بالدلالة، أن أهل اللغة استعملوها في الثاني على جهة التشبيه بالأول، فيجب الحكم فيه بأنه مجاز» (3) .

ص: 131


1- 124. انظر الطبري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن 170/1-171.
2- 125. الصاحبي/33.
3- 126. الصاحبي/33.

و كل هذه الشروط السابقة تعود بالمجاز إلى أن يكون مواضعة سابقة تواضعت عليها الجماعة اللغوية و لا يجوز للفرد أن يخرج عن اطارها و لا أن يقيس عليها. و الشرط للاستعمال المجازي للجماعة أن تكون أدركت وجه الشبه بين المعنيين، و لو كان وجه الشبه موجودا و لم تدركه الجماعة، و لم تستعمل اللفظ مجازا، فلا يجوز ادعاء المجاز فيه. و هذا التواضع المجازي يساوي في قوته و ثباته المواضعة الحقيقية، و ذلك لأن «المجاز قد صار موضوعا لما استعمل فيه مجازا، فهو في الحكم بمنزلة اسم يستعمل في أمرين على جهة الاشتراك» (1) و كل هذا ينتهي إلى تثبيت الدلالة اللغوية - مجازية كانت أو حقيقية - و يعود بها إلى أن تكون دلالة عادية رامزة مشيرة، لا تحمل أي نبض ايحائي. و هي في ذلك تتساوى مع أنواع الدلالات الأخرى العقلية و السمعية. و تصبح اللغة - بنظامها الثابت - هي المرجع في معرفة الأسماء و الصفات. و يفقد المتكلم - الذي ألحّ المعتزلة على دوره في الدلالة اللغوية - أي فعالية ايجابية «قد بيّنا من قبل أن استعمال الأسماء و الأوصاف يحسن من جهة اللغة، و إن لم يرد بها التوقيف. و إن صحّ ذلك صارت اللغة هي الأصل فيه، كما أن أصل ما يعلم من جهة السمع، فأدلة السمع هي الأصل فيه، و ما يعلم بالعقل فهو الأصل فيه. فكما أن الحكم العقلي يجب الرجوع في معرفته إلى الطريق العقلية و كذلك السمعي، فكذلك القول في اللغة إذا التبس الحال فيه» (2) .

و إذا كان المجاز - شأنه شأن الحقيقة - يعتمد على المواضعة السابقة للجماعة، فمن الطبيعي أن يكون المجاز الذي سبق استعماله هو المقياس في الاستعمال. و إذا كان المعتزلة قد أباحوا لأنفسهم قياس الغائب على الشاهد فيما طريقه المعرفة العقلية، و في اطلاق الاسماء و الصفات، فانهم قد منعوا القياس في المجاز، بل لا بدّ من متابعة الاستعمالات المجازية التي سبق استخدامها دون أن يقاس على نفس نمطها. فلا «يقال: سل الكتاب و يراد به صاحبه أو كاتبه، قياسا على: سل القرية و يراد به الأهل. و لو كان ذلك حقيقة لروعي المعنى المفاد و لأجري الاسم حيث يجري المعنى» (3) .

و ثمّ خلاف بين أبي علي و أبي هاشم الجبائيين حول جواز القياس على المجاز.

و هو خلاف لا يتصل بجوهر القضية. فأبو هاشم يمنع القياس منعا باتا، بينما يجوّزه أبو علي إذا كانت علاقة المقاربة واضحة بحيث يظهر المعنى للمخاطب (4) .

و كلاهما يسعى إلى وضوح الدلالة اللغوية أو المجازية على السواء.

و هذا المبدأ - مبدأ عدم القياس في المجاز - يكاد المعتزلة يطبقونه مع مبدأ

ص: 132


1- 127. الخصائص 39/1.
2- 128. الخصائص 39/1.
3- 129. الخصائص 44/1.
4- 130. الخصائص 45/1-46.

التعارف السابق على المجاز على النص القرآني نفسه. فمن المؤكد أن القرآن قد جاء بعبارات مجازية لم ترد في الشعر العربي. بمعنى أن القرآن يتضمن من الصور المجازية الكثير مما لم يوجد في الشعر العربي، خصوصا في تلك الآيات التي تعبر عن ذات اللّه أو صفاته. و هذه الصور المجازية تقف ضد مبدأ المعتزلة بعرفية المجاز و ضرورة أن يكون سابقا في عرف الجماعة. و في محاولة رد هذه الصور المجازية في القرآن إلى مبدأهم العام يفترض المعتزلة أن هذه الصور المجازية كانت مسبوقة بمجازات عربية مثلها لم ينقلها لنا الرواة. و يعتبرون أن القرآن نفسه دليل على وجود هذه المجازات في لغة العرب «فإن قيل: أ ليس قد خاطب تعالى في كتابه بأنواع من المجاز لا تعرف في اللغة في وصفه و وصف غيره. و ذلك ان ذكر طال؟ فإذا صحّ ذلك علم أنه لا يجب أن يفسّر المجاز حيث استعمل؟ قيل له: إن ما لم يثبت في خطاب اللّه تعالى أنه شرعي منقول من المجاز، فيجب أن نقطع على أنهم قد تكلموا بمثله، كما أن ما تضمنه الكتاب من الحقائق يجب ذلك فيه، كقوله تعالى في وصف الكتاب: وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ و لا يجب في جميع ما تكلموا به من المجاز أن يكون منقولا إلينا، و لا يجب إذا لم نعرفه أن لا يكون معروفا عند بعض العرب، و لو انقطع نقله لكان الكتاب يدل عليه و لو أن واحدا منهم حكى ضربا من المجاز لعمل بقوله، فإذا شهد القرآن به كان بأن يقطع بذلك أولى. فلا يجب أن يوجد في صريح كلامهم نفس ما وجد في القرآن، لكنهم إذا تكلموا بمثله جاز أن يخاطب تعالى به، فإذا استجازوا القول بأن فلانا جاءني و أنا مشغول، و يراد به رسوله بأمره، لم يمتنع أن يقول جلّ و عزّ: وَ جاءَ رَبُّكَ، لأن الباب في ذلك واحد كما ذكرناه في القرية. و لذلك متى علمنا من قول رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، مثل ذلك علمنا أن العرب تكلمت به أو بمثله فلا مطعن على ما ذكرناه بذلك» (1) .

و الذي يمكن الخروج به من هذا النص أن المعتزلة - في دفاعهم عن صحة تأويلاتهم - كان عليهم الاستشهاد بالشعر سائرين في ذلك على درب اللغويين و المفسرين منذ ابن عباس. و لكن مشكلة الاستشهاد بالشعر أن الخصم يمكن له أن يستشهد به كذلك. و من ناحية أخرى فهناك آيات مثل وَ جاءَ رَبُّكَ لا يستطيعون ايجاد ما يقابلها في التراكيب العربية و الشعرية للدلالة على المعنى الذي يريدون إليه. و بدلا من أن يسلم المعتزلة بوجود مجازات في القرآن لم ترد في الاستعمال العربي، يذهبون إلى افتراض وجود مثل هذه المجازات و إن كانت لم تصل إلينا و لم يحفظها لنا أحد. و هذه كلها افتراضات أدّت بهم إليها تلك الرغبة في تثبيت الدلالة المجازية، و ربط القرآن الكريم هذا الربط الميكانيكي باللغة العربية و وسائلها التعبيرية و طرائفها الأسلوبية، حتى ليجعلوه يقل - من هذه الزاوية - عن شعر

ص: 133


1- 131. الخصائص 45/1.

شاعر كامرئ القيس أو زهير فيما أضافاه للغة من تعبيرات و تراكيب و صور.

و ربما أمكن التماس العذر للمعتزلة في هذه الافتراضات التي راحوا يتمحلونها، إذ الآيات التي تثير هذه المشكلة آيات لا يسلّم خصوم المعتزلة بتأويلهم لها، بل ذهب أغلبهم - خصوصا الظاهرية - إلى أنها حقائق، و إن كانوا نفوا كيفية المجيء. و نتيجة لذلك حاول المعتزلة - لتأكيد وجهة نظرهم - ربط هذه التعبيرات المجازية بمثيلات لها في اللغة، و افترضوا وجود مثلها في اللغة و إن لم تصلهم عن العرب و لم ينقلها أحد.

أمّا في الألفاظ الشرعية التي نقلها القرآن عن معناها اللغوي إلى معناها الشرعي، كألفاظ الصلاة و الزكاة و الصوم، فلا نزاع بين المعتزلة و خصومهم حول هذا التجاوز في الدلالة، و من ثم لا يحتاج المعتزلة للافتراض و التمحل، و يسلمون بأن نقل مثل هذه الألفاظ يعدّ بمثابة ابتداء مواضعة من جهة اللّه، و لم تستعمل في القرآن على سابق مثال «و لا تلزم على ذلك الألفاظ الشرعية، لأنه جلّ و عزّ، من حيث ثبتت حكمته يجب صرف كلامه إلى أنه أراد به الوجه الصحيح. فإذا بينه و نقل اللفظ عن اللغة صار كابتداء مواضعة منه» (1) و هكذا يقع المعتزلة فيما حاولوا الهروب منه، و يسلمون بجواز أن يكون في القرآن ما لم تقع المواضعة عليه، و يستندون في ذلك إلى فكرة الحكمة الإلهية، و هي فكرة كانت كفيلة باخراجهم من المأزق السابق دون افتراضات أو تمحلات.

*** تحددت مهمة اللغة عند القاضي على مستوى التركيب بأنها «الانباء» عما في النفس، و اعتبر القاضي أن وظيفة «الاخبار» هي الوظيفة المركزية للغة، لدرجة أنه ردّ كل الصيغ اللغوية من أمر و نهي و استفهام و نداء و قسم إلى معنى الخبر. و يرتبط الخبر في دلالته بقصد المتكلم و ارادته «و لذلك يصح في الخبر المجاز و التعريض و الالغاز» (2) .و قد استبعد المعتزلة من دائرة بحثهم المتكلم البشري على أساس أن كلامه يمكن معرفة دلالته بالاضطرار، و ذلك على عكس كلام اللّه عز و جل الذي لا يمكن معرفة دلالته كاملة إلاّ استدلالا كما سبقت الاشارة. و إذا كان تقدم المواضعة يعدّ عند المعتزلة شرطا لوقوع كلام اللّه دلالة، فإن معرفة قصده تعالى يعدّ شرطا ثانيا لا يقلّ في أهميته عن المواضعة السابقة. يقول القاضي مشترطا المواضعة «اعلم أنه لا بدّ من لغة يتواضع عليها المخاطب أولا ليصحّ أن يفهم عن اللّه سبحانه و تعالى ما يخاطبه به... و الذي يدلّ على ذلك أن العلم بما يفيده الخطاب الوارد عن اللّه سبحانه هو علم بأنه أراد به ما يتعلق ذلك الخطاب به، فمتى لم

ص: 134


1- 132. المغني 6/7 يرى أبو علي الجبائي أن الكلام هو الحروف لا الأصوات. راجع خلاف أبي هاشم معه نفس الجزء/31.
2- 133. المغني 3/7.

تتقدم من المخاطب لغة لم يعلم مراده، عزّ و جلّ، بكلامه، لأنه إنما يعلم ذلك متى تقدّم منه ما يقتضي صرف خطابه إلى ما تعارفه من اللغات، فيكون خطابه دلالة على مراده بتقدم المواضعة» (1) .

و إذا كانت معرفة قصد المتكلم بالكلام هي معرفة اضطرارية، فإن معرفة قصد اللّه بكلامه هي معرفة استدلالية عند المعتزلة. و قد سبقت الاشارة في الفصل السابق إلى أن قضايا العدل و التوحيد هي قضايا عقلية في الأساس الأول، و هي سابقة في معرفتها على الدلالة الشرعية، و هي دلالة الكلام. و معنى ذلك أننا بالعقل نعرف قصد اللّه و ما يصحّ أن يختاره و يأمر به و ما لا يجوز عليه من ذلك. و هذه المعرفة تمكننا من صحة الاستدلال بكلامه عز و جل. و لا يمكن عند المعتزلة أن يدل كلام اللّه على خلاف ما دلّ عليه العقل «لأن الناصب لأدلة السمع هو الذي نصب أدلة العقل فلا يجوز فيهما التناقض» (2) .

و بناء على ذلك فإذا ورد في كلام اللّه - الدلالة الشرعية - ما يدل ظاهره على خلاف ما يدل عليه العقل وجب علينا أن نتأوله لأن الدلالة الشرعية و الدلالة العقلية يتطابقان و لا يتناقضان «و اعلم أن ورود الشرائع و المصالح على المكلف أشدّ مطابقة لما في عقله و مناسبة لما يرد على المكلف من اختلاف الأمور التي تختلف بالعادات و التجارب. يبين ذلك أن ما يرد بالسمع يكون علما مقطوعا لأنه لا يجوز خلافه، كما لا يجوز خلاف ما في العقول، و لأن ما يرد بالسمع تكليف كما أن ما يرد بالعقل تكليف من قبل القديم، و كشف العقل عنهما و عن وجوبهما و طريقة وجوبهما لا يختلف. و لذلك قلنا: إن أصل التكليف يقتضيه العقل كما أن السمع يقتضيه العقل و اقتضاءه لهما لا يختلف» (3) .و هكذا يصبح التأويل ضرورة لا محيص عنها لرفع التناقض الظاهري بين أدلة العقل و ادلة الشرع.

و السلاح الذي يستعمله المعتزلة للتأويل هو سلاح المجاز، و إذا كنا في الفقرة السابقة قد ركّزنا على وجه المجاز في الاسم المفرد، فإن علينا الآن أن نحدد كيفية الانتقال في الدلالة في التركيب و لقد سبق أن أشرنا إلى توحيد القاضي بين الصيغ اللغوية وردها كلها إلى معنى الخبر. و الخبر لا يمكن أن يقع خبرا إلاّ بقصد المتكلم و ارادته، و من حق المخبر - و الحال هذه - أن يلغز في كلامه و يعرض و يستخدم المجاز «لو كان ما يتعلق بالخبر بزيد يستحيل تعلقه بغيره بالقصد، لبطل التوسع، لأنه إنما يتجوّز باللفظة إلى أن تستعمل في غير ما وضعت له، و لهذا يحتاج الحكيم أن يدل عليه، من حيث لو لا الدلالة لكان ظاهرها كما وضعت له و في هذا ابطال القول به. و قد أباح اللّه تعالى ذلك بقوله: إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ

ص: 135


1- 134. المغني 40/7.
2- 135. المغني 41/7.
3- 136. المغني 3/7.

بِالْإِيمانِ لأنه إذا أكره على القول بأنه تعالى ثالث ثلاثة، فلو كان هذا الخبر يجب أن يتعلق باللّه تعالى لاستحال أن يصير خلافه بالقصد. و قد علم أن الموضوع للأمر قد يستعمل في التهديد كقوله «و استفزز» و قوله:«اعملوا ما شئتم» و ما وضع للخبر قد يستعمل في غيره فقد صح أن التجوّز به يصح في كل حال، و على كل وجه. فلو لا أن اللفظة بعينها تقع على الوجهين بالقصد لما صح ذلك فيها» (1) .

و معنى ذلك أن قصد المتكلم هو الذي يحدد ما إذا كانت الصيغة اللغوية قد استعملت على حقيقتها المتواضع عليها، أو قد انتقلت إلى معنى مجازي. و الصيغة اللغوية يمكن انتقالها من الحقيقة إلى المجاز، كما يمكن الانتقال في الاسم المفرد، فصيغة الأمر قد تستعمل للتهديد. و المعيار النهائي للتجاوز في الصيغ اللغوية هو قصد المتكلم و ارادته. و قد سبقت لنا المعرفة العقلية بأن اللّه حكيم لا يختار القبيح و لا يأمر به. فإذا ورد في كلامه أمر يدل بصيغته على القبيح، كان لنا أن نتأوّل هذا الأمر على أن المقصود به هو التهديد. و هذه المعرفة بقصد اللّه - و هي معرفة عقلية - هي التي تسمح لنا بتأويل ظاهر الصيغة، و هي التي يطلق عليها المعتزلة القرينة العقلية أو الدليل العقلي.

و ثمّ قرينة أخرى تسمح لنا باخراج النص عن ظاهره، و هي القرينة اللفظية المقارنة للكلام كالشرط و الاستثناء، أو وجود خطاب آخر يفسر هذا الخطاب.

و لا يخلو كلام اللّه عز و جل عن هاتين الدلالتين أو القرينتين غير أن المعتزلة يعتبرون القرينة العقلية هي الأساس في عملية التأويل «فلذلك صحّ عندنا أن تدلّ على خصوص كلامه أدلة العقل، كما يدل عليه تقييد اللفظ، و دخول الشرط و الاستثناء فيه، و تكون دلالة كالعهد المتقدم و المعهود بين المخاطب، و قد بيّنا أن ما حلّ هذا المحل هو أقوى من نفس المواضعة في الدلالة، فإذا كانت المواضعة المتقدمة تدل على المراد بالكلمة فالعهد بأدلة العقول و ما قدر، جل و عز فيها بأن يدل على ذلك و أن يقدم، أولى» (2) و لا يخلو كلام اللّه - القرآن - عن هذين النوعين من القرينة اطلاقا لأنه «لا بدّ أن يكون دليلا. و إنما يكون كذلك بوجهين: أحدهما: أن يريد ما يقتضيه ظاهره فيكون مجرده دلالة على المراد. أو يريد به غير ذلك فلا بدّ من بيان مقترن به كاقتران بعض الكلام ببعض، لأنه إن كان مما يدل بالسمع فلا بد من أن يتصل به أصل الشرط و الاستثناء، أو ما يجري مجراهما، و إن كان من أدلة العقول فاقترانه به أوكد من ذلك، و لا يجوز في خطابه أن يخلو من هذين الوجهين» (3)

و تقسيم خطاب اللّه هذه القسمة إلى ما يدل بدليل العقل، و إلى ما يدل بدليل الخطاب المقترن به لفظا، ليس الا التفرقة بين آيات الأحكام و التشريع،

ص: 136


1- 137. اللمع/17.
2- 138. التذكرة/340.
3- 139. الانصاف/94.

و الآيات التي تدل على التوحيد و العدل. و من الطبيعي أن يضع المعتزلة النوع الأول فيما يدل بقرينة اللفظ، و يشترطون لدلالته أن يكون فيه ما يدل على المراد به «و على هذا الوجه بنى الفقهاء القول بالعموم و الخصوص، لأنهم بينوا أن الصيغة تكون واحدة، و تكون مرة عموما، و مرة خصوصا» (1) غير أن تخصيص العام أو تعميم الخاص لا بدّ أن يستند إلى قرينة لفظية في الخطاب نفسه، سواء في نفس الآية أو في آية أخرى غيرها (2) .

أمّا الآيات التي تدلّ على التوحيد و العدل فهي الآيات التي تدلّ أولا بالدلالة العقلية. و قد كانت هذه الآيات هي مجال الخلاف في التأويل بين المعتزلة و خصومهم من الصفاتية و الظاهرية و الأشاعرة و المجسمة. و كان لا بدّ من البحث عن أساس للتأويلات الاعتزالية لهذه الآيات. و قد وجد المعتزلة في التفرقة بين المحكم و المتشابه - و هي تفرقة قرآنية - أساسهم الديني للتأويل، إلى جانب الأساس العقلي الذي أشرنا إليه. و هذه التفرقة و غايتها هي ما يعالجه الفصل التالي عن المجاز و التأويل.

ص: 137


1- 140. الانصاف/95.
2- 141. الانصاف/95.

ص: 138

الفصل الثالث: المجاز و التأويل

اشارة

«المجاز و التأويل»

ص: 139

ص: 140

1 - التأويل عند المفسرين (ابن عباس و مجاهد)

منذ فترة باكرة جدا ارتبط تأويل القرآن بالخلاف حول المحكم و المتشابه من جهة، و بالخلافات السياسية و العقائدية من جهة أخرى. و إذا كانت العلاقة بين التأويل و المجاز تبدو خافتة جدا في هذه المرحلة الباكرة، فما ذلك إلاّ لان مصطلح «المجاز» لم يكن قد تحدّد بعد، فضلا عن أن يكون قد ظهر على ألسنة المفسرين.

و قد سبق أن أشرنا إلى أن مصطلح «المثل» كان أقدم المصطلحات شيوعا للدلالة على العبارة أو اللفظة التي لا يراد بها ما وضعت له في أصل اللغة.

أمّا ارتباط التأويل بالخلاف حول المحكم و المتشابه من جهة، و بالخلافات السياسية من جهة أخرى فيؤكده ما يرويه الطبري عن ابن عباس أيضا من أنه قد «ذكر عنده الخوارج و ما يلفون عند القرآن قال: يؤمنون بمحكمه و يهلكون عند متشابهه» (1) بل إن الطبري نفسه يستغل الآية لمهاجمة كل الفرق الاسلامية و غير الاسلامية و يرى «أن هذه الآية و إن كانت نزلت فيمن ذكرنا أنها نزلت فيه من أهل الشرك، فإنه معني بها كل مبتدع في دين اللّه بدعة فمال قلبه إليها، تأويلات منه لبعض متشابه آي القرآن، ثم حاج به و جادل به أهل الحق، و عدل عن الواضح من أدلة آيه المحكمات، إرادة منه بذلك اللبس على أهل الحق من المؤمنين، و طلبا لعلم تأويل ما تشابه عليه من ذلك، كائنا من كان، و أي أصناف المبتدعة كان:

من أهل النصرانية كان أو اليهودية أو المجوسية، أو كان سبئيا، أو حروريا، أو قدريا، أو جهميا، كالذي قال صلى اللّه عليه و سلم:«فإذا رأيتم الذين يجادلون به، فهم الذين عنى اللّه، فاحذروهم» (2) .

غير أن محاولة تأويل آي القرآن - أو الخلاف حول المحكم و المتشابه - ترتبط بزمن نزول القرآن نفسه. و يبدو أن محاولة تأويل آي القرآن و التشكيك فيه قد ارتبطت بجدل أهل الكتاب مع الرسول في المدينة. و من العسير على الباحث تحديد نقطة البداية في هذا الجدل. و مع ذلك فالقرآن نفسه قد سجّل هذه المحاولات و ردّ

ص: 141


1- 1. انظر على سبيل المثال نللينو: بحوث في المعتزلة، في (التراث اليوناني في الحضارة الاسلامية) ص 203،202. أوليري: الفكر العربي و مركزه في التاريخ ص 67، دي بور: تاريخ الفلسفة في الاسلام/48-49 زهدي جار اللّه: المعتزلة ص 75،36،2
2- 2. انظر: محمد عمارة: المعتزلة و مشكلة الحرية الانسانية/17-24.

عليها. و لو رتبت آيات القرآن و سوره حسب ترتيب النزول - بحسب ما تسمح به مصادرنا الحالية عن أسباب النزول - لأمكن حسم كثير من المعضلات التي ترتبط بالدراسات القرآنية بشكل عام. فالقرآن - قبل كل شيء و بعد كل شيء - هو المصدر الوحيد الذي لا يتطرق اليه الشك كمصدر تاريخي لعصر النبوة بشقيه المكي و المدني. و لقد سجّل لنا القرآن في سورة آل عمران هذه المحاولات التأويلية بقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ، مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ، وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا.

يورد الطبري في سبب نزول هذه الآية عدّة أقوال: أولها ما يرويه ابن عباس عن جابر بن رئاب أن معنى «المتشابه» الحروف المقطعة التي في أوائل بعض سور القرآن، من نحو «الم» و «المص»، و «المر» و «ألر» و ما أشبه ذلك، لأنهن متشابهات في الألفاظ، و موافقات حروف حساب الجمل. و كان قوم من اليهود على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم طمعوا أن يدركوا من قبلها معرفة مدة الإسلام و أهله، و يعلموا نهاية أكل محمد و أمته» (1) و هي رواية ضعيفة، و إن كان الطبري يتقبلها و يعضدها و يبني تفسيره كله على أساسها.

أمّا الرواية الثانية فيرويها الطبري عن الربيع «قال: عمدوا - يعني الوفد الذين قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من نصارى نجران - فخاصموا النبي صلى اللّه عليه و سلم (في المسيح)، قالوا: أ لست تزعم أنه كلمة اللّه و روح منه؟ قال: بلى! قالوا: فحسبنا! فأنزل اللّه عز و جل: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ ثم إن اللّه جل ثناؤه أنزل: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ» (2) .

و تبدو هذه الرواية أقرب إلى معنى الآية و إلى سياقها، فالتعبير القرآني في وصف عيسى بأنه بِكَلِمَةٍ مِنْهُ (آل عمران/45) كان كفيلا بأن يتخذه النصارى دليلا لهم - من وجهة نظرهم - يحاجون به النبي، و من ثم نزلت هذه الآية تقرّعهم على تمسكهم بما يحتمل التأويل. ثم نزلت الآية الأخرى إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ (آل عمران/59) لتفسر لهم ما تشابه عليهم بلفظ واضح صريح لا يحتمل اللبس أو التأويل، و لتردهم بمحكم القرآن إلى جادة الحق و الصواب. و سيتعرّض المعتزلة فيما بعد - خصوصا القاضي عبد الجبار - لتأويل هذه الآيات التي وردت في المسيح وردها إلى المجاز اعتمادا على هذه الآية الأخيرة. و يؤكد ما نذهب إليه من اعتبار هذه الحادثة سببا لنزول آية المحكم و المتشابه أن الآيات الثلاث كلها في

ص: 142


1- 3. الخياط: الانتصار 13-14
2- 4. القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة/123

سورة آل عمران و هي مدنية باتفاق. و على هذا يتفق سبب النزول مع السياق و مع وجود الرسول بالمدينة، و بداية الحوار و الجدل مع أهل الكتاب من النصارى و اليهود على السواء. (1)

و إذا كانت الآية قد نزلت في مناسبة الحوار و الجدل الذي أثاره النصارى في وجه الرسول صلى اللّه عليه و سلم متأولين لبعض العبارات المجازية في القرآن تأويلا يريدون به أن يظهروا موافقة الرسول لهم في معتقدهم، فإن المفسرين قد رفعوها سلاحا في وجه «كل مبتدع في دينه بدعة مخالفة لما ابتعث به رسوله محمدا صلى اللّه عليه و سلم، بتأويل يتأوله من بعض آي القرآن المحتملة التأويلات» (2) كما يقول قتادة (ت 117 ه) الذي يروي عنه الطبري أيضا أنه كان يقول حين يقرأ الآية «إن لم يكونوا الحرورية و السبائية فلا أدري من هم» (3) .و معنى ذلك كله أن الآية صارت تفسّر - على يد قتادة و ابن عباس قبله كما أشرنا - لمواجهة الجدل الديني للخوارج، و السبائية، و اتهامهم بأنهم أصحاب الزيغ الذين يتبعون المتشابه.

و لعله من المفيد - ما دامت قضية المحكم و المتشابه و التأويل قد ارتبطت بالنزاع السياسي - ان نستعرض خلاف المفسرين حول أمرين يتصلان بهذه القضية: الأمر الأول الخلاف حول تعريف المحكم و المتشابه، الأمر الثاني الخلاف حول امكانية معرفة معنى المتشابه بما يترتب عليه من اعراب قوله تعالى وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ و هل تعطف على ما قبلها، أم تقطع عمّا قبلها و تعتبر جملة مستأنفة؟ و ذلك لما لهذا الخلاف من أهمية إذ ستتحول هذه القضية على يد المعتزلة إلى قانون عام يحكم - من وجهة نظرهم - مشكلة التأويل.

لا حاجة بنا لرواية ابن عباس عن جابر بن رئاب التي تعرّضنا لها منذ قليل لضعفها من جهة، و لأنها تعرّف المتشابه - بناء على ما اعتبرته سببا للنزول - بأنه الحروف المقطعة في أوائل السور من جهة أخرى. و من المنطقي أن تنفي هذه الرواية امكانية معرفة المتشابه، لأن مدة حكم محمد و أمته مما استأثر اللّه بعلمه، و لا طريق للعلم به، و بذلك يكون قوله وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ مقطوعا عمّا قبله، و كلاما مستأنفا.

و يروي الطبري رواية أخرى عن ابن عباس يعرّف بها المحكم بأنه «ناسخه و حلاله و حرامه، و حدوده و فرائضه، و ما يؤمن به و يعمل به» أمّا المتشابهات فهي «منسوخه، و مقدمه و مؤخره، و أمثاله و أقسامه، و ما يؤمن به و لا يعمل به» (4) و تؤكّد هذه الرواية رواية أخرى يشير فيها ابن عباس إلى آيات الأحكام في سورة الأنعام على أساس أنها هي الآيات المحكمة و هي «الثلاث الآيات من هاهنا: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ إلى ثلاث آيات و التي في «بني اسرائيل»: وَ قَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ إلى آخر الآيات» (5) و معنى ذلك أن المحكم عند ابن عباس هو الآيات التي يؤمن بها و يعمل بها، و هي آيات الأحكام التي تحدد الحلال و الحرام، أو بمعنى آخر هي آيات التشريع العملي. أمّا المتشابهات فهي تلك الآيات التي يؤمن بها و لا يعمل بها، أو هي التي لا تتصل بالتشريع، سواء أ كانت منسوخة عن حكمها و بقيت في رسم المصحف للتلاوة فقط، أو كانت من غير آيات الأحكام أصلا. و يدخل ابن عباس في المتشابهات المقدم و المؤخر، و الأمثال و القسم و كلها ظواهر أسلوبية ستدخل في المجاز عند أبي عبيدة و عند الفراء و عند الجاحظ و ابن قتيبة. و سيصبح المجاز كله وسيلة للتأويل عند القاضي عبد الجبار كما سنرى بعد ذلك.

ص: 143


1- 5. مقالات الاسلاميين 47/1-49
2- 6. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 357/1
3- 7. المرجع السابق 357/1-358
4- 8. انظر المرجع السابق 354/1 و ما بعدها، طه حسين: الفتنة الكبرى 180/1-185.
5- 9. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 357/1-358

و يروي الطبري رواية أخرى عن ابن عباس يعرّف بها المحكم بأنه «ناسخه و حلاله و حرامه، و حدوده و فرائضه، و ما يؤمن به و يعمل به» أمّا المتشابهات فهي «منسوخه، و مقدمه و مؤخره، و أمثاله و أقسامه، و ما يؤمن به و لا يعمل به» (1) و تؤكّد هذه الرواية رواية أخرى يشير فيها ابن عباس إلى آيات الأحكام في سورة الأنعام على أساس أنها هي الآيات المحكمة و هي «الثلاث الآيات من هاهنا: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ إلى ثلاث آيات و التي في «بني اسرائيل»: وَ قَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ إلى آخر الآيات» (2) و معنى ذلك أن المحكم عند ابن عباس هو الآيات التي يؤمن بها و يعمل بها، و هي آيات الأحكام التي تحدد الحلال و الحرام، أو بمعنى آخر هي آيات التشريع العملي. أمّا المتشابهات فهي تلك الآيات التي يؤمن بها و لا يعمل بها، أو هي التي لا تتصل بالتشريع، سواء أ كانت منسوخة عن حكمها و بقيت في رسم المصحف للتلاوة فقط، أو كانت من غير آيات الأحكام أصلا. و يدخل ابن عباس في المتشابهات المقدم و المؤخر، و الأمثال و القسم و كلها ظواهر أسلوبية ستدخل في المجاز عند أبي عبيدة و عند الفراء و عند الجاحظ و ابن قتيبة. و سيصبح المجاز كله وسيلة للتأويل عند القاضي عبد الجبار كما سنرى بعد ذلك.

و إذا كان ابن عباس قد فرّق هذه التفرقة بين المحكم و المتشابه فمن الطبيعي أن يقول عن نفسه بعد ذلك «أنا ممن يعلم تأويله» (3) .و في هذا الاطار يمكن أن نفهم ما قاله عن الخوارج حين سئل عنهم «و ما يلفون عند القرآن فقال: يؤمنون بمحكمه و يهلكون عند متشابهه» بمعنى أنهم يقيمون أحكامه و حدوده و فرائضه، و لكنهم لا يعرفون منسوخه و لا تأويله.

و يختلف مجاهد - تلميذ ابن عباس و راوي تفسيره (4) -عن أستاذه في تعريف المتشابه، و إن اتفق معه في تعريف المحكم، فالمحكم عنده - كما هو عند ابن عباس-«ما فيه من الحلال و الحرام، و ما سوى ذلك فهو «متشابه» يصدق بعضه بعضا، و هو مثل قوله وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ و مثل قوله: كَذلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ، و مثل قوله: وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَ آتاهُمْ تَقْواهُمْ» (5) .و تحتاج هذه الآيات التي استشهد بها مجاهد وقفة حتى نستطيع أن نفهم دلالة هذا الاستشهاد. و اللافت للنظر أن هذه الآيات الثلاث جميعا يعدّها المعتزلة من المتشابه و قد تعرّض لها القاضي عبد الجبار في كتابيه «متشابه القرآن» (6) و «تنزيه القرآن عن المطاعن» (7) .و هذه الآيات يوهم ظاهرها أن اللّه هو الذي يضلّ الفاسقين و يجعل الرجس و يهدي المهتدي. و معنى ذلك أن تعريف مجاهد للمتشابهات - بهذا الاستشهاد - يدخلنا إلى جو التأويل الاعتزالي للمتشابهات. و ليس الأمر غريبا على أي حال فمجاهد (ت 104 ه) كان معاصرا للحسن البصري (ت 110 ه) صاحب رسالة في القدر أشرنا إليها سالفا.

و يستشهد الحسن البصري في هذه الرسالة بآيتين من الآيات الثلاث التي استشهد بها مجاهد و ذلك حيث يقول:«و ذلك أن اللّه تعالى جعل فيهم من القدرة ما

ص: 144


1- 8. انظر المرجع السابق 354/1 و ما بعدها، طه حسين: الفتنة الكبرى 180/1-185.
2- 9. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 357/1-358
3- 10. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 360/1 نقلا عن الطبري.
4- 11. راجع فلهوزن: تاريخ الدولة العربية 51-52
5- 12. أحمد أمين: فجر الاسلام 333/1 و ما بعدها.
6- 13. ابن قتيبة: تأويل مختلف الحديث 3-4
7- 14. المرجع السابق 193

يتقدمون بها و يتأخرون، و ابتلاهم لينظر كيف يعملون، و ليبلو أخبارهم فلو كان الأمر كما يذهب إليه المخطئون لما كان إليهم أن يتقدّموا و لا يتأخروا، و لما كان لمتقدم أجر فيما عمل و لا متأخر لوم فيما لم يعمل، لأن ذلك بزعمهم ليس منهم و لا إليهم و لكنه من عمل ربهم. و اذن لما قال: وَ يُضِلُّ اللّهُ الظّالِمِينَ، وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ اَلَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ، وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (1) .

و إذا كان الحسن البصري يستشهد بهذه الآية على تعلق فعل الانسان به و قدرته عليه و مسئوليته عنه، فإن الآية الثانية التي اعتبرها مجاهد من المتشابهات، يعدّها الحسن البصري أيضا من المتشابهات و إن لم ينص على ذلك، و لكن تأويله لها ينبئ عن أنها كانت سلاحا في يد القائلين بالجبر يشهرونه في وجه المعتزلة.

يقول «و مما يجادلون فيه قول اللّه تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ، وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ، كَذلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (الأنعام/125) فتأوّلوا بجهلهم، على أن اللّه تعالى، خصّ قوما بشرح الصدور بغير عمل صالح قدموه، و قوما بضيق الصدور يعني القلوب، بغير كفر كان منهم و لا فسق و لا ضلال، و لا لهؤلاء سبيل إلى ما كلفهم من الطاعة، و هم مخلدون في النار طول الأبد، و ليس ذلك يا أمير المؤمنين، كما ذهب إليه الجاهلون و المخطئون. ربنا أرحم و أعدل و أكرم من أن يفعل ذلك بعباده» (2) .و يعود الحسن ليؤول الآية من وجهة نظره قائلا:«و إنما ذكر اللّه، يا أمير المؤمنين، الشرح و الضيق في كتابه، رحمة منه لعباده، و ترغيبا منه لهم في الأعمال التي يستوجبون بها، في حكمته، أن يشرح صدورهم، و تزهيدا منه لهم في الأعمال التي يستوجبون بها، في حكمته، تضييق الصدور، و لم يذكر لهم ليقطع رجاءهم، و لا ليؤيسهم من رحمته و فضله، و لا ليقطعهم عن عفوه و مغفرته و كرمه، إذا هم صلحوا» (3) .

و إذن فلم يكن مجاهد بعيدا عن جو الجدل العقائدي، و الخلاف حول القدر، و حول الحرية و الجبر، و ما يحكى عن نزعته العقلية، و ما نسب إليه «من الميل إلى تتبع التصورات الشعبية بالدرس و الفحص، و الانتقال بنفسه إلى الأماكن التي يتصل بها شيء من الخوارق الخرافية، ليجد لنفسه تفسيرا لها عن عيان و شهادة» (4) كل ذلك يقرّبه من المعتزلة أكثر مما يباعده عنهم، على الأقل في هذا النزوع العقلي، و الرغبة في التثبت، حتى ليعدّه جولد تسيهر سابقا على المعتزلة في تأويلاته العقلية و رائدا لهم في مسائل متفرقة «و لكن فضل المعتزلة ينحصر في أنهم

ص: 145


1- 15. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 278/1-279، و انظر جولد تسيهر: العقيدة و الشريعة في الاسلام/70-71.
2- 16. الأشعري «مقالات الاسلاميين»204/1.
3- 17. جولد تسيهر: العقيدة و الشريعة في الاسلام/172.
4- 18. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 388/1.

جعلوا هذه الطريقة تستوعب جميع دائرة العبارات القرآنية الدالّة على التشبيه» (1) .

و إذا كان مجاهد قد عرّف المتشابهات بايراد بعض الآيات المتشابهة، فإن مفسرا آخر هو محمد بن جعفر بن الزبير يعرّف المحكم و المتشابه تعريفا نظريا مجردا يشير فيه - دون أن يصرّح - لمفهوم الغموض في المتشابه. يقول معرّفا المحكمات بأن «فيهن حجة الرب، و عصمة العباد، و دفع الخصوم و الباطل، ليس لها تصريف و لا تحريف عمّا وضعت له» أمّا المتشابهات فهي متشابهات «في الصدق، لهن تصريف و تحريف و تأويل. ابتلى اللّه فيهن العباد كما ابتلاهم في الحلال و الحرام، لا يصرفن إلى الباطل و لا يحرفن عن الحق» (2) .و هذه التفرقة إلى جانب اثارتها لمشكلة الوضوح و الغموض - تقترب كثيرا من مفهوم المعتزلة من جانبين: الجانب الأول أن المتشابه هو ما يحتاج لتأويل أو تصريف عمّا وضع له في أصل اللغة، و هنا يرتبط التأويل بالمجاز ربطا واضحا.) أمّا الجانب الثاني فهو أن محمد بن جعفر بن الزبير يلمح الغاية وراء ايراد المتشابه. و يحددها بأنه الابتلاء و الامتحان و الاختبار.

و هي فكرة سيتوسع فيها القاضي عبد الجبار بعد ذلك و يربطها بفكرة التكليف العقلي السابقة على التكليف الشرعي.

و إذا كان ابن عباس في الرواية التي قبلناها عنه قال عن نفسه «أنا ممن يعلم تأويله»، فقد ذهب مجاهد و الربيع و محمد بن جعفر بن الزبير إلى أن الراسخين في العلم يعلمون المتشابه (3) .

أمّا الرواية الأخرى عن ابن عباس، و هي الرواية التي فسّرت المتشابه على أنه الحروف المقطعة في أوائل السور، فقد فسّرت التأويل على أنه «المتأول» أو العاقبة و قال:«و ما يعلم تأويله إلاّ اللّه»، يعني تأويله يوم القيامة «إلاّ اللّه» (4) و معنى ذلك أن التأويل هنا بمعنى العاقبة، و هو ما يذهب إليه السدى ايضا، و لكن على أنهم «إنما أرادوا أن يعلموا متى يجيء ناسخ الأحكام التي كان اللّه جل ثناؤه شرعها لأهل الاسلام قبل مجيئه، فنسخ ما قد كان شرعه قبل ذلك» (5) .و بناء على هذا التعريف يذهب كل من ابن عباس - و الرواية ضعيفة عنه - و السدى و هشام بن عروة، و أبو نهيك الأسدي و عمر بن عبد العزيز، و الامام مالك، و يضيف الطبري اليهم روايات عن السيدة عائشة. يذهبون جميعا إلى أن «الراسخون في العلم» مقطوع عمّا قبله، و أنه كلام مستأنف، و بذلك يكون «الراسخون في العلم» لا يعلمون معنى المتشابه. و الطبري نفسه يأخذ جانب هذه الروايات في كل جوانبها، أعني في سبب النزول و معنى المتشابه و التأويل و اعراب الآية على القطع لا العطف. (6)

ص: 146


1- 19. الأشعري: مقالات الاسلاميين 225/1.
2- 20. المرجع السابق 225/1-234.
3- 21. انظر جولد تسيهر: العقيدة و الشريعة في الاسلام/77-78.
4- 22. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 389/1.
5- 23. جولد تسيهر: العقيدة و الشريعة في الاسلام/76.
6- 24. المرجع السابق/84، و انظر أيضا زهدي جاد اللّه: المعتزلة/23 و ما بعدها.

2 - التأويل عند الحسن البصري و مقاتل بن سليمان

و تعدّ رسالة الحسن البصري «في القدر» أقدم ما تحت أيدينا من وثائق الخلاف العقائدي، و ما ارتبط به من التأويل بهدف اثبات فكرة معينة، و هي مسئولية الانسان عن فعله، و نفي مسئولية اللّه عن أفعال البشر. و منهج الرسالة، و أسلوبها الجدلي يعدّان بذورا طبيعية لنهج الفكر الاعتزالي و أسلوبه حتى عصر القاضي عبد الجبار، باستثناء خلو رسالة الحسن من أي أثر لمنطقية التفكير، و اتساع الفكرة و تشعبها. و لا يخفي أسلوب الرسالة البسيط تلك النزعة الجدلية في صورتها الباكرة، و التي أصبحت فيما بعد سمة غالبة على المصنفات الاعتزالية. أمّا منهج الرسالة فهو تقرير الفكرة أولا «فإن اللّه تبارك و تعالى يقول، و قوله الحق:

وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَ ما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ فأمرهم اللّه بعبادته التي لها خلقهم، و لم يكن ليخلقهم لأمر ثم يحول بينهم و بينه، لأنه تعالى ليس بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ» (1) ثم يسهب الحسن في ايراد آيات قرآنية كثيرة تدلل على صحة مذهبه. و كلها آيات سيتعرض لها المعتزلة فيما بعد. ثم ينتقل الحسن بعد ذلك للآية التي كان يستشهد بها الخصوم - و التي تعرّضنا لها فيما سبق - و يحاول تأويلها تأويلا يردها إلى الآيات التي تثبت فكرته. لا يشير الحسن بالطبع إلى «محكم» أو «متشابه» أو «مجاز» و هذا أمر طبيعي، فلم تكن المصطلحات قد صار لها - كما أصبح لها عند المتأخرين - هذا الوزن و التقدير.

و الذي تجدر الاشارة إليه أن الحسن حين يؤول الآية التي استشهد بها الخصوم، يفسّر «الشرح» على أنه ثواب على طاعة العبد، و «التضييق» عقاب على كفره. و لعل الحسن بهذا التفسير وضع البذرة الأولى لفكرة «اللطف» الذي يمنحه اللّه لمن يعلم أنه يختار الايمان، و لذلك يجوّز الحسن - و وراءه المعتزلة - أن ينسب الهدى و الايمان للّه دون أن يؤدي ذلك إلى الجبر، و ذلك على أساس أن اللّه يلطف بالعبد، أو يمنحه لطفا، يكون عنده أقرب إلى اختيار الايمان. فنسبة الايمان - و الحال هذه - للّه نسبة صحيحة، بعكس نسبة الكفر أو الاضلال إليه سبحانه.

يؤكّد ذلك أن الحسن يجعل الآية كلها رحمة من اللّه للعباد، و ترغيبا لا ايئاس و قطع رجاء. و لا يخرج الزمخشري - في تفسيره للآية - عن هذا التفسير الذي يقوله الحسن، غير أنه يستخدم مصطلحات الفكر الاعتزالي الناضج. يقول: فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ أن يلطف به و لا يريد أن يلطف إلا بمن له لطف «يشرح صدره للاسلام» يلطف به حتى يرغب في الاسلام و تسكن إليه نفسه و يجب

ص: 147


1- 25. فلهوزن: تاريخ الدولة العربية/67-68.

الدخول فيه وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ أن يخذله و يخليه و شأنه و هو الذي لا لطف له يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً يمنعه ألطافه حتى يقسو قلبه و ينبو عن قبول الحق و ينسدّ فلا يدخله الايمان» (1) .

و هكذا تفسر الآية كلها بفكرة «اللطف» الالهية. و الرسالة - في النهاية - تؤكد ما سبق أن أشرنا اليه في الفصل الأول من أن قضية العدل كانت هي القضية الأساسية، و لب نشأة الفكر الاعتزالي. و هي من ناحية أخرى تفرّق بين ما هو دليل بظاهره، و ما يحتاج للتأويل من الآيات. و لكن الحسن لم يستخدم مصطلحات «المحكم و المتشابه» أو «التأويل» أو «المجاز» و لم يكن ذلك متوقعا في ذلك العصر على أي حال.

و إذا كان الفكر الاعتزالي لم يصلنا منه في هذه الفترة الباكرة سوى رسالة الحسن الصغيرة، فقد وصلنا من نقيض الفكر الاعتزالي - المجسمة أو المشبهة - كتاب كامل هو «الأشباه و النظائر في القرآن الكريم» لمقاتل بن سليمان. و إذا كنا في الفصل السابق قد تعرّضنا لهذا الكتاب من زاوية دلالته على الاحساس بوجود وجوه من المعاني للفظ الواحد في السياقات المختلفة و أشرنا إلى أنها فكرة تعدّ مقدمة طبيعية للمجاز، فإننا في هذا الفصل نودّ أن ننظر للكتاب من زاوية أخرى، هي زاوية علاقته بمبحث المحكم و المتشابه و قضية التأويل. و الزاويتان ليستا منفصلتين على أي حال، فهما - على الأقل عند المعتزلة - وجهان لعملة واحدة هي ضرورة اتفاق الشرع و العقل و رفع التناقض بينهما. و السؤال الآن حول علاقة «المحكم و المتشابه» و «الأشباه و النظائر» هل يشيران إلى مدلول واحد؟.

يشير المؤرخون لمقاتل إلى أسماء مصنفات له مثل «متشابه القرآن» و «الآيات المتشابهات» (2) يرجح محقق «الأشباه و النظائر» أن يكون الكتاب الذي حققه هو «الآيات المتشابهات»، فيكون الكتاب واحدا و اسمه متعدد» (3) و أغلب الظن أن هذه الكتب - إن صحّت نسبتها إلى مقاتل - لم تعن بالمتشابهات بالمعنى الاصطلاحي عند المعتزلة، بل هي أقرب إلى أن تكون في الرد على شك الشاكين في القرآن و الطاعنين عليه، و الزاعمين وجود التناقض فيه. (4) و بذلك يكون معنى «المتشابه» أقرب للدلالة اللغوية، بمعنى المشكل، و لا يبعد حينئذ أن يكون «الأشباه و النظائر» أحد هذه الكتب التي عنت بالمتشابه في هذه المرحلة. يؤكد ما نذهب إليه أن مقاتلا حين يتعرّض لآية المحكم و المتشابه (آل عمران/7) في سياق عرضه لوجوه كلمة «تأويل» في القرآن يردد رواية ابن عباس التي ترى أن المتشابه هو الحروف المقطعة في أوائل السور، و يكون معنى التأويل هو «المتأول» و تنتفي امكانية

ص: 148


1- 26. جولد تسيهر: العقيدة و الشريعة في الاسلام/86.
2- 27. الشهرستاني: الملل و النحل 30/1، انظر أيضا البغدادي: الفرق بين الفرق/18-19.
3- 28. انظر حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 419/1، أيضا مقالات الاسلاميين: المقدمة/10-11.
4- 29. خالد العلي: جهم بن صفوان و مكانته في الفكر الاسلامي/49.

معرفة المتشابه على هذا التفسير. و مقاتل يضع هذا التفسير في الوجه الأول لكلمة «تأويل». يقول:«تأويله: يعني منتهى كم يملك محمد و أمته، فذلك قوله في آل عمران: اِبْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ يعني منتهى كم يملك محمد و أمته، و ذلك أن اليهود أرادوا أن يعلموا من قبل حساب الجمل كم يملك محمد و أمته ثم ينقضي ملكه و يرجع الملك إلى اليهود، قال اللّه وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ يعني و ما يعلم تأويل كم يملك محمد و أمته إلاّ اللّه، لا يعلم ذلك إلاّ اللّه بأنهم يملكون إلى يوم القيامة و لا يرجع الملك إلى اليهود» (1) و هذا التفسير ينفي وعي مقاتل بالمعنى الاصطلاحي للمحكم و المتشابه، و إن كان لا ينفي وعيه بمصطلح التأويل الذي يحدد وجوهه الأخرى في القرآن.

أمّا الوجه الثاني لكتاب مقاتل - و الذي يهمنا الحديث عنه لاتصاله المباشر بموضوع الدراسة - فهو ما أثير عنه من القول بالتجسيد و الارجاء (2) و هما فكرتان تصدّى المعتزلة لابطالهما بكافة الوسائل ابتداء بالتدليل العقلي و انتهاء بتأويل النصوص التي يوهم ظاهرها التجسيد أو الارجاء. و إذا كان الأشاعرة - و هم تلاميذ المعتزلة - لم يختلفوا مع المعتزلة فيما ذهبوا إليه من التنزيه و تأويل النصوص التي توهم مشابهة اللّه لخلقه، و هم بذلك لا يعدّون خصوما للمعتزلة في قضية التوحيد، باستثناء خلافهم حول رؤية اللّه عز و جل. إذا كان الأشاعرة كذلك، فإن المجسّدة و الظاهرية يعدّون خصوصا للمعتزلة في هذا الجانب. و من هنا تنبع أهمية الوقفة مع آيات الصفات لنرى كيف يفسّرها مقاتل.

يتعرّض مقاتل لكلمة «يد» و وجوهها المختلفة في القرآن، و يرى أنها على ثلاثة وجوه «فوجه منها: اليد يعينها، فذلك قوله في «ص» لابليس ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ يعني بيدي الرحمن تبارك و تعالى، خلق آدم بيده التي بها قبض السموات و الأرض، يعني اليد بعينها و قال في المائدة: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يعني اليد بعينها و قال لموسى عليه السلام: وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنّاظِرِينَ يعني اليد بعينها» (3) و اشارته إلى أن «اليد» المقصود بها «اليد بعينها» معناه أنه يفسّر اليد تفسيرا حرفيا بمعناها الأصلي و هو الجارحة المعروفة. ثم وضعه للآية التي يتحدث القرآن فيها عن يد موسى في وجه واحد مع الآيات التي تتحدث عن يد اللّه يؤكد النزعة الحسية - و لا أقول التجسيدية - للتفسير عند مقاتل.

و حين يتعرّض مقاتل لليد في آيات أخرى مثل قوله تعالى: وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ يعتبر ذلك مثلا و يضع الآية في الوجه الثاني «فهو مثل ضربه لليد في أمر النفقة فذلك قوله في بني اسرائيل للنبي - صلى اللّه عليه و سلم-: وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ يقول لا تمسك يدك من النفقة بمنزلة المغلولة يده إلى عنقه فلا يستطيع بسطها، و كقوله في المائدة وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ قالوا أمسك اللّه يده عن النفقة علينا فلا يوسع في الرزق، كما فعل لهم في زمان بني اسرائيل فهذا مثل ضربه اللّه تبارك و تعالى» (4) .و هنا لا يجد مقاتل لليد معنى سوى أنها مثل، و بذلك يلتقي التأويل و المصطلح البلاغي. و واضح أن كلمة «مثل» لا تشير إلى اليد وحدها، بقدر ما تشير إلى الصورة الكلية، صورة اليد المغلولة إلى العنق تعبيرا حسيا عن الامساك في النفقة.

ص: 149


1- 30. البغدادي: الفرق بين الفرق/19.
2- 31. جولد تسيهر: العقيدة و الشريعة في الاسلام/87 نقلا عن ابن قتيبة: الإمامة و السياسة.
3- 32. الشهرستاني: الملل و النحل 143/1.
4- 33. البغدادي: الفرق بين الفرق/202.

و حين يتعرّض مقاتل لليد في آيات أخرى مثل قوله تعالى: وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ يعتبر ذلك مثلا و يضع الآية في الوجه الثاني «فهو مثل ضربه لليد في أمر النفقة فذلك قوله في بني اسرائيل للنبي - صلى اللّه عليه و سلم-: وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ يقول لا تمسك يدك من النفقة بمنزلة المغلولة يده إلى عنقه فلا يستطيع بسطها، و كقوله في المائدة وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ قالوا أمسك اللّه يده عن النفقة علينا فلا يوسع في الرزق، كما فعل لهم في زمان بني اسرائيل فهذا مثل ضربه اللّه تبارك و تعالى» (1) .و هنا لا يجد مقاتل لليد معنى سوى أنها مثل، و بذلك يلتقي التأويل و المصطلح البلاغي. و واضح أن كلمة «مثل» لا تشير إلى اليد وحدها، بقدر ما تشير إلى الصورة الكلية، صورة اليد المغلولة إلى العنق تعبيرا حسيا عن الامساك في النفقة.

و في مادة «فوق» يضع مقاتل قوله تعالى يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ في الوجه الثاني من وجوه «فوق» يعني أفضل، فذلك قوله في الفتح يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ يقول فعل اللّه بهم الخير أفضل من فعلهم في أمر البيعة يوم الحديبية» (2) و هو هنا في تفسيره العام للآية يفسر «اليد» بأنها «الفعل» و يؤكد ذلك بوضع هذه الآية نفسها في الوجه الثالث من وجوه «اليد»«و الوجه الثالث: يد: يعني فعل. فذلك قوله في يس: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً، و قال في الفتح:

يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ يعني فعل اللّه بهم الخير أفضل من فعلهم في أمر البيعة يوم الحديبية. و قال في يس: وَ ما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ يعني لم يكن ذلك من فعلهم. و قال في الحج: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ يعني بفعلك» (3) و إذا كان هذا المعنى ينطبق على العبارات «عملت أيدينا» و «قدمت يداك» و «عملته أيديهم» لوجود الفعل «عمل» في اثنتين منهما و الفعل «قدم» في ثالثتهما، فإنه لا يمكن أن ينطبق على قوله تعالى يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ لا بتركيبها و لا في سياقها و مناسبة نزولها. فلم يكن اللّه - عز و جل - في معرض المنّ على المبايعين، بل كان في معرض الثناء عليهم إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللّهَ يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَ مَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً. و لقد أدرك الزمخشري سياق الآية و طبيعتها التصويرية حين فسّر الآية «على طريق التخييل فقال يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ يريد أن يد رسول اللّه التي تعلو أيدي المبايعين هي يد اللّه، و اللّه تعالى منزّه عن الجوارح و عن صفات الأجسام، و إنما المعنى تقرير أن عقد الميثاق مع الرسول كعقده مع اللّه من غير تفاوت بينهما كقوله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللّهَ (4) و استخدام الزمخشري لكلمة «تخييل» يثير حساسية مفسّر كابن المنير السني و إن كان لا يعترض على التأويل، و لكنه يفضل على «التخييل» كلمة «مثل» بقوله:«كلام حسن بعد اسقاط لفظ التخييل و ابداله بالتمثيل» (5) و لا يمكن تفسير حساسية ابن المنير إزاء لفظ «التخييل» إلاّ بما سبق أن اسلفناه من أن استخدام لفظ «مثل» في القرآن أعطاه شرعية لدى المفسرين عموما لم يتمتع بها أي

ص: 150


1- 33. البغدادي: الفرق بين الفرق/202.
2- 34. الملل و النحل 139/1.
3- 35. محمود اسماعيل: الحركات السرية في الاسلام/53.
4- 36. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 333/1.
5- 37. فلهوزن: تاريخ الدولة العربية/67.

مصطلح بلاغي آخر، هذا إلى «جانب السمعة السيئة التي اكتسبتها كلمة تخييل» (1) في تاريخ النقد العربي عامة.

و مما يتصل بقضية التوحيد نفي المكان عن اللّه، و يبدو مقاتل في هذه الناحية أقرب للتأويل و أبعد عن التجسيد أو التشبيه، ففي الوجه التاسع من وجوه «فوق» يقول:«فوق يعني في السلطان و القهر، فذلك قوله في الأنعام: وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ يعني سلطانه فوق سلطان العباد و ملكه و أمره. و حكى في الأعراف قول فرعون: سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَ نَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَ إِنّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ يعني سلطاني و أمري فوق سلطانهم، قاهرهم بذلك بالسلطان و الملك» (2) ،و هذا التأويل للفوقية لا يختلف عن تأويل الزمخشري، بل يكاد الزمخشري يردد نفس ألفاظ مقاتل و يستشهد بنفس الآية:«يقول: فَوْقَ عِبادِهِ تصوير للقهر و العلو بالغلبة و القدرة كقوله و إنّا فوقهم قاهرون» (3) و الزمخشري هنا يستخدم كلمة «تصوير» كما استخدم في الآية السابقة كلمة «تخييل» و غني عن البيان صلة كلتا الكلمتين بالمجاز بمعناه العام الشامل.

و إذا كان المعتزلة ينفون نفيا قاطعا امكانية رؤية اللّه عز و جل، على أساس أن الرؤية لا تجوز إلاّ على الأجسام المتحيزة في المكان و القائمة في جهة، و بذلك يذهبون إلى نفي الرؤية في الدنيا و الآخرة على السواء، فإن مقاتل يذهب إلى جواز الرؤية و النظر إلى وجه اللّه. و يذهب إلى أن الرؤية لا تجوز في الدنيا، و أنها لا تحدث إلا في الآخرة. و لا يعرض مقاتل لهذه القضية بشكل مباشر، بل يتعرّض لها في ثنايا حديثه عن وجوه لألفاظ بعيدة بمادتها عن قضية الرؤية. ففي معنى أو وجوه كلمة «الحسنى» يرى أنها في الوجه الأول تعني الجنة «فذلك قوله في يونس:

لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى يعني الذين وجدوا لهم الحسنى يعني الجنة (و زيادة) يعني النظر إلى وجه اللّه» (4) .و يعود لنفس القضية في مادة «أول». يقول:«و الوجه الثالث: أول يعني أول المؤمنين بأن اللّه لا يرى في الدنيا. فذلك قوله في الأعراف:

قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَ لكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً، فَلَمّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ يقول أنا أول المصدّقين بأنك لن ترى في الدنيا» (5) و جدير بالذكر أن الآية الأولى «الحسنى» سيسهل على المعتزلة رفض تأويلها على هذا المعنى الذي ذهب إليه مقاتل، بينما سيضطربون في الآية الثانية اضطرابا شديدا كما سنعرض له في مكانه.

يتعرّض مقاتل في مادة «العلم» لعلم اللّه و يؤوله على ثلاثة وجوه «فوجه

ص: 151


1- 38. محمد عمارة: المعتزلة و مشكلة الحرية الانسانية/29،28.
2- 39. الأشعري: مقالات الاسلاميين 338/1.
3- 40. البغدادي: الفرق بين الفرق/211-212، و انظر أيضا الشهرستاني: الملل و النحل 86/1-87.
4- 41. الأشعري: مقالات الاسلاميين:338/1، انظر الشهرستاني: الملل و النحل 87/1.
5- 42. المقالات 338/1.

منها: يعلم: يعني يرى فذلك قوله في سورة محمد - صلى اللّه عليه و على أهل بيته و سلم-: وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ يعني حتى نرى المجاهدين منكم و قد علم اللّه من يجاهد منهم قبل أن يجاهد و لكنه يعني نرى، و من لم يجاهد فإن اللّه لم ير جهاده حتى يجاهد، و قد علم أنه سيفعل و قال في آل عمران: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ الصّابِرِينَ عند البلاء يرى صبرهم، و قال في براءة: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَ لَمّا يَعْلَمِ اللّهُ يعني و لم ير اللّه اَلَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ و نحوه كثير.

و الوجه الثاني: العلم بعينه، فذلك قوله: يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ و إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَ يَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ فهذا العلم بعينه يعلم ما كان قبل الخلق و ما يكون.

و الوجه الثالث: علم: إذن: فذلك قوله في هود: فقل أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللّهِ يعني باذن (اللّه) (1) و في كل هذه الوجوه يحاول مقاتل أن ينفي أولا حدوث علم اللّه، ثانيا أن للّه علما غير ذاته. و هو في محاولته لنفي حدوث علم اللّه، يفرق بين العلم و الرؤية، و إذا كانت رأى بمعنى علم جائزة في اللغة، فإن علم بمعنى رأى تظل محاولة تأويلية من مقاتل لا سند لها من اللغة. و المشكلة سيعرض لها أبو عبيدة و الفراء و المعتزلة جميعا بعد ذلك و لهم فيها تأويل يقترب إلى حد كبير من روح النص القرآني. أمّا تأويل العلم في الوجه الثالث بأنه الاذن فهو تأويل يمكن أن يكون سائغا.

و بنفس الطريقة التي ينفي بها مقاتل حدوث علم اللّه، يحاول أن ينفي عن اللّه صفة النسيان الواردة في القرآن الكريم و ذلك على أساس أن النسيان صفة من صفات النقص التي تلحق بالبشر، و لذلك يجعل الوجه الأول من وجهي «النسيان» هو الترك «فذلك قوله في طه: وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ فترك العهد، كقوله في تنزيل السجدة: فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا يقول بما تركتم الايمان بلقاء يومكم هذا إِنّا نَسِيناكُمْ يقول: إنا تركناكم في العذاب، و قال في البقرة: وَ لا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ يقول لا تتركوا الفضل بينكم، و قال أيضا ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها يعني أو نتركها فلا ننسخها» (2) و واضح أن مقاتلا يقرأ الآية الاخيرة على فتح النون لا على ضمها كما هي القراءة المشهورة، لكن الآية لا تثير اشكالا على أي حال ما دام معنى النسيان هو الترك. غير أن تفسير مقاتل للنسيان في الآيات الأخرى بأنه الترك يوحي بأنه يعتقد أن «النسيان» بمعنى «الترك» حقيقي لا مجازي و ذلك قد ينفي عن تفسيره للنسيان في حق اللّه صفة التأويل.

ص: 152


1- 43. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 333/1
2- 44. المرجع السابق 358/1-359 نقلا عن الطبري.

و كل ما قدمناه من تفسير مقاتل لآيات الصفات يكاد يقترب به من ظاهرية أهل السنة و يبتعد به عن المجسدة و المشبهة بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة. و بذلك نكاد نتفق مع محقق الكتاب فيما قال بعد أن استعرض ما قاله مؤرخو الفرق عن مقاتل «و الظاهرة الجديرة بالملاحظة أن تفسير مقاتل، و كتبه الباقية للآن، قد خلت خلوّا تاما من القول باللحم و الدم المنسوب إليه في كتاب النحل، فإمّا أن يكون مقاتل قال ذلك في صدر حياته ثم عدل عنه، أو يكون خصومه تقولوه عليه، أو يكون القائل باللحم و الدم مقاتل بن سليمان آخر، غير مقاتل بن سليمان المفسّر، كما ذكر ذلك السكسكي في برهانه، أو يكون رواة تفسير مقاتل هذبوه و حذفوا منه القول باللحم و الدم، أو يكون مقاتل قال ذلك في علم الكلام، أو عند جداله مع جهم في الصفات و لم يقله في مؤلفاته» (1) .

أمّا ما ينسب لمقاتل من القول بالارجاء فمحقق الكتاب لا ينفيه عنه، و إن كان يعتبره من مرجئة السنة لا من مرجئة البدعة «و إذا قرأنا تفسير مقاتل أدركنا أنه ليس من مرجئة البدعة الذين يقولون لا تضرّ مع الايمان معصية و لا تنفع مع الكفر طاعة، و في تفسيره لبعض الآيات نشم رائحة الارجاء عند مقاتل، و لكن ليس ارجاء البدعة، بل هو ارجاء السنة أو أقرب الأشياء إلى ارجاء السنة» (2) و إذا كان المعتزلة لا يفصلون في الايمان بين التصديق و العمل، و يعتبرون الايمان محصلة نهائية لامتزاجهما، و لا يعدّ التصديق ايمانا حتى يقارنه العمل، و هذه قضية خلافية بينهم و بين المرجئة بصفة خاصة، فإن مقاتل يذهب إلى أن الايمان هو التصديق.

ففي مادة «ايمان» يحدد لها أربعة وجوه كلها تدور حول معنى التصديق «فوجه منها:

الايمان الإقرار باللسان من غير تصديق... الوجه الثاني: الايمان: يعني التصديق في السر و العلانية... و الوجه الثالث: الايمان يعني التوحيد... الوجه الرابع:

الايمان: يعني ايمانا في شرك» (3) و هي كلها وجوه تفصل بين الايمان و العمل.

و يؤكّد موقف مقاتل الارجائي رأيه في مرتكب الكبيرة، حيث يرى أنه لن يخلد في النار، بل لا بدّ من خروجه منها، و دخوله الجنة في نهاية المطاف. يقول في الوجه السابع من وجوه «ما»«ما يعني كما... كقوله في هود: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ أي لأهل النار، ما داموا فيها أحياء، فأهل النار لا يموتون فيها أبدا و النار لا تنقطع عنهم أبدا إلاّ ما شاء ربك لأهل التوحيد الذين أدخلوا النار فلا يدومون في النار معهم و لكن يخرجون إلى الجنة» (4) و يتضح خلاف المرجئة و المعتزلة في تأويل الآية من قول القاضي عبد الجبار «و جوابنا أن للنار سماء و أرضا و كذلك الجنة و لا يفنيان فهذا هو المراد. و قد قيل إن المراد بذلك تبعيد خروجهم فعلقه تعالى بما يبعد في العقول

ص: 153


1- 45. السابق: نفس الصفحة.
2- 46. البغدادي: الفرق بين الفرق 233-234، و انظر المقالات 86/1، الملل و النحل 174/1.
3- 47. الفرق بين الفرق/235.
4- 48. جولد تسيهر: العقيدة و الشريعة في الاسلام/192.

زواله على مذهب العرب في مثل قول الشاعر:

إذا شاب الغراب أتيت أهلي و صار القار كاللبن الحليب» (1)

و مع ذلك كله فلا تكفي هذه التفسيرات لكي يعدّ مقاتل مرجئا، بالمعنى الذي ينكره المعتزلة، فهو لم يشر في الآية الأخيرة إلى إن كان المقصود بالاستثناء مرتكب الكبائر، أم المؤمن الذي يعذّب على بعض المعاصي الصغيرة. و المعتزلة أنفسهم لا يقولون بتخليد المؤمن العاصي في النار ما لم تكن معصيته من الكبائر.

و إذا أضفنا أن المعتزلة قد اعتبروا أن تحديد الكبائر مما لا علم لنا به، لأن اللّه أخفاه عنا لطفا منه بنا، حتى لا نواقع الصغائر خشية أن تكون كبائر. إذا ذكرنا هذا عند المعتزلة - خصوصا القاضي عبد الجبار - تميّعت الحدود بين الصغيرة و الكبيرة.

و صار ارجاء مقاتل محل تساؤل كما كان وضعه في المشبهة و المجسدة محل تساؤل كذلك.

3 - التأويل عند أبي عبيدة و الفراء

و إذا كان أبو عبيدة - كما سبق أن أشرنا - هو أول من سلط الضوء على كلمة «مجاز» لتصبح فيما بعد مصطلحا بلاغيا يضم في اهابه كل الوسائل التصويرية في اللغة، فإنه - من جانب آخر - قد أسهم اسهاما له أهميته في قضية التأويل.

و تتداخل مصطلحات المجاز و التشبيه و المثل مع التأويل عند أبي عبيدة، و تصبح هذه المصطلحات - باعتبارها طرائق للتعبير - وسيلة للتأويل لاخراج الآية عن ظاهرها الموهم بالتشبيه أو الظلم إلى معنى ينفي عنها هذا الايهام. و ليس أبو عبيدة على أي حال بعيدا عن جو التأويل، فهو خارجي، و الاتفاق بين الخوارج و المعتزلة في أصول كثيرة سبقت الاشارة إليه في التمهيد، لدرجة أنهم يتبادلون عبارات الثناء و الاعجاب. يقول أبو عبيدة عن النظّام «ما ينبغي أن يكون كان في الدنيا مثل النظّام» (2) .و يردّ له الجاحظ - تلميذ النظّام - هذه المجاملة بقوله:«و ممن كان يرى رأي الخوارج: أبو عبيدة معمر بن المثنى مولى تيم بن مرة، و لم يكن في الأرض خارجي و لا جماعي أعلم بجميع العلم منه» (3) .

و على ذلك فمن الطبيعي أن يتوقف أبو عبيدة عند الآيات التي يوحي ظاهرها بمشابهة اللّه للبشر ليؤولها تأويلا يتفق مع التنزيه و التوحيد الذي آمن به كل من الخوارج و المعتزلة. فيكون مجاز قوله تعالى كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ «إلاّ هو» (4) و يكون التعبير القرآني فِي جَنْبِ اللّهِ و في «ذات اللّه» واحد (5) .و يكون

ص: 154


1- 49. المرجع السابق/205.
2- 50. المقدمة/375.
3- 51. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 382/1-383 نقلا عن ابن الأثير.
4- 52. انظر حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 403/1-404.
5- 53. جولد تسيهر: العقيدة و الشريعة في الاسلام/176.

تأويل يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ إذا اشتدّ الحرب و الأمر قيل: قد كشف الأمر عن ساق» (1) و قوله إِلاّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها مجازه إلاّ هو في قبضته و سلطانه» (2) و قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْراً أي أخذا و عقوبة و استدراجا لهم» (3) و يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ أي خير اللّه ممسك» (4) و يكون قوله إِنَّنِي مَعَكُما «مجازه أعينكما» (5) وَ قَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ «مجازه و عمدنا إلى ما عملوا» (6) و هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ يصبح معناها «هل يريد ربك» (7) وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللّهَ رَمى مجازه: ما ظفرت و لا أصبت و لكن اللّه أيدك و أظفرك و أصاب بك و نصرك» (8) و إِنّا نَسِيناكُمْ مجازه: إنّا تركناكم و لم ننظر إليكم و لكن اللّه عز و جل لا ينسى فيذهب الشيء من ذكره» (9) و يُحارِبُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ و المحاربة هاهنا: الكفر» (10) .أمّا قوله تعالى فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا مجازها: اذهب انت و ربك فقاتل:

و ليقاتل ربك أي ليعنك و لا يذهب اللّه» (11) و شَاقُّوا اللّهَ مجازه: خانوا اللّه و جانبوا أمره و دينه و طاعته» (12) .

أمّا قوله تعالى إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مجازه إلاّ لنميز» (13) و كذلك قوله فَلَيَعْلَمَنَّ اللّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا مجازه: فليميزن اللّه لأن اللّه قد علم ذلك من قبل» (14) .

و إذا كان أبو عبيدة يستخدم كلمة «مجاز» لتأويل كل هذه الآيات أو معظمها، و هي كلها آيات تتصل بنفي الجسمية من اليد و الساق و الحلول كما تنفي عن اللّه صفات البشر كالمكر و الحركة.. الخ كل ذلك. فإنه يجمع بين المجاز و المثل و التشبيه في قوله تعالى: فَأَتَى اللّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ بقوله «مجاز المثل و التشبيه» (15) .هذا الربط بين التأويل و المصطلحات البلاغية يؤكد أنهما وجهان لعملة واحدة كما قلنا من قبل. و من جهة أخرى فكل هذه الآيات التي تعرّض لها أبو عبيدة سيتناولها المعتزلة بالتفصيل، و التفصيل هو الفارق بين المتأخر و المتقدم و إن كان المنحى العام في التأويل يظلّ واحدا.

و كما أوّل أبو عبيدة آيات التشبيه، فإنه يحاول أن يؤول آيات الجبر أو ما يوهم إرادة اللّه للقبيح، و لذلك يحاول أن يؤول قوله تعالى: وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها بقوله:«أي أكثرنا مترفيها، و هي من قولهم: قد أمر بنو فلان، أي كثروا، فخرج على تقدير قولهم علم فلان، و أعلمته» (16) و هو بذلك ينفي أن يكون اللّه قد أمر المترفين بالفسق، كما هو ظاهر بالآية، بل ينفي أن يكون الفعل هو أمر، بل هو أمر متعد بالهمزة من أمر بنو فلان، إذا كثروا. و هذا التأويل سيستفيد منه المعتزلة بعد ذلك، و إن كانوا سيضيفون إليه احتمالات أخرى مثل

ص: 155


1- 54. الأشعري: المقالات 91/1.
2- 55. الشهرستاني: الملل و النحل 150/1.
3- 56. الأشعري: المقالات 136/1-137.
4- 57. انظر فلهوزن: الدولة العربية/196.
5- 58. المرتضى: الأمالي 161/1. و انظر أيضا أقوالا مشابهة للحسن: الجاحظ: الحيوان 100/5،225/1.
6- 59. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 292/1.
7- 60. انظر على سبيل المثال: المرتضى: الأمالي:150/1-151.
8- 61. السابق: نفس الصفحة، و انظر أيضا: القاضي عبد الجبار: فرق و طبقات المعتزلة/24.
9- 62. السابق 152/1.
10- 63. الأمالي 161/1.
11- 64. السابق 154/1.
12- 65. السابق 159/1.
13- 66. الأمالي 162/1.
14- 67. السابق 153/1.
15- 68. الأمالي 153/1.
16- 69. المعارف/153.

قول القاضي عبد الجبار «أنه أمرهم بالطاعة ففسقوا بالخروج عن ذلك» (1) و هو تأويل آخر أخذوه عن الفراء كما سنوضح بعد قليل. فإذا انتقلنا إلى الزمخشري وجدناه يرفض هذا التأويل الثاني على أساس «أن حذف ما لا دليل عليه غير جائز، فكيف يحذف ما الدليل قائم على نقيضه، و ذلك أن المأمور به إنما حذف لأن فسقوا يدل عليه و هو كلام مستفيض» و على هذا يبني الزمخشري تأويله للآية على المجاز «و الأمر مجاز لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم افسقوا و هذا لا يكون، فبقي أن يكون مجازا، و وجه المجاز أنه صبّ عليهم النعمة صبّا فجعلوها ذريعة إلى المعاصي و اتباع الشهوات، فكأنهم مأمورون بذلك لتسبب ايلاء النعمة فيه، و إنما خوّلهم إياها ليشكروا و يعملوا فيها الخير و يتمكنوا من الاحسان و البر» (2) .

و مما يرتبط بهذه القضية - العدل - أن يدرك أبو عبيدة أن مجاز «الأمر في الآية فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَ يَلْعَبُوا مجازه: الوعيد» (3) .

*** تعرّض الفراء - معاصر أبي عبيدة - لكثير من التأويلات التي تناولها المعتزلة فيما بعد، و هي تأويلات تتفق في مجملها مع تأويلاتهم و إن أضيف لها بعض التفاصيل الكلامية و الفلسفية بعد ذلك، بل إن الفراء في تأويلاته يردّ على من يسميهم «أهل القدر» و يقصد بهم خصوم المعتزلة، و كأنه - شأن كثير من المعتزلة - يردّ لهم الاسم الذي أطلقوه على المعتزلة. و علاقة الفراء بالمعتزلة و ببلاط المأمون الخليفة المعتزلي واضحة يشير إليها الدارسون. و يظن الدكتور شوقي ضيف أن الفراء «اختلف... إلى حلقات المعتزلة التي كانت مهوى قلوب الشباب و المثقفين و الأدباء في البصرة، و أنه تلقى حينئذ مبادئ الاعتزال، و ظل مؤمنا بها حفيا، مما جعل مترجموه يقولون إنه كان متكلما يميل إلى الاعتزال، و آثار اعتزاله واضحة في كتابه معاني القرآن إذ نراه يتوقف مرارا للرد على الجبرية» (4) و يؤكّد الدكتور محمد زغلول سلام هذه الحقيقة بقوله «و كان لميل الفراء إلى الكلام و الأخذ بآراء المعتزلة أثر في معاني القرآن» (5) .

و الآيات التي يتوقف أمامها الفراء ليؤولها من وجهة نظر اعتزالية كثيرة، و تغطي كثيرا من جوانب الفكر الاعتزالي. و الكتاب يعدّ بهذا الشكل أول مؤلف اعتزالي يصلنا. و من الغريب أن شخصية النحوي تكاد تختفي أمام هذه الآيات التي تمسّ الفكر الاعتزالي، أو يبدو أنها تتناقض مع مسلماته. و على هذا فسأتناول هذه الآيات بشيء من التفصيل، لا تبعا لترتيبها، بل تبعا لقضايا الفكر الاعتزالي،

ص: 156


1- 70. الملل و النحل 47/1. و يلاحظ أن واصلا ولد عام 80 ه، و لا يتفق هذا مع أن الرسالة موجهة لعبد الملك بن مروان(65-86 ه).
2- 71. محمدة عمارة: رسائل العدل و التوحيد 82/1.
3- 72. نفس المصدر 83/1.
4- 73. نفس المصدر 88/1.
5- 74. بحوث في المعتزلة/181.

هذه القضايا التي تدور حول محورين أساسيين هما محور العدل، و محور التوحيد.

فيما يتصل بقضية التوحيد تواجهنا تلك الآيات التي يوهم ظاهرها بمشابهة اللّه للبشر، و هي تلك الآيات التي تثبت للّه وجها و يدا و ساقا و جنبا، إلى جانب تلك الآيات التي تنسب إلى اللّه العجب و الفرح و السرور و الأسف و الغضب و المكر و غيرها من الانفعالات البشرية. هذه الصفات و الانفعالات مما يراها المعتزلة علامات نقص لا تليق بجلال الكمال الإلهي و التنزيه المطلق، و بالتالي لا بدّ من اخضاعها لسلاح التأويل و هو سلاح عقلي صارم.

و كان الشعر - استجابة لصيحة ابن عباس - هو الملاذ للبحث عن سند لتأويلاتهم. و لكن الاستشهاد بالشعر لم يحل المشكلة، فالواقع أن الاسلام جاء بتصور جديد للّه و للواقع. هذا التصور الجديد عبّر عن نفسه في لغة تعكس مدارك أهلها و ثقافتهم، و لذلك كان من الضروري - لكي تتسع اللغة للتعبير عن هذا التصور الجديد - أن يحدث تغيير في تراكيبها و أنسقتها التعبيرية. و لقد أدرك الفراء جانبا من هذه المعضلة و اقترب هونا ما من لمسها و ذلك في قضية نفي الجهل عن اللّه حين تعرّض لقول اللّه تعالى وَ ما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ يضلهم به حجة، إلاّ أنّا سلطناه عليهم لنعلم من يؤمن بالآخرة. يقول الفراء «فإن قال القائل: إن اللّه يعلم أمرهم بتسليط ابليس و بغير تسليطه. قلت: مثل هذا كثير في القرآن. قال اللّه وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَ الصّابِرِينَ و هو يعلم المجاهد و الصابر بغير ابتلاء، ففيه وجهان: أحدهما أن العرب تشترط للجاهل إذا كلمته بشبه هذا شرطا تسنده إلى نفسها و هي عالمة، و مخرج الكلام كأنه لمن لا يعلم. من ذلك أن يقول القائل: النار تحرق الحطب فيقول الجاهل: بل الحطب يحرق النار، و يقول العالم: سنأتي بحطب و نار لنعلم أيهما يأكل صاحبه فهذا وجه بين. و الوجه الآخر أن تقول لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتّى نَعْلَمَ معناه: حتى نعلم عندكم فكأن الفعل لهم في الأصل، و مثله مما يدل عليه قوله وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ عندكم يا كفره، و لم يقل:(عندكم)، يعني: و ليس في القرآن (عندكم)، و ذلك معناه. و مثله قوله ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ عند نفسك إذا كنت تقوله في دنياك. و مثله ما قال اللّه لعيسى أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ و هو يعلم ما يقول و ما يجيبه به، فرد عليه عيسى و هو يعلم أن اللّه لا يحتاج إلى اجابته. فكما صلح أن يسأل عما يعلم و يلتمس من عبده و نبيه الجواب فكذلك يشرط من فعل ما يعلم، حتى كأنه عند الجاهل لا يعلم» (1) .

و الفكرة المطروحة هنا، أعني فكرة المخاطبة على حسب اعتقاد المخاطب و على

ص: 157


1- 75. الانتصار/118-119 و انظر أيضا الأمالي 165/1-169 مناقشة بين واصل و عمرو بن عبيد تؤكد الفكرة التي نذهب إليها.

قدر عقله، و على قدر ما تتسع له لغته بمواضعتها و أبنيتها، لو وسعها المعتزلة قليلا ليناقشوا على أساسها كل الآيات التي اعتبروها متشابهات لاقتربوا بذلك من التحليل السليم لهذه الآيات، و لأدركوا جوهر المشكلة المعقدة التي واجهتهم و هي «أن الوحي قد اختار اللغة العربية كنظام إشاري عام بين اللّه و الانسان» (1) و هي لغة بطبيعتها بشرية و محدودة، لا تتسع إلاّ لمدارك البشر و معارفهم. و لكن هذه الفكرة - فكرة المخاطبة على قدر عقل المخاطب و اعتقاده - ظلّت للأسف فكرة جزئية، يلجأ إليها المعتزلة في تأويل بعض الآيات. و الفراء في المثال السابق يريد أن ينفي الجهل عن اللّه، و من ثم يلجأ إلى هذه الفكرة التي تكشف عن هدفه لكنها تظل فكرة جزئية تدور في اطار نحوي هو تقدير محذوف هي كلمة (عندك) أو (عندكم).

و لقد كانت هذه الفكرة نفسها - حتى مع ضيقها و جزئيتها - كفيلة بأن تحل مشكلة الآيات التي تنسب إلى اللّه افعال البشر من المكر و العجب و كافة الانفعالات الانسانية. لكن الفراء يطرحها وراء ظهره تماما حين يتعرّض لمثل هذه الآيات.

ففي قوله تعالى وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللّهُ يقول:«نزل هذا في شأن عيسى إذ أرادوا قتله، فدخل بيتا فيه كوّة و قد أيده اللّه تبارك و تعالى بجبريل صلى اللّه عليه و سلم، فرفعه إلى السماء من الكوّة (2) و دخل عليه رجل منهم ليقتله، فألقى اللّه على ذلك الرجل شبه عيسى بن مريم. فلما دخل البيت فلم يجد فيه عيسى خرج إليهم و هو يقول: ما في البيت أحد، فقتلوه و هم يرون أنه عيسى. فذلك قوله وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللّهُ و المكر من اللّه استدراج، لا على مكر المخلوقين» (3) و بذلك يعتمد الفراء على الموروث القصصي لينفي المكر بالمعنى الانساني عن اللّه.

فإذا انتقل إلى آية أخرى هي قوله تعالى: بَلْ عَجِبْتَ وَ يَسْخَرُونَ راح يرجح بين القراءات. يقول:«قرأها الناس بنصب التاء و رفعها و الرفع إلي أحب لأنها قراءة علي و ابن مسعود و عبد اللّه بن عباس... قال شقيق: قرأت عند شريح بَلْ عَجِبْتَ وَ يَسْخَرُونَ فقال: إن اللّه لا يعجب من شيء، إنما يعجب من لا يعلم. قال: فذكرت ذلك لابراهيم النخعي فقال: إن شريحا شاعر يعجبه علمه، و عبد اللّه أعلم بذلك منه. قرأها (بل عجبت). قال أبو زكريا: و العجب و إن أسند إلى اللّه فليس معناه من اللّه كمعناه من العباد و كذلك قوله اَللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ليس ذلك من اللّه كمعناه من العباد ففي هذا بيان بكسر قول شريح.

و إن كان جائزا، لأن المفسرين قالوا: بل عجبت يا محمد و يسخرون هم. فهذا وجه النصب» (4) .و الفراء، و إن انتهى إلى اختيار قراءة الرفع، لا يجد مفرّا من القول بأن عجب اللّه ليس كعجب المخلوقين، دون أن يبين ذلك أو يوضحه. و مع

ص: 158


1- 76.167/2.
2- 77. الخياط: الانتصار/73.
3- 78. الخياط: الانتصار/73-74.
4- 79. السابق/74.

ذلك يجد لقراءة النصب وجها على قول المفسرين.

و في آية أخرى يختار الفراء القراءة التي تتفق مع التنزيه في تصوره، و ذلك في قول تعالى هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ يقول «بالتاء و الياء. قرأها أهل المدينة و عاصم بن أبي النجود و الأعمش بالياء:(يستطيع ربك) و قد يكون ذلك على قولك: هل يستطيع فلان القيام معنا؟ و أنت تعلم أنه يستطيعه، فهذا وجه. و ذكر عن علي و عائشة رحمهما اللّه أنهما قرآ (هل تستطيع ربك) بالتاء، و هذا وجه حسن، أي هل تقدر أن تسأل ربك (أن ينزل علينا مائدة من السماء) (1) و لم تكن الآية في حاجة للترجيح بين القراءتين، فسياق الآية يحتمل قراءة الياء على أساس أن القول صادر من الحواريين الذين كثيرا ما أرهقوا الرسل بمطالبهم. و الآية - بعد ذلك - في سياق قصصي و لا تحتاج لتأويل من وجهة نظر المسلم العادي، فضلا عن المعتزلي.

و في قوله تعالى وَ لِلّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ تثير كلمة ميراث بما تتضمنه من معنى الحصول على شيء، شيئا من الخشية، و هي خشية واردة خصوصا من أولئك الذين لا يدركون أسرار اللغة، و من ثم يصبح الشرح و التبسيط وسيلة لا غنى عنها، و يصبح المعنى «يميت اللّه أهل السموات و أهل الأرض و يبقى وحده، فذلك ميراثه تبارك و تعالى أنه يبقى و يفنى كل شيء» (2) .

فإذا انتقلنا لمناقشة وقفات الفراء أمام الآيات التي تثبت للّه جوارح، وجدنا أن استشهاد الفراء بالشعر لا يحل له المشكلة، فالواقع أن التصور التنزيهي الكامل للذات الالهية - كما يبتغيه المعتزلة - يبدو غاية في الصعوبة بحكم حسية اللغة من جانب، و التصورات البشرية للوجود من جانب آخر. فاللغة مليئة بالعبارات التي تسند للموجودات أحاسيس البشر و جوارح البشر، فنحن نقول «عنق الزجاجة» و «رجل الكرسي».. الخ هذه العبارات التي تستعير من الجسم الانساني لتعبّر عمّا هو غير انساني.«و الحق أن جسم الانسان يعدّ قطّاعا من القطاعات البارزة التي تنتقل الكلمات منها و إليها، أو قل إنه مركز الانتشار و الجاذبية» (3) المعضلة إذن في استخدام اللغة للتعبير عن اللّه، أنك لا تستطيع أن تنجو من التشبيه مهما حاولت.

و لقد أدرك الداعي أحمد حميد الدين الكرماني هذه المعضلة، و هاجم المعتزلة لأنهم «قالوا بأفواههم قول الموحدين و اعتقدوا بأفئدتهم اعتقاد الملحدين، بنقضهم قولهم أولا بأن اللّه لا يوصف بصفات المخلوقين باطلاقهم على اللّه سبحانه و تعالى ما يستحقه غير اللّه تعالى من الصفات من القول بأنه حي عالم قادر فسائر الصفات» (4) .و بصرف النظر عن هذه الحدة في الهجوم و الاتهام، فالأساس الذي يعتمد عليه الكرماني - و بصرف النظر عن نتائجه عنده - هو معضلة اللغة التي

ص: 159


1- 80. راجع رأي المرجئة مفصلا في المقالات 229/1-230.
2- 81. انظر الشريف المرتضى: الأمالي 165/1-169، القاضي عبد الجبار: فرق و طبقات المعتزلة/50-51.
3- 82. الخياط: الانتصار/119.
4- 83. ناجي حسن: ثورة زيد بن علي/148.

أشرنا إليها «و إذا كانت الأسماء و الصفات و الألفاظ مشاكلة لما تدل عليه، و كانت الأسماء و الألفاظ مؤلفة من الحروف البسيطة التي تبنى سائر اللغات منها، و الحروف محدثة، كان ما تدل عليه و توجبه في مثل حالها محدثا، و إذا كان ما تدل عليه الحروف المركبة في اللغات كلها محدثا، مثلها على ما بيناه و هو تعالى كبرياؤه ليس بمحدث، فقد استبان امتناع الحروف المركبة الحادثة عنها اللغات عن أن يكون لها سلوك في الدلالة على ما يليق بكبريائه، بكونه تعالى مباينا للمحدثات و غير مناسب لها و لا من جوهرها، و إذا كان مباينا للمحدثات فقد حصل اليأس بالكلية من أن تكون للالفاظ و العبارات دلالة على شيء يستحقه تعالى اللّه سبحانه، و أسفر عن صدق الموحدين بأنه لا يعرب عنه بلفظ قول و لا بعقد ضمير، و كيف يكون للحروف دلالة على هوية ظهرت عنها المبدعات و المنبعثات و المكونات التي منها هي، و هو تعالى من ورائها في ذروة العزة فلا تهتدي العقول إلى تناوله بصفة، أم كيف يكون للعقل طريق إلى تصور فيه و هي لا تعقل إلاّ بما شملته سمة الجوهرية و العرضية! كلا إنه من العلاء في سمائه و من الكمال في روائه فسبحانه من إله لا تعرب عنه الألفاظ و العبارات بشيء إلاّ و كان ذلك الشيء تحت اختراعه» (1) و إذا كان الكرماني ينتهي بنا إلى اليأس المطلق من امكانية التعبير عمّا جاوز الواقع الحسي بلغة الواقع و الحس، و يعتبر أن اثبات أي صفة من صفات اللغة المعروفة للّه المتعالي كذب محض (2) فإنه يحاول حل المعضلة عن طريق استخدام النفي بدل الاثبات في وصفه عز و جل (3) و مع هذا كله فقد نزل القرآن للناس كافة، و كان لا بدّ من التعبير عن هذا الموجود اللامتناهي بلغة الحس المتناهية، و من أجل ذلك استخدم القرآن اللغة التصويرية ليخاطب الناس على قدر عقولهم.

من الطبيعي بعد ذلك كله ألاّ تفلح دائما محاولة رد القرآن للشعر العربي، خصوصا فيما يتصل بآيات الصفات. و من الطبيعي كذلك أن يقع الاختلاف بين الفرق، و لنر الآن ما ذا فعل الفراء.

يقول الفراء في قوله تعالى كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ «إلاّ هو». و قال الشاعر:

استغفر اللّه ذنبا لست محصيه رب العباد إليه الوجه و العمل

أي إليه أوجه عملي» (4) و الاستشهاد بالشعر هنا لا يحل المشكلة، فالشاعر حين يتحدث عن وجهه و عمله، لا يعني أن كلمة الوجه هنا تعني الذات الانسانية كلها كما هو مقصود الفراء بتأويل الآية «إلاّ هو» و إذا كان قد حاول الاستشهاد بالشعر في هذه الآية، فإنه في آية أخرى هي قوله تعالى يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ يمر بها

ص: 160


1- 84. الملل و النحل 154/1-155.
2- 85. السابق 156/1.
3- 86. القاضي عبد الجبار: فرق و طبقات المعتزلة/29.
4- 87. السابق/17.

مرورا سريعا ليقول «بالوفاء و العهد» (1) .و قد سبق أن توقفنا عند هذه الآية مع مقاتل و رأينا كيف نجح الزمخشري عن طريق ادراك البعد التصويري للآية ان يتخلّص من الحرج. و تستحق كلمة «الساق» في قوله تعالى يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وقفة أطول من الفراء و ذلك لتوجيه الحركة على الياء في «يكشف» ثم الاستشهاد على الاستعمال المجازي للفظ «ساق» ثانيا. يقول:«القراء مجتمعون على رفع الياء... عن ابن عباس أنه قرأ يوم تكشف عن ساق يريد القيامة و الساعة لشدتها. و أنشدني بعض العرب لجد أبي طرفة:

كشفت لهم عن ساقها و بدا الشر لا براح» (2)

و إذا كان التعبير باليد في قوله تعالى يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ لم يحتج إلى كبير جهد لتفسير اليد على أنها «بالوفاء و العهد» فإن التعبير «بيدي استكبرت» قد يلغي فكرة التجاوز، أو على الأقل يعوقها، على أساس أن تثنية اليد يؤكّد إرادة معناها الحقيقي لا المجازي، و لهذا فهو يحتاج إلى وقفة أطول. و هدف الفراء من هذه الوقفة أن يساوي في الدلالة بين المفرد و المثنى فيقول:«اجتمعت القرّاء على التثنية و لو قرأ قارئ (بيدي) يريد يدا واحدة كان صوابا كقول الشاعر:

أيها المبتغي فناء قريش بيد اللّه عمرها و الفناء

و الواحد من هذا يكفي عن الاثنين، و كذلك العينان و الرجلان و اليدان تكتفي احداهما من الأخرى، لأن معناهما واحد» (3) و يكاد الفراء - لو لا الخشية - يقترح قراءة للإفراد يفضلها على قراءة المثنى لأنها أسهل في التأويل من صيغة المثنى.

و يواصل الفراء عملية التأويل للآيات التي توهم الحلول في المكان أو التحيز في الجهة. فإذا أخبر اللّه عن نفسه بقوله: وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ فمعنى ذلك أن «كل شيء قهر شيئا فهو مستعل عليه» (4) و إذا وصف نفسه بأنه هو «الظاهر و الباطن» فهذا ليس ظهورا ماديا متحيزا بل «الظاهر» على كل شيء علما، و كذلك «الباطن» على كل شيء علما» (5) و كذلك لا يجوز على اللّه الاتيان و التحرك و المجيء، فإن قال هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ فالتفسير أن «اتيان الملائكة لقبض ارواحهم (أو يأتي ربك): القيامة (أو يأتي بعض آيات ربك): طلوع الشمس من مغربها» (6) .

و مما قد يوهم الجهة قوله تعالى فَفِرُّوا إِلَى اللّهِ و يكون تفسيرها «فروا إليه إلى طاعته من معصيته» (7) و قد يكون من الضروري الاشارة إلى أن كل هذه التأويلات لا تسلم للمعتزلة من النقد، و إن وافقهم على بعضها خصومهم، فتسوية

ص: 161


1- 88. القاضي عبد الجبار: فرق و طبقات المعتزلة 31،18.
2- 89. السابق/32.
3- 90. راجع القصة كلها: طبقات المعتزلة/44-46. و يقول الشهرستاني عن جعفر بن محمد أنه «دخل العراق و أقام بها مدة ما تعرض للامامة قط، و لا نازع أحدا في الخلافة قط» الملل و النحل 166/1.
4- 91. الملل و النحل 155/1.
5- 92. ناجي حسين: ثورة زيد بن علي/109.
6- 93. القاضي عبد الجبار: فرق و طبقات المعتزلة/44.
7- 94. الأمالي:175/1. حاول المعتزلة أحيانا احتواء بعض الخلفاء و ترشيدهم دون اللجوء للسيف كما فعلوا مع يزيد بن الوليد بن عبد الملك و محمد بن مروان آخر خلفاء بني أمية. انظر محمد اسماعيل: الحركات السرية في الاسلام/141.

الفراء بين المفرد و المثنى في اليد في قوله تعالى ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ يرد عليه ابن القيم الجوزية على أساس أنه تأويل «ما لم يحتمل اللفظ ببنيته الخاصة من تثنية أو جمع، و إن احتمله مفردا» (1) «و لا ريب أن العرب تقول: لفلان عندي يد. و قال عروة بن مسعود للصديق رضي اللّه عنه لو لا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك. و لكن وقوع اليد في هذا التركيب الذي أضاف سبحانه فيه الفعل إلى نفسه ثم تعدّى الفعل إلى اليد بالباء التي هي نظير كتبت بالقلم و جعل ذلك خاصة خصّ بها صفيه آدم دون البشر كما خصّ المسيح بأنه نفخ فيه من روحه و خصّ موسى بأنه كلمه بلا واسطة» (2) و بذلك ينظر ابن القيم نظرة أعمق إلى التركيب تحيل تأويل اليد على أنها النعمة. و يرى أيضا أن في تأويل هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ بأن اتيان الرب اتيان بعض آياته التي هي أمره، و هذا يأباه السياق كل الإباء فإنه يمتنع حمله على ذلك مع التقسيم و التنويع و الترديد (3) و يستطيع الزمخشري أن يتخلّص من كل هذه الردود بقدرته العميقة على التحليل البلاغي للنص القرآني، فاليدان مثلا يصبحان عنده «أن ذا اليدين يباشر أكثر أعماله بيديه، فغلب العمل باليدين على سائر الأعمال التي تباشر بغيرهما حتى قيل في عمل القلب: هو مما عملت يداك» (4)

فإذا انتقلنا بعد ذلك إلى الآيات التي ترتبط بالعدل، و هو المبدأ الثاني من مبادئ المعتزلة، و الذي يتضمن نفي الظلم عن اللّه، و نفي أن يكون فعل العبد مخلوقا فيه على غير ارادته و ميله، نجد أن مسلك الفراء - أيضا - هو التأويل، و نجده قد مهّد السبيل في كثير من الآيات لكثير من المعتزلة بعده ليسيروا على نفس الطريق الذي مهّده، كما نجده في أمثلة كثيرة يختلف عن معاصره - أبي عبيدة - في تأويل الآيات و شرحها. نجد هذا الخلاف واضحا في قوله تعالى أَمَرْنا مُتْرَفِيها فأبو عبيدة قرأها «أمرنا» على وزن أفعل و فسّرها بأنها بمعنى أكثرنا، و ذلك ليتفادى القول بارادة اللّه للقبيح، و هو خارجي يتفق مع المعتزلة في مبدأ العدل و حرية الانسان.

و لكن الفراء يتجه اتجاها آخر فهو يقبل القراءة المشهورة «أمرنا» يقول:«قرأ الأعمش و عاصم و رجال من أهل المدينة (أمرنا) خفيفة. حدثنا محمد قال حدثنا الفراء قال حدثني سفيان ابن عيينة عن حميد الأعرج عن مجاهد (أمرنا) خفيفة و فسر بعضهم (أمرنا مترفيها) بالطاعة (ففسقوا) أي أن المترف إذا أمر بالطاعة خالف إلى الفسوق» (5) و هو التأويل الذي قبله القاضي عبد الجبار و رفضه الزمخشري كما أسلفنا. و اعتراض الزمخشري قائم على أساس أن في الآية على هذا التأويل محذوفا لا يدل عليه السياق.

ص: 162


1- 95. الأشعري: مقالات الاسلاميين 154/1.
2- 96. المرتضى: الأمالي 169/1.
3- 97. انظر محمود اسماعيل: الحركات السرية في الاسلام/140،133.
4- 98. محمد عمارة: رسائل العدل و التوحيد. المقدمة/67.
5- 99. المعتزلة/64.

أمّا قوله تعالى: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ فهو يثير إشكال العموم و الخصوص، فأهل السنة يرون أنها مخصصة بدليل قوله تعالى وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ، و يرى المعتزلة أن الآية عامة ليس فيها تخصيص و أن اللّه «خلقهم ليفعلوا ففعل بعضهم و ترك بعض، و ليس فيه لأهل القدر حجة» كما قال الفراء (1) و يتفق القاضي عبد الجبار (2) و الزمخشري (3) مع الفراء في هذا التفسير مع قليل من الاضافات الكلامية الضرورية. و على ذلك فالآية تعدّ من المحكم عند المعتزلة لأنهم يأخذونها بظاهرها دون حاجة لتأويل. أمّا الآية التي يستشهد بها أهل السنة فالمعتزلة يتأولونها على أن فيها مجازا و حذفا، و أن اللام في «لجهنم» ليست لام تعليل و لكنها لام العاقبة. و هكذا يتحوّل المجاز إلى سلاح تأويلي لرفض التناقض بين المحكم و المتشابه، و هو في النهاية يخضع للأساس العقلي الذي يستند إليه المعتزلة في عملية التأويل كلها.

و بنفس الطريقة ينفي الفراء عن اللّه أن يريد الكفر، و لذلك يقول في قوله تعالى وَ إِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ «يرضى لكم الشكر. و هذا مثل قوله:

فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً أي فزادهم قول الناس، فإن قال قائل: كيف قال وَ لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ و قد كفروا؟ قلت: إنه لا يرضى أن يكفروا فمعنى الكفر: أن يكفروا. و ليس معناه الكفر بعينه. و مثله مما بينه لك أنك تقول: لست أحب الاساءة، و اني لأحب أن يسيء فلان فيعذب فهذا مما يبين لك معناه» (4) .

و المأزق الذي يحاول الفراء الخروج منه مأزق دقيق جدا، فإذا كان اللّه لا يرضى لعباده الكفر، و منهم من كفر فعلا. فمعنى ذلك أنه قد وقع في ملك اللّه ما لا يرضاه. و يخرج الفراء من المأزق بالتفرقة بين المصدر الصريح «الكفر» و المصدر المؤول «أن يكفر» و على ذلك فاللّه لا يرضى من الكفار أن يكفروا، أي لا يرضى منهم فعل الكفر. و يوضح المثل الذي ضربه الفراء هذه التفرقة، و الفراء يحاول أن يثبت أن الكفر من فعل العباد و واقع منهم، لا من فعل اللّه.

و التعبير القرآني نفسه وَ لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ ينقلنا إلى جو آخر بعيد عن ذلك التأويل الجامد. فالتعبير بالفعل «يرضى» و اضافة العباد إلى الهاء الراجعة إلى اسم الجلالة يخلق جوا من الألفة و القرب بين اللّه و هؤلاء العباد (عباده)، و يكون عدم الرضا في هذه الحالة أقرب إلى اللوم الهادئ. قد يمكن للمعتزلي - في هذه الحالة - أن يعتبر اللوم دليلا على مسئولية الانسان عن الفعل، و نفي مسئولية اللّه، لكن ذلك يظلّ استنتاجا عقليا بعيدا عن روح الآية و ما توحيه في نفس القارئ من قلق من عدم رضا سيده و مولاه.

ص: 163


1- 100. القاضي عبد الجبار: فرق و طبقات المعتزلة/38،32.
2- 101. انظر المرجع السابق/38-41.
3- 102. انظر زهدي جار اللّه: المعتزلة/26 و ما بعدها.
4- 103. انظر القاضي عبد الجبار: فرق و طبقات المعتزلة/46-47.

4 - المحكم و المتشابه كأساس للتأويل

أ - الامام القاسم الرس

إذا كان كل من أبي عبيدة و الفراء و قبلهما الحسن البصري و المفسرون لم يربطوا تأويلاتهم بقانون عام أو قواعد ثابتة، فإن المعتزلة بسبب اعتمادهم على العقل و أدلته حاولوا أن يضعوا أصولا عامة للتأويل تسمح لهم بتأويل آيات القرآن تأويلا يتفق مع أصولهم العقلية في العدل و التوحيد، و في نفس الوقت تمنع خصومهم من الاستدلال و التأويل على عكس هذه الأصول أو ضدها. و لقد وجدوا في «المحكم و المتشابه»- هذه المشكلة القديمة - منفذا لارساء ضوابط للتأويل. و إذا كان القرآن نفسه قد سكت عن تحديد المحكم و المتشابه و إن أشار إلى ضرورة رد المتشابه إلى المحكم، فإن المعتزلة اعتبروا كل ما يدعم وجهة نظرهم محكما يدل بظاهره، و كل ما يخالف هذا الوجهة اعتبروه متشابها يجوز، بل يحق لهم تأويله.

و بذلك نقلوا الخلافات العقلية الاستدلالية إلى القرآن على أساس وجود المحكم و المتشابه فيه. و كان من الطبيعي أن يلجأ خصوم المعتزلة لنفس السلاح فيعتبروا ما يدعم وجهة نظرهم محكما، و ما يدعم وجهة نظر المعتزلة متشابها.

و تجدر الاشارة في هذا المجال إلى أن خصوم المعتزلة كانوا دائما يستفيدون من نهج المعتزلة في النظر و التأويل و إن خالفوهم في النتائج دائما. و ليس ذلك بغريب فأبو الحسن الأشعري (ت 330 ه) خصم المعتزلة اللدود قد تربّى على فكر المعتزلة، بل و في حجر شيخهم أبي علي الجبائي.

و أول محاولة تكشف عن هذا الربط بين الأصول العقلية للمعتزلة و بين قضية المحكم و المتشابه هي رسالة القاسم الرس (ت 246 ه)«كتاب أصول العدل و التوحيد». و هو في هذه الرسالة يقسم العبادة التي هي الغاية من خلق المكلفين وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ إلى ثلاثة أقسام «أولها معرفة اللّه. و الثاني:

معرفة ما يرضيه و ما يسخطه. و الوجه الثالث: اتباع ما يرضيه و اجتناب ما يسخطه» (1) و لكل عبادة من هذه العبادات حجج هي على الترتيب «العقل و الكتاب و الرسول». فالعقل هو الحجة التي تؤدي بنا إلى معرفة اللّه بعدله و توحيده و كل صفاته و ما يجوز عليها منها و ما لا يجوز. و الكتاب هو الحجة التي نعلم عن طريقها أوامر اللّه و نواهيه، و معرفة ما يرضيه و ما يسخطه. و السنّة أو الرسول هي الحجة الثالثة التي تؤدي بنا إلى معرفة كيفية اتباع أوامر اللّه و اجتناب نواهيه، أو

ص: 164


1- 104. المرجع السابق/44.

بألفاظ أخرى هي الموضحة و المبينة لحجة الكتاب. و يجعل القاسم الرسى «العقل أصل الحجتين الأخيرتين، لأنهما عرفا به، و لم يعرف بهما» (1) .

و تنقسم هذه الحجج الثلاث إلى أصول و فروع، فالعقل - كما سبق أن أشرنا - ينقسم إلى ضروري و اكتسابي. و الضروري هو أصل للاكتسابي «و إنما وقع الاختلاف في ذلك لاختلاف النظر و التمييز فيما يوجب النظر و الاستدلال بالدليل الحاضر المعلوم على المدلول عليه الغائب المجهول. فعلى قدر نظر الناظر و استدلاله يكون دركه لحقيقة المنظور فيه و المستدل عليه» (2) .

و الحجة الثانية من حجج العبادة و هي حجة الكتاب تنقسم أيضا إلى أصول و فروع «و أصل الكتاب هو المحكم الذي لا اختلاف فيه، الذي لا يخرج تأويله مخالفا لتنزيله، و فرعه المتشابه من ذلك فمردود إلى أصله الذي لا اختلاف فيه بين أهل التأويل» (3) و هكذا ترتبط قضية التأويل و المحكم و المتشابه بالنسق العام للفكر الاعتزالي، و لا تصبح مهمة المفسّر - و الحالة هذه - مجرد الشرح و التوضيح، بل لا بدّ من أن تتوافر فيه مجموعة من الشروط، أهمها و أخطرها في نفس الوقت تلك القدرة العقلية على معرفة ما يجوز على اللّه و ما لا يجوز عليه. و لا يصبح العلم بالعربية و تراكيبها كافيا، بل يأتي في الدرجة الثانية من المعرفة العقلية «اعلم أنه لا يكفي في المفسّر أن يكون عالما باللغة العربية، ما لم يعلم معها النحو و الرواية، و الفقه الذي هو العلم بأحكام المشرّع و أسبابها، و لن يكون المرء فقيها عالما بأحكام الشرع و أسبابها إلاّ و هو عالم بأصول الفقه، التي هي أدلّة الفقه و الكتاب و السنّة و الإجماع و القياس و الأخبار و ما يتصل بذلك. و لن يكون عالما بهذه الأحوال إلاّ و هو عالم بتوحيد اللّه تعالى و عدله، و ما يجب له من الصفات و ما يصح و ما يستحيل و ما يحسن منه فعله و ما لا يحسن منه فعله بل يقبح، فمن اجتمع فيه هذه الأوصاف و كان عالما بتوحيد اللّه و عدله و بأدلّة الفقه و أحكام الشرع، و كان بحيث يمكنه حمل المتشابه على المحكم و الفصل بينهما، جاز له أن يشتغل بتفسير كتاب اللّه تعالى، و من عدم شيئا من هذه العلوم فلن يحل له التعرّض لكتاب اللّه جل و عز، اعتمادا على اللغة المجردة، أو النحو المجرد، أو الرواية فقط.

يبين ما ذكرناه و يوضحه، أن المفسّر لا بدّ من أن يكون بحيث يمكنه حمل قوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ على قوله قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ و قوله وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إلى قوله وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ و هكذا الحال في غيرها من الآيات المتشابهة و المحكمة.

فهذا هو الذي يجب أن يكون عليه المفسّر من الأوصاف (4) و في رسالة

ص: 165


1- 105. الملل و النحل 46/1، و انظر أيضا محمد عبد الهادي أبو ريده: إبراهيم بن سيّار النظّام و آراؤه الكلامية/80. 1. راجع في هذا الصدد ما يرويه صاحب «فرق و طبقات المعتزلة» من فشل الفقهاء في التصدي لمجادلة أصحاب الأديان الأخرى، و اضطرار الرشيد للاستعانة في ذلك بالمتكلمين/63 - 65. 2. المرجع السابق/55-56، و انظر البغدادي: الفرق بين الفرق/131. 3. انظر بحث جولد تسيهر عن هذا الحديث: العناصر الأفلاطونية المحدثة و الغنوصية في الحديث/218 و ما بعدها. التراث اليوناني في الحضارة الاسلامية. 4. عبد المنعم ماجد: العصر العباسي الأول 67/1 و انظر أيضا أوليري: الفكر العربي و مركزه في التاريخ/60-61. 5. محمود اسماعيل: الحركات السرية في الاسلام/135. 6. الأشعري: مقالات الاسلاميين 214/1. 7. المرجع السابق 217/1. 8. علي مصطفى الغرابي: أبو الهذيل العلاف/90 نقلا عن المقالات. 9. البغدادي: الفرق بين الفرق/129. 10. ماجد فخري: دراسات في الفكر العربي/78. 11. الخياط: الانتصار/28. 12. البغدادي: الفرق بين الفرق/138. 13. القاضي عبد الجبار: المغني في أبواب التوحيد و العدل 11/9. 14. السابق 12/9. 15. الجاحظ: الحيوان 36/5. 16. البغدادي: أصول الدين/6. 17. الخياط: الانتصار/40-41. 18. الحيوان 542/5-543. 19. الحيوان 56/7. 20. السابق 42/1. 21. السابق 116/2. 22. الشهرستاني: الملل و النحل 75/1. و أنظر أيضا البغدادي: الفرق بين الفرق/175. 23. المغني في أبواب التوحيد و العدل 11/9. 24. البغدادي: الفرق بين الفرق/175-176. 25. انظر حسين القوتلي: مقدمة «العقل»، «فهم القرآن»/107 نقلا عن ابن الأثير و الخطيب البغدادي. 26. البغدادي: أصول الدين/308. 27. أبو الحسن الأشعري: مقالات الاسلاميين 346/1. 28. الباقلاني: الانصاف/127. 29. الحارث المحاسبي: العقل/203. 30. المرجع السابق/205. 31. المرجع السابق/201-202. 32. المرجع السابق/232. 33. العقل/215. 34. السابق/216. 35. السابق/207. 36. محمد عبد الهادي أبو ريده: مقدمة كتاب «التمهيد» للباقلاني/14. 37. الشهرستاني: الملل و النحل 97/1. 38. المرجع السابق 98/1. 39. التمهيد/34 و انظر الانصاف/12. 40. المرجع السابق/35، الانصاف/13. 41. المرجع السابق/35، الانصاف/13. 42. المرجع السابق/نفس الصفحة، الانصاف/نفس الصفحة. 43. الانصاف/13. 44. التمهيد/37. 45. السابق/نفس الصفحة. 46. السابق/نفس الصفحة. 47. السابق/36. 48. الانصاف/13. 49. الانصاف/14 و في التمهيد/40 هو تقسيم المستدل و فكره في المستدل عليه و تأمله له. 50. الانصاف/14. 51. التمهيد/38-39. 52. التمهيد/39. 53. التمهيد/39. 54. الانصاف/18. 55. انظر عبد الرحمن بدوي: في النفس. المقدمة/2. 56. مفاتيح العلوم/81. 57. الشريف الجرجاني: التعريفات/81. 58. الشريف الجرجاني: التعريفات/81. 59. الشريف الجرجاني: التعريفات/81. 60. الشهرستاني: الملل و النحل 82/1. 61. الشهرستاني: الملل و النحل 49/1. 62. الشهرستاني: الملل و النحل 95/1. 63. الملل و النحل 85/1. 64. المغني في أبواب التوحيد و العدل 354/16. 65. الملل و النحل 81/1. 66. القاضي عبد الجبار: المغني 403/16. 67. القاضي عبد الجبار: المغني 174/4-175. 68. انظر القاضي عبد الجبار: المغني 93/11 و ما بعدها. 69. القاضي عبد الجبار: المغني 371/11-372. 70. المغني 372/11. 71. المغني 375/11. 72. المغني 380/11. 73. المغني 380/11. 74. المغني 229/13-230. 75. المغني 47/12. 76. المغني 48/12. 77. المغني 48/12. 78. المغني 326/4. 79. المغني 16/12. 80. المغني 13/12. 81. المغني 58/12. 82. الحيوان 207/1. 83. المغني في أبواب التوحيد و العدل 383/11. 84. المغني في أبواب التوحيد و العدل 384/11. 85. البغدادي: أصول الدين/24. 86. المغني في أبواب التوحيد و العدل 375/11. 87. المغني في أبواب التوحيد و العدل 483/11-484. 88. المغني في أبواب التوحيد و العدل 387/12. 89. المغني في أبواب التوحيد و العدل 11/12. 90. المغني في أبواب التوحيد و العدل 12/12. 91. الحيوان 35/6-36. 92. المغني 401/12. 93. المغني 402/12-403. 94. المغني 44/12. 95. المغني 431/12-432 و انظر أيضا ص 433 صياغة أخرى للخاطر. 96. القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة/68، و انظر المغني 210/11. 97. القاضي عبد الجبار: المغني 11/12. 98. المغني 349/16 و انظر أيضا نفس المصدر 152/15. 99. انظر القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة/65-66 و أنظر أيضا ماجد فخري: دراسات في الفكر العربي/96. 100. القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة/66. 101. القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة/66. 102. القاضي عبد الجبار: المغني 215/8. 103. انظر زهدي جار اللّه: المعتزلة/72 و ما بعدها. 104. الأشعري: المقالات 245/1. 105. المغني في أبواب التوحيد و العدل 136/7.
2- 106. المغني في أبواب التوحيد و العدل 92/7.
3- 107. الباقلاني: الانصاف/23.
4- 108. و القضية على أي حال طرحت في القديم من وجهة نظر فلسفية عند اليونان، و ليست لدينا قرائن تؤيد أو تنفي اطلاع المفكرين المسلمين على هذا الجانب من الفكر اليوناني. و من وجهة نظر الكتب المقدسة فالقضية مطروحة في العهد القديم بشكل يوحي أن آدم هو الذي أعطى للأشياء أسماءها. فقد جاء في سفر التكوين بعد خلق آدم «و قال الرب الإله ليس جيدا أن يكون آدم وحده. فأصنع له معينا نظيره. و جبل الرب الإله من الأرض كل حيوانات البرية و كل طيور السماء. فأحضرها إلى آدم ليرى ما ذا يدعوها. و كل ما دعا به آدم ذات نفس حية فهو اسمها. فدعا آدم بأسماء جميع البهائم و طيور السماء و جميع حيوانات البرية». فالعهد القديم ينسب إلى آدم تسمية الأشياء التي عرضها الرب عليه، و هي تسمية صارت لها فيما بعد، بمعنى أن آدم هو الذي وضع الأسماء دون أن يتلقى من اللّه تعليما مباشرا لهذه الأسماء.(الاصحاح الثاني/19-21 و قد راجعت النص على الأصل العبري بمعونة الأستاذ الدكتور محمود فهمي حجازي فوجدناه مطابقا.).

أخرى للقاسم الرس بعنوان «كتاب العدل و التوحيد و نفي التشبيه عن اللّه الواحد الحميد» يتعرّض لمناقشة الآيات القرآنية التي يستدل بها كل من المشبهة و المجبرة، و يؤولها تأويلا يتفق مع أصول الفكر الاعتزالي و هي كلها تأويلات تخضع لذلك القانون العام، قانون رد المتشابه إلى المحكم، و هو يعرض للآيات المتشابهة التي يستند إليها المشبّهة، ثم يؤول هذه الآيات كلها آية آية حسب معتقد المعتزلة في التنزيه و نفي مشابهة اللّه للبشر. يقول «و تأوّلت أيضا المشبّهة قول اللّه، تبارك و تعالى: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ و قوله: وَ الْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ السَّماواتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ، و قوله: وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا، و قوله: وَ كَلَّمَ اللّهُ مُوسى تَكْلِيماً، و قوله: سَمِيعٌ بَصِيرٌ، و قوله: وَ يُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ و قوله:

كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ، ففسروا ذلك على ما توهموا من أنفسهم و بأن اللّه، عز و جل، عندهم في ذلك على معاني المخلوقين و صفاتهم في هيئاتهم و أفعالهم، فكفروا باللّه العظيم، و عبدوا غير اللّه الكريم» (1) .

و يهمنا أن نتوقف عند تأويل القاسم الرسى لبعض هذه الآيات لنرى نمو الطريقة الجدلية في التأويل عمّا وجدناه عند الحسن البصري و الفراء، و هو نمو يكشف عن الارتباط الكامل بين قضايا التأويل و المحكم و المتشابه و الفكر الاعتزالي عامة.

و معظم هذه الآيات سبق أن تعرّضنا لها عند أبي عبيدة و الفراء، و حتى لا نقع في تكرار ما سبق أن ناقشناه - و القاسم لا يكاد يضيف في تأويلاته لها جديدا - سنتوقف أمام صفة الكلام في قوله تعالى وَ كَلَّمَ اللّهُ مُوسى تَكْلِيماً. و الآية تجعل القاسم يثير قضية خلق القرآن، و هي قضية خلافية حادة بين المعتزلة و أهل السنة بكل اتجاهاتهم و مذاهبهم، و كان لها صدى سياسي سيّئ الأثر، انتهى بالقضاء إلى ازدهار الفكر الاعتزالي. و قوله: وَ كَلَّمَ اللّهُ مُوسى تَكْلِيماً، فذهبت المشبّهة إلى أن اللّه، تعالى عمّا قالوا علوّا كبيرا، يكلم بلسان و شفتين، و خرج الكلام منه كما خرج من المخلوقين، فكفروا باللّه العظيم حين ذهبوا إلى هذه الصفة. و معنى كلامه، جلّ ثناؤه، لموسى صلوات اللّه عليه، عند أهل الايمان و العلم، أنه أنشأ كلاما خلقه كما شاء فسمعه موسى، صلى اللّه عليه و فهمه» (2) .

و القاسم هنا يريد أن ينفي عن اللّه صفة الكلام بمعناه الحسي الحرفي، و يخرج من ذلك لمناقشة مشكلة خلق القرآن، و يستدل على حدوث القرآن - الكلام الالهي - بآيات أخرى من القرآن. و لا يخرج هذا الاستدلال بعمومه عن الآيات التي استدلّ بها القاضي عبد الجبار على حدوث القرآن و خلقه» (3) .

و الخلاف بين المعتزلة و خصومهم جميعا في هذه القضية ناشئ عن تحديد

ص: 166


1- 109. القاضي عبد الجبار: المغني 106/15.
2- 110. الصواعق المرسلة 244/2.
3- 111. القاضي عبد الجبار: المغني 106/15.

صفة الكلام، هل هي من صفات الذات، أم من صفات الأفعال، و ينفي المعتزلة عن اللّه أي صفة ذاتية سوى العلم و القدرة و الحياة و القدم و ما عدا ذلك فهي صفات أفعال و منها الكلام. و على ذلك فكلام اللّه محدث و للمعتزلة على ذلك أدلّة كثيرة نخرج عن حدود البحث لو استعرضناها أو ناقشناها (1) و الذي يهمنا في موضوع المجاز و التأويل أن القاسم الرسى يحاول نفي صفة الكلام الحقيقية عن اللّه.

و يبدو أن ابن قتيبة كان يردّ على هذا الرأي حين اشترط لوقوع المجاز في الأفعال ألاّ يؤكد بالمصادر أو بأي نوع من التأكيد اللفظي. و ابن قتيبة في هذه المحاولة يمثل الجانب الآخر للمعتزلة «إن أفعال المجاز لا تخرج منها المصادر و لا تؤكد بالتكرار، فتقول: أراد الحائط أن يسقط، و لا تقول: أراد الحائط أن يسقط إرادة شديدة، و قالت الشجرة فمالت، و لا تقول: قالت الشجرة فمالت قولا شديدا.

و اللّه تعالى يقول: وَ كَلَّمَ اللّهُ مُوسى تَكْلِيماً فوكّد بالمصدر معنى الكلام، و نفى عنه المجاز» (2) .و يتخذ ابن قتيبة هذه القاعدة سندا ليخالف المعتزلة فيما ذهبوا إليه من نفي كلام جهنم و تسبيح الجبال، و تكوين اللّه للاشياء كلها بكلمة «كن» على أساس أن هذه كلها تعبيرات مجازية. يخالفهم ابن قتيبة في ذلك كله و يذهب إلى أن كل هذه التعبيرات حقائق لأنها مما لا يخرج عن قدرة اللّه أولا، و لأن كثيرا منها قد وكّد بالمصدر أو غيره من أنواع التوكيد» (3) .

غير أن القاضي عبد الجبار يستدل بهذه الآية نفسها - كما فعل القاسم الرسى - على حدوث القرآن، اعتمادا على أن المصادر حادثة «و قوله تعالى «تكليما» يقتضي أن ما كلم به غيره حادث، لأن المصادر لا تكون إلاّ حادثة» (4) .

و يستغل. القاسم ما سبق أن قرره من أن المحكم هو الأصل للكتاب و المتشابه فرع ينبغي أن يرد إلى المحكم بالتأويل، في الرد على المجبرة و في تأكيد كل المبادئ و الأفكار التي يتفق فيها - كشيعي - مع المعتزلة، و هي أفكار تكاد تتطابق مع الفكر الاعتزالي تطابقا واضحا باستثناء رأيهم في الامامة» (5) .

و ننتهي من ذلك كله إلى أن التفرقة بين المحكم و المتشابه، و تأويل المتشابه برده إلى المحكم قد نضجت على أيدي المعتزلة، و صارت قانونا يحكم تأويلاتهم بناء على أصولهم العقلية التي يقال أن أبا الهذيل العلاف (ت 235 ه) كان أول من وضعها لهم في صورتها الكاملة «و صنف لهم كتابا و بين مذهبهم و جمع علومهم و سمى ذلك الكتاب الأصول الخمسة» (6) .

ص: 167


1- 112. القاضي عبد الجبار: المغني 106/15.
2- 113. الخصائص 43/1.
3- 114. المغني 164/5 و انظر نفس المرجع 109/7.
4- 115. ابن جني: الخصائص 43/1.
5- 116. القاضي عبد الجبار: المغني 163/5.
6- 117. القاضي عبد الجبار: المغني 164/5 و أنظر نفس المرجع 162/15.

ب - ابن قتيبة

و إذا كان خصوم المعتزلة قد نهجوا نهج المعتزلة في تقسيم القرآن إلى محكم و متشابه، فإنهم قد اختلفوا معهم في تحديد الآيات المحكمة، كما اختلفوا معهم في تحديد الآيات المتشابهة. و راح كل فريق منهم يعطي نفسه الحق في التأويل، و يعتبر نفسه المقصود بالراسخين في العلم في الآية الكريمة، و انتهى القرآن بين المتنازعين إلى أن صار مجالا للجدل و اللجاج و الخصومة حتى صدق على القرآن «ما قاله في الانجيل العالم اللاهوتي التابع للكنيسة الحديثة: بيتر فيرفير نفلس «كل امرئ يطلب عقائده في هذا الكتاب المقدس، و كل امرئ يجد فيه على وجه الخصوص ما يطلبه» (1) .و لم يسترح كثير من الفقهاء و أهل الظاهر إلى هذا المسلك من كلا الفريقين، فذهبوا إلى أن كل ما جاء به القرآن حق، و أنه «يدل على الاختلاف فالقول بالقدر صحيح و له أصل في الكتاب و القول بالاجبار صحيح و له أصل في الكتاب - و من قال بهذا فهو مصيب - و من قال بهذا فهو مصيب لأن الآية الواحدة ربما دلت على وجهين مختلفين و احتملت معنيين متضادين. و سئل يوما (يعني عبيد اللّه بن الحسن قاضي البصرة) عن أهل القدر و أهل الاجبار فقال كل مصيب هؤلاء قوم عظّموا اللّه و هؤلاء قوم نزّهوا اللّه.

قال و كذلك القول في الأسماء فكل من سمّى الزاني مؤمنا فقد أصاب و من سمّاه كافرا فقد أصاب، و من قال هو فاسق و ليس بمؤمن و لا كافر فقد أصاب، و من قال هو منافق ليس بمؤمن و لا كافر فقد أصاب، و من قال هو كافر و ليس بمشرك فقد أصاب و من قال هو كافر مشرك فقد أصاب لأن القرآن قد دل على كل هذه المعاني.

قال و كذلك السنن المختلفة كالقول بالقرعة و خلافه و القول بالسعاية و خلافه و قتل المؤمن بالكافر و لا يقتل مؤمن بكافر و بأي ذلك أخذ الفقيه فهو مصيب. قال و لو قال أنّ القاتل في النار كان مصيبا و لو قال هو في الجنة كانت مصيبا و لو وقف فيه و أرجأ أمره كان مصيبا إذ كان إنما يريد بقوله أن اللّه تعالى تعبده بذلك و ليس عليه علم الغيب. و كان يقول في قتال علي لطلحة و الزبير و قتالهما له إن ذلك كله طاعة للّه تعالى» (2) .

و كان من الطبيعي أن يكون هذا الرأي عرضة لهجوم الطرفين - المعتزلة و أهل السنة - و غرضا لسخريتهما. فالقاسم الرسى يقول:«و قد أنكرت الحشوية من أهل القبلة رد المتشابه إلى المحكم، و زعموا أن الكتاب لا يحكم بعضه على بعض.

ص: 168


1- 118. القاضي عبد الجبار: المغني 267/5.
2- 119. متشابه القرآن/83-84.

و أن كل آية منه ثابتة واجب حكمها بوجوه تنزيلها و تأويلها، و لذلك ما وقعوا في التشبيه و جادلوا عليه لما سمعوا عن متشابه الكتاب فلم يحكموا عليه بالآيات التي جاءت بنفي التشبيه» (1) .

و يمثل ابن قتيبة الطرف المقابل للمعتزلة في الهجوم على صاحب هذا الرأي، و يعتبره أشد تناقضا من المعتزلة و من أهل التأويل جميعا. يقول «فتهجم من قبيح مذاهبه و شدة تناقض قوله على ما هو أولى بأن يكون تناقضا مما أنكروه» (2) .

و إذا كان الجاحظ - كما سبق أن أشرنا - قد استغلّ المجاز - بأنواعه المختلفة - لتأويل بعض الآيات القرآنية للرد على الطاعنين في القرآن و الذين يتهمونه بالتناقض، و يحاولون التشكيك في عربيته و بلاغته، فإنه لم يشر من قريب أو بعيد إلى «المحكم و المتشابه»، ربما لأن الآيات التي تعرّض لها بالتفسير و التأويل كانت من ذلك النوع الذي استدعاه سياق الموضوع الذي كان يكتب فيه. و من جهة أخرى فقد كان الجاحظ يتعرّض أحيانا - و بشكل عارض - للرد على بعض التأويلات، خصوصا على الشيعة في قولهم بإمامة علي بالنص (3) ،و هو في هذه الردود و التأويلات كلها لا يخضعها لذلك القانون العام عند المعتزلة، قانون المحكم و المتشابه. و من الصعب على أي حال القول بأن الجاحظ لم يكن يعرف هذا القانون، و قد كان معروفا قبله، كما أن له كتابا - لم يصل إلينا - في الرد على المشبهة سبقت الإشارة إليه.

و لكن معاصرا للجاحظ هو ابن قتيبة (ت 276 ه) ربط ربطا محكما بين مجالات التأويل و المجاز و المحكم و المتشابه. و واضح من كتابه، كما في «تأويل مختلف الحديث»، عنايته بالرد على كثير من آراء الجاحظ و تسفيهها (4) الأمر الذي يجعلنا نفترض أن الجاحظ كانت له في المحكم و المتشابه آراء لم تصل الينا. و تسمية كتابه عن القرآن باسم «تأويل مشكل القرآن» له دلالته الواضحة فيما نحن بصدده.

و لكن مفهوم «المتشابه» عند ابن قتيبة يتسع ليشمل كل الآيات التي كانت محلا للطعن في القرآن أو التشكيك في عربيته و بلاغته. جدير بالذكر أنه - على عكس المعتزلة - لا يضع المحكم مقابلا للمتشابه، و لا يردّ المتشابه إلى طريقة العرب في التعبير، و بذلك يعدّ المجاز وحده هو مدخله للتأويل. و نتيجة لذلك فقد كان من الطبيعي أن يتسع مفهوم المجاز عنده كما سبقت الاشارة.

و مما يؤكد الغاية الدفاعية لابن قتيبة في الكتاب الرد على منكري السحر و الجن خصوصا رأي النظّام الذي يورده الجاحظ في «الحيوان» (5) و يتسع سلاح التأويل المجازي ليتجاوز القرآن إلى الكتب المقدسة الأخرى ردا على النصارى في

ص: 169


1- 120. المغني في أبواب التوحيد و العدل 169/5.
2- 121. المقالات 346/1.
3- 122. الانصاف/36.
4- 123. المزهر 16/1.
5- 124. انظر الطبري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن 170/1-171.

قولهم أن المسيح ابن اللّه «أما «المجاز» فمن جهته غلط كثير من الناس في التأويل، و تشعبت بهم الطرق، و اختلفت النحل. فالنصارى تذهب في قول المسيح عليه السلام في «الانجيل»: «أدعو أبي و أذهب إلى أبي» و أشباه هذا، إلى أبوة الولادة.

و لو كان المسيح قال هذا في نفسه خاصة دون غيره، ما جاز لهم أن يتأوّلوه هذا التأويل في اللّه - تبارك و تعالى عمّا يقولون علوّا كبيرا - مع سعة المجاز، فكيف و هو يقوله في كثير من المواضع لغيره؟ كقوله حين فتح فاه بالوحي:«و إذا تصدقت فلا تعلم شمالك بما فعلت يمينك، فان أباك الذي يرى الخفيات يجزيك به علانية، و إذا صليتم فقولوا: يا أبانا الذي في السماء ليتقدّس اسمك، و إذا صمت فاغسل وجهك و ادهن رأسك لئلا يعلم بذلك غير أبيك» (1) و بذلك لا يختص المسيح وحده بأن يكون ابنا للّه، إن صحّ أخذ هذه العبارات على ظاهرها. و لذلك فلا بدّ من اعتبارها عبارات مجازية. و يستشهد ابن قتيبة على ذلك بأبيات من الشعر العربي سميت فيه الأرض أما، و يستشهد كذلك بآيات من القرآن مثل «فأمه هاوية» للدلالة على أن التعبير بالأم لا يقصد به أصل المعنى، و لكن «لمّا كانت كافلة الولد و غاذيته و مأواه و مربيته و كانت النار للكافر كذلك جعلها أمه» (2) .

و مما يؤكد أهمية «المجاز» عند ابن قتيبة كأداة للتأويل و إزالة التناقض الذي اتهم به القرآن، أنه يكاد يرفع المجاز إلى مستوى الضرورة اللغوية التي لا محيص عنها للمتكلم. و قد كان من الممكن لهذا الرأي أن يميز ابن قتيبة عن معاصريه جميعا، و لو لا أنه يعود - بعد ذلك - ليربط المجاز بالمواطأة بين المتكلمين، و هو بذلك يعيد المجاز لمستوى العرف اللغوي، لا مستوى الضرورة التعبيرية. و من ناحية أخرى فإنه في ردوده على المعتزلة يبدو محافظا في رغبته في ابعاد المجاز عن الآيات التي استشهد بها المعتزلة، و رغبته في أخذها على مستواها الحقيقي الحرفي كما رأينا في اشتراطه للمجاز ألاّ يؤكّد بأي صيغة من صيغ التأكيد، و كما رأينا في ايمانه بكلام حقيقي لجهنم و للسماء و للأرض، و بأن كلام اللّه كلام حقيقي.. الخ كل ذلك. و لذلك يبدو ابن قتيبة في ردوده على الطاعنين في القرآن متحمسا حماسا شديدا للتأويل المجازي، بينما يبدو في رده على المعتزلة متحمسا لأخذ الآيات على ظاهرها دون تأويل.

«و أمّا الطاعنون على القرآن»«بالمجاز» فانهم زعموا أنه كذب لأن الجدار لا يريد و القرية لا تسأل. و هذا من أشنع جهالاتهم، و أدلها على سوء نظرهم و قلة أفهامهم. و لو كان المجاز كذبا، و كل فعل ينسب إلى غير الحيوان باطلا - كان

ص: 170


1- 125. الصاحبي/33.
2- 126. الصاحبي/33.

أكثر كلامنا فاسدا، لأنّا نقول: نبت البقل، و طالت الشجرة، و أينعت الثمرة، و أقام الجبل، و رخص السعر. و نقول: كان هذا الفعل منك في وقت كذا و كذا و الفعل لم يكن و إنما كون. و نقول: كان اللّه. و كان بمعنى حدث، و اللّه عز و جل، قبل كل شيء بلا غاية، لم يحدث: فيكون بعد أن لم يكن.

و اللّه تعالى يقول: فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ و إنما يعزم عليه. و يقول تعالى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ و إنما يربح فيها. و يقول: وَ جاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ و إنما كذب به.

و لو قلنا للمنكر لقوله:(جدارا يريد أن ينقض): كيف كنت أنت قائلا في جدار رأيته على شفا انهيار: رأيت جدار ما ذا؟ لم يجد بدّا من أن يقول: جدارا يهم أن ينقض، أو يكاد أن ينقض، أو يقارب أن ينقض. و أيّا ما قال فقد جعله فاعلا، و لا أحسبه يصل إلى هذا المعنى في شيء من لغات العجم، إلاّ بمثل هذه الألفاظ» (1) .

غير أن ابن قتيبة يتراجع عن هذا الحماس في الرد على الطاعنين و منكري المجاز في القرآن، ذلك الحماس الذي يصل إلى القول بأن المجاز ضرورة تعبيرية لا يستطيع المتكلم منها فكاكا، حتى فيما يتصل بالحديث عن اللّه عز و جل، و ذلك أن المتكلم يقول: كان اللّه، و كان بمعنى حدث، و هذا مما لا يجوز على اللّه. و لكن هذا ما تتيحه مواضعات اللغة التي هي جزء من عالمنا المتناهي و تصوراتنا البشرية القاصرة. فإذا كانت اللغة - بحكم بشريتها - تعجز عن التعبير عن الحيوان و الجماد دون أن تسند له الفعل و الحواس، فما بالك حين تعبر هذه اللغة عن المطلق اللامتناهي السرمدي، إنها و لا شك لا بدّ أن تقع في التشبيه و التجسيد رغما عنها. هذه النظرة لضرورة المجاز، و اثبات عجز المتكلم عن الكلام دون اللجوء للمجاز يتراجع عنها ابن قتيبة، و لذلك يستنكر تأويل المعتزلة لكلام السماء و الأرض و جهنم بأنه مجاز «و أما تأويلهم في قوله جل و عز للسماء و الأرض: اِئْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ: إنه عبارة عن تكوينه لهما. و قوله لجهنم هَلِ امْتَلَأْتِ وَ تَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ إنه اخبار عن سعتها - فمما يحوج إلى التعسف و التماس المخارج بالحيل الضعيفة؟ و ما ينفع من وجود ذلك في الآية و الآيتين و المعنى و المعنيين - و سائر ما جاء في كتاب اللّه عز و جل من هذا الجنس، و في حديث رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم - ممتنع عن مثل هذه التأويلات؟

و ما في نطق جهنم و نطق السماء و الأرض من العجب؟ و اللّه تبارك و تعالى ينطق الجلود، و الأيدي، و الأرجل، و يسخر الجبال و الطير بالتسبيح، فقال: إِنّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِشْراقِ، وَ الطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوّابٌ و قال:

ص: 171


1- 127. الخصائص 39/1.

و ما في نطق جهنم و نطق السماء و الأرض من العجب؟ و اللّه تبارك و تعالى ينطق الجلود، و الأيدي، و الأرجل، و يسخر الجبال و الطير بالتسبيح، فقال: إِنّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِشْراقِ، وَ الطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوّابٌ و قال:

يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ الطَّيْرَ أي سبحن معه و قال: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً.

و قال في جهنم: تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ أي تتقطع غيظا عليهم كما تقول:

فلان يكاد ينقد غيظا عليك، أي ينشق. و قال: إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَ زَفِيراً. و روي في «الحديث» أنها تقول:«قط قط» أي حسبي، و هذا سليمان عليه السلام يفهم منطق الطير و قول النمل... و هذا «رسول اللّه» صلى اللّه عليه و سلم، تخبره الذراع المسمومة و يخبره البعير أن أهله يجيعونه و يدأبونه» (1) .و على الرغم من أن محافظة ابن قتيبة على المعنى الحرفي لأمثال هذه الآيات «أجدت على الحاسة الدينية أكثر مما أغنى التأول المجازي الحاد» (2) فإنها من جانب آخر لم تلمح ما سبق أن قرره ابن قتيبة نفسه من ضرورة التعبير المجازي. على أن ابن قتيبة - و هو من رجال الحديث - يعتمد على كثير من المرويات المأثورة ليدعم بها وجهة نظره، و بذلك يكون أقرب إلى وجدان المسلم العادي من تأويلات المعتزلة.

و إذا كان ابن قتيبة لا يردّ على المعتزلة وحدهم، و إنما يردّ على كل المتأولين و الطاعنين في القرآن، فمن الطبيعي أن يتسع مفهوم «المتشابه» عنده. و تعريفه لأصل المتشابه بأنه «أن يشبه اللفظ اللفظ في الظاهر، و المعنيان مختلفان» (3) يعود بنا الى المفهوم «المتشابه» عند المفسرين، و عند مقاتل في «الأشباه و النظائر». و لكن ابن قتيبة يتجاوز هذا المعنى الحرفي - الأصلي - للتشابه ليدل به على كل ما غمض عموما، و بذلك يكون معنى «المتشابه»«الغامض» و منه يقال: اشتبه علي الأمر، إذا أشبه غيره لم تكد تفرق بينهما، و شبهت علي إذا ألبست الحق بالباطل، و منه قيل لأصحاب المخاريق: أصحاب الشبه لأنهم يشبهون الباطل بالحق.

ثم قد يقال لكل ما غمض و دق: متشابه، و إن لم تقع الحيرة فيه من جهة الشبه بغيره، ألاّ ترى أنه قد قيل للحروف المقطعة في أوائل السور: متشابه، و ليس الشك فيها، و الوقوف عندها لمشاكلتها غيرها، و التباسها بها»(تأويل مشكل القرآن،101-102). و هكذا إذا كان معنى «المتشابه» يعود في الأصل إلى التشابه، فإن الكلمة قد تعني الغموض عامة. و لكن السؤال الذي يحاول أن يجيب عليه ابن قتيبة، و واضح أن الطاعنين في القرآن كانوا قد طرحوه هو: إذا كان القرآن قد نزل على لغة العرب، و على أسلوبها و طرائقها كما يقول ابن قتيبة نفسه، فكيف أشكل أو غمض على العرب معرفة معاني بعض آياته، حتى احتاجوا لمن يقدح لهم زناد فكره، و يستخرج لهم معانيه بردها إلى الأسلوب العربي؟ و السؤال

ص: 172


1- 128. الخصائص 39/1.
2- 129. الخصائص 44/1.
3- 130. الخصائص 45/1-46.

نفسه لا ينطوي على البراءة التي يوحي بها ظاهره، فالقرآن قد وصف نفسه بأنه «هدى» و بأنه «بيان»، فكيف يأتي فيه «المتشابه» الذي أثار الخلاف و أوقع الفتن؟ و يرد ابن قتيبة هذا الطعن رابطا وجود «المتشابه» بفكرة الاختبار و الابتلاء و التكليف ليتبين المجتهد من المقلد، و ليتمايز الناس بمعارفهم. و ذلك لا يتناقض - من وجهة نظره - مع نزول القرآن على لغة العرب و أسلوبها في التعبير، فاللغة نفسها فيها «الإيجاز و الاختصار، و الاطالة و التوكيد و الاشارة إلى الشيء و اغماض بعض المعاني حتى لا يظهر عليه إلاّ اللقن، و اظهار بعضها، و ضرب الأمثال لما خفي.

و لو كان القرآن كله ظاهرا مكشوفا حتى يستوي في معرفته العالم و الجاهل لبطل التفاضل بين الناس، و سقطت المحنة، و ماتت الخواطر. و مع الحاجة تقع الفكرة و الحيلة، و مع الكفاية يقع العجز و البلادة» (1) .

و إذا كان معنى «المتشابه» عند ابن قتيبة قد أخذ هذا المعنى الواسع، حتى أدخل فيه الحروف المقطعة في أوائل السور، و إذا كان ابن قتيبة، شأنه شأن أبي عبيدة و الفراء و الجاحظ - كان مشغولا بالرد على الطاعنين و المتأولين، فمن الطبيعي أن يسلم بامكانية معرفة «المتشابه» ما دام قد سلم بأهميته لتمييز المجتهد من المقلد «و لسنا ممن يزعم أن المتشابه في القرآن لا يعلمه الراسخون في العلم. و هذا غلط من متأوليه على اللغة و المعنى و لم ينزل اللّه شيئا من القرآن إلاّ لينفع به عباده، و يدل به على معنى أراده. فلو كان المتشابه لا يعلمه غيره للزمنا للطاعن مقال، و تعلق علينا بعلة» (2) و يحتاج ابن قتيبة - بعد ذلك - للتأويل النحوي للآية، خصوصا قوله تعالى وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا و هل هي معطوفة مع ما قبلها وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ أم هي جملة مستأنفة مقطوعة عنها؟ و المشكلة الاعرابية في الآية تتركّز في جملة «يقولون آمنا به» لأنها ليست مسبوقة بواو الحال أو واو العطف و هذا يجعلها أقرب للجملة الخبرية للراسخين في العلم، و من جهة أخرى فإن أسلوب القصر بما و الا في الجملة السابقة يجعل عطف الجملتين صعبا. و لكن ابن قتيبة يخرج من ذلك كله بتوجيه الآية على أن «يقولون» هاهنا في معنى الحال، كأنه قال: الراسخون في العلم قائلين: آمنا به. و مثله في الكلام:

لا يأتينك إلاّ عبد اللّه و زيد يقول: أنا مسرور بزيارتك. يريد: لا يأتينك إلاّ عبد اللّه و زيد قائلا: أنا مسرور بزيارتك. و مثله لابن مفرغ الحميري يرثي رجلا في قصيدة أولها:

أصرمت حبلك من أمامه من بعد أيام برامه

و الريح تبكي شجوها و البرق يلمع في غمامه

ص: 173


1- 131. الخصائص 45/1.
2- 132. المغني 6/7 يرى أبو علي الجبائي أن الكلام هو الحروف لا الأصوات. راجع خلاف أبي هاشم معه نفس الجزء/31.

أراد: و البرق لا معا في غمامة تبكي شجوه أيضا، و لو لم يكن البرق يشرك الريح في البكاء لم يكن لذكر البرق و لمعه معنى» (1) .و أيّا كان هذا التوجيه، فقد كان هو التوجيه الذي ساد بين كل الفرق باستثناء أولئك الذين ظلوا على اعتقادهم بأنّ المتشابه مما استأثر اللّه بعلمه، و لا يعلمه أحد.

و إذا انتقلنا بعد ذلك إلى مسلك ابن قتيبة في تأويل آيات القرآن، نجده يتفق مع المعتزلة في كثير من تأويلاتهم في قضية التوحيد و نفي مشابهة اللّه للبشر، و ذلك باستثناء اسناد الكلام إلى اللّه فقد اعتبره ابن قتيبة اسنادا حقيقيا بينما اعتبره المعتزلة اسنادا مجازيا كما سبق أن وضحنا. فالوجه في قوله تعالى كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ و في جميع الآيات التي تضيف لله وجها، معناه هو. و يضع في الاستعارة قوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ و يكون معناه «أي عن شدة الأمر»، و كذلك قوله: وَ قَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً و تكون أهون في قوله تعالى وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ بمعنى «هين عليه، أي سهل عليه». و أمّا قوله تعالى سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ فإن معناه «و مجازه: سنقصد لكم بعد طول الترك و الاهمال». و قوله تعالى ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها أي يقهرها و يذلّها بالملك و السلطان». أمّا خشينا في قوله تعالى فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَ كُفْراً فتكون معناها «علمنا»«لأن في الخشية و الخوف طرفان من العلم». و من الواضح في هذا التأويل الأخير عجز التحليل اللغوي عن ادراك المعنى، فسياق الآية في سورة الكهف، في حوار بين موسى عليه السلام و العبد المؤمن الذي أوتي العلم اللدني، و من الطبيعي أن يعبر العبد المؤمن عن علمه بالخشية، و حتى لو كان الفعل مسندا للّه، فتظل معضلة اللغة التي أشرنا اليها هي العائق عن التعبير عمّا هو خارج عن حدودها.

و لا يخرج تأويل الآيات التي توهم حدوث علم اللّه عند ابن قتيبة عمّا سبق أن وجدناه عند أبي عبيدة و الفراء، أمّا الآيات التي تسند المكر و الاستهزاء إلى اللّه فيضعها ابن قتيبة فيما جاء مخالفا معناه لظاهر لفظه «و من ذلك الجزاء عن الفعل بمثل لفظة و المعنيان مختلفان: نحو قوله تعالى: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ، اَللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ أي يجازيهم جزاء الاستهزاء». و من هذا النوع من المجاز أيضا - مخالفة ظاهر اللفظ للمعنى-«أن يأتي الكلام على لفظ أمر و هو تهديد: كقوله اِعْمَلُوا ما شِئْتُمْ» (2) .

و من استعراض هذه الأمثلة كلها نحس أن ابن قتيبة لا يكاد يضيف جديدا إلى ما قدّمه السابقون عليه، و نلاحظ أيضا أن الحس التوضيحي التبسيطي الذي

ص: 174


1- 133. المغني 3/7.
2- 134. المغني 40/7.

يعنى بالشرح أكثر من التحليل ما يزال طاغيا. و في هذه القضية ليس ثمّة خلاف أساسي بين المعتزلة و ابن قتيبة، و من ثم فهو يكاد ينقل عنهم شروحهم و تأويلاتهم، خصوصا عن الفراء.

و إذا انتقلنا إلى قضية العدل، فإننا نجد الخلاف واضحا، و هنا تبرز الشخصية السنية لابن قتيبة. و إذا كان في «تأويل مشكل القرآن» لم يتعرّض أو يشر من قريب إلى «محكم» مقابل «للمتشابه» فإنه في «تأويل مختلف الحديث» و حين يرد على النظّام هجومه على ابن مسعود يلمح بشكل غير مباشر إلى معنى الاحكام في بعض الآيات التي يفسّرها على ظاهرها مخالفا بذلك المعتزلة الذين يتأولون هذه الآيات على أساس أنها «متشابهات» و هي كلها آيات توهم بأن اللّه هو الذي يضلّ و هو الذي يهدي. يقول:«و كيف يكذب ابن مسعود في أمر يوافقه عليه الكتاب يقول اللّه تعالى أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ أي جعل في قلوبهم الايمان، كما قال في الرحمة فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ الآية أي سأجعلها و من جعل اللّه تعالى في قلبه الايمان فقد قضى له بالسعادة، و قال عز و جل لرسوله صلى اللّه عليه و سلم إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ و لا يجوز أن يكون إنك لا تسمي من أحببت هاديا و لكن اللّه يسمي من يشاء هاديا، و قال فَيُضِلُّ اللّهُ مَنْ يَشاءُ، وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ كما قال وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَ ما هَدى و لا يجوز أن يكون سمى فرعون قومه ضالين و ما سماهم مهتدين و قال فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ و قال وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَ لكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النّاسِ أَجْمَعِينَ و أشباه هذا في القرآن و الحديث يكثر و يطول» (1) و هذه الاستشهادات الكثيرة على مسألة واحدة، تعني أن هذه الآيات - من وجهة نظر ابن قتيبة - محكمات لا تحتاج لتأويل، و إن احتاجت لمزيد من الشرح و التوضيح ردّا على تأويلات المعتزلة لها.

و يتوقف ابن قتيبة طويلا أمام قوله يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ لينفي عنه تأويلات المعتزلة السابقين عليه، و هو يعتمد في ذلك على التفرقة بين صيغتي أفعل بزيادة الهمزة، و فعل بالتضعيف و معنى كل منهما. فصيغة أفعل تعني وجدت الشيء على صفة، بينما فعل تعني وصف الشيء بصفة و ذهب «أهل القدر» في قوله عز و جل: يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إلى أنه على جهة التسمية و الحكم عليهم بالضلالة، و لهم بالهداية و قال «فريق منهم» يضلهم ينسبهم إلى الضلالة، و يهديهم: يبين لهم و يرشدهم. فخالفوا بين الحكمين. و نحن لا نعرف في

ص: 175


1- 135. المغني 41/7.

اللغة أفعلت الرجل نسبته. و إنما يقال إذا أردت هذا المعنى فعلت. تقول: شجعت الرجل و جبنته و سرقته و خطأته و كفرته و فسقته و فجرته و لحنته. و قرئ:(ان ابنك سرق) أي نسب الى السرق. و لا يقال في شيء من هذا كله، أفعلته، و أنت تريد نسبته إلى ذلك.

و قد احتج «رجل من النحويين» كان يذهب إلى «القدر» لقول العرب:

كذبت الرجل و أكذبته. بقول اللّه تعالى: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ و لا يكذبونك، و ذكر أن أكذبت و كذبت جميعا بمعنى: نسبت إلى الكذب و ليس ذاك كما تأوّل، و إنما معنى أكذبت الرجل: ألفيته كاذبا. و قول اللّه تبارك و تعالى: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ بالتخفيف أي: لا يجدونك كاذبا فيما جئت به، كما تقول: أبخلت الرجل و أجبنته و أحمقته، أي وجدته جبانا بخيلا أحمق» (1) .و واضح أن الجدل و النقاش كان يجعل كلا الفريقين يعدل من موقفه و تأويلاته تفاديا لهجوم خصمه، فالزمخشري يتخلّص من هذا المأزق اللغوي في الآية عن طريق اخضاعها لمقولة اللطف و الخذلان فالضلال معناه «أن يخذل من علم أنه يختار الكفر و يصمم عليه وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ هو أن يلطف بمن علم أنه يختار الايمان: يعني أنه بنى الأمر على الاختيار و على ما يستحق به اللطف و الخذلان و الثواب و العقاب، و لم يبنه على الاجبار الذي لا يستحق به شيء من ذلك و حققه بقوله وَ لَتُسْئَلُنَّ عَمّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ و لو كان هو المضطر إلى الضلال و الاهتداء لما أثبت لهم عملا يسألون عنه» (2) .و الزمخشري إلى جانب ربطه بين أول الآية و آخرها، يستغلّ مقولة اللطف استغلالا ذكيا، ربما لم يكن معاصر و ابن قتيبة أو السابقون عليه قادرين عليه.

و في مجيء اللفظ عاما يراد به الخصوص، يتعرّض ابن قتيبة لآية سبق أن تعرض لها الفراء، و أخذها على عمومها و هي قوله تعالى وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ. أمّا ابن قتيبة فهو يخصص عموم الآية. يقول:«يريد المؤمنين منهم. يدلك على ذلك قوله في موضع آخر: وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ (3) و في استشهاد ابن قتيبة بالآية الأخيرة على أنها محكمة، و هي عند المعتزلة متشابهة، ما يؤكّد ما سبق أن قلناه من أن كلا الفريقين المعتزلة و أهل السنة قد حاولوا تقسيم القرآن طبقا لمعتقداتهم و أفكارهم، فكل ما أيّد هذه الأفكار اعتبروه محكما، و كل ما خالفها اعتبروه متشابها. و بذلك أصبح «المجاز» سلاحا للتأويل. و لذلك كله ليس غريبا أن يضع ابن قتيبة «العموم و الخصوص» و هي مقولة فقهية في الأساس الأول ضمن أنواع المجاز.

ص: 176


1- 136. المغني 3/7.
2- 137. اللمع/17.
3- 138. التذكرة/340.

فإذا تركنا هذه الجوانب، وجدنا ابن قتيبة يميل إلى الارجاء بالمعنى السني الذي وجدناه عند مقاتل بن سليمان، فمعنى الايمان عنده هو التصديق. و لا تكاد تخرج معاني الايمان في القرآن عنده عن وجوه المعاني التي عرض لها مقاتل في كلمة ايمان (1) .و لتأكيد اتفاقه مع مقاتل فيما ذهب إليه نلاحظ أنه عند تفسير قوله تعالى: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلاّ ما شاءَ رَبُّكَ يتوقف وقفة طويلة، و يقترح ثلاثة تأويلات للآية. أمّا التأويل الأول فهو يتفق مع المعتزلة على أن ارتباط الخلود بدوام السماوات و الأرض لا يعني انقطاعه «و للسماء و الأرض وقت يتغيران فيه عن هيئتهما» (2) لكنهما خالدتان و ليستا زائلتين. أمّا الاستثناء فتأويله أن «إلاّ في هذا الموضع بمعنى «سوى» و مثله في الكلام: لأسكنن في هذه الدار حولا إلاّ ما شئت. تريد سوى ما شئت أن أزيد على الحول» (3) و معنى ذلك أن الاستثناء لا يعني انقطاع الخلود في الجنة أو النار و إنما يعني أنه دائم «سوى ما شاء اللّه أن يزيدهم من الخلود على مدة العالم. أمّا الوجه الثاني فهو «أن يجعل دوام السماء و الأرض بمعنى الأبد، على ما تعرف العرب و تستعمل، و إن كانتا تتغيران، و تستثنى المشيئة من دوامهما، لأن أهل الجنة و أهل النار قد كانوا في وقت من أوقات دوام السماء و الأرض في الدنيا لا في الجنة، فإنه قال: خالدين في الجنة و خالدين في النار دوام السماء و الأرض، إلاّ ما شاء ربك من تعميرهم في الدنيا قبل ذلك» (4) و هذا الوجه أيضا لا يختلف عمّا قاله المعتزلة، و المتأخرون منهم خصوصا القاضي عبد الجبار و الزمخشري. أمّا الوجه الثالث من وجوه التأويل - و هو الذي يهمنا فيما يتصل بارجاء ابن قتيبة - هو أن يكون الاستثناء من الخلود مكث أهل الذنوب من المسلمين في النار حتى تلحقهم رحمة اللّه، و شفاعة رسوله، فيخرجوا منها إلى الجنة» (5)

و ننتهي من ذلك كله إلى أن معنى «المتشابه» عند ابن قتيبة لم يقتصر على الآيات الخلافية، بل اتسع ليشمل كل ما هو غامض أو محل للطعن أو التشكيك، سواء من الوجهة الكلامية، أو اللغوية، أو النحوية، أو البلاغية و كانت نتيجة ذلك كله أن «المتشابه» لا يخضع عنده للمحكم، و إن خضع للتأويل المجازي بمعنى عام. و إذا كنا قد لاحظنا أنه ردّ قوله تعالى وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ إلى قوله وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ فإن ذلك لم يصدر - في الغالب - عن تصور كامل لضرورة رد المتشابه إلى المحكم. و معنى ذلك أن قانون «المحكم و المتشابه» كأساس لعملية التأويل، و استخدام المجاز كأداة من أدوات التأويل، هو مسلك اعتزالي صرف، نقله غير المعتزلة عنهم و حاولوا بذلك الرد عليهم بنفس أدواتهم و أسلحتهم.

ص: 177


1- 139. الانصاف/94.
2- 140. الانصاف/95.
3- 141. الانصاف/95.
4- 142. القاضي عبد الجبار: المغني 17/7.
5- 143. السابق نفس الجزء/18.

ج - الامام يحيى بن الحسين

و من ناحية أخرى يبدو أن المسألة حتى أواخر القرن الثالث و أوائل القرن الرابع لم تكن قد حسمت بهذا الوضوح الكامل فالامام يحيى بن الحسين (ت 298 ه) الشيعي المعتزلي يوسّع من المفهوم كثيرا حين يقول:«اعلم أن القرآن محكم و متشابه و تنزيل و تأويل، و ناسخ و منسوخ، و خاص و عام، و حلال و حرام، و أمثال و عبر و أخبار و قصص. و ظاهر و باطن. و كل ما ذكرنا يصدق بعضه بعضا، فأوله كآخره، و ظاهره كباطنه، ليس فيه تناقض و ذلك أنه كتاب عزيز جاء من رب عزيز على يدي رسول كريم» (1) و لكنه حين يتعرّض للرد على القدرية أو المشبهة يبدأ بايراد الآيات التي يحتجون بها ثم يؤولها تأويلا يتفق مع حرية الارادة الانسانية. و يبدو من تأويلات الامام يحيى التنبه الدائم لفكرة السياق كأساس يردّ به على المحتجين. يقول:«ثم احتجوا بقوله، سبحانه: وَ أَضَلَّهُ اللّهُ عَلى عِلْمٍ، وَ خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللّهِ، أَ فَلا تَذَكَّرُونَ و جهلوا ما قبل ذلك من قوله: أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ و عبده من دون اللّه، و علم ذلك منه و من فعله، فأضلّه اللّه بعد ما فعل و بعد ما كان منه، و لعلمه أنه لا يؤمن و لا يدع ما هو عليه من الكفر. فهذا معنى علم اللّه به، لم يدخله العلم في شيء و لم يحل بينه و بين شيء، و إنما أخبر باضلاله و الاضلال من اللّه إنما هو في اهماله و ترك تسديده و توفيقه للخير» (2) .

و إذا لم تسعفه فكرة السياق في الآية نفسها، فإنه يلجأ - و الحالة هذه - إلى الاستشهاد بآية محكمة ترد اليها هذه الآية التي يستشهد بها الخصوم و تؤول على أساسها. و القاعدة العامة للمفسر عند الامام يحيى أنه «إذا مرّ عليه شيء من القرآن يقع عنده أنه مخالف لهذه الآيات (يعني قوله تعالى إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَ لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ فليعلم أن تفسيره مثل تفسير المحكم، إلاّ أنه جهل تفسيره» (3) .

و كل هذه المحاولات التأويلية تقود الامام يحيى إلى أبحاث دلالية حول معاني بعض الكلمات التي كانت مثار خلاف بين المعتزلة و خصومهم في القرآن، مثل معنى الهدى، و الضلال، و العبادة، و الارادة، و الاذن (4) و الكفر و الشرك و الزكاة (5) .و تعدّ هذه الابحاث الدلالية حول معنى الكلمات في القرآن امتدادا «للأشباه و النظائر» عند مقاتل، و مثيلتها عند ابن قتيبة في «تأويل مشكل القرآن».

و الفارق بين أبحاث الامام يحيى و أبحاث من سبقه أنه يدخل فيها فكره الاعتزالي و يخضعها له مخلصا لمبدأ اخضاع المحكم و المتشابه معا للعقل، ثم تأويل المتشابه برده إلى المحكم الذي يؤكد ثمار العقل و النظر السليم. و يكاد الامام يحيى أن

ص: 178


1- 144. السابق/نفس الجزء/19.
2- 145. المغني 161/15.
3- 146. المغني 161/15.
4- 147. الحيوان 43/1.
5- 148. الحيوان 45/1.

يستوعب في مادتي «الهدى» و «الضلال» تأويل كل الآيات المتشابهة في موضوع «العدل». يقول «الهدى من اللّه عز و جل، هديان: هدى مبتدأ، و هدى مكافأة، فأمّا الهدى المبتدأ: فقد هدى اللّه به البر و الفاجر، و هو العقل و الرسول و الكتاب، فمن انصف عقله و صدّق رسوله و آمن بكتابه، و حلل حلاله و حرّم حرامه، استوجب من اللّه الزيادة.

و الهدى الثاني: جزاء على عمله و مكافأة على فعله، كما قال، عز و جل:

وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَ آتاهُمْ تَقْواهُمْ، و قال: وَ يَزِيدُ اللّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً.

و من كابر عقله و كذّب رسوله و ردّ كتابه، استوجب من اللّه الخذلان، و تركه من التوفيق و التسديد، و أضلّه و ختم على سمعه و قلبه و جعل على بصره غشاوة، و ذلك قوله، تبارك و تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ عنى الهدى الثاني، وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يقول: و من يرد أن يوقع اسم الضلالة عليه، بعد أن استوجب بفعله القبيح، يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ، فقد بيّن، عز و جل، في آخر الآية أنه لم يضله و لم يضيق صدره إلاّ بعد عصيانه و كفره و ضلاله، لأنه يقول:

كَذلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ و لم يقل أنه يجعل الرجس على الذين آمنوا، ثم قال: أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللّهُ عَلى عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً كما اتخذ إلهه هواه أوقع عليه اسم الضلال و سماه به و دعاه بعد أن اتخذ إلهه هواه و ختم على سمعه، و تركه من التوفيق و التسديد و خذله و لم يؤيده و لم يسدده كما أيد و سدد الذي عبده، عز و جل، ثم قال يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ثم قال وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ و قال:

كَذلِكَ يُضِلُّ اللّهُ الْكافِرِينَ، كَذلِكَ يُضِلُّ اللّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ، كَذلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبّارٍ» (1) .و معنى ذلك أن اللّه قد هدى الناس جميعا بما منحهم من العقل القادر على النظر، ثم أرسل لهم الرسل و الكتب للهداية أيضا، فمن اهتدى بهذه الأدلّة زاده اللّه هدى و وفقه و سدده جزاء على اهتدائه، و من لم يهتد فإنه بذلك يكون قد أتى من قبل نفسه، لا من قبل اللّه.

و بذلك يكون ما ورد في القرآن من أن اللّه أضل، ليس المقصود به منعه من الاهتداء الذي هو مخير و حر فيه، و لكن يكون المقصود به أن اللّه سمّاه بالضلال و دعاه به، و يكون معنى الختم على القلب و البصر هو الخذلان، و لكن الانسان أساسا هو المسئول عن اهتدائه أو ضلاله.

و لا يختلف هذا التأويل عمّا ذكره الامام يحيى في مادة «الضلال»، بل يلتقي

ص: 179


1- 149. المغني 202/16، و انظر نفس المصدر 160/15،162/5.

التأويلان لتأكيد حرية الانسان و نفي الجبر و الالجاء و القسر عنه، و بذلك تتحدد مسئوليته عن فعله، و ينتفي الظلم عن اللّه عز و جل «قوله، سبحانه وَ أَضَلَّهُ اللّهُ عَلى عِلْمٍ، و قوله يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ، و يُضِلُّ اللّهُ الظّالِمِينَ و كَذلِكَ يُضِلُّ اللّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ، و نحو هذا في القرآن كثير. يعني في جميع ذلك، أنه يوقع عليه اسم الضلال و يدعوه به بعد العصيان و الطغيان، لا أنه يغويهم عن الصراط المستقيم كما أغوى فرعون قومه، و ان أشبه اللفظ فمعناه متباين مفترق عند أهل العلم، إذ اللّه عز و جل، رحيم بعباده، ناظر لخلقه، و فرعون كافر لعين ملعون مضل غوي، و هو، عز و جل، قد عذّب فرعون على فعله و ضلاله و قبح سوء فعله بنفسه و قومه، و كيف يغوي خلقه و يضلهم و لا يرشدهم ثم يعذبهم على فعله، إذا لكان لهم ظالما و عليهم متعديا، و هو مع ذلك يعيب على من فعل مثل هذا الفعل» (1) .

و هكذا يصبح التأويل و المحكم و المتشابه عند الامام يحيى كما كانا عند الامام القاسم الرسى وجهين لقضية واحدة، و إذا كان كلاهما لم يستخدم مصطلح «المجاز» فذلك لأن «التأويل» مصطلح يشمل «المجاز» عند الشيعة، خصوصا عند المتأخرين منهم. و مع ذلك كله «فالتأويل» و «المجاز» عند المعتزلة أنفسهم يشيران إلى معنى واحد في التحليل النهائي و إذا كان كل من أبي عبيدة و الفراء و الجاحظ و ابن قتيبة قد أسهبوا في بيان كثير من التفاصيل و الأنواع التي تدخل كلها تحت مصطلح «المجاز» بمعناه العام، فإنهم في نفس الوقت قد ربطوه بغاية محددة هي «التأويل» بمعناه اللغوي الذي يعني الشرح و التفسير و لكن بشيء من النظر و التأمل و اعمال الفكر. و سنجد أن القاضي عبد الجبار قد استفاد من كل هذه الجهود و إن كان له فضل الصياغة النهائية و الربط الكامل بين وجوه «التأويل» و «المجاز» و «المحكم و المتشابه» من جهة، و بين الأسس الفكرية و العقلية للمدرسة الاعتزالية في شكلها الناضج و النهائي من جهة أخرى.

5 - المجاز و التأويل عند القاضي عبد الجبار

أ - المحكم و المتشابه كأساس للتأويل.

أفرد القاضي عبد الجبار ضمن مؤلفاته العديدة كتابا كبيرا من قسمين لتأويل متشابهات القرآن وردها إلى المحكمات. و قدّم بين يدي هذا الكتاب مقدمة ضافية وضع فيها الأسس و القواعد التي ينبغي أن تحكم عملية التأويل و تضبطها. هذا علاوة على المواضع الكثيرة التي تناول فيها هذه القضية في موسوعته الضخمة

ص: 180


1- 150. الباقلاني: الانصاف/53 و انظر أيضا البغدادي: أصول الدين/114-115 و هو يوحد - أيضا - بين الاسم و الصفة.

«المغني في أبواب التوحيد و العدل» و في شرحه للأصول الخمسة كذلك. و الأساس عنده أن القرآن كلام اللّه، و الكلام ليس صفة من صفات الذات، و إنما هو صفة من صفات الأفعال (لأنه محدث على وجه مخصوص) (1) .و هو كلام قصد به منفعة البشر و هدايتهم و لذلك فلا بدّ من أن يكون دلالة، و إلاّ انتفت عنه صفة المنفعة، و انتفت الحكمة - بالتالي - عن فعل من أفعال اللّه.«و القول إذا كان بلغة مخصوصة فقد وضع ليدل على المراد، فمتى خاطب به الحكيم الذي لا تصح عليه الحاجة إلاّ ليفيد به المخاطب، فقد خاطب به على وجه يقبح» (2) .

و إذا كان القول - و كلام اللّه قول - بلغة مخصوصة فإنه يدل بشرطين:

الشرط الأول هو وجود مواضعة سابقة و الشرط الثاني هو معرفة قصد المتكلم أو المخاطب بهذا القول «لأن الخبر لا يعلم بصيغته أنه صدق أو كذب حتى إذا علم حال المخبر صحّ أن نعلم ذلك، و قد علمنا أن ما أخبر جل و عز عنه في القرآن لم يتقدم لنا العلم بحال مخبره، فيجب أن لا يعلم أنه صدق إلاّ بعد العلم بحال المخبر و أنه حكيم» (3) .

و معنى هذا أن الاستدلال بالقرآن، أو اعتباره دلالة لا يصحّ إلاّ بعد معرفة المتكلم بكل صفاته من التوحيد و العدل، بما يتضمنه مبدأ العدل من أن اللّه حكيم لا يختار القبيح و لا يأمر به و لا يكذب في أخباره. و إذا كانت كل هذه الاشياء من صميم النظر العقلي، لا من الاستدلال السمعي، فإن القرآن نفسه لا بدّ أن يخضع في الاستدلال به للنظر العقلي. و الواقع أن المعتزلة لم يتصوروا للحظة واحدة امكانية أن يدل العقل على خلاف ما يدل عليه القرآن، غاية الأمر أنهم كانوا في جدلهم المستمر مع غير المسلمين أو مع مخالفيهم من المسلمين يريدون أن يحتكموا إلى مبدأ ظنوا أنه لا يخطئ إذا استخدم استخداما سليما، و لذلك هاجموا خصومهم هجوما عنيفا على أساس أن نظرهم في القرآن كان ناقصا و خاطئا «لأنهم إنما أتوا في ذلك من جهة الجهل بما يجوز على اللّه تعالى، و (ما) لا يجوز و بطريقة اللغة، فأما مع المعرفة بذلك و تأمل الآيات فلا بدّ من أن ينكشف أنه لا اختلاف في دلالته، و هذا كما نقول من أن قول اللّه تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ موافق لقوله وَ جاءَ رَبُّكَ متى حمل ذلك على أن تأويله و جاء متحملو أمر ربك... و نحو قوله تعالى وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ انه موافق لقوله وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إذا حمل على أن المراد به العاقبة... إن المتعلق بمثل ذلك لا يخلو من أن يزعم أن القرآن دلالة على التوحيد و العدل، أو يقول: لا نعلم صحة دلالته إلاّ بعد العلم بالتوحيد و العدل، و بينا فساد القول الأول، بأن قلنا: إن من

ص: 181


1- 151. الأشعري: مقالات الاسلاميين 253/2.
2- 152. انظر تفسير الطبري 170/1-171.
3- 153. السابق/نفس الجزء/40.

لا يعرف المتكلم، و لا يعلم أنه ممن لا يتكلم إلاّ بحق، لا يصحّ أن يستدل بكلامه، لأنه لا يمكن أن يعلم صحة كلامه إلاّ بما قدمناه، لأنه لا يصح أن يعلمه بقوله: أن كلامه حق، لأنه إذا جوّز في كلامه أن يكون باطلا يجوّز في هذا القول أيضا أن يكون باطلا، و إذا وجب تقدم ما ذكرناه من المعرفة ليصح أن يعرف أن كلامه تعالى حق و دلالة» (1) .

و إذا كان القرآن لا تعرف دلالته إلاّ بعد تقدم المعرفة العقلية بتوحيد اللّه و عدله و سائر صفاته، فإن الحاجة للقرآن و للسمع عموما تصبح تابعة للعقل. و يبدو أن المعتزلة في هذه الحالة يعطون للعقل الأولوية على النص.

و لكننا لا ينبغي أن ننسى أن العقل الضروري - العلوم الضرورية - هبة من اللّه للبشر جميعا منحها لهم و على أساسه كلفهم بعد أن نصب لهم الأدلة. في هذه الحالة لا يحسّ المعتزلة أي تناقض بين العقل و القرآن لأن كليهما من عند اللّه، و كلاهما يتفقان بالضرورة. و إنما يأتي خطأ من يستدل بالقرآن من خطئه في الاستدلال العقلي، أو من اهماله لقضية الاستدلال العقلي اهمالا تاما. و على ذلك فالمعتزلة حين يردون الخصم إلى أدلة العقل، لا يردونه إلى شيء خارج اطار القدرة الالهية أو النعمة الالهية. الفارق الوحيد بين أدلّة العقل و أدلّة القرآن، أن أدلّة العقل لا يدخلها الاشتراك و المجاز و الاستعارة، كما يدخل ذلك في أدلّة القرآن، التي هى لغة من طبيعتها الاشتراك و المجاز و الاستعارة. أمّا الفارق الثاني فهو أن اللغة لا تدل إلاّ بعد معرفة قصد القائل، على العكس من الفعل الذي يدل بمجرده على الفاعل، و بوقوعه محكما على أن فاعله عالم. و الفعل في هذه الحالة يدل دون أن نضع الفاعل في اعتبارنا، و الأمر على عكس ذلك في اللغة التي لا بدّ من اعتبار حال الفاعل و قصده حتى تقع دلالة فإن «كل فعل لا تعلم صحته و لا وجه دلالته إلاّ بعد أن يعرف حال فاعله لا يمكن أن يستدل به على اثبات فاعله و لا على صفاته، و إنما يمكن أن يستدل به على سوى ذلك من الأحكام، لأنه إن دلّ على حال فاعله، و لا يعلم صحته إلاّ و قد علم فاعله، أدّى ذلك إلى أن لا يدل عليه إلاّ بالمعرفة به، و متى علم الشيء استغني عن الدلالة عليه» (2) و هكذا يعود بنا القاضي عبد الجبار إلى الاساس الذي سبق أن ناقشناه، و هو الأساس الذي يضع اللغة نوعا ثالثا من أنواع الدلالة العقلية.

و إذا كانت اللغة نوعا من الاستدلال المؤدي إلى المعرفة، فمن الطبيعي و الحالة هذه، أن يكون فيها - كأنواع الأدلة عموما - ما هو واضح، و منها ما هو غامض. و على مستوى القرآن سيكون المحكم هو الدليل الواضح، و سيكون

ص: 182


1- 154. رسائل الجاحظ 262/1.
2- 155. القاضي عبد الجبار: متشابه القرآن 83/1-84.

المتشابه هو الدليل الغامض الذي يحتاج لمزيد من النظر حتى يدل. أمّا على مستوى اللغة العادية - كلام البشر - فسيصبح الكلام الخالي من القرينة و الذي يدل بظاهره هو الدليل الواضح، و الغامض هو الذي لا يدل بظاهره و إنما يحتاج لمضامة القرينة حتى يدل. و كل ذلك يتساوى في النهاية، أي يتساوى مفهوم المحكم و المتشابه، مع مفهوم اللغة الحقيقية و اللغة المجازية، و بالتالي يصبح التأويل في المتشابهات هو الوسيلة لرفع غموضها بردها إلى المحكم، و يصبح المجاز هو الأداة الرئيسية لعملية التأويل هذه. و هذه المقابلة بين الاستدلال اللغوي و الاستدلال العقلي يعقدها القاضي عبد الجبار بشكل يؤكّد ما نذهب إليه. يقول:«اعلم أن الغرض بكتاب اللّه جل و عز التوصل به إلى العلم بما كلفناه و بما يتصل بذلك من الثواب و العقاب، و القصص و غيره. و العلوم قد يجوز أن يكون الصلاح فيها أن تكون ضرورية و أن تكون مكتسبة. و متى كانت ضرورية فقد يكون الصلاح أن يتوصل إليها بمعاناة، و قد يكون الصلاح في خلافه و كذلك المكتسب قد يكون الصلاح في أن ينجلي طريقه، و قد تكون المصلحة في أن يغمض ذلك. و صارت العلوم في هذا الوجه بمنزلة سائر الافعال التي يفعلها اللّه و التي يكلفناها. فإذا ثبت ذلك، فكما ليس لأحد من أصحاب المعارف أن يقول: ما الفائدة في أن نكلف اكتساب المعرفة باللّه عز و جل و بتوحيده و عدله، و هلا جعل ذلك أجمع في العلوم الضرورية، ليكون أجلى و لتزول الشبه و الشكوك، فكذلك لا يجوز لهذا السائل مثله في طرق الأدلة فيقول: هلا جعلها عز و جل متفقة في الوضوح! و بمثل ذلك أبطلنا قول من قال بنفي القياس و الاجتهاد إذا عوّل على أن النصوص تزول عنها الريب فيجب أن تكون الأحكام مستدركة بها، فقلنا: إن المصلحة قد تختلف في طرق الأحكام كما تختلف في نفس الأحكام، فكما لا يجوز أن يقال فيها: إنه يجب أن يجري على وجه واحد، فكذلك القول في طريقها و أدلتها» (1) و هذا الاختلاف بين الأدلة في وضوح بعضها و غموض بعضها الآخر يردّ إلى مصلحة خاصة بالمكلف، و هي مصلحة ترتد إلى اثارة العقل «لأنه لا يمتنع أن يكون الصلاح في بعض الأدلة أن يستقل بنفسه فيعرف المراد به بانفراده، و في بعضها أن لا يعرف المراد به إلاّ مع غيره، أ لا ترى أن العادة قد جرت أنّا نعلم المدركات الواضحة بالادراك، و لا نعلم بالاخبار ما تتناولة إلاّ إذا تكررت، و كذلك المدركات إذا غمضت. فإذا جاز اختلاف المصالح فيما يفعله تعالى من العلوم، ففيها ما يفعله تعالى ابتداء. و فيها ما يفعله عن سبب واحد، و فيها ما يفعله عن أسباب، بحسب ما يعلم من الصلاح» (2) .و بفكرة الصلاح يعود القاضي للرد على التساؤل الذي يمكن أن يثار حول أهمية القرآن إذا كان العقل وحده يستطيع أن يعرف اللّه بكل صفاته من

ص: 183


1- 156. المغني 169/5.
2- 157. الكشاف 272/1 ورد ابن المنير على الهامش.

التوحيد و العدل.

و لكي يبين القاضي وجه المصلحة في خطاب اللّه تعالى يفرّق بين وجهين من الكلام «أحدهما يتصل بنفس الخطاب و موضوعه، و الآخر بما يدل الخطاب عليه من الأحكام العقلية و السمعية» (1) :أولهما الكلام نفسه، و الثاني ما يدل عليه هذا الكلام من أحكام العقل و السمع.

فأمّا الجانب الأول - جانب الخطاب نفسه - فهو ينقسم إلى ضربين:

«أحدهما يستقل بنفسه في الانباء عن المراد، فهذا لا يحتاج إلى غيره في كونه حجة و دلالة. و الثاني: لا يستقل بنفسه فيما يقتضيه، بل يحتاج إلى غيره، ثم ينقسم ذلك إلى قسمين: أحدهما يعرف المراد به و بذلك الغير بمجموعهما، و الثاني يعرف المراد به بذلك الغير بانفراده و يكون هذا الخطاب لطفا و تأكيدا» (2) في هذا الوجه الأول، و هو ما يختص بالخطاب نفسه، أي بالعبارة من حيث هي عبارة لغوية، ينقسم الخطاب إلى ثلاثة أنواع: نوع يدل بنفسه - أي بظاهره - دون حاجة لأي معرفة خارجية مستقلة عنه. أما النوع الثاني و هو ما يحتاج في معرفته إلى غيره فينقسم بدوره إلى قسمين: الأول أن يدل الخطاب بنفسه و بذلك الغير معا، أي أن يدل الخطاب على ما يدل عليه بتركيبه الذاتي و بالقرينة الملازمة له - عقلية كانت أو لفظية - معا. أمّا النوع الثاني فهو النوع الذي لا يدل فيه الخطاب على شيء، بل القرينة، العقلية أساسا هي التي تدل، و هي قرينة منفصلة عن الخطاب. و تكون وظيفة الخطاب و الحالة هذه تأكيد هذه الدلالة العقلية السابقة، و يعتبر القاضي عبد الجبار هذا النوع الأخير لطفا.

و يربط القاضي عبد الجبار بين القرينة اللفظية و العقلية في هذه الأنواع من وجهي الخطاب ربطا محكما حيث يقول «و لا يخرج خطاب اللّه أجمع عن هذه الأقسام الثلاثة. و القرائن قد تكون متصلة سمعا، و قد تكون منفصلة سمعا و عقلا، و قد بينا أن الدليل العقلي و إن انفصل فهو كالمتصل في أن الخطاب يترتب عليه، لأن قوله جل و عز: يا أَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ مع الدليل العقلي الدال على أنه لا يكلف من لا عقل له، أكد في بابه من أن يقول: يا أيها العقلاء اعبدوا ربكم» (3) .

كانت هذه الأنواع هي الأنواع التي ينقسم إليه الخطاب بنفسه، أي ببنائه اللغوي. أمّا الوجه الآخر من وجهي الخطاب و هو ما يدل عليه الخطاب من الأحكام العقلية و السمعية فينقسم أيضا إلى أنواع ثلاثة، و هذه الأنواع الثلاثة الأخرى تتطابق مع الأنواع الثلاثة السابقة، غاية الأمر أن الأنواع الثلاثة الأولى

ص: 184


1- 158. القاضي عبد الجبار: المغني 174/5-175.
2- 159. القاضي عبد الجبار: المغني 172/5.
3- 160. القاضي عبد الجبار: المغني 172/5.

تتعلق ببنية الخطاب، أمّا هذه الأنواع فترتبط بمضمونه «و اعلم أن الخطاب على ضربين: أحدهما يدل على ما لو لا الخطاب لما صحّ أن يعلم بالعقل، و الآخر يدل على ما لولاه لأمكن أن يعرف بأدلة العقول. ثم ينقسم ذلك، ففيه ما لو لا الخطاب لأمكن أن يعلم بأدلة العقول، و يصح أن يعلم مع ذلك بالخطاب، فيكون كل واحد كصاحبه في أنه يصح أن يعلم به الغرض. و فيه ما لو لا الخطاب لأمكن أن يعلم بالعقل و لا يمكن أن يعلم إلاّ به.

فالأول هو الأحكام الشرعية، فإنها إنما تعلم بالخطاب و ما يتصل به، و لولاه لما صحّ أن يعلم بالعقل الصلوات الواجبة و لا شروطها و لا أوقاتها، و كذلك سائر العبادات الشرعية.

و الثاني هو القول في أنه عز و جل لا يرى، لأنه يصح أن يعلم سمعا و عقلا، و كذلك كثير من مسائل الوعيد.

و الثالث بمنزلة التوحيد و العدل، لأن قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً و قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ لا يعلم به التوحيد و نفي التشبيه و القول بالعدل، لأنه متى لم يتقدم للانسان المعرفة بهذه الأمور، لم يعلم أن خطابه تعالى حق، فكيف يمكنه أن يحتج فيما ان لم تتقدم معرفته به لم يعلم صحته» (1) .

و هكذا يوضح القاضي عبد الجبار - بالأمثلة - أنواع وجهي الخطاب.

فالنوع الذي يدل ببنيته و لا يحتاج لقرينة عقلية أو لفظية هو الذي يدل على الأحكام الشرعية، فهذه الأحكام كالصلاة و مقاديرها و شروطها لا يمكن أن تعلم إلاّ بخطاب اللّه، و لا يمكن الوصول إليها بالعقل وحده. أمّا النوع الثاني فهو ما يدل بنفسه و بأدلة العقل معا، و يمكن للخطاب وحده أن يدل عليه، و كذلك يمكن للعقل وحده أن يدل عليه، و ذلك مثل الآيات التي وردت في نفي الرؤية عن اللّه و في كثير من مسائل الوعيد. أمّا النوع الثالث من أنواع الخطاب الإلهي فهو لا يدل اطلاقا بصيغته على المراد به، بل العقل هو الذي يدل منفردا، و ذلك كل الآيات التي وردت في التوحيد و العدل.

و يظلّ التساؤل حول النوعين الثاني و الثالث و سبب ورودهما ما دامت أدلة العقل وحدها تفيد عنهما واردا. و لكن علينا ألاّ ننسى أن القاضي لا يفرق بين القرينة اللفظية و العقلية، بل يعتبر القرينة العقلية «أكد في بابه» على حد تعبيره.

و مع ذلك يظلّ السؤال واردا، إذ ما دام العقل وحده يمكن أن يدلنا على مضمون النوعين الثاني و الثالث فما الحاجة للخطاب إذن، و ما وجه دلالته و أهميته؟ هنا يربط

ص: 185


1- 161. المغني 162/15.

القاضي عبد الجبار ورود هذا النوع من الخطاب بالتكليف العقلي و ضرورة النظر و الاستدلال، و يعدّ ورود المحكم من قبيل اللطف الباعث على النظر. و من شأن النظر أن يؤدي إلى المعرفة، و بذلك يكون ورود المحكم غايته اثارة العقل و دفعه للنظر و البحث و الاستدلال «إنه عز و جل إنما خاطب بذلك ليبعث السائل على النظر و الاستدلال، بما ركب في العقول من الأدلة. أو لأنه علم أن المكلف عند سماعه و الفكر فيه يكون أقرب إلى الاستدلال عليه، منه لو لم يسمع بذلك، فهذه الفائدة تخرج الخطاب من حد العبث» (1) .

بعد هذا التفسير الثلاثي للخطاب الالهي بوجهيه، الصيغة و المضمون، يستبعد القاضي عبد الجبار النوع الأول من دائرة المحكم و المتشابه، على أساس أنه يدل بنفسه دون حاجة أو معرفة خارجية، و هو ذلك النوع الذي يدل على الأحكام الشرعية كالصلاة و شروطها و مواقيتها.. الخ. أمّا النوعان الثاني و الثالث و هو الخطاب الذي لا يستقلّ بنفسه فإن الناس قد اختلفوا في العبارة عنه «و ليس المعتبر بالعبارات، لأن وصف بعضه بأنه محكم، و بعضه بأنه متشابه و بعضه بأنه مجاز، و بعضه بأنه محذوف، إلى ما شاكله، لا يؤثر في أنه متفق في الوجه الذي ذكرناه، و في أنه يحتاج فيه إلى طلب قرينة يعرف بها المراد، لكنه قد يختلف، ففيه ما يحتاج إلى قرائن و فيه ما يحتاج إلى قرينة واحدة و يتفاوت في ذلك، و ربما ظهر الحال في تلك القرينة و ربما غمض، و لذلك يكثر اختلاف الفقهاء و أهل العلم فيما هذا حاله» (2) .و يؤكّد القاضي خروج آيات الأحكام من نطاق المحكم و المتشابه في موضع آخر، و ذلك على أساس أن هذه الآيات ترتبط ببعضها في القرآن كله «إن آيات الكتاب التي هي دالّة في الحقيقة على الحلال و الحرام لا يمكن ادعاء التناقض فيها، لأنها إذا اختلفت فلا بدّ من أن تقدر التقدير الذي قدمناه، فيخص بعضها بعضا، و تجعل و هي مفترقة كأنها متصلة، و كأن بعضها مقيد ببعض، على ما يجب في طريقة اللغة» (3) .

و لكي يتأكد للقاضي عبد الجبار هذا الربط بين آيات القرآن و أدلّة العقل و ضرورة رد الأولى إلى الثانية، خصوصا تلك الآيات التي لا تدل بظاهر صيغتها، كان عليه أن ينفي كل تعريفات المحكم و المتشابه التي كانت مطروحة قبله أو في عصره (4) و منها الآراء التي سبق أن أشرنا إليها في صدر هذا الفصل. فهو يرفض الرأي القائل بأن المحكم و المتشابه هو الناسخ و المنسوخ و ذلك «لأن اللغة لا تقتضي ذلك، و قد يكون المنسوخ مما يدل ظاهره على المراد فيكون محكما فيما أريد به و إن نسخ و قد يكون الناسخ غير مستقل بنفسه فيكون متشابها و إن كان المراد به ثابتا

ص: 186


1- 162. المغني 347/16.
2- 163. المغني 162/15-163 و انظر نفس المرجع 166/5 «ان العلم بقصده فرع على العلم بذاته، فلا يصح أن يكون ضروريا و العلم بذاته مكتسبا».
3- 164. المغني 172/5-173.
4- 165. المغني 323/15.

و كذلك القول في القصص إنه إذا كان المراد به جليا وجب أن يكون محكما» (1) .

و من الطبيعي أن يرفض القاضي أيضا ذلك الرأي الذي يقول إن المتشابه هو الحروف المقطعة في أوائل السور، لأن ذلك يؤدّي بالضرورة إلى قبول الرأي القائل بعدم امكانية معرفة المتشابه. و لا يكتفي القاضي برفض هذا الرأي فحسب، بل يحاول أن يطرح تفسيرا لهذه الظاهرة، أو بمعنى أصح أن يقبل تفسير الحسن البصري لهذه الظاهرة، و هي أن هذه الحروف ليست إلاّ أسماء للسور (2) .

يقول:«فأمّا قوله عز و جل في فواتح السور، و ذلك مثل:(المص) و (الم) إلى ما شاكله، فليس من المتشابه. و قد أراد عز و جل به ما إذا علمه المكلف كان صلاحا له. و أحسن ما قيل فيه ما روي عن الحسن و غيره من أنه عز و جل أراد أن يجعله اسما للسور، و اثبات الكلمة اسما للسورة، و القصد بها إلى ذلك مما يحسن في الحكمة، كما يحسن من سائر من عرف شيئا و فصل بينه و بين غيره أن يجعل له اسما ليميزه به من غيره» (3) .

و بعد كل هذه المناقشة و الجدل يعود القاضي ليؤكد الربط بين المحكم و المتشابه من جهة، و بين أنواع الخطاب و دلالته من جهة أخرى «إن المحكم إنما وصف بذلك لأن محكما أحكمه، كما أن المكرم إنما وصف بذلك لأن مكرما أكرمه، و هذا بيّن في اللغة. و قد علمنا أنه تعالى لا يوصف بأنه أحكم هذه الآيات المحكمات من حيث تكلم بها فقط، لأن المتشابه كالمحكم في ذلك، و في سائر ما يرجع إلى جنسه و صفته، فيجب أن يكون المراد بذلك أنه أحكم المراد به بأن جعله على صفة مخصوصة - لكونه عليها (له) تأثير في المراد - و قد علمنا أن الصفة التي تؤثر في المراد هي أن توقعه على وجه لا يحتمل الا ذلك المراد في أصل اللغة، أو بالتعارف، أو بشواهد العقل. فيجب فيما اختص بهذه الصفة أن يكون محكما، و ذلك نحو قوله تعالى قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ اَللّهُ الصَّمَدُ و نحو قوله:

إِنَّ اللّهَ لا يَظْلِمُ النّاسَ شَيْئاً إلى ما شاكله. فأمّا المتشابه فهو الذي جعله عز و جل على صفة تشتبه على السامع - لكونه عليها (غمض) المراد به - من حيث خرج ظاهره عن أن يدل على المراد به لشيء يرجع إلى اللغة أو التعارف، و هذا نحو قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّهَ إلى ما شاكله لأن ظاهره يقتضي ما علمناه محالا، فالمراد به مشتبه و يحتاج في معرفته إلى الرجوع إلى غيره من المحكمات» (4) .

و يورد القاضي عبد الجبار على نفسه اعتراضا مؤدّاه أن اللّه وصف القرآن كله بأنه محكم و ذلك في قوله تعالى الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ ثم وصفه كله بأنه متشابه و ذلك في قوله: اَللّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً و لكنه - ببساطة يساعده عليها سياق الآيات كلها - يرد الاحكام هنا إلى الاعجاز،

ص: 187


1- 166. المغني 215/8.
2- 167. المغني 325/15. 1. تأويل مشكل القرآن/20-21. 2. معجم ألفاظ القرآن الكريم 612/2. 3. السابق 5/2. 4. راجع المعجم المفهرس 527/2-627. 5. راجع المعجم المفهرس 207/2. 6. انظر لسان العرب «مثل» و غيره من المعاجم أيضا، القاموس و أساس البلاغة. 7. الميداني: مجمع الأمثال 51/1. 8. انظر تفسير الآية في الطبري 398/1 و ما بعدها. 9. الطبري: التفسير 544/5-545. 10. الطبري 504/1 و انظر مواضع أخرى يرد فيها نفس التفسير 505،487/3، 118/5. 11. السيوطي: الاتقان 142/1. 12. الطبري:198/6. 13. الطبري 114/3 و انظر رد الطبري لهذه القراءة و تفسيره للآية. 14. الطبري 399/5. و راجع أمثلة أخرى كثيرة لهذا الجدل المبكر حول القرآن: محمد يوسف موسى: القرآن و الفلسفة/32 و ما بعدها. 15. الطبري 397/5. 16. الطبري 172/2-173. 17. جولد تسيهر: مذهب التفسير الاسلامي/132، و انظر أيضا طبقات المفسرين للداودي 307/2-308. 18. السابق/133. 19. الاتقان 141/1. 20. السيوطي: الاتقان 141/1. 21. الأشباه و النظائر/226-228. 22. الأشباه و النظائر. انظر على الترتيب 313،215،139،127،116،108. 23. السابق/116-117. 24. الأشباه و النظائر/181. و انظر أيضا الوجوه المختلفة لكلمة «نار»/223. 25. الأشعري: مقالات الاسلاميين 198/1، و انظر الجاحظ: البيان و التبيين 273/1-274، الزمخشري:293/2-294. 26. Graham Hough:Styleand Stylistics.p.37-38. 27. أحمد مصطفى المراغي: تاريخ علوم البلاغة العربية/43 و انظر ايضا: شوقي ضيف: البلاغة تطور و تاريخ/29. 28. أحمد مصطفى المراغي: تاريخ علوم البلاغة العربية/49. 29. محمد زغلول سلام: أثر القرآن في تطور النقد العربي/39-40 نقلا عن ياقوت: ارشاد الأريب. 30. السيوطي: الاتقان 119/1. 31. محمد زغلول سلام: أثر القرآن في تطور النقد العربي/42-43. 32. مجاز القرآن 100/1-101. 33. السابق 47/1 و لمزيد من الأمثلة في مجاز الحذف انظر 386،298،297،229/1. 34. مجاز القرآن على الترتيب 110/1-19/2،366،192،171،101،111، 150،126،64. 35. مجاز القرآن 93/2. 36. السابق 153،162،196/2. 37. اللسان (جوز) و انظر القاموس ايضا. 38. معاني القرآن 14/1-15. 39. معاني القرآن 363/2. 40. معاني القرآن 182/3. 41. السابق 384/2-385. 42. السابق 406/2. 43. السابق 89/3. 44. السابق 231/1. 45. معاني القرآن 40/1-41. 46. السابق 228/1-229. 47. معاني القرآن 230/1. 48. السابق 305/1. 49. معاني القرآن 34/2-35. 50. السابق 155/2-156. 51. معاني القرآن 242/2. 52. معاني القرآن 90/3. 53. معاني القرآن 15/1. 54. السابق 16،20/3،135،118/2،393،303/1. 55. معاني القرآن 272/2-273. 56. السابق 388/2. 57. Warren.A.Shibles:An Anagysis of Metaphor,P.32. 58. محمد عبد الهادي أبو ريدة: إبراهيم بن سيار النظّام و آراؤه الكلامية/53 نقلا عن البيان و التبيين. 59. انظر العثمانية/230. 60. الحيوان 76/4. 61. الحيوان 57/7. 62. السابق 32/5 و انظر أمثلة لهذه الاستخدامات 23/5-31 و انظر البيان و التبيين 3 /28-29 و لم أورد هذه الأمثلة لكثرة الاستشهاد بها في الدراسات الحديثة. انظر شوقي ضيف: البلاغة تطور و تاريخ 55-56 محمد زغلول سلام: أثر القرآن في تطور النقد /84. 63. العثمانية/230. 64. الحيوان 295/5. 65. البيان و التبيين 222/2. 66. الحيوان 210/6-213 و انظر أيضا 39/4-40. 67. الحيوان 211/1 و انظر أيضا جابر عصفور: الصورة الفنية في التراث النقدي و البلاغي /211 68. الحيوان 211/1. 69. الحيوان 280/5-281. 70. الحيوان 348/1. 71. الحيوان 15/2. 72. رسالة في نفي التشبيه. ضمن رسائل الجاحظ 289/1، و انظر أيضا الحيوان 153/1-154. 73. انظر الجزء الأول 188/1-208،189 و الجزء الرابع 8-20،15،9، 37-77،40-85،80-95،87-103،100،96-199،104-200، 271-275،273-278،278-289، الجزء الخامس 23-92،31-93، 161،100،99-279،162-425،280-426 الجزء السادس 162-164، 210-214،213-248،218،215-260،252-499،272-500 الجزء السابع 57،56،50. 74. البخلاء/144. 75. رسائل الجاحظ 339/1. 76. الحيوان 84/4-85. 77. السابق 133/5. 78. أنظر محمد زغلول سلام: أثر القرآن في تطور النقد العربي/84 و ما بعدها. و أنظر أيضا: مصطفى ناصف: الصورة الأدبية/78. 79. أنظر شوقي ضيف: البلاغة تطور و تاريخ/56. 80. تأويل مشكل القرآن/20-21. 81. النكت في اعجاز القرآن/75. 82. السابق/نفس الصفحة. 83. السابق/75-76. 84. انظر الرسالة/112،95. و الاستشهاد نفسه يؤكّد ما نذهب إليه. 85. انظر الرسالة/76. 86. النكت في اعجاز القرآن/76-77. 87. السابق/80. 88. السابق/81. 89. السابق/نفس الصفحة. 90. السابق/نفس الصفحة. 91. النكت في اعجاز القرآن/82. 92. السابق/85-86. 93. النكت في اعجاز القرآن/86. 94. السابق/نفس الصفحة. 95. السابق/نفس الصفحة. 96. السابق/نفس الصفحة. 97. النكت/88. 98. السابق/104. 99. السابق/نفس الصفحة. 100. السابق/نفس الصفحة. 101. النكت/105. 102. السابق/104. 103. المغني 161/15. 104. المغني 172/5-173. 105. السابق 209،130/7. 106. شرح الأصول الخمسة/436. 107. شرح الأصول/436. 108. السيوطي: الاتقان 36/2 و انظر أيضا ابن القيم الجوزية: الصواعق المرسلة 242/2-243. 109. المغني 178/15-180. 110. المغني 158/13. 111. المغني 198/5-199. 112. المغني 17/7. 113. انظر المغني 85،36،35/8-86. 114. المغني 187/5. 115. س. أولمان: دور الكلمة في اللغة/62. 116. المغني 186/5، انظر أيضا في قياس الغائب على الشاهد 76،49/7،229/5. 233،228/8-135/11.234. 117. المغني 198/5-199. 118. عبد القاهر الجرجاني: أسرار البلاغة 269/2. 119. المغني 227/5-228. 120. السابق 215/5. 121. السابق 111/5. 122. السابق 188/5 123. شرح الأصول/468. 124. المغني 213/7. 125. المغني 231/8 126. السابق 18/12. 127. المغني 187/5. 128. السابق 197/5. 129. السابق 188/5. 130. انظر هذا الخلاف: المغني 188/5-189. 131. المغني 190/5. 132. المغني 189/5، و انظر أيضا نفس المصدر 186/7. 133. المغني 323/15. 134. المغني 166/5. 135. المغني 280/13. 136. السابق 114/15. 137. المغني 6 (القسم الثاني)15-16. 138. السابق 28/17. 139. المغني 37/17. 140. السابق 324/15. 141. أنظر: الامام الشافعي: الرسالة/17-18. و مناقشة القاضي عبد الجبار لقضية دلالة العموم و الخصوص: المغني 81/17-84. 1. الطبري 198/6. 2. السابق/نفس الجزء و الصفحة. 3. الطبري 197/6-180 و أنظر الرواية كاملة 216/1-218 و نقد المرحوم أحمد شاكر للرواية بالهامش 218 و ما بعدها. 4. الطبري 186/6-187. 5. انظر في تعضيد هذا الرأي: النيسابوري: أسباب النزول/53. و الطبري نفسه يورد هذا السبب في رواية أخرى عن محمد بن جعفر ابن الزبير 151/6-154. 6. الطبري 187/6 و طبقات المفسرين 44/2. 7. الطبري 189/6. 8. الطبري 175/6. 9. السابق 174/6. 10. الطبري 203/6. 11. الداودي: طبقات المفسرين 308/2. 12. الطبري 177/6. 13. انظر 262،59/1-616/2،265. 14. انظر 19-137،20. 15. الحسن البصري: رسالة في القدر: ضمن (رسائل العدل و التوحيد)84/1. 16. السابق/86-87. 17. السابق/87. 18. جولد تسيهر: مذاهب التفسير الاسلامي/132 و لمزيد من التفاصيل انظر طبقات المفسرين 307/2-308. 19. جولد تسيهر: مذاهب التفسير الاسلامي/133. 20. الطبري 177/6. 21. الطبري 177/6. 22. الطبري 199/6. 23. السابق 200/6. 24. السابق 201/6-203. 25. رسالة في القدر (ضمن رسائل العدل و التوحيد)83/1. 26. الزمخشري: الكشاف 49/2. 27. الداودي: طبقات المفسرين 331/2. 28. الأشباه و النظائر: المقدمة/81. 29. انظر محمد يوسف موسى: القرآن و الفلسفة:35 نقلا عن الملطي. 30. الأشباه و النظائر/131. 31. السابق/25-26. 32. الأشباه و النظائر/321. 33. السابق/321-322. 34. السابق/232. 35. الأشباه و النظائر/322. 36. الكشاف 543/3. 37. الانتصاف (على هامش الكشاف)543/3. 38. جابر عصفور: الصورة الفنية في التراث النقدي و البلاغي/94. 39. الأشباه و النظائر/234. 40. الكشاف 9/2. 41. الأشباه و النظائر/111. 42. الأشباه/292. 43. السابق/235-236 و انظر أيضا مادة «نرى»236-237. 44. الأشباه و النظائر/239. 45. مقدمة الأشباه و النظائر/52. 46. مقدمة الأشباه و النظائر/57. 47. الأشباه و النظائر/137-138. 48. السابق/244. 49. تنزيه القرآن عن المطاعن/184 و انظر ايضا متشابه القرآن/384-386. 50. الجاحظ: الحيوان 47/3. 51. البيان و التبيين 273/1-274 و انظر أيضا الكشاف 293/2-294، و انظر مقالات الاسلاميين 198/1. 52. مجاز القرآن 112/2. 53. السابق 190/2. 54. السابق 266/1. 55. السابق 290/1. 56. السابق 276/1. 57. السابق 170/1. 58. السابق 20/2. 59. السابق 73/2. 60. السابق 82/1. 61. السابق 244/1. 62. السابق 215/1،132/2. 63. السابق 164/1. 64. السابق 160/1. 65. السابق 243/1. 66. السابق 147/2. 67. السابق 113/2. 68. مجاز القرآن 359/1. 69. السابق 372/1. 70. متشابه القرآن 462/2 و تنزيه القرآن عن المطاعن/227. 71. الكشاف 442/2. 72. مجاز القرآن 270/7. 73. المدارس النحوية 195،193،192. 74. أثر القرآن في تطور النقد العربي/58. 75. معاني القرآن 360/2-361. 76. Toshihko Izutsu:Revelation as Alinguistic Concept in Islam.p.129. 77. و كأنما لم يكن جبريل يستطيع أن يرفعه للسماء دون كوّة. 78. معاني القرآن 218/1. 79. معاني القرآن 384/2 و انظر أيضا جولد تسيهر: مذاهب التفسير في الاسلام/ 33-35. 80. معاني القرآن 325/1 و انظر أيضا جولد تسيهر/36-37. 81. معاني القرآن 249/1 و لمزيد من الامثلة انظر:101،89،34/3،204/2، 261،158،116. 82. س. أولمان: دور الكلمة في اللغة/169. 83. راحة العقل/53. 84. راحة العقل/50. 85. السابق/42-43. 86. السابق/51-52. 87. معاني القرآن 314/2. 88. السابق 65/3. 89. السابق 177/3. 90. معاني القرآن 412/2. 91. السابق 329/1. 92. السابق 132/2. 93. السابق 366/1 و انظر أيضا 124/1. 94. السابق 89/3. 95. الصواعق المرسلة 11/1. 96. الصواعق المرسلة 12/1-13. 97. السابق 11/1-12. 98. الكشاف 382/3. 99. معاني القرآن 119/2. 100. معاني القرآن 89/3. 101. انظر متشابه القرآن/628-629 و تنزيه القرآن عن المطاعن 402. 102. الكشاف 21/4. 103. معاني القرآن 415/2 و لمزيد من الأمثلة في قضية العدل انظر 257/2-258، 271،187/3. 104. رسائل العدل و التوحيد 96/1. 105. السابق/نفس الجزء و الصفحة. 106. رسائل العدل و التوحيد 97/1. 107. السابق/نفس الجزء و الصفحة. 108. القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة/606-607. 109. رسائل العدل و التوحيد 106/1. 110. السابق 109/1. 111. انظر هذه الأدلة القرآنية و مناقشة القاضي لها: المغني 87/7-91. 112. للقاضي عبد الجبار جزء كامل من كتابه المغني هو الجزء السابع أفرده لقضية خلق القرآن. و انظر أيضا أحمد أمين: ضحى الاسلام 161/3 و ما بعدها. 113. تأويل مشكل القرآن/111. 114. السابق/112-115. 115. المغني 90/7. 116. انظر الشهرستاني: الملل و النحل 162/1، محمد عمارة: رسائل العدل و التوحيد. المقدمة/50. 117. أبو المعين النسفي: بحر الكلام في علوم التوحيد/68. 118. جولد تسيهر: مذاهب التفسير الاسلامي/3. 119. ابن قتيبة: تأويل مختلف الحديث/55-57. 120. رسائل العدل و التوحيد 97/1-98. 121. تأويل مختلف الحديث/55. 122. انظر العثمانية/115،100-119. 123. انظر تأويل مختلف الحديث/71-73. 124. انظر تأويل مشكل القرآن 115-121. 125. السابق/103. 126. السابق/104 و أنظر أيضا القاضي عبد الجبار في تأويل هذه الصفة في الكتاب المقدس، المغني 110/5-111. 127. تأويل مشكل القرآن/132-133. 128. تأويل مشكل القرآن/112-115. 129. مصطفى ناصف: الصورة الأدبية/79، و انظر أيضا جابر عصفور الصورة الفنية /164. 130. تأويل مشكل القرآن/101. 131. تأويل مشكل القرآن/86. 132. السابق/98-99. 133. تأويل مشكل القرآن/100-101. 134. تأويل مشكل القرآن: انظر على الترتيب/105،382،138،137،254، 311،191،181-277،434،312 و ما بعدها،280. 135. تأويل مختلف الحديث/34-35. 136. تأويل مشكل القرآن/123-125. 137. الزمخشري: الكشاف 426/2-427. 138. تأويل مشكل القرآن/282. 139. تأويل مشكل القرآن/481-482. 140. السابق/76. 141. السابق/76-78. 142. السابق/76-78. 143. السابق/76-78. 144. المحكم و المتشابه (ضمن رسائل العدل و التوحيد)107/2. 145. المحكم و المتشابه 37/2. 146. السابق 108/2. 147. المحكم و المتشابه انظر على الترتيب:85/2-89،86-92،91-93، 94-98،97. 148. رسائل العدل و التوحيد انظر على الترتيب 100،99/2-103،102-106. 149. رسائل العدل و التوحيد 87/2-88. 150. رسائل العدل و التوحيد 90/2. 151. متشابه القرآن/10. 152. المغني 176/12. 153. متشابه القرآن/1، انظر أيضا المغني 395/16. 154. المغني 394/16-395. 155. متشابه القرآن/1. 156. متشابه القرآن/23-24. 157. متشابه القرآن/18. 158. السابق/33. 159. السابق/34. 160. متشابه القرآن/34. 161. متشابه القرآن/35-36. 162. متشابه القرآن/4 و لمزيد من التفاصيل حول هذه الفكرة انظر نفس المصدر/24 و ما بعدها، المغني 373/16-376، شرح الأصول الخمسة/599-600. 163. متشابه القرآن/34. 164. المغني 395/16. 165. كان الخلاف حول تعريف المحكم و المتشابه ما يزال مستمرا، و كذلك الخلاف حول امكانية معرفة المتشابه، و بالتالي التوجيه النحوي للآية على العطف أو الاستثناء. انظر مقالات الاسلاميين 293/1-295. 166. متشابه القرآن/20. 167. انظر الخلاف حول تفسير هذه الظاهرة الطبري 205/1 و ما بعدها.
3- 168. متشابه القرآن/16-17.
4- 169. متشابه القرآن/19 و انظر أيضا شرح الأصول الخمسة/600-601.

و يرد التشابه إلى التساوي في المصلحة و الدلالة «فأمّا وصف جميعه بأنه محكم فليس المراد به ما قدمناه، و إنما أريد به أنه تعالى أحكمه في باب الاعجاز و الدلالة على وجه لا يلحقه خلل، و وصف جميعه بأنه متشابه، المراد به أنه سوّى بين الكل في أنه أنزل على وجه المصلحة و دل به على النبوة، لأن الأشياء المتساوية في الصفات المقصود إليها يقال فيها متشابهة» (1) .

و إذا كان القاضي قد أخضع دلالة القرآن كله لدلالة العقل، بناء على أن اللغة لا تدل إلاّ بعد معرفة القائل، فإن المحكم و المتشابه كليهما في حاجة إلى هذه المعرفة العقلية لوقوعهما دلالة. و يرى القاضي «أن المحكم كالمتشابه من وجه، و هو يخالفه من وجه آخر. فأمّا الوجه الذي يتفقان فيه فما قدمناه من أن الاستدلال بهما أجمع لا يمكن إلاّ بعد معرفة حكمة الفاعل و أنه لا يجوز أن يختار القبيح، لأن الوجه الذي له قلنا ذلك لا يميز المحكم من المتشابه... و أمّا الوجه الذي يختلفان فيه، فهو أن المحكم إذا كان في موضوع اللغة أو لمضامة القرينة، لا يحتمل إلاّ الوجه الواحد، فمتى سمعه من عرف طريقة الخطاب و علم القرائن أمكنه أن يستدل في الحال على ما يدل عليه. و ليس كذلك المتشابه، لأنه و إن كان من العلماء باللغة و يحمل القرائن، فإنه يحتاج عند سماعه إلى فكر مبتدأ و نظر مجدد ليحمله على الوجه الذي يطابق المحكم أو دليل العقل. و يبين صحة ذلك أنه عز و جل بين في المحكم أنه أصل للمتشابه، فلا بدّ أن يكون العلم بالمحكم أسبق ليصحّ جعله أصلا له» (2) .

و هكذا يظلّ القاضي عبد الجبار يلحّ على فكرة النظر التي هي و الاستدلال شيء واحد، و ذلك ليظل مخلصا لتصوره العام للغة على أنها نوع من أنواع الدلالة،. و إذا كان الكلام محتملا لوقوع المجاز فيه، على عكس الأنواع الأخرى من الدلالة، فمن الطبيعي أن ينفي القاضي عن المجاز تهمة الكذب التي سعى خصومهم لالزامهم بها، و ذلك لنفي الكذب عن القرآن، و جعل تأويلاتهم قائمة على أساس مكين.

و نفي الكذب عن المتشابه، ليس إلاّ دفاعا عن المجاز في اللغة عموما مما يؤكد العلاقة بين القضيتين عند القاضي «اعلم أن المتكلم قد يكون صادقا بالكلام المحتمل، إذا أراد به الوجه الصحيح، و يحل جميع ذلك محل كونه صادقا، بالكلام المخصوص، الذي لا يحتمل، لأن الصدق ليس بمقصور على الحقيقة، دون المجاز، و إنما يكون المتكلم صادقا، بالكلام الذي يجوز أن يتناول المراد باللغة، على وجه إذا قصد به وجه الصدق، فإذا صح ذلك في المتشابه، كصحته في المحكم، و لم

ص: 188


1- 170. متشابه القرآن/20-21.
2- 171. السابق 6-7.

يمتنع أن يكون له معنى، فيجب أن لا يكون قبيحا، لأن من حق الصدق، إذا خرج من أن يكون عبثا، بحصول غرض صحيح فيه، أن يكون حسنا، فإذا كان هذا حال المتشابه، فكيف ينفي وقوعه من الحكيم؟» (1) .

و إذا كان المحكم يدل بظاهره على ما يدل عليه العقل، فالحاجة إليه تصبح ضرورية و هامة لمجادلة الخصوم الذين يتمسكون بظاهر المتشابه، و ذلك إلى جانب ضرورته لاثارة التأمل و الحث على النظر و الاستدلال.«إن المخالفين في التوحيد و العدل يمكن أن نحاجهم بذكر المحكم و نبين مخالفتهم لما أقروا بصحته في الجملة، و يبعد ذلك في المتشابه، فلذلك تجد كتب شيوخنا رحمهم اللّه مشحونة بذكر هذا الباب ليبينوا أن القوم كما خرجوا عن طريقة العقول فكذلك عن الكتاب» (2) .

و هكذا يتحوّل القرآن بمحكمه و متشابهه، و كذلك المجاز، إلى قرائن و أدلّة عقلية غايتها الحث على التأمل و النظر و مجادلة الخصوم و كشف تهافت حججه و أقاويله. و من الطبيعي بعد ذلك أن يكون المتشابه مما يمكن معرفته، لأنه لا بدّ أن يقع دلالة و إلاّ كان اللّه عابثا بمخاطبتنا به. و من الطبيعي أيضا أن يكون التوجيه النحوي للآية عند القاضي على العطف لا على الاستئناف، و يكون الراسخون في العلم يعلمون المتشابه و هم «مع العلم بذلك يقولون آمنا به في أحوال علمهم به ليكمل مدحهم، لأن العالم بالشيء إذا أظهر التصديق فقد بالغ بما يلزمه، و لو علم و جحد لكان مذموما» (3) .

و بذلك كله يكون القاضي عبد الجبار قد ربط بين المجاز و التأويل و المحكم و المتشابه. و ربط كل هذه القضايا بالأساس العقلي للمعرفة عند المعتزلة. و يصبح هناك نوع من الموازاة بين المحكم و المتشابه من جهة، و المعرفة الضرورية و المعرفة النظرية من جهة أخرى. يتشابه المحكم مع المعرفة الضرورية بوضوحه و انكشافه دون حاجة للاستدلال. و على العكس من ذلك المتشابه الذي لا يعرف المراد به إلاّ بالتأمل و التأويل، تماما كما لا يمكن التوصل إلى العلوم النظرية إلاّ بالاستدلال و النظر. و كما أن العلوم الضرورية تعدّ أساسا للعلوم النظرية، فكذلك المحكم يعدّ أساسا لفهم المتشابه. و نتيجة لذلك كله يصبح التأويل قرينا للاستدلال و مرادفا له بنفس القدر الذي أصبحت فيه اللغة نوعا ثالثا من الدلالة العقلية لها شروطها الخاصة لوقوعها دلالة.

و من الضروري - لاكتمال جوانب دراستنا - أن نعرض لبعض جهود القاضي عبد الجبار في التأويل. و لمّا كانت جهود المعتزلة في التأويل تنصبّ أساسا

ص: 189


1- 172. المغني 372/16.
2- 173. متشابه القرآن/7.
3- 174. متشابه القرآن/15 و انظر أيضا المغني 173/12-378/16،177-380 و شرح الأصول/603.

على آيات التوحيد و العدل بكل تفاصيلهما، و لمّا كنا قد عرضنا لكثير من هذه الآيات في الفصول السابقة، فقد رأينا أن نقتصر في عرض جهود القاضي على قضيتين أساسيتين هما: قضية رؤية اللّه عز و جل، و قضية خلق الأفعال. و مبرر اختيار هاتين القضيتين، أن أولاهما تعدّ - إلى جانب قضية الكلام - من أهم القضايا الخلافية بين المعتزلة و خصومهم، و تظهر فيها بوضوح كامل مشكلة التأويل لورود بعض آيات القرآن باثباتها، و ذلك على عكس قضية الكلام التي تعدّ قضية جدلية أكثر منها قضية متصلة بتأويل النص القرآني، أمّا قضية خلق الافعال فترجع أهميتها إلى أنها أساس نشأة الفكر الاعتزالي برمته كما سبقت الاشارة في التمهيد.

و هي - أيضا - قضية خلافية ظل الخلاف فيها مستمرا، هي و قضية الرؤية، حتى عصور متأخرة. لذلك كله نكتفي بهاتين القضيتين كنموذجين لقضايا التوحيد و العدل، يكشفان لنا عن نهج القاضي في التأويل و علاقته بباقي جوانب الفكر الاعتزالي التي أسهبنا في شرحها.

ب - التوحيد و قضية رؤية اللّه

قضية الرؤية، و جوازها على اللّه و عدم جوازها عليه، من القضايا الهامة التي ثارت بين المعتزلة و خصومهم، و أثارت كثيرا من الجدل و النقاش. و ترتبط هذه القضية - في مفاهيم المعتزلة - بقضية التوحيد و نفي الجسمية عن اللّه، ذلك أن اثبات اللّه مرئيا يقتضي كونه في جهة و متحيزا في المكان. و لذلك سعى المعتزلة إلى نفي أن يكون اللّه مرئيا بأي صورة من الصور، و إلى نفي ذلك عنه في الدنيا و في الآخرة على السواء. و لم يكن سبيل ذلك سهلا أمامهم، فالاعتراضات كثيرة. و إذا كانوا قد وجدوا في بعض آيات القرآن سندا لوجهة نظرهم، فقد اعترضتهم آيات أخرى استشهد بها خصومهم في رد هذه الدعوى. و من ثم لم يكن أمام المعتزلة سبيل إلاّ تأويل هذه الآيات التي يستشهد بها الخصوم تأويلا يتفق مع وجهة نظرهم في التوحيد، و فيما يجوز على اللّه و ما لا يجوز عليه. و نظروا إلى الآيات التي استشهد بها الخصوم على أنها من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلاّ اللّه و الراسخون في العلم، و نظروا إلى الآيات التي تسند وجهة نظرهم على أنها من المحكم الذي ترد إليه آيات الخصوم المتشابهة. و كان من الطبيعي أن يلجأ الخصوم إلى نفس الحيلة، فيعتبروا ما يدعم وجهة نظرهم محكما، و ما يدعم وجهة نظر المعتزلة متشابها. و كان من الطبيعي أيضا أن يدّعي كل طرف لنفسه صفة «الراسخين في العلم» القادر على التأويل الصحيح.

ص: 190

و يستلفت نظر الباحث في هذه القضية أن المعتزلة - على غير عادتهم - لا يلزمون خصومهم الكفر على القول بجواز رؤية اللّه جل و عز، و من ثم فهم أقل تشددا في الهجوم على خصومهم، و ذلك على عكس ما نرى من تشدد في مواقفهم من قضية خلق الأفعال أو خلق القرآن، و هما قضيتان ترتبط أولاهما بالأصل الثاني من أصول المعتزلة و هو العدل، أما الثانية فترتبط بأصل التوحيد الأول.

و المعتزلة - في قضية الرؤية - لا يتساهلون مع خصومهم فحسب، بل يلتمسون لهم العذر إذا هم جوّزوا الرؤية على اللّه من غير كيفية، أي من غير تشبيه للّه بالاجساد. و هم - أي المعتزلة - في ذلك يفرقون بين أنواع المدركات، و مدى وضوحها و العلم بها، فأجناس المسموعات و المشمومات و المذوقات لا جدال في وضوحها و العلم بها، و ليس كذلك أجناس المرئيات التي منها ما هو جوهر، و منها ما هو عرض، و هي لذلك ليست على نفس الدرجة من الوضوح و العلم، و من ثم كثرت فيها الشبه و الاعتراضات. و من أجل هذه الشبه التي تتعلّق بالمرئيات دون ما عداها من أنواع المدركات لا يلزم من جوّز على اللّه الرؤية الكفر، إذا جوّزها من غير تشبه للّه بالاجساد، إذ أنه بذلك لا يكون مخالفا للمعتزلة في الأصل الذي يدافعون عنه، و هو التوحيد و التنزيه، و إنما يكون خلافه لهم ناتجا عن سوء التفرقة بين أنواع المدركات. يقول أبو هاشم الجبائي:«إن العلم بأن ما خالف في جنسه الأصوات و الكلام لا يصح أن يكون مسموعا أظهر من العلم بأن ما خالف هذه الأجناس المرئية لا يصح أن يكون مرئيا... إنه يقرب عندي أن يكون العلم بأن الجسم لا يسمع، و الحركة لا تسمع و لا يصح ذلك فيهما، ضروريا... إن المسموعات نوع واحد، فلا يصح اثبات مسموع ليس منها، و كذلك المدركات من جهة الشم. و الذوق. فأمّا المرئيات فمخالفة لها في ذلك، لأنها تشتمل على نوعين مختلفين جوهر و عرض، فلم ينحصر المرئي على الوجه الذي انحصر عليه المسموع، فلذلك لزم من قال إن اللّه تعالى يسمع الكفر، و لم يلزم ذلك من قال إنه يرى إذا نفى التشبيه. و لذلك ظهر القول في أنه تعالى لا يسمع، و التبس ذلك في الرؤية و كثرت الشبه» (1) .

غير أن قضية نفي الرؤية عن اللّه، إلى جانب اتصالها بأصل التوحيد، و هو الأصل الأول للمذهب الاعتزالي، تتصل من جانب آخر بصفات المدح التي لا يجب نفيها عن اللّه. بمعنى أن اللّه تعالى إذا كان قد تمدّح نفسه بأنه لا يرى، فإن الزعم بأنه يرى هو نفي للمدح الذي مدح به ذاته. و في هذا السبيل يقسم المعتزلة ما يمتدح به اللّه سبحانه نفسه إلى قسمين: القسم الأول، ما يرجع إلى صفات الفعل، أمّا القسم الثاني فهو ما يرجع إلى صفات الذات.

ص: 191


1- 175. المغني 134/4-135.

و ينقسم القسم الأول من صفات المدح إلى: ما يتمدح باثباته، و ما يتمدح بنفيه.

و ما يتمدح باثباته من الصفات الراجعة إلى الفعل ينقسم بدوره إلى قسمين:

أحدهما يقتضى نفيه نقصا، مثل التمدّح بفعل الواجب و التمكين و ازاحة العلل و اثابة المطيع، و ثانيهما ما لا يقتضى نفيه نقصا مثل فعل الاحسان و التفضل. و أمّا ما يتمدح بنفيه من صفات الفعل فعلى قسمين أيضا: أحدهما يوجب اثباته النقص كنفي الظلم، و ثانيهما ما لا يقتضي اثباته نقصا مثل أن يمتدح بألاّ يعاقب الكافر و لو عاقبه لم يقتض ذلك نقصا فيه.

أمّا القسم الثاني، و هو التمدح بالأمر الذي يرجع إلى صفات الذات، فينقسم إلى ثلاثة أقسام: أولهما التمدح بما هو اثبات في الحقيقة، و نفي ذلك يوجب النقص، و ذلك كمدحه بأنه قديم. و ثانيهما التمدح بما يجري مجرى الاثبات مثل وصفنا له بأنه عالم و قادر وحي، و نفي ذلك يوجب النقص. و ثالثهما التمدح بما يجري مجرى النفي مثل نفي الرؤية و النوم، و اثبات ذلك يوجب النقص. (1) .

و إلى هذا النوع الثالث من القسم الثاني ينتمي ما تمدح اللّه به نفسه من نفي الرؤية عن ذاته، و من ثم فإن اثبات الرؤية له تقتضي نقصا ينبغي نفيه عن اللّه جل و عز. و الدليل السمعي الذي يورده المعتزلة على خصومهم في هذا الصدد هو قوله تعالى لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (الانعام/103). و لكي يؤكد المعتزلة أن هذه الآية وردت مورد التمدح يلجئون إلى السياق الذي وردت فيه الآية «لأن سياق الآية يقتضي ذلك، و كذلك ما قبلها و ما بعدها، لأن جميعه في مدائح اللّه تعالى، و غير جائز من الحكيم أن يأتي بجملة مشتملة على المدح ثم يخلطها بما ليس بمدح البتة، أ لا ترى أنه لا يحسن أن يقول أحدنا: فلان ورع تقي نفي الجيب مرضي الطريقة أسود يأكل الخبز يصلي بالليل و يصوم بالنهار، لما لم يكن لكونه أسود يأكل الخبز تأثير في المدح. يبين ذلك، أنه تعالى لما بيّن تميزه عمّا عداه من الأجناس بنفي الصاحبة و الولد بيّن أنه يتميز عن غيره من الذوات بأنه لا يرى و يرى» (2) .

و فكرة المدح لا تنفصل عند المعتزلة عن فكرة التوحيد و التنزيه و نفي مشابهة اللّه للبشر و الأجساد، بل هما فكرتان مرتبطتان غير منفصلتين «فإن قيل: و أي مدح في أنه لا يرى القديم تعالى و قد شاركه فيه المعدومات و كثير من الموجودات؟ قلنا:

لم يقع التمدح بمجرد أن لا يرى، و إنما يقع التمدح بكونه رائيا و لا يرى، و لا يمتنع في الشيء أن لا يكون مدحا ثم بانضمام شيء آخر اليه يصير مدحا، و هكذا فلا مدح في نفي الصاحبة و الولد مجردا ثم إذا انضم إليه كونه حيّا لا آفة به صار

ص: 192


1- 176. راجع المغني 154/4-156، شرح الأصول الخمسة 238.
2- 177. شرح الأصول الخمسة 235-236، و سياق الآية يؤكد الفكرة. و انظر انكار الباقلاني لفكرة المدح في الآية. الانصاف/161.

مدحا. و هكذا فلا مدح في أنه لا أول له، فإن المعدومات تشاركه في ذلك، ثم يصير مدحا بانضمام شيء آخر إليه، و هو كونه قادرا عالما حيا سميعا بصيرا موجودا، كذلك في مسألتنا. و حاصل هذه الجملة، أن التمدح إنما يقع لما تقع به البينونة بينه و بين غيره من الذوات، و البينونة لا تقع إلاّ بما نقوله، لأن الذوات على أقسام، منها ما يرى و يرى كالواحد منا، و منها ما لا يرى و لا يرى كالمعدومات، و منها ما يرى و لا يرى كالجماد، و منها ما لا يرى و يرى كالقديم سبحانه و تعالى.

و على هذا الوجه صحّ التمدح بقوله: و هو يطعم و لا يطعم» (1) و هكذا ترتبط فكرة المدح بتباين الذات الالهية عن الذوات البشرية. و فكرة التباين ليست سوى التنزيه عن صفات النقص البشرية، و تأكيد صفات الكمال، بمعنى أن الذات الالهية و إن حملت بعض الصفات البشرية كالحياة و العلم و الارادة و السمع و البصر، فإن هذه الصفات قد بلغت أوج كمالها في اللّه و تفاوتت في البشر، أمّا صفات النقص و الضعف في البشر فهي منفية نفيا كاملا عن اللّه. و هكذا تقع البينونة التي هي أساس المدح. و هكذا تلتقي فكرتا التوحيد و المدح في قضية نفي الرؤية عن اللّه.

و إذا كان المعتزلة - على غير عادتهم - لا يلزمون من جوّز رؤية اللّه من غير كيفية الكفر على أساس أن التفرقة بين أنواع المرئيات مما يصعب و يلتبس، فإنهم أيضا - على غير عادتهم - يجيزون الاستدلال على مسألة نفي الرؤية بالعقل و السمع جميعا «لأن صحة السمع لا تقف عليها، و كل مسألة لا تقف عليها صحة السمع فالاستدلال عليها بالسمع ممكن. و لهذا جوّزنا الاستدلال بالسمع على كونه حيا، لما لم نقف صحة السمع عليها، يبين ذلك أن أحدنا يمكنه أن يعلم أن للعالم صانعا حكيما، و إن لم يخطر بباله أنه هل يرى أم لا، و لهذا لم نكفر من خالفنا في هذه المسألة، لما كان الجهل بأنه تعالى لا يرى لا يقتضي جهلا بذاته و لا بشيء من صفاته» (2) و المسألة ترتبط في النهاية بعدم المساس بأصل التوحيد الذي يدافع عنه المعتزلة، لكنهم حين يجدون خصومهم يبدءون استدلالهم بالسمع، أي من القرآن الشريف، و السنة النبوية، على اعتبار أن قضية التوحيد، و منها الرؤية، لا تؤخذ إلاّ من السمع و لا مجال فيها للعقل، و هو منطلق يخالف تمام المخالفة ما ينطلق منه المعتزلة حيث يعتبرون أن قضايا التوحيد و العدل هي قضايا عقلية في الأساس الأول و أن السمع قد جاء لتأكيدها، و لذلك قال أبو علي الجبائي «إن سائر ما ورد به القرآن في التوحيد و العدل ورد مؤكدا لما في العقول، فأمّا أن يكون دليلا بنفسه يمكن الاستدلال به ابتداء فمحال» (3) .حين يجد المعتزلة أن خصومهم يبدءون استدلالهم بالسمع يلجئون إلى نزع هذا السلاح من يدهم بادئ ذي بدء على

ص: 193


1- 178. شرح الأصول الخمسة 236-237.
2- 179. شرح الأصول الخمسة/233 و بذلك تكون الآية واقعة في الصنف الثاني من أصناف دلالة الخطاب على ما يدل عليه. فآيات الرؤية تدل على ما يدل عليه العقل من نفيها. و الآيات وحدها، و كذلك العقل وحده - دلالة - و لا يتعلق أحدهما بالآخر. انظر الفصل السابق.
3- 180. المغني 174/4-175.

أساس أنهم لا يصح لهم العلم بالسمعيات «لأنهم قد أفسدوا على أنفسهم طريق العلم بأنه سبحانه لا يفعل القبيح لاضافتهم القبائح كلها إلى اللّه» (1) .

و إذا كانت قضايا التوحيد و العدل هي قضايا عقلية في المحل الأول، فإن صحة السمع تنبني على أدلّة العقل، و ما ورد في السمع مخالفا لأدلة العقل يجب تأويله بما يتفق مع هذه الأدلة العقلية. و لا تناقض بين هذا المبدأ و بين قول المعتزلة إن قضية الرؤية مما يصحّ أن يستدلّ عليها بالعقل و السمع معا إذا كانت هذه القضية، حتى مع الجهل بها، لا تقدح في أساس التوحيد. على أنهم في هذه القضية يربطون بين العقل و السمع و لا يقدمون السمع على العقل، بل يجعلونهما متساويين في الدلالة.

(2) و إذن يقوم مسلك المعتزلة في تأكيد أفكارهم العقلية عن اللّه تعالى على ثلاث وسائل: الوسيلة الأولى هي التفرقة بين المحكم و المتشابه، و اعتبار ما يدعم وجهة نظرهم محكما يدل بظاهره، و في نفس الوقت اعتبار ما يدعم وجهة نظر الخصوم متشابها في حاجة إلى التأويل. أمّا الوسيلة الثانية فهي التأويل و غايته رفع التناقض الذي يمكن أن يوجد بين أفكارهم العقلية عن اللّه و بين ظاهر بعض الآيات التي يستشهد بها الخصوم، و التي يعدها المعتزلة متشابها. أمّا الوسيلة الثالثة فهي انكار حق الخصوم، أو قدرتهم على معرفة السمعيات و فهمها، لأن صحة السمع موقوفة على العدل و التوحيد و هي قضايا عقلية، و لأن الخصوم «قد أفسدوا على أنفسهم طريق العلم بأنه سبحانه لا يفعل القبيح لاضافتهم القبائح كلها إلى اللّه».

و هذه الوسيلة الأخيرة لا يسلكها المعتزلة في الرد على خصومهم في قضية الرؤية و ذلك لأنها لا تقدح في أصل التوحيد أولا، و ثانيا لأنها من المسائل الشائكة التي كثرت فيها الشبه و الاعتراضات، بسبب صعوبة التفرقة بين أنواع المدركات كما سبقت الاشارة. و على ذلك يبدأ المعتزلة نقاشهم قضية الرؤية على أساس ايراد أدلتهم السمعية، و هي المحكمة من وجهة نظرهم على نفي الرؤية، ثم يلجئون إلى أدلّة الخصوم - و هي المتشابه - مستخدمين سلاح التأويل و المجاز.

يورد المعتزلة على خصومهم قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ، وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (الأنعام/103) فيأخذونه دليلا على صحة ما أثبتوه عقلا من أن اللّه تعالى لا يصحّ أن يرى. غير أن هذا الدليل السمعي لا يسلم للمعتزلة من النقض، إذ يلجأ خصومهم إلى التفرقة بين لفظ «أدرك» و لفظ «رأى» على أساس أن الادراك غير الرؤية و أن اللّه إذا كان قد نفى أن يدرك بالبصر فإنه لم

ص: 194


1- 181. المغني 173/4.
2- 1. انظر على سبيل المثال نللينو: بحوث في المعتزلة، في (التراث اليوناني في الحضارة الاسلامية) ص 203،202. أوليري: الفكر العربي و مركزه في التاريخ ص 67، دي بور: تاريخ الفلسفة في الاسلام/48-49 زهدي جار اللّه: المعتزلة ص 75،36،2

ينف أن يرى إذ «أن الادراك عبارة عن الاحاطة و منه فلما أدركه الغرق أحاط به و إنّا لمدركون أي محاط بنا فالمنفي إذا عن الأبصار احاطتها به عز و علا لا مجرد الرؤية... يدل لنا أن تخصيص الاحاطة بالنفي يشعر بطريق المفهوم بثبوت ما هو أدنى من ذلك و أقله مجرد الرؤية كما أنّا نقول لا تحيط به الأفهام و إن كانت المعرفة بمجردها حاصلة لكل مؤمن فالاحاطة للعقل منفية كنفي الاحاطة للحس و ما دون الاحاطة من المعرفة للعقل و الرؤية للحس ثابت غير منفي» (1) .و يضطر المعتزلة إلى الدخول في مناقشات لغوية حول لفظ «أدرك» و الفرق بينه و بين لفظ «رأى».

و ينفي المعتزلة أن يكون الادراك هو الاحاطة و «الاحاطة ليس هو بمعنى الادراك لا في حقيقة اللغة و لا في مجازها أ لا ترى أنهم يقولون السور أحاط بالمدينة و لا يقولون أدركها أو أدرك بها... على أنه كما لا تحيط به الأبصار، فكذلك لا يحيط هو بالابصار، لأن المانع في الموضعين واحد فلا يجوز حمل الادراك المذكور في الآية على الاحاطة» (2) ثم يفرقون بين الادراك مطلقا، و بين الادراك إذا قيد بالنظر كما هو منطوق الآية الكريمة. فالادراك «إذا قرن بالبصر أفاد ما تفيده رؤية البصر، و إن كان إذا أطلق فقد يستعمل بمعنى اللحوق، فيقال: أدرك الغلام إذا بلغ، و أدركت الثمرة إذا نضجت، و أدرك فلان فلانا إذا لحقه، و قال سبحانه: حَتّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ يعني لحقه الغرق، و قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنّا لَمُدْرَكُونَ يعني لملحوقون.

و قد يقال عند الاطلاق أدركت الحرارة و البرودة و أدركت الصوت، و كل ذلك إنما يصح إذا لم يقرن بالبصر، و متى قرن به زال الاحتمال عنه، فاختص بفائدة واحدة و هي الرؤية بالبصر. فإذا صحّ ذلك فيجب أن يكون قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ في باب الدلالة على أنه لا يرى بمنزلة قوله تعالى: لا تراه الأبصار» (3) و بصرف النظر عن خلافهم حول «الادراك» هل هو الاحاطة أو البلوغ أو اللحوق، فإن الفكرة التي يطرحها القاضي عبد الجبار للتفرقة بين لفظ «أدرك» عند الاطلاق، و بين نفس اللفظ إذا قيد بالنظر تبدو فكرة أصيلة من ناحية الدلالة على أساس أن اللفظ يكتسب معنى محددا من خلال التركيب و السياق، و أن هذا اللفظ حين لا يكون موضوعا في سياق محدد، لا يكون له حينئذ سوى معنى هلامي مهوّش. غير أن الآية تثير أشكالا آخر حول مفهوم كلمة «الأبصار» إذ يبدو مفهوما و منطقيا نفي أن تدرك الأبصار اللّه، و لكن كيف يدرك هو الأبصار؟ و هنا يلجأ المعتزلة إلى القول ب «أن المراد بالأبصار المبصرون، إلاّ أنه تعالى علّق الادراك بما هو آلة فيه و عنى به الجملة. أ لا ترى أنهم يقولون: مشت رجلي، و كتبت يدي، و سمعت اذني، و يريدون الجملة» (4) و على ذلك يكون معنى الآية أن المبصرين لا يدركون اللّه و لكنه يدرك المبصرين. و هنا يثور اشكال جديد فحواه أن الآية

ص: 195


1- 182. ابن المنير: الانتصاف 307/1 و انظر الباقلاني: الانصاف/162.
2- 183. شرح الأصول/239-240.
3- 184. المغني:144/4-145.
4- 185. شرح الأصول/240.

تقتضى على هذا التأويل - أي تأويل الابصار بالمبصرين-«أن يرى اللّه نفسه لأنه من المبصرين» (1) غير أن المعتزلة يردون على هذا الاشكال بدليل عقلي فحواه «أنه تعالى و إن كان مبصرا، فإنما يرى ما تصحّ رؤيته، و نفسه يستحيل أن ترى - لما قد بينا أنه يمدح بنفي الرؤية عن نفسه مدحا يرجع إلى ذاته، و ما كان نفيه راجعا إلى ذاته فإن اثباته نقص، و النقص لا يجوز على اللّه تعالى» (2) و لا يكون هذا الاشكال واردا على مفسّر معتزلي كالزمخشري لأنه لم يتأول الأبصار على أنها المبصرون كما فعل القاضي عبد الجبار، و إنما البصر عنده «هو الجوهر اللطيف الذي ركبه اللّه في حاسة النظر و به تدرك المبصرات، فالمعنى أن الأبصار لا تتعلق به و لا تدركه لأنه متعال أن يكون مبصرا في ذاته لأنه الأبصار إنما تتعلق بما كان في جهة أصلا أو تابعا كالأجسام و الهيئات (و هو يدرك الأبصار) و هو للطف ادراكه للمدركات يدرك تلك الجواهر اللطيفة التي لا يدركها مدرك (و هو اللطيف) يلطف عن أن تدركه الأبصار (الخبير) بكل لطيف يدرك الأبصار لا تلطف عن ادراكه و هذا من باب اللف» (3) .و في هذا التفسير تسعف الزمخشري معرفته البلاغية فيبتعد عن الاشكال الذي يثيره تأويل «الأبصار» بالمبصرين، و يساعده على ذلك ربط آخر الآية بأولها على طريقة «اللف» بمعنى أن نفي ادراك الأبصار للّه يؤكده كونه - سبحانه - لطيفا، و اثبات ادراكه لها يؤكده كونه خبيرا. ثم إن تعريف الزمخشري للأبصار بأنها جواهر لطيفة و أن اللّه يدركها يستند إلى أساس كلامي للمعتزلة، و للنظّام خصوصا في أن الجواهر يجوز أن ترى. و بذلك يرى اللّه ما تجوز عليه رؤيته، و يرتفع الاعتراض الذي يمكن أن يثور من الخصوم على ذلك.

إلى هنا ينتهي المعتزلة من ايراد دليلهم المحكم من السمع، و يدفعون الاعتراض الذي يثيره الخصوم على هذا الدليل. و هذا يؤدي بهم إلى الخوض في مسائل لغوية و دلالية حول معنى اللفظ منفردا و معناه في تركيب معين. و في هذه النقطة أفلح القاضي عبد الجبار في تفسير الآية بما يتفق مع وجهة النظر الاعتزالية. غير أن تأويله للأبصار بأن المقصود بها المبصرون أوقعه في اشكالات راح يدفعها، و هي اشكالات تخلّص منها الزمخشري تخلّصا بلاغيا استخرجه من السياق العام للآية الذي لا يفصل بين أولها و آخرها. غير أننا يجب أن نثبت أن القاضي عبد الجبار له كتابان: المغني في أبواب التوحيد و العدل، و شرح الأصول الخمسة، و أنه في الكتاب الأول لم يورد هذا التأويل الذي أوقعه في الاشكالات. بل ورد هذا التأويل في كتابه الثاني «شرح الأصول الخمسة» و هو كتاب يختلف في أسلوبه و طريقة عرضه عن الكتاب الأول، الأمر الذي يجعلنا نظن أن هذه التأويلات من صنع شارح الكتاب و المعلّق عليه و هوم أحد تلاميذ القاضي عبد الجبار.

ص: 196


1- 186. شرح الأصول/241.
2- 187. شرح الأصول/241.
3- 188. الكشاف 41/2-42.

يثير خصوم المعتزلة - على الدليل السابق - اعتراضا آخر، فحواه أن اللّه و إن كان يستحيل أن يرى في الدنيا، فما المانع من رؤيته في الآخرة و الحال غير الحال؟ و يبنون هذا الاعتراض على أساس أن نفي الرؤية في الآية المقصود به الرؤية في الدنيا لا في الآخرة (1) و يبني المعتزلة ردهم على هذا الاعتراض على أساسين: الأساس الأول أن الآية وردت مورد التمدح، و اثبات ما تمدح اللّه بنفيه عن نفسه يوجب النقص. و الأساس الثاني أن الآية عامة و لم تخصص بوقت دون وقت، فلا دليل للخصوم على تخصيص عموم الآية، و الأصل في ذلك «أنه تعالى قد نفى أن يدرك بالأبصار نفيا عاما من غير توقيت، فيجب القطع على أن المراد به في كل حال، و لا فرق بين من قال إنه أراد به في الدنيا دون الآخرة، و بين من قال إنه أراد بذلك في بعض أوقات الدنيا دون بعض على ما يذهب إليه بعض من يقول بالحلول. و لا فرق بين من قال ذلك في هذه الآية و بين من قال بمثله في سائر ما تمدح بنفيه عن نفسه، نحو تمدحه بنفي السنة و النوم، و نفي الصاحبة و الولد، و نفي المثل. فإذا وجب حمل ذلك أجمع على أن المراد به النفي و ما كان نفيه مدحا مما يرجع إلى ذاته، فاثباته له لا يكون إلاّ نقصا. و صفات النقص لا تجوز على القديم سبحانه في الدنيا و لا في الآخرة، فيجب أن لا يرى في الدنيا و لا في الآخرة، و أن لا يصح أن يكون المراد بالآية النفي في وقت دون وقت، كما لا يصح أن يكون المراد بقوله: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ نفي ذلك في حال دون حال» (2) .

و هناك دليل آخر يتشبث به المعتزلة على عدم جواز رؤية اللّه تعالى، و هو دليل سمعي من قصة موسى عليه السلام، و المقصود بذلك قوله تعالى لموسى حين طلب رؤيته لَنْ تَرانِي وَ لكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي (الأعراف/144)«فنفى أن يراه و أكد ذلك بأن علقه باستقرار الجبل، ثم جعله دكا، و نبّه بذلك على أن رؤيته له لا تقع لتعليقه اياها بأمر وجد ضده على طريق التبعيد المشهور في مذاهب العرب لأنهم يؤكدون الشيء بما يعلم أنه لا يقع (لا) على جهة الشرط لكن على جهة التبعيد» (3) .

و يبدو أن طلب موسى الرؤية من اللّه عز و جل بقوله رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ (الأعراف/143) كان قد أثار لدى المعتزلة السابقين على القاضي عبد الجبار مشكلة تصدّوا لحلها. هذه المشكلة تتمثل في حل التعارض القائم بين قولهم بأن معرفة توحيد اللّه و عدله هي معرفة عقلية لا تستند إلى السمع، و بين طلب موسى عليه السلام الرؤية، مما يوهم بجهله - و هو النبي المعصوم - بصفات اللّه و ما يليق به. و كان أن تصدّى علماء المعتزلة كأبي الهذيل العلاف، و أبي على الجبائي إلى تأويل «النظر» في قوله رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ بأن المقصود به المعرفة الضرورية

ص: 197


1- 189. انظر الأشعري: اللمع/35.
2- 190. المغني 150/4-151، راجع أيضا: متشابه القرآن/255.
3- 191. المغني:161/4-162، شرح الأصول/264-265.

التي تزول معها الشبه، و تصل إلى درجة أشبه بالمعرفة اليقينية. كأن موسى عليه السلام طلب من اللّه أن يعرّفه نفسه معرفة ينجلي عنها الشك كأنها المعرفة الناتجة عن الرؤية و النظر المباشر. و معنى هذا أن الآيات الواردة في قصة موسى كانت تمثل لدى المعتزلة السابقين متشابها في حاجة إلى التأويل. و يبدو أنها كانت سلاحا في يد خصوم المعتزلة يستدلون بها على جواز رؤية الباري جل و عز بدليل أن موسى عليه السلام طلب رؤيته. و كان خصوم المعتزلة - فيما يبدو - يحملون دك الجبل من اللّه و عدم تحقق الرؤية على أن موسى طلب رؤية اللّه في الدنيا، و هي غير جائزة - في رأيهم - إلاّ في الآخرة.

و يتشبث المعتزلة بفكرة التبعيد الموجودة في قوله تعالى: لَنْ تَرانِي وَ لكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي. و معنى ذلك أن اللّه علّق رؤية موسى باستقرار الجبل، لا على جهة الشرط، و لكن على جهة التبعيد بأن ذلك لن يحدث. و يستشهدون على فكرة التبعيد هذه بآيات أخرى من القرآن، و بأبيات من الشعر «كما يقول قائلهم:«لا كلمتك ما لاح كوكب أو أضاء فجر» و كما قال الشاعر:

إذا شاب الغراب أتيت أهلي و صار القار كاللبن الحليب

و كما قال جل و عز: وَ لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ و كما قال تعالى: وَ أَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ فكذلك قوله: فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي ثم جعله الجبل دكا بيّن به انتفاء الاستقرار، دليل على أن الرؤية لا تقع على وجه» (1) .

و هناك فكرة أخرى تؤكد فكرة التبعيد السابقة و هي أن اللّه قال لموسى:

لَنْ تَرانِي و «لن موضوعة للتأبيد، فقد نفى أن يكون مرئيا البتة، و هذا يدل على استحالة الرؤية عليه» (2) .و فكرة أن «لن» موضوعة للتأبيد قد يجد الخصوم فيها مطعنا يستدلون عليه من القرآن الكريم، ذلك أن «اللّه قال حاكيا عن اليهود وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ، أي لا يتمنون الموت، ثم قال حاكيا عنهم: يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ فكيف يقال: إن لن موضوعة للتأبيد؟ قلنا: إن لن موضوعة للتأبيد ثم ليس يجب أن لا يصح استعماله إلاّ حقيقة، بل لا يمتنع أن يستعمل مجازا، و صار الحال فيه كالحال في قولهم أسد و خنزير و حمار، فكما أن موضعها و حقيقتها الحيوانات المخصوصة ثم تستعمل في غيرها على سبيل المجاز و التوسع، و استعمالهم في غيرها لا يقدح في حقيقتها، كذلك هاهنا» (3) و معنى ذلك أن «لن» موضوعة في حقيقتها للتأبيد، ثم قد تستعمل مجازا كما في

ص: 198


1- 192. المغني:162/4.
2- 193. شرح الأصول/264-265.
3- 194. شرح الأصول/264-265.

الآيات التي يستدل بها الخصوم. و تلتقي فكرة أن «لن» موضوعة للتأبيد، مع فكرة التبعيد المتضمنة في الشرط في الآية، ليستدل بهما المعتزلة على أن رؤية اللّه مستحيلة. و لكن خصوم المعتزلة يرون في هذه الآيات رأيا آخر. فهم يسلمون بجواز الرؤية على اللّه، لكنهم لا يرونها جائزة في هذه الحياة الدنيا، و يكون الأمر أنها لم تحدث لأن موسى طلبها في غير أوانها و لهذا تاب موسى من ربه على ذلك و تبرأ من سفاهة قومه. و توبته و تبرؤه من طلب الرؤية «ليس لأنها غير جائزة على اللّه و لكن اللّه تعالى أخبره أنها لا تقع في دار الدنيا و الخبر صدق» (1) .

و إذا كان المعتزلة قد اعتمدوا على فكرتي أن «لن» موضوعة للتأبيد، و أن الشرط في الآية هو على طريقة التبعيد المعروفة في مذاهب العرب، و ذلك لكي يؤكدوا استحالة الرؤية على اللّه استحالة مطلقة، فما زال أمامهم سؤال موسى نفسه اللّه بقوله: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ و هو سؤال يتناقض مع معرفة موسى العقلية بعدل اللّه و توحيده مما يقدح في عصمته كنبي. و هذا التناقض حلّه أبو الهذيل و أبو علي الجبائي بتأويل النظر في الآية على أنه المعرفة كما سبقت الاشارة.

و هذا التأويل معناه أن الآية من المتشابه، و لكن القاضي عبد الجبار شاء أن يحوّل الآية إلى دليل للمعتزلة، و من ثم وجد نفسه مضطرا إلى رفض تأويل مشايخه، و أخذ الآية على ظاهرها بأن موسى طلب الرؤية. و الأساس الذي يستند إليه عبد الجبار أن «النظر» إذا عدي بحرف الجر «إلى» لم يحتمل إلاّ النظر، و لا يحتمل المعرفة. يقول:«إن الرؤية إذا قرن اليها النظر و عداه بإلى فالمراد به الرؤية بالبصر. و قد قال سبحانه رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ فلما قرنه بالنظر و عدّاه بإلى وجب حمل ظاهره على الرؤية بالبصر، لأنه لا يصح أن يكون المراد بهذا النظر و الفكر، لأنه لا يقال في نظر الفكر ينظر إليه على الحقيقة، و إنما يقال ينظر فيه.

و قد ورد الكتاب بما يدل على ذلك: فقال سبحانه: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ، فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ و قال تعالى: وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ و متى قرن بالرؤية ذكر الجهرة، فالمراد به رؤية البصر. و ذلك يدل على أن موسى صلى اللّه عليه إنما سأل الرؤية، و متى حمل سؤاله على هذا الوجه أمكن حمل قوله (أنظر إليك)، على ظاهره و متى حمل على أن المراد به العلم احتيج إلى حذف الآيات في الكلام، فيصير في التقدير كأنه قال: رب أرني أنظر إلى الآيات التي عندها أعرفك ضرورة من غير أن يدل الظاهر عليه» (2) و إذا أخذت الآية على ظاهرها بأن موسى طلب رؤية اللّه حقا، فكيف يتأتّى منه هذا الطلب و هو النبي المعصوم الذي يجب أن يعرف بعقله

ص: 199


1- 195. ابن المنير: الانتصاف 112/2.
2- 196. المغني:163/4-164.

ما يجوز على اللّه و ما لا يجوز عليه؟ هنا ينكر القاضي عبد الجبار أن يكون موسى طلب الرؤية لنفسه، بل دفعه قومه بعنادهم إلى ذلك. إذ هو أعلم باللّه و صفاته و توحيده من أن يسأل هذا السؤال الذي ينمّ عن جهل لا يليق بنبوته «و قد حكي في القصة أن قومه سألوه أن يريهم ربهم جهرة، فأجابهم بأن ذلك يستحيل على اللّه تعالى، فلم يقنعوا بجوابه، و أحبوا أن يرد الجواب من قبل اللّه تعالى، فوعدهم بذلك ظنا منه أن الجواب إذا وقع من قبله كان أحسم للشبهة و أكّد في الحجة، فاختار السبعين لحضور الميقات، و هو الذي أراده تعالى بقوله: وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا و وعد قومه بأنه سأله سبحانه الرؤية بحضور السبعين في الميقات، و سأله عز و جل كما وعد، فأجابه بما دلّ به على أن ما سألوه لا يجوز عليه.

و قوله تعالى: فَلَمّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيّايَ، أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنّا يدل على صحة ما قدمناه، لأنه بيّن أن للسفهاء فيما سأل من الاختصاص ما ليس له و للسبعين. و ظاهر ذلك يدل على أنه إنّما سأل على لسانهم، و أنهم لم يؤمنوا بأنه جل و عز لا يجوز أن يرى عند جوابه» (1) و يكاد خصوم المعتزلة يتفقون معهم في ذلك، إلاّ أنهم لا يستنتجون من هذا الموقف عدم جواز الرؤية على اللّه، بل يرون أن قوم موسى أخطئوا حين طلبوا رؤية اللّه في الدنيا، و هي غير جائزة إلاّ في الآخرة. أمّا الخطأ الثاني الذي وقع فيه قوم موسى فهو «توقيفهم الايمان عليها حيث قالوا لن نؤمن لك حتى نرى اللّه جهرة أ لا ترى أن قولهم لن نؤمن لك حتى تفجّر لنا من الارض ينبوعا إنما سألوا فيه جائزا و مع ذلك قرعوا به لاقتراحهم على اللّه ما لا يتوقف وجوب الايمان عليه» (2) .

و هنا يثور تساؤل يطرح نفسه على المعتزلة و يحاولون الاجابة عليه. إذا كان موسى طلب الرؤية لقومه لا لنفسه لأنه «أعرق في معرفة اللّه تعالى من واصل بن عطاء و عمرو بن عبيد و النظّام و أبي الهذيل و الشيخين و جميع المتكلمين» (3) فلما ذا نسب السؤال إلى نفسه بقوله: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ و لم يقل مثلا:«رب أرهم ينظرون إليك»؟ و لما ذا جاء جواب اللّه له (لن تراني) و لم يجيء مثلا «لن يروني»؟ يورد المعتزلة هذه الأسئلة على أنفسهم و يجيبون عن ذلك ب «أنه لا يمتنع أن يورد السائل عن غيره المسألة على سبيل الاضافة إليه، فيكون الحال في ذلك معقولا لما تقدم من المقدمات، و على ذلك يشفع أحدنا إلى غيره لغيره، فيقول: أحب أن تفعل بي كيت و كيت، و أن تقضي حقي فيه، و يجيب المشفوع إليه: بأني قد فعلت ذلك لك و بك، و يكون ذلك صحيحا، و إن كان السؤال عن غيره. و إنما كان كذلك لأن السائل لغيره عن غيره لغرض فيه تكفل بالمشقة لأجل غيره كتكفله بها لأجل نفسه، فتحقق باضافة السؤال إلى نفسه اهتماما بذلك، و إن كان سائلا عن

ص: 200


1- 197. المغني:164/4.
2- 198. ابن المنير: الانتصاف:113/2.
3- 199. الزمخشري: الكشاف 113/2.

غيره كاهتمامه إذا كان سائلا لنفسه» (1) .

و يورد المعتزلة على أنفسهم سؤالا آخر، أو ربما أورد هذا السؤال خصومهم، فحواه: إذا كان موسى لم يسأل الرؤية لنفسه، بل سألها لقومه على طريقة التشفع، فلما ذا تاب عن هذا السؤال، و التوبة لا تصح إلاّ من فعل نفسه؟ و تكون الاجابة أن موسى تاب عن ذلك، لأنه سأل اللّه بحضرة القوم من غير إذن، و لا يجوز من الأنبياء أن يسألوا اللّه تعالى بحضرة الأمة من غير إذن سمعي، لأنه لا يمتنع أن يكون الصلاح أن يجابوا، فيكون ذلك تنفيرا عن قبول الأمة» (2) .

و لعل في كل ما أوردناه في قصة موسى من حوار بين المعتزلة و خصومهم ما يبين تنازعهم في الاستدلال بهذه القصة كل لصالح وجهة نظره. فالمعتزلة في بادئ الأمر أنكروا أن يكون موسى عليه السلام طلب الرؤية، حتى اضطر أبو الهذيل العلاف و أبو علي الجبائي إلى تأويل النظر في قوله رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ بأنه المعرفة. و لم يسلم القاضي عبد الجبار بهذا التأويل من مشايخه، ربما لأن قول اللّه لَنْ تَرانِي اجابة لهذا الطلب، يؤكد أن موسى طلب الرؤية، و من ثم أخذ الآية على ظاهرها بناء على أن «النظر» إذا عدي بحرف الجر «إلى» لم يحتمل إلاّ الرؤية.

و معنى ذلك - كما أسلفنا - أن الآية كانت تمثل لدى المعتزلة متشابها يحتاج للتأويل.

و لكن القاضي عبد الجبار حوّلها إلى محكم يستدل به المعتزلة على عدم جواز الرؤية على اللّه عز و جل. و اضطرهم ذلك إلى الرد على الاعتراضات الأخرى حول نسبة سؤال موسى إلى نفسه لا إلى قومه، و حول تبرير توبة موسى من هذا السؤال..

الخ كل ذلك.

و إذا كان القاضي عبد الجبار قد رفض تأويل مشايخه للآية على أساس أن موسى قد طلب رؤية اللّه حقا، و نفى في نفس الوقت أن يكون قد طلب الرؤية لنفسه، بل دفعه قومه إلى هذا الطلب، فطلبه لقومه و نسبه لنفسه على طريقة التشفع، و بذلك نقل الآية من أن تكون دليلا للخصوم و جعلها دليلا للمعتزلة عليهم. إذا كان القاضي عبد الجبار قد فعل ذلك، فإن جار اللّه الزمخشري لم يسلك هذا المسلك، بل قبل التأويلين معا دون أن ينصر أحدهما على الآخر. و لعل هذا المسلك من الزمخشري يفسّره أنه ليس متكلما بقدر ما هو مفسّر يجمع آراء المعتزلة في تفسير الرؤية دون أن يناقش هذه الآراء، و ذلك على عكس القاضي عبد الجبار الذي هو متكلم في المقام الأول يعنيه رفع التناقض فيما يراه من آراء مشايخه و ذلك في وجه الاعتراضات التي وردت - أو يمكن أن ترد - على آراء هؤلاء المشايخ (3) .

ص: 201


1- 200. المغني:167/4، راجع شرح الأصول/263-264.
2- 201. شرح الأصول/263-264 راجع كل هذا الحوار حول الآية في متشابه القرآن/291-298.
3- 202. راجع تفسير الزمخشري للآية: الكشاف 112/2-116، ورد ابن المنير: الانتصاف 112/2-113.

(1) ينتقل المعتزلة بعد تقرير وجهة نظرهم، و دفع الاعتراضات على الآيات التي يعتبرونها محكمة تردّ إليها المتشابهات التي هي أدلة الخصوم، ينتقلون بعد ذلك إلى أدلة الخصوم السمعية، سواء من جهة الحديث النبوي الشريف أو القرآن الكريم فيستخدمون سلاح التأويل لتخلص لهم وجهة نظرهم في نفي مشابهة اللّه للبشر و تقرير أصل التوحيد تقريرا كاملا.

و فيما يتصل بالأحاديث النبوية التي يوهم ظاهرها جواز رؤية الباري عز و جل، لا يجد المعتزلة كبير عناء في ردها. و الأساس الذي يستندون إليه في رد هذه الأحاديث أنها أحاديث آحاد لا يؤخذ بها في أصول الدين و إن أخذ بها في فروعه. غير أنهم من جانب آخر قد يلجئون إلى تأويل ما ورد فيها تأويلا يتفق مع أصول مذهبهم. أو إلى معارضة هذه الأحاديث بأحاديث أخرى تتفق مع ما يذهبون إليه. و معنى ذلك أن هناك ثلاث وسائل في مواجهة الحديث النبوي الذي يستند إليه الخصوم فيما يذهبون إليه من جواز الرؤية على اللّه.

الوسيلة الأولى هي رفض هذه الأحاديث باعتبارها آحاد «و لا يجوز قبول ذلك فيما طريقه العلم، لأن كل واحد من المخبرين يجوز عليه الغلط فيما يخبر به، و يصح كونه كاذبا فيه، و لا يجوز أن ندين و نقطع على الشيء من وجه يجوز الغلط فيه، لأنا لا نأمن بالاقدام على اعتقاده من أن يكون جهلا، و لا نأمن أن تكون أخبارنا كذبا. و إنما يعمل بأخبار الآحاد في فروع الدين، و ما يصح أن يتبع العمل فيه غالب الظن، فأمّا ما عداه فإن قبوله فيه لا يصح، و لذلك لا يرجع إليه في معرفة التوحيد و العدل و سائر أصول الدين، و ذلك يبطل تعلقهم بهذه الأخبار لو كانت صحيحة السند سليمة من الطعن في الرواة، فكيف و قد طعن أهل العلم في رواتها، و ذكروا من حالهم ما يمنع من الرجوع إلى خبرهم» (2) .

أمّا السلاح الثاني في مواجهة الخصوم حين يستشهدون بالأحاديث النبوية - و ذلك بعد دفع هذه الأحاديث على اعتبار أنها أحاديث آحاد لا يؤخذ بها في أصول العلم - فهو أن تعارض بأحاديث أخرى تؤكد وجهة النظر الاعتزالية في نفي الرؤية عن اللّه جل و عز «و هو ما روي عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد اللّه، قال:«قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لن يرى اللّه أحد في الدنيا و لا في الآخرة» و ما روي عن أبي ذر، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال لرسول اللّه:«هل رأيت ربك؟ قال: نور أنىّ أراه» يعني لا أراه، كقوله تعالى: بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَنّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ، و ما روي عن الشعبي عن عبد اللّه بن الحرث، عن كعب، أنه كان يقول: إن اللّه

ص: 202


1- 2. انظر: محمد عمارة: المعتزلة و مشكلة الحرية الانسانية/17-24.
2- 203. المغني 225/4؛ الشريف الرضي: المجازات النبوية/45-46.

قسم كلامه و رؤيته بين موسى و محمد فكلّم موسى مرتين و رآه محمد مرتين فأتى مسروق عائشة، فقال: يا أم المؤمنين، هل رأى محمد ربه؟ فقالت: سبحان اللّه لقد قف شعري مما قلته ثلاثا، من حدثك بهذا فقد كذب، من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب. قال اللّه تعالى لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ و قال: ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللّهُ إِلاّ وَحْياً و من حدثك أن محمدا كتم شيئا من الوحي فقد كذب. و قد روى مسروق عن عائشة أنه قال لها: أ ليس اللّه يقول في كتابه وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى فقالت: أنا أول هذه الأمة، سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال:«ذلك جبريل رأيته في صورته التي خلقه اللّه عليها مرتين» (1) .. الخ كل هذه الأحاديث التي يعارض بها المعتزلة أحاديث خصومهم في هذه القضية. و ليس يعنينا الكشف هنا عن مدى صدق هذه الأحاديث من ناحية السند أو المتن، بقدر ما يعنينا أن نرصد طريقة المعتزلة في الرد و منازعة الخصوم. و المعتزلة أنفسهم لا يعولون كثيرا على الحديث فيما يتصل بأصول العقائد فيكفي أن تكون هذه الأحاديث «معارضة لما نقلوه، و إن لم تزد في الظهور على تلك لم تنقص منه، فلم صار التعلق بتلك أولى من هذه؟ و يجب عند تعارضهما الرجوع إلى ما دلّ عليه العقل و الكتاب لو ثبت أن أخبار الآحاد تقبل» (2) .

أمّا السلاح الثالث في مواجهة الأحاديث التي يستشهد بها الخصوم فهو سلاح التأويل، و هو نفس السلاح الحاد الذي يواجه به المعتزلة الآيات التي يستشهد بها الخصوم على صحة قولهم من القرآن الكريم. غير أن التأويل - في مواجهة النصوص القرآنية - هو السلاح الوحيد، و إن كان - في مواجهة الأحاديث النبوية - سلاحا من أسلحة عديدة، بل هو آخر هذه الأسلحة. خصوصا إذا اتصل الأمر بأصولهم العقلية. و ليس ببعيد تأويلهم لقول الرسول صلى اللّه عليه و سلم حين سئل «هل رأيت ربك فقال: نور أنّى أراه» حيث أوّلت «أنّى» بمعنى «لا» و استشهدوا على ذلك بقوله تعالى بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَنّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ و هذه القراءة لا تسلم للمعتزلة تماما، فأهل السنة يوردون الحديث على أن «أنّى» ظرف لا نفي (3) و على أي حال فتأويل منطوق الحديث بما يتفق مع الأصول مسلك اعتزالي مشروع. و بنفس الطريقة يؤول المعتزلة الأحاديث التي وردت و يفيد ظاهرها الرؤية، على أن الرؤية فيها بمعنى العلم لا رؤية العين «على أن شيوخنا قد بيّنوا أن خبر جرير لو صحّ لكان له تأويل سليم على قولنا و هو أنه أراد بقوله:(ترون ربكم) تعلمون ربكم، لأن الرؤية قد تكون بمعنى العلم في اللغة. يبين ذلك قوله جل و عز: أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ و أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ، و قوله إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَراهُ قَرِيباً، و هو تعالى يعني البعث، و قول المسلمين: اللهم أرنا الحق

ص: 203


1- 204. المغني 230/4، انظر تفسير الآية وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (النجم/13-14) في متشابه القرآن/632.
2- 205. المغني:228/4-229 و ما بعدها أحاديث كثيرة.
3- 206. في شرح الأصول/269-271 يرد الحديث على قراءة أخرى و تأويل آخر «فقال: نور هو؟ أي أنور هو؟ كيف أراه؟ فحذف همزة الاستفهام وجوبا على عادتهم في الاختصار، و على هذا قال الشاعر: فو اللّه ما أدري و إن كنت داريا بسبع رميت الجمر أم بثمان

حقا فنتبعه، و الباطل باطلا فنجتنبه. و قد ذكر أهل اللغة في كتبهم أن الرؤية إذا كانت بمعنى العلم تعدّت إلى مفعولين و إذا كانت بمعنى الادراك لم تتعد إلاّ إلى مفعول واحد. فإذا صحّ ذلك، و أن الرؤية قد تكون بمعنى العلم، لم يمتنع أن يكون المراد بقوله ترون ربكم (تعلمون ربكم) كما تعلمون القمر ليلة البدر، و يكون هذا أصح لأنه إن حمل على أنه أراد يدركونه كما يدركون القمر فيجب أن يدرك في جهة مخصوصة كالقمر، فثبت أن وجه التشبيه فيه، إذا حمل على العلم من حيث شاركه في أنه ضروري، أصح» (1) .

غير أن تأويل الرؤية بمعنى العلم في الحديث السابق يحتاج إلى تأويل آخر، ذلك أن الرؤية إذا كانت بمعنى العلم تتعدّى إلى مفعولين، و إذا كانت بمعنى الادراك لم تتعد إلاّ إلى مفعول واحد كما ذكر أهل اللغة الذين يروي عنهم القاضي عبد الجبار في النص السابق. و إذا كان القاضي عبد الجبار لم يحل هذا الاشكال الذي أورده على نفسه، و اكتفى بالدليل العقلي على أساس أن حمل «ترون» في الحديث على الادراك يقتضي الادراك في جهة مخصوصة كما يدرك القمر في جهة مخصوصة، إذا كان القاضي عبد الجبار لم يحل الاشكال اللغوي و اكتفى باقامة تأويله على أساس عقلي، فإنه في مكان آخر يتنبّه إلى هذا الاشكال و يحاول حلّه. أو لعل شارح كتابه و المعلق عليه هو الذي أحس بالاشكال ورد عليه «فإن قالوا:

الرؤية إذا كانت بمعنى العلم تتعدّى إلى مفعولين، نحو رأيت فلانا فاضلا، و لا يجوز الاقتصار على أحد مفعوليه إلاّ إذا كان بمعنى المشاهدة، قلت: لا يمتنع أن يكون الأصل ما ذكرتموه، ثم يقتصر على أحد مفعوليه توسعا و مجازا، كما أن همزة التعدية إذا دخلت في الفعل الذي يتعدّى إلى مفعولين، تقتضي تعديه إلى ثلاثة مفاعيل، ثم قد تدخل على الفعل الذي هذا حاله و يقتصر على مفعولين، و لهذا قال تعالى:

أَرِنا مَناسِكَنا فأدخل الهمزة على الرؤية، و اقتصر على مفعولين. على أن حال الرؤية إذا كانت بمعنى العلم ليس بأكثر من حال العلم، و معلوم أنهم يقتصرون في العلم على أحد مفعولين فيقولون أعلم ما في نفسك، و لهذا قال تعالى: تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ فإن قال: إن العلم هاهنا بمعنى المعرفة، فلهذا جاز أن يقتصر على أحد المفعولين، قلنا: فارض منا بمثل هذا الجواب» (2) .

و هذا الرد يتضمن ثلاث وسائل لغوية: الوسيلة الأولى أن اقتصار «الرؤية» بمعنى العلم على مفعول واحد توسع و مجاز. و الشاهد على ذلك أن همزة التعدية إذا دخلت على الفعل الذي يتعدّى إلى مفعولين تعديه إلى ثلاثة مفاعيل، لكنها قد تدخل عليه و يعدّى إلى مفعولين فقط كما هو الأصل كما في قوله تعالى: أَرِنا مَناسِكَنا (البقرة:128). الوسيلة الثانية أن حال الرؤية كحال العلم، و أن

ص: 204


1- 207. المغني 231/4، شرح الأصول/270-271، الشريف الرضي: المجازات النبوية 47-48.
2- 208. شرح الأصول/271-272.

الفعل «علم» قد يعدّى إلى مفعول واحد فلذلك جاز أن يعدّى الفعل «يرى» بمعنى «علم» إلى مفعول واحد حسب معناه. فإن قيل إن الفعل «علم» في قوله تعالى تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ بمعنى «عرف» و لهذا عدي إلى مفعول واحد، يلجأ المعتزلة إلى وسيلة ثالثة و هو أن «ترون» في الحديث بمعنى «تعرفون» و لذلك فأنت تعديته إلى مفعول واحد صحيحة.

و تأويل «الرؤية» في الحديث بمعنى «العلم» أو «المعرفة» يتلقفه الزمخشري و هو بصدد تفسير قوله تعالى رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ مستشهدا به على أن النظر في الآية بمعنى المعرفة، كأن الحديث قد سلم للمعتزلة تماما على هذا التأويل. يقول الزمخشري في تفسير الآية «أنظر إليك» أعرفك معرفة اضطرار كأني انظر اليك كما جاء في الحديث سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر بمعنى ستعرفونه معرفة جلية هي في الجلاء كإبصاركم القمر إذا امتلأ و استوى» (1) .

(2) يتصدّى المعتزلة بعد ذلك للآيات التي استشهد بها الخصوم على صحة ما ذهبوا إليه من جواز الرؤية على اللّه جل و عز. و أول هذه الآيات قوله تعالى في سورة القيامة/22-23 وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (3) حيث قالوا:

«إنه جل و عز دلّ بذلك على أنه يصحّ أن يرى لأن النظر إذا علق بالوجه لم يحتمل إلاّ الرؤية... و النظر إذا عدي بإلى لم يحتمل إلاّ الرؤية و لم يحتمل الانتظار، لأنه لا يقال في زيد أنه ناظر إلى فلان و يراد به الانتظار، و إنما يقال هو منتظر فلانا...

على أنّا إذا قسمنا النظر خرج من القسمة أن المراد بالآية الرؤية على ما نقوله، و ذلك أن النظر يحتمل وجوها: منها الفكر، و منها التعطف و الرحمة، و منها الانتظار، و منها الرؤية. و قد علمنا أنه لا يجوز أن يكون الفكر و الاعتبار مرادا بالآية، لأنه تعالى ليس هو ممن يفكر فيه، و يعتبر به، و إنما يفكر في الحوادث، و يعتبر بها، ليتوصل بالفكر فيها إلى معرفة غيرها، و لأن النظر بمعنى الفكر لا يعدّى بإلى. أ لا ترى أن القائل إنما يقول نظرت في الشيء، بمعنى الفكر، و لا يقول نظرت إليه.

و لا يجوز أن يراد الانتظار لوجوه: منها أنه علق بالوجه، و النظر اذا علق بالوجه لم يحتمل الانتظار كما أن الكتابة اذا علقت باليد لم تحتمل إلاّ الكتابة المخصوصة، و كذلك كل شيء وصل إليه بالآلة متى علق بالآلة لم يحتمل سواه.

و منها أن النظر بمعنى الانتظار لا يعدّى بإلى على ما بيناه. و منها أن الرؤية واردة في أهل الجنة و لا يجوز عليهم الانتظار، لأن الانتظار يوجب الحسرة و الغم، و قد ضرب أهل اللغة المثل به حتى قالوا:«إن الانتظار يورث الصغار» و ذكروه في الأمثال

ص: 205


1- 209. الكشاف:116/2.
2- 3. الخياط: الانتصار 13-14
3- 210. تعرّض عبد الجبار للآية في ايجاز في متشابه القرآن/673-674.

و الأشعار، و ذلك لا يجوز على أهل الجنة. فإذا بطل أن يكون المراد بالنظر المذكور في الآية هذه الوجوه، ثبت أن المراد به الرؤية على ما قلناه» (1) .في هذا النص يلخّص القاضي عبد الجبار أدلّة خصومه على أن المراد بالآية النظر الذي هو الرؤية بالحاسة. و الأساس الأول الذي تقوم عليه هذه الأدلّة أن النظر قد علّق بالوجه، و الوجه آلة في النظر، و من ثم لا تحتمل الآية معنى الانتظار. أمّا الأساس الثاني فهو أن النظر قد عدي بحرف الجر «إلى» و من ثم لا يحتمل معنى الفكر، لأن النظر بمعنى الفكر لا يعدّى بحرف الجر «إلى» و إنما يعدّى بحرف الجر «في». الأساس الثالث أن الآية وردت في شأن أهل الجنة الذين لا يجوز عليهم الانتظار لما يسببه لهم من غم و قلق لا يليق بحال أهل الجنة و تكريمهم. و يتصدّى القاضي عبد الجبار لمناقشة هذه الأسس التي يقيم عليها الخصوم دليلهم. و سبيله في هذه المناقشة، و تأويل الآية بما يتفق مع أصوله، ليس سهلا و لا بسيطا، و إنما شأنه في ذلك تفتيت الآية و اعمال سلاح المجاز في معظم ألفاظها، بل و في حرف الجر أيضا.

يبدأ القاضي عبد الجبار - أولا - بالتفرقة بين «النظر» و «الرؤية»«لأن النظر في الحقيقة هو تقليب الحدقة الصحيحة نحو الشيء التماسا لرؤيته، و الرؤية ادراك المرئي عند النظر... فالنظر هو طريق للرؤية فينا فأمّا أن يكون هو الرؤية في الحقيقة فمحال. يدل على ذلك أنّا نعلم بالمشاهدة كون الناظر ناظرا، و لا نعلمه رائيا إذا كان المرئي مما يدق و يخفى. يبين ذلك أنّا نعلم أن الجماعة ناظرة إلى الهلال و لا نعلمها رائية له، و لذلك يحتاج أن يرجع إلى قولها في أنها رأت الهلال أم لم تره، و لا يحتاج في كونها ناظرة إلى ذلك، بل نعلمه باضطرار. فثبت أن النظر الذي نعلمه من حالها غير الرؤية التي نجهلها و لا نعلمها، و أن النظر الذي نعلمه لا من قبلها غير الرؤية التي نعلمها من قبلها» (2) .

و بعد هذه التفرقة بين «النظر» و «الرؤية» و أن النظر هو تقليب الحدقة الصحيحة في الشيء التماسا لرؤيته و الرؤية هي ادراك الشيء، و على ذلك فليس كل من نظر فقد رأى، لأن الرؤية نتيجة للنظر، و تتوقف على حال المرئي من الدقة و الخفاء أو الوضوح و الانكشاف. بعد هذه التفرقة ينتقل القاضي عبد الجبار إلى أدلّة الخصوم دليلا دليلا لمناقشتها و تأويل الآية. و الدليل الأول الذي يناقشه القاضي هو قول الخصوم أن النظر إذا علّق بالوجه لا يحتمل إلاّ الرؤية، لأن الوجه آلة في النظر. يرى القاضي أن تعلق النظر بالوجوه مجاز و ليس حقيقة لأن الوجوه لا ترى في الحقيقة «و لا يصح أن ينظر بها أيضا لأن النظر يقع بالعين التي في الوجه دون الوجه. و إذا لم يجز أن يراد بالوجوه العضو على الحقيقة، لأن العضو لا ينظر في

ص: 206


1- 211. المغني 197/4-198.
2- 212. المغني 198/4، راجع شرح الأصول/242-244.

الحقيقة، و لا ينظر به في الحقيقة، فيجب متى حمل الكلام عليه أن يكون مجازا يحتاج الحامل له عليه إلى دليل» (1) و إذن فالوجه لا ينظر في الحقيقة و لا ينظر به لأنه ليس بآلة للنظر، و من ثمّ فالوجه هنا مجاز يدل على الجملة التي هي الانسان «و مما يبين ذلك أيضا أنه تعالى قال: إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ و قد علمنا أنه لم يرد بقولها «ربها» المالك، لأنه لا يكون لأهل الجنة في ذلك اختصاص، بل لا يكون للحي فيه اختصاص لكونه تعالى مالكا لجميع الأشياء، و مقتدرا على تصريفه، فعلم أن المراد بقوله إلى ربها ما يخصّ الانسان الذي هو مستحق لعبادته الثواب و التعظيم و التبجيل، و ذلك يوجب منع حمله على أن المراد بالوجوه العضو، و يوجب أن المراد به جملة الانسان» (2) و يقوم تأويل أن المراد بالوجوه جملة الانسان على أن الضمير «الهاء» في «ربها» لا يجوز أن يعود للوجوه، لأن اللّه تعالى لا يملك الوجوه وحدها.

و إذا كانت الآية واردة في شأن أهل الجنة فاضافة الضمير إلى «الرب» يقتضي تكريما لأهل الجنة و اختصاصا يحول دون عودة الضمير إلى الوجوه و يؤكد عودتها إلى الجملة. و على ذلك يكون تأويل الوجوه على أن المراد بها الجملة مشروعا. و بذلك يكون هذا القول من اللّه تعالى قد جرى «على منهاج ما ذكره في قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ، تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ فذكر الوجوه و أراد جملة الانسان و قوله:

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ لِسَعْيِها راضِيَةٌ فكما أن تعليق الظن بالوجوه يقتضي أن المراد به جملة الانسان، لأنه الظان دون الوجه، فكذلك وصف الوجوه بأنها ناظرة يدل على ذلك، لأن الناظر هو صاحب الوجه دونه. و قد صحّ استعمال الوجه في اللغة على هذه الطريقة: فلذلك يقول القائل: هذا وجه الرأي، و وجه الطريق، و يريد به: نفس الرأي، و نفس الطريق. و على هذا حمل جماعة المسلمين قوله سبحانه:

وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ و كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ. و لا يبعد أن تكون الجملة وصفت بذلك، لأن بالوجه تتميز الجملة عن غيرها، فلما كان التمييز و المعرفة تقع به، وصفت الجملة بهذه الصفة» (3) .

و إذا كانت الرؤية غير النظر، و إذا كان تعلّق النظر بالوجوه مجازا، لأن المقصود بالوجه جملة الانسان، فإذا وصف الانسان بأنه ناظر دون أن يقيد ذلك بالعين أو القلب، جاز للنظر في هذه الحالة أن يحتمل الانتظار. و لكن خصوم المعتزلة قد يوردون هنا اعتراضا فحواه أن حمل الوجوه على أن المراد بها جملة الانسان مجاز، و حمل النظر على أن المراد به الانتظار مجاز أيضا و بذلك يكون في الآية مجازان و تأويلان «و لأن يحمل الكلام على الوجه الذي هو حقيقة في بعض الوجوه فهو أولى من حمله على ما هو مجاز من كل وجه» (4) .و هذا الاعتراض

ص: 207


1- 213. المغني 203/4.
2- 214. المغني:203/4.
3- 215. المغني 203/4-204. يعوق تأويل القاضي عبد الجبار بأن المقصود بالوجوه جملة الانسان وصف الوجوه بأنها ناضرة. غير أن التأويل يتسق إذا قلنا أن وصف الوجوه بالنضارة روعي فيها اللفظ، و وصفها بأنها ناظرة روعي فيها المعنى، و ذلك قياسا على تأويل القاضي لقوله تعالى: وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَ رُسُلِهِ... أَعَدَّ اللّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً و هي في الصحيفة التالية.
4- 216. المغني 206/4.

يجعل المعتزلة ينكرون أن النظر بمعنى الانتظار مجاز و ذلك حتى لا يتهموا بحمل الآية على تأويلين و مجازين، و لكن هذا الانكار لمجازية «النظر» ينساه المعتزلة - أعني القاضي عبد الجبار - ليعودوا من جديد معترفين بأن النظر بمعنى الانتظار مجاز.

يقول القاضي عبد الجبار في انكاره لمجازية «النظر» في الآية «إن ما ادعيته من أن النظر بمعنى الانتظار مجاز ليس بمسلّم، لأنهم قد استعملوه فيه على وجه قد اطرد كاستعمالهم ذلك في النظر بالعين، فلا يمتنع أن يكون ما له سمى الجميع ذلك نظرا يرجع إلى معنى واحد و هو الطلب، فكأن المفكر المعتبر يطلب المعرفة بحال ما يفكر فيه، و الناظر يطلب الرؤية، و المنتظر يطلب ما يتوقعه من جهة غيره، فمعنى الطلب في الجميع يتساوى على ما ذكرناه. و متى صح حمل الجميع على أنه مأخوذ من وجه واحد، و موضوع في اللغة بطريقة واحدة، فما أوجب كونه حقيقة في البعض يوجب كونه حقيقة في الكل» (1) و يبني القاضي عبد الجبار انكاره لمجازية «النظر» بمعنى الانتظار على أساسين: الأساس الأول أن الرؤية و الانتظار و الفكر كلها ترجع لمعنى الطلب. و بذلك يكون استعمال «النظر» بمعنى الطلب، ليستوعب كل هذه المعاني، حقيقة و ليس مجازا. الأساس الثاني أن العرب قد استعملت النظر بمعنى الانتظار على وجه قد اطرد كاستعمالهم ذلك في النظر بالعين و يورد القاضي شواهد من استعمالهم «نظر» بمعنى «انتظر»«و النظر بمعنى الانتظار قد ورد قال تعالى: فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ (البقرة/28) أي فانتظار و قال جل و عز فيما حكي عن بلقيس فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (النمل/35) أي منتظرة. و قال الشاعر:

فإن يك صدر هذا اليوم ولى فإن غدا لناظره قريب

أي لمنتظر. و قال آخر:

و ان امرأ يرجو السبيل إلى الغنى بغيرك عن حد الغنى جد جائر

تراه على قرب و إن بعد المدى بأعين آمال اليك نواظر

و قال آخر:

وجوه يوم بدر ناظرات إلى الرحمن يأتي بالخلاص

و قال الخليل: إنما يقال أنظر إلى اللّه و إلى فلان من بين الخلائق، أي انتظر خيره، ثم خير فلان» (2) .

و لكن القاضي عبد الجبار حين يتعرّض لمناقشة الأساس الثاني للخصوم، و هو

ص: 208


1- 217. المغني 206/4-207.
2- 218. شرح الأصول/245.

قولهم إن «النظر» إذا عدي بحرف الجر «إلى» لم يحتمل إلاّ الرؤية و لم يحتمل الانتظار أو الفكر، حين يتعرّض لمناقشة هذا الأساس يعود للاعتراف بأن «النظر» بمعنى «الانتظار» مجاز، و من ثم يقع في التناقض. غير أن مناقشة هذا الأساس توقعه في تناقض آخر مع قضية سبق أن قررها حين تعرض لقوله في قصة موسى رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ فهناك قرر أن النظر إذا عدي بحرف الجر «إلى» لم يحتمل إلاّ الرؤية و ذلك حين كان يتصدّى لتأويل مشايخه بأن «النظر» بمعنى العلم، أمّا هنا فهو لا يجد مانعا من أن يعدى «النظر» بإلى و يكون معناه الانتظار و ذلك على أساس «أن اللفظة إذا قصد بها في اللغة معنى، و ظاهرها موضوع في اللغة لغيره فقد تستعمل على ما يقتضيها اللفظ تارة، و على ما يقتضي معناها أخرى، و هذا كقوله عز و جل: وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَ رُسُلِهِ فأعمل اللفظ و أنث، ثم قال في آخره: أَعَدَّ اللّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فأعمل المعنى المراد. فكذلك لا يمتنع أن يكون سبحانه أجرى في الخطاب على ما يقتضيه لفظ «ناظر» فعدّاه بإلى دون ما يقتضي المعنى. على أن اللفظة إذا أفادت في اللغة أمرا و تجوّز بها في غيره، فيجب أن تستعمل في المجاز على الوجه الذي وضعت له في الحقيقة، فتكون مستعارة فيه على الحد الذي هو حقيقة في غيره، و متى غيرت عما تستعمل عليه في حقيقتها لم تكن هي المستعارة. فلما كان قولنا «ناظر» يستعمل في الحقيقة في نظر العين معدّى بإلى صح أن يتجوز به في الانتظار على هذا الحد و إن كان لو صرح بلفظ «الانتظار» بدلا منه لم يعد بإلى، و هذا كقولنا «إن زيدا يحب عمرا» بمعنى الارادة، و لو صرّح بلفظ الارادة لم يسغ دون أن يذكر نفس المراد الذي هو منافعه، فيقال:

«إن زيدا يريد منافع عمرو» (1) .و إذن يعود القاضي عبد الجبار إلى الاعتراف بأن استعمال «نظر» بمعنى الانتظار مجاز و ليس حقيقة، غاية الأمر أنها استعملت - من حيث التعدية - كما استعملت في الحقيقة و عديت بحرف الجر «إلى». و هذا الاستعمال - في رأي القاضي - هو الذي يجعل المجاز في اللفظ و يؤكده. و لو استعملت اللفظة في المجاز على غير ما تستعمل في الحقيقة لم تكن هي المستعارة، أي لم يكن المجاز في اللفظ المستعمل. و يستشعر عبد الجبار أن المسألة لم تحل تماما، و من ثم يدعم هذا الرأي بسند لغوي ينسبه إلى أستاذه أبي علي الجبائي، و هو رأي لغوي شائع يقول إن حروف الجر تنوب عن بعضها «و قد قال شيخنا أبو علي رحمه اللّه: إذا ثبت أن لفظة الانتظار قد تعدّى ببعض حروف الجر فيقال: أنا منتظر لفلان فغير ممتنع أن تعدّى بإلى، لأن حروف الجر يقوم بعضها مقام البعض، و ذلك نحو قوله تعالى: يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ و يَهْدِي لِلْحَقِّ فأقام أحدهما مقام الآخر، و كقوله وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ يعني على جذوع النخل، و قد يقال

ص: 209


1- 219. المغني 208/4-209.

في التعارف:«زيد قوي على عمله» و «قوي في عمله» و «هو مستعل على عمرو و لعمرو» فلا يمتنع أن يعدّى ناظر بمعنى الانتظار بإلى، و يقوم مقام اللام في هذا الباب. و ليس لأحد أن يقول: فجوّزوا أن يقال في زيد أنه ضارب إلى عمرو، كما يقال ضارب لعمرو على قياس ما ذكرتم، و إلاّ فيجب بطلان ما ذكرتموه. و ذلك أن ما ذكرناه مجاز، فلا يجب اطراده و استعمال القياس فيه». (1) .و إذا كانت نيابة الحروف عن بعضها مجازا، و استعمال «نظر» بمعنى «انتظر» مجازا ثانيا، و تعلق النظر بالوجوه مجازا ثالثا، فقد وجدت في الآية ثلاثة مجازات ركب بعضها فوق بعض و هذا مما يأباه المعتزلة عموما، و القاضي عبد الجبار خصوصا، حتى أنه منذ قليل أنكر أن تكون «نظر» بمعنى «انتظر» مجازا، و لكنه عاد فاعترف بها، و وقع - بالتالي - في أكثر مما حاول الهرب منه. وقع في ثلاثة مجازات حمل عليها الآية، و كان قد حاول الهرب من مجازين فقط. غير أن هناك تأويلا يورده القاضي قد يعفيه من هذه المجازات التي يأخذ بعضها بخناق بعض، هو أن «إلى في الآية على ما قيل، هو (لا) حرف الجر و لا حرف التعدية، و إنما هو واحد الآلاء التي هي النعم، فكأنه تعالى قال: وجوه يومئذ ناضرة آلاء ربها منتظرة، و نعمه مترقبة» (2) غير أن هذا التأويل لا يستهوي القاضي عبد الجبار فيما يبدو. و أغلب الظن أنه من اجتهادات شارح الأصول، لأنه - أي هذا التأويل - لم يرد في «المغني».

و حمل النظر في الآية على الانتظار - بهذه التأويلات المتعددة - لا يريح القاضي فيما يبدو، و يدفعه - على غير عادته - إلى أن يستشهد بآراء المفسّرين السابقين عليه أمثال مجاهد و الحسن البصري فيما ذهبا إليه من أن معنى «النظر» في الآية هو «الانتظار» (3) غير أنه من جانب آخر - و ما دام قد قبل من تفسيراتهم ما يؤكّد وجهة نظره - لا يستطيع أن يرفض التفسيرات التي وردت عنهم من طرق أخرى، و التي قد لا تلتقي تماما مع وجهة نظره. فقد ورد عن مجاهد و الحسن البصري و عن غيرهما أمثال ابن عباس و عكرمة و السدى أن النظر في الآية بمعنى النظر الحسي لا الانتظار و لكن الآية - في تفسير هؤلاء جميعا - تعني أن الوجوه ناظرة إلى ثواب اللّه لا إلى اللّه نفسه و هو تأويل ابن عباس و مجاهد. أمّا عكرمة فيرى أن الوجوه ناظرة إلى أمر اللّه، بينما يرى السدي أنها ناظرة إلى ما يأتي من عند اللّه (4) .و بصرف النظر عن الخلاف بينهم في تحديد المحذوف في الآية، هل هو الثواب أو الأمر أو ما يأتي، فإنهم جميعا يتفقون على أن في الآية حذفا، و ذلك حتى لا يقع نظر الوجوه على اللّه عز و جل. و معنى ذلك أن هناك في التراث التفسيري السابق على القاضي تأويلين للآية: تأويل يتفق مع ما ذهب إليه. و هو ما ورد عن الحسن البصري و مجاهد من أن «النظر» في الآية بمعنى «الانتظار» و هو يقبل هذا

ص: 210


1- 220. المغني 209/4-210.
2- 221. شرح الأصول/245.
3- 222. راجع المغني:212/4-213.
4- 223. راجع المغني 213/4-214.

التفسير و يستشهد به على صحة ما ذهب إليه. و التأويل الثاني لا يلتقي تماما مع تأويل القاضي و إن كان لا يتناقض معه، و من ثم فهو يقبله أيضا. غير أنه يحاول التوفيق بين التأويلين. و هو يبدأ بمحاولة اعطاء شرعية لغوية لتأويل الحذف «و ليس يمتنع في اللغة أن يذكر الشيء و يراد غيره، و يحذف ذكر المراد، و ذلك طريقة ظاهرة في المجاز، نحو قوله: وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ و هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللّهُ و جاءَ رَبُّكَ و أَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفّارِ، و أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ، وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ لأنه في ذلك أجمع ذكر نفسه و أراد غيره» (1) .و ربما أحس القاضي عبد الجبار أن استشهاده بهذه الآيات، على أن فيها حذفا، لا يستقيم إلاّ على تأويل اعتزالي قد ينازعه فيه الخصوم (2) ،و من ثم يلجأ إلى الشعر العربي، فيرى أن قول عنترة:

هلاّ سألت الخيل يا ابنة مالك إن كنت جاهلة بما لم تعلمي

المقصود به «أرباب الخيل»، و كذلك يرى في قول الشاعر:

سل الربع أنى يممت أم مالك و هل عادة للربع أن يتكلما (3)

بعد أن يؤكّد القاضي شرعية الحذف كطريقة في التعبير، يحاول التوفيق بين التأويلين الذين قبلهما عن المفسرين قبله، و ذلك لأن أحدهما يعضد تأويله المعقد «للنظر» بأنه الانتظار، و الآخر لا يتناقض مع تأويله هذا. و ليست محاولة عبد الجبار التوفيق فحسب، بل هي التأليف و المزج، فليس لديه مانع «أن يراد المعنيان المختلفان بالعبارة الواحدة، فلا مانع يمنع من ذلك، و ما قدمنا ذكره من أن معنى الانتظار و معنى النظر بالعين معنى واحد، و يرجعان في الموضوع إلى أصل واحد، يقتضي صحة إرادة اللّه تعالى لهم جميعا بعبارة واحدة على مذهب من يقول إن العبارة الواحدة لا يجوز أن يراد بها المعنيان المختلفان، لأنه قد بان بذلك أن معناهما غير مختلف، و لو ثبت أنه لا يصح بعبارة واحدة، لكان ما قدمناه على أنهما قد أريدا، و لوجب أن نحكم أن اللّه تعالى قد تكلم بالآية مرتين و أراد كلا المعنيين، فالطعن بما قلنا بهذا الوجه لا يصح، و لا يمتنع عندنا، فيما ليس طريقة الاجتهاد من الآي، أن يراد به أمران مختلفان، و على هذه الطريقة قال شيخنا أبو علي رحمه اللّه في قوله: وَ ما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ،... و بضنين، أنه قد أريد كلا الأمرين به، و إن كان طريق ذلك الخبر دون الاجتهاد. و متى صح ذلك في القراءتين لم يمتنع مثله في العبارة الواحدة إذا احتمل الأمرين» (4) .و إذن فإن عبد الجبار في محاولته جمع التأويلين في اهاب واحد لا يجد ما يمنع أن تعبر عبارة واحدة عن معنيين. و هو في هذا المبدأ ينسى فكرة السياق و دلالة التركيب و تأثير ذلك في المعنى الكلي

ص: 211


1- 224. المغني:215/4.
2- 225. راجع المغني 216/4-217 ورد المعتزلة على خصومهم بأن المجاز لا يقاس عليه.
3- 226. شرح الأصول/247.
4- 227. المغني:216/4.

للعبارة. غير أنه إن عورض بمثل هذا الاعتراض وجد في محاولته لرد الانتظار و النظر و الفكر إلى معنى واحد هو الطلب تبريرا لهذا الادعاء، على أساس أنها ليست معاني مختلفة، و بالتالي فالعبارة لم تعبر عن معان مختلفة. و من الواضح - في هذه الآية - أن القاضي عبد الجبار وقع في اضطرابات كثيرة، و تناقض مع نفسه أكثر من مرة و هو بصدد تأويل هذه الآية، لكن عذر عبد الجبار في هذه التأويلات أن الآية ترتبط بقضية التوحيد، و أن القرينة العقلية أو الدليل العقلي الذي يرى أن اللّه لا يرى لصفة تتعلق بذاته، أقوى عند المعتزلة من القرينة اللفظية.

و يتبقى أمام القاضي عبد الجبار الأساس الأخير الذي يرتكز عليه خصوم المعتزلة، و هو أن حمل الآية على الانتظار - لا النظر - لا يجوز، لأن الانتظار يورث الغم و الحسرة، و هذا لا يليق بوصف أهل الجنة الذين وردت فيهم الآية. و يرد القاضي هذا الاعتراض بقوله:«إن الانتظار هو توقع الشيء الذي يعلم حصوله في المستقبل أو يظنه، و قد ينقسم: فإن كان ما ينتظره يحتاج إليه في الحال، و يلحقه بفقده مضرة، كانتظار الجائع المأكول، و المحبوس الخلاص، فذلك يوجب الحسرة.

و كذلك فلو انتظر ما لا يحتاج إليه في الحال، لكنه يخشى فوته، و لا يثق بحصوله، فإنه قد تلحقه الحسرة. فأمّا القسم الثاني، و هو أن يكون ما ينتظره غير محتاج إليه في الحال، و يثق بحصوله في الوقت الذي ينتظره، و جميع ما يشتهيه في الحال حاصل، فإن ذلك لا يوجب الحسرة. و لذلك يختلف حال المنتظر بحسب ثقته بمن ينتظر الشيء من جهته، فكل من كانت نفسه إليه أسكن كانت حسرته في الانتظار أقل... و إنما يقال إن الانتظار يورث الحسرة و يراد به الوجه الأول، و كل من ذكره في مثل أو شعر فمراده الأول لأنه المألوف في الشاهد، و إلاّ فما ذكرناه من القسم الثاني في الانتظار لا يحيل حصوله على عاقل أنه لا يورث حسرة و لا غما» (1) و على هذا فإن المنتظر لثواب اللّه لا يلحقه غم و لا حسرة، بل هو إلى السرور أقرب لسكونه إلى ربه و ثقته بما وعده من النعيم.

و حين يردّ القاضي عبد الجبار على هذا الاعتراض الأخير، فإنه - ربما دون أن يحس - يكون قد حلّ التعارض بين التأويلين اللذين نقلهما عن المفسرين قبله، إذ يتناغم تأويله للنظر بأنه الانتظار مع تأويل الحذف إذ أن المنتظر لا بدّ أن يكون في انتظار شيء ما من جهة اللّه، و هذا الشيء قد يكون الثواب، و قد يكون الأمر، و قد يكون ما يأتي من عند اللّه و بذلك لا يكون القاضي في حاجة إلى الزعم بأن العبارة الواحدة يراد بها معنيان. و في نفس الوقت لا يكون في حاجة لمحاولته التوفيقية بين التأويلين، لأنهما - في الواقع - ليسا متناقضين.

ص: 212


1- 228. المغني/210/4 و راجع شرح الأصول/247-248.

(1) يستدل خصوم المعتزلة على جواز رؤية اللّه عز و جل بآية أخرى لا يجد المعتزلة كبير عناء في ردها و تأويلها. هذه الآية هي قوله تعالى كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ. و الخلاف بين المعتزلة و خصومهم حول معنى الحجاب أولا، ثم حول معنى مدلول الآية و منطوقها ثانيا. فخصوم المعتزلة يرون أنه «لا معنى لرفع الحجاب إلاّ الادراك بالعين و إلاّ فالحجاب على اللّه تعالى بغير هذا التفسير محال» (2) أي أن الحجاب في رأيهم هو الحجب عن الرؤية، و لا ينبغي أن يكون حجابا ماديا لأن ذلك محال في حق اللّه. و يستنتج خصوم المعتزلة من هذا المنطوق المباشر للآية مدلولا غير مباشر يوردونه على النحو التالي:«إن اللّه تعالى لما خصّ الفجار بالحجاب دل على أن المؤمنين الأبرار مرفوع عنهم الحجاب» (3) .أي أن الآية، و إن كانت قد وردت في شأن الكفار فإنها تدل على أن حال الأبرار عكس ذلك.

فإذا كان الكفار سيحجبون عن رؤية اللّه، فإن الأبرار سيرونه. غير أن المعتزلة يرون أن هذه الآية تختص بوصف أهل النار «و ليس فيه دليل على أن غيرهم بخلافهم، فمن أين أن أولياء اللّه يجب أن يروا اللّه؟ على أنّا قد بيّنا من قبل أن قوله (لمحجوبون) معناه ممنوعون من رحمة اللّه و ثوابه، و بينا أن الحجاب قد يكون بمعنى المنع على ما يقال ان الأخوة يحجبون الأم عن السدس، فإذا صحّ ذلك، و كان المراد به لممنوعون من رحمة اللّه فيجب أن يكون من خالفهم من أولياء اللّه غير ممنوعين من رحمة اللّه و ثوابه، و كذلك نقول. على أن ظاهر هذا القول يوجب أنه تعالى ممن يصح أن يحتجب و يحجب، فيراه واحد دون آخر، و هذا يوجب كونه جسما في مكان مخصوص، و قد بيّنا فساد ذلك» (4) .

و معنى ذلك أن المعتزلة يقيمون تأويلهم للآية على أساسين: الأساس الأول أن الحجب بمعنى المنع لا الحجاب المادي الذي لا يجوز إلاّ على الأجسام. و الأساس الثاني أنهم ممنوعون عن ثواب اللّه، فيكون قوله تعالى عَنْ رَبِّهِمْ المقصود به «عن ثواب ربهم» على أساس أن في الآية محذوفا على ما يقتضيه الدليل العقلي.

و جدير بالملاحظة أن المعتزلة، و إن كانوا منعوا خصومهم من الانتقال من منطوق الآية إلى مدلولها، و أخذوا عليهم ذلك، قد سمحوا لأنفسهم بهذا الانتقال، و من ثم استنتجوا من الآية أن «أولياء اللّه غير ممنوعين من رحمة اللّه و ثوابه». و لكن انتقال المعتزلة يظل مشروعا و مستندا لأدلة عقلية و سمعية كثيرة يوردونها في مواطن أخرى. أمّا انتقال الخصوم فيظل - على الأقل من وجهة نظر المعتزلة - انتقالا غير مشروع، و ليس مستندا إلى أدلّة العقل أو السمع.

ص: 213


1- 4. القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة/123
2- 229. ابن المنير: الانتصاف:232/4.
3- 230. ابن المنير: الانتصاف 232/4.
4- 231. المغني 121/4، و راجع شرح الأصول/267، متشابه القرآن/683.

غير أن الزمخشري يرى أن في الآية تمثيلا «للاستخفاف بهم و اهانتهم لأنه لا يؤذن على الملوك إلاّ للوجهاء المكرمين لديهم، و لا يحجب عنهم إلاّ الأدنياء المهانون عندهم» (1) .و فكرة التمثيل فكرة بلاغية أرحب من فكرة الحذف النحوية، إلى جانب أنها تخفف من جفاف التأويل العقلي و تعود بالآية إلى رحابة التصوير الفني الذي يثير مشاعر المؤمن و يغذي وجدانه.

و يستخدم القاضي عبد الجبار نفس السلاح النحوي، أعني سلاح الحذف، حين يتعرض للرد على الخصوم في تمسكهم بقوله تعالى تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ (الأحزاب/44) و كذلك قوله: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً (الكهف/110) إلى غير ذلك من الآيات التي ذكر فيها اللقاء مضافا إلى اللّه عز و جل. و إلى جانب استخدامه سلاح الحذف، يلزم الخصوم على قولهم بأن لقاء اللّه هو رؤيته، يلزمهم على هذا القول أن المنافقين أيضا سيرونه لأنه تعالى قال:

فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ (التوبة/77) على أساس أن هذه الآيات لو كانت «دالّة على أن المؤمنين يرون اللّه تعالى» لوجب في قوله: فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ أن يدل على أن المنافقين أيضا يرونه، و هم لا يقولون بذلك، فليس إلاّ أن الرؤية مستحيلة على اللّه تعالى في كل حال، و أن لقاءه في هذه الآية محمول على عقابه، كما في تلك الآية محمول على ثواب اللّه أو لقاء ملائكته» (2) .و تحديد المحذوف في الآية لا يتم عشوائيا و إنما يستند المعتزلة على القرآن نفسه في تحديد هذا المحذوف فيكون «المراد بقوله تعالى تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ أي يوم يلقون ملائكته، كما قال في موضع آخر: وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ (الرعد/23). و أمّا قوله عز و جل:

فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً أي ثواب ربه، ذكر نفسه و أراد غيره. كما قال في موضع آخر: وَ أَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفّارِ أي إلى طاعة العزيز الغفار، و قال: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي أي إلى حيث أمرني ربي، و كقوله:

وَ جاءَ رَبُّكَ أي و جاء أمر ربك، و قوله: وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ يعني أهل القرية، و نظائر هذا أكثر من أن تحصى» (3) .

و الأساس الذي يقيم المعتزلة عليه تأويلهم للقاء و أنه غير الرؤية أساس لغوي يستند إلى «أن اللقاء ليس هو بمعنى الرؤية، و لهذا استعمل أحدهما حيث لا يستعمل الآخر، و لهذا فإن الأعمى يقول: لقيت فلانا و جلست بين يديه و قرأت عليه، و لا يقول رأيته. و كذلك فقد يسأل أحدهم غيره هل لقيت الملك؟ فيقول:

لا، و لكن رأيته على القصر. فلو كان أحدهما بمعنى الآخر لم يجز ذلك، فثبت أن

ص: 214


1- 232. الكشاف 232/4.
2- 233. شرح الأصول/266.
3- 234. نفس المصدر السابق.

اللقاء ليس هو بمعنى الرؤية و أنهم إنما يستعملونه فيها مجازا، و إذا ثبت ذلك، فيجب أن نحمل هذه الآية على وجه يوافق دلالة العقل» (1) .و إذن فإن المعتزلة يفرقون بين «اللقاء» و «الرؤية» أولا، و هي تفرقة دلالية دقيقة، ثم يلجئون بعد ذلك إلى تأويل اللقاء بأنه لقاء اللّه أو الملائكة على أساس أن اللّه ذكر نفسه و أراد غيره، على طريقة حذف المضاف و اقامة المضاف اليه مكانه و هي طريقة تعبيرية مشروعة لها سند من القرآن و كلام العرب. و في مقابلة هذا المسلك اللغوي و النحوي من جانب القاضي عبد الجبار في تأويله الآية، يقابلنا المسلك البلاغي عند الزمخشري الذي يرى أن في الآيات تمثيلا. يرى أن التحية في قوله تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ مثل و كذلك اللقاء (2) .

لا يتبقى أما المعتزلة من آيات يستشهد بها على جواز الرؤية سوى قوله تعالى:

لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَ زِيادَةٌ و يتأوّل الخصوم كلمة الزيادة على أساس أنها رؤية اللّه، و هو تأويل هزيل لا سند له من اللغة و لذلك لا يجد المعتزلة أدنى عناء في ردّه، بل و السخرية منه.

أمّا الرد فهو معارضة ما رواه الخصوم في تفسير «الزيادة» عن الصحابة بتأكيد تعارضها فإذا كان الخصوم قد رووا عن أبي بكر، و عن صهيب أن تأويل قوله «و زيادة» النظر إلى وجه اللّه، فإن المعتزلة يروون ما ورد عن علي و غيره في تفسير الزيادة على أنها تضعيف الحسنات «و هو الذي أراده عز و جل بقوله: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها و قال بعضهم هو التفضّل الذي وعد اللّه المؤمنين به بقوله: فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ» (3) .

و أمّا السخرية فتتمثل في أن المعتزلة يلزمون خصومهم على هذا القول أن يكون الثواب هو التمكين من النظر إلى اللّه، و أن يكون العقاب هو الحرمان من النظر إليه، و أن يقتصر في الثواب و العقاب على ذلك «لأن ذلك إذا كان معظم الثواب، و كان ما عداه يسيرا بالاضافة إليه، فغير ممتنع أن يقتصر في اثابتهم عليه، و يزاد في لذتهم القدر الذي يكافئ سائر ملاذهم. و يجب أيضا أن لا يؤمن أن يقتصر اللّه في تعذيب أهل النار على تعذيبهم بأن ينفر طباعهم من رؤيته و يزيد في ذلك بحسب اختلاف أحوالهم، و في ذلك ابطال الجنة و النار و الثواب و العقاب بسائر الوجوه المعقولة» (4) .

ج - مبدأ العدل و قضية خلق الأفعال.

تعدّ هذه القضية أساس قضية العدل - الأصل الثاني من الأصول الخمسة - عند المعتزلة، ذلك أن كون اللّه عادلا يقتضي منه أن يعاقب المسيء، و أن يثيب

ص: 215


1- 235. شرح الأصول/265-266. انظر أيضا في معنى اللقاء. متشابه القرآن/341 - 354،342-355 و أيضا 553،529.
2- 236. راجع الكشاف 226/3.
3- 237. المغني 222/4.
4- 238. المغني 237/4، انظر أيضا متشابه القرآن/361-362.

المحسن، أي أن يحقق وعده للمؤمن، و وعيده للكافر. و لكي تتحقق هذه العدالة لا بدّ من أن يكون الانسان حرا مختارا في فعله و مسئولا عنه، و من ثم يستحق الثواب أو العقاب. و على العكس من ذلك فإن نفي قدرة الانسان على الفعل يستلزم بالضرورة عدم استحقاقه للثواب أو العقاب. و هذا بدوره يؤدي إلى أن تعذيب اللّه للمخطئ ظلم ما دام الانسان غير مختار للخطأ الذي وقع فيه.

و معنى ذلك أن الحرية الانسانية و العدالة الالهية وجهان لعملة واحدة، و نفي أولاهما يستلزم بالضرورة نفي الأخرى و يؤدي إلى عبثية الوجود الانساني و الفعل الالهي معا.

غير أن قضية خلق الأفعال تتصل من جانب آخر بأصل المعتزلة الأول و هو التوحيد، ذلك أن اثبات فاعل قادر في الشاهد يعدّ مقدمة ضرورية ينبني عليها اثبات فاعل قادر في الغائب لأنه «لو كان تعالى هو الخالق و المحدث لأفعال العباد، لأدّى هذا الاعتقاد إلى أن لا يعرف القديم أصلا، لأن طريق معرفته هو الاستدلال بفعله عليه. فإذا لم يثبت هذا القائل، في الشاهد، حاجة المحدث إلى محدث، لم يمكنه حمل الغائب عليه فلا يمكنه أن يستدل على حاجة المحدثات التي يتعذّر وقوعها من جهتنا على أن لها محدثا، فقد صح أن ذلك يمنع من معرفة القديم أصلا.

فكيف يقال: إنه الخالق لأفعالهم، و كيف يصح اعتقاد فرع يؤدي إلى هدم أصله؟ (1) .

و إذا كانت هذه القضية أساسية لكل من أصلي العدل و التوحيد، فهي على نفس الدرجة من الأهمية، بالنسبة لباقي أصول الفكر الاعتزالي، و هي «المنزلة بين المنزلتين» و «الوعد و الوعيد» و «الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر». فالقول بالمنزلة بين المنزلتين - حكما على مرتكب الكبيرة - يفترض - سلفا - مسئولية الانسان عن فعله و حريته في اختياره. و مبدأ «الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر» يهدف إلى التأثير في تغيير السلوك الانساني عن طريق الاقناع، و هو مبدأ يستند بالضرورة إلى امكانية التعديل في سلوك الانسان، و هي امكانية تتم بناء على رغبة الانسان، أي أنها تتم بناء على اختياره و حريته. و لو لم يكن الأمر كذلك لكان «المقدم على المنكر لا يتهيأ له مفارقته، لأنه مخلوق فيه، و لا التارك للمعروف يمكنه ايجاده، لأنه قد خلق فيه تركه. فيجب أن لا يكون للتعبد بهما (الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر) معنى، و أن لا يكون بين أمر المقدم على المنكر بالمنكر و بين نهيه عنه فصل» (2) .

و إذا كان مبدأ «الوعد و الوعيد» ينصب أساسا على الفعل الإلهي، فإنه - طبقا لمبدأ العدالة الالهية - لا ينفصل عن السلوك الانساني في تطبيقه، فالوعيد

ص: 216


1- 239. القاضي عبد الجبار: المغني في أبواب التوحيد و العدل 223/8.
2- 240. المغني 217/8.

لا بدّ أن يتحقق للمخطئ، و الوعد لا بدّ أن يتحقق للمحسن. أمّا الخطأ و الاحسان فهما من اختيار الانسان و من فعله.

و لقد سبقت الاشارة إلى البعد الاجتماعي و السياسي لهذه القضية في الفكر الاسلامي عامة. و هذا أمر يعود القاضي عبد الجبار ليؤكّده في القرن الرابع «إن أول من قال بالجبر و أظهره معاوية، و أنه أظهر أن ما يأتيه بقضاء اللّه و من خلقه، ليجعله عذرا فيما يأتيه، و يوهم أنه مصيب فيه، و أن اللّه جعله إماما و ولاّه الأمر، و فشا ذلك في ملوك بني أمية» (1) و يذهب القاضي إلى الزام القائلين بالجبر و المدافعين عنه الزامات شنيعة، أهمها أن القول بالجبر يؤدّي إلى انهيار النظام الاجتماعي أولا، و إلى هدم قانون السببية ثانيا، و إلى هدم الشرع و الدين ثالثا.

فمسئولية الانسان في المجتمع تحتم كونه مختارا حرا. أمّا القول بأنه ليس حرا و لا مختارا و لا فاعلا فهو قول يناقض العرف و العادة «و يجب، على قولهم، أن لا يحسن نصب الأئمة و الأمراء لأنهم إنما ينصبون لمنع الظالم عن ظلمه، و الانتصاف منه للمظلوم، و الزام الأحكام، و القيام بالحدود، و كل ذلك إنما يصحّ متى كان للعبد فعل و اختيار. فأمّا إن كان تعالى هو الخالق لأفعالهم فيهم، فكيف يعاقبون عليها؟ و كيف يؤدب الفاعل، و يعزر و يقوم و يؤخذ لمظلومه منه، و يكف عن الظلم بالتخويف» (2) .

و إذا كان القول بأن فعل الانسان لا يتعلق به سيؤدي إلى انهيار النظام الاجتماعي، فإنه من جانب آخر سيؤدي إلى انهيار قانون السببية الذي يقوم عليه العالم، ذلك أن نسبة أفعال العباد إلى اللّه القادر على كل شيء تحيل تعلق المسببات بأسبابها إذ «يصح أن يقع ما يحتاج فيه إلى الآلة بلا آلة، لأنه تعالى لا يحتاج في خلق الصعود في زيد إلى السلم، و الطيران في الطير إلى الجناح، و الكتابة في الورق إلى القلم و اليد. فكان يجب أن تكون الآلات، وجودها كعدمها، في أنه لا يحتاج إليها البتة. و كان يجب أن لا يخل فقدها بتعذر ما هي آلة فيه، حتى يكون الزمن بمنزلة الصحيح في الأفعال، و الضرير كالبصير فيها، بل لا يمتنع أن يكون تعالى قد أجرى العادة، في بعض البلاد و بعض الأوقات، أن المفقود من الآلة يصح منه ما يتعذر على كامل الآلة، من حيث يخلق تعالى الفعل فيه دون وافر الآلة» (3) .

و لا يكتفي القاضي بذلك، بل يذهب إلى القول بأن نسبة أفعال العباد للّه تعالى تؤدّي إلى فساد الشرع و الدين لأنه «لو كان تعالى هو المخترع لفعل العباد، لم يخل ما يقبح من العبد أن يقبح من اللّه تعالى أو يحسن منه. لأنه لا يصح أن يقال، مع علمه به، أنه لا يحسن منه و لا يقبح، لأن ذلك يؤدي إلى تجويز مثل ذلك في

ص: 217


1- 241. المغني 4/8.
2- 242. المغني 218/8.
3- 243. المغني 202/8-203.

فعل العالم منا. و هذا يستحيل، لأنه متى كان عالما بفعله، فلا بدّ من أن يعلمه على وجه، لكونه عليه له فعله، و لا يستحق به الذم، أو على وجه لكونه عليه ليس له فعله، و يصح أن يستحق به الذم. فإذا صحّ أنه لا يخلو مما ذكرناه، فلو قبح منه ما يقبح من العبد، و صح مع ذلك أن يخلقه، لم نأمن أن يخلق سائر القبائح منفردا بها فيكذب في أخباره، و يأمر بالقبيح، و ينهى عن الحسن، و لا يفي بشيء من وعده و وعيده، و يعذب الأنبياء، و يثيب الفراعنة، و يتفرّد بكل ظلم، لأنه إذا جاز أن يفعل القبائح مع قبحها منه، لم يؤمن من كل ما ذكرناه» (1) .

و إذا كان اثبات الانسان فاعلا لفعله مقدمة لا بدّ منها لاثبات فاعل في الغائب قادر على ما لا نقدر عليه من الأجسام و الأعراض، و إذا كانت نسبة أفعال الانسان للّه تؤدي إلى كل ما سبق من تقويض للنظام الاجتماعي، إلى اهدار لقانون السببية، إلى فساد للشرع و الدين، إذا كان هذا القول يؤدي إلى كل ذلك، فمن الطبيعي أن تكون معرفته ضرورية لا تنبني على السمع. بل يذهب المعتزلة إلى القول بأن صحة السمع تنبني على معرفة تعلق فعل الانسان به.. و من ثم «لا يسأل إلى اثبات القديم سبحانه، و اثبات أحواله، إلاّ بعد العلم بأن تصرف زيد هو فعله، و أنه يدل على كونه قادرا عالما. و متى لم يحصل للمستدل هذا الاعتبار من حال الشاهد، لم يمكنه معرفة القديم تعالى» (2) .

و إذا كان اثبات اللّه بصفاته نتيجة تنبني على أن الانسان فاعل، و صحة السمع تنبني على معرفة اللّه بتوحيده و عدله، فإن اثبات الانسان فاعلا حرا مختارا هو المقدمة الأولى لاثبات السمع و الاستدلال به «لأن من لا يعلم صدقه في قوله إلاّ بوصفه نفسه بأنه صادق، لم يعلم صادقا. لأنه يجوز عليه الكذب في قوله: إني صادق. و لا وجه يؤمن كذبه في هذا الخبر المخصوص إلاّ ما يقوله مما يوجب القبائح عنه. و لا يمكنهم التعلق في ذلك بقول الرسول، لأنا قد ألزمناهم أن يظهر تعالى المعجز على كذاب أو صادق بعينه ليضل العباد، فكيف يوثق بقول من هذا حاله؟ و لا يمكنهم التعلق في ذلك بالاجماع، لأن صحة الاجماع تتبع صحة الكتاب و السنة، فكيف يصح تصحيحهما به و هو فرع عليهما، أو على أحدهما؟ و لا يصح لهم أن يقولوا: إن الكذب لا يقع إلاّ من محتاج أو جاهل أو منقوص أو محدث لأن ذلك إنما يصح بمثل الطريق الذي يوجب أن الظلم لا يقع إلاّ من هذا وصفه. فإذا جوّزوا فعل القبائح منه تعالى، و إن كان عالما غنيا، فكذلك يلزمهم في الكذب» (3) .

ص: 218


1- 244. المغني 177/8-178.
2- 245. السابق 16/8.
3- 246. السابق 205/8، و انظر شرح الأصول الخمسة/354-381،355-382.

(1) انتهى المعتزلة كما رأينا إلى أن تعلق الفعل بفاعله قضية ضرورية ينبني عليها اثبات اللّه بصفاته من التوحيد و العدل، و ينبني عليها - بالتالي - صحة الشرع و الدين. و الخلاف بين المعتزلة و خصومهم في قضية خلق الأفعال يرتدّ بدوره إلى قضية العلاقة بين الشرع و العقل. و لقد ذهب الأشاعرة كما سبقت الاشارة إلى الاعلاء من شأن السمع و اعتباره الأساس في معرفة صفات اللّه و أسمائه. و إذا كان القول بالجبر - بمعناه الغليظ - قد أثار استياء اتقياء المؤمنين، خصوصا مع انكشاف بعده السياسي و الاجتماعي، فإن القول بحرية الانسان المطلقة ظلّ يثير مسألة التعارض بين إرادة اللّه و إرادة الانسان. بمعنى أن الايمان بارادة الانسان الحرة قد يؤدي إلى التقليل من حرية الارادة الالهية. و قد سبقت الاشارة إلى أن الحسن البصري - تفاديا لهذا الموقف - ذهب إلى أن «كل شيء بقضاء و قدر إلاّ المعاصي» فنفى قبائح الفعل الانساني عن اللّه، و اكتفى بهذا النفي دون أن يثبت إرادة مستقلة للانسان متحررة من إرادة اللّه الشاملة.

غير أن هذه المعادلة ظلّت سلاحا في يد خصوم المعتزلة يشهرونه في وجوههم، و يكفرونهم به، على أساس أن القول بحرية الارادة الانسانية يؤدي إلى أن يقع في ملك اللّه ما لا يريده اللّه. فإذا كان اللّه لا يريد الكفر لأنه قبيح، و الكفر يقع من الانسان بارادته الحرة المختارة، فمعنى ذلك أن الكافر قد اختار الكفر خلافا لارادة اللّه و مشيئته. و يرى الأشاعرة أن هذا القول يؤدي إلى نسبة الضعف و الغفلة إلى اللّه تعالى عن ذلك علوّا كبيرا «لأنه لو كان في سلطان اللّه تعالى ما لا يريده لوجب أحد أمرين إمّا اثبات سهو و غفلة أو اثبات ضعف و عجز و وهن و تقصير عن بلوغ ما يريده فلما لم يجز ذلك على اللّه تعالى استحال أن يكون في سلطانه ما لا يريده» (2) .و لا يرى الأشاعرة في إرادة اللّه لكفر الكافر أو خلقه له فيه أي نقص أو شك في عدالته. و الأساس الذي يستندون إليه أن إرادة اللّه يجب أن تشمل كل شيء يقع في ملكه، لأن الارادة صفة ذاتية من صفات اللّه تعالى «إن الارادة إذا كانت من صفات الذات... وجب أن تكون عامة في كل ما يجوز أن يراد على حقيقته، كما إذا كان العلم من صفات الذات وجب عمومه بكل ما يجوز أن يعلم على حقيقته. و أيضا فقد دلّت الدلالة على أن اللّه خالق كل شيء حادث، و لا يجوز أن يخلق ما لا يريده» (3) .أمّا أن إرادة اللّه للقبائح لا تستلزم وصفه بالقبح أو الانتقاص من عدالته، فالأساس في اثبات هذه القضية عند الأشاعرة هي التفرقة بين اللّه و بين الانسان، فاللّه هو «المالك القاهر الذي ليس

ص: 219


1- 1. انظر على سبيل المثال نللينو: بحوث في المعتزلة، في (التراث اليوناني في الحضارة الاسلامية) ص 203،202. أوليري: الفكر العربي و مركزه في التاريخ ص 67، دي بور: تاريخ الفلسفة في الاسلام/48-49 زهدي جار اللّه: المعتزلة ص 75،36،2
2- 247. أبو الحسن الأشعري: اللمع/24 و انظر الباقلاني: الانصاف/143.
3- 248. الأشعري: اللمع/24.

بمملوك و لا فوقه مبيح و لا آمر و لا زاجر و لا حاظر و لا من رسم له الرسوم و حدّ له الحدود. فإذا كان هذا هكذا لم يقبح منه شيء. إذا كان الشيء إنما يقبح منا لأنّا تجاوزنا ما حدّ و رسم لنا و أتينا ما لم نملك اتيانه. فلما لم يكن الباري مملكا و لا تحت آمر لم يقبح منه شيء» (1) .

و لا يسلّم المعتزلة للأشاعرة بهذا القول، و ذلك تأسيسا على أن الفعل إنما يقبح لصفة خاصة به لا صلة لها بالفاعل. بمعنى أن الفعل لا يقبح أو يحسن بفاعله، بل يقبح أو يحسن لصفة ذاتية في الفعل نفسه. و بناء على ذلك يقع الفعل قبيحا أو حسنا من أي فاعل كان، فما يقبح من العبد يقبح من اللّه إن وقع بنفس الطريقة.

و ما دام اللّه عالما، فإنه يعلم قبح القبيح، و يعلم استغناءه عن فعله، و من ثم يخضع فعله خضوعا ذاتيا لهذا العلم، بمعنى أن علمه يمنعه من اختيار القبيح و فعله. و من جهة أخرى فإن القبيح إنما يقع من الواحد منا لجلب نفع أو دفع ضرر، و اللّه تعالى يجوز عليه اجتلاب المنافع أو دفع المضار، لأنه ليس جسما، و لا يجوز عليه الزيادة و النقصان. و على ذلك يستحيل وقوع القبيح منه.

و في سبيل رفع التناقض بين إرادة اللّه و إرادة البشر، أنكر المعتزلة أن تكون الارادة الالهية صفة ذاتية قديمة كما ذهب الأشاعرة و ذهبوا إلى أنها صفة من صفات الأفعال، و صفات الأفعال لا تتعلق بكل شيء، على عكس العلم الذي يتعلق بكل معلوم. بل ألزموا الأشاعرة على قولهم بالارادة القديمة القول بقدم العالم «لاعتقادكم أنه تعالى مريد لذاته أو بارادة قديمة» (2) .و من جهة أخرى ذهبوا إلى أن إرادة اللّه تنقسم إلى ضربين «أحدهما من مقدوره، و الآخر من مقدور عباده. فما يريده من مقدوره فلا بدّ من وقوعه، و انتفاؤه يقتضي فيه ما لا يجوز عليه. و ما يريده من مقدور غيره على ضربين: أحدهما يريده على جهة الالجاء و الاكراه فيجب وقوعه عند ما يفعله من الالجاء، و لو لم يقع لاقتضى منه ما لا يجوز عليه. و الثاني ما يريده من غيره على جهة الاختيار و الطوع، نحو ما اراده من المكلفين، و ذلك لا يوجب فيه الضعف و لا النقص إذا لم يقع. و كذلك وقوع ما كرهه منهم على هذا الوجه، لا يوجب فيه الضعف، و إن كان وقوع ما كرهه في الوجهين الأولين يوجب مثل ما يوجبه انتفاء ما أراد» (3) .و هكذا ينتهي المعتزلة إلى أن إرادة اللّه لأفعال عبادة إنما هي إرادة لها على سبيل الاختيار لا الالجاء، و من ثم لا يعدّ وقوع القبيح منهم على غير ارادته نقصا فيه أو غفلة منه أو سهوا. و لا يجب أن ننسى أن قدرة الانسان على الاختيار هي نفسها قدرة من خلق اللّه، بمعنى أن اللّه خلق الانسان مختارا، لا يقع الفعل منه إلاّ على هذه الصفة «و ذلك لأن العبد و إن أحدث الفعل و أوجده، فإنما

ص: 220


1- 249. السابق/71.
2- 250. القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة/384.
3- 251. القاضي عبد الجبار: المغني/6 القسم الثاني/257.

صحّ منه ذلك من حيث جعله تعالى على الصفات التي لو لا كونه عليها لما صح منه أن يحدث و يفعل» (1) .

و لكن الخلاف حول هذه القضايا بين المعتزلة و خصومهم خصوصا الأشاعرة لم يكن خلافا فكريا معزولا عن محاولة الاستدلال بالنص القرآني لتأكيد وجهة نظر كل فريق. و من الطبيعي أن يجد كل فريق في القرآن ما يؤيد وجهة نظره، و أن يحاول من ثمّ أن يتأوّل الآيات التي يستشهد بها خصمه على صحة ما يذهب إليه.

و في هذه القضية، كما في غيرها من القضايا، سارع المعتزلة إلى اعتبار ما يدعم وجهة نظرهم محكما يدل بظاهره و ما يدعم وجهة نظر الخصوم متشابها لا يدل بظاهره، بل هو في حاجة للتأويل الذي يرده إلى المحكم. و تتساوى القرائن التي يقوم على أساسها التأويل، لفظية كانت أم عقلية ما دامت تنتهي إلى رفع التناقض الظاهري بين آيات القرآن أولا، و إلى تأكيد قضية العدل الالهي و مسئولية الانسان ثانيا.

(2) يستدل المعتزلة بمجموعة من الآيات على نفي إرادة اللّه للقبيح و الكفر، و ذلك سعيا لتأكيد خيريته أولا، و إلى تحميل الانسان مسئولية فعله ثانيا. و ما دام هدفنا هو الكشف عن العلاقة بين الوظيفة التأويلية للمجاز و بين الفكر الاعتزالي، فسنكتفي بالأمثلة الخلافية الحادة دون الاستقصاء الدقيق لكل الآيات التي ترتبط بهذه القضية.

و الدليل الأول الذي يستدل به المعتزلة في هذا الصدد قوله تعالى وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ (الذاريات/56)«و هذا يدل على أن اللّه تعالى لا يريد من العباد إلاّ العبادة و الطاعة، لأن هذه اللام لام الغرض، الذي يسميه أهل اللغة: لام كي، بدليل أنهم لا يفصلون بين قول القائل: دخلت بغداد لطلب العلم، و بين قوله دخلت و غرضي طلب العلم. و يدلّ أيضا على أن هذه الأفعال محدثة من جهتنا و متعلقة بنا، و إلاّ كان لا معنى لهذا الكلام» (3) أي أن اللّه خلق العباد لكي يعبدوه، و أراد منهم ذلك فقط دون الكفر به، أو بعبارة الزمخشري «إنما أراد منهم أن يعبدوه مختارين للعبادة لا مضطرين إليها لأنه خلقهم ممكنين فاختار بعضهم ترك العبادة مع كونه مريدا لها و لو أرادها على القسر و الالجاء لوجدت من جميعهم» (4) .

و من الطبيعي أن يحتاج هذا الدليل لتأويل الأشاعرة حتى يتسق مع أصولهم.

و يطرح الباقلاني ثلاثة تأويلات لهذه الآية «أحدها: أنه أراد بعض الجن و الانس.

ص: 221


1- 252. المغني 143/8.
2- 2. انظر: محمد عمارة: المعتزلة و مشكلة الحرية الانسانية/17-24.
3- 253. القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة/362-363. و انظر أيضا المغني 262/8.
4- 254. الكشاف 21/4.

و الذي يدلّ على صحة ذلك أن كثيرا من الجن و الانس يموت قبل أن يبلغ حدّ التكليف و العبادة و صار هذا كقوله: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللّهُ و أراد البعض لا الكل لأن منهم من مات قبل الدخول و قتل قبل الدخول» (1) بمعنى أن الآية لا تعمّ بمنطوقها جميع المكلفين، بل بعضهم فحسب. و بعبارة أخرى لا تدل الآية عند الباقلاني - على أن اللّه قد أراد العبادة من جميع الخلق، بل أرادها من بعضهم فقط «و يدل عليه أيضا قوله تعالى: وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ و هم الذين لم يرد أن يطيعوه فاعلم ذلك» (2) و الباقلاني - إلى جانب تأويله السابق لدليل المعتزلة - يطرح دليلا للأشاعرة من القرآن يدل بظاهره على ما يذهبون إليه من جانب و يخصص عموم الآية التي يستدل بها المعتزلة من جانب آخر.

و في الرد على تأويل الأشاعرة، يسلّم القاضي عبد الجبار بأن الآية لا تعمّ جميع الخلق لأن «المجنون و من لم يبلغ هذا الحد، فلا يجوز دخوله في الكلام، لأنه يتضمن أنه أراد العبادة ممن تصح منه» (3) ،و لكنه من جهة أخرى لا يسلّم بأن اللّه يريد معصية من عصى. و من ثم يتصدّى لتأويل الآية التي استشهد بها الباقلاني و كذلك غيرها من الآيات التي تسند إلى اللّه الإضلال أو إرادة الكفر «و ذلك لأن الآية التي اعتمدنا عليها، المراد بها حقيقتها، و سائر ما أوردته مجاز، لأن قوله تعالى: وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ دخلت اللام على ما لا يصح أن يكون مرادا منه، لانه إنما يراد منه الكفر أو الايمان، دون نفس جهنم. فعلم بذلك أن المراد بهذه اللام العاقبة، و أنه أراد بذلك: أنّى قد ذرأتهم، و علمت أن مصيرهم جهنم، كقوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً و معلوم من حالهم أنهم التقطوه لتقرّ أعينهم به، لكن مصيره لمّا كان إلى معاداتهم جاز أن يقال ذلك» (4) .و يعتمد هذا التأويل على التفرقة بين معنى اللامين في الآيتين، فاللام في الآية التي يستدل بها المعتزلة هي لام الغرض التي هي بمعنى لكي، أمّا اللام في دليل الأشاعرة فهي لام العاقبة. و معنى ذلك أن اللّه لم يشأ دخولهم جهنم، و إنما هم دخلوها بعملهم. و استشهاد القاضي بمثال من القرآن على لام العاقبة يعدّ دليلا آخر يقوي تأويله للآية التي يستشهد بها الخصوم. و اعتبار القاضي أن الآيات التي يستشهد بها الخصوم مجاز يؤكّد ما ذهبنا إليه من أن المجاز تحوّل إلى وسيلة تأويلية لرفع التناقض الظاهري بين آيات القرآن الكريم.

و بنفس الطريقة يتأوّل القاضي كل الآيات التي يستدل بها الأشاعرة «و قوله تعالى: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً و يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا يقارب تأويله ما

ص: 222


1- 255. الانصاف/144.
2- 256. الانصاف/145.
3- 257. متشابه القرآن/629.
4- 258. المغني 6 القسم الثاني:234 و انظر متشابه القرآن/305.

قدمناه و إنما أراد أنه سيزدادون عند الاملاء، و يضلون عمّا بيّن لهم عند اتيان الذي فعله لكي لا يضلوا. و كذلك قوله: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً أراد أنه يفعل ما يقع الضلال منهم عنده، فأضاف ضلالتهم إليه توسعا لمّا ضلوا عند فعله، كقوله:

وَ أَضَلَّهُمُ السّامِرِيُّ من حيث دعاهم إلى الضلال، أو أراد بذلك أنه تعالى يضلّهم عن الثواب في الآخرة بالكفر به كثيرا، و يهديهم إلى الثواب في الآخرة بالايمان به كثيرا. و إنما حملنا هذه الآية على هذا الوجه ليكون موافقا للحكم الذي قدمنا الكلام فيه، لأن تلك الآية لا احتمال فيها، و يقوي ما قدمناه قوله سبحانه:

وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ فبين تعالى أنه للرحمة خلقهم» (1) .

*** و من أدلّة المعتزلة على عدم إرادة اللّه للقبيح قوله تعالى وَ اللّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (البقرة/205). و حتى تدل الآية على مراد المعتزلة، كان عليهم أن يوحّدوا بين الحب و الارادة، و بين البغض و الكراهة «و أنه تعالى إذا صح كونه مريدا، فيجب كونه محبا، و كل ما صحّ أن يريده صحّ أن يحبه، و كل ما أوجب قبح محبته، أوجب قبح ارادته» (2) .و من الطبيعي أن يفرق الاشاعرة بين الحب و الارادة، حتى يتسنى لهم تأويل الآية تأويلا يتفق مع أفكارهم. فالمراد بالآية عند الباقلاني «أنه لا يثيب على الفساد و لا يمدحه و لا يأمر به فإن اسم المحبة إنما يقع على ما يثاب عليه و يمدح فاعله عليه و ليس كل ما يريده المريد يقال فيه إنه أحبه أ لا ترى أن المريد يريد بذل ما له للسلطان الجائر من هدية و رشوة ليتقي بذلك شره ثم لا يقال إنه أحب ذلك، و كذلك الرجل اللبيب يريد ضرب ولده و قرة عينه ليؤدبه ثم لا يقال إنه أحب ذلك، و كذلك يريد ربط جروحه... و شرب المر من الدواء و لا يقال إنه أحب ذلك. و كذلك الحميم يريد و يبادر في الحفر لميته و تجهيزه و تغييبه تحت التراب و لا يقال إنه محب لذلك و لا يؤثره. فعلم أنه ليس كل ما أراده المريد أحبه و إنما يقال أحب الشيء إذا مدحه و أثنى عليه و أثاب عليه و اللّه تعالى لم يمدح الفساد و لم يثن على المفسد و لم يثبه» (3) و هذه التفرقة بين الحب و الارادة إن صدقت في مجال العواطف البشرية - و أمثلة الباقلاني تشهد على ذلك - من الصعب أن تصدق في مجال الارادة الالهية النافذة. و قد كانت فكرة الثواب - دلالة على الحب - و العقاب - دلالة على البغض - تكفي الباقلاني لتأويل الآية، غير أنه كان يناقش أساس التأويل الاعتزالي. و هو أساس وقع بدوره في التسوية بين المجالين.

ذلك أن المعتزلة اعتبروا أن إرادة اللّه لأفعال عباده هي الأمر بها، و بغضه لها هو

ص: 223


1- 259. المغني 6/القسم الثاني/235.
2- 260. المغني 6 القسم الأول/54.
3- 261. الانصاف/143.

النهي عنها، و بالتالي حاولوا تأويل كل الآيات التي تسند للّه الحب على أن الحب هو الارادة. و لم يكتف المعتزلة بذلك في مجال تأويل آيات القرآن، بل نقلوا هذه التسوية بين الحب و الارادة إلى مجال التعبير البشري، و اعتبروا أن العبارة «أحب زيدا» عبارة مجازية معناها «أريد منافع زيد»«لكنهم استجازوا حذف ذكر المحبوب من الكلام بالتعارف، و لم يستجيزوا مثله في الارادة، و إلاّ فالمحبة إنما تعلّقت بمنافعه دونه كالارادة. و لذلك يستحيل كونه محبا له من غير أن يريد منافعه» (1) و معنى ذلك أن التعبير عن الارادة بالحب تعبير مجازي حذف منه ذكر المحبوب.

و يختلف أبو هاشم الجبائي مع والده أبي علي في عبارات مثل «أحب اللحم» و «أحب جاريتي» فيذهب أبو هاشم إلى أنه «قد يقال ذلك بمعنى الشهوة مجازا» و يقول أبو علي «أنه حقيقة و المراد به أنه يريد أكل اللحم، و الاستمتاع بالجارية» (2) و كلا القولين ينتهي إلى نفس النتيجة بصرف النظر عن الخلاف حول مجازية العبارات أو حقيقتها، و لذلك ينتهي القاضي من استعراض هذين القولين إلى تأكيد ما ذهب إليه من التسوية بين الارادة و المحبة على المستوى الالهي و البشري معا. كانت هذه التسوية عند المعتزلة - إذن - هي التي دفعت الباقلاني لتلك الأمثلة البشرية التي يفرّق فيها بين المحبة و الارادة، رغبة منه في هدم الأساس الذي يتكئ عليه المعتزلة في الاستشهاد بالآية.

*** و إذا كانت الآية السابقة قد احتاجت لهذا الجهد اللغوي حتى تستقيم دليلا للمعتزلة فثمّ آية أخرى واضحة الدلالة لورود لفظ الارادة فيها بدلا من لفظ الحب، تلك هي قوله تعالى وَ مَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (غافر/21) و من السهل على الأشاعرة رد هذا الدليل على أساس أن الظلم إنما يقع منا لأننا نتصرف فيما لا نملك، أمّا اللّه المالك القاهر الذي ليس فوقه آمر أو ناه فله مطلق الحرية في أن يريد ما يشاء و يفعل ما يريد. و من جهة أخرى ففكرة الكسب الأشعرية تنفي أن يكون اللّه ظالما بظلم الظالم و إن كان هو الذي خلقه، كما أنه لا يمكن أن يكون متحركا بحركة المتحرك و إن كان هو الذي خلقها فيه. و يذهب الباقلاني إلى «أن اللّه تعالى خلق الظلم ظلما للظالم به، و خلق الجور جورا للجائر به، و خلق الكذب كذبا للكاذب به كما أنه خلق الظلمة ظلمة للمظلم بها، و خلق الضوء ضوءا للمستضيء به، و خلق الحمرة حمرة للأحمر بها، و خلق السواد سوادا للأسود به، و خلق السم سمّا للمسموم به: فكما أن اللّه تعالى خلق الظلمة لليل، و الضياء للنهار، و الحمرة للأحمر، و السواد للأسود و السم للحية و لا يوجب ذلك كونه ظلمة

ص: 224


1- 262. القاضي عبد الجبار: المغني/6 القسم الثاني/53.
2- 263. السابق/نفس الجزء/54.

و لا ضياء و لا سوادا و لا حمرة و لا سما، فكذلك خلق الطاعة طاعة للطائع بها، و الكذب كذبا للكاذب به، و الجور جورا للجائر به و لا يوجب ذلك كونه جائرا و لا ظالما و لا كاذبا» (1) و لقد سبقت الاشارة إلى رفض المعتزلة لهذه الفكرة بناء على ما ذهبوا إليه من أن القبيح و الحسن صفتان ذاتيتان للفعل.

و بنفس الطريقة يستطيع الأشاعرة رد استدلال المعتزلة بقوله تعالى وَ ما رَبُّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ أو وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً دون أدنى حساسية من إلزامات المعتزلة لهم أو هجومهم عليهم.

و لكي يؤكد الأشاعرة ما يذهبون إليه من إرادة اللّه المطلقة، تلك الارادة التي تشمل عندهم كفر الكافر و ايمان المؤمن، و طاعة المطيع، و عصيان العاصي، يذهبون إلى الاستدلال بآيات كثيرة من القرآن. و هي آيات تدل بظاهرها على ما يذهبون اليه. و يكون مسلك المعتزلة إزاء هذه الآيات هو التأويل تماما كما فعل الأشاعرة مع الآيات التي استدل بها المعتزلة على وجهة نظرهم. و الآيات التي يستدل بها الأشاعرة تشتمل على كل النصوص التي تربط مشيئة العباد بمشيئة اللّه المطلقة و ذلك كقوله تعالى وَ ما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ فأخبر أنّا لا نشاء إلاّ ما شاء اللّه أن نشاءه. و قال تعالى وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً. و قال تعالى وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها و قال وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ و قال وَ لَوْ شاءَ اللّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَ لكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ فأخبر أنه لو لم يرد القتال لم يكن و أن ما أراد من ذلك قد فعله» (2) .

و يؤول المعتزلة هذه الآيات كلها استنادا إلى ما سبق أن أشرنا إليه من تفرقتهم بين إرادة اللّه لفعل نفسه، و بين ارادته لفعل غيره، و التفرقة في هذا الوجه الأخير بين ما يريده على سبيل القسر و الالجاء، و ما يريده على سبيل الطوع و الاختيار. و يكون معنى المشيئة في هذه الآيات كلها مشيئة الالجاء و الاضطرار «فإن قوله تعالى: وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى في ظاهره ما يبيّن ما قلناه، لأنه نسب اجتماعهم إليه تعالى، فلا بدّ من أن يكون ما اجتمعوا عليه - أو ما أوجبه - من قبله و لا يكون إلاّ بالالجاء» (3) .

و يستعين المعتزلة على تأكيد تأويل المشيئة بالالجاء بفكرة السياق التي تسعفهم عليها بعض الآيات «و أمّا قوله وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ ففي آخره ما يدل على ما قلناه، و هو قوله أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ النّاسَ حَتّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ فلو لا أن المراد بالكلام طريقة الاكراه لم يكن لهذا الكلام معنى» (4) .

ص: 225


1- 264. الانصاف/138.
2- 265. الأشعري: اللمع/31.
3- 266. القاضي عبد الجبار: المغني في أبواب التوحيد و العدل 218/13.
4- 267. السابق/نفس الجزء و الصفحة.

(1) انتهى المعتزلة إلى تثبيت مسئولية الانسان عن فعله، و انتهوا - من ثم - إلى تأكيد مبدأ العدالة الالهية. و كان عليهم أن يستدلّوا على صدق قضيتهم بآيات من القرآن لم يسلّم لهم خصومهم بدلالتها على ما يريدون. و لقد أثارت مسألة خلق الانسان لأفعاله حساسية أهل السنة و الأشاعرة، على أساس أن هذا الزعم يؤدّي إلى الشرك «إن قلتم أن الواحد منا يخلق أفعاله من طاعة، أو معصية، أو ايمان، أو كفر فقد شركتم بيننا و بين اللّه تعالى في الخلق و أنه لا يتم خلقه إلاّ بخلقنا. و ذلك أن الجسم لا يخلو من حركة، أو سكون، أو كفر، أو ايمان، أو طاعة، أو معصية، فصح أن جميع الذوات مشتركة الخلق بين العبد و بين الرب و أنه لا يتم خلق أحدهما إلاّ بمخلوق آخر. و هذا شرك ظاهر نعوذ باللّه منه» (2) .و بالرغم من تهافت هذا الالزام الذي يستند إلى التسوية بين الفعل الاختياري و الفعل الاضطراري الذي لا ينفك عنه الجسم، فقد سعى المعتزلة لمحاولة نفي هذا الاتهام. و كان الخلاف الأساسي بينهم و بين خصومهم حول امكانية أن يسمى الانسان «خالقا» لأفعاله.

و يبدو أن كلمة «خالق» هي التي أثارت كل هذا الخلاف لما يمكن أن تؤدي إليه من التسوية - على الأقل في الوصف - بين اللّه و الانسان. و رغم أن المعتزلة قد رفعوا التناقض بين أفعال العباد و أفعال اللّه، و أعطوا لهذه الأخيرة الأولوية في الوجود (3) إلاّ أن وصف الانسان بأنه خالق ما تزال تحتاج منهم لبعض الجهد حتى لا يصبح للخصوم أي شبهة عليهم.

و الجهد هنا جهد لغوي حول تحديد معنى «الخلق» و قد اختلف هذا التحديد بين أبي علي الجبائي و أبي هاشم أساتذة القاضي عبد الجبار، الذي يعرض الرأيين و يرجح بينهما «و قد قال شيخنا أبو هاشم، رحمه اللّه، إنما سمي الخالق خالقا من حيث قصد بالفعل إلى بعض الأغراض. و قال: إن تسمية المخلوق توجد من معنى هو الخلق، و الخلق و التقدير هما ارادتان، و لا يوصف الخلق بأنه خلق إلاّ و المخلوق موجود. و متى كان معدوما لم يسم خلقا، و التقدير لا يسمى خلقا إلاّ بشرط وجود المقدور، و لا مخلوق إلاّ محدث، و قد يكون محدثا ليس بمخلوق، لأنه يفيد صفة زائدة على حدوثه» (4) .

و يلفتنا هذا النص إلى ثلاثة أمور: الأول أن الخلق فعل مقصود لتأدية غرض ما، و الخالق يسمى كذلك لأنه يقصد بفعله إلى بعض الأغراض، و لا يفعله عبثا أو خبط عشواء، أو على سبيل السهو و النسيان. الأمر الثاني أن المخلوق مشتق من معنى هو الخلق. و الفرق بين الارادة - و هي معنى أيضا - و الخلق، أن الخلق لا يسمى كذلك إلاّ و المخلوق موجود. أي أن الخلق، و إن كان معنى، يرتبط

ص: 226


1- 3. الخياط: الانتصار 13-14
2- 268. الباقلاني: الانصاف/130.
3- 269. أنظر القاضي عبد الجبار: المغني 288/8-289.
4- 270. المغني 162/8.

بالتحقق الفعلي. الأمر الثالث أن الخلق غير الإحداث، و أن كل مخلوق محدث، و ليس كل محدث مخلوق أي أن المحدث قد يوجد لا لغرض، و ليس كذلك المخلوق (1) .و ينكر أبو علي أن يكون المخلوق مشتقا من معنى هو الخلق، بمعنى أنه يرفض تسوية أبي هاشم بين الخلق و الارادة، و يسوي بين الخلق و التقدير.

و يتفق القاضي مع أبي علي «و قد بيّنا أن القول بأن هذه الصفة مشتقة من معنى يبعد، و أن الذي قاله أبو علي، رحمه اللّه، في هذا الباب أولى و أقرب إلى التعارف و الاستعمال. و بيّنا أن ما يحتج به، رحمه اللّه،(يعني أبا هاشم) في أنه اشتقاق من قول الشاعر:

و بعض القوم يخلق ثم لا يفري

إنما يريد به أنه يخلق ما يفعله في الادم من التقدير، لا أنه أراد به أنه يريد و لا يقطع» (2) فالخلق - عند أبي علي و عبد الجبار - فعل و ليس معنى، بعكس الارادة التي هي معنى. و إذا كان أبو هاشم قد فهم البيت على أساس أنه يريد و لا يقطع، و يكون معنى الخلق عنده هو الارادة، فان أبا علي و القاضي قد فهما البيت على أساس أن الخلق هو فعل ما سبق تقديره. و بناء على ذلك لا بأس لدى المعتزلة، من حيث قضية اللغة لا الاصطلاح، أن يسمى الانسان خالقا «ذلك أنّا لو خلينا و قضية اللغة، لاجرينا هذا اللفظ على الواحد منا كما نجريه على اللّه تعالى، لأن الخلق ليس بأكثر من التقدير، و لهذا يقال، خلقت الأديم... و قال زهير:

و لأنت تفري ما خلقت و بعض القوم يخلق ثم لا يفري

و قيل للحجاج: إنك إذا و عدت وفيت، و إذا خلقت فريت، أي قدرت و قطعت.

و أظهر من ذلك كله قوله تعالى: وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي و قوله تعالى: فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ فلو لا أن الاسم مما يجوز اجراؤه على غيره و إلاّ لتنزّل ذلك منزلة قوله: فتبارك اللّه أحسن الآلهة.

و معلوم خلافه. و أمّا في الاصطلاح فإنما لم يجز أن نجري هذا اللفظ على الواحد منا، لأنه عبارة عمّن يكون فعله مطابقا للمصلحة، و ليس كذلك أفعالنا، فإن فيها ما يوافق المصلحة، و فيها ما يخالفها، فلهذا لم يجز اجراء هذه اللفظة على الواحد منا لا لشيء آخر» (3) و هكذا يتحرّج المعتزلة بدورهم من اطلاق هذا اللفظ على غير اللّه، و إن كانت اللغة تسمح بذلك.

لا يختلف الاشاعرة مع المعتزلة في أن معنى الخلق هو التقدير، و إن اختلفوا معهم في الاستدلال بهذه الآيات على جواز تسمية الانسان بأنه خالق «فعيسى عليه

ص: 227


1- 271. انظر شرح الأصول الخمسة/283.
2- 272. المغني 162/8.
3- 273. القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة/379-380. و انظر أيضا متشابه القرآن /435،83-515،436.

السلام يقدر الطين صورة و الخلق يقدرون الصورة صورة لا أنهم يخرجون الصورة من العدم إلى الوجود» (1) و علينا أن نلاحظ أن سعي الباقلاني لنفي الايجاد من العدم في تأويل هذه الآية، يتسق مع ما سبق أن أشرنا اليه من أن الأشاعرة عموما ينسبون خلق الفعل الانساني إلى اللّه، و ينسبون اكتسابه إلى العبد. و لقد سبق أن أشرنا - أيضا - إلى ما ذهب إليه الباقلاني خاصة من أن الانسان هو الذي يحوّل فعل اللّه - كالحركة مثلا - إلى طاعة أو إلى معصية. و معنى ذلك كله أن الانسان لا يخلق فعله من عدم، و إنما هو يكتسب فحسب. و لذلك كله يحاول الباقلاني تأويل الآية التي استشهد بها القاضي عبد الجبار، و التي نسبت إلى عيسى عليه السلام خلق صورة من الطين. و يذهب الباقلاني إلى أن عيسى لم يخلق الصورة، أي لم يوجدها من عدم، و إنما هو فقط قدرها على مثال سابق معروف هو هيئة الطير التي هي من خلق اللّه. و الذي لم يلاحظه الباقلاني أن المعتزلة يستدلون بهذه الآيات على جواز التسمية فحسب، دون أن يذهبوا إلى أن الانسان خالق، بمعنى الايجاد من العدم.

و إذا كانت الآية السابقة لم تحتج من الباقلاني إلى جهد كبير، فإن قوله تعالى: فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ يحتاج إلى أكثر من وجه للتأويل، أحدهما «أن اللّه تعالى هو الخالق لا خالق سواه. لكن لمّا ذكر معه غيره قال (أحسن الخالقين) و إن كان هو الخالق على الحقيقة دون غيره كما يقال عدل العمرين و إنما هما أبو بكر و عمر، لكن لمّا جمع بينهما سماهما باسم واحد. و كذلك قول الفرزدق:

أخذنا بأكناف السماء عليكم لنا قمراها و النجوم الطوالع

و القمر واحد لكن لمّا جمعه مع الشمس سماهما قمرين، و كأنه تعالى لمّا علم من الكفار و منكم أن تجعلوا معه غيره خالقا قال فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ على زعمهم أن معه خالقا غيره. و هذا كقوله تعالى وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ على زعمكم لأن عنده أن النشأة أهون من الاعادة فذكر ذلك على سبيل الرد عليهم و الانكار لقولهم أن معه خالقا غيره، لا أنه أثبت معه خالقا غيره.

جواب آخر: و ذلك أن لفظة أفعل في كلام العرب قد يراد بها اثبات الحكم لأحد المذكورين و سلبه عن الآخر من كل وجه و ذلك في قوله تعالى: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَ أَحْسَنُ مَقِيلاً فأثبت حسن المقيل لأهل الجنة مع حسن المستقر و سلب ذلك عن أهل النار أصلا و رأسا لأن أهل النار ليس لهم حسن مستقر و لا حسن مقيل فكذلك قوله تعالى: أَحْسَنُ الْخالِقِينَ أثبت الخلق له، و أنه المنفرد به دون غيره. و كذلك يقول القائل: العسل أحلى من الخل، لا يريد أن

ص: 228


1- 274. الباقلاني: الانصاف/132.

للخل حلاوة بوجه، بل يريد اثبات الحلاوة للعسل و سلبها عن الخل أصلا و رأسا، فكذلك قوله (أحسن الخالقين) أثبت الخلق له دون غيره» (1) .

و لا شك أن كلا من المعتزلة و الأشاعرة في انشغالهم بقضاياهم الكلامية قد أخرجا الآية عن سياقها الذي وردت فيه. فلم يرد في الآية ذكر لغير اللّه، خلافا لما ذهب إليه الباقلاني في جوابه الأول. فالآية سيقت لبيان عظمة اللّه و الكشف عن قدرته الباهرة في خلق الانسان خطوة خطوة وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (المؤمنون/12-14). و رغم أن الباقلاني - في جوابه الثاني - نجح في الاستدلال اللغوي على أن صيغة «أفعل» قد تثبت الحكم لأحد المذكورين و تسلبه عن الآخر، فإنه لم يدرك أن بيان العظمة و السمو ينكشف عن طريق المقارنة التي عبر عنها بهذه الصيغة في كلمة «أحسن» مع اضافتها إلى «الخالقين». فالمفاضلة في الآية ليست بين خالق و خالق، بل بين خالق و بين كافة الخالقين.

*** إذا كان المعتزلة قد وجدوا في القرآن آيات يستدلون بها على جواز اطلاق لفظ «خالق» على الانسان، فإن خصومهم، الأشاعرة، يجدون بدورهم آيات أخرى يستدلون بها على أن صفة «الخالق» لا يجوز أن يوصف بها غير اللّه. و كما حاول الأشاعرة تأويل الآيات التي استدل بها المعتزلة كذلك يحاول المعتزلة تأويل الآيات التي استدل بها الأشاعرة. و يتم كل ذلك في اطار ما أشرنا إليه سالفا من تقسيم كل منهم للقرآن إلى محكم و متشابه، مع خلافهم فيما يندرج تحت المحكم، و ما يندرج تحت المتشابه من آيات.

و الدليل الأول عند الأشاعرة قوله تعالى في آيات كثيرة خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ (2) «و معلوم أن أفعالنا مخلوقة اجماعا و أن اختلفنا في خالقها و هو تعالى قد أدخل في خلقه كل شيء مخلوق فدلّ على أنه لا خالق لشيء مخلوق غيره سبحانه و تعالى. فإن قيل فكلامه شيء فيجب أن يكون مخلوقا، قلنا: قد احترزنا بمحمد اللّه عن هذا السؤال بقولنا أنه أخبر أنه خلق كل شيء مخلوق. و كلامه و صفات ذاته تعالى قد أثبتنا أنها غير مخلوقة و لا خالقة، بل هي صفة الخالق تعالى قديمة بقدمه و موجودة بوجوده قبل جميع المخلوقات. فبطل هذا السؤال» (3) و استثناء الباقلاني كلام اللّه من الأشياء المخلوقة التي يقع عليها عموم لفظ «كل» في الآية، يتسق مع ما ذهب إليه الأشاعرة من قدم الكلام الالهي.

ص: 229


1- 275. الباقلاني: الانصاف/132-133.
2- 276. الأنعام/202، الرعد/16، الزمر/13، غافر/62.
3- 277. الباقلاني: الانصاف/128. و انظر استشهاد الأشعري بالآية على شمول خلق اللّه لكل شيء. و قياس صفة الخلق على صفتي العلم و القدرة: اللمع/50-51. و انظر رد القاضي على ذلك: المغني 310/8-311.

و المعتزلة - من جانب آخر - يستثنون أفعال العباد من عموم الآية، و يدخلون فيها القرآن «و لو لا قيام الادلة على اخراج أفعال العباد منه لوجب دخوله في العموم، و لا دلالة توجب اخراج القرآن منه، فيجب دخوله فيه» (1) و في مسلك كلا الفريقين إزاء هذه الآية ما يكشف لنا كيف تحوّل القرآن - عند المتكلمين - إلى وسيلة استدلالية للجدل و النزاع. و ما دام الفريقان قد تنازعا الآية، فمن حق كل منهم أن يتأوّلها وفقا لرأيه. و يتم اخراج الآية عن عمومها و ظاهرها - عند المعتزلة - على أساس أنها «وردت مورد التمدح، و لا مدح بأن يكون اللّه تعالى خالقا لأفعال العباد و فيها الكفر و الالحاد و الظلم، فلا يحسن التعلق بظاهره.

فإذا عدلتم عن الظاهر فأخذتم بالتأويل، فلستم بالتأويل أولى منا، فنتأوّله على وجه يوافق الدليل العقلي، فنقول إن المراد به اَللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ أي معظم الأشياء، و الكل يذكر و يراد ما ذكرنا، قال اللّه تعالى في قصة بلقيس وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مع أنها لم تؤت كثيرا من الأشياء» (2) .

و يستخدم أبو هاشم الجبائي، عند تأويله للآية، لفظ «المبالغة» و هو نفس اللفظ الذي وضع الرماني الآية تحته في رسالته «النكت في اعجاز القرآن» كما أسلفنا الاشارة. يقول:«إن التعارف في استعمال هذه اللفظة قد جرى بمعنى التكثير و المبالغة كقوله تعالى: وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ (النمل/23) و قوله تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْ ءٍ (الأحقاف/45) يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ ءٍ (القصص/57)، ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ (الأنعام/38)... و كقول الرجل أكلنا كل شيء، و عندنا كل خير، و على هذا خاطب عز و جل العرب» (3) و استخدام مصطلح «المبالغة»- بالمعنى الذي أشار إليه الرماني - له دلالته في الارتباط الوثيق بين المجاز و التأويل، و استخدام المجاز أداة للتأويل و اخراج النص عن ظاهره ليلائم الدليل العقلي. غير أن هذا التأويل يستند إلى شواهد كثيرة من القرآن و كلام العرب.

و الدليل الثاني الذي يستدل به الأشاعرة هو قوله تعالى وَ اللّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ (الصافات/96)«فأخبر تعالى أنه خالق لأعمالنا على العموم كما أخبر أنه خالق لصورنا و ذواتنا على العموم و هذا من أوضح أدلّة الكتاب» (4) .

و يستند المعتزلة في تأويلهم لهذه الآية إلى فكرة السياق من ناحية، و إلى تقدير محذوف في الكلام من ناحية أخرى. أمّا فكرة السياق فلأن اللّه «إنما ذكر ذلك ليقرع عباد الأصنام و يوبخهم، و معلوم أن التوبيخ و التقريع لا تعلق له بعملهم، و له تعلق بما عملوا فيه من الأصنام، فأراد تعالى أن يبين أنه الخالق لما يحاولون

ص: 230


1- 278. القاضي عبد الجبار: المغني في أبواب التوحيد و العدل 94/7.
2- 279. القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة/383.
3- 280. المغني.310/8.
4- 281. الباقلاني: الانصاف/127-128.

عبادته، كما أنه الخالق لهم، و أنه أولى بالعبادة من الأمرين، و أنه لا معنى في عبادة الصنم إلاّ و مثله قائم في عبادة الانسان» (1) أي أن التقريع في الآية لا ينصبّ على الفعل الانساني، و إنما ينصبّ على الأصنام التي يقوم الانسان بصنعها ثم يعبدها.

و معنى ذلك أن «ما تعملون» ليس المقصود بها العمل، و إنما المقصود بها المعمول فيه. و على ذلك يكون تأويل الآية «ما تعملون فيه على نحو قول أهل اللغة: فلان يعمل الأثواب و الحصر، و فلان يعمل الطين، و إنما أراد الأصنام التي عملوا فيها النحت» (2) و معنى ذلك أن في الكلام محذوفا تقديره «فيه». و يكون معنى الآية أن اللّه خلق الانسان و ما يعمل فيه من المواد كالخشب و الحجارة و غيرها. أمّا عمله نفسه في هذه المواد، فهو من خلقه، و لا يدخل تحت منطوق الآية. و هكذا يصبح تقدير المحذوف - و الحذف مجاز - وسيلة للتأويل، و العدول عن الظاهر.

و لا يسلم هذا التأويل تماما للمعتزلة، إذ يذهب أبو الحسن الأشعري إلى التفرقة بين «ما تنحتون» و «ما تعملون» و يرى أن «ما تنحتون هي التي ترجع إلى الأصنام دون «ما تعملون» و ذلك لأن الاصنام منحوتة لهم في الحقيقة، و ليست معمولة لهم «فرجع اللّه تعالى بقوله تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ إليها. و ليست الخشب معمولة لهم في الحقيقة فيرجع بقوله خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ إليها» (3) .

و يردّ الزمخشري على هذه التفرقة على أساس أن «ما» في «ما تنحتون» موصولة و ليست مصدرية. و يرى أن ما يعطف عليها ينبغي أن يكون كذلك حتى لا يختل النظم القرآني، بمعنى أن «ما» في «ما تعملون» ينبغي كذلك أن تكون موصولة حتى يستقيم العطف، و ذلك أن «ما تعملون ترجمة عن قوله ما تنحتون و ما في تنحتون موصولة لا مقال فيها فلا يعدل بها عن أختها إلاّ متعسف متعصب لمذهبه من غير نظر في علم البيان و لا تبصر لنظم القرآن» (4) .

أمّا الدليل الثالث الذي يستند إليه الأشاعرة فهو قوله تعالى هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللّهِ (فاطر/3) و يسهل على المعتزلة تأويل هذه الآية بالرجوع إلى فكرة السياق «فليس فيه ما ظنوه لأن فائدة الكلام معقودة بآخره، و قد قال تعالى:

هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللّهِ يَرْزُقُكُمْ و نحن لا نثبت خالقا غير اللّه يرزق» (5) .

و بنفس الطريقة لا يجدون صعوبة في تأويل قوله تعالى أَمْ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ و ذلك على أساس «أن المراد أن خلق أحدنا لا يشبه خلق اللّه تعالى، فإن خلقه جل و عز يشتمل على الأجسام و الأعراض، و ليس كذلك خلقنا فإنّا لا نقدر إلاّ على هذه التصرفات التي هي القيام و القعود و ما جرى مجراهما» (6) .

ص: 231


1- 282. المغني 309/8.
2- 283. القاضي عبد الجبار: المغني في أبواب التوحيد و العدل 308/8 و انظر شرح الأصول الخمسة/382.
3- 284. اللمع/37.
4- 285. الكشاف 346/3.
5- 286. شرح الأصول/380. و انظر متشابه القرآن/571.
6- 287. شرح الأصول/380-381 و انظر الزمخشري: الكشاف/299/3.

و هكذا ينتهي المعتزلة إلى نفي صفة الشرك التي حاول الأشاعرة الصاقها بهم، كما ينتهون إلى تأكيد أن الانسان هو خالق أفعاله حسب قصده و ارادته الحرة.

و الفارق بين ما يخلقه اللّه و بين ما يخلقه الانسان هو الفارق بين قدرة اللّه اللامتناهية و قدرة الانسان المحدودة، تلك القدرة التي لا تتعلق إلاّ بتصرفاته دون غيرها من الأجسام و الأعراض التي لا يقدر عليها إلاّ اللّه جل و عز.

و آخر ما يستدل به الأشاعرة قولهم إن من شروط من يقدر على الخلق أن يكون عالما بما يخلقه. و لمّا كان علم اللّه يشمل كل ما يمكن أن يعلم، فمن الطبيعي أن يشتمل خلقه على كل ما يمكن أن يخلق «لأن الخالق الصانع أقل ما يوصف به علمه بخلقه كما قال: أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ (الملك/14) (1) «يوضح ابن المنير السني هذا الدليل قائلا «إن أهل السنة يستدلون على أن العبد لا يخلق أفعاله بأنه لا يعلمها و هو استدلال بنفي اللازم الذي هو العلم على نفي الملزوم الذي هو الخلق.

و بهذه الملازمة دلّت الآية فإن اللّه تعالى أرشد إلى الاستدلال على ثبوت العلم له عز و جل بثبوت الخلق و هو استدلال بوجود الملزوم على وجود اللازم» (2) .

و يتركّز الخلاف حول تأويل الآية بين المعتزلة و خصومهم في تحديد مفعول الفعل «خلق». يذهب الأشاعرة إلى أن المفعول ضمير يعود إلى القول وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ أو إلى ضميره المحذوف في «يعلم» و على ذلك يكون «من فاعلا مرادا به الخالق و مفعول العلم محذوف تقديره ذلك إشارة إلى السر و الجهر، و مفعول خلق محذوف ضميره عائد إلى ذلك. و التقدير في الجميع ألاّ يعلم السر و الجهر من خلقهما» (3) .و يتركز تأويل القاضي عبد الجبار على أن «من» مفعول للفعل «يعلم» و ليس فاعلا. كما يذهب إلى أن المفعول المحذوف في «خلق» ليس القول، بل أمر العباد عموما «و اعلم أن المراد بذلك ألاّ يعلم من خلق أمر العباد الذين يسرون بالقول و يجهرون، منبها بذلك على أنه لا تخفى عليه أحوالهم كتموها أو جهروا بها، و لو كان المراد به ما قالوه، لقال أ لا يعلم ما خلق لأن القول لا يعبر عنه بمن لأن ذلك عبارة عن العقلاء» (4) و لا تستقيم الآية - من حيث المعنى - على تأويل الأشاعرة «يبين ذلك أن هذا الكلام إذا لم يحمل على ما قلناه يجري مجرى أن يقول: و أسروا قولكم أو اجهروا به فاني عليم بما أنا فاعله. و هذا لا يستقيم» (5) .

و من المؤكد أن الآية في سياقها لا تساعد الأشاعرة على ما ذهبوا إليه، فقد وردت مورد الذم و التوبيخ لأولئك الذين يظنون أن اللّه غير مطّلع على خبايا صدورهم. و يدرك الزمخشري معنى الآية و يربط أولها بآخرها ربطا محكما، فيكون

ص: 232


1- 288. الباقلاني: الانصاف/130.
2- 289. الانتصاف (على هامش الكشاف)137/4.
3- 290. السابق/نفس الجزء و الصفحة.
4- 291. المغني 319/8.
5- 292. شرح الأصول/386.

مفعول «من خلق»«الأشياء و حاله أنه اللطيف الخبير المتوصل علمه إلى ما ظهر من خلقه. و يجوز أن يكون من خلق منصوبا بمعنى أ لا يعلم مخلوقه و هذه حاله» (1) و يمنع الزمخشري أهل السنة من الاستدلال بهذه الآية على ما ذهبوا إليه من أن الخلق لا يصح إلاّ مع العلم. و يستند في ذلك إلى أن تركيب الآية، و وصف اللّه - في آخرها - بأنه لطيف خبير يمنع من هذا الاستدلال «لأنك لو قلت ألا يكون عالما من هو خالق و هو اللطيف الخبير لم يكن المعنى صحيحا لأن أ لا يعلم معتمد على الحال و الشيء لا يوقت بنفسه، فلا يقال أ لا يعلم و هو عالم و لكن يقال أ لا يعلم كذا و هو عالم بكل شيء» (2) .

(3) يلجأ المعتزلة بعد ذلك كله إلى ايراد أدلتهم التي تثبت مسئولية الانسان عن فعله. و هي تنقسم في القرآن إلى قسمين: أدلّة اثبات، و أدلّة نفي. أمّا أدلّة الاثبات فهي كل تلك الآيات التي تثبت تعلق فعل الانسان به و هي أنواع ثلاثة:

النوع الأول منها يشمل كل الآيات التي يضاف فيها الفعل إلى العبد بصيغة الفاعل اضافة واضحة «و يدل على ذلك من كتاب اللّه، سبحانه، كل اضافة للفعل إلى العبد بلفظ الفاعل نحول قوله هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (البقرة/2) و سائر ما وصف به، مما يوجب اضافة الفعل إليه» (4) .أمّا النوع الثاني من أدلّة الأثبات فيشمل كل الآيات التي تعلق الجزاء بأفعالهم نحو قوله تعالى: جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (5) «فلو لا أنّا نعمل و نصنع، و إلاّ كان هذا الكلام كذبا، و كان الجزاء على ما يخلقه فينا قبيحا» (6) و يشمل النوع الثالث كل «ما في كتاب اللّه من الذم و التوبيخ نحو قوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ، وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ (البقرة/28)، و قوله: فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (الانشقاق/20) وَ ما مَنَعَ النّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا (الاسراء/49) (7) و من جملة ذلك قوله تعالى و تقدس: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ (التغابن/2) أورد الآية على وجه التوبيخ، و ذلك لا يحسن إلاّ بعد احتياج الكفر و الايمان إلينا و تعلقهما بنا، و إلاّ كان ذلك بمنزلة أن يوبخ أحدنا على طول قامته و قصرها، فيقال قد انعمنا عليك و صنعنا بك و فعلنا، فقصرت قامتك أو طالت» (8) .

و يصعب على الأشاعرة رد هذه الأدلّة، و إن كانوا يحاولون ردها إلى مقولة «الكسب» الأشعرية، تلك المقولة التي تجعل وجه تعلق الفعل بالانسان هو الكسب دون الخلق و الايجاد. يساوي الباقلاني بين الفعل و الكسب حين يردّ على المعتزلة «فإن احتجّوا بقوله تعالى: جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ قالوا: فأثبت لنا العمل،

ص: 233


1- 293. الكشاف 137/4.
2- 294. السابق 138/4.
3- 4. القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة/123
4- 295. القاضي عبد الجبار: المغني 261/8.
5- 296. السجدة/17، الأحقاف/14، الواقعة/24.
6- 297. القاضي عبد الجبار شرح الأصول الخمسة/361 و انظر المغني 261/8.
7- 298. القاضي عبد الجبار: المغني 261/8.
8- 299. القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة/362.

و العمل هو الفعل، و الفعل هو الخلق. فالجواب أنه تعالى أراد هنا بالعمل الكسب. و العبد مكتسب على ما بيّنا. يدل على ذلك أنه قال في موضع آخر جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (التوبة/82) و نحن لا نمنع أن يكون سمّى الكسب عملا، إنما نمنع أن يكون العبد خالقا مخترعا مخرجا له من العدم إلى الوجود. و قد بيّنا أن الخلق و الاختراع و الخروج من العدم إلى الوجود لا يقدر عليه إلاّ اللّه تعالى فلم يكن لهم في الآية حجة» (1) و لا ينكر الأشاعرة - بالطبع - أن الانسان مجازى محاسب، و لكنهم يجعلون الجزاء عقابا على الكسب و الارادة دون ايجاد الفعل و خلقه.

و ثم آيات يمكن أن يستدل بها الأشاعرة على أن الانسان لم يوجد ضلاله و لم يخلق كفره، بل اللّه خلقه فيه، كما خلق فيه الايمان و الهدى. و قد سبق أن تعرّضنا بالتفصيل لكثير من هذه الآيات و كشفنا عن تأويل المعتزلة لها في ثنايا القسم السابق من هذا الفصل، الأمر الذي يجعلنا نتجاوزها هنا حتى لا نقع في التكرار و الاطالة.

غير أن المعتزلة لا يمنعون نسبة ايمان العبد إلى اللّه على أساس فكرة اللطف التي سبقت الاشارة إليها. و لا يتناقض ذلك على أي حال مع اصرارهم على نسبة أفعال العبد إليه، ما داموا قد نفوا عن اللّه إرادة الكفر و القبائح كلها أو خلقه اياها في العبد و هذا هو الهدف النهائي من قضية العدل كلها.

*** و يطيل المعتزلة في شرح و توضيح أدلة النفي التي تنفي عن اللّه خلق أفعال البشر، و ذلك لأنها أدلة ينازعهم فيها خصومهم و لا يسلمون لهم بها. و أول هذه الأدلة قوله تعالى في سورة الملك/3 ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ، ذلك أن نفي التفاوت عن خلق اللّه، يعني - بدليل الخطاب - أن ما هو متفاوت ليس من خلقه. و أفعال العباد تتفاوت بين الحسن و القبيح، و لهذا لا يصح اسنادها إلى اللّه إذا كان قد نفى التفاوت عن خلقه. و يتركّز الخلاف بين المعتزلة و الأشاعرة في تأويل هذه الآية حول نوع الفعل الالهي المقصود نفي التفاوت عنه.

و يذهب المعتزلة إلى أن المقصود بها نفي التفاوت في باب الحكمة، دون أن يكون المقصود بها نفي التفاوت في المخلوقات أو في صفاته عز و جل «إنما أراد بذلك في باب الحكمة، لأنه لو أراد في صفاته، لكان قد نفى ما ثبوته معلوم باضطرار لأنه تعالى يمدح بذلك، و لا يليق التمدح بنفي التفاوت عنها في سائر أوصافها، و إن كان ظاهر التفاوت يقتضي التناقض في الحكمة. و لذلك لا يقولون: إن خلق زيد متفاوت إلاّ على هذا الوجه، و لا يقولون ذلك من حين يتغير خلقه على وجه يحمد.

فيجب أن ينفي أن يكون في فعله التفاوت في الحكمة من قبيح و حسن، بل يجب

ص: 234


1- 300. الانصاف/131.

كون جميعه حسنا. و ذلك يمنع من كون أفعال العباد فعلا له. و ليس لأحد أن يقول: إن الغرض بذلك نفي التناقض عن خلقه، و أنه ليس فيه متضاد، و ذلك، لأن هذا علم استحالة وجوده من فعل أي فاعل كان لأمر يرجع إلى نفسه، فمعنى التمدح فيه لا يصح. و إنما قال سبحانه ذلك عقيب ذكره ما خلقه من الموت و الحياة و التكليف، و أنه اَلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ثم نبه على عظيم نعمه بذلك، من حيث أنه خلقه على وجه يتسق في الحكمة، و إلاّ خرج جميعه من أن يكون نعمة، لأنه لو كان في أفعاله شيء قبيح لفسد التدبير، و لم يثق المكلف بوعد و لا وعيد، و ذلك يخرج كل أفعاله من أن تكون نعمة» (1) .

و هكذا يحدد المعتزلة معنى التفاوت بأنه التناقض أو الاضطراب (2) ،ثم ينكرون أن يكون نفي التفاوت واقعا على أفعال اللّه، لأنه تمدّح نفسه بذلك، فوصف نفسه بالرحمة و بالجبروت و هما صفتان متناقضتان ظاهريا، و إن كانتا غير متناقضتين في باب الحكمة. و هم من ناحية أخرى ينكرون أن يقع نفي التفاوت على مخلوقات اللّه، لأن فيها الصغير و الكبير و الطويل و القصير.. الخ. و على ذلك لا يبقى لهم إلاّ أن نفي التفاوت عن خلق اللّه واقع في باب الحكمة. و معنى ذلك أن كل أفعال اللّه تجري على نسق من الحكمة لا تفاوت فيها، و ليست كذلك أفعال الانسان، و على ذلك فإن أفعال الانسان لا يمكن أن تكون مخلوقة للّه. (3) .

غير أن الأشاعرة لا يسلّمون للمعتزلة بهذا التفسير، على أساس أن قوله تعالى في آخر الآية هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ يدل أن المقصود بالآية نفي التفاوت عن المخلوقات، لأنه تعالى قال ذلك بعد قوله هو اَلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً و لم يذكر اللّه تعالى الكفر و لا أفعال العباد في هذه الآية فيكون للقدرية في ذلك حجة (4) و في الرد على هذا الاعتراض يستند المعتزلة إلى مبدأ من مبادئ أصول الفقه في التعميم و التخصيص. و من رأي المعتزلة «أن تخصيص آخر الآية لا يقدح في عموم أولها، أ لا ترى أن قوله تعالى وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ (البقرة/228) عام في المطلقات، البوائن منها و الرجعيات، ثم تخصيص قوله وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ لا يقدح في عموم الأول. كذلك في مسألتنا» (5) و هو مبدأ غريب لا يصح في تفسير سياق هذه الآية، و إن صحّ في أحكام الفقه.

و الخلط في التفسير بين آيات الأحكام و آيات الصفات يتناقض مع ما سبق أن قاله القاضي نفسه عند اخراج آيات الأحكام من المحكم و المتشابه. و بالاضافة إلى ذلك كله فإن الآية - كما قال الأشعري - لا تشير من قريب أو من بعيد إلى خلق الأفعال. و هي واردة في بيان الحكمة الالهية في خلق السماوات، و على ذلك يعدّ

ص: 235


1- 301. القاضي عبد الجبار: المغني 257/8-258، و انظر شرح الأصول الخمسة/355.
2- 302. انظر الزمخشري: الكشاف 134/4 و أساس البلاغة مادة «فوت».
3- 303. انظر متشابه القرآن/661.
4- 304. الأشعري: اللمع/48 و انظر أيضا الباقلاني: الانصاف/133.
5- 305. القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة/355-356.

استدلال المعتزلة بهذه الآية استدلالا بدليل الخطاب لا بمنطوقه المباشر. و هذا أمر ينكره المعتزلة على خصومهم في مواضع كثيرة، بل و في هذه الآية نفسها. و يبدو هذا التناقض واضحا في موقف القاضي حين يورد على نفسه اعتراضا فحواه «لو أمكن الاستدلال بهذه الآية على أنه تعالى لا يجوز أن يكون خالقا لأفعال العباد لأن فيها التفاوت، و قد نفى التفاوت عن خلقه، أمكن أيضا أن يستدل بها على أن طاعات العباد كلها من جهة اللّه تعالى فلا تفاوت فيها» (1) ينكر القاضي على خصومه هذا الاستدلال لأنه - في رأيه-«استدلال بدليل الخطاب، و ذلك مما لا يعتبر في فروع الفقه، فكيف يعتبر في أصول الدين؟ يبين ذلك أن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على أن ما عداه خلافه، أ لا ترى أن قائلا لو قال: فلان لا يظلم و لا يكذب، فإنما يقتضي هذا الكلام أنه لا يختار ما هو الظلم و الكذب، و ليس فيه أن ما هو خارج من هذين النوعين فإنه هو الفاعل له، كذلك في مسألتنا، ليس يجب إذا نفى اللّه تعالى التفاوت عن خلقه أن يضاف إليه كل ما لا تفاوت فيه، بل الواجب أن ينفى عنه جميع ما يتفاوت، و يكون ما لا تفاوت فيه موقوفا على الدلالة، فإن دلّ على أنه هو الفاعل له قيل به، و إن لم يدل، بل دلّ على خلافه لم يقل به. و في مسألتنا قامت الدلالة على أن هذه التصرفات من الطاعات و غيرها متعلقة بنا لوقوعها بحسب قصدنا و داعينا، فيجب أن تكون فعلا لنا واقعا من جهتنا على ما قلناه» (2) .غير أن هذا التناقض في موقف القاضي يمكن أن يفسّر في ضوء ما أشرنا إليه من أن القرآن تحوّل إلى وسيلة للاستدلال سواء بمنطوق الآيات المباشر، أو بمدلولها غير المباشر، و ذلك عن طريق التأويل الذي يستند - أولا - إلى الدليل العقلي.

*** و الدليل الثاني الذي يستدل به المعتزلة هو قوله تعالى اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ (السجدة/7) و يختلف المعتزلة مع الأشاعرة في توجيه الفعل «أحسن»، ذلك أنه قد يكون مشتقا من الاحسان، أو من الحسن، بمعنى أنه قد يكون مشتقا من الفعل «أحسن» أو من الفعل «حسن». و يذهب المعتزلة إلى أنه مشتق من «الحسن» لا من «الاحسان» و ذلك «لأن في أفعاله تعالى ما لا يكون احسانا كالعقاب» (3) و على العكس من ذلك يذهب الأشاعرة، فالمعنى عندهم «أنه يحسن أن يخلق كما يقال فلان يحسن الصياغة أي يعلم كيف يصوغ فأخبر اللّه تعالى أنه يعلم كيف يخلق الأشياء» (4) و معنى ذلك أن الأشاعرة يذهبون بالآية إلى معنى الخبر دون المدح الذي يؤكّده السياق ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (السجدة/6-7) و الذي يتنبه إليه تفسير المعتزلة. و يحاول المعتزلة مناقشة هذا الاعتراض من جانب الأشاعرة، و لذلك يفرق القاضي عبد الجبار بين صيغة الماضي و صيغة المضارع في هذا الفعل «لأن أحسن بمعنى علم لم يجيء و إن جاء مضارعه، و ليس يمتنع أن يستعمل مضارع ما لم يستعمل ماضيه. و على هذا استعملوا مضارع نحو: وذر، و ودع، فقالوا: يذر و يدع، و لم يستعملوا ماضيه، فلم يقولوا: أوذر، و لا أودع. و صار هذا في بابه كاستعمالهم الماضي من دون استعمال المضارع نحو قولهم: عسى و ليس، فحسب» (5) و من الواضح أن المعتزلة يريدون بهذا التوجيه للفعل أن يذهبوا إلى أن أفعال اللّه كلها حسنة، و ليست كذلك أفعال الانسان، و من ثم لا يصح الزعم بأن اللّه هو خالق أفعال الانسان. و غني عن البيان أن القاضي هنا يستدل - كما فعل في الآية السابقة - بدليل الخطاب، دون منطوقه المباشر.

ص: 236


1- 306. السابق/356.
2- 307. الأصول الخمسة/356.
3- 308. القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة/357.
4- 309. الأشعري: اللمع/48.
5- 310. شرح الأصول/357 و انظر المغني 258/8-259.

*** و الدليل الثاني الذي يستدل به المعتزلة هو قوله تعالى اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ (السجدة/7) و يختلف المعتزلة مع الأشاعرة في توجيه الفعل «أحسن»، ذلك أنه قد يكون مشتقا من الاحسان، أو من الحسن، بمعنى أنه قد يكون مشتقا من الفعل «أحسن» أو من الفعل «حسن». و يذهب المعتزلة إلى أنه مشتق من «الحسن» لا من «الاحسان» و ذلك «لأن في أفعاله تعالى ما لا يكون احسانا كالعقاب» (1) و على العكس من ذلك يذهب الأشاعرة، فالمعنى عندهم «أنه يحسن أن يخلق كما يقال فلان يحسن الصياغة أي يعلم كيف يصوغ فأخبر اللّه تعالى أنه يعلم كيف يخلق الأشياء» (2) و معنى ذلك أن الأشاعرة يذهبون بالآية إلى معنى الخبر دون المدح الذي يؤكّده السياق ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (السجدة/6-7) و الذي يتنبه إليه تفسير المعتزلة. و يحاول المعتزلة مناقشة هذا الاعتراض من جانب الأشاعرة، و لذلك يفرق القاضي عبد الجبار بين صيغة الماضي و صيغة المضارع في هذا الفعل «لأن أحسن بمعنى علم لم يجيء و إن جاء مضارعه، و ليس يمتنع أن يستعمل مضارع ما لم يستعمل ماضيه. و على هذا استعملوا مضارع نحو: وذر، و ودع، فقالوا: يذر و يدع، و لم يستعملوا ماضيه، فلم يقولوا: أوذر، و لا أودع. و صار هذا في بابه كاستعمالهم الماضي من دون استعمال المضارع نحو قولهم: عسى و ليس، فحسب» (3) و من الواضح أن المعتزلة يريدون بهذا التوجيه للفعل أن يذهبوا إلى أن أفعال اللّه كلها حسنة، و ليست كذلك أفعال الانسان، و من ثم لا يصح الزعم بأن اللّه هو خالق أفعال الانسان. و غني عن البيان أن القاضي هنا يستدل - كما فعل في الآية السابقة - بدليل الخطاب، دون منطوقه المباشر.

و يذهب القاضي إلى نفس الاستدلال من قوله تعالى صُنْعَ اللّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ (النمل/88) فنسبه الاتقان إلى صنع اللّه و فعله ينفي امكانية أن يكون هو خالق أفعال البشر التي تتضمن «التهود و التنصر و التمجس، و ليس شيء من ذلك متقنا، فلا يجوز أن يكون اللّه تعالى خالقا لها» (4) .

و من الأدلة التي يستدل بها المعتزلة أيضا قول اللّه تعالى وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلاً (ص/27) و كذلك قوله ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلاّ بِالْحَقِّ. و وجه الاستدلال أن اللّه «نفى، عمّا خلقه منهما، الباطل، و لو كان قد خلق أفعال العباد، لوجب كون الباطل الذي بينهما من خلقه، فكان يجب أن يكون نفيه كذبا، تعالى اللّه عن ذلك» (5) .و الواقع أن هذا الاستدلال من جانب المعتزلة يخرج الآية عن سياقها اخراجا تاما. و يصبح تأويل الأشاعرة أقرب إلى روح السياق. يقول الأشعري «قال اللّه تعالى ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فدلّ ذلك على أن المعنى فيهما خلقهما و ما بينهما و لا أنا لا أثيب من أطاعني و لا أعاقب من عصاني و كفر بي لأن الكافرين ظنوا أنهم لا يعادون و لا لهم رجعة فيعاقبون. فبين اللّه تعالى أنه ما خلق الخلق إلاّ و مصير بعضهم إلى ثواب و رجوع بعضهم إلى العقاب و أن الكافرين ظنوا ذلك لأنه بيّن أن ذلك باب الثواب و العقاب لأنه تعالى قال أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجّارِ فأخبر تعالى أن ظن المشركين الذين أنكر عليهم أنهم ظنوا أنه لا عاقبة تقع فيها تفرقة بين المؤمنين و الكافرين» (6) و الفكرة التي

ص: 237


1- 308. القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة/357.
2- 309. الأشعري: اللمع/48.
3- 310. شرح الأصول/357 و انظر المغني 258/8-259.
4- 311. شرح الأصول/358.
5- 312. المغني في أبواب التوحيد و العدل 262/8-263.
6- 313. اللمع/49.

يحاول الأشعري التعبير عنها في هذا النص أن الآية وردت مورد الرد على المشركين و الكفار الذين ظنوا أنهم لن يحاسبوا على ما قدّمت أيديهم. فأخبرهم اللّه تعالى أنه لم يخلق هذا العالم بسماواته و أرضه عابثا و لا لاهيا، و إنما هو سبحانه قد خلق العالم للتكليف و الثواب و العقاب. و رغم أن هذا المعنى الواضح يتسق مع سياق الآية في السورة، فإن القاضي عبد الجبار يذهب إلى القول بأن هذا المعنى الواضح الظاهر مجاز «فإن قال: أراد بذلك: لم أخلقهما على جهة العبث، بل خلقتهما للأمر و النهي و التعريض. قيل له: هذا هو مجاز، و حمل الكلام على الحقيقة هو الواجب» (1) .

و من الصعب الاتفاق مع القاضي على مجازية هذا المعنى، لكن للقاضي عذره في هذا التأويل المجازي البعيد. و يبدو أن الذي ألجأ القاضي إلى الاستدلال بهذه الآيات لفظ «و ما بينهما» حيث توهم أن أعمال العباد تقع في هذا الحيز بين السماء و الأرض. فإذا نفى اللّه الباطل عن خلقه للسماوات و الأرض و ما بينهما، فإنه بذلك يكون قد نفى أفعال العباد، و منها الحق و الباطل، أن تكون من خلقه «و قد يقال في أفعال العباد أنها بينها بالتعارف، فليس لأحد أن يمنع دخول ذلك فيه من جهة الظاهر، و باطل في هذا الموضع المراد به القبيح، و لهذا تمدّح تعالى بذلك، و تمدحه به، يدل على أن اثبات ما تمدّح بنفيه ذم، فلا يجوز أن يثبت في فعله شيء باطل» (2) .

و آخر ما يستدل به المعتزلة قوله تعالى وَ إِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ، لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ، وَ ما هُوَ مِنَ الْكِتابِ، وَ يَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ، وَ ما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ، وَ يَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ، وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (آل عمران/78) «فنفى أن يكون لي ألسنتهم بالكتاب من عند اللّه، و لو كان من فعله لم يصح، على هذا القول» (3) .و يظل القاضي يدور في دائرة الاستدلال بدليل الخطاب لا بظاهره، و يظل الأشعري أقرب إلى ادراك المعنى المباشر للآية، و هو «أنهم حرفوا وصف رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و أوهموا السفيه منهم أنه من كتابهم. قال اللّه تعالى وَ ما هُوَ مِنَ الْكِتابِ، وَ يَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ يعني أن اللّه تعالى أنزله. قال اللّه وَ ما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ أي لم أنزل عليهم ذلك كما يدّعون» (4) .

و يحاول القاضي عبد الجبار - جاهدا - أن يؤول الآية لتسلم له بدلالتها على نفي أن يكون الفعل الانساني مخلوقا للّه. و لكي يفعل القاضي ذلك يستند إلى أن النفي في الآية كما يؤكد أن اللّه لم ينزل ما قاله أهل الكتاب، يؤكد كذلك أن اللّه لم يفعله، و بذلك يثبت أنهم هم الفاعلون له بمعنى أن تكرار النفي يؤكد نسبة التحريف إليهم دون اللّه «إن ما لم ينزله و يفعله، لا يجوز أن ينفي أن يكون من

ص: 238


1- 314. المغني 263/8.
2- 315. السابق: نفس الجزء و الصفحة.
3- 316. المغني 360/8.
4- 317. اللمع/48.

عنده، فنفي كونه من عنده، على كل حال، يدل على ما قلناه. و بعد، فإن ما قالوه قد دل عليه قوله وَ ما هُوَ مِنَ الْكِتابِ فيجب أن يكون المراد بالنفي الثاني غيره و سواه» (1) و أيّا كان الأمر، فالذي لا شك فيه أن القاضي يظلّ بعيدا عن جو الآية رغم محاولاته المستميتة للاستدلال بها على ما يريد.

و تبرأ اللّه من المشركين في قوله تعالى: أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ (التوبة/3) يدل - عند المعتزلة - على تعلق الشرك بفاعله و مسئوليته عنه «لأنه لا يجوز أن يتبرأ منهم لأجل شركهم إلاّ و هم فاعلون له» (2) .و لا يسلم الأشاعرة بهذا الدليل، و يقيمون اعتراضهم على هذا الاستدلال - من جانب المعتزلة - على أن سبب نزول الآية لا يتفق مع هذا التخريج، فالآية،«إنما نزلت في العهود التي كانت بين المشركين و بين رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، لأن اللّه تعالى قال بَراءَةٌ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَ أَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (التوبة/1-2) فأحلّهم اللّه أربعة أشهر ثم قال وَ أَذانٌ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ يقول و اعلام من اللّه و رسوله إِلَى النّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ يعني من العهود التي كانت بين رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و بينهم إذا انقضت الأربعة الأشهر. ثم استثنى قوما من المشركين يقال إنهم من بني كنانة فقال إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إلى انقضاء مدتهم. على أن اللّه تعالى ذكر المشركين و لم يقل (من شركهم) و لو كان قوله «بريء من المشركين» يدل على أنه لم يخلق شركهم لدلّ على أنه لم يخلقهم لأنه تعالى بريء من المشركين و من شركهم. و لو كان قوله «بريء من المشركين» يوجب أنه ما خلق شركهم للزم القدرية إذ قال إنه وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ فقد خلق ايمانهم. فلمّا لم يكن هذا عندهم هكذا بطل ما قالوه» (3) .

و ننتهي من هذا كله إلى ما سبق أن قررناه من أن المجاز صار سلاحا للتأويل لرفع التناقض بين نصوص القرآن من جهة، و بينها و بين أدلّة العقل من جهة أخرى. و لم يفلح المعتزلة دائما في رفع هذا التناقض و ذلك لمحاولتهم - في أغلب الأحيان - لي عنق النص القرآني و اخراجه عن سياقه و ذلك ليتحول إلى دلالة عقلية نظرية.

ص: 239


1- 318. المغني 261/8.
2- 319. المغني 263/8.
3- 320. اللمع/51-52.

ص: 240

خاتمة

اشارة

انتهينا في التمهيد إلى أن الفكر الاعتزالي لم ينشأ مستقلا عن الظروف الاجتماعية للمجتمع الاسلامي، و كان القول بالاختيار محاولة للوقوف ضد النزعة الجبرية التي تستر وراءها النظام الأموي لتكريس استغلاله لجماهير المسلمين. و قد حاول الحسن البصري التخفيف من الصياغة المسيحية لمبدأ الاختيار، فاكتفى بنفي اسناد المعاصي إلى اللّه و أثبت مسئولية الانسان عنها. و انتهينا إلى أن الخلاف حول مرتكب الكبيرة لم يكن مجرد خلاف فقهي، بل كان خلافا يجسّد مواقف سياسية متباينة. و كان قول المعتزلة بالمنزلة بين المنزلتين محاولة لرأب صدع الخلاف بين الفرق المختلفة، و خلق جبهة موحدة ضد النظام الأموي، و كان من نتيجة ذلك أن آراء الفرق تقاربت في كثير من القضايا، و استطاع واصل بن عطاء أن يوحّد بين المعتزلة و الشيعة الزيدية توحيدا يكاد يكون تاما.

غير أن المعتزلة شغلتهم - إلى جانب ذلك - مهمة الدفاع عن الاسلام ضد مهاجميه من أبناء الأديان الأخرى، و كان عليهم من ثمّ أن ينظموا وسائلهم الاستدلالية لاقامة أفكارهم على أساس معرفي مكين. و كان الاعلاء من شأن العقل هو وسيلتهم لتحقيق الغايتين معا، إلى جانب ما يؤدي إليه هذا الاعلاء من التسوية بين البشر، و إلى عدم التفرقة بينهم على أساس الجنس أو الثروة. و إذا كان القرآن نفسه قد أعلى من شأن العقل و الفكر، فقد كان للمعتزلة الفضل الأكبر في الانطلاق من هذا الأساس إلى آفاق أرحب، حيث انتهوا إلى أن العقل هبة من اللّه وهبها جميع البشر دون تمييز، و جعلوه أساسا للتكليف و مقدمة ضرورية له. و العقل عند المعتزلة هو مجموعة من العلوم الضرورية التي يخلقها اللّه في المكلّف، و هي علوم لا ينفكّ عنها الانسان و لا يشك في متعلقها. هذه العلوم الضرورية هي الأساس الذي يستطيع الانسان به الوصول إلى المعرفة، و ذلك عن طريق التفكير و النظر في الادلّة. و حين قارن المعتزلة بين المعرفة الحسية و المعرفة العقلية انتهوا إلى

ص: 241

اثبات المعرفة الحسية إذا كانت تؤدي إلى سكون النفس إلى ما تتناوله من المدركات. و قامت هذه النظرة عندهم على أساس أن الادراك عملية محايدة من جانب المدرك لا تؤثر فيما يدركه سلبا أو ايجابا. أمّا المعرفة العقلية فهي تلك التي تتم عن طريق النظر في الأدلّة نظرا صحيحا. و بهذا النظر يستطيع الانسان الانتقال من العقل الفطري - العلوم الضرورية - إلى العلوم النظرية، و هي المعرفة.

و لقد كان من الطبيعي أن تتحدد وظيفة المعرفة عند المعتزلة بأنها معرفة اللّه بصفاته من التوحيد و العدل، ثم معرفة أوامره و نواهيه، و ذلك حتى يستطيع أداء ما كلفه اللّه به من الأعمال التي تؤدّي به إلى الثواب، و تنجيه من العقاب. و نتيجة لذلك انقسمت الأدلّة عندهم إلى أنواع ثلاثة، يؤدي كل نوع منها إلى مرحلة من مراحل المعرفة الدينية. فالنوع الأول من الأدلّة هو الذي يدلّ بالوجوب، و ذلك كدلالة الفعل على الفاعل. و هذا النوع من الأدلّة هو الذي يؤدي إلى التوحيد.

و النوع الثاني من الأدلّة هو الذي يدلّ بالدواعي و الاختيار، و هذا النوع هو الذي يؤدّي إلى معرفة أفعال اللّه، و يؤدي بنا إلى معرفة عدله. و النوع الثالث من الأدلّة هو الذي يدلّ بالمواضعة و القصد، و ذلك كدلالة الكلام على ما يدل عليه. و هذا النوع يؤدّي بنا إلى معرفة كلام اللّه و أوامره و نواهيه.

و لقد انتهى المعتزلة إلى أن هذه الأنواع الثلاثة يترتب بعضها على بعض ترتب النتيجة على المقدمة، بمعنى أن كلام اللّه لا يقع دلالة إلاّ بعد معرفة صفاته من التوحيد و العدل.

و لقد كان من الطبيعي أن يختلف الأشاعرة مع المعتزلة في ترتيبهم أدلّة الشرع على أدلّة العقل. و من ثمّ اعتبروا كلام اللّه دالاّ بمفرده على ما يدل عليه.

و قد انعكس هذا الخلاف بدوره على شروط الدلالة اللغوية، حيث اشترط المعتزلة - إلى جانب المواضعة - معرفة قصد المتكلم و حاله لوقوع كلامه دلالة.

و هذا شرط لم يشر له الأشاعرة من قريب أو من بعيد. و إذا كان المعتزلة و الأشاعرة قد اتفقوا على أن المواضعة شرط لدلالة الكلام فقد اختلفوا في أصل المواضعة على اللغة، هل هي توقيف من اللّه أم اصطلاح؟ و كان هذا الخلاف بدوره امتدادا لخلافهم حول قدم القرآن و حدوثه. فقول الأشاعرة بقدم القرآن أدّى بهم إلى أن المواضعة أصلها التوقيف من اللّه، و ذلك لاعتبارهم الكلام صفة ذاتية قديمة. و على العكس من ذلك ذهب المعتزلة تأسيسا على أن الكلام صفة من صفات الفعل لا من صفات الذات. و من جهة أخرى فقد ربط المعتزلة بين المواضعة و الاشارة الحسية، و هي إشارة لا تجوز على اللّه، و لذلك ذهبوا إلى أن المواضعة اللغوية

ص: 242

اصطلاح و ليست توقيفا. و لقد حدّد القاضي عبد الجبار الغاية من المواضعة اللغوية بأنها الإخبار عن الأشياء حالة غيابها عن الحواس أو الإخبار عن تلك الأشياء التي لا تظهر للحس أصلا. و هي بذلك تعدّ بديلا للاشارة الحسية. و حين قارن بين المواضعة على الكلام، و المواضعة على الحركات أو الاشارات، انتهى إلى أن البشر تواضعوا على الكلام - الأصوات - لأنها أكثر اتساعا للتعبير عن حاجات الناس دون الحركات و الاشارات.

و انتهى القاضي إلى أن المواضعة على الأسماء مجرد مواضعة عرفية، بمعنى أن العلاقة بين الاسم و المسمى علاقة إشارية بحتة، و الجماعة - بقصدها - هي التي تقيم هذه العلاقة، و هي العلاقة التي نشير إليها اليوم باسم المعنى. و حين انتقل القاضي إلى اللغة على مستوى التركيب ربط بين قصد المتكلم و المعنى الذي يدل عليه كلامه. و كان هذا الربط نتيجة طبيعة لدوران هذه المباحث كلها في اطار الفكر الديني، الذي يسعى إلى معرفة اللّه بتوحيده و عدله و قصده من كلامه. و إذا كانت معرفة قصد المتكلم شرطا أساسيا لمعرفة ما يدل عليه كلامه، فلا مانع و الحالة هذه من وقوع الاشتراك و الاتساع و المجاز في الكلام. فذلك كله لن يؤدّي لاستغلاق معنى الكلام، لأن معرفتنا بقصد المتكلم و حاله تجعلنا قادرين على فهم ما يريد التعبير عنه. و كان هذا كله دفاعا عن وجود المجاز في القرآن - كلام اللّه - و نفي صفة الكذب عنه.

و لقد تحدّد مفهوم المجاز نفسه باعتباره قسيما للحقيقة على يد المعتزلة ابتداء من الجاحظ. و لا شك أنهم قد استفادوا من جهود المفسّرين و اللغويين حول النص القرآني. و إذا كان المصطلح نفسه لم يرد في القرآن، لا بمعناه اللغوي أو الاصطلاحي، فقد كان مصطلح «المثل» هو المصطلح البديل في مرحلة نشأة التفسير الذي ارتبط بالخلاف حول تأويل النص القرآني بين الفرق المختلفة. و كان ورود هذا المصطلح بكثرة في القرآن بمثابة اعطاء شرعية له ليستخدم في الدلالة على عدم إرادة المعنى الحرفي للفظ أو العبارة. و مع نمو حركة التفسير و التأويل تحددت عناصر المجاز و أنواعه المختلفة كالكناية و التشبيه و الاستعارة و الحذف و غيرها. و لم ينفصل هذا التحديد عن الغاية التأويلية للنص القرآني. و مما له دلالته في هذا الصدد أن أول كتاب اتخذ «المجاز» عنوانا له، هو كتاب «مجاز القرآن» لأبي عبيدة الخارجي. و هو كتاب يتعرّض لتأويل آيات كثيرة تأويلا يتفق في عمومه مع معطيات الفكر الاعتزالي، خصوصا أفكار التوحيد و التنزيه التي التقى فيها الخوارج مع

ص: 243

المعتزلة. و إذا كان أبو عبيدة قد استخدم مصطلح «المجاز» بمعنى عام جدا يشمل كل تغير في الاسلوب، فإن معاصره الفراء - و له ميول اعتزالية واضحة - كان أكثر تحديدا في استخدام المصطلح، و ذلك رغم مدخله النحوي عموما، و رغم أنه لم يستخدم كلمة «مجاز» و استخدم منها صيغة الفعل «تجوز». و رغم التداخل بين المصطلحات في مؤلفات الجاحظ، فإنه يعدّ أول من حدد مفهوم المجاز باعتباره قسيما للحقيقة، و أدخل في عناصره التشبيه و المثل و الاستعارة و الكناية و الحذف.

و استطاع الرماني أن يبلور كثيرا من جوانب التأثير النفسي الذي تحدثه العبارة المجازية، تلك الآثار التي تعجز العبارة الحقيقية عن التعبير عنها. و تفرّد الرماني بالتركيز على جانب التأثير النفسي للتعبير المجازي يعدّ نتيجة طبيعية لانشغاله بالبحث عن أوجه الاعجاز في القرآن، و عدم انشغاله بالغايات التأويلية و الدفاعية التي انشغل بها سابقوه. غير أن الرماني - و هو معتزلي - لم يكن بعيدا تماما عن الغاية التأويلية، و لكنها جاءت هامشية في كتابه، و لم يضع فيها جهده كله.

و لم ينفصل البحث في المجاز عند القاضي عبد الجبار عن تصوره لطبيعة اللغة و شروط دلالتها. و لقد انتهى إلى جواز وقوع المجاز في الاسم المفرد و في التركيب معا. غير أنه اشترط في الاسم المفرد أن يكون له حقيقة أولا قبل نقله من معناه الحقيقي لمعنى مجازي، كما اشترط وجود مشابهة بين المعنى المنقول إليه اللفظ، و المعنى المنقول عنه.

و على مستوى التركيب أجاز وقوع المجاز في الكلام، ما دامت معرفة قصد المتكلم ستؤدي بنا إلى معرفة مراده. و في هذا الصدد فرق القاضي بين المتكلم في الشاهد، و المتكلم في الغائب - و هو اللّه - و ذهب إلى أن معرفتنا بقصد المتكلم في الشاهد هي معرفة اضطرار. و على عكس ذلك معرفتنا بقصد اللّه فهي معرفة نظرية استدلالية. و إذا كانت معرفتنا بعدل اللّه - و هي قصده في أفعاله عموما - معرفة عقلية لا تستند إلى الشرع، فإن معرفتنا بكلامه - و الكلام فعل من أفعاله - لا تتم إلاّ بعد معرفة قصده. فإذا ورد في كلامه ما يوهم التناقض مع معرفتنا العقلية بقصده، كان ذلك مجازا. و هكذا يصبح المجاز وسيلة لرفع التناقض الظاهري بين كلام اللّه، و بين معرفتنا العقلية بعدله و توحيده. أو بمعنى آخر يصبح المجاز وسيلة للتأويل و أداة رئيسية له. و من الطبيعي - و الحالة هذه - أن يتسع المجاز ليشمل كل ما اندرج تحته من عناصر تصويرية أو أسلوبية.

و لقد وجد المعتزلة في تقسيم القرآن إلى محكم و متشابه وسيلة دينية شرعية للتأويل، رغم أنهم أخضعوا دلالة القرآن كله للدليل العقلي. و كان من الطبيعي أن

ص: 244

تكون الآيات التي تسند وجهة نظرهم و أفكارهم العقلية محكمة، و أن تكون تلك التي يستدل بها خصومهم متشابهة في حاجة للتأويل. و سلك خصوم المعتزلة نفس مسلكهم. و كان القول بالمجاز عند كليهما وسيلة للتأويل و اخراج النص عن ظاهره. و حين يعجز المعتزلة عن تأويل النص استنادا إلى تركيبه اللغوي، يلجئون إلى الاستناد إلى الدليل العقلي. و كلا الدليلين عندهم سواء في تأويل النص القرآني. و قد اتضح ذلك كله في تأويل الآيات التي تتصل بقضيتي رؤية اللّه و خلق الأفعال، و هما القضيتان اللتان أخذناهما كمثالين للتدليل على العلاقة الوثيقة بين مفهوم المجاز و التأويل من ناحية، و بين قضايا الفكر الاعتزالي من ناحية أخرى.

و كان الخلاف بين المعتزلة و الأشاعرة في قضية رؤية اللّه امتدادا لخلافهم حول قضايا التوحيد و نفي الصفات عن اللّه. و قد نفى المعتزلة نفيا قاطعا أن يرى اللّه، على أساس أن الرؤية إنما تجوز على الاجساد المتحيزة في المكان و القائمة في جهة. و استندوا في التدليل على صحة رأيهم بآيات من القرآن أهمها قوله تعالى لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ و اعتبروها آيات محكمات تدل بظاهرها.

أمّا تلك الآيات التي لا تتفق مع وجهة نظرهم فقد اعتبروها متشابهات في حاجة للتأويل. و كان «المجاز» هو سلاحهم الرئيسي في عملية تأويل هذه الآيات. و هو سلاح يشمل العبارة و اللفظ، و الحروف أيضا إن احتاج الأمر. و الهدف النهائي عند المعتزلة هو نفي مشابهة اللّه للبشر و تأكيد وحدانيته المطلقة و تفرّده الكامل. و في سبيل هذا الهدف لا بأس من اخراج النص عن ظاهره بادعاء المجاز فيه.

أمّا قضية خلق الأفعال فهي أساس مبدأ العدل، ذلك المبدأ الذي يسعى لنفي فعل القبيح أو إرادة فعله عن اللّه، و من ثم يسعى لتأكيد قيام الفعل الانساني على الاختيار و الحرية، لا على الضرورة و الاضطرار. و إذا كان الأشاعرة قد ذهبوا إلى اطلاق الارادة الالهية لتشمل كل المرادات، و منها كفر الكافر، و كذب الكاذب، فإن المعتزلة ميّزوا بين ما يريده اللّه من فعل نفسه، و بين ما يريده من فعل غيره. و ذهبوا إلى أن إرادة اللّه للفعل الانساني إنما هي إرادة على سبيل الاختيار لا الالجاء. و حين انتقل المعتزلة للاستدلال على أفكارهم تلك بالقرآن الكريم، نازعهم خصومهم في صحة استدلالهم. و من ناحية أخرى أوردوا عليهم أدلة أخرى تتناقض مع مسلماتهم العقلية.

و كان القول بالمجاز هو الأداة الرئيسية للتأويل. و حين يعجز التحليل اللغوي عن بيان وجه التجاوز في العبارة، يعتصم المعتزلة بالقرينة العقلية، التي اعتبروها أشدّ دلالة من القرينة اللفظية المتصلة بالكلام.

ص: 245

و أيّا كان تقويمنا لجهود المعتزلة، فالذي لا شك فيه أنهم حاولوا مخلصين رفع التناقض بين العقل و الشرع من جانب، و بين النصوص المتعارضة ظاهريا في القرآن من جانب آخر. و كانت جهودهم في مجالات المعرفة و اللغة و المجاز - لخدمة هذه المهمة - انجازا له آثاره العديدة على هذه المجالات، و على المتخصصين فيها في تراثنا العربي. و لعلّ هذه الدراسة أن تكون تمهيدا لرصد هذه التأثيرات التي تركها المعتزلة في غيرهم من أعلام الثقافة العربية و علومها.

ص: 246

أهم المصادر و المراجع

اشارة

مصادر البحث

ابن جني (أبو الفتح عثمان)

- الخصائص. الجزء الأول. مطبعة الهلال بالفجالة. مصر.

1331 ه-1913 م

ابن خلدون

- المقدمة. كتاب التحرير.1386 ه-1966 م

ابن فارس (أبو الحسين أحمد)

- الصاحبي في فقه اللغة و سنن العرب في كلامها. تحقيق: مصطفى الشويمي.

مؤسسة أ. بدران للطباعة و النشر. بيروت.1383 ه-1964 م

ابن قتيبة (أبو عبد اللّه محمد بن مسلم)

- تأويل مختلف الحديث. مطبعة كردستان العلمية. مصر.1326 ه

- تأويل مشكل القرآن. تحقيق: السيد أحمد صقر. دار التراث القاهرة. ط الثانية.

1973 م

ابن القيم الجوزية

- الصواعق المرسلة على الجهمية و المعطلة. تصحيح: زكريا علي يوسف. مطبعة الامام. مصر.1380 ه

ابن متويه (الحسن النجراني)

- التذكرة في أحكام الجواهر و الأعراض. تحقيق: سامي نصر لطف، فيصل عون.

دار الثقافة للطباعة و النشر. القاهرة.1975 م

ابن المنير (أحمد بن محمد الاسكندري المالكي)

- الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال. بهامش الكشاف للزمخشري.

الأشعري (أبو الحسن)

ص: 247

-كتاب اللمع في الرد على أهل الزيغ و البدع. نشر و تصحيح الأب ريتشارد يوسف مكارثي. المطبعة الكاثوليكية. بيروت 1952 م

- مقالات الاسلاميين و اختلاف المصلين. تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد.

مكتبة النهضة المصرية.1970 م

أبو عبيدة (معمر بن المثنى)

- مجاز القرآن. تحقيق: محمد فؤاد سركين. مكتبة الخانجي. ط الثانية.

القاهرة 1970 م

الباقلاني (القاضي أبو بكر محمد بن الطيب)

- الانصاف فيما يجب اعتقاده و لا يجوز الجهل به. تحقيق: السيد عزت عطار الحسيني. تعليق و تقديم: محمد زاهد الكوثري. مكتب نشر الثقافة الحديثة. مصر.1950 م

- التمهيد في الرد على الملحدة و المعطلة و الرافضة و الخوارج و المعتزلة.

تحقيق: محمود محمد الخضيري، محمد عبد الهادي أبو ريده. دار الفكر العربي. القاهرة.1947 م

البغدادي (أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي)

- أصول الدين. مدرسة الالهيات. بدار الفنون التركية. استانبول.

1928 م

- الفرق بين الفرق: تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد. مكتبة محمد علي صبيح. بدون تاريخ

الجاحظ (أبو عثمان عمرو بن بحر)

- البخلاء. تحقيق: طه الحاجري. دار المعارف. مصر.1958 م

- البيان و التبيين. تحقيق: حسن السندوبي. المكتبة التجارية. ط الثانية.

القاهرة.1932 م

- الحيوان. تحقيق: عبد السلام هارون. مطبعة مصطفى البابي الحلبي.

ط الأولى. القاهرة.1943 م

- رسائل الجاحظ. تحقيق عبد السلام هارون. مكتبة الخانجي. مصر.

1385 ه-1965 م

- العثمانية. تحقيق: عبد السلام هارون. دار الكاتب العربي. مصر.

1955 م

ص: 248

الحارث المحاسبي

- العقل، فهم القرآن. تحقيق: حسين القوتلي. دار الفكر. بيروت.

1971 م

الحسن البصري

- رسالة في القدر، ضمن رسائل العدل و التوحيد. تحقيق: محمد عمارة. دار الهلال.1971 م

الخوارزمي (محمد بن أحمد بن يوسف الكاتب)

- مفاتيح العلوم. ادارة الطباعة المنيرية. مصر.1342 ه الخياط (أبو الحسين عبد الرحيم بن محمد بن عثمان)

- الانتصار في الرد على ابن الراوندي. تحقيق: نيبرج. المطبعة الكاثوليكية.

بيروت.1957 م

الداودي (الحافظ شمس الدين محمد بن علي بن أحمد)

- طبقات المفسرين. تحقيق: علي محمد عمر. مكتبة وهبة. القاهرة 1972 م

الرماني (أبو الحسن علي بن عيسى)

- النكت في اعجاز القرآن، ضمن ثلاث رسائل في اعجاز القرآن. تحقيق:

محمد خلف اللّه أحمد، محمد زغلول سلام. دار المعارف ط الثانية. مصر.

1968 م

الزمخشري (أبو القاسم جار اللّه محمود بن عمر)

- الكشاف عن حقائق التنزيل و عيون الأقاويل في وجوه التأويل. مطبعة مصطفى البابي الحلبي. ط الثالثة.1966 م

السيوطي (عبد الرحمن جلال الدين)

- الاتقان في علوم القرآن. مصطفى البابي الحلبي. ط الثالثة. القاهرة.

1370 ه-1951 م

- المزهر في علوم اللغة و أنواعها. تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، علي محمد البجاوي، محمد أحمد جاد المولى. عيسى البابي الحلبي بدون تاريخ.

الشريف الجرجاني (أبو الحسن علي بن محمد بن علي)

- التعريفات. الدار التونسية للنشر. تونس.1971 م

الشريف المرتضى (علي بن الحسين).

- الآمالي. تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم. دار الكاتب العربي بيروت.

ص: 249

الشهرستاني (أبو الفتح محمد بن عبد الكريم)

- الملل و النحل. تحقيق: محمد سيد الكيلاني. مصطفى البابي الحلبي.

القاهرة.1967 م

الطبري (محمد بن جرير)

- جامع البيان عن تأويل آي القرآن. تحقيق محمود محمد شاكر. دار المعارف. القاهرة.1971 م

عبد الجبار (القاضي أبو الحسن الأسدآبادي)

- تنزيه القرآن عن المطاعن. دار النهضة الحديثة. بيروت.

بدون تاريخ

- شرح الأصول الخمسة. تعليق: الامام أحمد بن الحسين بن أبي هاشم.

تحقيق: عبد الكريم عثمان. مكتبة وهبة. ط الأولى. القاهرة.1966 م

- فرق و طبقات المعتزلة. تحقيق: علي سامي النشار، عصام الدين محمد علي. دار المطبوعات بالجامعة. الاسكندرية.

1972 م

- متشابه القرآن. تحقيق: عدنان محمد زرزور. دار التراث. القاهرة.

1966 م

- المغني في أبواب التوحيد و العدل. حقق بإشراف طه حسين و إبراهيم.

مدكور. وزارة الثقافة و الارشاد القومي. مصر.1960-1965 م

الجزء الرابع: رؤية الباري. تحقيق: محمد مصطفى حلمي، أبو الوفا الغنيمي التفتازاني. يونية 1965 م

الجزء الخامس: الفرق غير الاسلامية. تحقيق: محمود محمد الخضيري.

يونيه 1965 م.

الجزء السادس:(القسم الأول): التعديل و التجوير. تحقيق: أحمد فؤاد الأهواني.1382 ه-1962 م

الجزء السادس (القسم الثاني): الارادة. تحقيق: الأب ج. ش قنواني.

بدون تاريخ

الجزء السابع: خلق القرآن. تحقيق إبراهيم الابياري 1961 م

الجزء الثامن: المخلوق. تحقيق: توفيق الطويل، و سعيد زائد.

بدون تاريخ

ص: 250

الجزء التاسع: التوليد. تحقيق: توفيق الطويل، و سعيد زائد

1964 م

الجزء الحادي عشر: التكليف. تحقيق محمد علي النجار، و عبد الحليم النجار 1385 ه-1965 م

الجزء الثاني عشر: النظر و المعارف. تحقيق: إبراهيم مدكور

1962 م

الجزء الثالث عشر: اللطف. تحقيق: أبو العلاء عفيفي.

1382 ه-1962 م

الجزء الرابع عشر: الأصلح - استحقاق الذم - التوبة. تحقيق: مصطفى السقا.1385 ه-1965 م

الجزء الخامس عشر: التنبؤات و المعجزات. تحقيق: محمود الخضيري، محمود قاسم.1385 ه-1965 م

الجزء السادس عشر: اعجاز القرآن. تحقيق: أمين الخولي.

1380 ه-1960 م

الجزء السابع عشر: الشرعيات. تحقيق: أمين الخولي.1962 م

الفراء

- معاني القرآن. ثلاثة أجزاء

الجزء الأول: تحقيق: أحمد يوسف نجاتي، محمد علي النجار دار الكتب المصرية.1955 م

الجزء الثاني: تحقيق: محمد علي النجار. الدار المصرية للتأليف و الترجمة. القاهرة.1966 م

الجزء الثالث: تحقيق: عبد الفتاح اسماعيل شلبي. الهيئة المصرية العامة للكتاب. القاهرة 1973 م

القاسم الرس (الامام القاسم بن إبراهيم بن اسماعيل)

- كتاب أصول التوحيد و العدل، ضمن رسائل العدل و التوحيد. تحقيق محمد عمارة. دار الهلال.1971 م

- كتاب العدل و التوحيد و نفي التشبه عن اللّه الواحد الحميد، ضمن رسائل العدل و التوحيد.

الكرماني (الداعي أحمد حميد الدين)

ص: 251

-راحة العقل. تحقيق: محمد كامل حسين، محمد مصطفى حلمي. دار الفكر العربي. القاهرة.1952 م

مقاتل بن سليمان

- الأشباه و النظائر في القرآن الكريم. دراسة و تحقيق: عبد اللّه محمود شحاتة. الهيئة المصرية العامة للكتاب. القاهرة 1975 م

الميداني

- مجمع الأمثال. الجزء الأول. تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد.

مطبعة السنة المحمدية. القاهرة 1955 م

النيسابوري (أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي)

- أسباب النزول. مصطفى البابي الحلبي. ط الثانية. القاهرة

1387 ه-1968 م

يحيي بن الحسين

- المحكم و المتشابه، ضمن رسائل العدل و التوحيد. تحقيق: محمد عمارة.

مراجع عربية و أجنبية

- أحمد أمين: ضحى الاسلام. مكتبة النهضة المصرية. ط 7. القاهرة.

1964 م

- أحمد مصطفى المراغي: تاريخ علوم البلاغة ط 1 مصطفى البابي الحلبي

1369 ه-1950 م

- أوليري: الفكر العربي و مركزه في التاريخ. ترجمة اسماعيل البيطار. دار الكتاب اللبناني. بيروت 1972 م

- جابر عصفور: الصورة الفنية في التراث النقدي و البلاغي. دار الثقافة للطباعة و النشر. القاهرة.1974 م

- جولد تسيهر: العقيدة و الشريعة في الاسلام. ترجمة محمد يوسف موسى و آخرين. دار الكاتب المصري. القاهرة.1946 م

العناصر الأفلاطونية المحدثة و الغنوصية في الحديث ضمن التراث اليوناني في الحضارة العربية ط 2 القاهرة.1965 م

مذاهب التفسير الاسلامي. ترجمة محمد عبد الحليم النجار.

ص: 252

مطبعة الخانجي. القاهرة.1955 م

- حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي. مكتبة النهضة المصرية ط 7 القاهرة.1964 م

- خالد العلي: جهم بن صفوان و مكانته في الفكر الاسلامي. المكتبة الأهلية بغداد

1965 م

- دي بور: تاريخ الفلسفة في الاسلام. ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريده. لجنة التأليف و الترجمة و النشر. القاهرة 1938 م

- زهدي جار اللّه: المعتزلة. مطبعة مصر. القاهرة.1366 ه-1947 م

- ستيفن أولمان: دور الكلمة في اللغة. ترجمة كمال بشر. الدار القومية للطباعة و النشر. القاهرة.1962 م

- س بينيس: مذهب الذرة عند علماء المسلمين. ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريده. مكتبة النهضة المصرية.1946 م

- شوقي ضيف: البلاغة تطور و تاريخ دار المعارف. ط 2 1965 م

المدارس النحوية. دار المعارف. ط 2 1972 م

- عبد المنعم ماجد: العصر العباسي الأول. مكتبة الانجلو المصرية 1973 م

- علي مصطفى الغرابي: أبو الهذيل العلاف. مكتبة الحسين التجارية ط 1

1949 م

- فلهوزن: تاريخ الدولة العربية. ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريده لجنة التأليف و الترجمة و النشر. القاهرة.1958 م

- محمد زغلول سلام: أثر القرآن في تطور النقد العربي. دار المعارف ط 3

1968 م

- محمد عبد الهادي أبو ريده: إبراهيم بن سيار النظّام و آراؤه الكلامية. لجنة التأليف و الترجمة و النشر. القاهرة.1946 م

- محمد عمارة: رسائل العدل و التوحيد (المقدمة) دار الهلال. القاهرة

1971 م

- محمد عمارة: المعتزلة و مشكلة الحرية الانسانية. المؤسسة العربية للدراسات و النشر بيروت.1972 م

ص: 253

-محمد يوسف موسى: القرآن و الفلسفة. دار المعارف ط 3 القاهرة 1958 م

- محمود اسماعيل: الحركات السرية في الاسلام. مؤسسة روز اليوسف القاهرة

1973 م

- مصطفى ناصف: الصورة الأدبية. مكتبة مصر. القاهرة.1958 م

- ناجي حسن: ثورة زيد بن علي. مكتبة النهضة. بغداد 1386 ه-1966 م

- نللينو: بحوث في المعتزلة «ضمن التراث اليوناني في الحضارة العربية ترجمة عبد الرحمن بدوي.

-Graham Hough:Style and Stylistics London 1969.

-Toshihiko Izutsu:Revelation As A linguistic concept in Islam.Studies in Medieval thought.Vol.V.1962.The japanese

society of Medieval philosophy.

-Warren A.Shibles:An Analysis of Metaphor in The Light of W.

Murbon's Theories Mouton,Paris.1971.

ص: 254

هوامش الكتاب

تمهيد: الاطار التاريخي لنشأة الفكر الاعتزالي

(1) انظر على سبيل المثال نللينو: بحوث في المعتزلة، في (التراث اليوناني في الحضارة الاسلامية) ص 203،202.

أوليري: الفكر العربي و مركزه في التاريخ ص 67،

دي بور: تاريخ الفلسفة في الاسلام/48-49

زهدي جار اللّه: المعتزلة ص 75،36،2

(2) انظر: محمد عمارة: المعتزلة و مشكلة الحرية الانسانية/17-24.

(3) الخياط: الانتصار 13-14

(4) القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة/123

(5) مقالات الاسلاميين 47/1-49

(6) حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 357/1

(7) المرجع السابق 357/1-358

(8) انظر المرجع السابق 354/1 و ما بعدها، طه حسين: الفتنة الكبرى 180/1-185.

(9) حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 357/1-358

(10) حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 360/1 نقلا عن الطبري.

(11) راجع فلهوزن: تاريخ الدولة العربية 51-52

(12) أحمد أمين: فجر الاسلام 333/1 و ما بعدها.

(13) ابن قتيبة: تأويل مختلف الحديث 3-4

(14) المرجع السابق 193

(15) حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 278/1-279، و انظر جولد تسيهر:

العقيدة و الشريعة في الاسلام/70-71.

(16) الأشعري «مقالات الاسلاميين»204/1.

(17) جولد تسيهر: العقيدة و الشريعة في الاسلام/172.

(18) حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 388/1.

(19) الأشعري: مقالات الاسلاميين 225/1.

(20) المرجع السابق 225/1-234.

(21) انظر جولد تسيهر: العقيدة و الشريعة في الاسلام/77-78.

ص: 255

(22) حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 389/1.

(23) جولد تسيهر: العقيدة و الشريعة في الاسلام/76.

(24) المرجع السابق/84، و انظر أيضا زهدي جاد اللّه: المعتزلة/23 و ما بعدها.

(25) فلهوزن: تاريخ الدولة العربية/67-68.

(26) جولد تسيهر: العقيدة و الشريعة في الاسلام/86.

(27) الشهرستاني: الملل و النحل 30/1، انظر أيضا البغدادي: الفرق بين الفرق/18-19.

(28) انظر حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 419/1، أيضا مقالات الاسلاميين:

المقدمة/10-11.

(29) خالد العلي: جهم بن صفوان و مكانته في الفكر الاسلامي/49.

(30) البغدادي: الفرق بين الفرق/19.

(31) جولد تسيهر: العقيدة و الشريعة في الاسلام/87 نقلا عن ابن قتيبة: الإمامة و السياسة.

(32) الشهرستاني: الملل و النحل 143/1.

(33) البغدادي: الفرق بين الفرق/202.

(34) الملل و النحل 139/1.

(35) محمود اسماعيل: الحركات السرية في الاسلام/53.

(36) حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 333/1.

(37) فلهوزن: تاريخ الدولة العربية/67.

(38) محمد عمارة: المعتزلة و مشكلة الحرية الانسانية/29،28.

(39) الأشعري: مقالات الاسلاميين 338/1.

(40) البغدادي: الفرق بين الفرق/211-212، و انظر أيضا الشهرستاني: الملل و النحل 86/1-87.

(41) الأشعري: مقالات الاسلاميين:338/1، انظر الشهرستاني: الملل و النحل 87/1.

(42) المقالات 338/1.

(43) حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 333/1

(44) المرجع السابق 358/1-359 نقلا عن الطبري.

(45) السابق: نفس الصفحة.

(46) البغدادي: الفرق بين الفرق 233-234، و انظر المقالات 86/1، الملل و النحل 174/1.

(47) الفرق بين الفرق/235.

(48) جولد تسيهر: العقيدة و الشريعة في الاسلام/192.

(49) المرجع السابق/205.

(50) المقدمة/375.

(51) حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 382/1-383 نقلا عن ابن الأثير.

(52) انظر حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 403/1-404.

(53) جولد تسيهر: العقيدة و الشريعة في الاسلام/176.

ص: 256

(54) الأشعري: المقالات 91/1.

(55) الشهرستاني: الملل و النحل 150/1.

(56) الأشعري: المقالات 136/1-137.

(57) انظر فلهوزن: الدولة العربية/196.

(58) المرتضى: الأمالي 161/1. و انظر أيضا أقوالا مشابهة للحسن: الجاحظ: الحيوان 100/5،225/1.

(59) حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 292/1.

(60) انظر على سبيل المثال: المرتضى: الأمالي:150/1-151.

(61) السابق: نفس الصفحة، و انظر أيضا: القاضي عبد الجبار: فرق و طبقات المعتزلة/24.

(62) السابق 152/1.

(63) الأمالي 161/1.

(64) السابق 154/1.

(65) السابق 159/1.

(66) الأمالي 162/1.

(67) السابق 153/1.

(68) الأمالي 153/1.

(69) المعارف/153.

(70) الملل و النحل 47/1. و يلاحظ أن واصلا ولد عام 80 ه، و لا يتفق هذا مع أن الرسالة موجهة لعبد الملك بن مروان(65-86 ه).

(71) محمدة عمارة: رسائل العدل و التوحيد 82/1.

(72) نفس المصدر 83/1.

(73) نفس المصدر 88/1.

(74) بحوث في المعتزلة/181.

(75) الانتصار/118-119 و انظر أيضا الأمالي 165/1-169 مناقشة بين واصل و عمرو بن عبيد تؤكد الفكرة التي نذهب إليها.

(76)167/2.

(77) الخياط: الانتصار/73.

(78) الخياط: الانتصار/73-74.

(79) السابق/74.

(80) راجع رأي المرجئة مفصلا في المقالات 229/1-230.

(81) انظر الشريف المرتضى: الأمالي 165/1-169، القاضي عبد الجبار: فرق و طبقات المعتزلة/50-51.

(82) الخياط: الانتصار/119.

(83) ناجي حسن: ثورة زيد بن علي/148.

(84) الملل و النحل 154/1-155.

(85) السابق 156/1.

ص: 257

(86) القاضي عبد الجبار: فرق و طبقات المعتزلة/29.

(87) السابق/17.

(88) القاضي عبد الجبار: فرق و طبقات المعتزلة 31،18.

(89) السابق/32.

(90) راجع القصة كلها: طبقات المعتزلة/44-46. و يقول الشهرستاني عن جعفر بن محمد أنه «دخل العراق و أقام بها مدة ما تعرض للامامة قط، و لا نازع أحدا في الخلافة قط» الملل و النحل 166/1.

(91) الملل و النحل 155/1.

(92) ناجي حسين: ثورة زيد بن علي/109.

(93) القاضي عبد الجبار: فرق و طبقات المعتزلة/44.

(94) الأمالي:175/1. حاول المعتزلة أحيانا احتواء بعض الخلفاء و ترشيدهم دون اللجوء للسيف كما فعلوا مع يزيد بن الوليد بن عبد الملك و محمد بن مروان آخر خلفاء بني أمية.

انظر محمد اسماعيل: الحركات السرية في الاسلام/141.

(95) الأشعري: مقالات الاسلاميين 154/1.

(96) المرتضى: الأمالي 169/1.

(97) انظر محمود اسماعيل: الحركات السرية في الاسلام/140،133.

(98) محمد عمارة: رسائل العدل و التوحيد. المقدمة/67.

(99) المعتزلة/64.

(100) القاضي عبد الجبار: فرق و طبقات المعتزلة/38،32.

(101) انظر المرجع السابق/38-41.

(102) انظر زهدي جار اللّه: المعتزلة/26 و ما بعدها.

(103) انظر القاضي عبد الجبار: فرق و طبقات المعتزلة/46-47.

(104) المرجع السابق/44.

(105) الملل و النحل 46/1، و انظر أيضا محمد عبد الهادي أبو ريده: إبراهيم بن سيّار النظّام و آراؤه الكلامية/80.

هوامش الفصل الأول: المعرفة و الدلالة اللغوية

(1) راجع في هذا الصدد ما يرويه صاحب «فرق و طبقات المعتزلة» من فشل الفقهاء في التصدي لمجادلة أصحاب الأديان الأخرى، و اضطرار الرشيد للاستعانة في ذلك بالمتكلمين/63 - 65.

(2) المرجع السابق/55-56، و انظر البغدادي: الفرق بين الفرق/131.

(3) انظر بحث جولد تسيهر عن هذا الحديث: العناصر الأفلاطونية المحدثة و الغنوصية في الحديث/218 و ما بعدها. التراث اليوناني في الحضارة الاسلامية.

(4) عبد المنعم ماجد: العصر العباسي الأول 67/1 و انظر أيضا أوليري: الفكر العربي و مركزه في التاريخ/60-61.

(5) محمود اسماعيل: الحركات السرية في الاسلام/135.

ص: 258

(6) الأشعري: مقالات الاسلاميين 214/1.

(7) المرجع السابق 217/1.

(8) علي مصطفى الغرابي: أبو الهذيل العلاف/90 نقلا عن المقالات.

(9) البغدادي: الفرق بين الفرق/129.

(10) ماجد فخري: دراسات في الفكر العربي/78.

(11) الخياط: الانتصار/28.

(12) البغدادي: الفرق بين الفرق/138.

(13) القاضي عبد الجبار: المغني في أبواب التوحيد و العدل 11/9.

(14) السابق 12/9.

(15) الجاحظ: الحيوان 36/5.

(16) البغدادي: أصول الدين/6.

(17) الخياط: الانتصار/40-41.

(18) الحيوان 542/5-543.

(19) الحيوان 56/7.

(20) السابق 42/1.

(21) السابق 116/2.

(22) الشهرستاني: الملل و النحل 75/1. و أنظر أيضا البغدادي: الفرق بين الفرق/175.

(23) المغني في أبواب التوحيد و العدل 11/9.

(24) البغدادي: الفرق بين الفرق/175-176.

(25) انظر حسين القوتلي: مقدمة «العقل»، «فهم القرآن»/107 نقلا عن ابن الأثير و الخطيب البغدادي.

(26) البغدادي: أصول الدين/308.

(27) أبو الحسن الأشعري: مقالات الاسلاميين 346/1.

(28) الباقلاني: الانصاف/127.

(29) الحارث المحاسبي: العقل/203.

(30) المرجع السابق/205.

(31) المرجع السابق/201-202.

(32) المرجع السابق/232.

(33) العقل/215.

(34) السابق/216.

(35) السابق/207.

(36) محمد عبد الهادي أبو ريده: مقدمة كتاب «التمهيد» للباقلاني/14.

(37) الشهرستاني: الملل و النحل 97/1.

(38) المرجع السابق 98/1.

(39) التمهيد/34 و انظر الانصاف/12.

(40) المرجع السابق/35، الانصاف/13.

ص: 259

(41) المرجع السابق/35، الانصاف/13.

(42) المرجع السابق/نفس الصفحة، الانصاف/نفس الصفحة.

(43) الانصاف/13.

(44) التمهيد/37.

(45) السابق/نفس الصفحة.

(46) السابق/نفس الصفحة.

(47) السابق/36.

(48) الانصاف/13.

(49) الانصاف/14 و في التمهيد/40 هو تقسيم المستدل و فكره في المستدل عليه و تأمله له.

(50) الانصاف/14.

(51) التمهيد/38-39.

(52) التمهيد/39.

(53) التمهيد/39.

(54) الانصاف/18.

(55) انظر عبد الرحمن بدوي: في النفس. المقدمة/2.

(56) مفاتيح العلوم/81.

(57) الشريف الجرجاني: التعريفات/81.

(58) الشريف الجرجاني: التعريفات/81.

(59) الشريف الجرجاني: التعريفات/81.

(60) الشهرستاني: الملل و النحل 82/1.

(61) الشهرستاني: الملل و النحل 49/1.

(62) الشهرستاني: الملل و النحل 95/1.

(63) الملل و النحل 85/1.

(64) المغني في أبواب التوحيد و العدل 354/16.

(65) الملل و النحل 81/1.

(66) القاضي عبد الجبار: المغني 403/16.

(67) القاضي عبد الجبار: المغني 174/4-175.

(68) انظر القاضي عبد الجبار: المغني 93/11 و ما بعدها.

(69) القاضي عبد الجبار: المغني 371/11-372.

(70) المغني 372/11.

(71) المغني 375/11.

(72) المغني 380/11.

(73) المغني 380/11.

(74) المغني 229/13-230.

(75) المغني 47/12.

(76) المغني 48/12.

ص: 260

(77) المغني 48/12.

(78) المغني 326/4.

(79) المغني 16/12.

(80) المغني 13/12.

(81) المغني 58/12.

(82) الحيوان 207/1.

(83) المغني في أبواب التوحيد و العدل 383/11.

(84) المغني في أبواب التوحيد و العدل 384/11.

(85) البغدادي: أصول الدين/24.

(86) المغني في أبواب التوحيد و العدل 375/11.

(87) المغني في أبواب التوحيد و العدل 483/11-484.

(88) المغني في أبواب التوحيد و العدل 387/12.

(89) المغني في أبواب التوحيد و العدل 11/12.

(90) المغني في أبواب التوحيد و العدل 12/12.

(91) الحيوان 35/6-36.

(92) المغني 401/12.

(93) المغني 402/12-403.

(94) المغني 44/12.

(95) المغني 431/12-432 و انظر أيضا ص 433 صياغة أخرى للخاطر.

(96) القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة/68، و انظر المغني 210/11.

(97) القاضي عبد الجبار: المغني 11/12.

(98) المغني 349/16 و انظر أيضا نفس المصدر 152/15.

(99) انظر القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة/65-66 و أنظر أيضا ماجد فخري:

دراسات في الفكر العربي/96.

(100) القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة/66.

(101) القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة/66.

(102) القاضي عبد الجبار: المغني 215/8.

(103) انظر زهدي جار اللّه: المعتزلة/72 و ما بعدها.

(104) الأشعري: المقالات 245/1.

(105) المغني في أبواب التوحيد و العدل 136/7.

(106) المغني في أبواب التوحيد و العدل 92/7.

(107) الباقلاني: الانصاف/23.

(108) و القضية على أي حال طرحت في القديم من وجهة نظر فلسفية عند اليونان، و ليست لدينا قرائن تؤيد أو تنفي اطلاع المفكرين المسلمين على هذا الجانب من الفكر اليوناني.

و من وجهة نظر الكتب المقدسة فالقضية مطروحة في العهد القديم بشكل يوحي أن آدم هو الذي أعطى للأشياء أسماءها. فقد جاء في سفر التكوين بعد خلق آدم «و قال الرب

ص: 261

الإله ليس جيدا أن يكون آدم وحده. فأصنع له معينا نظيره. و جبل الرب الإله من الأرض كل حيوانات البرية و كل طيور السماء. فأحضرها إلى آدم ليرى ما ذا يدعوها.

و كل ما دعا به آدم ذات نفس حية فهو اسمها. فدعا آدم بأسماء جميع البهائم و طيور السماء و جميع حيوانات البرية». فالعهد القديم ينسب إلى آدم تسمية الأشياء التي عرضها الرب عليه، و هي تسمية صارت لها فيما بعد، بمعنى أن آدم هو الذي وضع الأسماء دون أن يتلقى من اللّه تعليما مباشرا لهذه الأسماء.(الاصحاح الثاني/19-21 و قد راجعت النص على الأصل العبري بمعونة الأستاذ الدكتور محمود فهمي حجازي فوجدناه مطابقا.).

(109) القاضي عبد الجبار: المغني 106/15.

(110) الصواعق المرسلة 244/2.

(111) القاضي عبد الجبار: المغني 106/15.

(112) القاضي عبد الجبار: المغني 106/15.

(113) الخصائص 43/1.

(114) المغني 164/5 و انظر نفس المرجع 109/7.

(115) ابن جني: الخصائص 43/1.

(116) القاضي عبد الجبار: المغني 163/5.

(117) القاضي عبد الجبار: المغني 164/5 و أنظر نفس المرجع 162/15.

(118) القاضي عبد الجبار: المغني 267/5.

(119) متشابه القرآن/83-84.

(120) المغني في أبواب التوحيد و العدل 169/5.

(121) المقالات 346/1.

(122) الانصاف/36.

(123) المزهر 16/1.

(124) انظر الطبري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن 170/1-171.

(125) الصاحبي/33.

(126) الصاحبي/33.

(127) الخصائص 39/1.

(128) الخصائص 39/1.

(129) الخصائص 44/1.

(130) الخصائص 45/1-46.

(131) الخصائص 45/1.

(132) المغني 6/7 يرى أبو علي الجبائي أن الكلام هو الحروف لا الأصوات. راجع خلاف أبي هاشم معه نفس الجزء/31.

(133) المغني 3/7.

(134) المغني 40/7.

(135) المغني 41/7.

ص: 262

(136) المغني 3/7.

(137) اللمع/17.

(138) التذكرة/340.

(139) الانصاف/94.

(140) الانصاف/95.

(141) الانصاف/95.

(142) القاضي عبد الجبار: المغني 17/7.

(143) السابق نفس الجزء/18.

(144) السابق/نفس الجزء/19.

(145) المغني 161/15.

(146) المغني 161/15.

(147) الحيوان 43/1.

(148) الحيوان 45/1.

(149) المغني 202/16، و انظر نفس المصدر 160/15،162/5.

(150) الباقلاني: الانصاف/53 و انظر أيضا البغدادي: أصول الدين/114-115 و هو يوحد - أيضا - بين الاسم و الصفة.

(151) الأشعري: مقالات الاسلاميين 253/2.

(152) انظر تفسير الطبري 170/1-171.

(153) السابق/نفس الجزء/40.

(154) رسائل الجاحظ 262/1.

(155) القاضي عبد الجبار: متشابه القرآن 83/1-84.

(156) المغني 169/5.

(157) الكشاف 272/1 ورد ابن المنير على الهامش.

(158) القاضي عبد الجبار: المغني 174/5-175.

(159) القاضي عبد الجبار: المغني 172/5.

(160) القاضي عبد الجبار: المغني 172/5.

(161) المغني 162/15.

(162) المغني 347/16.

(163) المغني 162/15-163 و انظر نفس المرجع 166/5 «ان العلم بقصده فرع على العلم بذاته، فلا يصح أن يكون ضروريا و العلم بذاته مكتسبا».

(164) المغني 172/5-173.

(165) المغني 323/15.

(166) المغني 215/8.

(167) المغني 325/15.

ص: 263

هوامش الفصل الثاني:«مفهوم المجاز» نشأته و تطوره

(1) تأويل مشكل القرآن/20-21.

(2) معجم ألفاظ القرآن الكريم 612/2.

(3) السابق 5/2.

(4) راجع المعجم المفهرس 527/2-627.

(5) راجع المعجم المفهرس 207/2.

(6) انظر لسان العرب «مثل» و غيره من المعاجم أيضا، القاموس و أساس البلاغة.

(7) الميداني: مجمع الأمثال 51/1.

(8) انظر تفسير الآية في الطبري 398/1 و ما بعدها.

(9) الطبري: التفسير 544/5-545.

(10) الطبري 504/1 و انظر مواضع أخرى يرد فيها نفس التفسير 505،487/3، 118/5.

(11) السيوطي: الاتقان 142/1.

(12) الطبري:198/6.

(13) الطبري 114/3 و انظر رد الطبري لهذه القراءة و تفسيره للآية.

(14) الطبري 399/5. و راجع أمثلة أخرى كثيرة لهذا الجدل المبكر حول القرآن: محمد يوسف موسى: القرآن و الفلسفة/32 و ما بعدها.

(15) الطبري 397/5.

(16) الطبري 172/2-173.

(17) جولد تسيهر: مذهب التفسير الاسلامي/132، و انظر أيضا طبقات المفسرين للداودي 307/2-308.

(18) السابق/133.

(19) الاتقان 141/1.

(20) السيوطي: الاتقان 141/1.

(21) الأشباه و النظائر/226-228.

(22) الأشباه و النظائر. انظر على الترتيب 313،215،139،127،116،108.

(23) السابق/116-117.

(24) الأشباه و النظائر/181. و انظر أيضا الوجوه المختلفة لكلمة «نار»/223.

(25) الأشعري: مقالات الاسلاميين 198/1، و انظر الجاحظ: البيان و التبيين 273/1-274، الزمخشري:293/2-294.

(26) Graham Hough:Styleand Stylistics.p.37-38.

(27) أحمد مصطفى المراغي: تاريخ علوم البلاغة العربية/43 و انظر ايضا: شوقي ضيف:

البلاغة تطور و تاريخ/29.

(28) أحمد مصطفى المراغي: تاريخ علوم البلاغة العربية/49.

(29) محمد زغلول سلام: أثر القرآن في تطور النقد العربي/39-40 نقلا عن ياقوت:

ص: 264

ارشاد الأريب.

(30) السيوطي: الاتقان 119/1.

(31) محمد زغلول سلام: أثر القرآن في تطور النقد العربي/42-43.

(32) مجاز القرآن 100/1-101.

(33) السابق 47/1 و لمزيد من الأمثلة في مجاز الحذف انظر 386،298،297،229/1.

(34) مجاز القرآن على الترتيب 110/1-19/2،366،192،171،101،111، 150،126،64.

(35) مجاز القرآن 93/2.

(36) السابق 153،162،196/2.

(37) اللسان (جوز) و انظر القاموس ايضا.

(38) معاني القرآن 14/1-15.

(39) معاني القرآن 363/2.

(40) معاني القرآن 182/3.

(41) السابق 384/2-385.

(42) السابق 406/2.

(43) السابق 89/3.

(44) السابق 231/1.

(45) معاني القرآن 40/1-41.

(46) السابق 228/1-229.

(47) معاني القرآن 230/1.

(48) السابق 305/1.

(49) معاني القرآن 34/2-35.

(50) السابق 155/2-156.

(51) معاني القرآن 242/2.

(52) معاني القرآن 90/3.

(53) معاني القرآن 15/1.

(54) السابق 16،20/3،135،118/2،393،303/1.

(55) معاني القرآن 272/2-273.

(56) السابق 388/2.

(57) Warren.A.Shibles:An Anagysis of Metaphor,P.32.

(58) محمد عبد الهادي أبو ريدة: إبراهيم بن سيار النظّام و آراؤه الكلامية/53 نقلا عن البيان و التبيين.

(59) انظر العثمانية/230.

(60) الحيوان 76/4.

ص: 265

(61) الحيوان 57/7.

(62) السابق 32/5 و انظر أمثلة لهذه الاستخدامات 23/5-31 و انظر البيان و التبيين 3 /28-29 و لم أورد هذه الأمثلة لكثرة الاستشهاد بها في الدراسات الحديثة. انظر شوقي ضيف: البلاغة تطور و تاريخ 55-56 محمد زغلول سلام: أثر القرآن في تطور النقد /84.

(63) العثمانية/230.

(64) الحيوان 295/5.

(65) البيان و التبيين 222/2.

(66) الحيوان 210/6-213 و انظر أيضا 39/4-40.

(67) الحيوان 211/1 و انظر أيضا جابر عصفور: الصورة الفنية في التراث النقدي و البلاغي /211

(68) الحيوان 211/1.

(69) الحيوان 280/5-281.

(70) الحيوان 348/1.

(71) الحيوان 15/2.

(72) رسالة في نفي التشبيه. ضمن رسائل الجاحظ 289/1، و انظر أيضا الحيوان 153/1-154.

(73) انظر الجزء الأول 188/1-208،189 و الجزء الرابع 8-20،15،9، 37-77،40-85،80-95،87-103،100،96-199،104-200، 271-275،273-278،278-289، الجزء الخامس 23-92،31-93، 161،100،99-279،162-425،280-426 الجزء السادس 162-164، 210-214،213-248،218،215-260،252-499،272-500 الجزء السابع 57،56،50.

(74) البخلاء/144.

(75) رسائل الجاحظ 339/1.

(76) الحيوان 84/4-85.

(77) السابق 133/5.

(78) أنظر محمد زغلول سلام: أثر القرآن في تطور النقد العربي/84 و ما بعدها. و أنظر أيضا:

مصطفى ناصف: الصورة الأدبية/78.

(79) أنظر شوقي ضيف: البلاغة تطور و تاريخ/56.

(80) تأويل مشكل القرآن/20-21.

(81) النكت في اعجاز القرآن/75.

ص: 266

(82) السابق/نفس الصفحة.

(83) السابق/75-76.

(84) انظر الرسالة/112،95. و الاستشهاد نفسه يؤكّد ما نذهب إليه.

(85) انظر الرسالة/76.

(86) النكت في اعجاز القرآن/76-77.

(87) السابق/80.

(88) السابق/81.

(89) السابق/نفس الصفحة.

(90) السابق/نفس الصفحة.

(91) النكت في اعجاز القرآن/82.

(92) السابق/85-86.

(93) النكت في اعجاز القرآن/86.

(94) السابق/نفس الصفحة.

(95) السابق/نفس الصفحة.

(96) السابق/نفس الصفحة.

(97) النكت/88.

(98) السابق/104.

(99) السابق/نفس الصفحة.

(100) السابق/نفس الصفحة.

(101) النكت/105.

(102) السابق/104.

(103) المغني 161/15.

(104) المغني 172/5-173.

(105) السابق 209،130/7.

(106) شرح الأصول الخمسة/436.

(107) شرح الأصول/436.

(108) السيوطي: الاتقان 36/2 و انظر أيضا ابن القيم الجوزية: الصواعق المرسلة 242/2-243.

(109) المغني 178/15-180.

(110) المغني 158/13.

(111) المغني 198/5-199.

(112) المغني 17/7.

(113) انظر المغني 85،36،35/8-86.

(114) المغني 187/5.

(115) س. أولمان: دور الكلمة في اللغة/62.

ص: 267

(116) المغني 186/5، انظر أيضا في قياس الغائب على الشاهد 76،49/7،229/5.

233،228/8-135/11.234.

(117) المغني 198/5-199.

(118) عبد القاهر الجرجاني: أسرار البلاغة 269/2.

(119) المغني 227/5-228.

(120) السابق 215/5.

(121) السابق 111/5.

(122) السابق 188/5

(123) شرح الأصول/468.

(124) المغني 213/7.

(125) المغني 231/8

(126) السابق 18/12.

(127) المغني 187/5.

(128) السابق 197/5.

(129) السابق 188/5.

(130) انظر هذا الخلاف: المغني 188/5-189.

(131) المغني 190/5.

(132) المغني 189/5، و انظر أيضا نفس المصدر 186/7.

(133) المغني 323/15.

(134) المغني 166/5.

(135) المغني 280/13.

(136) السابق 114/15.

(137) المغني 6 (القسم الثاني)15-16.

(138) السابق 28/17.

(139) المغني 37/17.

(140) السابق 324/15.

(141) أنظر: الامام الشافعي: الرسالة/17-18. و مناقشة القاضي عبد الجبار لقضية دلالة العموم و الخصوص: المغني 81/17-84.

هوامش الفصل الثالث: المجاز و التأويل

(1) الطبري 198/6.

(2) السابق/نفس الجزء و الصفحة.

(3) الطبري 197/6-180 و أنظر الرواية كاملة 216/1-218 و نقد المرحوم أحمد شاكر للرواية بالهامش 218 و ما بعدها.

ص: 268

(4) الطبري 186/6-187.

(5) انظر في تعضيد هذا الرأي: النيسابوري: أسباب النزول/53. و الطبري نفسه يورد هذا السبب في رواية أخرى عن محمد بن جعفر ابن الزبير 151/6-154.

(6) الطبري 187/6 و طبقات المفسرين 44/2.

(7) الطبري 189/6.

(8) الطبري 175/6.

(9) السابق 174/6.

(10) الطبري 203/6.

(11) الداودي: طبقات المفسرين 308/2.

(12) الطبري 177/6.

(13) انظر 262،59/1-616/2،265.

(14) انظر 19-137،20.

(15) الحسن البصري: رسالة في القدر: ضمن (رسائل العدل و التوحيد)84/1.

(16) السابق/86-87.

(17) السابق/87.

(18) جولد تسيهر: مذاهب التفسير الاسلامي/132 و لمزيد من التفاصيل انظر طبقات المفسرين 307/2-308.

(19) جولد تسيهر: مذاهب التفسير الاسلامي/133.

(20) الطبري 177/6.

(21) الطبري 177/6.

(22) الطبري 199/6.

(23) السابق 200/6.

(24) السابق 201/6-203.

(25) رسالة في القدر (ضمن رسائل العدل و التوحيد)83/1.

(26) الزمخشري: الكشاف 49/2.

(27) الداودي: طبقات المفسرين 331/2.

(28) الأشباه و النظائر: المقدمة/81.

(29) انظر محمد يوسف موسى: القرآن و الفلسفة:35 نقلا عن الملطي.

(30) الأشباه و النظائر/131.

(31) السابق/25-26.

(32) الأشباه و النظائر/321.

(33) السابق/321-322.

(34) السابق/232.

(35) الأشباه و النظائر/322.

(36) الكشاف 543/3.

(37) الانتصاف (على هامش الكشاف)543/3.

ص: 269

(38) جابر عصفور: الصورة الفنية في التراث النقدي و البلاغي/94.

(39) الأشباه و النظائر/234.

(40) الكشاف 9/2.

(41) الأشباه و النظائر/111.

(42) الأشباه/292.

(43) السابق/235-236 و انظر أيضا مادة «نرى»236-237.

(44) الأشباه و النظائر/239.

(45) مقدمة الأشباه و النظائر/52.

(46) مقدمة الأشباه و النظائر/57.

(47) الأشباه و النظائر/137-138.

(48) السابق/244.

(49) تنزيه القرآن عن المطاعن/184 و انظر ايضا متشابه القرآن/384-386.

(50) الجاحظ: الحيوان 47/3.

(51) البيان و التبيين 273/1-274 و انظر أيضا الكشاف 293/2-294، و انظر مقالات الاسلاميين 198/1.

(52) مجاز القرآن 112/2.

(53) السابق 190/2.

(54) السابق 266/1.

(55) السابق 290/1.

(56) السابق 276/1.

(57) السابق 170/1.

(58) السابق 20/2.

(59) السابق 73/2.

(60) السابق 82/1.

(61) السابق 244/1.

(62) السابق 215/1،132/2.

(63) السابق 164/1.

(64) السابق 160/1.

(65) السابق 243/1.

(66) السابق 147/2.

(67) السابق 113/2.

(68) مجاز القرآن 359/1.

(69) السابق 372/1.

(70) متشابه القرآن 462/2 و تنزيه القرآن عن المطاعن/227.

(71) الكشاف 442/2.

ص: 270

(72) مجاز القرآن 270/7.

(73) المدارس النحوية 195،193،192.

(74) أثر القرآن في تطور النقد العربي/58.

(75) معاني القرآن 360/2-361.

(76) Toshihko Izutsu:Revelation as Alinguistic Concept in Islam.p.129.

(77) و كأنما لم يكن جبريل يستطيع أن يرفعه للسماء دون كوّة.

(78) معاني القرآن 218/1.

(79) معاني القرآن 384/2 و انظر أيضا جولد تسيهر: مذاهب التفسير في الاسلام/ 33-35.

(80) معاني القرآن 325/1 و انظر أيضا جولد تسيهر/36-37.

(81) معاني القرآن 249/1 و لمزيد من الامثلة انظر:101،89،34/3،204/2، 261،158،116.

(82) س. أولمان: دور الكلمة في اللغة/169.

(83) راحة العقل/53.

(84) راحة العقل/50.

(85) السابق/42-43.

(86) السابق/51-52.

(87) معاني القرآن 314/2.

(88) السابق 65/3.

(89) السابق 177/3.

(90) معاني القرآن 412/2.

(91) السابق 329/1.

(92) السابق 132/2.

(93) السابق 366/1 و انظر أيضا 124/1.

(94) السابق 89/3.

(95) الصواعق المرسلة 11/1.

(96) الصواعق المرسلة 12/1-13.

(97) السابق 11/1-12.

(98) الكشاف 382/3.

(99) معاني القرآن 119/2.

(100) معاني القرآن 89/3.

(101) انظر متشابه القرآن/628-629 و تنزيه القرآن عن المطاعن 402.

(102) الكشاف 21/4.

(103) معاني القرآن 415/2 و لمزيد من الأمثلة في قضية العدل انظر 257/2-258، 271،187/3.

ص: 271

(104) رسائل العدل و التوحيد 96/1.

(105) السابق/نفس الجزء و الصفحة.

(106) رسائل العدل و التوحيد 97/1.

(107) السابق/نفس الجزء و الصفحة.

(108) القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة/606-607.

(109) رسائل العدل و التوحيد 106/1.

(110) السابق 109/1.

(111) انظر هذه الأدلة القرآنية و مناقشة القاضي لها: المغني 87/7-91.

(112) للقاضي عبد الجبار جزء كامل من كتابه المغني هو الجزء السابع أفرده لقضية خلق القرآن. و انظر أيضا أحمد أمين: ضحى الاسلام 161/3 و ما بعدها.

(113) تأويل مشكل القرآن/111.

(114) السابق/112-115.

(115) المغني 90/7.

(116) انظر الشهرستاني: الملل و النحل 162/1، محمد عمارة: رسائل العدل و التوحيد.

المقدمة/50.

(117) أبو المعين النسفي: بحر الكلام في علوم التوحيد/68.

(118) جولد تسيهر: مذاهب التفسير الاسلامي/3.

(119) ابن قتيبة: تأويل مختلف الحديث/55-57.

(120) رسائل العدل و التوحيد 97/1-98.

(121) تأويل مختلف الحديث/55.

(122) انظر العثمانية/115،100-119.

(123) انظر تأويل مختلف الحديث/71-73.

(124) انظر تأويل مشكل القرآن 115-121.

(125) السابق/103.

(126) السابق/104 و أنظر أيضا القاضي عبد الجبار في تأويل هذه الصفة في الكتاب المقدس، المغني 110/5-111.

(127) تأويل مشكل القرآن/132-133.

(128) تأويل مشكل القرآن/112-115.

(129) مصطفى ناصف: الصورة الأدبية/79، و انظر أيضا جابر عصفور الصورة الفنية /164.

(130) تأويل مشكل القرآن/101.

(131) تأويل مشكل القرآن/86.

(132) السابق/98-99.

(133) تأويل مشكل القرآن/100-101.

(134) تأويل مشكل القرآن: انظر على الترتيب/105،382،138،137،254، 311،191،181-277،434،312 و ما بعدها،280.

ص: 272

(135) تأويل مختلف الحديث/34-35.

(136) تأويل مشكل القرآن/123-125.

(137) الزمخشري: الكشاف 426/2-427.

(138) تأويل مشكل القرآن/282.

(139) تأويل مشكل القرآن/481-482.

(140) السابق/76.

(141) السابق/76-78.

(142) السابق/76-78.

(143) السابق/76-78.

(144) المحكم و المتشابه (ضمن رسائل العدل و التوحيد)107/2.

(145) المحكم و المتشابه 37/2.

(146) السابق 108/2.

(147) المحكم و المتشابه انظر على الترتيب:85/2-89،86-92،91-93، 94-98،97.

(148) رسائل العدل و التوحيد انظر على الترتيب 100،99/2-103،102-106.

(149) رسائل العدل و التوحيد 87/2-88.

(150) رسائل العدل و التوحيد 90/2.

(151) متشابه القرآن/10.

(152) المغني 176/12.

(153) متشابه القرآن/1، انظر أيضا المغني 395/16.

(154) المغني 394/16-395.

(155) متشابه القرآن/1.

(156) متشابه القرآن/23-24.

(157) متشابه القرآن/18.

(158) السابق/33.

(159) السابق/34.

(160) متشابه القرآن/34.

(161) متشابه القرآن/35-36.

(162) متشابه القرآن/4 و لمزيد من التفاصيل حول هذه الفكرة انظر نفس المصدر/24 و ما بعدها، المغني 373/16-376، شرح الأصول الخمسة/599-600.

(163) متشابه القرآن/34.

(164) المغني 395/16.

(165) كان الخلاف حول تعريف المحكم و المتشابه ما يزال مستمرا، و كذلك الخلاف حول امكانية معرفة المتشابه، و بالتالي التوجيه النحوي للآية على العطف أو الاستثناء. انظر مقالات الاسلاميين 293/1-295.

(166) متشابه القرآن/20.

(167) انظر الخلاف حول تفسير هذه الظاهرة الطبري 205/1 و ما بعدها.

(168) متشابه القرآن/16-17.

ص: 273

(169) متشابه القرآن/19 و انظر أيضا شرح الأصول الخمسة/600-601.

(170) متشابه القرآن/20-21.

(171) السابق 6-7.

(172) المغني 372/16.

(173) متشابه القرآن/7.

(174) متشابه القرآن/15 و انظر أيضا المغني 173/12-378/16،177-380 و شرح الأصول/603.

(175) المغني 134/4-135.

(176) راجع المغني 154/4-156، شرح الأصول الخمسة 238.

(177) شرح الأصول الخمسة 235-236، و سياق الآية يؤكد الفكرة. و انظر انكار الباقلاني لفكرة المدح في الآية. الانصاف/161.

(178) شرح الأصول الخمسة 236-237.

(179) شرح الأصول الخمسة/233 و بذلك تكون الآية واقعة في الصنف الثاني من أصناف دلالة الخطاب على ما يدل عليه. فآيات الرؤية تدل على ما يدل عليه العقل من نفيها.

و الآيات وحدها، و كذلك العقل وحده - دلالة - و لا يتعلق أحدهما بالآخر. انظر الفصل السابق.

(180) المغني 174/4-175.

(181) المغني 173/4.

(182) ابن المنير: الانتصاف 307/1 و انظر الباقلاني: الانصاف/162.

(183) شرح الأصول/239-240.

(184) المغني:144/4-145.

(185) شرح الأصول/240.

(186) شرح الأصول/241.

(187) شرح الأصول/241.

(188) الكشاف 41/2-42.

(189) انظر الأشعري: اللمع/35.

(190) المغني 150/4-151، راجع أيضا: متشابه القرآن/255.

(191) المغني:161/4-162، شرح الأصول/264-265.

(192) المغني:162/4.

(193) شرح الأصول/264-265.

(194) شرح الأصول/264-265.

(195) ابن المنير: الانتصاف 112/2.

(196) المغني:163/4-164.

(197) المغني:164/4.

(198) ابن المنير: الانتصاف:113/2.

(199) الزمخشري: الكشاف 113/2.

ص: 274

(200) المغني:167/4، راجع شرح الأصول/263-264.

(201) شرح الأصول/263-264 راجع كل هذا الحوار حول الآية في متشابه القرآن/291-298.

(202) راجع تفسير الزمخشري للآية: الكشاف 112/2-116، ورد ابن المنير: الانتصاف 112/2-113.

(203) المغني 225/4؛ الشريف الرضي: المجازات النبوية/45-46.

(204) المغني 230/4، انظر تفسير الآية وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (النجم/13-14) في متشابه القرآن/632.

(205) المغني:228/4-229 و ما بعدها أحاديث كثيرة.

(206) في شرح الأصول/269-271 يرد الحديث على قراءة أخرى و تأويل آخر «فقال: نور هو؟ أي أنور هو؟ كيف أراه؟ فحذف همزة الاستفهام وجوبا على عادتهم في الاختصار، و على هذا قال الشاعر:

فو اللّه ما أدري و إن كنت داريا بسبع رميت الجمر أم بثمان

(207) المغني 231/4، شرح الأصول/270-271، الشريف الرضي: المجازات النبوية 47-48.

(208) شرح الأصول/271-272.

(209) الكشاف:116/2.

(210) تعرّض عبد الجبار للآية في ايجاز في متشابه القرآن/673-674.

(211) المغني 197/4-198.

(212) المغني 198/4، راجع شرح الأصول/242-244.

(213) المغني 203/4.

(214) المغني:203/4.

(215) المغني 203/4-204. يعوق تأويل القاضي عبد الجبار بأن المقصود بالوجوه جملة الانسان وصف الوجوه بأنها ناضرة. غير أن التأويل يتسق إذا قلنا أن وصف الوجوه بالنضارة روعي فيها اللفظ، و وصفها بأنها ناظرة روعي فيها المعنى، و ذلك قياسا على تأويل القاضي لقوله تعالى: وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَ رُسُلِهِ... أَعَدَّ اللّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً و هي في الصحيفة التالية.

(216) المغني 206/4.

(217) المغني 206/4-207.

(218) شرح الأصول/245.

(219) المغني 208/4-209.

(220) المغني 209/4-210.

(221) شرح الأصول/245.

(222) راجع المغني:212/4-213.

(223) راجع المغني 213/4-214.

ص: 275

(224) المغني:215/4.

(225) راجع المغني 216/4-217 ورد المعتزلة على خصومهم بأن المجاز لا يقاس عليه.

(226) شرح الأصول/247.

(227) المغني:216/4.

(228) المغني/210/4 و راجع شرح الأصول/247-248.

(229) ابن المنير: الانتصاف:232/4.

(230) ابن المنير: الانتصاف 232/4.

(231) المغني 121/4، و راجع شرح الأصول/267، متشابه القرآن/683.

(232) الكشاف 232/4.

(233) شرح الأصول/266.

(234) نفس المصدر السابق.

(235) شرح الأصول/265-266. انظر أيضا في معنى اللقاء. متشابه القرآن/341 - 354،342-355 و أيضا 553،529.

(236) راجع الكشاف 226/3.

(237) المغني 222/4.

(238) المغني 237/4، انظر أيضا متشابه القرآن/361-362.

(239) القاضي عبد الجبار: المغني في أبواب التوحيد و العدل 223/8.

(240) المغني 217/8.

(241) المغني 4/8.

(242) المغني 218/8.

(243) المغني 202/8-203.

(244) المغني 177/8-178.

(245) السابق 16/8.

(246) السابق 205/8، و انظر شرح الأصول الخمسة/354-381،355-382.

(247) أبو الحسن الأشعري: اللمع/24 و انظر الباقلاني: الانصاف/143.

(248) الأشعري: اللمع/24.

(249) السابق/71.

(250) القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة/384.

(251) القاضي عبد الجبار: المغني/6 القسم الثاني/257.

(252) المغني 143/8.

(253) القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة/362-363. و انظر أيضا المغني 262/8.

(254) الكشاف 21/4.

(255) الانصاف/144.

(256) الانصاف/145.

ص: 276

(257) متشابه القرآن/629.

(258) المغني 6 القسم الثاني:234 و انظر متشابه القرآن/305.

(259) المغني 6/القسم الثاني/235.

(260) المغني 6 القسم الأول/54.

(261) الانصاف/143.

(262) القاضي عبد الجبار: المغني/6 القسم الثاني/53.

(263) السابق/نفس الجزء/54.

(264) الانصاف/138.

(265) الأشعري: اللمع/31.

(266) القاضي عبد الجبار: المغني في أبواب التوحيد و العدل 218/13.

(267) السابق/نفس الجزء و الصفحة.

(268) الباقلاني: الانصاف/130.

(269) أنظر القاضي عبد الجبار: المغني 288/8-289.

(270) المغني 162/8.

(271) انظر شرح الأصول الخمسة/283.

(272) المغني 162/8.

(273) القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة/379-380. و انظر أيضا متشابه القرآن /435،83-515،436.

(274) الباقلاني: الانصاف/132.

(275) الباقلاني: الانصاف/132-133.

(276) الأنعام/202، الرعد/16، الزمر/13، غافر/62.

(277) الباقلاني: الانصاف/128. و انظر استشهاد الأشعري بالآية على شمول خلق اللّه لكل شيء. و قياس صفة الخلق على صفتي العلم و القدرة: اللمع/50-51. و انظر رد القاضي على ذلك: المغني 310/8-311.

(278) القاضي عبد الجبار: المغني في أبواب التوحيد و العدل 94/7.

(279) القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة/383.

(280) المغني.310/8.

(281) الباقلاني: الانصاف/127-128.

(282) المغني 309/8.

(283) القاضي عبد الجبار: المغني في أبواب التوحيد و العدل 308/8 و انظر شرح الأصول الخمسة/382.

(284) اللمع/37.

(285) الكشاف 346/3.

(286) شرح الأصول/380. و انظر متشابه القرآن/571.

(287) شرح الأصول/380-381 و انظر الزمخشري: الكشاف/299/3.

(288) الباقلاني: الانصاف/130.

ص: 277

(289) الانتصاف (على هامش الكشاف)137/4.

(290) السابق/نفس الجزء و الصفحة.

(291) المغني 319/8.

(292) شرح الأصول/386.

(293) الكشاف 137/4.

(294) السابق 138/4.

(295) القاضي عبد الجبار: المغني 261/8.

(296) السجدة/17، الأحقاف/14، الواقعة/24.

(297) القاضي عبد الجبار شرح الأصول الخمسة/361 و انظر المغني 261/8.

(298) القاضي عبد الجبار: المغني 261/8.

(299) القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة/362.

(300) الانصاف/131.

(301) القاضي عبد الجبار: المغني 257/8-258، و انظر شرح الأصول الخمسة/355.

(302) انظر الزمخشري: الكشاف 134/4 و أساس البلاغة مادة «فوت».

(303) انظر متشابه القرآن/661.

(304) الأشعري: اللمع/48 و انظر أيضا الباقلاني: الانصاف/133.

(305) القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة/355-356.

(306) السابق/356.

(307) الأصول الخمسة/356.

(308) القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة/357.

(309) الأشعري: اللمع/48.

(310) شرح الأصول/357 و انظر المغني 258/8-259.

(311) شرح الأصول/358.

(312) المغني في أبواب التوحيد و العدل 262/8-263.

(313) اللمع/49.

(314) المغني 263/8.

(315) السابق: نفس الجزء و الصفحة.

(316) المغني 360/8.

(317) اللمع/48.

(318) المغني 261/8.

(319) المغني 263/8.

(320) اللمع/51-52.

ص: 278

المحتويات مقدمة 5

تمهيد: الاطار التاريخي لنشأة الفكر الاعتزالي 9

الفصل الأول: المعرفة و الدلالة اللغوية 43

1 - المعرفة و الايمان و القدرة 47

2 - مفهوم العقل و مراحل المعرفة عند الحارث المحاسبي و الباقلاني 52

3 - مفهوم العقل و مراحل المعرفة عند المعتزلة 59

4 - الدلالة اللغوية و شرط المواضعة 70

5 - الدلالة اللغوية و شرط القصد 83

الفصل الثاني: مفهوم المجاز، نشأته و تطوره 91

1 - نظرة تاريخية 93

أ - مصطلح المثل عند المفسرين 94

ب - مقاتل بن سليمان و الاحساس بتعدد الدلالة 97

ج - أبو عبيدة و أنواع المجاز 99

د - الفراء و بلورة المصطلح 103

2 - الجاحظ و نضج المصطلح 111

3 - الرماني و الكشف عن الأثر النفسي 122

الفصل الثالث: المجاز و التأويل 139

1 - التأويل عند المفسرين (ابن عباس و مجاهد)141

2 - التأويل عند الحسن البصري و مقاتل بن سليمان 147

3 - التأويل عند أبي عبيدة و الفراء 154

4 - المحكم و المتشابه كأساس للتأويل 164

ص: 279

أ - الامام القاسم الرس 164

ب - ابن قتيبة 168

ج - الامام يحيى بن الحسين 178

ه - المجاز و التأويل عند القاضي عبد الجبار 180

أ - المحكم و المتشابه كأساس للتأويل 180

ب - التوحيد و قضية الرؤية 190

ج - مبدأ العدل و قضية خلق الأفعال 215

الخاتمة 241

أهم المصادر و المراجع 247

هوامش الكتاب 255

ص: 280

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.