نام كتاب: الإنتصار للقرآن
نويسنده: ابو بكر محمد بن الطيب الباقلانى
موضوع: پاسخ به شبهات قرآنى
تاريخ وفات مؤلف: 403 ق
زبان: عربى
تعداد جلد: دو جلد در یک جلد
ناشر: دار الفتح / دار ابن حزم
مكان چاپ: عمان / بيروت
سال چاپ: 1422 / 2001
نوبت چاپ: اوّل
ص: 1
ص: 2
ص: 3
ص: 4
إلى سيدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أول من نطق و صدع بأمر اللّه تعالى..
إلى أصحابه الغر الميامين من حفظوا القرآن و أدّوه و بلّغوه كما سمعوه..
إلى العلماء العاملين الذين كان همّهم مدارسة القرآن و الدفاع عنه..
إلى صاحب هذه الدراسة العظيمة و السفر النفيس الإمام الكبير القاضي أبي بكر الباقلاني رحمه اللّه..
إلى أساتذتي و مشايخي و أحبائي..
إلى والديّ و إخواني و أخواتي..
إلى زوجتي و أبنائي و بناتي..
أهدي هذا الجهد المتواضع..
ص: 5
أصل هذا الكتاب أطروحة جامعية تقدّم بها الباحث إلى تخصّص التفسير و علوم القرآن بدائرة العلوم الشرعية في كلية الدراسات العليا و البحث العلمي بجامعة القرآن الكريم و العلوم الإسلامية بأن درمان-السودان،لنيل درجة العالمية العالية(الدكتوراة)،و حصلت على تقدير(ممتاز).
و كانت بإشراف:
أ.د.أحمد علي الإمام،أ.د.فضل حسن عبّاس و مناقشة:
أ.د.أحمد خالد بابكر،أ.د.عبد الرحيم علي و قد اختصر قسم الدراسة و كثير من التعليقات لغايات الطباعة.
ص: 6
قبس من نور القرآن الكريم إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللّهِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ(29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ(30) وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ(31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ(32) جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً وَ لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ(33) وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ(34) اَلَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَ لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ(35) .
صدق اللّه العظيم
ص: 7
ص: 8
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد للّه ربّ العالمين،الرحمن الرحيم..الحمد للّه خلق السموات و الأرض و جعل الظّلمات و النور...
الحمد للّه أنزل على عبده الكتاب و لم يجعل له عوجا..الحمد للّه فاطر السموات و الأرض جاعل الملائكة رسلا أولى أجنحة مثنى و ثلاث و رباع يزيد في الخلق ما يشاء إن اللّه على كل شيء قدير ما يفتح اللّه للناس من رحمة فلا ممسك لها و ما يمسك فلا مرسل له من بعده و هو العزيز الحكيم..الحمد للّه له ما في السموات و الأرض و له الحمد في الآخرة و هو الحكيم الخبير...
و الصلاة و السلام على سيد الأولين و الآخرين إمام الأنبياء و المرسلين، و قائد الغرّ المحجّلين سيدنا محمد و على آله و صحبه أجمعين،و رضي اللّه عن الصحابة و التابعين،و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين،من أخذوا القرآن عذبا سلسلا،و نقلوه و حملوه و بلّغوه غضا غريضا كما نزل دون تغيير أو تحريف أو تبديل،فرضوان اللّه عليهم أجمعين..
أما بعد:
فإن علوم القرآن الكريم مما أكرم اللّه بها عقول العلماء،و فتح لها ألباب الأصفياء،و جعلها الغذاء و الدواء لمن به عي و داء،فراح الرائح و الغادي
ص: 9
يستشفي بها من سقمه و يرتشف منها رحيقا بلسما لروحه،لا يشبع منها العلماء،و لا يرقى إليها الحكماء،و لا تخلق و لا تبلى،كيف و هي من معين القرآن منشؤها،و إليه مردّها،و عنه صدورها،هي البحر الذي لم يبلغ الراكبون ساحله،لا ينفد و لا ينتهي،فهو من كلام اللّه بدا،و إليه ينتهي قال عنه جل جلاله و هو أعلم بما ينزل: وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللّهِ [لقمان:27].
و لبلوغ شيء من هذا الدّر المصون،و الخير المكنون،صار العلماء منذ العصور الأولى يتسابقون إلى استخراج مكنونه و إدراك شيء من مضمونه، فألفوا فيه المؤلفات،و كتبوا من خلاله الإشارات،و لفتوا الأنظار إلى هذه العبارات،و جلّوا ما قد يكون فيها من المشكلات،كما أنّهم تصدّوا و انبروا بالذبّ عن حياض الدين ورد غائلة المعتدين،ممن يتربصون به الدوائر و يحاولون الدسّ و الإفساد و إلصاق الشبهات،بما لا يمكن أن يصلوا إليه و همّوا بما لم ينالوا،فكان أولئك العمالقة لهم بالمرصاد،فبينوا الغثّ من السمين و الصحيح من القسيم،و انبروا لهم مدافعين منافحين،بما آتاهم اللّه تعالى من قوة في الإيمان،و صلابة في البرهان،و عزيمة على دفع العدوان.
و الناظر في تاريخنا المشرق يجد أن من علماء هذه الأمة من وفقه اللّه تعالى حتى بلغ في العلم مبلغا و وصل درجة و منزلة من الاجتهاد في الدين، تلمح في كتاباتهم الأصالة و العمق و طول النفس فيما هم بصدده من البحوث لتمكنهم في هذا العلم الذي اختصوا به،من أمثال الأئمة الأربعة المتبوعين، و أبي سليمان الخطابي في شراح الحديث،و الطحاوي و ابن قتيبة في حل المشكلات،و المبرّد و سيبويه في علوم اللغة،و أبي بكر الرازي و ابن العربي في أحكام القرآن،و من أمثال أبي بكر ابن الطيب الباقلاّني في علوم القرآن
ص: 10
و إعجازه و الدفاع عنه،فكان من الفحول الذين أخذوا بكلا الحسنيين و حملوا اللواء في الجانبين،كان اللسان الذي يدافع،و القلم الذي يسارع، و العقل الذي يبرهن،و القوة التي تهيمن،يردّ الحجة بالحجة و يقمع البدعة بالسنة،و يحارب الشبهة باليقين،و يزيل الإشكال بالبرهان فناظر المبطلين، و قاوم المجرمين،و دحض شبه الفاسدين،و حمى حوزة الدين.
هذا بالإضافة إلى ما كان عليه من تأليف في علوم القرآن و إعجازه و بيان ما ينطوي عليه من الأسرار،فأبدع في ذلك و تألق،و بحث و تعمّق،حتى سارت بكتبه الركبان،و أصبح الممدوح على كل لسان.
و كان من الدرر التي كتب،و العلم الذي ورّث،كتابه الانتصار،فكان كاسمه انتصارا،نصر اللّه به دينه،و أعلى به كلمته،و كان لسان حال مؤلفه و لسان مقاله،أودعه مكنون صدره،و وضع فيه خلاصة فكره،فكان حصنا حصينا،و درعا مكينا،و وردا أمينا،أبطل من خلاله الشبهات،و دافع عن الحرمات،و انتصر للقرآن،و أوضح الحق حتى بان،حتى لقد امتدحه الإمام الشاطبي رحمه اللّه في«عقيلة أتراب القصائد»،و أثنى على الإمام بما ألّف من كتابي«الانتصار»و«الإعجاز»فقال:
للّه درّ الذي تأليف«معجزه» و«الانتصار»له قد أوضح الغررا (1)
و لما كنت قد عزمت على إكمال رحلتي مع القرآن،و الاستمرار في المنهج الذي بدأت مع كتاب اللّه تعالى،عزمت بعد توفيق اللّه تعالى علىه.
ص: 11
تحقيق هذا السفر العظيم و الكنز الدفين،و إخراجه للقارئ الكريم،ليفيد منه أهل القرآن،و يقف على ما فيه أهل البيان،و أسأل اللّه تعالى أن يهيئ لي سبيل ذلك و يذلّل لي كلّ صعب،فكان هذا الجهد،و هو قليل من كثير مما للقرآن علينا من الحق و ماله في أعناقنا من الواجب،و اللّه أسأل أن يوفقني لإتمامه على الوجه الذي يرضيه إنه سميع مجيب الدعاء.
تبرز أهمية هذا العمل في الأمور التالية:
الأول:يقدم هذا العمل للقارئ الكريم واحدا من الكتب المهمة في مجال علوم القرآن و الدفاع عنه،و هو أصل أخذ عنه من كتب في هذا المجال كالسيوطي و الزركشي و غيرهما.
الثاني:أن كتاب«الانتصار»من أوسع التركات العلمية التي تركها لنا العلامة الباقلاني و حريّ بهذا الكتاب أن يرى النور ليفيد منه العلماء و طلبة العلم.
الثالث:أنه لم يسبق إلى تحقيقه تحقيقا علميا،و إن كان ثمّة دراسات حول الموضوع لكنها غير كافية.
الرابع:إن كثيرا من طلبة العلم أخذ انطباعا أن«نكت الانتصار»للصيرفي هو بعينه كتاب«الانتصار»،و حصل هذا الخلط عند بعضهم،و بتقديمي لهذا الكتاب يظهر الفرق الكبير بين الكتابين من حيث الأسلوب و الاتساع و كثير من المناظرات و المناقشات و الردود العلمية حول قضايا القرآن الكريم بشكل عام.
ص: 12
من أبرز المشكلات التي واجهتها في هذه الدراسة:
1-أن العمل كان من خلال مخطوطة واحدة لعدم التمكن من الحصول على غيرها،و تكمن المشكلة في حال وجود طمس أو عدم وضوح في بعض الكلمات.
2-اتساع الموضوع،و كثرة صفحات المخطوط،و طول نفس مؤلفه مما جعله يظهر بهذا الحجم الكبير،مع عدم إمكانية اختزال أصل النص،إذ لا بد أن نقدم أصل النص كما جاء عن مؤلفه.
و العمل في هذه الرسالة،دراسة و تحقيق:
و في قسم الدراسة قمت بدراسة وافية للعلامة الباقلاني،من حيث عصره و حياته الشخصية و العلمية،كما قمت بدراسة شاملة لكتاب«الانتصار للقرآن»من حيث تحقيق اسم الكتاب،و نسبته إلى مؤلفه،و وصف للمخطوط،و مناقشة للأفكار الرئيسة التي طرحها المؤلف فيه.
كما أنني حاولت إبراز شخصية المؤلف العلمية من خلال هذا الكتاب و غيره،و بيّنت قيمة الكتاب و مكانته بين كتب علوم القرآن،و ختمت هذه الدراسة بموازنة بين كتاب«الانتصار»و كتاب«نكت الانتصار»لمحمد بن عبد اللّه الصيرفي الذي حاول في نكته اختزال ما كتب الباقلاني و اختصار ما كان في كتاب الانتصار.
و قد اضطررنا إلى حذف كثير من مباحث هذه الدراسة لغايات الطباعة، و أبقينا على ترجمة موجزة للمؤلف،و الموازنة بين«الانتصار»و«نكته» للصيرفي،ثم نتائج الدراسة،مع توصيف النسخة الخطية المعتمدة.
ص: 13
في مجال التحقيق قمت بإخراج النص سليما قدر استطاعتي،مع تخريج للآيات الكريمة و الأحاديث الشريفة،و الآثار الواردة عن السلف، و كان التحقيق بنسخة واحدة يتيمة،لعدم وجود غيرها فيما وصل إليه علمي،و هو ما أكده الأستاذ فؤاد سزكين في أكثر من مجال،و يتلخص عملي في المخطوط بما يلي:
1-نسخ المخطوط و مقابلته مرارا على الأصل حتى تيقنت من صواب نسخه.
2-ضبط النص و إخراجه سليما من التحريف و التصحيف،و معرفة الكلمات المطموسة عن طريق السياق أو كتاب نكت الانتصار أو من نقل عن كتاب الانتصار من المؤلفين أمثال السيوطي و الزركشي و غيرهما.
3-تصويب ما كان قد وقع من الناسخ من أخطاء لغوية،و هي قليلة،أشرت إليها في مواضعها بقولي:كذا في الأصل و الجادّة كذا و كذا.
4-الشكل التام للآيات الكريمة و ضبطها بما يوافق رواية حفص عن عاصم، و بيان اسم السورة و رقم الآية بجانبها مباشرة.
5-ضبط الكلمات المشكلة بما يزيل الإشكال عنها،و يجعلها واضحة معروفة للقارئ.
6-تخريج الأحاديث الشريفة و الآثار الواردة عن السلف من أمهات كتب الحديث و الآثار.
7-الترجمة للأعلام في أول موضع يرد فيه اسم العلم،دون الإشارة إليه في المواضع التي ترد فيما بعد.
8-توضيح ما قد يرد في النص من أسماء لطوائف أو أماكن أو أيّام.
ص: 14
9-وضع ما زيد على أصل النص بين معكوفين هكذا[]للدلالة على زيادتها و أنها ليست من أصل المؤلف.
10-عمل فهارس شاملة للآيات و الآثار و الأعلام و الموضوعات.
11-التعليق على بعض القضايا العلمية،و إن كان الحديث عن أبرز الموضوعات جاء في قسم الدراسة.
و قد حذفنا كثيرا من التعليقات لغايات الطباعة،و أبقينا منها على تخريج الأحاديث و أهم التعليقات.
و بعد،فهذا جهد المقلّ،و عمل من بضاعته مزجاة،أرجو أن أكون قد وفقت فيه لإخراج هذا الكتاب بالوجه اللائق،و المكانة التي يرتضيها مؤلفه، فإن وفقت للصواب فبفضل من اللّه و نعمه،و إن كانت الأخرى فمن نفسي و من الشيطان،و أعوذ باللّه من الزلل.
و ختاما...فإن الشكر للّه تعالى على ما أنعم و تفضل،و له المنة و الفضل،و من تمام شكر اللّه تعالى المنعم شكر من أجرى اللّه النعمة على يديه،و لذا أجد لزاما عليّ و دينا في عنقي أن أتقدم بجزيل الشكر و التقدير و الإكبار إلى الأستاذ الدكتور المربيّ الفاضل أحمد علي الإمام،الذي أفادني بعلمه الواسع و خبرته الكبيرة في تقويم هذه الرسالة في قسمي الدراسة و التحقيق،فجزاه اللّه خيرا و نفع المسلمين بعلمه و بلغه الإحسان،كما أخص بالشكر الأستاذ الدكتور فضل حسن عباس،المشرف المساعد على هذه الرسالة في الأردن،حيث أعطاني من وقته ما مكنني من قراءة فصول و أبواب هذه الرسالة و أبدى توجيهاته،فجزاهما اللّه خيرا،و أكرمهما في الدنيا و الآخرة.
ص: 15
كما أتقدم بالشكر الجزيل إلى جامعة القرآن الكريم و العلوم الإسلامية التي احتضنت هذه الرسالة و هيأت لي هذه الدراسة حتى أينعت و أعطت ثمارها و أخص بالشكر الأستاذ الدكتور أحمد خالد بابكر مدير الجامعة و سائر العاملين فيها كما أذكر بالشكر وكيل الجامعة و نائب المدير و المدير التنفيذي فيها و عميد الدراسات العليا و البحث العلمي و أمين مكتبتها العامرة و العاملين فيها،و أسأل اللّه تعالى أن يجزي الجميع خير الجزاء و يجزل لهم المثوبة و العطاء.
و أشكر كذلك لجنة المناقشة التي قبلت مشكورة مناقشة هذه الرسالة فلهم مني كل الشكر و التقدير.
و لا يسعني في النهاية إلا أن أتقدم بالشكر و التقدير لكل من أسهم في إنجاز هذا العمل و أخص بالشكر الأستاذ المحقق شعيب الأرناءوط الذي كان السبب في الحصول على أصل المخطوط،و أشكر كل من قدم لي خدمة في طريق إنجاز هذا العمل،و أسأل اللّه تعالى أن يجزي الجميع عني خير الجزاء و يعظم لهم المثوبة و العطاء.. رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَ اعْفُ عَنّا وَ اغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ .
ص: 16
(338-403 ه-)
رحمه اللّه تعالى
هو محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم،أبو بكر القاضي المعروف بالباقلاّني،أو ابن الباقلاّني.
ص: 17
و الباقلاّني:نسبة إلى الباقلاّء و بيعه،و هي نسبة على غير القياس كالنسبة إلى صنعاء،صنعاني،و إلى بهراء،بهراني،و كان والده يشتغل بالباقلاء و بيعها فنسب إليها.
و القاضي:لأنه تولى القضاء لعضد الدولة البويهي،و كان يعتبر رئيس القضاة،بيده أمر تعيينهم و توليتهم (1).
ولد الإمام الباقلاني بالبصرة سنة ثمان و ثلاثين و ثلاثمائة،و نشأ فيها و أخذ عن علمائها كثيرا من العلوم الدينية،ثم رحل إلى بغداد و نهل منها علما غزيرا و أقام فيها حتى توفاه اللّه تعالى سنة ثلاث و أربعمائة للهجرة.
عاش الباقلاني في كنف والده الذي كان من عامة الشعب يتاجر بالباقلاء و إليها نسب،و تذكر المصادر أن له ابنا واحدا هو الحسن،لم يرد ذكر لأحد من أبناء أو بنات له سواه.
أما في الاعتقاد فقد كان أبو بكر الباقلاني سنّيا علما في مذهب الإمام أبي الحسن الأشعري رحمه اللّه تعالى،و كان من أبرز الأئمة الذين ساهموا في انتشار المذهب و تثبيت قواعده و الذبّ عنه،و خاصة في وجه المعتزلة و بعض الفرق الضالة ممّن حاولوا النيل من عقيدة أهل السنة،فكان القاضي الباقلاني لهم بالمرصاد،و نافح عن دين اللّه بما أوتي من حجة و قوّة و برهان.
ص: 18
أما مذهبه الفقهي فهو المذهب المالكي،كما نص على ذلك أكثر علماء عصره و من كتب عنه،بل إن القاضي عياضا كان يعتبره إمام المالكيين في وقته،و عالم عصره المرجوع إليه في ما أشكل على غيره،إليه انتهت رئاسة المالكيين في وقته.
و أما الإمام السبكي الشافعي فعدّه من علماء الشافعية،كما ذكر بعض العلماء أنه كان حنبليا،و الراجح الذي تطمئن إليه النفس،و الذي استفاض عنه رحمه اللّه أنه كان مالكيا في فروع الشريعة.
مما لا شك فيه أن الباقلاني تتلمذ لكثير من شيوخ البصرة و بغداد و نهل من علمهم،و أخذ عنهم مختلف المعارف و العلوم،لا سيما في مجال العقيدة و الفقه و علم الكلام،و نحن هنا نذكر أبرز هؤلاء العلماء ممن أخذ عنهم العلم و المعرفة،و كان لهم أثر كبير في شخصية ابن الباقلاني و نضوجه العلمي،و من هؤلاء:
1-أبو عبد اللّه محمد بن أحمد بن محمد بن مجاهد الطائي،درس عليه الباقلانيّ الأصول و المنطق و الفقه و كان حافظا ضابطا متقنا،توفي بعد الستين و الثلاثمائة للهجرة.
2-أبو الحسن الباهلي البصري،صاحب أبي الحسن الأشعري،يذكر أنه كان إماميا ثم تاب و عاد إلى مذهب أهل السنة إثر مناظرة مع أبي الحسن
ص: 19
الأشعري،و كان إماما في عقيدة أهل السنة ينشر مذهبهم،و يعلم قواعد اعتقادهم،توفي سنة سبعين و ثلاثمائة للهجرة.
3-أبو بكر محمد بن عبد اللّه الأبهري،شيخ المالكية في عصره،تتلمذ الباقلاني على يديه و نهل من علمه الغزير في الفقه،صحبه الباقلاني طويلا،توفي سنة خمس و سبعين و ثلاثمائة.
4-أبو بكر أحمد بن جعفر بن حمدان القطيعي،و نسبته إلى قطيعة الدقيق في بغداد،و هو راوية مسند الإمام أحمد،و هو شيخ الباقلاني في الحديث توفي سنة ثمان و ستين و ثلاثمائة.
5-أبو عبد اللّه محمد بن خفيف الشيرازي من تلامذة أبي الحسن الأشعري و هو فقيه شافعي،و هو شيخ الباقلاني في الأصول،توفي سنة إحدى و سبعين و ثلاثمائة.
6-أبو أحمد الحسن بن عبد اللّه العسكري،إمام في الأدب و الحفظ و صاحب أخبار و نوادر،أخذ عنه الباقلاني مسائل في البلاغة و الأدب، توفي سنة ثنتين و ثمانين و ثلاثمائة.
7-أبو محمد عبد اللّه بن أبي القيرواني،إمام كبير في الفقه المالكي،جمع المذهب و شرح أقوال الإمام،و كان يعرف بمالك الصغير،رحل إليه العلماء و أخذوا عنه،و أخذ عنه الباقلاني الفقه،توفي سنة ست و ثمانين و ثلاثمائة.
8-محمد بن أحمد بن إسماعيل،أبو الحسين بن سمعون البغدادي،كان عجيبا في الكلام على الخواطر و حسن الوعظ،حتى كتب الناس حكمه و جمعوا كلامه،كان يأتيه الباقلاني و الأسفراييني فيقبّلان يده و يجلاّنه، توفي سنة سبع و ثمانين و ثلاثمائة.
ص: 20
لقد عاش الباقلاني في عصر امتاز بكثرة مجالس العلم و إقبال الناس على العلماء،فكان في مجلسه كثيرون،أخذوا من علمه و نهلوا من معينه، و من أبرز تلاميذه:
1-أبو ذر الهروي،عبد بن أحمد،الحافظ الثقة المالكي،محدّث الحرم، المعروف بدينه و ورعه و علمه(ت 434 ه-)،أخذ علم الكلام على الباقلاني.
2-القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن نصر البغدادي المالكي(ت 422 ه-)، الإمام الكبير صاحب«التلقين»و«الإشراف»و غيرهما،أخذ عن الباقلاني الفقه و علم الكلام.
3-أبو عمران موسى بن عيسى الفاسي(ت 437 ه-)،الإمام الجليل،الفقيه المقرئ الحافظ،أخذ عن الباقلاني الأصول.
4-أبو الحسن علي بن عيسى السكري الشاعر(ت 413 ه-)،كان حافظا بالقراءات أديبا،أخذ عن الباقلاني علم الكلام،و امتدحه بقصيدة عظيمة.
5-القاضي أبو جعفر محمد بن أحمد السناني الحنفي(ت 444 ه-)،أبو جعفر،كان ثقة عالما فاضلا.
6-الحسين بن حاتم الأزدي،أخذ عن الباقلاني أصول الفقه،و هو الذي بعثه الباقلاني إلى دمشق،ليوضح الحق و يبين مذهب أهل السنة.
7-القاضي عبد اللّه بن محمد الأصبهاني،المعروف بابن اللبان،(ت 446 ه-)، كان من أهل العلم الكبار،و أخذ عن الباقلاني الأصلين.
8-محمد بن الحسين بن موسى النيسابوري،أبو عبد الرحمن السلمي،تتلمذ على الباقلاني في شيراز و قرأ عليه كتاب«اللمع»لأبي الحسن الأشعري.
ص: 21
9-محمود بن الحسن الطبري،أبو حاتم المعروف بالقزويني،أخذ عن الباقلاني أصول الفقه.
10-صمصام الدولة بن عضد الدولة البويهي،أدّبه الباقلاني و علمه شتى العلوم،اغتيل بعد موت والده سنة 388 ه-،و له خمس و ثلاثون سنة.
مؤلفات الباقلاني و آثاره (1):
تمتاز مؤلفات الباقلاني بطول النّفس و أنها في معظمها في الدفاع عن الدين و التصدي لرد شبهات الفرق كالرافضة و أهل البدع و الضلالات،كما أنها تمتاز بالعمق و القوة،و خاصة أن الباقلاني رحمه اللّه يمتاز عن غيره من المؤلفين بالأصالة في كتاباته،فهو لا ينقل عن غيره في أغلب الأحيان.
1-التمهيد،و هو الكتاب الذي ألفه بشيراز لابن عضد الدولة البويهي و ولي عهده صمصام الدولة و هو كتاب فيه الرد على الملحدة و الجهمية و المعتزلة،و قد طبع مرتين محققا.
2-شرح كتاب«اللمع»للإمام أبي الحسن الأشعري رحمه اللّه،و«اللمع» مطبوع.
3-كتاب البيان عن الفرق بين المعجزات و الكرامات و الحيل و الكهانة و السحر،مطبوع بتحقيق ريتشرد مكارثي سنة 1958.
4-الإنصاف فيما يجب اعتقاده و لا يجوز الجهل به،و المعروف برسالة الحرّة، و هو مطبوع بتحقيق العلامة الشيخ محمد زاهد الكوثري رحمه اللّه.
ص: 22
5-إعجاز القرآن،و قد طبع عدة طبعات في مصر على هامش كتاب «الإتقان»،و منفردا بتحقيق الأستاذ سيد صقر رحمه اللّه.
6-هداية المسترشدين و المقنع في معرفة أصول الدين،مخطوط،منه نسخة في مكتبة الأزهر برقم 342 توحيد.
7-الإبانة عن إبطال أهل الكفر و الضلالة.
8-كيفية الاستشهاد في الرد على أهل الجحد و العناد.
9-كتاب إكفار المتأولين،و حكم الدار.
10-كتاب التعديل و التجوير.
11-كتاب الإمامة الكبير.
12-كتاب الإمامة الصغير.
13-كتاب شرح أدب الجدل.
14-كتاب الأصول الكبير في الفقه.
15-كتاب الأصول الصغير في الفقه.
16-كتاب مسائل الأصول.
17-كتاب أمالي إجماع أهل المدينة.
18-كتاب المسائل المنثورة و المجالسات.
19-كتاب فضل الجهاد.
20-كتاب الرد على المتناسخين.
21-كتاب الحدود.
22-كتاب الرد على المعتزلة.
23-كتاب في أن المعدوم ليس بشيء.
24-كتاب المقدمات في أصول الديانات.
25-كتاب المسائل القسطنطينية.
ص: 23
26-كتاب إمامة بني العباس.
27-كتاب أجوبة أهل فلسطين.
28-كتاب البغداديات.
29-كتاب النيسابوريات.
30-كتاب الجرجانيات.
31-كتاب الأصبهانيات.
32-كتاب الكرامات.
33-كتاب الأحكام و العلل.
34-كتاب نقض الفنون.
35-كتاب تصرف العباد.
36-كتاب التقريب و الإرشاد في الأصول.
37-كتاب المقنع في أصول الفقه.
38-كتاب دقائق الإسلام و الرد على من خالف الحق من الأوائل و منتحلي الإسلام.
39-كتاب مسائل سأل عنها ابن عبد المؤمن.
40-كتاب البيان عن فرائض الدين.
41-كتاب مختصر التقريب و الإرشاد الأصغر.
42-كتاب مختصر التقريب و الإرشاد الأوسط طبع قسم منه،بتحقيق الدكتور أبو زنيد،طبع مؤسسة الرسالة ببيروت.
43-كتاب مناقب الأئمة.
44-كتاب الدماء التي جرت بين الصحابة.
45-كتاب التبصرة.
46-كتاب رسالة الأمير.
ص: 24
47-كتاب كشف الأسرار و هتك الأستار في الرد على الباطنية.
48-كتاب الانتصار،و هو ما نحن بصدد تحقيقه بعون اللّه تعالى.
و هذه الكتب للباقلاني،أوردها القاضي عياض في ترجمته للقاضي أبي بكر رحمهما اللّه تعالى،في كتابه«ترتيب المدارك»(2:601)،و هي من أوفى ما كتب عن الباقلاني من التراجم،و اللّه أعلم.
هذا و قد أورد الباقلاني رحمه اللّه اسم كتاب له في مؤلفه الذي نحن بصدد تحقيقه سماه كتاب جامع الأبواب و الأدلة،و لم يذكره القاضي عياض ضمن مجموعته.
و هناك مجموعة من الكتب ورد ذكرها في مصادر متناثرة،و منها ما نص عليها القاضي عياض لكن باختلاف يسير في عناوينها،مثل كتاب«الإنصاف» الذي جزم سيد صقر أنه نفسه كتاب رسالة الحرة.و من هذه الكتب:
1-كتاب نقض النقض،ذكره الباقلاني في«هداية المسترشدين».
2-كتاب الكسب،ذكره الأسفراييني في«التبصير».
3-كتاب الإيجاز،ذكره أبو عذبة في كتاب«الروضة البهية».
4-كتاب النقض الكبير،ذكره إمام الحرمين في«الشامل».
و كل هذه الكتب بينها تداخل،و قد يكون بينها قدر مشترك أحيانا.
يكاد يكون إجماعا بين المؤرخين أن الباقلاني رحمه اللّه كان المجدد للدين على رأس المائة الرابعة،لما قدّم من جهود،و ما بذل في خدمة مذهب أهل السنة و الجماعة و ما دافع من خلاله عن دين اللّه عز و جل،يقول ابن عساكر رحمه اللّه:«إن قول من قال:إن القاضي أبا بكر محمد بن الطيب
ص: 25
الباقلاني هو الذي كان على رأس الأربعمائة،أولى من قولهم:إن أبا الطيب سهل بن محمد بن سليمان النيسابوري هو الذي كان على رأس الأربعمائة لأنه أشهر من أبي الطيب النيسابوري مكانا و أعلى رتب القوم شأنا،و ذكره أكبر من أن ينكر،و قدره أظهر من أن يستر،و تصانيفه أشهر من أن تشهر، و تواليفه أكثر من أن تذكر،فأما أبو الطيب-النيسابوري-فإنما اشتهر ذكره ببلده» (1).
و عن القاضي أبي بكر رحمه اللّه يقول اليافعي رحمه اللّه في كتابه«مرآة الجنان»و هو من أعيان المائة الثامنة:
«هو سيف السنة،و ناصر الملة،الإمام الكبير،الحبر الشهير،لسان المتكلمين،و موضح البراهين،و قامع المبتدعين،و قاطع المبطلين، الأصولي المتكلّم،الأشعري المالكي،المجدد على رأس المائة الرابعة، و كان كلّ ليلة إذا قضى ورده كتب خمسا و ثلاثين ورقة،تصنيفا من حفظه، و كان فريد عصره في فنه،و له التصانيف الكبيرة المسندة الشهيرة،و إليه انتهت الرئاسة في هذا العلم،و كان ذا باع طويلة في بسط العبارة،مشهورا بذلك» (2).
و مع ما كان عليه إمامنا الباقلاّني من الضلوع في علم الكلام و المناظرات و الفلسفة،التي هي مظنة الخواء الروحي،إلا أنه رحمه اللّه كان مع كل ذلك يمتاز بقمة الورع و التقوى و المراقبة للّه تعالى،يقول عن ذلك الإمام أبو حاتم القزويني:).
ص: 26
«إن ما كان يضمره القاضي أبو بكر الأشعري رضي اللّه عنه من الورع و الديانة و الزهد و الصيانة أضعاف ما كان يظهره،فقيل له في ذلك،فقال:
إنما أظهر ما أظهره غيظا لليهود و النصارى و المعتزلة و الرافضة و المخالفين، لئلا يستحقروا علماء الحق و الدين» (1).
و عن ذلك يقول الصيرفي رحمه اللّه:«كان صلاح القاضي أكثر من علمه،و ما نفع اللّه هذه الأمة بكتبه و بثها فيهم إلا بحسن نيته و احتسابه بذلك» (2).
و أما عن علمه وسعة اطلاعه فهو بالمكانة العالية،فلقد كان العالم الذي يحدّث و يكتب من علمه و حفظه دون أن يحتاج إلى الرجوع لكتب الآخرين، يقول في ذلك علي بن محمد بن الحربي المالكي:
«كان القاضي أبو بكر يهمّ بأن يختصر ما يصنفه،فلا يقدر على ذلك لسعة علمه و كثرة حفظه،و ما صنف أحد خلافا إلا احتاج أن يطالع كتب المخالفين،غير القاضي أبي بكر،فإن جميع ما كان يذكر خلاف الناس فيه صنّفه من حفظه» (3).
و عن سعة علمه و فصاحة لسانه يقول أبو القاسم النحوي(ت 456):
«من سمع مناظرة أبي بكر لم يستلذّ بعدها بسماع كلام أحد من المتكلمين و الفقهاء و الخطباء و المترسلين،و لا الأغاني أيضا لطيب كلامه و فصاحته، و حسن نظامه و إشارته» (4).ق.
ص: 27
و يقول أبو محمد الشافعي(ت 398):«لو أوصى رجل بثلث ماله أن يدفع إلى أفصح الناس لوجب أن يدفع لأبي بكر الأشعري» (1).
قال ابن العماد الحنبلي:«كان ابن الباقلاني ورعا لم تحفظ عنه زلة و لا نقيصة،و كان باطنه معمورا بالعبادة و الديانة و الصيانة،قال الطائي:رأيته في النوم بعد موته و عليه ثياب حسنة،في رياض خضرة نضرة،و سمعته يقرأ:
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ(21) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ [الحاقة:21-22]،و رأيت قبل ذلك قوما حسنا حالهم،فقلت:من أين جئتم؟فقالوا:من الجنة من زيارة القاضي أبي بكر» (2).
و لو أردنا استيفاء كلّ ما قيل عن هذا العالم لاتّسع بنا الأمر و لخرجنا عن المقصود،و أختم ذلك بما قاله عنه الصاحب ابن عبّاد-رحمه اللّه-و عن ابن فورك و الأسفراييني:«ابن الباقلاني بحر مغرق،و ابن فورك صلّ مطرق، و الأسفراييني نار تحرق» (3).
الذي يرجّح لدي من خلال المطالعات أن اسم الكتاب هو:«الانتصار للقرآن»،و قد ورد بهذا اللفظ تماما دون زيادة أو نقصان على الصفحة الأولى من النسخة الخطية،و هو ما أثبته السيوطي في كتاب«الإتقان»عند النقل عن القاضي أبي بكر و كذا غيره من الناقلين.
ص: 28
و إن مما يؤكّد هذا الاسم أنّه بعينه الاسم الذي أثبته صاحب«النكت» حين اختصره،فجعل العنوان دالا على أصل اسم الكتاب قبل الاختصار، فقال:«نكت الانتصار للقرآن»،و كذا أورده القاضي عياض في كتاب «ترتيب المدارك» (1).
و قد سماه بعض الكتّاب المعاصرين (2):«الانتصار لصحة نقل القرآن».
و مستنده في ذلك أن هذه التسمية قد وردت في كتاب«هداية المسترشدين»للباقلاني نفسه،و ليس هذا مما يؤكد هذه التسمية،بدليل أن المؤلف حين يتحدث في ثنايا كتابه عن كتاب آخر له و لا يكون دقيقا في ذكر اسم الكتاب،حيث لا يكون ذلك مجال تحقيق الاسم بقدر قصد الإشارة إليه و إلى القضية التي يعالجها،و هي صحة نقل القرآن.
و بعض الكتّاب يذكر تحت عنوان«الانتصار لنقل القرآن»،و الأول أولى أن يصار إليه.
ثم إن موضوع الكتاب أشمل من أن يكون مقتصرا على صحة النقل للقرآن،فهو كتاب فيه الحديث عن القرآن الكريم من حيث نزوله و ثبوته و دقة عبارته و جزالة ألفاظه و تواتر نقله إلى غير ذلك من القضايا التي لها تعلق مسيس بكتاب اللّه تعالى.
أما نسبة الكتاب إلى مؤلفه فتكاد تكون إجماعا بين أهل العلم قديمهم و حديثهم،سواء من أخذ عنه،أو أشار إليه،أو نقل عنه،أو لخصه،أو
ص: 29
تكلّم عليه من قريب أو بعيد.و قد صدّرت النسخة الخطية للكتاب بالنص التالي:
«الأول من كتاب الانتصار للقرآن،تأليف الشيخ الإمام العالم العامل، المتقن المحقق،القاضي أبي بكر محمد بن الطيب بن محمد الأشعري، الباقلاني البصري رضي اللّه عنه،توفي رحمة اللّه تعالى عليه آخر يوم السبت، و دفن يوم الأحد لسبع بقين من ذي القعدة سنة ثلاث و أربعمائة ببغداد».
يقول الأستاذ فؤاد سزكين في تصديره لنشرته للأصل الخطي للكتاب:
«ربما لا نخالف الصواب إن قلنا إن هذا الكتاب من أحسن نماذج ما وصل إلينا من التركة العلمية للباقلاني،لإعطائنا انطباعا عن شخصيته،متكلما سنيا أخذ قضية الدفاع عن القرآن على عاتقه،واثقا بأنه كفؤ لها» (1).
للكتاب نسخة فريدة محفوظة بمكتبة قرّة مصطفى باشا باستانبول، تحتوي على المجلد الأول من الكتاب فقط،و سيأتي وصفها،و لم يذكر أحد من المحققين أنه عثر على الجزء الثاني منها،أو أنه قد حصل على نسخة أخرى لأحد الجزءين،غير ما ذكره الأستاذ فؤاد سزكين أن قسما من كلا المجلدين موجود في المكتبة الحسنية بالرباط،و هو غير كامل،و غير واضح الكتابة،و لم يشر إلى رقمه أو إلى أي معلومة تدل عليه،و حاولت الحصول على مصوّرة عن هذا النسخة لكن دون جدوى،فاقتصر اعتمادي في التحقيق على نسخة إستانبول.
ص: 30
يقع مخطوط مكتبة قرة مصطفى باشا باستانبول من كتاب«الانتصار»في ما يزيد على ثلاثمائة ورقة،تم تصويره كل صفحة على حدة،فخرج بستمائة و ثلاث صفحات،من القطع الوسط،في كل صفحة عشرون سطرا،في كل سطر ما بين ثلاث عشرة إلى ست عشرة كلمة،بخط مشرقي جميل،واضح في أكثره فيه شيء من الطمس في بعض الكلمات،و عدم وضوح في بعضها،غير مشكول،و غالبا ينقط الحروف،و قد يترك النقط أحيانا،على هامشه استدراكات للناسخ،أو تصويب لبعض الكلمات،أو بيان للآية التي يريد الحديث عنها،و خاصة في باب مطاعنهم في صحة القرآن و نظمه من جهة اللغة.
و هذه المخطوطة قام بنشرها تصويرا معهد تاريخ العلوم العربية و الإسلامية الذي يشرف عليه الأستاذ فؤاد سزكين،ضمن سلسلة(ج)عيون التراث،المجلد 40،و كتب عليه:«طبع بالتصوير عن مخطوطة قرة مصطفى باشا،مكتبة بايزيد في استانبول،طبع بطريقة التصوير في مطبعة كليت-شتوتسغارت».
في صفحة العنوان توقيع نصّه:أحمد بن عثمان الشافعي.
و النسخة تبدو قديمة يقدّر أنها من مخطوطات القرن السابع،و قد ورد على صفحة الغلاف و الأخير تأريخ،للمطالعة في سنة 1090.
و جاء ختم في أوله و أواسطه في أكثر من محلّ،و هو ختم المكتبة التي وقفت فيها هذه المخطوطة،و هو ختم بيضاوي كتب عليه:«وقف هذا الكتاب لوجه اللّه الأجلّ الأكرم،مصطفى باشا الوزير الأعظم».
ص: 31
و يلاحظ على النسخة الأمور التالية:
1-يكتب الناسخ أحيانا بخط متشابك الحروف بحيث يصعب تمييز الحروف بعضها من بعض.
2-يقع في بعض الأخطاء الإملائية أحيانا،و اللغوية أحيانا،و قد ذكرت ذلك في مكانه و أشرت إليه في حاشية التحقيق.
3-وقع في النسخة خلط في ترتيب بعض الصفحات،و ألحقت بعض الصفحات في غير المبحث الذي ينبغي أن تكون فيه،و قد أشرت إلى ذلك،و صوّبته بحمد اللّه.
من أبرز الأمور التي دعت الباقلاني رحمه اللّه إلى تأليف هذا الكتاب ظهور فرق في عصر المؤلف كان همّها الطعن في القرآن و التشكيك فيه، و في صحة نقله و خلوه من الخطأ و اللحن،فانبرى لهم الباقلاني مفنّدا لمزاعمهم داحضا لحججهم،مبينا و هاءها و صغارها.
و هذه الطعون كما أجملها المصنف رحمه اللّه دائرة حول قضايا من أبرزها:
1-دعوى الزيادة في القرآن الكريم.
2-دعوى النقص منه.
3-دخول الخلل و اللحن على النص القرآني.
4-إيرادهم لشبه قد تنطلي على العامة مثل دعوى اللحن في القرآن و أنه كان منذ تنزل القرآن و أن العرب ستقيمه بألسنتها،و ما ورد عن ابن مسعود أنه كان يحكّ المعوذتين من القرآن.
ص: 32
5-ما يتمسك به بعض طوائف الشيعة من الطعن في بعض الصحابة و أنهم كانوا السبب في ضياع جزء كبير من القرآن.
بالإضافة لما سبق،لم يقتصر المؤلف على نقض الطعون التي وجهت إلى القرآن الكريم بل أضاف إلى ذلك بحوثا في علوم القرآن الكريم أوفاها حقها مثل عد الآي،و ترتيب السور،و الأحرف السبعة و الناسخ و المنسوخ، و غيرها من الأبواب.
ص: 33
كتاب«نكت الانتصار»قال عنه مؤلفه أبو بكر الصيرفي رحمه اللّه:«لما وقفت على كتاب الانتصار للقاضي الإمام أبي بكر محمد بن الطيب الأشعري رضي اللّه عنه وقوف تأمل لفصوله،و اطلاع على أبحاثه،رأيت كتابا عظمت فوائده و جلّت،و خصت علومه و عمّت،غير أنه رحمه اللّه عوّل فيه على أسلوبه في سائر كتبه،في استقصاء الأدلة،و كثرة البحث عن الحجة،فصار المنتهي يضجر عن مطالعته فضلا عن المبتدي،و السابق يكلّ دون شأوه فكيف بالمصلى،فرأيت أن أجمع نكته على سبيل الاختصار، و أسمي الكتاب«نكت الانتصار»،و لا أدّعي أن اختصار ما اختصرته عن فساد،و لا أن اختياري يحكم بصحة الانتقاد،غير أني لطّفت حجم الكتاب، و توخّيت طرق الصواب،...» (1).
من خلال هذا التقديم لكتاب«النكت»ندرك قيمة كتاب«الانتصار»و ما الذي علمه صاحب«النكت»في كتابه،من اختصار لما أسهب فيه و أطال الباقلاّني في«الانتصار»،فلطف حجم الكتاب مع توخيه طرق الصواب.
فهل أعطى كتاب«النكت»صورة واضحة حقيقية عن كتاب«الانتصار»؟هذا ما أود بيانه في هذا الفصل إن شاء اللّه تعالى.
ص: 34
و كتاب«النكت»له أصل مخطوط بمكتبة بلدية الإسكندرية برقم 828 ب،يقع في مائة و أربع و أربعين ورقة،و فيه صورة بمعهد المخطوطات العربية بالقاهرة برقم(284 تفسير)،كما يذكر محمد زغلول سلام في مقدمته للكتاب،و منه نسخة مصورة على الميكروفلم في مكتبة الجامعة الأردنية اطلعت عليها،و هي مصورة بشكل رديء غير واضح،فيها طمس كثير،و صفحات غير واضحة،و بعضها بياض كامل،و القراءة فيها عسيرة.
حقق كتاب«النكت»الدكتور محمد زغلول سلام،أستاذ اللغة العربية و عميد كلية الآداب بجامعة بنها بمصر،و قامت بنشره منشأة المعارف بالإسكندرية.
يقع الكتاب بعد الطبع في ثلاثمائة و سبعين صفحة من القطع الوسط،ما عدا المقدمات و الفهارس،جعله مصنفه في ثمان و ثلاثين بابا،رتبها على غير ترتيب أصل كتاب«الانتصار»،فقدّم بعضها و أخر بعضها،و أتى بها مختصرة عما عليه الأصل،و قد أغفل جلّ المناظرات التي عقدها الباقلاني رحمه اللّه،و لم يأخذ مما عند الباقلاني إلا المادة العلمية دون سواها من الحجج المنطقية و المناظرات الكلامية.
قدم المحقق للكتاب بمقدّمة بين فيها نبذة عن حياة الباقلاني باختصار، ثم تكلم عن منهج الباقلاني في التأليف،و دراساته لبيان القرآن و إعجازه، و تطرّق إلى نظريته في الإعجاز،و صار إلى القول بنتيجة عامة هي خلاصة نظريته في الإعجاز التي عرضها الباقلاني في كتبه بصور مختلفة،و هي:
«خروج نظم القرآن عن سائر كلام العرب و نظومهم،و يقول:إن عجز القوم عن معارضته دليل خروجه على نمط كلامهم» (1)و يقول أيضا:«ليس1.
ص: 35
الإعجاز في نفس الحروف،و إنما هو في نظمها و إحكام رصفها،و ليس رصفها أكثر من وجودها متقدمة أو متأخرة،و مترتبة في الوجود،و ليس لها نظم سواها،و هو كتتابع الحركات،و وجود بعضها قبل بعض،و وجود بعضها بعد بعض» (1).
ثم يعقد مبحثا للحديث عن الإعجاز في كتاب«الانتصار»،و يقول:
«تمتاز دراسة الباقلاني للإعجاز في كتاب«الانتصار»بأنها جاءت ضمن دراسته العامة للقرآن،في تاريخه و قراءاته...و يتدرّج في أبواب الكتاب بابا بابا حتى يصل إلى باب(ذكر مطاعنهم على القرآن)،و يتولى فيه الردّ بالتفصيل على الآيات التي طعن عليه فيها من الناحية اللغوية،معتمدا فيما أورده على إثبات صحة الأسلوب القرآني بمقابلته بأساليب العرب الصحيحة البليغة في الشعر و النثر،و تكلم في هذا الباب أيضا عن الحذف و التكرار و الزيادة و المشكل من لغات القرآن مما سبق الكلام فيه و خاصة في«مشكل القرآن»لابن قتيبة» (2).
و يتكلم في ابتداءات السور،و نظمه المعجز،و الدلالة على صحة مفارقة القرآن لكلام العرب،و هو لب نظريته في الإعجاز،و يعقد بابا في البيان،و آخر للحديث عن البراعة كما يعقد بابا للمقارنة بين فنون البيان في القرآن و في كلام العرب،ثم يتكلم عن موسيقى الوزن في نظم القرآن،و كل هذه الأبواب إنما جاءت في«الانتصار»في جزئه الثاني الذي لم يتم تحقيقه في هذه الدراسة،و من أراد الاستزادة منها فليرجع إلى ما لخّصه منها محقق كتاب«النكت».2.
ص: 36
و بعد الحديث عن إعجاز القرآن في كتاب«الانتصار»يفرد بابا للحديث عن الإعجاز عند الباقلاني رحمه اللّه في كتاب«إعجاز القرآن»و يقول واصفا له:
«و هو الدراسة الناضجة لآراء الباقلاني مجتمعة في نظم القرآن،و آراؤه هنا هي آراؤه في كتابيه السابقين،بدأ بتلخيص مجمل لنظرية الإعجاز كما يراها،ثم تناولها بالشرح و التفصيل أثناء الكتاب،و ردّ على الاعتراضات و فنّد حجج المعارضين و المخالفين في فصول الكتاب...».
و بعد المقدمة يأتي عرض المحقق للكتاب ضمن ثمانية و ثلاثين بابا منها ثلاثة عشر بابا هي تلخيص الجزء الأول من الكتاب بينما بقية الأبواب هي تلخيص للجزء الثاني منه،و سنأتي على ذكرها لاحقا إن شاء اللّه تعالى.
بعد الحديث عن كتاب«نكت الانتصار»يتجلى الفرق بين الكتابين، فالباقلاني رحمه اللّه كان هدفه من تأليف هذا الكتاب ابتداء الرد على فرق الضلال و الزيغ التي تطعن في أصل النص القرآني،و تحاول من خلال كثير من الشبه أن تمسّ النص الكريم بما يجعل القارئ في شبهة أو شك،و لذا عقد الأبواب و نصب المناظرات للرد على تلك الشبه و تفنيدها.
و أما كتاب«النكت»فغالبا ما كان يذكر المادة العلمية المتعلقة بعلوم القرآن من ناسخ و منسوخ و أول ما نزل و آخره،و إعجاز القرآن و بيانه،و ما يتعلق به من سائر العلوم و الفنون،دون التعويل كثيرا على رد الشبه و الوقوف عند أقاويل الفرق الضالة حول القرآن؛على أنه كان أحيانا يذكر تلك الأقوال و يفندها و يبين ضعفها و و هاءها،و من الأمثلة على ذلك قوله:
ص: 37
«فإن قيل إن الصحابة كانت تدين بجواز القراءة على المعنى دون اللفظ،و ذلك أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه سئل عن قوله تعالى:
فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ [هود:13]،و قوله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة:23]:في أي سورة هذا و في أي سورة هذا؟،فقال:«ما عليك أ هكذا قرأته أم هكذا»،فإنه خبر ضعيف،و إن صح فمعناه أنه فهم أن السائل سأله عن الآيتين،لأنه يعتقد اختلاف معناهما،فقال له:ما عليك، أي لا خلاف بينهما إن أردت أن تقرأ دون معرفة المعنى و الاحتجاج،فأما أن يكون خبره في القرآن بأنهما سواء فلا يصح» (1).
و قد جاء باب(ذكر مطاعنهم على القرآن)في حوالي ثمانين صفحة في كتاب«النكت»،بينما جاء نفس الباب في كتاب«الانتصار»في مائتي صفحة و خمس صفحات.
و إذا أنعمنا النظر فيما كتب الباقلاني نجده قدّم بين يدي الحديث عن الآيات بحوالي ثلاث صفحات حول قضية ما يثيره المشككون حول الآيات، ثم يبدأ بالحديث عنها تفصيلا،آية آية،مع شيء من الإسهاب،في حين نرى كتاب«النكت»بدأ مباشرة في الحديث عن الآيات دون أن يذكر شيئا مما ذكره كتاب«الانتصار» (2).
على أن كتاب«النكت»حين تحدث عن الآيات تحدث بشكل مختصر اختصارا شديدا،و لا يذكر ما أورده الباقلاني من الاستشهاد بالآيات و الأحاديث و أبيات الشعر و أقوال أرباب اللغة.ا.
ص: 38
و سأذكر لذلك مثالا واحدا حتى لا يطول الحديث في هذا المجال، و ذلك ما جاء من الحديث على قوله تعالى: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ [الأنفال:5].
يقول في«النكت»:«و أما قوله تعالى: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ فإن اللّه تعالى شبّه إخراجه من بيته مع كراهة قوم من المؤمنين،بتنفيله عليه السلام يوم بدر السلب للمقاتلة،و فعل ذلك لقلة المسلمين يومئذ،فكره قوم ذلك كما كرهوا خروجه من بيته» (1).
و أما في«الانتصار»فقد أسهب الباقلاني في الحديث عنها فقال: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ و لم يذكر الشيء الذي شبّهه بإخراج اللّه له من بيته بالحق،و كما أنه يدخل في الكلام لتشبيه الشيء بغيره،و ذلك أن اللّه تعالى شبّه إخراجه له من بيته مع كراهة قوم من المؤمنين لذلك بتنفيله عليه السلام يوم بدر لسلب القاتل،و جعله لمن أتى بأسير كذا و كذا،و إنما فعل ذلك لقلة المسلمين يومئذ و كراهة كثير منهم القتال...فقال اللّه لهم: قُلِ الْأَنْفالُ لِلّهِ وَ الرَّسُولِ أي:يضعها حيث يشاء، فَاتَّقُوا اللّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ أي:فرّقوها بينكم على ما أمر اللّه،ثم قال: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ أي:إنهم كرهوا ذلك كما كرهوا إخراجك يوم أخرجت من بيتك،فحذف و جعل ما تقدم في أول السورة جوابا لهذا الكلام،و اقتصر على دلالة الكلام عليه،و مثل هذا قول الشاعر:
فلا تدفنوني إنّ دفني محرّم عليكم و لكن حافري أم عامر6.
ص: 39
يقول:لا تدفنوني،و لكن دعوني للتي يقال لها إذا صيدت حافري أم عامر يعني:الضبع،لتأكلني،فحذف«دعوني»للعلم باقتضاء الخطاب له» (1).
و الفرق بين الكتابين من خلال ما ذكرت واضح،و البون شاسع،و لا يمكن لقارئ«النكت»وحدها أن يستغني بها عن الكتاب الأم بشموله و اتساعه و بسطه للمسائل،و تسلسله في عرض المسائل بأسلوبه الشيّق الممتع.
و في نهاية كتاب«النكت»يقول الشيخ الإمام أبو عبد اللّه محمد بن عبد اللّه الصيرفي رحمه اللّه:«قد أثبتّ في اختصار هذا الكتاب على ما أدّى إليه الاجتهاد...و اللّه عز و جل أسأل و إليه أرغب في المعافاة من سوء التأويل، و أن يهدينا سواء السبيل،و هو حسبنا و نعم الوكيل...نجز كتاب«الانتصار لنقل القرآن»على جهة الاختصار،و اللّه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، و الحمد للّه رب العالمين».
و في نهاية الكتاب العبارة التالية:«هذه النكت أملاها الشيخ أبو عبد اللّه الصيرفي كما تقدم ذكره،و لما توفي رحمه اللّه رتّبه عبد الجليل بن أبي بكر الصابوني،فالخطبة له و بعض ألفاظ الكتاب».
قد تم في هذه الدراسة تحقيق الجزء الأول من كتاب«الانتصار»، و أبوابه معلومة،و مادته العلمية هي التي بين أيدينا في قسم التحقيق،و الذي أريد بيانه هنا هو ما يشتمل عليه الجزء الثاني من كتاب«الانتصار»،خاصة أننا لم نتمكن من الحصول عليه،و يرى كثير من المحققين أنه مفقود،لم
ص: 40
يعثر عليه بعد،و لم أجد من يدل على أصل مخطوطته أو ينبه إليها،و لعلها تكون مما قد درس و ضاع من تراث هذا العالم الكبير.
و يمكن التعرف على محتويات هذا الجزء من خلال دراستنا لكتاب «نكت الانتصار»،حيث إنه مختصر لكلا الجزءين كما رأينا،و إذا استثنينا الأبواب التي لها نظائر في الجزء الأول من«الانتصار»تكون باقي الأبواب هي محتويات الجزء الثاني،حيث إن صاحب«النكت»راعى إلى حد كبير ترتيب ابواب كلا الجزءين.
و مما يؤكد صحة ما نقول أنه قد ورد في نهاية الجزء الأول عبارة:
انتهت المجلدة الأولى،يتلوه في المجلدة الثانية:باب الكلام على من زعم من الرافضة أن القرآن قد نقص منه و لم يزد فيه شيء،و لا يجوز الزيادة فيه،و باللّه التوفيق (1).
و بذلك تكون أبواب الجزء الثاني من«الانتصار»و موضوعاته هي:
1-باب الكلام على من زعم من الرافضة أن القرآن نقص منه و لم يزد فيه.
2-باب الكلام في الدلالة على أن القرآن معجزة للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم.
3-باب الكلام على صحة مفارقة القرآن لسائر كلام العرب.
4-باب البلاغة.
5-باب الكلام على البيان.
6-باب الرد على من زعم أن القرآن العزيز شعر.
7-باب الكلام على المعتزلة القائلين بأن العرب صرفوا عن معارضته مع قدرتهم على الإتيان بمثله.3.
ص: 41
8-باب فيما روي أنه سمع من النبي صلّى اللّه عليه و سلّم من قوله:«تلك الغرانيق العلى».
9-باب الكلام في جواز نسيان النبي صلّى اللّه عليه و سلّم.
10-باب ذكر أول من جعل القرآن بين اللوحتين،و الدليل على صوابه تواتر الأخبار.
11-باب الكلام في إبطال القراءة على المعنى دون اللفظ.
12-باب الكلام في إبطال جواز القراءة بالفارسية.
13-باب ذكر علل المخالفين و الاعتراض عليها.
14-باب القول في جمع أبي بكر رضي اللّه عنه في المصحف،و في أي شيء كتبه.
15-باب الدليل على أنّ ما فعله أبو بكر رضي اللّه عنه من ذلك صواب.
16-باب جمع عثمان رضي اللّه عنه المصحف و الوجه في ذلك.
17-باب قصة عبد اللّه بن مسعود و ما كان منه في ذلك.
18-باب الكلام على جواز اختيار عثمان زيد بن ثابت دون ابن مسعود.
19-باب ذكر الأدلة على صواب عثمان رضي اللّه عنه في اختياره حرف زيد دون غيره.
20-باب في أي لغة نزل بها القرآن العزيز.
21-باب ذكر الحروف التي اختلفت فيها أهل الشام و أهل المدينة و أهل العراق.
22-باب ذكر ما يتعلق به عن الحجاج بن يوسف في هذا الباب.
23-باب الكلام في حكم قراءة الأئمة السبعة و وجوه اختلافهم.
24-باب ذكر ما يحاولون به الطعن على عثمان رضي اللّه عنه في حظر ما خالفه.
ص: 42
25-باب ذكر اختلاف القراء السبعة،و هل خالف جميعهم أو بعضهم حرف الجماعة أم لا،و ما وجه اختلاف المصاحف.
و الناظر في محتوى الجزء الثاني يجد أنّ فيه تكرارا لما ورد في الجزء الأول،مثل الحديث عن الصرفة،فقد قدّم الحديث عنها،و كذلك قصة الغرانيق،و الحديث عن جميع القرآن،و ما حصل بين عثمان و ابن مسعود، و هو ما يحصل أحيانا للباقلاني،حيث إنه يكرر أحيانا لتأكيد مسألة أو إسهاب الحديث عنها في وقت كان قد تناولها قبله بشيء من الإيجاز.
ص: 43
الحمد للّه المتفضّل بجزيل نعمه على عباده،و الصلاة و السلام على خيرته من خلقه و خاتم رسله و أنبيائه.
أما بعد:فقد منّ اللّه تعالى عليّ بإتمام هذا العمل،فله الحمد و المنة و له الفضل و الثناء الحسن،و من خلاله نقدّم كتاب«الانتصار للقرآن»للإمام الكبير أبي بكر ابن الباقلاّني،دراسة و تحقيقا،فبعد أن كان هذا الكتاب العظيم و السّفر الدفين زمنا لا يرى النور و لا يفيد منه إلا النزر اليسير ها هو- و للّه الحمد-في طريقه ليكون مرجعا ينهل منه العلماء،و يغترفون من بحر هذا العالم ما قد يتعذّر وجوده عند غيره،و يندر من أوفى جانب الانتصار لصحة نقل القرآن كما وفّاه هذا المصنّف البحر و الكاتب الثّر رحمه اللّه تعالى.
و قد جاء هذا العمل في جانبين:جانب الدراسة و جانب التحقيق،و قد تحقّق للباحث من خلالهما أنّ كتاب«الانتصار»كتاب غنيّ بالموضوعات الهامة في الدفاع عن القرآن و تأصيل علومه و قد خرج الباحث في نهاية هذه الصلة من الدرس و البحث إلى النتائج و التوصيات التالية:
و قد خلصت هذه الدراسة إلى النتائج التالية:
1-الإمام الباقلاني إمام مجتهد مجدّد،مكثر في شتى علوم الشريعة،تأليفا و أصالة و تعليما،و هو مجتهد مجدّد في مذهب الإمام أبي الحسن
ص: 44
الأشعري،و له مدرسته المستقلة في ذلك؛كان أشعريا لكنه لم يكن متعصّبا،و إنما هو صاحب مذهب وسط،و توفيق بين النصوص، متكلم سنّيّ دافع عن القرآن بكل ما أوتي من حجة و بيان.
2-الإمام الباقلاّني صاحب طريقة فريدة في إفحام الخصم،له حجة منطقية قوية في إثبات الحق،مكثر في الحجج النقلية و العقلية،و علمه أصيل من فكره و إملائه قلّ أن ينقل عن غيره.
3-كتاب«الانتصار»لا مجال للشك أنه من تأليف الإمام الباقلاّني،بل هو أوسع التركات العلمية له مما وصل إلينا،و هو أساس للدراسات القرآنية،أفاد منها من جاء بعده من العلماء سواء في مجال علوم القرآن أم في الدفاع عنه و ردّ الشبهات.
4-و يعدّ«الانتصار»للإمام الباقلاّني من أوسع و أهم كتب الاحتجاج للقرآن،و مناقشاته غنية ثرية،و حججه منطقية،و أدلته دامغة للخصم، موضحة للحق.
5-كتاب«نكت الانتصار للقرآن»الذي لخّصه الصيرفي هو اختصار لكلا الجزءين،لكنه لا يعطي صورة كاملة عن محتويات الكتاب،و لا يستغني قارئ«النكت»عن أصل كتاب«الانتصار».
توصي هذه الدراسة بما يلي:
1-الإمام الباقلاني من أعلام الأمة و مدرسته عظيمة،لذا يوصي الباحث بتشكيل لجنة علمية للاهتمام بآثار هذا العالم و تحقيقها حتى ترى النور و يفيد منها العلماء.
ص: 45
2-كتاب«الانتصار للقرآن»على درجة كبيرة من السبك اللغوي و الدقة البيانية،و هو نموذج بلاغيّ ناضج،و أسلوبه من السهل الممتنع،لذا يوصي الباحث أن يتناول المختصّون فصوله بالدراسة و التحليل في كليات الآداب و الشريعة.
3-يوصي الباحث بإعادة تحقيق كتاب«نكت الانتصار»تحقيقا علميا أكثر دقة مما هو عليه الآن.
4-كما يوصي الباحث أن تتم دراسة وافية حول المدرسة الأشعرية كما يراها الباقلاني مدرسة تدافع عن العقيدة و تذبّ عن حياضها و تقف في وجه أهل الزيغ و الضلال من معتزلة و رافضة و باطنية غيرهم،و أن تعطى حقّها مدرسة سنية عظيمة حملت لواء الإسلام زمنا طويلا و دافعت عنه دفاعا مريرا،و هي العقيدة التي يدين بها جماهير أهل العلم سلفا و خلفا.
5-و أخيرا،يوصي الباحث باستمرارية البحث عن الجزء الثاني من كتاب «الانتصار»،و خاصة في المكتبات الخاصة التي ترجع ملكيتها إلى بعض الأفراد و العائلات،و خاصة في تركيا و بلاد المغرب العربي،فهي مظنة وجود مثل هذه الكتب.
هذا و نسأله سبحانه أن يجعل عملنا هذا مقبولا خالصا لوجهه الكريم، إنه وليّ ذلك و القادر عليه،و الحمد للّه ربّ العالمين،و صلى اللّه و سلّم بارك على نبيه الأمين،سيّدنا محمّد و على آله و صحبه أجمعين.
ص: 46
ص: 47
ص: 48
ص: 49
ص: 50
النصّ المحقّق لكتاب «الانتصار للقرآن»
ص: 51
ص: 52
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد للّه ذي القدرة و الجلال و العزّ و السّلطان و الطّول و الامتنان منزل الفرقان،و الناسخ بما أودعه من البيان و تفصيل الحلال و الحرام ما سلف من الشرائع و الأحكام،و الضامن للرسول عليه السلام حفظه و حراسته من الناس أهل الكفر و البهتان و مطاعن ذي الجهل و الشّنآن،فقال جلّ ثناؤه: إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر:9]،و قال سبحانه: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ [القيامة:17]،و قال فيه تعالى: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42].و جعله مهيمنا على الكتب،و قال عز و جل:
اَلْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً [الكهف:1]،و جعله بما فيه من عجيب نظمه و جزالة لفظه و بديع وصفه و خروجه عن جميع أوزان كلام العرب و نظومه،آية لرسوله و دلالة قاهرة و حجة ظاهرة لنبوته،و فطر الخلق على القصور عن مقابلته (1)،و بالغ في تعريفهم بالعجز عن معارضة
ص: 53
سورة من مثله،و حسم بعظيم بلاغته و أنواع فصاحته أطماع الملحدين و المنحرفين في تكلّف نظيره و التمكن من الإتيان بشبهه و عديله،و أخبر أنّه ليس من بحار كلام المخلوقين و لا شبه ما أضافوه إليه من أساطير الأولين و تلفيق المتكلمين و نمط كلام الشعراء و المترسلين،فقال عز و جل في نص التلاوة: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ [هود:13]،ثم قال تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة:23]،ثم قال جل و عز: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء:88]، و قال سبحانه: وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ [الزخرف:44]،يقول إنه لشرف لك و لقومك،و قال تعالى: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل:103].
ثم نبّه تبارك/و تعالى إلى أن مجيء القرآن من مثله خرق للعادة و نقض لما عليه تركيب الطبيعة مع علم القوم بنشوه و تصرفه في ظعنه و مقامه،فقال جل اسمه: وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَرْتابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت:48]،و قال عز و جل: وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران:44]،و قال تعالى: وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَ ما كُنْتَ مِنَ الشّاهِدِينَ(44) وَ لكِنّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَ ما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ [القصص:44-45]،و قال عز و جل في قصة نوح: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود:
49]،فنبّه و نصّ و بيّن في نفس التلاوة على أنه إنما علم ذلك و تلقاه من قبل وحيه إليه به،ثم أمر بالرجوع عند التنازع إليه،و الاقتباس منه،و العمل بموجبه،و المصير إلى محكمه،و التسليم لمتشابهه علما منه بأنه تعالى
ص: 54
متولي (1)لحفظه و حياطته،و عرّفنا أنه ما فرّط فيه من شيء،و أنه تبيان لكل شيء،فقال عز و جل: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَ الرَّسُولِ [النساء:59]، أي إلى كتاب اللّه عز و جل و سنة رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم،و قال جل ثناؤه: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد:24]،و قال تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38]،و قال جل ذكره: تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89]، و قال سبحانه: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]،في نظائر لهذه الآيات أخبر فيها عن حفظه لكتابه و حراسته،و الأمر بالرجوع إليه و العمل عليه،و تشريفه على سائر الكتب،و شدة تعظيمه له،و أنه محوط مصون من كيد الزائغين و تحريف المبطلين،فالحمد للّه الذي هدانا بنور كتابه و أرشدنا لتصديقه و وفقنا لاتباع متضمنه،و التمسك بمعالمه/و النقض لمطامع القادحين في تنزيله،و الكشف عن شبه الملحدين في تأويله،و صلى اللّه على رسوله محمد القائم بما كلّفه من أدائه،و المناصح المجتهد فيما نصب له من كشف غامضه و تبيانه،و على السلف الصالح من أوليائه الذين جعلهم شهداء على عباده و خلفاء نبيّه و ورثة علمه و حفاظ كتابه،و الذابين عن دينه،و الدّاعين إلى سبيله،و القائمين بحقه،و الحافظين لعهده،و إيّاه جلّ ثناؤه نسأل،و إليه نرغب في التوفيق،لما ألزمناه من موالاتهم، و الاقتداء لآثارهم،و سلوك سبيلهم،و المضي على نهجهم،و يجنبنا الغضّ من أقدارهم،و الطعن على أماناتهم و آرائهم.).
ص: 55
أما بعد:
فقد وقفت-تولى اللّه عصمتكم،و أحسن هدايتكم و توفيقكم-على ما ذكرتموه من شدة حاجتكم إلى الكلام في نقل القرآن،و إقامة البرهان على استفاضة أمره و إحاطة السلف بعلمه،و انقطاع العذر في نقله و قيام الحجة على الخلق به،و إبطال ما يدعيه أهل الضلال،من تحريفه و تغييره و دخول الخلل فيه،و ذهاب شيء كثير منه،و زيادة أمور فيه،و ما يدّعيه أهل الإلحاد و شيعتهم من منتحلي الإسلام،من تناقض كثير منه،و خلوّ بعضه من الفائدة،و كونه غير متناسب،و ما ذكروه من فساد النظم،و دخول اللحن فيه،و ركاكة التكرار،و قلة البيان،و تأخّر المقدم،و تقديم المؤخر،إلى غير ذلك من وجوه مطاعنهم،و ذكر جمل مما روي من الحروف الزائدة، و القراءات المخالفة لمصحف الجماعة،و الإبانة عن و هاء نقل ذلك و ضعفه،و أن الحجة لم تقم بشيء منه،و عرفت ما وصفتموه من كثرة استطراد الضعفاء بتمويههم/و عظم موقع الاستبصار و الانتفاع ببعض شبههم،و نحن بحول اللّه و عونه نأتي في ذلك بجمل تزيل الريب و الشبهة، و توقف على الواضحة،و نبدأ بالكلام في نقل القرآن و قيام الحجة به، و وصف توفّر همم الأمة على نقله و حياطته،ثم نذكر ابتداء أبي بكر رضي اللّه عنه لجمعه على ما أنزل عليه بعد تفرقه في المواضع التي كتب فيها، و في صدور خلق حفظوا جميعه،و خلق لم يحيطوا بحفظ جميعه،و اتباع عمر رضي اللّه عنه و الجماعة له على ذلك،و صوابه فيما صنعه،و سبقه إلى الفضيلة به،و السبب الموجب لذلك،ثم نذكر جمع عثمان رضي اللّه عنه الناس على مصحف واحد،و حرف زيد بن ثابت،و نبين أنه لم يقصد في ذلك قصد أبي بكر في جمع القرآن في صحيفة واحدة على ترتيب ما أوحي
ص: 56
به،إذ كان ذلك أمرا قد استقر و فرغ منه قبل أيامه،و نبين صواب عثمان رضي اللّه عنه في جمع الناس على حرف واحد،و حظره و منعه لما عداه من القراءات،و إنّ الواجب على كافة الناس اتباعه،و حرام عليهم بعده قراءة القرآن بالأحرف و القراءات التي حظرها عثمان و منع منها،و أنّ له أخذ المصاحف المخالفة لمصحفه،و مطالبة الناس بها،و منعهم من نشرها و النظر فيها،و نذكر ما يتعلق به من ادعاء نقصان القرآن و تغيير نظمه و تحريفه من الروايات الشاذة الباطلة عن عمر و عثمان و علي و أبيّ و عبد اللّه بن مسعود،و ما يرويه قوم من الرافضة في ذلك عن أهل البيت خاصة،و نكشف عن كذب هذه الروايات،و نبين أيضا ما خالف عبد اللّه بن مسعود عثمان و الجماعة،و هل دار ذلك على جهة التخطئة/و نسبته إيّاهم إلى زيادة فيه أو نقصان منه أو تغيير لنظمه و ما أنزل عليه،أو التصويب لما فعلوه،و إن استجاز بعد ذلك قرآنه و التمسك بحرفه،و نذكر ما شجر بينه و بين عثمان رضي اللّه عنه،و نصف رجوعه إلى مذهب الجماعة و خنوعه لعثمان و قدر ما نقمه من أمر زيد بن ثابت و عنّف عليه و على الجماعة لأجله،ثم نبين أن القرآن معجزة للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم و دلالة على صدقه،و شاهد لنبوته،ثم نبين أن القرآن نزل على سبعة أحرف كلها شاف كاف،و نوضح ما هذه السبعة أحرف، و الروايات الواردة فيها و جنس اختلافها،و نذكر خلاف الناس في تأويلها، و نفصّل من ذلك ما ليس بصواب،و ندل على صحة ما نرغب فيه و نجتبيه، و نذكر حال قراءات القراء السبعة،و هل قراءاتهم هي السبعة أحرف التي أنزل القرآن بها،أو بعضها و هل هم بأسرهم متبعون لمصحف عثمان و حرف زيد أو مختلفون في ذلك و قارئون أو بعضهم بغير قراءة الجماعة،و نصف جملا من مطاعن الملحدين و أتباعهم من الرافضة في كتاب اللّه عز و جل،
ص: 57
و نكشف عن تمويه الفريقين بما يوضح الحق،و نذكر في كل فصل من هذه الفصول بمشيئة اللّه و توفيقه ما فيه بلاغ للمهتدين و شفاء و تبصرة للمسترشدين توخّيا لطاعة اللّه و توفيقه عز و جل و رغبة في جزيل ثوابه،و ما توفيقنا إلا باللّه و هو المستعان.
ص: 58
و اعلموا رحمكم اللّه أن معرفة صواب القول في هذه الفصول و الأبواب مما تعم الحاجة إليه،إذ كان أصل الدين و أسّه،و كان مما شهد الكتاب ببطلانه وجب إلغاؤه/و اطّراحه،و ما أيده و دلّ على صحته لزم الإذعان له و إثباته،و لأن بالمتكلمين و الفقهاء و قراء القرآن و أهل التفسير و المعاني ألم فاقة إلى الوقوف على حقيقة القول في هذه الفصول و معرفة الصواب منها، لكثرة تخاليط أهل الضلال فيها،و قصدهم إلى إدخال الشّبهة و التمويه بما يوردونه منها،و ذهاب كثير من حفاظ التنزيل و المتكلمين في التأويل عن تحقق معرفتها،و حاجة الكل إلى تبين الحق من ذلك و العلم به،و المصير إلى موجبه.
و قد رأيت أن نبدأ بذكر جمل ما نذهب إليه في نقل القرآن و نظمه، و قيام الحجة به،و ما يقوله المخالفون،ثم نشرع في ذلك حجاجنا و نقض أقاويل مخالفينا و عللهم،و الذي نذهب إليه في ذلك،القول بأن جميع القرآن الذي أنزله اللّه عز و جل و أمرنا بإثبات رسمه،و لم ينسخه و يرفع تلاوته بعد نزوله،هو هذا الذي بين الدفتين،الذي حواه مصحف عثمان رضي اللّه عنه،و أنّه لم ينقص منه شيء،و لا زيد فيه،و أن بيان الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم كان بجميعه بيانا شائعا ذائعا،و واقعا على طريقة واحدة،و وجه تقوم به الحجة،و ينقطع العذر،و أن الخلف نقله عن السلف على هذه السبيل،و أنه قد نسخ منه بعض ما كانت تلاوته مفروضة،و أن ترتيبه و نظمه ثابت على ما نظمه اللّه سبحانه،و رتبه عليه رسوله من آي السور،لم يقدّم من ذلك
ص: 59
مؤخرا،و لا أخّر منه مقدما،و أن الأمة ضبطت على النبي صلّى اللّه عليه و سلّم ترتيب آي كل سورة و مواضعها،و عرفت مواقعها،كما ضبطت عنه نفس القرآن و ذات التلاوة،و أنه قد يمكن أن يكون الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم قد رتب سوره على ما انطوى عليه مصحف عثمان،كما رتب آيات سوره،و يمكن أن يكون قد و كل ذلك إلى الأمة بعده،و لم يتولّ ذلك بنفسه صلّى اللّه عليه و سلّم،و أن هذا/القول الثاني أقرب و أشبه أن يكون حقا على ما سنبينه فيما بعد إن شاء اللّه.
و أن القرآن لم تثبت آية على تاريخ نزوله،بل قد قدّم فيه ما تأخر إنزاله،و أخّر بعض ما تقدم نزوله على ما وقف عليه الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم من ذلك، و أن القرآن منزل على سبعة أحرف كلّها شاف كاف و حقّ و صواب،و أن اللّه تعالى قد خيّر القراء في جميعها،و صوّبهم إذا قرءوا بكل شيء منها،كما روي ذلك في الآيات التي سنقصّها،و نبين قيام الحجة بنقلها،و ظهور أمرها و انتشارها.
و أن هذه الأحرف السبعة المختلف معانيها تارة و ألفاظها أخرى مع اتفاق المعنى،ليس منها متضاد و لا متنافي المعنى و لا أحاله،و فساد يمتنع على اللّه جلّ ثناؤه،و أنه لم يقم علينا حجة في أنها مجتمعة في سورة واحدة من القرآن،بل هي متفرقة فيه،و أننا لا ندري أيها كان آخر العرض،و أن آخر العرض كان بعضها دون سائرها،و أن جميع هذه الأحرف السبعة قد كانت ظهرت و استفاضت عن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم و ضبطتها الأمة عنه،و لم يكن شيء منها مشكوكا فيه،و لا مرتابا به،و أن عثمان و الجماعة قد أثبتت جميع تلك الأحرف في المصاحف،و أخبرت بصحتها،و خبّرت الناس فيها،كما صنع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،و أن من هذه الأحرف حرف أبيّ،و حرف عبد اللّه بن مسعود،و أن عثمان و الجماعة إنما ألغت و طرحت أحرفا،و قرأت أحرفا غير
ص: 60
معروفة و لا ثابتة،بل منقولة عن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم نقل الآحاد التي لا يجوز إثبات قرآن و قراءات بها.
و أن معنى إضافة كل حرف مما أنزله اللّه عز و جل إلى أبيّ،و عبد اللّه، و زيد،و فلان و فلان،أنه كان أضيف إليه إذا أكثر قراءة و إقراء به،و ملازمة له و ميلا إليه،فقط لا غير،و أنه لا يجوز إثبات قرآن أو قراءة/و حرف يقال إن القرآن أنزل عليه بخبر الواحد الذي لم تقم به الحجة،على أن يثبت ذلك به حكما؛لا علما و قطعا،لما سنوضحه-إن شاء اللّه-.
و أن الحجة لم تقم علينا بأن القرآن منزل بلغة قريش فقط دون جميع العرب،و إن كان معظمه منزلا بلغة قريش.
و أن بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [النمل:30]،قرآن منزل من سورة النمل،و أنها ليست آية من الحمد و لا فاتحة لكل سورة (1)،و لا من جملة كل سورة،و لا آية فاصلة بين السورتين،و مفردة من جميعها.
و أن المعوذتين قرآن منزل من عند اللّه تبارك و تعالى،و أن استفاضة نقلهما و إثباتهما عن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم بمنزلة استفاضة جميع سور القرآن،و أن عبد اللّه بن مسعود لم يقل قط إنهما ليستا بقرآن،و لا حفظ عليه في ذلك حرف واحد،و إنما حكّهما و أسقطهما من مصحفه لعلل و تأويلات سنذكرها فيما بعد إن شاء اللّه،و أنه لا يجوز أن يضاف إلى عبد اللّه أو أبيّ بن كعب أو زيد أو عثمان أو علي أو واحد من ولده و عترته جحد آية أو حرف من كتاب اللّه عز و جل،أو تغييره و قراءته على غير الوجه المرسوم في مصحف).
ص: 61
الجماعة بأخبار الآحاد و ما لم يبلغ منها حدّ التواتر و الانتشار،و أن ذلك لا يحلّ و لا يسع بل لا يصلح عندنا إضافة ذلك إلى أدنى المؤمنين منزلة من أهل عصرنا بخبر الواحد،و ما لا يوجب العلم،فضلا عن إضافة ذلك إلى جلة الصحابة و الأماثل،و تعليقه عليهم بما دون التواتر و الانتشار من الأخبار التي لم تقم الحجة بأنه قرآن منزل،بل هو ضرب من الدعاء،و أنه لو كان قرآنا لنقل نقل القرآن،و حصل العلم بصحته،و أنه يمكن أن يكون منه كلاما كان قرآنا منزلا ثم نسخ و أبيح الدعاء/به و خلط بكلام ليس بقرآن.
و أنّ أبيّا لم يحفظ عليه قط أنه قال:إن كلام العرب قرآن منزل،و إنما روي انه أثبته في مصحفه،و قد يثبت في مصحفه ما ليس بقرآن؛من دعاء و تأويل مع تنزيل،و غير ذلك لوجوه من التأويل سنبينها فيما بعد إن شاء اللّه.
و أن أبيّا و عبد اللّه بن مسعود لم يطعنا قط على مصحف عثمان و الجماعة،و لا نسباه إلى أن فيه تحريفا أو تغييرا و تبديلا،و زيادة و نقصانا، أو مخالفة نظم و ترتيب،بل اعتقدا صحته،و أخبرا بسلامته،و إن رأيا جواز القراءة بجميع ما انطوى عليه مصحفهما،من غير قدح في مصحف الجماعة.
و أن عبد اللّه بن أبي سرح و غيره من كتبة الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم قد يجوز أن تسبق يده و قلمه و لسانه إلى تلاوة آية و كلمة و آيتين مما نزل على الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم من إظهار الرسول لذلك،إذا كان ما تقدم من إملائه يقتضي ما تسبق إليه يد الكاتب و لسانه،و أنه لم يجز أن يتفق مثل ذلك في السورة بأسرها،و ما هو معجز و آية للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم و أن موافقة الكاتب و سبقه إلى مثل هذا يجعل الحدس و صحيح العلم بما يقتضيه الكلام لا يوجب الشك في صدق الرسول،و الارتياب بنبوته،و القول بأنه يثبت القرآن برأيه،فكما يتفق له
ص: 62
على ما روي من أن ابن أبي سرح ظن ذلك و توهمه،فإن ما روي من أنه (1)سمع من النبي صلّى اللّه عليه و سلّم من قوله:«تلك الغرانيق العلى و إن شفاعتهم لترتجى غير مقطوع على أنه مسموع منه (2)،و أنه و إن كان مسموعا منه فإنه يجب أن يكون كلامه على وجه التقريع لهم و التفنيد لرأيهم،و اعتقادهم في أصنامهم،و أنه لا يمكن على قول بعض الناس أن يكون قد كان قرآنا منزلا ثم نسخ لموضع الشبهة به،و ذهاب قريش و قوم من الناس عن أنه إنما تنزل على وجه الاستفهام لهم،و التعجب من قولهم،و أنه قد يمكن أيضا أن يكون بعض قريش قال ذلك عقيب تلاوة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم على وجه التعظيم للأصنام فاختلط/الكلام،و ظن من سمعه و لم يعرف الحال أنه من تلاوة).
ص: 63
الرسول،و أنه لا يجوز أن يكون النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال ذلك ساهيا و لا ناسيا،سوى كان من كلامه أو ممّا أنزل عليه و نسخ،كما سنوضحه إن شاء اللّه.
و إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يجوز منه و يصح أن ينسى شيئا من القرآن بعد تبليغه،و سيذكّره و يستثبته من حفاظ أمته،و أنه يجوز أن يسهو عن بعض عباداته التي أمر بها،و يوقعها على غير الوجه الذي أخذ عليه،مثل ما كان منه من السهو في الصلاة،و أن ذلك أجمع غير قادح في نبوته و لا مقتضي الارتياب به،و لا حاطّ له عن رتبة الفضل و الكمال.
و أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم سنّ جمع القرآن و كتابته و أمر بذلك و أملاه على كتبته،و أنه لم يمت صلّى اللّه عليه و سلّم حتى حفظ جميع القرآن جماعة من أصحابه،و حفظ الباقون منهم سائره متفرّقا،و عرفوا مواقعه و مواضعه على وجه ما يعرف ذلك أحد ممّن ليس من الحفّاظ لجميع القرآن.
و أن أبا بكر و عمر و زيد بن ثابت و جماعة الأمة أصابوا في جمع القرآن بين اللوحين،و تحصينه و إحرازه و صيانته،و جروا في كتبته على سنن الرسول و سنّته صلّى اللّه عليه و سلّم تسليما،و أنهم لم يثبتوا منه شيئا غير معروف،و لا ما تقم الحجة به،و لا أجمعوا في العلم بصحة شيء منه و ثبوته إلى شهادة الواحد و الاثنين و من جرى مجراهما،و إن كانوا قد أشهدوا على النسخة التي جمعوها على وجه الاحتياط من الغلط،و طريق الحكم و الإنفاذ.
و أن أبا بكر رضي اللّه عنه قد أحسن و أصاب،و وفّق لفضل عظيم في جمع/الناس على مصحف واحد و قراءات محصورة،و المنع في غير ذلك، و أن عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه و عترته،و شيعته متبعون لرأي أبي بكر و عثمان،في جمع القرآن،و أن عليا أخبر بصواب ذلك نطقا،و شهد به،
ص: 64
و أن عثمان لم يقصد قصد أبي بكر في جمع نفس القرآن بين لوحين،و إنما قصد جمعهم على القراءات الثابتة المعروضة على الرسول،و إلغاء ما لم يجر مجرى ذلك،و أخذهم بمصحف عثمان لا تقديم فيه و لا تأخير،و لا تأويل أثبت مع تنزيل،و منسوخ تلاوته كتب مع مثبت رسمه،و مفروض قراءته و حفظه،و تسليم ما في أيدي الناس من ذلك،لما فيه من التخليط و الفساد،و خشية دخول الشبهة على من يأتي من بعد،و أنه لم يسقط شيئا من القراءات الثابتة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و لا منع منها،و حظرها.
و أن جميع من روي عنه من الصحابة قول في تغيير القرآن أو فساد نظمه،أو ذهاب شيء منه،أو كون بعضه ملحونا أو أن إعرابه و تقويمه مأخوذ من بعض الأمة،فإن صحت الرواية إمّا أن تكون باطلة متكذبة،أو منصرفة،أو لما سنذكره و نبينه من التأويل الذي لا يعود بجحده أو بشكه في شيء مما في مصحف الجماعة.
و أنه لا مجال لإعمال الرأي و القياس في إثبات قرآن،أو قراءة و حرف يقرأ القرآن عليه،و أن ذلك الجمع سنة متبعة و رواية مأثورة،و أن هذا هو باب إثبات القرآن و القراءات و طريقه الذي لا مصرف عنه و لا معدل،و أن/ من أعمل الرأي في ذلك فقد ضلّ و أخطأ الحق،و تنكّبه.
و أن القراء السبع متبعون في جميع قراءاتهم الثابتة عنهم،التي لا شكوك فيها و لا أنكرت عليهم بل سوّغها المسلمون،و أجازوها لمصحف الجماعة، و قارئون بما أنزل اللّه جل ثناؤه،و أن ما عدا ذلك مقطوع على إبطاله و فساده و ممنوع من إطلاقه و القراءة به،و أنه لا يجوز و لا يسوغ القراءة على المعنى دون اتّباع لفظ التنزيل،و إيراده على وجهه،و سببه الذي أنزل عليه،و أداه الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم.
ص: 65
و أنه لا يمكن أن يكون الحجّاج بن يوسف (1)أو غيره من الأمراء،أو من الملوك أو من الخلفاء قد أسقط شيئا من مصحف عثمان رضي اللّه عنه أو زاد فيه أحرفا،أو غيّر شيئا مما تضمنه من قراءة أو خط أو رسم،فلم يظهر و لم ينتشر انتشارا تقوم به الحجة و ينقطع به العذر،و يعرف بعينه،و يضاف إلى فاعله.
و أنه لا يجوز لأحد أن يقرأ القرآن بخلاف جميع الأحرف و الوجوه التي أنزل عليها،و إن كان ما قرأه لغة للعرب،أو لبعضها،و أنه ليس في المتكلمين بلغة العرب من لا يطوع لسانه و يجري ببعض الأحرف و الوجوه التي أنزل القرآن عليها،و أنّه لا يجوز القراءة بالفارسية،و أنه يجوز و يحل للألثغ (2)و الألكن (2)و التمتام (2)أن يقرأ القرآن على وجه ما ينطق به لسانه، و إن كنا نعلم أن اللّه جل ثناؤه لم ينزله بلفظ الألكن و التمتام.
و أن القرآن آية للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم و معجز شاهد بصدقه،دالّ على نبوته من ثلاثة أوجه:
أحدها:ما فيه من عجيب النظم،و بديع الوزن و الرصف المخالف لجميع أوزان العرب و نظومه،و أنه لا قدرة لأحد من الخلق على تأليف مثله،و نظم مثل سورة منه،أو آية من طوال سوره أو من قصار سوره،و لو كان في فصاحة يعرب و قحطان و معد بن عدنان.ق.
ص: 66
و الوجه الآخر ما تضمنه من أخبار/الغيوب،و ذكر ما سيحدث و يكون.
و الوجه الثالث:ما انطوى عليه من شرح أقاصيص الأولين و سنن النبيين،و أحوال الأمم المتقدمين التي لا يعرفها و لا يحيط بها إلا من أكثر لقاء الأمم،و دراسة الكتب،و صحبة الأحبار و حملة الآثار،مع العلم بنشوء النبي صلّى اللّه عليه و سلّم في مقامه و ظعنه،و أنه لم يكن يتلو قبل ذلك كتابا و لا يخط بيمينه،و لا ممن يعرف مداخلة أهل السّير و ملابسات أصحاب الآثار و حفاظ الكتب و الأخبار.
هذه جمل ما نحتاج إلى الوقوف عليه من قولنا في هذه الفصول و الأبواب،و قد قال الملحدون و أشياعهم من الطاعنين على النبوة و التوحيد أن القرآن مدخول،و أنه غير ثابت و لا مضبوط،و أن منه ما يعلم أن محمدا صلّى اللّه عليه و سلّم يأتي به،و فيه ما لا يعرف ذلك من حاله،و أن فيه لحنا و تناقضا و فسادا كثيرا،و ما لا معنى له،و لا يحسن التكلم به،و تعلقوا في ذلك بأمور سنذكر عمدها،و نأتي على نقضها و الكشف عن فسادها.
و زعم قوم من الرافضة أن القرآن قد بدّل و غيّر و خولف بين نظمه و ترتيبه،و أحيل عما أنزل إليه،و قرئ على وجه غير ثابت عن الرسول، و أنه قد زيد فيه و نقص منه،و قال بعضهم:قد نقص منه و لم يزد فيه،و أن لو قرئ كما أنزل لوجد فيه لعن قوم من قريش و صحابة الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم بأسمائهم و أنسابهم،و لوجد فيه أسماء الأئمة الاثني عشر منصوصا عليها، كما نص على ذكر الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم و غيره من الأنبياء.
و أننا لا ندري لعل الذي في أيدينا من القرآن أقلّ من عشر ما أنزله اللّه تبارك و تعالى،و أن الداجن و الغنم قد أكل كثيرا مما كان أنزل و أوجب على الامة حفظه و ضبطه،و أن علم ذلك و معرفته عند الإمام الوافر المعصوم،
ص: 67
و أن أبا بكر و عمر رضي اللّه عنهما و جماعة الأمة/أخطئوا في جمع القرآن و جعله بين لوحين،و أنهم لم يرجعوا في ذلك إلى ثقة و يقين،بل إنما تلقطوه و أخذوه من الواحد و الاثنين،و من الرقاع و اللخاف،و استشهدوا على ذلك الواحد و الاثنين و من لا تقوم الحجة بقوله و شهادته،و أن هذا هو سبب اختلاف المصاحف و القراءات،و ذهاب أهل الحجاز إلى حرف، و أهل الشام إلى غيره،و أهل العراق إلى خلاف ذلك.
و يحكى أن قوما قالوا:إن القرآن موجود الذات غير مزيد فيه و لا منقوص منه،و لا متلو على غير الوجوه و الحروف التي أنزل عليها،غير أن نظمه و ترتيبه ليس على ما أنزل و رتب،فنفس القرآن صحيح ثابت،و تأليفه و نظمه هو الفاسد،و لأجل فساد نظمه اختلف الناس في الناسخ منه و المنسوخ،و المجمل المفسّر،و العام و الخاص،قالوا:و لو قد وضع كلّ شيء منه في موضعه و ضمّ إلى ما قرن به،لعرفت معانيه،و زال الاختلاف فيه،لأنه منزل بلسان العرب،و بأفصح لغة،و أبين لسان منها،فمن أين يأتيه الرّيب و الاختلاف لو رتّب على سنته و نظم على وجهه؟! قالوا:إلا أن أبا بكر و عثمان رضي اللّه عنهما و الجماعة قد أصابوا في جمعه على ما هو اليوم عليه،لأن ذلك كان جهد رأيهم و غاية وسعهم و طاقتهم،و منتهى ما عندهم من الحزم و الاحتياط،لأن القرآن لم يكن محفوظا على تاريخ نزوله و ترتيبه فيثبته القوم كذلك،و إنما كان متفرقا في الجماعة،و محفوظا لهم على حسب طاقتهم و ما ييسر لهم،فلم يمكنهم مع ذلك غير الذي صنعوه،فقد أصابوا فيما حاطوه من دخول خلل تحريف أكثر مما لحقه و دخل فيه،و كان الرأي معهم،و الصواب في أيديهم حيث حاطوه و حصنوه من تزايد الغلط فيه و إيجاد السبيل إلى الإلباس فيه،و هذا القول
ص: 68
ليس بمحفوظ عن أحد من السلف،و لا من التابعين،و لا من الفقهاء المعدودين،و لا من أئمة أهل القرآن و الحديث،بل مذهب جميع من ذكرناه صدّ هذا القول و نقضه،و أن/القوم اتبعوا في نظمه و ترتيبه ما سنّ و شرع فيه،و حفظ من ضبط عن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم.
و قال خلق من المعتزلة و شذوذ من ضعفة القرّاء و المنتسبين إلى الحديث،لا يعرف لهم في ذلك مصنف و لا ناصر مذكور يرجع إليه:إن عثمان جمع الناس على بعض الأحرف التي أنزلها اللّه تعالى و منع من باقيها و حظر،لما حدث من الاختلاف و الفتن،و كثرة التشاجر بين قرّاء القرآن، و أنه وفق في ذلك و رفق به و أقام الحق،لأن الذي جمعهم عليه كان الغرض، و قال منهم قائلون:إنه لم يحظر ما خالف حرفه و لا منع منه،و لكن استنزل الناس عنه بطيب القلوب و كثرة الترغيب في حرفه،و تنبيهه لهم على أنه أحوط الأمور و أولاها،فانقادوا له مذعنين،و رغبوا عن ما عدا حرفه، فضعف لذلك و وهى نقله و زالت الحجة به لا عن إكراه وقع في الأصل.
و قال قوم من الفقهاء و المتكلّمين:يجوز إثبات قرآن و قراءة حكما لا علما بخبر الواحد دون الاستفاضة،و كره ذلك أهل الحق و امتنعوا منه،و قال قوم من المتكلمين إنه يسوغ إعمال الرأي و الاجتهاد في إثبات القرآن و أوجه و أحرف إذا كانت تلك الأوجه صوابا في اللغة العربية و مما يسوغ التكلّم بها، و لم تقم حجة بأن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قرأ تلك المواضع بخلاف موجب رأي القائسين، و اجتهاد المجتهدين،و أبا ذلك أهل الحق و أنكروه،و خطئوا من قال بذلك و صار إليه،و احتجوا على فساده بما سنوضحه فيما بعد إن شاء اللّه.
و هذه جملة ما يجب الوقوف عليه،و سنأتي منه عند تفصيل الكلام و ترتيب الأبواب ما يأتي على البقية إن شاء اللّه.
ص: 69
ص: 70
قال جميع من دان بما وصفناه/في مصحف عثمان رحمة اللّه عليه:إننا وجدنا الأمة مختلفة في نقله اختلافا شديدا بشيعا،حتى صرنا لعظيم اختلافهم لا نقف على صحيحه من فاسده،و لا نعرف الزائد منه و لا الناقص،و لا نعرف موضع كلّ شيء منه الذي أنزل فيه و ما قبله و ما يليه،و قال قوم منهم:
إنه لا يعرف الناقص منه إلا الإمام الذي أودع علمه و شيغته،و هذا قول من أنكر الزيادة فيه و أقر بنقصانه؛قالوا:لأن أبا بكر و شيعته هم الذين تولّوا نظمه و ترتيبه و جعله سورا أو كثير منه و قدّموا منه المؤخّر،و أخّروا المقدّم، و وضعوا كثيرا منه في غير حقه،و أزالوه عن موضعه الذي هو أولى به، قالوا:و الحجة لذلك أنه قد علم أن المصحف الذي في أيدي الناس إنما هو مصحف عثمان الذي جمعه،و جمع بعضه من قبله أبو بكر و عمر،و إنما كانوا يجمعونه-زعموا-و يتبينونه بشهادة اثنين إذا شهدا على أنه قرآن، و خبر الاثنين و شهادتهما لا توجب علما و لا تقطع عذرا.
قالوا:و قد قامت الأدلة القاطعة على نقصانه و فساد كثير من نظمه،و كونه غير متناسب و لا متلائم؛قالوا:و ما نجده من اختلاف القراء السبعة،و أصحاب الشواذّ،و ما روي و ظهر من اختلاف سلفهم لزيد بن ثابت،و عبد اللّه بن مسعود،و أبيّ،و ما خرجوا إليه من المنافرة و المشاجرة و إعظام القول،
ص: 71
و إدخال بعضهم في القرآن ما ليس منه،كأبيّ و إدخاله دعاء القنوت في مصحفه،و عبد اللّه بن مسعود و إلغائه الحمد و المعوذتين من مصحفه، و إنكاره أن يكون من القرآن:أوضح دليل على ضعف نقل القرآن و و هائه، و أن الحجة غير قائمة به و أن القوم إنما جمعوه و رتبوه على آرائهم/و ما استصوبوه بغالب ظنهم و اجتهادهم،و أنهم يقدّموا (1)بذلك بين يدي منزله الحكيم العليم،و أن القراء مثل عبد اللّه بن مسعود و أبيّ و زيد بن ثابت و من أخذ عنهم إلى القراء السبعة إنما قرءوا القرآن بحسب اجتهادهم و ما قوي في ظنهم،و ما استحسنوه و رأوا أنه أولى و أشبه من غيره،فلذلك صار أهل مكة إلى قراءة،و أهل الكوفة إلى أخرى و أهل البصرة إلى غيرها،و أهل الشام إلى خلاف ما عليه سواهم من أهل الأمصار.
قال أهل الإلحاد:فكل هذا يدل على اضطراب نقل القرآن و ضعفه و أن الحجة غير قائمة به،و إن أحسن أحواله أنه لا يعرف ما أتى به محمد صلى اللّه عليه و سلّم منه،و أيّه على ما أتي به من غيره،و لا يوقف على صحيحه من فاسده، و ناقصه من زائده،و موضعه الذي أنزل فيه من غيره.
و قال كثير من الشيعة إن الأمر في هذا أجمع على ما قاله الملحدون، غير أننا نعلم أن علم ذلك أجمع عند الإمام المعصوم العالم المنتظر،و أنه حافظ له على سبيل ما نزل،و أنه يجب الرجوع إليه في معرفة هذا الباب؛ و قال فريق من الرافضة:إن جميع هذه المطاعن على القرآن و الصحابة صحيحة،إلا ما ادّعي من الزيادة في القرآن فإنه لا أصل لذلك،و أنه لا يمكن أن يزاد فيه شيء من مجازه و نظمه،قالوا جميعا:و إنما تورّط سلفن.
ص: 72
هذه الأمة و خلفها في هذا الجهل و الاختلاف و الحيرة و التضييع لمّا قهروا و تآمروا و تجبّروا و غصبوا الإمام حقه و أزالوه عن رتبته،و خالفوا و نقضوا عهد الرسول صلى اللّه عليه و سلّم إليهم،و لو قد كانوا ردّوا الأمر إلى أهله و أقرّوه في نصابه و سلّموه لمستحقّه و وقفوا حيث رتبوا،و أخذوا علم ما كلفوا من بابه و معدنه و عظّموا من أمروا بتعظيمه و الرجوع إليه و الاقتباس منه:لاجتمعت/كلمتهم، و زال اختلافهم،و وصلوا إلى الحق الذي أمروا به و سلموا من(تضليل) (1)الإمام و الوقوع في الجهل و الضلال،فيقال لهم:أما ادعاؤكم أن علة تورّط الناس فيما وصفتم مخالفتهم الإمام المعصوم المنصوص لهم على إمامته و وجوب اتباعه و أخذ الدين عنه و الانقياد له،فإنه باطل لا أصل له؛لما قد أوضحناه و بيناه في كتابي«الإمامة» (2)من بطلان النصّ و ثبوت الاختيار، و إطباق الأمة من السلف على العمل بذلك و تسليمهم الأمر إلى من عقد له جهة الاختيار،و أن هذه الجملة مذهب أمير المؤمنين علي عليه السلام و دينه و الظاهر المشهور عنه في أفعاله و أقواله من حيث لا سبيل إلى دفعه و إنكاره.
و أما ادّعاؤكم لتخطئة الخلف و السلف في نقل القرآن،و تضييعه و إهمال أمره و ذهابهم عن علم صحيحه من فاسده،و عملهم في ترتيبه و نظمه و الحرف الذي يقرأ به على آرائهم و ظنونهم من غير عمل على توقيف و خبر، و لا حفظ لرواية و أثر،فليس الأمر في ذلك على ما ادعيتم و لا مما يذهب تخليطكم فيه على ذي تحصيل،و أن الصّدر الأول ثم من بعدهم من التابعين و جميع المسلمين و قادتهم و حكّامهم و فقهائهم في سائر الأعصار كانوا علىف.
ص: 73
حالة معروفة من تعظيم شأن القرآن و إجلاله،و عظم محلّه من قلوبهم، و قدره في نفوسهم،و التقرّب إلى اللّه عز و جل بتعلّمه و تعليمه،و تحصيل أعظم الثواب و الشرف بحفظه،و اعتقاد انحطاط كل عالم عن رتبة الكمال بالتقصير في حفظ جميعه،و تدبر مواقعه و مواضعه،إلى غير ذلك من كثرة فضائله عند كافّة المسلمين في كلّ وقت و أوان،متّبع عند كل عاقل عرفهم و عرف حال/القرآن في نفوسهم،و حثّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم و حضه على تعليمه و التحذير من تضييعه و نسيانه،و تغليط الأمر في ذلك.من أن يظن بهم التشاغل عن ضبطه و التفريط في حفظه،و قلة الاحتفال به،و إثبات حفظ غيره،و العدول عنه إلى سواه.
و كيف يتفق ذلك لهم أو يمكن في العادة وقوعه منهم و القرآن عندهم كتاب ربهم،و أسّ شريعتهم،و ينبوع علومهم،و مجموع فضيلتهم، و المحتوي على أحكامهم و تفصيل دينهم،و هو مفزعهم و معقلهم،و القاضي عليهم و الفاصل بينهم،و مدار أمرهم و قطب دينهم،الذي لا شيء عندهم أعظم منه شأنا،و لا أحق بالحياطة و الحفظ و التحصين من كل سبب يوهنه، و كيف لا يكون ذلك كذلك عندهم و قد سمعوا اللّه جلّ ثناؤه يقول: وَ مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللّهِ [الشورى:10]،و يقول تعالى فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَ الرَّسُولِ [النساء:59]،و يقول سبحانه: تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89]، و ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ [الأنعام:38]،و يقول تعالى: بَيانٌ لِلنّاسِ [آل عمران:
138]،و يقول جلّ و عزّ: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد:
24]،و يقول جلّ اسمه: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]،و إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]، و يقول جلّ ثناؤه: وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82]،
ص: 74
و يقول تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ... الآية[الحشر:21]،و يقول تعالى ذكره: وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً [الرعد:31]، و يقول: حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ [القمر:5]،و يقول سبحانه: وَ ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللّهِ [يونس:37]،و يقول: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ [المائدة:48]،فكيف يمكن أن يتفق من مثل الصدر الأول مع شدّة تبيّنهم و تشدّدهم و تبسّطهم و تمسّكهم بالواجب عليهم،و بذلهم أموالهم و أنفسهم في نصرة دينهم، و الجهاد عن نبيّهم،و قتل الآباء و الأبناء في طاعته،و فرض الاتّباع له،أن يغفلوا عن حفظ كتاب اللّه و ضبطه،مع ما قد سمعوه من تعظيم اللّه سبحانه لشأن كتابه و إجلاله،و الأمر بالرد إليه و الإذعان لحكمه،و هم قد علموا مع ذلك أنّه أسّ دينهم،و أصل شريعتهم،و أنّ الصحيح ما نطق بصحته و الباطل ما أفصح بفساده.
و هم مع هذه الحالة التي ذكرناها من حياطة الدين،و بذل النّفوس و الأموال،و مفارقة الأوطان في نصرة الرسول،من ذرابة الألسن،و جودة القرائح،و ثاقب الأفهام،و سهولة الحفظ عليهم،و لصوق الكلام بقلوبهم، على حال لم يكن عليها أحد قبلهم،و لا ساواهم فيها أحد بعدهم،فإذا لم يكن بهم من قلّة الدين و التهاون بأمر رب العالمين،و شأن رسوله صلى اللّه عليه و سلّم ما يحملهم على ترك الإحفال بالقرآن،و التصغير لشأنه،و لم يكونوا من سوء الإفهام و جلافة الطباع،و قلة الحفظ و تعدد الكلام،و العيّ و اللّكنة،بحيث يصدّهم ذلك عن حفظ كتاب ربّهم،و مدار شريعتهم،فأيّ سبب يقتضي جواز توافي هممهم و دواعيهم على ترك تحفّظ القرآن و ضبطه،و التشاغل
ص: 75
بغيره عنه،و قد علم بمستقر العادة أنّه لا يجوز أن يذهب أهل كلّ علم انتصبوا له،و قالوا بتعظيمه و تفضيله،و رأوا الشرف في حفظه،و النقص التامّ بالذهاب عنه،و عن حفظ أشرف باب فيه،و ضبط أعلى ضرب من ضروبه، و لا يجوز أن يتفق منهم-على كثرة عددهم-ترك حفظ كلام من هو أصل ذلك العلم و منبعه و الرجوع إليه فيه و التشاغل بغيره.
هذه قصة الشعراء و الخطباء/و أصحاب الرسائل و علم العربية و طلب علم العروض،و الأطبّاء و الفلاسفة،و أهل كل علم و صناعة،بها يصونونه و عليها يعوّلون،في أنّه لا يجوز عليهم التهاون بحفظ ما عظم قدره عندهم، و الاشتغال بما دونه،و لا حفظ كلام الجاهل عندهم و العدول عن حفظ قول العالم المبرّز،فإذا كان ذلك كذلك و كان شأن المسلمين في التديّن و التمسك بالشريعة ما وصفناه،و حال القرآن عندهم و في نفوسهم،و قدره في دينهم ما ذكرناه كان ذلك مانعا من ذهابهم عن حفظهم له،و توافي هممهم على إهمال أمره،و التشاغل بغيره.
و كلّ ما وصفناه من حالهم و حال القرآن من نفوسهم من أدلّ الأمور على جهل من ظنّ بهم احتقاره و تضييعه و الاشتغال بغيره عنه،و أنّ الغنم و الداجن أكل كثيرا منه لم يكن له أصل و لا نسخة عند غير من أكل من عنده،و أنّه لم يكن المكتوب في المصحف مما أكل و مما لم يؤكل محفوظا في صدور كثير من الأمّة بأسره،و متفرقا عند آخرين منهم،فإنّه لو ظنّ ظانّ أن الغنم و الداجن أكل كثيرا من كتاب إقليدس (1)،أو«المجسطي»2.
ص: 76
لبطليموس (1)،الذي كان عند علمائهم و أصول هذا العلم منهم،فضاع و درس لكان جاهلا غبيّا أو متجاهلا،و كذلك لو توهّم متوهّم أنّ نصف(قفا نبك) (2)،(و ألا هبّي) (3)،و ثلثي شعر الأعشى و النابغة (4)،و شطر كتاب سيبويه،و ثلثي كتاب«الأم»للشافعي و معظم موطّأ مالك قد ضاع و ذهب و أكلته الغنم و الدواجن من عند كل عالم بهذا الباب،و أنّه لم يكن بقي منه إلا نسخة واحدة عند رجل واحد،و لم يكن حفظ تلك النسخة عند غيره بعد أن استفاض ذلك العلم و انتشر،و سمع من قائله و حفظ و دوّن لكان من الجهل و التخلف و الذهاب عن معرفة عادات الناس في حفظ هذه الأبواب من العلوم بمحل من لا يستحق الكلام.
إذا كان ذلك كذلك و كانت الصحابة أشدّ في دينها/من كل أحد،و في حياطته و حراسته من جميع من ذكرنا و كانوا قد مكثوا نيفا و عشرين سنة ينزل فيهم القرآن على النبيّ صلى اللّه عليه و سلّم و يسمعونه منه و يتلقّونه عنه،و يعملون بمحكمه، و يسألون عن متشابهه و غامضه،و يتّعظون بمواعظه،و يصيرون إلى موجبه، و يعرفون أسبابه و الأحوال التي نزل عليها،و هو آية نبيهم و أعظم حجة له،).
ص: 77
و قد عرفوا تحدّي النبي صلى اللّه عليه و سلّم للعرب أن تأتي بمثله مجتمعين و متفرقين،و أنّه أعجزهم و أفحمهم،و كان شجىّ في حلوقهم،و أنّهم تشتّتت آراؤهم و اختلفت أقوالهم لمّا تحدّوا أن يأتوا بمثله،و منهم من كتبه مصحفا و دوّنه كأبيّ و عبد اللّه بن مسعود و عليّ بن أبي طالب على ما ترويه الشيعة و غيرهم:
لم يجز على الصدر الأول و من بعدهم-مع أنّ حالهم ما وصفناه،و حال القرآن عندهم ما نزلناه و رتّبناه-أن يهملوا أمر القرآن و يتشاغلوا عن حفظه، و يقصّروا عن واجبه،أو يغيّروا شيئا من نظمه،أو يضعوا مكان كلّ شيء منه غيره،و أن يتساهلوا في ذلك و هم قد ضيّق عليهم هذا الباب،و أخذوا بتلاوته و إقرائه على ما لقّنوه و تلقّوه،و شدّد عليهم الأمر في هذا الباب.
فمن ظن أنه لم يكن القرآن يوم أكل الداجن بعضه إن صح هذا الخبر عند أحد من الأمة،و لا في صدره،و لا عند أكثرهم عددا،حتى ذهب و سقط منه شيء كثير عند كثير،فليس هو عندنا بمحل من يكلّم،و لا ينتفع بكلام مثله،لأنه بمثابة من لا يعرف الضرورات،و ما عليه الفطر و العادات، و هو إذا كان ذلك أبعد عن معرفة ما يحتاج فيه إلى لطيف بحث و استخراج، و كيف لا يكون حال الأمة في أمر حفظ القرآن و القيام به و بتحصينه و حياطته و المحافظة على درسه و تأمّله و تعلّمه و تعليمه،التقديم له على كل مهم ماسّ من أمر دينه،مع الذي وصفناه ممّا ورد في نفس التنزيل المحفوظ من تعظيم شأن القرآن،و الأمر بتدبره و الرجوع إليه،و العمل عليه،مع كثرة ما سمعوه من الرسول صلى اللّه عليه و سلّم في الحض على تعلّمه/و تعليمه و الأمر بالتفقه به،و الحث على حراسته،و الإكثار من تلاوته،و ضمانه الثواب الجزيل على قراءة كل حرف منه،و تفضيل أهل القرآن على سائر الناس،و التعظيم لشأنهم و الإخبار عن رفيع درجتهم عند اللّه،و ما أعده لهم،إلى غير ذلك مما قد
ص: 78
تظاهرت الأخبار بذكره،و علم في الجملة ضرورة من دين النبي صلى اللّه عليه و سلّم الأمر به و الدعاء إليه،و التفخيم لشأن القرآن و إجلال حملته نحو قوله صلى اللّه عليه و سلّم:«إنّ هذا القرآن مأدبة اللّه» (1)،و«خيركم من تعلّم القرآن و علّمه» (2)،و«ليؤمّكم أقرؤكم لكتاب اللّه» (3).
فلقد أخرجهم تكرر سماع هذه الأقاويل من النبي صلى اللّه عليه و سلّم إلى إكثار وصيّة بعضهم لبعض بحفظ القرآن و تعلّمه و تعليمه،و المحافظة عليه،و التحذير من تضييعه حتى روي عنهم في ذلك أمر عظيم يطول تتبعه و اقتصاصه، و كيف يظنّ بالأمّة التي حالها ما ذكرناه تضييعها لوصية النبي صلى اللّه عليه و سلّم،و توافي هممها على العدول عن حفظ القرآن على وجه ينفي عنه الخلل و التضييع، لو لا الجهل و قلة الدين.
و قد روى أنس بن مالك قال:قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم:«للّه من خلقه أهلون،فقيل:من هم يا رسول اللّه؟قال:أهل القرآن،هم أهل اللّه و خاصّته» (4)،و روى أنس بن مالك قال:قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم:«من قرأ مائة آية كتب من القانتين،و من قرأ مائتي آية لم يكتب من الغافلين،و من قرأ).
ص: 79
ثلاثمائة آية لم يحاجّه القرآن» (1)،و روى الضحّاك (2)عن عبد اللّه بن عباس قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«أشرف أمتي حملة القرآن و أصحاب اللّيل» (3)، و روي بهذا الإسناد أيضا عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أنّه قال:«ثلاثة لا يكترثون بالحساب، و لا تفزعهم الصيحة،و لا يحزنهم الفزع الأكبر:حامل القرآن،المؤدّي إلى اللّه بما فيه،يقدم على ربّه سيّدا شريفا حتى يرافق المرسلين،و مؤذّن أذّن سبع سنين لا يأخذ/على أذانه طعما،و عبد مملوك أحسن عبادة ربّه و نصح لسيّدة،أو قال:لمواليه» (4).
و روت عائشة زوج النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قالت:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«قراءة القرآن في صلاة أفضل من قراءة القرآن في غير صلاة،و قراءة القرآن أفضل من التسبيح و التكبير،و التسبيح و التكبير أفضل من الصدقة،و الصدقة أفضل من الصوم،و الصوم جنّة من النار» (5)،و هذا تفضيل من النبي صلّى اللّه عليه و سلّم لقراءة القرآن على سائر أعمال البر.
و روى عبد اللّه بن مسعود عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أنه قال:«كان الكتاب الأول نزل من باب واحد على حرف واحد،و نزل القرآن من سبعة أبواب و على سبعة أحرف؛زاجر و آمر،و حلال و حرام،و محكم و متشابه،و أمثال،).
ص: 80
فأحلّوا حلاله،و حرّموا حرامه،و اعملوا ما أمرتم به،و انتهوا عما نهيتم، و اعتبروا بأمثاله،و اعملوا بمحكمه،و آمنوا بمتشابهه،و قولوا:آمنا به كلّ من عند ربّنا» (1)،و في هذا الخبر من الحثّ على حفظه و الأمر بالنزول عند حكمه و القطع على موجبه ما لا خفاء به على أحد.
و روى عاصم بن ضمرة (2)عن عليّ قال:«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«من قرأ القرآن ظاهرا أدخله اللّه الجنة مع عشرة من أهل بيته،كلّهم قد استوجبوا النار» (3)،و روى أبو الدرداء (4)قال:سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقرأ: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا... [فاطر:32]إلى آخر الآية،فقال:«أما).
ص: 81
السّابق فيدخل الجنة بغير حساب،و أما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا ثم يدخل الجنة بفضل رحمة اللّه،و أما الظالم لنفسه فأولئك يوقفون يوم القيامة موقفا كريها حتى ينال منهم،ثم يظلّهم اللّه برحمته،فهم الذين قالوا:
اَلْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:34]» (1)،و في هذا الخبر من التعظيم لشأن حافظ القرآن و حسن منقلبه و إن كان/ظالما لنفسه ما لا خفاء فيه.
و روى الناس أنّ عمر بن الخطاب تلا هذه الآية: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا إلى آخرها ثم قال:«سابقكم سابق،و مقتصدكم ناج،و ظالمكم مغفور له» (2)،و روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كان يقول:«ألا إنّ أصفر البيوت من الخير بيت صفر من كتاب اللّه،و الذي نفس محمد بيده إنّ الشيطان ليخرج من البيت أن يسمع سورة البقرة تقرأ» (3)،و روى ابن عمر عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أنّه قال:«لا حسد إلا في اثنين:رجل آتاه اللّه مالا فهو ينفق منه آناء الليل و آناء النهار و رجل آتاه اللّه القرآن فهو يقوم به آناء الليل و آناء النهار» (4)،و هذا حثّ و ترغيب شديد على حفظ القرآن و القيام به.ه.
ص: 82
و روى عبد اللّه بن مسعود عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أنه قال:«إن هذا القرآن مأدبة اللّه،فتعلّموا من مأدبة اللّه ما استطعتم،إنّ هذا القرآن حبل اللّه،و هو النور النيّر،و الشفاء النافع،عصمة اللّه لمن تمسّك به،و نجاة لمن تبعه،لا يعوجّ فيقوّم،و لا يزيغ فيستعتب،و لا تنقضي عجائبه،و لا يخلق عن كثرة الردّ فاتلوه،فإنّ اللّه يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات،أما إني لا أقول الم حرف،و لكن ألف عشر،و لام عشر،و ميم عشر» (1)،و هذا غاية الحثّ على حفظ القرآن و التعظيم لشأنه.
و روى أنس بن مالك قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«القرآن شافع و مشفّع، و ما حل (2)مصدّق،و من شفع له القرآن يوم القيامة نجا،و من محل به القرآن كبّه اللّه يوم القيامة على وجهه في النار» (3)،و أحق من شفع فيه القرآن أهله و حملته،و أولى من محل به من عدل عنه و ضيّعه،و الصحابة أجلّ قدرا و موضعا من أن يتفق لسائرهم الدخول في هذه الصفة و النقيصة.
و روت عائشة أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«إن الذي يتعاهد القرآن و يشتد عليه له أجران،و الذي يقرأه/إنّي و هو خفيف عليه من السفرة الكرام البررة» (4).».
ص: 83
و روى عقبة بن عامر (1)قال:خرج علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و نحن في الصف فقال:«أيكم يحب أن يغدو إلى بطحان (2)و العقيق (3)،و يأتي كل يوم بناقتين حمراوتين زهراوين يأخذهما من غير إثم باللّه و لا قطع رحم؟ قالوا:كلنا يا رسول اللّه يحب ذلك،قال رسول اللّه:فلأن يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم آيتين من كتاب اللّه خير له من ناقتين،و ثلاث خير من ثلاث،و أربع خير من أربع،و من أداد من الإبل» (4).
و روى أبو عبد الرحمن السّلمي (5)،عن عثمان بن عفان قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«أفضلكم من تعلّم القرآن و علّمه» (6).».
ص: 84
و روى إسماعيل بن عيّاش (1)قال:سمعت أبا أمامة الباهلي (2)يقول:
سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول:«من علم رجلا آية من كتاب اللّه فهو مولاه،لا يخذله و لا يستأثر عنه» (3).
ثم يأمرهم صلّى اللّه عليه و سلّم بتعليمه للّه و طلب مرضاته فقط،و يحرم أخذ الأجر عليه،فروى ضمرة بن حبيب (4)عن زيد بن ثابت،أن رجلا كان يعلّمه أتاه بقوس،فقال:هي في سبيل اللّه،فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«قوس من نار، تقلّدها أو دعها» (5)،فردّها إليه.و هذا غاية الوعيد.
ثم لا يقنع يحثّهم على حفظ القرآن و تعلّمه حتى يأمرهم بالتنغّم به، و بحسن تلاوته،فروي من غير طريق أنه صلّى اللّه عليه و سلّم قال لأسيد بن الحضير (6):«لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود» (7)،يريد حسن صوته بالقرآن.و روىه»
ص: 85
أبو هريرة أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم دخل المسجد فسمع قراءة رجل فقال:«من هذا؟» فقيل:عبد اللّه بن قيس (1)،فقال:«لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود»،في كثير من الروايات،و روى أيضا أبو هريرة و غيره عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أنه سئل عن أحسن الناس صوتا بالقرآن،فقال عليه السلام:«الذي إذا سمعته /رأيته يخشى اللّه»،و في خبر آخر:أيّ الناس أحسن قراءة؟فقال:«الذي سمعته و أريته يخشى اللّه» (2).
ثم إنه بالغ في زجرهم عن نسيان ما حفظ من القرآن و تضييعه،و ضيّق الأمر فيه و شدده،و كرر القول في ذلك تكرارا يردع من به أدنى مسكة في الدين عن مخالفته،فضلا عن الصحابة الجلة عليهم السلام،و روى أنس بن مالك عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أنه قال:«عرضت عليّ أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد،و عرضت عليّ ذنوبهم،فلم أر منها ذنبا أعظم من رجل تعلم آية أو سورة من كتاب اللّه ثم نسيها» (3).و هذا تحذير و تشديد من تضييعه.ي.
ص: 86
و روى سلمان الفارسي (1)عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أنه قال:«من أكبر ذنب يوافى به أمتي يوم القيامة سورة من كتاب اللّه كانت مع أحدهم فنسيها» (2)،و هذا كالأول.
و روى سعد بن عبادة (3)قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«ما من أحد تعلم القرآن ثم نسيه إلا لقي اللّه أجذم» (4).
و روى عبد اللّه بن مسعود عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أنه قال:«بئس ما لأحدكم أن يقول:نسيت آية كيت و كيت،بل هو نسّى،استذكروا القرآن فإنه أسرع تفلّتا من قلوب الرجال،من الإبل من عقلها» (5)،و في رواية أخرى عن موسى بن».
ص: 87
أبي علي بن رباح (1)،عن أبيه قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:تعلّموا كتاب اللّه، و تعاهدوه،و تغنّوا به،فو الذي نفس محمد بيده لهو أشدّ تفلّتا من المخاض من العقل» (2)،و هذا غاية الوعيد و التحذير من نسيانه.
و روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أنه قال:«تعلّموا القرآن و سلوا اللّه به قبل أن يتعلمه قوم يسلون به الدنيا،فإنّ القرآن يتعلمه ثلاثة نفر:رجل يباهي به،و رجل يستأكل به،و رجل يقرؤه للّه عز و جل» (3).و في رواية أخرى أنه قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«اقرءوا القرآن قبل أن يجيء قوم يقيمونه كما يقام القدح،يتعجّلون أجره و لا يتأجلون» (4)،و يتبع ما روي عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم/في هذا الباب كثير جدا،و في بعض ما ذكرناه كفاية فيما قصدناه.
فمن ظنّ أن الصحابة مع ما وصفناه من حالهم،و فضل دينهم و شدة حرصهم و قوة دواعيهم على حفظ الدين و النصيحة للمسلمين،أنهم يضيّعون ما وجب عليهم من حفظه و يهملون أمره،و يحرّفونه عن مواضعه،و يتلونهه.
ص: 88
على غير وجه ما أمروا به،و هم يسمعون هذه الأقاويل و أضعافها مما أضربنا عن ذكره من الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم،و يسمعون من تعظيم اللّه لشأنه،و يقدمون على مخالفة اللّه و رسوله:فقد أعظم الفرية عليهم،و بالغ في ثلبهم،و فارق بما صار إليه من ذلك مذهب العقلاء،و جحد العادة التي ذكرناها الموجبة لحفظ القرآن و شدة الاعتناء بتحصيله و حياطته،و لقد روي عن الصحابة رضي اللّه عنهم و من بعدهم من التابعين في حثّ بعضهم لبعض على حفظ القرآن و تلاوته،و العمل بموجبه و الإعظام لشأنه ما يطول ذكره و اقتصاصه.
فروى حسّان بن عطية (1)قال:قال أبو الدرداء:«لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يعرف القراءات و وجوهها» (2)،و روى الحكم بن هشام الثقفي (3)عن عبد الملك بن عمير (4)قال:كان يقال:أنقى الناس عقولا قرّاء القرآن» (5)، و قال عطاء بن يسار (6):«بلغني أن حملة القرآن عرفاء أهل الجنة» (7)،و روى).
ص: 89
سالم بن أبي الجعد (1)عن معاذ (2)قال:«من قرأ في ليلة ثلاثمائة آية كتب من القانتين،و من قرأ ألف آية كان له قنطار من بر؛القنطار منه أفضل مما على الأرض من شيء» (3).
و روى حطّان بن عبد اللّه الرقاشي (4)عن السّدوسي (5)قال:«قدم علينا جندب بن عبد اللّه (6)البصرة،فلما أراد أن يخرج شيّعناه و قلنا له:أوصنا يا صاحب رسول اللّه،فقال:من استطاع منكم أن يجعل لا في بطنه إلا طيّبا فليفعل؛فإنه أول ما ينتن من الإنسان،و من استطاع منكم أن لا يحول بينه و بين الجنة ملء كفّ من دم امرئ مسلم يهريقه/كأنما يذبح به دجاجة،لا يأتي بابا من أبواب الجنة إلا حال بينه و بينه:فليفعل،و عليكم بالقرآن فإنه).
ص: 90
هدى النهار و نور الليل المظلم،فاعملوا به على ما كان من جهد (1)و فاقة، فإن عرض بلاء فقدّموا أموالكم دون دمائكم،فإن تجاوزها البلاء فقدّموا دمائكم دون دينكم،فإن المحروب من حرب دينه،و إنّ المسلوب من سلب دينه،إنه لا فقر بعد الجنّة،و لا غنى بعد النار،و إن النار لا يفكّ أسيرها، و لا يستغني فقيرها،و السلام عليكم و رحمة اللّه» (2).
فكيف يعدل قوم هذه صفتهم و حالهم عن حفظ كتاب ربّهم،و تضييع ما وجب عليهم؟و قال أبو هريرة:«نعم الشفيع القرآن»،قال شعبة (3)؛و هو راوي الحديث عنه:«نعم،و أحسبه قال:يقول يوم القيامة:يا ربّ حلّه، فيلبسه تاج الكرامة،ثم يقول:يا ربّ زده،فيكسى حلّة الكرامة،فيقول:يا ربّ ارض عنه،فإنه ليس بعد رضاك شيء،قال:فيرضى عنه» (4)،و قد روي مثل هذا عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم من طريق آخر ذكر فيه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«إن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة كالرجل الشاحب،فيقول له:هل تعرفني؟ فيقول له:ما أعرفك،فيقول له:أنا صاحبك،القرآن الذي أظمأتك في الهواجر،و أسهرت ليلك،إنّ كل تاجر من وراء تجارته،و إني اليوم منة.
ص: 91
وراء كل تجارة،قال:فيعطى الملك بيمينه،و الخلد بشماله،و يوضع على رأسه تاج الوقار،و يكسى والداه حلّتين لا يقوم لهما أهل الدنيا،فيقولان:بما كسينا هذا؟فيقال لهما:بأخذ ولدكما القرآن،ثم يقال له:اقرأ و اصعد في درج الجنة و غرفها،فهو في صعود ما دام يقرأ؛حدرا هدرا أو ترتيلا» (1).
و كيف يصحّ أن يتفق الأمة جميعا[على] (2)تضييع كتاب اللّه و هم قد سمعوا من النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أمثال هذه الأقاويل و هذا التفخيم لشأن القرآن و حملته من التعظيم،و المراد بذكر القرآن في هذا الخبر.و فيما يروى من قوله:
«البقرة و آل عمران يأتيان/يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان يظلاّن صاحبهما» (3).و نحو ذلك:أي ثواب القرآن يأتي كذلك،و كذلك ثواب القرآن هو الذي يقول:يا رب،و يتصوّر في تلك الصورة،لأنّ الثواب فعل مخلوق،و ليس كذلك القرآن،نعنى كلام الرّبّ جل و عز لا القراءة التي في مقابلتها الثواب،و يمكن أن يبعث اللّه ملكا يتصوّر للمؤمن الحامل لكتاب اللّه في تلك الصورة ليسكّن روعه،و يزيل خوفه،و يسميه قرآنا على معنى أن كلامه و تسكينه من ثواب قراءة القرآن،و كذلك يخلق اللّه تعالى جسمين عظيمين يوم القيامة،يبشّران قارئ القرآن،على معنى أن بشراهما من ثواب).
ص: 92
قراءة البقرة و آل عمران،فلا معنى لرد ما ورد من نحو هذه الأخبار من تعظيم شأن حملة القرآن من طريق ثبتت إذا احتملت من التأويل ما وصفناه، قال عبد اللّه بن عمر:«من قرأ القرآن فقد اضطربت النبوة بين جنبيه،فلا ينبغي لصاحب القرآن أن يلعب مع من يلعب،و لا يرفث مع من يرفث،و لا يتبطّل مع من يتبطّل،و لا يجهل مع من يجهل» (1)،و هذا تعظيم منه لشأن القرآن و أهله بيّن شديد.
و لما قدم أهل اليمن أيام أبي بكر سمعوا القرآن فجعلوا يبكون،فقال أبو بكر:«هكذا كنّا ثم قست القلوب» (2)،يعني بذلك أن قلوب كثير من أهل ذلك العصر قست،دونه و دون الأئمّة و من جرى مجراهم من جلّة الصحابة، و قد يمكن أن يكون ذلك على وجه العظة و طلب الزيادة و الخشوع (3).
و قد روى الناس أن عمر بن الخطّاب قرأ مرة: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ(7) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ [الطور:7-8]،قال:فرنّ لها رنة عيد منها عشرين يوما،فكيف يضيّع كتاب اللّه من هذا تأمّله له و اتعاظه به،و انتفاعه بقراءته و استماعه.
و كان ابن عمر إذا صلى يترنّح و يتمايل حتى لو رآه راء ممن يجهله لقال:أصيب الرجل،و ذلك لذكر النار إذا مرّ بقوله: وَ إِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً [الفرقان:13].).
ص: 93
و لو قصد بالتقصّي جميع ما روي عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و عن الصحابة و التابعين، و أئمة المسلمين من فضائل/القرآن و قراءته،و ما خصّ اللّه به أهله،لأخرجنا كثرة ما روي فيه عن غرض الكتاب،و إنما ذكرنا هذه الجمل في فضائل قراءة القرآن و حملته و الاتعاظ به،و إيجاب الرجوع إليه،و التعلّق به،ليعلم متأمّل الحال في ذلك أن من صريح عادات الناس في حفظ القرآن و ما قصر عن رتبته من أصول الشرع بخلاف ما تدّعيه الشيعة من اضطراب نقله،و ذهاب أهل الإسلام عن صحيحه من فاسده،و سليمه و سقيمه،و زائده من ناقصه، و أنّ مثل هذا الاضطراب إذا لم يجز أن يقع في أشعار الشعراء،و خطب الخطباء،و رسائل البلغاء،و الأمثال السائرة،و سائر الأمور التي بالناس إلى علمها حاجة مما ظهر أمره و اشتهر،و قد بيّنا أن ظهور القرآن فوق ظهور جميع هذه الامور،و أن بالناس إلى معرفة جميعه و ترتيب نظمه و الإحاطة به و معرفة لبابه و مخارجه:أتمّ فاقة و أشدّ حاجة،و إذا كان ذلك كذلك ثبت بطلان ما يدّعونه من اضطراب نقل القرآن،و ذهاب الناس عن علم صحيحه من سقيمه،و إمكان دخول الشبهة فيه و الزيادة عليه و النقصان منه.
[فصل]دليل آخر:و مما يدل أيضا على أن القرآن المرسوم في مصاحفنا هو جميع كتاب اللّه الذي أنزله على رسوله،و فوّض حفظه و اثباته و الرجوع إليه،نقل جميع السلف و الخلف الكثير من بعدهم الذين ببعضهم تثبت الحجة و ينقطع العذر أنّ هذا القرآن الذي في أيدينا هو جميع كتاب اللّه الذي أنزله و أمر بحفظه و إثباته و الرجوع إليه،و قد علم أن التشاجر و التراسل و اتّفاق الكذب متعذر ممتنع على مثلهم،فوجب لذلك العلم بصحة ما نقلوه،و سقوط كل رواية جاءت من جهة الآحاد بخلاف ذلك عن بعض الصحابة و التابعين،و ما يجوز أن يروى من ذلك و يفتعل و يتكذّب في
ص: 94
المستقبل،لأن نقل ما ذكرناه أوجب لنا علم الضرورة بصحة ما نقلوه، و انتفاء السهو/و الإغفال و الكذب و الافتعال عنهم لما هم عليه من كثرة العدد و اختلاف الطبائع و الأسباب و الهمم.
و لو ساغ لمدعي (1)أن يدّعي أنّ القرآن قد نقص منه لأجل ما روي عن عمر و عبد اللّه بن مسعود في المعوذتين و غيرهما،أو زيد فيه ما ليس منه لأجل ما روي عن أبيّ من إثباته القنوت في مصحفه،أو لأنه لا يدري أن القرآن الذي في مصاحفنا زائد أو ناقص،أو على ترتيب ما أنزل أم لا، لأجل ما روي عن الآحاد من الزيادة فيه أو النقصان منه،و لأجل ما روي من اختلاف مصاحف الصحابة،و بجعل ذلك ذريعة إلى دفع النقل الظاهر المشهور:لساغ لآخر أن يدّعي أنه لا يدري أن هذا المصحف الذي في أيدينا هو مصحف عثمان على وجهه و نظمه و تأليفه،أو قد زيد فيه و نقص منه،أو نقطع على أنه مغيّر و مبدّل عما كان اجتمع عليه عثمان و الجماعة في وقته،و إن كان هذا المصحف قد نقل عن عثمان نقلا متواترا مستفيضا، لأجل ما يرويه و يظنه كثير من الناس-و من الشيعة خاصة-من أن الحجّاج بن يوسف قد غيّر المصحف الذي هو إمام عثمان و زاد فيه أحد عشر حرفا، و نقص منه،و أخذ مصاحف أهل العراق و نشر فيهم ما كان غيّره و زاده و نقصه،فلما لم يجز ذلك و وجب القطع على صحة نقل من نقل مصحف عثمان،و ترك الإحفال و الاكتراث،بخلاف من خالف في ذلك و ادّعى أنه مغيّر و مبدّل عما أمر به عثمان و رسمه زيد و الصحابة و الجماعة وجب لمثل هذا بعينه القطع على صحة من نقل أن مصحف عثمان هو جميع الثابت من القراءات عن الرسول،و أنه مثبت على ما أنزله و رتبه الرسول،لأنهم قومء.
ص: 95
ببعضهم يثبت التواتر و تقوم الحجّة،و لزم لأجل ذلك ترك الإحفال بما روي مما يخالف ذلك.
فإن قال قائل:ما أنكرتم أن يكون الفرق بين الأمرين أنه لم يرو عن أحد خلاف في أن هذا هو جميع مصحف/عثمان الذي جمعه و ألّفه على حسب ما نظمه و رتبه،و لا وقع في ذلك تشاجر بين الناس،و قد اختلف في أنّ هذا المصحف هو جميع ما جاء به الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم عن اللّه سبحانه على وجهه و ترتيبه،أم لا؟ فادعى قوم أنه أقلّ من ذلك؛و أنه مزيد فيه،و ادّعى آخرون أنه منقوص منه،و شكّ في ذلك شاكّون،و قطع قوم على أنه مغيّر عن ترتيب ما أنزل عليه، و إذا كان ذلك كذلك افترقت الحال فيما ادعيتم الجمع بينهما؛يقال لهم:
أول ما في هذا أننا لا نسلّم قطعا و يقينا أنه لا مخالف في العالم في هذا الباب،و لا شاكّ فيه مع سماعه لنقل الحجة،و لا ندري لعل في الناس من يدّعي تخليط النقلة لمصحف عثمان،و أنه مغيّر مبدّل،أو يشك في أنه على ما رتبه عثمان،بل قد علمنا أنّ في الناس من يدّعي تغيير الحجّاج لمصحف عثمان،و إذا كان ذلك كذلك بطل فرقكم هذا،على أننا لو تيقنا أنه لا مخالف في ذلك.لم يمنع هذا من جواز حدوث خلاف في هذا الباب،و أن ينشأ خلق كثير يدّعون و يرون غلط النقلة لمصحف عثمان،أو تعمدهم للكذب فيه،و دعوى تغيير النقلة له عما رتبه و نظمه عليه عثمان،فإنّ حدوث مثل هذا الخلاف غير متعذّر و لا ممتنع في عقل و لا سمع،و قد تيقّنا أن مثل هذا الخلاف لو حدث و قاله قائل و اعتقده معتقد لم يجب لأجله جحد نقل الكافّة أو الشكّ في صحته،لأجل ما يروى من خلاف ذلك،مع قيام الحجة و انقطاع العذر بنقل من نقل أن هذا المصحف هو مصحف عثمان على وجهه و ترتيبه الذي ألّفه عليه،فبطل بذلك ما فصّلوا به.
ص: 96
[في القول فيما يعتبر في العلم بصحة النقل]
و اعلموا رحمكم اللّه أنه ليس المعتبر في العلم بصحة النقل و القطع على ثبوته بأن لا يخالف فيه مخالف،و إنما المعتبر في ذلك مجيئه عن قوم بهم يثبت التواتر و تقوم الحجة،سواء اتفق على نقله أو اختلف فيه،و لذلك لم يجب الإحفال/بخلاف السمنية (1)في صحة الأخبار،و قولهم إنه لا يعلم بها شيء أصلا،و لم يجب أن يبطل النقل،أو يشك في صحته بعد ظهوره و استفاضته.و عدم الخلاف عليه إذا حدث خلاف في صحته لم يكن من قبله، و لغير ذلك من الأمور،و إذا كان ذلك كذلك سقط ما فصّلوا به بين الأمرين.
فإن قال قائل:و لو صرنا إلى أننا لا ندري أيضا أن هذا هو مصحف عثمان و الجماعة على وجهه و تأليفه أم لا،ما الذي كان يمنعنا و يصدّنا عن ذلك؟قيل له:يمنع منه أن فيه جحدا للضرورات،و أن قائل ذلك صائر بمثابة من جحد وجود عثمان في العالم،و أن يكون كان له مصحفا جمع الناس عليه، و منعهم من غيره،و أن يكون ولي الخلافة،و قتل بالمدينة،إلى غير ذلك من الجهالات،فإنّ نقل مصحفه بمثابة نقل وجوده و خلافته و قتله و الفتنة التي
ص: 97
جرت و حدثت في أيامه،و بمثابة نقل:«قفا نبك»،و:«ألا هبي»،و كتاب سيبويه،و موطّأ مالك،و غير ذلك من الامور الظاهرة المشهورة،فجحد ذلك بمثابة واحدة،و لا فائدة و لا طائل في مناظرة من صار إلى مثل ذلك.
و إذا لم يجز الشك في شيء مما وصفناه أو الجحد له لأجل خلاف يروى في ذلك أو خلاف يجوز أن يحدث فيه:لم يجز الشكّ في أن ما في أيدينا هو مصحف عثمان بعينه و على جهته،و قد بيّنّا من قبل أن طريق العلم بأنه مصحف عثمان لم يغيّر و يبدّل هو طريق العلم بأن جميع ما أتى به الرسول من القرآن الثابت رسمه على وجهه و ترتيبه الذي أمر صلّى اللّه عليه و سلّم به،فوجب القطع على صحة ما قلناه،و إبطال جميع مطاعن الشيعة و الملحدين و غيرهم من أهل الضلال و القدح في القرآن.
فإن قال قائل:باضطرار يعلم أن المرسوم في هذه المصاحف هو جميع مصحف عثمان،على وجهه و ترتيبه،و لسنا نعلم باضطرار و لا/غيره أن هذا المصحف هو جميع كتاب اللّه الثابت الرسم،و المنزل على الرسول عليه السلام بالترتيب المدعو بأن يقال له:على الفضل بينك و بين من قال باضطرار يعلم أن هذا المصحف هو جميع المنزل على رسوله،على وجهه و ترتيبه،و لسنا نعلم باضطرار و لا غيره أنّ جميع مصحف عثمان الذي ألفه و جمع الناس عليه،على وجهه و ترتيبه،و أن ذلك لو كان معلوما لما اختلفت مصاحف أهل الشام و مكة و العراق،و لما اختلفت القرّاء السبعة، و لما شكّ في ذلك أحد،فإن رام في ذلك فضلا لم يجده،و إن مرّ على الأمرين ردّ عليه ما سلف من جواب جحد عثمان،و كون مصحف له،و غير ذلك مما ذكرنا،و إن عاد إلى أنّ ذلك أجمع مما لا خلاف فيه بيّن له سقوط التعلّق بذلك بما بيناه من قبل.
ص: 98
و يقال للشيعة أيضا:إن وجب بطلان نقل الكافة و الدّهماء و السواد الأعظم أن المرسوم بين اللوحين الذي في أيدينا هو جميع القرآن المنزل على الرسول،الثابت الرسم و التلاوة،لأجل خلاف من خالف في ذلك، و نشكّ فيه منكم و من غيركم ممن له تناقل الأخبار،و يعرف السير و يخالط النقلة مخالطة تقتضي له علم الضرورة،وجب لأجل هذا بعينه بطلان نقلكم للزيادة في القرآن و النقصان منه،و التغيير له أو الشكّ فيه،لأجل خلافنا و خلاف سائر سلف الأمة لكم على ذلك،و خلاف جميع فرق الأمة،خلفها و سلفها لكم في صحة نقلكم عن الأئمة و غيرهم نقصان القرآن و زيادته و تغييره،و تكذيبنا لكم في هذه الدعوى،و لزمكم أيضا لأجل هذا الفصل بعينه بطلان نقلكم للنص على عليّ عليه السلام،لأجل مخالفة سائر فرق الأمة لكم في ذلك،و تكذيبهم إياكم،فإن مرّوا على ذلك أجمع أقروا ببطلان مذاهبهم و نقلهم،و كفينا مؤنتهم،و إن راموا فيه فضلا أبطلوا اعتلالهم و أسقطوا فصلهم،و إن عوّلوا على أن الحجة قد قامت بنقل الشيعة للنص على عليّ،و تغيير القرآن،و نقصانه و إفساد نظمه،و ترتيب كثير منه، و أنه لا معتبر في ذلك بخلاف من خالفهم،قيل لهم:و كذلك الحجة قد قامت بنقل من ذكرناه في أن الذي في أيدينا هو جميع ما أنزل/اللّه على رسوله،أثبت رسمه،و فرض حفظه،على وجهه و ترتيبه،فلا معتبر خلاف من خالف في ذلك،و هذا مما لا فضل لهم فيه أبدا،و سنتكلم إن شاء اللّه فيما بعد على دعواهم صحة نقل الشيعة لتغيير القرآن،و نوضح تكذّبهم في ذلك،و نقيم الحجة على فساد قولهم و نقلهم بما يوضح الحق.
ثم يقال لهم:ارووا لنا حرفا واحدا عن عبد اللّه بن مسعود،أو عن أبيّ،أو عن علي رضي اللّه عنهم أنهم قالوا:إن المعوذتين ليستا من كتاب
ص: 99
اللّه،و أن دعاء القنوت مما أنزله اللّه على رسوله،و أن عليا قال:هذه الآية أو هذا الحرف ليس من كتاب اللّه،أو قد نقص من كتاب اللّه،و هذا مما لا يقدرون عليه أبدا،و إنما يروون برواية الآحاد أن عبد اللّه بن مسعود لم يثبت المعوذتين في مصحفه،و أنه حكّهما من المصحف،و أن أبيا أثبت دعاء القنوت في مصحفه،و لم يقل إن كل ما أثبته في مصحفي من كتاب اللّه المنزل، بل قد ثبت فيه الدعاء و التفسير،إذ كان ذلك مصحفا له وحده يرجع إليه، و قد يمكن أن تكون سورة القنوت من القرآن نسخت تلاوة أثبته أبيّ، و كذلك قد يمكن ابن مسعود اعتقد أن المعوذتين من القرآن الذي لا يجوز إثبات رسمه في المصحف،إما لظنه أنه منسوخ أو لغير ذلك من العلل.
و قد ثبت بما سنصفه فيما بعد أن ما أنزل اللّه تعالى و نسخه مما لا يجوز إثباته في المصحف،و إذا كان ما يرونه من ذلك محتملا لهذه التأويلات و غيرها،و لم يرو عن أحد منهم ذكرناه أنه جحد شيئا من كتاب اللّه،أو التصريح بأن من جملته ما ليس منه،لم يجز أن نجعل هذه الروايات معارضة لنقل الكافة بأن جميع ما في الدنيا هو جميع ما أنزل اللّه على الرسول و ثبت رسمه،فبطل بذلك ما يدّعونه من الرواية لمخالفة قوم من السلف في هذا الباب،و ثبت بذلك أنه لا حقيقة لما روي من ذلك.
و أما ما يختصّون هم بروايته عن الصادق (1)و الباقر (2)/و غيرهما من أهل البيت و غيرهم،مما لا يعرفه أصحاب الحديث و مصنّفو جميع).
ص: 100
المصاحف،و الخلاف فيها،فسنبين فيما بعد إن شاء اللّه أنها من الأخبار التي يجب القطع على فسادها و تكذيب نقلتها و تنزيه أهل البيت عنها.
دليل آخر:و مما يدل أيضا على أن القرآن المرسوم بين اللوحين هو جميع القرآن الذي أتى به الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم على ترتيب ما أنزل نقل الكافّة الذين ببعضهم يثبت التواتر أن هذا القرآن هو جميع ما رسم حفظه،و ألزمنا الرجوع إليه،لم يغيّر و لم يبدّل،فوجب لذلك القطع على صحة نقلهم و ثبوت علم الضرورة بصدقهم،لأنه لو جاز أن يقال في نفس البقرة و آل عمران و الأحزاب و لَمْ يَكُنْ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [الكافرون:1]ليست على ما أنزلت،و أن يكون قد سقط من هذه السور شيء كثير أكثر مما بقي، أو زيد فيها ما ليس منها أو غيّرت و بدّلت عن نظمها و ترتيبها الذي أنزلت عليه،لساغ كذلك في الحمد و الناس و الفلق و قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ ،و أن يقول قائل:إن ذلك أجمع مزيد فيه أو منقوص فيه،و مرسوم في المصحف على خلاف ما أنزله اللّه،و ما كان يتلوه الرسول و يكرره مدة أيام حياته،في صلواته، و يجهر به،و يأخذ الناس بحفظه،و لو جاز على الجاعات الناقلة للحمد و المعوذتين و قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ الكذب و الافتعال،و السهو و الإغفال،لجاز عليهم ذلك أجمع في نقل وجود الرسول بمكة و المدينة،و دعائه إلى نفسه، و احتجاجه بالقرآن،و تحدّيه العرب أن تأتي بمثله،و في نقل وقائعه و مغازيه و فتوحه،و غير ذلك من أحواله الظاهرة المستفيضة،فلمّا لم يجز جحد شيء من ذلك أو الشكّ فيه لم يجز الشكّ في شيء من القرآن،و أنه هو جميع ما أتى به الرسول على وجه ما أنزل،و لا الجحد لشيء من ذلك.
فإن قال قائل:نحن نعلم باضطرار أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم كان بمكة و المدينة و أنه دعا إلى نفسه/و تحدّى بمثل الكتاب الذي أتى به،و غير ذلك مما ذكرتم،
ص: 101
فلم يجز جحد شيء من ذلك أو الشك فيه،قيل:فما الفصل بينكم و بين من قال:إننا نعلم باضطرار أن هذا القرآن هو الذي أتى به الرسول،و ثبت رسمه،و لزم القيام بحفظه،لم يغيّر و لم يبدّل،و إن سورة البقرة و الحمد و الأحزاب و لَمْ يَكُنْ مرسومة محفوظة على ما أنزلت عليه،من غير تغيير و لا تبديل،و لا زيادة و لا نقصان،و أنه مضطر إلى العلم بصحة ذلك عند سماع نقل النّقلة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،فهل يجدون في ذلك فصلا؟ فإن قالوا:الفصل بين الأمرين أنه لا مخالف في ظهور الرسول عليه السلام و دعائه إلى نفسه،و ما كان من حروبه و وقائعه،و قد خالف قوم من الناس في أن المرسوم بين اللوحين هو جميع ما أنزل اللّه على وجه ما أنزله، غير مغيّر و لا مبدّل،فلم يجب القطع على صحة النقل بذلك لأجل هذا الخلاف،قيل لهم:قد بيّنا فيما سلف أنه لا معتبر في قيام الحجة بالنقل و العلم بصحته بعدم الخلاف عليه و لا بوجوده،و إنما المعتبر في ذلك بمجيئه على وجه يوجب العلم و يقطع العذر،فبطل بذلك ما أصّلتموه.
ثم يقال لهم:فيجب لأجل فعلكم هذا جحد ما ترونه من النص على عليّ و ما ترونه من تغيير القرآن و نقصانه أو الشك في صحة نقلكم هذا، لأجل خلافنا و خلاف سائر الأمة لكم في ذلك و تكذيبنا إياكم،و لا فصل لهم من ذلك إلا بما يبطل ما فصلوا به،ثم يقال لهم:فخبرونا هل علمتم ضرورة وجود النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و ظهوره في العالم بخبر جميع الناس أو بخبر بعضهم؟فإن قالوا:بخبر جميعهم لنا بذلك،كذبوا و بهتوا لأنهم لم يلقوا جميع الناس في شرق الأرض و غربها،و إن قالوا:بخبر بعض الناس علمنا ذلك إذا لم يخالفهم في نقلهم مخالف،قيل لهم:و بأي شيء تعلمون تصديق جميع الناس لذلك البعض/في نقلهم و أنه لا مخالف لهم؟أ بلقاء
ص: 102
جميع الناس أم بخبر بعضهم؟فإن قالوا:بلقاء جميع الناس بهتوا و كابروا و لزمهم أن لا يعلموا تصديق جميع الناس بشيء من الأخبار،إذ كان لقاء جميع الناس متعذرا،و إن قالوا:بخبر بعض الناس عن باقيهم أنهم مصدّقون لما نقل و غير مخالفين فيه،قيل لهم:فإذا جاز أن تكون الجماعات الكثيرة التي نقلت عن الرسول الحمد و المعوذتين و قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ قد افتعلوا و تكذبوا و اعتمدوا التحريف و التغيير فيما أخبروا أنه عنه،أو وهموا أو ظنوا الأمر بخلاف ما كان،و نقلوا ما لا أصل له،فما يؤمنكم أن يكون من نقل إليكم ظهور النبي في العالم و أنه لا مخالف له في نقله لذلك كاذبا في نقله أنّه لا مخالف له؟و أن يكون في الناس من يخالف في ذلك؟فإن نقل هذا البعض أنه لا مخالف له فيما نقله فلا يجدون إلى دفع ذلك سبيلا، و هذا يبطل عليهم طريق العلم بأنه لا مخالف على النقل.
و يقال لهم:إذا وجب إبطال الخبر و اطّراحه لوجود الخلاف في نقله، فإن كان قد نقله أهل تواتر وجب اطّراحه أيضا لجواز كون الخلاف و إن لم يتيقّن،و لجواز حدوث الخلاف عليه في المستقبل و لا فصل في ذلك.
ثم يقال لهم:إذا جاز على الجماعات الكثيرة نقل الكذب فيما خولفت عليه،فلم لا يجوز عليها نقل الكذب فيما لم يتخالف عليه؟فإن جاز الكذب على أهل مصر و مصرين فلم لا يجوز على أهل جميع النواحي و الأمصار، و سائر الشرق و الغرب؟ فإن قالوا:العادة تمنع من ذلك في أهل سائر الأمصار،قيل لهم:
و كذلك هي تمنع منه في أهل مصر واحد و مسجد واحد و قبيلة واحدة، و نقلة القرآن عن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم أكثر عددا من أهل أمصار و أقاليم كثيرة فوجب بذلك تصديقهم،و إحالة الكذب و الغفلة و التوهم عليهم.
ص: 103
ثم يقال لهم:من أين يعلم صدق الجماعة في أنه لا مكذّب لهم في نقلهم لما نقلوا؟ فإن قالوا:بخبرهم عن أنه لا مكذب لهم/،قيل لهم:فإذا جاز عليهم الكذب في بعض ما يخبرونكم به فما أنكرتم من جواز الكذب عليهم،في أنه لا مخالف لهم في نقلهم؟ثم يقال لهم:و من أين نعلم أيضا أنه لا مخالف لهم فيما قالوا إنه لا مخالف لهم فيه فالكذب جائز عليهم؟ و يقال لهم:إذا لم تعلموا صحة نقلهم حتى تعلموا أنه لا مكذّب لهم فيه و لا تعلموا أنه لا مكذّب لهم فيه حتى تعلموا صحة نقلهم عن أنه لا مكذّب لهم فيه،و أمكن أن تكذبوا في نقلهم إنه لا مكذّب لهم فيما نقلوه لم يصحّ أن يعلموا أبدا صحة نقلهم من حيث لم يصحّ أن يعلموا صدقهم في قولهم و نقلهم أنه لا مكذب،و لم يأمنوا أن يكونوا في دعواهم لذلك كاذبين،هذا ما لا خلاص لهم منه أبدا.
و يقال لهم:إذا لم تعلموا صحة النقل إلا إذا علمتم أنه لا مخالف لهم فيه،و لم تعلموا أنه لا مخالف لهم فيه حتى تعلموا أنه صحيح:لم يصح أن يعلموا أبدا صحة الخبر،لأنكم تجعلون الشيء شرطا فيما هو شرط فيه.
و يقال لهم:يجب على اعتلالكم إبطال جميع الأخبار لخلاف السمنية عليها،و يجب أن يصير العلم بصحة الخبر إذا لم يكن منه مخالف جهلا و إذا حدث مخالف في صحته و جاحد لموجبه،و أن ينقلب العلم جهلا لحدوث الخلاف على الخبر،و تجويز انقلاب العلم بصحته جهلا بجواز حدوث خلاف فيه،و هذه غاية من الجهل لا يبلغها ذو تحصيل،فوجب بذلك سقوط جميع ما تعلقوا به.
ص: 104
و مما يدل أيضا على بطلان قولهم في إمكان نقصان القرآن و ضياع شيء منه أو القطع على ذلك أو الزيادة فيه:أنه لو جاز مع ما وصفناه من حال نقلته و حفّاظه أن يكون قد ذهب منه شيء كثير لا نعرفه و لا نقف عليه لجاز أن يكون قد ذهب أكثره و ما يزيد على سبعة أعشاره،و أن يكون الذي في أيدينا منه أقل من العشر،و لو جاز ذلك لم نأمنه و لم نأمن أن يكون معظم الدين و الفرائض و السنن قد ذهب في القدر الذي سقط منه و ذهب/على الناس ضبطه،و لعل فيه أيضا نسخ جميع العبادات التي في أيدينا و تبديلها بغيرها، و لعل فيه توقيفا على أنبياء يأتون بعد النبي صلّى اللّه عليه و سلّم بنسخ شريعته،و لعل في ذلك القرآن الضائع إباحة نكاح الأخوات و الأمهات و سائر ذوات المحارم،و لعل فيما سقط منه تفسير معنى الصلاة و الزكاة و الصيام،أن المراد بذكر هذه العبادات تولّي رجال سموا صلاة و حجا و صياما،و أن الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رجال أمر الناس بلعنهم و البراءة منهم فقط،و لعل فيه أيضا ذم جميع من يعتقد الشيعة فيهم أنهم أئمة منصوص عليهم و إيجاب التبرّي منهم،و إيجاب تولّي معاوية (1)و زياد (2)و الحجّاج و الشمّر و شيعته (3)،8.
ص: 105
و لعل القرآن إن كان زائدا على قدر ما أنزل أن يكون أكثر ما فيه من فرض الصيام و الصلاة و الحج ساقطا غير لازم،و إنما زيد فيه ما ليس منه،فإذا كان هذا يسدّ علينا طريق الأمان من جميع هذه الأمور و فيها إبطال الشرع و الانسلاخ من الإسلام فلا شبهة على مسلم في فساد كل قول و مذهب أدى إلى ذلك.
و ليس لهم أن يحتجوا في دفع هذا بإجماع الأمة على بطلانه،لأن الإجماع عندهم لا يجب القطع على صوابه و أمان الغلط على أهله إذا لم نعلم دخول الإمام المعصوم فيه،و نحن فلسنا نعرف مذهب الإمام في هذه الأبواب و لا نقبل دعواهم،و روايات الشيعة عنه مداهنة،لأنهم عندنا كذبة في ذلك،و فيما هو أعظم منه،و دعوى التواتر بينهم عن الإمام متعذر و جهل فيمن صار إليه،و هم عندنا قد ضلّوا و فسقوا بأمور لا يجوز معها قبول أخبارهم،و لأنهم عندنا و عندهم غير معصومين من الكذب و السهو و الإغفال فيما يروونه عن الإمام إن كان لهذا الإمام أصل و ما يروونه عن غيره أيضا، و لا صحة في رواية من هذه سبيله.
و ليس لهم أيضا أن يقولوا:لو كان الأمر في هذه الشرائع و العبادات على ما وصفتم لوجب أن يوجد من الأمة قائل/بهذا،لأنّ الأمّة كلّها لا يجوز أن تضيّع الحق و الواجب،و تتركه و تعدل عنه قصدا منها و عنادا و غلطا و جهلا و سهوا و إغفالا،و إنما يجب أن تقوم بالواجب في هذه الأبواب لو كانت بأسرها حجة أو كان فيها فرقة هذه سبيلها،و متى لم يكونوا كذلك لم يجب أن لا يجوز على سائرهم تضييع الحق و الذهاب عنه،و لأن فيمن ينسب إلى الأمّة و يزعم أنه أحقّ بهذه التسمية-أعني أنّهم أمّة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم-
ص: 106
خلق كثير يقولون ذلك،و هم الغلاة (1)الإسماعيلية (2)و من صنّف الكتب المعروفة المشهورة في أنّ المراد بذكر العبادات و المعاصي المحرمات رجال أمرنا بموالاة بعضهم و البراءة من بعضهم،و أن المراد باسم النكاح و الطلاق و العتاق و غير ذلك دخول في البيعة و تحفّظ من نشر الدعوة أو إذاعة لها و خروج عنها،و غير ذلك مما قد عرف من أقاويلهم،و كل ذلك مرويّ عندهم عن أهل البيت و من هم الأئمة و الصفوة عليهم السلام،لعلهم مثل عدد الشيعة أو أكثر عددا،و الغلبة اليوم لهم في كثير من الأمصار و الآفاق (3)،و إذا كان ذلك كذلك بطل قولهم أن ليس في الأمة قائل بهذا.
فإن قالوا:هؤلاء ليسوا من الأمة،قيل لهم:إن جاز لكم أن تدخلوا أنفسكم في الأمة مع قولكم بأن الأئمة الاثنا عشر أفضل من جميع الأنبياء إلا محمدا و نوح و إبراهيم و نفر يسير من النبيين،و أن يقولوا إن الإمام يعلم الغيب،و أنّه لا يحكم بنسب و لا مال حتى يعلم صدق المدّعي و صدقه.
ص: 107
شهوده و يقف على بواطنهم،و أنّ المعجزة يجوز أن تظهر على يدي الأئمة، و أنّ الرجل يجوز له أن يجمع بين ألف حرّة بعقد متعة،و أن العمّ لا يرث مع الابنة،و مع قول كثير منكم بتصديق الخطب المروية لكم عن عليّ من نحو الشّلشلية و الشّقشقيّة (1)التي يقول في إحداهما:أنا رفعت سماءها،أنا دحوت أرضها،أنا أنشأت سحابها و أخرجت نباتها،أنا أهلكت/عادا و ثمودا و لو شئت أن يعودا لعادا،حتى يقول شاعر هذه الفرقة:
و من أهلك عادا و ثمودا بدواهيه
و من كلّم موسى فوق طور إذ يناجيه
و من قال على المنبر يوما و هو راقيه
سلوني أيّها الناس فحاروا في معانيه
و يقول في الشقشقية:و الذي فلق الحبّة و برأ النسمة،لو لا ما أخذ على العلماء من كظم الظالم و صعب المظلوم لأرسلت حبل غاويها،و لسقيت أولها بكأس آخرها،و لألفيت دنياكم عندي أهون من عفطة عنز،و شتّان بين القولين،فإنّ من أهلك عادا و ثمود و كلّم موسى،و أنشأ السحاب، و أخرج النبات من الأرض يقول:ألفيت دنياكم عندي أهون من عفطة عنز، يعني:من رحلة عير،هذا بعيد،فإن مثل هذا كان يقدر أن يهلك الجميع الذين يخالفون عليه و لا يفتقر إلى بقية منهم،و مع هذا قول دعبل (2)).
ص: 108
و كثير (1)و غيره منكم بالرجعة في الدنيا،و قول الكيسانية (2)إنّ محمد بن الحنفية (3)حيّ يرزق بجبال رضوى إلى يوم يخرج،إلى غير هذه المذاهب و التّرّهات.
فإن ساغ لكم أن تدّعوا مع هذه المذاهب و الأقاويل أنكم من الأمة ساغ للإسماعيليّة أن تدّعي أنّها من أخصّ الامة،و لا جواب عن هذا.
و ليس لهم أيضا أن يزعموا أنّهم يعلمون ضرورة من دين الرسول وجوب هذه العبادات و تحريم هذه المحرّمات،فإن الغالبية منهم ينكرون ذلك و يقولون إنهم لا يعلمون شيئا مما قالوه،و كذلك من زعم أنّ الأنبياء باقون تترى إلى يوم القيامة،و كلّ الباطنية يرون في هذه الأمور خلاف رأيهم و يقولون إنّ الذي بعث به محمد صلى اللّه عليه و سلّم هو ما هم عليه.
و ليس لهم أيضا الاعتصام مما ألزمناهم بأنّ الأمر لو كان على ما قلناه لظهر عن الإمام ذكر الفرائض الذاهبة،لأننا لا نعرف هذا الإمام،و لأنه لو كان موجودا لجاز أن يسكت عن ذلك تقية كما أمسك عن/نقض أحكام أبي بكر و عمر و أظهر الإقرار بمصحف عثمان و سوّغ التحكيم،لأنه أيضا قد).
ص: 109
يلقي ذلك إلى أبوابه و دعاته،و أنّ الأمر في ذلك على ما قلناه،فيكتمونه و يحرّفون عليه و يكذبون،لأنّهم غير معصومين،و كذلك إن عيّر عليتهم بآخرين كان حالهم كذلك،و إذا كان ذلك كذلك بطل جميع ما يحاولون به دفع هذه الإلزامات.
فإن قالوا:إن هذا أيضا لازم لكم و منقلب عليكم،لأنكم جميعا تعترفون بأن اللّه سجّله،فإن نسخ منه آيات كثيرة و قرآنا كان أنزله،و نهى بعد ذلك عن إثبات رسمه و قراءته،و نسخ تلاوته،و إذا كان ذلك عندكم كذلك فما يؤمّنكم أن يكون فيما نسخه و أزال رسمه جميع أحكام الباقي رسمه أو تغييرها و إزالة فرضها،و لعل فيما نسخه نصا على أنبياء و أئمة بعده و إطلاق جميع ما يعتقدون دلالة الباقي على تحريمه.
قيل لهم:لا يلزمنا شيء مما قلتم،و ذلك أننا لا نجيز على الأمة بأسرها و على العدد الكثير الذين بهم تقوم الحجة أن تتفق هممهم و دواعيهم على كتمان نسخ ما نسخ عنهم فرضه،و وفقوا على تغيّر حكمه بغيره و تبديله،و لا أن يفتعلوا خبرا كذبا على نبيهم عليه السلام،فإنّه أوجب عليهم ما لم يوجبه،و شرع لهم ما ليس من دينه،بل لا يجوز ذلك عليهم فيما لا تعلّق له بباب الديانات،لامتناع ذلك عليهم في العادة،و تعذّره من مثلهم،و أنهم متجبّرون على جميع الأئمة سوى الإمام المعصوم،أو أهل العدد الكثير،و الدّهماء منها افتعال الكذب و كتمان ما سمع و شوهد، و يزعمون أنهم قد كتموا قرآنا كثيرا كانوا سمعوه من الرسول صلى اللّه عليه و سلّم و حفظوه عنه،و لا مأمون أن يكون ما كتموه منه أضعاف ما في أيدينا و إن كان الرسول قد وقفهم على ما كتموه كتوقيفه لهم على هذا القدر الذي نقلوه عنادا منهم و قصدا إلى الإدخال و الإلباس في الدين.
ص: 110
و يحكون أن القرآن كان من الكثرة إلى حدّ لا نقله عليّ و قنبر (1)/و لا ينهضان بحمله مع شدة عليّ و فضل قوته،و كل هذا قد كتم و اندرس و انطوى علمه إلا عن الإمام عندكم وحده،و يروون عن أهل البيت عليهم السلام أنهم قالوا:ربع القرآن منزل فينا و أنتم لا تحفظون من هذا الربع تمام خمس آيات و لا تعرفون منه إلا ما نعرفه من قوله عز و جل: إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب:33].
و يزعمون أن سائر سلف الأمة إلا أقلّ من عشرة منها كتمت النصّ على عليّ و جحدته،عاندت و أخفت الحقّ،و كذلك سائر فرق الأمة اليوم عندكم قد اتفقوا على كتمان هذا النص على الإمام،مع علمهم به و معرفتهم له، و أنهم جميعا قد افتعلوا الكذب،و تواطئوا على نقل الباطل في نقلهم لفضائل أبي بكر و عمر و عثمان و غيرهم من الصحابة،إلى غير ذلك مما يحملون أنفسهم عليه.
و إن لم تجيزوا هذا الكذب و الافتعال على جميع من عدا الإمام من الأمة فإنكم تجيزونه على معظمها و جميع فرقها المخالفة لكم،و قد علمتم أن ببعضهم يثبت التواتر،و أنه لا فصل بين إجازة الكذب و الافتعال على تسع فرق من الأمة و بين إجازته على العشرة،و إذا كان ذلك كذلك و كنتم قد اعترفتم بكتمان جمهور من السلف و الخلف لأكثر القرآن مع شهرة أمره).
ص: 111
و قطع الرسول صلى اللّه عليه و سلّم العذر في بابه:لديكم أيضا فيما كتموه منه نسخ جميع ما في أيدينا من الأحكام و كتمان شرائع و فرائض أخر تأتي بعد الرسول، و إطلاق جميع المحرّمات من حيث لا يمكنكم دفع ذلك و لا الخلاص منه.
فأما نحن فإننا نحيل هذا أجمع على الأمة،على قدر عدد أهل التواتر منها،و نقول:إنه لا بد في مستقرّ العادة من توفر دواعيها و هممها على نقل الناسخ و المنسوخ من دينها و ضبطها لذلك،فشتّان بيننا و بينكم.
فإن رجعتم إلى أنّ الإمام و الأئمة من ولده هم العالمون بعلم ذلك و معرفته و أنهم لم/يرو عنهم شيء في هذا الباب:لزمكم أن يكونوا قد قالوا ذلك و وقفوا عليه،غير أن الناس كتموا ذلك و كذبوا عليهم،و أنتم أول من يتكذب عليهم و يكتم ما قد نقل عنهم،و يفتعل عليهم ما لا أصل له،و إن ادّعيتم أو واحد منكم أنكم لقيتم الإمام فأخبركم بأنّ الشرع مبقّى و أنّ ما ألزمناكم لا أصل له فقد عرفتم الجواب عن هذا،و إنّ من جوابه ما يجب تنزيه الكتاب عن ذكره،و أقلّ ما فيه أنكم تكذبون و تعلمون أنكم تكذبون.
و في الشيعة من يقول إنه قد لقي الإمام و عرّفه أن القرآن الذي في أيدينا على ما أنزل عليه لم يغيّر و لم يبدّل،و كذلك يدّعي أهل كل مذهب و رأي دان به الشيعة أنهم قد لقوا الإمام فوقّفهم على صحة ما رووه و دانوا به، و هذا كلّه من التّرّهات و ما يسترضون به الجهال و الأوغاد الطغام.
و بعد:فلو سلّمنا لكم أن هاهنا إماما معصوما و أنكم قد لقيتموه:من أين كنّا نعلم صدقكم عليه و أنكم غير كاذبين فيما تروونه عنه؟و أنتم باعترافكم غير معصومين من الكذب و السهو و الغلط،و الاعتماد لكونكم على هذه الصفة احتجتم إلى إمام معصوم وافر؟و إذا كان ذلك كذلك فلا سبيل لهم إلى دفع ما ألزمناهم.
ص: 112
و يقال لهم:أنتم تعلمون أنّ الكيسانيّة تكذبكم و تجحد إمامكم و تدّعي أن الإمام الذي عنده علم ذلك لا سبيل إلى الوصول إليه،فإنّه مقيم بجبال رضوى (1)،أسد عن يمينه،و أسد و نمر عن شماله،و يحفظانه إلى يوم يخرج فيظهر الحق،و يقمع الباطل و أهله،فأيكم يصدّق؟و من منكم أولى أن يتبع على هذه الخرافات و الترّهات.
و منكم من يقول إنه بعسقلان (2)،و منكم من يقول بالطالقان (3)،و منكم من يقول:لا أعرف داره،و لا أصدّق من أخبر بلقائه،و كل هذا يدل على علمكم ببطلان ما أنتم عليه في هذه الدعاوى،و أن تعلّقكم في دفع ما تسألون عنه أحيانا أو تصحيحه بإقرار الإمام له أو إنكاره:من المهرب و الفرار،و من جنس اللّعب و المجون،نعوذ باللّه من التلاعب بالدين و الإدغال لأئمة المؤمنين.
قال أيّده اللّه (4):و ما يجابون به عن هذا الاعتراض أيضا:أن في الأمة من يقول:لا أعلم أنّ من القرآن المنزل ما قد نسخ رسمه و رفعت تلاوته،خ.
ص: 113
و أنّ جميع الأخبار في ذلك أخبار آحاد لم تقم بها الحجة،و لا يجوز القطع على إنزال قرآن و نسخه بأخبار آحاد لا حجة فيها،و هذا يبطل أيضا اعتراضهم إبطالا ظاهرا.
دليل آخر:مما يدلّ على صحة القرآن و بطلان ما يدّعونه فيه من النقصان و الفساد ما صحّ و ثبت من شدّة نصرة السلف للرسول صلى اللّه عليه و سلّم و بذل أموالهم و أنفسهم و الجهاد بين يديه،و قتلهم لآبائهم و إخوانهم في نصرته و تشييد دعوته و إقامة دينه و شريعته،و ما كان من هجرتهم الهجرتين و ما احتملوا من العذاب في اللّه،و حملوا أنفسهم عليه من مفارقة العز و الأهل و الأوطان و الدّعة،إلى القلة و احتمال الهوان و الضّيم و الانتقال عن الديار، و أنّ من هذه صفته و سبيله لا يجوز عليه أن يقصد إفساد ما نصره،و إبطال ما أيّده،و القدح فيما دان به،و رأى الاستنقاذ من النار باعتقاده و الانقياد لمورده،و إذا كان ذلك كذلك و كانت الرافضة تدّعي أن فيما كتمه القوم من القرآن و غيره ما يعلم أنّه لا غرض في كتمانه و تغييره،و لا طائل لهم فيه و لا هو مما يتعلّق بولاية أحد و البراءة من غيره،و لا تقتضي تفضيل تيم و عديّ و بني أمية على بني هاشم،و لا ينقص الولاء و لا يفسد البراءة،و لا يوجب رئاسة،و لا يقتضي عاجل نفع و رئاسة،و لا يعود بصلاح عاجلة و لا آجلة في النفس،و لا في العاقبة و الذرية،و إذا كان ذلك كذلك ثبت أنّ من هذه سبيله لا يجوز أن يحمل عاقل ليس بذي دين نفسه عليه؛فضلا عن أهل الوقار و الدين و حسن النسك و المسألة و الجهاد.
فمن التغيير الذي ادّعوه و لا غرض/لعاقل منه قولهم إنّ أبا بكر و عمر و عثمان و الجماعة فصلوا بين الكلام المتصل المتناسب و عضوه حتى صار منبترا غير مقيد،و قدّموا المدنيّ على المكي في الكتابة و الرسم،فاللّه
ص: 114
سبحانه بزعمهم قدّم المكّي على المدني في التأليف و الترتيب،و نقصوا قوله (و هي صلاة العصر)من قوله: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى [البقرة:238]،و حذفوا قوله:(و نوائب الدهر،و إن فيه إلى آخر الدهر)من سورة العصر،و أسقطوا قوله:(و الشيخ و الشيخة فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة نكالا من اللّه،و اللّه عزيز حكيم)،أثبتوا مع ذلك الحكم و فرض الرجم على المحصنين،و أبدلوا مكان قوله:(صراط من أنعمت عليهم)ب:
اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ،و حذفوا من قوله: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ (متتابعات)[المائدة:89]ذكر التتابع،و حذفوا من قوله: وَ كانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [الكهف:79]قوله:(صحيحة)،و أبدلوا مكان قوله:
(و لقد نصركم اللّه ببدر و أنتم ضعفاء)بقوله: وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران:123]، و أسقطوا من قوله:(حتى تسلّموا و تستأنسوا)ذكر الاستئناس،أسقطوا من قوله: قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ [النمل:40]:(أنا أنا أنظر في كتاب ربي اللّه،ثم آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك)،في أمثال لهذه الترّهات التي قد رويت رواية الآحاد عن قوم من السلف يطول تتبعها،قد نقلوها من تصانيف أصحاب الحديث و رواة الشواذّ،و علّقوها على الصحابة،و ادّعوا أنّ الأئمة و العترة الهادية وقّفتهم على حذف القوم لها و قصدهم إلى نقصانها،و هي بأسرها موجودة في كتب من صنف القراءات و ذكر الشواذّ من الروايات، و قصد إلى الإلباس على الجهّال من أتباعهم،و قد بينّا فيما سلف أنه لا غرض لعاقل في هذا الباب و لا نفع في عاجل و لا آجل يجري بذلك إليه، و إذا كان ذلك كذلك ثبت كذب هذه الروايات و كذب من ادّعى على القوم اعتمادهم التخليط في التأليف و نقصان ما لا غرض في حذفه.
ص: 115
فإن قالوا:ما أنكرتم أن يكونوا إنما قصدوا بذلك الإفساد/للشريعة و إيقاع الخلل و التخليط في الكتاب معاندة للدين و الرسول فقط،قيل لهم:
ما قدمناه من وصف دينهم و تشدّدهم و عظيم عنائهم و نصرتهم و إنفاقهم و جهادهم في تأييد الدين و نصرة الرسول و إقامة كلمة الحق:ما ينفي ذلك عنهم،و كيف يقصد مثل هذا من قتل أباه و أخاه و عشيرته في نصرة الدين و مورده،و أنتم إلى التهمة بإفساد الدين و الطعن على الشريعة و القرآن و إيقاع التخليط و الإلباس فيما يتعلق بالدين أقرب،فلذلك يقدمون على قذف الصحابة و الجلّة من الأئمة بمثل هذه الأمور،ليحمل العامة أنفسهم على ثلب السلف،ثم ثلب من قدّمهم اللّه و أجلّهم و أظهر إكرامهم،و أنتم تعترفون بأن النبي صلى اللّه عليه و سلّم فعل بهم ذلك،ثم بثلب من وادع هؤلاء،و أخذ عطائهم و حكّم مصحفهم و قرأه و أقرأ أصحابه به،و لم يعرض لنقض أحكامهم، و أورد التمويه و الكلام المحتمل للتأويلات في بعضهم،ثم ثلب من أظهر تسليم الامر إلى من هو شرّ من الطبقة التي قبله،ثم كذلك إلى وقتنا هذا.
و قد علمتم أن كثيرا من الناس من يحكي أن كثيرا منكم يبرأ من الرسول حيث قرّب هؤلاء القوم و لم يكشف للناس حالهم،ثم يرقى إلى ثلب جبريل و صاحب الرّوشن،ثم يختم ذلك بأن يقول:كل هذا التخليط من قبل اللّه الذي وثّق هؤلاء و جعلهم وسائطا إلى خلقه متحملين لرسالته،و ربما كنّى عنه-جلّ ثناؤه-بالقبسيّ،و كل هذا تلاحد و تلاعب بالدين و إدغال له و لأهله، و فتح باب ماحل به،فأنتم في شتم السلف و قذفهم بما قد نزّههم اللّه عنه أقرب إلى قصد عناد الرسول و الطعن في الدين و القدح في أئمة المسلمين.
دليل آخر:و مما يدلّ أيضا على أن الصحابة لم يثبتوا في المصحف إلا ما كان ظاهرا مشهورا بينهم و أن نقلهم لجميع القرآن واقع على وجه تقوم به
ص: 116
الحجة و ينقطع العذر علمنا بأنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم ألقى القرآن إلى جميع الأمة و بيّنه و نشره و أظهر أمره فيهم على طريقة واحدة،و أنه/بيّن لهم أنّ يوسف و الرعد و الأحزاب و لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا [البينة:1]مما أنزل عليه و أقر برسمه كما بيّن لهم ذلك في الحمد و قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ و البقرة و آل عمران،و أنه كان يبلّغ ذلك و يؤدّيه و يظهره و يعلنه تبليغا واحدا و على طريقة واحدة متساوية،و أنه لا يجوز في وضع العادة أن يكون قد عرف من حال الرسول أنه ربما بيّن بعض القرآن للكافّة أو من ينقطع به العذر منهم في نقله عنه، و ربما لم يفعل ذلك في بعضه و بيّنه الواحد(و الاثنان) (1)و من لا يحجّ خبره و لا يعلم صدقه و لا ينقطع العذر بقوله،لأمرين:
أحدهما:أنه لا يخلو مدّعي إلقاء ذلك من أن يكون مفصّلا لهذا الباب و عارفا بما يذكر أن رسول اللّه ألقاه و بلّغه بلاغا قطع به العذر،و أقام به الحجة و ما ليس هذه سبيله منه أو غير عارف بتفصيل ذلك،فإن كان عارفا به و ادّعى أن البيان العامّ وقع منه في البقرة و آل عمران و لم يقع في الأحزاب و لَمْ يَكُنْ قيل له:ما أنكرت أن يكون ذلك إنما وقع منه في الأحزاب و لَمْ يَكُنْ و العصر،و لم يقع منه في البقرة و آل عمران و الرعد،فلا يجد إلى دفع ذلك طريقا،لأن الأمة تنقل ذلك عن نبيّها نقلا واحدا متساويا،و إن كان غير عارف بذلك قيل له:فأنت لا تعرف ما قامت به الحجة من القرآن من غيره،و لعل الحمد و جميع المفصّل مما لم يقم به الحجة به،و لعل قوله: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ [المائدة:55]،و قوله: *أَ جَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَ عِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَه.
ص: 117
بِاللّهِ [التوبة:19]الآية،و قوله: إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب:33]و جميع ما يدّعونه في عليّ و أهل البيت ما لم تقم الحجّة به،و لعلّ الحجّة لم تقم بقوله: يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً(27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً(28) [الفرقان:27-28]و جميع ما يدّعون أنه نزل فيمن يبرءون منه من الصحابة مما لم تقم به الحجّة فلا يجدون إلى دفع ذلك سبيلا.
و الوجه الآخر:/أنه لو عرف من حال الرسول أنّه ربّما ألقى القرآن إلقاء خاصا إلى الواحد و الاثنين لوجب أن ينقل ذلك الأمة عنه و أن يعرف من دينه كما عرف ذلك من حاله في الأحكام التي كان بيّنهما على الوجهين جميعا، فلمّا لم يكن ذلك كذلك و لا كان هذا معروفا من حال النبيّ صلى اللّه عليه و سلّم بطل ما قالوه.
و يدلّ على فساد ذلك أنّه لو جاز لمدّع أن يدّعي أنّ ما هو من أصل الدين و أسّ الشريعة و معدن علمها،و مفزع الأمّة المتعبّدة بها و ملجئها، و منتهى علمها و الفاصل بينها:ما كان يبشّر الرسول صلى اللّه عليه و سلّم بيانا خاصا لا تقوم به الحجّة لساغ أن يدّعي مثل ذلك عليهم في النصّ على الإمام المفروض الطاعة عندهم بعده،و لساغت هذه الدعوى في بيان كثير من أركان الصلاة و الحج و صيام رمضان و تحريم القتل و الخمر و الزنا و اللواط و غصب الأموال،و أن يقول قائل و يتوهّم متوهّم أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم كان ربما ألقى كثيرا من أحكام هذه الأمور إلقاء خاصّا لا تقوم الحجة بمثله،و أنه كان يستثني في حكم جميعها أمورا يسوّغها لبعض أمته و يلقيها إليه وحده دون غيره من تجويز الأكل في أيام الصيام،و إباحة الصلاة بغير وضوء،و ترك حضور عرفة و طواف البيت و رمي الجمار،و يسوغ له في كثير من الأوقات
ص: 118
ترك الصلاة لغير علّة و لا عذر يبيح له الإفطار في بعض أيّام الصيام من رمضان،و أن يترك سائر الكفّارات،و أن يشرب الخمر،و يقتل النفس، و يستبيح الفرج،و يغصب الأموال،و أنّ ذلك كان معروفا من عادة الرسول و حاله في بيان هذه الأمور،و أنّنا لا نأمن أن يكون قد حضّ كثيرا من صحابته بإطلاق هذه الأمور و إباحتها،و في هذا تعطيل الدين،و الشكّ فيه، و الخروج عنه،و لا سبيل إلى الخلاص منه.
و إن هم قالوا في جميع هذا:لا يجوز ما طالبتمونا به في هذه الأمور لإجماع الأمّة على أنّ ذلك لم يقع من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم،قيل لهم:أنتم لا تحفلون بالأمّة و لا تكترثون بقولها،/إنما يجب أن تعرفوا مذهب الإمام المعصوم في ذلك فقط فإنه هو الحجّة،و لعلّ مذهب الإمام في بيان هذه الأمور و الفرائض ما ألزمناكموه،و أنتم لا تعرفون ذلك من دينه،و إن ادّعيتم أنكم قد عرفتم دينه في هذا لم تكونوا حجّة في الخبر عنه و قلبنا دعواكم، و قلنا لكم:فكذا تقول الشيعة الموافقة لنا على أنّ نقل جميع القرآن شائع ذائع قد قامت به الحجّة،و أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم بيّنه بيانا واحدا:إنّنا لا نعرف أنّ هذا دين الإمام في نقل القرآن و إذاعته،و بيان الرسول،فلا يجدون إلى دفع ذلك سبيلا،و إذا كان ذلك كذلك صحّ بهذه الجملة أنّ نقل جميع القرآن قد قامت به الحجة و انقطع العذر،و أن بيان الرسول له وقع على وجه واحد،و أنّ كلّ طريق يثبت به قيام الحجّة بالبقرة و آل عمران و الحمد و قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ و كلّ آية يحتجّ بها الشيعة هو الطريق الذي يجب به قيام الحجّة بنقل سورة من القرآن و آية من آياته و كلمة من كلماته.
و كذلك فلا يجوز أن يكون الرسول صلى اللّه عليه و سلّم يلقي بيان بعض القراءات و الأحرف التي نزل عليها القرآن إلقاء خاصّا لا تقوم به الحجّة،لأنّه ليس
ص: 119
مدّع ذلك في بعض الأحرف أسعد من مخالفيه و مدّعيه في غير ما ادّعاه، و لأنّ ذلك لو كان كذلك من الرسول لو تجب أن يعرف من دينه،و أن ينقل ذلك عنه نقلا تقوم به الحجّة،و لأنه بمثابة دعوى ذلك في بيان بعض أحكام الفرائض العامّة اللازمة للأعيان المشهورة من دين الرسول.
و إذا كان ذلك كذلك بان أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قد بيّن جميع القرآن و صدع به و قطع العذر في بابه في بيان جميع وجوهه و أحرفه التي تدلّ عليها، و أطلق القراءة بها،و أخبر أنّ اللّه شرع تسويغ القراءة بها.
و ممّا يدلّ على ذلك أيضا و يوضّحه وجودنا جميع الأمّة في زمن أبي بكر و وقت جمعه للقرآن،و في أيام عثمان و جمعه الناس على الأحرف و القراءات/التي أثبتها و أخذ الناس بها متفقين مطبقين على إثبات ما أثبتوه من القرآن و القراءات،فلو كان من ذلك ما نقل إليهم نقل الآحاد و ما لم يقم به الحجّة و لا انقطع العذر لم يجز في مستقرّ العادة و موضوعها أن يطبقوا على إلحاق قرآن و قراءة تروى لهم من جهة الآحاد لم تقم به حجّة بالقرآن و القراءة الثابتة المعلومة من دين الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم بالخبر الظاهر المستفيض القاطع للعذر،و أن يخلطوا ما لم يعلم من ذلك و لم يثبت بالخبر الظاهر المعلوم،و لكان لا بد في مستقرّ العادة من أن يمتنعوا من ذلك أو أكثرهم، أو أن يقول خلق منهم:كيف يجوز أن يلحق بما قد علمناه من القرآن و القراءات و تيقّناه و انقطع عذرنا فيه ما لم نعلم صحّته و لا ندري لعلّ الرسول لم يبلّغه و لم ينزل عليه،أو لعلّه بلّغه و أنزل عليه على غير هذا الوجه و أن يمرجوا و يموجوا في ذلك،و يكثر خوضهم و يكون الرادّ لذلك و المنكر له و المانع من إثباته و إلحاقه بالظاهر المعلوم أكثر و أغلب من الراضي به و المسوّغ له،لأنّه لا يجوز على مثل عددهم في فضلهم و دينهم و أماناتهم أن
ص: 120
يهملوا ذلك و أن يستجيزوا ترك قراءة قرآن قد قامت به الحجّة إلى قراءة و قرآن و تلاوة على وجه لم تقم به الحجة و لا انقطع العذر،و يدوّنونه و يعظّمونه تعظيم ما علموه في دين نبيهم عليه السلام،كما أنّه لا يجوز على مثلهم في حالهم تعظيم الشعر و الآداب و كتب الفلسفة و التنجيم على كتاب ربّ العالمين،و إلحاقه بدرجته،أو أن يعظّموا هذه الكتب و يمتهنوا المصاحف و يحتقروا القرآن،و لأجل أنّ العادة ممتنعة من كل أهل علم و صناعة تعظيم لعالم و علم صنّفه و كتاب وضعه هو معظم علمه و موضع شرفه و فضيلته، و قد عرفوا ما وضعه منه و تيقّنوه و لقّنوه عنه،و شاهدوا إثباته له و حثّه عليه و أمره بالرجوع إليه أن يلحقوا بما في ذلك الكتاب ما يرد عليهم عن ذلك العالم المصنّف ورود الآحاد الذي لا يعرف صدق ناقله و راويه.
و كذلك ما/لا يجد الفقهاء و المتكلّمين و الشعراء و المتأدّبين و الفلاسفة و المنجّمين يستجيزوا أن يلحقوا«بموطإ مالك»و«مختصر المزني» (1)و«المقتضب» (2)و«إقليدس»و«المجسطي» (3)و(قفا نبك من ذكرى حبيب و منزل)ما يرد عليهم الورود الشاذّ الذي لا يعرفونه و لا يحقّقونه تحقيق معرفتهم بما تضمنته هذه الكتب من الأمر الظاهر المشهور،هذا معلوم بالعادة و الطباع،فكتاب اللّه أولى بذلك،و السلف الصالح من الأمّة أحقّ منا.
ص: 121
سبق إلى إنكار إلحاق شيء غير معلوم عن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم بما ثبت و علم عنه من كتاب اللّه الذي هو الأمل و المفزع،و عليه عند الكافّة العماد و المعوّل.
و إذا كان ذلك كذلك وضح بهذه الجملة قيام الحجة بنقل جميع القرآن الثابت في مصحفنا و القراءات،و أنّ ذلك أجمع ثابت معلوم من دين الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم و إثباته لجميعه و قليله و كثيره و لطوال سوره و قصارها،كان على وجه واحد في الإذاعة و الإعلان و الإشاعة و القصد إلى إقامة الحجة و إثبات الحفظ له عنه،و حصول العلم به،و هذا ما لا شبهة على عاقل فيه.
و مما يدلّ أيضا على أنه لا يجوز أن يكون قد ذهب و سقط على الأمّة حفظ شيء من كتاب اللّه مما قلّ أو كثر،و أن الذي بين الدفتين هو جميع كلام اللّه الذي أقرّ برسمه و إثباته و حفظه أنه لو كان قد ضاع منه شيء و ذهب علمه و حفظه على الأمّة لم يخل ذلك الضائع الذاهب من أن يكون سورة كاملة من سور القرآن أو آيات من سورة معروفة أو كلمات من آيات من السور، و لكان أيضا لا بد من أن يكون سبب سقوط ذلك و ذهاب علمه و معرفته عن الأمة هو أنّ الرسول لم يبلّغ ذلك و يصدع به و يؤدّيه،لو أنّ الأمّة لم تصغ إلى ما أدّاه الرسول من هذا الضائع و لم تعه و لا حفظته عنه و لا أحفلت به و أعظمته،بل كذّبته فيه و ردّته و صغّرت شأنه و حقّرته،و لم تحلّه محلّ غيره مما تلي عليها فحفظته و أعظمت شأنه و انصرفت هممها إلى حفظه و العلم به،فإن كان ذلك لأجل أنّ الرسول لم يؤدّه/و يبلّغه و يقوم بحقّ اللّه فيه و في تلاوته عليهم و أمرهم بحفظه،فهذا طعن على الرسول و قدح في نبوّته و دينه و أمانته لا شيء على الأمّة فيه و لا لوم و لا عيب،و نحن فلم نوجب على الأمّة حفظ ما لم يبلغها و يؤدّى إليها،و ليس في المسلمين من يستجيز وصف النبيّ بهذه الصفة و يحلّون في هذه المنزلة مع اعتقاد تصديقه و نبوّته.
ص: 122
و إن كان السبب في سقوط حفظ ذلك و ذهابه على الأمّة أنها لم تصغ إليه و لا أحفلت به و لا صدّقت الرسول فيما أتى به منه فذلك محال،لأنّه ليس من دين أحد من المسلمين اعتقاد شيء من هذا في القرآن و لا فيما دونه من السنن و الآثار،و لأنّ الأمّة مطبقة و غيرهم من الملل و كل من عرف سيرة المسلمين في تلقّي القرآن من النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم يعلم أنه لم يكن هذا دين المسلمين أو رأيهم أو أحدا منهم في شيء من القرآن الذي يتلوه عليهم و يخبر بأنّه منزّل من عند اللّه،بل كانوا على سجيّة واحدة و نمط متساو في حفظ القرآن عن الرسول و تعظيم جميعه و انصراف هممها إلى تحفّظه و اعتقاد تعظيمه و تصديق من جاء به.
و لو ساغت مثل هذه الدعوى لمدّعيها لساغ لآخر أن يدّعي أنّ القرآن الذي تلاه رسول اللّه صلى اللّه عليه على أمّته و أمرهم بحفظه كان أكثر من مائة ألف ألف ألف آية،و إنه كان يزيد على ألف حمل بعير،غير أنّ الأمة لم تحفظ منه إلا هذا القدر،و لم تع الباقي عن الرسول و لا اكترثت به و لا عظّمته و لا أصغت إليه،و لا كانت حالها في قبوله و الحرص على تحفّظه و تعلّمه كحالها في قبول هذا القدر الحاصل في أيدينا و الحرص على تحصيله و الإحاطة بعلمه،فذهب كلّ ما تلاه عليهم عنهم،و بقي هذا القدر اليسير لشهوتهم بحفظه و خفّة ذلك على قلوبهم،أو لتعظيم هذا القرآن أكثر من تعظيمهم كان لما (1)لم يصغوا إليه و لا يعلموا بحفظه،و هذا جهل ممن صار إليه و دان به،و لو ساغ مثل هذا لقائله لساغ لآخر أن يقول:إنّ الثابت في شريعة الرسول من الفرائض و السّنن و الحدود و الأحكم أضعاف ما في/».
ص: 123
أيدينا من ذلك،و أنه قد ذهب على الأمّة حفظ أكثر ما شرعه الرسول لها، و إن كانت قد حفظت هذا القدر الباقي لأجل أنّها لم تحفظ تلك الأحكام و الحدود و الفرائض لتركهم للإصغاء للرسول عليه السلام و قبول ذلك منه، و قلّة احتفالهم به،و إنّما حفظوا هذا القدر لخفّته على قلوبهم،أو لسبب أوجب ذلك لا يعرفونه،و من بلغ إلى هذا فقد ظهر جهله،و كفينا مئونة كلامه.
و إن كان هذا و الذي قبله محالا و كانت الأمّة قد حفظت عن الرسول صلّى اللّه عليه جميع ما أتى به من القرآن و عظّمته و جرت في تفخيم شأنه على سبيل واحد غير أنّها أسقطت ذلك فتركت نقله و ضبطه بعد أن كانت و عنه و حفظته فذلك أيضا محال،لأنّه لا يخلو سقوط ذلك عليها و تركها لإثباته من أن يكون عن قصد منهم إلى ذلك و مواطأة و تراسل على طيّه و كتمانه،أو باتفاق ذلك و سهو سائرهم عنه عن غير قصد إلى ذلك و لا اعتماد لتركه و تواطئ على كتمانه فيستحيل أن يكون ذلك واقعا منهم بعد حفظه و معرفته على سبيل القصد و الاعتماد و التشاعر و التراسل على كتمانه، لأنّه لو كان ذلك كذلك لوجب في مستقرّ العادة و مقتضاها أن يظهر عليهم و عنهم ذكر هذا التواطي أو التراسل،و أن يدور الحديث به بينهم،و يعلم ذلك من حالهم في يسير الوقت و أقصر المدّة،فإن يذكروا أسبابهم و دواعيهم الباعثة لهم على كتمان ما قد عرفوه و سمعوه من القرآن حتى لا يخفى على أحد عرفهم و تأمّل بأحوالهم و خالطهم أنّهم أهل تراسل و تشاعر على إنكار ما عرفوه و دفع ما علموه،فلمّا لم يظهر ذلك عليهم و يعلم من حالهم ثبت بذلك أنّهم لم يتواطئوا على كتمان شيء من كتاب اللّه.
و لو جاز أن يكتموا من القرآن سورة أو سورا أو آيات بقدر سورة أو سور منه لأسباب تعنيهم أو أغراض و بواعث حدتهم عليه،ثم لا يظهر ذلك
ص: 124
عليهم و لا يعرف من حالهم لجاز أن يقع منهم/تواطؤ و تراسل على كتمان فرائض كثيرة،و أحكام و حدود هي أكثر مما نقلوه لأسباب دعتهم إلى ذلك، ثم لا يعرف ذلك من حالهم و أن يتفقوا على كتمان وقائع كثيرة و غزوات و حروب هزموا فيها،و نال الرسول في سائرها جراح و كلوم،و قتل كثير من أصحابه و جلّة الأئمّة الأربعة،و أن يتفق لهم التواطؤ على كتمان أسر قريش للنبي صلّى اللّه عليه مرات،و أن يطبقوا على كتمان معارضة القرآن و سائر آيات النبيّ صلّى اللّه عليه،ثم ينكتم ذلك عليهم،و لا يعرف الاتفاق عليه من أحوالهم،فكذا لا نأمن أن يكون قد كتموا فرض عشر صلوات كانت مفروضة مع هذه الخمسة،و فرض صيام شهور أخر فرض صومها كفرض رمضان،و حجّ واجب و حدود و أحكام هي أكثر مما في أيدينا،و أن لا نأمن أن يكون النبيّ صلّى اللّه عليه قد غزى ألف غزاة و أسر ألف مرّة و قتل من أصحابه خلق هم في محلّ أبي بكر و عمر و عثمان و عليّ و حمزة بن عبد المطلب (1)و سعد بن معاذ (2)،غير أنّهم كتموا ذلك أجمع،و اتّفقوا على طيّه.
و أن لا يأمن بأن يكون القرآن قد عورض بمثله و سائر آياته،و اتّفقت الأمّة أو معظمها على جحد ذلك و إنكاره،فإن مرّوا على ذلك هذا كفينا مئونة الكلام معهم،و صاروا إلى القدح في الرسالة و جحد العادة.).
ص: 125
و إن أبوه و قالوا:لو وقع منهم اتّفاق على كتمان شيء من هذا لوجب ظهوره عليهم و العلم به من حالهم،و أن يعلم ذلك أيضا من ليس من أهل ملّتهم،لأنّ ذلك هو موجب العادة في كتمان الجمّ الغفير و العدد الكثير فيما يتّفقون على كتمانه،و إن جاز حقّا تواطؤ الاثنين و النفر اليسير على ما يتّفقون على كتمانه.
قيل لهم:و كذلك لو اتّفقت الأمّة أو عدد كثير منها على كتمان شيء من كتاب اللّه لوجب أن يظهر ذلك عليهم و يتحدّث به من أمرهم و يعرف من حالهم،و هذا ما لا جواب عنه.
و يستحيل أيضا أنّ ما أسقطوا ما كان حفظوه عن الرسول من القرآن و وعوه بعد ذكرهم له و معرفتهم به،و تركوا إثباته لأجل سهو/عن ذلك عمّهم،و نسيان شملهم،و عمّ سائرهم،لأنّه ممتنع على مثل عددهم في العادة،و من هو أقلّ منهم في العدد الكثير،و لو جاز ذلك عليهم لجاز أن يكونوا جميعا قد تركوا ذكر فرائض و حدود،و أحكام و حروب،و غزوات، و مقاتل فرسان جلّة،كانوا بمحلّ الصدر الأوّل،و تركوا أيضا ذكر آيات أخر للرسول هي أكثر مما نقلوه بأمر عظيم،لا عن سهو عن ذلك عمّهم،و نسيان لحق سائرهم و غفلة اقتطعتهم عن ذكر شيء منه،و من صار إلى ركوب مثل هذا فقد بلغ في الجهل حدّا لا يرجى معه برؤه و استقامته،و لا يطمع في الانتفاع بكلامه،لأنّ هذا أجمع دفع للضرورة و جحد لموجب العادة،أو آفة و غلبة تقطع صاحبها عن التمييز،و يستحيل أن يكونوا إنّما تركوا إثبات ما سقط عليهم من القرآن لأجل هلاك من كان يحفظ تلك السّور و الآيات،التي ترك القوم إثباتها إمّا بالقتل أو الموت لأمرين:
ص: 126
أحدهما:أنه كان لا بد في وضع العادة و مستقرّها من أن يتحدّث الباقون من الأمّة بأنّه قد ذهب قرآن كثير و سور،و آيات من سور بقيت منتثرة (1)بذهاب حفّاظها،لأنه لا بدّ أن يكون علم ذلك مشهورا مستقرا عندنا في الأمّة،و إن كانوا لا يحفظون ذهاب الذاهب على ترتيبه و نظامه و تعيّنه كما يعلم أهل بلد و إقليم من أقاليم المسلمين و قرية من قراهم اليوم أنّ من حفظ من الكهف إلى الناس فإنّه لم يحفظ جميع القرآن،و أنّ من حفظ عشرين آية من سورة البقرة فلم يحفظ سائرها،و إنّ ما لم يحفظه زيد من السّور هي السورة التي تسمّى كذا و سورة كذا،و إن لم يحفظوا هم أيضا ذلك القدر؛لأنّ القرآن كان أشهر عندهم و أظهر من أن يخفى أمره،لأنّهم كانوا يتلقّنون ذلك من رسول اللّه صلّى اللّه عليه،سوره مرتبة منظومة على سبيل ما يتلقّنه الناس اليوم،و كان من لا يحفظ السورة منه/يعلم أنّ في القرآن سورة تدعى بكذا و إن كان لا يحفظها،هذه هي العادة في علم الناس بالقرآن و معرفتهم بجملته حفاظا كانوا له أو غير حفّاظ.
و إذا كان ذلك كذلك وجب أنه لو سقط من القرآن سور و آيات لهلاك من كان يحفظ ذلك أن يعلم الباقون من الأمّة أنّه قد ذهب كثير من القرآن،و أن يتحدثوا بينهم حديثا لا يمكن معه الجهل بما ضاع من القرآن لذهاب حفظته، و لو كان منهم قول في ذلك و تحدّث به لوجب أن ينقل ذلك عنهم،و يتّسع ذكره فيهم،و في علمنا بأنّ ذلك لم يكن:دليل على بطلان هذه الدعوى.
و الوجه الآخر:أنه لا يجوز في مستقرّ العادة أن يتّفق القتل و الموت و الهلاك بأيّ وجه كان بجميع من كان يحفظ الذاهب من القرآن و بقاءة.
ص: 127
الحافظين لغيره،كما أنّه لا يجوز أن يتّفق هلاك جميع من يحفظ سورة الكهف و بقاء جميع من يحفظ مريم و عطب (1)كلّ حافظ لشعر جرير و بقاء كل حافظ لشعر الفرزدق،و هلاك جميع المرجئة و بقاء سائر المعتزلة، و عطب جميع من يحفظ مسائل و بقاء جميع الحفّاظ للوصايا،كلّ هذا باطل ممتنع في مستقرّ العادة،و ذلك لا يجوز فيها هلاك جميع من حفظ شيئا من كتاب اللّه،و بقاء الحافظين لغيره منهم.
و إذا كان ذلك كذلك ثبت أنّه لا يجوز سقوط شيء من القرآن بهذا الضرب من الضياع و هلاك الحفّاظ له دون الحافظين لغيره،فإذا كان كذلك ثبت بهذه الجملة أنه لا يجوز ضياع شيء من كتاب اللّه تعالى و ذهابه على الأمّة بوجه من الوجوه التي عددناها و وصفناها،و لا فرق بين أن يقول القائل إنّ الذاهب على الأمّة سور من القرآن أو سورة منه طويلة أو قصيرة أو آيات أو آية من سورة لأجل أنّ جميع القرآن كان ظاهرا مستفيضا عندهم على عصر الرسول و حين أدائه إليه و تبليغه لهم،فكما أنّه لو هلك حفّاظ سورة منه ليس عند الباقين حفظها وجب علم الباقين من الأمّة بها و إن لم يحفظوها /لأجل شهرتها فيهم و ظهور أمرها،فكذلك يجب عليهم بذهاب الآية منه سقوطها بهلاك حفّاظها لأجل شهرتها،و معرفتهم في الجملة بها.
و لو ساغ و جاز أن يذهب عليهم حفظ آية أو آيات نزلت و رتّبت في بعض السور بذهاب حفّاظها لساغ أيضا و جاز أن يذهب عليهم سور كثيرة من القرآن أو سورة منه قد كانت أنزلت مع السور،و أن يخفى أمرها لذهاب حفّاظها و هلاكهم،فإن مرّوا على ذلك تجاهلوا.4.
ص: 128
و إن أبوه قالوا:يجب أن لا يخفى نزول السورة على من حفظها منهم و من لم يحفظها،قيل لهم:و كذلك لا يجوز أن تخفى عليهم آية منه إذا سقطت لأجل ذهاب حفّاظها،لظهور أمرها و علمهم بنزولها،و أمر الرسول لهم بإثباتها.
فإن قالوا:نزول السورة أظهر فيهم و أشهر من نزول آية مضافة إلى سورة.
قيل لهم:ما الفصل بينكم و بين من قال:بل نزول الآية و الآيتين المضافة إلى سورة من سور القرآن،فقد كانوا عرفوا نزولها من قبل،و أنّ تلك الآية لم تكن فيها،و لا مضافة إليها،أشهر و أظهر فيهم من نزول سورة بكمالها،لم يتقدم علمهم بها و تحفّظهم لها لأجل أنّ ما تقدّم نزوله و حفظ عاريا مجرّدا مما أضيف إليه يجب في العادة أن لا يخفى البتة نزول ما نزل بعده و أضيف إليه،لأنّ الناس يعمدون أبدا لحفظ ما نزل و تجدّد و أضيف إلى ما سلف،و إلى ذكر سبب نزوله و قصّته و فيمن نزل و لأجل ما ذا ألحق بتلك السورة،و بنقل أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه الناس أن يضعوها في السورة المعيّنة دون ما قبلها و بعدها،و كلّ هذا يوجبه أن يكون نزول الآيات الزوائد المضافة إلى السّور أشهر من نزول سورة كاملة،فإن لم يكن الأمر فيها كذلك فلا أقلّ من أن يكون في الشهرة كهي،و إذا كان ذلك كذلك صحّ بجميع ما وصفناه أنّه لا يجوز أن يكون قد سقط و ذهب على الأمّة شيء من كتاب/اللّه تعالى،و أن يكون الذي بين اللوحتين هو جميع ما أنزل اللّه تعالى،و بقي رسمه و أمر بحفظه و إثباته،و العمل به و الرجوع إليه،و أنّ من ادّعى ذهاب شيء منه لبعض الوجوه و الأسباب التي قدّمنا ذكرها فقد قال باطلا و جهل جهلا عظيما.
ص: 129
دليل آخر:و ممّا يدلّ أيضا على صحّة نقل القرآن و أنّه هو المرسوم في مصاحفنا على وجهه و ترتيبه الذي رتّبه اللّه جلّ و عزّ عليه،اتفاقنا و الشيعة على أنّ عليّا عليه السلام كان يقرأه و يقرئ به،و أنّه حكّمه أيام التحكيم من فاتحته إلى خاتمته،و أقرّ من حكّمه بإحياء ما أحيا و إماتة ما أماته،و أنّه كان يحتجّ و يستدلّ به و رجع إليه،هذا ما لا خلاف بيننا و بينهم فيه،فوجب بذلك أن يكون نقله و تأليفه صحيحا ثابتا و أن يكون غير منقوص منه و لا مزيد فيه،و لا مرتّب على غير الوجه الذي أمر عليه السلام بترتيبه عليه،لأنّه لو كان فيه شيء من ذلك لسارع عليّ عليه السلام إلى إظهاره و إشهاره، و لكان تشدّده فيه أعظم من تشدّده في كل ما حارب و نابذ عليه،و لم يحكّمه و لم يقرّه،و كان أحقّ الناس و أولاهم بذلك.
و قولهم بعد هذا إنّه و إن كان قد فعل جميع هذا فإنّه قد أظهر أحيانا ضدّ ذلك،و أنّه كان في إظهاره لذلك في تقية و تحت غلبة:قول باطل و دعوى لا برهان معها و لا شبهة في سقوطها،و أيّ تقية تعاب عليه مع كثرة أجناده و نصّاره،و نصبه الحرب سجالا مع أهل البصرة و صفّين و حروراء و النخيلة و النهروان و قتل من قتل في هذه المواقف لو لا القحة (1)و قلّة الدّين و التحصيل،و سنتكلّم بعد هذا في إبطال تعلّقهم بهذه التقية،و شدّة و هاء قولهم،و نذكر ضروبا من الكلام فيها و ما يعني اليسير منها إن شاء اللّه، فبطل بذلك ما قالوه،و ثبت أنّ من مذهب عليّ عليه السلام في اعتقاده:
صحّة مصحف الجماعة و سلامة نقله و تأليفه من التخليط و الفساد مذهب سائر الأمّة في وقته/و من حدث بعده.).
ص: 130
و مما يدلّ على ذلك قوله تعالى: إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر:9]و قوله: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ [القيامة:17]،و قد ثبت بإجماع الأمّة منا و منهم أن اللّه تعالى لم يرد بهاتين الآيتين أنه تعالى يحفظ القرآن على نفسه و لنفسه،و أنّه يجمعه لنفسه و أهل سماواته دون أهل أرضه،و أنّه إنّما عنى بذلك أنّه يحفظه على المكلفين للعمل بموجبه و المصير إلى مقتضاه و متضمّنه،و أنّه يجمعه لهم فيكون محفوظا عندهم و مجموعا لهم دونه و محروسا من وجوه الخطأ و الغلط و التخليط و الإلباس.
و إذا كان ذلك كذلك وجب بهاتين الآيتين القطع على صحة مصحف الجماعة و سلامته من كل فساد،و ليس لأنّه لو كان مغيّرا أو مبدّلا أو منقوصا منه أو مزيدا فيه و مرتّبا على غير ما رتّبه اللّه سبحانه لكان غير محفوظ علينا و لا مجموع لنا،و كيف يسوغ لمسلم أن يقول بتفريق ما ضمن اللّه جمعه، و تضييع ما أخبر بحفظه له،و لس هاهنا مصحف ظاهر في أيدي الشيعة أو غيرهم يدّعون أنّه هو كتاب اللّه الظاهر المنقطع العذر به الذي حفظه اللّه على عباده! و كيف يدّعون ذلك و هم يزعمون أنّ ربع القرآن نزل في أهل البيت و أنّهم و سائر الأئمة مسمّون فيه كما سمّي من قبلهم،و هم لا يعرفون من هذا الربع،و هذه التسمية شيئا،و يدّعون أن سورة(لم يكن)كانت في طول البقرة،و لا يعرفون من الساقط عندهم منها شيئا،و يدّعون أنّ معظم الأحزاب قد سقط،و لا يعرفون ذلك،و أن سورة نزلت في طول البقرة ليس
ص: 131
مع الناس من حفظها إلا كلمة أو كلمتين:«لو أنّ لابن آدم و اديان من ذهب لابتغى إليهما ثالثا،و لا يملأ عين ابن آدم إلا التراب،و يتوب اللّه على من تاب»،و لا عندهم مصحف يدّعون تواتر الشيعة أو غيرهم في/نقله عن عليّ عليه السلام أو عن أحد من الأئمة من ولده.
و إذا لم يكن القرآن الصحيح السليم من عوارض الإلباس و الشّبه عندنا و لا عندهم و لا عند غيرهم من فرق الأمة؛وجب لذلك أن يكون غير مجموع لنا و لا محفوظ علينا،و هذا تكذيب للّه تعالى في خبره،و قبح افتراء و جرأة عليه،فوجب بذلك القطع على سلامة مصحف عمر و الجماعة، و كذب كلّ من ادّعى دخول خلل فيه ببعض الوجوه.
فإن قالوا:ما أنكرتم أنّه و إن لم يكن محفوظا عندنا و لا عندكم و لا عند أحد من فرق الأمّة أن يكون محفوظا على وجه و هو أن يكون مودعا عند الإمام القائم المعصوم المأمور بإظهاره لأهله،في حين ظهور و انبساط سيفه و سلطانه،فهذا ضرب من الحفظ له،يقال لهم:أقلّ ما في هذا أنه لا أصل لما تدّعونه من وجود إمام معصوم منصوص عليه،و قد أوضحنا ذلك و دلّلنا عليه بوجوه من الأدلة في كتابي الإمامة،و غيرها من الشروح و الأمالي بما يغني اليسير منه،و إذا كان ذلك كذلك ثبت أنّه لا أصل لوجود هذا الإمام و لا معنى في التعلّق في حفظ القرآن و جمعه بإيداعه إياه.
ثم يقال لهم:فيجب أن يكون اللّه سبحانه ما حفظ القرآن و لا جمعه لأحد من المكلّفين منذ وقت وفاة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و إلى وقتنا هذا،لأنّ عليا عندكم كان في تقية في أيام نظرة و قبلها و إلى أن توفي عليه السلام،و لا يظهر ما عنده ظهورا تقوم به الحجة،و إنما كان يعتمد في الظاهر على مصحف عثمان و القوم كذلك،و إلى وقتنا هذا،و إنما يجب أن يكون القرآن محفوظا
ص: 132
وقت ظهور المهدي فقط،و على أهل عصره دون سائر الأعصار،و هذا خلاف الظاهر و الإجماع،و إن ساغ ذلك لمدّعيه ساغ لآخر أن يقول:أنّه ما جمع و لا حفظ إلا على أهل عصر الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم في أيام حياته فقط،و أنّه مضيّع في سائر الأعصار إلى يوم القيامة،و لا فصل في ذلك.
و كذلك إن قالوا:فكل إمام في وقته لا/يخلو من دعاة و أبواب يوعز إليهم صحيح القرآن المودع عنده،قيل لهم:فيجب أن يكون محفوظا على الأبواب دون غيرهم،و إن ساغ ذلك ساغ لآخر أن يقول:إنه محفوظ على أهل عصر واحد فقط،و على قريش دون من سواهم أو على الأنصار دون غيرهم،و كلّ هذه الدّعاوى باطلة فارغة.
فإن قالوا:فإن الدعاة و الأبواب يجب أن يؤخذ ذلك عنهم،و يرجع الناس إليهم،قيل لهم:كيف يجب ذلك و هم عندكم غير معصومين و لا كالإمام،بل يجوز عليهم الكذب و الغلط و التغيير و التبديل،فكيف يحفظ على المكلّفين القرآن بقوم هذه صفتهم،فإن صاروا إلى أنهم معصومون كالإمام،تركوا قولهم و ألزموا عناء الأمة بعصمة هؤلاء الأبواب عن الأئمة.
ثم يقال لهم:و يجب أيضا على قولكم أن لا يكون القرآن محفوظا على جميع الأمة إذا ظهر الإمام و انبسط السلطان و تمكّن من إظهار مكنون علمه و مخزونه،لأنه إنما يظهر في بعض بلاد المسلمين و لا يمكنه لقاء أهل الشرق و الغرب،و إنما يمكنه المشافهة بالبيان لأهل داره فقط،دون أهل سائر دور الإسلام.
فإن قالوا:لا يجب ما قلتم لأنه يرسل رسله و أبوابه إلى أهل الأقاليم و الأطراف،قيل لهم:و ما ينفعهم ذلك و هم قد علموا أنّ الرّسل و الأبواب
ص: 133
غير معصومين،و أنّه يجوز عليهم الكذب و التبديل و التغيير و التحريف على الإمام و الشهود و الأغفال.
ثم يقال لهم:أيّ فائدة و نفع في إيداع صحيح القرآن إماما غائبا لا يقدر على إزالة جهالة،و لا إيضاح حجة،و لا كشف نقمة،و لا تجديد نعمة،و لا ردّ مظلمة،و لا يوصل إليه و لا يعرف له دار و لا قرار،و لا تقدّم منه قبيل غيبته بيان ما عنده،فيكون ذلك عذرا و غير مضرّ بالعباد غيبته و تقيته.
و إن قالوا:هذا أجمع لازم لكم في تجويز تقية الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم وقت غيبته و اختفائه في الغار،يقال لهم:و لا سواء،لأننا نحن إنما أجزنا تقية الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم بعد تقدّم بيانه/و إيضاح ما حمّله و كثرة صبره على الأذى و المكاره، و مناظرته و تركه دعاة إلى دينه و مباينين لمخالفيه،و إن كانوا تحت الضّيم و الغلبة،و منهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الذي يقول:«و اللّه لا يعبد اللّه سرّا بعد اليوم»صلوات اللّه عليهم،و يقول لهم:«لو بلغت عدّتنا مائة لعلمتم أنكم تتركونها لنا أو نتركها لكم»يعني مكة،و أنه كان ينصب الحرب معهم بمائة،و يقول لهم في جموعهم يوم هجرته و وقت غيبة الرسول عليه السلام:«شاهت الوجوه،لا يرغم اللّه إلا هذه المعاطس،إلا من أراد أن يرمّل زوجته و يوتم ولده فليلحق بي وراء هذا الوادي»،ثم يخرج عنهم مهاجرا معدّا شاكيا في سلاحه.
فلو توفي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في الغار لم يكن بقي عليه شيء يحتاج إلى إنفاذ و بيان،و ليست هذه حال إمامكم و لا صفته،لأنه لم يتقدّم منه بيان و لا إعداد،فشتّان بيننا و بينكم.
فإن قالوا:أ فليس القرآن عندكم محفوظا و الشرع أيضا كذلك،و قد أدخل في تأويل القرآن و في أحكام الشرع ما ليس منه،و أخرج منه بعض ما
ص: 134
هو منه،و طعن في ذلك أهل الزّيغ و الإلحاد،فكذلك حكم القرآن في جواز تغييره و تبديله،و إن كان اللّه تعالى قد حفظه على الأمة و جمعه.يقال لهم:
لا معنى لما أوردتموه،لأن مطاعن الملحدين و غلط المتأولين،و تحريف الزائفين و المنحرفين،لا يمنع من إظهار اللّه تعالى تأويل كتابه بواضح الأدلة و البراهين المنصوبة الناطقة بالحق،و صحيح النقل لأحكام الشرع،إما على وجه يوجب العلم أو العمل دون العلم،على ما رتّبت عليه عباداتنا،و لن يخلّينا اللّه تعالى في جميع ذلك من حجة لائحة،و دلالة قاطعة ناطقة،و إن صرف النظر فيها أهل التقصير و الجهل،فهم عندنا في ذلك بمثابة المكذّب بتنزيل القرآن،و الجاحد أن يكون من عند اللّه،و أن يكون معجزا للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم،و كلّ ذلك لا يخرجه عن صحة نزوله و كونه آية للرسول،إذ كانت الحجج على ذلك باهرة ظاهرة،و القرآن/الصحيح الذي يدّعون ضياعه و ذهاب جمعه على الأمة غير ظاهر و لا موجود و لا منصوب لنا عليه دليل يوصلنا إليه بعينه، و يفرق لنا بينه و بين غيره،فشتّان ما شبّهتم به و ظننتم الاعتصام بذكره.
و إن قالوا:أ فليس قد قال اللّه جل و عز: وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [الأعلى:3]، و قال: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى [الليل:12]،فضمن هدى العالمين و إن ضلّ منهم خلق كثير،يقال لهم:ليس الأمر على ما توهّمتم،لأن اللّه جل و عز أراد بهاتين الآيتين أن يهدي المؤمنين فقط و من في معلومه أن يهديه و أن يأخذ خلقه لنفعه و المصير إلى جنته،دون من أضلّه و ختم على قلبه و سمعه، و أخبر أنّ القرآن عمى عليه،و أنه قد أضلّه و ضيّق صدره و جعله حرجا و خلقه لناره،فإذا كان ذلك كذلك بطل ما توهّمتم من أنه إذا جاز أن يهدي اللّه من يضل،و لا ينفع من يستضرّ جاز أن يحفظ ما ضاع،و يجمع ما افترق و تشذّر و تبدّل،و كلّ هذا يدل على الهرب و الوغادة و التلفيق من المتعلّق به.
ص: 135
فإن قالوا:ما أنكرتم أن يكون المراد بقوله: وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر:
9]نفس الرسول عليه السلام دون القرآن،لأنه هو المبدأ بذكره،لأن اللّه تعالى قال: وَ قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الحجر:6]،إلى قوله تعالى: وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ ،يعني الرسول و أنه محفوظ من الجنون الذي قذفوه به،و أضافوه إليه،يقال لهم:هذا أيضا من ضيق الحيلة و الطعن، و تطلّب الغميزة و الطعن في كتاب اللّه تعالى،لأنه لا خلاف بين الأمة في أن المراد بالآية حفظ القرآن،و أنه بمعنى قوله: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ [القيامة:
17]،فلا معنى لما قلتموه،و لأنه أيضا قطع لسياق الكلام و نظمه،و ردّه إلى أمر مستبعد غير مستعمل في اللسان،لأن الظاهر من قوله تعالى: إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر:9]،أنّه حافظ للمنزّل من الذكر،فلا معنى لقطع الكلام عن نظامه و حمله على المستبعد،و لأنه لا تعلّق بين إنزاله للذكر،و بين حفظه للرسول،لأنه قد يحفظه و إن لم ينزل عليه الذكر،فما معنى إناطته إنزال القرآن بحفظ الرسول من الجنون،هذا ما لا وجه له،على أنه يكفي/في تصحيح ما قلناه التعلّق بقوله: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ [القيامة:
17]،فوجب بذلك سقوط ما ظنوا الانتفاع به،اللهمّ إلا أن يقولوا إنّ تنزيل هذه الآية الأخرى عندنا: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ [القيامة:17]،فيصيرون بذلك إلى التّرّهات،و إلى فتح باب يجب تنزيه الكتاب عن ذكره،و لا طائل في مناظرة من انتهى إلى هذه الجهالات.
ثم يقال لهم:إنّ التنزيل ورد كذلك أن قوله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة:16]يقتضي جوابا و تماما وصلة،يجعل الكلام مقيّدا،فإذا وصل ب إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ [القيامة:17]لم يكن الكلام مفيد شيء،لأنه لا ينبغي أن لا يحرّك به الرسول صلى اللّه عليه لسانه،و يشتدّ حرصه على
ص: 136
حفظه و تحصيله،لأن عليا عليه السلام جمعه و قرأ به،لأن ذلك ليس مما يوجب حفظ الرسول له،و تمكينه من أدائه،و لا ضمان من اللّه سبحانه لمعونته على جمعه و تسهيل سبيله له،و كذلك لو قال بأن جبريل جمعه و قرأ به لم يكن مفيدا لشيء،و إنما قال اللّه سبحانه: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ [القيامة:17]على سبيل الإخبار له عن معونته في جمعه له و حفظه إياه،على وجه يتمكّن به من تفهّمه و أدائه،و حفظ الغير له لا يوجب كون النبي صلى اللّه عليه على هذه الصفة،فبطل ما قالوه.
ثم يقال لهم:قد أجمع المسلمون و سائر أهل التأويل على أنّ هذا الكلام إنما خوطب به الرسول صلى اللّه عليه وقت نزول القرآن عليه و عند تلقّيه الوحي من جبريل،و شدة حرصه على تحفّظه لتفهّمه و أدائه،لم يكن حفظ ذلك و القراءة له عند عليّ و لا عند غيره من الأمة،فكيف يجوز أن يقال له: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ [القيامة:17]،و بعد لم يحصل للرسول حفظه و لا كان منه أداؤه،و ترى أنه متى جمعه عليّ و قرأ به في الذّرّ الأول أو في القدم،أو بعث به إليه قبل الرسول و نسخه،أو ألهمه و اضطر إليه و صعب حفظه و تلقّيه على الرسول،و لو لا جهل من يتعلق بهذا و يورده لوجب ترك الإخبار به.
ثم يقال لهم:إذا كان السلف قد أسقط من القرآن شيئا كثيرا و حذفه جملة و لم يصحّفه و لم يبينه إلى غير معناه و كانوا/قد سمعوا هذه الآية في تعظيم شأن علي عليه السلام و هم من قلة الدين و الإدغال (1)له و العناد لعليّ عليه السلام على ما وصفهم:وجب أن يحذفوا أيضا هذه الآية من الكتاب،6.
ص: 137
و يقطعوا بذلك تعلقكم بها،كما صنعوا في إسقاط ربع القرآن المنزّل في أهل البيت،و حذف أسماء الأئمة من غير تصحيف و لا ترك لما يحتمل جملة و توهمه على ما أنزل عليه،فكيف لم يحذفوا منه هذه الفضيلة العظيمة لعليّ و تركوها على وجه يمكن حمله على تعظيمه و ما نزلت عليه؟!و هل هذه الدعوى إلا بمنزلة دعوى من قال إنّما قال: *إِنَّ اللّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ و(آل علي) عَلَى الْعالَمِينَ [آل عمران:33]،و إنما جعل آل عمران قصدا و عنادا،و كل هذا مما لا شبهة على نقلتهم في فساده و إنما يوردونه (ليوهموا) (1)به العامة و الجهّال،و أن يكون طريق العلم بصحة نقل القرآن و ثبوته هو طريق العلم بظهور النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و دعائه إلى نفسه و سائر ما ظهر و استفاض من أحواله و دينه و أحكامه،و هذا ما لا سبيل إلى الخلاص منه.
و هذه جملة مقنعة في صحة نقل القرآن تكشف عن بطلان قول من ادّعى فيه الزيادة و النقصان،و ذهاب خلق من السلف و الخلف عن حفظ كثير منه و إدخالهم فيه ما ليس منه،و موقف من نصح لنفسه و هدي لرشده،على سلامة نقل القرآن من كل تحريف و تغيير و تبديل،و قد بيّنا فيما سلف من عادات الناس في نقل ما قصر عن حال القرآن في عظم الشأن و وجوب توفّر هممهم و دواعيهم على إشاعته و إذاعته و اللّهج بتحفّظه،و أخذ الأنفس بحياطته و حراسته و إعظامه و صيانته بما يوجب أن يكون القرآن من أظهر الأمور المنقولة و أكثرها إشاعة و أرشدها إذاعة و أحقّها و أولاها بالإعلان و الاستفاضة،و أبعدها عن الخطأ و الخمول و الإضاعة و الدّثور،و أن تكون هذه حال جميعه و كلّ سورة و آية منه.م.
ص: 138
و قد وصفنا أيضا فيما سلف ما كانت عليه أحوال سلف الأمة من إعظام القرآن و أهله،و أخذهم أنفسهم/بتحفّظه و إجلال مؤدّيه إليهم،و بذلهم أنفسهم و أموالهم في نصرته و تثبيت أمره و تصديق ما جاء به،و الخنوع لموجبه،و أنّ ذلك أجمع يمنع في وضع العادة و ما عليه الفطرة من ضياع شيء من كتاب اللّه تعالى و إدخال زيادة فيه يشدّك أمرها،و يخفى على الناس حال الملتبس بها.
و لقد أخرج الصحابة ظهور القرآن بينهم و شهرته فيهم و شدة تعليم الرسول و تعلّمهم إياه منه،و مداومتهم على ذلك،و جعله ديدنا و شعارا إلى ضرب المثل به،و إقرائه بما شهر تعليم الرسول له على وجهه و ترتيبه الذي لا يجوز و يسوغ مخالفته و تقديم مؤخّر منه أو تأخير مقدّم.و كانوا يقولون في حديث التشهّد:«كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يعلّمنا التشهّد كما يعلّمنا السورة من القرآن» (1)،و إنما قالوا ذلك على وجه تعظيم أمر التشهّد و الإخبار عن تأكّد فريضته،و لزوم ترتيبه على سنن من لقّنوه،و كيف يجوز مع هذا أن يذهبوا عن حفظ القرآن الذي هو الأصل أن يؤخّروا منه مقدّما أو يقدّموا مؤخّرا، و يجتهدوا في إحالة نظمه و تغيير ترتيبه.
و لقد كانوا يأخذون أنفسهم بكثرة دراسة القرآن،و القيام به و التبتّل له، حتى ظهر ذلك من حالهم و انتشر،حتى تظاهرت الروايات بأنّ الصحابة كان لهم إذا قرءوا في المسجد دويّ و اشتباك أصوات بقراءة القرآن،حتى يروى أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أمرهم إذا قرءوا أن يخفضوا أصواتهم لئلا يغلّط بعضهم بعضا،و روي عن عبد اللّه بن عمر أنه قال:«إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كان إذا قرأ).
ص: 139
سورة السجدة سجد فنسجد معه حتى لا يجد أحدنا مكانا لجبهته» (1)، و روي عنه أيضا أنه قال:«كنّا نقرأ عند رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم السجدة فنسجد حتى يزحم بعضنا بعضا»،و هذا من أوضح الأدلة على أنه صلى اللّه عليه و سلّم كان يلقي القرآن إلقاء شائعا ذائعا و يجمعهم له و يأخذهم بتعليمه و الإنصات له،و أنّ الحفظة له كانوا في عصره خلقا كثيرا.
و كان عبد اللّه بن مسعود يقول:«تعلّمت من في رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم سبعين سورة،و إنّ زيدا له ذؤابة/يلعب مع الغلمان» (2)،و قال معاذ بن جبل:
«عرضنا على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم فلم يعب على أحد منّا،و قرأت عليه قراءة سفرتها سفرا فقال:يا معاذ هكذا فاقرأ» (3)،و كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم يقرأ على أبيّ و هو أعلم بالقرآن منه و أحفظ،ليأخذ أبيّ نمط قراءته و سنته،و يحتذي حذوه،و قد روي هذا التأويل عن أبيّ و ابن أبي.
و كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم يعرّفهم قدر القراء،و يأمرهم بتعظيمهم،و أخذ القرآن منهم،و يقول:«خذوا القرآن من أبيّ و عبد اللّه بن مسعود و حذيفة» (4)فروي عنه صلى اللّه عليه أنّه قال:«خذوا القرآن من أربعة:عبد اللّه بن).
ص: 140
مسعود،و سالم مولى أبي حذيفة،و أبيّ بن كعب،و معاذ بن جبل» (1)،ثم يحثّهم على كثرة دراسته،و يأمرهم بتزيين القرآن بأصواتهم،و يحثّهم على ذلك خوف الكلال و الملال،فقال صلى اللّه عليه و سلّم:«زيّنوا القرآن بأصواتكم» (2).
و روي عنه رواية مشهورة أنه قال و قد سمع قراءة أبي موسى الأشعريّ:
«لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود» (3).
و روي عنه أنه قال لأسيد بن حضير و كان حسن الصوت بالقرآن و قد قرأ من الليل فسمع حسّا جالت منه فرسه حتى خشي أن تطأ ابنه،فانصرف من صلاته إلى فرسه،و نظر فإذا مثل الظّلّة من السماء،فيها كالمصابيح،فأخبر بذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم فقال صلى اللّه عليه و سلّم:«تلك الملائكة دنت لصوتك،و لو مضيت لرأيت العجائب» (4).
و كان مع ذلك يأمر بتقديم القراء و تعظيمهم،و يعرّفهم ما لهم من عظيم الثواب في تحصيله،و شدة الأمر في الإبطاء عنه و النسيان له،و يأخذ كلّ).
ص: 141
داخل في الإسلام بقراءة القرآن و تعلّمه إياه بعد الشهادتين،و لا يقدّم على ذلك شيئا غيره،و يعرّفهم قدر موقعه،و لا يدع ذلك ببلده و دار مهاجره و سائر الآفاق و الأقطار التي افتتحها و فشا الإسلام فيها،و لا يخلّي أهل ناحية و جماعة من الأمة من معلّم القرآن و منتصب له فيهم،كما لا يخلّيهم من معلّم للإسلام و أركانه و فرائض دينهم التي لا يسعهم/جهلها و التخلّف عن حفظه و معرفتها،و ظهر ذلك من أمره و اشتهر لكثرة إبدائه و إعادته بالقرآن و تعظيم الشأن فيه و الحثّ عليه و كثرة تلاوته بقوله على أهل المواسم و المحافل في أيام الحج و غيرها،و الإذاعة له في أندية قريش و مجالسهم، و ذكر أصحابه و رسله و الداعين إليه للقرآن،و أخذهم الناس بتعليمه و تحفّظه حتى صار كثير من قريش و من اليهود و النّصارى يحفظون كثيرا منه كما يحفظ المسلمون،و يعرفون ما يتلى عليهم منه كما يعرفه الناظر في المصحف من المسلمين و الذي كثر طرقه لسمعه و إن لم يحط حفظا به.
و لم يكن هذا أمرا خافيا و لا مكتوما،فروى الناس رواية ظاهرة أنّ النفر من الأنصار الذين منهم النقباء و الأفاضل لما لقوا رسول اللّه صلى اللّه عليه في الموسم فأجابوه إلى الإسلام و لم يرجعوا إلى المدينة حتى حفظوا في وقتهم صدرا من القرآن و كتبوه و رجعوا به إلى المدينة،فلما كان من قابل كانت العقبة الأولى،و نشأ الإسلام في المدينة،فأرسلت الأنصار إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه يطلبون رجلا يقرئهم القرآن و يفقّههم في الدين،فوجّه إليهم مصعب بن عمير (1)،و كانوا يسمّونه المقرئ،و ما زال مقيما عندهم).
ص: 142
و يقرئهم القرآن إلى أن انتشر الإسلام بالمدينة و استعلى،و كانت العقبة الثانية،و ذكر أنّ مصعب بن عمير عاد إلى النبي رسول اللّه صلّى اللّه عليه في بعض تلك الأيام إلى مكة ثم عاد إلى المدينة و هاجر ابن أمّ مكتوم (1)معه، أو بعده،و كان مصعب و ابن أم مكتوم يقرءان القرآن بالمدينة إلى توافي أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه إلى المدينة مهاجرين إليها (2).
و لما افتتح رسول اللّه صلى اللّه عليه مكة خلّف بها معاذ بن جبل يعلّم الناس القرآن،و يفقّههم في الدين،و قال عبادة بن الصامت (3):«كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه إذا قدم عليه الرجل مهاجرا دفعه إلى رجل منّا يعلّمه القرآن،قال:فدفع إليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه رجلا و كان معي في البيت أعشّيه عشاء البيت و أقرئه القرآن» (4)،/و قال عبادة أيضا:«علّمت رجلا من أهل الصّفّة القرآن و الكتابة» (5).
و كان المسلمون بأرض الحبشة لما هاجروا إليها يتدارسون القرآن و يحاجّون به مخالفيهم،و يستظهرون به على الطاعن في دينهم،و ذكروا أنه لمّا أنزلت: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ [آل عمران:64] مع آيات أنزلها اللّه تعالى في محاجّة أهل الكتاب كتب بهنّ رسول اللّه صلى).
ص: 143
اللّه عليه إلى جعفر ابن أبي طالب عليه السلام و أمره أن يحاجّ بهنّ النصارى فيما كان يحاجّهم به من القرآن.
و لما قدم وفد الحبشة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و هو بمكة و دعاهم إلى الإسلام و احتجّ عليهم و أوضح لهم،فأسلموا و حسن إسلامهم،و أقاموا عنده ثلاثا،فيقال إنهم أخذوا عنه في تلك الأيام قرآنا كثيرا و رجعوا به إلى بلادهم.
و لما جاء وفد ثقيف كان منهم عثمان بن أبي العاص (1)،فجعل يستقرئ رسول اللّه صلى اللّه عليه القرآن و يتعلّمه منه و يختلف إليه فيه،حتى أعجب رسول اللّه صلى اللّه عليه ما رأى من حرصه على تعلّم القرآن فأمّره على قومه،و كان من أحدثهم سنا.
و روى عبد اللّه بن مسعود قال:«جاء معاذ إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه فقال:يا رسول اللّه أقرئني،فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه:يا عبد اللّه أقرئه، قال:فأقرأته ما كان معي،ثم اختلفت أنا و هو إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه فقرأت و معاذ و صار معلّما من المعلّمين على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه.
و لما هاجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه إلى المدينة لقيه بريدة ابن الحصيب (2)في بعض الطريق،فعرض عليه الإسلام فأسلم،و علّمه من وقته صدرا من سورة مريم،ثم قدم بريدة بعد ذلك إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه فقال له رسول اللّه:ما معك من القرآن با بريدة؟فقال:يا رسول اللّه علمتني).
ص: 144
بالغميم ليلة لقيتك صدرا من السورة التي يذكر فيها مريم،فأقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه على أبيّ بن كعب،فقال:«يا أبيّ أكملها له»،ثم قال:«يا بريدة تعلم سورة الكهف معها،فإنها تكون لصاحبها نورا يوم القيامة»، و كان بريدة/يقرئ قومه،و استعمله رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم على صدقاتهم.
و قد عرفت حال الصحابة في حسن طاعة النبي صلّى اللّه عليه و الانقياد له و إيثار نصرته و الانتهاء إلى أوامره،و أنهم قتلوا الآباء و الأبناء في طاعته، فكيف يجوز مع ذلك أن يهملوا القرآن و يحتقروا شأنه و هم يرون و يسمعون من تعظيم النبي صلّى اللّه عليه و حثّهم على تعليمه،و أخذهم بدرسه و إقرائه بالشهادتين،و جعله تالي ما يدعو إليه من فرض التوحيد؟! و لقد ظهر من حرصهم و شدة عنايتهم لحفظ القرآن و دراسته،و القيام به في آناء الليل و آخر النهار ما ورمت معه أقدامهم،و اصفرّت ألوانهم، و عرفت به سيماهم من أثر السجود و الركوع،حتى همّ خلق كثير منهم بالتبتّل و الرهبانية و الإخلاد و الاجتهاد إلى العبادة فقط،و قطع الحرث و النسل حتى أنكر ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و نهاهم عنه،حتى ظهر عن سعد بن مالك أنه قال:«لقد ردّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه على عثمان بن مظعون (1)التبتل (2)،و لو رخّص فيه لاختصينا» (3).).
ص: 145
و لقد كثرت قراءة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و الصحابة للقرآن و إقراؤهم إياه و تدارسه بينهم و مواظبتهم عليه و كثرة دعائهم الناس إليه حتى حفظ كثيرا منه البوادي و الوفود و الأعراب،فضلا عن المهاجرين و الأنصار،فروي عن عمرو بن سلمة (1)قال:«كنا على حاضر فكان الركبان يمرون بنا راجعين من عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه،فأدنوا منهم فأسمع حتى حفظت قرآنا كثيرا» (2)،و هذا لا يكون إلا مع كثرة الراجعين بالقرآن من عنده،و انطلاق ألسنتهم به،و لصقه بقلوبهم،و حرصهم على معاودته و دراسته.و في رواية أخرى عن عمرو بن سلمة قال:«كان ركبان يأتوننا من قبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه فنستقرئهم فيخبروننا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه قال:«ليؤمّكم أكثركم قرآنا»فكنت أؤمّهم و كنت من أحدثهم سنا،و كنت من أكثرهم قرآنا» (3)،و هذا يدل على حفظ الوفود له و شهرة إمرة القرآن فيهم،و كثرة/ الحافظين له منهم،و لقد حفظوه من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم و حفظ كثيرا منه النساء و الصبيان،لظهور أمره و تعاظم قدره و كثرة حثّ الرسول عليه السلام و حضّه على تعليمه.
قالت عائشة رضوان اللّه عليها في قصة الإفك لما قصّتها و ذكرتها لما نزلت به من القرآن في الوقت الذي أجابت فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه:ة.
ص: 146
«و كنت جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن» (1)،فدلّت بذلك على أنها قد كانت تقرأ منه و أنّ كبار النساء آنذاك كنّ يحفظن كثيرا من القرآن، و أنّ الحداثة منعتها من مشاكلتهن في ذلك.
و جاءت الأخبار بأنه قد كان إذ ذاك نساء كنّ يحرصن على قراءة القرآن و جمعه و حفظه،و أن أخت (2)عمر بن الخطّاب رضوان اللّه عليها كانت تقارئ زوجها سورة طه،و أنّ عمر دخل عليها فجأة فسمعهما يقرءان،و سأل عن ذلك،و كان ما سمعه و استعاده سبب إسلامه (3).
و روى الوليد بن عبد اللّه بن جميع (4):مما حدّثتني جدّتي أم ورقة بنت عبد اللّه بن الحارث الأنصاري (5)،و كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم يسميها الشهيدة، و كانت قد جمعت القرآن،و روي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم كان يزورها و يقول:
«انطلقوا بنا نزور الشهيدة»،و أقرّ أن يؤذّن لها،و أن يؤذّن في أهل دارها في الفرائض» (6).).
ص: 147
و كانت أمّ الدرداء (1)من المشهورات بحفظ القرآن و أخذ نفسها بدرسه و القيام بإعرابه،و روى يونس بن ميسرة الجيلاني عن أم الدرداء قالت:«إني لأحبّ أن اقرأه كما أنزل»و كانت أم عامر الأشملية ممّن تقرأ القرآن و يكتب لها،و جاءت بما كانت تحفظه إلى زيد بن ثابت أيام جمع أبي بكر القرآن مكتوبا لها بخط أبيّ بن كعب.
و روى داود بن الحصين (2)عن أبيه (3)عن أبي سفيان (4)مولى ابن أبي أحمد (5)قال:«سمعت أمّ عامر (6)تقول:«قرأت قبل أن يقدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه علينا من مكة/إحدى و عشرين سورة»،ثم عدّتها في الرواية عنها،منها من الطوال و منها من المفصّل،و من الطوال يوسف،و طه، و مريم،و من الحواميم.
فنرى أنه كم يجب على هذا أن يكون حفظ القرآن و كثيرا منه عند انتشار الإسلام و ظهوره في الآفاق،و كثرة أهل العلم و الشدة فيهم و سماع أزواج).
ص: 148
الرسول عليه السلام كحفصة و أمّ سلمة و عائشة عند ترادف نزول الوحي به و تلاوته في بيوتهن،و أخذه من منازلهن،و حضور من يحضر من النساء عندهن،و يقرأ عليهن و يحتجن إلى تدريسهن،و يأمرهن الرسول صلّى اللّه عليه بتعليمهن.
و كان الرسول صلّى اللّه عليه يأخذ الصحابة بتعليم الولائد و الأطفال و الأخذ لهم به،حتى روى سعيد بن جبير عن عبد اللّه بن عباس أنه قال:
«جمعت المحكم على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه»،يعني المفصّل و كانت سنّة إذ ذاك ثلاث عشرة سنة أو دونها.
و قد تحفّظ أيضا زيد بن ثابت شيئا كثيرا في حال صغر سنه،فروى ابن أبي الزّناد (1)عن أبيه أبي الزناد (2)عن خارجة (3)بن زيد بن ثابت أنه أخبره أنه قدم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه المدينة،قال زيد:فذهب بي إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه ليعجب بي،فقالوا:يا رسول اللّه هذا غلام من بني النجار معه مما أنزل اللّه عليك سبع عشرة سورة،قال:فأعجب رسول اللّه صلّى اللّه عليه،و قال لي النبيّ صلّى اللّه عليه:«يا زيد،تعلّم كتاب يهود، فإني و اللّه ما آمن يهود على كتابي»،قال:فتعلّمت له كتابهم،فما مرّت بي).
ص: 149
خمسة عشر حتى حذقته،و كنت أقرأ كتبهم إذا كتبوا إليه،و أجيب عنه إذا كتب،و ذكر أنه كانت سنة إذ ذاك إحدى عشرة سنة (1).
و أن زيد بن ثابت قال:«كانت وقعة بعاث و أنا ابن ست سنين،و كانت قبل هجرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه لخمس سنين،فقدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه المدينة و أنا ابن إحدى عشرة سنة،فلم أجز في بدر و لا أحد،و أجزت في الخندق».
و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه مع أمره للصحابة/بتعليم القرآن و الانتصار له و تأكيد الوصية بذلك ينهاهم عن أخذ رفد أو أجرة عليه، إعظاما له،و حثا على طلب القربة و المثوبة به،فروي أن رجلا قدم و أبيّ يقرئ في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه،فجعل يختلف إليه يعلّمه، فأعجبت أبيّا قوس كانت مع الرجل،فسأله أن يبيعه إياها،فوهبها له الرجل،ثم سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه عن ذلك فنهاه عن قبولها،و ذكر في بعض الأخبار أنه قال:«قوس من نار» (2).و ذكر أن هذا الرجل كان الطّفيل بن عمرو الدّوسي (3)،قال بعض الرواة:إن المقرئ كان زيد بن ثابت،و قال آخرون:كان عبادة بن الصامت،و قال آخرون:أبيّ بن كعب، مع اتفاقهم على تصحيح هذه القصة و ثبوت الرواية.).
ص: 150
و لقد كثر حفّاظ القرآن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و انتشروا و عرفوا به حتى كانوا يدعون أهل القرآن و قرّاء القرآن و القراء من الصحابة، و ينادون به في المغازي و عند المعترك و شدة الحاجة إلى الجهاد و الإذكار بالآخرة،و يتنادون بأصحاب سورة البقرة،هذا مع العلم بأن طالب القرآن منهم لم يكن يبدأ بتحفّظ البقرة و أمثالها و إن كان منهم الشاذّ النادر ممن يفعل ذلك،و إنما كانوا يبدءون بالمفصّل و ما خفّ و سهل حفظه على النفس، و إنما كان يتعرّض لحفظ البقرة و أخواتها من الطّوال من قد حفظ سائر ما أنزل و لم يبق عليه منه إلا القليل،و ربما جعل البقرة آخر شيء يحفظه،هذا هو العادة و المعروف من أحوال من سبقت هجرته و طالت صحبته،و حال من ابتدأ الدخول في الإسلام و من بلغ الحلم و احتاج إلى التعليم و التدريج، فثبت بذلك أن أهل سورة البقرة إنما كانوا حفّاظ القرآن،و كان يكنى بذكر البقرة عن حفظ سائر القرآن لكونها أصعب سورة منه و أطولها.
و قد روى الناس (1)أنه لما كان يوم حنين خاضت بغلة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و كانت بغلة بيضاء/،فكره رسول اللّه صلّى اللّه عليه أن ينهزم فاعتنق البغلة حتى مال السرج حتى كاد يقع عن بطنها،قال عبد اللّه:فأتيته فأدخلت يدي تحت إبطه،ثم رفعته حتى عدّلت السرج،ثم قلت:«ارتفع رفعك اللّه»، ثم أخذت بلجام البلغة فوجهتها في وجه العدو،و نودي في الناس:يا أصحاب سورة البقرة،يا أصحاب الصّفّة،فأقبلوا بالسيوف كأنها الشهب،و أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه قبضة من تراب فرمى بها في وجوه القوم،فهزمهم اللّه جلّ و عزّ،و في رواية العباس مثل ذلك،و أنه قال:فرمى بالتراب و قال:).
ص: 151
«شاهت الوجوه»،و أن المؤمنين و أهل القرآن توافوا بالسيوف،و أحدقوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و حفّوا به إحداق البقر بأولادها،قال:حتى خفت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه،يعني من الزّحام حوله و شدة الذّيادة عنه.
و الأغلب من حال هذه الرواية أن يكون أكثر من أحدق برسول اللّه صلّى اللّه عليه هم أهل سورة البقرة،و حفّاظ كتاب اللّه،و أهل الصفّة الذين كانوا متبتّلين لعبادة ربهم،و منتصبين لقراءة القرآن و لحفظه،و أخذ أنفسهم به، و لعل سائر أهل الصفة كانوا حفّاظا لكتاب اللّه جلّ و عزّ على ما يوجبه و يقتضيه ظاهر حالهم،لأنهم لم يكن لهم في زمن رسول اللّه صلّى اللّه عليه عمل و لا معيشة و لا حرفة غير ملازمة المسجد و الصلاة و تعلّم القرآن و التشاغل بصالح الأعمال،لا يتشاغلون بشيء سوى ذلك،و كان الناس قد عرفوهم بذلك فكانوا لأجل ما ذكرناه من أحوالهم يحنون عليهم،و يؤثرونهم على أنفسهم،و يراعون أمورهم،و يشركونهم في أقواتهم،و يرون تفضيلهم على أنفسهم،و إجارتهم عظيم الفضل بما انقطعوا إليه من التشاغل بأمر الآخرة و الانتصاب لحفظ القرآن و تدارسه و الصلاة به.
و الأشبه بمن هو دون هؤلاء في الفضل و الدين و حسن البصائر،و ثاقب الأفهام،و صحة القرائح و النحائر،و سرعة الحفظ و الاقتدار على الكلام و حفظ ما قصر/و طال:أن لا يبطئوا و يتخلّفوا عن حفظ القرآن الذي هو أصل دينهم،و عماد شريعتهم،و أفضل أعمالهم،و أعظمه ثوابا عند اللّه تعالى،فوضع العادة يقتضي إحاطة جميع أهل الصفّة بحفظ جميع ما كان ينزل من كتاب اللّه تعالى،فكيف يجوز مع ما وصفناه أن يهملوا أمر القرآن، و يعرضوا عن تحفّظه،و يحتقروا شأنه،و يتشاغلوا بغيره عنه،و قد سمعوا من
ص: 152
اللّه و من رسوله في الحثّ عليه و التفضيل لقرأته ما حكيناه من حالهم في إعظامه و إعظام أهله ما وصفناه؟! و هم مع ذلك لم يحولوا طول تلك الأيام عن صفتهم،و لا ارتدوا عن دينهم،و لا لحقهم عناء و لا فتور في طاعة ربهم،و نصرة نبيهم،و حسن الإصغاء و الإنصات لما يورده عليهم،و يأخذهم بحفظه،و يأمرهم بحياطته، بل يزدادون في كل يوم بصيرة و تيقّنا و تمسّكا بطاعة اللّه تعالى و تثبيتا، و بذلك وصفهم اللّه تعالى في غير موضع من كتابه و على لسان رسوله،فمن أي ناحية يتجه عليهم الظنّة في تضييع القرآن و إهماله و الذهاب عن تأليفه و ترتيبه و استجازة تغييره و تبديله و الزيادة فيه و النقصان منه لو لا قلة الدين و الذهاب عن التحصيل؟!و لقد اتسع حفظ القرآن في الناس في زمن عمر بن الخطاب رضوان اللّه عليه و كثر حفّاظه،و القائمون به،و التالون له،حتى إنه كان لهم في ذلك هيعة و ضجة و أمر عظيم مشهور.
و روى عبد الرزاق (1)عن معمر (2)عن ابن سيرين (3)قال (4):«كان أبيّ).
ص: 153
يقوم للناس على عهد عمر في رمضان،فإذا تمت عشرون ليلة انصرف إلى أهله و قام للناس أبو حليمة» (1).
و روى ابن عيينة (2)عن إبراهيم بن ميسرة (3)،عن طاوس (4)قال:
سمعت ابن عباس يقول:«دعاني عمر أتسحّر عنده،أو أتغذى عنده في شهر رمضان،فسمع عمر هيعة الناس خرجوا من المسجد،فقال لي:ما هذا؟ قلت:الناس حين خرجوا من المسجد،قال:ما بقي من الليل أحبّ إليّ مما ذهب منه» (5).
و روى عاصم (6)عن أبي عثمان (7)قال (8):«كان لعمر ثلاثة قرّاء،فأمر أسرعهم قراءة بأن/يقرأ ثلاثين آية،و أوسطهم بخمس و عشرين،و أدناهم).
ص: 154
بعشرين».و روى حمّاد بن زيد (1)عن كثير بن شنظير (2)عن الحسن (3)أن عمر بن الخطّاب رضوان اللّه عليه أمر أبيّا أن يصلّي بالناس في رمضان.
و روى يزيد بن خصيفة (4)عن السائب بن يزيد (5)عن عمّه قال:«جمع عمر الناس على أبيّ بن كعب و تميم الداري» (6).
و روى محمد بن سيف (7)عن السائب بن يزيد أنه قال:«أمر عمر بن الخطّاب أبيّ بن كعب و تميم الداري أن يقوما للناس،قال:فكان القارئ يقرأ بالمئين،حتى كنا نعتمد على العصيّ من طول القيام،و ما كنا ننصرف إلا في بزوغ الفجر» (8).).
ص: 155
و روى ابن جريج (1)أنّ أول من قام لأهل مكّة في خلافة عمر بن الخطّاب زيد بن منقذ بن زيد بن جدعان (2)،و كان من شاء قام معه،و من شاء قام لنفسه،و من شاء طاف».ه.
ص: 156
في صلاة التراويح على إمام واحد
و روى مالك بن أنس عن ابن شهاب (1)عن عروة بن الزّبير (2)عن عبد الرحمن بن عبد اللّه القاري (3)قال:«خرجت مع عمر بن الخطّاب ليلة في شهر رمضان إلى المسجد،فإذا الناس أوزاع متفرّقون،يصلّي الرجل لنفسه،و يصلّي الرجل فيصلي لصلاته الرّهط،فقال عمر:«إني لأرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل»،ثم عزم فجمعهم على أبيّ بن كعب،ثم خرجت بعد ليلة أخرى و الناس يصلون،فقال عمر بن الخطاب:
«نعمت البدعة هذه،و التي ينامون عنها أفضل من التي يقومون»يريد آخر الليل،و كان الناس يقومون أوله» (4).
ص: 157
و ذكر أصحاب التواريخ أنّ عمر بن الخطّاب أمر بالقيام في شهر رمضان في المدينة،و كتب إلى البلدان في سنة أربع عشرة،ثم لم يزل كذلك طول سنينه و أيام نظره إلى أن مات رضوان اللّه عليه،و لم يزل الأمر كذلك إلى أيام عثمان و عليّ و التلاوة تكثر،و الحفظ يتّسع،و القرآن ينتشر،و الإصغاء إليه يحصل من الصغير و الكبير،و الحاضر و البادي،و القاصي و الداني،فلا يحفظ على أحد من الناس أنه قال في طول تلك الأيام:إنّ القرآن مبدّل و مغيّر،و مزيد فيه و منقوص منه،و مرتّب على غير سننه و وجهه الذي أنزل/ عليه،و لا يقدح بهذا على راع و لا رعية،و لا تابع و لا متبوع،و لا يتناكر الناس شيئا مما يظهر بينهم منه،و لا يتحزّن متحزّن و لا يتأسّف متأسّف على ضياع شيء منه،و لا يطعن طاعن،و لا يقدح قادح على تاليه و مقرئه و كاتبه و ناسخه بتغيّر شيء منه،أو الزيادة فيه،أو النقصان منه،و كل هذا يدلّ دلالة بيّنة على تكذّب من ادّعى تغيير القرآن و انقطاع نقله و خفاء أمره،و قلة حفّاظه،و انصراف همم الناس و دواعيهم عن حفظه و إحرازه،و أنه لو وقع فيه تغيير أو تبديل،أو زيادة أو نقصان،أو مخالفة في الترتيب لسارع الناس إلى نقل ذلك و المذاكرة به،و التذامر لأجله،و الإبداء و الإعادة له،و في فقد العلم بذلك دليل على بطلان ما يدّعونه من هذا الباب.
فإن قال قائل:هذا الفصل من الكلام و من فعل عمر و سيرته و إن كان شاهدا لكم على ما قلتم،و حجة لصحة ما اعتقدتم،فإنه من أوله إلى آخره طعن على عمر و قدح فيه،و غضّ في عمله و قدره،لأنكم جميعا تشهدون عليه بأنه أحدث في هذا الباب سنّة لم تكن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه،و فعل ما لم يره الرسول صوابا،و قدّم رأيه لرأي النبي صلّى اللّه عليه، و اعتقد أنه قد استدرك من مصلحة الأمة و حسن الاحتياط لها ما ذهب على
ص: 158
الرسول علمه،و كل هذا طعن على من اعتقده في نفسه و أبدع في الدين ما لم يشرعه اللّه سبحانه و لم يسنّه رسوله،فما العذر عندكم لعمر في هذا الباب،و ما المخرج له منه؟ فيقال لمن اعترض بهذا من أغبياء الرافضة و أوغادها:ليس الأمر في هذا على ما توهّمتم،بل ما وصفناه:من فضائل عمر الشريفة و سننه الرضيّة الحميدة التي رضيها المسلمون،و نوّر بها مساجدهم،و قوّى بها هممهم و دواعيهم على طاعة ربهم،و حفظ كتابه،و إعظام دينه،و إقامة معالمه، و كان ما صنعه/من ذلك متّبعا للرسول صلّى اللّه عليه و حاضّا على ما حثّ عليه و دعا إليه و رغّب فيه،و ذلك أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم قد كان صلى بالناس هذه الصلاة في شهر رمضان،جمعهم لها و قام بهم فيها،ثم ترك ذلك مع إيثاره له و رغبته فيه خوفا من فرضه على أمته،أو خوف توهّم متوهّم من بعده أنها لمداومة الرسول عليها من اللوازم المفروضات،و أخبرهم بأنه إنما تركها لهذه العلة،لا لقبحها و لا لكونها بدعة في الدين،و لا لأجل أنها مفسدة للدين و المسلمين،و لا مما يجب أن يزهدوا فيه و يرغبوا عنه.
و روى أحمد بن منصور الرّمادي (1)عن عبد الرزاق عن معمر عن الزّهري عن عروة عن عائشة رضوان اللّه عليها قالت:«صلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه بالناس في شهر رمضان في المسجد،ثم صلى الثانية و اجتمع تلك الليلة أكثر من الأولى،فلما كانت الليلة الثالثة و الرابعة امتلأ المسجد حتى غصّ بأهله،فلم يخرج إليهم،فجعل الناس ينادونه الصلاة،فلم يخرج،).
ص: 159
فلما أصبح قال عمر بن الخطّاب:ما زال الناس ينتظرونك يا رسول[اللّه] البارحة،قال:أمّا إنه لم يخف عليّ أمرهم،و لكني خشيت أن تكتب عليهم» (1).
و روى قتيبة بن سعيد (2)عن مالك(عن) (3)ابن شهاب،عن عروة عن عائشة رضي اللّه عنها أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه صلى في المسجد ذات ليلة فصلى بصلاته ناس،ثم صلى من القابلة فكثر الناس،ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة،فلم يخرج إليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه،فلمّا أصبح قال:«قد رأيت الذي صنعتم،و لم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن يفرض عليكم»،و ذلك في رمضان.
و قد تظاهرت الأخبار بصلاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه بهم،و إخبارهم بأنه إنما امتنع من ذلك لما ذكره،فبيّن بهذه الأخبار أنّ هذه الصلاة سنة حسنة،فإن الاجتماع لها و القيام بها فضل كثير،و سنة جميلة،و لو كان ذلك مكروها عند اللّه تعالى في دينه لم يفعله و إنما وقع من الرسول صلّى اللّه [82]عليه/باجتهاده:لكان خليقا بأنّ جبريل نهاه عن ذلك و أخبره أنّ هذه الصلاةب.
ص: 160
بدعة مكروهة،و أنّ الاجتماع لها ليس من المصلحة،فلمّا عدل عن ذلك إلى القول بأنه إنما ترك ذلك مخافة أن تفرض عليهم ثبت أنّ هذه الصلاة و التجمّع لها سنة حسنة،و أنه إنما امتنع من ذلك-مع إيثاره لها-خيفة أن تفرض،فلما توفّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و انختم الوحي و انقطعت الرسالة،أمن فرض ذلك و زال الخوف منه عادت الصلاة و التجمّع لها إلى ما كانت عليه من الحسن،و استحبّ لكل مسلم فعل مثل ما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه فعله-على وجه التقرّب-و دعا إليه،و رغّب فيه،و قد تظاهرت الأخبار عنه صلّى اللّه عليه أنه كان يكثر الترغيب في هذه الصلاة و يحثّ على فعلها،و يرى الناس مجتمعين للقيام بها و أفذاذا،فيقرّ الفريقين جميعا و يستحسن ذلك من صنيعهم.
و روى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء (1)أن القيام كان على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه في رمضان يقوم النفر و الرجل كذلك،و النفر وراء الرجل،فكان عمر أول من جمع الناس على قارئ واحد،و من المحال أن يكثر هذا منهم و يتردّد على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و لا يرى عليه السلام اجتماعهم،و لا يسمع منه بذلك،و لو كان الاجتماع لهذه الصلاة منكرا لأنكره و زجره عنه،و رغّب في سواه،و إنما ترك هو التقدّم بهم لعلة ما ذكره،و لعلهم أو كثيرا منهم مجمّعون لأنفسهم و يبلغه ذلك فلا ينكر عليهم،و كيف ينكر عليهم ذلك و هو يحثّهم و يبعثهم على هذه الصلاة و المحافظة عليها بغاية الترغيب!؟).
ص: 161
و روى الزّهري عن أبي سلمة (1)عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه كان يرغّب في قيام شهر رمضان من غير أن يأمر بعزيمة فيه،فيقول:
«من قام رمضان إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه» (2).
[83]و روى الزّهري قال:أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن/و عبيد اللّه بن عبد الرحمن (3)عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه قال:«من قام رمضان إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه».
و في أمثال لهذه الرواية كلّها بهذا المعنى،و قريبة من هذا اللفظ،فكيف تكون هذه الصلاة بدعة.
و هذا قدر حثّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه عليها،و ترغيبه فيها،و قد ثبت مع ذلك أنه جمع الناس للقيام بها،ثم امتنع من ذلك للعلة التي ذكرناها، و قد بيّنا أن هذه العلة مأمونة غير مخوف وقوعها بعد وفاة النبي صلّى اللّه عليه فوجب أن يكون القيام بها و الاجتماع لها سنة حسنة جميلة مع ما في ذلك من أخذ الإمام نفسه بتجويد الحفظ و إقامة القراءة و الحذر من عيب الغلط و شدة إصغاء من خلفه و تذكّرهم و ضبطهم لما يسمعونه،و تفريغ قلوبهم و أذهانهم كذلك،و انصراف هممهم إلى سماعه و تأمّله و تصفّحه).
ص: 162
و الاتّعاظ به،فإنّ لسماعه من قارئه في المحراب من عظيم الاتعاظ و الموقع و التديّن من نفوس المؤمنين ما لا خفاء به،فأي بدعة في هذا و مخالفة للسنة!و هي سنة جميلة في تعظيم الدين و مصالح المسلمين و إكادة عدوهم، و إقامة معالم دينهم و تنوير مساجدهم،و الترغيب في طاعة ربهم،و التشاغل بعبادته و تعظيم كتابه،فمن ظن هذا بدعة من أغبياء الشيعة و عامّتهم فلا حيلة في أمره،و من قال ذلك و ناظر عليه ممن له أدنى مسكة منهم فلا شكّ و لا شبهة علينا و لا على أحد في تلاحده و تلاعبه،أو فرط تعصّبه و تنقّصه لعمر رضوان اللّه عليه و الحرص على بخسه حظّه،و تحيّفه فضائله،و تطلّب العنت له و العيب عليه بما لا عيب فيه و لا نقيصة،و لا أقلّ-مع الإنصاف و ترك العناد-من سلامة عمر من هذا الفعل،كفافا،لا له و لا عليه،فأما الطعن عليه و الغضّ منه و من قدره لأجله فإنه إفراط في الجهل و العنادة،و اللّه المستعان.
فإن قيل:ما معنى قول النبي صلّى اللّه عليه:«ما منعني أن أخرج إليكم إلا خشية أن تكتب عليكم»؟ قيل له:معنى ذلك ظاهر،و هو إيثاره التخفيف عن الأمة،و يمكن أن يكون قد/أخبره اللّه جلّ و عزّ على لسان جبريل أنه إن خرج إليهم و واصل[84] هذه الصلاة فرضت عليهم،إمّا لإرادته فرضها فقط على ما يذهب إليه،أو لأنه إن دام عليها حدث فيهم من الاعتقادات و تغيّر الحالات و الأسباب ما يقتضي أن تكون أصلح الأمور لهم كتب هذه الصلاة عليهم،و أنه إذا تركها لم يكن منهم ما يوجب كون فرضها صلاح حالهم.
و يحتمل أيضا أن يكون ظنّ أن ذلك سيفرض عليه،و أن تكون قد جرت عادته و عادة الصحابة في أعمال القرب أنهم إذا داوموا عليها على وجه
ص: 163
الاجتماع عليها و الاشتراك فيها كتب عليهم،فامتنع من ذلك على وجه إيثار التخفيف عن الأمة،و قد يمكن أيضا أن يكون عنى بقوله:«خشية أن تكتب عليكم»أنني أخاف أن يظن ظانّ بعدي من خليفة و إمام أنّها واجبة في شريعتي لمداومتي عليها فيلزمكم إيّاها و يأخذكم بها و بالقول إنها مفروضة في الدين،و ما قلناه أولا أقرب،لأن إطلاق القول إنها تكتب و تفرض عليكم إنما يعقل منه أن يكتبها و يفرضها من له-تعالى-تعبّد خلقه و تكليفهم و امتحانهم،دون من ليس له ذلك ممن يظنّ أن اللّه قد فرض و كتب على خلقه ما يدعوهم هو إليه،و كل هذه الأسباب مأمونة بعده صلّى اللّه عليه،و في إقامتها و الاجتماع عليها و لها من الفضل و الانتفاع بها ما قدّمنا وصفه،فبطل بذلك جميع ما توهّموه قادحا في فضيلة عمر بهذا الباب و إضافة بدعة إليه،و أنّه شرع في الدين ما ليس منه.
فإن قال قائل:جميع ما ذكرتموه من أخبار الرسول صلّى اللّه عليه في الحثّ على حفظ القرآن و إقرائه له،الشهادة الحق،و كلمة التوحيد،و تعليمه إياه كلّ داخل في الإسلام،و قراءته على الوفود أيام المواسم،و حفظ خلق من أهل الكفر لكثير منه،فضلا عن المسلمين بحفظ النساء و الصبيان له، و إنفاذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه خلفاءه و دعاته به إلى البلاد،و سبق الأنصار [85]بحمله إلى المدينة قبل الهجرة،و حصول قرّاء له عندهم و منتصبين/لإقرائه الناس قبل مهاجره و ظهور تسمية حفّاظه بأنهم أهل القرآن،و أهل سورة البقرة،و وجوب توافي همم أهل الصّفّة على حفظه،و تشاغل سائرهم به دون غيره،و مما روي من تغليظ القول في نسيانه بعد حفظه،و شدة تفلّته و عظيم المأثم في تركه،إلى غير ذلك مما أطنبتم في ذكره،يقتضي في مستقرّ العادة و تركيب الطبيعة و ما فطر الناس عليه أن يكون في الصحابة خلق
ص: 164
كثير من المهاجرين ثم من الأنصار قد حفظوا جميع القرآن و جمعوه، و أحاطوا به حتى لم يذهب عليهم شيء منه،بل يجب أن تكون هذه حال كافة أهل العلم و الفضل و الهجرة و السابقة من الصحابة،فإذا لم يكن الأمر على هذا علم أنّ الحجّة لم تقم بهذه الأخبار التي رويتموها،و أن الأمر في حال القرآن و تعظيم شأنه لم يكن عند القوم و لا في صدر الشريعة على ما وصفتم،و الأخبار قد تظاهرت من الجهات المختلفة بأن الذين جمعوا القرآن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه كانوا أربعة نفر فقط أو خمسة، و هذه الأخبار هي من طرقكم و رواياتكم،و عن الرجال الذين توثّقون نقلهم و تسكنون إلى أخبارهم،فروى الحكم (1)عن مقسم (2)عن ابن عباس قال:
«جمع القرآن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه أربعة:معاذ بن جبل،و أبيّ بن كعب،و مجمع بن جارية،و سالم مولى أبي حذيفة،و كان ابن مسعود قرأ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه سبعين سورة»،في أمثال لهذا الخبر كلّها وردت بأنّ قدر عدد الذين جمعوا القرآن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه ما ذكرناه،و هذا نقيض ما ادّعيتموه.
يقال لهم:جميع ما قدّمناه من أحوال الصحابة و شدّة تديّنهم و تمسّكهم بالدين و القرآن و تحفّظه و تلقّنه،و الإقبال عليه،و حثّ الرسول عليه السلام لهم على حفظه و دراسته،و إنفاذ الدّعاة به،إلى غير ذلك مما وصفناه،مما).
ص: 165
قد تواترت و تظاهرت به الأخبار على المعنى و إن اختلفت في ذلك الألفاظ [86]و العبارات،و علم ضرورة ثبوته،كما نعلم في الجملة تمسّك/الصحابة بالإيمان و تصديقهم الرسول و إعظامهم له و شدة نصرتهم إياه،و إن اختلفت الروايات فيما كان من أفعالهم و ألفاظهم و حالاتهم الدالة على صدق جهادهم،و شدة إيثارهم له،و عداوتهم لأهل الشرك،و ليس هذا مما لعاقل فيه شبهة و لا يجب ترك هذه الروايات المتوافية على المعنى و العلم بما عليه العادات و ما كانت عليه الصحابة بمثل الأخبار المروية في أنه لم يجمع القرآن من الصحابة إلا أربعة نفر،بل يجب أن يعتقد فيه أحد أمرين:
الضعف و الوهاء،و السهو و الإغفال لما هي عليه من اختلاف المتون و الألفاظ،و زيادة عدد الحفّاظ في بعض الأخبار و نقصانهم في بعضها، و الشكّ في حفظ آخرين،و تنافي ما جاءت به أو تصحيحها و تخريجها و تأويلها على وجه صحيح يمكن معه الجمع بينها و بين ما قدّمناه،و اعتقاد حفظ هؤلاء النفر و حفظ خلق معهم من المهاجرين و الأنصار،هذا ما لا بدّ منه.
و أوّل ما نقول في هذا أنّ الأخبار المروية في حفظ هؤلاء النفر قد وردت من جهة الآحاد ورودا مختلفا متفاوتا يدل على الاضطراب و قلة الضبط و ضعف المخرج و النقل،و ذلك أنه روي عن عبد اللّه بن عبّاس ما حكيناه عنهم،/و روى أيضا عبد اللّه بن إدريس (1)عن شعبة عن قتادة (2)قال:).
ص: 166
سمعت أنسا يقول:«قرأ معاذ و أبيّ و زيد و أبو زيد،قال:قلت:من أبو زيد؟قال:أحد عمومتي»يعني:على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه.
و روى مسلم بن إبراهيم (1)عن قرّة (2)قال:حدّثنا قتادة قال:«قرأ القرآن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه أبيّ بن كعب و زيد بن ثابت و معاذ بن جبل و أبو زيد،قال:قلت:من أبو زيد؟قال:من عمومة أنس» (3)،و لم يخبر قتادة في هذين الخبرين و لا عبد اللّه بن العبّاس بذلك عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه،و لا عن النفر الأربعة بلفظ ينفي حفظ غيرهم للقرآن،و إنما قالا ذلك من جهة غالب الظنّ و الرأي،أو على وجه ما يذكره من التأويل، و كذلك كلّ رواية وردت في ذلك ليست عن الرسول و لا بلفظ عن قوم يحجّ خبرهم يقتضي/أن لا حافظ للقرآن سوى من ذكره الرواة.[87] و روى غير واحد في غير خبر عن محمد بن سيرين في ذلك روايات مختلفة،فمنها أنه قال في بعض:«جمع القرآن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه أبيّ بن كعب و زيد بن ثابت و عثمان بن عفان و تميم الداري»،و في).
ص: 167
رواية أخرى عنه أنه قال:«كان أصحابنا لا يختلفون أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه مات و لم يجمع القرآن من الصحابة إلا أربعة كلّهم من الأنصار:معاذ بن جبل و أبيّ بن كعب و زيد بن ثابت و أبو زيد»،و روى الواقدي (1)قال:
حدّثني معمر و جماعة عن أيوب (2)عن محمد بن سيرين قال:«لم يختلفوا في أربعة جمعوا القرآن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه،و اختلفوا في رجلين،قال:«جمع القرآن على عهد النبي صلّى اللّه عليه أبيّ و معاذ بن جبل و زيد بن ثابت و أبو زيد الأنصاري،و اختلفوا في رجلين:عثمان بن عفان و تميم الداري»،و قال بعضهم:«عثمان بن عفان و أبو الدرداء».
و روى سعد بن إسحاق (3)عن أبيّ بن كعب القرظي قال:«جمع القرآن على عهد النبي صلّى اللّه عليه خمسة من الأنصار:أبيّ بن كعب و أبو أيوب و عبادة بن الصامت و معاذ بن جبل و أبو الدرداء».و روى أيضا ربيعة بن عثمان (4)عن أبيّ بن كعب القرظيّ قال:«عليّ و ابن مسعود و عثمان جمعوا).
ص: 168
القرآن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه»و روى عن سليمان بن يسار (1)قال:«كان عثمان بن عفّان قد جمع القرآن من المهاجرين على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه»فقلت:غيره؟قال:«لا أعلمه».
و روى الأصبع بن أبي منصور (2)عن زيد بن أسلم (3)أن عثمان بن عفان جمع القرآن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه»و روى الثوري (4)عن إسماعيل (5)عن الشعبي (6)قال:«جمع القرآن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه خمسة من الأنصار:معاذ بن جبل،و أبيّ بن كعب،و زيد بن ثابت، و أبو زيد،و أبو الدرداء».و روى عاصم (7)عن الشعبي أنه قال:«ستة بعد).
ص: 169
[88]هؤلاء»قال:«و نسيت السادس»/.و روى ابن أبي ذئب (1)عن سعيد بن خالد (2)عن ابن مسعود أنه جمع القرآن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه، و روى صالح بن محمد بن زائدة (3)عن مكحول (4):قال أبو الدرداء:«ممن جمع القرآن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه:أبيّ بن كعب،و معاذ، و زيد،و أبو الدرداء،و سعد بن عبيد (5)،و لم يقرأه أحد من الخلفاء من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه إلا عثمان بن عفان،و قرأه مجمع بن جارية (6)إلا سورة أو سورتين».
و روى ابن عيينة عن زكريا (7)عن الشعبي قال:«لم يقرأ القرآن على رسول اللّه صلّى اللّه عليه إلا ستة،كلّهم من الأنصار:معاذ بن جبل،و أبيّ بن).
ص: 170
كعب،و زيد بن ثابت،و أبو الدرداء،و سعد بن عبيد،و بقي على مجمع بن جارية سورة أو سورتين»،و روى موسى بن عقبة (1)عن شيخ من ولد عبادة ابن الصامت،عن عبادة بن الصامت قال:«جمع القرآن أبيّ بن كعب، و عبادة بن الصامت،و معاذ بن جبل،و زيد بن ثابت،و أبو الدرداء،و عثمان ابن عفان».
و أكثر هذه الروايات مختلفة متفاوتة مضطربة على ما نراها من الزيادة و النقصان،عن الرجال و عن الرجل الواحد أيضا،و ليس فيهم أحد أخبر بذلك عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و لا عن أحد الصحابة أو جماعة منهم بلفظ يقتضي لا محالة نفي حافظ القرآن غير من ذكره،و قد يجوز إن صحّت الأخبار عن هؤلاء القوم أن يكون ذلك إخبارا عن تقديرهم و غالب رأيهم و اجتهادهم،و أ يكون معناها ما سنذكره فيما بعد،و إذا أحصي عدد من ذكر في هذه الأخبار من الحفّاظ على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه كانوا نحو خمسة عشر رجلا،لأنه قد ذكر منهم:أبيّ،و معاذ،و سالم،و زيد بن ثابت،و عبد اللّه بن مسعود،و أبو زيد،و مجمع،و أبو الدرداء،و سعد بن عبيد،و تميم الداريّ،و أبو أيوب الأنصاريّ/،و عبادة بن الصامت،و عليّ[89] بن أبي طالب،و عثمان بن عفان،و هؤلاء أربعة عشر رجلا من المهاجرين و الأنصار،و المعترض علينا بهذه الأخبار و بهذا الضرب من المطالبة و السؤال أراد أن يجعل الحفّاظ على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه أربعة نفر فقط،و الأخبار التي حاول التعلّق بها توجب أنّ الحفّاظ أضعاف ما قاله.).
ص: 171
فهذه جملة تدل على اختلاف الروايات و اضطرابها في هذا الباب،و أنه لا يجوز أن يترك ما قدّمنا ذكره من الأخبار المستفيضة عن الصحابة و ما عليه تركيب الطبائع و العادة لأجل هذه الروايات،فإما أن تكون مدخولة أو منصرفة إلى ما سنذكره من التأويل،على أنه قد روى جماعة عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص (1)أنه كان ممن جمع أيضا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه صلى اللّه عليه و سلّم،و ما يوجب أن يكون أبوه عمرو بن العاص (2)ممن جمعه أيضا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه،و روي أيضا ما يوجب أن يكون عثمان بن أبي العاص ممّن حفظه و جمعه على عهد النبي صلّى اللّه عليه و قرأه في ليلة، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه:«إنّي أخشى أن يطول عليك الزمان و أن تملّ،فاقرأ به في شهر»،فراجعه في ذلك و نازله إلى أن بلغ إلى تقريره له سبع ليال (3).
و روى سماك بن الفضل (4)عن وهب بن منبّه (5)،عن عبد اللّه بن عمرو أنه سأل النبيّ صلّى اللّه عليه في كم يقرأ القرآن،فقال له:«في أربعين»،قال عبد اللّه:إني أطيق أكثر من ذلك،قال:«في شهر؟»قال:إني أطيق أكثر من-.
ص: 172
ذلك،قال:«في خمسة عشر»،ثم قال:«في عشر»،ثم قال:«في سبع»، و لم ينزل من سبع (1).
و روى معمر عن قتادة أنّ عبد اللّه بن عمر سأل النبيّ صلّى اللّه عليه:في كم تقرأ القرآن؟قال:«في شهر»،فقال:إني أطيق أكثر من ذلك.فذكر مثل حديث سماك،حتى انتهى إلى ثلاث،ثم قال النبيّ صلّى اللّه عليه:«من قرأه فيما دون ثلاث لم يفهمه» (2)،و ظاهر هذه الرواية تقتضي أن عبد اللّه كان ممن جمع القرآن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و إن كان يحتمل أن يكون جمع كثيرا منه من المكي إلى وقت سأل رسول اللّه/صلّى اللّه عليه عن[90] هذا السؤال،غير أنّ ذلك خلاف الظاهر.
و روى الحارث بن سعد (3)العتقي (4)عن عبد اللّه بن منين من بني عبد هلال (5)عن عمرو بن العاص أن النبيّ صلّى اللّه عليه أقرأه خمس عشرة).
ص: 173
سجدة في القرآن،منها ثلاث في المفصّل و في الحجّ سجدتان» (1)،و هذا الخبر يوجب ظاهره في غالب الحال جمع عمرو بن العاص جميع القرآن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه،لأنه لا يمكن أن يتفق أن لا يتحفّظ عمرو من هذه السورة إلا سجود القرآن فقط،و لا اتفق هذا لغيره،و لا يعلم أنّ أحدا اعتمد على ذلك و قصده وحده،و لو كان ذلك مما انفرد به عمرو لكان مفارقا لعادة القوم و ما نحن أيضا عليه في هذا الوقت و لوجب أن يظهر ذلك عنه و أن يبحث عن غرض فيه و أن يكون من الناس قول في هذا الباب، و في عدم ذلك دليل على أنه كان يعرض القرآن على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و أنّه وقفه على السجدات التي في القرآن و فصّلها له،و عرّفه مواضعها، و هذا أمر لا يصنع مع المبتدئ و لا يؤخذ به،فوجب لظاهر الحال من هذه الرواية أن يكون عمرو ممن جمع القرآن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه.
و روى مبارك بن فضالة (2)قال:حدّثني أبو محرز (3)مولى عثمان بن أبي العاص،عن عثمان بن أبي العاص قال:«وفدت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه مع ناس،فكنت أنا أصغرهم،قال:فلمّا قدمنا المدينة خلّفوني أحفظ متاعهم،قال:فقلت لهم:إني أشترط عليكم أن تنتظروني حتى آتي).
ص: 174
رسول اللّه صلّى اللّه عليه فأطلب إليه حاجة،قالوا:نعم،فلما رجعوا أتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه فسألته عن أشياء قال أبو فضالة (1):حفظتها قال:
قلت:أعطني المصحف الذي عندك،قال:فأعطاني و استعملني عليهم، فكنت أؤمّهم حتى جئت».
و ما على أحد شكّ و لا شبهة فيما كان عليه عثمان بن أبي العاص من التوفّر و الحرص على تعلّم القرآن لمّا وفد على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و تلقّنه منه،حتى قيل إنه لم يلبث إلا يسيرا حتى تحفّظ/القرآن عن رسول[91] اللّه صلّى اللّه عليه و طلب منه مصحفه فأعطاه،و لو لا أنه أكثر قومه الوافدين معه قرآنا و أخذا عن الرسول صلّى اللّه عليه لم يولّه الصلاة عليهم،و لم يوقّره و يستعمله عليهم،و لم يقدّموه في صلاتهم،و لم يخصّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه بإعطائه مصحفه على ما ورد في هذه الرواية،و هذا الظاهر من الأمر يدلّ على أنّ عثمان كان أيضا ممن حفظ القرآن و جمعه على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه.
و لو تتبّع هذا لطال و كثر و اتسع الخرق فيه،و إذا كان ذلك كذلك،لم يكن لقول من قال إنّه لم يجمع القرآن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه إلا أربعة نفر:معنى،و مثل روايته التي يتعلّق بها في ذلك يقتضي أن يكون قد حفظه نحو عشرين رجلا،و إذا كان ذلك كذلك زال التعلّق علينا بما ذكروه، فإنّ القول بأنّ فلانا جمع القرآن كلّه على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه دون غيره قول يتعذّر العلم بالوصول إلى حقيقته،لأنه لا يمكن علم ذلك مع قيام رسول اللّه صلّى اللّه عليه بينهم،و اتصال نزول الوحي عليه،و العلم بتجويزر.
ص: 175
قرآن ينزل عليه في كل يوم و ليلة إلى يوم يموت صلّى اللّه عليه مع العلم أيضا بأنه لا يمكن أن يقال في كلّ سورة نزلت على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه إنّها قد كملت لجواز أن ينزل بعد ذلك ما يضمّ إليها،و يكتب معها،على ما كان يأمرهم به الرسول صلّى اللّه عليه و إذا كان ذلك مما اتّفق عليه تعذّر العلم بأنّ فلانا قد حفظ جميع القرآن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه، لأن ذلك أمر لا يتحقّق و يتيقّن إلا بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و انقطاع الوحي.
و إذا كان ذلك كذلك لم يستجز كثير من الصحابة أن يخبر عن نفسه أنه قد حفظ جميع كتاب اللّه و هو لا يدري لعلّه سينزل على الرسول بعد ذلك مثل قدر ما حفظه عنه،و لا يدري لعلّ فيما نزل ما قد نسخ و رفعت تلاوته [92]فلم يحفظه،و لعله قد/نزل على الرسول في الساعة التي فارقه عليها قرآن كثير غير الذي قرأه لم يقرئه الرسول إياه و حفظه غيره و ألقاه إلى سواه،و إذا كان جوّز العلماء و الفضلاء منهم جميع هذه الأمور لم يستجيزوا أن يخبر كلّ واحد منهم عن نفسه و لا عن غيره أنّه قد حفظ جميع القرآن و جمعه،بل يجب أن يتجنبوا هذا القول و أن يعدلوا عنه.
و إذا وجب ذلك لم يستفيض (1)بينهم عدد حفّاظ جميع ما نزل،و لم يكن لهم إلى ذلك سبيل و لا طريق،و لم ينكر لأجل هذا أن يكون حفظ القرآن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه جماعة لم يخبّروا بذلك عن أنفسهم و لا خبّر به عنهم غيرهم،لأنّ ذلك أمر لا ينتشر و يستفيض و يتقرّر علمه إلا بعد موت النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و انقطاع الوحي و العلم بآخر ما نزل و ختم بهض.
ص: 176
الكتاب،و أن السورة قد كملت و استقرّت و تم نظمها و رتّبت في مواضعها، و جمعت فيها آياتها.
و إذا كان ذلك كذلك وجب بهذه الجملة أن لا يكون فيما روي من هذه الأخبار حجة تدفع ما قلناه،و أن يكون القوم الذين قالوا ذلك و خبّروا بما أخبروا به عن الاجتهاد و غلبة الظنّ و أمر غير متيقّن و على قدر ما سمعوه ممّن قال:حفظت جميع القرآن،أو فلان قد حفظ جميعه،و الظنّ في هذا لا حجة فيه،و قد يمكن أيضا أن يكون على عهد الرسول صلّى اللّه عليه خلق كثير قد حفظوا القرآن و كتموا ذلك على أنفسهم و لم يذيعوه و لا دعاهم داع إلى إظهاره و التحدّث به،و رأوا أن كتمانه و ترك المفاخرة و التّبجّح به أولى و أفضل لأجل أن التزيّن بذلك قدح في العمل و شوب و نقص يلحق صاحبه، و إن اتفق أن يقول ذلك قائل من الصحابة فلأجل سبب يدعوه إلى ذلك غير القصد إلى التزيّن به و الإخبار بكثرة علمه و عمله،و عظم مرتبته،هذا أولى الأمور بالصحابة.
و قد روي ذلك عن جلّة منهم،فروي أنّه قيل لعبد اللّه بن مسعود في رجل يزعم أنه قرأ القرآن/البارحة،فقال:«ما له إلا كلمته التي قال» (1).[93] و روي عن تميم الداريّ أنّ رجلا قال له:كم جزءا تقرأ؟فغضب تميم و قال:
لعلّك من الذين يقرأ أحدهم القرآن في ليلة ثم يصبح فيقول:قرأت القرآن الليلة! هذا شأن القوم و سجيّتهم،فكيف يمكن مع ذلك استفاضة حال حفظة القرآن و اشتهارهم به و هذه صفتهم؟!و قد روي عن الحسن البصريّ أنه».
ص: 177
قال:«لقد أدركنا أقواما إنّ أحدهم قد جمع القرآن و ما شعر به جاره،و لقد أدركنا أقواما ما كان في الأرض عمل يقدرون على أن يعملوه سرا فيكون علانية أبدا» (1).و كذلك روي أن رجلا قال بحضرة قوم من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قرأت الليلة كذا و كذا،فقالوا:«حظّك منه هذا»،و هذا تغليظ منهم شديد في التحدّث بذلك،فكيف لا تتوفّر دواعي خلق منهم على أن لا يشعر غيره بما يحفظه،و لا يرون إظهاره.
و قد يجوز أيضا أن يكونوا إنما كرهوا أن يقال فلان حافظ للقرآن كلّه أو جامع له أو قرأ جميع القرآن لأجل أنّه لا يأمن قائل هذا قد سقط عليه من الحفظ أو الدرس كلمة أو آية،أو شيء منه،أو بعض حروفه التي أنزل بها، فيكون إطلاق القول لذلك تزيّدا في المعنى،فتورّعوا عن ذلك،و يمكن أيضا أن يكونوا إنما كرهوا أن يقال ذلك لأجل أنهم كانوا يرون أن المستحقّ لهذه الصفة و التسمية هو المتمسّك العامل بجميع حدود القرآن،و العالم بأحكامه،و حلاله و حرامه.
و قد روى أبو الزاهدية (2)أن رجلا أتى أبا الدرداء فقال:يا أبا الدرداء، إن ابني هذا قد جمع القرآن،فقال:«اللهمّ غفرا،إنما جمع القرآن من سمع له و أطاع» (3)،فهذا إنكار يدلّ على أنّ هذا الوصف عندهم بجمعه إنما يجري على من عمل بموجبه و وقف عند حدوده.».
ص: 178
و روي أن بعض التابعين ذكر عنده إنسان فقيل:«أحكم القرآن؟»فكره ذلك فقيل:«حامل قرآن»فكرهه،و قال:«قولوا:حفظ».لأنّه اعتقد أنّ الحفظ إنما يراد به التلاوة،و قولهم(أحكم،و حمل القرآن،و حافظ القرآن) إنما يجري على القائم بحدوده السامع المطيع لموجبه/.
و حكي عن الحسن البصري أنه كان يقول:إنّ أحدكم ليقول:و اللّه لقد قرأت القرآن كلّه،و ما أسقطت منه حرفا واحدا،و قد و اللّه أسقطه كلّه» (1)، يعني بذلك ترك العمل بموجبه،و المحافظة على حدوده و مراسمه.
و روي أن عقبة بن عامر كان من أحسن الناس صوتا بالقرآن،فاستقرأه عمر فقرأ عليه براءة،فبكى عمر،ثم قال:«ما كنت أظنّ أنّها نزلت» (2).
إنما قال ذلك لما وجد من نضارتها و جدّتها بحسن قراءة عقبة،و ما جدّدته و أحدثته له من الخوف و الوجل و الإذكار بأمر اللّه تعالى،و التحذير من وعيده، و الترغيب في ثوابه على نحو ما يقول القائل:كأني ما قرأتها قطّ و لا سمعتها.
و من ظنّ بعمر رضي اللّه عنه أنّه لم يعرف أنّ سورة براءة قد نزلت مع شهرتها و إنفاذ الرسول بها إلى أهل مكة مع أبي بكر و علي،و تذلّل أبي هريرة بها،و ما تضمنته من حال العقود و العهود و غير ذلك:فهو الغبيّ المغرور،بل من ظنّ ذلك بأدنى المؤمنين منزلة فقد جهل جهلا فاحشا.
و قد يجوز أيضا أن تكون كراهتهم لإطلاق القول بأنّ فلانا حافظ للقرآن و جامع له لأجل أنهم اعتقدوا أن ذلك إنما يجري على من حفظ ناسخ القرآن و منسوخه،و جميع وجوهه و حروفه التي أنزل عليها،فلا يوصف به عندهمه.
ص: 179
إلا من أخذه و جمعه من في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و قرأه عليه لما لا يؤمن من الغلط بكلمة أو آية أو حرف أو قراءة شيء منه بوجه لا يجوز و يسوغ مثله.
و إذا كان ذلك كذلك وجب حمل الأمر في إنكار هذه الألفاظ و الامتناع من هذه الإطلاقات،و دعوى القوم حفظ القرآن و الحمل له و الإحاطة به:
على الوجوه التي ذكرناها دون ما ظنّوه و توهّموه من سقوط شيء من القرآن على سائر الأمة أو عدم حافظ لجميعه فيهم،و كونه غير مشهور ظاهر بينهم.
و إذا كان ذلك كذلك كان هذا أيضا أحد الأسباب المانعة من العلم بجميع عدد حفظة القرآن على عهد الرسول صلّى اللّه عليه.و ما ينكر أيضا [95]على هذا الأصل أن لا يعرف ذلك بعد موته،لأنه لا ينكر أن يحفظه/بأسره قوم منهم،و ماتوا بعد موت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و لم يطّلع على ذلك من أمرهم و إن علم في الجملة أنهم من حملة القرآن و درسته،و هذا يمنعهم من التعلّق بما ذكروه منعا عنيفا.
فإن قالوا:فما تأويل هذه الأخبار المروية في تحديد عدد حفظة القرآن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه؟ قيل لهم:يحتمل أن نثبت وجوها من التأويل،فمنها:
-أن يكون معنى قولهم:ما جمع القرآن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه إلا أربعة نفر أو خمسة أنه لم يجمعه على جميع الوجوه و الأحرف و القراءات التي نزل بها و خبّر الرسول صلّى اللّه عليه أنها كلّها شاف كاف إلا أولئك النفر فقط،و هذا غير بعيد،لأنه لا يجب على سائرهم و لا على أولئك النفر أيضا أن يحفظوا القرآن على جميع أحرفه و وجوهه السبعة.
ص: 180
-و يمكن أيضا أن يكون معنى ذلك أنه لم يجمع ما نسخ منه و أزيل رسمه بعد تلاوته مع ما ثبت رسمه و بقي فرض حفظه و تلاوته إلا تلك الجماعة وحدها،لأنه قد ثبت أنه قد كان أنزل قرآن نسخ رسمه،و أزيلت تلاوته.
-و يجوز أيضا أن يكون معنى ذلك أنه لم يجمع جميع القرآن عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و يأخذه من فيه تلقّيا غير تلك الجماعة،فإنّ أكثرهم أخذ بعضه عنه و بعضه عن غيره.
-و يحتمل أيضا أن يكون معنى هذا القول أنه لم يجمع القرآن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه:ممّن ظهر به و أبدى ذلك من أمره و انتصب لتلقينه عن تلك الطبقة المذكورة،مع جواز أن يكون فيهم حفّاظ لا يعرفهم الراوي إذا لم يظهر ذلك منهم.
هذا ما لا بدّ من صرف الأخبار إليه إن ثبت و حملها عليه،لأجل ما قدّمناه و لأجل تظاهر الروايات أيضا بما يوجب و يقتضي حفظ الأئمة الأربعة لجميع القرآن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و إحاطتهم به،و لأجل أنّ هذا هو الواجب من حالهم في العادة و ما كانوا عليه من الأحوال في السبق إلى الإسلام و التقدّم و إعظام الرسول لهم و ما توجبه العادة في/مثلهم،[96] و تأمين النبي صلّى اللّه عليه لهم و تقديمه إياهم،و ما روي من طول قراءتهم و كثرة تعليمهم الناس القرآن له عنهم،و هم عندنا أولى الناس بحفظ كتاب اللّه،و أحقّهم بالسبق إلى ذلك،و الرغبة عن الإبطاء عنه و التمادي فيه،مع ما كانوا منصوبين و مرشّحين له،و مع ارتفاع أقدارهم و علوّ شأنهم،و امتداد الأعين و الأعناق إليهم،و تعويل النبي صلّى اللّه عليه في النوائب و المهمّات عليهم.***
ص: 181
في فضل أبي بكر الصدّيق رضي اللّه عنه و حفظه للقرآن]
فأما أبو بكر الصدّيق صلوات اللّه عليه فقد وردت الأخبار المتظاهرة بدوام تقدّمه في الصلوات و قراءته لطوال السور في المحراب التي لا يتهيأ إقامتها إلا لأهل القدر و الإتقان و القوة في الحفظ،و كثرة الدرس و الدّربة بقراءة القرآن،فروى هشام الدّستوائي (1)قال:حدّثنا قتادة عن أنس:«صلى بنا أبو بكر الصدّيق رضوان اللّه عليه صلاة الصبح،فقرأ آل عمران،فقالوا له:يا خليفة رسول اللّه كادت الشمس أن تطلع،فقال:لو طلعت لم تجدنا غافلين» (2).
و روى سفيان بن عيينة (3)عن الزّهري عن أنس بن مالك:«أنّ أبا بكر رضوان اللّه عليه قرأ في صلاة الصبح البقرة،فقال عمر:كادت الشمس أن تطلع،فقال:لو طلعت لم تجدنا غافلين».
ص: 182
و قد علم أنّ كثيرا من الحفّاظ و أهل الدّربة و إدمان درس القرآن يتهيّبون الصلاة بالناس مثل هذه السّور الطوال،و ما هو دونها بالشيء الكثير،و هذا يقتضي أن أبا بكر كان حافظا للقرآن،و ليس بين هذين الخبرين معارض، لأجل أنه ذكر في أحدهما صلاته بالبقرة،و في الأخرى صلاته بآل عمران، و وقوع جواب واحد عن ذلك،لأنه لا يمكن أن يكون ذلك في وقتين و في صلاتين،و أن يكون جوابه لعمر قد وقع له و لغيره بلفظ واحد،و هذا غير مستنكر و لا بعيد.
و قد تظاهرت الروايات بأن أبا بكر رضوان اللّه عليه بنى مسجدا بمكة قبل الهجرة في فناء داره،و أنه كان يقوم بالقرآن فيه و يدعو/إلى اللّه و إلى[97] رسوله،و يشتري عرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه،و يزيّن صوته بالقرآن، و يكثر بكاؤه و نشيجه،فإذا كان ذلك منه أسرع عوامّ المشركين و نساؤهم و ولدانهم يسمعون قراءته و تسبيحه،حتى قالت عائشة رضوان اللّه عليها في خطبتها:«أبي و ما أبيه،أي و اللّه لا تعطوه الأيدي،ذلك و اللّه طود منيف، و ظل مديد،صدّق و اللّه إذ كذّبتم،و سبق إذ وثبتم سبق الجواد إذا استولى على الأمد،فتى قريش ناشئا و كهفها كهلا،يكلأ عانيها،و يريش مملقها، و يرأب صدعها،حتى خلبته قلوبها،ثم استشرى في دينه،فما برحت تلك شكيمته في ذات اللّه،حتى اتّخذ بفنائه مسجدا،يحيي به ما أمات المبطلون،و كان رحمة اللّه عليه غزير الدمعة،و قيد الجوارح،شجيّ النّشيج،فأصفقت إليه نسوان قريش و ولدانها،يسخرون منه و يستهزءون به، اللّه سبحانه يستهزئ بهم و يمدّهم في طغيانهم يعمهون،و أكبرت ذلك رجالات قريش،فحنّت له أفئدتها،و فوّقت يمامها،و امتثلوه عرضا فما ملوا له صفاة،و لا قصفوا له قناة».
ص: 183
ثم مرّت رضوان اللّه عليها في صفته و صفة دعائه إلى اللّه تعالى،و عظيم عنائه في الإسلام،و تمسّكه به،و كيف لا يظنّ بمثل أبي بكر في فضله و سابقته و قيامه في الدعوة إلى الإسلام يقرأ بالقرآن،و تزيينه لصوته،و شدّة نشيجه:أنه أولى الناس بحفظ كتاب اللّه عزّ و جلّ و أحرصهم عليه و أقربهم إليه،فكيف لا يظنّ بمثله أنّه حافظ؟ و كان عثمان بن أبي العاص لمّا دخل في الإسلام و قصد رسول اللّه صلّى اللّه عليه ليتعلّم القرآن يختلف إلى النبيّ صلّى اللّه عليه،فإذا لم يجده جاء إلى أبي بكر فاستقرأه القرآن،و ربما جاء إلى أبيّ بن كعب على ما ذكر، فلو لا أن أبا بكر كان إذ ذاك محلّ من يحفظ القرآن،و يؤخذ عنه لم تكن هذه حال من اختلف إليه،إذا لم يجد الرسول صلّى اللّه عليه و لو لا علم النبيّ صلّى اللّه عليه بذلك من أمره لم يقدّمه لإمامة المسلمين،و هو حاضر يشاهد [98]مكان غيره و يقول:«يأبى اللّه/و رسوله و المؤمنون إلا أبا بكر،و إنّكنّ لصويحبات يوسف» (1)،هذا مع قوله:«يؤمّ القوم أقرؤهم لكتاب اللّه، و أكثرهم قرآنا» (2)،و في خبر آخر إلى ذكر الهجرة و السن،إلى أن قال:
«فأثبتهم صلاحا»،و قوله:«أئمتكم شفعاؤكم إلى اللّه،فانظروا بمن تستشفعون» (3)،و قوله:«ليؤمّ القوم أفضلهم».
في أمثال لهذه الأخبار كلّها تدلّ على أنه يجب أن[لا] (4)يتقدّم فيه.
ص: 184
ذلك المقام الشريف إلا أقرأ الأمة لكتاب اللّه تعالى و أثبتهم فضلا و صلاحا، و لو لا علم الرسول بذلك من حاله و سكونه إليه لم يؤمّره على الناس في المواسم سنة تسع،و تقديمه يوم المجتمع الأعظم للصلاة بالناس و تعليمهم المناسك و أركان الحج و تقويمهم و إرشادهم في هذا الشأن العظيم و الخطر الجسيم،فكلّ ما ذكرناه مع مقتضى العادة و موجبها في مثل حال أبي بكر يوجب أن يكون من كبار الحفّاظ و الأماثل.
***
ص: 185
في فضل عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه و حفظه للقرآن]
و أما عمر بن الخطاب صلوات اللّه عليه فقد تظاهرت الروايات عنه بمثل ذلك،فروى الناس عنه أنّه كان يؤمّ الناس بالسّور بالطوال،و حفظوا عنه أنّه كان قرأ مرة سورة يوسف فبلغ إلى قوله تعالى: وَ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ [يوسف:84]فأنشج حتى سمع بكاؤه من وراء الصّفوف،و أنّه قرأ يوما سورة الأحزاب فلمّا بلغ إلى قوله تعالى: يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [الأحزاب:30]جهر جهرا شديدا،فقيل له في ذلك فقال:
«أذكّرهنّ العهد»،و أنّه قرأ من سورة الحجّ فسجد فيها سجدتين.
و روى عبد اللّه بن عمر أنّه قال:«لقد رأيت أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب و أنّه لجالس على المنبر و المهاجرون (1)و الأنصار حوله يعلّمهم الدين و القرآن كما يعلّم الكاتب الغلمان»و كيف تكون هذه حاله و قدره إلا و حفظ القرآن سجيّته و شأنه،و تلاوته دأبه و ديدنه.
و روى أبو معاوية (2)عن...................
ص: 186
الأعمش (1)عن زيد بن وهب (2)قال:«جاء رجلان إلى عبد اللّه-يعني ابن مسعود-فقال أحدهما:يا أبا/عبد الرحمن،كيف نقرأ هذه الآية،فقال[99] عبد اللّه:من أقرأك؟قال:أبو حكيم المزني (3)،و قال للآخر:من أقرأك؟ قال:أقرأني عمر،قال:اقرأ كما أقرأك عمر،ثم بكى حتى سقطت دموعه في الحصى،ثم قال:إنّ عمر كان حصنا حصينا على الإسلام،يدخل فيه و لا يخرج منه،فلما مات انثلم ذلك الحصن بفريق يخرج منه و لا يدخل فيه» (4).
و روى زائدة (5)قال:قال عبد الملك بن عمير (6):حدّثني قبيصة بن جابر (7)قال:«ما رأيت أحدا كان أعلم باللّه،و القراءة لكتاب اللّه،و لا أفقه في دين اللّه من عمر».).
ص: 187
و روى أيضا عبد الملك بن عمير عن زيد بن وهب قال:قال عبد اللّه يعني ابن مسعود:«ما أظنّ أهل بيت من المسلمين لم يدخل عليهم حزن على عمر يوم أصيب عمر إلا أهل بيت سوء،إنّ عمر كان أعلمنا باللّه، و أقرأنا لكتاب اللّه،و أفقهنا في دين اللّه».
و لو لا أنّ هذه كانت حاله و صفته في حفظ القرآن و أنه من أقرأ الناس لكتاب اللّه لم يكن أبو بكر الصدّيق بالذي يضمّ إليه زيد بن ثابت و يأمرهما بجمع القرآن و اعتراضه،و يجعل زيدا تبعا له،لأنه لا يجوز في صفة من هو دون أبي بكر في الفضل و الحزم أن ينصّب مع مثل زيد بن ثابت لاعتراض القرآن و جمعه من ليس بحافظ له،و لا كلّ حافظ أيضا يصلح لهذا الباب، فبان بذلك أنّه أحد حفّاظ القرآن المتقدّمين،فمن هذه حاله و صفته في تقدّمه و في قراءته بالطّوال،و إقرائه الصحابة و تعليمهم بالقرآن مع الفقه و الدين، و قول ابن مسعود فيه:«و محلّه من حفظ القرآن محلّه،كان أقرأنا لكتاب اللّه»،كيف يمكن أن يكون غير حافظ لكتاب اللّه الذي هو أقرؤهم له؟! ***
ص: 188
في فضل عثمان بن عفان رضي اللّه عنه و حفظه للقرآن]
و أما عثمان بن عفان رضوان اللّه عليه فقد وردت الروايات بأنه كان ممن جمع القرآن على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه على ما قد بينا،و قد كان من المشهورين بقراءة القرآن و كثرة درسه،و القيام به في آناء الليل و النهار، و إكثاره من ذلك و بلوغ الغاية القصوى منه،هذا مع سنّه/و سابقته و تقدّم[100] إسلامه،و عظم محلّه من الدين و المسلمين.
و قد روى الناس أن عثمان رضوان اللّه عليه لما دخل عليه المصريّون ليقتلوه ابتدروه ضربة بالسيف،فوقعت على يده فمدّها و قال:«إنّها و اللّه لأوّل يد خطّت المفصّل» (1).
و قد روى الناس أنّ إحدى نساء عثمان إمّا نائلة بنت الغرافصة أو غيرها قال:«لما هجموا عليه الدار ليقتلوه إن يقتلوه أو يتركوه فإنّه كان يحيي الليل بجميع القرآن في ركعة»،و في رواية أخرى:«فلطالما ختم القرآن في ركعة» (2).
ص: 189
و روي أنّ عبد الرحمن بن عثمان التيمي (1)قال:قلت:لأغلبنّ الليلة على المقام،فلما قمت إذا أنا برجل يزحمني عليه،فنظرت فإذا عثمان، فتأخرت عنه فصلا،فإذا هو يسجد سجود القرآن،حتى إذا قلت هذه هوادي الفجر أوتر بركعة لم يصلّ غيرها ثم انطلق» (2).
و روي أنّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام كان إذا سئل:كم بقي من الليل؟قال:«انظروا أين بلغ عثمان من القرآن» (3)،و كلّ هذا و ما هو أكثر منه ظاهر مشهور من حال عثمان،فمن هذه حاله في ختم القرآن في ركعة، و من تقدّر ساعات الليل و ماضيه و باقيه بدرسه للقرآن و قيامه به،كيف يتوهّم أنّه لم يكن حافظا جامعا للقرآن! ***ه.
ص: 190
في فضل عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه و حفظه للقرآن]
و أما عليّ بن أبي طالب صلوات اللّه عليه فقد عرفت حاله و فضله و سابقته و جهاده،و ثاقب فهمه و رأيه وسعة علمه،و مشاورة الصحابة له، و إقرارهم بفضله،و تربية الرسول صلى اللّه عليه له و نشوؤه عنده،و أخذه له بفضائل الأخلاق و الأعمال،و رغبته في تخريجه و تعليمه،و كثرة أقاويله فيه،و ما كان يرشّحه له و ينبّه عليه من أمره،نحو قوله:«أقضاكم عليّ،و إن تولّوها عليّا تجدوه هاديا مهديا،يحملكم على المحجّة البيضاء و الطريق المستقيم» (1).
و من البعيد الممتنع أن يقول مثل هذا فيه و ليس هو من قرّاء الأمّة للقرآن،و ممّن إن تقدّم في الصلاة كان أقرأهم لكتاب اللّه،أو من الطبقة الذين هذه سبيلهم/.و قد كان ممّن يقرئ القرآن و يؤخذ عنه،و أحد من قرأ[101] عليه أبو عبد الرحمن السّلميّ و غيره،و كان من المشهورين بقراءة القرآن و التبحّر فيه،و معرفة تنزيله و تأويله،و الكلام في مشكله و غامضه،و قد كان سائر أصحابه الدعاة إلى طاعته يظهرون عند استدعاء الناس إلى نصرته
ص: 191
و الدخول في بيعته أنّه أفقه الأمّة و أعلمها و أقرؤها لكتاب اللّه،و لا يردّ عليهم أحد و لا يعترض فيه،منهم الحسن و عمّار (1)و عبد اللّه بن عباس،و زيد، و صعصعة بن صوحان العبدي (2)و غيرهم من شيعته،و هو أول من نشر المصحف بالبصرة ثم بصفّين،و دعا إلى تحكيمه و الرجوع إلى ما فيه،على ما سنشرحه فيما بعد إن شاء اللّه.
و روي عن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص (3)أنه قال:قلت لعبد اللّه بن عباس بن أبي ربيعة:أ لا تخبرني عن أبي بكر و علي؟قال:«إنّ أبا بكر كانت له السّنّ و السابقة مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،فكلّ الناس صاغية إلى عليّ»،قال:«يا ابن أخي،كان له و اللّه ما شاء من حرس قاطع،و البسطة في المنصب،و قرابة من الرسول و مصاهرته،و السابقة في الإسلام،و العلم بالقرآن،و الفقه في السنة،و النجدة في الحرب،و الجود في الماعون».
فهذا و غيره ممن ذكرنا بفضيلة له،و شرح خطبه و مقاماته بفضل علي في كتابي الإمامة يذكرون أنه من أعلم الناس بالقرآن و إقرائهم له،فلا يعترض في ذلك معترض يحفظ قوله.و قد كان أبو عبد الرحمن السّلمي من حفّاظ).
ص: 192
كتاب اللّه تعالى و أهل العلم به،و هو يعترف لعليّ بأنّه ما رأى رجلا أقرأ للقرآن منه.
روى همام بن أبي نجيح (1)عن عطاء بن السائب أن أبا عبد الرحمن السّلميّ حدّثه،قال:«ما رأيت رجلا أقرأ للقرآن من عليّ بن أبي طالب، صلى بنا الصّبح فقرأ سورة الأنبياء فأسقط آية،ثم قرأ تدرّجا ثم رجع إلى الآية التي أسقطها فقرأها ثم رجع إلى المكان الذي انتهى إليه،لا يتتعتع»/.[201] و روي أيضا عن أبي عبد الرحمن السّلميّ قال:«صلى بنا عليّ في شهر رمضان فقرأ بنا عشر آيات عشر آيات»،و هذا لا يكون إلا مع تقدّم الحفظ و كثرة الدراية و حسن الإتقان.
و إذا كان ذلك كذلك وجب بما وصفناه في وضع العادة و ما عرف من أخلاق هؤلاء الأئمة و طرائقهم و ما كانوا عليه و منصوبين له،و ما ظهر من قراءتهم و تقدّمهم،و تقدمة الرسول لهم أن يكونوا حفّاظا للقرآن و جامعين له،و أن يكون العمل بذلك و الرجوع إليه أولى من الرجوع إلى الأخبار التي يذكر فيها أنّ الحفّاظ كانوا على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه أربعة نفر ليس فيهم أحد من هؤلاء الأئمة القادة الذين هم عمد الدين و فقهاء المسلمين.
و على أننا أردنا بما بسطناه و وصفناه من حال هؤلاء الأئمة ما تقتضيه العادة من وجوب كثرة الحفّاظ للقرآن على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه و بعده:تأكيد أمر القرآن،و دفع قول من قال على القطع و البتات أنّه لم).
ص: 193
يجمع القرآن على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه أربعة نفر،لأننا لا نحتاج في حفظ جميع الأمة للقرآن و ظهور نقله و الإحاطة بجميعه إلى أن يعتقد و يتبيّن أنّ فيهم حفّاظا لجميعه،لأنه لو اتفق مع بعد ذلك في العادة و تعذّره أن لا يجمعه أحد منهم لوجب بالعادة المعلومة من تركيب الطباع و عظم شأن القرآن و مورده و الداعي إلى حفظه و التمسّك به و التحاكم إليه،و الرد إلى موجبه و إخباره بأنّ معدن العلم و ينبوعه أن لا يذهب على جميع الأمّة حفظ سائره، و أن لا بدّ أن يتفق لخلق منهم أن يحفظوا مواضع منه،و لآخرين أن يحفظوا مواضع أخر،و لخلق الاستكثار منه،و لقوم الاقتصار على ما يجزئ به من قراءته،و لقوم إيثار الطّوال منه،و لآخرين إيثار حفظ المفصّل السهل، [103]و لخلق منهم حفظه و معرفته ضبطا و نظرا في المصاحف،/و لخلق منهم التفقّه به،و لآخرين القيام للصلاة به،و لآخرين الانتصاب لتعليمه،حتى لا يذهب شيء منه على كافّتهم،و لا يتوهّم من له أدنى مسكة و فهم و معرفة بعلوم التجربة و العادة توافي همم جميع الأمّة على تضييع شيء منه و ذهابه عليهم،و أن الشاة دخلت فأكلت كثيرا منه!كانوا جمعوه فلم يوجد في غير تلك النسخة،و لا في صدر رجل من الأمة،و لا عند أحد ممن يقرأ نظرا حفظه و العلم به،و أن اعتقاد ذلك من الأمور الدالّة على فرط الجهل و الغباوة.
فوضح بهذه الجملة أنه لا حاجة ماسّة و لا غير ماسّة إلى إقامة الأدلّة و البراهين على كون حفّاظ لجميع القرآن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و بعده، و أنّ ذلك إن ذكرناه فعلى سبيل التأكيد و الكشف عن صورة الحال و موجب العادة في ذلك.
فإن قال قائل:فإذا كانت الحال في موجب شهرة الأخبار التي رويتموها في كثرة الحفّاظ و ارتفاع النزاع في حفظ الأربعة نفر على عهد رسول اللّه
ص: 194
صلى اللّه عليه في وضع العادة في وجوب حفظ جلّة المهاجرين و الأنصار للقرآن لما هم عليه مما وصفتموه،فما وجه القول عندكم في الأخبار المروية بأنّ هؤلاء الأربعة لم يكونوا ممن حفظ جميع القرآن و لا الأئمة الأربعة و من جرى مجراهم في الفضل،و هي واردة بنقيض ما ادّعيتموه بموجب العادة و الأخبار التي قدّمتم ذكرها،فمن هذه الأخبار ما رواه ابن عليّة عن منصور بن عبد الرحمن عن أبي عبد الرحمن عن الشعبي قال:
«مات أبو بكر و عمر و عليّ و لم يجمعوا القرآن»،و روي عنه من طريق آخر «أنّ عمر مات و لم يجمع القرآن،لأنه كان يحبّ أن يموت و هو في زيادة و لا يموت و هو في نقصان بنسيان القرآن».
و روى عبيد بن جبير (1)قال:«قلت لزيد بن ثابت عند مقتل عثمان:
اقرأ عليّ الأعراف،فقال زيد:لست أحفظها،و لكن اقرأها أنت عليّ، فقرأتها فما أخذ عليّ ألفا و لا واوا»،و روي أنّ جماعة من الصحابة أتوا عبد اللّه بن مسعود ليقرأ عليهم طسم الشعراء فقال/:«ما هي عندي (2)،عليكم[104] بأبي عبد اللّه خبّاب» (3)،فأتينا خبّابا فسألناه يقرأها علينا.).
ص: 195
و روى أبو إسحاق الهمداني (1)عن سعيد بن وهب (2)قال:«قدم علينا عبد اللّه-يعني ابن مسعود-فقلنا:اقرأ علينا البقرة،فقال:لست أحفظها» (3)، و روى الهيثم بن واقد عن عطاء بن أبي مروان (4)قال:«قلت للطّفيل بن أبي (5):أبوك جمع القرآن على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه؟قال:بعده، قلت:إن أناسا أخبرونا أنّه جمعه أربعة على عهد رسول اللّه،فيهم أبوك، فقال الطّفيل:أ ترى أنّ أناسا أعلم بأبي منّي؟».
و روى عكرمة (6)عن ابن عباس:«إنّ القرآن لم يجمعه أحد على عصر رسول اللّه صلى اللّه عليه»،و روى بشر بن حميد المرّيّ عن أبيه قال:
«سمعت أبا قلابة (7)يحدّث عمر بن عبد العزيز (8)في خلافته أنّ أربعة من).
ص: 196
أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه جمعوا القرآن على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه معاذ بن جبل،و أبيّ بن كعب،و زيد بن ثابت،و أبا زيد،فقال عمر:قد بحثت عن هذا الحديث بالمدينة إذ كنت عليها واليا فقلت لخارجة بن زيد:إنّ الناس يقولون إنّ أباك جمع القرآن على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه،فقال:جمعه بعد،أو جمع أكثره» (1).
في أمثال لهذه الأخبار و الألفاظ كثيرة،وردت تنفي حفظ أحد من هؤلاء و غيرهم للقرآن على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه،فما وجه هذه الأحاديث عندكم؟ قيل له:وجه القول عندنا فيها أنّها أخبار آحاد غير ثابتة،و لا سبيل إلى العلم بصحتها،و أنّها حالة في الظهور و الانتشار محلّ الأخبار الواردة بحفظ هذه الجماعة،و الشيء الظاهر المعلوم لا يترك لما ليس ثابتا و ما لا سبيل إلى العلم بثبوته،فوجب ترك الإحفال بهذه الأخبار،و لأجل أنّ العادة في الصحابة و ما كانوا عليه و جميع ما وصفناه يدلّ على ضعف هذه الأخبار و اضطرابها و أنها مما لم تقم الحجة بها،و أقصى أحوال هذه الأخبار أن تكون معارضة للأخبار الواردة بحفظ هذه الجماعة للقرآن على عهد الرسول صلى اللّه عليه،و معاذ اللّه أن يكون كذلك لإطباق أهل النقل على/أنّها[105] ليست في الثبوت و الظهور و صحّة المخارج و الطرق و اتفاق الألفاظ:بجارية مجرى الأخبار المرويّة في حفظ هذه الجماعة للقرآن و شهرتها.
و قد روى مقسم (2)عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال:«جمع القرآن).
ص: 197
على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه أربعة.و عدّ معاذ بن جبل و أبيّا و عبد اللّه و زيد بن ثابت»،و هذا معارض لما روي عنه من أنّه لم يجمع القرآن أحد في حياة الرسول،فيجب إذا كان ذلك كذلك اطّراح هذه الأخبار،و الرجوع إلى ما ذكرناه من الأخبار الثابتة و مقتضى العادة في مثل الصحابة.
على أنّنا لو سلّمنا للسائل صحّة هذه الأخبار التي تعلّق بها و سلامتها من التخليط و الفساد،و أحللناها محلّ الصحيح الذي رويناه في حفظ الجماعة التي تقدّم ذكرها للقرآن لوجب حملها على وجوه من التأويلات توافق موجب الأخبار بالعادة التي ذكرناها،فإنّها كلّها معرّضة لتأويل لا يخالف ما قلناه،فمنها:
-أن يكون معنى قولهم إنّهم لم يحفظوا القرآن أنّهم لم يحفظوا جميع ما نزل من ناسخه و منسوخه الذي سقط رسمه و زال فرض حفظه بعد ثبوته، و هذا ليس ببعيد،لأنّهم لا يجب عليهم و لا على غيرهم أن يعنوا بحفظ ما نسخ و رفع رسمه،و يكون معنى قول خارجة بن زيد:«جمعه أو أكثره بعد ذاك»؛أي:جميع المنسوخ المزال فرض رسمه و تلاوته أو أكثره بعد وفاة الرسول صلى اللّه عليه.
-و يحتمل أيضا أن يكون معنى ذلك أنّ هؤلاء الأربعة لم يحفظوا جميع حروف القرآن السبعة التي أنزل عليها،و أخبر الرسول عليه السلام أنه أقرأ بها،و لا أحاطوا بجميعها و لا أحد غيرهم أيضا من الأمّة في حياة رسول اللّه صلى اللّه عليه،ثمّ جمع ذلك منهم من يعمل بحفظها و أخذ نفسه بها كأبيّ و غيره من المبرّزين في حفظ القرآن على جميع وجوهه و أحرفه.
ص: 198
-و يحتمل أن تكون رواية الشّعبيّ و غيره ممن روى مثل روايته أنّ أبا بكر و عمر و عليّا عليهم السلام لم يجمعوا القرآن أنّهم لم يجمعوا ناسخه و منسوخه،و لم يجمعوه بجميع قراءاته و حروفه التي أنزل/عليها.[106] -و يحتمل أيضا قول عبد اللّه بن مسعود في البقرة و الشعراء أنّهما ليستا عنده و أنه لا يحفظهما،و قول زيد بن ثابت لعبيد بن جبير:«لست أحفظ الأعراف»أنهما لا يحفظان ذلك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه،و أنّهما لم يقرءا هذه السورة عليه و لا أخذاها من فيه بغير واسطة،و إنّما حفظاها عمّن أخذ عنه،فلذلك قال عبيد بن جبير:«فقرأت الأعراف على زيد فما أخذ عليّ ألفا و لا واوا».يعني أنه لم يحفظ عليه فيها غلطا واحدا و لا عرف، و لو لا أنّ زيدا كان يحفظ الأعراف كيف كان يجوز أن يأخذ عليه فيها الغلط؟ و ليس ينكر أن يكون لم يتفق لهما جميعا و لا لغيرهما من الأمة أن يكونا حفظا جميع القرآن عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سمعاه منه،و إن أخذا عنه الأكثر و سمعاه منه و أخذا باقي ذلك و سمعاه ممن أخذ عنه و سمع منه،و إذا كان ذلك كذلك ساغ هذا التأويل أنّ أحدا لم يجمع القرآن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه،و هم يريدون هذا أو بعض ما تقدّم.
و يمكن أيضا أن يكون كلّ واحد من هؤلاء النفر قد سمع منه قبل موت النبي صلى اللّه عليه يخبّر عن نفسه أنّه لم يجمع القرآن،و إنّما كانوا يقولون ذلك-و إن حفظوا جميع ما نزل-لما لا يأمنون من نزول ما ينزل بعد ذلك، و علمهم بأنّ الوحي و نزول القرآن غير مأمونين منه ما دام الرسول حيّا، فامتنعوا لذلك أن يقولوا(حفظنا جميع القرآن)و إن كانوا قد حفظوا جميع ما أنزل على الرسول إلى وقت سمع منهم هذا القول.
ص: 199
و بعد،ما ندري من قال إنهم لم يحفظوا جميع القرآن على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه و لا أحد غيرهم أنّ ما قاله على ما ذكره،و قد بيّنّا من قبل أنّهم كانوا يحفظون و لا يمارون و لا يتحدّثون بذلك،و لا يشعر به من أحوالهم،خوف المدح في الطاعة،و إيثار الاستسرار بفعل الخير و التقرّب إلى اللّه تعالى،و إذا كان ذلك كذلك،و كانت هذه الأخبار التي اعترضوا بها [107]تحتمل من التأويل ما قد ذكرناه وجب حملها إن صحّت على/موافقة موجب العادة في باب الصحابة و الأخبار المشهورة التي قدّمنا ذكرها في حفظ هذه الجماعة و غيرها للقرآن،و هذا بيّن في زوال الشّبهة بما تعلقوا به.
و إن هم قالوا:إن موجب العادة التي وصفتم في أمر الصحابة لأجل سبقهم و جهادهم و حرصهم على نصرة الدين و حفظه و الأخذ بمعالمه، و تقديم الأعظم فالأعظم،و الأهمّ فالأهمّ منه يوجب حفظ جميع الفضلاء الأماثل منهم للقرآن،و أنّهم لا يتأخّرون عن ذلك لقاطع يصدّهم و أمر يكون التشاغل به أولى و أهمّ من التشاغل بحفظ القرآن.
قيل لهم:أجل،كذلك توجب العادة و الحال عندنا في أمرهم.
فإن قال:كيف يكون ذلك كذلك و قد روي عن عبد اللّه بن عباس أنه كان يقرئ عبد الرحمن بن عوف (1)في خلافة عمر بن الخطّاب،و عبد الرحمن عندكم من الفضل و السابقة و الجهاد و العلم و السّنّ و العناء في الإسلام و لحوقه بالطبقة الأوّلة من الصحابة بالمحلّ المعروف،و عبد اللّه من حداثة السنّ و قرب العهد بحيث يعرفون،و قد روى الزّهريّ أنّ عبيد اللّه بن).
ص: 200
عبد اللّه بن عتبة بن مسعود (1)أخبره أنّ عبد اللّه بن العباس أخبره أنه كان يقرئ عبد الرحمن بن عوف في خلافة عمر بن الخطّاب،قال:فلم أر أحدا يجد من القشعريرة ما يجد عبد الرحمن عند القراءة،قال ابن عباس:فجئت ألتمس عبد الرحمن يوما فلم أجده،فانتظرته في بيته حتى رجع من عند عمر و هو يومئذ بمنى آخر حجة حجّها عمر» (2)،و هذا خلاف موجب أخباركم و العادة التي وصفتم.
يقال لهم:فظاهر تلك الأخبار و ما ذكرناه من موجب العادة في مثل عبد الرحمن في فضله و تقدّمه و نبله يوجب المصير إلى ما قلناه من وجوب حفظه القرآن و إيقاف خبركم هذا،و إحالة علم طريقه و تخرّجه على اللّه سبحانه الذي هو أعلم به،فإما أن نترك ما وصفناه من المتيقّن لأجله،فذلك غير سائغ،على أن الخبر إن صحّ و ثبت فمعناه محمول/على موافقة ما[108] ادّعيناه،و ذلك أنّ الناس كانوا يتحفّظون القرآن بأن يقرءوه على الحفّاظ، و بأن يقرأه عليهم الحافظ،و يأخذونه من لفظه،و في الناس إلى هذا الوقت من ذلك أسهل عليه و أقرب إلى فهمه،و أكثر من يعمل ذلك إنما يعمله ليأخذ نمط القارئ الحافظ و يسلك في القراءة سننه،و يتّبع ألفاظه،و كذلك كان الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم،إنّما قرأ على أبيّ على وجه التخصيص و التعظيم ليأخذ أبيّ طريقته،و يحكي لفظه،و يقفو أثره،و كذلك ذكر عن أبيّ و ابن أبي.).
ص: 201
و إذا كان ذلك كذلك وجب حمل قراءة عبد الرحمن على عبد اللّه على هذا التأويل،مع أنّ عبد اللّه بن عباس قد صرّح بهذا المعنى عن نفسه،في خبر آخر ورد من هذا الطريق،فروى معمر عن الزّهريّ عن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة عن ابن عباس أنّ عبد الرحمن بن عوف رجع إلى منزله بمنى، قال ابن عباس:«و كنت أقارئ رجلا من المهاجرين،فكان عبد الرحمن ممن أقارئ،فوجدني عبد الرحمن بن عوف في منزله أنتظره في آخر حجّة حجّها عمر»،فقد صرّح عبد اللّه بأنّه كان يقارئ الصحابة،و الرجل لا يقارئ إلا الحفظة،و لا يقارئ من لا يحفظ أو من هو دونه،فوجب حمل الخبر على ما قلناه،على أنّ اختلاف عبد اللّه إلى عبد الرحمن إلى منزله و انتظاره له يدلّ على أنّه كان يقصده ليتعلّم القرآن منه و يذاكره به،لأنّ العادة لم تجر بقصد الملقّن إلى المتعلّم و انتظاره إلا عادة الأجراء و المتكسّبين بإقراء القرآن،و الصحابة أجلّ قدرا من أن ينسب أحد منهم إلى ذلك،فإذا كان هذا هكذا سقط ما ظنّه السائل.
و مما يدلّ أيضا على تعظيم منزلة عبد الرحمن و شدّة تقدّمه،و أنّه كان من المشهورين بحفظ القرآن و من أقرأ الناس و أكثرهم قرآنا ما رواه الناس من تقدّم عبد الرحمن بن عوف رضي اللّه عنه للصّلاة بالناس و صلاة النبيّ [109]صلى اللّه عليه/خلفه،و ذلك من المشهور المدوّن في كتب فقهاء الأمصار.
و قد روى عروة بن المغيرة (1)عن المغيرة بن شعبة (2)أنه غزا مع رسول).
ص: 202
اللّه صلّى اللّه عليه غزوة تبوك،قال:فبرز رسول اللّه صلّى اللّه عليه قبل الغائط، فحمل معه إداوة قبل الفجر،فلما رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه أخذت أهريق على يده من الإدواة،و هو يغسل يديه ثلاث مرّات،ثمّ غسل وجهه، ثم ذهب يحسر جبّته عن ذراعيه،فضاق كمام جبّته،فأدخل يده في الجبّة حتى أخرج ذراعيه من أسفل الجبّة،و غسل ذراعيه إلى المرفق،ثم توضّأ و مسح على خفّيه،ثم أقبل،قال المغيرة:ثم أقبلت معه حتى نجد الناس قدّموا عبد الرحمن بن عوف قد صلّى بهم،فأدرك النبيّ صلّى اللّه عليه إحدى الركعتين و صلّى معه الناس الركعة الآخرة،فلما سلّم قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه فأتمّ صلاته،فلما قضى صلاته أقبل على الناس يعلّمهم،ثم قال:«أحسنتم»،يغبطهم أن صلّوا الصلاة لوقتها،قال المغيرة:و في رواية أخرى:فأردت تأخير عبد الرحمن فقال النبي صلّى اللّه عليه:«دعه»،و لو لا أنّ عبد الرحمن كان أقرأ أهل تلك الغزاة و أشهرهم بذلك أو كان كأقرئهم و أكثرهم قرآنا لم يقدّموه و يعدلوه عمّن هو أقرأ منه و أحقّ بالتقديم،و لو لا علم الرسول صلى اللّه عليه بذلك لم يقرهم على ذلك،و لم يخلّهم من التنبيه و التصريح على وجوب تقدمة غيره و أنّهم قد عدلوا عن الواجب أو الأفضل و هو يقول:«يؤمّ القوم أقرؤهم لكتاب اللّه»و«أئمتكم شفعاؤكم» و«أئمتكم خياركم».و في تركه لهم و قوله:«أحسنتم»أوضح دليل على فضل عبد الرحمن،و أنّه كان يومئذ من حملة القرآن،و أهلا للإمامة و التقدّم بالناس،فإذا كان ذلك كذلك زالت هذه الشّبهة،و وجب صحة ما قلناه من موجب العادة و الأخبار المتظاهرة التي قدّمنا ذكرها في حفظ أفاضل الصحابة و الأماثل منهم/لجميع كتاب اللّه تعالى قبل موت الرسول صلى اللّه عليه،[110] و أنّ الأخبار المروية في نقيض ذلك محمولة على ما ذكرناه و بيّنّاه من قبل.
ص: 203
القول في بيان حكم بسم اللّه الرحمن الرحيم
و الناس و الفلق،و دعاء القنوت و ترتيب سور القرآن
و نظم آياته و عددها و القول في أوّل ما أنزل منه و آخره
فإن قالوا:جميع ما وصفتم و أكّدتم القول فيه من ظهور أمر القرآن على عصر رسول اللّه صلى اللّه عليه و بعده،و كثرة حفّاظه و القائمين به، و المنقطعين إلى تحفّظه و تبحّره و ظهور نقله و إذاعته،و كثرة فضائله و توفّر الهمم و الدواعي على الإحاطة به،و معرفة أحواله و أسبابه و تنزيله و فاتحته و خاتمته إلى غير ذلك مما قلتموه:يقتضي لو كان الأمر في بابه على ما وصفتم علم جماعة الصحابة و كافّة الأمة بحكم بسم اللّه الرحمن الرحيم، و هل هي آية من كتاب اللّه تعالى في افتتاح كلّ سورة أم لا؟و هل هي آية من سورة الحمد أم لا؟و هل هي إن كانت آية في افتتاح كلّ سورة من جملة السّور أو منفصلة عنها و غير داخلة فيها؟و هل كان يجهر بها الرسول صلى اللّه عليه أم لا؟و قد علمتم أنّ كل هذا مختلف فيه من حكمها،فمن مثبت له،و من رادّ منكر،و إذا كانت هذه حالهم في البعد عن العلم بحكم بسم اللّه الرحمن الرحيم كانوا عن تحصيل حكم غيرها أبعد،و إلى التخليط فيه أقرب،و هذا يمنع أشدّ المنع من أن يكون أمر القرآن في الظهور و الانتشار و قيام الحجة به على ما وصفتم.
ص: 204
و كذلك كل الذي وصفتم و أطنبتم فيه و أسهبتم يوجب لو كان على ما ادّعيتم ظهور أمر المعوّذتين،و هل هما من كتاب اللّه المنزل أم لا؟و أن يرتفع اللّبس و الإشكال عن الصحابة في أمرهما،و أن لا يخفى ذلك على عبد اللّه بن مسعود حتى يخرجه جحدهما إلى حكّهما من مصحفه،/و إلى[111] أن يقول:«لا تدخلوا فيه ما ليس منه»و أن يقول إذا سئل عنهما:«سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه عن ذلك فقال:«قيل لي قل،فقلت»،فنحن نقول كمال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه».
و كان يجب أيضا أن لا يختلف ترتيب المصاحف و فواتحها إن كان قد وقفوا على ترتيب السّور فيها،و قد روي ذلك في اختلاف كثير سنذكر طرفا منه عند القول في جمع أبي بكر الصديق رضوان اللّه عليه للقرآن بين لوحين، فواحد يثبت فاتحة الكتاب أوّله و آخر يثبت اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ،و آخر يثبت غير ذلك،ثم يخالفون أيضا بين ترتيب باقي السّور،و كان يجب أن لا يختلفوا في عدد آي القرآن و رءوسها،و قد ظهر من حالهم في ذلك ما لا خفاء به، و كان يجب على كافّتهم العلم بأوّل شيء أنزل منه و آخره و ارتفاع تنازعهم في هذا الباب.
و كلّ هذا يدلّ دلالة قاطعة على بطلان ادّعائكم لظهور نقل القرآن و كثرة حفظته،و قيام الحجّة على المكلّفين بجميعه،و أنّ بيان سائره وقع في الأصل شائعا ذائعا على حالة تقتضي تظاهر نقله و إحاطة الأمّة بمعرفته.
يقال لهم:ليس في شيء مما ذكرتموه دليل على فساد ما ادّعيناه،و بعض ما ذكرتموه قد وقفوا عليه و ظهر بينهم و حصل عليهم به،و بعضه مما لم يوقفوا عليه و لم تقم الحجّة بظهوره،و لم تكن الحاجة إلى معرفته كالحاجة
ص: 205
إلى معرفة نفس التلاوة و نظم آيات السّور،و نحن نفصّل كلّ شيء من ذلك و نكشف عن حقيقة القول فيه إن شاء اللّه.
و أما بسم اللّه الرحمن الرحيم فإنّها عندنا ليست ثابتة من فاتحة الكتاب و لا هي فاتحة كلّ سورة،و إن كانت قرآنا في سورة النمل،و قد زعم قوم من أهل العلم أنّها آية من فاتحة الكتاب،و قال آخرون:هي آية في فاتحة كلّ سورة،و وقف آخرون مع اعتقاد كونها قرآنا في أنها آية فاصلة مفردة أو من أوّل كلّ سورة،و نحن نبدأ بإبطال قول من زعم أنّها كذلك منزلة،و ذكر ما تحمله،ثم نبيّن ما نقوله.
[112]و قد استدلّ من يزعم أنه قرآن منزل على ذلك باتفاق/الصحابة في عصر الرسول صلّى اللّه عليه أو في زمن أبي بكر و عمر و عثمان عليهم السلام على القول بأنّ ذلك قرآن منزل،و أنّ جميع ما في المصحف من أوّله إلى آخره كلام للّه تعالى و وحيه و منزل من عنده،و أنّهم قد وقفوا على ذلك و أخبروا به هذه الجملة مما لا شبهة على أحد في قول الجماعة بها، و اتفاقهم على نقلها و الإخبار بها.
و ليس لأحد أن يقول إنّ هذا الإجماع منهم و النقل إنّما وقع على ما عدا بسم اللّه الرحمن الرحيم المرسومة في فواتح السّور،لأنّ ذلك مما لم يوقفونا عليه و لا عرف من قصدهم و لا بعادة و عرف مواضعة بينهم،كما أنّه ليس لأحد أن يدّعي ذلك فيما عدا تبّت أو الناس و الفلق،فلما اتفقوا على أنّ جميع ما انطوى عليه المصحف-الذي هو الإمام-كلام اللّه و وحيه بغير اختلاف بينهم:ثبت أنّ ذلك كلام اللّه و قرآن منزل،و هذا مما لا خلاف بينهم في اعتقاد جملته،و ليس هذه حال الأمّة في جميع ما انطوت عليه المصاحف التي هي عن الإمام المجمع عليه.
ص: 206
و إذا كان ذلك كذلك ثبت أنّ بسم اللّه الرحمن الرحيم آية و قرآن منزل في كل موضع رسمت فيه،لأنّ إطباق الأمّة على ذلك قائم مقام توقيف الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم و نصّه على أنّ جميع ما في ذلك الإمام قرآن منزل و تلاوة و نصّ قرآن بذلك،فكما أنّه لو وقف على ذلك و تلا به قرآنا يجب حمله على ما عدا بسم اللّه الرحمن الرحيم مع معرفة قصده إلى التوقيف،على أنّ جميع ما فيه قرآن منزل فكذلك سبيل توقيف الأمّة على هذا الباب.
قالوا:و قد تظاهرت الأخبار بذلك عن الرسول صلّى اللّه عليه،و نقل أهل الآثار أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و المسلمين إنما كانوا يعرفون انقضاء السورة و الابتداء بغيرها إذا نزلت بسم اللّه الرحمن الرحيم،و لا يجوز أن يقال:نزل في جملة القرآن،و مع ذكره و بواديه و خواتمه ما ليس بقرآن.
قالوا:و قد روى عمرو بن دينار (1)عن سعيد بن جبير عن ابن عباس:
«إنّ جبريل عليه السلام كان إذا نزل/على النبيّ صلى اللّه عليه بسم اللّه[113] الرحمن الرحيم عرف أنّها سورة قد ختمت و استقبل السورة الأخرى» (2)، و روى ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن أمّ سلمة«أنّ النبيّ صلى اللّه عليه كان يعدّ بسم اللّه الرحمن الرحيم آية فاصلة» (3)،و روى ابن جريج و سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير قال:«ما كان رسول اللّه صلى اللّه عليه يعرف انقضاء السورة حتى تنزل عليه بسم اللّه الرحمن الرحيم» (4).).
ص: 207
و روى ابن جريج عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال:«كان المسلمون لا يعرفون انقضاء السورة حتى تنزل بسم اللّه الرحمن الرحيم،فيعلمون أنّ السورة قد انقضت» (1)،و روى عطاء عن ابن عباس قال:«كنّا نتعلم القرآن على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه فما يعرف فصل السورة حتى تنزل بسم اللّه الرحمن الرحيم» (2).و كلّ هذا ينبئ عن أنّ بسم اللّه الرحمن الرحيم آية منزلة عند فواتح السور،و لفظ الأخبار توجبه.
قالوا:على أننا نعلم علما لا شكّ فيه أنّه قد ادّعى كون بسم اللّه الرحمن الرحيم قرآنا منزلا عند فواتح السّور جماعة من الصحابة،و أعلنوا ذلك و ظهر عنهم و عرف القول به من دينهم،فلم ينكر ذلك عليهم أحد و لا ردّه و لا قال فيه قولا يمكن ذكره و حكايته،و هذا أيضا يدل على ظهور هذا القول بينهم و تسويغه و الرضا به و المصير إليه،لأنّه ليس مما يجوز أن يقال إنّ كل مجتهد فيه مصيب أو إنّ الإثم عن مخطئ الحقّ فيه موضوع،لأنّه إدخال في القرآن ما ليس منه،و هو بمثابة إخراج بعضه منه،و ليس ذلك كمسائل الأحكام،و القول في الحلال و الحرام الموكول إلى الاجتهاد بالرأي عند عدم النصوص،فيظنّ تسويغ إطلاقه مع الخلاف فيه و احتمال الأمر.
و قد تظاهرت الأخبار و الروايات عن عبد اللّه بن عباس«أنه كان يقول قولا ظاهرا فيمن يترك افتتاح السّور ببسم اللّه الرحمن الرحيم حتى ترك».
ص: 208
الناس من كتاب اللّه تعالى آية و سرق الشيطان من إمام المسلمين آية (1)،و من ترك أن يقرأ بهذه الآية فقد ترك آية من كتاب اللّه عزّ و جلّ».و روى حنظلة (2)و شهر بن/حوشب (3)عن ابن عباس قال:«من ترك بسم اللّه الرحمن الرحيم[114] أن يقرأ بها فقد ترك آية من كتاب اللّه» (4)،و روى عمر بن قيس (5)عن عطاء ابن أبي رباح عن ابن عباس قال:«ترك الناس من كتاب اللّه بسم اللّه الرحمن الرحيم» (6)،و روى جابر عن عكرمة عن ابن عباس قال:«إنّهم ليتركون من القرآن آية بسم اللّه الرحمن الرحيم» (6)،و روى عطية (7)عن ابن عباس و غيره أيضا عنه أنّه قال:«سرق الشيطان من إمام المسلمين بسم اللّه الرحمن الرحيم» (8).ث.
ص: 209
فهذه قصة ظاهرة عن ابن عباس و ظاهر من قوله لا ينكر عليه أحد و لا يردّه،و لا يقول له قد فرّقتنا بترك آية من كتاب اللّه،و ما هذا نحوه،و كل ذلك ينبئ عن كون بسم اللّه الرحمن الرحيم منزلة عند فواتح السور.
و مما يدلّ على علم الصحابة بأنّ بسم اللّه الرحمن الرحيم آية منزلة عند افتتاح كل سورة و أنّ التارك لقراءتها في درسه إنما يترك عند نفسه آية منزلة ليست من جملة السور بل منفردة عنها:اتفاق جميعهم على إثبات بسم اللّه الرحمن الرحيم في افتتاح كلّ سورة،و تركهم لذلك في افتتاح سورة براءة، فولا أنهم موقوفون على إثباتها و كونها آية عند افتتاح كل سورة سوى سورة براءة لأثبتوها أيضا في أول سورة براءة،لأنهم كانوا إنما فعلوا ذلك بالرأي و الاستحسان على وجه الافتتاح للتلاوة بها،وجب لهذه العلة افتتاح براءة أيضا بها،و في عدولهم دليل على أنها ليست بآية في ذلك الموضع و إن كانت آية منزلة في افتتاح كل سورة.
قالوا:و مما يدل أيضا على هذا القول و يؤكّده ما ظهر و عرف من كراهة جماعة من سلف الأمة الأفاضل النّبل أن نثبت في المصحف شيئا ليس منه، من ذكر اسم السورة و ذكر خاتمتها و أعشارها و غير ذلك من تزيين المصاحف بالذهب و إحداث أمر فيه لم يكن مرسوما في مصحف الجماعة الذي هو الإمام،إلى أن أعظموا القول في ذلك،و قالوا إنه بدعة ممن فعله، [115]و طلبت العلل و المعاذير لمن فعل ذلك بأخذه لحاجته/إلى معرفة أسماء السور،و مواضع الأعشار منها،هذا مع ظهور الحال في ذكر أسماء السورة و خاتمتها،و عدد أعشارها و أخماسها،و أنه لا شبهة على أحد في أنّ ذلك ليس بقرآن منزل،فكيف بهم في إثبات ما يلتبس و يشكل،و قد شاع ذلك عنهم،فلو كانت بسم اللّه الرحمن الرحيم ليست من جملة القرآن و لا مما
ص: 210
أمروا و اتفقوا على رسمه و إثباته لظهر أيضا اختلافهم في ذلك و إنكاره و الخوض فيه ظهورا يجب لنا العلم به،فلما لم يكن ذلك كذلك صحّ هذا القول و ثبت.
فروى ليث عن مجاهد أنه كره التعشير في المصحف (1)،و روى أيضا ليث (2)عن مجاهد أنه كان يكره أن يكتب في المصحف تعشيرا أو تفصيلا (3)و روى هشام بن الغاز (4)عن مكحول أنه كره نقط المصاحف (5)،و روى ابن جريج عن عطاء قال:«هذه بدعة» (6)،يعني ما يكتب عن كل سورة خاتمتها،و هي كذا و كذا آية،و روى أيضا عن عكرمة أنه قال:«هو بدعة».
قالوا:فأمّا جلّة الصحابة فذلك أيضا مروي عن كثير منهم،فروى إسرائيل (7)عن عامر (8)قال:«كتب رجل مصحفا عند كل آية تفسيرها،فدعا).
ص: 211
به عمر بن الخطّاب رضوان اللّه عليه فقرّضه بالمقاريض» (1)،و روى يحيى بن وثّاب (2)عن مسروق (3)عن عبد اللّه أنه كره تعشير المصاحف (4)،و روى سلمة بن كهيل (5)عن أبي الزّعراء (6)عن ابن مسعود قال:«جرّدوا القرآن»، يقول:«لا تعشّروه» (7)،و روي عن عبد اللّه أيضا أنه رأى خطّا في مصحف فحكّه و قال:«لا تخلطوا به غيره» (8)و هذا أكثر ممّا يحصى جمعه و يتّسع.
و كل هذه الأخبار تدل على اتفاق الأمة أنّ جميع ما في الإمام الذي كتبه عثمان قرآن منزل من عند اللّه جلّ و عزّ،و لو كان بسم اللّه الرحمن الرحيم مكتوبا على وجه الفصل و الخاتمة لوجب أيضا إنكار هؤلاء القوم لذلك، لأنه ليس من جملة المنزل،بل هو مثل ما أنكروه بعينه.
و يوضح ذلك أيضا و يكشفه أن قوما من التابعين و من بعدهم من السّلف قد استجازوا كتب التعشير و خاتمة سورة كذا و عدد آياتها كذا و كذا،فأنكر).
ص: 212
ذلك عليهم من بدّعهم فيه،فلم يحتجّوا لصواب فعلهم بكتابة عثمان بسم اللّه الرحمن الرحيم/في فواتح السور،و أنّه لم يكن من القرآن في شيء، و لو كانوا يعتقدون ذلك لسارعوا إلى الاحتجاج به،و لم يجز على سائرهم إغفال هذا الأمر الظاهر الناقض لقول من خالفهم و بدّعهم،فهذا أيضا يكشف عن أنّ إثبات عثمان و الجماعة بسم اللّه الرحمن الرحيم لم يكن على وجه الفصل و الافتتاح،و العلامة تدل على أنه منزل من عند اللّه سبحانه.
قالوا:فإن قال قائل:كيف يسوغ لكم أن تدّعوا أنّ أحدا لم يدفع أن تكون بسم اللّه الرحمن الرحيم آية منزلة عند كل سورة،و قد وردت الأخبار عن الحسن البصري بأنه أنكر ذلك،و قال لما سئل عنها:«صدور الرسائل»، و صحّ عنه أنه كان لا يفتتح الجهر بها و يقول:«إنني رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه و الأئمة من بعده لم يجهروا بها» (1).
يقال لهم:ليس في هذه الرواية ما يدل على إنكار الحسن لكونها آية منزلة في فواتح السور،و إنما فيها أنه كان ينكر أن تكون من الحمد و لا بعدها آية منها،و لا يرى الجهر بها،و كل ذلك لا يدل على أنها ليست بآية).
ص: 213
منزلة و إن لم تكن من الحمد و لا من جملة غيرها سوى النمل،و نحن لا نعتقد أنها آية من الحمد و لا نرى افتتاحها بها و لا يتبين بهذا القدر فقط أنها ليست بآية من كتاب اللّه منزلة في فواتح السّور،و على هذا خلق من أهل العلم جلّة أماثل.
و قوله:«صدور الرسائل»ليس فيه أنها ليست بآية منزلة،لأنها قد تكون آية و إن صدّرت بها الرسائل،و قد تصدّر بها أيضا السّور و تفتتح و إن صدّرت بها الرسائل،و قد كان المسلمون يصدّرون(باسمك اللهمّ)حتى أنزلت:
إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [النمل:30]،فصدّر بها رسول اللّه صلى اللّه عليه و المسلمون،و قد يجوز أيضا أن يكون الحسن ممّن اعتقد أنه تصدّر بها الكتب و الرسائل،و أنه يجب أن تصدّر بها السور،و يستفتح بها في الكتابة،كما كان يفعل رسول اللّه صلى اللّه عليه و كما اتفق عليه المسلمون من بعده و إن لم يجب أن يفتتح بها في القراءة.و كل ذلك إذا [117]أمكن لم يكن في قول الحسن/هذا نطق بإنكار كونها آية منزلة.
قالوا:فأما ما روي أيضا عن الحسن من أنه قال:«يكتب في أول الإمام،و اجعلوا بين كل سورتين خطّا»،فإنه خبر باطل،لأن فاعل ذلك و الآمر به مخالف لسنة الرسول صلى اللّه عليه و المسلمين و ما قد اتفقوا عليه،لأنّ الحسن و كلّ أحد من أهل عصره يعلم علما لا شبهة عليه فيه أنّ الأمة كانت تكتب ذلك،و لم يكن من رأيه مخالفة فعل الأمة،و كيف يصنع ذلك و هو يحتجّ لترك الجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم بترك الأئمة لذلك، و الأئمة بأسرها قد أثبتوا بسم اللّه الرحمن الرحيم بين كل سورتين،و لو صحّت هذه الرواية لوجب حملها على وجهين:
ص: 214
أحدهما:أنه يمكن أن يكون بلغه أنّ قائلا قال:إنها من كل سورة،أو ظنّ ذلك كما يقول هذا و يظنه بعض أهل عصرنا فقال:«يجعل بين كل سورتين خطّا»لزوال هذه الشبهة،و إن كان السلف قد كتبوها غير أنه لم يدخل عليهم في ذلك شبهة،و الآن فقد تغيّرت الحال.
-و يمكن أيضا أن يكون الحسن قد اعتقد أنه لا يجب أن تكتب في فواتح السور إذا دوّنت و اتصلت الكتابة مما لا يجب أن يقرأ إذا اتصلت قراءة السّور،و هذا لا ينبني عن أنه يعتقد أنها ليست بآية منفردة منزلة عند افتتاح كل سورة و إن لم يكن منها،و لم يجب على كاتب القرآن و تاليه و خاتمه أن يكتبها و يتولها.
قالوا:فإن قال القائل:فخبّرونا عن بسم اللّه الرحمن الرحيم أ هي عندكم آية من الحمد أم لا؟ قيل له:لسنا نعلم أنها آية من الحمد أم لا،كما لا نعلم أنها آية من غيرها أم لا و إن كنّا نعلم أنّها آية مفتتحة بها،لأنه ليس معنا توقيف على ذلك يوجب العلم و لا توقيف على أنّها ليست منها،و ليس فيما يتعلّق به من زعم أنّها آية من الحمد لأجل أنّ الحمد سبع آيات،و بسم اللّه الرحمن الرحيم مشبهة لآياتها و ما بعدها في العدد و الطول،فإذا اتّفق على أنّ الحمد سبع آيات و لم تعدّ بسم اللّه الرحمن الرحيم آية منها وجب على مسقطها أن يعدّ مكانها أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ (1)آية،و ليست مشبهة لآيات الحمد،أو يعدّله
ص: 215
[118]مكانها إِيّاكَ نَعْبُدُ آية منها/كما روي عن الحسن البصري،و إِيّاكَ نَعْبُدُ لا تشاكل أيضا مثيلاتها من آيات الحمد،فوجب إذ ذاك عدّ بسم اللّه الرحمن الرحيم آية منها و جعلها من جملتها.
فهذا عندنا مما لا شبهة فيه و لا تعلّق لأحد لأجل الاتفاق على أنّه لا يجب أن تكون آيات السورة كلّها متساوية متشابهة،لأنّ أهل البصرة قد عدّوا لَذَّةٍ لِلشّارِبِينَ آية من سورة الصافّات و في سورة محمد صلى اللّه عليه،و ليست مشبهة لآياتها،و عدّوا في لم يكن مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ آية و ليست مشاكلة لما قبلها و لا لما بعدها،و عدّ الناس جميعا إِذا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَ الْفَتْحُ آية و هي لا تشبه ما بعدها،و عدّ أهل الكوفة في سورة طه ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا آية و هي غير مشبهة لشيء من آيات طه،و عدّوا في بني إسرائيل يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً آية و ليست كآياتها،و لو تتبّع ذلك لكثر،و إذا كان ذلك كذلك بطلت هذه الشّبهة.
و الصحيح عندنا أنّ بسم اللّه الرحمن الرحيم ليست بآية من الحمد و لا من غيرها سوى سورة النمل فإنّها قرآن من جملتها،لأنّه قد ثبت و صحّ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه ترك الجهر بها و إن كان قد روي أنّه ربّما جهر بها و أنّ الأئمة بعده تركوا الجهر بها،و قد ثبت وجوب الجهر بجميع سورة الحمد في صلاة الجهر و موضعه،فلو كانت آية من الحمد لوجب الجهر بها كوجوبه في سائر آياتها،لأنه لا وجه للجهر ببعض السورة في موضع الجهر و ترك الجهر ببعضها،و لا مثل لذلك في الشرع و لا نظير،فهذا يدلّ على أنّها ما تستفتح بها السور،و أنّه لا يجب تقديمها أمامها،و لا اعتقاد كونها أنّها من جملتها.
ص: 216
و مما يدل أيضا على أنّها ليست بآية من الحمد اتفاق الكلّ من الأئمة و القرّاء على أنها ليست بآية من غير الحمد و إن كانت مرسومة في افتتاحها، لأنّه لا خلاف بينهم في ترك عدّها مع آيات كلّ سورة و إن اختلفوا في عدّها آية من الحمد،فيجب حملها مع الجهر على وجه حملها مع غيرها من السّور في أنّها ليست من جملتها.
غير أنّ القائل/بأنّها من جملة الحمد أعذر ممّن قال:هي منها و من كل[119] سورة،لارتفاع الخلاف في أحد الموضعين،و على أنّه ليس ببعيد أن يجعل اللّه بسم اللّه الرحمن الرحيم آية من الحمد و بعضا لها،و لا يجعلها بعضا لغيرها بل آية مفردة منها تفتتح السّور بها أو كلاما ليس بقرآن يندب إلى افتتاح سور القرآن بها،و لكنّا سنذكر بعد ما يدلّ قطعا على أنّها ليست من الحمد و لا من غيرها،قال الزاعمون إنّها آية فاصلة بين السور،و أننا لا ندري أنّها من الحمد أو لا.
إن قال قائل:خبّرونا عمّن قرأ جميع القرآن و أسقط تلاوة بسم اللّه الرحمن الرحيم من أوّلها أ هو عندكم خاتم للقرآن؟كما أنّ قارئها في افتتاح كل سورة خاتم للقرآن؟ قيل له:أجل،و قد جعل اللّه تعالى ختم القرآن على وجهين:أحدهما ختم سائر سوره مع إسقاط بسم اللّه الرحمن الرحيم،و ختم له مع تلاوة بسم اللّه الرحمن الرحيم،كلاهما ختم للقرآن.
قالوا:فإن قال:كيف يكون مسقط بسم اللّه الرحمن الرحيم خاتما لجميع القرآن و قد أسقط عندكم منه كلاما كثيرا و حروفا كثيرة؟ قيل له:لأجل أنّ اللّه سبحانه و رسوله و المسلمين جعلوا فاعل ذلك خاتما للقرآن،يراد بذلك لجميع سور القرآن و إن أفرد منها بسم اللّه الرحمن
ص: 217
الرحيم،لأنها ليست من جملتها،و إن كان قارئ جميع السور مع بسم اللّه الرحمن الرحيم قد ختم جميع السّور و ضمّ إليها قرآنا ليس منها،و لو كان مسقط بسم اللّه الرحمن الرحيم غير خاتم للقرآن لأنّه قرأ ما هو أقلّ عدد حروف من عدد الحروف التي قرأها تالي بسم اللّه الرحمن الرحيم لوجب أن يكون قارئ جميع سور القرآن مع بسم اللّه الرحمن الرحيم غير خاتم للقرآن إذا قرأه على غير قراءة أهل مكّة،بل بإسقاط و او الجمع و حذفه في قوله عليهموا و عليكموا و هموا و أنتموا و إليكمو،و ما أشبه ذلك في جميع سور القرآن:غير خاتم القرآن،لأنّه ترك ما قد اتّفق على أنّه أصل الكلام و تحقيق [120]لفظه،و قد ترك بترك ذلك حروفا لا تحصى كثرة،و قارئ القرآن/بحرف أهل مكة قد أتى بذلك أجمع.
و لمّا لم يجب ذلك و كانت الأمة متفقة على أنّ قارئ القرآن على الوجهين خاتم له لأنّ اللّه جلّ ذكره جعل التلاوتين ختما لكتابه،كذلك حكم خاتم القرآن بإسقاط بسم اللّه الرحمن الرحيم،إلا في سورة النمل،و خاتمه مع تلاوة بسم اللّه الرحمن الرحيم في فواتح سوره إلا بَراءَةٌ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ وحدها،و إذا كان ذلك كذلك بطل ما قالوه.
قالوا:فإن قال:أ فترون مع قطعكم على أنّ بسم اللّه الرحمن الرحيم آية منزلة فاصلة بين السور أنّ ثواب خاتم جميع القرآن مع إسقاطه تلاوة بسم اللّه الرحمن الرحيم كثواب خاتم مع تلاوتها و الافتتاح بها؟ قيل له:كثرة الثواب و قلّته مما لا تعلّق له في هذا الكتاب،و لو قلنا:
إنّ ثواب خاتمه مع الافتتاح ببسم اللّه الرحمن الرحيم أكثر من ثواب خاتمه مع إسقاطها لم يدلّ ذلك على أنّ من قلّ ثوابه ليس بخاتم للقرآن،لأنّه قد يكون له ختمتان،ثواب أحدهما أكثر من ثواب الأخرى،على أنّ هذا مما لا
ص: 218
سبيل أيضا إلى علمه،كما أنّه لا سبيل لنا إلى أنّ خاتم القرآن بحرف أهل مكة و النطق بواو الجمع أكثر ثوابا من مسقط هذا الواو،و إن تيقّنا أنّ عدد حروف إحدى الختمتين أكثر من عدد الأخرى بشيء كثير،لأجل أنّ الاجتهاد إذا أدى إلى أنّ حذف هذا الحرف-الواو-أولى و أخفّ على القلب و اللسان و ألطف موقعا في قلوب سامعي القراءة،أو أدعى لهم إلى التعلّم و الإصغاء كان ذلك بمنزلة من أدّاه اجتهاده إلى أنّ إثباتها أولى، و النطق بها لأجل وجوه أخر،و لأنّها الأصل في الكلام،و غير ذلك.
فكذلك من أدّاه اجتهاده إلى إسقاط قراءة بسم اللّه الرحمن الرحيم عند افتتاح كل سورة يريد وصلها بغيرها التي بعدها لأجل ما يقصده من تذليل لسانه و رياضة نفسه و اقتداره على وصل آخر السورة بابتداء غيرها لمعرفة حكم الابتداء و الإعراب في ذلك،مع اعتقاده فيه الوقف عند/فراغه من[121] آخر السورة،و اتباعها فيه الوصل لافتتاح ما بعدها،و ليعرف كيف يفعل ذلك،و كيف كلام أهل العلم و اللغة فيه،فإنّ هذا الجمع اجتهاد و توصّل إلى علم نافع و تدرّب بهذا القرآن و التبسّط في تلاوته و حسن الإفصاح به، فما يمكننا مع قصد مسقط الافتتاح ببسم اللّه الرحمن الرحيم من ختمته إلى ما ذكرناه أن نعلم أنّ ثوابه أقلّ من ثواب المفتتح بما في مبادئ السور في ختمته.
و ربّما كان أيضا ثواب الخاتمين مع تلاوة بسم اللّه الرحمن الرحيم أكثر من ثواب الآخر لما تقارب ختمته من الخنوع و الخشوع و الاتّعاظ و الإخلاص و صدق العمل،و ربّما كان ثواب الختمة الواحدة أكثر من ثواب الختمات الكثيرة إذا توافرت مثل هذه الأسباب،و ربّما كان ثواب قراءة الآية و أقل أو السورة الواحدة أكثر من ثواب الختمة إذا قادت الآية إلى الإخلاص و صدق
ص: 219
النيّة،و ارتفاع الشّوب و القصد إلى القربة،ما لم يقارف الختمة،و إذا كان ذلك بطل هذا السؤال،و زال عن القوم ما ظنّوه.
و اعلموا وفّقكم اللّه أنّ الذي نختاره و نذهب إليه أنّ بسم اللّه الرحمن الرحيم ليست بآية من الحمد،و لا من سورة سوى النمل،فإنّها قرآن من جملتها،و أنّ القطع بذلك واجب،و أنّه لا حجّة في شيء مما قدّمناه عن القوم قاطعة على أنّها آية من القرآن مفردة فاصلة بين السورتين،و لا على أنّها من جملة كل سورة.
و الدليل على ذلك أنّنا نحن و جميع من خالفنا في هذا الباب ممّن يعرف أصوله و طريق نقل القرآن و كيفية بيان الرسول صلّى اللّه عليه له و تلقّيه عنه:
متّفقون على أنّه قد ثبت أنّ الرسول صلى اللّه عليه بيّن جمع القرآن بيانا واحدا على وجه تقوم به الحجّة و ينقطع العذر،و أنّه لم يبيّن بعضه بيانا ظاهرا معلنا تقوم به الحجّة،و بيّن بعضه بيانا خفيّا موعزا إلى الواحد و الاثنين و من لا تقوم الحجّة بإخباره عنه لما سمعه منه صلّى اللّه عليه من القرآن،و أنّ هذه العادة في بيان جميع القرآن كانت عادة الرسول صلّى اللّه [122]عليه و سلّم،/لأنّه لو كان ذلك كذلك لوجب في مستقرّ العادة و طريقة رسول اللّه صلّى اللّه عليه في بيان القرآن و ترتيبه و ما يجب فيه و تضييق تركه و تحريم الجهل به و أن يكون قد بيّن ذلك لأمة بيانا تقوم به الحجة،و أن يعرّفها هذين الوجهين اللذين لكلّ واحد منهما إذا قرئت السورة عليه خاتمة مخصوصة، و يكشف لهم عن ذلك كما عرّفه ابن مسعود،و يوضّحه لهم الإيضاح الذي إذا شكّ فيه ابن مسعود و وهم لم يشكّ غيره،و لم تجر العادة بتوافي همم جميع من بيّن ذلك له على إهماله أو السهو عنه و الشكّ فيه،و أن لا يلقي
ص: 220
ذلك إلى ابن مسعود وحده إلقاء خاصا لا تقوم الحجة به و لا يعرفه من دينه غير عبد اللّه وحده،لأنّه لم تكن هذه عادته صلى اللّه عليه في بلاغ القرآن.
و لو جاز ذلك عليه لجاز أن يبيّن بعض الحروف السبعة و بعض ترتيب السّور لعبد اللّه بن مسعود وحده،و لا يوقف عليه غيره،و لو أمكن ذلك لأمكن أيضا و جاز أن يبيّن بعض القرآن الذي كان أنزل عليه و يبلّغه إلى ابن مسعود وحده دون غيره،فإذا كان هذا باطلا من قولنا جميعا وجب أحد أمرين:
-إمّا أن يكون هذا الخبر ضعيفا مدخولا لم تقم به الحجّة عن عبد اللّه.
-أو يكون ثابتا،و يكون ذلك ممّا كان مباحا أن يختم السورة بخاتمتين على التخيير بغير اشتراط وجهين من القراءة ثم نسخ ذلك و ذهب عن عبد اللّه،أو يكون مما كان مباحا و مشروطا أن تقرأ السورة على وجهين،لكلّ وجه فيهما خاتمة مخصوصة،فنسخ أحد الوجهين و نسخت خاتمته و بقي الوجه الآخر و بقي أيضا خاتمته،و ذهب ذلك على عبد اللّه و عرفته الأمّة، فإمّا أن يكون باقيا ثابتا و لا تعرفه الأمّة و لا تقف عليه الأمّة،و لا تقف عليه من دين الرسول إلا عبد اللّه وحده،فإنّه باطل بعيد لما بيّناه من قبل،فيسقط بما وصفناه من تعلّقهم بهذه القصة.
فإن قالوا:أ فليس قد روى ابن جريج عن عطاء أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه مرّ بأبي بكر الصدّيق/رضي اللّه عنه و هو يخافت في قراءته،و مرّ بعمر[123] صلى اللّه عليه و هو يجهر،و ببلال و هو يقرأ من هذه السورة،و من هذه السورة،فقال:«كلّ ذلك حسن» (1)أو نحوه من الكلام،و هذا إقرار منه».
ص: 221
لبلال على جواز خلط السّور و إدخال بعضها في بعض،كما أنّه إقرار على المخافتة و الجهر.
يقال لهم:قد روى أبو عبيد (1)عن الحجّاج عن اللّيث بن سعد (2)عن عمر مولى غفرة (3)عن النبي صلى اللّه عليه أنّه مرّ بأبي بكر و هو يخافت، و مرّ بعمر و هو يجهر،و مرّ ببلال (4)و هو يقرأ من هذه السورة،و من هذه السورة،فقال لأبي بكر:مررت بك و أنت تخافت،فقال:إنّي أسمعت من ناجيت،فقال:ارفع شيئا،و قال لعمر:مررت بك و أنت تجهر،فقال:
أطرد الشيطان و أوقظ الوسنان،فقال:اخفض شيئا،قال لبلال:مررت بك و أنت تقرأ من هذه السورة،و من هذه السورة فقال:أخلط الطيّب بالطيّب، فقال:إذا قرأت السورة فأنفذها» (5)،يعني صلى اللّه عليه اقرأها على وجهها إلى آخرها،لا معنى لإنفاذها هاهنا إلا هذا.).
ص: 222
فهذا أمر منه لبلال و لكل قارئ لسورة بأن ينفذها و يقرأها على وجهها، و هذه الرواية أظهر و أشهر من الرواية التي ذكروا فيها أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه قال:«كل ذلك حسن»،فوجب العمل على التفضيل و التفسير الذي وردت به الرواية الزائدة.و قد يجوز أن يكون أراد بقوله:«كل ذلك حسن» لصنع أبي بكر و عمر فقط من الجهر و المخافتة،و واجههما بذلك لمّا أقبل عليهما،و لم يسمع الراوي تمام كلامه لبلال فأدرج القصة و لم يفصّل من غير اعتماد لتحريف على الرسول صلى اللّه عليه و طعن،يتعلّق قوم من بعده بهذا في جواز خلط السور بعضها ببعض،و بعض ترتيبها،و مخالفة تاليها فلا تعلّق لهم في لفظ خبرهم-لو ثبت-مع جواز ما قلناه،و قد روينا من قبل أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه قال لبلال عند ذلك:«اقرأ السورة على نحوها»، و قد روي:«على وجهها»،و روى ذلك سعيد بن المسيّب عن النبيّ صلى اللّه عليه/.و إذا كان ذلك كذلك بطل تعلّقهم بهذه القصة.
فإن قالوا:أ فليس قد روي أن عليا عليه السلام كان يقرأ سورة الأنبياء فأسقط آية،ثم قرأ بعدها ثم رجع إليها فقرأها ثم عاد إلى الموضع الذي كان بلغ إليه،و هذا فعل منه يدلّ على جواز تقديم بعض آيات السورة على بعض و مخالفة تأليفها،و لو لا أنّ ذلك عنده كذلك لم يستجز بعد أن رجع إلى ما أسقطه و قرأه أن يتبعه من الموضع الذي بلغ إليه،و إنّما كان أن يتبعه بما يليه حتى يكون جميع ما قرأه إلى حيث بلغ،و يصله بما بعده.
يقال لهم:ليس في الأمّة ممن روى هذا الحديث و من غير رواية ابن عمر أنّ عليا عليه السلام اعتمد ذلك و قصده،بل كان من صحّح هذه الرواية عن ابن عمر أنّه فعل ذلك على طريق العذر و وجه السهو،و أنّه لم يكن من دينه خلط آيات السور بعضها ببعض،و نقصها،و مخالفة ترتيبها و إفساد
ص: 223
تأليفها،لأنّ ذلك فساد و تخليط،و عائد بدخول الخلل و اللّبس و قلّة الضبط لكتاب اللّه تعالى،و الذهاب ببهائه و بهجته،و قد يسوغ من هذا الباب على وجه السهو و النسيان ما لا يجوز مع الذّكر و الاعتماد،كما يجوز التفرقة بين حكم الأفعال الواقعة على وجه السهو و النسيان و الأفعال الواقعة على وجه العمد و القصد في الصلاة،و كثير من أحكام الشرع في باب سقوط الإثم في آخر الفعل إذا وقع على وجه السهو،و إفساده إذا وقع على وجه العمد.
و قد استقرّ من عمل الأمّة و دينها جواز مثل فعل عليّ عليه السلام إذا وقع لعذر و على وجه السهو،و على حظره و منعه إذا وقع على وجه القصد و العهد،و الحكم بأنّه إفساد لنظم القرآن،و نقض لتأليفه،و مخالفة لسنّة الرسول صلى اللّه عليه و السلف الصالح من بعده،فلا وجه للجمع بين الأمرين أو حمل ذلك الفعل من عليّ عليه السلام على أنّه قصده و اعتمده، و قد يجوز أن يكون اللّه سبحانه إنّما أباح ذلك في حال السّهو و عذر فاعله، [125]لأجل علمه سبحانه بأنّ أحدا لا يكاد يسلم من السهو و الإغفال،/و أنّهم لم كلّفوا متى سهوا عن آية أن لا يقرءوا ما بعدها حتى يذكروها لمنعوا بذلك من الدرس،و اكتساب عظيم الأجر و تهذيب الحفظ،و لو كلّفوا إذا ذكروا الآية التي أسقطوها في الخمس الأول من البقرة بقرب آية الدّين أن يرجعوا فيقرءوها ثم يعيدوا جميعها ما كانوا قرءوا بعدها إلى حيث بلغوا:لعاد ذلك بتغليظ المشقّة عليهم و السآمة منهم و الضجر و الملال بما كلّفوا،و شدّة الاستثقال لما ألزموا،و قلّة الحرص عليه و القيام به،و اللّه تعالى أعلم بتدبير خلقه و مصالح عباده و وجوه الألطاف فيما تعبّدهم به،و إذا كان ذلك كذلك سقط تعلّقهم بهذا الخبر إن صحّ،و لزم قلوبنا العلم بثبوته.
ص: 224
فإن قال قائل:فهل يجوز مثل هذا إن نال الإنسان أو لحقه في سورة الحمد؟ قيل لهم:أما من قال إنّ قراءة الحمد على ترتيبها ركن من أركان الصلاة أو فرض من فروضها فإنّه لا يجوز ذلك و لا يقيم به العذر،كما أنّه لا يجيز الصلاة مع ترك الإحرام و الركوع و السجود و لكل فرض فيها و إن وقع على وجه السهو،و أمّا من لم يقل من العلماء إنّ قراءة الحمد من فرائض الصلاة فإنه يجيزه و يجعل الصلاة صحيحة،و ليس الكلام في هذا مما نحن فيه من جواز نقص آيات السور،و مخالفة ترتيبها مع القصد و الذكر في الصلاة و غيرها فكنّا نغرق فيه؛و هذه جملة كاشفة عن صحّة ما قلناه مع ثبوت النصوص و الإجماع على وجوب ترتيب آيات السّور و قراءتها على وجهها،و أنّ ذلك لم يكن عن رأي و اجتهاد من الأمّة،و إن كان تأليف السور و تصنيفها ممّا لا نصّ فيه و لا توقيف عندها.
***
ص: 225
ذكر اختلافهم في عدد الآي و تقديرها و معنى وصفها بأنها آية
فإن قالوا:كيف سوّغ لكم أن تدّعوا ظهور نقل القرآن و إذاعة الرسول لشأنه و إشاعته و إقامة الحجّة على المكلّفين به و نحن نجدهم يختلفون في قدر الآية،فيعدّ بعضهم قدرا من الكلام آية و ينكر ذلك غيره،و يعدّ بعضهم [126]السورة مائة آية مثلا و يعدّها غيره أكثر من ذلك/و أقل،و ما ذكرتموه من ظهور توقيف النبي صلى اللّه عليه على بيان القرآن و كشف ترتيبه و تأليفه و أحكامه الواجبة له في حفظه و تلاوته،و إحصاء آياته،فوجب علم جميعهم بذلك،و ارتفاع النزاع بينهم فيه.
يقال لهم:ليس فما وصفتموه قدح فيما قلنا و لا توهين لما ادّعيناه و بيّناه،و ذلك أننا إنّما ادّعينا وجوب ظهور نقل ما فرض رسول اللّه صلى اللّه عليه على الأمّة حفظه و حظر عليهم الذهاب عنه،و ألزمه اللّه تعالى إشاعته و إذاعته،لتقوم الحجّة به،و عرفت عادته عليه السلام من إظهار البيان و شدّة القصد،و الإيثار له للكشف و الإعلان به،و إذا كان ذلك كذلك و كنّا لا نقول إنّ من هذا الباب عدد آيات سور القرآن و قدر ما هو آية من الكلام،بل نقول:إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه لم يحدّ في عدد آيات السّور حدّا،و لا وقفهم عليه في ذلك على شيء،و لا كان هو صلى اللّه عليه يعدّ ذلك و إن جاز أن يكونوا هم قد كانوا يعدّون في عصره و عند القراءة عليه لأنفسهم،
ص: 226
فلا ينكر ذلك عليهم،بل يخلّيهم و ما عدوّا إذا لم ينقصوا من السورة و لم يزيدوا فيها شيئا،و لا غيّروا من تأليف آياتها أمرا،و لا قدّموا مؤخّرا،و لا أخّروا مقدّما،و إذا كان ذلك كذلك لم يلزمنا شيء مما قلتم،لأنّه لا نصّ من الرسول على عدد الآي و مقاديرها.
فإن قالوا:و ما الدليل على ذلك؟ قيل لهم:من الأدلّة عليه علمنا بأنّه لو كان صلى اللّه عليه قد نصّ لهم على عدد الآيات و قدر الكلام الذي يكون آية،و مواضع الفصول من السور، و ضيّق عليهم معرفة ذلك و جعله من فرائض دينهم،و حدّ لهم فيه حدّا أخذهم به وحده و منعهم من تجاوزه أوجب أن يكون بيانه لذلك كبيانه لتأليف آيات كل سورة،و كبيانه للقرآن نفسه،و لوجب في مستقرّ العادة ظهور ذلك عنه،و توفّر الدواعي و الهمم على ضبطه و ذكره و حراسته و تقييده،كما وجب عليهم بتأليف آيات كلّ سورة،و بالقرآن نفسه،/[127] و لارتفع الخلاف عليهم في ذلك و النزاع،و لمّا لم يظهر ذلك و لم نجد أنفسنا عالمة بهذه الجملة من توقيف الرسول و دينه كما نجدها عالمة بتوقيفه على نزول جميع القرآن من عند ربّه،و على تأليف آيات السور و كلماتها:
علمنا أنه لا نصّ كان منه على هذا الباب،و لا قول ظهر منه في ذلك و لا أمر يجب حفظه و إذاعته،و لزم القلوب العلم به.
و مما يقوّي ذلك و يشهد له أن ثبت أنّه قد وردت بهذه الرواية،فروى يحيى بن سعيد الأموي (1)عن الأعمش عن...........».
ص: 227
عاصم (1)عن زرّ بن حبيش (2)عن عبد اللّه بن مسعود قال:«تمارينا في سورة من القرآن.فقال بعضنا خمس و ثلاثون،و قال بعضنا ستّ و ثلاثون،فأتينا رسول اللّه صلى اللّه عليه فتغيّر لونه،و أسرّ إلى عليّ عليه السلام شيئا، فسألنا عليّا:ما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه؟فقال:«إن اللّه يأمركم أن تقرءوا القرآن كما علّمتموه».
و هذا الخبر يدل على أنّه لم يأمرهم بعدّ الآي بل نهاهم عنه إذ ذاك،أو أطلقه لهم و وكله إلى آرائهم و ما يؤدّيهم الاجتهاد إلى أنّه فصل و موضع آخر الآية،ليستعينوا بذلك على الحفظ و يقيّدوه،و يدلّ أيضا على أنّهم كانوا يعدّون عدّا مختلفا.
فإن قالوا:فهل تقطعون بهذا الخبر على أنّ القوم كانوا يعدّون في زمن الرسول صلى اللّه عليه أم لا؟ قيل لهم:لا لأنّه من أخبار الآحاد التي لا توجب علما.
فإن قيل:أ فتجوّزون أن يكونوا قد كانوا يعدّون إذ ذاك؟ قيل لهم:يجوز ذلك.
فإن قيل:فهل تجوّزون أن يكون عددهم لآيات السور و قدر الآيات متفقا أو أن يكون ذاك مختلفا؟).
ص: 228
قيل لهم:أجل،يجوز أن يكونوا قد عدّوه في عصره صلى اللّه عليه عددا متفقا غير مختلف،غير أنّهم عدّوا ذلك لأنفسهم استعانة به على تقييد الحفظ و ضبط السور من غير أن ينصّ لهم الرسول على ذلك،فلذلك لم ينقل عنه شيء في هذا الباب،فلما انقرض ذلك العصر و لم ينقل ذلك العدد عنهم لأنّه لم يكن من فرائض دينهم و لا مما نصّ لهم الرسول عليه و أخذهم به:ذهب على من بعدهم العدد/الذي كانوا اتفقوا عليه في زمن[128] الرسول،و الناس من بعدهم يعدّون ذلك لأنفسهم،و بحسب ما أدّاهم الاجتهاد إليه.
و يجوز أيضا أن يكونوا قد عدّوا على عصر الرسول و عند القراءة عليه عدّا مختلفا،و عرضوه على الرسول،و عرف اختلافهم فيه،و أقرّهم على جميعه،و سنح لكل واحد منهم العمل بما غلب على ظنّه،إذا علم أنّه يقصد بذلك تقييد حفظه و ضبطه،و الاستعانة عليه،و لم يكن اللّه سبحانه قد أمره بتوقيفهم على حدّ محدود و شيء معلوم في ذلك و لا ألزمهم إيّاه،فما ندري أنّه كان ذلك كذلك،فكيف كان حقيقة هذا الأمر منهم على زمن الرسول.
و قد يجوز أيضا أن لا يكونوا تشاغلوا بعدد متفق و لا مختلف في زمن الرسول،بل أقبلوا على حفظ القرآن فقط على سياق آيات سوره و تعرّف أحكامه و حلاله و حرامه،و رأوا أنّ التشاغل بعدد الآي و مواضع الفصول من السور شاغل لهم عن حفظ القرآن نفسه و تعلّم ما يحتاج إلى العلم به من أحكامه،و يكون حالهم في ذلك حال خلق من حفّاظ القرآن في هذا الوقت، الذين يحفظونه و يتقنونه و لا يشتغلون بوضع عدد لآياته من عند أنفسهم و علامات لهم على مواضع الفصول،و لا يتعرّف ما قاله غيرهم في العدد لاعتقادهم العناء به و الاشتغال بما هو أهمّ و أمسّ،من علم تأويله و أحكامه
ص: 229
و معانيه و غير ذلك من فروض الدّين كلّ هذا الذي وصفناه جائز من أمر الصحابة و غير بعيد و لا ممتنع.
فإن قالوا على هذا الجواب:فكيف يجوز أن يخلّيهم اللّه تعالى من نصّ لهم على عدد الآي و مواضع الفصول التي هي عنده و في معلومه سبحانه أنّها مواضع الفصول؟ قيل:يجوز ذلك من حيث أمكن أن يكون تعالى قد علم أنّ نصّه لهم على حدّ في ذلك تضييق عليهم و شغل لهم عن حفظ القرآن نفسه،و مؤدّ إلى رغبتهم عن طاعته و إيثار إلى معصيته،و أنّه إذا و كل ذلك إليهم و جعلهم في فسحة من عدّه بحسب اجتهادهم و على وجه إيثارهم كان ذلك رفقا لهم [129]و عونا على ضبط ما يحاولون ضبطه،و لطفا لهم في فعل الطاعة/و ترك المعصية،كما علم سبحانه أنّه إذا أفقدهم النصّ على حكم كثير من الحوادث و وكلهم فيها إلى العمل بآرائهم و ما يؤدّيهم إليه اجتهادهم كان ذلك تخفيفا لمحنتهم و توسعة عليهم و لطفا لهم في فعل الطاعة و ترك المعصية،وادعا (1)الأمور لهم إلى حسن الانقياد و الخنوع.
و كما أنّه يجوز أن يعلم أن ترك نصّه لهم على عدد حروف السورة و كلماتها من أصلح الأمور لهم و أن نصّه على ذلك مما لا ينتفعون به و لا يصلحون عنده بل يكون مفسدة و شاغلا لهم أو لكثير منهم عن حفظ القرآن نفسه و ما يجب و يلزم من معرفة أحكامه و تأويله،و إذا كان ذلك كذلك بان بما وصفناه سقوط التعجّب من ترك النصّ لهم على عدد الآي.).
ص: 230
من الكلام في هذا الباب
فإن قال قائل:فهل تقولون:الآية التي يختلف الناس في عددها لا بدّ أن يكون عند اللّه و في معلومه تعالى على ما يقوله أحد العادّين لها،أم ليس الأمر كذلك؟ يقال لهم:قد اختلف الناس في ذلك،فقال فريق منهم:إنّ الآية عند أهل العدد و في مواضعتهم لها سمّيت آية لأنها علامة للفصل بين الكلامين، و أنّ اللّه سبحانه جعل ذلك كذلك ليستعين الناس بما يظنونه فصلا موضع آية على تقييد السور و حفظها و ضبطها،فإذا أفقدهم مع ذلك النصّ منه على الفصول،و لم يجد لهم في ذلك حدا فقد عرفنا أنه إنما و كل هذه التسمية إلى آرائهم و اجتهادهم و ما يظنّه كلّ قارئ منهم أنّه موضع علامة و فصل و أنّه يجب على هذا أن يرجع في حصول هذه التسمية إلى ما يضعه القرّاء و يغلب على ظنونهم من مواضع الفصول.
لأنّ قولنا حينئذ إنه لا يفيد حقيقة هي علّته و صفة لازمة لها،و قدر من الأحرف و الكلمات لا يجوز الزيادة عليه و النقصان منه،بل هو اسم مقصور على اجتهاد القرّاء،فهو في هذا الباب بمثابة تسمية الشيء حراما على قول بعض الفقهاء إذا أدّاه اجتهاده إلى أنّه حرام،و تسمية الآخر حلالا إذا أدّاه الرأي/أنّه حلال إذا كان هذا هو حكم اللّه تعالى في تسمية الأفعال و الحوادث[130] التي لا نصّ له فيها و لا حكم سوى ما أدّى إليه اجتهاد العلماء،و الحادثة مستحقة للاسمين في الحقيقة على القولين و في المذهبين،فكذلك الآية
ص: 231
مستحقة للتسمية بأنّها آية على الحقيقة عند من أدّاه اجتهاده إلى أنّه موضع الفصل،و غير مستحقة لذلك في الحقيقة على قول من لم يؤده الاجتهاد إلى ذلك،و هذا القول قريب لا دخل عليه.
و قال فريق آخر من الناس:إنّ الآية إنّما سمّيت آية لانفصالها عن الآية الأخرى،و أنّها في القرآن بمثابة البيت من القصيدة و القوافي في الشعر،غير أنّه لا يتميّز كتميّز القوافي في موضع الرّويّ من الشعر،لأنّ الآية ليست منفصلة عن الأخرى بمثل القافية و الرّويّ من الشعر،و لذلك اختلف في قدر كثير من الآيات،و إنّما تنفصل الآية من الآية الأخرى بقصد المتكلّم بالقرآن إلى فصل ذلك القدر منه مما بعده و قطعه عنه،و إذا لم يقصد ذلك لم تكن آية و لا موضع الفصل،و قصده إلى ذلك لا يتبيّن و يظهر للحسّ.
و لكن لو جعل عليه علامة من الكتابة عند رسمه لعرف ذلك من حاله، كنحو ما يجعله الكاتب في كتابته في البياض و مدّ الأحرف في مواضع الفصول،و إن كان من لم يشاهد ذلك و لا يعرف قصده إلى الفصل إذا أمكن أن يكون بعض الكلام متعلّقا ببعض.
و إذا كان ذلك كذلك فلا بد على هذا من أن يكون اللّه تعالى قد قصد إلى قطع الكلام عمّا بعده و إفراده عنه،فيكون ذلك موضع الآية عنده و في معلومه،و أن لا يكون قصد ذلك،فلا يكون موضع آية عنده،غير أنه لم ينصّ للعباد على ذلك و لا كلّفهم إياه و لا أمر الرسول بجدّ فيه،فهو إذن بمثابة قول القائل:أي شيء يحسن زيد،و قوله:سلام عليكم الذي يصح أن يقصد الاستفهام عما يحسنه أو التقليل له أو التفخيم و التعظيم.
و يصح أن يقصد بقوله:سلام عليكم الهزل و الاستجهال و يصح أن يريد التحية و الإكرام،فيصير مرة تحية و استفهاما بالقصد،و يصير الكلامان تارة
ص: 232
أخرى تقليلا و استجهالا بالقصد إلى ذلك/و إنّما يكون القصد بهذا ضرب[131] المثل لما يصير الشيء به مستحقّا للوصف بالقصد و إذا لم يكن هذا المثل مستمرا في نفس الكلام القائم في النفس عندنا،لأنّ الاستفهام منه استفهام لنفسه لا لمعنى،و كذلك الأمر به و النهي و الخبر و جميع أقسامه،غير أنّ هذه الأصوات التي هي عبارة عنه عندنا تسمّى استفهاما إذا قصد به التعبير عن استفهام في النفس لدلاتها على الاستفهام،و تسمّى تارة أخرى تقليلا لما يحسنه المذكور للقصد بها إلى التعبير عن التقليل الذي في النفس لدلالتها عليه.
و هذا الجواب الثاني أيضا قريب مستمر لا دخل فيه،و قد بيّنا أنّ ذلك في الجملة ليس من فرائض الدّين و لا ممّا نصّ الرسول عليه،فضلا عن أن يكون نصّه عليه مستفيضا متواترا يقتضي حصول العلم به و ارتفاع النزاع فيه، و هذا هو الذي حاولوه،و قد أوضحنا عن فساده بما أبطل ما حاولوه.
فأما تسمية الآية بأنها آية على طريقة أهل اللغة فإنّما تفيد أنّها علامة،و على هذا المعنى سمّيت الآية من القرآن آية،لأنّها علامة على موضع الفصل.
قال النابغة الذبياني:
توهّمت آيات لها فعرفتها لستّة أعوام و ذا العام سابع
فسمّى ما عرفها به آية،و قولهم في آيات الرسل إنها آيات لما يعنون بها أنّها دلالة على صدقهم و الفصل بينهم و بين الكذّابين،و قوله تعالى: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:248] يقول:علامة ملكه ما ذكره،و قولهم آي و آيات إنّما هو اسم الجمع.
/فأمّا فائدة تسمية السور من القرآن بأنّها سورة،فقد قيل فيه أشياء:
ص: 233
-أحدها:أنه يفيد فيه الإبانة لها من غيرها من السور المنفصلة عنها.
و قال النابغة:
أ لم تر أنّ اللّه أعطاك سورة ترى كلّ ملك دونها يتذبذب
يريد انقطاعا من الناس و الملوك و مباينة لهم.
و قيل:إنّ فائدة وصفها بأنها سورة أنّها قطعة منه و طائفة من القرآن، [132]مأخوذ من قولهم:إنّ فيه لسورة من جمال؛أي:طائفة و بقية/منه/.
و قيل أيضا:إنّ فائدة وصفها بذلك أنّها سورة معظّمة شريفة،و أنّ ذلك مأخوذ من معنى قولهم:فلان له سورة في المجد و سؤدد فيه،و المعنى في ذلك أنّ له شرفا فيه و ارتفاعا،من ساد يسود،قالوا:و منه سمّي سور المدينة سورا لعلوّه و ارتفاعه.
و أمّا تسمية القرآن قرآنا فإنّه قد قيل فيه أقاويل،نحن نذكرها،و نقول قبل ذلك إنّه من قرأت قراءة و قرآنا فيكون مصدّقا،و إنّما قال اللّه تعالى:
إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ [القيامة:17]يعني قراءته،فهو على هذا المعنى مصدر،و قال تعالى: وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً [الإسراء:45]،هو هاهنا اسم لا مصدر،و مرادهم بقوله:
قرأت قرآنا أي:قراءة،و هو على نحو ما جاء من قوله تعالى: وَ اللّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح:17]؛أي:إنباتا،و قولهم:كتبت كتابا،و شربت شرابا،أي كتبت كتابة،و شربت شرابا،فيقيمون الاسم مقام المصدر.
قال حسّان بن ثابت (1)يرثي عثمان بن عفّان:).
ص: 234
ضحّوا بأشمط عنوان السجود به يقطّع الليل تسبيحا و قرآنا
أي قراءة،فأقام الاسم مقام المصدر،فأخذ ما قيل في تسميته قرآنا لأنّه جمع و ضمّ و ضمّت آيات كلّ سورة منها إلى أخواتها،قال:و قول عمرو بن كلثوم (1):
ذراعي عيطل إذ ما بكرّ هجان اللون لم تقرأ جنينا
أي أنّها لم يضم رحمها ولدا.
و قيل أيضا:إنّما سمّي قرآنا لأنه يحمله و يجمعه حفظته،و أنّه مأخوذ من قولهم:قرأت المرأة إذا حملت الجنين في بطنها.
و قيل أيضا:إنّما سمي بذلك لأنّه يلقى من الفم إذا تلي و هذ و يظهر بالنطق و الدرس،و أنّ ذلك مأخوذ من قول العرب:ما قرأت الناقة سلايقطّ؛ أي:لم ترمي به و تلقيه./ و قيل:إنّه سمّي فرقانا لأنّه يفرّق بين الحقّ و الباطل،و قيل إنّ معنى قوله: يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً [الأنفال:29]أي مخرجا و طريقا،و كأنّ القرآن طريق و مخرج إلى معرفة الحق من الباطل و مفرّق بينهما،و ليس/الكلام في[133] هذه الأسماء مما قصدنا له و ما يريده القادحون في نقل القرآن و إنّما ذكرناه لاتصاله بالباب الذي ذكرناه،و لأنّه ربّما مسّت الحاجة إلى ذكره و معرفته في خطاب القوم،و إنّما قصدهم ما قدّمنا ذكره من دعوى النصوص على الآيات،و ذهاب الأمّة عن معرفتها ليسهّلوا بذلك سبيل القول بنصّ الرسول على قرآن قد ذهب علمه على الأمّة و لم ينتشر و يظهر نقله،و قد بيّنا فساد ما ظنّوه بما يوضّح الحقّ إن شاء اللّه./).
ص: 235
الكلام في بيان الحكم في أول ما نزل من القرآن و آخره
و مكّيّه و مدنيّه،و هل نصّ الرسول عليه السلام
على ذلك أم لا
فإن قال قائل:كيف يمكن أن يكون أمر القرآن في الظهور و الانتشار و استفاضة النقل و حصول علم السلف و الخلف به،و معرفتهم لجملته و تفصيله و أوّله و آخره،و مكيّه و مدنيّه،و الأحوال التي خرج عليها،و الأسباب التي نزل لأجلها:صحيحا على ما قلتموه مع اختلاف الصحابة الذين هم القدوة فيه عندكم في أول ما أنزل منه و آخره،و مكيّه و مدنيّه،و ذهاب بعضهم في ذلك إلى ما يردّه غيره و يدين بخلافه؟و ما ذكرتموه من شهرة نقله و وجوب إحاطة السلف به يقتضي-إن كان على ما ادّعيتموه-معرفة القول بأول ما نزل منه و آخره،و مكيّه و مدنيّه،و متى اختلفوا في ذلك علم أنّ الأمر في ظهور نقله و انتشاره و قيام الحجّة به بخلاف ما قلتم و أنّه لا سبيل إلى منع دخول التحريف فيه و التغيير له و الزيادة و النقصان فيه،و عدم قيام الحجّة بكثير.
يقال لهم:ليس فيما ذكرتموه من اختلافهم في هذين الفصلين ما يفسد شيئا ممّا ادّعيناه و كشفناه بواضح الأدلّة عن صوابه،و ذلك أننا لم ندّع وجوب ظهور ما نقل ما لم ينصّ الرسول عليه،و توفّر الهمم على معرفة ما
ص: 236
لم يكن منه قول فيه،و لا أوجبنا اتفاق الأمّة و حصول معرفة من تقوم الحجّة منا بما ليس من فرائض دينها و لا هو من نوافله أيضا و مما يسعها ترك الخوض فيه،و إنّما أوجبنا هذا أجمع فيما نصّ الرسول عليه/نصّا جليا[134] معلنا قطع العذر فيه و فيما فرضه على أمّته،و ضيّق عليهم وجوب معرفته، و لم يعذرهم في التخلّف و الإبطاء عن علمه و إدراكه،و فيما يقتضي موضوع العادة تحريك البواعث لهم على نقله و حفظه و اللّهج بذكره و الإشاعة و الإذاعة له.
و إذا كان ذلك كذلك و كنّا لا نعتقد مع هذه الجملة أنّ الرسول قد نصّ لصحابته على ما نزل عليه من القرآن أولا و ما نزل منه آخرا و على جميع مكّيه و سائر مدنيّه،و لا كان منه قول في ذلك ظاهرا جليّا لا يحتمل التأويل و لا ألزم الأمّة حفظه و التديّن به و لا جعله أيضا من نوافل دينهم كما أنّه ألزمهم نظم سور القرآن و ترتيب كلماته و حروفه على وجه مخصوص و حدّ مرسوم أخذ عليهم لزومه و منعهم من تغييره و العدول عنه:لم يجب أن يظهر و ينتشر نقل ذلك عنه،و كيف يجب نقل ما لم يكن و ما لا أصل له و الإخبار به فضلا عن وجوب ظهوره و انتشاره!و إذا كان ذلك كذلك فقد بان سقوط ما سألتم عنه و زوال ما توهّمتموه.
فإن قالوا:ما الدليل على أنّه لم يكن من الرسول نصّ على ذكر أول ما أنزل عليه من القرآن و على آخره،و على مكيّه و مدنيّه،و أنّه لم يلزم الأمّة علم ذلك و يدعهم إلى معرفته حسب نصه على ترتيب آيات السور و كلماتها و إلزامهم العلم بها،و لزوم المنهج الذي شرعه و نصّ عليه في تلاوتها؟ قيل لهم:الدليل على ذلك أنّه لو كان كما تدّعون و كان نصّه على الأمرين قد وقع سواء و فرضه لهما على الأمّة قد حصل حصولا متماثلا
ص: 237
معتدلا لوجب في مستقرّ العادة نقل ذلك و ظهوره و حفظ الأمّة له،و علمهم به و تأثيم من خالف المنصوص عليه في ذلك،و تخطئة من عدل عن الواجب عن معرفة ما فرض العلم به،و يجري أمرهم في ذلك و تخطئته على حسب ما جرى أمرهم عليه من حفظ للقرآن نفسه،و معرفة نظمه و ترتيب آياته و كلماته،و على وجه ما أوجب حفظهم لترتيب صلواتهم و ما يجب أن يكون [135]متقدّما منها و متأخّرا،و ما يفعل منها في النهار دون/الليل،و في الليل دون النهار،و غير ذلك من فرائض دينهم الواجبة عليهم،و التي وقع النصّ لهم عليها وقوعا شائعا ذائعا.
و لما لم يكن ذلك كذلك و لم يدّع أحد من أهل العلم أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه كان قد نصّ على ذكر أول ما أنزل عليه من القرآن و آخره نصّا جليا ظاهرا فرض علمه،و لم يكن بين سلف الأمّة و خلفها اختلاف في أنّ العلم بذلك ليس من فرائض الدين،و أنه مما يسع الإبطاء عن علمه و السؤال عنه،و لا يأثم التارك للنظر فيه إذا قرأ القرآن على وجهه و لم يغيّره عن نظمه و لم يزد فيه و لم ينقص منه:علم بهذه الجملة أنه لا نصّ من الرسول قاطع على أوّل ما أنزل عليه من ذلك و آخره،و على تفصيل مكّية و مدنيّه،و إذا ثبت ذلك بطل ما حاولتموه.
و ممّا يدلّ أيضا على صحّة ما قلناه أنّ المختلفين في ذلك من الصحابة لا يرون اختلافهم فيه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه،بل إنّما يخبرون بذلك عن أنفسهم و ما أدّاهم إليه اجتهادهم و استدلالهم بظاهر الأمر،و إن روى بعضهم في ذلك عن النبي صلى اللّه عليه شيئا لم يروه نصّا قاطعا،و إنّما يحكى عنه قولا محتملا،و قصّة للتأويل و الظنون عليها سبيل و طريق،و ليس يجب اتفاقهم على ما هذه سبيله،و لا أن يكون نقلهم لما سمعوه منه في هذا
ص: 238
الباب من الكلام المحتمل ظاهرا منتشرا إذا كان لم يقع من الرسول وقوعا معلنا بحضرة من تقوم به الحجّة،و لا هو ممّا أراد و قصد وقت قوله ذلك للواحد و الاثنين أن يذاع عنه و ينتشر من قبله حتى يكرّره و يردّده و يقصد إذاعته و إقامة الحجّة بإظهاره،و إذا كان ذلك كذلك لم يجب شيء مما قلتموه.
و قد اختلف الصحابة و من بعدهم في أول ما أنزل من القرآن و آخره، و رويت في ذلك روايات كلّها محتملة للتأويل،/فقال قوم منهم:أول شيء أنزل: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر:1]،و قال آخرون:أول ما أنزل: اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1]،و قال قوم:أول ما أنزل: اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ إلى آخر فاتحة الكتاب.
فروى/يحيى بن أبي كثير (1)قال:سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن:[136] أيّ القرآن أنزل أولا؟فقال:سألت جابر بن عبد اللّه (2):أيّ القرآن أنزل أولا؟قال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر:1]قلت:أو اِقْرَأْ ؟قال جابر بن عبد اللّه:
أ لا أحدّثكم بما حدّثنا به رسول اللّه صلى اللّه عليه؟قال:قال رسول اللّه صلى اللّه عليه:«إني جاورت بحراء شهرا،فلمّا قضيت نزلت استبطنت بطن الوادي،فنوديت فنظرت أمامي و خلفي و عن يميني و عن شمالي فلم أر شيئا،ثم نوديت فنظرت أمامي و خلفي و عن يميني و عن شمالي فلم أر شيئا،ثم نظرت إلى السماء فإذا هو على العرش-قيل:يعني أنه الملك على العرش-في الهواء،فأخذتني رجفة،فأتيت خديجة،فأمرتهم فدثّروني،ثم).
ص: 239
صبّوا عليّ الماء،فأنزل اللّه تعالى (1): يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ(1) قُمْ فَأَنْذِرْ(2) وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ(3) وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ(4) [المدثر:1-4].
و روى الزّهريّ عن عروة بن الزّبير عن عائشة رضوان اللّه عليها قالت:
«أول سورة أنزلت من القرآن:اقرأ باسم ربّك»،و روى همّام (2)عن الكلبي (3)عن أبي صالح (4)أنّ أول شيء أنزل من القرآن: اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1]حتى بلغ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى .
و قال قتادة أيضا بمثل ذلك،و في بعض الروايات التي أسند فيها هذا الحديث أنّ حجّاجا قال:«ثم أنزل بعدها ثلاث آيات من أول نون،و ثلاث آيات من أول المدّثّر» (5).
و روى سفيان عن ابن أبي نجيح (6)عن مجاهد (7)قال:«هي أول سورة أنزلت على محمد صلى اللّه عليه: اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ،ثم نون».).
ص: 240
فأما من قال:إنّ أول سورة أنزلت الحمد للّه رب العالمين،فإنّهم يروون ذلك من طريق إسرائيل بن أبي إسحاق (1)عن أبي ميسرة (2)قال:
«كان رسول اللّه صلى اللّه عليه إذا مرّ سمع من يناديه:يا محمد،فإذا سمع الصوت انطلق هاربا،فأتى خديجة فأخبرها،فأسرّت ذلك إلى أبي بكر الصديق،فقال:انطلقي بنا إلى ورقة،فحدّثه،فقال ورقة:هل رأيت شيئا؟ قال:لا،فقال:إذا سمعت النداء فاثبت حتى تسمع ما يقال لك،فلمّا سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه:يا محمد قال:لبيك،قال:قل:أشهد/أن لا إله[137] إلا اللّه و أنّ محمدا عبده و رسوله،ثم قل:الحمد للّه رب العالمين..فاتحة الكتاب»و ساق الحديث.و هذا الخبر منقطع غير متصل السند،لأنّه موقوف على أبي ميسرة،و أثبت الأقاويل من خلاف الصحابة قول من قال:إنّ أول ما أنزل: اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ،و ما يليه في القوة قول جابر،و من قال أول ذلك يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ .
و ليس في هذه الأخبار نصّ من الرسول لا يحتمل التأويل و لا فيها ما يقتضي لفظه و مجيئه أنّه قال ذلك للكافّة و ألزمهم نقله و اعتقاده و حظر عليهم التخلّف عن حفظه و معرفته،فلذلك لم يجب ظهور هذه الأخبار،و لزوم القلوب العلم بصحّتها و القطع عليها،و إن كنّا في الجملة نقول:إنّ الحق لا يخرج عن اختلاف الصحابة للدليل القائم على ذلك،و هذه الأخبار المروية).
ص: 241
في هذا الباب و إن لم يكن متضمّنها من فروض الدين فهي محتملة للتأويل أيضا،لأنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه لم يقل في خبر عائشة و خبر جابر بن عبد اللّه و خبر أبي ميسرة إنّ اللّه تعالى أنزل عليه يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ و لم ينزل عليّ شيئا قبل ذلك،و كذلك القصة في قوله:(قيل)في اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ و قوله:
(قيل لي:قل الحمد للّه رب العالمين)،لأنّه لم يقل في القصتين:و لم ينزل عليّ شيء قبل ذلك،و لا قال في كل قصّة:و كان ذلك أول شيء أنزل عليّ من القرآن لم يتقدّمه شيء،و لا نحو ذلك من الكلام الظاهر الجليّ الذي لا يحتمل غير ما صرّح به فيه،فيحتمل إذا لم يقل ذلك.
و قد كان ينادى مرات كثيرة،و يرى النور و يسمع الصوت و يرجف لذلك،و يتردّد ذلك عليه عند استفتاح النبوة؛حتى أوجب ذكره لخديجة عليها السلام و لورقة بن نوفل أن يكون قد كان ابتدأ بأن أنزل عليه اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ في بعض تلك المرّات،ثم نودي بعد ذلك فمضى إلى خديجة،و دثّر ثم أنزل: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ(1) قُمْ فَأَنْذِرْ(2) ،فيكون بعد شيء أنزل قبله،و كذلك خبر أبي ميسرة يحتمل أن يكون قيل له في أحد تلك المرّات:قل الحمد للّه [138]رب/العالمين إلى آخرها،بعد أن قد كان أنزل عليه اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ و يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ و إذا احتمل الأمر ما ذكرناه ساغ فيه التنازع و الخلاف و الاجتهاد و ترجيح الظنون.
و قد كان يسمع من تكلّم في ذلك من الصحابة و روى فيه ما روى ترك الكلام فيه،و لم يكن مأثوما لو ترك الكلام فيه،و لم يكن ليمنعه أن لا يتلو السورة على ترتيب آياتها و نظامها،لأنّ ذلك من آكد شيء فرض عليه و ألزمه،و حظر عليه خلافه على ما بيّناه من قبل،فافترق الأمران في هذا الباب،و كذلك من ترك من أهل عصرنا الخوض في أول ما أنزل من القرآن
ص: 242
و عدل عنه لم يكن بذلك مأثوما و لا تاركا للفرض،و أن يوجب عليهم إذا خاضوا في ذلك أن لا يخرجوا عن أقاويل السلف التي اتفقوا على أنّ الحقّ في أحدها،و غير خارج عنها إذا حصل لهم إجماع على ذلك متيقّن معروف.
/كذلك أيضا فقد اختلفت الصحابة و من بعدهم في آخر ما أنزل من القرآن،فروي عن أبيّ بن كعب أنه قال (1):«آخر آية أنزلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ [التوبة:128]،و روى سعيد (2)عن عليّ بن زيد (3)عن يوسف بن مهران (4)عن ابن أبيّ بن كعب عن أبيه قال:«آخر آية أنزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ الآية.و ابن أبيّ هذا إما أن يكون محمدا أو الطّفيل،و هما المعروفان،و كلاهما مقبول الحديث.
و روي ذلك عن أبي قتادة (5)أيضا.).
ص: 243
و روى ابن عباس قال:«آخر ما أنزل من القرآن، إِذا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَ الْفَتْحُ ».و روى عبد الحميد بن سهل عن عبيد بن عدي (1)قال:قال لي ابن عباس:«تعلم آخر سورة من القرآن أنزلت جميعا؟قلت:نعم، إِذا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَ الْفَتْحُ ،قال:صدقت» (2).
و روي أنّ عائشة رضوان اللّه عليها قالت:«آخر سورة أنزلت المائدة» (3).و روى أبو الزاهر عن جبير بن نفير (4)قال:«حججت فدخلت على عائشة رضي اللّه عنها فقالت:يا جبير،هل تقرأ المائدة؟قلت:نعم، [139]قالت:أما إنّها/آخر سورة انزلت،فما وجدتم فيها من حلال فاستحلّوه، و ما وجدتم فيها من حرام فحرّموه».
و روي أنّ البراء بن عازب (5)قال:«آخر سورة أنزلت كاملة سورة براءة».
و روى هنّاد بن السّريّ (6)عن أبي....................).
ص: 244
الأحوص (1)عن أبي إسحاق (2)عن البراء بن عازب قال:«آخر سورة من القرآن أنزلت كاملة سورة براءة،و آخر آية أنزلت خاتمة النساء» (3).
و روي أن أبا صالح و سعيد بن جبير قالا:«آخر آية نزلت من القرآن:
وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ [البقرة:281]إلى آخر الآية» (4).
و روي أن إسماعيل السّدّيّ (5)قال:«آخر آية أنزلت: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ [التوبة:129]».و روى ابن شهاب عن سعيد بن المسيب (6)أنه أخبره أنّ أحدث آية بالعرش آية المواريث: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [النساء:176]./ و ليس في شيء من الروايات ما رفع إلى النبي عليه السلام،و إنّما هو خبر عن القائل به،و قد يجوز أن يكون قال بضرب من الاجتهاد،و تغليب الظنّ).
ص: 245
و بظاهر الحال،و ليس العلم بذلك أيضا من فرائض الدين،و لا هو مما نصّ الرسول على أمر فيه بيّنه و أشاعه و أذاعه و قصد إلى إيجابه و إقامة الحجّة به، فلذلك لم يجز ظهوره عنه و حصول الاتفاق عليه و ثبوت العلم به قطعا يقينا.
و قد يحتمل أن يكون كل قائل ممّن ذكرنا يقول إنّ ما حكم بأنّ ما ذكره آخر ما نزل لأجل أنّه آخر ما سمعه من رسول اللّه صلى اللّه عليه في اليوم الذي مات فيه،أو ساعة موته على بعد ذلك،أو قبل مرضه الذي مات فيه بيومين أو ساعة،و قد سمع منه غيره شيئا نزل بعد ذلك و إن لم يسمعه هو لمفارقته له و نزول الوحي بقرآن بعده،و يقد يحتمل أيضا أن تنزل الآية التي هي آخر آية تلاها الرسول صلى اللّه عليه عليهم مع آيات نزلت معها،فيؤمر برسم ما نزل معها و تلاوتها عليه بعد رسم ما أنزل أخيرا و تلاوته،فيظنّ سامع ذلك أنّه آخر ما نزلت في الترتيب،و يحتمل أيضا أن ينزل عليه آية في الليل منع من أدائها و شغل بعذر عن ذلك و انتظر النهار،فلما أصبح أنزلت [140]عليه آية لا شيء/نزل عليه بعدها،ثم قيل له:اتل عليهم هذه أولا و اكتبها ثم اتل عليهم بعد ذلك ما كان نزل قبلها و مرهم برسمه و إثباته،هذا ما لا سبيل إلى منعه و إحالته،فيظن سامع الأخير من القرآن أنّه آخر ما أنزل عليه، و ليس كذلك،بل قد أنزل بعده ما قدّمت تلاوته و إثباته.
و إذا كان ذلك كذلك و كان الرسول لم يكشف و لم يفرض على الأمّة علمه،و لا أمره اللّه سبحانه بإلزامهم ذلك و بيانه لهم،و لا رأى ذلك من مصالحهم و مراشدهم و لا مما تمسّهم الحاجة إليه في دينهم:لم يجب أن يظهر ذلك عن الرسول و لا أن ينقل نقلا متواترا،و لا أن لا يختلف فيه و لا يعمل الاجتهاد،و تزحم الظنون فيه،و لم يرو في شيء من هذه الآثار إن كلّ قائل بمذهب من هذه المذاهب سئل فقيل له يقطع و يتيقّن أنّ هذا هو آخر ما
ص: 246
أنزل أو أوله من حيث لا يجوز غير ما قلته فقال:نعم،و لا نقلت الأمّة عنه أنها عرفت من دينه أنّه لا يقول ذلك على ظاهر الحال و غالب الظن و الرأي.
إذا كان ذلك كذلك بان صحة ما قلناه،و بطل ما حاولوا به الطعن على نقل القرآن و جواز تغييره و تبديله.
فأما المكّيّ و المدنيّ من القرآن فلا شبهة على عاقل في حفظ الصحابة و الجمهور منهم إذا كانت حالهم و شأنهم في حفظ القرآن و إعظامه و قدره من نفوسهم ما وصفناه لما نزل منه بمكة ثم بالمدينة،و الإحاطة بذلك و الأسباب و الأحوال التي نزل فيها و لأجلها،كما أنّه لا بدّ في العادة من معرفة معظم العالم و الشاعر و الخطيب و أهل الحرص على حفظ كلامه و معرفة كتبه و مصنفاته من أن يعرفوا ما نظمه و صنّفه أولا و آخرا،و حال القرآن في ذلك أمثل،و الحرص عليه أشد،غير أنه لم يكن من النبيّ عليه السلام في ذلك قول و لا نصّ،و لا قال أحد و لا روى أنّه جمعه،أو فرقة عظيمة منهم تقوم بهم الحجّة و قال:اعلموا أن قدر ما أنزل عليّ من القرآن بمكة هو كذا و كذا/،و أنّ ما أنزل بالمدينة كذا و كذا،و فصّله لهم و ألزمهم معرفته،و لو[141] كان ذلك منه لظهر و انتشر،و عرفت الحال فيه.
و إنما عدل صلى اللّه عليه عن ذلك لأنّه مما لم يؤمر فيه،و لم يجعل اللّه تعالى علم ذلك من فرائض الأمّة،و إن وجب في بعضه على أهل العلم مع معرفة تاريخ الناسخ و المنسوخ،ليعرف الحكم الذي ضمنها،و قد يعرف ذلك بغير نصّ الرسول بعينه و قوله هذا هو الأول و المكّي و هذا هو الآخر المدني.
و كذلك الصحابة لمّا لم يعتقدوا أنّ من فرائض التابعين و من بعدهم معرفة تفصيل جميع المكّيّ و المدنيّ و أنّه ممّا يسع الجهل به،لم تتوفّر
ص: 247
الدواعي على إخبارهم به و مواصلة ذكره على أسماعهم و أخذهم معرفته، و إذا كان ذلك كذلك ساغ أن يختلفوا في بعض القرآن هل هو مكّيّ أو مدنيّ،و أن يعملوا في القول بذلك ضربا من الرأي و الاجتهاد،و إن كان الاختلاف زائلا عنهم في جلّه و كثيره،و إذا كان ذلك كذلك لم يلزم أيضا أن ينقل عن الصحابة نقلا متواترا ذكر المكّيّ و المدنيّ،و لم يجب أيضا على الصحابة و على كل داخل في الإسلام بعد الهجرة و عند مستقرّ النبيّ صلى اللّه عليه في المدينة أن يعرف أنّ كل آية أنزلت قبل إسلامه مكية أو مدنية،يجوز أن يقف في ذلك أو يغلب على ظنّه أحد الأمرين،و إذا كان ذلك كذلك بطل ما توهّموه من وجوب نقل هذا و شهرته في الناس و لزوم العلم به لهم و التفريط بالتخلّف عن علمه و وجوب ارتفاع الخلاف و النزاع فيه.
و قد روى شعبة عن قتادة و يزيد النحوي (1)عن عكرمة و الحسن بن أبي الحسن قال:قال قتادة:«إنّ الذي أنزل بالمدينة البقرة و آل عمران و النساء و المائدة،و آية من الأعراف: وَ سْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ [الأعراف:163]و الأنفال و الرعد،غير أنّ فيها مكّيا، وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ [الرعد:31]إلى آخرها،و من إبراهيم *أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ [142]بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللّهِ كُفْراً [إبراهيم:28]إلى آخر السورة،/و الحجّ غير أربع آيات أولهن: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلاّ إِذا تَمَنّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج:52]إلى قوله: عَقِيمٍ [الحج:55]،و النور و عشرة من العنكبوت،و الأحزاب و الحمد و الفتح و الحجرات و الرحمن و الحديد و المجادلة و الحشر و الممتحنة و الصفّ و الجمعة و المنافقون و يا أيها النبيّ إذا).
ص: 248
طلقتم النساء،و يا أيها النبيّ لم تحرّم،و لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب،و إذا زلزلت،و إذا جاء نصر اللّه،و بقية السور مكيّ كلّه».
و روى شعبة عن قتادة هذا الحديث على سياق ما ذكرناه،و ذكر ابن مسعود أنه قال:«كلّ شيء في القرآن(يا أيها الناس)أنزل بمكة»،و ذكر ذلك عن علقمة،و ذكر عن علقمة قال:«كلّ شيء في القرآن(يا أيها الذين آمنوا)مدنيّ»،و الروايات عنهم في ذلك كثيرة،و لا يعرف منها ما يرفعونه عن الصحابة عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم،و السبب في ذلك ما قدّمناه من أنه لم يكن منه صلى اللّه عليه في ذلك نصّ على تفصيل ذلك و قول قاطع،و لا هو مما عنيت الصحابة بذكره للتابعين و إن كان قد ذكره منهم القرّاء و من انتصب لذلك لمن أقرأه القرآن إذا سئل عن الآية و السورة،غير أنّ ذلك لم يقع وقوعا ظاهرا منتشرا.
و إذا كان ذلك كذلك بطل ما توهّموه قادحا في نقل القرآن و عائدا بالطعن عليه،و أنّ هذا الذي ذكرناه هو الذي يمنع تجويز كون قرآن كثير أنزله اللّه تعالى على رسوله صلى اللّه عليه و إن كان لا سبيل لنا إلى العلم و القطع على أنّه قرآن منزل من اللّه سبحانه على رسوله،و أنّنا لا نأمن أن يكون عند عليّ أو أبيّ و عبد اللّه بن مسعود أو بعض آحاد الأمة عشر آيات أو عشر سور بيّنها الرسول له وحده،دون جميع الأمة،و أنّ مدّعي ذلك مبطل لا شبهة علينا في كذبه لعلمنا بعادة الرّسول في بيان جميع المنزل عليه.
و إذا كان ذلك كذلك وجب أن نعلم بهذا الدليل قطعا أنّ بسم اللّه الرحمن الرحيم ليست بقرآن منزل في غير سورة النمل،و أنّها ليست من جملة كلّ سورة،و لا أنّها فاصلة بين السورتين،لأنّها لو كانت آية منزلة إمّا على أن تكون مفردة فاصلة بين السورتين أو على أن تكون من جملة كلّ
ص: 249
سورة لوجب أن يبيّن ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه بيانا ظاهرا مكشوفا، موجبا للعلم،قاطعا للعذر،مزيلا للرّيب،رافعا لاختلاف الأمّة و دخول شبهة على أحد منهم في هذا الباب كما فعل ذلك في جميع آيات السّور و سائر ما أنزل اللّه تعالى من كلامه الذي ضمن حفظه و حياطته و جمعه و حراسته.
فلمّا لم يكن ذلك كذلك،و لم نجد أنفسنا عالمة بذلك،و لا وجدنا الأمة متفقة على هذا الباب اتفاقها على جميع سور القرآن و آياتها المبيّنة فيها،بل وجدنا فيهم من يقول إنّها آية من الحمد وحدها،و فاتحة لغيرها، و منهم من يحمّل نفسه عند حدّ النظر على أن يقول إنّها من كلّ سورة، و منهم من يقول إنّها آية فاصلة بين السورتين و ليست من جملة كلّ سورة، و إنّني أعلم ذلك قطعا و إنني لا أدري أنّها من جملة سورة الحمد أم لا لموضع الخلاف فيها،و منهم من يقول:لست أدري أنّها من كل سورة أم لا [143]و أنّه يجوز/أن تكون مفردة فاصلة،و يجوز أن تكون من جملة كلّ سورة هي فاتحتها:علم بذلك أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لم يوقف على شيء من هذه المذاهب و الأقاويل،فلم يبيّن للأمّة أنّها قرآن منزل.
و لو جاز لمدّعي أن يدّعي أنّ الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم قد بيّن أنّها قرآن منزل و إن خفي ذلك على أكثر الأمّة لجاز لآخر أن يدّعي أنّ عند الإمام و آحاد من الصحابة قرآنا كثيرا و إن خفي ذلك على أكثر الأمة لجاز أيضا أن يدّعي مدّع أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه قد نصّ نصّا بيّنا قاطعا معلنا على أنّها آية من الحمد وحدها و فاتحة لغيرها،و إن خالف في ذلك كثير من الأمّة و خفي ذلك عليهم،و أن يدّعي مدّع أنّه قد نصّ صلى اللّه عليه نصا قاطعا معلنا على أنّها آية منزلة مفردة فاصلة بين السور،و ليست من جملة شيء منها،و إن خالف أكثر الناس في ذلك،و خفي عليهم.
ص: 250
و لمّا لم يسمع هذه الدّعاوي و بطلت و تكافأت علم أنّه لو كان منها حقّ قد بيّن على حسب ما ادّعي لكان ظاهرا مشهورا كظهور سائر آيات القرآن و سوره،و وجب القطع على أنّ بسم اللّه الرحمن الرحيم ليست بقرآن منزل في غير النمل،و لا فاصل بين السور،و لا من جملتها أيضا،فلهذا لم يجب عندنا علم الأمة بأنّها قرآن و أنّها من سورة الحمد على ما طالبنا به القادحون في نقل القرآن و صحّته،لأنّه إنما يجب تواتر النقل و حصول الاتفاق على ما بيّنه رسول اللّه صلى اللّه عليه و أنزل عليه من القرآن دون ما لم يبيّنه و لم ينزل عليه.
و هذا الذي قالوه أيضا بأن يدلّ على صحّة ما قلناه في وجوب ظهور نقل القرآن و العلم به أولى،و ذلك أنّه إذا اختلفت الأمّة في إثبات ما يظنّ قوم أنّه قرآن لأجل افتتاح الرسول به و إثبات الأمّة له في أوائل السور، فقطعوا لذلك على أنّه قرآن و دانوا به و توفّرت هممهم و دواعيهم على حفظه و الإحاطة به و بلغ به قوم إلى أنّه قرآن منزل:وجب أن يكون حفظهم و توفّر هممهم و دواعيهم على نقل ما بيّنه/رسول اللّه صلّى اللّه عليه من القرآن أولى[144] و أحرى،و أن يكون ذلك فيهم أظهر و هم به أعرف،فكلّ هذا يدل على وجوب حفظ الأمّة لما نصّ رسول اللّه صلى اللّه عليه على أنّه قرآن،و على أنّ بسم اللّه الرحمن الرحيم ليست من جملة القرآن في غير المواضع التي اتفقوا عليها،و على أنّ الرسول صلى اللّه عليه بيّن كونها قرآنا فيه و قطع العذر،و هذا أيضا أحد الأدلّة على أنّه لم يكن من النبيّ صلى اللّه عليه بيان لكون بسم اللّه الرحمن الرحيم قرآنا منزلا و فاصلا بين السّور و لا من جملتها و لا من جملة الحمد،لأنّه لو كان منه بيان لذلك لجرى مجرى بيانه لكونها قرآنا في سورة النمل بقوله: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ص: 251
[النمل:30]،و لارتفع لأجل بيانه لذلك الشكّ و الرّيب عن جميع الأمّة في كونها آية مفردة فاصلة إن كانت أو من جملة الحمد وحدها إن كانت كذلك،و إن لم يكن هذا هكذا بطلت جميع هذه الأقاويل،و ثبت بما وصفناه أنّ بسم اللّه الرحمن الرحيم ليست من القرآن إلا في السورة التي يذكر فيها النمل.
فإن قال قائل:فقولوا لأجل دليلكم هذا إنّ المعوّذتين ليست بقرآن منزل أصلا،و إنّ الرسول لم يبيّن كونها قرآنا منزلا بيانه لسائر سور القرآن و آياته، لأجل خلاف عبد اللّه بن مسعود في ذلك و جحده أن يكونا من القرآن! قيل له:ليس الأمر عندنا في جحد عبد اللّه كذلك على ما ادّعيت،بل ذلك كذب و زور لا ينبغي لمسلم أن يثبته على عبد اللّه و يضيفه إليه بأخبار آحاد غير موجبة للعلم كلّها معارضة بما هو أقوى و أثبت عن رجال عبد اللّه في إثباتها من القرآن و إقرائهم إياها،و سنستقصي القول مما روي عنه في ذلك و قدر ما قاله و تأويله،و أنّه ليس فيه ما يوجب إخراجها من القرآن إن شاء اللّه.
فأمّا ما اعتمد عليه من زعم أنّ الأمّة اتفقت على أنّ جميع ما بين اللوحين قرآن منزل من عند اللّه تعالى،و أنّ ذلك بمنزلة قول النبي أو أخذ [145]المصحف و نشره ورقة ورقة/و قال:اعلموا أنّ جميع ما فيه قرآن و تلي عليهم أيضا بذلك قرآنا فإنه لا تعلّق فيه،لأنها دعوى باطلة،لأنّنا لا نعلم من دين الأمّة المتفقة على كتبة المصحف أنّها وقفت على أنّ جميع ما فيه من فواتح السّور و غيرها قرآن منزل من عند اللّه،و إن علمت أنّهم قد أثبتوا بسم اللّه الرحمن الرحيم فاتحة للسّور،و كيف نعلم ذلك و نحن و جميع من يوافقنا على قولنا يعتقد أنّ الصحابة لم تتفق قطّ على القول بذلك و إضافته
ص: 252
إلى الرسول صلى اللّه عليه،و نقول:إنه لو ثبت ذلك من عقدهم و دينهم لوجب القطع على أنّه قرآن،لأنّ الأمّة عندنا لا تجتمع إلا على حقّ و صواب،فبان أنّه لا شبهة في فساد هذه الدعوى.
و أما قولهم بعد هذا إنّهم لا يخالفون في إطلاقهم القول بأنّ ما بين اللوحين قرآن منزل،و ليس لنا أن نقيّد ما أطلقوه و لا أن نخصّ ما عمّوه، فإنّه تعليل و تدقيق عن مبوح به،لأنّ العموم عندنا و عند أكثر الأمة ما ثبت له الأمّة للعمومات في الأحكام و المواضع التي اعتقدت العموم بها بإطلاقها للّفظ الذي يدّعي أنّه موضوع للعموم،و إنّما يعلم ذلك عند مشاهدتها ضرورة بالأمارات الظاهرة المقارنة لإطلاقها،و يعلم ذلك من دينها عند الغيبة عنها بنقل من يوجب خبره العلم أنّه علم ذلك من دينها و يحقّق قطعها عليه،و لا يسأله عن وجه علمه بذلك و يعلم أنّه لم يعلم ذلك من حالها بنفس اللفظ و لا الإطلاق الذي يحتمل الخصوص و العموم،و لكن بالأسباب و القرائن و الأمارات المقارنة للفظ الذي لا يمكن نعتها و وضعها و تجديدها و تحبيسها لما قد بيّناه في أصول الفقه و غيره في فصول القول في إبطال العموم،و إذا كان ذلك كذلك فلا معنى للتّعلّق و التشبّث بأنّه لا وجه لتقييد ما أطلقوه،و تخصيص ما عمّوه.
و أما قولهم إنّه لو لم يعلم ذلك بنفس قول الأمّة و إطلاقها لم يعلم ذلك أيضا/بقول رسول اللّه صلى اللّه عليه و إطلاقه و نشره المصحف ورقة ورقة،[146] فإنّه كذلك يقول لأنّه قد يطلق رسول اللّه صلى اللّه عليه اللّفظ الذي يدّعي قوم أنّه العموم و يكون مراد به الخصوص،و يتلو أيضا بذلك قرآنا يظنّ قوم أنّه على العموم و المراد به الخصوص.
ص: 253
و ليس قوله صلى اللّه عليه لو قال:كلّ ما في مصحف عثمان كلام اللّه، تأكّد من قوله تعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها [الأحقاف:25]، وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل:23]،و يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ [القصص:57] وَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ،و قد ثبت أن ذلك على الخصوص بقول اللّه تعالى و قول رسوله،و قول الأمّة في هذا سواء في أنّه كلّه على الاحتمال للخصوص و العموم،فإن لم يظهر معنى قول الرسول إنّ كلّ ما في المصحف أو جميعه و سائره و قليله و كثيره و سواده و عمومه و بواديه و خواتمه أمارات و أحوال يضطر عندها إلى مراده و معرفة قصده إلى استيعاب جميع ما في المصحف، و لم يقطع على مراده و وقفنا،و ليس هذا من الحجّة لثبوته و الشكّ في خبره على ما يظنّه بعض الجهّال بسبيل،و لكنّه وقف في مراده باللّفظ المحتمل لأمرين ليس أحدهما أولى به من الآخر لفقد الدليل على مراده به.
و إن كان ذلك كذلك و كنّا لا نعلم ضرورة لمشاهدة السلف و سماع توقيفهم على أنّ جميع ما في المصحف قرآن منزل و رؤية أماراتهم و مخرج خطابهم و معرفة أسبابهم و الأحوال التي صدر عليها خطابهم،و لا ينقل من يضطر إلى صدقه أنّه عرف ذلك من قصد الأمّة و اعتقادهم لعموم إطلاقها، كما نعلم ضرورة من دينها أنّ تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ من القرآن،و أنّ قوله:
إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [النمل:30]من القرآن:بان و ظهر أنه لا جدوى و لا طائل لأحد من التعلّق بإطلاق السلف لهذه الألفاظ،و لا سيّما مع قيام الدّليل على أنّ بسم اللّه الرحمن الرحيم ليست من القرآن، و أنّ ما بيّنه الرسول صلى اللّه عليه منه لا يحتاج في إثباته إلى حصول إجماع عليه،و إنّما يجب أن يكون متواترا،و مما يعلم صحّته و بيان الرسول له اضطرارا.
ص: 254
و أما قولهم إنّه قد/ساغ و ظهر في الصحابة أنّ قوما منهم ادّعوا أنّ بسم[147] اللّه الرحمن الرحيم آية من القرآن فلم ينكر ذلك الباقون و لا اعترضوا فيه بشيء:فإنّه باطل،و أول ما فيه أنّنا لا نعلم أنّ ذلك شاع و ظهر في الصحابة،لأنّ ذلك لم يرو عن أحد منهم إلا عن عبد اللّه بن عباس، و الأخبار الواردة عنه بذلك أخبار آحاد لا نجد أنفسنا عالمة بصحّتها لا اضطرارا و لا نظرا و استدلالا،فلا حجّة فيها.
على أنّه يمكن لو صحّت الأخبار التي قدّمنا ذكرها عن ابن عباس في هذا الباب و علم بثبوتها:أن يكون كفّ القوم عن إنكارها لأنّه لم يظهر و يشيع فيهم،و إنّما يجب أن ينكروا ما تأدّى إليهم،و قد يمكن أن يكون أيضا إنما تركوا إنكار قوله لذلك،و إنّما قال:«سرق الشيطان من إمام المسلمين آية،و من ترك قراءة بسم اللّه الرحمن الرحيم ترك من كتاب اللّه آية» و نحو ذلك،و هذا كلّه قوله و رأيه و ليس فيه ما رفعه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه،فقد بيّن بترك الذكر لذلك الشكّ في صحّة مذهبه و عدم العلم بأنّه حقّ أو باطل،و قد يترك كراهة المناظرة عليه و العلم بأنّه ليس من الأمّة قائل بذلك،و أنّه لا شبهة في بطلانه،و أن المناظرة عليه تغري صاحبها بالتمسّك به،و قد ينزل اللّه عليه لاعتقاد كثير منهم أنّ ذلك مسألة اجتهاد و أنّ الغلط فيها سهل مغفور لموضع أنّ الرسول كان يفتتح السّور بها،و ربما جهر بها إمام الجهر في صلاته،و أنّ ذلك قائم مقام توقيفه على أنّها قرآن منزل، فيصير ذلك محلّه التأويل،و الصحيح أنّ هذه الأخبار غير ثابتة و لا معلومة عن ابن عباس،فلا وجه لدعوى ظهور هذا القول و انتشاره في الصحابة مع الإمساك عليه.
ص: 255
و أما قول ابن عباس:«كان المسلمون لا يعرفون انقضاء السورة حتى تنزل بسم اللّه الرحمن الرحيم،فيعلمون أنّ السورة قد انقضت»فإنّه لا تعلّق فيه لأمرين:
أحدهما:أنّ قوله حتى تنزل بسم اللّه الرحمن الرحيم إخبار عن ظنّه أنّها [148]تنزل لاعتقاده كونها قرآنا،و ليس في اعتقاده لذلك و إخباره/به لا عن توقيف الرسول:حجّة.
الوجه الآخر:أنّ قوله:(حتى تنزل)محتمل لأن يكون تحقيقا لنزولها، و أنّ الرسول وقف على أنّ الملك ينزل بها،و يحتمل أن يكون أراد على أنّها كلام تفتتح به السور و يعرف بها انقضاء ما قبلها،و يكون علامة لذلك و إن لم يكن قرآنا منزلا أمام السور،لأنّه قد ينزل الملك على الرسول بقرآن و ما ليس بقرآن من الوحي.
و قولهم بعد ذلك:«ظاهر قوله(ينزل)يقتضي أنّها منزلة قرآنا»لا حجّة فيه،لأنّه قول يحتمل،لأنّ الظاهر و الإطلاقات غير مقنعة في إثبات قرآن منزل مقطوع به على اللّه سبحانه،فبطل ما قالوه.
و هذا الجواب عما روي من قول ابن عباس:«كان جبريل إذا أتى النبيّ صلى اللّه عليه ببسم اللّه الرحمن الرحيم علم أنّها قد ختمت سورة فاستقبل الأخرى»،لأنّها قد جعلت علامة للرّسول و لغير ذلك عند التلاوة و الكتابة، و إن لم يكن من القرآن.
فأمّا ما روي عن أم سلمة من أنّ النبيّ صلى اللّه عليه كان يعدّ بسم اللّه الرحمن الرحيم آية فاصلة فإنّه من أخبار الآحاد التي لا نعلم بثبوتها اضطرارا و استدلالا،و قد بيّنّا فيما سلف بما يزيل الشكّ و الرّيب أنّ رسول اللّه صلى
ص: 256
اللّه عليه لو عدّ ذلك و بيّنه لوجب علمنا به و نقل الأمّة له نقلا ظاهرا متواترا كنقل سائر ما عداه من آيات القرآن و بيّنه،و ما هذا الخبر عندنا إلا بمثابة رواية راو عن أم سلمة أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه كان يصلّي صلاة سادسة و سابعة مفروضة واجبة و يعرف الناس ذلك من حالها في وجوب ردّ هذا الخبر و العلم بأنّه لو كان صحيحا عن أمّ سلمة لوجب أن تنقل الأمة تلك الصلاة نقلها الخمس صلوات و سائر الفروض العامة،و كذلك لو بيّن أنّ بسم اللّه الرحمن الرحيم آية و عدّها كبيانه لغيرها لظهر و استفاض نقلها، و للزم القلوب العلم بكونها قرآنا منزلا،فإذا لم يكن ذلك كذلك لم يجب تصحيح هذا الخبر.
على أنّها لم تجب بذلك عن قول الرسول،و إنما قالت:«كان رسول اللّه صلى اللّه عليه/يعدّها آية فاصلة»،و ذلك إن صحّ عنها خبر عن رأيها[149] و اعتقادها،و ليس ذلك بحجّة بخلاف غيرها لها في ذلك.
و أمّا كراهة عبد اللّه بن مسعود و غيره مما قدّمنا ذكره من قتادة و غيره من التابعين لتفسير القرآن و كتب آية كذا وعدها كذا و كذا آية،و إنكار عمر لكتب التأويل و التفسير مع التنزيل،مع تسويغه و تسويغ جماعة الصحابة و التابعين لكتب بسم اللّه الرحمن الرحيم فصلا في فواتح السور،فإنّه أيضا مما لا حجّة فيه و لا تعلّق،و ذلك أنّهم إنّما أنكروا ذلك و قال بعضهم إنّه بدعة لعلمهم بأنّ الرسول لم يبيّن ذلك و لا أمر بكتابته،و أنّه قد أمر بكتب بسم اللّه الرحمن الرحيم في فواتح السور ما نزل عليه مما أمر بكتبه،و ليس يجب أن يسوّغوا كتب ما لم يأمر به الرسول لتسويغهم رسم ما سنّ كتبه،و لا يجب أن يعتقدوا أيضا أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه لا يكتب في افتتاح السورة المنزلة إلا قرآنا منزلا،لجواز أن يؤمر بافتتاحها في الكتابة بما ليس بقرآن
ص: 257
على ما بيّنّاه من قبل،و لأجل أنّهم سمعوا الرسول يفتتح في الصلاة ببسم اللّه الرحمن الرحيم،و يجهر بها أحيانا إمام الجهر،فأجيز الائتمام به في افتتاح السور في الكتابة بها،و ليس مثل عدد من فعله في تعشير القرآن و كتب رأس الأجزاء و الأسباع و الأخماس و خاتم كذا و عدد آياتها كذا،و كتب التفسير مع التأويل.
و إذا كان ذلك كذلك بان أنّه لا حجّة لهم في شيء مما أوردوه،و أنّ بسم اللّه الرحمن الرحيم ليست بآية من القرآن،و أنّها جعلت علامة و فاصلة بين السور،و أمارة على ختم السورة و الأخذ في الأخرى.
فإن قال قائل:فإذا كان الأمر فيها على ما وصفتم فلم لم تكتب في أول سورة براءة للفصل بينها و بين الأنفال؟ قيل له:لأمرين:
أحدهما:أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم لم يفعل ذلك ليشعر من بعد أهل عصره أنّ السلف من الأمّة الآخذين عنه لم يكتبوا بسم اللّه الرحمن الرحيم في فواتح [150]السور باجتهادهم/و آرائهم،و إنّما اتّبعوا في ذلك ما سنّ و شرع لهم،و أنّ ذلك لو كان برأيهم لوجب عليهم أن يكتبوا بين الأنفال و براءة،لأنّه لا معنى يقتضي الفرق بين الفصل بين هاتين السورتين بها و بين الفصل بين غيرهما بها،و لو فعل ذلك في غير سورة براءة و أسقطها من افتتاحها لسدّ ذلك مسدّ اطّراحها من أول سورة براءة في إشعارهم بهذا الباب،و لو أعلمهم أيضا- سبحانه-أنّ السلف ما كتبوها في أوائل السور إلا لسنّة الرسول بغير هذا الوجه و شيء سوى إسقاطها من أول سورة براءة لصحّ ذلك منه و جاز،غير أنّه يمكن أن يكون إعلامهم هذا الباب بهذا الضرب من التنبيه و بإسقاطها من
ص: 258
أول براءة دون غيرها:لطفا لهم أو لبعضهم،و أدعى الأمور لهم إلى التصديق بالقرآن و تحفّظه و العمل بموجبه،و إعظام مؤدّيه و متحمّله.
و قد يمكن أيضا أن يكون إنّما أسقطت في أول سورة براءة لأنّها نزلت بالسيف و الوعيد و التهديد و الطرد و الإبعاد و الإخافة و الإهانة،و كانت إنّما تكتب في أوائل ما يتلى من السور على وجه الرفق و الإيناس و التسكين بالابتداء بذكر اللّه تعالى و وصف فضله و رحمته.
و ممّا يدلّ على بطلان قول من زعم أنّ السلف أجمعوا على اعتقاد كون بسم اللّه الرحمن الرحيم آية أنّ بسم اللّه الرحمن الرحيم فيها معنى الرحمة و الأمان (1)،و براءة لم تجىء في هذا المعنى،و إنّما جاءت بضدّه و نقيضه، فلم تكتب كذلك في أوّلها،و قد روى عليّ بن عبد اللّه بن عباس عن أبيه عبد اللّه قال:سألت عليّ بن أبي طالب:لم لم يكتب بين براءة و الأنفال بسم اللّه الرحمن الرحيم؟فقال:«لأنّ بسم اللّه الرحمن الرحيم أمان،و براءة نزلت بالسيف لا أمان فيها»،فهذا هو نفس التأويل الذي قلناه و علمه الجمهور من أهل العلم،و إذا كان ذلك كذلك زال ما اعترضوا به.
و مما يدلّ على بطلان قول من زعم أنّ السلف أجمعوا على اعتقاد كون بسم اللّه الرحمن الرحيم أنّها آية من الحمد و من كلّ سورة ما ظهر على ما ذكر و انتشر من قول ابن عباس:«ترك الناس آية من كتاب اللّه،و سرق الشيطان آية من كتاب اللّه»،و قد علم أنّه لا يقول ذلك حتى/يترك الناس[151] قراءة بسم اللّه الرحمن الرحيم في فاتحة الكتاب و فاتحة كلّ سورة،و يكون هو وحده هو المتمسّك بذلك،هذا هو الذي يقتضيه ظاهر قوله:«سرقا.
ص: 259
الشيطان آية من كتاب اللّه،و ترك الناس آية من كتاب اللّه»،لأنّهم لو كانوا يقرءونها لما قال ذلك،فهذا يدلّ على مخالفة الجماعة له على قوله هذا و تركهم لقراءتها و ذلك بأن يدلّ على فساد ما قالوه أولى.
فإن قيل:فإذا كان قد اعتقد عندهم أنّها من القرآن و هم يعلمون أنّها ليست من القرآن،فلم تركوا النكير عليه،و أن يقولوا له:قد أعظمت الخطأ و الفرية في إدخالك ما ليس من القرآن فيه؟ يقال لهم:يكفي في الردّ لقوله و الخلاف عليه تركهم الرجوع إلى قوله مع سماع ذلك منه و تكرّره و كثرة ضجيجه هو بقوله:«ترك الناس آية من كتاب اللّه،و سرق الشيطان آية من كتاب اللّه»،لأنّ هذا القول مع ظهوره منه يدلّ على أنّ القوم لا يعتدّون بقوله هذا و لا يثبتون به بسم اللّه الرحمن الرحيم قرآنا،و لعلّه أن يكون فيهم من قال في خلافه ما ذكروه و خرج عن الإغلاظ له إلى مثل ما وصفوه.
و يمكن أيضا أن يكونوا إنّما تركوا الإنكار عليه و أن يقولوا له:أخطأت ليست من القرآن؛لأجل أنّه لم يتحقّق عندهم أنّه اعتقد أنّها آية منزلة من كلّ سورة،و ظنّهم أنّه اعتقد أنّه كلام يفتتح به السور و الجمل،و أنّ السنّة قد جرت بذلك عنده،و أنّه إنّما قال:«سرق الشيطان من كتاب اللّه آية،و ترك الناس من كتاب اللّه آية»يريد أنّه سرق منه ما يقوم مقام آية مما جرت السّنّة عندنا بالافتتاح به،و قد قال اللّه سبحانه: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [النحل:98]،فلو ترك تارك الاستعاذة عند قصده عرض القرآن،لساغ أن يقول قائل:«سرق الشيطان الاستعاذة،و سرق آية من كتاب اللّه،يريد بذلك أنّه سرق ما يقوم مقام آية من الاستعاذة التي أمر بها،و ساغ
ص: 260
أن يقول أيضا:«سرق الشيطان آية»أيّ:أنّه/سرق موجب آية و هو قوله:[251] فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ ،إذا احتمل قوله جميع ما ذكرناه و بطل التعلّق به.
و يمكن أن يكون معنى قوله:«سرق الشيطان آية من كتاب اللّه»،أي:
سرق قرآنا ثابتا في النّمل،و مفتتحا به في الحمد،و في كلّ سورة،لأنّه قرآن من النمل يفتتح به عنده في غيره،و قد كان أنس بن مالك ينكر ما يقوله ابن عباس،و يروي أنّ النّبي صلى اللّه عليه و سلّم و من بعده من الأئمة لم يكونوا يقرءون ببسم اللّه الرحمن الرحيم،فروى مالك عن حميد (1)عن أنس:«أنّ النّبي صلى اللّه عليه و أبا بكر و عمر كانوا لا يقرءون ببسم اللّه الرحمن الرحيم» (2).
فإن قيل:أراد أنّهم كانوا لا يجهرون بقراءتها.
قيل لهم:ظاهر الخبر ترك القراءة بها جملة،لأنّ ترك الجهر بالقراءة ليس بترك للقراءة،فلا وجه للعدول بالخبر عن ظاهره،و شيء آخر و هو أنّه إن كان معنى الخبر ترك الجهر بها فذلك دليل على أنّها ليست من الحمد لاتّفاقهم على الصلاة التي يجب الجهر فيها،لا يجهر فيها ببعض السورة و يخافت بالبعض،كما لا يفعل ذلك فيما عدا الحمد من السورة التي يجب الجهر فيها.).
ص: 261
و قد روي أيضا عن الأعمش عن شعبة عن ثابت (1)عن أنس بن مالك قال:«صليت خلف النبيّ صلى اللّه عليه و أبي بكر و عمر و عثمان،و كانوا لا يجهرون ببسم اللّه الرحمن الرحيم» (2)،و لو كانت من الحمد لجهروا بها في صلاة الجهر،و قد ظهر أنّ النّبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال لأبيّ:«كيف تقرأ إذا كبّرت؟» فقال:«اللّه أكبر،الحمد للّه رب العالمين» (3)،فلم يذكر بسم اللّه الرحمن الرحيم،و لا قال له رسول اللّه صلى اللّه عليه تركت آية من الحمد،كما قال ابن عباس على ما رووه عنه،و قول النبيّ و تعليمه الصلاة و ترك الأخذ بقراءة بسم اللّه الرحمن الرحيم أولى أن يعمل به و يكون حجّة.
و قد روى عبد الوارث (4)قال:حدّثنا عبد العزيز بن صهيب (5)قال:
سئل أنس:أ يفتتح الرّجل الصلاة ببسم اللّه الرحمن الرحيم؟فقال:ما قالها رسول اللّه صلى اللّه عليه و لا أبو بكر و لا عمر و لا عثمان حتى كانت هذه).
ص: 262
الغشية»،/فهذا إنكار منه شديد و اعتقاد لكون قراءتها و الافتتاح بها بدعة في[153] الدّين.
و روى الناس أنّ عبد اللّه بن مغفّل (1)سمع ابنا له يقرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم فقال:«يا بنيّ إيّاك و الحدث،فإني صلّيت خلف رسول اللّه صلى اللّه عليه و أبي بكر و عمر و عثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ ببسم اللّه الرحمن الرحيم»،و هذا أيضا إنكار من عبد اللّه بن مغفّل لقراءة بسم اللّه الرحمن الرحيم،و إخبار عن اعتقاده و اعتقاد السلف أنّ فعل ذلك بدعة و حدث في الدّين،فكيف يمكن أن يقال إنّه لم يكن في السلف منكر غير ابن عباس، و حالهم ما وصفناه.
و مما يدلّ على أنّها ليست بآية من الحمد أيضا و من كل سورة اتفاق الدّهماء على أنّ: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ثلاثين آية،و ظهور الخبر بذلك عن الرسول،و قد روى شعبة عن قتادة عن عباس الجشمي عن أبي هريرة قال:قال رسول اللّه صلى اللّه عليه:«إنّ من القرآن سورة ثلاثين آية،جعلت تجادل عن رجل غفر له،و هي تبارك» (2).و قد اتفق على أنّها إذا عدّت مع «بسم اللّه الرحمن الرحيم»كانت إحدى و ثلاثين آية.
و كذلك قد اتفق القرّاء كلّهم على أنّ الكوثر ثلاث آيات،فلو كانت بسم اللّه الرحمن الرحيم آية منها لكانت أربع آيات،و ذلك خلاف الإجماع.).
ص: 263
فإن قيل:هي في تبارك و الكوثر بعض آية،و في الحمد آية تامة.
قيل:هذا محال،لأنّه لا يجوز أن تكون آية كاملة في موضع و في غيره بعض آية و هي كلام واحد غير مختلف و لا متفاضل في نظمه أو عدد حروفه،فكلّ هذا يدلّ على أنّها ليست بقرآن و لا آية من الحمد و لا من غيرها إلا في سورة النمل.
و ممّا يدلّ على ذلك أيضا قوله: إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر:9]،فلو كانت من الحمد و من كل سورة لحفظها اللّه تعالى علينا، و جعل لنا إلى العلم بذلك طريقا،و لم ينكر سلف الأمّة و أكثر خلفها كونها قرآنا من الحمد و من كل سورة،كما أنّها لمّا كانت قرآنا من النّمل لم ينكر ذلك أحد و لم يختلف فيه.
[154]فإن قيل:فإن لم تثبتوا بسم اللّه الرحمن الرحيم قرآنا،باختلاف و خبر/ غير متواتر فلا تثبتوا أيضا المعوّذتين قرآنا لوقوع الخلاف فيهما! قيل لهم:معاذ اللّه أن يكون السلف اختلفوا في أن المعوّذتين قرآن، و إنّما اختلفوا في إثباتها في المصحف،و كان عبد اللّه بن مسعود لا يرى ذلك،لأنّه لم يكن عنده سنّة فيهما،فأمّا أن ينكر كونها قرآنا فذلك باطل.
و شيء آخر،و هو أنّه قد ثبت القرآن بإعجاز نظمه و إن لم يثبت بالتواتر، و الإعجاز قائم في المعوّذتين و ليس هي في بسم اللّه الرحمن الرحيم،و لا خبر متواتر يعلم في ذلك،فبطل ما قالوه.
فإن قيل:فإذا قلتم إن بسم اللّه الرحمن الرحيم ليست آية من الحمد و لا من كل سورة هي في افتتاحها،فهل تكفّرون من قال إنّها من الحمد و أنّه بمثابة من قال إنّ:«قفا نبك»من الحمد أم لا؟
ص: 264
قيل له:لا،و إنما يلزم هذا الكلام من قال من أصحابنا:لو كانت من الحمد و من كل سورة لوجب إكفار من أنكر كونها من الحمد،فيقال له:
و لو لم تكن من الحمد لوجب إكفار من قال إنّها من الحمد،و ليست هذه عندنا طريقة صحيحة و لا مرضيّة في النظر،و لا واجبة في حكم الدّين،بل الواجب أن نقول:إن معتقد كونها من الحمد و من كل سورة،أو آية منزلة مفردة فاصلة بين السور:مخطئ ذاهب عن الحق،لأجل عدوله عمّا وجب عليه من العلم بأنّ الرسول صلى اللّه عليه لو كان قد نصّ على ذلك من حكمها لوجب تواتر نقله و ظهوره و انتشاره،و لزم في القلوب العلم بصحّته، و أنّ ذلك عادة الرسول في بيان جميع ما أنزل عليه من القرآن،فلما عدل عن ذلك و عمل على ظاهر افتتاح الرسول بها و أمره بكتبها للفصل بين السّور، و جهره بها تارة،فظنّ بهذا أنّها من جملة القرآن:كان بذلك غالطا و عادلا عن بعض ما لزمه و وجب عليه في العلم ببيان الرسول بمثل القرآن و عادته فيه،و كان بذلك متأوّلا ضربا من التأويل لا يصيّره بمنزلة من ألحق بالقرآن ما قد علم ضرورة من دين الرسول،و باتفاق أمّته/أنّه ليس من القرآن.[155] و لأننا أيضا لسنا نقول-مع قولنا إنّها ليست بقرآن من الحمد و أول كل سورة-أنّ الرسول صلى اللّه عليه قال قولا ظاهرا معلنا أنّ بسم اللّه الرحمن الرحيم ليست بآية من كتاب اللّه،و لا هي من جملة الحمد و لا من جملة غيرها،و أنّ هذا التوثيق سمع منه،و نقلته الحجّة القاطعة عنه،حتى يكون من حجّته هذا القول،و قال إنّها من القرآن كافّة أو بمثابة من سمع ذلك من الرسول فردّه و امتنع من قبوله،فلم يجب إكفار المتأوّل لكونها من القرآن.
و كذلك مخطّئو مخالفينا يقولون إنّه لا يجب إكفار من قال إنّها ليست من الحمد و لا من كل سورة سوى النمل،لأنّ الرسول لم يوقف توقيفا
ص: 265
ظاهرا معلنا باديا منقولا متواترا على أنّ بسم اللّه الرحمن الرحيم قرآن و بعض لسورة الحمد و لكلّ سورة هي افتتاحها،و إنّما يعلم ذلك بدليل و ضرب من الطلب و الاجتهاد،فلم يجب إكفار جاحد كونها آية من الحمد أو غيرها من حيث وجب إكفار جاحد الحمد جملة أو آية الدّين أو غيرها من آيات السّور المعلوم ضرورة من دين النبيّ صلى اللّه عليه توقيفه على أنّهما قرآن، و إجماع الأمّة على ذلك،و إذا كان هذا هكذا سقط ما توهّموه،و بان بطلان التعلّق بهذا الفصل من الفريقين جميعا،و اللّه الموفّق للصواب.اه-.
***
ص: 266
القول في بيان حكم كلام القنوت،و ما روي عن أبيّ
من الخلاف في ذلك
فإن قال قائل:إذا كان أمر القرآن في الظهور و الانتشار،و حصول علم الأمّة بما هو منه و ما ليس من جملته على ما ذكرتم،وجب لذلك أن يكون أبيّ بن كعب من أعلم الناس بذلك،و أحفظهم له،و أشدّهم حرصا عليه، و أعرفهم بما هو منه مما ليس منه،فكيف جاز أن يذهب عليه مع ذلك أنّ كلام القنوت ليس من القرآن الذي أنزل،و وقفت الأمّة عليه،و يجب-كيف دارت القصّة-أن يكون أمر القرآن على/خلاف ما ادّعيتم من الظهور[165] و الانتشار بين الصحابة و من بعدهم،لأجل أنّ سورتي القنوت إما أن تكون قرآنا أو ليستا بقرآن،فإذا كانتا غير قرآن فقد ذهب على أبيّ و أثبتهما في مصحفه،و اعتقد أنهما قرآن،و إذا جاز ذلك عليه جاز مثله على غيره،و جاز منه و من غيره أن يعتقدوا أيضا في كلام آخر من كلام رسول اللّه صلى اللّه عليه و الأدعية أنّه من كلام اللّه تعالى،و لم يأمن أن يكون فيما أثبتوه كثير هذه سبيلهم فيه،و إن كان دعاء القنوت من القرآن فقد عرفه أبيّ وحده و أثبته،و جهله و ذهب عن علمه جميع الأمّة سوى أبيّ وحده،و إذا جاز ذلك في سورتي القنوت،جاز مثله في غيرهما،و بان بذلك أنّ إثبات جميع ما هو من القرآن و ما ليس منه،لم يقع من النبي صلى اللّه عليه على وجه واحد من
ص: 267
الإشاعة و الإذاعة و الإعلام،و قطع عذر الكافّة فيه،و أنّ منه ما قد أثبتت بظنّ و اجتهاد،و إعمال رأي و ظنّ بمن رواه لهم من جهة الآحاد،و شهد عندهم من العدول بأنّه سمعه من الرسول و تلقّاه،و كلّ هذا نقض لما أصّلتموه، و خلاف لما ادّعيتموه.
يقال لهم:الذي عندنا في هذا أنّ دعاء القنوت ليس من القرآن بسبيل، و لأنّه لو كان من القرآن لكان بيان النبيّ صلى اللّه عليه و إيعازه في أمره كبيانه لسائر القرآن،و لكانت الحجّة قائمة و العادة جارية بضبطه عنه و حفظه، و توفّر الهمم و الدّواعي على إظهاره و إشهاره،فإذا لم يكن أمره كذلك بطل بطلانا بيّنا أنّه من القرآن،و لأنّنا أيضا قد علمنا قصور نظمه في البلاغة و الفصاحة عن رتبة القرآن و إن كان أفصح و أوجز و أحسن من كثير من كلام العرب،و إنّما يعلم ذلك و يتأمّله أهل العلم و الفصاحة و أهل البيان و البلاغة و المعرفة بنظوم الكلام و أوزانه و موقع معانيه،و شرف تأليفه و معانيه، [157]و مباينته لسائر/ما قصر عن بلاغته.
و يدلّ على ذلك أيضا ما سنذكره من اتفاق أبيّ و عبد اللّه و جميع الأمّة على تصحيح مصحف عثمان و أنّ ما انطوى عليه هو جميع القرآن الثابت الرسم،و أنّ ما خالفه و زاد عليه فليس بقرآن،و الأمّة لا تجتمع على خطأ و ضلال،و قد ثبت أنّ أبيّا عمّر إلى زمن جمع عثمان الناس على مصحفه، و أنّه كان أحد من حضر ذلك و أشاد به بما سنذكره فيما بعد إن شاء اللّه فلعلّ أبيّا إن كان قال ذلك أو كتب الدعاء في مصحفه و رقعه التي كان يثبت فيها القرآن إنّما قاله و أثبته على وجه التوهّم و الغلط ثم استدرك ذلك و استرجع لمّا وجد الأمّة دافعة لذلك و راغبة عنه،و لمّا علم أنّها لا تجمع على خطأ و تضييع للحق.
ص: 268
و هذا هو المعتمد،لأنّ ذلك لو كان قرآنا على ما ظنّه لوجب ظهوره و انتشاره و معرفة الكافّة به،و علم أن هذا هو العادة في نقل ما يقتضي أحواله تحرّك الدواعي و الأسباب على نقله و إذاعته،فكلّ هذا يدلّ دلالة قاطعة على أنّ القنوت ليس من القرآن بسبيل.
و أوّل ما نقول ما روي عن أبيّ بعد تقريرنا لهذه الدلالة على أنّ دعاء القنوت ليست من القرآن في شيء أنّ أحدا لا يقدر أن يروي عن أبيّ لفظة واحدة في أنّ دعاء القنوت قرآن منزل،و إنما روى قوم عنه أنّه أثبت دعاء القنوت في مصحفه،و إذا لم يقل ذلك تصريحا و لا حفظ عليه و لم يكن إثباته له في مصحفه أو رقعة من مصحفه يدلّ دلالة قاطعة على أنّه يعتقد كونه قرآنا لما سنبيّنه فيما بعد:بان بهذه الجملة أنّه لا حجّة لأحد فيما يروى من إثبات أبيّ لهذا الدعاء.
ثم إذا صرنا إلى القول فيما روي عنه من إثبات هذا الدعاء في مصحفه لم نجده ظاهرا منتشرا و لا مما يلزم قلوبنا العلم بصحّته و يلزمنا الإقرار به و القطع على أبيّ بأنّه كتب ذلك،بل إنّما يروى ذلك من طرق يسيرة نزرة رواية الآحاد التي لا توجب العلم/و لا تقطع العذر،و لا ينبغي لمسلم عرف[158] فضل أبيّ و عقله و حسن هديه و كثرة علمه و معرفته بنظم القرآن و وزنه و ما هو منه ممّا ليس من جملته:أن تنسب إليه أنّه كتب دعاء القنوت في مصحفه أو اعتقد أنّه قرآن!فإنّ اعتقاد كونه قرآنا أبين و أفحش في الغلط من كتابته في المصحف و أن يقطع على أبيّ الشهادة بذلك من جهة أخبار الآحاد و يشهد بذلك عليه،و يشهد به على من دون أبيّ من العلماء المؤمنين،و إذا كان ذلك كذلك و كنّا لا نعرف صحّة إثباته له بهذه الرواية:فسقط التعلّق بها سقوطا ظاهرا.
ص: 269
و ممّا يدلّ على و هاء هذا الخبر عن أبيّ علمنا بأنّ عثمان يشدّد و يصعّب في قبض المصاحف المخالفة لمصحفه،و في المطالبة بها و تحريقها و درس آثارها،و المنع من العمل على ما فيها،و إذا كان ذلك كذلك كانت العادة توجب أن يكون مصحف أبيّ أول مقبوض و مأخوذ،و أن يكون عثمان تسرّع إلى مطالبته و حرصه على قبضه و تحصيله أشدّ من تسرّعه إلى مصحف غيره ممن تنقص رتبته عن منزلته،و لا تتعلّق القلوب و تتطلّع النفوس إلى ما عنده و ما في مصحفه،و قد جاءت الرواية عن محمد و الطّفيل ابني أبيّ بن كعب و أنّهما قالا لوفد من أصحاب عبد اللّه عليهما يطلب مصحف أبيهما،فذكرا أنّه قد قبضه عثمان منه،و إذا كان ذلك كذلك،وجب أن يكون مصحف أبيّ الذي فيه إثبات هذا الدعاء-إن كان ذلك على ما روي-مما قد أخذ و قبض،فكيف بقي حتى رآه الناس و رووا أنّه كان عند أنس بن مالك و أنّه كان فيه دعاء القنوت! و يقول بعضهم:هذا لا أصل له،و قد رأينا مصحف أنس الذي ذكر أنّه مصحف أبيّ و كان موافقا لمصحف الجماعة بغير زيادة و لا نقصان،و لو صحّ و ثبت أنّه وجد مصحف ينسب إلى أبيّ فيه دعاء القنوت لوجب أن يعلم أنّه متكذّب موضوع قصد بوضعه لفساد الدين و تفريق كلمة المسلمين و القدح [159]في نقلهم،/و الطعن في مصحفهم الذي هو إمامهم،و لا ينبغي لعاقل أن يقطع الشهادة على أبيّ بأنّه أثبت دعاء القنوت في مصحفه و اعتقد أنّه قرآن بوجود صحيفة ذلك فيها يذكر أنّه مصحف أبيّ من وجه لا يوجب العلم و لا يقطع العذر و لا يحلّ في الظهور و الانتشار محلّ ما من شأنه أن يظهر عن مثل أبيّ و يكثر الخوض فيه و الرواية له.
ص: 270
و كذلك فلا يجب أن تقطع الشهادة بذلك برؤية صحيفة هذه سبيلها على من هو دون أبي من المؤمنين،و أنّ الوضع و الكذب و التلفيق قد يرسم في المصحف و ينسب إلى أهل الفضل لقصد ما ذكرناه،و إنّما يجب أنّ يقطع على أنّ الكتاب و المصنّف كتاب الرجل و تأليفه،و ثبتت الشهادة عليه بذلك بالأخبار المتظاهرة المستفيضة الموجبة للعلم دون وجود الكتاب فقط، و بمثل هذه الأخبار أثبتنا مصحف عثمان و أنّه جمعه،و بمثلها علمنا أنّ «موطأ مالك»و«رسالة الشافعيّ»و«مختصر المزنيّ»و«العين»للخليل (1)و«المقتضب»للمبرّد:من تصنيف[من]ينسب إليه من العلماء،لا بوجود الكتب و الصحف فقط التي لا تبين عن نفسها و لا تخبر عن صحّتها و بطلانها،فإذا كان ذلك كذلك لم يكن في وجودنا أيّة نسخة أو بأيّة نسخة فيها دعاء القنوت منسوبة إلى أبيّ ما يوجب القطع عليه بذلك و العلم بأنّه من جمعه و إثباته،فبان أنّه لا تعلّق لهم في هذه الآية.
و قد ذكر الناس أنّ الذي لهج بذكر ذلك على أبيّ و خاض فيه و أشاع ذكره عنه أصحاب عبد اللّه بن مسعود،و أنّ الداعي كان لهم إلى ذلك شدة حرصهم و عنايتهم بطلب كلّ مصحف يخالف مصحف عثمان بما قلّ أو كثر ليجعلوا ذلك حجّة و ذريعة إلى تسهيل سبيل مخالفة الناس لمصحف عثمان و العمل به و بغيره من مصحف عبد اللّه و أبيّ و غيرهما،و كان هذا سبب ذكر الناس لهذه القصة عن أبيّ،فروى بشر بن سعيد عن محمد بن أبيّ بن كعب).
ص: 271
أنّه قال:«قدم ناس من أهل العراق إليّ فقالوا:إنّا قد أعملنا إليك المطيّ [160]من العراق،فأخرج لنا مصحف أبيّ،/فقلت لهم:قد قبضه عثمان،فقالوا:
سبحان اللّه!أخرجه إلينا،فقلت:قد قبضه عثمان»،و روى صدقة بن زياد عن أبي نعيم (1)عن الطّفيل بن أبيّ (2)بن كعب أنّه قال:«قدم أربعة نفر من أهل الكوفة بعد وفاة أبيّ في خلافة عثمان فقالوا:إنّا قدمنا إليك لتخرج إلينا مصحف أبيك لننظر فيه،فإنّ أباك كان أعلم الناس بالقرآن،فقلت:قد قبضه عثمان،فقالوا:سبحان اللّه!ما لعثمان و لمصحف أبيك،قلت:ما لعثمان و لكنّ عمر بن الخطّاب حرّقها».
فهذا ينبئ عن قبض عثمان لمصحف أبيّ على ما قد بيّنّاه من قبل، و على ما ذكرناه من شدّة حرص أهل العراق و طمعهم في أن يعثروا على مصحف يخالف مصحف عثمان،فقد يجوز إذا كان ذلك كذلك و تحدّث متحدّث و قال:إنّي رأيت عند أنس بن مالك أو غيره مصحفا هو مصحف أبيّ فيه دعاء القنوت:أن يكثر أصحاب عبد اللّه ذكر ذلك و يجعلوه حجّة في الامتناع من تسليم مصحف عبد اللّه و غيره من المصاحف الخالفة لمصحف عثمان،لظنّهم صدق هذا الراوي و إن لم يكن لذلك أصل،و إذا كان ذلك كذلك بطل التعلّق بهذه الرواية الشاذّة الموجبة لخلاف ما عليه العادة في شهرة ذلك عن أبيّ و ما هو عليه من معرفة القرآن و حسن تلقّيه و وجوب علمه و معرفته بتمييزه من غيره.ل.
ص: 272
على أنّه لو صحّت الرواية عن أبيّ بإثبات دعاء القنوت في مصحفه من وجه لا يمكن جحده و الشكّ فيه لوجب أن يحمل ذلك منه على وجه لا يقتضي اعتقاد كونه قرآنا و مخالفة الجماعة في ذلك،بل على ما يوجب موافقة الأدلة التي قدّمنا ذكرها،و هو أن يكون أبيّ لمّا وجد دعاء القنوت و داوم عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه و صار سنة متأكّدة و بابا من أبواب الشريعة و عملا من أعمال الصلاة يجب حفظه و المواظبة عليه:رأى أن يثبته في آخر مصحفه أو تضاعيفه إن كان مصحفه مثبتا على قدر ما كان من/[161] أخذه و حفظه للقرآن على غير ترتيب السّور و تاريخ نزوله،لكي لا يذهب عليه كلمة و لا حرف من الدعاء،لا على أنّه قرآن منزل و مما قد قامت الحجّة به،فهذا غير ممتنع و لا مدفوع.
و يمكن أيضا أن يكون لم يثبت دعاء القنوت في مصحفه،و لكن في صحيفة أو ورقة كان فيها كلام أراد نقله و ضمّه إلى المصحف،و كما يتفق للنّاس مثل ذلك عند الحاجة إلى التعليق و الضبط،فلما حملت الصحف و الرّقاع إلى أبي بكر الصدّيق رضوان اللّه عليه ليجمع ما فيها و يضمّه و يجعله إماما وجد دعاء القنوت في بعض ما كان عند أبيّ،ثم درس ذكر ذلك و الخوض فيه و السؤال لأبيّ عنه لعلمه بارتفاع الشّبهة عنه في أنّه دعاء ليس بقرآن،فلما تمادى الزمان و جمع عثمان الناس على مصحفه و حرّقه جدّد ذكره لذلك مجدّدا و أعاده و أبداه ليجعل ذلك ذريعة إلى مخالفة عثمان و تسهيل سبيل لقرآن غير ما في مصحفه و ظهوره.
و قد يمكن أيضا أن يحمل أمر أبيّ في هذا الباب على غاية ما حاولوه من أمره،و هو أن يقال إنّ ذلك إن صحّ عن أبيّ فإنّه إنّما فعل ذلك لأنّه اشتبه عليه دعاء القنوت و ظنّ لفصاحته و بلاغته و وجدانه مداومة الرسول
ص: 273
صلى اللّه عليه عليه في صلواته و افتتاح عمر بن الخطّاب و غيره من الصحابة ببسم اللّه الرحمن الرحيم في قنوته و في أول التشهّد في الصلاة:فقدّر لأجل هذا أجمع أنّه من جملة القرآن فأثبته معه،فقد روي عن عطاء عن عبيد بن عمير (1)أنّ عمر بن الخطّاب كان يقول في قنوته بعد دعائه للمؤمنين و دعائه على الكفرة:«بسم اللّه الرحمن الرحيم،اللّهمّ إنا نستعينك و نستهديك و نثني عليك الخير،و نشكرك و لا نكفرك،و نخلع و نترك من يكفرك،بسم اللّه الرحمن الرحيم،اللهم إيّاك نعبد،و لك نصلّي و نسجد،و إليك نسعى و نحفد، نرجو رحمتك و نخاف عذابك،إنّ عذابك[الجدّ]بالكافرين ملحق» (2).
[162]و هذا القدر لا يدلّ على أنّ الدعاء من القرآن/كما لم يدلّ افتتاح كثير من كلام التشهّد ببسم اللّه الرحمن الرحيم على أنّه قرآن،و قد روى عبد الرزاق عن ابن جريج قال:قلت لنافع:كيف كان ابن عمر يتشهّد،قال:كان يقول:
بسم اللّه الرحمن الرحيم،التحيات للّه الصلوات الطيبات»،و روى عن طاوس أنه كان يقول في التشهّد:«بسم اللّه الرحمن الرحيم،التحيات المباركات و الصلوات و الطيبات للّه»إلى آخر كلام التشهّد،و روى الحارث (3)عن عليّ عليه السلام أنه كان إذا تشهّد قال:«بسم اللّه الرحمن الرحيم» (4).فإذا رأى).
ص: 274
أبيّ مداومة الرسول صلى اللّه عليه على ذلك و افتتاح عليّ و عمر به جاز أن يظنّ أنّ ذلك[كان] (1)قرآنا منزلا فيلحقه بالمصحف.
فإن قالوا على هذا الجواب:فأبيّ على قولكم لم يكن يعرف وزن القرآن من غيره! قيل لهم:معاذ اللّه!بل كان من أعرف الناس بذلك،و لكنه ظنّ أنّ دعاء القنوت و إن قصر عن رتبة باقي السور في الجزالة و البلاغة فإنّه يجوز أن يكون قرآنا،و أنّه يتعذّر أن يؤتى بمثله و إن كان غيره أبلغ منه من القرآن، كما قد قال الناس:إنّ من القرآن ما هو أوجز و أفصح و أبدع مما سواه عنه، و إن كان معجزا كلّه،قوله تعالى: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا [يوسف:
80]و قوله تعالى: وَ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي وَ غِيضَ الْماءُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ [هود:44]،و قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الأعراف:199]،فهذا أوجز و أفصح من مثل قدره من غيره و لو كان معجزا كلّه إذا بلغ قدر سورة أو آية في طول السورة.
و قد زعم قوم أنّه لا يمتنع أن يكون دعاء القنوت كان قرآنا فنسخ أو أزيل فرض كتابته و تلاوته مع القرآن لما فيه من فصاحة النظم و جزالته و مناسبته و مقاربته لنظم القرآن،و إن كان هذا هكذا فإثبات أبيّ له كإثبات قوم غيره لأشياء نسخت بعد أن أنزلت،و إنّما لم يجب أن يسيغ نقل دعاء القنوت ما يظهر على هذا الجواب كظهور نقل غيره مما يثبت،/لأجل أنّه[163] لما نسخ انصرفت الهمم و الدواعي عن نقله و إحاطته إلا في موضع الدعاء به فقط،كما انصرفت هممهم عن نقل كثير مما نسخ رسمه و تلاوته،ففي هذا نظر!أعني قولهم إنّه معجز،لأنّ نظمه مباين لنظم القرآن و غير خارج عنق.
ص: 275
وزن كلام العرب،و لكن يحتاج ذلك إلى لطيف فكر و تدبّر و نقل و تأمّل، و ما يعلم أنّ أحدا من الأمّة ينكر أن لا يكون العلم بكون جميع القرآن معجزا مما يعلم بالبديهة و بأول سماع حتى يعرف أنّ دعاء القنوت ليس بمعجز كما يعرف أنه كلام أعيى الناس و ألكنهم ليس بمعجز،و يعرف أنّ الناس و الفلق معجزتان بأول سماع لهما،كما يعرف بأنّ البقرة و آل عمران معجز باهر بأول سماع،بل لا ينكر أن يكون مما ليس بمعجز من الكلام ما يكاد أن يخفى و يقارب،فيحتاج إلى تأمل،و أنّ بعض ما هو معجز إذا كان يسيرا قليلا كالناس و إِنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ احتاج في العلم بأنّه معجز إلى نظر دقيق و فكر و تحرّ بقدر شرف نظم الكلام و معانيه،و عدد ما يشتمل عليه من المعاني الصحيحة و المقاصد الكثيرة،و إذا كان ذلك كذلك جاز أن يكون حال أبيّ محمولة في ذلك على بعض هذه الوجوه التي ذكرناها.
و قد زعم أيضا بعض الناس أنّ دعاء القنوت معجز قاهر من كلام رسول اللّه صلى اللّه عليه،و إنّه لا يمتنع أن يكون المعجز من الكلام و النظم ضربين:أحدهما:كلام اللّه،و الآخر:كلام لرسوله،و في هذا نظر أيضا، لأنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه ما ظهر عند التحدّي بمثل شيء من كلامه،و لا ادّعى ذلك قطّ لنفسه،و لو كان ذلك كذلك لظهر ذلك عنه و علم من حاله، و لكان ذلك زيادة في حجّته،و لأنّ ذلك أيضا لو فعله عند قوم لعاد بتهمته و دخول الشّبهة على سامع كلام اللّه منه،و ظنّه أنّه من بلاغته هو صلى اللّه عليه و نظمه،و رجع بالشكّ في ثبوته،و اللّه تعالى قد حماه مما هو دون ذلك من قول الشعر المعروف عندهم،و من أن يخطّ كتابا أو يتلوه قبل نبوّته،لئلا [164]يظنّوا أنّه من تقوّله و أنّه افتراه و نظمه،أو أنّه مما وجده في الكتب/و لقنه.
و لأجل أنّ تامّل كلام القنوت ينبي من عرفه أنّه ليس بمعجز البشر عن الإتيان بمثله و إن كان من فصيح الكلام و وجيزه و بليغه،فوجب أنّه لا معنى
ص: 276
لهذا القول و لا الذي قبله،و وجب أن يحمل أمر أبيّ في ذلك إن صحّ الخبر عنه على بعض ما قدّمناه،و إن لم يصحّ فقد كفينا مؤنة تطلّب تأويل له، و هذا هو الثابت أعني بطلان هذه الرواية عنه و تكذّبها،و ليس يروى ذلك إلا عن ابن سيرين و آخر معه،أنّهم قد وجدوا مصحفا عند أنس ذكر أنّه مصحف أبيّ،فيه دعاء القنوت،و مثل هذا لا يثبت فيه على أبيّ إدخال شيء في القرآن ليس منه.
و روى بعض المعتزلة القدرية عن عمرو بن عبيد (1)أنّه قال:«رأيت مصحفا كان لأنس بن مالك قرأه على أبيّ بن كعب،فكان فيه دعاء القنوت»،و هذا أوهى و أضعف و أولى بالرّدّ من الأول،قال أبو الحسن عليّ بن إسماعيل الأشعري (2):«و قد رأيت أنا مصحف أنس بالبصرة عند بعض ولد أنس،فوجدته مساويا لمصحف الجماعة لا يغادر منه شيئا»،و كان يروى عن ولد أنس عن أنس أنّه خطّ أنس و إملاء أبيّ،و إذا كان ذلك كذلك وجب أن يكون ما رواه من ذلك باطلا لما ذكرناه من العادة في بيان القرآن و قلّة شهرة ذلك عن أبيّ،و معارضة الأخبار الثابتة لهذه الرواية بأنّ مصحف أنس كان موافقا له،و شهادة الطّفيل و محمد ابني أبيّ أنّ عثمان قبض مصحف أبيّ،فوجب بهذه الجملة وضوح سقوط التعلّل بهذه الرواية، و الاستناد في الطعن في نقل القرآن و إبطال شهرة بيانه،و ظهور نقله،و حفظ الأمّة لجميعه إلى مثلها و الاعتماد عليها.).
ص: 277
القول في ترتيب سور القرآن
و هل وقع ذلك منهم عن توقيف أو اجتهاد
فإن قالوا:كيف يسوغ لكم أن تدّعوا أنّ بيان الرسول صلى اللّه عليه للقرآن وقع شائعا ذائعا مستفيضا،و أنّ القوم حفظوا ذلك عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،و هم غير عالمين بترتيب سور المصحف و نظامها،بل مختلفون في [165]ذلك اختلافا شديدا،فمنهم/من رتّب في أول مصحفه الحمد،و منهم من جعل في أوله اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ،و هذا أول مصحف عليّ بن أبي طالب عليه السلام فيما رواه عنه الزبير بن عبد اللّه بن الزبير عن زياد الأخرم قال:
مررت على محمد بن عمر بن عليّ (1)فقال:أ لا أريك يا زياد مصحف عليّ، قال:فأراه فإذا أوله اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ./فأمّا مصحف ابن مسعود فإنّ أوّله فيما رواه مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ثم البقرة،روى ذلك طلحة بن مصرّف (2)أنّه قرأ على يحيى بن وثّاب و قرأ يحيى على علقمة (3)،و قرأ
ص: 278
علقمة على عبد اللّه،و أنّ تأليف مصحفه كان مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ،ثم سورة البقرة ثم سورة النساء،ثم كذلك على ترتيب مختلف لا حاجة إلى الإطالة به.و أمّا مصحف أبيّ فقد روى بعض ولد أنس عن أنس أنّ مصحف أبيّ كان عنده،و أنّ أوله الحمد و البقرة و النساء،ثم آل عمران ثم الأنعام ثم الأعراف ثم المائدة ثم كذلك على اختلاف شديد في ترتيب السور.
و قد روي من الاختلاف ما هو أكثر من هذا،فإن جاز أن يكون الرسول قد وقف على ترتيب السّور و تأليفها،و قد ذهب عليهم علم ذلك حتى صاروا في الاختلاف إلى مثل هذا الحدّ،فلم لا يجوز أن ينصّ على قرآن و يوقفهم عليه و إن جاز أن يختلفوا فيه عنده و أن يقرّ به قوم و يجحده آخرون؟و هذا يبطل أيضا ما ادّعيتموه من ظهور نقل القرآن و حصول بيانه على وجه يوجب العلم و يقطع العذر.
فيقال لهم:أمّا اختلاف مصاحفهم في ترتيب السّور فإنه كالظاهر المشهور و ما يدفعه،و إن كان في الناس من ينكر ذلك و يقول إنّ هذه الأخبار أخبار آحاد غير أنّنا لا نقول-مع إثبات اختلافهم في ترتيب السور- إنّه قد كان من الرسول صلى اللّه عليه توقيف على ترتيبها و أمر ضيّق عليهم في تأليفها إلا على حسب ما حدّه و رسمه لهم،بل إنّما كان منهم تأليف سور المصحف على وجه الاجتهاد و الاحتياط و ضمّ السّور إلى مثلها و ما يقاربها، و إذا كان ذلك عندنا كذلك سقط ما توهّمه السائل.
و قد زعم قوم أنّ تأليف السور على ما هو عليه في مصحفنا إنّما كان توقيفا من الرسول لهم/على ذلك و أمر به،و أنّ ما روي من اختلاف[166] مصحف أبيّ و عليّ و عبد اللّه و مخالفة سائرهم لمصحف الجماعة إنّما كان قبل العصر الأخير،و أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه رتّب لهم تأليف السّور بعد
ص: 279
أن لم يكن فعل ذلك،و الذي نختاره ما قدّمناه،و فيه سقوط ما ظنّوا القدح به في ظهور نقل القرآن و استفاضته.
و اعلموا رحمكم اللّه أنّ من قال من أهل العلم إنّ تأليف سور المصحف كان واجبا عن توقيف من الرسول لا يقول مع ذلك إنّ تلقين القرآن و تلاوته و الصلاة به يجب أن يكون مرتّبا على حسبت الترتيب الموقف عليه في المصحف،بل إنّما يوجب تأليف سوره كذلك في الرسم و الكتابة،و لا نعلم أحدا منهم قال إنّ ترتيب ذلك واجب في الصلوات المفروضة و غيرها،و في تلقين القرآن و درسه،و إنّه لا يحلّ لأحد أن يتلقّن الكهف قبل البقرة،و يقرأ في صلاته الحجّ بعد الكهف،و لا أن يدرس البقرة ثم يدرس بعدها النحل و الرعد،هذا مما لا نعرفه مذهبا لأحد و إن كان وجوب الترتيب في الرسم و الكتابة مذهبا لجماعة من أهل العلم و القرآن،و الذي نقوله:إنّ تأليف السور ليس واجبا في الكتابة و لا في الصلاة و لا في الدرس و لا في التلقين و التعليم،و إنّه لم يكن من الرسول في شيء من ذلك نصّ على ترتيب و تضييق لأمر حدّه لا يجوز تجاوزه،فلذلك اختلفت تأليفات المصاحف التي قدّمنا ذكرها،و استجاز الرسول و الأئمة من بعده و سائر أهل أعصار المسلمين ترك الترتيب للسور في الصلاة و الدرس و التلقين و التعليم.
فإن قالوا:و ما الدليل على صحّة قولكم هذا؟ قيل لهم:الذي يدلّ على ذلك أنّه لو كان من الرسول نصّ و توقيف ظاهر على وجوب ترتيب تأليف السور في الكتابة و الرسم لوجب ظهور ذلك و انتشاره و علم الأمّة به،و أن ينقل عنه نقل مثله،و أن يغلب إظهار ذلك و إعلانه على طيّه و كتمانه،كما أنّه لمّا كان منه نصّ و توقيف على سور
ص: 280
القرآن وجب نقله و ظهوره،كذلك لمّا كان منه نصّ/و توقيف على سور القرآن وجب نقله و ظهوره،و كذلك لمّا كان منه نصّ و توقيف على وجوب ترتيب آيات كلّ سورة من السور و المنع من تقديم كتابة بعضها على بعض و تلاوة بعضها قبل بعض:نقل ذلك عنه و ظهر،و اتفقت الأمّة على وجوب ترتيب الآيات و حظر تقديم بعضها على بعض و تغييرها في الكتابة،و التلاوة و غير ذلك،فكذلك لو كان منه صلى اللّه عليه توقيف على ترتيب سور القرآن لنقل ذلك عنه،و عرف من دينه،و لم يختلف في تأليف السور في المصاحف الاختلاف الذي قدّمناه،فوجب بذلك أنّه لا توقيف من الرسول صلى اللّه عليه على ترتيب تأليف سور القرآن.
و مما يدلّ أيضا على صحّة ما قلناه و يؤكّده ما رواه يزيد الرقاشي (1)عن ابن عباس قال:قلت لعثمان بن عفان:ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال و هي من المثاني و إلى براءة و هي من المئين فقرنتم بينهما و لم تكتبوا بينهما سطر بسم اللّه الرحمن الرحيم و وضعتموها في السبع الطّوال؟فقال عثمان:«كان رسول اللّه صلى اللّه عليه يأتي عليه الزمان و هو ينزل عليه من السّور ذوات العدد،فكان إذا نزل عليه الشيء دعا من يكتب له فيقول:
«ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا و كذا»،و إذا نزلت عليه الآيات قال:«ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا و كذا»،و إذا نزلت عليه الآيات قال:«ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا و كذا»، قال:و كانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة،و كانت براءة من آخر القرآن فكانت شبيهة بقصّتها،فظننت أنّها منها،و قبض صلى اللّه عليه و لم يبيّن أنّها).
ص: 281
منها،فمن أجل ذلك قرنت بينهما،و لم أكتب بينهما سطر بسم اللّه الرحمن الرحيم و وضعناها في السبع الطّوال».
فهذا تصريح من عثمان بأنّه لم يكن من الرسول نصّ على وجوب تأليف الأنفال إلى براءة،و أنهم إنّما عملوا ذلك بالرأي و الاجتهاد الذي ذكره عثمان عن نفسه،و ما غلب على ظنّه،و ليس في الامّة من يفرّق بين تأليف السورة فيجعل بعضه مضيّقا موقفا على ترتيبه و بعضه موسّعا/و مخيّرا فيه و غير منصوص على تأليفه،فلذلك لم يجز لأحد أن يقول:إنّما ترك رسول اللّه صلى اللّه عليه التأليف و الترتيب في الأنفال و براءة فقط،و أوجبه و نصّ عليه في غيرها.
فإن قال قائل:فهل تزعمون أنّ ظنّ عثمان لكون براءة من الأنفال لشبه قصتها بقصتها صحيح و أمر يجوز الاعتلال به؟ قيل له:لا،و لسنا نعلم قطعا أنّ كلام عثمان خرج على هذا الوجه،بل لعلّه خرج على وجه آخر بزيادة لفظة و نقصان لفظة اختصره الراوي أو زاد فيه،و يدلّ على ذلك أيضا أنّ عثمان قد قال و علم أنّ كلّ واحدة من السورتين لها اسم يخصّها و علم تعرف به،و أنّه قد كان يتلقّى إحدى السورتين على عهد الرسول،و بعده من لا يحفظ الأخرى و لا يعلمها و من يضمّ إلى تعلّم الأنفال سورة أخرى مما بعد براءة،و كلّ هذا يوجب أنّهما سورتان منفصلتان تعرف كلّ واحدة منهما بغير التي تعرف بها الأخرى، و ليس ترك الفصل بينهما بكتب بسم اللّه الرحمن الرحيم دليلا على أنّهما سورة واحدة،لأنه قد يجوز أن يكون إنّما لم يكتب في أول براءة بسم اللّه الرحمن الرحيم لما قدّمناه من قبل من كونها نازلة بالسيف لا أمان فيها،أو لغير ذلك،لا لأنّها من جملة الأنفال،و يدلّ على صحّة ما قلناه و يوضّحه ما
ص: 282
رواه ابن جريج عن يوسف بن ماهك (1)قال:«إني عند عائشة إذ جاءها عراقيّ فقال:أريني مصحفك،قالت:لم؟قال:لعلّي أؤلّف القرآن عليه، فإنّا نقرؤه غير مؤلّف،قالت:فلا يضرّك أيّه قرأت قبل،إنّما نزل أول ما نزل من المفصّل فيها ذكر الجنّة و النار،حتى إذا تاب الناس نزل الحلال و الحرام،لقد أنزل بمكة-و أنا جارية ألعب-على محمد صلى اللّه عليه:
وَ السّاعَةُ أَدْهى وَ أَمَرُّ [القمر:46]،و ما نزلت سورة البقرة و النساء إلا و أنا عنده»،ثم أخرجت إليه مصحفا،فجعلت تملي عليه.
فهذا أيضا نصّ من عائشة رضوان اللّه عليها على سقوط فرض ترتيب سور القرآن،و أنّه لا يجب أيضا تأليفه على تاريخ نزوله،و لو قد كان من الرسول نصّ في ذلك يوجب العلم و يقطع العذر لوجب شهرته،و أن تكون عائشة/أقرب الناس إلى علمه و أعرفهم به،و لم تكن بالذي يقول:«لا تبالي بأيّة بدأت قبل»،و هذا يدلّ على أنّهم كان مخيّرين في تاليف السور، و كان مردودا إلى رأيهم و اجتهادهم.
فأما استدلال من استدلّ على إسقاط وجوب ترتيب السور و المصحف و تأليفها على ما هي به في الإمام بأنّ الرسول صلى اللّه عليه كان يقرأ في إحدى الركعتين بسورة و يقرأ في التي بعدها بغير التي تليها،و أنّه كان يعلم أنّ في الناس من يتحفّظ السورة و يأخذ بعد الفراغ من حفظها في حفظ غير التي تليها،و أنّ فيهم من يتعلّم المفصّل قبل الطّوال و يقتصر عليه،و أنّ فيهم من يدرّس السور على غير هذا الترتيب الذي في المصحف،فلا ينكر ذلك).
ص: 283
و لا يردّه،و أنّ عمل الأمّة بذلك مستقرأ إلى اليوم في تلقّي القرآن على هذه السبيل،و درسه أيضا كذلك،و الصلاة به على غير تأليف،و أنّ ذلك أجمع ينبي عن أنّه لا توقيف من الرسول في تأليف سوره،فإنّه باطل لا حجّة في شيء منه،لأنّ هذا أجمع يدلّ-لعمري-على أنّ تأليف السور غير واجب في التلاوة و الدرس و في الصلوات و في الحفظ و التلقين و التعليم،و ذلك لا يدلّ على أنّه ساقط في الكتابة و تأليف المصحف،لأنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه لو قال نصّا:«إذا تحفّظتم القرآن أو درستموه أو لقّنتموه أو تلقيتموه أو صلّيتم به فلا جناح عليكم في البداية بأيّ السور شئتم،و لكم الخيار في ذلك،و إذا أنتم درستموه و كتبتموه فعليكم أن تؤلّفوه على هذا الضرب من التأليف الذي عليه مصحف عثمان،و يجب أن تكتبوا كذا قبل كذا،و كذا بعده»،لم يكن ذلك مستحيلا و لا ممتنعا و لا مما لا يجوز أن يكون لطفا و مصلحة و عائدا بالاحتياط للإمام الذي يكتب فيه القرآن لا يقع مختلطا اختلاطا يمكن أن يوقع معه الشكّ فيه،و إن يدخل فيه ما ليس منه و إن لم يكن يجب الترتيب في التلقين و التحفّظ و الدرس و في الصلاة،و إذا كان ذلك كذلك لم يجب أن يكون ما دلّ على سقوط الترتيب في أحد الموضعين يدلّ على سقوط في الآخر/و قد أجاز المسلمون اللفظ بأحرف في القراءة، لا يجوز إثباتها في المصحف على ذلك اللفظ،و إثبات أحرف في المصحف لا يجوز التعلّق بها كذلك،و إذا كان ذلك كذلك بطل اعتبار أحد الأمرين بالآخر بطلانا بيّنا.
و استدلّ أيضا قوم على سقوط ترتيب تأليف السور بأنّه قد علم أنّه ليس في الدنيا مترسّل أديب و لا شاعر مفلق و لا خطيب مصقع يأخذ الناس بترتيب تأليف قصائده و خطبه و رسائله،و إنّما يريد أن يحفظوا قصيدة منها على
ص: 284
ترتيب نظمها و تأليف أبياتها و سياق بيانها،ثم لا يبالي أيّهما كتب في ديوانه أولا و آخرا و وسطا،كذلك المترسّل و الخطيب.قالوا:فكذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه إنّما أراد من الأمّة حفظ السّور و تلاوتها على نظامها و ترتيب آياتها فقط،و لم يرد منهم تأليف كلّ سورة منها قبل صاحبتها.و هذا أيضا باطل من الاعتلال لا حجّة فيه،و ذلك أنّه لا يجب القياس في مثل هذا،لأنّه لا يمتنع على قول أحد أن يعلم اللّه سبحانه أنّ من مصالح الأمّة أو بعضها أو من اللّطف للرسول فقط:الأمر بتأليف السور على وجه مخصوص لا يتجاوز و لا يحلّ سواه،و كذلك الأمر في الحفظ و التلاوة،و لا ورد بذلك سمع و أنّ ذلك واجب كان نصّه واجبا علينا،و إن لم يجب حمل وجوب ترتيب قصائد الشاعر و خطب الخطيب.و إذا كان ذلك كذلك سقط ما قالوه.
و يدلّ على فساد ذلك أيضا أنّه حرام غير جائز قراءة السورة منكوسة الآي و الأحرف من آخرها إلى أوّلها و إن لم يحرّم ذلك في كلام الخطبة و الرسالة و إنشاد القصيدة،و ليس ذلك إلا لأنّ اللّه سبحانه أوجب ذلك في القرآن و حظر تجاوزه،و أسقطه في الخطب و الرسائل و الشعر و لم يوجبه، و إذا كان ذلك كذلك سقط هذا الاعتبار،و فيما قدّمناه من الأدلّة على ذلك غنىّ/عن هذه التلفيقات.
فأمّا من زعم أنّ الرسول قد نصّ على تأليف سور القرآن و رسمها في المصاحف على ما هي عليه من الإمام فقد استدلّ على ذلك بأمور لا حجّة في شيء منها،فمن ذلك أن قالوا:قد اشتهر عن بعض السّلف و هو عبد اللّه ابن مسعود و عبد اللّه بن عمر أنّهما كرها أن يقرأ القرآن منكوسا،فروي أنّ عبد اللّه بن مسعود سئل عن رجل يقرأ القرآن منكوسا فقال:«ذاك منكوس القلب»،و أنّ عبد اللّه بن عمر ذكر له أنّ رجلا يقرأ القرآن منكوسا فقال:«لو
ص: 285
رآه السلطان لأدّبه» (1)،و كلام هذا نحوه،قالوا:يدلّ ذلك على وجوب ترتيب السور و تأليفها في القراءة و الرسم.
و هذا لا حجّة فيه،لأنّهما إنّما عنيا بذلك من يقرأ السورة منكوسة و يبتدئ من آخرها إلى أوّلها،لأنّ ذلك حرام محظور،و في الناس من يتعاطى هذا في القرآن و في إنشاد الشعر فيذلّل عند نفسه بذلك لسانه و يقتدر به على الحفظ،و ذلك مما حظره اللّه تعالى و منعه في قراءة القرآن،لأنّه إفساد للسورة و مخالفة لما قصد بها و تجاوز لما حدّ في كتابتها و تلاوتها، و ليس يريد بذلك من قرأ القرآن من أسفل إلى فوق،و من بدأ بآل عمران و ثنّى بالبقرة،و كيف يريدون ذلك و هم قد علموا اختلاف تأليف المصاحف،و أنّ في الأمّة من يبدأ بحفظ ما خفّ من المفصّل ثم يرتفع إلى حفظ ما طال و صعب،و منهم من يحفظ متفرّقا من المواضع المختلفة و يتلوه كذلك،و من يصلّي به في فرائضه و نوافله على هذا الوجه،و هو غير مذموم بل عمل الأمّة على تجويز ذلك و أنّه شائع مستقرّ إلى اليوم،و قول ابن مسعود:«ذاك رجل منكوس القلب»إنّما خرج على وجه الذمّ،فلا ذمّ على من قرأ البقرة و ثنّى بالنحل لو صلّى كذلك،فثبت أنّ التأويل ما قلناه.
و يدلّ على ذلك قول ابن عمر:«لو رآه السلطان لأدّبه أو عاقبه»،و قد علم أنّه لا أدب و لا عقاب على من قرأ البقرة و ثنّى بالحج،فصحّ أنّ تأويل منكّس القراءة تنكيس آيات السور،و قول عبد اللّه بن مسعود:«ذاك رجل منكوس القلب»يعني أنّه مقيم على معصية اللّه تعالى/و مخالف لأمره في لزوم ترتيب آيات السور و ترك قلبها أو قلب حروف آياتها.).
ص: 286
و استدلّوا أيضا على وجوب ترتيب سور القرآن على ما في الإمام بما رواه أبو قلابة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه أنّه قال:«من شهد خاتمة القرآن كان كمن شهد فتحا في سبيل اللّه تعالى» (1)،و أنّ المسلمين أجمعوا على أنّ للقرآن فاتحة و خاتمة و هذا أيضا لا حجّة فيه،لأنّ قوله من حضر خاتمة القرآن إنّما يريد آخر ما يقرأ منه،الذي يكون قارئه مع قراءة ما قبله خاتما به لكتاب اللّه،و لم ينصّ على خاتمته فلا حجّة لهم في ظاهر الخبر،و لكنّا لا ننكر مع ذلك أن تكون الحمد قد جعلت فاتحة ما يكتب و يتلى،و الناس خاتمة لذلك،و إن لم يوجب ترتيب ما بينهما من السور،فلذلك اتفق أصحاب المصاحف على الافتتاح بالحمد في القراءة و الختم بالناس،و إن لم يرتّبوا ما بينهما،و أنّه يمكن أن تكون الفاتحة و الخاتمة قد جعلتا فاتحة و خاتمة في التلاوة دون الرسم و الكتابة،فلا حجّة في التعلّق بهذا،و نرى أنّ هذا الخبر لم يسمعه أصحاب المصاحف المختلفة الترتيب.
و استدلوا أيضا على وجوب تأليف السّور على ما في الإمام و نصّ الرسول على ذلك بأنّ عمل أهل مكّة استقرّ على التكبير عند ختم القرآن إذا بلغ القارئ إلى سورة الضحى،و أنّهم يكبّرون عند ختم كل سورة إلى آخر القرآن.قالوا:و ذلك لا يكون إلا عند توقيف على ترتيب السور،و إيجاب التكبير.
و هذا أيضا ما لا شبهة فيه،لأنّه قد يجوز أن يكون الجماعة لما رتّب المصحف هذا الترتيب عمل أهل مكّة على التكبير عند مقاربة الختمة، تعظيما للقرآن و توخّيا للثواب و إنذار الناس بقرب ختمه و البلوغ إلى آخره).
ص: 287
للحضور إلى ذلك،و الاجتماع للدعاء عنده و التبرّك به و غير ذلك مما أصّلوه،و ليس يدلّ ذلك على وجوب التكبير و لا وجوب التأليف.
و احتجّوا أيضا لذلك بأنّه قد روي أنّه كان عند عبد اللّه بن الزبير مصحف فيه القرآن على نظمه و تاريخه الذي أنزل عليه و ألّف،و هذا باطل،/ لأنّها من روايات الآحاد،و ما روي أنّ أحدا رأى هذا المصحف أو وجده، و لو رؤي ذلك لم يدلّ تأليفه على ما هو به أنّه مما أمر الرسول بتأليفه كذلك،لأنّ للناس آراء في التأليف،فلعلّ مؤلّف ذلك المصحف رأى أن يجمع سوره على تاريخ نزوله المكّيّ منها ثم المدنيّ،و إن لم يمكنه ذلك في آيات السّور لما نبيّنه فيما بعد إن شاء اللّه،فوجب بهذه الجملة أنّه لا حجّة لأحد في صحّة توقيف الرسول على تأليف سور القرآن و ترتيبها في التقديم و التأخير.
فإن قال قائل:فإذا أثبتّم بما وصفتم أنّه لا نصّ في ذلك،و أنّهم ألّفوا سوره بالرأي و الاجتهاد و ضمّ الشيء إلى ما أشبهه و قاربه،فألا ألّفوه على تاريخ نزوله فبدءوا بالمكّيّ منه قبل المدنيّ،و بما أنزل منه أولا ثم بما أنزل بعده على ترتيب نزوله،فيكونون بذلك أقرب إلى الصواب و ترتيب إنزاله أو إلى معرفة تاريخ الناسخ و المنسوخ و ما يحتاج إليه في معرفة الأحكام؟ قيل له:إنّما لم يفعلوا ذلك لأنّه أمر لا يصحّ إلا بنقض آيات سور القرآن و إفساد نظمها و تغييرها عمّا حدّ لهم،و قد صحّ و ثبت أنّه لا رأي لهم و لا عمل و لا اجتهاد في ترتيب آيات سور القرآن على ما سنذكره فيما بعد إن شاء اللّه،و قبل أن نبيّن ذلك فإنّا نقول:إنّ كلّ عاقل يعرف فضل عقول الصحابة و لطيف نظرهم و قوّة أفهامهم و معرفتهم بالتنزيل و أسبابه،و أنّهم أولى الناس،بصحيح الرأي و التدبير،فمن ظنّ بنفسه فضل تقدّم عليهم في
ص: 288
ذلك و استدراك عجز و تفريط و ترك حرم كان منهم:فهو من الغباء و الجهل بحيث لا ينتفع بكلامه.
ثم نقول:ليس لأحد أن يقول:لم لم يؤلّفوا سور القرآن على تاريخ نزوله ليكونوا بذلك متوافقين في التقديم و التأخير أوقات نزوله؟و ليس هو بقوله هذا بأولى ممّن قال:بل الواجب هو ما فعلوه من تصنيف السور و ضمّ كلّ شيء إلى مثلها و شكلها،لا سيّما إذا علموا أنّ اللّه سبحانه و رسوله عليه السلام قدّم في السورة الواحدة إثبات المنسوخ على الناسخ،و أنّه كان منزل منه/المدنيّ فيؤمروا بإثباته في السور المكية،و أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه لم يراع في إثبات آيات السّور و تاريخ نزولها،فكذلك لا يجب عليهم هم أن يراعوا في تأليف تاريخ نزولها،و لجاز أيضا لأحد أن يقول:ما الحقّ إلا فيما فعلوا من تقديم طوال السور على القصار،لأنّها أعظم قدرا في النفوس و أخرق للعادة،و أعظم في الإعجاز،و أجمع للفوائد،و أكثر اشتمالا على المواعظ و الأقاصيص و ضرب الأمثال و تفصيل الحلال و الحرام،و كان ذلك من فعلهم أولى.
و قد يسوغ أيضا لآخر أن يقول:بل كان الواجب عليهم تقديم قصار السّور لكونها أقرب مأخذا و أسهل و أخفّ على المتعلّم من التشاغل بطوالها،و كلّ هذا تخليط و تعنّت للصحابة،و محاولة للقدح في آرائهم بما يعود بالدلالة على غباوة المتعرض و جهله،و الذي يدلّ على أنّه لا يجوز لهم تأليف سور القرآن على تاريخ نزوله أنّهم لو فعلوا ذلك لوجب أن يجعلوا بعض آيات السور في سورة أخرى،و أن ينقضوا ما وقفوا عليه من سياق ترتيب آيات السور و نظامها،لأنّه قد صحّ و ثبت أنّ الآيات كانت تنزل بالمدينة فيؤمروا بإثباتها في السور المكية.
ص: 289
و يقال لهم:«ضعوا هذه في السور التي يذكر فيها كذا»،فلو ألّفوا السورة على تاريخ النزول لوجب أن ينقضوا ترتيب آيات السور و يخلطوها و يجعلوا بعض هذه السورة في هذه السورة،و بعض هذه في هذه،و هذا تخليط و إفساد قد حرّم عليهم.
و لو قصدوا أيضا إلى تأليف معظم ما نزل من الآي متتابعا،فجعلوه في صدر السور و أخّروا ما نزل بعد ذلك لم يكن فيه فائدة و لا دلالة على تاريخ الناسخ و المنسوخ،لأنّ الآية الناسخة قد تنزل بعد المنسوخة في سورتها فيؤمروا بإثباتها قبل المنسوخة،و ربّما كانت الناسخة مدنيّة فيؤمروا بإثبات ذلك في سورة مكّية و أن لا يثبت في شيء من المدنيّة،فلا معنى لضمّ ما يقارب نزوله و توالي ذلك و جعله في صدور السور لأجل ما وصفناه.
و قد يجوز أن يكونوا إنّما عدلوا أيضا عن هذا/خوفا من أن يظنّ ظانّ أن ترتيب جميع آيات السور على هذا التاريخ،و ذلك أمر يدهشه،و يخيّل إليه أنّ الآية الناسخة ليست بناسخة لما تقدّم من نزوله إذا وجدوها في آخر السورة و كانت المنسوخة متقدّمة النزول و في صدر السورة،فإذا خيف ذلك و لم يؤمن توهّم مثله وجب العدول عن مراعاة تاريخ نزول القرآن في تأليف سوره،و وجب أن يكون ضمّهما على وجه المشاكلة و المقاربة و التصنيف لذلك،و ضمّ الشيء إلى ما يقاربه أولى،و سقط بذلك ما سأل عنه السائل.
فإن قال قائل:و ما الدليل على صحّة ما ادّعيتموه من أنّ الرسول كان يأمر بإثبات الآية النازلة في سورة متقدّمة النزول دون الموضع الذي قبلها في قرب نزوله؟ قيل:هذا ظاهر مكشوف من دين الرسول و حاله و أمره برسم القرآن، و قد وردت بذلك الأخبار و تظاهرت،فروى الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن
ص: 290
عباس في قوله تعالى: وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ [البقرة:281]، قال:«هذه آخر آية نزلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه،و إنّ جبريل نزل عليه فقال:ضعها على رأس ثمانين و مائتين من البقرة»،و قد علم أنّ ذلك الموضع ليس هو الذي يلي نزولها،فهذا يدلّ على صحّة ما قلناه.
و روى الزّهريّ عن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة عن ابن عباس قال:
حدّثني أبيّ بن كعب قال:ربّما نزل على رسول صلى اللّه عليه الصدر من السور فأكتبها،ثم ينزل عليه فيقول:«يا أبيّ اكتب هذه في السورة التي يذكر فيها كذا و كذا»،و ربّما نزل عليه فأقف حتى أنظر ما يقول حتى يحدّث إليّ فيقول:«تلك الآيات ضعها في سورة كذا و كذا» (1)،و هذا أيضا تصريح بأنّه كان يلحق ما يتأخّر نزوله بما دون ما يليه،و كان أبيّ قد علم أنّ إثباته على تاريخ نزوله باطل غير واجب،و لو لا ذلك لم يكن ليوقفه،و انتظار أمر الرسول بأن يثبتها معنيّ،و هو قد أعلمه و استقرّ من دينه أنّه يجب إثبات الآيات على تاريخ نزولها،فهذا يقضي على صحة ما قلناه.
و روى عبد الرحمن بن شماسة (2)المهري عن/زيد بن ثابت قال:بينما نحن مع رسول اللّه صلى اللّه عليه نؤلّف القرآن من الرّقاع إذ قال:«طوبى).
ص: 291
للشام»،قيل:يا رسول اللّه،و لم ذلك؟قال:«إنّ ملائكة الرحمن باسطو أجنحتها عليه» (1)،و هذا حديث ينبئ أيضا عن أنّ القرآن كان سورة تؤلّف على غير تاريخ نزوله،لأنّه لو كان مرتّب الآيات على تاريخ النزول ما احتاج إلى تأليف و ترتيب،و يدلّ على ذلك أيضا ما رواه عبد اللّه بن عباس عن عثمان بن عفان رضوان اللّه عليه لمّا سأله:لم لم يجعلوا بين الأنفال و براءة سطر بسم اللّه الرحمن الرحيم؟فقال عثمان:إنّ الآية و الآيات كانت إذا نزلت يقول رسول اللّه صلى اللّه عليه:«ضعوا هذه الآية في سورة كذا».
و كلّ هذه الأخبار تكشف عن صحة ما قلناه من وجوب ترك مراعاة تاريخ نزول القرآن،و أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه كان لا يراعي في تأليف آي السور تاريخ نزول الآيات،فإذا ثبت ذلك لم يكن تأليف سور القرآن على تاريخ نزوله إلا بخلط بعض السور ببعض و إفساد نظمها و نقص تأليفها الذي أمروا بقراءتها عليه.).
ص: 292
الكشف عن وجوب ترتيب آيات السور و أنّ ذلك إنّما حصل
بالنصّ و التوقيف دون الاجتهاد و أنّه ليس لأحد أن يخلط
آيات السّور بغيرها و لا يضع مكان الآية غيرها
مما قبلها أو بعدها
فإن قال قائل:قد قلتم في غير موضع إنّ ترتيب آيات السّور فيها واجب و إنّ ذلك لم يكن إلا عن نصّ و توقيف،فما الدليل على ذلك؟و ما الحجّة في أنّه ليس لأحد أن يخلط في التلاوة بعض آيات السورة بغيرها،و أن يقدّم من آياتها المؤخّر،و يؤخّر المقدّم؟ قيل له:يدلّ على ذلك أمور،أحدها:جميع ما قدّمناه من الأخبار في الباب الذي قبل هذا؛لأنّ جميع ذلك يدلّ على أن رسول اللّه صلى اللّه عليه هو الذي كان يأمرهم و يوقفهم على إثبات آيات السورة و ترتيبها،و أنّه ليس لهم في ذلك خيار،/و لا هو ممّا ردّ إلى آرائهم،فيجب أن تكون هذه حال التلاوة و الدرس.
و ممّا يدلّ على ذلك أنّه لا يخلو أن يكون النبيّ صلى اللّه عليه قد أخذ على القراء و الكتبة أن يرتّبوا سور القرآن في الرسم و التلاوة،و ضيّق ذلك عليهم،و جعلهم في فسحة من تقديم بعض الآيات على بعض،و جعل أول السورة آخرها و آخرها أولها،و جعل شطرها في غيرها و شطر غيرها فيها،
ص: 293
و أن يضعوا في ذلك كيف رأوا و أحبّوا،فإن كان قد وقفهم على الترتيب و تأليف آياتها على النظام الذي هي عليه في الإمام فذلك ما نقول،و إن كان قد نصّ لهم على التخيير في ذلك وجب أن يظهر هذا من دينه و يعرف من حاله و تتوفّر الدواعي على نقله و ذكره،و أن لا يسوغ أن يقع من الأمّة ترتيب للسّور و حصر لها و تتميّز بأسماء تدعى بها،و أمور تذكر فيها،كما أنّه لو نصّ صلى اللّه عليه على جواز تقديم الآية على غيرها و تأخير المتقدّم منها من كلماتها و حرفها و تقديم المتأخّر،و على جواز القراءة من آخر السورة إلى أوّلها:لوجب أن يكون ذلك ظاهرا منتشرا عنه و معلوما من دينه،و في العلم ببطلان ذلك و عدم ذكره،و عمل الأمّة بخلافه بأخذهم أنفسهم و من يعلّمونه بقراءة السورة على ترتيب آياتها،و حظر تأخير المقدّم منها و تقديم المتأخّر و خلطها بغيرها:أوضح دليل على فساد هذا القول،فأمّا نصّه على الترتيب الذي قلناه،فقد ذكرنا تظاهر الأخبار به من قبل،و بينّا أنّ عمل الأمّة مستقرّ بذلك،و حاصل إلى اليوم.
و يدلّ على ذلك أيضا و يوضحه ما قدّمنا ذكره من قول عبد اللّه بن مسعود و ابن عمر فيمن يقرأ القرآن منكوسا:«ذاك رجل منكوس القلب»،و«لو رآه السلطان لعاقبة»،و قد بيّنا أنّ ذلك غير واجب في تقديم بعض السور على بعض،فيجب أن يكون في تقديم بعض آيات السور على بعض،و على أنّهما إن كانا عنيا بذلك تقديم بعض السور على بعض فلأن يكون تقديم بعض آيات السور على بعض و خلطها بغيرها أولى و أحرى أن تستحقّ ذلك،فهذا أيضا يدلّ/ دلالة قاطعة على علمهم بوجوب ترتيب آيات السور في الكتابة و التلاوة.
و لو كان الأمر على ما يدّعيه السائل عن هذا الباب لم تحتج السور إلى أن يكون لها أوّل و آخر،و ابتداء و خاتمة،و لم يكن على أحد في حفظ
ص: 294
القرآن كلفة إذا كان له خلطه و تلاوته كيف شاء،و مما يدلّ أيضا على صحّة ما قلناه و يؤكّده ما رواه عبد الرحمن بن حرملة (1)عن سعيد بن المسيّب قال:«مرّ رسول اللّه صلى اللّه عليه على بلال هو يقرأ القرآن من هذه السورة و من هذه السورة،قال:مررت بك يا بلال و أنت تقرأ من هذه السورة و من هذه،فقال:بأبي أنت يا رسول اللّه،إنّي أردت أن أخلط الطيّب بالطيّب، فقال:اقرأ السورة على نحوها» (2)،يعني صلى اللّه عليه:على نظامها و ترتيبها من غير خلط لآياتها بغير ما هو منها،و هذا نصّ على ما قلناه.
و مما يدلّ على ذلك و يوضّحه،أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه كان ربما سهى و أسقط من تلاوته آية فيستعيدها ممّن حفظها عنه،و إذا أسقط آية و هو في الصلاة شعر بذلك من خلفه،و كانوا يسألونه إذا فرغ و يقولون له:تركت آية كذا يا رسول اللّه،ليتعلّموا بذلك أنّه قد سها،أو حدث نسخ أو رفع و تغيير،و لذلك قال له أبيّ و غيره في مثل هذا:«يا رسول اللّه نسيت آية كذا،فقال:«نسّيتها» (3)،و لو كان له أن يؤخّر و يقدّم و يضع موضع الآية غيرها و يجعل بعض آيات السورة في غيرها لساغ له أيضا أن يترك قراءة بعض السور،و يزيد في ذلك و ينقص منه،و لم يكن لقولهم«نسّيت»أم «نسخت»معنى،و كلّ هذا يدلّ دلالة قاطعة على أنّ الواجب رسم السورة و تلاوتها في الصلاة و غيرها على نظام آياتها و ترتيبها.).
ص: 295
و مما يدلّ على ذلك و يؤكّده ما رواه الفضل بن دكين (1)عن الوليد بن جميع (2)أنّ خالد بن الوليد (3)أمّ الناس بالحيرة فقرأ من سور شتّى،ثم التفت حين انصرف فقال:«شغلني الجهاد عن تعلّم القرآن»،و في رواية أخرى أنّه/قال:«إنّي بطّأت عن الإسلام و شغلني الجهاد عن تعلّم القرآن» (4)،و لو كان للناس تقديم المؤخّر من الآي و تأخير المقدّم،و خلط آيات السور بآيات سور غيرها،و لم يكن عليهم في ذلك ترتيب و حدّ محدود:لم يحتج خالد إلى اعتذار،و لم يقل:«شغلني الجهاد عن حفظ القرآن»،لأنّ القرآن لا يجب حفظه عند الخصم إلا على ما قرأه خالد و أورده،فهذه أيضا رواية تنبئ عن وجوب ترتيب آيات السّور و تلاوتها على سياقها،اللهم إلا أن يعرض عارض مثل الذي عرض لخالد من النسيان و الأمور الصادّة عن ذلك.
فإن قال قائل:أ فليس قد روي عن عبد اللّه بن مسعود أنّه قال:«نزلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه سورة المرسلات و نحن في غار فأقرأنيها،و أنا أقرؤها قريبا مما أقرأني،فلا أدري أختمها بقوله: وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ [المرسلات:48]أو بقوله: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [المرسلات:).
ص: 296
50]».و هذا نصّ منه على أنّه لا يعلم خاتمتها،و أنّه قد يختم تارة بهذا و تارة بهذا،و أنّ الأمر في ذلك عنده سهل قريب بقوله:«فأنا أقرؤها قريبا مما أقرأني»،و لأجل أنّه ترك أن يستثبت ذلك من رسول اللّه صلى اللّه عليه إلى أن مات،فلو كان ترتيب آيات السور و ختمها بآية منها مخصوصة لا يجوز وضع غيرها مكانها أمرا مضيّقا:لم يهمل عبد اللّه سؤال رسول اللّه صلى اللّه عليه عن ذلك،و لم يستجز أن يقول:«فأنا أقرؤها قريبا مما أقرأني»،و هذا يدلّ على خلاف ما ادّعيتم.
يقال له:ليس فيما ذكرته ما يدفع قولنا،بل هو من أدلّ الأمور على صحّة ما نذهب إليه و فساد قولك،لأجل أنّ عبد اللّه لو لم يجب عنده مراعاة خاتمة السورة و سياقها على نظم آياتها و على وجه ما لقّنوه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و لو لا ذلك لم يكن لذكر إقراء رسول اللّه صلى اللّه عليه له معنى و لذكر خاتمة السورة،و لقوله:«فأنا أقرؤها قريبا مما أقرأنيها»،فهذا الخبر بأن يدلّ على صحّة قولنا أولى.
فإن قيل:فإذا كان ذلك عندكم كذلك/فلم لم يستثبت عبد اللّه ذلك من رسول اللّه صلى اللّه عليه و يعرفه حتى لا يخالف نهج قراءته و نظمه؟ قيل لهم:إنّما لم يفعل ذلك لأجل أنّه كان يعتقد أنّ لسورة المرسلات خاتمتين إذا قرئت على وجهين،فيختم بإحدى خاتمتيها إذا قرئت على وجه و بالآية الأخرى إذا قرئت على وجه آخر،لأنّه قد صرّح بذلك فيما صحّ عنه من الرّواية لهذه القصّة،و ذلك أنّ الأعمش روى عن ابن رزين عن زرّ بن حبيش قال:قال ابن مسعود:«نزلت على النبيّ صلى اللّه عليه وَ الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً و نحن في غار،فأقرأنيها،فإنّي لأقرؤها قريبا مما أقرأني،فما أدري بأيّ خاتمتها ختم: وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ أو: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ،و هذا نصّ منه على أنّ لها عند الرسول خاتمتين يختم بهما هذه السورة،و ليس يمتنع أن يجعل اللّه سبحانه لبعض السّور خاتمتين،إمّا على التخيير بأن يختم القارئ بأيهما شاء،و يجعل الخاتمة الأخرى قبل أن يختم بها و أقرب الآيات إليها لكونها خاتمة مثلها،أو يجعلها حيث شاء من السورة،أو بأن يجعل لها خاتمتين إذا قرئت على وجهين مختلفين في الترتيب،فإن قرئت على وجه كذا كانت خاتمها كذا،و إن قرئت على الوجه الآخر ختمتها بالآية الأخرى.
ص: 297
فإن قيل:فإذا كان ذلك عندكم كذلك/فلم لم يستثبت عبد اللّه ذلك من رسول اللّه صلى اللّه عليه و يعرفه حتى لا يخالف نهج قراءته و نظمه؟ قيل لهم:إنّما لم يفعل ذلك لأجل أنّه كان يعتقد أنّ لسورة المرسلات خاتمتين إذا قرئت على وجهين،فيختم بإحدى خاتمتيها إذا قرئت على وجه و بالآية الأخرى إذا قرئت على وجه آخر،لأنّه قد صرّح بذلك فيما صحّ عنه من الرّواية لهذه القصّة،و ذلك أنّ الأعمش روى عن ابن رزين عن زرّ بن حبيش قال:قال ابن مسعود:«نزلت على النبيّ صلى اللّه عليه وَ الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً و نحن في غار،فأقرأنيها،فإنّي لأقرؤها قريبا مما أقرأني،فما أدري بأيّ خاتمتها ختم: وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ أو: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ،و هذا نصّ منه على أنّ لها عند الرسول خاتمتين يختم بهما هذه السورة،و ليس يمتنع أن يجعل اللّه سبحانه لبعض السّور خاتمتين،إمّا على التخيير بأن يختم القارئ بأيهما شاء،و يجعل الخاتمة الأخرى قبل أن يختم بها و أقرب الآيات إليها لكونها خاتمة مثلها،أو يجعلها حيث شاء من السورة،أو بأن يجعل لها خاتمتين إذا قرئت على وجهين مختلفين في الترتيب،فإن قرئت على وجه كذا كانت خاتمها كذا،و إن قرئت على الوجه الآخر ختمتها بالآية الأخرى.
و يكون هذا الوجه أحد الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها،أو أحد الوجوه من سبعة أحرف أخر غير السبعة الثابتة،و أن يكون اللّه سبحانه قد نسخ إطلاق ذلك بعد أن أطلقه و جعل للمرسلات خاتمة واحدة،و عرف ذلك المسلمون و ذهب على عبد اللّه بن مسعود إذ لم يسمعه،لأنّ نسخ ذلك كان قريبا من موت النبيّ صلى اللّه عليه لأن الأمّة قد أجمعت على أنّه ليس لهذه السورة بعد موت النبي صلى اللّه عليه إلا خاتمة واحدة،و يكون عبد اللّه قد تمسّك بالحكم الأول،فلمّا عرّفه المسلمون ذلكم عرفه و علم صحّة ما نقلوه من نسخ ما كان مباحا،و الدليل على ذلك اتفاق جميع أصحاب/عبد اللّه و كلّ من أخذ القراءة منه و روى عنه على أنّه ليس لهذه السورة عنده فيما ثبت و استقرّ به عمله و قراءته إلا خاتمة واحدة،فيجب إذا كان ذلك كذلك أن يكون نسخ إحدى خاتمتيها.
فإن قيل على هذا:أ فليس من دينكم أنّ السبعة الأحرف و الوجوه من القراءات كلّها شافية كافية باقية لم تنسخ؟ قيل لهم:أجل،و قد ينزل القرآن على سبعة أوجه و أحرف أخر ينسخ بعضها و يبقى البعض،و يترك على ثلاثة أحرف،و قد وردت بذلك الأخبار
ص: 298
و فسّرت السبعة الأوجه بتفسير ورد عن النبيّ صلى اللّه عليه و الصحابة لا يجوز أن تلغي من الوجوه السبعة وجها ثابتا غير منسوخ،فوجب أن لا يكون للمرسلات خاتمتان بإجماعهم على منع ذلك،و أن لا يكون هو من السبعة الأوجه من القراءات الثابتة على ما سنبيّنه فيما بعد عند بلوغنا إلى الكلام في هذا الباب إن شاء اللّه.
فإن قيل:فلم لم يظهر في الناس نقل هذا الحكم و هو أن للمرسلات خاتمتين نسخت إحداهما؟ قيل لهم:لأنّه ليس من شأن الناس في العادة أن يصرفوا هممهم إلى نقل ما كان و رفع و إذاعته،و إنّما يأخذون أنفسهم بذكر ما ثبت و استقرّ عليهم فرضه،و ربّما نقلوا فرض التلاوة المنسوخة و الحكم الذي تضمّنها و عدلوا عن نقل التلاوة الموجبة لها إذا نسخت و أزيلت و بقي حكمها،و إذا كان ذلك كذلك لم يجب أن يعبأ الناس بأنّه كان للمرسلات خاتمتان نسخت إحداهما، و إنّما ذكر ذلك ابن مسعود لنسيان كان عن نسخ إحدى الخاتمتين.
فلما عرف ذلك بنقل من نقله إليه و أخبره به استقرت قراءته و عمله بذلك،و هذا ينفي التخيير الذي ادّعوه،و هذا الذي ذكرناه أولى من قول من قال إنّه قد كان لها خاتمتان إذا قرئت على وجهين،و إنّ عبد اللّه شكّ في الوجه الذي قرئت عليه كانت خاتمته كذا و كذا و لم يشكّ في الخاتمتين، و إنّ إطلاق قراءتها على الوجهين و ختمها بالخاتمتين ثابت مستقرّ إلى أن مات رسول اللّه صلى اللّه عليه/.
ص: 299
الكلام في المعوّذتين و الكشف عن ظهور نقلهما و قيام
الحجّة بهما،و إبطال ما يدّعونه من إنكار عبد اللّه بن
مسعود لكونهما قرآنا منزلا،و تأويل ما روي في
إسقاطهما من مصحفه و حكّه إيّاهما،و تركه
إثبات فاتحة الكتاب في إمامه
و ما يتّصل بهذه الفصول
فإن قال قائل:كيف يسوغ لكم أن تدّعوا وجوب تظاهر نقل جميع القرآن و قيام الحجّة و تساوي حال الرسول صلّى اللّه عليه في بيانه إلى الكافّة على وجه/يوجب العلم و يقطع العذر و يزيل الرّيب و الشّكّ مع الذي قد ظهر و انتشر عن عبد اللّه بن مسعود من إنكاره أن تكون المعوّذتان من جملة القرآن و منافرته في ذلك و إسقاطه إياهما من مصحفه،و حكّه لهما من مصحف غيره،و ما يقوله عند حكّه لهما:«لا تخلطوا فيه ما ليس منه» (1)،فكيف يمكن أن يعتقد أنّ ظهور بيان المعوّذتين و التوقيف على أنّهما قرآن منزل كظهور النصّ على غيرهما من السور،بل كيف يمكن أن يقال إنّ الصحابة
ص: 300
قد كانت أحاطت علما بجميع كتاب اللّه لظهور أمره و إقامة الحجّة به؟و هذه حال عبد اللّه بن مسعود في إنكار بعضه و جحده و هو من جملتهم و عمدة من عمدهم في حفظ الكتاب،و المتبتّلين لقراءته و إقرائه و التبحّر في علم أحكامه و وجوهه و حروفه و المناظرة عليه،الذابّين عنه،و لو لم يرو عن الصحابة إلا هذه القصّة وحدها لكان ذلك كافيا في إبطال ما أصّلتموه و فساد ما ادّعيتموه.
فيقال لهم:أما دعوى من ادّعى أنّ عبد اللّه بن مسعود أنكر أن تكون المعوّذتان قرآنا منزلا من عند اللّه تعالى و جحد ذلك فإنّها دعوى تدلّ على جهل من ظنّ صحّتها و غباوته و شدّة بعده عن التحصيل،و على بهت من عرف حال المعوّذتين و حال عبد اللّه و سائر الصحابة،لأنّ كلّ عاقل سليم الحسّ يعلم أنّ عبد اللّه لم يجحد المعوّذتين و لا أنكرهما،و لا دفع أن يكون النبيّ صلّى اللّه عليه تلاهما على الأمّة،و خبّر أنّهما منزلتان من عند اللّه تعالى،و أنّه أمر بأن يقولهما على ما قيل له في أوّلهما،و كيف يمكن عبد اللّه ابن مسعود أو غيره من الصحابة جحد ذلك و إنكاره،و ذلك مما قد أعلنه الرسول و أظهره و تلاه و كرّره و صلى اللّه به و جهر به في قراءته،و خبّر أنّه من أفضل ما أنزل عليه،و كشف ذلك و أبانه بيانا قد اتّصل بنا نحن و لزم العلم به قلوبنا،و ارتفع منه شكّنا و ريبنا.
حتى لو حاول أحدنا و غيرنا من أهل الملل السامعة لأخبارنا و العارفة بما/أتى به نبيّنا أن يجحد ذلك و يدفعه لم يجد إلى ذلك سبيلا،هذا مع[184] تطاول المدّة و تباعد عصرنا من عصر النبيّ صلّى اللّه عليه،فإذا كانت الأخبار متواترة متظاهرة علينا بذلك تواترا قد أصارنا في اليقين و زوال الرّيب إلى ما وصفناه،فكيف بأهل عصر الرسول الذي تلقّوه و سمعوه،و أخبروا به من بعدهم و نقلوه؟!لأنّه لا بدّ أن يكون عبد اللّه بن مسعود أحد من حضر
ص: 301
تلاوة الرسول لها،و إخباره بنزولها،أو واحدا ممن خبّر بذلك،و جاءته الأخبار من كل طريق و ناحية مجيئا لا يمكن معه الشكّ في ذلك،كما لا يمكنه الشّكّ في جميع ما ظهر و انتشر من دين الرسول و أقواله و أفعاله التي لم يسمعها منه و لم يشاهدها،و لو تهيّأ لأحد من أهل عصر الرسول أن يشكّ في نزول المعوّذتين و تلاوة الرسول لهما طول حياته،و إلى بعد وفاته بخمس و عشرين سنة،و الحال ما وصفناه لأمكنه لحق ذلك.
و في العلم بفساد هذا و لزوم العلم بما وصفناه لقلوبنا و زوال الرّيب عنّا:دليل واضح على أنّه لقلب عبد اللّه ألزم،و أنّه عنده أظهر و أشهر،و إذا كان ذلك كذلك بان أنّ عبد اللّه بن مسعود لا يجوز منه مع عقله و تمييزه و جريان التكليف عليه،أن يحمل نفسه على جحد المعوذتين و إنكار نزولهما و أنّ اللّه تعالى أوحى بهما إلى نبيّه صلّى اللّه عليه.
و ممّا يوضّح ذلك أيضا و يبيّنه أنّه لو كان عبد اللّه قد جحد المعوّذتين و أنكرهما مع ظهور أمرها و إقرار جميع الصحابة بهما لم يكن بدّ من أن يدعوه داع إلى ذلك و أن يكون هناك سبب يعتدّ عليه،و لو كان هناك سبب حداه على ذلك و حرّكه لخلاف فيه لوجب في موضوع العادة أن يحتجّ به و يذكره و يعتدّ به،و يبدي و يكثر اعتذاره له و تعويله عليه،و لكان لا بدّ أيضا في مقتضى العادة من ظهور ذلك عنه و انتشاره و حصول العلم به،إذا كان [185]خلافا في أمر عظيم و خطر جسيم،و أعظم مما نهي عنه من/الإقامة على التطبيق في الصلاة،و قوله في تزويج بنت فاسق،و خلافه في الفرائض، و غير ذلك،مما شهر من مذاهبه و كلّما عظم الخطر في الأمر و جلّ وقعه في النفوس كان الخلاف فيه أظهر و العناية به أشدّ،و اللّهج بذكره و تطلّب النقض و الردّ له أكثر و أشهر.
ص: 302
و لو كان من عبد اللّه هذا الخلاف على الصّحابة مع العلم بأنّهم يعتقدون كون المعوّذتين قرآنا،و يرون أنّ جاحدهما بمنزلة جاحد الكهف و مريم، لوجب في مستقرّ العادة أن يعظم ردّهم عليه و عسفهم له،و تبكيتهم إياه، و المطالبة له بذكر ما دعاه إلى ذلك،و المناظرة له على ما يحتجّ به و لكان ذلك أعظم معايب عبد اللّه و سقطاته عند مخالفه و منافره،و لوجب أن يحتجّ بذلك عثمان عليه في عزله و العدول في كتابة المصحف عنه،و لوجب تغليط القوم له،و الحكم عليه بالكفر و الردة،و أنّه بمثابة من جحد جميع كتاب اللّه،و أن يطالبوا الإمام بإقامة حقّ اللّه تعالى عليه في ذلك،و مفارقته و ترك مقاربته على جحد ما يعلمون أنّه سورتان من كتاب اللّه،لأنّهم أنكروا عليه ما هو دون هذا،و كرهوه من قوله حيث قال:«معشر المسلمين أعزل عن كتابة المصحف،و اللّه لقد أسلمت،و إنّ زيدا لفي صلب رجل كافر» (1).
قال ابن شهاب و غيره:«و لقد كره مقالته هذه الأماثل من أصحاب رسول اللّه (2)صلّى اللّه عليه»و ما هذا نحوه من اللفظ،و قد كان ناظره عثمان و راسله مناظرة ظاهرة على امتناعه من تسليم مصحفه،فكيف لم يناظره على إنكاره المعوّذتين و يهتف به و يجعل ذلك ذريعة و سبيلا إلى الدلالة على سوء رأيه و شدّة عناده،و أنّه لا يجب أن يعبأ بمن جحد سورتين من كتاب اللّه قد اشتهر نصّ الرسول عليهما في الخاص و العام،و الصغير و الكبير،و القاصي و الداني.3.
ص: 303
و في عدم العلم بظهور الخلاف من عبد اللّه في ذلك و ذكر السبب [186]الباعث له عليه،و العلم بأنّ الأمّة/و إمامها لم يناظروه على ذلك بحرف واحد و لا أغلظوا له فيه و لا ظهر عنهم أمر يجب ظهوره في مثل ذلك،و لا عرضوا عبد اللّه على السيف و لا أقاموا عليه حدّا،و لا شهدوا عليه بتفسيق و تضليل تجب الشهادة به على من جحد كلمة من كتاب اللّه فضلا عمّن جحد سورتين منه:أوضح دليل على أنّه لم يكن من عبد اللّه قطّ جحد المعوّذتين، و إنكار لكونهما قرآنا منزلا.
و مما يدلّ أيضا على كذب من أضاف إلى عبد اللّه جحد المعوّذتين و عناده إن كان عالما بما ركّبت عليه الطباع و العادات،أو جهله و غفلته إن كان مقصّرا عن منزلة أهل البحث عن هذا الباب؛اتفاق الكلّ من جميع فرق الأمّة و أهل النقل و السيرة على أنّ عبد اللّه كان أحد القرّاء المبرّزين،و وجها من وجوه المقرئين المنتصبين لتدريس كتاب اللّه جلّ و عز و تعليمه و الأخذ له عنه،و أنّه من المعروفين بذلك على عصر الرسول صلى اللّه عليه و سلّم و إلى حين وفاته صلى اللّه عليه،و أنّه قد أخذ عنه القرآن و لقّنه منه و رواه عنه جماعة جلّة مشهورون معروفون منهم عبيدة السّلمانيّ (1)،و مسروق بن الأجدع،و علقمة بن قيس، و عمرو بن شرحبيل (2)،و الحارث بن قيس (3)،و الأسود بن يزيد بن).
ص: 304
قيس (1)،و جماعة غير هؤلاء أخذوا عنه و رووا قراءته،فما ذكر عن جميعهم و لا عن أحد منهم رواية ظاهرة و لا غير ظاهرة أنّه أنكر كون المعوّذتين قرآنا و لا أسنده عن عبد اللّه،و لا قال-مع إضافته ذلك إلى عبد اللّه-إنّه حقّ على ما ذكره و لا أنّه باطل يرغب عنه،و قد علم بمستقرّ العادة أنّه إن كان قد صحّ عن عبد اللّه كون المعوّذتين غير قرآن فلا بدّ من معرفة أصحابه و المتمسّكين لحرفه،و المنحازين إلى كتبته،و الناصرين لقوله من أن يعرفوا ذلك من دينه و أن يكونوا أقرب الناس إلى العلم به،و أنّه لا بدّ مع ذلك أن يصوّبوه على قوله هذا و يتّبعوه،أو يردّوه و ينكروه،و لا بدّ من ظهور ذلك عنهم و انتشاره من قولهم،و أن يكون/قولهم فيه من موافقة عبد اللّه على ذلك و مخالفته[187] أشهر و أظهر من تمسّكهم بحرفه و أخذهم أنفسهم به،و لو قد كان منهم أحد الأمرين لاستفاض و ظهر و لزم قلوبنا العلم به و الخنوع بصحّته،فلمّا علمنا و علم الناس جميعا أنّه لم يرو عن جميع الصحابة و لا عن أحد منهم قول و لا لفظة في هذا الباب-أعني إنكار عبد اللّه لكون المعوّذتين قرآنا-علمنا أنّه لا أصل لما يدّعى عليه من ذلك و أنّه زور و بهتان.
فإن قيل:فلعلّ أصحاب عبد اللّه إنّما لم يعرضوا لذلك عن عبد اللّه لقبح هذا القول عندهم و شناعته و خروج قائله عن مذهب الأمّة،و تركه ما يجب عليه عن الإقرار بتوقيف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم على المعوّذتين و نصّه.
قيل له:فقد كانوا مع هذا قوما مسلمين أخيارا أبرارا،فكان يجب انحرافهم عن عبد اللّه في هذا القول و إظهارهم لغلطه،و تفنيد رأيه،لأنّ العادة لم تجر بإمساك مثلهم عن إنكار منكر لأجل تعصّب و ميل و طلب).
ص: 305
رئاسة،على أنّه لو أمكن مثل ذلك منهم مع تعذّره في العادة لم يكن إمساك جميع الناس عن مسألتهم في هذا الباب و المطالبة بما يصحّ عندهم من قول عبد اللّه في ذلك،و ما الذي يعتقدونه و يدينون به فيه،و لكان لا بدّ لهم عند ذلك من الجواب بتصويبه أو تخطئته أو تصحيح هذا القول عليه و الشهادة به،أو إنكاره و نفيه عنه،و لكان لا بدّ من أن يظهر ذلك عنهم و ينتشر و يلزم القلوب لزوما لا يمكن الشكّ فيه و لا الارتياب به،و في إطباق الأمّة من أهل السيرة و جميع أهل العلم على أنّه لا شيء يروى عن أحد من أصحاب عبد اللّه في هذا الباب:أبين شاهد على تكذّب هذه المقالة،و وضع هذه الرواية.
و مما يبيّن أيضا أنّ عبد اللّه لم يجحد كون المعوّذتين قرآنا و وحيا منزلا، علمنا بما هو عليه من جزالة الوصف و مفارقة وزنهما لسائر أوزان كلام العرب و نظومه،و أنّ عبد اللّه مع براعته و فصاحته و علمه بمصادر الكلام [188]و موارده و أنّه من صاهلة هذيل و هي من أفصح القبائل:لا يجوز أن يذهب/ عليه أنّ المعوّذتين ليستا بقرآن و أنّهما على وزن كلام المخلوقين و بحاره، و يجب في حكم الدّين نفي مثل ذلك عمّن هو دون عبد اللّه بطبقات كثيرة في الجلالة و القدر و حسن الثناء و المعرفة و عظيم السابقة و الصحبة و تدرّبه بمعرفة حال القرآن و نظمه،و الفرق بينه و بين غيره،و إذا كان ذلك كذلك وجب إبطال هذه الرواية عنه و الحكم بتكذّبها عليه.
و ممّا يدلّ على وجوب إنكار هذه الرواية عن عبد اللّه و تنزيهه عنها أنّه قد صحّ و ثبت إيمان عبد اللّه و جلالته و فضل سابقته و وجوب تعظيمه و موالاته،و أنّ الواجب على المسلمين من سلف الأمّة و خلفها خلع ولاية من جحد ما قد صحّ و ثبت أنّه سورتان من القرآن و لعنه و البراءة منه،و الحكم بقتله و ردّته،و إذا كان ذلك كذلك وجب إنكار هذا القول عن عبد اللّه لأنّنا
ص: 306
لا نعرف صحّته و لا نقف عليه،فلو كان من الأخبار التي يمكن أن تكون صحيحة لوجب اطّراحها،لأنّ مثبتها على عبد اللّه و الشاهد بذلك عليه قد عمل على مطالبتنا بوجوب إكفار عبد اللّه بن مسعود و لعنه و البراءة منه و القدح في إيمانه و الحكم عليه بحبوط عمله بخبر واحد لا يوجب العلم و لا يقطع العذر.
و هو مع ذلك مما لا يمكن أن يكون صحيحا لأمور،منها:ما قدّمناه من وجوب ظهور ذلك عن عبد اللّه لو ثبت و انتفى الشكوك عنّا فيه،و غير ذلك مما قدّمناه،و منها:أنّه لو كان صحيحا عليه و قد علمنا أنّه لم يكن من الصحابة إنكار عليه و لا إغلاظ و لا عسف،و لا قتل و لا عقوبة و نكال و لا حكم مما يجب أن يحكم به على جاحد آية من كتاب اللّه تعالى و كلمة فضلا عن جاحد سورتين منه لوجب الحكم على جميع الأمّة بالضلال و الانسلاخ من الدين،لأنّ ذلك يوجب حينئذ أن يكون عبد اللّه قد ضلّ و أخطأ و فسق بإنكاره و جحده سورتين من كتاب اللّه،و أن يكون جميع باقي/الأمّة الذين[189] هم غيره قد ضلّوا و فسقوا بترك تكذيبه و الردّ عليه و إقامة حدّ اللّه فيه و كشف حاله للناس و العدول إلى تركه و مسامحته و التمكين له من الترؤّس و التصدّر، و إقراء و نشر الذكر،و التوصّل إلى الأسباب التي يصير بها إماما متّبعا و حجّة مقتفى.
فمن ظنّ أنّنا نحكم على عبد اللّه و على الأمّة في تركه و تمكينه من ذلك بهذه الأحكام لأجل خبر واحد ضعيف واه يجيء من كل ناحية متّهمة و سبيله و غيره يكون معارضا بما هو أثبت و أظهر منه؛فقد ظنّ عجزا و حلّ من الجهل محلا عظيما،و هذا لو أمكن أن يكون هذا الخبر صحيحا،فكيف و قد بيّنا بغير طريق أنّه من أخبار الآحاد التي يجب كونها كذبا لا محالة.
ص: 307
و اعلموا رحمكم اللّه أنّ هذه سبيل القول عندنا في كل أمر يروى من جهة الآحاد يوجب تفسيق بعض الصحابة و تضليله أو تفسيق من هو دونه من المؤمنين و إلحاق البراءة منه و اعتقاد الذّمّ له في أنّه لا يجب قبوله و لا العمل به،كما أنّه لا يجب العمل بصحّته،و إنّما يوجب العمل بخبر الواحد الذي لا يوجب العلم في مواضع مخصوصة من الشريعة لموضع التعبّد بذلك،فأمّا أن نعلمه في تفسيق المؤمنين الأبرار و إيجاب خلع موالاتهم و القضاء على إحباط أعمالهم،و في الحكم على الأمّة قاطبة بالضلال و الفسق و في ترك إنكار ذلك الشيء المرويّ الذي يجب إنكاره و أنّه غير جائز؛فهذا أيضا جملة توجب الحكم بإبطال هذه الرواية و بترك الإحفال بها و العمل عليها، و كيف يجوز لمسلم الشهادة على عبد اللّه بن مسعود بجحد سورتين من القرآن و بما يوجب الكفر و الارتداد و التبرّي بخبر الواحد و يعدل عمّا ثبت عنده من إيمانه و سابقته و كثرة أقاويل الرسول فيه،و كونه مرضيّا مقبولا عند الصحابة،نحو قوله صلى اللّه عليه:«من أحبّ أن يقرأ القرآن غضّا كما أنزل فليقرأ بحرف ابن أمّ عبد» (1)،و قوله:«رضيت لأمّتي ما رضي لها ابن أمّ [190]عبد،و لو كنت مستخلفا/أحدا من أمتي استخلفت ابن أمّ عبد» (2)،و قول عمر فيه مع جلالة قدره:«كشف طيّ علمها» (3)،إلى غير هذا مما هوه.
ص: 308
معروف من فضائله و مناقبه و شدّة نسكه و مسألته،و كلّما وصفناه من حاله يقتضي نفي هذا التكذّب عليه.
قال بعض أصحابنا:و مما يدلّ على أنّ المعوّذتين قرآن منزل من عند اللّه تعالى اتفاق الأمّة في هذا العصر و قبله من الاعصار منذ لدن التابعين و إلى وقتنا هذا على أنّهما من جملة القرآن،فلو ثبت أنّ عبد اللّه خالف في ذلك أهل عصره لوجب أن يكون حصول الإجماع بعده على خلاف قوله قاطعا لحكم خلافه،لأنّ الإجماع بعد الاختلاف حجّة،كما أنّه حجّة إذا انعقد و انبرم ابتداء عن غير اختلاف تقدّم،و قد أوضحنا نحن فيما سلف أنّ هذه الرواية متكذّبة مفتعلة،و أنّه لم يحفظ على عبد اللّه حرف واحد في التصريح بأنّ المعوّذتين ليستا من القرآن فلم يحتج مع ذلك إلى التعلّق بالإجماع بعد الاختلاف.
و ممّا يدلّ أيضا على تكذّب هذه الرواية على عبد اللّه و الغلط و التوهّم للباطل في هذه الإضافة إليه تظاهر الأخبار عن النبيّ صلى اللّه عليه بالنصّ على أنّ المعوّذتين من القرآن،و من أفضل ما أنزله اللّه عليه،و كثرة أقاويلهم و تضخيم شأنهما و صلاته بهما جهرا،و إنّ مثل هذا إذا كثر و تردّد وجب ظهوره و انتشاره،و أن يكون متواترا عن الرسول صلى اللّه عليه على المعنى و إن لم يكن اللّفظ متواترا،و إنّ مثل هذا لا يكاد يخفى على عبد اللّه و ينطوي عنه حتى لا يسمعه و لا شيئا منه من الرسول،و لا يبلغه عنه من الجهات المختلفة فيحصل العلم به حسب حصوله بجميع ما اشتهر من دينه و ظهرت فيه أقاويله.
فمن هذه الأخبار المروية عن الرسول في هذا الباب ما رواه قيس بن أبي حازم عن عقبة بن عامر الجهني قال:قال رسول اللّه صلى اللّه عليه:
ص: 309
[191]«أنزلت عليّ آيات لم ينزل عليّ مثلهنّ قطّ:المعوّذتان» (1).و روى أيضا/ عقبة بن عامر قال:اتّبعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و هو راكب فوضعت يدي على قدمه،و قلت:أقرئني من سورة هود أو سورة يوسف،فقرأ،و قال:
«لم تقرأ شيئا أبلغ عند اللّه من قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ » (2).
و روى زيد بن أسلم عن معاذ بن عبيد بن خبيب (3)[عن أبيه] (4)قال:
«كنت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه في طريق مكّة و معنا صحابة،فوقعت علينا ضبابة من الليل حتى سترت بعض القوم،فلمّا أصبحنا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه:«قل يا خبيب»،فقلت:ما أقول يا رسول اللّه؟قال: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ ،فقرأها و قرأتها حتى فرغ منها،ثم قال:«ما استعاذ أو ما استعان أحد بمثل هاتين السورتين قطّ» (5).و روى ابن عابس).
ص: 310
الجهنيّ (1)قال:قال رسول اللّه صلى اللّه عليه:«يا ابن عابس،أ لا أخبرك بأفضل ما تعوّذ به المعوّذون؟»قال:«قل أعوذ بربّ الفلق،و قل أعوذ بربّ الناس» (2).
و روى عقبة بن عامر الجهنيّ قال:قال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه:
«اقرأ بالمعوّذتين كلّما نمت و كلّما قمت» (3).و روى جابر بن عبد اللّه قال:
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«اقرأ قل أعوذ بربّ الفلق»،ثم قال:«اقرأ»،قلت:و ما أقرأ؟قال:«اقرأ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ يا جابر،اقرأهما و لن تقرأ مثلهما» (4)،و روى أيضا عقبة بن عامر الجهني قال:كنت اقود ناقة رسول اللّه صلى اللّه عليه في السّفر،فقال:«يا عقبة،أ لا أعلّمك خير سورتين قرئتا،فعلّمني قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ » (5).
و روى معاوية بن صالح (6)عن عبد الرحمن بن جبير (7)عن أبيه (8)عن).
ص: 311
عقبة بن عامر أنّه سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه عن المعوّذتين،و قال:«أمّنا بهما رسول اللّه صلى اللّه عليه في صلاة الفجر»،و في رواية أخرى قال:
«سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه عن المعوّذتين،أ من القرآن هما؟فأمّنا بهما في صلاة الفجر»،و روى وكيع (1)عن هشام بن الغاز عن سليمان بن موسى (2)عن عقبة بن عامر قال:«كنّا مع النبيّ صلى اللّه عليه في سفر،فلمّا طلع الفجر أذّن و أقام و أقامني عن يمينه،ثم قرأ بالمعوّذتين،فلمّا انصرف قال:«كيف [192]رأيت؟»قلت:قد رأيت يا رسول اللّه،/قال:«و اقرأهما كلّما نمت و قمت».
فكلّ هذه الأقاويل و إن اختلفت صيغها نصّ من رسول اللّه صلى اللّه عليه على أنّ الفلق و الناس قرآن منزل من عند اللّه سبحانه،و لم يرد في أكثر سور القرآن من النصوص عليها مثل هذه الأخبار،و لا بدّ أن يكون عقبة بن عامر قد سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه عن المعوّذتين أ من القرآن هما؟على ما ذكرناه فيما روي و ظهر منه ما يعلم به أو يغلب على الظنّ عند رؤيته و سماعه أنّ عقبة قد ظنّ أنّ المعوّذتين ليستا بقرآن،فلمّا اعتقد الرسول فيه ذلك صلى بهما الفجر من حيث يسمع عقبة و غيره ليؤكّد في نفسه أنّهما قرآن منزل،فلذلك قال له:«و كيف رأيت أنّي قد صلّيت بهما»و يمكن أن يكون عقبة لم يسمع الرسول قطّ يصلّي بهما،فسبق لأجل ذلك إلى اعتقاده تجنّب النبيّ صلى اللّه عليه للقراءة في الصلاة بهما لكونهما غير قرآن فصلّى بهما رسول اللّه،فقال له:«كيف رأيت؟»ليعلم بذلك أنّهما قرآن،و أنّه لم يتجنّب).
ص: 312
الصلاة بهما للسّبب الذي خطر له،و هذا غاية التأكيد و أبلغ في النصّ على أنّهما قرآن،فكيف يجوز أن يذهب سماع هذا أجمع و علمه عن عبد اللّه بن مسعود و أن يخفى عليه خفاء يجوز معه إنكار كون المعوّذتين قرآنا؟! و قد بيّنّا من قبل أنّه لو صحّ عن عبد اللّه جحد المعوّذتين لوجب أن يكون أصحابه أعلم الناس بذلك عنه و أنّه لم يكن من أحد منهم لفظة في هذا الباب،بل المرويّ عن جلّتهم الإقرار بأنّهما قرآن،و روى سفيان عن الأعمش عن إبراهيم قال:«قلت للأسود:أ من القرآن هما،قال:نعم»،يعني المعوّذتين،و روى زائدة (1)و ابن إدريس (2)عن حصين عن الشّعبيّ قال:
«المعوّذتان من القرآن»،فهذان وجهان من وجوه أصحاب عبد اللّه يخبران بأنّ المعوّذتين من القرآن،و في بعض ما ذكرناه أوضح برهان على كذب من ادّعى على عبد اللّه جحد كون المعوّذتين قرآنا منزلا.
فإن قال قائل:جميع ما قدّمتموه من موجب العادة في إيجاب ظهور إنكار/عبد اللّه للمعوّذتين إذا كان ذلك صحيحا،و وجوب مشاجرة الصحابة[193] له،و وجوب علم أصحابه به و حرصهم فيه،و إقرار ذلك من قلبه،أو إنكاره إلى غير ذلك مما وصفتموه يقتضي بأن يكون قد كان من عبد اللّه بن مسعود أو غيره أمر اقتضى الخوض في أمر المعوّذتين و حصول كلام فيهما،و حال أوجبت إضافة مثل هذا القول إلى عبد اللّه و أنّه لو لم يكن منه فيهما شيء لم يجب في وضع العادة إضافة جحد المعوّذتين إليه دون غيره من الصحابة).
ص: 313
و سائر أهل عصره،و لم يجز أيضا أن يضاف ذلك إليه في المعوّذتين خصوصا من بين سائر القرآن كما لا يجوز أيضا أن يضاف شيء من هذا إليه في البقرة و آل عمران و كلّ ما لم يكن فيه قول منه.
يقال له:أمّا هذا الذي قلته فصحيح لا شكّ فيه،و لا بدّ من أن يكون قد كان منه سبب يقتضي تعليق ذلك عليه و إضافته إليه،أو كان من غيره أمر واجب عنده أن يكون منه في أمرهما شيء يسوغ مع مثله افتعال الكذب عليه أو التّوهّم و الغلط عليه،و الذي كان منه عندنا في هذا الباب أمور،منها:
-أنّه أسقط المعوّذتين من مصحفه و لم يرسمهما فيه،فتوهّم لأجل ذلك عليه قوم من المتأخّرين الذين لم يعرفوا ما دعاه إلى ذلك أنّه إنّما أسقطهما لكونهما غير قرآن عنده.
-و منها:أنه قد روي عنه أنّه حكّ من المصحف شيئا رآه فيه لا يجوز عنده إثباته فظنّ مع سمع ذلك-مع سماعه أنّه لم يكن يثبت المعوّذتين في مصحفه-أنّه حكّهما من مصحف غيره،و قد ذكر في بعض الروايات أنّه حكّهما و لم يقل الراوي المعوّذتين بل بهذا اللفظ،و قال:«لا تخلطوا به ما ليس منه»،فظنّ سامع ذلك أنّه حكّ المعوّذتين.
-و لعلّه أن يكون حكّ حرفين أو كلمتين الفاتحة و الخاتمة لأنّ منه من كان يكتب فاتحة كذا و خاتمة كذا،و كان هو ينكر ذلك و لا يراه.
-و قد يمكن أيضا أن يكون بعض الناس سأل عبد اللّه بن مسعود عن [194]عوذة من العوذ رواها عن رسول اللّه/فظنّ السائل عنهما أنّهما من القرآن، فقال عبد اللّه:«إنّ تلك العوذة ليست من القرآن»،فظنّ سامع ذلك أو من روى له عنه أنّه قال ذلك في المعوّذتين.
ص: 314
-و قد يجوز أن يكون منها سماعه سؤال أبيّ بن كعب للنبيّ صلى اللّه عليه عن المعوّذتين على ما رواه أبو عبيد عن عبد الرحمن (1)عن سفيان (2)عن عاصم عن زرّ بن حبيش عن أبيّ بن كعب قال:سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه عن المعوّذتين،فقال:«قيل لي:قل،فقلت»،قال أبيّ:قال لنا رسول اللّه صلى اللّه عليه فنحن نقول كما قال»،فلما سمع هذا الجواب من الرسول أو أخبره به أبيّ أو غيره اعتقد أنّهما من كلام اللّه تعالى و وحيه،غير أنّه لا يجب أن يسمّيا قرآنا،لأنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه لم يسمّهما بذلك، و قد يمكن أن يكون أحد ما قوّى هذا في نفسه سماعه لسؤال عقبة بن عامر الجهني لمّا قال للنبيّ صلى اللّه عليه:«أ من القرآن؟»،قال:«فصلى الصبح بهما»،فيمكن أن يكون عبد اللّه لمّا لم يسمع جواب النبيّ صلى اللّه عليه بأنّهما قرآن و عرف أنّه صلى الصبح بهما قوي عنده أنّهما من كلام اللّه تعالى المنزل عليه غير أنّه لم يحبّ أن يسمّى قرآنا،لأنّ رسول اللّه لم يسمّه بذلك.
-و منها:أن يكون لم يسمع قطّ الرسول صلى اللّه عليه يصلّي بهما في صلاة كما صلى بغيرهما و لا سمعه يفردهما بالدرس،فلما سئل عبد اللّه عن جواز الصلاة بهما قال لسائله:«ما رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه صلى بهما قطّ»،فظنّ به لأجل ذلك أنّه يعتقد أنّهما ليستا من جملة القرآن.
فهذه الأسباب هي التي طرحت عليه إضافة جحدهما إليه،و دخول الشبهة على بعض من ليس من أهل عصره،و لا ممّن شاهده و عرف أحواله).
ص: 315
و مقاصده،و لو لا أنّ ذلك قد كان منه لم يكن إلى التأويل عليه سبيل و لا طريق،و ليس لأحد أن يقول:ما يكون السبب الذي كان منه غير ما وصفتم؟ لأنه لا شيء ظهر عنه و حال بدت يتوهّم بها عليه ما أضيف إليه غير ذلك، [195]و لو قد كان منه أو حدث هناك في باب/المعوّذتين شيء غير ما وصفناه لوجب ذكره و توفّر الدواعي على نقله،و ليس في شيء من هذه الأمور ما يدلّ على أنّ عبد اللّه لم يكن يعتقد كون المعوذتين قرآنا منزلا من كلام اللّه تعالى و وحيه و إن رأى أن لا يسمّيه قرآنا.
فإن قال القائل:فخبّروني قبل أن تكلّموا على تأويل سبب كل خبر كان منه في هذا الباب:إذا كنتم قد عرفتم أنّه ليس فيما ذكر عنه من هذه الأمور ما يدلّ على إخراجه المعوّذتين من القرآن،فلم سأل زرّ بن حبيش أبيّا عن ذلك؟و لم سأل الناس علقمة و الأسود (1)و غيرهما من أصحاب عبد اللّه عن المعوّذتين و عن قولهم و قول عبد اللّه في ذلك؟ قيل لهم:إنّ هذا أيضا مما لا يلزمنا عهدته و تطلّب المخرج منه،و لا معرفة السبب الباعث على السؤال عن ذلك و المبيّن له،غير أنّنا نقول:ليس يمتنع أن يكون زرّ بن حبيش و غيره ممّن سأل أصحاب عبد اللّه عن هذا الباب توهّموا أو خطر لهم أنّ عبد اللّه قد اعتقد أنّهما ليستا من القرآن لتركه الصلاة بهما أو تركه تسميتهما قرآنا و تركه إثباتهما في مصحفه،و لم يكن منهم نظر في ذلك و توفية للفحص عنه حقّه،فلمّا نظروا و تأمّلوا عرفوا أنّه ليس في شيء من ذلك ما يدلّ على ما ظنّوه،و لمّا لم يجد زرّ بن حبيش عند).
ص: 316
أبيّ إلا الإخبار بأنّهما من وحي اللّه تعالى و كلامه،و لم يجد من سأل أصحاب عبد اللّه عندهم إلا الإقرار بكونهما قرآنا و أنّه مذهب عبد اللّه؛انقطع الكلام و الخوض و قلّ خطره و درس ذكره،و زالت الشبهة عن الناس في هذا الباب، فلمّا نبغ الملحدون و المنحرفون و الطاعنون على القرآن و السّلف و نصبوا الحبائل و الغوائل في ذلك لأهل الإسلام و تطلّبوا لكفرهم و بدعتهم الأباطيل و التعاليل أكثروا و أعادوا و أبدوا بذكر سؤال زرّ لأبيّ عن ذلك،و سؤال من سأل أصحاب عبد اللّه عن هذا الباب،و خيّلوا للناس أنّ كلّ من سأل عن ذلك فإنّما كان يسأل لدفعه أن يكون قرآنا،/و لظهور شكّ الناس في ذلك[196] و نزاعهم و تشاجرهم فيه،و ليس الأمر في ذلك على ما أوهموا به،و إنّما قصدهم الطعن على الشريعة و القدح في نقل القرآن فقط،فأمّا أن يكون على أحد من الصحابة و التابعين شكّ في أنّ المعوّذتين من كلام اللّه تعالى و وحيه و ممّا أنزله على رسوله صلى اللّه عليه فمعاذ أن يكون ذلك كذلك.
فإن قالوا:فلم زعمتم أنّه ليس في شيء مما ذكرتموه،و قلتم إنّه هو الذي طرق سوء التأويل على عبد اللّه،ما يدلّ على أنّه لم يكن معتقدا لجحد المعوّذتين و إنكاره أن يكون من كلام اللّه تعالى؟ قيل لهم:يدلّ على ذلك أنّ إسقاطه للمعوّذتين من مصحفه يحتمل أمورا غير جحده لكونهما قرآنا و كلاما للّه تعالى،فمنها:أنّه يمكن أن يكون إنّما لم يثبت الحمد و المعوّذتين في مصحفه لشهرة أمرهما في الناس و كثرة الحفّاظ لهما و دوام الصلاة بالحمد و المعوّذتين في كل ليلة،و كثرة تعوّذ الناس بالناس و الفلق،و اعتقاده أنّ حفظهما و حفظ الحمد في الناس فاش ظاهر لا يحتاج معه إلى إثباتهما و تقييدهما بالخطّ،فدعاه ذلك إلى ترك إثبات هذه السورتين.
ص: 317
و يمكن أيضا أن يكون إنّما لم يكتبهما و لا الحمد لأنّه لم ير قطّ رسول اللّه صلى اللّه عليه أكتبهنّ أحدا و لا أمر بكتابتهن،و لا اتفق أنّه بلغه ذلك من وجه يوجب العلم عنده،و رآه صلى اللّه عليه قد كتب جميع سور القرآن، و أمر بأن تكتب فكتب منه ما كتّبه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم و كتب بحضرته و أمر بأن يكتب،و لم يكتب الحمد و المعوّذتين،لأنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه لم يكتبها،فتكون شدّة إيثاره للاتباع و ترك الإحداث في القرآن لما لم يفعل رسول اللّه صلى اللّه عليه هو الذي حداه على ذلك،و هذا غاية التشدّد،و أدلّ الأمور على الورع،و يكون باقي الناس،إنّما كتبوا هذه السورة لعلمهم بأنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه كتبهن كما كتب غيرهن.
[197]فإن قال قائل:هذا الذي قلتم ممّا/لم يذكر و لا روي عن عبد اللّه.
يقال لهم:يمكن أن يكون لم يقل ذلك كلّه لأنّه لم يسأل عنه،لأنّ الناس لما سمعوه-مع ترك كتابته هذه السورة-يقرؤهن و يصلّي بهنّ، و يديم الصلاة بهنّ و الدرس لهنّ،و إن كان لا يفردهنّ في الصلاة و لا في الدّرس:زالت عنهم الشّبهة في أن يعتقد كونهنّ قرآنا،فلم يباحثوه عمّا دعاه إلى ترك كتابتهن في مصحفه،و هذا جائز ليس ببعيد،و إذا احتمل ترك كتابة هذه السورة ما وصفناه بطل التعلّق بهذا الباب.
و يجوز أيضا أن يكون عبد اللّه إنما لم يكتب الحمد و المعوّذتين في مصحفه على خلاف ترتيب إثباتها في مصحف عثمان،بل كان يرى أن يثبته على تاريخ نزوله،فلمّا رتّب ذلك لنفسه كره أن يقدّم على سورة في المصحف السّور التي أنزلت قبلها على ما أوجبه التاريخ و ترتيب مصحفه، لأجل تسمية رسول اللّه صلى اللّه عليه و جمع الأمّة الحمد فاتحة الكتاب و أمّ الكتاب،فامتنع لذلك من أن يفتتح المصحف بغيرها لئلا يخالف السّنّة في
ص: 318
هذه التسمية و يؤخّر كتابة ما هو الفاتحة،و كره أيضا مع ذلك أن يثبتها في أول المصحف مقدّمة على ما نزل قبلها،فيكون بذلك كاتبا لها على غير تاريخ النزول،و مفسدا به ما أصّل كتابة مصحفه عليه،فترك لأجل ذلك أن يكتبها لا لأجل جحده أن تكون قرآنا منزلا،فلمّا فعل ذلك في الحمد الذي هو فاتحة الكتاب فعل مثله في الخاتمة،لاعتقاده أنّه قد نزل بعد نزول الناس و الفلق شيء من القرآن،فكره أن يختم بذلك النازل الذي هو آخر ما نزل لأنّ السّنّة غير ذلك،و كره أن يثبت الناس في خاتمة مصحفه فيكون قد قدّم على الناس و الفلق في الرسم ما هما قبله في النزول،فيفسد أيضا بذلك تأليف مصحفه على التاريخ الذي عمل عليه،و إذا احتمل الأمر ما وصفناه لم يجب حمل ذلك منه على جحد ما ترك رسمه و كتابته و إن كان عنده كونه قرآنا منزلا/.[198] فإن قال القائل:ما قلتموه في الخاتمة من التأويل إنّما يتم لكم في الناس التي هي الخاتمة،فما باله لم يثبت الفلق-و هي سورة منفصلة عنها- على تاريخ نزولها؟ قيل له:يمكن أن يكون إنّما فعل ذلك لأنّه لم يسمع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم قطّ يتلو الناس مفردة منفصلة من الفلق،و لا رأى أحدا يكتبها مفردة عنها،فرأى أنّ السّنّة في إثباتها ما فعله رسول اللّه صلّى اللّه عليه من الجمع بينهما في الرسم،و ذلك كان عنده ناقضا لتأليف مصحفه أو فعله،فلم يفعله،أو لأنّه رأى أنّ السّنّة في إثبات هاتين السورتين في الوصل بينهما كالسّنّة في تلاوة الرسول لهما،فلم يجب أن يفرّق بينهما في الرسم و لا أن يختم بهما جميعا مصحفه،و قد نزل قبلهما قرآن غيرهما،و إذا كان ذلك كذلك بطل ما سأل عنه السائل.
ص: 319
و قد يحتمل أيضا أن يكون إنما ترك كتابة الحمد في مصحفه لأجل أنّه كان المستحبّ المندوب إليه عنده أو من سننه هو و عادته أن لا يقرأ شيئا من القرآن إلا قرأ قبله سورة الحمد،فإذا قطع القراءة و أخذ في عمل غيرها ثم أراد العود إليها ابتدأ أيضا بالحمد من حيث قطع،ثم كذلك أبدا كلّما قطع و ابتدأ،و رأى مع ذلك أن المستحبّ في كتابة القرآن من هذا مثل المستحبّ منه في تلاوته،و لم يمكنه التبتّل لكتابة مصحفه من أوله إلى آخره دفعة واحدة من غير قطعه و تشاغل بعمل غيره،و أن يستكتب له كتّابا يكتبه له على هذه السبيل،و هو مستسلم يحتاج إلى إقامة صلاته و أكل ما يقيم رمقه و غير ذلك مما تمسّ الحاجة إليه و يقطعه الاشتغال به عن كتابته للمصحف،فرأى عند ذلك أنّه يجب أن يكتب الحمد في كلّ موضع قطع عند الكتابة ثم يصلها بما بعد الذي انتهى إليه،فيحتاج أن يكتبها في مواضع كثيرة من المصحف، و في ذلك نقض لتأليف المصحف و إفساد له،فعدل لأجل ذلك عن إثبات [199]الحمد/جملة،و روي عن إبراهيم النخعيّ (1)أنّ عبد اللّه بن مسعود كان لا يكتب فاتحة الكتاب،و يقول له:«لو كتبتها لكتبتها في أوّل كلّ شيء»، يعني بذلك أنّه كان يكتبها عند كل شيء ابتدأ به بعد قطع ما قبله على ما قلناه من قبل،و أن يكتبه في أول كل جزء إذ قسّم المصحف و جعله أجزاء مفردا، و ذلك نقض لتأليف المصحف،فهذا إن صحّ عنه يدلّ على أنّ الأمر في ذلك كان عنده على ما تأوّلناه.
و في الجملة فإنّنا قد علمنا أنّ عبد اللّه بن مسعود لم يكتب الحمد في مصحفه،و جاءت بذلك الأخبار عنه كمجيئها بأنّه لم يكتب المعوّذتين في).
ص: 320
مصحفه،و قد علم و تيقّن أنّ عبد اللّه لم يكن ينكر كون الحمد قرآنا منزلا، و أنّه كان يعتقد هو و كلّ مسلم إكفار من جحد كونها من القرآن،و كيف لا يكون ذلك كذلك و أمرها أظهر و أشهر و أقاويل الرسول صلى اللّه عليه فيها أكثر منه في غيرها،و هو يراه و يسمعه و يصلّي بها في اليوم و الليلة يبيت مرات يجهر بقراءتها فيها و يداوم عليها،و يسمع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم يقرؤها و يحثّ على تعلّمها و حفظها و يعظّم شأنها و يعيد و يبدي بذكر فضلها.
و روى أبو هريرة قال:قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و قد قرأ عليه أبيّ ابن كعب أمّ القرآن فقال:«و الذي نفسي بيده ما أنزل اللّه جلّ و عزّ في التوراة و لا في الإنجيل و لا في الزّبور و لا في القرآن مثلها،إنّها السبع من المثاني» (1)،و روى أبو هريرة أيضا عن النبيّ صلى اللّه عليه أنّه قال:«هي فاتحة الكتاب،و هي السبع المثاني و القرآن العظيم» (2)،و روى الحسن عن النبيّ صلى اللّه عليه أنّه قال:«من قرأ فاتحة الكتاب فكأنّما قرأ التوراة و الإنجيل و الزّبور و الفرقان» (3).».
ص: 321
و روى أيضا ابو هريرة عن النبيّ صلى اللّه عليه أنّه قال:«يقول اللّه سبحانه:
قسمت الصلاة بيني و بين عبدي نصفين،نصفها لي و نصفها لعبدي،و لعبدي [200)ما سال،يقوم العبد فيقول:/الحمد للّه رب العالمين،فيقول اللّه تعالى:
حمدني عبدي،و يقول العبد:الرحمن الرحيم،فيقول اللّه:أثنى عليّ عبدي،و يقول العبد:مالك يوم الدين،فيقول اللّه تعالى:مجّدني عبدي، و يقول العبد:إيّاك نعبد و إيّاك نستعين،فيقول اللّه تعالى:هذه بيني و بين عبدي:أوّلها لي و آخرها لعبدي،و له ما سأل،و يقول العبد:اهدنا الصراط المستقيم إلى آخرها،فيقول اللّه تعالى:هذا لعبدي،و لعبدي ما سأل» (1).
في نظائر لهذه الأخبار وردت في تعظيم شأن الحمد و فضيلتها،و النصّ على كونها قرآنا،فقد أصارها إلى ما هي عليه من الظهور،فلا شبهة على عبد اللّه بن مسعود و لا على غيره في كفر من أنكرها و جحدها،و عبد اللّه مع ذلك يترك كتابتها في مصحفه لوجه ما،فكذلك يجب أن يكون إنّما ترك كتابة الناس و الفلق لوجه ما.
و روى أبو عبيد عن إسماعيل بن إبراهيم (2)عن أيوب (3)عن ابن سيرين قال:«كتب أبيّ بن كعب في مصحفه فاتحة الكتاب و المعوّذتين،و اللّهمّ إنّاه.
ص: 322
نستعينك،و اللّهمّ إيّاك نعبد،و تركهنّ ابن مسعود،و كتب عثمان منهم فاتحة الكتاب و المعوّذتين»،و روى الشّعبيّ عن ابن عوف (1)عن محمد بن أبيّ بن كعب:«كتب أبيّ خمس سور في المصحف،فاتحة الكتاب و المعوّذتين، و اللّهم إنّا نستعينك،و اللّهمّ إيّاك نعبد،و لم يكتبهنّ ابن مسعود،فلمّا جمع ابن عفّان المصحف كتب ثلاثا و أخّر اثنتين،فاتحة الكتاب و المعوّذتين، و أخّر اللّهمّ إنّا نستعينك،و اللّهمّ إيّاك نعبد».
فمن ظنّ بعبد اللّه أنّه إنما أسقط المعوّذتين من مصحفه لكونهما غير قرآن عنده لزمه مثل ذلك في إسقاطه الحمد من مصحفه،و من اتّهم عبد اللّه بذلك و قذفه به و اعتقد فيه فليس هو عندنا بمحلّ من يكلّم في العلم و لا ممّن يرجى فهمه و استدراكه.
فأمّا ترك عبد اللّه لإفرادهما في درسه و إفرادهما/في الصلاة بهما إذا[201] صلى و يملأ وقته أبدا في الصلاة و الدرس بغيرهما،إن كان فعل و ثبت من اختياره فإنّه لا يدلّ أيضا على أنّه كان لا يعتقدهما قرآنا منزلا،لأجل أنّه قد يعتقد أنّ السّنّة و الفضل و الاختيار في أن لا يفردهما في الدرس و لا في الصلاة،لأنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه لم يفعل ذلك فيما رواه و سمعه.
و قد كان مجاهد فيما ذكر عنه يكره ذلك،و روى يحيى بن[أبي] بكير (2)عن إبراهيم بن نافع (3)قال:سمعت سليما مولى أم علي أنّ مجاهدا).
ص: 323
كان يكره أن يقرأ بالمعوّذات وحدها حتى يجعل معها سورة (1)،و لم يجب لأجل ذلك أن يكون مجاهد منكرا لكون المعوّذتين قرآنا،و كذلك عبد اللّه، إن ثبت ذلك عنه،و قد قال الشافعيّ:إنّه لا يقتصر في الأربع ركعات على فاتحة الكتاب وحدها،و لم يدلّ ذلك على أنّها ليست بقرآن عنده و كذلك حكم الناس و الفلق عند عبد اللّه و مجاهد في أنّهما لا يفردان في الصلاة و الدرس عن غيرهما،و لا يقرءان إلا متّصلتين بسواهما،و إن كانتا من القرآن المنزل على رسول اللّه صلى اللّه عليه،و إذا كان ذلك كذلك بطل ما التأوّل عليه في إخراج المعوّذتين من كلام اللّه تعالى بهذا الضرب من التأويل.
و أمّا جوابه لمن قال له:«إنّ العوذ من القرآن»بأنّها ليست من القرآن، فإنّه ردّ يدلّ على إنكاره إن كان قد سئل عن ذلك في عوذة ليست من القرآن،و قال ذلك لأنّه لم يسأل عن العوذة التي هي الفلق و النّاس أو هما، و إنّما سئل عن عوذة ليست من القرآن،و ليس كلّ عوذة رويت عن النبيّ صلى اللّه عليه و سلّم من القرآن،و كان يجب لمتوهّم ذلك على عبد اللّه أن يتأمّل ما الذي يسأل عنه من العوذ و أن يستفهم عبد اللّه:أيّ عوذة أنكرت كونها من القرآن؟ الناس و الفلق أم غيرها؟و لا يتسرّع إلى اعتقاد الباطل فيه بالتوهّم و الظنّ، [202]فبطل أيضا التأوّل/عليه بهذا الجواب و إن كان قد وقع منه.
و أمّا التأويل عليه في جحدهما و إنكارهما بمنعه تسميتهما قرآنا-إن كان قد امتنع من ذلك-فإنّه أيضا باطل،لأنّ اللّه تعالى لو نصّ لنا أو رسوله عليه السلام على أن لا يسمّى يوسف و الرعد قرآنا لوجب أن لا يسمّيها بذلك لأجل السمع و الاتباع،و إن لم يدلّ تركنا لهذه التسمية على اعتقادنا أنّهما).
ص: 324
ليستا من القرآن،فكذلك سبيل من تأوّل تأويلا أدّاه إلى الامتناع من تسمية المعوّذتين قرآنا في أنّه لا يجب بهذا القدر أن يعتقد فيه إنكار كونهما قرآنا، و سواء غلط و توهّم في ذلك الاجتهاد أم أصاب و صحّح.
فأمّا تعلّق عبد اللّه في منع تسميتها قرآنا و غيرها برواية أبيّ عن النبي صلى اللّه عليه أنّه قال لمّا سأله:أ من القرآن هما؟:«قيل لي:قل،فقلت»، فإنّه لا تعلّق في ذلك لعبد اللّه و لا لأبيّ و لا غيرهما من كلّ من توهّم ذلك، لأنّ قول الرسول صلى اللّه عليه:«إنّما قيل لي:قل،فقلت»،ليس بنفي لتسميتهما قرآنا،بل هو تنبيه منه على أنّه قرآن،قيل له:«قل،و اقرأ على حسب ما أوحي إليك و قيل لك)،و لو كان قول اللّه تعالى له في السورتين:
(قل)و إخبار الرسول بأنّه أقرّ بذلك دلالة على أنّهما ليستا من كتاب اللّه لوجب أن تكون هذه سبيل كلّ موضع قيل له:قل.
و قد قال اللّه سبحانه لنبيه: قُلِ اللّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [الزمر:46]،و قال:
فَإِنْ أَعْرَضُوا 1فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً [فصلت:13]و قُلِ اللّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ [آل عمران:26]في نظائر لهذه الآيات قد قيل له صلى اللّه عليه في جميعها:(قل)،و لم يصيّر ذلك شبهة لأحد في أنّها ليست بقرآن،و لا ممّا يجب أن يسمّى قرآنا،و كذلك قوله: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ لا يدلّ على ذلك،و قول الرسول صلى اللّه عليه:«قيل لي:قل..»ليس فيه تصريح بأنّ ما قيل/له فيه:(قل)[203] ليس بقرآن و لا تنبيه على ذلك أيضا،فبطل التأويل في إخراج المعوّذتين عن أن تكون قرآنا بهذه الرواية و هذا الجواب من رسول اللّه صلى اللّه عليه.خ.
ص: 325
روى عبد اللّه بن محمد بن أبي شيبة (1)عن حسين بن علي (2)عن زائدة (3)عن عاصم عن زرّ بن حبيش قال:قلت لأبيّ:إنّ ابن مسعود لا يكتب المعوّذتين في مصحفه،فقال:«إني سألت عنهما النبيّ صلى اللّه عليه فقال:«قيل لي:قل،فقلت»،فقال أبيّ:نحن نقول كما قيل لنا»،و قد علم أنّ أبيّا مع ذلك و مع قوله:«فنحن نقول كما قيل لنا»قد كتب المعوّذتين و لم يعتقد خروجهما عن كلام اللّه جلّ و عزّ و لا منع تسميتها قرآنا،و هو الأصل في هذه الرواية،فوجب أنّه لا تعلّق لأحد فيها مع نفي كون المعوّذتين قرآنا، و لا في من تسميتها بذلك.
فأمّا ما روي من حكّ عبد اللّه للمعوّذتين من المصحف فإنّه بعيد، و يجب أن يكون ذلك إنّما روي عنه عن طريق الظنّ به و التوهّم عليه،لأنّه لو كان من عبد اللّه حكّ المعوّذتين من المصحف ظاهرا مشهورا معلوما لم يخل ذلك الحكّ الذي كان منه و ظهر من أن يكون حكّا لهما من مصحفه و مصاحف أصحابه التي انتسخت منه أو من مصحف عثمان و فروعه التي انتسخت منه،فإن كان ذلك إنّما كان حكّا من مصحفه،فذلك باطل،لأنّه لم يلفهما ثابتتين من مصحفه و لا كتبهما،فكيف يمحوهما منه!و كذلك سبيل فروع مصحفه.).
ص: 326
و إن كان إنّما حكّهما من مصحف عثمان أو بعض فروعه فذلك أمر عظيم و خطب جسيم و عمل لنفسه على خطّه من الخلاف الشديد و شقّ العصا،و قد علم أنّ ذلك لم يكن مما يتهيّأ لعبد اللّه بن مسعود،و لأنّه لو كان منه لعظم الخطب بينه و بين عثمان و الجماعة و يجري في ذلك ما تشيب منه النواصي،و ما يجب أن يهجم علمه على نفوسنا فيلزم قلوبنا،و في عدم العلم بذلك دليل على أنّ ذلك لم يكن من عبد اللّه.
و إن كان إنّما فعل ذلك سرا و في خفية عن الناس في بعض المصاحف فقد دلّ هذا الخوف منه/أنّ أمر المعوّذتين في المسلمين مشهور ظاهر،و أنّه[204] لا يمكن لمسلم أن يكاشف بإنكارهما أو حكّهما من المصحف،و عبد اللّه أولى الناس بعلم ما عرفه المسلمون و إنكار ما أنكروه،على أنّه إن كان قد فعل ذلك فمن ذا الذي رآه منه و خبّر به عنه و هو قد استسرّ بذلك؟!و إن كان قد استسرّ بين جماعة يعلم أنّه لا يكتم عليه ما يظهرهم عليه من أفعاله و أقواله فليس ذلك بسرّ منه،بل يجب أن يكون ظاهرا عنه،و إن كان قد استسرّ به بحضرة الواحد و الاثنين ما يجب أن تضيف إلى عبد اللّه ذلك و يقطع عليه و من دينه بخبر واحد و من جرى مجراه ممّن لا يوجب خبره علما و لا يقطع عذرا،فيجب إذا كان ذلك كذلك إبطال هذه الرواية عنه.
و قد روي عن عبد اللّه أنّه كان يحكّها بلفظ الواحد دون التثنية،و هذه الرواية خلاف رواية من روى:كان يحكّهما،فلعل بعض المنحرفين زاد فيه ميما،أو لعلّ بعض الرواة توهّم ذلك،أو لعلّ بعض الكتبة غلط فزاد ما يدلّ على الكناية عن الاثنتين و هذا ليس ببعيد،و قد روى عبد الرحمن بن زيد (1)).
ص: 327
قال:«كان عبد اللّه يحكّها و يقول:لا تخلطوا به ما ليس منه» (1)يعني المعوّذتين،و هذا تفسير الراوي ليس هو النصّ من عبد اللّه على ذلك فيحتمل أن تكون التي حكّها هي الفواتح و الفواصل التي لا يجوز عنده أن تكتب في المصحف على ما رويناه عنه و عن غيره في باب الكلام في بسم اللّه الرحمن الرحيم،فهذه الرواية التي ليس فيها لفظ التثنية تقوّي ما قلناه من تأويل ذلك عليه أو توهّمه،فقد روي عن عبد اللّه بن مسعود أنّه رأى خطأ في مصحف فحكّه و قال:لا تخلطوا به غيره»،فيمكن أن يكون من رآه يحكّ لم يره يحكّ الخط،و قد كان سبق علمه بأنّه لا يكتب المعوّذتين فتسرّع إلى أنّه كان يحكّ المعوّذتين،فروى على التأويل أنّه كان يحكّهما.
على أنّه لو روي بلفظ التثنية أنّه كان حكّهما لاحتمل ذلك التأويل، [205]فيحتمل أن يكون كان يحكّ/حرفين و قراءتين لم يثبتا عنده،و كلمتين قد كتبتا ملوّنتين،أو على وجه لا يجوز عنده.
و يحتمل أيضا أن يكون المراد بلفظ التثنية أنّه كان يحكّ الفاتحة و الخاتمة،فعبّر عن جنس الفاتحة و الخاتمة اللتين كان يكتبهما بعض الناس).
ص: 328
بلفظ التثنية،و قد رويت أخبار بأنّه كان يحكّهما ليس فيها ذكر المعوّذتين، و إذا كان ذلك كذلك حمل الأمر فيما روي عنه على ما وصفناه على بيانه.
و لو ثبت عنه بنصّ لا يحتمل أنّه كان يحكّ الناس و الفلق من المصحف لاحتمل ذلك تأويلات عن إنكاره أن يكونوا قرآنا،فمنها أن يكون إنّما حكّهما لأنّه لم ير رسول اللّه صلى اللّه عليه كتبها بحضرته،و لا أمر بذلك فيهما،فاعتقد لهذا أنّ السّنّة فيهما أن لا يكتبا.
و منها أن يكونا قد كتبا في بعض المصاحف في غير موضعهما الذي يجب أن يكتبا فيه و أن يكون الذي كتبهما حيث تيسّر له و إلى جنب البقرة لمّا حفظها،فحكّهما و أراد بقوله:«لا تخلطوا به ما ليس منه»:التأليف الفاسد الذي ليس منه،دون ذاتي السورتين.
و منها أن يكون قد رآهما كتبتا بزيادة و نقصان و ضرب من التغيير فحكّهما لما لحقهما في الرسم ممّا يفسد نظمهما و ترتيبهما و قال:«لا تخلطوا به ما ليس منه»يعني:فساد نظمها و ترتيبهما،و لم ير في ذلك شيئا لحقه الفساد و التغيير غيرهما فخصّهما بالذكر لهذه العلّة.
و منها أن يكون إنّما حكّهما لأنّه كان من رأيه أن لا يثبت القرآن إلا على تاريخ نزوله،و أنّه يجب لذلك إسقاط رسم فاتحة الكتاب و المعوّذتين لأنّهما قد جعلتا خاتمتين في التلاوة،و تقديم نزولهما يمنع من تأخيرهما في الرسم و إن تقدّم عليهما ما نزل بعدهما،فحكّهما لذلك و قال:«لا تخلطوا به ما ليس منه»،يعني بذلك إن ختموه في القراءة و التلاوة بهذه الخاتمة و افتتحوه بالفاتحة،و لا تكتبوهما على غير تاريخ نزولهما.
و إذا كان ذلك كذلك و احتمل حكّهما ما وصفناه بطل من زعم أنّه يجب حمل هذا الفعل منه على جحد المعوّذتين و إنكار كونهما قرآنا،و في بعض
ص: 329
[206]هذه الجملة دلالة باهرة واضحة على/أنّ هذه الأخبار متكذّبة على عبد اللّه بن مسعود لا أصل لها،أو محمولة متأوّلة على ما قلناه دون الجحد و الإنكار منه لكونهما قرآنا،و أنّه لا خلاف بين سلف الأمّة في كون المعوّذتين قرآنا منزلا و كلاما للّه تعالى،و أنّ النقل لهما و العلم بهما جار مجرى نقل جميع القرآن في الظهور و الانتشار و ارتفاع الرّيب في ذلك و النزاع.
و أمّا اعتراضهم بأنّه لو كان نقل القرآن ظاهرا مشهورا عندهم لم يحتج أبو بكر في إثبات ما جمعه منه إلى شهادة شاهدين عليه،و لم يشكّ زيد في آيات منه لمّا جمعه في أيّام عثمان؛فسنقول في ذلك قولا بيّنا عند القول في جمع أبي بكر القرآن و جمع عثمان الناس على مصحفه،و نجيب هناك عن جميع ما يسوغ التعلّق به إن شاء اللّه.
ص: 330
ذكر اعتراضهم في نقل القرآن بما روي عن النبيّ صلى اللّه عليه و سلّم
من قوله:«أنزل القرآن على سبعة أحرف،كلّها شاف كاف»، و وصف تواتر الأخبار بذلك،و ذكر تأويلها و اختلاف الناس في تفسيرها،و هل نصّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم للأمّة على جميعها و جملتها و تفصيلها و وقفهم على إيجابها على حسب نصّه و توقيفه على نفس القرآن و جميع ما ظهر من دينه من الأحكام أم لا،و وصف ما نختاره في هذه الفصول فإن قالوا:كيف يجوز لكم أن تدّعوا أنّ ظهور نقل القرآن،و ما يجب له و فيه،و أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه ألقى ذلك إلى من تقوم الحجّة بنقله و يجب العلم بخبره،و أنتم قد رويتم روايات كثيرة متظاهرة عن النبي صلّى اللّه عليه أنّه قال:«أنزل القرآن على سبعة أحرف،كلّها شاف كاف» (1)،ثمّ
ص: 331
أنتم مع ذلك مختلفون في تأويل هذه السبعة الأحرف و مدهشون في تفسيرها و لا تعرفون شيئا تحكونه عن النبيّ صلّى اللّه عليه فيها.
فإن كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه عندكم قد بيّن هذه الأحرف السبعة و نصّ عليها،و عرف أجناس اختلافها و ما هي،و كيف يجب أن يقرأ بها، [207]و أوضح ذلك و قطع العذر/فيه و أنتم مع هذا مختلفون في ذلك الاختلاف الكثير،فلا تجدون خبرا تروونه عن النبي صلّى اللّه عليه في تفصيل هذه الأحرف السبعة و النصّ عليها و التعريف لكل شيء منها،إمّا لانقطاع الخبر عن النبيّ صلّى اللّه عليه عن ذلك أو دثوره،أو لعناد الأمّة و غلط سائر النّقلة أو لغير ذلك،فما أنكرتم أن يكون رسول اللّه صلّى اللّه عليه قد نصّ على قرآن كثير شهر أمره و أعلن النصّ عليه و قطع العذر في بابه،و إن جاز أن يجهله بعض الأمّة و ينكره و يذهب عن معرفته،و جاز أيضا أن ينقطع ذكره و يعفو أمره و يهي نقله و يندرس ذكره،حتى يصير إلى حدّ ما لا يروى عن النبيّ صلّى اللّه عليه،و لا يذكر كما جرى مثل ذلك في اندراس ذكر تفصيل الأحرف.
و إن كان الرسول صلّى اللّه عليه عندكم لم يبيّن هذه الأحرف التي أنزل القرآن بها و جرت الأمّة في القراءة بأيّها شاءوا،و أمروا أن يعتقدوا أنّها كلّها منزلة من عند اللّه و مما لا يجوز ردّه و إنكاره و تسخّطه،و أنّ ذلك رخصة منه و تيسير على عباده و استصلاح لخلقه،و مما يجب أن يعلموا أنه منزل من).
ص: 332
وحيه و مشروع في دينه،أو بيّنها لآحاد و أفراد من أمّته لا يحتجّ بخبرهم و لا يقطع العذر نقلهم،فما أنكرتم أيضا من أنّه يجوز أن لا يبيّن كثيرا من القرآن الذي أوحي به إليه،و لا ينصّ عليه و لا يبلّغ كثيرا من فرائض الدّين و نوافله و ما شرع للأمّة معرفته و أن يصدف عن ذكره جملة،أو يثبته لآحاد و أفراد لا تقوم الحجّة بهم،و لا يوجب العلم خبرهم،كما صنع ذلك في الأحرف التي أمر بتعريفها و بلاغها و النصّ عليها.
قالوا:و هذا مما لا جواب لكم عنه،و هو من أدلّ الأمور على تخليطكم هذا،على أنّكم قد رويتم أيضا في هذه الأخبار تفسيرا لهذه السبعة الأحرف عن النبيّ صلّى اللّه عليه و الصحابة لا يجوز و لا يمكن أن تكون تفسيرا لها على قولنا و قولكم،لأنّكم رويتم أنّها تحليل و تحريم و وعد و وعيد و قصص و أمثال و أمر و نهي،و أنتم مع هذا ترون أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه قال:
«فاقرءوا كيف شئتم»،و قال فيمن قرأ عليه بالأحرف/المختلفة:«أصبتم[208] و أحسنتم»،و أنّه قال:«فبأيّها قرأتم فقد أصبتم و أحسنتم»،فيجب على قولكم و روايتكم هذه أن يكون من جعل مكان الأمر نهيا و موضع الوعيد وعدا و مكان القصص أمرا و نهيا فقد أصاب و أحسن و أجمل،و هذا جهل من قائله و خلاف دين المسلمين.
و كيف يكون أمر القرآن فيهم ظاهرا مشهورا،و قد رويتم في هذه الأخبار أنّ أبيّا و عمر بن الخطّاب و عبد اللّه بن مسعود نافروا هشام بن حكيم و غيره لمّا قرأ بخلاف قراءتهم و ردّوها حتى ترافعوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه فأقرّهم جميعا على ما قرءوا به،و شهرة القرآن توجب علمهم جميعا به.
ص: 333
ثم رويتم بعد ذلك كلّه ما ينقض ما رويتموه أولا!لأنّكم قد رويتم عن النبيّ صلى اللّه عليه و سلّم أنّه قال:«أنزل القرآن على أربعة أحرف» (1)،و أنّه قال مرة أخرى:
«أنزل القرآن على ثلاثة أحرف» (2)،و هذا ينقض أن يكون أنزل على سبعة أحرف.
و هذا كلّه يدلّ على أنّ أمر القرآن لم يكن مشهورا عندهم و لا كان عذرهم بيّنا منقطعا،و أنّهم لم يعلموا في جميع ما كانوا فيه على نصّ الرسول في ذلك،بل اجتهدوا و استحسنوا و استعملوا غالب الظنّ و الرأي و تغيّروا و تأمّروا و عدلوا عن معرفة الصواب و أخذ الأمر عن أهله،و من أمر بالرجوع إليه،و أن لا يفرّقوا بين الكتاب و بينه حيث قال لهم صلّى اللّه عليه:
«إنّي مخلّف فيكم الثقلين و ما إن تمسكتم به لم تضلّوا:كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي،ألا و إنّهما حبلان ممدودان و لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض» (3).).
ص: 334
قالوا:على أنّ في الخبر إحالة عن وجوه أخر،منها:
-أنّه لا يجوز أن يقال:أنزل القرآن على سبعة أحرف قبل نزول جميع القراءات الكاملة،و أنتم ترون أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه قال ذلك قبل موته بدهر طويل،فهذا إحالة منكم.
و منها:أنّ في الخبر ما يوجب إبطاله،لأنّه إذا نزل القرآن على سبعة أحرف أدّى ذلك إلى الاختلاف و النزاع و الهرج و الرّيب و الشكّ و إلى مثل ما رويتم أنّه جرى بين عمر/و هشام بن حكيم (1)و أبيّ و عبد اللّه بن مسعود مع[209] من سمعوه يقرأ بخلاف ما أقرأهما الرسول صلّى اللّه عليه حتى شكّ أبيّ و اضطرب على ما رويتم،و ذلك ما لا يجوز ردّه.
فيقال لهم:ليس في جميع ما وصفتم شيء يعترض على نقل القرآن و لا يوهنه و لا يوجب دخول زيادة فيه و لا نقصان منه،و لا تغيير له و لا إمكان ذلك فيه،و ليس الخبران اللذان يذكر فيهما أنّ القرآن أنزل على أربعة أحرف و ثلاثة أحرف مناقضين للخبر الذي فيه أنّ القرآن أنزل على سبعة أحرف، و ليس منافرة عمر بن الخطّاب لهشام بن حكيم،و منافرة أبيّ و عبد اللّه لمن نافراه و استشنعا قراءته بدليل على أنّ أمر القرآن نفسه و ما أنزل منه لم يكن ظاهرا معلوما عندهم،و كذلك ليس اختلافنا نحن اليوم في تأويل هذه السبعة الأحرف دليلا على أنّ نصّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه على نفس القرآن و تأليف آيات سوره لم يكن ظاهرا مشهورا،و نحن نبيّن ذلك بما يوضّح الحقّ إن شاء اللّه.).
ص: 335
فأمّا شهرة أمر القرآن نفسه و ظهور نصّ الرسول صلّى اللّه عليه على جميع ما أنزله اللّه على طريقة واحدة و وجه يوجب العلم و يقطع العذر،فقد بيّنّاه و أوضحناه من قبل بما يغني عن إعادته،و ليس يوجب ذلك عندنا على الرسول و لا في حكم التعبّد و الشريعة أن ينصّ الرسول لكافّة الأمّة أو من تقوم به الحجّة على كلّ حرف من تلك الحروف و الفصل بينه و بين غيره، و أن يوقفه على أنّ هذا الحرف الذي أقرأتك به أو الحروف التي أقرأتك بها هي من جملة الحروف السبعة التي أنزلها اللّه تعالى دون وجوه أخر قد كان أنزلها فيما سلف و مما نزل من القرآن،و وجوه قد كان يقرئ بها.
و لا يمتنع و لا يستحيل أن يكون الرسول عليه السلام قد أعلم في الجملة أنّ القرآن قد أنزل على سبعة أحرف و أوجه نصّ له عليها و على تفصيلها،و خيّر في أن يقرئ أمّته مجتمعين و متفرّقين كيف أحبّ و شاء على أيّ وجه سهل عليه و على الأخذ عنه و تيسّر له،و أن يقرئ واحدا منهم [210]جميع السبعة الأحرف في سور كثيرة من القرآن أو في جميعه و لا ينصّ/له على أنّ هذه الوجوه على السبعة الأحرف أو من السبعة الأحرف،و يقرئ آحادا منهم بواحد منها فقط و لا ينصّ له على أنّه أحد الأحرف السبعة،فيظنّ القارئ أنّ ذلك الوجه ليس هو من السبعة الأحرف،و يقرئ آخر باثنين منها أو ثلاثة و لا يعرّف ذلك كما لم يعرّف الواحد،فلا يخرج عليه السلام من الدنيا حتى يقرأ جميعها على هذه السبيل و إن لم يكن منه نصّ على تفصيلها لكلّ آخذ عنه و إن كانت قد حصلت لجميعهم و عرفت عندهم على السبيل الذي وصفناه،و أن يكون تعالى قد علم أنّ إلقاء هذه الأحرف و بيانها على هذه السبيل من الجملة دون التفصيل من أصلح الأمور للأمّة و أدعاها لهم إلى الإيمان و قبول القرآن و الحرص على حفظه و دراسته،و أنّه لو
ص: 336
جمعهم و نصّ لهم على تفصيل عدد هذه الأحرف و جنس اختلافها لنفروا عن طاعته و خالفوا رسوله.
و إذا لم يمتنع هذا ساغ أن يكون بيانه لهذه الأحرف لم يقع إلى كلّ واحد منهم و إلى جماعتهم مفصّلا مبيّنا بيانا يمكن أن يتقنه و يحكمه،و إن كان الرسول قد لقّن تلك السبعة الأحرف جميع الأمّة على سبيل ما وصفناه، حتى إنّه لم يبق منها حرف إلا و قد أقرأ به بعض أمته و نصّ على جوازه.
و نظير ذلك أنّ إنسانا منّا لو عرف قراءة السبعة الأحرف و علم ذلك من حاله و اتساع معرفته بالقراءات ثم آثر أن يقرئ الناس بالجائز من ذلك و أن لا يلقّن كلّ أحد حرفا مجرّدا على وجهه من هذه الأحرف لساغ له و جاز أن يقرئ بعض الناس بحرف أبي عمرو (1)و لا يعرّفه أنّه حرفه،و يقرئ آخر شيئا من القرآن بحرف ابن عامر (2)،و شيئا منه بحرف عاصم و يقرئ آخر شيئا بحرف حمزة (3)،و شيئا بحرف ابن كثير،و شيئا بحرف يعقوب الحضرمي (4)،ثم لا يعرّفه تفصيل هذه الحروف بل يعلّمه أنّ ذلك كلّه شائع).
ص: 337
جائز و أنّه حقّ و صواب:لكان ذلك من فعله حسنا جائزا و لا سيّما إذا كان ذلك أسهل عليه و أيسر.
و إذا ظنّ أن أخذه على المتعلّم بالجائز أقرب عليه و أسهل و أن تجويز [211]إقرائه/بحرف على وجهه مما يشقّ و يصعب و ينفّره عن الحفظ و الضبط؛ فكذلك الرسول عليه السلام إذا خيّر في إقراء الناس بالسبعة الأحرف المنزلة عليه و جعل له فعل الأخفّ عليه،و لم يؤخذ عليه تفصيل تعريف ذلك الناس،و ظنّ أنّ إقراءهم بالجائز من ذلك أسهل عليهم و أيسر:جاز له له تلقينه على هذه السبيل و أن يقرئ ربع القرآن بحرف منها و يقرئ الربع الآخر بحرف آخر و يقرئ كلّ سبع منه بحرف من تلك السبعة،و يخلط ذلك فلا يفصّله تفصيلا تعرفه الأمة و الآخذون عنه حرفا من حرف،بل يظنون ذلك حرفا واحدا من السبعة يقرأ على وجهين و ثلاثة أو سبعة،أو حرفان منها يقرءان على تلك الوجوه.
و يجوز أن تكون هي كلّ السبعة قد أقرئوا بها شائعا في جميع القرآن، و يكون ذلك أصلح لهم و أنفع و أقرب إلى تحفّظهم و حرصهم و تسهيل دواعيهم على جميع القرآن و معرفة تأويله و أحكامه دون عدد حروفه، و تجريد كلّ حرف منه،غير أنّه لا بدّ في الجملة من أن يشتهر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم جملة ما أقرأ به من الحروف،إما بتلقّيه منه أو بالإخبار به عنه،و إن لم يعرف بذلك تفصيل السبعة الأحرف.
فإن قال قائل:فهذا الذي ذكرناه من إقراء الرسول و الصحابة على هذا الوجه يوجب أن تكون الصحابة غير عالمة بأنّ القرآن أنزل على سبعة أحرف و لا متّبعين لذلك:أنّها إذا لم تعرف و لا كلّ واحد منها تلك السبعة الأحرف و تفصّلها لم تكن عالمة بأنّه منزل على سبعة أحرف.
ص: 338
يقال له:لا يجب ما قلته لأجل أنّهم إذا ظهر بينهم نصّ الرسول صلّى اللّه عليه بأنّه منزل على سبعة أحرف و يكون ذلك على أسماعهم و عند التنازع و الترافع إليه و تواتر الخبر بذلك عنه على من لم يسمعه من فيه:حصل لجميعهم العلم بأنّه على سبعة أحرف،و إن لم يعرفوا تفصيل ذلك و ظنّوا أن بعضها إذا سمعوه و لم يكن تقدّم علمهم به ليس منها،و لهذا أن يعلم اليوم أكثر الناس بالخبر المتواتر أنّ للقرّاء السبعة سبعة أحرف يقرءونها لا يشكّون في ذلك،و إن لم يعرفوا تفصيلها و لم يحيطوا علما/بجميعها،و لم يعلموا[212] أنّ بعض ما يسمعونه يقرأ بشيء منها هو من جملتها،و كذلك أكثر الناس يعلم أنّ للرسول أحكاما كثيرة هي معظم دينه و جلّ شريعته،و إن لم يعرف تفصيلها،و لم يحفظ ألفاظ نصوصه صلّى اللّه عليه عليها،و جوّز إذا لم يكن من أهل هذا الشأن أن يكون بعض ما يحكى له من الأحكام و يذكر له فيه من الآثار ليس من جملة ما استقرّ في دينه و لا مما قاله و نصّ عليه.
و لهذه العلة بعينها ساغ لأبيّ و عمر بن الخطّاب و عبد اللّه بن مسعود أن ينكروا بعض القراءات التي سمعوها مخالفة لما لقّنوه من الرسول،لأنّهم لمّا لم يكن كلّ واحد منهم يحفظ جميع هذه الحروف و يحيط علما بتحصيلها و تفصيلها،و لم يكن من سمعوه يقرأ ممّن يوثق بضبطه و حفظه أو ممن يسكن السكون التامّ إلى رضائه و أمانته،ظنّوا به الغلط أو التحريف أو القراءة على المعنى أو التساهل في ذلك،و كان أمر القرآن عندهم أشدّ و أضيق من أن يقع فيه ضرب من التساهل أو التغافل،فلذلك خرج عمر و أبيّ و عبد اللّه إلى ما خرجوا إليه،و إذا كان ذلك كذلك بطل ما حاولوه من القدح في نقل القرآن متى لم يبيّن الرسول جميع هذه الأحرف و يفصّلها لكلّ الأمّة مجتمعين أو لكل واحد من الأمة،و زال جميع ما طالبوا به.
ص: 339
فإن قالوا:فإذا قلتم إنّ الرسول صلّى اللّه عليه لم يكن يبيّن لكلّ واحد ممّن يقرئه جميع الأحرف و الوجوه التي نزل القرآن عليها و يفصّلها لكل الأمة مجتمعين،و أنّه كان يقرئهم قراءة مختلفة من تلك الحروف و على سبيل ما تيسّر له:وجب أن لا تقوم الحجّة على الأمّة بكلّ حرف مما أقرأ به،و أن لا يتيقّن ذلك من دينه،و أن يجد الملحد و المعاند سبيلا إلى إدخال حرف و وجه في القرآن ليس هو مما أنزل على الرسول،و يعمل له إسنادا و طريقا و يضيفه إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و يدخل بذلك فيما أنزل اللّه تعالى من الوجوه ما لم ينزله،و يفسد القرآن و يوقع الشبهة و الإلباس على أهل [213]الإسلام،/كما زعمتم من قبل أنّه لو كان يبيّن بعض القرآن بيانا خاصّا لا تقوم به الحجّة لصار ذلك طريقا إلى أن يدخل في القرآن كلمات و آيات تقصر عن حدّ المعجز،و أن يضاف ذلك إلى الرسول أو أن يكون ذلك ذريعة إلى الشبهة و الإلباس،و هذا ما لا فصل لكم فيه.
يقال له:لا يلزم ما وصفته،لأنّنا قد قلنا من قبل إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و إن كان لم يبيّن تفصيل الحروف السبعة لكلّ واحد ممّن أقرأه و أخذ عنه و لا جمع الأمّة و وقفهم على ذلك،و أنّه كان يقرئ بما يسهل و ييسّر له و للمتعلّم منه،فإنّه لا بدّ أن يظهر عنه و يستفيض كلّ وجه و حرف قرأ به و أقرأه،إما بتكرّر سماع ذلك منه أو بالنّقل له عنه،و لا بدّ أن يبلغ الحديث و السماع في طول تلك السنين،و تكرير عرضه صلّى اللّه عليه القرآن على جبريل عليه السلام في كلّ عام،و عرضه إيّاه مرتين في العام الذي مات فيه،و تكرّر قراءته و إقرائه إيّاه و أخذه عنه مبلغا يظهر و يستفيض حتّى يزول عن الناس فيه الرّيب و الشكّ،و أنّه مما قرأه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و أقرأ به.
ص: 340
كما أنّه لا بدّ إذا بيّن الآية إذا نزلت عليه في منزله لأهله و قرابته و من حضره من الآحاد من أن يبيّنه أيضا لغيرهم و من أن يتحدّث بذلك عنه،و من أن يبلغه الحديث به عنه و دعوى نزوله له عليه،و أنّه ممّا ألقاه و بلّغه حتى يبلغ مبلغا يزول معه الرّيب و الشكّ في أنّه مما أنزل عليه و بلّغه،و إذا كان ذلك كذلك سقط ما ظننته و بطل ما حاولته.
و نظير هذا أنّنا إذا عرفنا عدالة رجل في وقتنا هذا و طهارته و شدّة تديّنه و حسن منسكه و علمه بقراءة الأئمة السبعة و أنه يقرئ الناس بها،غير أنّه لا يجرّد كلّ حرف منها و يفرد للأخذ عنه و لا يبيّن ذلك له و يفصّله و يقول له:
هذا حرف فلان و هذا حرف فلان و رواية فلان:لا يمتنع علينا مع ذلك أن نعلم أنّ الحروف و الوجوه التي يقرئ بها هي الأحرف السبعة المشهورة و يتيقنها،و إن كنّا لا نعرف تفصيلها و نعلم أنّه لم يفصّلها للآخذين/عنه،و أن[214] نعلم مع ذلك كذب من يكذب عليه و أضاف إليه القراءة بالشّواذ،و مما يستنكر و لا يجوز مثله و مما لم يقرئ به أحدا لأنّه و إن كان لا يجرّد لكلّ أحد عنه حرفا واحدا يقرئه جميع القرآن به،فإنّه مع ذلك قد اشتهر عند كلّ وجه و حرف مما يقرئ به و عرف من رأيه،فإذا أضيف إليه مع ذلك أنّه يقرأ أو كان يقرئ في أيّام حياته قراءة ابن شنبوذ و الشّواذّ المنكرة،و القراءة المرويّة عن السبعة علمنا بكذب ذلك عليه لشهرة ما كان يقرئ به عنه و العدول عمّا سوى ذلك،و إن كان يقرئ قراءة مختلطة ممتزجة من قراءة جميع الأئمة.
و كذلك الرسول إذا كان لم يمت حتى ظهر عنه و انتشر جميع الوجوه و الأحرف التي كان يقرئ بها و يداوم عليها و لا يقرئ بغيرها لم يسغ أن يتوهّم عليه متوهّم صحّة ما يروى عنه أنّ ما كان يقرئ به: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ(17) فإذا(قرأه)فاتّبع(قراءته)[القيامة:17]و أنّه كان يقرئ: وَ كَفَى اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ (بعليّ)[الأحزاب:25]،و أمثال هذا إذا كان قد ظهر و انتشر عنه جميع ما أقرأ به و ليس هذا من جملته،و إذا كان ذلك كذلك فقد بطل ما سألوا عنه بطلانا ظاهرا.
ص: 341
و كذلك الرسول إذا كان لم يمت حتى ظهر عنه و انتشر جميع الوجوه و الأحرف التي كان يقرئ بها و يداوم عليها و لا يقرئ بغيرها لم يسغ أن يتوهّم عليه متوهّم صحّة ما يروى عنه أنّ ما كان يقرئ به: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ(17) فإذا(قرأه)فاتّبع(قراءته)[القيامة:17]و أنّه كان يقرئ: وَ كَفَى اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ (بعليّ)[الأحزاب:25]،و أمثال هذا إذا كان قد ظهر و انتشر عنه جميع ما أقرأ به و ليس هذا من جملته،و إذا كان ذلك كذلك فقد بطل ما سألوا عنه بطلانا ظاهرا.
فأمّا قولهم:كيف يسوغ أن تدّعوا ظهور إقراء الرسول بهذه الوجوه و أنتم تختلفون في تفسيرها فإنّه لا تعلّق فيه،لأنّنا قد بيّنّا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه أقرأ بجميعها و ظهر منه ذلك،و أنّه مع هذه الحال لم يفسّر تلك الوجوه و يسمّي كلّ شيء منها باسم يخصّه،فنحن نعلم في الجملة أنّه منزل على سبعة أحرف و أنّ الرسول قد بلّغها و أقرأ بها و ظهرت عنه،و إن اختلف في تأويلها لعدم نصّه على التأويل و التفسير،كما أنّنا نعلم أنّ ما بلّغه قرآن من عند اللّه،و أنّه قد بيّنه و ظهر عنه و قامت الحجّة بأنّه كلام اللّه تعالى،و إن كنّا نختلف في تفسير كثير منه و نتنازع في تأويله الذي لم ينصّ لنا صلّى اللّه عليه و لا وقفنا عليه،فاختلافنا في تفسير الآية لا يمنعنا من العلم بأنّها قرآن، [215]و كذلك اختلافنا في تأويل/السبعة الأحرف و الأوجه لا يمنعنا من العلم أنّه منزل على سبعة أحرف،و أنّ الرسول صلّى اللّه عليه قد بلّغها و أقرأ بها، فبطلت بذلك شبهتهم باختلاف الأمّة في هذا الباب.
و أمّا قولهم:إنكم قد رويتم في تفسير هذه الأحرف ما لا يمكن و لا يجوز في صفة الرسول أن يفسّرها به،نحو رواية من روى أنّها:أمر و نهي و قصص و مواعظ و أمثال و حلال و حرام و نحو ذلك،و أنّه لا يجوز أن يكون الجاعل مكان الأمر نهيا و موضع الوعظ مثلا و مكان الوعد وعيدا:محسنا مصيبا،و أنتم قد رويتم أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه قال لكلّ مختلفين في هذه الأحرف:«أحسنتما و أصبتما»،و«هكذا أقرأتكما»،و الرسول عليه السلام يجلّ من هذه الصفة و يرتفع عن هذه الرتبة،بل يجب تبرئة أدنى المؤمنين
ص: 342
منزلة عن ذلك،فإنّه باطل لا تعلّق لهم فيه،و ذلك أنّ إخباره عليه السلام بأنّ القرآن منزل على سبعة أحرف و أوجه من القراءات كلّها جائزة و حسنة و صواب،لأنّها في الخبر،غير أنّه قد أنزله على سبعة أحرف هي أوجه أخر منها أمر و منها نهي و منها وعد و منها وعيد و منها قصص و أمثال و تحليل و تحريم،فلا تكون هذه السبعة هي التي إذا اختلف المختلفون فيها و جعلوا مكان كلّ شيء منها غيره فقد أحسنوا و أصابوا،بل لا يمتنع أن تكون هذه السبعة الأوجه و الأقسام قسما من السبعة الأحرف التي أنزل اللّه القرآن عليها، و باقي السبعة يصوّب المختلفون فيها سوى هذا الوجه،و لا يمتنع غير ذلك على ما سنشرحه فيما بعد إن شاء اللّه،و إذا كان ذلك كذلك بطل توهّمهم لتعارض هذين الخبرين،و إحالة هذا التفسير على الرسول عليه السلام.
و أمّا قولهم:إنّ روايتكم في هذا متناقضة لأجل أنّكم قد رويتم عن النبيّ صلّى اللّه عليه أنّ القرآن نزل على ثلاثة أحرف،و أنّه قال في خبر آخر:
«أنزل على أربعة أحرف»،فإنّه أيضا لا شبهة فيه لعالم و لا تعلّق،و ذلك أنّ أوّل ما في هذا الباب أنّ الثلاثة و الأربعة/داخل في السبعة،فيمكن أن تكون[216] هذه الأحرف أنزلت أولا فأوّل،و أنزل منها ابتداء ثلاثة فقط،ثم زيد الرسول عليه السلام رابعها،ثم زيد ثلاثة فصارت سبعا،هذا غير ممتنع لو لا أنّ في لفظ إخبارنا بأنّه أنزل على سبعة ما يمنع هذا التأويل،و لكن لهم من الزيادة ما لم يدخلوه في شيء من اعتراضهم،و هو أنّ في كثير من الروايات أنّ الملك قال:على حرف أو حرفين؟فقال الملك الذي معي عن شمال:على حرفين،فقال الملك:على حرفين أو ثلاثة؟فقال:على ثلاثة،إلى أن بلغت سبعة أحرف،و هذا اللّفظ يقتضي أن يكون قد أقرئ بالسبعة جملة، و شرع له ذلك في مجلس واحد،على أنّه يحتمل أن تكون بعض تلك
ص: 343
الأحرف السبعة يقرأ على ثلاثة أوجه كلّها جائزة،و بعضها يقرأ على أربعة أوجه تسمّى أحرفا كلّها جائزة،فيكون قوله:أنزل على أحرف و أربعة أحرف منصرفا إلى وجهين من وجه القراءات السبعة،يقرأ أحدهما على ثلاثة أوجه و الآخر على أربعة أوجه،و إذا كان ذلك كذلك بطل ما توهّموه من التعارض.
و يحتمل أيضا أن تكون الثلاثة الأحرف و الأربعة اللاتي خبّر في هذين الخبرين و أنّ القرآن أنزل عليها غير الأحرف السبعة التي خبّر فيها،و ليس يمتنع أن ينزل القرآن على سبعة أحرف و ينزل أيضا على أربعة أحرف و ثلاثة أوجه أخر غير الأربعة و غيّر السبعة على ما نبيّنه فيما بعد،و إذا كان ذلك كذلك سقط ما توهّموا من تعارض هذه الأخبار و تنافي موجبها.
و أما قولهم:كيف يكون أمر القرآن ظاهرا مشهورا و عمر و أبيّ و عبد اللّه يناكرون من قرأ خلاف قراءتهم و ينافرونه و يرافعونه إلى الرسول،و قد قلنا في ذلك من قبل ما يغني عن إعادته،و هو أنّ الرسول كان يقرئهم قراءة من وجه من السبعة الأحرف،و لم يكن كلّ واحد منهم يعرف جميعها و لم تكن [217]الأخبار/بذلك ظهرت و استفاضت بجميع ما يقرئه الرسول على الأوقات، فلذلك أنكروا خلاف ما لقّنوه عن الرسول.
و يحتمل أن يكون الرسول كان يقرئ عمر و أبيّا و عبد اللّه بوجوه و أحرف جائزة قبل نزول هذه السبعة الأخر التي خبّر الرسول عنها،ثم نزلت هذه الأحرف و أقرأ بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وقت نزولها أو يوم ذلك، و لم يكن انتشر عنه،فلمّا سمع القوم ذلك أنكروه و احتاجوا إلى البحث عنه و سؤال الرسول عن صحّته.
و يحتمل غير هذا ممّا لعلّنا أن سنذكره فيما بعد إن شاء اللّه،و إذا كان ذلك كذلك بطل قدحهم في ظهور نقل القرآن بإنكار هذه الفرقة ما لم يكن
ص: 344
تقدّم سماعها له،و لم يمرّ من الزمان و تطاول الوقت ما يقتضي ظهوره و حصول الغنى عن السؤال عنه،و هذا يبطل جميع ما عوّلوا عليه و موّهوا به في نقل القرآن و عدم قيام الحجّة.
فإن قال منهم قائل:إنّ في خبركم هذا إحالة و تناقضا ظاهرا من وجه آخر،و هو أنّه قد ثبت و علم أنّ القرآن لم ينزل على الرسول صلّى اللّه عليه جملة واحدا و إنّما نزل في نيّف و عشرين سنة،و أنّه لم يتكامل نزوله إلا عند تقارب وفاة الرسول صلّى اللّه عليه و آخر عهده بالدنيا،و هذا الخبر الذي رويتموه لا شكّ أنه قد قاله قبل موته بدهر طويل و قبل نزول كثير من القرآن، فهذا تناقض بيّن.
يقال له:لا يجب ما قلته،لأنّ من الناس من يقول:إنّ هذا الظاهر لا يقتضي أكثر من أن يكون في القرآن كلمة واحدة أو اثنتين تقرأ على سبعة أوجه،فإذا حصل ذلك فيه وفّي الخبر حقّه و موجبه،و منهم من يقول:ذلك إنّما يستعمل إذا قرئ جملة القرآن أو كثير منه على سبعة أحرف و أوجه، و هذا هو الذي نختاره،و سندلّ على ذلك فيما بعد إن شاء اللّه.
و إذا كان ذلك كذلك و لم ينكر أن يكون النبيّ صلّى اللّه عليه قد قال هذا القول بعد أن نزل شطر/القرآن أو ثلثاه أو ستة أسباعه:ساغ أن يقال إذ ذاك[218] إنّه منزل على سبعة أحرف،و يعني بذلك صلّى اللّه عليه هذا الذي نزل، و يكون جبريل عليه السلام قد أخبره أنّ قدر ما نزل عليك هو معظم القرآن و كثيره،و أنّ ما ينزل عليك فيما بعد قليل بالإضافة إليه،فيحسن لذلك، و جاز أن يقال:أنزل القرآن على سبعة أحرف لأنّ معظمه قد أنزل كذلك، فبطل بذلك ما قلتموه.
ص: 345
و لو حمل الأمر في هذا على أنّ قوله:أنزل القرآن على سبعة أحرف لا بدّ أن يتناول كلّ سورة لوجب أن يحمل على أنّه قد أريد به أنّ كلّ آية منه تقرأ على سبعة أوجه،و على أنّ كلّ كلمة من الآية يجب أن تقرأ على سبعة أوجه،بل يجب أن يحمل على أنّ كلّ حرف من حروف الكلمة منه تقرأ على سبعة أوجه،و لمّا لم يجب ذلك كما لا يجب إذا قلنا هذه القصيدة تنشد على وجهين،و هذه الخطبة و الرسالة تروى على وجهين،و مصنّف فلان في الفقه يروى على وجهين،أن يكون كلّ بيت من القصيدة،و كلّ مصراع و كلّ كلمة و كلّ حرف من الكلمة تنشد على وجهين،و كلّ مسألة من الكتاب و كلّ كلمة منه تروى على وجهين؛لم يجب إذا قيل إنّ القرآن أنزل على سبعة أحرف أن تكون كلّ سورة منه و كلّ آية و كلّ كلمة و كلّ حرف من الكلمة منزلا على سبعة أحرف،و إذا كان ذلك كذلك بطل ما ظنّوه من إحالة هذا القول.
على أنّه قد يجوز أيضا أن يكون جبريل لما أقرأ الرسول عليهما السلام في ابتداء أمره شيئا من سور القرآن أنزل مواضع منها على سبعة أوجه و وقفه على أنّها جارية في جميع ما ينزّل عليه على هذه السبيل و الطريقة،كأنه قال له:اقرأ غير المغضوب عليهم و عليهمو،فكلّ ما جاء من كتابة الجمع فهذه طريقته نحو إليهم و إليهمو،و أنعمت عليهمو،أو قرأ هذا الحرف بالهمزة، [219]و ترك الهمزة/،و كلّ حرف مثله مما نزل عليك،و مما سينزل مثله،و كذلك القول في الإمالة و ترك الإمالة في الحرف و الكلمة التي يجوز فيها الرفع و النصب،و غير ذلك،فيعلم رسول اللّه صلى اللّه عليه بذلك أنّ جميع ما نزل و ينزل عليه من القرآن،فهذه سبيل اختلاف حروفه و وجوهه،و إذا كان ذلك كذلك بان سقوط ما تعلّقوا به من أنّه لا يجوز أن يقول مثل هذا القول حتّى يتكامل نزول جميع القرآن.
ص: 346
فأمّا قولهم:إنّ في الخبر ما يدلّ على فساده،و أنّ متضمّنه لا يجوز على اللّه سبحانه،و هو أنّ القرآن منزل على سبعة أحرف مختلفة،و قد علم أنّه جهته،و لا معنى في إنزاله على سبعة أحرف إلا القصد إلى حصول الخلاف و التنازع و التنافر فيه،و التحريف له،و وجود السبيل إلى أن يدخل فيه حرف ليس منه و إلى تعذّر حفظ هذه السبعة و الإحاطة بها،و تثقيل العبادة بتكليف معرفتها،حتى يؤدي ذلك إلى ما رويتم من تلبب عمر بن الخطّاب بهشام بن حكيم،و أخذه إلى النبي صلى اللّه عليه منكرا عليه حرفا أقرأه به رسول اللّه صلى اللّه عليه لم يقرأه عمر و لم يعرفه.
مثل ما رويتم أنّه قال أبيّ بن كعب لما أنكر على رجل آخر سمعه يقرأ بخلاف ما كان لقّنه هو من رسول اللّه صلى اللّه عليه فلما قرأ عليه و قال لهما:«فيما رويتماه أحسنتما و أصبتما،هكذا أقرأتكما»،فقال أبيّ:
فأخذني عند ذلك من الشكّ أشدّ مما أخذني في الجاهلية،فضرب النبيّ صلى اللّه عليه صدري و أخسأ عنّي الشيطان،فقال:يا أبيّ،أ عندك من الشكّ و التكذيب،قال:ففضت عرقا،و كأني أنظر إلى اللّه فرقا،ثم قال لي:إنّ جبريل أتاني فقال لي:اقرأ القرآن على حرف فقلت:ربّ خفّف عن أمّتي، فلم يزل يقول كذلك حتى قال له-فيما رويتم:إنّ اللّه تعالى يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف،فلا معنى لإنزاله على سبعة إلا ما رويتموه، و يؤدي/إليه من هذه الشكوك و الرّيب و التخاصم و الخلاف،و ذلك مما لا[220] يجوز على اللّه سبحانه،فوجب بذلك بطلان ما رويتموه.
فيقال لهم في جواب هذا و جواب جميع ما قدّمناه عنهم:فإن كان هذا الخبر باطلا مفتعلا فقد نال طعنكم على نقل القرآن بأنّ الرسول لم يبيّن تلك السبعة الأحرف،و أنّه كان يجب ظهورها،و أن لا تختلف الأمّة و أزلتم عنّا
ص: 347
بذلك كلفته،و إن كان هذا عندكم صحيحا و هو ذاك على أنّ أمر القرآن لم يكن عندكم ظاهرا مستفيضا فقد بطل مدحكم فيه بهذه المطاعن،و هذا اختلاط منكم أنتم إلى أن نبيّن عن فساد كلّ شيء توهّمتموه مبطلا لهذه الأخبار،فهذا مما تجب موافقتهم عليه عند المطالبة بواجب كلّ اعتراض يوردونه على هذه الرواية.
ثمّ يقال لهم:لا يجب أن يكون هذا الذي توهمتموه قادحا في الخبر، و ذلك أنّه لا يمتنع أن يعلم اللّه سبحانه أنّ مصلحة عباده متعلقة بإنزال القرآن على سبعة أحرف أو أكثر منها،كما لا يمتنع أن يعلم أنّ مصلحتهم متعلقة بإنزاله على حرف واحد،لأنّه إذا علم سبحانه أنّ طباع الناس و سجاياهم مختلفة في النطق و الكلام،و أنّ منهم من يألف التكلّم بالكلمة و الحرف على وجه و طريقة هي أخفّ عليه و ألصق بقلبه و أسهل و أجرى على لسانه،و منهم من يصعب عليه و يستثقل أن يميل و يهمز الحرف و يزيد الواو من قوله:
عليهمو و إليهمو،و يخفّ عليه إليهم و عليهم،و أنّه لو كلّف كلّ واحد منهما ما هو في طبع غيره و أسهل عليه لشقّ ذلك عليه،و صار طريقا إلى نفوره و استثقاله و ملاله و صعوبة حفظه،و أنّه إذا لم يلزمه إلا قدر ما تيسّر عليه منه كان ذلك لطفا له،ساغ لهذا أن يكون إنزاله الحرفين و السبعة أحرف أصلح [221]من تضييق الأمر فيه،و حمل الناس في النطق به على وجه واحد صعب/ متعسّر ثقيل على أكثرهم،فلعلّه لو كلّف هشام بن حكيم و الرجل الذي خالف أبيا أن لا يقرأ إلا بما أقرأه النبيّ صلّى اللّه عليه عمر و أبيا لثقل ذلك عليهم أو أعرضا عنه و شكّا في نبوّة الرسول،و صارا حربا للرسول صلى اللّه عليه و عمر و أبيّ على أصل الدّين و دعوة الحق،و إذا كان ذلك ممّا لا يمتنع في المعلوم بطل ما توهّموه.
ص: 348
و كذلك إذا علم أنّ في الناس الألكن و الفصيح و الألثغ و الطّلق الذرب و التّمتام العيّ،و القادر المنبسط ساغ أن ينزل القرآن بالهمز و غير الهمز، و أن يجعل مكان الحركة التي تثقل على التّمتام تسكينا لا يثقل عليه،و هذا أولى و أجدر و أقرب في تخفيف المحنة و تيسير العبادة و أحرس للعباد إلى الطاعة.
و كذلك إذا جاز أن يعلم أنّ من الناس السكتة النزر الكلام القليل الحفظ،و أنّ منهم الذكيّ الحفوظ() (1)الذي يميل طبعه إلى تشويق الكلام و التبسّط و التصرّف في وجوه الألفاظ و العبارات،و أنّه ينقل عليه لزوم نهج واحد و سبيل لا يختلف في النطق و يعظم عليه حفظ ذلك،و يؤدّيه تكليفه إيّاه إلى الضجر و الملل و قلّة الرغبة و الإعراض،جاز لذلك أن ينزله على حرفين و سبعة و عشرة ليحفظه على الوجه الواحد من قدّمنا ذكره، و يحفظ على هذه الوجوه الكثيرة من وصفنا قدرته و تبسّطه و ميله إلى الإكثار و التنقّل في وجوه الخطاب.
و كذلك أيضا فقد يجوز أن يعلم سبحانه أنّه إذا أنزل القرآن على حرف واحد،لزم الأمّة بأسرها أن لا تقرأ الآية،جاز أن يشكّ شاكّ في ذلك الحرف و يتبناه،و ينطلق لسانه بحرف غيره يقوم مقامه و لا يبطل معناه، و أنّهما إذا ترافعا إلى النبي صلى اللّه عليه و سلّم فأقرأهما فأخطأ أحدهما و ترك القراءة بذلك الحرف الواحد المنزل،و قال له الرسول/عند ذلك:أخطأت،أو أسأت،[222] أو ما هكذا أقرأتك،انكسف باله و صغرت حاله و نفسه،و انكسرت حدّته، و فترت شهوته،و قلّ حرصه،و صار ذلك طريقا إلى ضجره و ملاله،و قلّتل.
ص: 349
دواعيه في تعلّم القرآن و تحفّظه أو لحقه عند ذلك من الأنفة و الحميّة و عزّة النفس و كراهة الغلبة عند المناقشة و المشاحة و الهرب من عار القهر و نسبته إلى السهو و الغفلة و سوء الفهم و جلافة الطبع و قلّة الحفظ و الضبط،ما يكون أدعى الأمور إلى الزهد في الإسلام جملة و الرغبة عنه،و متى أمكن أن يكون هذا أجمع مما قد سبق في علم اللّه سبحانه،بطل بذلك طريق من توهّم أنّه لا وجه لإنزال القرآن بسبعة أحرف إلا الاستفساد للعباد و التهارج و الفساد و هذا ما لا مدخل لهم عليه.
ثم يقال لهم:فيجب على اعتلالكم أن لا ينزل اللّه سبحانه في كتابه مجملا و لا محتملا و لا متشابها بل يجعله كلّه نصّا جليّا،لأنّنا نعلم أنّ في الناس من يلحد في تأويله و يتعلّق بمتشابهه و يلبس و يوهم الباطل في التعلّق بمجمله و محتمله،و هذا أولى مما قلتم و أقرب لو كنتم مقسطين (1)و لأنّ اللّه سبحانه قد نصّ على هذا،و الذي قلناه من فساد خلق بمتشابهه و لم ينصّ على ما ادّعيتم من فساد قوم بإنزاله على سبعة أحرف،و لا رأينا هشام بن حكيم و لا أبيا و لا عبد اللّه،و لا من خالفهم كفروا و لا ارتدّوا عند الترافع إلى النبيّ صلّى اللّه عليه بل استجابوا لقوله و خنعوا لطاعته،و رضوا جميعا بما أقرّهم به على اختلافهم.
و قد قال سبحانه فيما عارضناكم به: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران:7]فكان يجب على موضوع اعتلالكم أن لا ينزل من القرآن متشابها يبتغى العسر به و يلبس على العباد في تأويله و يلحد في صفات اللّه سبحانه عند تنزيله،فإن لم يجب هذا عندكم [223]فقد بطل جميع ما أوردتموه/في هذا الفصل بطلانا بيّنا،و بان لكم أنّ هذان.
ص: 350
الضرب من الطّعن في نقل القرآن و إنزاله من مطاعن الملحدين على اللّه و على رسوله و على جملة كتابه و تفصيله،و هكذا فعل اللّه سبحانه بمن صدّ عن دينه و صدف عن صحيح النظر في براهينه،و اشرأب قلبه إلى التعلّق بالشبهات و الميل إلى الزيغ و الضلالات.
فإن قالوا:أ فليس قد رويتم أنّ الذين بعث عثمان رضي اللّه عنه على جمع الناس على مصحفه،و قراءته و المنع من باقي الحروف التي أنزلها اللّه جلّ و عز ما حدث في عصره،و شدّة الاختلاف و التشاجر و التبرّي و الإكفار في القراءات بهذه الحروف المختلفة،فألا علمتم أنّ إنزاله على سبعة أحرف سبب لما قلناه؟ يقال لهم:ليس الأمر في هذا على ما وصفتم؛لأنّ القوم عندنا لم يختلفوا في هذه الحروف المشهورة عن الرسول صلّى اللّه عليه التي لم يمت حتى علم من دينه أنّه أقرأ بها و صوّب المختلفين فيها،و إنّما اختلفوا في قراءات و وجوه أخر لم تثبت عن الرسول عليه السلام و لم تقم بها حجّة، و كانت تجيء عنه مجيء الآحاد و ما لا يعلم ثبوته و صحته،و كان منهم من يقرأ التأويل مع التنزيل نحو قوله:و الصلاة الوسطى،(و هي صلاة العصر)، فاءو(فيهن)،و لا جناح عليكم أن تبتغوا فضلا من ربّكم(في مواسم الحج)،و أمثال هذا ممّا وجدوه في بعض المصاحف،فمنع عثمان من هذا الذي لم يثبت و لم تقم الحجّة به و أحرقه و أخذهم بالمتيقّن المعلوم من قراءات الرسول عليه السلام.
فأمّا أن يستجيز هو أو غيره من أئمة المسلمين المنع من القراءة بحرف ثبت أنّ اللّه أنزله و يأمر بتحريقه و المنع من النظر فيه و الانتساخ منه،و تضييق على الأمة ما وسّعه اللّه تعالى،و يحرّم من ذلك ما أحلّه اللّه و يمنع منه ما
ص: 351
أطلقه و أباحه،فمعاذ اللّه أن يكون ذلك كذلك،و إذا كان هذا هكذا سقط ما قلتموه،على أنّنا لو سلّمنا لكم نظرا أنّ أهل عصر عثمان رضوان اللّه عليه [224]اختلفوا في/هذه الأحرف السبعة،و أدّى ذلك خلفا منهم إلى البراءة من أهل الحقّ،لم يجب أن لا ينزل اللّه سبحانه القرآن بها إذا علم أنّ من يصلح بقراءته بها على اختلافها أكثر ممن يفسد،أو أنّه لا أحد يفسد عنه ذلك إلى -زمن عثمان،فيسوغ حينئذ لعثمان على قول بعض الناس أخذه للأمّة ببعض تلك الأحرف و المنع من باقيها لأجل حدوث ما حدث مما لم يكن من قبل.
أو لعلّه سبحانه قد علم أنّه لو لم ينزل القرآن على سبعة أحرف كان منكر حرف منها و المختلفين فيها يعرضون عن الإسلام جملة و الانخلاع من الإيمان و إلى أن يكونوا حربا للرسول صلّى اللّه عليه و إن اختلافهم في القراءات أسهل من اليسير من ذلك.
فإنّنا ننكر عليكم و نقول لكم:فيجب على اعتلالكم أن لا ينزل اللّه سبحانه المتشابه المحتمل من كتابه لموضع إخباره باتّباع أهل الزيغ لما تشابه منه ابتغاء الفتنة و الإلحاد في تأويله،فإن لم يلزم ذلك لم يلزم شيء مما قلتموه،و قد بيّنا-رحمكم اللّه-في غير موضع من الكلام في التعديل و التجويز أنّه لا يجب على اللّه استصلاح جميع خلقه،و فعل أصلح الأمور لهم،و المساواة في اللطف لجميعهم،و أنّه لا يصح منه أن يضرّ بعضهم و يطبع على قلبه و يختم على سمعه و بصره،و أنّه قال سبحانه في كتابه:إنه هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2]،و قال في أخرى: وَ هُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [فصلت:
44]،و قد بيّنا ذلك بما يغني الناظر فيه،و لو لا أنّنا لم نصنع كتابنا لهذا الفنّ من الكلام لأسهبنا في ذلك،غير أنّه مخرج لنا من غرض الكتاب،و فيما أجبناهم به بلاغ و إقناع.
ص: 352
و نحن الآن نذكر بعض ما جاء من الروايات في أنّ القرآن منزل على ثلاثة أحرف و أربعة و سبعة ليعلم قارئ كتابنا ظهور ذلك و انتشاره في علماء الأمّة من سلفها و خلفها،و نتكلّم على ما يجب الكلام عليه من هذه الأخبار ثم نبيّن القول في تفسير السبعة الأحرف بما يوضّح الحقّ و يزيل الشكّ/[225] و الرّيب،و ما توفيقنا إلا باللّه.
و قد روى الشّعبي عن ابن عوف عن محمد عن ابن مسعود قال:«أنزل القرآن على سبعة أحرف كلّها شاف كاف» (1)كقولهم:هلمّ،تعال،أقبل.
و روى حمّاد بن سلمة (2)عن قتادة عن الحسن عن سمرة (3)عن النبيّ صلى اللّه عليه قال:«أنزل القرآن على ثلاثة أحرف»،و روى سعيد بن أبي سعيد المقبريّ (4)عن أبيه (5)عن أبي هريرة قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه
ص: 353
عليه:«أعربوا القرآن و التمسوا غرائبه،و غرائبه فرائضه،فإنّ القرآن أنزل على خمسة وجوه:حلال و حرام و محكم و متشابه و أمثال،فخذوا بالحلال و دعوا الحرام،و اعملوا بالمحكم و آمنوا بالمتشابه،و اعتبروا بالأمثال».
فهذه الثلاثة الأخبار تقتضي أن يكون القرآن منزلا على ثلاثة أحرف و على أربعة أحرف و على خمسة أحرف،و قد بيّنّا فيما سلف أنّ ذلك لا يناقض ما روي من أنّه منزل على سبعة أحرف،و تكلّمنا على ذلك بما يوضّح الحقّ،و قلنا إنّ ذلك الحلال و الحرام،و ما أتبع يحتمل أن يكون وجها من وجوه السبعة،و أنّ الأظهر أنّه غيرها،لأنّ تلك مخيّر في القراءة بأيّها شاء القارئ على ما وردت به الروايات التي سنذكرها،و قلنا إنّ الثلاثة الأوجه و الأربعة التي لم تفسّر بهذه الأقسام من الأمر و النهي و غيرهما، يحتمل أن يكون بعض السبعة التي خيّر الناس في القراءة بأيّها شاءوا، و يحتمل أن تكون غيرها.
و قد تحتمل أيضا هاتان الروايتان أن يكون معنى قول النبيّ صلّى اللّه عليه أنزل القرآن على ثلاثة أحرف و على أربعة أحرف،أنّ من الحروف السبعة حرفا يقرأ على ثلاثة أوجه،و إنّ حرفا منها آخر يقرأ على تلك الثلاثة و على وجه رابع،أو أن حرفا منها يقرأ على أربعة أوجه غير الثلاثة الأوجه التي يقرأ حرف آخر من السبعة عليها،و يكون باقي السبعة الأحرف لا يقرأ كلّ شيء منها إلا على طريقة واحدة،فلا يكون في هذا تعارض و لا تناقض.
و يمكن أيضا أن يكون أراد بهذين الخبرين أنّ ثلاثة أحرف من تلك السبعة الأحرف يقرأ على وجه و نحو من الاختلاف متقارب،ليس بالمتباين [226]الشديد/و هو حرف زيد و الجماعة،و الذين أكثرهم كان يألفه و يقرأ به و يعلق بقلبه و ينطلق به لسانه،و أربعة أحرف أخر من السبعة منزلة على تباين
ص: 354
شديد غير متقارب،و عسى أن تكون هي حروف الأربعة النفر الذي أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه بأن تؤخذ القراءة عنهم و هم أبيّ بن كعب و عبد اللّه ابن مسعود و معاذ بن جبل و سالم مولى أبي حذيفة،أو لعلّ هذه الأربعة الأحرف المتقاربة التي ليست بشديدة التباين هي التي كان يقرأ الناس كثيرا بها و عليها الجمهور و عامّة الناس.
و لسنا نقف على حقيقة هذا غير أنّنا قد بيّنّا أنّ قوله صلّى اللّه عليه:أنزل القرآن على ثلاثة أحرف و أربعة و خمسة لا تنافي قوله:إنّه منزل على سبعة أحرف،و هذا هو الغرض المقصود دون تفصيل أجناس الاختلاف بين الثلاثة و الأربعة و الخمسة و السبعة،و إذا كان ذلك كذلك بطل إكثارهم بذكر هذا الباب و وجب حمل الأمر فيه على ما قلناه.
فأمّا الروايات الواردة عنه صلى اللّه عليه بأنّ القرآن منزل على سبعة أحرف فإنّها كثيرة متظاهرة مشهورة عند أهل العلم و النقل،و هي أكثر شيء روي عن النبي صلى اللّه عليه و سلّم و كلّها مع اختلاف ألفاظها و طرقها متوافية على المعنى، فيجب لذلك وصول العلم بمتضمّنها و إن اختلفت ألفاظها و تشعّبت طرقها فمنها ما رواه عبيد اللّه بن عمر (1)عن أبي الحكم (2)عن أبيّ بن كعب أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه قال:«أتاني ات من ربّي جلّ و عزّ فقال:يا محمد).
ص: 355
اقرأ القرآن على حرف،فقلت:يا ربّ،خفّف على أمّتي،ثم أتاني آت من ربّي فقال:يا محمد اقرأ القرآن على حرفين،فقلت:خفّف على أمّتي،ثم أتاني فقال:يا محمد اقرأ القرآن على سبعة أحرف،و لك بكلّ ردّة مسألة لك،فقلت:يا ربّ اغفر لأمّتي،ثم قلت:يا ربّ اغفر لأمّتي،و أخّرت الثالثة شفاعة لي يوم القيامة،و الذي نفسي بيده إنّ إبراهيم عليه السلام ليرغب في شفاعتي» (1).
[227]و روى يونس (2)عن ابن شهاب/قال:حدّثنا عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عباس (3)حدثه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه قال:«أقرأني جبريل عليه السلام على حرف،و لم أزل أستزيده و يزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف»،قال ابن شهاب:«بلغني أنّ تلك السبعة إنّما هي في الأمر الذي يكون واحدا لا يختلف في حلال و لا حرام» (4).).
ص: 356
و روى حميد قال:قال أنس:قال أبيّ بن كعب:إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه قال:«جاءني جبريل و ميكائيل فقعد جبريل عن يميني و ميكائيل عن يساري،فقال جبريل:اقرأ القرآن على حرف،فقال ميكائيل:استزده،حتى بلغ سبعة أحرف و كلّ كاف شاف».
و روى سعد عن الحكم عن مجاهد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى (1)عن أبيّ بن كعب«أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه كان بأضاة بني غفار فأتاه جبريل فقال:
إنّ اللّه تعالى يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف،قال:أمّتي لا تطيق ذلك،ثم أتاه فقال:على حرفين،فقال:أمّتي لا تطيق ذلك،ثم أتاه الثالثة فقال:على ثلاثة أحرف،فقال:أمّتي لا تطيق ذلك ثم جاءه الرابعة فقال:إنّ اللّه يأمرك أن تقرأ أمّتك على سبعة أحرف،فأيّما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا».
و روى أنس بن عاصم قال:أخبرني أبو حازم عن أبي سلمة قال:لا أعلمه إلا عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه قال:«أنزل القرآن على سبعة أحرف،و المراء في القرآن كفر ثلاث مرات فما عرفتم فاعملوا به و ما جهلتم فردّوه إلى عالمه»،و روى أيضا أبو هريرة قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه:«أنزل القرآن على سبعة أحرف عليما غفورا رحيما».
و روى عقيل بن خالد (2)عن سلمة بن أبي سلمة بن عبد الرحمن (3)عن).
ص: 357
أبيه عن ابن مسعود عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه قال:«كان الكتاب الأول أنزل من باب واحد،و كان على حرف واحد،فنزل القرآن من سبعة أبواب [228]على سبعة أحرف:أمر و نهي و حلال و حرام و محكم و متشابه و أمثال/ فأحلّوا حلاله و حرّموا حرامه،و افعلوا ما أمرتم به و انتهوا عما نهيتم عنه، و اعتبروا بمحكمه و آمنوا بمتشابهه،و قولوا آمنا به كلّ من عند ربّنا».
و روى بشر بن سعيد بن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو بن العاص قال:قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم:«أنزل القرآن على سبعة أحرف،فأيّ حرف قرأتم فقد أصبتم،فلا تماروا فيه،فإنّ المراء فيه كفر»،و روى واصل بن حيان (1)عن أبي الهذيل (2)عن أبي الأحوص عن عبد اللّه عن النبي صلّى اللّه عليه قال:«إنّ القرآن أنزل على سبعة أحرف كلّ آية منها ظهر و بطن و لكلّ حدّ مطلع».
و روى عمرو بن أبي قيس (3)عن عاصم عن زر عن أبيّ بن كعب قال:
لقي رسول اللّه صلّى اللّه عليه جبريل عليه السلام عند أحجار المريّ-أحجار بالمدينة-فقال له:يا جبريل أرسلت إلى أمة أمّيين منهم الغلام و الجارية و الشيخ و العجوز و الرجل الفارسي لم يعلم كتابا قطّ،فقال:إنّ القرآن أنزل على سبعة أحرف».).
ص: 358
و روى مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنّه سمع عمر بن الخطاب يقول:سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأها،و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه أقرأنيها،فكدت أن أعجل عليه ثم أمهلت حتى انصرف،فلمّا انصرف لببته بردائه ثم جئت به إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه فقلت:يا رسول اللّه،إنّي سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها،فقال عليّ عليه السلام:أرسله، فأرسلته،فقال:اقرأ،فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ،فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه:هكذا أنزلت،ثم قال:اقرأ فقرأت،فقال:«هكذا أنزلت»،إنّ هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسّر منه».
و روى عبد اللّه بن وهب (1)قال أخبرني عمرو بن الحارث (2)و ابن لهيعة (3)أن بكيرا (4)حدثهما:أنّ عمرو بن العاص قرأ آية من القرآن،فسمع رجلا يقرأها خلاف قراءته،فقال له:من أقرأك؟فقال:/رسول اللّه صلّى اللّه[229] عليه،فذهب إليه فذكر له ذلك و قرأ عليه كلاهما فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه:«أصبتما إنّ القرآن أنزل على سبعة أحرف»،قال بكير:فذكر لي أنّه).
ص: 359
قيل لسعيد بن المسيب:ما سبعة أحرف؟قال:كقولك هلمّ و تعالى،و أقبل و كلّ ذلك سواء.
و روى عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيّ بن كعب قال:«كنت في المسجد فدخل رجل فقرأ قراءة أنكرتها عليه،ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه،فقمنا جميعا فدخلنا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه فقلت له:
يا رسول اللّه إنّ هذا دخل فقرأ قراءة أنكرتها عليه،ثم دخل آخر فقرأ غير قراءة صاحبه،فقال لهما النبيّ صلّى اللّه عليه:اقرأ،فقرأ،فقال:أحسنتما، فلمّا قال لهما النبي صلّى اللّه عليه الذي قال،كبر عليّ و لا إذ كنت في الجاهلية،فلمّا رأى النبي(ما)قد غشيني ضرب على صدري ففضت عرقا و كأنّي أنظر إلى اللّه فرقا،فقال:يا أبيّ إنّ ربّي أرسل إليّ أن أقرأ القرآن على حرف،فرددت إليه أن هوّن على أمّتي،فأرسل إليّ أن اقرأ على سبعة أحرف و لك بكلّ ردة مسألة تسألنيها،قال:قلت:اللهم اغفر لأمّي اللهم اغفر لأمّتي، و أخّرت الثالثة ليوم يحتاج إليّ فيه الخلق حتى إبراهيم الخليل عليه السلام».
و في رواية أخرى عن سقير العبدي (1)عن سليمان بن صرد (2)عن أبيّ بن كعب قال:«دخلت المسجد فإذا رجل يقرأ قلت له:من أقرأك هذه القراءة،قال:النبيّ صلّى اللّه عليه،قلت:انطلق إليه،قال:فانطلق،قال:
قلت:استقرئ،قال:فاستقرأ،فقال:أحسنت،قال:قلت:أ لم تقرئني).
ص: 360
كذا و كذا،قال:بلى،قال:و أنت فقد أحسنت،فنكّبت بيدي هكذا،و قد أحسنت،قال:فضرب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم في صدري و قال:اللّهم أذهب عن أبيّ الشك،قال:فارفضضت عرقا و امتلأ جوفي فرقا،ثم قال صلّى اللّه عليه:يا أبيّ أتاني ملكان اثنان فقال أحدهما:اقرأ على حرف،فقال الآخر:
زده،قال:قلت:زدني،قال:اقرأ على حرفين،فقال الآخر زده،قلت:
زدني/قال:اقرأ على ثلاثة أحرف،قال الآخر:زده،قلت:زدني قال:[230] اقرأ على أربعة أحرف،قال الآخر:زده،قلت:زدني،قال:اقرأ على خمسة أحرف،قال الآخر:زده،قلت:زدني،قال:اقرأ على ستة أحرف، قال الآخر:زده،قلت:زدني،قال:اقرأ على سبعة أحرف».
و روى قتادة عن يحيى بن يعمر (1)عن سليمان بن صرد الخزاعي عن أبيّ بن كعب،قال:«قرأت آية و قرأ ابن مسعود خلافها فأتينا النبيّ صلّى اللّه عليه فقلت:أ لم تقرئني آية كذا و كذا؟قال:بلى،قال ابن مسعود:أ لم تقرئنيها كذا و كذا؟قال:بلى،كلاكما محسن مجمل،فقلت:كلانا ما أحسن و لا أجمل،فضرب في صدري و قال:يا أبيّ إنّي أقرئت القرآن،فقيل لي:على حرف أو حرفين،فقال الملك الذي معي:قل على حرفين، قلت:على حرفين،فقيل:على حرفين أو ثلاثة،فقال الملك الذي معي:
على ثلاثة،قلت:على ثلاثة،هكذا حتى بلغ السبعة أحرف ليس منها إلا شاف كاف،إن قلت غفور رحيم،سميع عليم،أو عليم حكيم،عزيز حليم هو كذلك،ما لم تختم عذابا برحمة أو رحمة بعذاب».).
ص: 361
و قد روي في ذلك أخبار كثيرة يطول تتبعها،و في بعض ما ذكرناه منها ما يدلّ على ما نقصده من العرض و كشف الشبهة،و أدلّ ما نقول في هذا:
إنّ هذه الأخبار التي ذكرناها أخيرا من مشاجرة عمر لحكم بن هشام و أبيّ لعبد اللّه بن مسعود و رجل آخر،و عمرو بن العاص لآخر خالف ما لقنه عن النبي صلّى اللّه عليه و ترافعهم إليه و تخاصمهم بحضرته و استعظامهم الأمر في ذلك،من أدلّ الأمر على تشدّد القوم في هذا الباب و تصعّبهم و تديّنهم بقراءة القرآن على ما أقرئوا عليه من اللّفظ دون المعنى و العمل و الاجتهاد في القراءة على غلبة الظن فيها،و أنّهم كانوا لا يرون وضع الآية و الكلمة منه في غير الموضع الذي وضعت فيه،و أنّهم كانوا يحرّمون ذلك و يأخذون أنفسهم بترتيبه على ما أنزل و قراءته على ما وقفوا عليه من غير تغيير و لا تبديل و لا تقديم و لا تأخير و لا تساهل في القراءة بالمعنى،على كذب من ادّعى عليهم [231]شيئا من ذلك و استجازته/و أنهم أجازوا تقديم المؤخّر و تأخير المقدّم و القراءة على المعنى و الاستحسان و غالب الظنّ و الرأي و الاجتهاد،لأنّ ما يجوز فيه ذلك عندهم لا يقع فيه هذا التخاصم و التشاجر و الإعظام له، فوجب بذلك نفي ما فرقوا به الصحابة من ذلك و أضافوه إليهم منهم.
و كيف يستجيزون ذلك،و قد علموا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه كان يعرض عليه القرآن في كلّ مرة و ظهرت الرواية بينهم بذلك،حتّى رووا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه كان يعرض عليه القرآن في كلّ عام مرة،حتى كان العام الذي توفي فيه يعرض عليه مرّتين،قالوا:فكأنّهم يرون أنّ العرضة الأخيرة في قراءة ابن عفّان،و كلّ هذا يدلّ على إحاطة القوم بعلم ترتيب القرآن على الوجه الذي رتّبه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و أنّه لا يجوز أن يذهب عليهم ذلك مع تكرّر عرض الرسول له في كلّ عام،و لا أن يتسمّحوا
ص: 362
و يتساهلوا في نظمه و ترتيبه على خلاف ما رتّبه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و عرضه،و لا أن تتوافى همم الجميع منهم على ترك ذلك و تسويغ خلاف ترتيب النبيّ صلّى اللّه عليه،أو ترك الإنكار و التغليظ على من فعل ذلك و أجازه،و لو كان هذا مما قد وقع و فصل و أنكره منكر،لوجب في مستقرّ العادة ظهور هذا الإنكار و شهرته،و علمنا ضرورة لخلاف من خالف نظم الرسول و ترتيبه و إنكار المنكرين لذلك،و في عدم العلم بذلك و حصول الإجماع بخلافه دليل على سقوط جميع هذه الدعاوى و تكذّبها و سلامة أبي بكر و عمر و عثمان و سائر الصحابة مما قذفوهم به و أضافوه إليهم من التبديل و التغيير و الزيادة و النقصان و التقديم و التأخير و غير ذلك مما رموهم به.
ثم رجع بنا الكلام إلى معنى السبعة الأحرف المرويّة و تفسيرها و وجوب إطلاق القراءة بسائرها،فنقول أولا:إنّ جميع ما قدّمنا ذكره من الأخبار المتظاهرة عن الرسول/نصّ منه على أنّ القرآن منزّل على سبعة أحرف[232] و سبعة وجوه من القرآن كلّها صواب و حلال مطلق القراءة بها،فلذلك قال جبريل عن اللّه سبحانه:«بأيّها قرأتم فقد أصبتم و أحسنتم»،و قال الرسول صلّى اللّه عليه لعمر و هشام و أبيّ و عبد اللّه بن مسعود و عمرو بن العاص و الرجل الذي رافعه إليه:«قد أصبتم و أحسنتم»،ثم أخبرهم أنّ كلّ تلك القراءات منزلة من عند اللّه تعالى،و من جملة السبعة الأحرف التي راجع فيها و سأله التخفيف عن أمّته،و أنّه استزاد الملك فزاده حتى بلغ سبعة أحرف، فوجب بذلك القطع على تصويب كل قارئ ببعض هذه السبعة الأحرف، و أنّها بأسرها من عند اللّه تعالى،و أنّ عثمان و أبيّا و عبد اللّه بن مسعود لم يختلفوا قط في شيء من هذه الأحرف السبعة،و لا أنكر أحد منهم على صاحبه القراءة ببعضها و الإخبار له و إطلاق الباقي لمن قرأ به،و أنّ عثمان لم
ص: 363
يحرق شيئا من المصاحف لتضمّنها شيئا من هذه القراءات،و أنّه إنّما حرّق منها و منع من التمسّك به لتضمّنها شيئا لم يثبت أنّه قرآن،و ما أثبت على خلاف ما أنزل اللّه،أو لتضمّنه الآية و تفسيرها التي يخاف على غير مثبتها توهّمه لكون التفسير قرآنا،أو لتضمّن تلك المصاحف لقرآن كان أنزل ثم نسخ و منع و حظر رسمه،فلم يعرف ذلك من سمعه أو أثبته بذكره لنفسه لا ليجعل مصحفه إماما.
و قد روى رواية ظاهرة أنّ عمر رضي اللّه عنه قال للنبيّ صلّى اللّه عليه لما نزلت آية الرّجم:و الشيخ و الشيخة فارجموهما البتّة،أثبتها يا رسول اللّه،فقال له:لا أستطيع ذلك لقوله عليه السلام إنّه ممّا نهي عن رسمه،و لو كان مما أمرنا بإثباته لاستطاع أن يثبته و لم يكن لتركه و إجابة عمر بأنّه لا يستطيع ذلك وجه.
فيجب إذا كان ذلك كلّه أخذ المصاحف المتضمّنة لمثل هذه الأمور [233]و تصفية آثارها و المنع من التمسّك بها و الانتساخ منها إذا كان/ذلك من أجلب الأمور لفساد نقل القرآن و إدخال السنة و التخاليط فيه،و خلطه بما ليس منه على ما رتّبناه و بيّنّاه من قبل.
و وجب لذلك أن لا يكون بين عثمان و عبد اللّه و أبيّ خلاف في هذه القراءات،و في تسويغ جميعها و إطلاقه و القطع على أنّها من عند اللّه جلّ ذكره،و أنّه لا يجوز لعثمان و لا لغيره منع القراءة بشيء من هذه الأحرف و حظره و تخطئة القارئ به و تأثيمه بعد توقيف الرسول على صواب القارئ بكلّ شيء منها،لأنّه لا يسوغ لأحد أن يحرّم و يحظر ما أحلّه اللّه جلّ و عزّ و يخطّئ من حكم اللّه بصوابه،و حكم الرسول بأنّه محسن مجمل في قراءته،
ص: 364
و أنّه لا يجوز أبدا أن تتفق الأمّة على حظر ما أحلّه اللّه تعالى و تخطئة من أخبر اللّه بصوابه،لأنّ ذلك إجماع على خطأ و هو ممتنع على الأمّة.
و أنّه لا يسوغ أيضا لمدّع أنّ يدّعي أنّ ما أحلّه اللّه و أطلقه و حكم بصواب فاعله حلال بشريطة أن لا يحرّمه إمام الأمّة و يمنع منه أو بأن لا يجمع المسلمون على خلاف ما حكم اللّه به،لأنّ الإجماع على ذلك خطأ و إجماع على مخالفة حكم اللّه سبحانه،و لن يجوز أن يتّفق منهم أبدا،و لأنّ ذلك لو ساغ أن يقال في بعض ما حكم اللّه به لساغ أن يقال مثله في جميع أحكام اللّه تعالى،و أنّ جميع ما أحلّه و حرّمه و أوجبه و أباحه و أطلقه إنّما أوجبه و أباحه و حرّمه بشريطة أن لا يحكم إمام الأمّة فيه بخلاف حكم اللّه تعالى،و يرى أنّ مخالفة حكم اللّه من مصالح الأمّة،و بأن لا يجمع الأمّة على مخالفة حكم اللّه بذلك الشيء،و يرى أنّ منعه أصوب و أحوط للأمّة من إطلاق مقال لا ينكر سقوط قطع السارق و جلد الزاني و القصاص إذا أدّى ذلك في بعض الأوقات إلى تهارج الأمّة و سفك الدّماء و تعطيل جميع الحدود و الأحكام، و أن يسقط أيضا لمثل ذلك في بعض الأحايين فرض الصلاة و الحجّ و الصيام،إذا خيف في تيقّنه فرضه على الناس تهارج و فتنة و تعطيل الأحكام و الارتداد و اللّحوق/بدور الكفر،فإنّ من صار على ذلك أجمع خرق[234] الإجماع و فارق الدين،و إن أباه لم يجد فصلا.
و إن قال:إنّه لا يجوز أن تفسد الأمّة أو بعضها بنفيه بعض الأحكام على ما حكم به،و يكون ذلك لطفا في فسادها،قيل له:و كذلك لا يجوز أن يتّفق مثل هذا في إطلاق القراءات التي أنزلها اللّه سبحانه و أحلّها و حكم بصواب القارئ بها.
ص: 365
و إن قالوا:بالضرورة يعلم أنّ حكم اللّه تعالى بوجوب قطع السارق و جلد الزاني و فرض الحج و الصلاة دائم مؤبد على الأمّة بغير شرط،قيل لهم:و بمثل هذه الضرورة يعلم أنّ إطلاق رسول اللّه صلّى اللّه عليه لهذه القراءات و الحكم بصوابها مؤبّد،و لا جواب عن ذلك،و قد أشبعنا هذا الكلام فيما سلف بما يغني عن إعادته.
و إذا كان ذلك كذلك ثبت صواب جميع هذه الأحرف و القراءات و إطلاقها على التأبيد،و أنّ الصحابة لم يكن بينهم خلاف في هذا الباب،و أنّه يجب أن يحمل الأمر في كلّ خلاف روي عنهم في المصاحف و القراءات،خرجوا فيه إلى المنافرة و الإنكار و المنع من القراءة بما اختلفوا فيه،على أنّ ذلك الاختلاف ليس من هذه الأحرف السبعة و القراءات التي أحلّ اللّه سبحانه جميعها في شيء،و إنّما هو في بعض ما تقدّم ذكره ممّا لم يصحّ و تقوم الحجّة بأنّه قرآن منزل،أو فيما كان نزل و نسخ أو فيما أثبت من تأويل مع تنزيل على وجه التذكرة،أو مما أسقطت كتابته و حذف،و هو قرآن ثابت،قد أمر اللّه سبحانه به و ألزم إثباته و قراءته،و نحو هذا مما يجب إنكاره و منعه و المنافرة فيه،و هذه جملة كافية في هذا الباب،و باللّه التوفيق.
***
ص: 366
القول في تفسير معنى القراءات السبع
التي أنزل اللّه جل و عز القرآن بها
فإن قال قائل:فما هذه الأحرف السبعة،و ما تأويلها و حسن الاختيار فيها؟قيل له:هي في الأصل على أربعة أضرب،فثلاثة منها/مرويّ تفسيرها[235] عن النبي صلى اللّه عليه و سلّم و بعض التابعين،و الضرب الرابع ثابت عن النبي صلى اللّه عليه و سلّم و إن لم يكن نصّ في تفسيرها،و قد اختلف الناس في تأويله اختلافا سنذكره فيما بعد إن شاء اللّه،و نصف ما نختاره و نقيم الدّليل على صحته،و حرفان من الأحرف الثلاثة المرويّ تفسيرها قد ورد تفسيرها عن النبي صلى اللّه عليه و سلّم من ذلك فهو ما قدّمنا ذكره من قوله صلى اللّه عليه و سلّم:«إنّ الكتاب الأوّل أنزل من باب واحد،و كان على حرف واحد،و أنزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف:نهي و أمر و حلال و حرام و محكم و متشابه و أمثال،فأحلّوا حلاله و حرّموا حرامه، و افعلوا ما أمرتم به و انتهوا عمّا نهيتم عنه،و اعتبروا بمحكمه و آمنوا بمتشابهه،و قولوا آمنا به كل من عند ربنا».
فهذا نص منه على تفسير هذه السبعة الأحرف بما يمنع و يحظر من زيادة عليها و نقصان منها،أو تفسيرها بغير ما فسّره صلى اللّه عليه و سلّم و بيّنه،و ليست هذه السبعة الأحرف هي الأحرف التي أجاز لعمر و هشام و عبد اللّه و أبيّ و عمرو و من رافعه إليه القراءة بجميع ما اختلفوا فيه و صوّبهم عليه،و قال لهم في سائره أصبتم و أحسنتم،و هكذا أقرأتكم،لأن القرآن على عصر الرسول و بعده لم
ص: 367
يختلف في أنه لا يجوز التحريم موضع التحليل و المحكم موضع المتشابه و الأمر في مكان النّهي،هذا مما لم يختلف قطّ فيه سلف الأمّة و لا خلفها، و لا يجوز أن يقع ذلك منها،و إنما اختلفت في وجوه الإعراب و الإمالة و التقديم و التأخير و تغيير الاسم بما ينوب عنه إلى أمثال ذلك من وجوه الأحرف السبعة مما سنشرحه فيما بعد إن شاء اللّه و كذلك قال ابن شهاب عند ذكره السبعة الأحرف التي رواها:«بلغني أن تلك السبعة الأحرف إنّما [236]هي في الأمر الذي يكون واحدا لا يختلف في حلال/و لا حرام».
و إذا كان ذلك كذلك ثبت أنّ هذه السبعة المفسّرة عن الرسول ليست هي السبعة الأحرف التي يسوغ الاختلاف فيها،و ليس يجب إذا أنزل اللّه القرآن على سبعة أحرف هي:أمر و نهي و تحليل و تحريم و غير ذلك أن لا ينزله على سبعة أحرف أخر و هي:أوجه و إعراب مختلف و إنّها مختلفة اللفظ متفقة المعنى،و غير ذلك،و أن تكون الأخبار عن أنّه أنزل على سبعة أحرف لا يسوغ بغيرها،و الاختلاف فيها منافيا للإخبار بأنّه منزّل على سبعة أحرف أخر ليست من هذه الضروب،يسوغ الاختلاف فيها.
و إذا كان ذلك كذلك صح ما قلناه و ثبت أن هذه السبعة الأحرف المفسّرة ليست هي القراءات السبعة المختلف في تأويلها.
فإن قال قائل:الأمر و النهي و التحليل و التحريم لا يسمّى في اللغة حرفا،و إنّما يسمّى كلّ ضرب منه وجها و ضربا من الكلام و كلمة،فكيف استجاز الرسول صلى اللّه عليه و سلّم أن يسمّي الأمر و النهي حرفين؟.
يقال له:هذا اعتراض على الرسول و سؤال لازم له إن كان لازما دوننا، فإن كان السائل عن ذلك معترفا بالنبوة فلا سؤال له،و إن كان مبطلا لها لم
ص: 368
يجب أن يكلّم في تفسير الأحرف و القراءات،ثم يقال له:قد صحّ بما سنبينه فيما بعد إن شاء اللّه أن الوجه الذي يقع عليه الفعل و الكلام يسمّى في اللغة حرفا و لذلك قال اللّه سبحانه: وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَ إِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ [الحج:11]الآية،و إنّما عنى بالحرف-و هو أعلم و أحكم-الوجه الذي تقع العبادة عليه،يقول إنّ منهم من يعبد على النعمة و الرخاء و الغنا و يطمئن إلى ذلك،فإن تغيّرت حاله إلى فقر و شدّة و غير ذلك؛ترك عبادة ربّه و كفر به،و إذا كان ذلك كذلك،و كان الأمر/وجها و النهي وجها آخر منه،و كذلك التحليل و التحريم،جاز أن[237] يسمّي رسول اللّه كلّ ضرب من هذه الضروب حرفا،على تأويل أنّه وجه من وجوه الكلام،و إذا كان ذلك كذلك سقط السؤال و زالت الشبهة و الاعتراض.
و أما الضرب الثاني من الثلاثة التي روي تفسيرها فهو ما قدّمنا ذكره في رواية أبيّ عن النبي صلى اللّه عليه و سلّم أنه قال:«يا أبيّ إني أقرئت القرآن،فقيل لي على حرف أو حرفين؟فقال الملك الذي معي:على حرفين،فقلت:على حرفين،فقيل لي:على حرفين أو ثلاثة؟فقال الملك الذي معي:على ثلاثة،قلت:على ثلاثة،هكذا حتى بلغت سبعة أحرف،ليس منها إلا شاف كاف،إن قلت:غفور رحيم سميع عليم،أو عليم حكيم عزيز حكيم هو كذلك ما لم تختم عذابا برحمة أو تختم رحمة بعذاب».هذا آخر الخبر.
و في هذا الخبر أيضا من نصّ الرسول صلى اللّه عليه و سلّم على تفسير هذه الأحرف ما يمنع من التأويل و الاختلاف فيه،و تكليف غير ما قاله الرسول أو تغييره، و هل السبعة الأحرف الأخر أيضا ليست السبعة الأوّلة التي فسّرها بالأمر و النهي على ما قدمناه،و لا السبعة التي هي وجه من القراءات،و اختلاف
ص: 369
اللفظ و الإعراب و التقديم و التأخير،و إنّما هي سبعة أوجه من أسماء اللّه تعالى لها سبعة معاني و سبع عبارات مختلفة،و ليس يجب إذا أنزل اللّه تعالى القرآن على هذه السبعة الأحرف و التي قبلها أن ينزله على سبعة أحرف على السبعتين الأولتين،لأنّ ذلك غير متناف و لا متضاد ممتنع.
فإن قال قائل:فما تقولون في بقاء حكم هذه السبعة الأحرف الثابتة، و ممّا روي من تفسيرها،و أنه يجوز أن يجعل مكان غفور رحيم و مكان حكيم عليم و مكان عزيز عليم ما لم يختم عذاب برحمة أو رحمة بعذاب، هل حكم ذلك باق،و هل يجوز أن يكون مكان كلّ اسم للّه تعالى من هذه الأسماء غيره مما هو بمعناه أو مخالف لمعناه أم لا؟ [238]يقال له:نقول في ذلك/إن هذه الرواية إذا صحّت و ثبتت؛وجب أن يحمل الأمر فيها على أنّ ذلك كان شائعا مطلقا ثم نسخ و منع و أخذ على الناس أن لا يبدّلوا أسماء اللّه تعالى في آية و موضع من المواضع بغيره،مما هو بمعناه أو مخالف لمعناه،لأنّ ذلك مما قد اتفق المسلمون عليه،و لذلك لم يسغ أن يقال قل أعوذ برب البشر مكان الناس،و قل أعوذ بخالق الناس مكان ربّ الناس،و تبارك اللّه أحسن المقدرين أو المخترعين أو المنشئين مكان قوله الخالقين،في أمثال ذلك مما قد اتفق على منعه و حظره،فثبت أنّ هذا ممّا كان مطلقا مباحا،و نسخ.
و يجوز أن يكون قد شرّع في صدر الإسلام أن يجعل مكان الحرف الواحد خلافه مثل مكان عليم قدير،و أن يجعل مكانه مثله مثل مكان غفور رحيم،ثم نسخ ذلك من بعد،فأما أن يجعل مكانه ضدّه مثل مكان غفور شديد العقاب،فلم يكن ذلك جائزا بالإجماع.
ص: 370
و قد يجوز أن يقول قائل:إنّ المباح كان من الأسماء المبدّلة التي يسوغ وضع كل شيء منها مكان غيره سبعة من أسماء اللّه فقط،حتى لا يلزمه ذلك في سائر أسمائه تعالى،و ذلك غير ممتنع،إلا أنّه لما اتّفق المسلمون على أنّه ليس في شيء من أسمائه تعالى الثابت في آية من الآي ما يجوّز أن يبدّل بغيره علم بذلك نسخ ما تضمّنه هذا الخبر من إطلاق هذا الباب و رفعه بعد تحليله،و ليس بمحال أن ينزل اللّه سبحانه القرآن على وجه ثم ينسخ ذلك الوجه من القراءة بغيره،كما أنّه ليس بمحال أن ينزله في الأصل إلا على وجه واحد و ليس بمحال واحد،و ليس بمحال رفع التلاوة نفسها و نسخها بعد إنزالها و إيجاب القراءة لها،و إذا كان ذلك كذلك ثبت ما قدمناه.
فأمّا الوجه الثالث المرويّ تفسيره عن بعض التابعين،فهو ما قدّمنا ذكره عن عمرو بن الحارث و ابن لهيعة روايتان رواهما بكير:
إحداهما:أن عمرو بن العاص قرأ آية من القرآن فسمع رجلا يقرؤها خلافا/لقراءته،فقال من أقرأك هذا؟فقال:رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم،فذهب به إليه،[239] فذكر له و قرأ عليه كلاهما،فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم:«أصبتما،إن القرآن نزل على سبعة أحرف»،فقال بكير:و ذكر لي أنه قيل لسعيد بن المسيّب:ما سبعة أحرف؟فقال:كقولك هلمّ و تعال و أقبل،و كل ذلك سواء،و هذا التفسير و إن كان مما لا يلزمنا قوله و القطع على صحته لكونه مذهبا و قولا لسعيد بن المسيّب و لا سأل بكير عن ذلك سعيدا (1)،و قوله:بلغني أنّ سعيدا قيل له،و لم يذكر من بلّغه ذلك عن سعيد،فإنّه يمكن أن يكون صحيحا،و أن يكون اللّه سبحانه قد كان أباح للقارئ في صدر الإسلام أن-.
ص: 371
يجعل مكان اسم الشيء المذكور في الآية غيره من أسمائه التي هي بمعنى ذلك الاسم،أو أباح ذلك في سبعة أسماء فقط،إمّا من أسماء اللّه تعالى أو من أسماء غيره،أو أباح ذلك في سبع كلمات ليست بأسماء له،معنى كلّ واحدة منها معنى الأخرى،و أطلق القراءة بأيها شاءوا و خيّرهم في إبدال الاسم و الكلمة بما هو بمعناها في تلك السبع الكلمات أو الأسماء المخصوصة، ثم إنه سبحانه حظر ذلك بعد إباحته و منع على ما بيّناه من قبل.
و تحتمل هذه الرواية أيضا أن يكون من سعيد بن المسيب تفسير لبعض الحروف السبعة،الشافي حكم القراءة له،فكأنه قال:هذه سبيل السبعة الأحرف أو أكثرها في أنّه اختلاف بالإعراب و التقديم و التأخير و الإمالة و تركها،و الجمع و التوحيد لا يفسد معنى و لا يغيره،مثل الصوف المنفوش مكان العهن،و قوله إن كانت إلا زقية واحدة مكان صيحة،و طعام الفاجر مكان الأثيم،مثل هلمّ و تعال و أقبل،و كأنّه فسّر السبعة بوجه منها،ليبيّنه بذكره على أنّها أو أكثرها جارية مجرى ذلك الوجه،في أنّها لا تغير معنى و لا تفسده،و إن كان فيها ما يختلف معناه اختلافا لا يتضادّ و يتنافى على ما [240]سنبينه فيما بعد/إن شاء اللّه،فهذا وجه القول في هذا التفسير المرويّ عن سعيد بن المسيب و ما جرى مجراه مما روي عن غيره.
و أما الوجه الرابع من ضروب السبعة الأخر:فهو الضرب الذي صوّب فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم القراءة بجميعها،و أنّه وافاه عمر و هشام و أبيّ و عبد اللّه و عمرو و من خالفه على سائرها،و هي التي راجع اللّه تعالى فيها فزاده و سهّل على أمّته لعلمه بما هم عليه من اختلاف اللغات و استصعاب مفارقة الطبع و العادة في الكلام إلى غيره،و تأويل هذا الضرب من السبعة الأحرف أنّه أنزل على سبع قراءات و سبعة أوجه،و قوله أحرف و قراءات و لغات و أوجه
ص: 372
بمعنى واحد،و الدليل على صحة هذا التأويل أنّ الحروف في اللغة إنّما تستعمل في الأصل في أحد شيئين:
أحدهما:طرف الشيء و شفيره و حاشيته،و منه قولهم:حرف الطريق و حرف الوادي و حرف الإجانة و حرف الرغيف،و كذلك قولهم في حرف الدرهم و الدينار و طرف كلّ جسم و شفيره و حاشيته و هذا مما لا خلاف فيه، و يستعمل أيضا في المثال المقطوع من حروف المعجم التي فيها الألف و الباء و التاء و غير ذلك،و تستعمل أيضا في الكلمة التامّة التي هي حروف كثيرة مجتمعة و ذلك ظاهر بينهم معروف في الاستعمال،و ذلك أنّهم يقولون ما سمع عن زيد في هذا الباب حرف و لا تكلم فيه بحرف و لا به في هذا العلم من الكلام حرف واحد،و ما ذكر فلان من خبره،و ما سئل عنه حرفا البتة،و قد نغّم فلان في هذه القصة بحرف سوء.
و قد عرف أنّهم لا يعنون بذكر الحرف في جميع هذا الكلام عنه حرف واحد مقطوع أنّه لم يسمع ممّن نقل الكلام عنه،حرف واحد مقطوع من ألف أو ياء أو واو،و لأنّ الحرف الواحد لا يصحّ التكلّم به فيسمع أو لا يسمع، و كذلك إذا قالوا ما نطق و لا تكلّم بحرف واحد،فإنّهم إنّما يعنون أنّه ما تكلّم بكلمة و لا أورد نقطة،لأن الحرف الواحد المنقطع/لا يكون قولا و لا[241] كلاما فلا يصحّ أن ينفى التكلّم به أو يثبت،و كذلك إذا قيل:ما صنّف فلان و لا تكلّم في هذا العلم بحرف،فليس يعني بذلك إلاّ نفي كلامه فيه،و لا يعني أنّه لم يورد فيه ألفا أو واوا.
و كذلك إذا قالوا:ما تكلّم فلان من خبر فلان بحرف،إنّما يعنون أنّه لم يتكلّم بكلمة هي خبر عن بعض أموره،لأنّ الكلّ قد أطبقوا على أنّ الحرف
ص: 373
المقطوع من حروف المعجم ليس بخبر،و لا يصح أن يكون خبرا حتى يقال إنّه ما أخبر به الرجل أو أخبر به،و إذا كان ذلك كذلك ثبت أنّهم يسمّون الكلمة المجتمعة من حروف كثيرة حرفا.
و يبيّن ذلك أيضا و يوضّحه أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم لما أخبر على وجه الترغيب بأنّ للقارئ بكلّ حرف عشر حسنات بيّن ذلك و فسّره،فقال:«أما إني لا أقول الم حرف و لكن ألف حرف و لام و ميم حرف»فتبيّن أنّه أراد بذلك الصّور المقطّعة من حروف المعجم التي هي ا ب ت ث،لئلا يظنّوا أنّه أراد بذكره الحروف الكلمة المنظومة التامّة من حروف كثيرة و لو[لم] (1)تسمّ الكلمة عندهم حرفا،لم يكن لهذا التفسير معنى،و كل هذا يوضح عن أن الكلمة تسمّى في اللغة حرفا،و كذلك الكلمة قد استعملت عندهم في أقل الكلام و أكثره و استعملت في القصيدة بأسرها و الخطبة بطولها و الرسالة بتمامها.
و قال الشاعر:
إنّك لو شاهدتنا بالخندمة إذ فرّ صفوان و فرّ عكرمة
لم تنطقي باللوم أدنى كلمة
يريد أقلّ كلمة و أيسرها لشدة ذلك و صعوبته،و ما قالوا ما يسرّهم،قال الشاعر في كلمة كذا و كذا يريدون بذلك في قصيدته،لأنّهم ربما حكوا عنه كلاما كثيرا من كلمات فقالوا مع ذلك هذا،قالوا في كلمته،و ليس يجوز أن يقول في كلمة واحدة كلمات كثيرة،و ربّما حكوا أنّه قال في كلمة وصف [242]حرب طال،أو حال رجل شجاع أو جبان أو حكوا عنه شيئا/طويلاه.
ص: 374
يقولون:قاله في كلمته،فعلم أنّهم يعنون بالكلمة القصيدة،و شهرة هذا عنهم يغني عن الاحتجاج له،و إن كان ما ذكرناه يزيل ريب من علم له بجوامع كلام القوم،و كذلك إذا قالوا:قال المترسّل أو الخطيب في كلمته كذا و كذا،إنّما يعنون به الخطبة و الرسالة.
و إذا كان ذلك كذلك و ثبت أن النبيّ صلى اللّه عليه و سلّم لم يرد بقوله:أنزل القرآن على سبعة أحرف،حروف المعجم المصوّرة على المثال الذي يكون منها ألف و باء و تاء،لأنّ ذلك لا معنى له،لأنّه منزل إذا على التسعة و العشرين،و لأنّ كلّ مثال منها حرف على الحقيقة إلاّ لام الألف لأنّها مؤلّفة من حرفين و أدخلت الألف في اللام،فصارت صورتها صورة لا.
و إذا كان ذلك كذلك و كان القرآن منزلا بسائر حروف المعجم،فما معنى حمل الخبر على أنّه سبعة أحرف منها،هذا ليس من كلام أهل العلم و التحصيل بسبيل،و لا يجوز أن يكون المراد بذلك أنّه أنزل على سبع كلمات فقط،لأنّ الكلام المنزل أكثر من سبع كلمات و سبع و سبع بشيء كثير،فما معنى تأويل الخبر على أنّه منزّل على سبع كلمات،هذا أيضا مما لا محصول له و لا تعلّق لأحد فيه.
فثبت بذلك أنّ الأحرف السبعة التي ذكرت إنّما هي سبع لغات و سبعة أوجه و سبع قراءات مختلفات،و الوجه و الطريقة التي يكون الكلام و غيره أيضا عليها يسمّى في اللغة حرفا،قال اللّه تعالى: وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَ إِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ [الحج:11]،و لم يرد تعالى بذكره الحرف في هذه العبارة الحرف من حروف المعجم و لا أراد الكلمة،و إنّما أراد و هو سبحانه أعلم الوجه و الطريقة التي تقع عليها العبادة،و أنّ منهم من يعبد اللّه على الخير يصيبه و النماء في ماله،و إكمال
ص: 375
صحته و وفور نعمه،و منهم من يعبده على الشدّة و البأساء و الرجاء،و كيف تصرّفت به الأحوال،لأنّه عنده أهل لأن يعبده مع التفضل و الامتحان و على الخيرات و الإنعام.
[243]و قد قيل:/إن معنى قوله تعالى: يَعْبُدُ اللّهَ عَلى حَرْفٍ أي على شكّ و غير استبصار و طمأنينة،و جعل الحرف مثلا لقلة الطمأنينة،كما يقال فلان على شفا جرف،إذا كان غير متمكن في الأمر،قال أبو عبيد:و كل شاكّ في شيء فهو على حرف.
و قيل:إنّ الآية نزلت في أعاريب من بني أسد أسلموا على يد النبي صلى اللّه عليه و سلّم،فكانوا إذا سلمت مواشيهم و أعطوا من الصدقة استقاموا على الإسلام، و إذا لم يعطوا و هلكت مواشيهم ارتدّوا عن الإسلام،و هو العبادة للّه سبحانه أيضا عبادة له على وجه و طريقة هي الشكّ و عدم اليقين،و مخالفة لعبادته باليقين،و الصبر على البأساء و الضراء،فلا معنى لقول من زعموا أنّ الوجه لا يسمّى حرفا.
و إذا كان ذلك كذلك ثبت أن الوجه و الطريقة التي لا يقع الشيء عليها تسمّى في اللغة حرفا،فوجب لذلك أن يكون قوله سبعة أحرف أنه أنزل على سبعة أوجه و سبع لغات و سبع قراءات مختلفة،و الاختلاف فيها إما أن يكون في تبيينها و صورتها،أو في معناها بحركة أو إمالة أو وجه من وجوه الإعراب بغير معناها،و إن كانت الصورة في الكتابة بعينها غير مختلفة على ما سنبيّنه من بعد إن شاء اللّه.
و ممّا يدلّ على صحة هذا التأويل قول الناس إنّ هذه الكلمة مقروءة في حرف أبي بكر أو في حرف عبد اللّه بغير هذا،و في حرف زيد و الجماعة
ص: 376
بخلاف حرف عبد اللّه و أبيّ،و إنّما يعنون بذكر حرف كلّ واحد منهم قراءته و اللغة التي يختارها،و القراءة التي اجتباها و آثرها على غيرها.
و إنما سمّيت القراءة حرفا،و إن كانت كلاما كثيرا،لأنّ منها حرفا غيّر نظمه أو كسر و قلب إلى غيره أو أميل أو زيد أو نقص أو قلب نحو قيّوم،إذا قلبت فقيل قيّام،و قد جعلت الواو من قيوم ألفا،فينسب القراء واو الكلمة الثابتة إلى الحرف المغيّر المختلف الحكم من القراءتين،و ممّا يدل أيضا على صحة ما قلناه و يزيده وضوحا أنّ الناس اختلفوا في تأويل ما روي في ذلك على وجوه:
فقال قوم/السبعة الأحرف:حلال و حرام و أمر و نهي و موعظة و قصص[244] و أدب،و قال قوم:محكم و متشابه و قصص،و قال آخرون:تأويل الأحرف أنها سبعة أنواع من الكلام،خبر و استخبار و أمر و نهي و تمن و تشبيه و جحد.
و قال قوم:معنى الأحرف أنّها سبعة أسماء تترادف على الشيء الواحد يكون معناها واحدا،و اختلفت صورها مثل قولك أقبل و هلمّ و تعال و جيء و اقصد و تقدّم و ادن و اقرب،و ما جرى مجرى ذلك،و قال آخرون:معنى الأحرف أنها أسماء و صفات للّه تعالى،مثل عليم حكيم و سميع عليم و بصير و عزيز حكيم،و أمثال ذلك.
و قال قوم:الأحرف المذكورة في الخبر:وعد و وعيد و حلال و حرام و مواعظ و أمثال و احتجاج،و قال آخرون:معناها حلال و حرام و أمر و نهي و خبر ما كان قبل و خبر ما هو كائن بعد و أمثال،و قال آخرون:معناها سبع قراءات بلغات سبع في حرف واحد،إمّا بتغيير إعراب سبع جهات أو في حرف للسبع لغات بغير تغيير إعراب بل بصور مختلفة أو زيادة أو نقصان.
ص: 377
ثم اختلفوا في تأويل الخبر من وجه آخر،فزعم قوم أنّ كلّ كلمة تختلف القراءة بها فإنّها مقروءة منزلة على سبعة أوجه و إلا بطل معنى الحديث.
قالوا:و لكنّا نعرف بعض هذه الأوجه في الكلمة المختلفة القراءة لظهور نقله و مجيء الخبر به،و لا يعرف بعضها؛لأنّ الخبر لم يأتنا بذلك، و قال منهم قائلون:ليس بموجب ظاهر الحديث أكثر من أن يوجد في القرآن كلمة أو كلمتان تقرءان على سبعة أوجه،فإذا حصل ذلك تمّ معنى الحديث، و أنّنا لا نعرف قدر ما فيه ممّا أنزل على سبعة أحرف على التحقيق،غير أنّنا نعرف أن ذلك شيء كثير لاختلاف القراءة في مواضع كثيرة،و لو لم توجد فيه إلا كلمة تقرأ ليقرأ على سبعة أوجه فهي أوفت الحديث معناه.
و الذي نختاره أنّ معنى ذلك:أنّه وجه و طريقة يقرأ عليها جميع القرآن [245]أو معظمه أو قريبا من/معظمه،و هذا التأويل هو المراد بقول الناس:
حرف عثمان و الجماعة يخالف حرف عبد اللّه بن مسعود،و حرف أبيّ غير حرف زيد،و فلان يقرأ بحرف عاصم دون حمزة،يعني بذلك وجها و طريقة من القراءة يقرأ معظم القرآن عليها.
و من البعيد أن يكون ذلك منصوبا إلى كلمة منه أو اثنتين فقط تقرءان على سبعة أوجه،لأنّ قوله:أنزل القرآن على سبعة أحرف،عبارة لا تستعمل في العادة إلا في جميع القرآن أو معظمه،يدل على ذلك أنّ الناس إذا اختلفوا في بيت من قصيدة أو كلمة أو رسالة أو مسألة أو كلمة من كتاب مصنّف،لم يجز في العادة أن يقال:هذه القصيدة أو الخطبة أو الرسالة تنشد و تروى على وجهين أو وجوه،و إنّما يجب أن يقال:إنّ الكلمة الفلانية من الخطبة أو البيت الفلانيّ من القصيدة تنشد و تروى على وجوه،و كذلك
ص: 378
لا يقال:هذا الكتاب مروي على وجهين و نسختين لاختلاف وقع في كلمة فيه،و إنّما يقال هذه المسألة فيه و الكلمة تروى على وجهين،فوجب بذلك أن تكون العادة في هذا الاستعمال على ما وصفناه.
و قد زعم قوم أنّ معنى قول النبي صلى اللّه عليه و سلّم:«أنزل القرآن على سبعة أحرف»،أنّه منزل على سبع لغات مختلفات،و هذا أيضا باطل إن لم يرد باللغات الوجوه المختلفة التي يتكلّم بجميعها و تستعمل في اللغة الواحدة، و الدليل على فساد ذلك علمنا بأنّ لغة عمر بن الخطاب و هشام بن حكيم و أبيّ بن كعب و عبد اللّه بن مسعود و زيد بن ثابت كلّها لغة واحدة و إنّها ليست لغات متغايرة،و هم مع ذلك قد تنافروا و تناكروا القراءة و خرجوا إلى ما قدّمنا ذكره،و لو كانوا أيضا يتكلّمون بلغات مختلفة لم يكن ما بينهما من الاختلاف مع كونها لغة العرب و لسانها،يوجب خروجهم إلى ما خرجوا إليه،لأنّه لم يكن في تلك اللغات مستشنع و لا مستضعف مرذول/يجب[246] إنكاره و ردّه.
فوجب بذلك أن يكون ذلك الاختلاف في حروف و وجوه من القراءات أنزل القرآن عليها،و إن كانت كلّها لغة قريش و من جاورهم و قارئهم، فوجب أن يكون التأويل ما نذهب إليه،و متى أقمنا الدليل على بطلان جميع هذه التأويلات صحّ ما قلناه من أنّ المعنيّ في الأحرف أنّها أوجه و قراءات و لغات مختلفة بالذي نذكره فيما بعد إن شاء اللّه.
و الذي يبيّن فساد جميع هذه التأويلات توقيف رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم على إباحة القراءة بجميع الأحرف السبعة و إطلاقه لذلك و إخباره بأنّه كذلك أنزل، و قوله في غير خبر:«فاقرءوا كيف شئتم و اقرءوا منه ما تيسّر»و إذا كان ذلك كذلك بطل قول من زعم أنّ معنى الأحرف أنّه حلال و حرام و وعد و وعيد
ص: 379
و مواعظ و أمثال و جحود و تشبيه و خبر ما قبل و خبر ما بعد،و أنها أسماء اللّه تعالى و صفات أو أنّها أسماء سبعة تترادف على شيء واحد بمعنى واحد و غير ذلك مما حكيناه،لأنّه لو كان الأمر على ما ذكروه لكان القارئ لكتاب اللّه تعالى مخيرا في أن يجعل مكان الأمر نهيا،و مكان الخبر استخبارا،و مكان الوعد وعيدا،و مكان التمنّي تشبيها،و موضع التشبيه جحودا،و موضع الجحود مثلا،و أن يجعل مكان عزيز حكيم سميع عليم، و أن يجعل موضع قدير جواد كريم،و أن يجعل مكان نزل به الروح الأمين هبط به،و مكان إني ذاهب إلى ربي إني منصرف إلى ربي،و موضع قوله تعالى: وَ جاءَ رَبُّكَ أقبل ربّك.
و لما أجمع المسلمون على فساد ذلك أجمع،و حظره و تحريمه و أنّه لا يحلّ و لا يسوغ إبدال الوعيد بالوعد و الجحد بالمثل و الخبر بالاستخبار و الذهاب بالانصراف،و أنّ الواجب قراءة كلّ شيء من ذلك على ما هو مكتوب مرسوم بغير تغيير و لا تبديل،سقطت هذه التأويلات سقوطا ظاهرا.
و ممّا يوضّح فساد ذلك أيضا ما روي عن النبي صلى اللّه عليه و سلّم من أنّ جبريل أقرأه [247]القرآن بحرف ثم استزاده فزاده فقال صلى اللّه عليه و سلّم:«ما/زلت أستزيد جبريل و يزيدني حتى أقرأني بسبعة أحرف»،و قد علم أنّه لا يستزيد مكان الأمر نهيا و موضع الوعد وعيدا،و مكان الخبر استخبارا و أمثال ذلك مما قالوه،و لا خلاف بين الأمة في إحالة هذه الاستزادة على الرسول،و إذا كان ذلك كذلك بطلت هذه التأويلات بطلانا بيّنا.
و مما يدلّ على فساد تأويل قول من قال:معنى الأحرف،عليم حكيم و سميع بصير أنّ هذا في القرآن أكثر من سبعين اسما و صفة و كلّ أسماء اللّه
ص: 380
سبحانه و صفاته الذاتية و الفعلية أسماء و صفات،و قد جاء الأثر:«إن للّه تعالى تسعة و تسعين اسما من أحصاها دخل الجنة»،و ذلك لا يدلّ على أنّه ليس له أكثر من هذه الأسماء،و لكن يقتضي ظاهر الخبر أنّ من أحصى تلك التسعة و التسعين اسما على وجه التعظيم للّه تعالى دخل الجنة،و إن كان له أسماء أخر،فكيف يقال إنّ هذه الأسماء و الصفات سبعة فقط.
و على أنّنا قد بيّنا أنّ القراءة بالأحرف كلّها مباحة مطلقة،فلو كان معناها أنّها أسماء اللّه و صفاته لحلّ و ساغ أن يقرأ القارئ مكان: اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ،الشكر للّه ربّ العالمين،و موضع: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ ،قل أعوذ بخالق الناس،و موضع: اَلْخَلاّقُ الْعَلِيمُ ،هو الرزّاق العليم،و مكان: قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ ،قل هو الخالق الفرد،فلمّا أجمع المسلمون على تضليل من صنع ذلك في قراءته و تأثيمه إذا كان قاصدا إلى ذلك غير غالط و لا ناس و لا ساه،فسد التأويل فسادا بيّنا لأنّ ذلك لو كان كما قالوه لم يجب حفظ القرآن على وجه،و لم يكن على الناس كلفة في حفظه و درسه و ترتيبه،و إذا جاز أن يجعلوا موضع الربّ الإله،و مكان الخلاّق الرزّاق و موضع العزيز المنيع و مكان العليم الحكيم،هذا ممّا لا يصير إليه أحد من المسلمين فبان بذلك فساد ما ذهبوا إليه،و قد ثبت أنه لا يجوز إن كان ذلك مباحا في سبعة أسماء فقط من أسماء اللّه تعالى ثم نسخ، فأمّا أن يكون تأويل السبعة الأحرف التي اختصمت الصحابة فيها فلا.
و أما من قال إنّ/معنى الأحرف السبعة أنّها:أمر و نهي و خبر و استخبار[248] و تمن و أمثال،فقد بيّنا فساد ذلك حيث قلنا إن القارئ ليس بمخير في أن يجعل كلّ ضرب من هذه الضروب مكان غيره،و قد استدلّ على فساد ذلك بما ليس بالقوي،فقيل:و يدل على فساد ذلك أيضا أنّ أهل العربية قد
ص: 381
أدخلوا بعض هذه الأقسام في بعض،فقالوا الكلام خمسة أنواع،و قالوا أكثر من ذلك شيء كثير،ثم حصروا ذلك بأن قالوا:خبر و استخبار و أمر و نهي، و دعاء دخل في الأمر نحو قولك:اللّهم افعل بي كذا و كذا،و جحد دخل في الخبر نحو قولك:ما قام زيد،و كذلك القسم خبر،و الإعراب داخل في الأمر،و التمني داخل في الطّلب،فمنهم من يقول الذي يحيط بجميع ضروب الكلام خبر و استخبار و أمر و نهي،و إذا كان ذلك كذلك بطل قولهم إنّ السبعة الأحرف هي هذه الأقسام،لأنّها أربعة على التحقيق بدل السبعة، فبان فساد ما قالوه من أنّه لا معنى للسبعة الأحرف المذكورة إلا هذا.
و لكن يمكن أن تكون هذه سبعة أحرف أنزلت على ما فسّره الرسول صلى اللّه عليه و سلّم،و هي غير السبعة التي صوّب المختلفين فيها من الأوجه و القراءات، فحصر أوجه السبعة بأربعة أوجه لا يدلّ على فساد هذا التأويل.
و أما ما يدل على فساد قول من زعم أنّ معنى الأحرف السبعة أنّها أسماء مترادفة على شيء واحد،إنّ ذلك لو كان كذلك لوجب أن يكون القرآن منزلا على أكثر من سبعة أحرف و على أقل منها أيضا،لأنّ من الأشياء التي ذكرها اللّه تعالى أكثر من سبعة أسماء في اللغة،و منه ما له أقلّ من سبعة أسماء،و منه ما لا اسم له إلا واحدا،فبطل ما قالوه.
فإن قيل:أراد بذلك أنّ الأسماء التي ذكرها اللّه تعالى و أودع اسمها كتابه ما ذكره لسبعة أسماء من أسمائه فقط و إن كان له أكثر من تلك الأسماء،قيل لهم:هذا فاسد لأنّنا لا نعرف في شيء مما ذكره اللّه تعالى [249]مما له سبعة أسماء ذكره اللّه تعالى بها في موضع واحد/أو في مواضع متفرقة،و إن كان ذلك كذلك سقط ما قالوه.
ص: 382
و يدلّ على فساد هذا التأويل أيضا أنّ قارئا لو قرأ مكان و جاء ربّك،و وافى ربّك،و قرأ:(إني ماض إلى ربي)مكان)، إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي [الصافات:99] و لو قرأ:(جيئوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم)أو:(وافوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم)مكان قول اللّه تعالى: تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ [آل عمران:64]لم يسغ ذلك و لم يحلّ بإجماع المسلمين،و إذا كان ذلك كذلك بطل ما قالوه من كل وجه،و لسنا ننكر مع ما أفسدنا به قولهم أن يكون من الحروف السبعة التي أنزل بها القرآن هذا الوجه بأن يكون اللّه تعالى ذكر شيئا أو أشياء من كتابه باسمين مختلفين و لفظين متغايرين أو أسماء متغايرة مختلفة الصور،و يكون هذا الباب حرفا ممّا أنزله و طريقة و قراءة معروفة،و لكنّها تكون مع ذلك بعض السبعة الأحرف،و لا يكون معنى جميع السبعة الأحرف هذا الوجه.
و قد روي أن عبد اللّه قرأ كالصوف المنفوش مكان العهن المنفوش، و قرأ:(إن كانت إلا زعقة (1)واحدة)مكان: صَيْحَةً واحِدَةً [يس:29]، و قرأ بعضهم:(إنّ شجرة الزقوم طعام الفاجر)مكان: طَعامُ الْأَثِيمِ [الدخان:44]،فيكون هذا الاختلاف في الأسماء التي معناها واحد وجها مما أنزله اللّه تعالى و سمّاه الرسول حرفا،و جعله بعض السبعة الأوجه التي أنزل الكتاب بها،و إنّما ننكر أن يكون هذا الضرب فقط هو معنى جميع الوجوه و الأحرف التي أنزلت على ما قاله أصحاب هذا التأويل،فهذا هو الفصل بيننا و بينهم في تنزيل هذا الوجه و مرتبته،فدلّ ما ذكرناه على أنّ المراد بذكر الأحرف السبعة المطلقة للاختلاف إنّما هو أوجه.
***ة.
ص: 383
القول في تفسير اللغات و الأوجه و القراءات السبعة التي قلنا
إنها المعنية بقوله:«أنزل القرآن على سبعة أحرف»
فإن قالوا:قد أوضحتم أنّ معنى الأحرف أنّها أوجه و لغات و قراءات [250]سبعة و أفسدتم ما عدا/هذا التأويل،فخبّرونا ما تلك الأوجه و اللغات؟ قيل لهم:أوّل ما نقول في جواب ما سألتم عنه أنّه إذا صحّ ما قلناه أنّ معنى هذه الأحرف أنّها أوجه و لغات و قراءات متغايرة،و لم يدلّنا نصّ الرسول على أعيانها بأسرها و أجناس اختلافها و طرق اللغات فيها،و لم تتفق الأمّة على ذلك فيما علمنا في عصر من الأعصار اتفاقا بلغنا،و قامت الحجة به علينا،و لم ينتشر تفسير ذلك عن السلف و لا عن إمام في هذا الباب،ظهر قوله و علم تسليم الأمة له صحة ما قاله و فسّره،و ثبت أنّه ليس في كتاب اللّه سبحانه حرف أو كلمة أو آية قرئت على سبعة أوجه فينصرف الخبر إليها، وجب أن نقول في الجملة:إنّ القرآن منزل على سبعة أوجه من اللغات و الإعراب و تغيير الأسماء و الصور،و إنّ ذلك متفرق في كتاب اللّه تعالى، ليس بموجود في حرف واحد و كلمة واحدة أو سورة واحدة تقطع على إجماع ذلك فيها،و إن لم يعرف أعيان تلك القراءات و الأوجه و اللغات، و تحيط بحقيقة أجناس تلك الضروب من الاختلاف،غير أنّنا نعلم أنّها سبعة أوجه موجودة في كتاب اللّه تعالى كما أخبر الرسول،و لم يثبت لنا توقيف
ص: 384
عنه تقوم به الحجة علينا في تغيير تلك الضروب من اللغات و القراءات فيخبر بتعيينه و يقطع على ذلك من أمره.
و إذا كان ذلك كذلك؛وجب أن يكون اعتقاد هذه الجملة في معنى الأحرف السبعة من غير تفصيل و تعيين مقنعا كافيا،فسقط عنّا بذلك تكلّف تفسير هذه اللغات و الأوجه السبعة،و هذا أبين في صحة الاعتماد على هذا الجواب و مع هذا فإنّا لا ننكر أن يكون الرسول صلى اللّه عليه و سلّم قد بيّن للصحابة أو للعلماء منهم و حملة القرآن و العلم عنه عدد تلك اللغات و القراءات السبعة بأعيانها،و وقفهم على عددها و أجناسها،و على كل شيء منها أو الفرق بينه و بين غيره،و على موضعه الذي أنزل فيه دون غيره،و أوضح لهم ذلك إيضاحا قامت به الحجة على من ألقاه إليه،ثمّ لم ينقل ذلك إلينا نقلا تقوم به الحجة،إذ كان معرفة تلك اللغات و الأوجه و تفصيلها و تنزيلها ليس/من[251] فرائض ديننا،و كأنّ من قرأ بوجه منها أو بما تيسّر من ذلك أجزأه و كفاه عن غيره،فيكون العلم بعدد تلك الأجناس و تفصيل ذلك الاختلاف من فرائض من قامت الحجة به عليه،و إن لم يكن ذلك من فرائضنا،إذا لم يكن شاذا لها نادرا تقوم به الحجة علينا و ينقطع عند سماعه عذرنا.
فبان أيضا أنّ عدم علمنا و قطعنا على أعيان تلك القراءات السبعة و تفصيل اختلافها و أجناسها،لا يدلّ على أنّه لا بد أن تكون هذه حال الصحابة،بل يمكن أن يكون حالهم في ذلك حالنا إذا لم يوقفوا على أجناس الاختلاف، و يمكن أن يكون قد بيّن ذلك لهم،فهذا ما يجب ضبطه في هذا الباب.
و مع ذلك قد يمكن أن يقال إنّ السبعة الأحرف و اللغات التي نزل بها القرآن محصورة معروفة بما يقرب أن يكون هو المراد بالخبر و لا يبعد،و أنّ من هذه الأوجه الاختلاف في القراءة بالتقديم و التأخير نحو قوله: وَ جاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ [ق:19]،و قد قرئ:(و جاءت سكرة الحق بالموت) (1)، و هذا اختلاف في التقديم و التأخير.
ص: 385
و مع ذلك قد يمكن أن يقال إنّ السبعة الأحرف و اللغات التي نزل بها القرآن محصورة معروفة بما يقرب أن يكون هو المراد بالخبر و لا يبعد،و أنّ من هذه الأوجه الاختلاف في القراءة بالتقديم و التأخير نحو قوله: وَ جاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ [ق:19]،و قد قرئ:(و جاءت سكرة الحق بالموت) (1)، و هذا اختلاف في التقديم و التأخير.
و الوجه الثاني:أن يكون الاختلاف في القراءتين في الزيادة و النقصان مثل قوله تعالى:(و ما عملت أيديهم) وَ ما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ [يس:35]بزيادة هاء،و قوله تعالى في موضع: فَإِنَّ اللّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [الحديد:24]، و قوله في موضع آخر: فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [إبراهيم:8]بنقصان هو،و قرأ بعضهم:(يا مال)موضع: يا مالِكُ [الزخرف:77]بنقصان الكاف،و منه أيضا قوله تعالى: عِظاماً نَخِرَةً [النازعات:11]و(ناخرة)و سِراجاً و(سرجا)و نحو ذلك،و روي أنّ بعض المتقدمين قرأ مع قوله: إِنَّ السّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها [طه:15]قرأ:(أكاد أخفيها من نفسي فكيف أظهركم عليها)،و قرأ بعضهم أيضا بعد قوله: إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً [ص:23]،و زاد فقرأ:(تسع و تسعون نعجة أنثى)،و هذا اختلاف لم يثبت و هو اختلاف القراءة بالزيادة و النقصان،و يقول إنّ الرسول أقرأ بالتقديم تارة [252]و بالتأخير أخرى،و بالزيادة تارة و بالنقصان/أخرى،و وقّف على ذلك إذا ثبت هذا الباب في الاختلاف و أنّه مرويّ عن الرسول عليه السلام.
و الوجه الثالث:أن يكون الاختلاف في القراءة اختلافا يزيد صورة اللفظ و معناه،و ذلك مثل قوله تعالى:(و طلع منضود)مكان قوله: وَ طَلْحٍ مَنْضُودٍ [الواقعة:29]،و نقول أيضا:إنّ هذا إذا ثبت فقد أقرأ بهما الرسول عليه السلام،و أنزل عليه كذلك،و قد روي عن بعض السلف أنّه قال:معنى الطلع و الطلح واحد،و أنهما اسمان لشيء واحد،فإن كان ذلك كذلك فهماا.
ص: 386
بمنزلة العهن و الصوف و الأثيم و الفاجر،فيكون مما تختلف صورته في النطق و لا يختلف معناه.
و قال الجمهور من الناس غير هذا،فزعم بعض أهل التفسير أنّ الطلح هو زينة أهل الجنة،و أنّه ليس من الطلع في شيء،و قال كثير منهم إنّ الطلح هو الموز،و قال آخرون إنّ الطلح هو الشجر العظام الذي يظل و يعرّش، و إنّ قريشا و أهل مكة كان يعجبهم طلحات وجّ-و هو واد بالطائف-لعظمها و حسنها،فأخبروا عن وجه الترغيب في الجنة طلحا منضودا يراد به متزاحم كثير،قالوا إنّ العرب تسمي الرجل طلحة،على وجه التشبيه له بالشجرة العظيمة المستحسنة،و إذا كان ذلك كذلك ثبت أنّ الطلع و الطلح إذا قرئ به كان مما تختلف صوره و معناه.
و الوجه الرابع:أن يكون الاختلاف في القراءتين اختلافا في حروف الكلمة بما يغيّر من معناها و لفظها من السماع و لا يغير صورتها في الكتاب، نحو قوله تعالى: وَ انْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها [البقرة:259] (ننشرها)بالإعجام،و الانتشار الإتيان و الزيادة،و الإنشار الإنشاء و الإحياء بعد الممات،و قد أنزل القرآن كذلك،لأنّها منشأة مبدعة و منشور و محياة بعد الممات فأريد إيداع المعنيين في القراءتين.
و الوجه الخامس:أن يكون الاختلاف بين القراءتين اختلافا في بناء الكلمة و صورتها بما لا يزيلها في الكتاب و لا يغير معناها،نحو قوله تعالى:
وَ هَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ [سبأ:17]،/و(هل يجازى إلا الكفور)،و صورة ذلك[253] في الكتاب واحدة،و قوله تعالى: وَ يَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبُخْلِ [النساء:
37]بالضمة،و(بالبخل)بالفتح،و(ميسرة)و مَيْسَرَةٍ بالنصب و الضم، و يَعْكُفُونَ [الأعراف:138]و(يعكفون)بالرفع و الكسر،و الصورة واحدة
ص: 387
و أمثال ذلك،و منه أيضا قوله: وَ فُومِها [البقرة:61]أو(ثومها)،و أمثال ذلك كثير.
و الوجه السادس:أن يكون الاختلاف بين القراءتين بما يغير صورتها و لا يغيّر معناها،نحو قوله: كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [القارعة:5]، و(كالصّوف المنفوش)،و إِنْ كانَتْ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً [يس:29]،و(إن هي إلا زعقة واحدة)،و إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ(43) طَعامُ الْأَثِيمِ [الدخان:43-44] و(طعام الفاجر)،و منه قوله: وَ فُومِها و(ثومها)،و أمثال هذا مما لا تختلف به صور الأسماء و حروفها،و إن لم يختلف معناها،و هذا مما أنزله اللّه تعالى،لأنّ في العرب من يثقل عليه مفارقة طبعه و نمط كلامه،و أن يقول صوف مكان عهن و زعقة مكان صيحة،فأنزل القراءتين و أطلقهما رخصة و تخفيفا عن عباده مع حصول السلامة و الاستقامة و إرادة الرّخصة لهم و تخلّيهم و طباعهم و عادتهم و سجية أنفسهم في الكلام.
و الوجه السابع:أن يكون الاختلاف بين القراءتين للاختلاف في الإعراب للكلمة و حركات بنائها،بما يغيّر معناها و لا يزيلها عن صورتها في الكتاب،نحو قوله تعالى: رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا [سبأ:19]،على طريق الخبر،و رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا ،و(ربّنا بعّد بين أسفارنا)،و(ربّنا بعّد بين أسفارنا)بفتح العين و كسرها،و قوله:و وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [يوسف:45]و(بعد أمه)،و معنى أمّة حين،و أمه معناها النسيان،و ذلك صحيح لأنّه ادّكر بعد حين،و بعد أن نسي أيضا،فضم اللّه تعالى المعنيين في القراءتين،و قوله تعالى: رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا بكسر العين،معناه:الطلب و المسألة من أهل سبأ أن يفرّقهم اللّه و يباعد بين أسفارهم،و قد كانوا سألوا ذلك،و منه أيضا:
يَعْكُفُونَ [الأعراف:138]و(يعكفون)بالضمّ و الكسر،و الصورة في
ص: 388
الكتاب واحدة،فحكى سبحانه السؤال و الطلب عنهم في قوله: باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا للإخبار عنهم بأنّهم قد بوعد بين أسفارهم،و قد كان من أهل سبأ أمران/لأنهم سألوا اللّه سبحانه أن يفرّقهم و يباعد بين أسفارهم فحكى ذلك[254] عنهم،فلمّا فعل ذلك بهم و أجابهم إلى مسألتهم،أخبروا عن أنفسهم بأنّ اللّه أجابهم و باعد بين أسفارهم،فحكى اللّه تعالى ذلك عنهم.
و كذلك قوله: لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ [الإسراء:102]،لأنّ فرعون قال لموسى:إنّ ما أتيت به السحر و التخييل،فقال موسى مخبرا عن نفسه:
إنني ما أتيت إلا بآيات و بصائر،و قال أيضا لفرعون مرة أخرى:لقد علمت أنت أيضا أنّ ما جئت به بصائر و آيات ليست بسحر،فحكى اللّه تعالى الأمرين جميعا،و هما صحيحان يأتيان غير متضادين و لا متنافيين،و كذلك كلّ ما ورد من هذا الضرب.
فهذا الذي ذكرناه و اللّه أعلم هو تفسير السبعة الأحرف دون جميع ما قدّمنا ذكره،و قد أخبرنا فيما سلف أنّه لا يجب علينا الإخبار عن عدد اللغات و الأوجه السبعة،و ذكر أجناس الاختلاف بينها و ضروبه إذا لم يكن عندنا توقيف في ذلك،و هذه جملة كافية في هذا الباب إن شاء اللّه.
فإن قالوا:فإذا قلتم إنّ الحروف المنزلة إنّما هي قراءات و أوجه مختلفة بإعراب مختلف،كالضمّ و الفتح و الكسر،أو إمالة و ترك إمالة،أو إدغام و ترك إدغام،أو قلب حرف إلى حرف،أو تقديم و تأخير و زيادة حرف في الكلمة أو نقصان حرف منها،لا غير ذلك،فكيف سمّى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم هذه الأوجه و الحركات و الإعراب المختلف و قلب الحرف إلى غيره حرفا، و الإعراب الذي هو الضمّ و الفتح ليس بحرف،و إمالة الحرف ليس بحرف و قلب الحرف إلى غيره ليس بحرف،و إبدال الاسم بحرف و تقديم الكلمة
ص: 389
على كلمة أخرى،و جميع ما قلتموه في هذه القراءات ليس بحرف لأنّ نقصان الحرف ليس بحرف،و (1)زيادة الحرف في الكلمة لا يصيّر الكلمة بأسرها حرفا،فما وجه تسمية هذه الوجوه في القراءات حرفا؟ يقال لهم:قد نبّهنا على جواب هذا فيما سلف،و ذلك أنّه قد ثبت أنّ [255]العرب تسمي الشيء باسم ما هو منه و ما قارنه و جاوره و كان/بسبب منه و تعلّق به ضربا من التعلّق،و تسمّي الجملة باسم البعض منها،و تسمّي القصيدة و الخطبة و الرسالة كلمة،و تسمّي الكلمة التامة حرفا فنقول:
الم حرف على ما قلناه من قبل،و إذا كان ذلك كذلك جاز أن يسمّي النبيّ صلى اللّه عليه و سلّم الكلمة التامة و القراءة الطويلة حرفا على تأويل أنّ منها و فيها حرفا يغيّر كلمة و حالة في القراءة،فيقرأ مرة بالفتح و مرة بالضم،أو أنّ سبب هذه القراءة حرفا يثبت تارة فيها و تارة ينقص،أو أنّ منها حرفا مرة يقرأ على ما هو به و مرة يقلب إلى غيره و يبدل بسواه،أو أنّ منها حروفا تقدّم في القراءة،و مرة تؤخّر،و تسمّى الحروف حروفا و تريد به جنس الحروف.
و إذا كان هذا بيّنا جاريا في استعمال العرب وجب صحة ما روي و اتفق عليه من قولهم:هذا يقرأ من حرف عبد اللّه بكذا،و من حرف أبيّ بكذا، و من حرف زيد بكذا،فتنسب الكلمة و القراءة إلى الحرف الذي فيها،فبطل تعجّب من ظنّ بعد هذا أو استهجانه في اللغة.
و يجوز أيضا أن يقال إنّه صلى اللّه عليه و سلّم سمّى الكلمة و القراءة حرفا مجازا و اتساعا و اختصارا،كما سمّيت القصيدة كلمة،كذلك الرسالة و الخطبة على ما بيّناه من قبل.ى.
ص: 390
و يجوز أيضا أن يكون إنّما سمّى جميع هذه الوجوه و اللّغات المختلفة و القراءات المتغايرة حرفا على تأويل أنّ كلّ شيء منها طريقة و سبيل على حدّتها غير الطريقة الأخرى،كما قال سبحانه: وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّهَ عَلى حَرْفٍ [الحج:11]أي على سبيل و طريق،و إن تغيّرت عليه تغيّر عن عبادته و شكره على حسب ما شرحناه من قبل،و إذا كان ذلك كذلك سقط قوله إنّ الإعراب في الإمالة لا يسمّى حرفا،لأنّ الحرف هاهنا على هذا التأويل،ليس المراد به الصور من الخطّ الممثّل،و إنّما هي الطريقة و الوجه و السبيل فقط.
و ليس في جميع القراءات المنزّلة التي يسوغ الاختلاف فيها و صوّب القارءون لسائرها ما يتضادّ معناه و ينفي بعضه بعضا و إنّما فيه مختلف/اللفظ[256] و الإعراب،و إن كان معناه واحدا و مختلف الصورة و اللفظ و الإعراب و البناء،لتضمّنه معاني مختلفة غير متضادة و لا متنافية مثل قولهم: باعِدْ [سبأ:19]بكسر العين و(باعد)بفتحها على الخبر،و أمثال ذلك مما يختلف و لا يتضاد،و إنّما المحال المنكر أن يكون فيه قراءات متناقضة متضادة المعاني،و اللّه تعالى عن إنزال ذلك و تصويب جميع القراءة به.
و قال قوم من الناس:إنّ تأويل السبعة الأحرف هو أنّ الاختلاف الواقع في القرآن بجميعه،و يحيط به سبعة أوجه منها وجه يكون بتغيير اللفظ نفسه،و الوجوه الستّة تكون بأن يثبت اللفظ في جنسها و يتغيّر من قبل واحد منها،فإنّ الستة الباقية تكون في الجمع و التوحيد و التذكير و التأنيث و التصريف و الإعراب،و اختلاف الأدوات،و اختلاف اللغات.
قالوا:و الوجه الأول من السبعة الذي هو تغيّر اللفظ في نفسه و إحالته إلى لفظ آخر:هو كقوله: وَ انْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها [البقرة:
259]،قالوا:و ننشزها بالزاي المعجمة،و ما جرى مجرى ذلك.
ص: 391
و الوجه الأول من الستة:الجمع و التوحيد كقوله: وَ صَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَ كُتُبِهِ (و كتابه)[التحريم:12]،و كقوله: كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ (و للكتاب)[الأنبياء:104].
و الوجه الثاني:التذكير و التأنيث نحو قوله: صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ [الأنبياء:80]،بالنون و لتحصنكم بالتاء المعجمة من فوقها.
و الوجه الثالث:هو التصريف كقوله: وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ [الحجر:56]بكسر النون و يقنط بنصبها.
و الوجه الرابع:الإعراب كقوله: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ [البروج:15]بكسر الدال و المجيد برفعها،و أمثال ذلك.
و الوجه الخامس:اختلاف الأدوات كقوله تعالى: وَ لكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا [البقرة:102]بتشديد لكنّ و بتخفيفها إذا قلت لكن مخففا،و قوله:
لَمّا عَلَيْها حافِظٌ [الطارق:4]بالتخفيف و لمّا بالتشديد إلى أمثال ذلك.
و الوجه السادس:اختلاف اللغات كقوله: وَ الصّابِئُونَ [المائدة:69] و الصابون بالهمزة و إسقاطها،و قوله: وَ الشَّمْسِ وَ ضُحاها [الشمس:1]بالإمالة و التفخيم،فهذه سبعة أوجه كلّها منزلة و سائغة جائزة.
و في بعض ما ذكرناه من تأويل هذه الرواية ما يوضّح الحقّ و يمنع أهل [257]التأمّل/و الاستبصار من التورّط في الشبهات و الأحوال بتعلل أهل الزيغ و الضلال،و باللّه التوفيق و التسديد و العصمة و التأييد.
***
ص: 392
ذكر ضروب أخر من اعتراضات الرافضة و شبههم و غيرهم
من الملحدين و المنحرفين،و وصف حال الروايات
التي يتعلقون بها في هذا الباب ممّا ادّعوا فيه نقل
المؤالف و المخالف،و مما انفردت الشيعة خاصة
بنقله عن علي بن أبي طالب عليه السلام
و العترة من ولده،و الكشف عن فسادها
فأمّا ما يتعلّقون به و يكثرون ذكره عن عبد اللّه بن مسعود في إسقاطه الحمد و المعوذتين من مصحفه،فقد ذكرنا ما يجب فيه و الوجه في ذلك،و ضروبا من التأويلات و الوجوه فيه،[بما] (1)يغني عن إعادة القول في ذلك.
فأمّا ما يتعلّقون به من منافرته لعثمان و امتناعه من تسليم مصحفه و ما كان من كراهيته لعزله عن كتب المصحف و توليته زيد بن ثابت و ما قال فيه، فسنفرد له بابا عند ذكرنا جمع عثمان الناس على حرفه و كتب الإمام الذي أخذهم به،و نذكر فيه جميع ما روي عنه و عن عثمان و عن الجماعة، و نصف قدر ما نقمه و تبيّن أنّه لم يقرن عثمان و لا أحدا من الجماعة بتغيير القرآن و لا بالزيادة فيه و لا النقصان منه،و لا خطأهم في اختيار حرفهم الذي صاروا إليه،و نصف رجوعه إلى قول عثمان و رأي الجماعة و حثّه و حضّه على ذلك و نأتي منه على جملة توضّح الحقّ إن شاء اللّه.
ص: 393
ذكر ما روي عن أبيّ بن كعب في هذا الباب
فأمّا تعلّقهم بالروايات عن أبي بن كعب في هذا الباب و أنّه قال:«إنّا كنّا نقرأ سورة الأحزاب،فو اللّه الذي أنزل القرآن على محمد لقد كانت توازي سورة البقرة،و إنّ فيها آية الرجم»،فإنّه لا تعلق لهم فيه أيضا؛لأجل أن هذه الرواية عن أبيّ لو كانت صحيحة ثابتة لوجب أن يشتهر عن أبيّ الشهرة التي تلزم القلوب ثبوتها،و لا يمكن جحدها و إنكارها،لأنّ هذه هي [258]العادة في مثل هذه الدعوى من مثل أبيّ في نباهته و علو قدره/في حفّاظ القرآن،فإذا لم يظهر ذلك عنه الظهور الذي يلزم الحجّة بمثله علم بطلان الخبر،و أنّه لا أصل له.
و مما يدلّ أيضا على بطلان هذه الرواية أنّه لا يجوز أن يضيع و يسقط من سورة الأحزاب أضعاف ما بقي منها فيذهب ذكر ذلك و حفظه عن سائر الأمّة سوى أبيّ بن كعب مع ما وصفناه من حالهم في حفظ القرآن و التدين بضبطه و قراءته و إقرائه و القيام به و الرجوع إليه و العمل بموجبه و غير ذلك من أحكامه،و أنّ مثل هذا ممتنع في سائر كلام البشر الذي له قوم يعنون به و يأخذون أنفسهم بحفظه و ضبطه و تبحّر معانيه و الاستمداد فيما يثورهم منه أو الاحتجاج به و التعظيم لقائله،فلأجل ذلك لم يجز أن يظنّ ظانّ أنّ(قفا نبك)كانت أضعاف مما هي كثيرا فسقط معظمها و لم يظهر ذلك و ينتشر عند رواة الدواوين و حفّاظ الشعر و أصحاب كتب الطبقات،و مصنفي غريب هذه
ص: 394
القصيدة و المتكلمين على معانيها و المعروفين بهذا الشأن،و لم يسغ لعاقل عرف عادات الناس في امتناع ذهاب ذلك عليهم أن يقبل رواية راو يروي له من جهة الآحاد عن لبيد أو حسّان أو كعب بن زهير أو غيرهم من أهل عصرهم أو من بعدهم أنّهم كانوا ينشدون قصيدة امرئ القيس أضعاف ما هي و أنّها كانت خمس مائة بيت،و أطول من«ديوان ابن الرومي»أو أبي نواس،و أكثرها و معظمها ذهب و سقط و درس أثره و انطوى علمه و انقطع على الناس خبره،هذا جهل لا يبلغ إلى اعتقاده و تجويزه من له أدنى معرفة بالعادات في الأخبار و ما يعلم بالفطرة كونه كذبا أو صدقا أو يمكن الشك و الوقف فيه.
و كذلك لو ادّعى مدّع مثل هذا فيما يروى و يقرأ من«موطأ مالك»و«الأم للشافعي»و«مختصر المزني»،و«جامع محمد بن الحسن»،و«الصحيح للبخاري»و«المقتضب»و غير ذلك من الكتب المشهورة المحفوظة المتداولة،و قال:إنّ كل كتاب من هذه الكتب قد كان/أضعاف ما هو،[259] و أنه قد ذهب و سقط أكثرها و معظمها،و بقي الأقلّ اليسير منها،و روى لنا في ذلك الأخبار و الحكايات لوجب أن يقطع على جهله و نقصه و على أنّ كلّ ما يروونه في هذا الباب كذب موضوع و مردود مدفوع لا يسوغ لعاقل تصديق شيء منه و السكون إليه.
و إذا كان ذلك كذلك،و علمنا أنّ هذا القول المرويّ عن أبيّ لم يكن ظاهرا في الصحابة و لا متداولا بينهم،و لم نعلم أيضا أن أحدا قاله و روي عنه،و لم يعلم أيضا صحّة هذه الرواية نفسها فضلا عن شهرتها و وجوب ذكرها عنه و عن غيرها،علم بذلك و تيقّن تكذّبها على أبيّ و احتقار واضعها عليه لعظم الإثم و البهتان.
ص: 395
و لو نشطنا لقبول مثل هذا عن أبيّ لوجب أن نقبل خبر الشيعة عن النصّ على إمام بعينه و روايتهم لأعلام الأئمة من أهل البيت و ما يروونه من فقههم و أحكامهم،و من ذمّ عليّ عليه السلام و ولده للسلف و التبرّي منهم و وصف ظلمهم و غشمهم،فإنّ هذه الروايات عندي أظهر و أشهر من هذه الرواية عن أبيّ،و قد بيّنا بغير حجّة الدلالة على تكذّب هذه الأخبار و ما جرى مجراها فسقط ما قالوه.
على أنّ هذه الرواية لو أمكن أن تكون صحيحة ثابتة،و أمكن أن تكون كذبا لوجب اطراحها بما هو أشهر و أظهر منها،لأنّ الكافّة و الدّهماء رووا جميعا عن أبيّ أنّه كان يقرّ بأنّ هذا القرآن هو جميع ما أنزل اللّه تعالى على رسوله،و أمر بإثبات رسمه،و أنّه كان على مذهب الجماعة و رأيهم في هذا المصحف و أنّه أحد من أملاه على زيد و النفر القرشيين و نصبه عثمان لذلك، و سنذكر ما ورد في هذا من الروايات فيما بعد إن شاء اللّه،و أنّ أبيا كان يقرأ و يقرأ بهذا المصحف كما يقرؤه غيره لا يدعي زيادة فيه و لا نقصانا منه، و هذه الرواية هي الظاهرة المعروفة،و أقل أحوالها أن تكون كرواية من روي عنه سقوط كثير من الأحزاب و أن تكون مكافئة لها،و إذا تكافئتا سقطتا جميعا،و وجب حمل أمر أبيّ على ما عليه الكافّة من تسليم صحة هذا [260]المصحف فكيف و قد دلّنا بأدلة/قاطعة على تكذب هذه الرواية عن أبيّ.
و ممّا يدلّ على بطلان هذا الخبر عن أبيّ رواية جماعة الناس عن أبيّ أنّه أدخل في مصحفه دعاء القنوت،و أثبته في جملة القرآن،فإذا كان أبيّ قد حفظ دعاء القنوت و حرص عليه و أدخله في مصحفه لتوهمه أنّه مما أنزل اللّه من القرآن،فكيف يجوز أن يذهب عليه أكثر سورة الأحزاب،و أن تذهب عليه و على أبي موسى و غيرهما من الصحابة سورة أنزلت مثل البقرة ذهبت
ص: 396
بأسرها حتى لم يذكروا منها إلا كلمة أو كلمتين،و هم قد حفظوا عن الرسول سننه و آدابه و أخلاقه و طرائقه و مزاحه و كيف السنة في الأكل و الشرب، و في التغوّط و البول إلى غير ذلك،حتى أحاطوا علما به و دوّنوه و شهروه و تداولوا به،ثم يذهبون مع ذلك عن حفظ سورة بأسرها إلا كلمة واحدة منها أو اثنتين،و عن حفظ الأحزاب إلا أقلّها،و هذا جهل و غباء ممن أجازه على من هو دون الصحابة في التديّن بحفظ القرآن و جودة القرائح و الأفهام و سهولة الحفظ و انطلاق الألسن و انشراح الصدور لحفظ ما يأمرهم الرسول بحفظه و يحثهم و يحضهم على تعلمه و تعظيمه،و يعرفهم عظيم الأجر على تلاوته و يحذّرهم أليم العقاب في نسيانه و ذهابه عن القلوب بعد حفظه.
فإذا كان ذلك كذلك علم ببعض ما ذكرناه سقوط هذه الروايات و تكذبها، و أنّه لا أصل لشيء منها،و لما يجري مجراها من الحروف الزائدة المرويّة عن جماعة من الصحابة على ما سنذكره مفصّلا فيما بعد إن شاء اللّه.
ثم يقال لهم:إنّ هذه الرواية لو صحّت عن أبيّ لم توجب نقصان القرآن و لا سقوط شيء منه عليه و لا على سائر الصحابة مما يلزمهم حفظه و تلاوته و يلحقهم التقصير و التفريط بتضييعه،و ذلك أنّه قول محتمل لأنّ يكون ما كانوا يقرءونه في سورة الأحزاب قد نسخت تلاوته و زال عنهم فرض حفظه، فلذلك لم يثبتوه و لم يقرءوه/،و أبيّ لم يقل مع قوله:«إنّا كنّا نقرأ سورة[261] الأحزاب،و أنّها كانت توازي سورة البقرة»،أنّه ضاع أكثرها و معظمها،و لا أنّهم و أنّا جميعا ذهبنا عن حفظها و فرّطنا فيما وجب علينا من ذلك،و إنّما قال:«كنّا نقرؤها،و أنها كانت توازي سورة البقرة و أنه كان فيها آية الرّجم»، فما في هذا ما يوجب أنّ فرض تلاوتها و حفظ جميعها باق،و أنّ القوم فرّطوا في حفظها و ضيّعوا،مع كونه قولا محتملا للنسخ لتلاوة أكثرها،
ص: 397
و هذا هو الأشبه الأليق به و بالصحابة،و ليس يستنكر أن يكون كان أكثرها قصصا و أمثالا و مواعظ فنسخت التلاوة و نسخ فيها التلاوة في الرجم،و لهذا قال:«و إن كان فيها آية الرّجم»،و قد بيّنا أنّ آية الرّجم منسوخة التلاوة،و إن كانت باقية الحكم فكأنّه قال لنا:نقرؤها قبل النسخ،و كان فيها آية الرّجم فنسخ منها أكثرها و كان مما نسخ آية الرّجم،و قال عمر بن الخطّاب:لو لا أن يقال:زاد عمر في كتاب اللّه لأثبتّها و تلا:«و الشيخ و الشيخة فارجموهما البتة»،و لم يقل ذلك إلا لعلمه و علم الأمّة بأنّ الآية منسوخة و أنّ إثباتها زيادة على ما ثبت فرض إثباته و حفظه على ما سنبيّنه فيما بعد إن شاء اللّه.
و إذا كان ذلك كذلك لم ينكر أن تكون سورة بأسرها قصصا و أخبارا و أمثالا،أو عظمها كسورة يوسف و الكهف و أمثالهما،و أن لا يكون فيهما ما فيه حكم ثابت إلا اليسير الذي بقي فرضه،أو نسخ و بقي حكمه و حفظت تلاوته مع زوال فرضه لموضع تضمّنه للحكم اللازم لهم،لم يجب مع إمكان ذلك أن يجعل قول أبيّ هذا دلالة على نقصان القرآن،أو أنّ أبيّا كان يعتقد ذلك أو أنّه عرض به في هذا القول،و هذا بيّن في إبطال تعلّقهم بهذه الرواية من كلّ وجه.
فأمّا ما يذكرونه عنه في الحروف و الكلمات الزائدة في مصحفه نحو ما ذكر أنّه كان يقرأ و غيره من الصحابة: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى [262](و هي صلاة العصر)[البقرة:238]،و نحو ذلك فإنّه/أيضا ممّا لا أصل له،و لو ثبت لاحتمل من التأويل ما نذكره في هذا الفصل من الجواب عن القراءات الزائدة على ما في مصحف عثمان،و هذه جملة تكشف عن إبطال ضجيجهم و تهويلهم بخلاف عبد اللّه و أبيّ،و هذان الرجلان هما العهدة فيما يدّعى من خلافهما للجماعة و كثرة مخالفة مصحفيهما لمصحف الجماعة،و قد ثبت أنّه لا حجّة لهم في شيء مما يروونه عنهما بما في بعضه إقناع و بلاغ.
ص: 398
ذكر ما يتعلقون به من الروايات عن عمر بن الخطّاب
رضوان اللّه عليه و الإبانة عن فساده
و أمّا ما يروونه عن عمر بن الخطاب من أنّه قال:«لقد قتل يوم القيامة (قوم) (1)كانوا يقرءون قرآنا كثيرا لا يقرؤه غيرهم فذهب من القرآن ما كان عندهم» (2)،فإنّه أيضا من الأماني الكاذبة و التّرهات الباطلة،و ممّا لا يذهب فساد التعلّق به على ذي تحصيل،لأنّنا قد روينا فيما سلف من تظاهر أبي بكر و عمر و جماعة الصحابة على جمع القرآن و عرضه و تدوين عمر له و عرضه عرضة ثانية و ضبطه في الصحيفة التي خلّفها عند ابنته حفصة زوج النبيّ صلى اللّه عليه،و أخذه الناس بذلك و تعريفهم أنّه جميع الذي كان أنزله اللّه سبحانه ما هو أظهر و أشهر و أثبت من هذه الرواية،بل هو الثابت المعلوم من حاله ضرورة فثبت بذلك تكذّب هذه الرواية على عمر،و أنّها لا أصل لها،و أقلّ ما في ذلك أن تكون هذه الرواية معارضة بالروايات التي ذكرناها،فلا متعلق لأحد فيها و لا سبيل له إلى تصحيحها عن عمر.
ثم يقال لهم:إنّ هذه الرواية لو صحّت عن عمر لكانت محتملة لتأويل صحيح غير الذي قدّمتموه،و ذلك أنّ قوله:«لقد قتل يوم اليمامة قوم كانوا
ص: 399
يقرءون قرآنا كثيرا لا يقرؤه غيرهم،فذهب من القرآن ما كان عندهم»، [263]يحتمل أن يكون أراد به أنّهم كانوا يكثرون دراسة القرآن/و تلاوته و التهجد به و الانتصاب لقراءته في المحاريب و غيرها في آناء الليل و أطراف النّهار و يقدرون من ذلك على ما يثقل و يتعذّر على كثير ممن بقي من الأمّة،و إن كان منهم اليسير ممّن يساوي من قتل باليمامة من هذا الباب،و يكون قوله:
«فذهب من القرآن ما كان عندهم»محمولا على أنّه ذهب أكثر درسة القرآن و تلاوته و ترك التهجّد و الابتهال به ما كان عندهم،و هذا هو الذي أراده و قصده إن صحّ هذا القول عنه دون ذهاب شيء من القرآن على سائر من بقي من الأمّة.
و كيف يقول ذلك و هو يعلم أنّ القوم الذين قتلوا إنّما أخذوا القرآن عن أبيّ و عبد اللّه و أمثالهما،و أئمتهم باقون،أو أخذوه عن الرسول و الرسول قد أقرأه و حفظه عن أبيّ و عبد اللّه بن مسعود و ستة من أمّته حفّاظ،و أنّ العادة مستقرّة موضوعة على إحالة انكتام أمر قرآن كثير و ذهاب حفظه عن مثل من بقي من أمّة محمّد صلى اللّه عليه و فيهم أبو بكر و عمر و عثمان و عليّ و أبيّ و عبد اللّه بن مسعود و زيد بن ثابت لو لا غباوة من يظن أنّ في التعلّق بمثل هذه الرواية شبهة؛فوجب بما وصفناه بطلان هذه الرواية أو حملها على التأويل الذي وصفنا إن سلمنا صحّتها يوما و نظرا.
و أما ما يتعلّقون به في هذا الباب من الرّواية عن عمر بن الخطاب من أنّه خطب و قال على المنبر:«أيّها الناس إيّاكم أن تهلكوا عن آية الرّجم فلقد رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه و قد نزلت و قرأ بها،و لو لا أن يقول الناس زاد ابن الخطاب في كتاب اللّه،لكتبت فيه أو لألحقت في حاشيته:و الشيخ
ص: 400
و الشيخة فارجموهما البتّة» (1)،و أنّه قال في موقف آخر:«إنّ اللّه تعالى بعث محمدا صلى اللّه عليه بالحقّ و أنزل عليه الكتاب،و كان مما أنزل إليه آية الرجم فرجم رسول اللّه صلى اللّه عليه و رجمنا بعده،ألا و إنّ آية الرّجم في كتاب اللّه حقّ:«و الشيخ و الشيخة فارجموهما البتّة جزاء بما قضيا من الشهوة نكالا من اللّه،و اللّه/عزيز حكيم».[264] و قولهم إنّ هذا تصريح منه بنقصان القرآن و سقوط آية الرّجم،فإنّه أيضا جهل من المتعلّق به و ذهاب عن الواجب،لأنّ هذه الرواية بأن تكون عليهم و حجّة على فساد قولهم أولى من أن تكون دلالة لهم.
و ذلك أنّه لمّا كانت هذه الآية مما أنزله اللّه تعالى من القرآن لم يذهب حفظها عن عمر بن الخطاب و غيره،و إن كانت منسوخة التلاوة و باقية الحكم،و قد زال فرض حفظ التلاوة مع النسخ لها و لم تنصرف همم الأمّة عن حفظ ما نزل ممّا تضمّن حكما خيف تضييعه،و أن يحتجّ محتجّ في إسقاطه بأنّه ليس من كتاب اللّه تعالى،فلو كان هناك قرآن كثير منزل غير الذي في أيدينا ثابت غير منسوخ و لا مزال فرضه لم يجز أن يذهب حفظه على عمر و غيره من الصحابة،كما لم يجز أن يذهب عليهم حفظ هذه الآية الساقط فرض تلاوتها بالنسخ لها،بل العادة موضوعة جارية بأنّهم أحفظ لما ثبت حكمه و بقي فرض حفظه و تلاوته و إثباته،و أنّهم إذا لم يجز أن يذهب عليهم حفظ القليل الزائل الفرض،لم يجز أن يذهب عليهم حفظ الكثير الباقي فرض حفظه و تلاوته و إجزاء الصلاة به،و إذا كان ذلك كذلك كانت).
ص: 401
هذه الرواية من أدلّ الأمور على إبطال قولهم بسقوط شيء كثير من القرآن و ذهاب الأمّة عن حفظه.
و الدليل على أنّ هذه الآية كانت محفوظة عند غير عمر من الأمّة قوله:
«كنّا نقرؤها»،و تلاوته لها بمحضر من الصحابة و ترك النكير لقوله و الردّ له، و أن يقول قائل في أيّام حياته أو بعده أو مواجها له أو بغير حضرته متى نزلت هذه الآية و متى قرأناها،و العادة جارية بمثل هذا في قرآن يدّعى إنزاله لا أصل له و يدّعى فيه حضور قوم نبل أخيار أبرار،أهل دين و نسك و حفظ و لسن و براعة،و قرائح سليمة و أذهان صافية،فإمساكهم عنه أوضح دليل على أنّ ما قاله و ادّعاه كان معلوما محفوظا عندهم،و كذلك سبيل غيرهم لو [265]كان هناك/قرآن أكثر من هذا قد نزل و قرئ على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه،و لا سيّما مع بقاء رسمه و لزوم حفظه و تلاوته،و هذا واضح في سقوط قولهم.
و أمّا ما يدلّ على أنّ هذه الآية منسوخة برواية جميع من روى هذه القصّة،و أكثر من تكلّم في الناسخ و المنسوخ:أنّ هذه الآية كانت ممّا أنزلت و نسخت فهي في ذلك جارية مجرى ما أنزل ثم نسخ،و هذه الرواية حجّة قاطعة في نسخ تلاوة الآية في الجملة،فإنّها لمّا كانت قرآنا منزلا حفظت و اعترف الكلّ بأنّها قرآن منزل،و إن خالف قوم لا يعتدّ بهم في نسخها،فكذلك يجب لو كان هناك قرآن منزل غير هذا أن يكون محفوظا لا سيّما مع بقاء فرضه و تجب الإحاطة به،و إن اختلفت في نسخ حكمه و تلاوته لو اتّفق على ذلك.
و مما يدلّ أيضا على أنّ آية الرّجم منسوخة الرسم قول عمر بن الخطاب في الملأ من أصحابه:«لو لا أن يقال زاد ابن الخطاب في كتاب اللّه لأثبتها»،
ص: 402
و لو لا علمه و علم الجماعة بأنّها منسوخة الرسم لم يكن إثباتها زيادة في كتاب اللّه تعالى،و لم يحسن من عمر أن يقول ذلك،و من يقول هذا في قرآن ثابت التلاوة غير منسوخ فإظهارا لهذا القول،و ترك أن يقول له القوم أو بعضهم كيف زيد في كتاب اللّه إذا أثبت ما هو باق الرسم و الحكم، أوضح دليل على أنّه و إيّاهم كانوا عالمين بنزول هذه الآية و نسخ رسمها، و بقاء حكمها،و كلّ هذا ينبي عن أنّ القوم يجب أن يكونوا أحفظ لسورة الأحزاب التي رووا أنّها كانت توازي سورة البقرة و لغير ذلك ممّا أسقط من كتاب اللّه تعالى لو كان هناك شيء منزل غير الذي في أيدينا،فبان بهذه الجملة كون هذا القول من عمر حجّة عليهم و برهانا على بطلان دعواهم، و باللّه التوفيق.
***
ص: 403
الكلام فيما يتعلّقون به عن أبي موسى الأشعريّ في
هذا الباب و الدّخل عليه
فأمّا احتجاجهم بما يروونه عن أبي موسى الأشعري من أنّه قال:«و اللّه [266]لقد كنّا نقرأ/سورة على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه كنّا نشبّهها ببراءة تغليظا و تشديدا و نسيناها غير أنّي أحفظ منها حرفا أو حرفين:«لو كان لابن آدم و اديان من ذهب لابتغى إليهما ثالثا،و لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، و يتوب اللّه على من تاب».
و ما رووه من قوله-أعني أبا موسى-«كانت الأحزاب مائتا آية و خمسا (و سبعين) (1)آية،فذهب منها مائتا آية،فقيل يا أبا موسى،ذهبت من سورة واحدة مائتا آية؟فقال:نعم،و قرآن كثير».
و ذكر أنّ سورة«لم يكن»كانت مثل البقرة،فلم يبق منها إلا سبع آيات،فإنّها رواية باطلة و الدّليل على بطلانها كلّ شيء ذكرناه من إبطال مثل هذه الرواية عن عمرو و أبيّ بن كعب و هي مع ذلك معارضة برواية للكافّة و الدّهماء الثّبت الثّقات عن أبي موسى أنّ هذا الذي بين اللوحين هو جميع كتاب اللّه الذي أنزله،و أنّه مرسوم على ما أنزل و أنّه كان يقرأه و يقرئه و يلقّنه من غير قدح فيه و لا وصف له بزيادة و لا نقصان،و هذه الرواية أولى
ص: 404
بالثبوت و الصحّة من الرواية التي ذكروها،و إذا كان ذلك كذلك سقط ما تعلّقوا به،لأنّ من شأن الخبرين المتعارضين أن يتساويا،فإمّا أن يكون أحدهما خبر واحد و الآخر تواتر،و نقل الكافّة بأنّ هذا هو القرآن كلّه تواتر، و جميع ما يروى من خبر أبي موسى و عائشة و غيرهما أخبار أدلّة ضعاف لا يرتفع بها،فسقط ما قالوه.
و على أنّ هذه الروايات لو صحّت عن أبي موسى لاحتملت من التأويل الصحيح غير ما ذهبوا إليه،و ذلك أن قوله:«و اللّه لقد كنّا نقرأ سورة على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه كنّا نشبّهها ببراءة تغليظا و تشديدا فنسيناها غير أنّي أحفظ منها حرفا أو حرفين»إلى آخر الخبر ليس بتصريح منه و لا يقرّه فكأنّهم ذهبوا عن حفظ ما لزمهم حفظه و بقي رسمه،و لا بأنّ غيره كان لا يحفظ من هذه السورة المنسوخة ما يذهب عليه حفظه،و إنّما هو إخبار منه بأنّهم كانوا يقرءون سورة/هذه صفتها،فيمكن أن يكون ذلك صحيحا عنه،[267] و أن تكون تلك السورة نسخ رسمها فتشاغل أبو موسى بحفظ الواجب الباقي رسمه عن حفظها فلم يبق عليه منه إلا حرف أو حرفان،و أن يكون غيره قد كان يحفظها بأسرها أو كثيرا منها،و هو لم يصرّح بأنّهم أسقطوها و نقصوها و أنّها باقية غير منسوخة،و إنّما أخبر أنّهم كانوا يقرءونها فقط،و هذا لا يدلّ على بقاء رسمها و يدل على أنّ هذه الرواية إن صحّت فهذا قصده بذكر ما قاله في قوله:«غير أنّي أحفظ منها لو كان لابن آدم».
و هذا من جملة ما قد تظاهرت الأخبار بأنّه منسوخ،فيجب أن يكون حكم ما نسيه في أنّه منسوخ حكم ما ذكره معه،في ظاهر الحال و قد يجوز أن يذهب الناس عن حفظ ما يسقط فرض حقّه و نسخ رسمه،و لا يجوز في مستقرّ العادة ذهابهم جميعا عن حفظ الباقي الرسم الثابت الفرض،و إذا
ص: 405
احتملت هذه الرواية ما ذكرناه بطل أن تكون دلالة على اعتراف أبي موسى بنقصان القرآن الباقي الرسم و ذهاب الأمّة عن حفظ كثير منه.
و أمّا قوله:«إنّ الأحزاب كانت مائتي آية و خمسا(و سبعين) (1)آية فذهب منها مائتا آية،و قولهم له:ذهب من سورة واحدة مائتا آية،و قوله:نعم و قرآن كثير،فإنّ معناه أيضا-إن صحّ-أنّه نسخ قرآن كثير من سورة الأحزاب و من غيرها فذهب حفظه لمّا سقط و زال فرض تلاوته،نسخ رسمه،و كذلك قوله:
إنّ(لم يكن)كانت مثل البقرة فبقي منها سبع آيات معناه:أنّها نسخ أكثر رسمها و بقي منه سبع آيات،و إذا كان ذلك كذلك بطل توهّمهم،و ظن من ظنّ بأبي موسى أنّه اعتقد في نفسه و باقي أمّة محمّد صلى اللّه عليه أنّهم قد ذهبوا عن حفظ قرآن كثير ثابت باقي الرسم،و هذا واضح في بطلان قولهم.
و كذلك الجواب عمّا يروونه في هذا الباب من نحو قول عبد اللّه«إنّه كان إذا سمع الإنسان يقول مع فلان القرآن كلّه يقول:ما يدريك لعلّه قد [268]ذهب قرآن،فما وجد بعد»و نحو رواية عبد اللّه بن عبّاس عن أبيّ أنّه/سمعه و قد قال له رجل:«يا أبا المنذر إنّي قد جمعت القرآن،فقال له:ما يدريك لعلّه قد سقط قرآن كثير فما وجد بعد».
و أنّ عائشة رضوان اللّه عليها قالت (2):«و اللّه لقد أنزلت رضاعة الكبير عشرا و رجم المحصن فكانت في ورقة تحت سريري،فلمّا قبض رسول اللّه).
ص: 406
صلى اللّه عليه تشاغلنا به فدخل داجن الحيّ فأكله»،و روى الناس عنها أنّها قالت:«كان فيما يقرأ من القرآن فسقط:يجزئ من الرضاع عشر رضعات، ثم نسخت إلى خمس معلومات»،و في بعض الروايات عنها أنّها قالت:
«و كان ممّا يقرأ إلى أن مات رسول اللّه صلى اللّه عليه».
و نحوهما روي عن أبي بكر و عمر من أنّه كان ممّا نزل:«لا ترغبوا عن آبائكم فإنّه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم» (1)،و من نحو ما روي من قصّة أهل بئر معونة و أنّ اللّه تعالى أنزل فيهم قرآنا فروى أنس بن مالك عن النبي صلى اللّه عليه«أنّه دعا على الذين قتلوا أهل بئر معونة ثلاثين غداة يدعو على رعل و ذكوان و عصيّة،عصت اللّه و رسوله» (2)قال أنس:«أنزل في الذين قتلوا ببئر معونة قرآن كثير حتى نسخ بعد؛أن بلّغوا قومنا أنّا لقينا ربّنا فرضي عنّا و أرضانا».
فجوابنا عن كلّ ما يرد من هذا الجنس أنّه ممّا كان قرآنا رفع و نسخت تلاوته،و ذلك ما لا ينكره و لا يدفع في الجملة أن يكون اللّه سبحانه قد أنزل قرآنا كثيرا ثم نسخ تلاوته و إن كنّا لا نتيقّن صحّة كلّ خبر من هذه الأخبار، و قرآن من هذا الذي روي أنّه نزل ثم نسخ إذا لم يتّفق عليه المسلمون و لم يتواتر الخبر به تواترا يلزم معه العلم بصحّته،و لم يدلّ على ثبوته دليل قاطع،و ليس يوقفنا في غيره كلّ خبر من هذه الأخبار يوجب عدم علمنا بأنّه).
ص: 407
قد أنزل في الجملة قرآن ثم نسخ و رفع بقول أبيّ و عبد اللّه،و ما يدريك لعلّه سقط أو ذهب قرآن كثير،فما وجد بعد إنّما هو أنّه لا ينبغي لأحد أن يدّعي أنّه قد جمع ما أنزل من ناسخ القرآن و منسوخه،و قولهم:«فيما وجد بعد» [269]فما نجد اليوم من يحفظ/جميع ما نسخ و سقطت تلاوته،و هذا مما لا بدّ منه،و نحوه من التأويل لأجل ما ذكرناه من شهرة أمر القرآن و ظهور نقله.
و قد يمكن أيضا أن يكون أبيّ و عبد اللّه بن عمر قد علما من حال من قال أو كان يقول:«إنّي جمعت القرآن»أي:قد جمعته على جميع وجوهه و حروفه التي أنزل عليها،فقالا له:و ما يدريك لعلّه قد ذهب أو سقط قرآن كثير لم يوجد بعد،أي:لم تجده أنت و لا وقع علمه إليك،أو لم تجد بعد من يحفظ جميع تلك الأحرف و القراءات التي أنزل القرآن عليها»و إن كانت ظاهرة في الناس و متفرّقة منهم،على ما سنبيّنه فيما بعد،لأنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه كان يقرئهم بما سهل عليه و عليهم،و لا نعلمه أقرأ رجلا فيهم بجميع الأحرف السبعة و حفّظه إيّاها و أفرده بها،لأنّ ذلك مما لا يجب عليه و لم يره من مصالح الأمّة،أو لم يتّفق له أو لمن أخذ عنه نشاط لحفظ جميع تلك الأحرف،و إذا كان ذلك كذلك صحّ ما قلناه من التأويل الذي هو أليق و أشبه أن يكون الصحابة قصدته و أرادته مع ما ظهر من إقرارها جميعا بأن ما بين اللوحتين هو جميع الثابت الرسم الذي أنزله تعالى.
و أمّا ما روي عن عائشة رضي اللّه عنها في الرّضاع فإنّه أيضا دليل على ما قلناه،لأنّها قالت:«كان مما أنزل ثم نسخ بخمس».
و قولها:«نسخ»ليس فيه دلالة أنّه نسخ بقرآن؛لأنّه قد ينسخ بوحي ليس بقرآن لقيام الدلالة على جواز نسخ نفس التلاوة و نفس حكمها بالسّنّة،
ص: 408
و قد بيّنّا ذلك و أوضحناه في كتاب«أصول الفقه»بما يغني الناظر فيه،و بيّنت ذلك أنّها قرنت نسخ العشر رضعات المحرّمات بنسخ آية الرجم،و هي قوله:(و الشيخ و الشيخة)،و قد علم أنّها إنّما نسخت تلاوتها بسنّة،فبيّنت ذلك لا بقرآن.
و قولها:«لقد كانت مكتوبة في ورقة تحت سريري»يدلّ أيضا على ذلك؛لأنّه دلالة على قلّة الحفظ له و الاحتراز و الاعتناء بحياطته،لأنّ عادتهم في الثابت الباقي الرسم صيانته و جمعه و حراسته دون طرحه في الظهور تحت الأسرّة و الرّجل و بحيث لا/يؤمن عليه،فأمّا إذا نسخ و سقط[270] فرضه جاز ترك حفظه و الاعتناء به،و جعل ما يكتب فيه ظهورا ينتفع به و يثبتون فيها ما يريدون.
و قولها:«فدخل داجن الحي فأكله»لا يدلّ على أنه لم يكن عند أحد غيرها لم يأكله من عنده شيء.
و قولها:«و لقد كان يقرأ إلى أن مات رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم،و كان ممّا يقرأ» تعني به أنه كان ممّا يحفظه كثير من الناس أقرب عهد بنسخه،و لم تقل بالخبر:«إنّه كان مما يقرأ»على أنه ثابت باقي الرسم،و نحن اليوم نقرأ ذلك و نقرأ ما روي لنا من المنسوخ على سبيل الحفظ و المذاكرة به،و كما يقرأ كثير منّا التوراة و الإنجيل و الزّبور لا على أنه واجب علينا حفظه و تلاوته، و إذا كان ذلك سقط أيضا التعلّق بهذه القصة.
فأمّا ما ذكروه من القرآن المنزل في بئر معونة فإننا لا ننكر أن يكون ذلك صحيحا قد كان،إلا أنه قد نسخ و زال لأنّ نسخه مرويّ،و لأنه لو كان ثابتا باقيا لوجب نقله و حفظ الأمّة له كأمثاله من القرآن الثابت،و قد قال أنس-
ص: 409
و هو راوي الخبر:إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم لما بعث حراما (1)زوج أمّ سليم (2)في سبعين رجلا-و ذكر قصّتهم-و قال:فأنزل علينا و كان مما نقرأ فنسخ:(أن بلّغوا قومنا أنّا لقينا ربّنا فرضي عنّا و أرضانا)،و ليس يجب على الأمّة حفظ ما نسخ من القرآن و ضبطه و إلحاقه بما ثبت منه و خلطه به،و لا سيّما إذا لم يكن مما ورد في حكم ثابت أو زائل يهمّ الناس بمعرفة تاريخه و سببه،و إذا كان ذلك كذلك بطل أيضا التعلّق بهذه القصة،و قد قال اللّه سبحانه: *ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها [البقرة:106]،فنصّ على أنه ينسخ الآية و يزيلها،و قد ينسخ التلاوة و يبقي الحكم،و ينسخ الحكم و تبقى التلاوة،و ربما نسخا جميعا.
و قد ذكر قوم أنّ المراد بقوله: *ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أي:نرفعها أو ننسها،أي:نأمر بترك العمل بها إلا أتينا بمثلها أو خير منها لكم أن نأتي [271]بعبادة مثل التي تركت،و يكون الثواب على الآتي أكثر،أو بأن يكون/ عمل الناسخ أخفّ و الثواب متساوي،فيكون ذلك خيرا لكم.
و قيل أيضا في معنى: نُنْسِها أن اللّه جلّ ذكره كان إذا أراد نسخ الآية أذهب بحفظها عن قلوب جميع الحافظين للآية،فإذا أصبحوا عرضوا ذلك على الرسول و سألوا عنها فأخبرهم أنّ اللّه قد نسخها و رفع تلاوتها،و هذا).
ص: 410
عندنا صحيح غير مستحيل،و إن كان مثله اليوم متعذّرا على وضع العادة مع كمال العقل،لأنّ اللّه جلّ و عزّ إنما خرق العادة بحفظ ذلك على زمن الرسول،لكي يجعل ذلك آية له و دلالة قاهرة على صدقه في الناسخ و المنسوخ،و ليردّ بذلك قول من حكى عنه أنّ ذلك افتراء من الرسول في قوله: وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَ اللّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ [النحل:101]،فهذا عندنا أحد آيات الرسول صلى اللّه عليه و سلّم.
و قال قوم:إنما كان يذهب بحفظها من قلوب جماعة منهم يجوز على مثلهم النسيان،فأمّا على سائرهم فلا،فإذا عرض ذلك البعض الآية خبّروا بأنها قد نسخت عن الكلّ،فوقع عند ذلك الفتور من الجميع و الإعراض عن التحفّظ،فعمّ النسيان جميعهم.
و قال آخرون:إنما كان نفر منهم ينسون منها مواضع قد جرت بنسيان مثلها فيضطرب عليهم ضربا من الاضطراب،فإذا عرضوا ذلك على الرسول خبّروا بأنها قد نسخت عن الجميع،فأمّا أن ينسى النفر منهم جميع الآية فإنه محال ممتنع في مستقرّ العادة مع بقاء الفهم و كمال العقل.
و قال آخرون:بل كان اللّه تعالى يذهب عن قلب كلّ واحد منهم حفظ موضع منها غير الموضع الذي يذهب بحفظه عن قلب الآخر،فينسى كلّ واحد منهم غير ما ينساه الآخر،و ذلك جائز في العادة،فإذا عرضوا ذلك على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم لاضطراب جميعهم فيها على هذه السبيل خبّروا بأنها قد نسخت عنهم،فأما أن يتفق لجماعتهم نسيان جميع الآية أو نسيان موضع واحد منها أو مواضع متساوية فذلك محال.
و كل هذا ممكن عندنا و إن كان/في بعضه خرق العادة،لأنه آية للرسول،[272] و ليس الكلام في هذا الباب مما قصدنا له فكنّا نسهب فيه.
ص: 411
و إذا كان الأمر على ما وصفناه ثبت بهذه الجملة حصول العلم لنا بأن اللّه تعالى قد كان نسخ أشياء كثيرة من كتابه بعد أن أنزلها على رسوله، فيجب حمل جميع ما روي عن الصحابة و التابعين من ذهاب قرآن كثير و سقوطه و قولهم لمن ادّعى جمع القرآن كلّه:«فما يدريك لعلّه قد ذهب قرآن كثير لم يوجد بعد»على التأويل الذي وصفناه،و هذا بيّن في سقوط جميع ما يتعلّقون به من هذه الألفاظ.
و ليس على جديد الأرض أجهل ممّن يظنّ أنّ الرسول و الصحابة كانوا جميعا يهملون أمر القرآن و يعدلون عن تحفّظه و إحرازه و يعوّلون على إثباته في رقعة تجعل تحت سرير عائشة وحدها،و في رقاع ملقاة ممتهنة حتى دخل داجن الحيّ فأكلها أو الشاة ضاع منهم و تفلّت و درس أثره و انقطع خبره!و ما الذي كان ترى يبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم على هذا التفريط و العجز و التواني و هو صاحب الشريعة و المأمور بحفظه و صيانته و نصب الكتبة له، و يحضره خلق كثير متبتّلون لهذا الباب و منصوبون لكتب القرآن الذي ينزل و كتب العهود و الصّلح و الأمانات و غير ذلك مما نزل و يحدث بالرسول خاصة و به حاجة إلى إثباته.
و كان صلى اللّه عليه و سلّم يعرض القرآن في كل عام،و عرضه في العام الذي مات فيه عرضتين،و يقول لهم:«إذا أنزلت الآية ضعوها في السورة التي يذكر فيها كذا»و ينظم لهم الآيات في السور،و يقول لعمر و قد قال له في آية الرجم (الشيخ و الشيخة):أ لا نثبتها يا رسول اللّه؟قال:«لا أستطيع ذلك»،يعني:
أنها قد نسخت و أزيل رسمها و بقي حكمها،و سنذكر في باب جمع أبي بكر القرآن جملة من ألفاظ الرسول صلى اللّه عليه و سلّم في إثبات ما نزل عليه من القرآن مما قاله لأبيّ و زيد بن ثابت و غيرهما.
ص: 412
و قد كان له عليه السلام جماعة أماثل/عقلاء أفاضل،كلّهم كتبة له[273] و معروفون بالانتصاب لذلك من المهاجرين و الأنصار،فمن كتب له من قريش من المهاجرين:أبو بكر الصديق،و عمر بن الخطاب،و عثمان، و علي،و زيد بن أرقم (1)،و خالد بن سعيد (2)،و ذكر أهل السيرة أنه كان ائتمنه حتى كان يأمره بطيّ ما كتب و ختمه،و كان أيضا كاتبا لأبي بكر و عمر ليستعمله على بيت المال.
و منهم أيضا:الزّبير بن العوّام (3)،و حنظلة الأسديّ (4)،و خالد بن أسد (5)،و جهيم بن الصّلت بن محرمة (6)،و العلاء بن...........).
ص: 413
الحضرميّ (1)،و شرحبيل بن حسنة (2)،و حاطب بن عمرو بن عبد شمس (3)، و أبو سلمة بن عبد الأسد (4)،و مهاجر بن أبي أميّة (5)،و حويطب بن عبد العزّى (6)،و أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة (7)،و أبان بن سعيد بن).
ص: 414
العاص (1)،و عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح (2)،و هو أخو عثمان بن عفّان لأمّه،و عمرو بن العاص،و عبد اللّه ابنه،و أبو سفيان بن حرب،و معاوية بن أبي سفيان.
و كتب له من ثقيف:المغيرة بن شعبة (3)،و حنظلة بن الربيع (4)،و مات (نفر فنسينا) (5)،يذكر أن امرأته رثته فقالت:
إنّ سواد الشّعر أودى به و جدي على حنظلة الكاتب
و كتب له صلى اللّه عليه و سلّم من الأنصار:زيد بن ثابت،و أمره أن يتعلم كتاب اليهود فتعلّمه،فكان يكاتبهم عنه،و كتب له عبد اللّه بن مسلمة (6)،و عبد اللّه بن رواحة (7)،و أبو أمامة أسعد بن...................).
ص: 415
زرارة (1)،و المنذر بن عمرو (2)،و أبيّ بن كعب،و كان-فيما ذكر-أول من كتب للنبي صلى اللّه عليه و سلّم حين قدم المدينة،و كان يكتب هو و أبو بكر و عليّ في آخر كتب رسول صلى اللّه عليه و سلّم من العهود و النشر و كان:«كتب أبيّ»،و كان أول من كتب ذلك،و كانا يكتبان في آخر كتب رسول صلى اللّه عليه و سلّم:«شهد عبد اللّه ابن أبي قحافة و عليّ بن أبي طالب».
و كتب لرسول اللّه أيضا:مالك بن العجلان (3)،و أسيد بن حضير، و معن بن عدي (4)،و أبو عيسى بن جبير (5)،و سعد بن الربيع (6)و أوس بن خولي (7)،و بشير بن...................).
ص: 416
سعد (1)،و أسد بن الصامت (2)،و سعد بن عبادة (3)،و عبد اللّه (4)بن أبي سلول،و السّجل (5)،و منه يقال: كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [الأنبياء:104]، روى ذلك عبد اللّه بن عباس،و كتب له عامر بن فهيرة (6)،و غير هؤلا أيضا.
و قد علم أنّ هؤلاء جميعا و إن لم يكونوا كتبة ملازمين لحضرة الرسول فقد كتب الكلّ أو كان ممّن يحسن/يكتب ما استكتبه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم،فكيف[274] يمكن أن يكون الرسول ممن يستثقل إثبات ما نزل من القرآن حتى لا يحصل).
ص: 417
إلا عند عائشة في رقعة تحت سريرها،و عند آخر أكلته الشاة من عنده!لو لا الجهل و الغباوة! و الرسول عليه السلام منصوب للبيان و حياطة القرآن و حفظ الشريعة فقط،لا حرفة له و لا شيء يقطعه من أمور الدنيا غير ذلك إلا بنصب يعود بنصرة الدين و توكيده،و يثبت أمر القرآن و يشيده،و كيف يجوز في العادة أن يذهب على هؤلاء و على سائر الصحابة آية الرّضاع و الرّجم فلا يحفظها و يذكرها إلا عائشة وحدها لو لا قلة التحصيل و الذهاب عن معرفة الضرورات و ما عليه تركيب الفطر و العادات.
فقد بان بجملة ما وصفناه من حال الرسول و الصحابة أنه لا يجوز أن يذهب عليهم شيء من كتاب اللّه تعالى قلّ أو كثر،و أنّ العادة توجب أن يكونوا أقرب الناس إلى حفظه و حراسته و ما نزل منه و ما وقع و تاريخه و أسبابه و ناسخه و منسوخه،و أنّ من حمل قول قائلهم:«و ما يدريك لعلّه قد سقط به أو ذهب قرآن كثير»على أنه دثر وضاع و نقلت عن سائر الصحابة و جميع الأمة لإعراضها عن إعظامه و قلّة رغبتها في حفظه و حراسته و اشتغالها عنه بغيره و ما هو عندهم أهمّ منه:فقد صار من الجهل بالعادات و ما عليه أحوال الناس إلى أمر عظيم.
فوجب بذلك حمل جميع ما روي عن آحاد الصحابة من هذه الأقاويل التي ذكرناها و ما لم نذكره منها أيضا على التأويل و التفسير الذي أوضحناه، دون ما يظنّه من لا علم له و لا تحصيل عنده،و باللّه التوفيق.
***
ص: 418
تعلّقهم بما يروونه من مشاجرة الحسن بن علي عليه السلام (1)لسعيد بن العاص (2)رحمة اللّه عليه
فأمّا تعلّقهم في ذلك بما روي من مشاجرة سعيد بن العاص للحسن بن علي،و إنّ سعيدا قال للحسن:«أما إنّي قد أدخلت في كتابكم/ألف[275] حرف،و أسقطت منه ألف حرف،فقال له الحسن:فأنا مؤمن بما أسقطت كافر بما أدخلت،فقال له:ليس حيث يذهب إنّما أردت إصلاح اللّحن منه، فقال له الحسن:فأيّ الثلاثة لحن:اللّه تعالى الذي تكلّم به،أم جبريل الذي نزل به،أم رسول اللّه صلّى اللّه عليه الذي بلّغه؟»فإنّه أيضا مما لا تعلّق لهم فيه من وجوه.
أحدها:إنّ هذه الرواية باطلة غير ثابتة و لا تعرف صحّتها باضطرار و لا بنظر و استدلال.
و الثاني:أنّها معارضة بما نعرفه ضرورة من جمع عثمان لزيد بن ثابت و عبد اللّه بن عباس و عبد اللّه بن عمر و عبد اللّه بن عمرو بن العاص و سعيد
ص: 419
ابن العاص و عبد الرحمن بن الحارث بن هشام و غيرهم على كتابة المصحف، و أمره لهم بإثبات ما اختلفوا فيه على ما يقوله النفر القرشيّون،و قوله إنّه بلسانهم نزل و إنهم لم يختلفوا إلاّ في التابوت فقال القريشيون:التابوت، و قال الباقون:التابوة،و أنّهم رفعوا ذلك إلى عثمان فأمرهم أن يكتبوه بلغة قريش،و هذه رواية ظاهرة مستفيضة،و لو كانوا قد اختلفوا في ألفي حرف ساقط و زائد من جهة اللّحن لوجب في مستقر العادة ظهور ذلك و إشهاره و اللهج بذكره،لأنّ اللّحن في هذا الباب أعظم و أفحش و أخطر من اختلاف لغتين سائغتين،فكيف ذهبوا عن حفظ ألفي حرف و حفظوا اختلافهم في التابوت و التابوة حتى شهروه و أظهروه.
فإذا لم يجز مثل ذلك علم تكذّب هذه الرواية على سعيد بن العاص، و إنّ الثابت عنه و عن العبادلة القرشيّين ما وصفناه،و سنزيد ذلك شرحا و بيانا في الاحتجاج لصحّة صنع عثمان في جمع القرآن.
و الوجه الثالث:أنّ سعيدا إن صحّت عنه هذه الرواية قد اعترف أنّه إنّما أراد بالزائد و الناقص اللحن،فإمّا أن يكون قصد إزالة إثبات حروف يصير الكلام لحنا بإسقاطها،و نقصان حروف يصير لحنا بزيادتها،و أراد بذكر الحروف الحركات و الإعراب،و ليس هذا من نقصان القرآن و ذهاب كثير منه [276]في شيء،و إذا/كان ذلك كذلك بأن أيضا أنّه لا شبهة لهم في هذه الرواية و لا تعلّق من كلّ وجه.
***
ص: 420
فأمّا تعلّقهم بما رواه أبو عبيد و غيره من النقلة عن كثير من السّلف من قراءة كلمات و حروف زائدة على ما بين الدّفّتين،و نقصان حروف و تقديم كلمة على كلمة،و قولهم:إنّ هذه الروايات إذا كانت من روايتكم وجب أن تكون حجّة عليكم و لازمة لكم،فإنّه أيضا باطل من وجوه:
أوّلها:أنّه لا يجوز لأحد من الشيعة التعلّق بشيء منها و لا بشيء ممّا قدّمناه أيضا من الروايات التي ذكروها عن أبيّ و عبد اللّه بن مسعود و عمر و أبي موسى و غيرهم،لأنّ هذه الأخبار إذا لم تبلغ في الشهرة و الظهور مبلغا تقوم به الحجّة،و تلزم القلوب العلم بصحّتها ضرورة،و كانت من روايات الآحاد،و كان هؤلاء الآحاد الذين رووها عن هذه الطبقة ليس هم عليّا و الحسن و الحسين و فاطمة و لا عمّار و سلمان و أبا الذّر و قنبرا و هذه الطبقة من الشيعة،و إنّما هم عبد اللّه بن عمر و عبد اللّه بن عباس و عائشة و أبو هريرة و عبد اللّه بن مسعود(و أبو) (1)موسى الأشعريّ.
و هؤلاء إذا قالوا قولا،و روى بعضهم عن بعض عن النبيّ صلّى اللّه عليه فهم فيه غير ثقات مأمونين،لأنّهم نواصب كفّار ضلاّل غشمة يجب عندهم
ص: 421
لعنتهم و البراءة منهم،فضلا عن العمل بأخبارهم و التوثيق لروايتهم،و لم يجز أن يعتقد الشيعة نقصان القرآن بقول هؤلاء الكفرة الضلاّل،و إن كانوا عند غيرهم عدولا أبرارا.
و كذلك حال من يروى عنهم من شيعتهم و أتباعهم في أنّهم غير مأمونين و لا مبرّئين من الكذب و وضع الزور،فلا حجّة في رواية أحد من هؤلاء و أتباعهم لنقصان القرآن و لا لغيره من الأمور فإنّما يجب أن يعلم الشيعة/ و يقطع على نقصان القرآن بخبر يعلم صدقه ضرورة،أو دليل قاطع إذا كان خبر بارّ عدل أو بخبر الإمام المعصوم من الكذب،فأمّا التعويل على خبر من ليس بمعصوم من الشيعة كان أو من الناصبة فإنّه لا حجّة فيه.
فإنّ قالوا:فنحن لسنا نعمل في ذلك على رواية هذه الطبقة،و إنّما نعلم نقصان القرآن بنقل الشيعة و تواتر خبرهم عن الأئمة الهادية من أهل البيت، أنّ القوم قد أسقطوا من القرآن شيئا كثيرا.
قيل لهم:قد علمناكم على خبر الشيعة هذا الذي تدّعونه من قبل بما يغني عن إعادته،و سنذكر فيما بعد ما يروونه عن أهل البيت من الترهات في هذا الباب الذي لا أصل لها،و أمّا نحن فإننا و إن كنّا نوثّق جميع من ذكرناه من السلف و أتباعهم،فإنّا لا نعتقد تصديق جميع ما يروي عنهم،بل نعتقد أنّ فيه كذبا كثيرا قد قامت الدلالة على أنّه موضوع عليهم،و أنّ فيه ما يمكن أن يكون حقّا عنهم،و يمكن أن يكون باطلا و لا يثبت عليهم من طريق العلم البتات بأخبار الآحاد،و إذا كان ذلك كذلك و كانت هذه القراءات و الكلمات المرويّة عن جماعة منهم المخالفة لما في مصحفنا مما لا يعلم صحّتها و ثبوتها،و كنّا مع ذلك نعلم اجتماعهم على تسليم مصحف عثمان و قراءتهم
ص: 422
و إقرائهم ما فيه و العمل به دون غيره،لم يجب أن نحفل بشيء من هذه الرّوايات عنهم لأجل ما ذكرناه.
و قد روي من هذه القراءات شيء كثير رواه أبو عبيد القاسم بن سلاّم في كتابه المترجم ب«فضائل القرآن»عن رجاله و غيره رواية غير ثابتة عن أبي عبيد على ما ذكر و لا عند غيره،فمن ذلك ما روي أنّ عمر بن الخطّاب كان يقرأ:(غير المغضوب عليهم و غير الضالين)،و منه ما روي عن عبد اللّه بن الزبير أنّه كان يقرأ:(صراط من أنعمت عليهم).
و روي أنّ ابن عبّاس (1)كان يقرأ: *إنّ الصّفا و المروة من شعائر اللّه فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه(أن يطّوّف بهما) [البقرة:158]،/و أنّه كان يقرأ:(و على الذين يطوّقونه فدية)،يعني يكلفونه و لا يطيقونه،و أنّه كان يقرأ:
ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من رّبّكم(في مواسم الحجّ) [البقرة:198]،و أنّه كان يقرأ:(للذين يقسمون من نسائهم تربّص أربعة أشهر).
و أنّ أبيّ بن كعب كان يقرأ: فإن فاءوا(فيهنّ)فإنّ اللّه غفور رّحيم [البقرة:226]،و إنّ حفصة زوج النبيّ صلّى اللّه عليه كانت تقرأ و أثبتت في مصحفها الذي أمرت بكتابته: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى [البقرة:238]أن تكتب بعد ذلك(صلاة العصر)،و أنّ أبيّ بن كعب كان يقرؤها:(و الصلاة الوسطى صلاة العصر).ت.
ص: 423
و أنّ عبد اللّه بن عبّاس كان يقرؤها كذلك،و أنّ عبد اللّه بن مسعود كان يقرأ: الّذين يأكلون الرّبوا لا يقومون إلاّ كما يقوم الّذى يتخبّطه الشيطان من المسّ(يوم القيامة) [البقرة:275]،و أنّ عمر كان يقرأ افتتاح آل عمران:
الم اللّه لا إله إلاّ هو الحىّ(القيام) [آل عمران:1-2]مكان القيّوم،و أنّ سعد بن أبي وقّاص قرأ: و إن كان رجل يورث كلالة أو امرأة و له أخ أو أخت(من أمّه) [النساء:12].
و إنّ ابن عبّاس كان يقرأ: فما استمتعتم به منهنّ(إلى أجل مسمى) فأتوهنّ أجورهنّ [النساء:24]،و أنّ أبيّ بن كعب و عبد اللّه بن مسعود كانا يقرءان: ما أصابك من حسنة فمن اللّه و ما أصابك من سيّئة فمن نفسك(و أنا كتبتها عليك) [النساء:79]،و أنّ عبد اللّه بن مسعود كان يقرأ:(بل يداه بسلطان)،و أنّ سلمان كان يسأل عن هذه الآية: ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْباناً [المائدة:82]فقال لسائله:دع القسّيس في الصوامع و الحرب،أقرأنيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه ذلك بأنّ منهم صدّيقين رهبانا.
و إنّ ابن مسعود كان يقرأ:(فصيام ثلاثة أيّام متتابعات)،و أنّ عثمان كتب في مصحفه: وَ كانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ (صحيحة و صالحة) غَصْباً [الكهف:79]،و أنّ أنس بن مالك كان يقرأ: إنّي نذرت للرّحمن صوما (و صمتا) [مريم:26]،و أنّ عمر بن الخطّاب كان يقرأ:(و إن كان مكرهم لتزول منهم(الجياد)،و إنّ عليّا/كان يقرأ: (و إذا أردنا أن نهلك قرية (بعثنا أكابر مجرميها)فمكروا فيها فحقّ عليهم القول) .
و أنّ ابن عباس كان يقرأ:(حتى تسلّموا على أهلها(و تستأذنوا)،و أنّ ابن مسعود كان يقرأ:(فعلتها إذا و أنا من الجاهلين)،و أنّه كان يقرأ:أنا (أنظر في كتاب ربّي ثمّ آتيك به قبل أن يرتدّ إليك طرفك)،و أنّ ابن عباس
ص: 424
كان يقرأ:(بلى أدرك علمهم)،و أنّ أبيّ بن كعب قرأها:(أم أدرك علمهم في الآخرة)،على الاستفهام،و أنّ ابن جبير كان يقرأ:(و الصوف المنفوش)، و أنّ عليّا كان يقرأ:(و العصر و نوائب الدهر لقد خلقنا الإنسان في خسر و أنّ فيه إلى آخر الدّهر)،و إنّ أسماء بنت أبي بكر قالت:سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه يقول:(ويل أمكم قريش إيلافهم رحلة الشتاء و الصيف)،و إنّ ابن عباس قرأ:(إذا فتح اللّه النصر)،إلى أمثال هذا مما يكثر و يطول تعداده.
و قد قلنا من قبل إنّ هذه أخبار آحاد غير مقطوع عليها و لا موثوق بصحتها،و إننا لا نجوّز أن نثبت قرآنا بطريق لا يوجب العلم و لا يقطع العذر،و إنّ الشهادة على أدنى المؤمنين منزّلة بمثل ذلك،و أنّه قد زاد في كتاب اللّه تعالى ما ليس منه أو نقص شيء منه غير مقبولة،فلا يجب الاعتداد بمثل هذه القراءات على وجه.
و قلنا أيضا:إنّنا نعلم إجماع الأمة و سائر من رويت عنهم هذه الروايات من طريق يوجب العلم تسليمهم بمصحف عثمان و الرضا به و الإقرار بصحة ما فيه،و أنه هو الذي أنزله اللّه على ما أنزله و رتّبه،فيجب إن صحت هذه القراءات عنهم أن يكونوا بأسرهم قد رجعوا عنها و أذعنوا بصحة مصحف عثمان،فلا أقلّ من أن تكون الرواية لرجوعهم إلى مصحف عثمان أشهر من جميع هذه الروايات عنهم،فلا يجب الإحفال بها مع معارضة ما هو أقوى و أثبت منها.
و قلنا أيضا:إنّه لا يجوز للشيعة التعلق بالنقصان من كتاب اللّه تعالى أو الزيادة فيه بهذه الأخبار،لأنّها عندهم أخبار قوم كذبة ضلال كفّار،لا يؤمن عليهم وضع الكذب و الزيادة و النقصان في كتاب اللّه،هذا لو تواتر الخبر/عنهم بهذه القراءات،فكيف و هي في أدون طبقات أخبار الآحاد الواهية الضعيفة،
ص: 425
و ممّا يجب أن يعتمد أيضا عليه في إبطال كون هذه القراءات كلّها من كتاب اللّه الواجب قراءته و رسمه بين الدفتين،إجماع المسلمين اليوم و قبل اليوم و بعد موت من رويت هذه القراءات عنه على أنّها ليست من كلام اللّه الذي يجب رسمه بين اللوحين،و الإجماع قاض على الخلاف المتقدّم و قاطع لحكمه،و محرّم للقول به لما قد بيّناه في كتاب الإجماع من كتاب«أصول الفقه»،بما يغني الناظر فيه،فوجب بذلك إبطال جميع هذه القراءات.
و قد يحتمل أن يكون جميع هذه القراءات قد كانت منزّلة على ما رويت عن هذه الجماعة ثم نسخت الزيادة على ما في مصحفنا و النقصان منه و إبدال الحرف بغيره،و الكلمة بغيرها،و نهي القوم عن إثباتها و تلاوتها،فظنّ كل من كان لقّن شيئا منها أنّه باقي الرسم غير منسوخ و علم ذلك عثمان و الجماعة و نهوهم عنه،ثم علم أصحاب هذه القراءات صحة ما دعاهم إليه عثمان من إزالة هذه القراءات و نسخها،و أنّ الحجة لم تقم بها،و لم يتيقن من وجه يوجب العلم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قرأ بها فرجعوا عند التأمّل و التنبيه إلى قوله و أذعنوا بصحة مصحفه.
و يحتمل أن يكون جميع ما سمع منهم أو أكثره أو وجد مثبتا في مصحف لهم إنما قرءوه و أثبتوه على وجه التفسير و التذكير لهم أو الإخبار لمن يسمع القراءة بأن هذا هو المراد بها،نحو قوله: وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى ،(و هي صلاة العصر)،و قوله: فإن فاءو(فيهن) و أمثال ذلك فقدّر من سمعهم يقولون ذلك او رآه مثبتا في مصحفهم،أنهم إنما قالوه و أثبتوه على أنه قرآن منزل،و لم يكن الأمر عندهم كذلك و لا قصدوا لكتبه بمصاحفهم و جعلها إماما و مدرسة للناس،و كانوا لا يثبتون فيها إلاّ ما ثبت أنّه قرآن،دون/غيره.
ص: 426
و إذا احتمل أمر هذه القراءات جميع هذه الوجوه كان القطع على أنها من كلام اللّه تعالى الذي يجب إثباته و قراءته جهلا و تفريطا ممن صار إليه و لا سيّما مع العلم بحصول إجماع الأمة على مصحف عثمان رضوان اللّه عليه، و إذا كان ذلك كذلك بأن بهذه الجملة سقوط كل ما يتعلقون به من هذه الروايات و أنّ العمل في هذا الباب على ما نقله المسلمون،خلف عن سلف على وجه تقوم به الحجة،و ينقطع العذر عن عثمان و الجماعة و أنّ عليا و غيره من الصحابة كانوا لا يقرءون إلا هذه القراءة و لا يرجعون إلا إليها، و لا يحكّمون غير هذا المصحف فيما نزل بهم،و باللّه التوفيق..
ص: 427
و أما تعلّقهم بما ذكروا من الآي المنسوخة من نحو قوله:
«إنّا أنزلنا الماء لإقامة الصلاة و إيتاء الزكاة،و لو أن لابن آدم واديا لأحب أن يكون إليه الثاني،و لو كان الثاني لأحبّ أن يكون إليهما الثالث، و لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب،و يتوب اللّه على من تاب» (1)،و ما قيل
ص: 428
في رواية أخرى:«لو أن لابن آدم واديان من ذهب و فضة لابتغى إليهما ثالثا،و لا يملأ بطن ابن آدم إلا التراب،و يتوب اللّه على من تاب»،و ما روي في رواية أخرى:«لو أنّ لابن آدم واديا مالا لأحبّ أن يكون إليه مثله، و لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب،و يتوب اللّه على من تاب».
و ما روي أنه كان في مصحف عائشة رضوان اللّه عليها:«إن اللّه و ملائكته يصلّون على النّبي،يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه و سلّموا تسليما، و على الذين يصلّون الصفوف الأولى».
و ما روي عن عمر بن الخطاب و قوله:«كنا نقرأ لا ترغبوا عن آبائكم فانّه كفر»،ثم قال لزيد بن ثابت أ كذلك يا زيد؟قال:نعم،و إنه قال-أعني عمر-(لعبد الرحمن) (1)بن عوف:أ لم تجد فيما أنزل علينا أن جاهدوا كما جاهدتم أول مرّة فانّا لا نجدها؟،فقال عبد الرحمن/:أسقطت فيما أسقط من القرآن»،و ما روى من آية الرجم و الشيخ و الشيخة فقد مضى عنه أجوبة.
و جملة القول في ذلك أنّ جميع هذه الروايات أخبار آحاد لا سبيل إلى صحتها و العلم بثبوتها،و لا يخيل لنا أن ننسب إلى أحد من الصحابة و من دونهم إثبات قرآن زائد على ما في أيدينا،أو نقصانا منه بمثلها،و لا نضيفه.
ص: 429
إليهم من ذلك أمرا غير معلوم و لا متيقّن،مع أنّ نظم ما روى من قوله:لو أنّ لابن آدم،نظم خفيف يباين وزن القرآن و يفارقه،و إذا كان ذلك كذلك سقط التعلّق بهذه الأخبار و اقتضى ما فيها أنها لو صحت لوجب القطع على أنّه قرآن كان أنزل و نسخ رسمه و أسقط،و حظر علينا إثباته بين الدّفتين و تلاوته على أنّه قرآن ثابت.
و كذلك سبيل ما روي عن عائشة من قولها:«كان مما أنزل اللّه تعالى عشر رضعات معلومات يحرمن ثمّ نسخن بخمس رضعات»،و لعلّ قولها ثم نسخن من كلامها،و الصحيح في هذا أنّه ليس شيء من هذه الروايات مستقرا متيقّنا معلوما صحته،فلا يجب الإحفال بها.
و كذلك ما روي عن ابن عمر في قوله:«لا يقول أحدكم أخذت القرآن كلّه و ما يدريه ما كله،قد ذهب منه قرآن كثير،و لكن ليقل أخذت ما ظهر منه»،و ما ذكر في سورة الأحزاب و غيرها مما قدمنا ذكره،و قد كان القوم يعلمون و يعلم أكثرهم أنّ ما صحّ من هذه الكلمات و القراءات التي ليست في مصحف عثمان مرفوعة منسوخة فربما عبّروا عنها بالنسخ،و ربما قالوا سقطت،و قد روي:«أن عثمان بن عفان رضوان اللّه عليه مرّ برجل يقرأ في المصحف: النّبىّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم و أزواجه أمّهتهم(و هو أبوهم) [الأحزاب:6]،فقال عمر:لا تفارقني حتى يأتي أبيّ بن كعب،فأتى أبيّ بن كعب فقال عمر:يا أبيّ،أ لا تسمع هذا كيف يقرأ هذه الآية،فقال أبيّ:
كانت فيما أسقط.
و قد علم أنّه لا يجوز أن يذكر عمر و أبيّ و عائشة،و هذه الجماعة و أمثالهم في الفضل/و السابقة قرآنا كانوا يعلمون أنه كان أنزل النبي صلّى اللّه عليه و أنه لم ينسخ و ترتفع تلاوته و لا أزيل رسمه،فيتركوا قراءته و إثباته في
ص: 430
المصحف،و أخذ الناس بحفظه،و يعتذرون في ذلك بأنّه مما أسقط، و يعنون بذلك أنه أسقطه الناس من المصحف،و تركوا حفظه و إثباته،لأنّه لو كان مثل هذا عذرا في ترك حفظه و إثباته لكان لو أسقط الناس جميع القرآن على هذا المعنى أو ثلثيه و نصفه على اعتماد إسقاطه و الذهاب عن حفظه و ضبطه،أن يجب على من كان لقّنه و عرفه و حفظه أن يترك قراءته و إثباته و رسمه لأجل أنّ غيره من الناس عصى اللّه و أسقطه،و هذا جهل لا يظنه بالصحابة إلا غبيّ مغرور،فإنّ حال أدون المؤمنين منزلة يرتفع عن هذه الرتبة،فكيف بالصحابة في فضلهم و جلالة قدرهم و شدة تديّنهم،و ما وصفهم اللّه تعالى به من أنّهم خير أمة أخرجت للناس،و أنهم يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر،إلى غير ذلك مما وصفهم به،فبان بما وصفناه أنه لا تعلق لهم في شيء مما حكيناه من كلّ وجد و طريق.
قال أبو عبيد (1)عقيب القراءات الشاذة التي قدّمنا ذكرها،و هذه الآيات التي ذكر أنّها كانت مما أنزل ثم رفع و أسقط،و قد ذكر في بابين شيئا كثيرا قد ذكرنا بعضه،فقال أبو عبيد:«هذه الحروف التي ذكرناها في هذين البابين الزوائد لم يروها العلماء،و احتملوها على أنها مثل الذي بين اللوحين من القرآن،و لا أنهم كانوا يقرءون بها في صلاة،و لم يجعلوا من جحدها كافرا بما يقرأ في الصلاة،و يحكم بالكفر على الجاحد لهذا الذي بين اللوحين،و هو مما يثبت في القرآن الذي نسخه عثمان بإجماع من المهاجرين و الأنصار و إسقاط ما سواه،ثمّ أطبقت عليه الأمة فلم يختلف في شيء منه،يعرفه جاهلهم كما يعرفه عالمهم،و توارثه القرون بعضها عن بعض،و يتعلمه الولدان في المكتب،و كانت هذه/إحدى مناقب عثمانة.
ص: 431
العظام،ثم مرّ في ذكر أخبار و روايات عن الأماثل في تفضيل عثمان في هذا الباب إلى أن قال:«فالذي ألّفه عثمان هو الذي بين ظهراني المسلمين اليوم،و هو الذي يحكم على من أنكر منه شيئا بما يحكم على المرتدّ من الاستتابة فإن أبى فالقتل».
فأمّا ما جاء من هذه الحروف التي لم يؤخذ علمها إلا بالإسناد و الروايات التي يعرفها الخاصة من العلماء دون عوام النّاس،فإنّما أراد أهل العلم منها، أن يستشهدوا بها على تأويل ما بين اللوحين،و يكون دلائل على معرفة معانيه و علم وجوهه،قال:«و كذلك قراءة حفصة و عائشة: حفظوا على الصّلوات و الصلاة الوسطى(صلاة العصر) [البقرة:238]،و كقراءة ابن مسعود:(و السارقون و السارقات فاقطعوا أبدانهم)،و مثل قراءة أبيّ بن كعب:
(فإن فاءوا فيهنّ)،و كقراءة سعد:(فإن كان له أخ أو اخت من أمه)،و كما قرأ ابن عباس:(لا جناح عليكم أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج)، و كذلك قراءة جابر:(فإنّ اللّه من بعد إكراههنّ لهنّ لغفور رحيم)،فهذه الحروف و أشباه لها كثير قد صارت مفسّرة للقرآن،و قد كانوا يروون مثل هذا عن بعض التابعين يعني بذلك استجازة كتابة التفسير مع الآية،ثم هل في كلام هذا معناه من تضعيف هذه الروايات تارة،و أنّها ليست توجب علما،بأنّ ما روي قرآن منزّل يجب إكفار من جحدة و استتابته و إلا قتل كالمرتدّ،و يكون بمثابة ما يعلم أنّه قرآن،مما ثبت بين اللوحين،و من أنّ العلماء إنما احتملوه إن صح عندهم على وجه التفسير به لمعاني القرآن،و إذا كان ذلك كذلك ثبت أنّ أبا عبيد يعتقد في هذه الأخبار ما يعتقد من أنّ الحجّة لم تقم بها،و أنّ معناها إن صحّت بعض ما ذكرناه،و هذا رأي جميع أصحاب الحديث و فرق المسلمين الرواة لهذه الأخبار من مخالفي من يدّعي الزيادة فيه و النقصان منه.
ص: 432
و لو سئل كلّ واحد منهم عما يرويه من هذه الحروف،لقال فيها و في معتقد إثباتها:/و القطع على أنّها قرآن أكثر و أغلظ مما قال أبو عبيد،هذا[285] معلوم من حال جميعهم،و إذا كان ذلك كذلك لم يكن في قول المخالف لنا أنّنا إنما ندلّ بروايات هذه الآثار عن رواتكم لإقامة الحجة بها عليكم،لأنّ هؤلاء الأئمة عندهم في هذه الروايات ما ذكرناه مما يبقي اعتقاد القطع على صحتها،و يوجب أنّ الصحيح غيرها،لأنّهم قد قالوا صريحا:إنّ الذي أجمع عليه المسلمون هو الذي بين اللوحين،و هو الذي يحكم على جاحد شيء بحكم المرتدين،و قالوا أيضا:إنّ ما أجمع عليه المسلمون هو الحقّ و الصواب،و أنّ ما عداه مطرح مرذول لأنّنا نعلم ضرورة من مذاهبهم اعتقاد صحة الإجماع،و اطراح ما عداه،فكيف تكون رواياتهم لأخبار يعتقدون هذا فيها حجة عليهم لو لا الغباوة و الجهل،و لو كانوا قاطعين على أنّ هذه الحروف و الكلمات قرآن لم يعبأ بهم عند المخالف،لأنّهم عند المخالف قوم حشو طغام،و على النّصب و مخالفة الرسول و الإمام المعصوم،و لا معتبر بقول من هذا دينه و مذهبه،و إذا كان ذلك كذلك سقط ما يتعلقون به من الاحتجاج برواية مخالفيهم من أهل الحديث سقوطا بيّنا.
ثم يقال لهم:إذا لم تكن هذه الأخبار مما قد بلغت حدّ التواتر،و لا مما يلزم قلوبنا العلم بصحتها،و كان راويها عندكم ممن يصح عليهم الغلط و الإغفال و وضع الكذب فما الذي يدل على صحة هذه الإخبار و صدق رواتها؟فلا يجدون في ذلك متعلّقا.
فإن قالوا:لو جاز أن يكونوا قد غلطوا و تكذّبوا في هذه الأخبار لجاز أن يكون جميع ما روي من الأخبار التي أجمع عليها المسلمون من إعلام الرسول و غيرها تكذّبا.
ص: 433
قيل لهم:و لم قلتم إنّه إن جاز عليهم الغلط،و الاعتماد في هذه الأخبار جاز ذلك فيما أطبق عليه المسلمون من الإعلام و غيرها من الأخبار،فلا يجدون في ذلك متعلقا.
ثم يقال لهم:إذا كانت هذه الأخبار أخبار آحاد لم تبلغ حدّ/التواتر، و لم يدلّ عقل و لا سمع و لا شهادة من سائر الأمة على صحتها،و لا ادّعي سماعها من الرسول صلّى اللّه عليه،و حضور إلقائها على جماعة يستحيل في العادة عليهم الإمساك عن إنكار كذب من يدّعي عليهم،و يضاف إلى مشاهدتهم و سماعهم،و لا غير ذلك من وجوه الأدلة لم يجب القول بصحتها،و ليس هذه سبيل الإخبار التي يروونها الأمة قاطبة و يعرفها الخاصة و العامة،و سبيل ما دلّ على صحته بعض هذه الأدلة،فجمعهم بين الأمرين دعوى لا برهان عليها و لا معها.
ثمّ يقال لهم:فقد روى هؤلاء القوم من أهل الأحاديث كأبي عبيد و غيره ممن ذكر هذه القراءات من طريق هي أسلم من الطرق التي ذكروها، و عن قوم هم أثبت ممن روي عنه هذه القراءات،و بإسناد هو أظهر و أشهر من أخبار الرؤية و الشفاعة،و وقوع الطلاق في الحيض،و تحريم المتعة بعد إطلاقها،و المسح على الخفين و إيجاب غسل الرجلين،و أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه لا يورّث،و أن ما تركه صدقة،و أنّه شهد للعشرة بالجنّة،قال صلّى اللّه عليه:«اقتدوا بالذين من بعدي أي أبي بكر و عمر» (1)،و أنهما من الدين).
ص: 434
بمنزلة السمع و البصر من الرأس» (1)،و«أنهّما سيدا كهول أهل الجنة» (2)، و«أنهما وزيراه من أهل الأرض» (3)،و أنّه«لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يتقدمهم غيره» (4)،و أن«لو كان بعده نبي لكان عمر» (5)،و لأنّ«أبا بكر خير الأولين و الآخرين إلا النبيين و المرسلين ممن مضى في سالف الدهر و من في غابره» (6)،و رووا في كل واحد ممن تكفّرون أنتم و تشهدون عليه بالضلال و الكفر من الفضائل و المناقب أمرا عظيما كثيرا،و قالوا كلّهم:هذه الفضائل أظهر و أشهر عندهم من نقل هذه الأحرف الشواذ،فيجب لذلك أن يوثّقهم و يصدّقوهم فيما رووه من هذا أجمع.
و متى قلتم إنهم قد كذبوا أو غلطوا و وهموا في جميع ما رووه من هذه الأخبار وجب على اعتلالكم أن لا تأمنوا أن تكون جميع الأخبار التي أطبق/[287] عليها المسلمون من إعلام الرسل و غيرها كذبا و زورا،و أن لا تثقوا بصحة خبر البتة،و هذا ما لا فصل لهم فيه،و قد بينا فيما سلف و سنبين في باب الكلام في جمع عثمان المصحف و أخذهم بالقراءات الثابتة أنه لا يسوغ إطلاق ما روي من روايات الآحاد،و من وجه لا يوجب العلم بما يقطع على).
ص: 435
أنه قرآن،و خلط المعلوم المتيقّن من ذلك بالمجهول،و أنّه أجلب الأمور لإدخال اللّبس و الشكوك في المصحف،و أن يثبت كلّ أحد فيه ما يريد و يوقن مما ورد هذا المورد من القرآن و القراءات،و أن يدّعي أنّه أثبت من الحمد و البقرة و آل عمران و ذلك من الفساد و التخليلط ما لا خفاء به.
و سنوضح أيضا فيما بعد أنّه لا يجوز إثبات شيء من هذه القراءات في المصحف على حكم الظاهر،و العمل بخبر الواحد دون القطع على أنّه قرآن، و أن ذلك من أدعى الأمور إلى خلط الصحيح بالفاسد و السليم بالسقيم، و فتح دعاوى الملحدين بأنّ كل ما بين الدفّتين ثابت على طريقة واحدة،و أنّه معلوم،أو أن يدّعوا أنّه كلّه غير متيقّن و لا معلوم،أو أن يقولوا:ما نعرف ما قامت الحجة به مما لم يقم و لا المعلوم منه و لا المجهول،و أنّ ما أدى إلى ذلك و سهّل سبيله وجب منعه و الحظر له و نكشف ذلك بما يوضح الحقّ إن شاء اللّه.
ص: 436
و مما يدل على أنه جميع هذه القراءات،و القرآن الذي يدّعى إنزاله و الكلمات الزائدة ليست بمثابة القرآن المتيقّن المعلوم،إجماع الأمة على أنّ من جحد الحمد و البقرة أو بعض القرآن،و قال:إنّها ليست بقرآن،أو قال:
لست أدري أنها قرآن أم لا،وجب إكفاره و الحكم بردّته و خروجه عن جملة المسلمين،و لا سيّما إذا كان ممن ينسب إلى العلم و حفظ القرآن و سماع النقل و الأخبار،و أنّ من جحد قوله:(و هي العصر)،(و السارق و السرقة فاقطعوا(أبدانهم)،(و يأخذ كلّ سفينة(صحيحة)غصبا)،(و أن تبتغوا فضلا من ربكم في(مواسم الحجّ)،(و الشيخ و الشيخة،و لو أن لابن آدم واد من ذهب)،(و لا ترغبوا عن آبائكم/فإنّه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم)،و أنكر[288] أن يكون ذلك قرآنا،و قال:إني لست أدري أ قرآن هو أم لا؟،و قال:أقرأه كما روي على الظاهر دون القطع عليه،لم يكفر بذلك و لم يكن خارجا عن جملة المسلمين باتفاق،فوجب لذلك جهل من اعتقد أنّ هذه الشواذّ جارية في ظهورها و ثبوتها و حصول العلم بها،مجرى الحمد و النمل و الكهف، و بعض سور القرآن،و ثبت بذلك افتراق الأمر فيهما.
فإن قالوا:و لو لم تكن هذه الكلمات و الأحرف الزائدة قرآنا،و لا من سبيل يوجب أن يكون من أدخلهما في القرآن و اعتقد أنّها منه كافرا،و بمثابة من أدخل(قفا نبك)،(و ألا هبّي)،(و ودّع عميرة)في القرآن و اعتقد أنّها منها،فلما لم يكن ذلك كذلك،وجب أن تكون هذه الكلمات من القرآن.
ص: 437
يقال لهم:لا يجب بما قلتم،لأنّ هذه الأمور و إن لم نقطع و نعلم أنها قرآن من عند اللّه،و كان الدّليل قد قام على أنها ليست من القرآن،فإنه قد روي روايات الآحاد أنّها قرآن منزل،و قال بعضهم:قد نسخ ذلك،و قال آخرون:بل هو ثابت فصارت هذه الروايات شبهة لمن ظنّ أنّها قرآن إذا خفي عليه الدليل،على أنه لا يجوز إثباتها و إلحاقها بالثابت المعلوم،و صار ذلك على ضرب من التأويل الذي قد غلط فيه،و إن لم يقصد الجهل و الغباء فلم يجب إكفاره،و من قال ذلك في شعر امرئ القيس،و بعض كلام اللّه فلا تأويل و لا شبهة،فوجب إكفاره و افترقت الحال في ذلك.
فإن قالوا:فكذلك لا يحب إكفار من جحد أن تكون الكلمات الزائدة من القرآن،و أنكر ذلك،و أن يكون بمثابة من جحد الحمد و ثبت المتفق بغير خلاف على أنّها قرآن،لأنّ هذه الكلمات الزائدة لم تتفق الأمة على أنّها قرآن منزّل و لا تواتر الخبر بكونها قرآنا،و لا قامت بذلك حجة،و إن رويت الأخبار الكثيرة في أنها قرآن،و ليس كذلك سبيل الحمد و ثبت بحصول الإجماع و التواتر على أنهما قرآن،و زوال الريب و الشكوك في ذلك.
[289]يقال لهم:فقد صرتم لنا إلى ما أردناكم/عليه،و أخبرنا بصحته من أقرب الطرق،لأنكم لمّا طالبتمونا بجعل هذه الكلمات من القرآن لموضع هذه الروايات،قلنا لكم:لا يجب ذلك لأنّه لها اتفاق من الأمة حصل على أنها من القرآن و لا تواتر الخبر بذلك و لا علم ضرورة من دين الرسول، و ليس كذلك سبيل الحمد و آل عمران،و إنّما هي روايات جاءت مجيء الآحاد التي لا توجب علما،و لا تقطع عذرا في إثباتها،و أنّه لا يجب إثبات ما هذه سبيله،فقلتم في جواب ذلك:إن ساغت لكم هذه الدّعوى في هذا القرآن ساغ مثلها في دعوى ظهور الرّسل و الإعلام من جميع ما روي من
ص: 438
الأحكام،و أجبنا عن ذلك بما قطع شغبكم،و أنتم الآن قد التجأتم عند حيّز النظر و تحقيق الأمر إلى الاعتراف و الإذعان بأنّ حال الروايات الواردة بهذه الأحرف الشواذ و الكلمات الزائدة في أنها غير مقطوع على صحتها،و لا مما ظهر أمرها و اتفق عليها،فوجب الاعتراف بأنّها قرآن منزل حال الرواية بسورة ألهاكم،و العصر،و هكذا يفعل اللّه سبحانه بمن حاول الطعن في الدين و القدح في أئمة المسلمين و إيقاع الشكوك و اللّبس في التنزيل.
دليل لهم آخر:و قد استدلّ قوم منهم على تغيير الأمة للقرآن،و فساد نظمه و تحريفه و النقصان منه و الزيادة فيه بما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه أنّه قال:«لتسلكنّ سنن الذين من قبلكم حذو النّعل بالنّعل،و القذّة بالقذّة حتى إنّ أحدهم لو دخل جحر ضب لدخلتموه،قيل يا رسول اللّه:اليهود و النصارى؟ قال:فمن إذن؟ (1)»،قالوا:و قد صحّ أنّ اليهود غيّرت كتاب اللّه و حرّفته و نقّصت منه أشياء كانت فيه،و زادت فيه أشياء ليست منه،و أنّ النصارى أيضا حرّفت الإنجيل و غيّرته و أفسدته،بخلط ما ليس منه و إسقاط ما هو منه،و قد خبّره اللّه تعالى بذلك من أمرهم،فقال تعالى: وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ(146) اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ(147) [البقرة:
146-147]،و قال تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللّهِ/لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمّا[290] يَكْسِبُونَ [البقرة:79]،و قال تعالى: وَ إِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَ ما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَ يَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ وَ ما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ وَ يَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:78]،فنص هذه).
ص: 439
الآي على تغيير أهل الكتاب لكتابهم و زيادتهم فيه و نقصانهم منه،و إذا ثبت ذلك و صحّ أنّ الرسول قد خبّر عن سلوك هذه الأمة لسننهم في جميع ما كانوا عليه،وجب القطع على أنّ فيهم من غيّر الكتاب،و أحال نظمه و قصد إيقاع التخليط و الإلباس فيه،و ساوى في ذلك من سبقه من أهل الكتابين.
يقال لهم:لا تعلّق لكم فيما ذكرتم من وجوه:
أولها:أنكم قد علمتم على القطع بأنّ الأمة قد غيّرت القرآن و بدّلته و نقّصت منه من جهة هذا الخبر،و هذا عجز منكم و تقصير بيّن،لأجل أنّ هذا الخبر من أخبار الآحاد التي لم نعلم صحّتها ضرورة و لا استدلالا،و لا هو ممّا تلقّته الأمة بالقبول،و لا دلّ عليه بعض الأدلة الدّالة على صحة الأخبار،و إذا كان ذلك كذلك،لم يجز أن نتيقّن و نقطع على أن الأمة أو بعضها قد غيّرت القرآن و حرّفته من جهة خبر لا سبيل إلى العلم بصحته، لأننا إذا لم نعلم صحته كنّا عن العلم بتضمّنه أبعد و هذا مما لا خلاف فيه، أعني أنّه لا يجوز إثبات أصل يقطع به على اللّه تعالى بخبر لا يعلم بثبوته، و لا نقطع بصحته،و إذا كان ذلك كذلك سقط تعلّقكم بهذه الرواية سقوطا ظاهرا.
فإن قالوا:هذا الخبر من أخبار التواتر،بهتوا و كابروا و سقطت مئونة كلامهم،و ادّعي في كل خبر ينكرونه و يجحدونه أو يقفون في صحته أنّه خبر تواتر،و لا سبيل إلى دفع ذلك.
و إن قالوا:قد قام الدليل على صحة هذا الخبر و إن قصر عن حدّ التواتر، قيل لهم:و ما ذلك الدليل؟فلا يجدون إلى ذكر شيء سبيلا،ثم يقال لهم:
أنتم تجحدون خبر الرؤية و الشفاعة،أو كثير منكم،و تجحدون فضائل أبي
ص: 440
بكر و عمر و عثمان،و غيرهم ممن تتبرّءون منه من الصحابة،/و تكذّبون ما[291] روي من قول النبيّ صلّى اللّه عليه لمعاذ:«بم تحكم؟إلى قوله أجتهد رأيي و أحكم (1)»،و قوله صلّى اللّه عليه عقب ذلك:«الحمد للّه الذي وفّق رسول رسول اللّه»،و قوله:«إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران،و إذا اجتهد فأخطأ فله أجر» (2)،و قوله لعمرو بن العاص:«اجتهد،فقال:أجتهد و أنت حاضر؟قال:نعم»،و ما روي من غسل الرجلين،و المسح على الخفّين و أمر الرسول بذلك،و أن يكون النبيّ صلّى اللّه عليه قد سها و قال لذي اليدين عند قوله:«يا رسول اللّه أقصرت الصلاة أم نسيت؟قال:كلّ ذلك لم يكن (3)،و قوله:«إنما أنا بشر مثلكم أنسى لأسنّ» (4)،و غير هذا من الأخبار الظاهرة المشهورة عند الثّبت الثقات مع إطباق سلف الأمّة و جميع الفقهاء، و من خالفكم من المتكلمين في سائر الأعصار عليها،و اعتقادهم لثبوتها، فكيف يسوغ لكم التعلق في هذا الأصل العظيم بمثل هذا الخبر الذي لا يجري مجرى ما أنكرتموه،و لا يقاربه و لا يدانيه في الصحة و الثبوت،و لو لا القحة و قلة الدين لم تقولوها في مثل هذه الأخبار الثابتة المعلومة هذه من أخبار المروانية و شيعة معاوية و وضع() (5)و الحنابلة،و تدّعون في مثل خبركم الذي تعلقتم به أنّه من الأخبار الثابتة التي يجب أن يقطع من جهتهة.
ص: 441
على تحريف كثير من الأمّة للقرآن و تغييره،نعوذ باللّه من الجهل و العناد و قصد التمويه و الإلباس.
ثم يقال لهم:لو سلّمنا لكم صحة هذا الخبر و وجوب القطع على ثبوته لم يكن لكم فيه متعلّق من وجوه:
أحدها:أنّه لو قال صلّى اللّه عليه:«لتسلكنّ سنن الذين من قبلكم حذو النّعل بالنّعل،و القذّة بالقذّة إلا في تغيير القرآن،و إفساد الدين،و عبادة العجل و المسيح،و كذا و كذا»لصحّ ذلك و جاز،و وجب أن يعتقد عموم سلوكهم لسننهم إلا فيما استثناه،و إذا كان ذلك كذلك،و كان قد ورد عنه ما هو قائم مقام هذا الاستثناء و أبلغ منه وجب الحكم بما قاله من ذلك،و قد [292]ورد عنه صلّى اللّه عليه من الجهات المختلفة و الطرق الواضحة/المشهورة عن الثّبت ورودا متواترا على المعنى،و إن اختلف اللّفظ:«أنّ الأمة لا تجتمع على ضلال و لا خطأ»،فوجب أن تكون ما شهدت بأنّه حق أو باطل،فإنّه على ما شهدت به،فروي عنه صلّى اللّه عليه أنه قال:«سألت اللّه تعالى أن لا يجمع أمتى على ضلال فأعطانيها» (1)،و أنه قال:«أمّتي لا تجمع على خطأ،و لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى يقاتلوا الدّجال»،و في خبر آخر:«حتى يأتي أمر اللّه و هم على ذلك»،و في خبر آخر:«على الحق لا يضرّهم خلاف من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء» (2)،و أنّه قال:«فمنيث
ص: 442
سرّه بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة،فإنّ الشيطان مع الواحد،و هو من الاثنين أبعد» (1)،و في رواية أخرى:«فإن يد اللّه على الجماعة،لا يبالي اللّه شذوذ من شذّ»،إلى نظائر هذه الأخبار التي يطول تتبّعها،و قد ذكرناها و بيّنا صحّتها و ثبوتها و تسليم الأمّة لها و تواترها على المعنى و إن اختلفت ألفاظها، و أوضحنا فساد جميع ما يعترضون به عليها في كتاب الإجماع من كتاب «أصول الفقه الصغير» (2)بما يغني متأمله و الناظر فيه،و إذا كان ذلك كذلك و كنا قد بيّنا فيما سلف،و سنبيّن أيضا فيما يأتي إجماع الأمة في عصر أبي بكر عند جمعه للقرآن،و في زمن عثمان و جمعه النّاس على القراءات و الأحرف الثابتة،أن ما بين اللوحين من القرآن الحاصل في أيدينا هو جميع كتاب اللّه الذي أنزله على رسوله،و مرسوم تأليفه الذي ألّف عليه،و مقروء على وجه ما أنزل عليه،وجب لذلك أن تكون صادقة محقّة فيما شهدت به من هذا الباب،لإخبار الرسول عنها بأنّها لا تخطئ و تضلّ و لا تصدّق كذبا،و لا تكذّب حقا و صدقا،فوجب لأجل ما وصفناه حمل قوله:
«لتسلكنّ بكم سنن الذين من قبلكم على سلوك سننهم فيما عدا تغيير المصحف و تحريف الكتاب»لأجل هذا الإجماع و شهادة الرسول و الأمة على أنّه محفوظ إلى يوم القيامة،و أنّ قوله: وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر:9]،ة.
ص: 443
و إنّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ [القيامة:17]دالا على ذلك و مقتض له،فيجب [293]الأمان/من تخوّف تغيير و تحريف للكتاب،لا تقوم الحجّة بفساده و يوجب إحباط صحيحه بفساده.
فإن قالوا:ما حصل على هذا إجماع،لأنّ عليا و شيعته و أبيّا و عبد اللّه ابن مسعود() (1)لم يتّفقوا على ذلك،فقد أوضحنا فساد هذه الدعاوى و بيّنا دخول عليّ عليه السلام في الجماعة،و تحكيمه مصحف عثمان و قراءته له و إقرائه إيّاه،و تسليمهم كذلك،و أنّه لا معنى لدعواهم التقية في ذلك،و لا صحة عليه،و إذا كان ذلك كذلك وجب استثناء هذا القدر من سنن أهل الكتاب و منع وقوعه من الأمة.
فإن قالوا:الإجماع أصل يقطعون بصحته على اللّه تعالى،و هذه الأخبار التي رويتموها عن الرسول في تصحيح الإجماع،و نفي الخطأ عن أهله أخبار آحاد غير ثابتة.
قيل لهم:هذه الأخبار متواترة ثابتة،و متلقاة بالقبول و متواترة على المعنى،و من أكثر شيء روي عن الرسول،فلا معنى لجحدها و لا أقلّ من أن تكون على كلّ حال أثبت و أظهر من خبركم الذي تعلقتم به،فلا معنى للغطرسة و المدافعة،ثم يقال لهم:إن صحّ ما قلتموه فصنيعنا في هذا الكتاب كصنيعكم،لأنكم أنتم استدللتم على أصل تقطعون به على اللّه تعالى بخبر واحد،فإن كنّا قد أخطأنا فخطأنا في ذلك مثل خطئكم،و إن كنتم على صواب فيما تعلقتم به فلا ينبغي أن ترفعوا عنه النظر و تعيّروا به خصومكم، و في بعض ما ذكرناه ما يسقط تعلقكم بالخبر.ص.
ص: 444
و مما يدلّ على أنّ تأويل الخبر إن صح بما قلناه،و أنّه لم يقصد ذهاب القرآن و تغيير الأمة له و تحريفه و تضييع أحكامه و حدوده،علمنا بأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه قد كان يخبرهم بآيات الساعة و أشراطها،و عن الحوادث التي تحدث بينهم،و الحروب،و يحذر من التسرع فيها و يكرر عليهم أمثال هذه الأقاويل،فلو علم صلّى اللّه عليه أنّ الامّة ستضيّع القرآن و تغيره و تبدله لوجب أن يخبرهم بذلك و يعرفهم أنه من إحداثهم،و مما يخافه عليهم،فلمّا عدل عن هذا إلى إخبارهم بما يدلّ على أن القرآن أبدا هاد،و أنّ التمسّك به و الرجوع إليه و حمل السّنن و الآثار عليه لأنه/باق فيهم،و إن خاف عليهم عدم[294] الانتفاع به كما عدمت اليهود و النّصارى الانتفاع بكتابهم؛فما أغنى عنهم شيئا،دلّ ذلك على ظهور أمر القرآن أبدا،و قيام الحجة به و انقطاع العذر فيه.
و قد روى النّاس على طبقاتهم،أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه قال في (خطبته) (1)على الناس في الحرم في حجة الوداع،و يوم الجمع الأعظم بعد أن عرفهم حرمة الشهر و البلد،و تحريم دمائهم و أموالهم،و أمرهم بأمور و نهاهم عن أمور:«قد خلّفت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا:كتاب اللّه و سنّتي» (2)،و لو علم أنّ كتاب اللّه سيذهب و يصير من التغيير و الفساد إلى حال لا تقوم به الحجة لم يكن للأمر بالرجوع إليه و التمسّك به وجه،و لكان يجب أن يخبرهم بأنّ الكتاب سيذهب،فلا يبقي معهم ما يرجعون إليه و يهتدون به،و كيف يكون ذلك كذلك و هو يحذّرهم في هذه الخطبة منر.
ص: 445
الكذب عليه و يحثّهم على الأداء عنه كما سمعوا،و يأمرهم بضبطه و أخذ العلم عنه قبل فوته،فيقول:«خذوا العلم قبل رفعه،و قبل ذهابه»في نظائر هذه الألفاظ سنذكرها فيما بعد إن شاء اللّه،و لا يخبرهم في شيء من هذه الأخبار بذهاب القرآن،و لا ضياع شيء منه و لا بتحريف و تغيير يقع فيه،بل يأمرهم بالردّ إليه و العمل عليه،و في هذه الخطبة قال صلّى اللّه عليه«نضّر اللّه أمرا سمع مقالتي فحفظها و أدّاها فربّ حامل فقه غير فقيه و ربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه» (1)،و في بعض الروايات:«فأداها كما سمعها فربّ حامل فقه ليس بفقيه،و ربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه»،و يحذّرهم من الكذب عليه،و لو علم أن القرآن سيغيّر و يبدل لأخبرهم بذلك و حذّرهم أيضا منه،و قد روى أبو صالح عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه قال:
«سيأتيكم عنّي أحاديث مختلفة لكتاب اللّه و لسنّتي،فليس مني» (2).
و روي عن ميمون الحضرمي أنّ أبا موسى الغافقيّ سمع عقبة بن عامر [295]الجهني يحدّث على المنبر عن النّبي صلّى اللّه عليه/أحاديث،فقال أبو موسى:
إنّ صاحبكم لحافظ أو هالك،إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه كان آخر ما عهد إلينا أن قال:«عليكم بكتاب اللّه و سنّتي،و سترجعون إلى قوم يحدّثون الحديث عنّي فمن قال عليّ ما لم أقل فليتبوّأ مقعده من النّار،و من حفظ شيئا فليحدّث به» (3).).
ص: 446
و روى الأعرج عن عبد اللّه بن بحينه قال خطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه فقال:«ما أتاكم عني يوافق القرآن فهو عنّي،و ما خالف القرآن فليس عنّي» فإذا كان صلّى اللّه عليه قد أمرهم بعرض حديثه على القرآن،فكيف يظنّ به أنه قد علم من حالهم تضييعه و تغييره و تحريفه و بلوغه إلى حدّ لا يجوز أن يدين به موافقة الحديث له أو مخالفته إياه،فكلّ هذا يدلّ على أنّه لم يقصد بقوله:«لتسلكنّ سنن الذين من قبلكم»تغير القرآن و تحريفه و تضييعه.
و روى وكيع عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن زياد بن لبيد قال:
ذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه شيئا فقال:«و ذلك عند أوان ذهاب العلم، قال:قلت يا رسول اللّه كيف يذهب العلم و نحن نقرأ القرآن؟و في رواية أخرى:و فينا كتاب اللّه نقرئه أبنائنا و يقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟ قال:ثكلتك أمّك يا زياد إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة» (1)،و في رواية أخرى:«إن كنت لأعدّك من فقهاء المدينة،أو ليس هذه اليهود و النصارى يقرءون التوراة و الإنجيل لا يعملون بشيء مما فيهما؟»و لو علم ذهاب القرآن لردّ عليهم قوله:و يعلّمه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة، و يقال:إنّكم ستضيّعون القرآن أيضا و تغيّرونه تغييرا لا يمكن معه معرفة العلم.
و روى القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة الباهليّ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه قال:«خذوا العلم قبل أن ينفد ثلاثا،قالوا:يا رسول اللّه و كيف ينفد و فينا كتاب اللّه؟قال:فغضب لا يغضبه(إلاّ) (2)اللّه،ثم قال:ثكلتكم.
ص: 447
[296]أمّهاتكم أو لم تكن التوراة و الإنجيل في بني إسرائيل ثم لم تغن/عنهم شيئا، إنّ ذهاب العلم ذهاب حملته» (1)،و روى أيضا القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وقف في حجّة الوداع و هو مردف الفضل بن عباس على جمل آدم،فقال:«يا أيها النّاس خذوا العلم قبل رفعه و قبضه» (2)،قال:«و كنّا نهاب مسألته بعد نزول الآية: لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ [المائدة:101]،فقدّمنا إليه أعرابيا فرشوناه بردا على مسألته،فاعتمّ به حتى رأيت حاشية البرد على حاجبه الأيمن،و قلنا له:سل رسول اللّه صلّى اللّه عليه كيف يرفع العلم و هذا القرآن بين أظهرنا،و قد تعلّمناه و علّمناه نساءنا و ذرارينا و خدمنا؟قال:فرفع رسول اللّه صلّى اللّه عليه رأسه و قد علا وجهه حمرة من الغضب فقال:ثكلتك أمّك،أو ليست هذه اليهود و النّصارى بين أظهرها المصاحف و قد أصبحوا ما يتعلقون منها بحرف مما جاءت به أنبياؤهم،إنّ ذهاب العلم أن يذهب حملته» (3).
و كلّ هذه الأخبار أيضا تنبئ عن بقاء الكتاب بين المسلمين و تعلّمهم له و محافظتهم عليه،و لو علم أنّ القرآن سيضيّع و يحرّف و يغيّر و تزول الحجة به لقال لهم:و أول ذهاب علمكم ضياع القرآن منكم و تغييره و تبديله،و هذا هو الذي أريده بذهاب العلم،و لم يحلّهم على أنّ ذهاب العلم و قبضه و رفعه هو ذهاب حملته،و لا ردّهم إلى قوم قد كان الكتاب بينهم،و أنّه لاث.
ص: 448
يغني عنهم شيئا،و ليس يجوز أن يعنى بهذه الأخبار إلا كتابا صحيحا لا يعنيهم شيئا،لأنّ المسقط و المحرّف و المغيّر ليس بكتاب اللّه،و لو تأملوا أيضا ما أغنى عنهم شيئا،و هذا بيّن يوضح أنّ الكتاب باد ظاهر مستفيض عار من كلّ شبهة و تحريف،على هذا دلّ قوله صلّى اللّه عليه:«لا تزال طائفة من أمّتي على الحقّ»في سائر الأخبار التي قدّمنا في صحة الإجماع،و لو علم أنّ القرآن سيضيع عقيب موته و يحرّف و يغيّر و يبدّل حتّى لا تقوم به الحجة/[297] لكانت الأمة كلّها قد عرفت و عطّلت من قام للّه بحقه في حفظ الكتاب و حراسته.
و قد دلّ على هذا أيضا قوله: إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر:9]و قوله تعالى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ [القيامة:17]،و قد بيّنا ذلك فيما سلف بما يغني عن ردّه،و أنّه لو ضيّع القرآن و حرّف و صار إلى حدّ لا يعرف صحيحه من سقيمه لم يكن تعالى حافظا له و لا جامعا له على خلقه،و كذلك قوله: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت:42]، يوجب ذلك و يقتضيه.
فكذلك قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33]،و قوله: وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً [النور:
55]،و هذان خبران من اللّه تعالى بأنه سيظهر دين الرسول صلّى اللّه عليه على الدين كلّه و أن يمكّنه،و لو علم تعالى أنّ أصله و أسه و معدنه سيذهب و يغيّر و يبدل و يحرف و تسقط الحجة به عقيب موته صلّى اللّه عليه لم يخبر بمثل هذا،و لكان إخباره عن وهايته و عدم تمكّنه و شدة ضعفه و دروس أثره
ص: 449
أولى بالإخبار عن ظهوره و تمكينه،و كلّ مسلم تدبّر هذه الآيات و الآثار التي ذكرناها عرف أنّه لم يقصد الرسول صلّى اللّه عليه بقوله«لتسلكنّ سنن الذين من قبلكم»تضييعكم القرآن و تحريفه و تبديله.
فإن قالوا:أ فليس قد زعمتم أنّ النّبي صلّى اللّه عليه قد حذّرهم في هذه الأخبار من تضييع العلم،و أمرهم بتعلّمه قبل ذهابه،فيزعمون أنّ العلم يذهب دون القرآن على ما أصّلتم.
قيل له:لا،لأنّه أراد عندنا بذهاب العلم ذهاب كثير من أهله و قلّته في الناس،كما يقول القائل:ذهب الإسلام،و ذهب الجود و ارتفع الخير،و نفد العلم و الأدب،أي:قد قلّ ذلك و قلّ أهله و طلابه،و لا يعني به أنّه لم يبق قائم بذلك و لا معروف به،و يدلّ على أنّ هذا هو مراده بقوله: وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ،و لِيُظْهِرَهُ/عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ،و لو ذهب بأسره و انقرض جميع أهله لم يكن مظهرا له على الدين كلّه،و لا ممكنا له،و يدلّ عليه قول الرسول صلّى اللّه عليه:«لا تزال طائفة من أمّتي على الحقّ حتى يأتي أمر اللّه و هم على ذلك»،و لو علم أنّه سيضيّع جميع العلم،أو باب من أبوابه حتى لا يوجد في الأمّة قائم،لوجب أنها قد عطّلت،و خلت من قائم بالحق في ذلك.
فأما تحذيره و نهيه عن تضييع العلم،و حثه عليه و أمره به و نهيه عن تركه،فإنّه لا يدل شيء منه على أنّهم سيضيّعونه و يفعلون ما نهوا عنه،هذه حالة أمره بطلب العلم و نهيه عن تركه،أو تجرد أو كيف بهما إذا قارنهما ما يدلّ على أنّه لا يذهب من قول النبي صلّى اللّه عليه:«لا تزال طائفة من أمّتي على الحقّ»،و قوله تعالى: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [الفتح:28]،و قد قال اللّه تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65]،و لم يجب ذلك علمه
ص: 450
بمواقعته صلّى اللّه عليه للشرك،و قال تعالى: وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ [البقرة:120]،و لم يقتض ذلك علمه بأنّه يتّبع أهواءهم،و قال تعالى: *يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ [المائدة:67]،فحثّه و حضّه على أداء ما حمّل،و قال له: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ [الحجر:94]،و لم يوجب أن يكون تعالى قد علم من حاله صلّى اللّه عليه أنه سيترك البلاغ و الصّدع بما أنزل،بل المعلوم من حاله أنه سيفعل ذلك و يبالغ و يجتهد في حسن القيام به و الحرص عليه،فهذا إذا تجرّد لم يدلّ على أنّه لا يبلغ ما أنزل إليه،فكيف به إذا انضمّ إليه قوله تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]،في أمثال هذه الآيات ممّا خبّر فيها عن مناصحته صلّى اللّه عليه و اجتهاده و إيذائه في اللّه جلّ و عزّ،و كذلك تجرّد أمره للأمة بطلب العلم و نهيهم عن تضييعه لا يدلان على أنهم سيضيعونه، فكيف بهم إذا انضمّ إليهما ما وصفناه من إخبار اللّه تعالى/و رسوله أنّهم لا[299] يزالون على الحقّ ظاهرين،و أنّ دينهم ظاهر على الأديان و أنّه سيمكنه لهم، في أمثال ذلك،فإذا كان ذلك كذلك سقط ما توهّموه في هذا الفصل.
ثم يقال لهم:أ ليس قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه ما وصفتم،و إنّ علمنا أنّ الأمة لم تعبد و لا أحد منهم عند غيبته عنهم في غزواته عجلا و لا وثنا،و لم يقولوا و لا أحد منهم:يا محمد اجعل لنا إلها كما لهم آلهة،و لا قالوا له:أرنا اللّه جهرة و لا أخذتهم الصاعقة.
فإذا قالوا:أجل،قيل لهم:فما أنكرتم أيضا أن لا يكونوا حرّفوا القرآن و لا غيّروا نظمه،و إن كان قد فعل ذلك أهل الكنائس و أنّه يجب لأجل ما وصفناه أن نعلم أنّه أراد سلوك سننهم في كثير من سيرتهم و أبواب دنياهم.
ص: 451
فإن قالوا:أراد بقوله لتسلكنّ في المستقبل بعد وفاتي،(فإن) (1)قوم موسى لم يعبدوا العجل،و لا سألوا من شيء أن يريهم اللّه جهرة،و أن يجعل لهم إلها يعبدونه بعد وفاته،و إنّما سألوا ذلك و فعلوه في أيام حياته و حرّفوا الكتاب بعد وفاته،يقال له:و ما الدليل على أنّه أراد بعد وفاته، و قوله لتسلكنّ لا يقتضي ظاهره سوى وقوع ذلك في المستقبل منهم و هو متناول لأيام حياته المستقبلية،و لما بعد وفاته من الأزمان فما الموجب لتخصيص هذا الكلام،و لا سبيل لهم إلى ذلك،بل الواجب بطلان قوله لتسلكنّ أن يكون خطاب مواجهة للصحابة دون المعدومين الذين يأتون بعده،و قد علم أنّ الصحابة لم تعبد العجل و لا تحدث إلها دون اللّه تعالى و لا عبدت وثنا في أيام حياته و لا بعده صلّى اللّه عليه فزال بما قالوه.
فإن قالوا:أراد إلاّ عبادة العجل،و سؤال جعل إله مع اللّه،و أن يروه جهرة،قيل لهم:و أراد إلاّ تحريف الكتاب و تغييره و لا فصل في ذلك،فإن قالوا:قد علمنا أنّ ما ذكرتموه لم يقع من الأمّة،قيل لهم:فقد بطل التعلّق بعموم الخبر،و الاستدلال به على أنّه لا بد أن تفعل هذه الأمّة مثل جميع ما [300]فعلته اليهود/و النّصارى،و قيل لهم أيضا:و قد علمنا أنّهم لم يحرّفوا القرآن و لا غيّروه فأراد ما سوى ذلك.
فإن قالوا:ظاهر الخبر يوجب وقوع تحريف الكتاب لأنّه من سنن الذين من قبلهم،قيل لهم:و ظاهره يقتضي وقوع عبادة تحصل منها للعجل و طلب إله مع اللّه،و أن يروه جهرة،لأنّ ذلك من سنن الذين من قبلهم،و لا جواب عن هذا و إنّما أراد النبيّ صلّى اللّه عليه إن صحّ هذا الخبر عنه حدوث خلاف كثير و تنازع بينكم و فتن غير هذا الباب،على ما بيناه من قبل.ى.
ص: 452
ثم يقال لهم:إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه لم يقل ليلحقنّ كتابكم من الفساد و التغيير باختلاط حقّه بباطله و التباسه بالحقّ كدأب من قبلكم من اليهود و النّصارى،و إنّما يقتضي هذا الظاهر على ما قلتم أن يقع من الأمّة أو قوم منها تغيير الكتاب و تحريفه فقط،و لا يوجب ذلك أن يصير كتابنا بذلك التغيير مفسدا أو بالغا إلى حدّ في الوهاء و ضعف النّقل و قلة الحفاظ و الضبط، لا نعرف صحيحه من فاسده و سقيمه من سليمه و لا تقوم الحجّة به،و إذا كان ذلك كذلك لم ينكر أن يكون قوم من المنافقين و المدغلين للدين في صدر الإسلام قد قصدوا إلى تغيير القرآن و تقديم مؤخّره،و إدخال ما ليس منه فيه،و إخراج بعض ما هو منه عنه،و أن يكون عثمان و الجماعة قد ألغت ذلك و أبطلته،و أوضحت عن فساده،و قامت بالحقّ و الواجب في حفظ القرآن و رسمه و نقله و ضبط قراءته الثابتة التي أنزل عليه بيانا قطع به العذر و أوجب الحجّة و نفى عنه تحريف الزائغين و كيد المبطلين،و أن يكون قد كان في كثرة تلك المصاحف التي حرقها شيء كثير من هذا الباب،و إذا كان ذلك كذلك سقط ما تعلقتم به،فكذلك لا ننكر أن يحدث قوم في بعض الأعصار يقصدون إفساد نظم القرآن و تغييره و تحريفه/و إكثار دعاوى الأباطيل[301] فيه،و إن لم يخلهم اللّه تعالى فمن يردّ قولهم و يكشف شبههم و يبيّن باطلهم لأجل ضمان اللّه سبحانه لحفظه و جمعه على ما بيّناه من قبل.
فإن قالوا:ما أراد بهذا القول إلاّ أنّ عثمان و شيعته يحرّفون القرآن و يغيرونه،قيل لهم:لا،بل أراد إلا من ردّ عليه عثمان في أمر القرآن و برئ منه،و ما أراد بذلك غيركم و غير أتباعكم في باب القرآن،و ما تدّعونه فيه من التغيير و النقصان و الحروف و الكلمات التي تروونها و تدّعون اعتماد السّلف لإسقاطها،و أنتم أقرب إلى ذلك و أحقّ به،و أشبه أن يكون الذي عناكم
ص: 453
الرسول صلى اللّه عليه بالوصف لتحريف القرآن،و لا جواب عن هذا أيضا، و يقال لهم:هل عنى الرسول بقوله لتسلكنّ سنن الذين من قبلكم،جميع الأمة أو بعضها.
فإن قالوا:جميع الأمّة،قيل لهم:فعليّ و ولداه عليهم السلام،و عمار و سلمان،و جميع الشيعة المعاصرين كانوا للرسول و من حدث بعده داخلون في هذا القول و هذا ما لا يصير أحد منهم(إليه) (1).
و إن قالوا:أراد بعض الأمة دون بعض،قيل لهم:هذا مسلّم لكم،فما الدليل على أنّ ذلك البعض هو عثمان و المتفقون معه على مصحفه دون أن يكون هو المختار،و ابن عبيد قتله مصعب بن الزبير صبرا مع سبعة من أصحابه،و كان يدّعي النّبوة و يقول:جبريل عن يميني و ميكائيل عن شمالي و أمثاله من قادتكم،و من قال منكم:(إنّ من القرآن،و إنّ علينا جمعه و قرآنه (2)،(و إنّ اللّه اصطفى آدم و نوحا و آل إبراهيم(و آل محمد)على العالمين)،و من روى عن علي عليه السّلام:(و العصر و نوائب الدهر إنّ الإنسان لفي خسر و إنّ فيه إلى آخر الدهر)،و من روى عن بعض أهل البيت أنّه قال:(أنزل ربع القرآن فينا و ربعه في عدوّنا)،و روى عنهم أنّهم قالوا:
«لو قرئ القرآن كما أنزل لألفيتمونا مسمّين فيه كما سمّي من كان قبلنا»، [302]إلى أمثال هذه الخرافات و التّرهات،و رواة هذا و القائلون به أقرب/إلى التهمة و الظّنّة بنقصان القرآن و تحريفه من عثمان و من سائر السلف الصالح، بل هم عندنا مقطوع على موضوعهم و تكذّبهم و إكادتهم الدين،و نصبهم له الحبائل و الغوائل و طلبهم أهله و الناصرين له و القائمين بحثه بالطوائلة.
ص: 454
و تكسّبهم بالمذهب معروف،و إحرافهم له معلوم،و ما هم عليه من مذموم الطرائق و شدّة الرغبة في العاجل،و قلة اكتراثهم بأمر الآخرة،و يقال لمن استدلّ بهذا الخبر منهم-ممن يزعم أن قد نقص منه و لم يزد فيه و لا يمكن أن يزاد فيه،لإعجاز نظمه تعذّر الإتيان بمثله-:أنت في غفلة مما تخوض فيه لأنّك قد اعترفت بأنّ أهل الكتابين زادوا في القرآن و نقّصوا منه،و أنّ اللّه سبحانه خبّر بذلك حيث يقول: وَ يَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ [آل عمران:78]، و قوله: يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ [البقرة:79]،فيجب إذا كان ذلك كلّه أن يدلّ هذا الخبر دلالة قاطعة على أنّ القرآن مزيد فيه و مدخل فيه كثير ليس منه،كما دلّ على أنّه نقص منه حتى يكون من ضيّع ذلك من الأمّة سالكا لسنن من قبله حذو النّعل بالنّعل،فإن مرّ على ذلك ظهر عجزه و رغب عن مذهبه،و إن أباه أسقط استدلاله بالخبر سقوطا ظاهرا.
و إن قالوا:أراد أنّهم يسلكون سنن أهل الكتاب إلا في الزيادة في الكتاب،قيل له:و أراد سلوك سننهم إلا في النّقصان من الكتاب،و إلاّ تحريفه و تغييره و قصد ما عدا ذلك،و هذا ما لا حيلة فيه و لا جواب عنه، و كذلك الكلام على من قال:إنّه مزيد فيه و ليس بمنقوص أو مغيّر النظم و التأليف فقط من غير زيادة و لا نقصان منه،و في بعض ما أشرنا إليه أوضح دليل على سقوط تعلّقهم بهذه الرويات.
دليل لهم آخر على نقصان القرآن و تحريفه:بأنّ الشيعة تنقل خلفا عن سلف عن عليّ و الأئمة من عترته،عن سلف لهم تقوم بهم الحجة و ينقطع العذر:أنّ القرآن قد نقّص منه و غيّر و بدّل و أحيل عن نظمه،قالوا:/و الكذب[303] ممتنع على من ذكرنا،و العذر ببعضهم،فوجب لذلك صدقهم فيما نقلوه من هذا الباب،و القطع من جهة خبرهم على نقصان القرآن و تغييره.
ص: 455
يقال لهم:ما الدليل على صحة نقلكم هذا مع مخالفتنا لكم فيه،و ما أنكرتم من أنّه لو كان نقل الشيعة لذلك صحيحا فيه شرط التواتر لوجب أن نعلم ضرورة أنّ في صدر الأمة من قال إنّ القرآن قد نقّص منه و غيّر عما أنزل عليه على ما ذكرنا من قبل،فلمّا لم نعلم من ذلك شيئا علم فساد إدخالهم،و لأن الإسماعيلية و الغالية يزعمون أنّهم قد نقلوا خلفا عن سلف لهم عن الأئمّة أنّ الأمر في أصول الدين و فروعه على ما يعتقدونه و ينزّلونه، و لأن الشيعة معترفة بحجج بعضها إذا نقل عن سماع و مشاهدة،و كل فريق منهم يذكر أنّه أخذ دينه في الأصول و الفروع جميعا عن سلف لهم،و السلف عن سلف إلى أن ينتهي ذلك إلى الأئمة و إلى قوم منهم في الأصل تقوم بهم الحجة،فيجب لذلك العمل على قول جميع الشّيعة مع اختلافها،و إذا كانت هذه دعاوى متكافئة لا يعلم صحة شيء منها بطل جميعها،و لأنّهم مثل هذا النقل يدّعون في النّص على عليّ عليه السّلام و رواية الأخبار الكثيرة في وجوب شتم السّلف و لعنهم و البراءة منهم و من سائر أتباعهم،و نحن فلا شبهة علينا في كذب هذا الخلف الذي يدين بذلك في الأئمة و جلّة الصّحابة،فلا معتبر بهذه الدّعاوى التي قد أخلقت و عرف جوابها و أغراض مدّعيها،و قد بسطنا الأدلة عليهم في هذه الفصول و ما جانسها و الدّعاوى و ما أشبهها في كتاب«الإمامة»بما يغني النّاظر فيه.
فأمّا ادعاؤهم أنّ عبد اللّه بن مسعود كان يقرأ: و كفى اللّه المؤمنين القتال (بعليّ)و كان اللّه قويّا عزيزا [الأحزاب:25]،و أنّه كان يقرأ في آل عمران:
*إنّ اللّه اصطفى آدم و نوحا و آل إبراهيم(و آل محمد)على العالمين ،فإنه بهت و زور و ليس هذا بمعروف،/في أصحاب الحديث و لا مرويّ رواية ما قدمنا ذكره من السواد،و لو كان بمثابته السّداد لكانت الحال فيه لهي كما قدّمنا
ص: 456
ذكرنا له من القراءة التي لم تقم الحجة بها،و قد علم أنّهم ليس يدافعون عن هذا لتضمّنه معنى فاسدا عند مخالفتهم،لأنّ اللّه قد كفى النبي و المؤمنين القتال بعليّ في مواطن كثيرة حسن فيها إبلاؤه و جهاده،و أنّ آل محمد مصطفون كآل نوح و آل إبراهيم،فمذهب الشيعة و السنة في هذا سيّان فلا معنى لقولهم:النّصب حملهم على جحد هذه القراءات و ما جرى مجراها.
كذلك سبيل ما يدّعونه من أمر روايات الذين لا يعرفون بالرفض و الطعن على الصحابة و أمّ المؤمنين عائشة رضوان اللّه عليها،أنّ ابن عباس قال:«إنّ للّه تعالى حرمات ثلاث ليس مثلهنّ،كتابه و هو حكمته نطق به و أنزله،بيته الذي جعله للنّاس مثابة و أمنا،و عترة نبيه فيكم صلّى اللّه عليه،فأما الكتاب فحرّفتم،و أما البيت فخرّبتم،و أما العترة فشرّدتم،و قتلتم» (1)،أن حذيفة قال للصحابة:«أ رأيتم لو حدّثتكم أنّكم تأخذون مصاحفكم فتحرّفونها، و تلقونها في الحشوش أ كنتم مصدّقيّ؟قالوا:سبحان اللّه و لم نفعل ذلك؟ قال:أ رأيتم إن قلت لكم إن أمّكم تخرج من فئة فتقاتل أ كنتم مصدّقيّ؟ قالوا:سبحان اللّه و لم نفعل ذلك؟!قال:أ رأيتم إن قلت لكم إن يكون فيكم قردة و خنازير،أ كنتم مصدّقيّ؟فقال رجل:يكون فينا قردة و خنازير؟!قال:
و ما يؤمّنك من ذلك لا أمّ لك (2)؟!».
فإنّها أيضا كذب و زور و بهتان لأصحاب الحديث،لأنّهم كلّهم يروون عن عبد اللّه بن عباس و حذيفة نقيض هذه الأخبار،و وصف الأمّة بالفضله.
ص: 457
و الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر،و التفضيل لعائشة،و جميع من يتبرّأ منه الشيعة من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه،و هذا أظهر عندهم و أكثر من أن تحتاج إلى تكلّف الرّوايات عنهما في تفضيل الصحابة و وصف الأمة، و قد تواتر من الأخبار التي/لا يمكن دفعها أنّ أوّل من خاطب عثمان في جمع القرآن و أشار به عليه و ناشده اللّه في ذلك(حذيفة) (1)بن اليمان،و أنّه لمّا قدم عثمان و كان يغازي أهل الشام في فتح إرمينية (2)و أذربيجان (3)مع أهل العراق،فأفزع حذيفة اختلافهم في القرآن،فقال حذيفة:يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمّة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود و النّصارى» (4)، فشرع عثمان رضوان اللّه عليه عند ذلك في جمع النّاس على القرآن،و أرسل إلى حفصة زوج النّبي صلّى اللّه عليه في شأن الصّحيفة التي كانت عندها، فكيف يأمر عثمان بذلك،و يقسم عليه فيه من بعده و يعيب فعله،هذا بهت ممن صار إليه و أضافه إلى أحد من ثقات أصحاب الحديث الذين لا مغمز عليهم في قلة أمانة و ابتداع في الدّين،فأمّا ما يروونه قوم منهم من أنّ).
ص: 458
الأخبار قد وردت متواترة مستفيضة من جهة نقل هذه الفرقة من الشيعة بأنّ القرآن مغيّر و مبدّل و أنه قد نقّص منه و أسقط أسماء الأئمة الاثني عشر المذكورين فيه،و أسماء سبعين رجلا من قريش ملعونين فيه بأسمائهم و أنسابهم،و أنّ ربع القرآن منزّل في فضائل الأئمة الاثني عشر و أهل البيت، و أنّ عثمان و الجماعة وضعت مكان رجل مسمّى ملعون من قريش: يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً [الفرقان:28]،و محوا اسمه،إلى غير هذه الجهالات و الأماني الكاذبة و التلاحد الذي يستهوون به العامّة الطّغام،و يقصدون به إبطال الإسلام فإنّه لا شبهة على من له أدنى مسكة في فساده و تكذّب مفتريه و واضعه،و سنتكلم على تكذّب جميع هذه الرّوايات و عند مفتعلها عند فراغنا من حكاية عمل ما يروونه في هذا الباب إن شاء اللّه.
ص: 459
فيما ذكروه في هذا الباب و ادّعوا انتشاره و ظهوره،و معتقدي نقصان القرآن من الشيعة أنّ عليا عليه السّلام جمع القرآن بعد النّبي صلّى اللّه عليه و جاء به يحمله قنبر لا يغلانه فوضع،ثم تلا عليهم/آيات يكبتهم بها في تقدّمهم بن يديه،و هي قوله: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ(22) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْمى أَبْصارَهُمْ(23) [محمد:
23-22]،فقال له عمر عند ذلك:ارفع ارفع مصحفك لا حاجة لنا إليه.
و من ذلك-زعموا-ما تواترته نقل الشيعة خلفا عن سلف عن علماء أهل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه،منهم عليّ بن موسى بن جعفر (1)، و موسى بن جعفر بن محمد (2)،و جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين (3)، و الحسن بن عليّ بن محمد،و عليّ بن محمد بن عليّ بن موسى،و أمثالهم من أهل البيت،أنهم جميعا قالوا:أنزل القرآن أربعة أرباع،ربعا فينا،و ربعا في عدوّنا،و ربع سير و أمثال،و ربع فرائض و أحكام،و لنا أهل البيت
ص: 460
فضائل القرآن،و أنّهم قالوا:لو قرئ القرآن كما أنزل لوجد فيه أسماء سبعين رجلا من قريش ملعونين بأسمائهم و أسماء آبائهم و أمهاتهم.
و أنّ رجلا قرأ على جعفر بن محمد الصادق من سورة آل عمران:
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:110]،فقال له الصادق:يا ويحك كيف تكون أمة قتلت عترة نبيها، و حرّفت كتاب ربّها و هدمت بيته،خير الأمم كلّها؟بل كيف تأمر بالمعروف و هي تخالفه،و كيف تنهى عن المنكر و هي تأتيه؟فقال له الرجل:جعلت فداك،فكيف نزلت؟فقال:كنتم خير أئمة أخرجت للنّاس،تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر».
و أنّ رجلا آخر قرأ عليه-أعني جعفر بن محمد-في سورة هود: أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَ رَحْمَةً [هود:17]،فقال الصادق:ما هكذا أنزل اللّه تعالى،إنما أنزل اللّه:«أ فمن كان على بيّنة من ربه و يتلوه شاهد منه إماما و رحمة و من قبله كتاب موسى».
و أن رجلا قرأ عليه من سورة النّحل: أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ [النحل:92]،/فقال له:ويحك!ما أربى،إنّما هو:«أن تكون أمّة هو أزكى من أمة»،و أن آخر قرأ عليه: وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً [الفرقان:74]،فقال الصّادق:و لقد سأل هؤلاء القوم عظيما أن يجعلهم أئمّة للمتقين،فقال له الرجل:كيف أقرأها،فقال له:و اجعل لنا من المتقين إماما.
و أنّ رجلا قرأ بحضرته: فَلَمّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ [سبأ:14]،فقال له:إنّ الجنّ كانوا يعلمون أنّهم لا
ص: 461
يعلمون الغيب (1).
و أنّ رجلا قرأ على الصّادق: وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران:
123]،فقال له:يا هذا كيف يذل قوم في رسول اللّه صلّى اللّه عليه،فقال له الرجل:كيف أقرأ؟قال:(و لقد نصركم اللّه ببدر و أنتم ضعفاء).
و أن الصادق كان يقرأ: و ما ارسلنا من قبلك من رّسول و لا نبىّ(و لا محدّث)إلاّ إذا تمنّى ألقى الشيطان فى أمنيّته [الحج:52]،و أنّه كان يقرأ:
و ما جعلنا الرّءيا الّتى أرينك إلاّ فتنة للنّاس(لتعمهوا فيها) [الإسراء:60]،و أنه قرأ:«و العصر إنّ الإنسان لفي خسر و أنّه فيه إلى آخر الدهر إلاّ الذين آمنوا و عملوا الصالحات و ائتموا بالحق و ائتموا بالصبر».
و أنّه كان يقرأ في النّور:«ليس(عليهنّ) (2)جناح أن يضعن ثيابهنّ غير متبرجات لزينة»،و أنّه كان يقرأ في سورة النّساء: و لو أنّهم إذ ظّلموا أنفسهم جاءوك(يا علي)فاستغفروا اللّه و استغفر لهم الرّسول لوجدوا اللّه توّابا رّحيما [النساء:64].
و أنّ الباقر كان يقرأ:«لقد تاب اللّه بالنبي على المهاجرين و الأنصار»، و يقرأ في سورة التّوبة:«فأنزل اللّه سكينته على رسوله و أيّده بجنود لم تروها»،و أن الأئمة كانت تقرأ:«إنّ علينا جمعه و قراء به»،و إنّ من الشّيعة ينقل نقلا متواترا عن العترة أنّهم كانوا يقرءون في: أ لم نشرح لك صدرك و رفعنا لك ذكرك(و أيّدناك بصهرك) ،إلى أمثال هذا ممّا يروونه ممّا لا أصل له..
ص: 462
مما يدلّ على كذب الرافضة في هذه الدعوى،/صحة ما قلناه في ثبوت القرآن و الإطباق عليه،و علمنا و علم الكافّة من الشيعة و غيرهم بدخول عليّ عليه السّلام في الجماعة التي اتفقت على كتب المصحف و أخذ النّاس به، و إلغاء ما عداه،و التصويب لعثمان فيما صنعه من ذلك،حتى لم يحفظ عليه كلمة و لا حرف واحد في الطعن على هذا المصحف و الحرف الذي اتفقوا عليه،بل روى النّاس عنه رواية ظاهرة أنّه كان يقرئ به و يعلّمه كما يقرئ به غيره،و روى ذلك عنه أبو عبد الرّحمن السّلمي و غيره:أنّه أقرأه فلم يختلف عنه في ذلك،و لا روي عنه خلاف للجماعة فيما اتفقت عليه،لا من جهة الآحاد و لا من طريق التواتر.
و لو كان من خلاف في هذا الباب أو يسير قول لوجب في مستقر العادة أن يظهر و يستفيض حتى لا يمكنه جحده و إنكاره كما ظهر عن عبد اللّه بن مسعود اختيار القراءة بحرفه،و كراهية نصبه و بدل كتبة المصحف،و لو كان مثل هذا قد وقع من علي و الأئمة العلماء من ولده لوجب أن يكون نقله أظهر و أشهر،و أن يكون العلم به أثبت في النّفوس و ألزم للقلوب بجلالة قدر عليّ و عترته،و عظيم شأنهم في النّفوس،و قد ثبت أنّ نقل كلام ممن ارتفع قدره و عظم شأنه و كثرت شيعته و الاقتداء به يجب أن يكون أظهر و أكثر من نقل كلام قصر عن محلّه،و في رجوعنا إلى أنفسنا و علمنا بأنّه لم يرو عنه حرف واحد في هذا الباب بل رويت موافقته و تصويبه و متابعته أوضح دليل على أنّه صلّى اللّه عليه كان أخذ القراءة بحرف عثمان و الدّاخلين فيها عليه،و دانوا
ص: 463
بتصويبه،و لو كان الأمر عند عليّ عليه السّلام في أمر القرآن كما يدّعيه الشّيعة من تغييره و تبديله و مخالفة نظمه الذي أنزل عليه،و إسقاط كثير منه أو الزّيادة، لم يسعه السّكوت عن إنكاره لذلك و توقيف النّاس على تغيير كتاب اللّه و تبديله و تحريفه/و تصحيفه و دخوله الخلل فيه،و إشاعة ذلك في شيعته و المنحرفين عنه،لأنه أحقّ من أمر بمعروف و نهى عن منكر،و لا شيء في المنكر (1)أعظم و أفحش من تغيير الكتاب و تحريفه و إفساد نظمه و ترتيبه،لأن ذلك إفساد للدّين و إبطال للشّرع،و عليّ عليه السّلام أجلّ قدرا و أرفع موضعا و أشدّ احتياطا لدينه و للأمّة من أن يتساهل في إقرار مثل هذا و يسامح نفسه به،و لو كان منه قول في ذلك لوجب أن يعلّمه على حدّ ما وصفناه من قبل.
فإن قالوا:قد نقلت الشّيعة،و ببعضهم تثبت الحجّة عن مثلهم عن عليّ عليه السّلام أنّه أنكر على القوم و خالفهم و عرّفهم أن القرآن ناقص مغيّر محرّف.
قيل لهم:هذا بهت منكم و شيء وضعه قوم من غلاتكم،و القادحين في الشّريعة،و إلا فما نقل أحد من أسلاف الشّيعة في ذلك حرفا واحدا،بل نقل أنّه كان داخلا في الجماعة و مقرا بما اتفقوا عليه و مصوّبا له،و أنه كان يقرئ به و يعلّمه،و على ذلك الدّهماء من الشّيعة و السّواد الأعظم إلى اليوم،و بعد فما الذي قاله لهم لمّا وقّفهم على تبديل القوم و تغييرهم و ما الذي عرّفهم به ممّا غيّره؟و ما الذي لقّنهم ممّا أسقطوه و كيف يمكنه أن يقول لهم:إنّ القوم حرّفوا كتاب اللّه و غيّروه،و لم يمكنه أن يوقّفهم على موضع التّغيير و يذكر لهم الذي ألغوه منه و كتموه،و هو لو قال لهم ذلك لكان أظهر لحجّته.
ص: 464
و أشدّ تأييدا لقوله،و لتذكّر عند توقيفه على ما كتموه الساهي،و تبيّنه العاقل و لحفظ النّاسي،و لم يجز أن يذهب ذكر ذلك و معرفته على سائرهم و قد سمعوا ذلك،و كان يكون هذا من أفصح الأمور لهم،و أدلّ الأشياء على ضلالهم و سوء اختيارهم،و خبث اعتقادهم في الدّين و أهله،فإن كان قد ذكر من ذلك شيئا فاذكروا ما هو،و لن يجدوا إلى ذلك سبيلا،إلا زيادة أحرف و كلمة و كلمتين لم تقم الحجّة بشيء منه،و سنذكر فيما بعد ما يروونه من هذه الأحرف عن عليّ/عليه السّلام،و عن الصّادق و غيره من أهل البيت، و نبيّن بطلان ما يروونه عن العترة،و أنّهم برآء ممّا يضيفونه إليهم،و لم يجدوا إلى ذكر شيء عن هذه الأحرف سبيلا،اللّهم إلاّ أن يفتعلوا كلاما سخيفا متفاوتا غير ملتئم و لا متناسب،أو خارج عن أوزان كلام العرب المعروفة من الشّعراء أو الخطابة أو الرّسائل،و يضيفونه إلى عليّ عليه السّلام، فلا يبعد على كلّ أحد نظم ضدّه و خلافه و إضافته إلى عليّ عليه السّلام،و لا يشكل على أحد أنّه ليس من نظم القرآن في شيء و هم لعلّهم بهذا لا نراهم يتعاطون حكاية ما يدّعون نقصانه و روايته عن عليّ و لا عن غيره من ولده و لا اللفظة و الحرف و الحرفين،و يحيلون معرفة ما طال و كثر على القائم المنتظر،و كل هذا تخبط و تخليط و إدغال للدّين و أهله،و كلّ هذه الأقاويل و الدّعاوى باطلة مخالفة لظاهر ما عليه عليّ عليه السّلام فيجب تركها و إطراحها،لأنّه كان باتفاق جميعنا يحكّم مصحف عثمان،و يدعو النّاس في المحافل إلى العمل بما فيه دون قرآن يدّعيه و مصحف يظهره غيره و يجتبيه، و يحلف مع ذلك أنّه لا شيء عنده،و لا عهد من رسول اللّه صلّى اللّه عليه غير ما في صحيفة أخرجها و غيرها على قائم سيفه على ما ذكر.
ص: 465
و روى عبد اللّه بن عباس قال:«لمّا تواقعنا يوم الجمل (1)و عليّ عليه السّلام بين الصّفّين أعطاني مصحفا منشورا و قال:اذهب به و قل لطلحة و الزّبير و عائشة يدعوكم إلى ما فيه،قال ابن عباس:فخرجت و الناس على صفوفهم و عليّ عليه السّلام قائم ينتظرني،فجئت القوم فقلت:إنما يدعوكم إلى ما في هذا المصحف،فاتقوا اللّه و لا تقتلوا أنفسكم،فصاحوا صيحة واحدة:و اللّه لا يكون ما يريد صاحبك و يراد،لا نعطيه إلاّ السّيف،فقلت:
و اللّه أذن ننزّل بكم السيف حتى تخافوه،فرجعت إلى عليّ فقلت:لا يريد القوم إلاّ السّيف».
و في رواية جعفر بن محمد عن أبيه عن جدّه عن ابن عباس قال:
«أرسلني عليّ/عليه السّلام إلى طلحة و الزّبير بمصحف فدعوتهما إلى ما فيه و جئتهما به منشورا تقلّبه الريح ورقة ورقة فعرضت عليهما ما قال،فقالا:يا3.
ص: 466
ابن عباس،ارجع إلى صاحبك فإنّه يريد ما نريد،يعنيان الإمارة،فلمّا رجعت إليه و هو يرشق بالنّبل:فقال:جعلتنا عرضا للقوم،خلّ عنّا و عنهم،قال:
لا و اللّه حتى تأتوني بقتيل فأتيناه بقتيل من أصحابه و هو يشحط دما فلمّا رآه كبّر و قال:احملوا فحملنا فلم يلبث القوم أن انهزموا».
و روى مسلم الأعور (1)عن حبة بن جوين (2)العرني قال:«قام عليّ عليه السّلام يوم الجمل و معه مصحف فقال:من يأخذ هذا فيأتي به إلى هؤلاء القوم فيدعوهم إلى ما فيه و هو مقتول،فلم يجبه أحد،فقام رجل يقال له مسلم،عليه قباء أبيض جديد،فقال:أنا،فنظر إليه ثمّ أعرض عنه ثم قال:
من يأخذ المصحف فيدعوا القوم إلى ما فيه و هو مقتول،فلم يجبه أحد، و قام مسلم فقال:أنا،فأعطاه إيّاه ثمّ دعاهم فضربه رجل بالسيف فقطع يده و أخذه بيده الأخرى فقطعها،ثمّ احتضنه حتى قتل،و ذكر بعض الرواة لهذه القصّة أنّ شاعر أهل العراق قال في ذلك:
لا همّ إنّ مسلما أتاهم يتلو كتاب اللّه لا يخشاهم
فزمّلوه من دم إذ جاهم و أمّهم قائمة تراهم
يأتمرون الغيّ لا تنهاهم...).
ص: 467
يعني عائشة رضي اللّه عنها و أنّها أنكرت هذا الشّعر و عاتبت عليه،و لما دعاه معاوية و أهل الشّام إلى التحكيم أمر الحكمين بالرجوع إلى كتاب اللّه و تحكيمه من فاتحته إلى خاتمته،فكان يقول:و اللّه ما حكّمت مخلوقا و إنّما حكّمت القرآن.
و لو كان عنده قرآن غير هذا و مصحف يجتبيه غير مصحف عثمان لكانت هذه المواطن وقت إظهاره و إعلانه و الاحتجاج له و إدخال النّاس بما فيه،و لكان ذلك من أكبر الحجج على القوم و أشدّها كشفا لباطلهم و تنفير/ النّاس عنهم،و كان ذلك لعليّ من تحكيمه و إظهاره لصحابته و الرّضا بما فيه،و قد زالت التقية و شهّرت السّيوف و وقعت المكاشفة و المكاسرة.
و أصل جميع ما كانوا فيه و أسّه قتل عثمان و ما خرج معه إليه،و لو قد كان مصحفه مغيّرا و مبدّلا و منقوصا منه و منظوما على القراءة بغير ما أنزل اللّه تعالى،و المنع من القراءة بصحيح ما أنزله علينا و تحريمه،للزم عليا فرض إظهار ذلك،و لكان التغافل عنه أضرّ بالأمّة و الدّين من تولية معاوية الشّام، و من ترك عائشة و طلحة و الزّبير بالعراق،و لا شيء إذ ذاك يمنعه من إظهار كلام اللّه تعالى و القدح في المصحف له،و لم يكن حاله إذ ذاك دون حال عبد اللّه بن مسعود،لمّا نافر عثمان في الامتناع من تسليم مصحفه و عزله عن كتبة المصحف بزيد بن ثابت،حتى قال ما قال إلى أن عرف الصواب و رجع،و كان لا أقلّ من أن نكذّب من ادّعى أنّ عنده قرآنا و أشياء أخذها عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه ليس عند الأمّة و لا ممّا بيّنه للجماعة،فإنّ ذلك أيضا ممّا يزيد في الشّبهة و يقوّي الباطل و يوهن الحقّ و أهله و يضعف شأنه، و قد روي عنه التكذيب لمن ادّعى له شيئا من ذلك و الحلف عليه.
ص: 468
و قد روى الأعمش (1)عن إبراهيم التيميّ (2)عن أبيه (3)قال:خطبنا عليّ بن أبي طالب عليه السّلام،فقال:من زعم أنّ عندنا شيئا نقرأه إلاّ كتاب اللّه تعالى و هذه الصحيفة،صحيفة قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«المدينة حرم فمن أحدث فيها حدثا،أو آوى محدثا فعليه لعنة اللّه و الملائكة و النّاس أجمعين، لا يقبل اللّه منه صرفا و لا عدلا» (4).
و في رواية أخرى عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال:«خطبنا عليّ عليه السّلام و في قائم سيفه صحيفة،فقال:إيه و اللّه ما عندنا كتاب نقرؤه ليس كتاب اللّه،و لا في هذه الصحيفة،فأخذها فنشرها فإذا فيها:المدينة حرم فمن أحدث فيها...نحو الخبر الأوّل إلى قوله صرفا و لا عدلا».
و روى أيضا الأعمش عن إبراهيم التيميّ/عن أبيه قال:«ما عندنا شيء[313] إلاّ كتاب اللّه و هذه الصحفية عن النبي صلّى اللّه عليه قال:«من تولّى مولى قوم بغير إذن فعليه لعنة اللّه و الملائكة و النّاس أجمعين،لا قبل اللّه منه صرفا و لا عدلا.
فلو كان كتاب اللّه الذي عنده غير الذي جمعهم عثمان عليه لوجب أن يظهره،و كان ذلك أولى من إظهار الصحيفة،و قد اتّفق الكلّ على أنّه ما).
ص: 469
أظهر مصحفا غير مصحفهم،و لا ادّعى للّه كلاما غير الذي معهم،و ليس ما يدلّ في بعض الرّوايات من أنّه كان له مصحف،أوّله اقرأ باسم ربّك، فخالفه عليهم،لأنّه ليس في ترتيب السّور نصّ و لا توقيف على ما بيّناه من قبل (1)،و ليس بين هاتين الرّوايتين أيضا تعارض (2)-أعني قوله:المدينة حرم إلى آخر ما ذكرها،و قوله:من تولّى مولى قوم بغير إذن مواليه-لأنّه يجوز أن يكونا جميعا كانا في الصّحيفة،و أن يكون قرأ ذلك في وقعتين، و حفظ عليه مرّتين لما رآه من المصلحة في ذلك،لا تعارض بين هذه الرّوايات و بين ما روي في بعض الآثار من أنه كان في الصحيفة أسنان الإبل يعني إبل الصّدقة،و أن المؤمنين تتكافأ دماؤهم و يسعى بذمّتهم أدناهم،ألا لا يقتلنّ مؤمن بكافر و لا حرّ بعبد،لأنه قد يكون ذلك أجمع فيها و يقرأها في مرات،و يذكره في مواقف شتى.
و قد كان عليه السّلام يلقّن أولاده و أصحابه القرآن،فما روي عنه أنّه أقرأ أحدا منهم شيئا يخالف مصحف الجماعة،و كان أبو عبد الرحمن يقرئ الناس في مسجد الكوفة أربعين سنة بحرف الجماعة و يقول:أقرأني بذلك عليّ و عثمان و زيد بن ثابت،فلم يعترض عليه أحد في هذه الدّعوى و لا ردّها،كل هذا يدلّ على كذب من ادّعى على عليّ عليه السّلام مخالفة الجماعة على مصحفهم،و يقرأه بقرآن عنده.).
ص: 470
ثم يقال لهم:لو كان نقل الشّيعة الذي ذكرتموه واردا على شرط ما وصفتم،كثرة عن كثرة حتى ينتهي في الأصل إلى قوم بهم تقوم الحجّة، سمعوا إنكاره على عليّ و خلافه على القوم بما قلّ أو كثر،لوجب/لنا علم الضرورة بصدقكم،و للزم قلوبنا العلم بصحة نقلكم و ثبوت روايتكم،لأنّ هذه سبيل العلم بكل خبر تواتر نقله و استوى طرفاه و وسط،و في رجوعنا إلى أنفسنا مع سماعنا لقول مدعي ذلك منكم،و وجودنا أنفسنا مع سماعنا غير عالمة بصحّة دعواه و روايته أوضح دليل على كذبكم في هذه الرواية، و بمثل هذه الطريقة بعينها يعلم بطلان نقلكم لنصّ النّبي صلّى اللّه عليه على عليّ عليه السّلام،و أمره للنّاس بالانقياد و الخنوع لطاعته،و قد أشبعنا القول في ذلك في كتابي«الإمامة»و غيرها بما يغني متأمله.
فإن قالوا:لم يبلغ نقلنا لذلك عن علي عليه السّلام مبلغا يوجب علم الضرورة،و إنّما يعلم صحّة نقلنا بدليل،قيل لهم:فما ذلك الدليل،فإنّا غير عالمين بصحّة ما ذكرتم،و لا عارفي الدليل على ثبوته.
فإن قالوا:الدليل عليه كثرة نقلة هذا الخبر من الشّيعة،و نعرف هممهم و دواعيهم و اعتراضهم و تباعد ديارهم و أوطانهم،و امتناع اتفاق الكذب من جميعهم في الأمر الواحد لداع واحد و دواع متفرّقة،أو تراسلهم و تشاعرهم بذلك مع إكتامه عليهم و استمرار السّلامة بهم فيه،قيل لهم:فبدون العدد الذي وصفتم تقع الضّرورة إلى صدق النّقلة و يزول الشّكّ و الشّبهة،و بنقل مثل هذا العدد و دونه حصلت لنا الضّرورة إلى العلم بأنّ في العالم صينا و خراسانا،و إذا كان ذلك كذلك بطل أن يكون نقل من ذكر حاله ممّا نحتاج في العلم بصحته إلى نظر و تفكّر و إقامة برهان و دليل.
ص: 471
و إن هم قالوا:أنتم تعلمون ضرورة صحّة نقل من نقل هذا من الشّيعة عن عليّ،و لا تشكّون عند سماع نقلهم أن عليّا قد خالف القوم و أنكر و رود ما صنعوه،قيل لهم:ما الحيلة عندنا في أمركم إلا السكوت عنكم و تنبيه النّاس على بهتكم،و كثرة التعجّب ممّا أحوجكم في نصرته إلى هذا البهت/ و العناد و المكابرة،فإنّكم تعلمون ضرورة أن قلوب جميع مخالفيكم خالية فارغة من العلم بما وصفتم،و أنّهم جميعا معتقدون لتكفير من دان بذلك و البراءة منه،و إن كنتم تقنعون منّا بالإيمان على وجودنا أنفسنا غير عالمة بما قلتم و ادّعيتم عليها؛بذلنا لكم منها ما يقنعكم،و إن أبيتم إلا اللّحاح و المكابرة،فما الفرق بينكم و بين من قال:إنّكم تعلمون ضرورة أنّكم تكذبون في دعواكم هذه على علي،و تجدون أنفسكم عالمة بخلاف ذلك، و تعلمون ضرورة أننا نعلم أنّكم تكذبون،و لو لا أنّكم قد اضطررتم إلى العلم بأنكم تكذبون لم نجد أنفسنا مصرة إلى العلم بكذبكم،و هذا ممّا لا سبيل لهم إلى الخروج عنه أبدا.
فإن قالوا عند تحصيل هذا الكلام:ما أنكرتم أن يكون ما نقلتموه من متابعة عليّ الجماعة و إظهاره،و الاقتداء بمصحف عثمان و العمل به،فيه تفضيل لأبي بكر و عمر و عثمان،و حسن الثناء عليهم و جميل القول فيهم، صحيحا على ما وصفتم،و أن يكون إنّما فعل ذلك على وجه التقية و الخوف من إظهار حقّه و إنكار باطله و كشف تحريفهم و تحيّرهم و قد كانت التقية دينه،قيل لهم:و ما الذي خافه في ذلك،و أيّ شيء منعه منه،و من الذي قتل أو سجن أو عسّف في أيام عثمان بحضور الجماعة على حق قاله و دعا إليه،و لو جرى ذلك على عليّ عليه السّلام لا من مثله عليه مع عظم قدره و شجاعته و عزّة نفسه و العلم بتقدّمه في الإسلام و سابقته و قرابته و فضله و منع
ص: 472
بني هاشم و شيعتهم منه و حمايتهم لجانبه،فقد كان يحبّ أن يظهر ما عنده في ذلك و ينظر ما الذي يحدّث عنه،و إنّما كان يكون له عذر في ذلك لو تكرر من أبي بكر و عمر و عثمان و شيعتهم إخافة قوم و قتلهم لدعائهم إلى حق و أمر بمعروف و نهي عن منكر،و ترادف ذلك منهم ترادفا يخاف معه القتل،فأمّا و جميع هذه الأسباب معدومة الغميزة على عثمان إذ ذاك واقعة، و على غيره نجد كثيرا من/النّاس يثلبه و ينتقصه له كعمّار و ابن أبي بكر و ابن أبي حذيفة،و أهل مصر و الكوفة،و من سار من البصرة و الأشتر النّخعي، و حجر بن عديّ و التجيبي و الغافقي و عمرو بن الحمق،و أبي بديل بن ورقاء، و الجمهور من الصحابة،فإنه قد كان يجب عليهم الإنكار على عثمان و من كان قبله،و كشف ما صنعوا من تغيّر القرآن و نقصانه و إفساد نظمه،و كان ذلك وقت التغيير و المقال،و قد كان النّاس عتبوا على عثمان و تعقّبوه و ثلبوه و نقّصوه بما لا تعلّق فيه من حميته الحمى و إتمام الصّلاة بمنى،و أنّه رجع يوم أحد و لم يحضر بدرا،و ولّى أقاربه،و أمثال ذلك مما لا عتب عليه فيه، و قد رويتم أنتم أن عليّا عليه السّلام أيّام أفضت الخلافة إليه،و طعن عليه و على الواليين قبله،و قال في خطبه الشقشقية (1)بعد ذمه لأبي بكر و قوله في عمر:«و صاحبها كراكب الضّبعة إن أسلس لها عسفت،و إن غمزتها جريت،ثم قام ثالث القوم() (2)،يخصمون مال اللّه تعالى خصم الإبل بيت الرّبيع حتى أموت به بطنته،و أهجم عليه عمله»و أنه خطب الناس أيّامء.
ص: 473
نظره خطبة قال فيها:«أما إنّي لو أشاء أن أقول لقلت عفا اللّه عمّا سلف، مضى الرجلان و قام الثالث كالغراب همّته بطنه يا ويحه لو قصّر جناحه، و قطّع ريشه كان خيرا له شغل من الجنة،و النار أمامه،ثم قال:ألا إنّ كلّ قطيعة اقتطعها عثمان بن عفان أو مال أعطاه من مال اللّه فهو مردود على المسلمين في بيت مالهم»،و أنّه بعد ذلك قبض كلّ سلاح كان في دار عثمان و مال به على الناس،و أنه قبض سيفه و درعه و كانت في داره متّخذة له،و أنه قال في أبي بكر و عمر:«ألا إنهما منعاني حقي و هما يعلمان أن محلّها منّي محلّ القطب من الرّحى،و قالا:ألا إنّ في الحقّ إن نأخذه و في الحق إن نمنعه،فأصرّا و جئت حبوا متأسّفا،فصبرت من كظم الغيظ على أمرّ من العلقم و أمرّ للقلب من حزّ الشغار»،في كلام له/يروونه طويل،و أنه قال:
«أما و اللّه لقد نقص بها أوجودهم و هو يعلم أنّ مكانها مني مكان القطب من الرحى يتحادر إلى السّيل و لا يرقى إلى الطّير،لكنّي سدلت دونها ثوبا و طويت عنها كشحا»،في أمثال لهذا كثيرة يروونها عنه،و قد نزّهه اللّه عنها و رفع قدره عن التلفظ بها،بل قد حفظ عليه الثبت الثّقات ضدّها و نقيضها، غير أنّكم تعتقدون صحّة هذه الرّوايات عنه و ثبوتها،و كلّ هذا نقض التّقية، و كلام من لا يخاف السّطوة،و هو مبطل لقولكم عند ضيق المطالبة إنّه لم ينقض أحكام أبي بكر و عمر و عثمان و يردّ فدك على مستحقّها،و أنفذ ما أمضاه القوم و أقرّه،لأنّ أنصاره كانوا شيعة أبي بكر و عمر و عثمان،فإذا لم يكن عليه إظهار ما رويتموه من ذمّه لهم و تبرّيه منهم و قبح الثناء عليهم و الوصف لظلمهم و تجبّرهم تقيّة،لم يكن عليه أيضا تقية في إظهاره لتحريفهم القرآن و إلغاء كثير منه،و ذكر لما عنده من الصّحيح و دعائه إليه و إذكارهم
ص: 474
إيّاه فكان ذلك لو فعله من أوضح حججه على ظلمهم و أقوى أسبابه،و ذريعة إلى ما يدعون الناس إلى البراءة منهم و الكشف عمّا يدّعونه من ضلالهم.
و بعد:فأيّ تقية عليه بعد حصول الأمر له و إشهار سيفه و قتل من قتل بصفّين و البصرة،و نصب الحرب بينه و بين مخالفيه فيما هو دون تغيير القرآن و امتناعه من إقرار معاوية على الشام،و قوله: وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً [الكهف:51]،فقد كان يجب أيضا أن يكشف الحال في تغيير القوم للقرآن و ذكر ما فيه من نقصان،و يكون جهاده على ذلك أعظم و تعلّقه به أشد، و كان لا أقلّ من أن يترك إظهار متابعة القوم أن يقرأ و يقرئ بقراءتهم إذ لم ينفرد بقراءة حرف غير ما كانوا يقرءون كانفراد ابن مسعود و ترك متابعته له، و كان ذلك كافيا في تشكك القوم و انقطاع التهمة و الريب و لكان أعذر له من اتباع القوم على ما كانوا عليه.
و بعد:فكيف أمكن خلاف عبد اللّه/بن مسعود و زالت عنه التقية في انفراده بحرفه و منافرته لهم في تركه و إخراج مصحفه إليهم و ترك متابعته لهم على قراءة يعلم أنها منزلة له و مباحة مطلقة،و استبداده بحرفه إلى حين رجوعه إلى قولهم،و يتميز الحق له،و لم يمكّن عليّ أن ينفرد عنهم،و يظهر ما عنده و يصنع كصنيع ابن مسعود،و قد رآه فارق الجماعة فلم يقتل صبرا و لا خيّف و لا سجن،و قد كان عليه السّلام أقوى نفسا و أعزّ عشيرة و أكثر شيعة و أنصارا من عبد اللّه بن مسعود،فقد كان يجب أن يفعل كفعله حتى يكون ذلك عذرا له و حجّة لشيعته و المتّبعين له،و لو كان ذلك قد وقع لوجب علمنا به على حدّ ما وصفناه،و إذا كان ذلك كذلك بطل تعلّقهم بالتقية بطلانا ظاهرا،و صحّ تسليم عليّ عليه السلام على إقراءه الجماعة و فرقهم و المتابعة لهم على ثبوت نقل القرآن و صحّته من حيث لا يمكن دفعه
ص: 475
و الارتياب به،و جميع هذا الذي وصفناه يدلّ على كذبهم على الأئمة من ولده بنقصان القرآن.
ثم يقال لهم:إنّ جميع أخباركم هذه التي تدّعون تواتركم فيها إنّما هي مرويّة عن نفر من أهل البيت،و قد روينا عن سائرهم و من هو أكثر منهم عددا من أهل البيت نقيض ما رويتموه،و أنّهم جميعا كانوا يعظّمون عثمان و الصحابة، و يفضّلون أبا بكر و عمر و عثمان،و يشهدون لهم بالجنّة و يصونوهم عن جميع أفعالهم و سيرتهم،و قدر ما رويتموه عن عليّ عليه السلام من أنّه حمل المصحف هو قنبر لا يقيلانه لا يدلّ على أنّ القرآن الذي حمله كان أكثر مما جمعوه،و على خلاف ترتيبه،و لعله كان في جلود كثيفة ثقلية المحمل، و قدر ما قرأه عليهم لا يدلّ على أنهم نقّصوا و ضيّعوا من القرآن،بل إنّما قرأ عليهم منه ما في مصحفه،و الرّوايات عنهم متظاهرة متواترة على ما سنضيفه بعد ما وصفتم،و تصويب أبي بكر و عمر و عثمان و الإخبار بأنّ ما فعلاه كان بملإ من الأمة،و أحوط الأمور لكتاب اللّه غير أنّنا نعدل في هذا الموضوع عن ذلك أجمع و نذكره على التفصيل وقت الحاجة إليه.
و نسلّم لكم نظرا صحّة جميع رواياتكم عن أهل البيت لتغييره و نقصانه و أنّها قد ثبتت و علم صحتها،و نقطع على صدقكم فيها،فخبّرونا مع تسليم ذلك،ما الدليل على صحة قراءة هؤلاء النّفر من أهل البيت لما قرءوه و قولهم أن ربع القرآن كان منزلا فيهم فأسقط،و أنّه قد خنس منه ما فيه لعن سبعين رجلا من قريش بأسمائهم و أسماء آبائهم و أمّهاتهم،و أنتم جميعا تروون عنهم رواية لا تشكّون فيها،أنهم كانوا يعتقدون أنّ أوّل هؤلاء السّبعين أو من جملتهم أبو بكر و عمر و عثمان،و طلحة و الزّبير و عبد الرحمن ابن عوف،و سعد بن مالك و سعيد بن زيد بن عمر بن نفيل،و أبو عبيدة بن
ص: 476
الجراح،و غير هؤلاء ممّن لا حاجة بنا إلى ذكره،و قد عرفتم أنّ جميع من خالفكم يعتقد أنّه ليس فيما أنزل اللّه سبحانه لعن أحد من هؤلاء،بل فيه تقريظهم و تعظيمهم و حسن الثناء عليهم و الأمر بالاستغفار لهم و الاقتفاء لآثارهم،و أن جميع من اعتقد نقص هذه الطّبقة من سلف الأمّة و خلفها و أنّ اللّه قد أنزل في لعنها قرآنا في نص كتابه و محكم تنزيله فقد ضلّ و أخطأ، و أنّهم جميعا-أعني مخالفيكم ينزهون(جميع) (1)أهل البيت الذين رويتم عنهم هذه الرّوايات،و غيرهم منهم عن هذا الذي أضفتموه إليهم و علّقتموه عليهم،و ينسبونكم إلى الكذب و الافتعال عليهم و وضع هذه التلفيقات عليهم للتأكّل و التكسّب،و تروون عن أهل البيت وصفكم بالكذب عليهم و التأكّل بهم و اللّعن لكم،و البراءة منكم،فإن أبيتم إلاّ دفع الأخبار التي يروونها مخالفوكم عن أهل البيت و تصحيح رواياتكم هذه عنهم،فما الدليل على صحّة قولكم هذا،أو صحّة رواياتكم عنهم و على صدقكم عليهم،و ما البرهان على أنّهم لم يغلطوا عليهم السلام،و لم يتأوّلوا في ذلك أقاويلا ليس/على ما قدّروه،و لم يأخذوا كثيرا من هذه الأقوال و الرّوايات عن قوم وضعوها لهم و تخرّصوها و أسندوها إليهم إلى النبي صلى اللّه عليه،أو عن أبيهم عليّ بن أبي طالب عليه السلام،و أنتم لم ترووا أنّ قراءة جعفر بن محمد،و ما رويتموه أيضا عن غيره من أهل البيت مرفوعة عندهم عن النّبي صلى اللّه عليه،و لا عن عليّ عليه السلام،و إنّما رويتم أنّهم قالوا:لو قرئ القرآن كما أنزل لوجدوا فيه كذا و كذا،و أنّ كلّ رجل منهم قرأ بكذا و كذا، و إذا لم يسندوا ذلك و لم يرفعوه إلى جدّهم و إلى أبيهم فما يدرينا لعلّهم.
ص: 477
قالوه برواية راو لهم لا تقوم الحجّة بمثله،و يمكن الكذب و الافتعال في قوله و روايته،أو لعلّهم بضرب من الرّأي و التقدير،و لعلّهم استجازوا القراءة بالمعنى و قالوا في ذلك ضربا من التأويل،فمن أين نعلم صواب هذه القراءات التي رويتموها عنهم مع تجويزها عنه مع تجويز ما وصفناه،و ليس هم أيضا أهل تواتر فيما يروونه،هذا مع أنّ قراءتهم هذه مخالفة لقراءة عثمان و عليّ و الجماعة،و قد اتّفق عليه عندنا سائر سلف الأمّة،الذين كلّ من حدّث بعدهم من أولاد نبيّهم و غيرهم محجوجين بقولهم و إجماعهم.
فإن قالوا:الذي يدلّ على صحّة ما قرءوه أنّه هو كتاب اللّه المنزّل دون ما خالفه من قول من كان قبلكم و قد يحدث بعدهم،ما صحّ و ثبت من إمامتهم و نصّ الرّسول عليهم،و ما هم عليه من العصمة التّامة و الوقارة الكاملة،و امتناع الكذب و السّهو و الخطأ و الإغفال و التقصير عليهم،لما أفردهم اللّه تعالى من عصمتهم و ألزم العالم من فرض طاعتهم و الانقياد لهم،لأنّ اللّه تعالى لا ينصّ على إمامة قوم على لسان رسوله إلاّ أن يكونوا أبرارا معصومين من كل زلّة و سهو و خطيئة،و يسير الذنوب و كثيرها.
فيقال لهم:من سلّم لكم النصّ عليهم،و أنّهم أئمّة الأمّة،و أنّهم من الوقارة و العصمة/بحيث وصفتم،و أنتم تعلمون أنّنا نمنع ذلك أجمع في عليّ و أبي بكر و عمر و عثمان و نبطل هذه الجملة،فما الحجّة أيضا على صواب هذه الدّعوى،و أنّ الخلاف فيها كالخلاف في أمر القرآن بل لعله أعظم و أخطر،فإن كان صحة هذه القراءات المرويّة عنهم منوطا معقودا بصحّة إمامتهم و ثبوت النصّ عليهم،فيجب أن تدعوا أولا عن ثبوت هذه الجملة، و أن فرض الإمامة واجب من جهة العقل و أنّها لا تثبت إلا بنصّ من الرّسول، و أن ذلك النصّ إذا وجب لا يجوز أن يقع إلاّ على وافر معصوم فإنّنا
ص: 478
نخالفكم في هذا أجمع،و نردّه أشدّ من ردّنا لصحّة هذه القراءات التي رويتموها عن هذا السّلف الصالح،و قد يجب أن يقولوا على هذا الباب دون ذكر التواتر و الاستفاضة و إيجاب خبر الشّيعة للعلم و قطعه للعذر،و هذا محيّر منهم،فإن عدلوا إلى تثبيت هذه الأصول و تصحيح النصّ كلّموا في ذلك بما ذكرناه و شرحناه في كتاب«الإمامة»،و في«شرح اللمع»و غيره من الكتب،و لو لا كراهتنا التطويل و الإكثار لذكرنا منه طرفا.
و إذا فسد بما ذكرنا هناك النّصّ و صحّ الاختيار،و لم يكن هذا العدد من أهل البيت الذين رووا هذه القراءات عنهم عددا بثبت بهم التواتر لو رفعوا أقاويلهم هذه التي رويتموها و قرآنهم إلى النّبيّ صلى اللّه عليه،و إلى أبيهم عليّ بن أبي طالب عليه السلام،و كان الخطأ و السّهو و الإغفال و الغلط في التأويل و قبول رواية من لم يقطع خبره العذر جائزا عليهم كما أنّه جائز عندنا على أبي بكر و عمر و عثمان،لم يكن معهم حجة على صواب قولهم و صحّة قراءاتهم،إذا كانت الحال على ما وصفناه و لا محيص لهم من ذلك إلاّ تنقل الكلام إلى الإمامة و تصحيح النّصّ،و الأمر في ذلك أسهل و أقرب فما نحن معهم فيه.
و يقال لهم أيضا:اعلموا على أنّنا قد سلّمنا لكم عصمتهم و نصّ الرسول عليهم،فمن أين لنا أنّكم صادقون ممّا تروونه عنهم من هذه القراءات/،و لستم بمعصومين من السّهو و الإغفال و الكذب و الافتعال،بل ما نشكّ في أنّكم تكذبون عليهم في هذا و غيره من الضّلالات التي تضيفونها إليهم فبان أنّه لا تعلّق لكم أيضا في عصمتهم و ثبوت النصّ عليهم.
ثم يقال لهم:أ لستم جميعا تزعمون أن عليّا عليه السلام و جماعة ولده و عترته قد أظهروا في أوقات كثيرة متغايرة القول بصحّة مصحف عثمان؟!
ص: 479
و أنّه هو كتاب اللّه المنزّل على ما أنزل؟!و قرءوا به و أقرءوه على سبيل التقية و الخوف من قتل الظالمين و سيوفهم و سطوتهم؟!لأن القوم كانوا شيعة أبي بكر و عمر و عثمان.
فإن قالوا:نعم،و لا بدّ من ذلك لأنّه دين جميعهم،قيل لهم:فهل دلّ إظهارهم لذلك على أنّهم كانوا يعتقدون ما يظهرونه.
فإن قالوا:نعم،قيل لهم:فما أنكرتم إذا كان هذه جائزا على الأئمة من أن يكون جميع ما أظهره عليّ عليه السلام و ولده من بعده من هذه القراءات و الأقاويل في القرآن إنما أبدوه و قالوا على سبيل التّقية من مالك الأشتر و عمرو بن الحمق،و بديل بن ورقاء الخزاعي و محمد بن أبي حذيفة، و التجيبي و الغافقي و حكيم بن جبلة العبسي،و سائر أهل الفتنة الذين كانوا يدعون إلى إمامته و يظهرون موالاته،و أنّهم كانوا مع ذلك لا يتعلّقون في الدّين بشيء،و أنّهم تهدّدوه و توعّدوه بأنه لم يظهر مخالفة القوم في المصحف،و الوصف لهم بالظلم اغتالوه و سفكوا دمه،فخاف عند ذلك سطوتهم و علم مخالفتهم و مفارقتهم للدّين،و أنّهم ليسوا بشيعة لأبي بكر و عمر و آله،فلمّا خافهم على نفسه أظهر ولده من ذلك ما رويتم،و لم يكن هؤلاء عترته على اعتقاد شيء من ذلك،و كذلك كانت حال محمد بن الحنفيّة، و الصّادق و الباقر في أنهم جميعا كانوا يخافون سطوة من يتأكّل بهم و ينسب إليهم و إلى موالاتهم،و يرهبونهم و يخافونهم على أنفسهم،فأظهروا هذه/ القراءات و هذه الأقاويل في القرآن على وجه التّقية و الخوف من المختار بن عبيد،و أمرائه من جنده من كان في عصرهم ممّن ينسب إلى التشيّع،و تعلم هذه الفرقة من أهل البيت أنهم ليسوا من المسلمين في شيء،و أن تكون بواطنهم منظومة على خلاف ما أبدوه و أظهروه،فإنّ ذلك ليس بأعظم من
ص: 480
إظهار عليّ و الحسن و الحسين بصحة مصحف عثمان و قراءته به و الإقراء به دهرا طويلا على وجه التّقية مع علمهم عندكم بأنّه مغيّر و مبدل و مرتّب على التخليط و الفساد،و هذا ما لا جواب لهم عنه.
و يقال لهم:فلعلّ القرآن المرتّب على حساب ما أنزل ليس هو عند علي و الأئمّة من ولده مما في مصحف عثمان،و لا هو هذه القراءة التي رويتموها عنه و عنهم،و أن يكون غير ذلك أجمع،إلا أن التّقية منعت من إظهاره فلا يجدون إلى دفع ذلك سبيلا.
فإن قالوا:المتّقي الخائف لا بدّ له مع إظهار ما يظهره ممّا هو متق فيه عن أسباب و رموز و إشارات و أحوال لا يمكن نقلها و أسباب تظهر منه يعلم بها ما هو الحقّ عند شيعته و أتباعه و دعاته و إن خفي ذلك على عدوّه و من خافه على نفسه،و من لم يفعل ذلك كان غاشا ملبّسا،و قد كانت هذه الأسباب كلها موجودة في عليّ و الأئمّة من ولده وقت إظهارهم القول بتسليم مصحفه-أعني عثمان و صحبه-و علم من حالهم استبطانهم لخلاف ما أظهروه،و لم يكن منه و لا من ولده شيء من هذه الأمور عند إظهارهم للقراءة التي رويتموها عنهم و الأقوال التي قالوها في القرآن،فوجب لذلك أن يكون دينهم في القرآن ما رويناه عنهم دون ما رواه سائر فرق الأمة.
و قيل لهم:ما الفصل بينكم و بين من قال لكم إنّ جميع هذه الأسباب كانت مفقودة من عليّ و ولده عند إظهارهم القول بصحّة مصحف عثمان و الاعتراف به،و أنها بأسرها قد وجدت من عليّ و ولده عند إظهارهم لهذه القراءات و الأقوال التي رويتموها عنهم في القرآن،فعلم بذلك أنّ دينهم في القرآن و أنه بأسره/الذي بين اللوحين على ترتيب ما أنزل مذهب عثمان و الجماعة،فهل تجدون في ذلك فصلا؟
ص: 481
فإن قالوا:قد نقلت الشيعة خلفا عن سلف،و هم قوم أثبتت الحجّة أنّهم علموا ضرورة من دين عليّ و الأئمة من ولده أنّ دينهم في القرآن ما رووه عنهم دون ما رواه أصحاب الحديث و سائر فرق الأمّة،فوجب أن يكون القول في ذلك ما قالت الشيعة.
قيل لهم:ما الفصل بينكم و بين من قال إنّ أصحاب الحديث و سائر فرق الأمّة قد رووا جميعا،و ببعضهم تثبت حجّة التواتر خلفا عن سلف أنّهم علموا ضرورة من دين عليّ و ولده أنّهم يعتقدون في القرآن صحّة مذهب عثمان و الجماعة،فوجب أن يكون الحقّ ما قاله مخالفكم.
فإن قالوا:لو علموا ذلك ضرورة لعلمناه كما علموه،و لاشتركنا في ذلك و نحن نجد أنفسنا غير عالمة بصحّة دعواهم هذه.
قيل لهم:لو علمتم أنتم ضرورة عند تلقيكم لهذه الأخبار عن رواتها أنّ مذهب عليّ و الجماعة من ولده ما وصفتم،لعلمنا نحن و سائر مخالفيكم ضرورة من ذلك ما علمتموه،فلمّا لم نجد أنفسنا عالمة بذلك بان كذبكم في هذه الدعاوي.
فإن قالوا:أنتم تعلمون صحّة قولنا ضرورة و لكنكم تجحدون و تعاندون.
قيل لهم:و كذلك أنتم تعلمون صحة نقلنا عن عليّ و أهل البيت و لكنّكم تجحدون و تعاندون.
فإن قالوا:لو لم تضطرّونا إلى صحّة قولنا فيما ندّعيه على أهل البيت لم نضطرّ نحن إلى ذلك،فلمّا كنّا إليه مضطرين علمنا أنّ حالكم في ذلك حالنا،قيل لهم:و لو لم تضطروا إلى صدق ما ندّعيه على عليّ و ولده و أنّكم تكذّبون في ادعائكم عليهم خلاف ذلك لم نضطرّ نحن إلى أنكم تكذبون،
ص: 482
و إلى أنّ دين عليّ و الجماعة ما وصفناه،فلمّا اضطررنا إلى ذلك علمنا أنّكم قد اضطررتم إلى ما نحن إلى العلم مضطرّون،و لا جواب لهم عن هذا أبدا.
فإن قالوا:إنما يعلم دين أهل البيت من توالاهم و ثبّت النّصّ عليهم و تبرّأ من أعدائهم،و هذه هي صفة الشيعة.
قيل لهم:نحن نتوالهم و نتبرّأ من أعدائهم و لا نثبت النّصّ عليهم/،و لو كنتم محقين في إثبات النّصّ عليهم و كنّا نحن في إنكاره مبطلون،لم يدلّ ذلك على أنكم لا بد أن تضطروا إلى العلم بدينهم في القرآن إذا جازت عليه التّقية مع ثبوت النّص،و قد يعرف دين الرجل و ما يقصد أن يضر به مخالفه و عدوّه كما يعرفه موافقه و مواليه،فلا متعلق و لا طائل فيما ذكرتم فبطل بذلك توهمكم بذكر الولاء و البراء و عودكم إلى النّصّ.
ثمّ يقال لهم:إن وجب القطع على صدق هذه الطبقة من الشّيعة في روايتهم عن عليّ و السّلف الصالح من ولده في تغيير القرآن و نقصانه،فما أنكرتم من وجوب تصديق الفريق الآخر من الشيعة الذين يروون عن مثلهم مع كثرة عددهم و اختلاف هممهم و تفرّق ديارهم عن عليّ و الأئمّة من ولده أنّ هذا القرآن المرسوم بين اللّوحين هو جميع كتاب اللّه المنزّل على رسوله على ترتيبه و نظامه غير مغيّر و لا مبدّل و لا مزيد فيه،و أنّهم كانوا يقرءونه و يقرءونه و يوقفونهم على اعتقادهم لصحته و كماله و تمامه،و الكذب مستحيل على مثلهم،و خبرهم هذا معارض لخبركم في نقيض موجبه،و قد علمتم علما لا يتخالجكم فيه الشّكّ و الريب أنّ في الشيعة خلقا عظيما يعتقدون في صحّة القرآن و نظمه و ترتيبه اعتقاد أصحاب الحديث و سائر فرق الأمّة،و أنّهم يروون ذلك عن علي عليه السلام و الأئمة من ولده،فما الذي جعل خبركم بالتوثيق و التصديق أولى من خبرهم و هم في الكثرة كأنتم بل
ص: 483
أكثر،لأنّ الدهماء من الشّيعة و السّواد الأعظم ينكر نقصان القرآن و تغييره و تبديله،و يعظم ذلك و يتبرأ من قائله و يكفّر الدائن به،و يفرق في ذم معتقده و النّاصر له أكثر من افتراق جميع فرق الأمّة،و القليل منهم القائل بقولكم و النّاصر له،و لا جواب لهم عن ذلك.
فإن قالوا:القائل بهذا من الشّيعة يناقض بهذا القول مذهبه،و دافع بمقالته هذه للولاء،و متولّ بقوله الأعداء من ظالمي أهل بيت رسول اللّه صلى اللّه عليه و مصوّر لهم على ما كانوا عليه،و هذا لا يشبه اعتقادهم/فيهم و يبرئه منهم و نحن على سنن في فرق القوم بما قلناه و إضافة هذه الضّلالة إليهم.
يقال لهم:ما قلتموه لا يخرج القوم عن أن يكونوا كثرة يخبرون أنّهم نقلوا عن كثرة إلى أن يتصل ذلك بعليّ و الأئمة من ولده أنّ القرآن بأسره هو الذي بين اللوحين غير مغيّر و لا مبدّل و لا منقوص منه،فنقلهم لهذا بمثابة نقلكم لضدّ روايتهم،فإن كانت هذه الرّواية توجب عليهم ترك الولاء و البراء فيجب أن يصيروا إلى ذلك،و يجب أن تصيروا أنتم أيضا إلى ذلك إذا كان هذا الخبر الذي رووه حجّة كاعتقادهم و آباءهم بشيء يوجب نقيض موجب الخبر،لا يخرج الخبر أن يكون صحيحا،فالتّعلل في هذا بما قلتم لا معنى له.
ثم يقال لهم:إنّ الولاء و البراء غير مفتقر على أصولكم إلى اعتقاد تغيير أبي بكر و عمر و عثمان و سائر الأمّة للقرآن،و إنّما يجب تولي عليّ و الأئمّة، و اعتقاد كونهم أئمّة منصوصا عليهم،و التبري ممّن ظلمهم و غصبهم و دفعهم عن حقوقهم و تآمر عليهم،و قد أمر بأن يكون رعيّة لهم و ما يتصل بهذه الجملة مما هو في معناها،و ليس يفتقر اعتقاد الولاء و البراء إلى الكذب على أبي بكر و عمر و عثمان بنقصان القرآن و تغييره،كما لا يوجب ذلك أن
ص: 484
يعتقد فيه الزندقة،و أنهم كانوا ثنويّة (1)أو براهمة أو عبدة الدّيك (2)و التدرج، و مظهرين لذلك و مناظرين عليه حتى يجب أن يكون من لم يعتقد أن هذه الأمور كانت دين أبي بكر و عمر و عثمان فقد نقض قوله بالولاء و البراء،و إذا كان ذلك كذلك بطل تعلّل النّفس بهذا الضّرب من الجهل،و وجب أن يكون نقل هذه الطّبقة من الشّيعة عن عليّ و الأئمّة من ولده تصحيح هذا القرآن و تسليمه،و أنّه على ما أنزل غير مغيّر و لا مبدّل مع كثرة عددهم و امتناع اتفاق الكذب منهم و وقوع تواطئ عليه،مع انكتامه عليهم يوجب توثيقه و القطع على صحّته،و لا حيلة لهم في دفع ذلك.
فإن قالوا:قول هذا الفريق/من الشّيعة و المفضلين لعليّ و عترته قول محدث،و إلا فقد صحّ أن يذهب عليّ و جميع السّلف و الأئمّة من ولده أن القرآن مغيّر مبدّل منقوص،فلا معتبر بخلافهم.
يقال لهم:افصلوا بينكم و بين من قال إنّ قولكم مذهب عليّ و ولده القول بنقصان هذا القرآن و تغييره،مذهب محدث قريب الحدوث،و أنّ شيوخ الشّيعة و غيرهم أكثر و أقدم منه،و أنّ القول بأنّ مذهب عليّ و الأئمّة من ولده أنّ جميع ما أنزل اللّه تعالى من القرآن على نبيه صلى اللّه عليه هو هذا المرسوم بين اللّوحين على وجهه و ترتيبه،هو المذهب القديم المعروف المرويّ عن الثّبت الثّقات و عن الكافة فلا معتبر بقولكم و خلافكم،فهل ترون لكم من هذا مخرجا؟!0.
ص: 485
و يقال لهم أيضا:إن وجب و لزم القول بصحة خبركم و القطع بصدقكم، و المصير إلى موجب روايتكم عن عليّ و ولده في نقصان القرآن و تغييره و تبديله،و إفساد نظمه و إيقاع التخليط فيه لأجل ما أنتم عليه من كثرة العدد و اختلاف الهمم و تعذر اتفاق الكذب من مثلكم،و استحالة التواطؤ و التشاعر عليكم،فما أنكرتم من وجوب القطع على صحّة خبر سائر أصحاب الحديث،و جميع فرق الأمّة:من المعتزلة و المرجئة و النّجادية و المثبتة،في روايتهم عن عليّ و ولده الاعتراف بصحّة هذا القرآن المرسوم بين اللّوحين و أنّه جميع كتاب اللّه تعالى،و مرتب منظوم على ما أمر القوم الرّسول بنظمه و ترتيبه،و إخبارهم عن عليّ و ولده بما هو معنى هذا القول بتفضيل أبي بكر و عمر و عثمان،و حسن الثّناء عليهم و المدح لهم و التّمني المضيّ على سبيلهم،و اللّعن للطّاعن عليهم و التبرّي منهم،و ما يروونه عنهم من ذمّ الرّافضة و لعن الرّسول لهم و الإخبار عنهم بأنهم هم المعتقدون لدينكم و مذهبكم في الصّحابة،لأجل أن رواة هذا أجمع عن عليّ و ولده من أصحاب الحديث و غيرهم من فرق الأمّة أكثر منكم و من سائر الشّيعة عددا و أشدّ تفرّقا في/البلاد و تباينا في الأحوال و الأنساب،و حالهم أثبت و سندهم أظهر و أشهر عن قوم معروفين،و هم مع هذا أجمع غير متّهمين على عليّ و ولده،و لا طاعنين عليهم و لا متبرئين منهم،و أنتم متّهمون في جميع ما تروونه من ذمّ أبي بكر و عمر و عثمان و شتمهم و التبرّي منه،فسوء اعتقادهم فيه و شدة طعنكم عليهم و اعتقادكم لبراءتهم من الإسلام جملة،و إخباركم بأنّ هذا دين عليّ و ولده فيهم،و الرواية للعن القوم و ذمّهم،إذا جاءت ممن هذا دينه فيهم كان من التّهمة و الظنّة ما تعرفون،و إذا كان ذلك كذلك و كانت أخبار جميع هذه الفرق المخالفة لكم متواترة على عليّ و ولده بما
ص: 486
وصفناه وجب تصديقهم و القطع على صحة رواياتهم دون رواياتكم،فإن لم تجب هذه الجملة فلا أقلّ من أن يكون خبركم معارضا لخبرهم و مقاوما له، و هيهات أن يكون ذلك كذلك،و أخباركم عند أهل النّقل و أصحاب الحديث التي تدّعونها على أهل البيت معروفة النّقل و الطّرق و الرّجال،و أخبار أصحاب الحديث المرويّة عن مثل:مالك و الثّوريّ و طبقتهما في عصرهما،و عن معمر و الزّهريّ و علقمة و إبراهيم و النّخعي و سعيد بن المسيب و أحزابهم من أهل عصرهم،إلى أن ينتهي ذلك إلى النبيّ صلّى اللّه عليه فشتان بين هذه الطبقة و بين غيرهم من جملة أخبارهم ممن لا حاجة بنا إلى ذكره،فوجب بهذه الجملة سقوط خبركم،و العمل على ما ترويه هذه الفرق و الطبقات المعروفة عن علي و عترته في أمر القرآن،و غيره من تفضيل الصحابة و تقريظهم،و البراءة ممن دان فيهم بدينكم،و قال عليهم قولكم.
فإن قالوا:فما هذه الرّوايات التي ترويها هذه الفرق الموجبة لضدّ رواياتنا عن عليّ و أهل البيت.
قيل لهم:هي أكثر من أن تحصى و يحاط بها،فمنها ما رواه النّاس عن سفيان عن السّدّي عن عبد خير (1)عن عليّ عليه السّلام أنّه قال:«رحمة اللّه على أبي بكر هو أوّل من جمع القرآن بين اللوحين»،/و لو كان جمعه له بين اللّوحين ضلالة و بدعة على ما يصفون،أو كان جامعا له على خلاف ما أمر اللّه جلّ و عزّ في نظمه و ترتيبه،لكان عليه السّلام خبّرنا بذمّه و إظهار ركوبه المحظور في هذا الباب،و ذكر تأليفه له على غير وجهه،و نقصان ما نقّصه،).
ص: 487
و كان ذلك أولى به من الترحّم عليه،و جعل ذلك منقبة له،و التّوهّم لصواب فعله و صحة تأليفه.
و روي أيضا عن عبد خير في خبر آخر عن عليّ عليه السّلام أنّه قال:
«أعظم النّاس أجرا في المصاحف أبو بكر،رحمة اللّه على أبي بكر،هو أوّل من جمع القرآن بين اللّوحين» (1)،و رووا جميعا عن شعبة بن علقمة بن مرثد (2)،عن سويد بن غفلة (3)عن عليّ عليه السّلام قال:«لو كنت ولّيت الذي ولي عثمان لفعلت الذي فعل»،يعني في المصاحف،قال جميع من روى ذلك:إنّهم علموا من قوله هذا أنّه قد قصد إلى أنّه كان يصنع كصنعته في المصاحف.
و روى بعضهم أيضا عن علقمة بن مرثد عن سويد بن غفلة قال:سمعت عليّ بن أبي طالب عليه السّلام يقول:«أيها الناس اللّه اللّه و إيّاكم و الغلوّ في عثمان و قولكم حرّاق المصاحف،فو اللّه ما حرّقها إلاّ عن ملأ منّا أصحاب محمد»في كلام له في مدحه طويل سنذكره فيما بعد،إلى أن قال عليه السّلام:«لو ولّيت مثل الذي ولي لصنعت مثل الذي صنع» (4).).
ص: 488
فهذه الرّوايات كلّها أظهر و أشهر من رواياتكم عنه بخلاف ذلك و أصحّ سندا و أثبت رجلا،و إنّما نعني بصحّة السّند و ثبت الرّجال،الطريق في غير خبر من هذه الأخبار إذا أفرد و خصّ،فأما أن نحتاج إلى ذلك في علمنا في الجملة بأن عليا عليه السّلام كان يقرأ هذا المصحف و يلقّنه و يحكمه و يعترف بصحته،و يقول بقول الجماعة فيه فإنّه باطل،و لا ما نعلم ضرورة إظهار علي عليه السّلام القول بهذا،و أنه كان على هذه الطريقة،و لا نعلم ضرورة و لا باستدلال أن عليا أظهر في وقت من الأوقات خلاف ذلك على ما يدّعيه قوم من الشيعة،و لا خلاف بيننا و بينهم/و بين مخالفينا من الشّيعة في هذا الباب بأنّ عليا عليه السّلام كان يظهر القول بهذه الجملة،و أنّ دينه في المصحف لعثمان ما وصفناه و لا يمكن أحد منهم دفع هذا أو جحده، و قولهم بعد هذا:أنّه أظهر ذلك برهة من الزّمان ثمّ أظهر خلافه،و أنّه كان ابتدأ بإظهار خلافه باطل لا أصل له.
و يقال لهم:إن كان ابتدأ بإظهار خلاف ثمّ أظهر بعد ذلك خلافه بما وصفناه فذلك رجوع منه عن قوله الأول،و يجب العمل في مذهبه إلى ما صار إليه،و إن كان أظهر خلاف ما قلناه،و علمنا إظهاره له ضرورة،و كان إنما أظهر ما قلناه أوّلا على سبيل التّقية،و لم نأمن أن يكون أيضا إنّما أظهر الثّاني لأجل تقية أخرى من قوم آخرين هم أشرّ من القوم الذين خافهم على نفسه أولا أو مثلهم في الشّر،بل لعلّ القول الصحيح عنده هو الذي وقف عليه و هو معتقد له القول الأول الذي هو دين عثمان و الجماعة،و أن يكون القول الثّاني إنّما ظهر منه على سبيل التّقية من أشرار قوم كانوا مختلطين بأصحابه،قليلي البصائر و الرغبة في طاعة اللّه تعالى و كثيري الخلاف عليه و الشّق لعصاه و التغلّب على أمره،و هم الذين حملوه على التحكيم و كفّ
ص: 489
الحرب،و هم الذين عناهم بقوله:«بدّل اللّه لي بكم أصحاب معاوية صرف الدرهم بالدينار» (1)،و كثرة الذمّ لهم و الدّعاء عليهم،و تمني الخلاص منهم،و ما حفظ عليه شيء من ذلك في فريق من الأمّة قبل أيام نظره بأواخر أفعاله و أقواله الواقعة منه في هذه الأيام أشبه بأن تكون واقعة على سبيل التّقية إذ كانت أسباب التّقية ظاهرة،و قد بيّنّا في غير موضع بطلان هذه التّقية،و أنّه لا أصل لها و لا دليل لهم عليها بما يغني عن رده.
و كل هذه الروايات عن عليّ في القرآن و في القراءات المنسوبة إلى مصحف عثمان نقيض تواتركم عنه الذي تدّعونه،و مع ذلك فقد وافقتمونا على/أنّه كان مظهرا للجملة التي ذكرناها عنه في باب القرآن،و نحن غير موافقين لكم في روايتكم عنه أنّه قال في بعض الأوقات غير ذلك،و أنّه إنّما أظهره على سبيل التّقية،و إذا كان ذلك كذلك كانت أخبارنا أولى بالثّبوت و الصحّة من أخباركم من كل وجه و طريق.
و كذلك أيضا فقد روى أصحاب الحديث كافّة عن كافّة خلفا عن سلف من تفضيل عليّ عليه السّلام لأبي بكر و عمر و عثمان،و تعظيم شأنهم و جميل الثناء عليهم ما في بعضه دلالة على أنّهم لم يغيّروا القرآن و لا بدّلوه و لا شيئا من أحكام الدين،فمن هذه الأخبار ما روته الجماعة عن أبي الأحوص عن أبي جحيفة (2)قال:«سمعت عليّ بن أبي طالب عليه السّلام على منبر الكوفة يقول:إنّ خير هذه الأمّة بعد نبيّها أبو بكر،ثمّ خيرهم بعد أبي بكر).
ص: 490
عمر،و الثالث لو شئت لسميته» (1)،و روي عن شريك (2)عن الأسود بن قيس عن عمر عن سفيان قال:قال عليّ بن أبي طالب عليه السّلام:«سبق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و ثنّى أبو بكر و ثلّث عمر» (3).
و روي عن علي بن هاشم (4)عن أبيه (5)عن أبي الجحاف (6)قال:«قام أبو بكر بعد ما بويع له،و بايع عليّ و أصحابه،قام ثلاثا يقول:«أيّها النّاس قد أقلتكم بيعتكم هل من كاره؟فيقوم عليّ عليه السّلام أوائل النّاس يقول:
لا نقيلك و لا نستقيلك،قدّمك رسول اللّه فمن الذي يؤخّرك» (7)،و رووا عنه عليه السّلام أنّه قال:«قدّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه أبا بكر يصلي بالنّاس، و قد رآني و ما كنت غائبا و لا مريضا،و لو أراد أن يقدّمني لقدّمني،فرضينا».
ص: 491
لدنيانا من رضيه رسول اللّه لديننا» (1)،و روى عبد خير قال:«سمعت عليا يقول:قبض اللّه تعالى نبيّه على خير ما قبض عليه نبيا من الأنبياء،و أثنى عليه،ثمّ استخلف أبو بكر فعمل بعمل رسول اللّه و سنته،ثمّ قبض أبو بكر على خير ما قبض/اللّه عليه أحدا و كان خير هذه الأمّة بعد نبيّها،ثمّ استخلف عمر فعمل بعملها و سننهما،ثمّ قبض على خير ما قبض اللّه عليه أحدا، و كان خير هذه الأمّة بعد نبيّها أبي بكر» (2).
و روى عن كثير النّواء (3)عن أبي سريحة (4)قال:«سمعت عليا يقول على المنبر:ألا إنّ أبا بكر كان أواها منيب القلب،و أن عمر ناصح اللّه فنصحه» (5)،و روي عن سالم بن أبي حفصة (6)عن عبد اللّه بن مليل عن عليّ ابن أبي طالب أنّه قال:«لكلّ نبي سبعة نجباء من أمّته،و إنّ لنبيّنا أربعة عشر نجيبا منهم:أبو بكر و عمر» (7)،و رووا من غير طريق عن منذر الثوريّ (8)).
ص: 492
و غيره عن محمد بن الحنفيّة قال:قلت لأبي عليّ بن طالب:من خير النّاس بعد رسول اللّه؟قال:أبو بكر،قلت:ثمّ من؟قال:ثمّ عمر،ثمّ بادرت فخفت أن أسأله فقلت:ثم أنت؟قال:أبوك رجل من النّاس له حسنات و سيّئات يفعل اللّه ما يشاء» (1).
و رووا«أنّ عليّا عليه السّلام قيل له:استخلف علينا،قال:ما أستخلف، و لكن إن يرد اللّه بهذه الأمّة خيرا يجمعهم على خيرهم كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم» (2).
و رووا عن عبيدة السلماني و غيره من الرواة عن عليّ بن أبي طالب أنّه أرسل إلى رجل بلغه أنّه عيب أبا بكر و عمر و يطعن عليهما،فجيء بالرجل فعرّض عليّ عليه السّلام بعيبهما عنده،ففطن الرجل فقال:أما و الذي بعث محمدا بالحق لو أنّي سمعت منك الذي بلغني عنك أو يثبت به عليك بنيّة لألقيت عنك أكثرك شعرا،يعني رأسه» (3)،و رووا عن جعفر بن محمد أنّه روى عن أبيه قال:قال رجل لعليّ:يا أمير المؤمنين،سمعتك تقول في الخطبة أيضا:اللّهمّ أصلحنا كما أصلحت به الخلفاء الراشدين المهديين، فمن هم،فاغرورقت عيناه ثمّ أهملهما،و قال:هما حبيباي و عمّاك أبو بكر و عمر رضي اللّه عنهما،إماما الهدى و شيخا الإسلام و رجلا قريش المقتدى بهما بعد رسول اللّه-صلّى اللّه عليه،من اقتدى بهما عصم،و من تبعه.
ص: 493
آثارهما هدي إلى صراط مستقيم،و من تمسك بهما فهو حزب اللّه و حزب اللّه هم المفلحون» (1).
و رووا عن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و أبي أيوب الأنصاريّ (2)أنّ النّبيّ/صلّى اللّه عليه قال:«إنّ اللّه أمرني أن أتّخذ أبا بكر والدا» (3)،و رووا عن أبي رجاء العطارديّ (4)قال:«سمعت عليا و الزبير بن العوّام يقولان:
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:أفضل أمّتي أبو بكر» (5).
و رووا أيضا عن أبي رجاء العطارديّ عن عليّ بن أبي طالب و الزبير بن العوّام قال:سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه يقول:«الخليفة بعدي أبو بكر ثمّ عمر» (6)،قال أبو رجاء فدخلنا على عليّ فقلنا يا أمير المؤمنين،سمعنا الزبير يقول:سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه يقول:الخليفة بعدي أبو بكر ثم عمر،فقال:صدق،و سمعت ذلك من رسول اللّه صلّى اللّه عليه،و رووا أيضا عن غير واحد من أصحاب عليّ عليه السّلام أنّه كان إذا ذكر عنده أبو).
ص: 494
بكر قال:السّباق تذكرون يقولها ثلاثا:و الذي نفسي بيده ما استبقنا إلى خير قطّ إلاّ سبقنا إليه» (1).
و روي عن جابر بن عبد اللّه و أبي جحيفة و جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن عليّ عليه السّلام قال:«كنت جالسا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه فأقبل أبو بكر و عمر،فقال لي:يا عليّ هذان سيدا كهول الجنة من الأوّلين و الآخرين،ما خلا النبيّين و المرسلين،لا تخبرهما يا عليّ» (2)،و رووا في أكثر الرّوايات عنه:«ما خلا النبيّين و المرسلين ممّن مضى في سالف الدهر، و من بقي في غابرة،يا عليّ:لا تخبرهما بمقالتي هذه ما عاشا» (3).
و قد روى عن النّبيّ صلّى اللّه عليه هذا الخبر خلق من الناس غير عليّ، منهم أبو سعيد الخدري،و عبد اللّه بن عمر،و عبد اللّه بن عباس،و أبو هريرة،و جابر بن عبد اللّه،و الحسن بن علي،و أبو مريم السلولي (4)،و أنس بن مالك،كلّ روى عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم مثل رواية عليّ عليه السّلام يزيد لفظة، و اللفظتين أو ينقص،و روى هذا الخبر عن عليّ بن أبي طالب خلق من الرواة منهم:سويد بن غفلة،و زرّ بن حبيش،و عبد اللّه بن أبي ليلى (5)،).
ص: 495
و عمرو بن شرحبيل أبو ميسرة (1)،و عاصم بن ضمرة (2)،و الحارث الأعور، و عامر/الشّعبي،و أبو البختري الطائي (3)،و أبو عبد الرحمن السلمي، و غيرهم أيضا،و بدون هؤلاء يثبت التواتر عنه،و ليس في أخباركم خبر تروونه عنه في نقصان القرآن و تغييره يجري مجرى هذا الخبر و لا يقاربه،بل لا رواية تعلم عنه أصلا في ذلك إلا ما تصنعونه و تلفقونه.
و رووا أيضا عن مالك بن مغول (4)عن السّدي عن عبد خير قال:«كنت عند عليّ بن أبي طالب عليه السّلام جالسا فقال له رجل:يا أمير المؤمنين، من أول من يدخل الجنّة من هذه الأمة؟فقال أبو بكر و عمر:فقال له رجل آخر:يا أمير المؤمنين،و يدخلانها قبلك؟قال:أي و اللّه و يشبعان من ثمارها» (5)و روى أيضا عبد خير عن عليّ عليه السّلام قال:سبق رسول اللّه و صلّى أبو بكر و ثلّث عمر ثم خبطتنا فتنة يعفو اللّه عمّا شاء» (6)،و روى أبو الطّفيل عن عليّ قال:«سبق رسول اللّه و صلّى أبو بكر و ثلّث عمر،و خبطتنا فتنة،فهو ما شاء اللّه عز و جل»،و في رواية أخرى عنه:«فما شاء اللّه»،و في).
ص: 496
رواية أخرى:«يصنع اللّه فيها ما شاء»و في رواية أخرى عن عبد خير قال:
«سمعت عليا يقول:سبق رسول اللّه،و صلّى أبو بكر،و ثلّث عمر،ثمّ خبطتنا فتنة فهو ما شاء اللّه،فمن فضّلني على أبي بكر و عمر فعليه حدّ المفتري من الضرب،و طرح الشهادة» (1)،و لو لا خوف الإطالة و الإكثار لذكرنا من كلامه في تفضيلهما في خطبه على المنابر و مقاماته و مشاجراته أضعاف ما ذكرنا.
فأمّا ما يرويه جماعة أصحاب الحديث رواية ظاهرة مستفيضة عن عليّ في عمر من التفضيل و التقريظ فهو أيضا أكثر من أن يحاط به،فمنها ما ذكرناه من قوله:«إنّ أبا بكر كان أواها منيبا،و إنّ عمر ناصح اللّه فنصحه، و قد كنّا نرى شيطانه يهابه أن يأمره بمعصيته»،و هذا مرويّ من طريق الشعبي و من رواية الشّعبي أيضا عن عليّ أنّه قال:«كان عمر ليقول الحقّ فينزل القرآن بتصديقه» (2).
و روى مجالد (3)عن عامر الشعبي عن عليّ كرّم اللّه وجهه،أنه قال:
«إنّ في القرآن من كلام عمر كلاما كثيرا»،يريد من الأوامر و الأحكام،).
ص: 497
و روي عن واحد عن عليّ عليه السّلام أنّهم سمعوه يقول:«دخلت على عمر حين وجأة أبو لؤلؤة و هو يبكي،فقلت:ما أبكاك يا أمير المؤمنين،فقال:
أبكاني خبر السّماء،أ يذهب بي إلى الجنّة أو إلى النّار،فقلت:أبشر بالجنّة، فإني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه يقول ما لا أحصي:سيدا كهول أهل الجنّة أبو بكر و عمر،و أنعما،فقال:أشاهد أنت يا عليّ بالجنّة،فقلت نعم، و أنت يا حسن فاشهد على أبيك رسول اللّه،أنّ عمر من أهل الجنة» (1).
و روى جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد اللّه قال:«لمّا طعن عمر قال:أ عن ملإ منكم هذا،فقال عليّ:ما كان عن ملإ منا و لوددنا أنّه قد زيد في عمرك من أعمارنا» (2)،و رووا جميعا عن عقيل بن خالد (3)عن محمد عن عليّ بن عبد اللّه بن عباس (4)عن أبيه (5)عن عبد اللّه ابن عباس قال:«قال لي عليّ بن أبي طالب:ما علمت أحدا من المهاجرين هاجر إلاّ متخفّيا إلا عمر بن الخطاب،فإنّه لما همّ بالهجرة تقلّد سيفه).
ص: 498
و تنكب قوسه و انتضى أسهما في يده و أحضر عترته،و مضى قبل الكعبة، و الملأ من قريش بفنائها،فطاف بالبيت سبعا متمكّنا،ثمّ أتى المقام فصلى متمكّنا،ثم وقف على الحلق واحدة واحدة،فقال لهم:شاهت الوجوه لا يرغم اللّه إلا هذه المعاطس،من أراد أن تثكله أمّه أو يوتم ولده أو يرمّل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي،قال عليّ عليه السّلام:فما تبعه أحد إلا قوم من المستضعفين عليهم دار شرّهم و مضى لوجهه» (1).
و رووا جميعا عن عبد اللّه بن عباس و غيره من الصحابة أنّ عمر لما مات دخل عليه عليّ بن أبي طالب عليهما السّلام و هو مسجى بثوبه،فقال:ما أحد أحبّ إليّ أن ألقى اللّه بصحيفته من هذا المسجّى بينكم،ثم قال:رحمك اللّه يا ابن الخطاب أن كنت/بذات اللّه لعليما،و أن كان اللّه في صدرك لعظيما، و أن كنت لتخشى اللّه في النّاس و لا تخشى الناس في اللّه،كنت جوادا بالحقّ بخيلا بالباطل،خميصا من الدنيا بطينا من الآخرة،لم تكن غيّابا و لا مدّاحا» (2)،في أمثال لهذه الأقاويل كثير قالها و رواها في عمر،فيها من تفضيله و تعظيم شأنه و ذكر قدره و محلّه عند اللّه و رسوله،و مكانه من الدّين، يؤذن بفضل عظيم و تقديم شديد،كرهنا الإطالة بها،كل هذه الأقاويل و الرّوايات لا تجوز عندنا و عندهم أن نقولها و نرويها في قوم ابتدعوا في الدين ما ليس منه بجمع كتاب اللّه بين لوحين،و غيّروا القرآن و بدّلوا كثيرا).
ص: 499
منه و نقّصوا منه أمرا عظيما،و أسقطوا أسماء رجال ملعونين في نصّ تنزيله، و حذفوا أسماء آخرين ممدوحين مقرّظين مأمور باتّباعهم في نصه،فإنّ فاعل هذا بالخروج عن الدّين و الإدغال له و الاستحقاق للّعن و الإهانة و قبيح الأسماء و عظيم الذّم أولى بما وصفه و رواه عليّ فيه،و كلّ هذه الروايات أشهر و أظهر و أعلى و أكثر رجالا و أوضح طرقا من رواياتكم،و نحن و إن لم نعلم عين كلّ خبر من هذه الأخبار ضرورة،فقد عرفنا في الجملة ضرورة مدح عليّ لهما و حسن ثنائه عليهما،و قد قلتم معنا بذلك و ادّعيتم عليه التّقية،و أنّه قال في مقامات أخر نقيض هذه الأقوال،و هذا منكم غير مسموع و لا مقبول و لا معلوم صحّته،فصحّ ما قلناه و بطل تسويفكم أنفسكم بالتعاليل و الأباطيل،و أما روايات أهل البيت عن عليّ و سائر أسلافهم بتفضيل الصّحابة و تقديمهم و حسن الثّناء عليهم و التّبري من أعدائهم و القادح في فضلهم،فأكثر من أن يحاط بها،فمن هذه الأخبار:
ما رووه عن محمد بن فضيل (1)عن سالم ابن أبي حفصة (2)قال:
«سألت أبا جعفر محمد بن عليّ و جعفر بن محمد عن أبي بكر و عمر، فقالا:يا سالم تولّهما،و ابرأ من عدوّهما فإنهما كانا إمامي هدى»/ (3)، و رووا أيضا عن بشير بن ميمون أبي صيفي (4)عن جعفر بن محمد عن أبيه،).
ص: 500
قال:«توالوا أبا بكر و عمر،فما أصابكم من ذلك فهو في عنقي»،و رووا عن أبي عقيل عن كثير النّواء قال:«قلت لأبي جعفر بن محمد بن علي:
أخبرني عن أبي بكر و عمر أظلما من حقكم شيئا أو ذهبا به فقال:لا و منزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا،ما ظلما من حقنا من يزن حبة خردلة،قال:قلت:أ تتوالاّهما جعلني اللّه فداك قال:نعم يا كثير أتولاّهما في الدنيا و الآخرة،قال:و جعل يصل عنق نفسه بعنقي،قال:ثم قال:برئ اللّه و رسوله من المغيرة بن سعيد (1)و بيان (2)،فإنهما كذبا علينا أهل البيت».
و رووا أيضا عن خلف بن حوشب (3)عن سالم بن أبي حفصة (4)،قال:
دخلت على جعفر بن محمد الصّادق و هو مريض،قال:فقال:اللهمّ إنّي أحبّ أبا بكر و عمر و أتولاّهما،اللهمّ إن كان في نفسي غير هذا فلا تنالني شفاعة محمد صلّى اللّه عليه».
و رووا أيضا عن سالم بن أبي حفصة قال (5):قال لي جعفر بن محمد يا سالم،أ يسبّ الرجل جدّه،أبو بكر جدّي،لا نالتني شفاعة محمد صلّى اللّه عليه يوم القيامة إن لم أكن أتولاّهما و أبرأ من عدوّهما».).
ص: 501
و رووا عن عبد العزيز بن محمد الأزدي (1)،قال:حدّثنا حفص بن غياث (2)قال:سمعت جعفر بن محمد يقول:«ما أرجو من شفاعة عليّ عليه السّلام شيئا إلا و أنا أرجو من شفاعة أبي بكر مثله() (3)».
و رووا عن عليّ بن الجعد (4)عن زهير بن معاوية (5)عن أبيه (6)،قال:
«كان لي جار يزعم أن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين يتبرأ من أبي بكر الصّديق و عمر،قال:فغدوت على جعفر فقلت له:إنّ لي جارا يزعم أنّك تتبرأ من أبي بكر الصّديق و عمر،فما تقول له:قال برئ اللّه من جارك،إني لأرجو أن ينفعني اللّه بقرابتي من أبي بكر الصّديق،و لقد اشتكيت شكاة أوصيت فيها إلى خالي عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر» (7).).
ص: 502
و رووا عن أبي حازم (1)عن أبيه،قال/:«سئل عليّ بن الحسين عن أبي بكر و عمر و منزلتهما عن النّبي صلّى اللّه عليه قال:لمنزلتهما اليوم منه هما ضجيعاه»،و روي عن إسحاق الأزرق (2)عن بسام بن عبد اللّه الصيرفي (3)قال:«سألت أبا جعفر محمد بن عليّ قلت:ما تقول في أبي بكر و عمر رضي اللّه عنهما،فقال:و اللّه إنّي لأتوالاّهما و أستغفر لهما،و ما أدركت أحدا من أهل بيتي إلاّ و هو يتولّاهما».
و رووا عنه أيضا أنّه قال:«من جعل عمر بن الخطاب بينه و بين اللّه فقد استوثق».
و رووا عن جعفر بن قيس قال:«سألت عبد اللّه بن حسن (4)عن المسح على الخفين فقال:امسح فقد مسح عمر بن الخطاب،قلت:إنّما أسألك، أنت،أمسح؟قال:ذاك أعجز لك،أخبرك عن عمر و تسألني عن رأيي؟! فعمر كان خيرا منّي و ملء الأرض مثلي ملزوما،يا محمد (5)إنّ ناسا يقولون).
ص: 503
هذا منكم تقية فقال لي،و نحن بين القبر و المنبر:اللّهمّ إنّ هذا قولي في السّر و العلانية،فلا تسمعن قول أحد بعدي،ثمّ قال:من هذا الذي يزعم أنّ عليّا كان مقهورا،و أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه أمره بأمر لم ينفّذه،و كفى بهذا أزرا على عليّ و منقصة أن يزعم قوم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه أمره بأمر فلم ينفذه».
و رووا أيضا عن محمد بن شعبة الباهليّ عن علي بن هاشم عن أبيه قال:«سمعت زيد بن عليّ بن الحسين (1)،يقول:«البراءة من أبي بكر و عمر البراءة من عليّ عليهم السّلام»،و رووا عن ابن داود (2)عن فضيل بن مرزوق (3)قال:قال زيد بن علي بن الحسين:«أمّا أنا فلو كنت مكان أبي بكر لحكمت بمثل ما حكم به أبو بكر في فدك (4)»،و روي عن عمرو بن سمرة عن عروة بن عبد اللّه الجعفي قال:«قلت لأبي جعفر أ نسمّي أبا بكر الصّدّيق قال:سمّاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم الصّدّيق،فمن لم يسمّه الصّدّيق فلا صدّق اللّه لقوله في الدّنيا و الآخرة».).
ص: 504
و رووا عن زيد بن عليّ أنّه قال:«أبو بكر الصّدّيق إمام الشاكرين،/و قرأ وَ سَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ [آل عمران:144]،و رووا عن السّري بن يحيى (1)عن هلال بن حيان عن الحسن بن محمد بن الحنفيّة (2)أنّه قال:«يا أهل الكوفة اتقوا اللّه و لا تقولوا لأبي بكر و عمر ما ليس له بأهل،إنّ أبا بكر الصّديق كان مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه في الغار،ثاني اثنين،و إن عمر عزّ اللّه به الدّين»،و روي عن أبي خالد الأحمر (3)قال:«سألت عبد اللّه بن حسن بن حسن عن أبي بكر و عمر،فقال صلّى اللّه عليهما،و لا صلّى اللّه على من لا يصلّي عليهما»،و روي عن نصاح بن حسان عن فضيل بن مرزوق قال سمعت عبد اللّه بن حسن بن حسن يقول لرجل من الرّافضة:«إنّ قتلك لقربة إلى اللّه تعالى».
و رووا أيضا عن جعفر بن عون (4)عن فضيل بن مرزوق قال:«سمعت الحسن بن الحسن و قال له رجل:أ لم يقل رسول اللّه صلّى اللّه عليه من كنت مولاه فعليّ مولاه،قال:بلى،أما و اللّه لو يعني بذلك الإمارة و السلطان لأفصح لهم بذلك،فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه كان انصح النّاس للمسلمين لقال لهم:«أيّها النّاس هذا وليّ أمركم و القائم عليكم من بعدي،فاسمعوا).
ص: 505
له و أطيعوا،ما كان هذا يشقّ فو اللّه لئن كان اللّه و رسوله اختار عليا لهذا الأمر،و القيام به للمسلمين من بعده ثم ترك عليّ عليه السّلام أمر اللّه و رسوله أن يقوم به أو تعذّر منه إلى المسلمين إن كان أعظم النّاس في ذلك خطيئة لعليّ إذ ترك ما أمر اللّه و رسوله و اختاره اللّه و رسوله له و حاشاه من ذلك».
و رووا أيضا عن مصعب بن سلاّم (1)عن جعفر بن محمد عن أبيه أنّ عبد اللّه بن جعفر قال:«رحم اللّه أبا بكر كان لنا واليا فنعم الوالي كان لنا، ما رأينا قاضيا قط كان خيرا منه»،و رووا عن محمد بن الصباح (2)عن يحيى ابن سليمان قال:«سمعت جعفر بن محمد يقول:سمعت أبي يقول:
سمعت عبد اللّه بن جعفر يقول:ولينا أبو بكر رضوان اللّه عليه فخير خليفة، و أرحمه بنا،و أحناه علينا».
و لو أردنا تتبّع ما روي عن أهل البيت و ولد عليّ خاصة/في تفضيل أبي بكر و عمر،و نشر محاسنهما،و جميل الثّناء عليهما و القول فيهما لخرجنا بذلك عن غرض الكتاب،و قد أسهبنا فيما ذكرناه من هذه الأخبار صوبا من الإسهاب للحاجة إلى معارضة بنقيضها،و ليعلم قارئ ما ذكرناه أن الرّوايات عن أهل البيت ظاهرة منتشرة بضدّ ما يروونه عنهم،و أمّا ما روي عن عليّ عليه السّلام و ولده في سبّ الرّافضة و لعنهم و البراءة منهم فكثير أيضا،و ظاهر مستفيض بين أهل النّقل،فمن هذه الأخبار ما رواه النّاس عن).
ص: 506
حصين بن عبد الرحمن (1)عن أبي عبد الرحمن السّلمي عن عليّ عليه السّلام قال:«قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه سيأتي من بعدي قوم لهم نبز يقال له الرّافضة،فإن أدركتهم فاقتلهم فإنّهم مشركون،قال:قلت:يا رسول اللّه و العلامة فيهم،فقال:يقرّظونك فيما ليس فيك،و يطعنون على السّلف» (2).
و رووا أيضا عن عليّ عليه السّلام قال:قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه «أنت و شيعتك في الجنّة،و إنّ قوما لهم نبز يقال لهم الرّافضة،فإن لقيتهم فاقتلهم فإنّهم مشركون»،و قال عليّ عليه السّلام:«ينتحلون حبّنا أهل البيت و ليسوا كذلك،و آية ذلك أنّهم يشتمون أبا بكر و عمر عليهما السّلام»و رووا عن كثير النّواء عن إبراهيم بن حسن بن حسن عن أبيه عن جدّه عليّ بن أبي طالب عليه السّلام أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه قال:«يظهر في أمّتي في آخر الزمان قوم يسمّون الرّافضة،يرفضون الإسلام» (3).
و روي عن أبي الجحاف داود بن أبي عوف عن محمد بن عمر الهاشميّ عن زينب بنت عليّ عن فاطمة بنت محمد قالت:«نظر النبيّ صلّى اللّه عليه إلى عليّ كرّم اللّه وجهه،فقال:هذا في الجنّة،و إنّ من شيعته قوما يغطّون الإسلام ثمّ يلفظونه،لهم نبز يسمّون الرّافضة،من لقيهم فليقتلهم فإنّهم مشركون».).
ص: 507
و رووا عن الفضل بن غانم عن سوار بن مصعب عن عطيّة العوفيّ عن أبي سعيد الخدري عن أمّ سلمة قالت:«كانت ليلتي،و كان النّبيّ/صلّى اللّه عليه عندي فأتته فاطمة و معها عليّ،فقال له النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:يا عليّ أنت و أصحابك في الجنّة،أنت و شيعتك في الجنّة،ألا إنّ ممّن يزعم أنّه يحبك لأقوام يظهرون الإسلام،ثم يلفظونه يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيّهم،لهم نبز يقال لهم الرّافضة فجاهدهم فإنّهم مشركون،قال:يا رسول اللّه ما العلامة فيهم،قال:لا يشهدون جمعة و لا جماعة و يطعنون على السّلف الأول».
فإن قالوا:جميع هذه الأخبار و ما رويتموه من تفضيل عليّ و ولده لأبي بكر و عمر،و جميل القول فيهما،و ما رويتموه من قول عليّ في أبي بكر:
«رحمة اللّه على أبي بكر كان أوّل من جمع القرآن بين اللوحين»،و قوله في جمع عثمان لمصحفه:«و لو ولّيت مثل الذي ولي،لصنعت مثل الذي صنع»،و قوله:«إياكم و الغلوّ في عثمان و قولكم حرّاق المصاحف»إلى آخر الخبر،و جميع ما يروونه عن الرّسول عليه السّلام من فضائل أبي بكر و عمر و عثمان و غيرهما من أعداء أهل البيت،أخبار مفتعلة متكذّبة لا أصل لها، و إنّما هي من وضع أبي هريرة و شيعة معاويّة،و أكلة المضائر و أتباع المروانية،و تكذّب الحنابلة و البربهارية (1)،و لا يجب القول بشيء منها و لا العمل به،و أخبارنا التي رويناها في نقصان أئمّتكم من القرآن و غير ذلك من الأخبار عن ظلمهم و تجبّرهم و سوء الثّناء عليهم مرويّ عن العترة و الصّفوة و القدوة من أهل البيت،يوجب العمل على روايتنا دون روايتكم لأنّكمة.
ص: 508
تردّون أخبار أهل البيت،و تقبلون رواية معمر و الزهريّ و ابن المسيّب و مالك و سفيان و أمثال من ذكرنا.
قيل له:هذا الكلام قد ألّف منكم و عرف به قصدكم و الوقت الذي تحتاجون إليه،لأنّكم إنّما توردون ذلك عند ضيق الأمر بكم،و بلوغكم المساقط و حين تعلمون أنّه لا حيلة و لا مهرب إلاّ إلى التشنيع و الشغب و الإلباس بهذا الكلام على من ليس من العلم و أهله بسبيل،فأوّل ما نقول لكم فيما تعاطيتم به إثبات أخباركم و دفع ما رويناه لكم:أنّ جميع ما رويناه في هذه الفصول،و في أقوال عليّ عليه السّلام،و جميع من ترون إمامته و عصمته من أهل البيت بصحّة القرآن و سلامة هذا المصحف من التحريف و الزّيادة و النّقصان ظاهر منتشر بين أصحاب الحديث و أهل الآثار لا يمكن أحد دفعه،و ظهوره بينهم و كثرة رواته،و صحّة سنده و ثبت رجالة،و أنّه من أكثر شيء تروونه،و أنّ علمهم بذلك و شهرته عن عليّ و عترته كشهرة جميع ما شهر من مذاهب عليّ و أقواله،فلا سبيل إلى جحد ذلك بالقدح في مذاهب رواة هذه الأخبار،و الطعن على دينهم و أمانتهم فقط بغير حجّة.
و أمّا قولكم إنّ هذه الأخبار من وضع أبي هريرة و شيعة معاوية و بني مروان،فإنّها دعوى فارغة لا حجّة معها،و هي بمثابة قول من قال لكم:إنّ جميع أخباركم و الفضائل التي تروونها،و كلّما تذكرونه في نقصان القرآن إنّما هو في الأصل من وضع الأشتر النخعيّ،و حجر بن عديّ،و عمرو بن الحمق،و كنانة بن بشر التجيبي،و الغافي،و حكم بن جبلة العبسيّ،و عبد اللّه بن سبأ،و سودان بن حمران المصريّ،و المختار بن أبي عبيد،و شيعته، و ابن كيسان و طبقته،و منه ما وضعه هشام بن الحكم و عليّ بن متيم و أبو
ص: 509
جعفر الأحول،و أصحاب البراء،و القول بالرجعة و أهل الغلوّ،فلا يجب الإحفال بشيء منها،و لا العمل عليها.
فإن قالوا:الأشتر و عمرو بن الحمق و الغافقيّ و جميع من ذكرتم من سلف الشّيعة،أجلّ قدرا من أن يحملوا أنفسهم على وضع الكذب.
قيل لهم:و كذلك أبو هريرة و أنس بن مالك،و جرير بن عبد اللّه، و النّعمان بن بشير،إلى من هو فوق هؤلاء من عبد اللّه بن مسعود،و أبيّ، و معاذ بن جبل،و سعد و سعيد و أبو عبيدة،و أمثال هذه الطبقة مثل معاوية و عمرو بن العاص و من تبعهم،أجلّ قدرا من أن يحمل أدناهم منزلة نفسه على الكذب و الوضع على الرّسول،و جميع ما تروونه من الفضائل/إنّما هو غير هذه الطّبقات،فإن لم تغيّروا عندكم من الوضع على الرّسول لم يغيّر من ذلك مالك الأشتر و عبد اللّه بن سبأ،و عمرو بن الحمق،و حكيم بن جبلة، و سائر هذه الطبقة،لأنّها بأسرها دون أبي هريرة،فضلا ممّن هو أفضل منه عمّن يروي أخبارنا عنه.
فإن قالوا:فكلّ هؤلاء نواصب و أعداء لأمير المؤمنين،و الكذب غير بعيد منهم.
قيل لهم:و جميع من ذكرناه لكم روافض و خصماء لأبي بكر و عمر و عثمان و غيرهم،و هم غير مرضيين و لا متبرئين من وضع الكذب على الرسول،ثمّ على عليّ في ذمّ السّلف و الطّعن على مصحف عثمان و غير ذلك و لا فصل به.
فإن قالوا:بينكم و بين السّلف من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه خلق من الحشود العامّة يمكن تكذّبهم و لا يمتنع الوضع عليهم.
ص: 510
قيل:و كذلك بينكم و بين أئمّتكم و العترة التي ذكرتم خلق من العامّة لا يبعد تكذّبهم و وضعهم،و لا يمتنع ذلك عليهم،و لا جواب عن هذا أبدا.
ثم يقال لهم:أنتم لم تلقوا عليّا و لا أحدا من العترة و الأئمّة من ولده، و إنّما تروون أخباركم هذه عمّن يرويها لكم عن الأئمّة،و الوسائط عندكم غير معصومين من الكذب و البهتان و الافتعال و الغلط و النّسيان،فما أنكرتم أن تكون أخباركم هذه كذبا على عليّ و الأئمّة من ولده،و أن يكون من وضع الدّعاة و الأبواب و الوسائط،فلا يجدون إلى دفع ذلك سبيلا.
فأمّا قولكم:إنّا لا نقبل خبر الصّادق و الباقر و الرّضا و أمثالهم،و نقبل خبر الزّهريّ و سعيد بن المسيّب و مالك و سفيان و من جرى مجراهم،فإنّه بهت منكم و كذب على خصومكم بل من ديننا تصديق جميع ما ذكرتم من أهل البيت و من هو دونهم و العمل على خبره،إذا سمع منهم أو صحّ و ثبت عنهم،و إنّما نردّ أخباركم الباطلة عندنا عنهم لعلمنا بتكذيب الوسائط عنكم بينهم و وضعهم عليهم الكذب و البهتان،و إنّ طريقكم إليهم قبيح وعر مظلم،فنحن إنّما نكذبكم أنتم تارة و نكذّب أخرى القوم الذين بينكم و بين هؤلاء الأئمة،/فأمّا هم عليهم السّلام فأئمّتنا و سادتنا،و من أخذ علينا حجّتهم و موالاتهم و التّقرّب إلى اللّه سبحانه في إعظامهم و إجلالهم و حسن الثّناء عليهم،فكيف نكذّب قوما هذا قدرهم عندنا و في أنفسنا.
فأمّا تقريعكم لنا بقولنا الأخبار عن الزهريّ و معمر و سعيد بن المسيّب و مالك و سفيان و من جزى مجراهم،فإنّه أيضا جهل منكم،لأنّ هؤلاء أعلام و أئمّة في حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و الحفظ له و الإحاطة به،و نفي الكذب عنه،و لكلّ رجل منهم من الفضائل و الأفعال و الأقوال الدالّة على توخّي الصّدق و شدّة التّحرّي في الحديث و الامتناع من الأخذ عن الضّعفاء
ص: 511
و من ليس الحديث من شأنه ما يطول تتبّعه،و أعجب من هذا كله دعيتكم عن روايات هذه الطّبقة و الرّجوع إلينا مع الظاهر من عدالتها و تشددها و المشهور من أمرها و تعويلكم في أخذ أديانكم على هشام بن الحكم،و عليّ بن الميثم،و شيطان الطاق،و يونس بن عبد الرحمن القمّي،و السّيد الحميري، و دعبل بن عليّ الخزاعي،و أبي عيسى الورّاق،و ابن الرّاوندي،و انحطاطكم إلى السوسي،و العوني،و الناشي،و أمثال هذه الطبقة،و أخذهم الحديث عن أبي مخنف،و أمثاله من شيوخ أهل الكوفة لا حاجة بنا إلى ذكرهم مع العلم بسوء مذاهبهم و قبح طرائقهم،و ما ظهر منهم مما لا حاجة بنا إلى ذكره،و لو لا أنكم فتحتم هذا الباب لم يكن لذكرنا له وجه،و لكنكم تتروحون إلى هذه التّرّهات عند ضيق العطن و صعوبة المخرج،و لا بدّ من جوابكم عنه و رفع إلباسكم،فلا معنى إذا كان الأمر على ما وصفناه لقولكم لنا في جميع ما يروونه لكم أنه من وضع أبي هريرة و شيعة بني مروان،و أنتم أعداء أهل البيت،فإن جوابه ما عرفتم،و أنفع من هذا السكوت عنكم عند لجائكم إلى مثل هذا و الإعراض عن كلامكم في مجالس التحصيل،و حيث يؤمن اغترار العامة بهذه الشّنعة التي لا محصول لها و لا يحسن لمن له أدنى/ مسكة في العلم الاعتصام بها و الاستناد إليها،نعوذ باللّه من التمادي في الأباطيل و التعلّق بالأضاليل.
ص: 512
و وقوع الغلط و التّحريف فيه
قالوا:و ممّا يدلّ على تغيير القوم للقرآن و إفسادهم تأليفه و نظمه و جهلهم بترتيبه و تصدّي بعضهم إلى الإفساد و العناد في ذلك،اتفاقنا جميعا على أنّ القرآن نزل مرتّبا و مكّيا أولا ثمّ مدنيّا،و إنّ النّاسخ منه نزل بعد المنسوخ،و المنسوخ في الرّتبة و التنزيل قبله،و إنّ القرآن أولا نزل لم ينزل قبله شيء منه،و إذا ختم به لم ينزل بعده شيء منه،و إنّ أبا بكر و عمر و عثمان و من اتّفق معهم على تأليف القرآن خلطوا في هذا الباب فقدّموا المدنيّ على المكيّ في التأليف،و اللّه تعالى قد رتّبه بعده،و جعلوا النّاسخ باتفاق في كثير من المواضع قبل المنسوخ به،و اللّه سبحانه قد أخبره عنه و أنزله بعده،و لم يبتدءوا في المصحف بما ابتدأ اللّه سبحانه بإنزاله و لا جعلوا آخره ما ختمه به،و قد كان من حقّهم و الواجب عليهم أن يرتّبوه كما رتّبه تعالى في التنزيل و التقديم و التأخير،و لمّا لم يفعلوا ذلك دلّ ما صنعوه على جهلهم بتأليفه أو قصدهم إلى التخليط و العناد بإفساده و تأخير ما قدّمه اللّه و تقديم ما أخّره.
فيقال لهم:أمّا قولكم إنّ اللّه تعالى أنزل المكيّ قبل المدنيّ(و المنسوخ قبل الناسخ) (1)،و أنزل من القرآن أولا لا شيء قبله و أخّر منه لا شيء بعده فصحيح لا خلاف فيه بيننا و بينكم،و أمّا قولكم إنّه سبحانه و رسوله صلّى اللّه عليه كذلك رتّباه في النّظم و التأليف فدعوى مجردة تعلمون يقينا أنّنا و جميع
ص: 513
فرق الأمّة و معظم الشّيعة المخالفين لكم في هذا الباب و المقرّين معنا بسلامة هذا المصحف من التحريف و التغيير و النّقصان نخالفكم فيها،و ننسبكم نحن و جميع من وافقكم إلى الكذب في ادّعائها،فما الدليل إذا كان ذلك كذلك على صحّة قولكم إنّ اللّه تعالى/و رسوله رتّباه و ألّفاه على سبيل ما أنزل عليه في التقديم و التأخير،و خبّرونا عنكم باضطرار (1)تعلمون صحّة هذه الدعوى أم بحجّة و دليل؟.
فإن قالوا:باضطرار،عرفنا ذلك،عارضناكم بأنّنا مضطرون إلى العلم بأنّ الأمر على خلاف ما ادّعيتموه،و أنّهم يكذبون في هذه الدعوى،و أنّ اللّه تعالى أمر بتأليف القرآن و نظمه إذ ذاك على ما جمعه أبو بكر و عثمان و جماعة الأمّة،و هذه الدعوى أحقّ و أولى لأنّ نقل الكافّة وارد بها و ناطق بصحّتها و دعواهم فارغة لا حجّة معها و لا فصل في ذلك.
فإن قالوا:إنّما علمنا أنّ اللّه سبحانه ألّف القرآن على حسب ما نزّل و قدّمه في التنزيل و أخّره بنقل من قال بهذا المذهب من الشّيعة عن الأئمّة عليهم السّلام.
قيل لهم:قد مضى جواب هذا فيما سلف بما يغني عن إعادته،و جملته أنّنا لا نعلم صحّة هذا النّقل بل نعتقد بطلانه و نعرف بحرص ناقله،فإن كنتم تعلمون صدق من نقل ذلكم إليكم من الشّيعة ضرورة،فلسنا نضطر إلى ذلك،و إن كنتم تعلمون صدقهم بدليل فما الدليل عليه.
فإن قالوا:الدليل على ذلك كثرة نقلة هذا الخبر من الشّيعة و امتناع الكذب عليهم.).
ص: 514
قيل:لو كان الأمر على ما ذكرتم،و كان أوّل خبرهم كآخره و وسطه كطرفيه لوجبت الضرورة إلى صدقهم،و إذا لم يكن ذلك كذلك بطلت أيضا هذه الدّعوى،ثمّ يقال لهم:فقد نقل سائر من خالفكم من جميع فرق الأمّة و الدّهماء من الشّيعة خاصة،أنّ اللّه تعالى و رسوله ألقى القرآن على ما هو عليه في مصحفنا و رتّبناه كذلك،و فرق منهم أكثر منكم عددا و أصحّ سندا و أثبت رجالا و أوثق و أعدل من سائر من تروونه عنه،بل مخالفوكم الشّيعة فقط في هذا المذهب أكثر عددا منكم و أوثق و أقرب إلى الحقّ منكم و أشدّ أنفة من احتمال عار الكذب و البهتان من سائركم،فيجب إذا كان ذلك كذلك تصديق جميع مخالفيكم في نقلهم لتأليف القرآن و نظمه على ما هو به عن الرّسول،و لا جواب/عن ذلك.
و إن هم قالوا:لسنا نستدل على أنّ اللّه جلّ و عزّ رتّب المكيّ قبل المدنيّ،و المنسوخ قبل الناسخ،و الأول منه قبل آخره بالرواية و نقل الشّيعة أو غيرهم إذا تعلّقنا بهذه الطّريقة،بل إنّما نستدلّ على ذلك بأنّ اللّه سبحانه لمّا أنزل المكيّ قبل المدنيّ،و المنسوخ قبل الناسخ،و الأول منه قبل آخرة، وجب أن يرتّبه اللّه تعالى في التأليف و الجمع على ما أنزله عليه،و أن يأمرهم بتقديم ما تقدّم إنزاله في الرّسم،و تأخير ما أخّر إنزاله عن المقدّم.
قيل لهم:هذا أيضا هو نفس دعواكم،فما الحجّة عليها و ما الدليل على صحّتها،فإنّنا قد علمنا أنّ اللّه سبحانه أنزل المكيّ قبل المدنيّ(و الناسخ قبل المنسوخ) (1)و لسنا نعلم مع ذلك أنّه يجب أن يرتّبه في الرّسم و التّلاوة على ما أنزله،فما وجه الدّليل بما وصفتم،خبّرونا أ باضطرار تعلمون وجوب.
ص: 515
تأليف اللّه سبحانه له و جمعه إيّاه في الرّسم و التّلاوة على حسب ما أنزله عليه أم بدليل.
فإن قالوا:باضطرار تعلم وجوب جمعه و تأليفه على وجه نزوله،بهتوا، و قيل لهم:نحن نعلم باضطرار كذبكم في هذه الدعوى و أنّه لا يجب ما وصفتم.
و إن قالوا:بدليل علمنا ذلك،قيل لهم:و ما هو،و قد كان يجب أن تذكروه مع ذكر تنزيله إذ كان مجرد التنزيل لا يدلّ على وجوب الترتيب.
فإن قالوا:الدليل على ذلك أنّ اللّه جلّ و عزّ لم يقدّم ذكر بعضه على بعض في التنزيل إلاّ لاستصلاح عباده بذلك،و علمه بكونه لطفا لهم و أدعى الأمور إلى صلاح دينهم و دنياهم،و إذا كان ذلك كذلك وجب أيضا أن يكون أصلح الأمور لهم بتقديم ما أنزل أوّلا في الرّسم و التّأليف و التّلاوة على ما أنزل أخيرا.
يقال لهم:أنتم تعلمون أنّكم تخالفون في وجوب فعل اللّطف و الأصلح على اللّه سبحانه،و أنّنا و سائر أهل الحقّ ننكر أن يكون اللّه سبحانه أنزل كتابه أو فعل شيئا أو يفعل شيئا في المستقبل لعلّة من العلل و سبب من الأسباب هو الاستصلاح أو/غيره،فلو ضايقناكم في هذا الباب لاشتدّ الأمر بكم و طال تعبكم و احتجتم إلى الخروج عن الكلام في نظم القرآن إلى الكلام في الأصلح و التعديل و التجويز،غير أنّنا نسلّم ذلك لكم قودا و نظرا،و نبيّن لكم أنّه لا يجب مع ذلك ما ادّعيتم.
و يقال لهم:قد سلّمنا لكم أنّ اللّه تعالى ما أنزله مقدّما و مؤخّرا إلاّ لعلمه بتعلّق صلاح عباده بإنزاله كذلك،فلم زعمتم أيضا أنّه لا بدّ أن يعلم أنّ
ص: 516
مصلحة عباده متعلقة بتأليفه و نظمه في الرّسم و التّلاوة على حسب ما أنزله، و ما الحجّة في ذلك،و باضطرار تعلمون أنّ المصلحة إذا تعلّقت بإبراء له كذلك وجب أن يتعلّق بنظمه و تأليفه كذلك أم بدليل.
فإن قالوا:باضطرار،ظهر أمرهم و بان بهتهم و عجزهم.
و إن قالوا:بدليل،سألناهم عنه،و لن يجدوا إلى ذكر شيء سبيلا،لأنّ ذلك ليس من موجبات العقول،و إنّما هو بحسب ما نعلم من تعلّق مصالح المكلّفين.
ثم يقال لهم:ما المانع من أن يكون اللّه سبحانه قد علم أنّ مصلحة عباده متعلقة بتقديم بعض المدنيّ على المكيّ أو جمعه في الرّسم و التّأليف و التّلاوة،و تقديم التّأليف النّاسخ كلّه قبل المنسوخ أو بعضه،و أنّ نظمه و تأليفه على غير هذا الوجه،و أخذهم بتلاوته كذلك مفسدة لهم و لطف في عصيانهم و خلافهم و عدولهم عن الحقّ و العمل به و التّصديق لمورده،فإن حاولوا ذكر حجّة في هذا الباب،لم يجدوها،و إن مرّوا على إجازة ما سألناهم عنه أبطلوا دليلهم بطلانا ظاهرا.
و إن قالوا:إذا علم أنّ تلاوتهم لما أنزله أوّلا حين أنزله كانت أصلح لهم في الوقت من تلاوة ما أخّر إنزاله عنه،وجب أن يعلم أنّ هذا حالهم في تلاوته في سائر الأوقات.
قيل لهم:هذه نفس دعواكم و فيها اختصمنا،فما الدليل على صحتها، و ما المانع من أن يعلم اللّه سبحانه أنّ تلاوتهم للنّاسخ و المنسوخ و المكيّ حين أنزله أصلح من تلاوتهم النّاسخ في ذلك الوقت،و أن يعلم أنّ تلاوتهم في غير ذلك الوقت،و في جميع/ما بعده من الأوقات للنّاسخ قبل المنسوخ و المدنيّ قبل المكيّ من أصلح الأمور لهم،فهل تجدون إلى دفع هذا سبيلا.
ص: 517
و إن هم قالوا:إنّما وجب أن يكون تأليف المنسوخ قبل النّاسخ، و المكيّ قبل المدنيّ،لأنّه لو لم يفعل ذلك لظنّ سامع المدنيّ قبل المكيّ، و سامع النّاسخ قبل المنسوخ و المشاهد لهما مكتوبين كذلك أنّهما كذلك رتّبا في التنزيل،و أنّ اعتقاد هذا جهل،و اللّه تعالى لا يفعل ما يدعوا إلى فعل الجهل،و يكون شبهة في جواز اعتقاده.
يقال لهم:و لم قلتم إنّ سامعه مفردا كذلك ورائيه مكتوبا كذلك يجب أن يعتقد أنّه كذلك إنزاله قبل أن يسأل عن وقت التّنزيل،و يعرف التّاريخ، بل ما أنكرتم أن يكون الواجب عليه في الجملة إذا عرف أنّ إحدى الآيتين منسوخة و الأخرى ناسخة أن يعلم أنّ النّاسخ نزل بعد المنسوخ و أن ترتيب تلاوته بعده،لأنّ ذلك مما لا شبهة فيه على عاقل،و لن يجوز في المكيّ و المدنيّ إذا سمع المدنيّ قبل المكيّ و لم يعرف أيّهما المكيّ من المدنيّ أنّ هذا أنزل أوّلا بدل الآخر،و أن يكون الآخر قدّم عليه،لأنّ ذلك غير مستحيل في العقل و إن رتّب في التّلاوة على ما هو به،فلم قلتم إنّ الواجب التّسرّع إلى اعتقاد تنزيله على حسب تلاوته،و تأليفه.
فإن قالوا:لسنا نقول إنّ ذلك واجب على العقلاء إذا سمعوه،و لكنه ممّا يجوز أن يظهر و يتوهّم فيجب نفي هذا الظنّ.
يقال لهم:و لم إذا علم تعالى جواز توهّم هذا ممن قلّ ضبطه و تحصيله أن لا يؤلّفه و يجمعه كذلك إذا علم أنّ مصلحة عباده متعلقة بنظمه كذلك، و ما أنكرتم من أنّه لا يجوز ما وصفتم إنزال شيء من المحتمل المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلاّ اللّه و الرّاسخون في العلم،لأنّه قد يظنّ ظانّ أنّ المراد به غير ما قصده اللّه و أراده،فيجهل بذلك و يعتقد فيه غير معناه،و قد قال اللّه تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ [آل عمران:7]،
ص: 518
فيجب على اعتلالكم أن لا ينزّل/متشابها و مجملا و محتملا،و قوله: يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ [فاطر:8]،و قوله: وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ [الأعراف:179]،و قوله:
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ(22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة:22-23]،و قوله: وَ اللّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ [الصافات:96]،و قوله: وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا [عبس:31]،و أمثال هذا قد تعلّق به عندكم المبطلون،و احتجّ بكثير منه الملحدون،فإن مرّوا على ذلك جحدوا التنزيل،و دفعوا قوله: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [آل عمران:7]،و كفينا بالتّسرع إلى ركوب هذا مئونة كلامهم،و إن أجازوه مع علم اللّه سبحانه بأنّه سيفسد و يضل عند ذلك الملحدين في آياته تركوا اعتلالهم،فليس مع العلم بذلك بطريق لأهل الزّيغ و الجهل إلى التّعلّق بالمتشابه و اعتقاد غير مراده به،و إذا كان ذلك كذلك تركوا أيضا اعتلالهم تركا ظاهرا.
و إن قالوا:قد نصّب اللّه و أوضح الأدلّة على مراده بالمجمل و المتشابه المحتمل،فلم يضر إنزاله كذلك.
قيل لهم:و كذلك قد نصّب اللّه و أوضح الأدلّة،و بيّن البراهين على تقديم ما قدّمه في التنزيل،و تأخير ما أخّره،و حفظه على العباد ذلك بنقل من نقله،و حفظ من حفظه و ضبطه و عمل المكيّ و المدنيّ و النّاسخ و المنسوخ، و ذكر أوقاته و أسبابه و أيّامه و ساعاته و أجهد نفسه في ذلك،و لم يخلّ بشيء منه،فلم يضرّ مع ذلك تقديم المدنيّ على المكيّ،و النّاسخ على المنسوخ في الرسم و التّأليف و التّلاوة،و هذا ممّا لا جواب لهم عنه.
و يقال لهم أيضا:و ما قدر المآثم و العصيان في اعتقاد إنزال اللّه المدنيّ على المكيّ إذا صدّق المرء بجميعه و آمن به،حتى لا يجوز أن يفعل اللّه سبحانه ما يكون شبهة في هذا الباب،و هو قد أنزل المتشابه الذي يعلم أنّه
ص: 519
يضلّ عند إنزاله الزائغون،و يتعلق به الملحدون لو لا النّقص و إيثار العنت، و من احتجّ بهذا الاحتجاج من اليهود و النّصارى في تخليط الرّسول في كتابنا الذي ادّعى إنزاله عليه من قبل اللّه سبحانه،و أنّه لمّا لم يفتتح رسمه و تلاوته بأول ما ادّعي أنّ اللّه/سبحانه أنزله،علم أنّه ليس من عند اللّه،كان الجواب له ما أجبنا الرّافضة به،فإنّه بأسره كأسره لتوهّمهم.
ثم يقال لهم:لو كان ما قلتموه واجبا،لوجب الحكم بتخليط موسى و عيسى في دعواهما نزول التّوراة و الإنجيل عليهما،و تخليط قومهما أيضا، لأنّ النّصارى متفقون على أنّه ليس أوّل المرسوم في الإنجيل هو أوّل ما أنزله اللّه تعالى منه،و أكثر الأناجيل التي معهم أوّلها ليس من كلام اللّه جملة، و إنّما هي كلام عيسى،و وصف نفسه و سيرته،و ذكر تلامذته و دعوته،و أول التّوراة عند اليهود في التّلاوة و الرّسم هو غير ما أنزل على موسى أولا و خوطب به،لأنّ أوّل ما أنزل عليه و هو عندهم في التوراة: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً [طه:12]،و ليس هذا أوّل التوراة فوجب بذلك القدح في كتابهم،و إن لم يجب هذا سقط ما تعلّقوا به،و هم أوّل من سبق إلى الاحتجاج في الطّعن على القرآن بهذا الضّرب،فظنّ بعض الرّافضة أنّه حجّة فيما قال أو شبهة ينال بها باطلا و أنّى لهم بذلك.
ص: 520
و تحريف السّلف له
و استدلّوا على ذلك بأن قالوا:وجدنا فيه كتابة لا معنى لها،و لا يجوز أن يستعملها إلاّ من يخاف المداراة أو يحتاج إلى التّورية و المداجاة،و اللّه تعالى يجلّ عن ذلك،و قد وجدنا في المصحف: لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً [الفرقان:28]،قالوا:و هذا لا معنى له،و لا وجد من ربّ العالمين،و قد روّينا عن الأئمّة و السّلف من شيعة أمير المؤمنين عليه السّلام:أنّ فلانا هذا الذي كنّا القوم عن ذكره،كان رجلا معيّنا مسمّى في نفس التنزيل باسمه المشهور،فحذف القوم ذكره،و اتّبعهم النّواصب على ذلك و جعلوا مكانه فلانا،قالوا:و كان هذا الرّجل عمر بن الخطاب،قالوا و قوله: وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظّالِمُ عَلى يَدَيْهِ [الفرقان:27]،قالوا:يعني أبا بكر يقول:يا ليتني لم أتّخذ فلانا خليلا،يعني عمر،و إنّما قال:ليتني لم أتخذ عمر خليلا/لقد أضلّني عن الذّكر بعد إذ جاءني،يعني أنّ عمر أضلّه عن اتّباع عليّ و تسليم الأمر إليه،و الانقياد له فندم،-زعموا-على أن لم يؤمن بالرّسول و لم يتّخذ معه سبيل هدى و حقّ،و تندّم على اتّخاذه عمر خليلا،و طاعته في غصب عليّ الأمر،قالوا:و إلا فلا معنى للكتابة ممن لا يخاف الاستضرار و لا يتّقي شرّ العباد.
فيقال لهم:ليس العجب ممّن يضع منكم هذه التّرهات و الخرافات إذا كان إنّما يضعها على علم منه بتكذيبه و تجاهله،إمّا لكونه ملحدا خليعا متلاعبا بالدّين و قاصدا بما يصنعه من ذلك الغضّ من سلف المسلمين،
ص: 521
و القدح في الدّين و في رسول ربّ العالمين المختصّ بأبي بكر و عمر و المادح لهما و المحسن للثّناء عليهما،أو متكسّب متأكّل بما يظهره من ذلك مع خلوّ قلبه من اعتقاده و خوف سخط اللّه تعالى و تعجيل العقاب و النكال له بما يصنعه و يفتريه،و إنّما العجب من العامّة و الرّعاع منكم الّذين يتسرّعون إلى تصديق هذا التّأويل و يقدمون على البراءة من أبي بكر و عمر لأجله، و فيهم من يفسّر للعامّة كلّ آية نزلت في الظالمين و المشركين و الفاسقين في أبي بكر و عمر و جماعة الصّحابة سوى نفر(تستثنونهم) (1)فيتسرّعون إلى قبول ذلك،و ينصتون إليه إنصات واثق به و ثلج الصّدور بما قيل فيه.
و هذا من جنس تفسير من قال:إنّ الخمر و الميسر و الجبت و الطاغوت هما أبو بكر و عمر،و أنّ الصّلاة و الصّيام و الحجّ رجال،و أنّ الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رجال أمرنا بموالاة بعضهم و البراءة من بعضهم،أو أنّهما أسماء أفعال ممدوحة و مذمومة،و أنّ الطّلاق و النّكاح ليس هما الفرقة و العقد،و هل بين هذا التّفسير الذي ارتضوه لأنفسهم و بين تفسير الإسماعيليّة و الغلاة فرق،و هل هم في ذلك إلاّ بمثابة من قال:إنّ محمد بن إسماعيل القائم المنتظر العالم بما ظهر و بطن،قد فسّر الصّلاة المذكورة في الكتاب بأنّها هي الإمام نفسه،و أنّ/إقامتها هي لزوم طاعته و الانقياد له،و استدلّ على ذلك بقوله: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ [العنكبوت:
45]،و الصّلاة-زعموا-لا تنهى عن الفحشاء،و إنّما الإمام هو الآمر بالمعروف و النّاهي عن المنكر،و أنّ الصّوم إنّما هو الإمساك عن ذكر علم الباطن و إظهاره فقط،فمن فعل ذلك فقد صام،و لا يجب عليه غير ذلك، و أنّ الفطر هو ما أطلع الأساس جميع الأئمّة الستّة عليه من أولاده من علوم.
ص: 522
الباطن فقط،و أنّ الزّكاة إنّما هي كناية عن الإقرار بخمسة روحانية و هو:
الأساس،و المقيم و هو التّالي،و اللاّحق و اليد و الجناح،الذين عنهم يؤخذ علوم الباطن،و منهم إله،و منهم نبيّ،و منهم إمام،و منهم جناح،و منهم ناطق داع مأذون في الدّعوة.
و أنّ الحجّ إنّما هو علامة على محمد صلّى اللّه عليه و بابه عليّ،و المنازل دليل الدّعاة حالا بعد حال إلى حين الرّجوع إلى العلم،و أنّ الإحرام إنّما هو تحريم النّطق بغير باطن الشّريعة فقط،و أنّ تحريم الطيب و النّساء إنّما هو تحريم النّطق بما عرفه المبيّن له الحق،و إن كان حقّا و طيّبا حتى يأذن له من فوقه فيصير عند ذلك مأذونا له،و أنّ معنى تحريم الصّيد،إنّما هو تحريم دعاء المخالف لحقّهم و قولهم إلا بعد إذن من الإمام،و أنّ معنى الطواف سبعا،إنّما هو محمد و السّبعة أئمّة من ولده،و أنّ الميقات اسم أساس الدّعوة،و التّلبية إنّما هي اسم إجابة المدعوّ إلى الحقّ بالقبول،و نزع الثّياب خلع ما خالف دينهم،و رفضه فقط،و أنّ الاغتسال المراد به غسل القلب من الدّنس،و أنّ حلق الرأس اسم لرمي ما علن من النّاس،و ظهر من الشرائع و ترك العمل بها فقط،و معنى لبس الثّوبين الجديدين،إنّما هو الإقرار بمحمد و عليّ و النّاطقين و الأسّين.
و أنّ الوضوء إنّما هو اسم أخذ العهد على الدّاخل في دعوتهم فقط، و كلّ من لم يدخل في العهد لم يكن في الدّعوة،كما أنّ من لم يتوضأ لم يدخل في الصّلاة،و أنّ معنى النّكاح المذكور في كتاب اللّه إنّما هو العهد الذي يأخذه المأذون له في/الدّعوة،و أنّ معنى الجماع إنّما هو تعليم الدّاعي للمدعوّ علم الباطن،و أنّ معنى الحمل المذكور في الكتاب أنّه حفظ علم الباطن و الفهم عن المأذون له،و معنى أنّه لا يحلّ للمرأة أكثر من زوج
ص: 523
واحد،أنّه لا يحلّ لأحد من المستجيبة أن يأخذ هذا العلم و يتلقّنه إلاّ ممّن أخذ عليه العهد فقط،و أنّ معنى الطّلاق أنّه مفارقة من أخذ عليه العهد بما حلف عليه،و إفشاءه السرّ للنّاس و إظهاره،و معنى أنّه لا يحلّ نكاح المطلّقة ثلاثا إلاّ بعد زوج ثاني،أنّ مظهر السرّ لا يعلّم،و يلقّن حتى يؤدي ما التمس منه الحجّة ثمّ يؤخذ عليه العهد ثانيا،و أنّ معنى تحريم الزّنا المحرّم في التنزيل أنّه كلام مأذون له،أعني لرجل أخذ عليه العهد،و كلّمه مأذون أخر، فالمأذون الثّاني الداخل على الأوّل هو الزاني لكلامه لزوجة المأذون الأوّل، و الزوجة اسم المتعلّم،و معنى الزوج أنّه المعلّم و أنّ عليّ بن أبي طالب كان عندهم زوجة للنبيّ،ثمّ صار لاحقا و إماما،و أنّ معنى اللّواط أنّه كلام المأذون له في الدّعوة لمن لا يؤنس منه،و إذا فعل ذلك فقد لاط و بطلت نطفته،و أنّ معنى السرقة المحرّمة هو أن يتسمّع متسمّع كلامهم ثم يفشيه و يظهره،و أنّ هذه الشرائع و الأسماء إنّما جعلت دلائل على هذه الحقائق و وسيلة إليها،فإذا عرفها الإنسان سقطت عنه الفرائض و زال عنه التكليف، و صار روحانيا ربّانيا إذا ترقّى في علم الباطن رتبة بعد رتبة حتى يصير لاحقا و جناحا و يدا بعد أن كان داعيا و مأذونا.
و قالت الإسماعيليّة:إنّ الكناية في قوله تعالى: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ(1) اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ،و قوله: اُدْعُوا اللّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ [الإسراء:110]،و اُدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً [الأعراف:55]، و قوله: فَادْعُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [غافر:14]،كلّه يدلّ على أنّ اللّه سبحانه ليس هو منزّل القرآن،لأنّ الذي هو عندنا اللّه عزّ و جلّ الواحد القديم،لم ينزّل القرآن عندكم،و لا خلق العالم،و أنّه لم يخلق إلاّ الأوّل فقط و هو العقل/عندهم،و يولد من العقل الرّوحانيّ،و هو الثّاني عندهم و هو
ص: 524
الخالق للعالم،و منزّل القرآن،و لو كان الواحد القديم هو منزّل لم يكن للكناية معنى،و لوجب أن يقول بسمي بدل بسم اللّه،و أن يقول ادعوني بدلا من قوله ادعوا اللّه،أو ادعوا الرحمن،و من قوله ادعوا ربّكم،و أن يقول ادعوني بدلا من قوله ادعوا اللّه مخلصين،لأنّه-زعموا-لا وجه و لا معنى للكناية عن نفسه في هذه المواضع لو كان هو منزّل القرآن،و المتعبّد به إذ كان لا يخاف و لا يذهب و لا يبقي ضرر أحد،و هذا بعينه هو الذي قالته الرّافضة، و عملت عليه في تأويل قوله: لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً [الفرقان:28]،و أنّه لا معنى للكناية هاهنا بذكر فلان،و كذلك قالت الإسماعيليّة:إنّ جميع هذه الكنايات في قوله:ادعوا اللّه،و ادعوا ربّكم،و ادعوا اللّه مخلصين، و الحمد للّه،و لم يقل لي و لا لنفسي،دليل على أنّ القرآن من عند الرّوحانيّ الذي أحدث العالم و خلقه،و أنّه ليس من عند الباري القديم،و أنّ هذا الروحانيّ المتولّد عن العقل هو الذي فهّم الرّسول هذا القرآن و صوّره في قلبه،فاتّحد به،و هو معنى الوحي،و معنى جبريل و الروح الأمين أنّه يصوّر المعاني في قلب الرّسول بتفهيم الرّوحانيّ له و تصويرها في قلبه عبّر عنها الرّسول باللّفظ العربيّ و الكلام للرسول،و معانيه المتصوّرة في قلبه للثاني الروحانيّ المتولّد عن العقل الأوّل الذي خلقه القديم الأزليّ الذي هو عند المسلمين باعث الرّسل و منزّل الفرائض و الكتب و خالق السموات و الأرض.
و لو لا خوف الإطالة و خروج الكلام عن غرض الكتاب،لذكرنا من جنس التفاسير عن الرّافضة و الإسماعيليّة و أشياعهم من الطاعنين على الشّريعة ما فيه أعجوبة للمتأمّلين و أوضح دلالة على تمام نعمة اللّه علينا و على المؤمنين بتوفيقه للتمسّك بالدّين،و لزوم سنن المؤمنين،و العدول/ عن التورّط في الجهل و الأضاليل.
ص: 525
فيقال للرّافضة-لعنهم اللّه-:إن وجب علينا قبول تفسيركم هذه الكناية على ما ذهبتم إليه لاجتهاداتكم إلى ذلك،أو روايتكم له خلف عن سلف عن الأئمّة و العترة من أهل البيت،وجب لمثل ذلك قبول هذه التفاسير بأسرها في الكناية عن أسماء اللّه،و في جميع أسماء الشّرائع و العبادات، لأنّهم جميعا يروون ذلك خلف عن سلف عن عليّ عليه السّلام و الأئمّة من ولده،و عن محمد بن إسماعيل قيّم الزمان،و يبدّلون عليه العهود و الأيمان و يكذّبون كلّ من أنكر أن يكون ما قالوا مذهب عليّ عليه السّلام و الأئمّة من ولده،و هو عند كثير من النّاس أحسن و ألطف من تأويلات الإماميّة،فهل بينكم و بينهم في ذلك من فضل و كلّكم تروون ذلك عن الأئمّة،و و اللّه المستعان،و إليه سبحانه الرّغبة في تعجيل النّكال و الانتقام ممّن حاول إبطال الدّين،و القدح في التنزيل،و تحريف التأويل،إنّه سميع قريب مجيب.
ثم يقال لهم:ليس الأمر على ما ادّعيتموه من أنّ اللّه سبحانه لا يجوز أن يكنّى عن اسم أحد و يعرّض بذكره من غير تصريح،و أنّ ذلك لا يفعله إلاّ من يحتاج إلى المداراة و المداجاة،لأنّ استعمال الكناية و التعريض مذهب العرب في كلامها معروف مشهور،و كذلك يقولون:ربّ إشارة هي أفصح من عبارة،و تعريض أبلغ من تصريح،و قد يقول الرّجل لمن يكذّبه و يخالفه و يباهله عند الردّ عليه،و التكذيب له:إنّ أحدنا لكاذب،و إنّ أحدنا لخائن و جبان،و إنّ أحدنا لجاهل غبيّ،و يقيم هذه الكناية مقام قوله لخصمه و مخالفه:أنت كاذب و جبان و جاهل،و ربّما كان هذا التّعريض أبلغ من التصريح و أبدع و أنكى للقلب و أبلغ في الردّ،و هو مع ذلك أحسن في اللّفظ،و أجدر أن ينسب صاحبه إلى الوقارة و العقل و التوصّل إلى غاية غرضه بغير المستهجن من اللّفظ،و قد أطلقه/اللّه سبحانه و أجازه في خطبة
ص: 526
النّساء في عدّتهنّ،فقال تعالى: وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ [البقرة:235]،و حظر سبحانه التّصريح بذلك، و قال أهل العلم:أنّ الكناية عن ذكر التزويج و الخطبة،أن يقول الرّجل للمرأة:إنّ النّساء لمن حاجتي و إنّي فيك لراغب و عليك لحريص،و لعلّ اللّه أن يرزقك بعلا صالحا،و و اللّه إنّك لجميلة،و نحو هذا من الكلام.
و قد ورد القرآن بالكناية و التعريض في مواضع على وجوه مختلفة منها قوله: وَ هَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ [ص:21]إلى آخر القصّة، فكنّى عن ذكر الملكين المتسوّرين،و قد كان يجوز أن يذكرهما و يسميهما، و لم يعدل عن ذلك لحاجة إلى مداجاة و خوف من سطوة و مبادأة.
و كذلك قوله تعالى: إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً وَ لِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَ عَزَّنِي فِي الْخِطابِ [ص:23]،فكنّى عن ذكر النّساء بذكر النّعاج،و لم يأمر اللّه سبحانه الملكين بهذه الكناية لخوف سطوة و دفع بليّة،و لو تتبّع هذا لكثر و طال.
و إذا كان ذلك كذلك،و كان اللّه تعالى قد أراد بقوله: لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً ،الإخبار عن كلّ من أطمع في معصيته اللّه،و أراد بذكر الظالم كلّ ظالم و عادل عمّا وجب عليه،كنّى عنهم بذكر فلان،و لو جعل مكان هذه الكناية تفصيل أسمائهم لطال ذلك و كثر و استهجن و مجّته القلوب و الأسماع، و لخرج بذلك عن مذهب العرب،و طريقة سائر النّاس في الكلام،لأنّه كان يجب أن يقول: وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظّالِمُ عَلى يَدَيْهِ فرعون و قارون و هامان،و أبو لهب و أبو جهل بن هشام،و عتبة و شيبة و الوليد،و هذا من الطول و الغثاثة من مستعمله بحيث لا خفاء على أحد به،و هو مع ذلك قاصر للكلام عن تناوله لكل من قصد به من الظالمين و المطاعن في معصيته اللّه،لأنّه لو سمّى
ص: 527
ألفا أو مائة ألف خرج الكلام بصريح التّشبيه لمن سمّاه عن تناول من تقدّم من الظالمين قبل نزول القرآن و من/يتأخّر منهم عن وقت نزوله،و يوجد في المستقبل،و اللّه سبحانه باتّفاق الأمّة إنّما قصد بهذا الكلام تحذير جميع المكلّفين من الظّلم،و من اتّخاذ خليل يطاع في معصية اللّه جلّ و عزّ،فكانت الكناية عنهم بذكر الظالم الذي هو للجنس إذا لم يكن للعهد،و التعريف عند كثير من النّاس أولى و أجدر،و بذكر فلان عن كل من أطيع في معصية اللّه أولى من تعديد قوم منهم بأسمائهم و التّصريح بذكرهم على وجه يوجب قصره عليهم فقط،فإذا كان ذلك كذلك بطل ما أصّلتموه.
و يمكن أيضا أن يكون اللّه سبحانه إنّما قصر بذلك لفلان و بهذه الكناية قادة أهل الكفر و الشّرك،و أكابر الظّلمة و أئمّة أهل الضّلال و الظلم و العدوان، فكنّى عنهم بذكر فلان،لأنّ العرب تقول:ما جاءك اليوم إلاّ فلان بن فلان، يعنون بذلك الأكابر و الأماثل المعروفين و المشهورين من النّاس،و الشاعر يقول:أمسك فلان عن قيل،يعني عن فلان يريد في عظم الأمر و تزايد الشّدة في الحرب أو في الخطابة و الكلام و المفاخرة،و ليس يريد بقوله أمسك فلان عن فلان برجلين قط بأعيانهما.
و من هذا الباب أيضا قوله: وَ يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً [النبأ:40]، و إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:2]،و إنّما أراد به سائر الكفرة و النّاس إلاّ من استثناه منهم بصفته،و في بعض ما ذكرناه دليل على فساد ما ظنّوه في هذا الباب،و ليس هذا القدح و الاحتجاج من استخراج من قال به الرّافضة، بل هو ما سبق إلى الطّعن و القدح في القرآن به الملحدون،و قالوا:إنّ الكناية و التعريض إنّما يستعمله الخائف المداجي،و ليس هذه صفة منزلة للّه عند الموحّدين،فظنّت الرّافضة أنّ لهم في هذا شبهة و متعلّقا.
ص: 528
ثم يقال لهم:لو سلّم لكم أنّ الكناية لا يستعملها إلاّ من ذكرتم حاله من الخائفين،و أنّه يجب في حكم اللّغة أن يكون في موضع فلان هذا رجلا مذكورا باسمه و عينه،لم يدلّ ذلك على أنّه يجب أن يكون هو عمر بن الخطاب،/و أن يكون الظالم هو أبو بكر،و الذّكر هو عليّ بن أبي طالب، و لم تكونوا بتأويلكم هذا أولى ممّن تأوّله من الخوارج في ضدّ تأويلكم، و زعم أنّ فلانا هذا هو مالك الأشتر،و أن الذّكر الذي ضلّ عنه هو عبد اللّه ابن وهب الراسبي،أو يزيد بن حصين الفزاريّ،و أنّ الظالم هو محارب هؤلاء القوم،و عمل لذلك إسنادا و طرقا من الحديث عن عمران بن حطان و قطريّ بن الفجاءة و أبي مالك الخارجيّ و غيرهم من أئمّة الضّلال،و ادّعى صحّة نقله لما نقله و حصول العلم به،و لو خفتم مجاهرة مناظركم على ما توردونه من هذه الجهالات بمثل هذه المقابلة لقلّة دعاويكم و قصرت ألسنتكم،و قلّ تبسّطكم في شتم الصّحابة،و قذفهم بكلّ كفر و ضلال، و لكنكم لمّا عرفتم من حالنا إعظام أمير المؤمنين،و اعتقاد موالاته،و قولنا بفضله،و تبرينا من كل من نقصّه و غضّ باليسير من قدره و تضليلنا له،و أنّنا لا نستحلّ و نستجيز مقابلتكم بوصف أمير المؤمنين عليّ بغير صفته،و إضافة نقيصة أو تقصير أو تبسّطكم و عظم إقدامكم،و صرنا و إياكم كمسلم يناظر يهوديا أو نصرانيا يتناول محمدا صلّى اللّه عليه،و يغضّ من قدره و يقدح في رسالته،و المسلم مبتلا به محوج إلى حلّ شبهته و تعظيم موسى و عيسى عليهما السّلام،و الإذعان له بفضلهما،و ليس ذلك بتقوية لحجّة اليهوديّ و النّصراني،و لا بموهن لحجاج المسلم و دليله،و لكنّه من شبّه جهال اليهود و النّصارى و عامّتهم إذا سمعوا اليهوديّ يقول:للمسلم أنت قد أقررت بنبوّة
ص: 529
موسى و عظم قدره و جلالة محلّه،و أنا منكر لبنوّة محمد صلّى اللّه عليه و ما تدّعيه من شرف موضعه،و كذلك سبيل عامّتكم في الاغترار بكم إذا قلتم عند ضيق الخناق و خلق البطان:قد أقررتم لنا بفضل عليّ و إمامته،و أنكرنا نحن فضل أبي بكر و عمر و برئنا منهما و جحدنا إمامتهما و إسلامهما،و نحن نعوذ باللّه من التعلّق/بمثل هذه الأباطيل و التعاليل.
و اعلموا رحمكم اللّه أنّ أهل التّفسير قد فسّروا هذه الآية،و ذكروا فلانا هذا الذي جعلت الكناية عن ذكره عامّة متناولة لجميع من أطيع في معصية اللّه بما يزيل الرّيب و الشّكّ،فقال عبد اللّه بن العباس:إنّ سبب هذه الآية أنّ عقبة بن أبي معيط صنع طعاما،و دعا إليه أشراف أهل مكّة و كان النّبيّ صلّى اللّه عليه فيهم فامتنع من أن يطعم أو يشهد عقبة بشهادة الحقّ ففعل،فأتاه أبيّ بن خلف الجمحيّ،و كان خليله و صفيّه فقال له:أصبأت،فقال:لا، و لكن دخل عليّ رجل من قريش فاستحييت أن يخرج من بيتي و لم يطعم، فقال:ما كنت لأرضى حتى تبصق في وجهه و تفعل و تفعل،ففعل عقبة ذلك،فأنزل اللّه سبحانه هذه الآية عامّة في الظالمين بمثل ذلك الظلم،و في جميع من أطيع في معصية اللّه،و سبب نزولها هذان الرّجلان،هذا مما عليه جماعة أهل التّفسير (1)،و إن اختلفوا في لفظ قصّتهما و سياقهما،فالعدول بها إلى أبي بكر و عمر من القحة و الغثاثة،و ادّعاء إبطال الخطاب بالكناية و نقصان اسم الرّجل من كتاب اللّه و تغييره جهل و فرط غباوة،و لو لا تعلّقهم بمثل هذا و خوف ظنّ الجهّال لصحّته و خشية اغترارهم به لكان من الواجب تركه و تنزيه الكتاب عن ذكره و الحشو به.اه.).
ص: 530
قالوا:و يدلّ أيضا على تغيير أبي بكر و عمر و عثمان للمصحف و تحريفهم له،و غلطهم فيه و لحوق الخلل و الفساد به،ما نجده فيه من اللّحن الفاحش الذي لا يسوغ مثله،و لا يجوز على اللّه سبحانه،و لا على رسوله التكلّم به، و الأمر بحفظه و تبقية رسمه و دعوى الإحكام و الإعجاز فيه،نحو قوله: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ [طه:63]،و هو موضع نصب،و قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصّابِئُونَ [المائدة:69]،و هو موضع نصب لا إشكال/فيه على أحد،و قوله: لكِنِ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَ الْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَ الْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ [النساء:162]،و موضع المقيمين رفع واجب في هذا الموضع وجوبا ظاهرا بيّنا،و قوله: وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ الصّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَ الضَّرّاءِ [البقرة:177]،و هو الصّابرون بغير اختلاف بين أهل الأعراب،و قوله في المنافقين: فَأَصَّدَّقَ وَ أَكُنْ مِنَ الصّالِحِينَ [المنافقون:10]،و هو موضع نصب،و هو في المصحف مجزوم.
قالوا:و قد ثبت و علم أنّ اللّه سبحانه لا يجوز أن يتكلّم باللّحن و لا ينزّل القرآن ملحونا،و أنّ ذلك إنّما هو تخليط ممّن جمع القرآن و كتب المصحف،و تحريفهم إمّا للجهل بذلك و ذهابهم عن معرفة الوجه الذي أنزل عليه،أو لقصد العناد و الإلباس و إفساد كتاب اللّه و إيقاع التّخليط فيه.
ص: 531
قالوا:و هم إلى هذا الوجه أقرب و هو بفعلهم،و ما أخبروا به عن أنفسهم أشبه،لأنّه قد روي عنهم رواية ظاهرة أنّ في القرآن لحنا،و أنّ العرب ستقيّمه بألسنتها،و أنّه من غلط الكاتب،و اشتهر ذلك عنهم في باقي الصّحابة،ثمّ لم يغيّر قائل ذلك و لا سامعه هذا اللّحن و لا أسقطوه،مع القدرة عليه،و التّمكّن منه،فلا وجه لتركهم ذلك إلا قصد العناد و الإلباس و إيقاع التّخليط و الفساد في كتاب اللّه تعالى،و قد رويتم أنّ عثمان لمّا نسخ مصحفه و رفع إليه نظر فيه و قال:«أرى فيه لحنا و ستقيمه العرب بألسنتها» (1)، و رويتم عن هشام بن عروة (2):«عن عائشة أنّها قالت:ثلاثة أحرف هي في كتاب اللّه تعالى خطأ من الكاتب: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ ،و: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصّابِئُونَ في المائدة،و لكِنِ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَ الْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَ الْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ » (3)، فأيّ عذر للقوم في إقرارهم هذا اللّحن و تركه على حاله،و أيّ مخرج لقائل هذا أو سامعيه إذا لم/يتسرّعوا إلى تغييره و إنكاره،و أخذ النّاس برسمه على وجه ما أنزل عليه،فلو لم يدلّ على جهل القوم و تخليطهم و إدغالهم للدّين و دخول الخلل و الفساد في الكتاب،و ذهابهم عن ضبطه و قصد قوم منهم إلى تحريفه سوى ما وصفناه،لكان كافيا لمن تدبّره.9.
ص: 532
فيقال لهم:قد جمعتم في كلامكم هذا بين ضروب من التّخليط:
أحدها:ظنّكم لصحّة هذه الرّواية عن عثمان و عائشة و قيام الحجّة بها و وجوب القطع على انّهما قد قالا ذلك،و وجوب طلب المخرج لهما منه، و ليست هذه صفة هذا الخبر عندنا.
و الوجه الآخر:توهّمكم أنّ ذلك إن صح عنهما فإنّه لا عذر لهما و لا مخرج من إقرار الخطأ،و ليس الأمر في ذلك على ما توهّمتم.
و الوجه الثالث:قولكم:إنّ القوم جهلوا الصواب،و ذهبوا عنه مع اعترافكم بأنّهم قد عرفوا اللّحن و ذكروه،و هذا جهل منكم و تخليط.
و الوجه الرابع:دعواكم أنّ القوم إنّما قصدوا بذلك إيقاع التّخليط و الإلباس في كتاب اللّه،مع اعترافكم بأنّهم قد نبّهوا على اللّحن،و ذكروه و ذكروا مواضعه،و هذا أيضا تخليط ظاهر.
و الوجه الخامس:توهّمكم أنّ هذه المواضع ملحونة لا محالة لا وجه لجوازها في اللّغة،فليس الأمر في ذلك على ما تقدّرون،و نحن نتكلّم على فصل ممّا أوردتموه بما يوضّح الحقّ و يكشف تخليطكم و فساد تعلّقكم إن شاء اللّه تعالى.
و أوّل ما نقول في ذلك:أنّكم قد زعمتم أنّ عثمان و عائشة قد اعترفا بأنّ في كتاب اللّه لحنا و خطأ،و أنّه من غلط الكاتب،و أنّهما أقرّا ذلك و عصيا اللّه بإقراره،و ترك تغييره،و إنكاره،و عصى اللّه أيضا جميع من سمع ذلك من الصّحابة و عرفه فلم ينكره مع ظهور هذا القول فيهم و انتشاره بينهم، و ليس يجوز أن يقطع على تخطئة الصّحابة و تفسيقهم و نسبتهم إلى العصيان بقول يحكى عن بعضهم و يدّعى انتشاره في/باقيهم،يوجب ذمّ قائله و سامعه
ص: 533
مع إقراره له بخبر و رواية لم تقم بها الحجّة و لا هي مما علم صحتها بضرورة أو دليل،بل يجب أن لا ينسب إلى أدنى المؤمنين منزلة شيء من ذلك،و لا يقطع به عليه،إلاّ بخبر تقوم به الحجّة و يلزم القلوب العلم بثبوته،و بمثل هذا بعينه أبطلنا مطاعن الخوارج على عليّ بروايات تروونها لم تقم الحجّة بها،و لا علم بثبوتها لا حاجة بنا إلى ذكرها،و لو علمنا على إضافة مثل هذا إلى عثمان و عائشة و القطع عليهما به و ذمّهما لأجله بخبر الواحد و من جرى مجراه،لوجب ذمّ سائر الصّحابة و قذفهم بالخطإ و العصيان و التّفريط،لأنّه ليس فيهم إلاّ من قد روي عنه أمر لم يثبت عليه،و لم تقم حجة به،و لمّا لم يجب ذلك سقط ما تعلقتم به،إذ كنّا لا نعلم بثبوت هذه الرّواية بضرورة و لا بدليل.
فأمّا عدم علمنا بصحّتها ضرورة،فأمر لا شبهة علينا و لا عليهم فيه، لأنّ أحدا لا يسوغ له دعوى الضّرورة إلى العلم بصحّة هذه الرّواية،و كيف يسوغ ذلك و هو لو كان ممّا قد ظهر و انتشر و استفاض و بلغ حدّ التّواتر الموجب للعلم القاطع للعذر،لوجب أن نجد أنفسنا مضطرّة إلى العلم به، و غير واجدة للسبيل إلى دفعه،أو الشّكّ فيه،و باضطرار يعلم من أنفسنا أنّه لا علم فينا بصحّة هذه الرّواية،و أنّ لطوارق الرّيب و الشّكوك فيه تسلّطا و سبيلا على قلوبنا كتسلّطه على ذلك في جميع ما يروى لنا ممّا لم تقم به الحجّة من أخبار الآحاد،و من دفعنا عن ذلك لم يكن عندنا في حدّ من يجب كلامه و يحسن مناظرته و لا ممن يرجى الانتفاع بمشاجرته،و لم تكن الحيلة في أمره،إلاّ أن يقال له:إنّك تعلم ضرورة أنّ هذا الخبر لا يوجب العلم و لا يقطع العذر،و يعلم ضرورة أنّه متكذّب باطل،و يضطر إلى أنّه لم
ص: 534
يثبت عن عثمان و عائشة،و لم ينتشر في الصّحابة فإنّه لا فصل له في شيء من ذلك،و إذا كان هذا هكذا بطلت دعوى الضّرورة إلى صحّة هذه الرّواية.
و إن قالوا:بدليل نعلم صحّتها و حجّة دون الضّرورة.
قيل لهم:و ما ذلك الدّليل و الحجّة؟أ هو إجماع الأمّة على تصحيح هذه الرّواية عنهما،أو توقيف اللّه و رسوله على ذلك،أو إيجاب/العقل لقولهما لذلك،أم أيّ شيء هو،فلا يجدون إلى ذكر شيء سبيلا.
فلو كان هذا الخبر سليما ممّا يدلّ على اضطرابه و فساده،و يمكن أن يكون صحيحا عن عثمان و حاله ما وصفناه،لم يجب القطع به و العمل عليه، فكيف و في نقله من الاضطراب ما يوجب ترك الإصغاء إليه و العمل عليه، و ذلك أنّ هذا الخبر إنّما مداره على قتادة و عنه يروى،و قتادة إنّما أرسله عن عثمان و تارة يرويه عن يحيى بن يعمر (1)و هو لم يسمعه من يحيى بن يعمر، و إنّما سمعه على ما ذكره من قوم من أهل العلم عن نصر بن عاصم الجحدريّ (2)،و يحيى بن يعمر يرويه عن رجل مجهول مشكوك فيه غير معروف و هو ابن فطيمة أو ابن أبي فطيمة (3)،و لو كان هذا الرّجل مشهورا معروفا لما وقع مثل هذا الشّكّ في أمره.م.
ص: 535
فروى أبو بكر بن مجاهد (1)عن أبي أحمد بن محمد بن موسى قال:
حدّثنا ابن أبي سعيد قال:حدّثنا سليمان بن خلاد:قال حدثنا شبابة (2)قال:
حدّثنا أبو عمرو بن العلاء:قال حدّثنا قتادة قال:«لمّا كتب المصحف عرض على عثمان،فقال:إنّ فيه لحنا و لتقيمنّه العرب بالسنتها»،و روى ابن مجاهد عن محمد بن يحيى عن أبي جعفر المكفوف عن شبابة بن سوار عن أبي عمرو بن العلاء عن قتادة قال:«لما كتب المصحف رفع إلى عثمان فنظر فيه،فقال:إنّ فيه لحنا و لتقيمنّه العرب بألسنتها».
فهذان الخبران إرسال قتادة عن عثمان بهذه الرّواية،و المرسل في مثل هذا غير مقبول لأنّنا لا نعرف من بين قتادة و عثمان،و لعلّنا لو عرفنا لم يكن عندنا و عند الشّيعة ممّن يقبل خبره،و يسكن إلى قوله،بل لعلّه أن يكون من النّاصبة و شيعة الجمل و المنحرفين عن القول بالنّصّ على عليّ،و من هذه صفته فخبره عند الشّيعة مردود غير مقبول،و ليس لأحد أن يقول:إنّ قتادة لا يرسل إلاّ عن ثقة عنده،لأنّه لا دليل على ذلك،و قد يرسل الثّقة في حديثه عمّن إذا سئل عنه وثّقة و أحسن الثّناء عليه،و يرسل عمّن إذا سئل عنه وصف بالتّهمة له أو الكذب و التدليس و وضع الحديث و أشياء إلينا عليه،فلا/ حجة معنا في أنّ قتادة لا يرسل إلاّ عن ثقة،و ليس لأحد أن يقول إنّه إذا أرسل عن غير ثقة عنده فقد ألبس و دلّس و غشّ من روى له،لأنّه لا يعلم أنّ أهل العلم لا يقلّدون في ذلك،و أنّهم يعلمون أنّهم مأمورون بالبحث).
ص: 536
و السّؤال عمّن أرسل عنه و الاجتهاد في الخبر المرسل،و أنّه لا معتبر في تعرّف حال الوسائط بالإرسال عنهم،و السّكت عن ذكرهم،على أنّ أيضا حال قتادة أنّه لا يرسل إلاّ عن ثقة عنده،و قد يكون الثّقة عنده غير ثقة عندنا و لا عند الشّيعة،بل يكون معروفا عندنا جميعا بما يسقط عدالته و يبطل خبره و شهادته و يعرفه غير قتادة بما لا يعرفه به قتادة،و لم يوجب اللّه علينا تقليد قتادة في تعديل من أرسل عنه،و من هو ثقة عنده،فإذا كان ذلك كذلك بان بهذه الجملة أنّه لا حجّة في الأخبار التي أرسلها قتادة أو غيره عن عثمان في هذا الباب،فهذا هذا.
و أمّا الرّواية المسندة عن قتادة في هذا فصفتها في الاضطراب ما قدّمنا ذكره،فروى ابن مجاهد قال:حدّثنا أحمد بن عبد الرحمن،قال:حدّثنا يزيد بن سنان،قال:حدّثنا أبو داود،قال:حدّثنا عمران القطان عن قتادة عن نصر بن عاصم عن عبد اللّه بن فطيمة عن يحيى بن يعمر،قال:«قال لي عثمان:إنّ في القرآن لحنا تقيّمه العرب بألسنتها»،و روى ابن مجاهد قال:
حدّثنا أحمد بن زهير،قال:حدّثنا عمرو بن مرزوق (1)،قال:أخبرنا عمران القطان (2)عن قتادة عن نصر بن عاصم عن عبد اللّه بن أبي فطيمة عن يحيى ابن يعمر قال:«لما عرضت المصاحف على عثمان،قال:«إنّ في مصحفنا لحنا تقيّمه العرب بألسنتها»،و روى ابن مجاهد،قال:حدّثني أبو عبد اللّه).
ص: 537
أحمد بن عبدوس،قال:حدّثنا محمد بن عبد اللّه المخزوميّ (1)،قال:
حدّثنا أبو داود الطّيالسي (2)،قال:حدّثنا عمران القطان عن قتادة عن يحيى ابن يعمر عن ابن فطيمة،قال:«قال عثمان:إنّ في القرآن لحنا و إنّ العرب ستقيّمه بألسنتها».
و في هذه الروايات المسندة المرفوعة ضروب من التّخليط،فمنها أنّ قتادة مرة يروي الخبر عن يحيى بن يعمر و لا يذكر نصرا،/و مرة يروي عن نصر بن عاصم عن يحيى،و تارة ترد الرّواية عنه بأنّ يحيى بن يعمر هو الذي يروي عن ابن أبي فطيمة،و تارة يرد بأنّ ابن فطيمة هو الرّاوي عند يحيى بن يعمر،و هذا اختلاف و تخليط ظاهر،و تارة يقول الرّاوي ابن فطيمة و آخر يقول ابن أبي فطيمة،و هذا أوضح دليل على الجهالة بابن أبي فطيمة هذا و خفاء أمره و خمول ذكره و حصول الشّكوك في أمره،و أنّه غير معروف عن أهل الضّبط و النّقل،و لو كان معروفا لزالت عنهم الشّكوك في أمره،فمن ظنّ أنّنا نقطع على عثمان بصحّة هذه الرواية،و أنّه قال هذا القول و أذاعه بمثل هذا الخبر فقط،فقد ظنّ بعيدا،و قد بيّنا فيما سلف أنّه لو سلّم جميع ما ذكرناه لم يجب من ناحية القطع على عثمان بموجبه و تصحيحه عليه،و إذا كان ذلك بان أنّه لا تعلّق لأحد على عثمان بمثل هذا الخبر من كلّ وجه.).
ص: 538
و أمّا روي عن عائشة من قولها في أحرف في المصحف إنّها لحن، و إنّها من غلط الكاتب،فإنّه أيضا جاري مجرى الخبر المرويّ عن عثمان في هذا الباب،لأنّه من أخبار الآحاد التي لم تقم الحجّة بها (1)،و لا سبيل إلى العلم بصحّتها لا من ناحية الضرورة،و لا من جهة الدليل،و كلّ شيء ثبت أنّه من الرّواية عن عثمان من أخبار الآحاد،فإنّه بتعيّنه دالّ على أنّ هذه الرّواية من أخبار الآحاد فلا حاجة بنا إلى إعادته،و لم يرو هذا الخبر عنها إلاّ عروة بن الزّبير وحده،و عروة عندنا غير متّهم و لا ظنّين بل ثقة أمين و عدل صدوق،غير أنّنا لا نعلم ضرورة و لا استدلالا صحّة هذه الرّواية عن عروة،و لا يقطع على أنّه روى ذلك عن عائشة،و لا ندري كيف حال الرّواية كذلك عند عبد اللّه.
و متى كان ذلك كذلك لم نجز القطع على أنّ عائشة حكمت أنّ في المصحف حروفا ملحونة أخطأ فيها الكاتب و المملي و المجتمعون على كتب المصحف و عرضه،و هم قوم من جلّة الصّحابة،و أهل ثقة و أمانة و براعة، و لسن و علم و فهم ثاقب بصحيح الكلام و السّائغ الجائز منه في اللّغة و الملحون الفاسد الذي لا يحسن و لا يسوغ/التكلّم به،لأنّ ذلك قذفا منها لهم بالتّجهيل و التّخطئة،و النّسبة إلى ما يبعدون عنه،أو بالتّهمة و قبح الظّنة و قصد التّمويه و الإلباس في كتاب اللّه،و كلّ ذلك منفيّ عنهم،و يجب أن ينفى أيضا عن عائشة قذفهم بذلك،لأنّها أعلم بعدالتهم و أعرف بثاقب
ص: 539
أفهامهم و صحّة نحائرهم و فصاحتهم و لسنهم،و أنّ اللّغة طباعهم،و الكلام بها شأنهم و نشوؤهم و ديدنهم،و أنّه لا يمكن أن يذهب عليهم معرفة اللّحن في لغتهم و هم أفصح قومهم أو من أفصحهم و أعرفهم باللّسان و مواقع الخطاب و وجوه الإعراب،فمن توهّم أنّنا لا بد أن نلصق بعائشة هذه الرّواية و نقطع بها عليها و نحقّقها من قبلها بمثل هذا الخبر الذي اللّه سبحانه أعلم بحال طريقه إلى عروة بن الزبير،فقد توهّم علينا العجز و التّفريط،و إذا كان ذلك كذلك بطل أيضا التّعلّق بهذه الرّواية على أنّ الذي روى عنها في ذلك هو ما رواه أبو بكر بن مجاهد و غيره من الرواة يرفعونه إلى عروة بن الزّبير.
فروى ابن مجاهد عن يحيى بن زياد الفرّاء،قال:حدّثني أبو معاوية الضّرير،و روى أيضا أنّه حدّثه فضل الورّاق عن خلاّد بن خالد عن أبي معاوية الضّرير،و روى أنّه حدّثه موسى بن إسحاق (1)عن منجاب (2)عن علي بن مسهر (3)عن هشام بن عروة عن أبيه:«أنّ عائشة قالت:في (و المقيمين الصّلاة و المؤتون الزّكاة)،و(و أنّ الذين آمنوا و الّذين هادوا و الصّابئون)،(إنّ هذان لساحران)،أنّ ذلك خطأ من الكاتب».
و قد بيّنا فيما سلف أنّنا لا نعرف كيف الحال فيمن دون هشام بن عروة من الرّواة عند اللّه،و أنّه لا حجّة فيما هذه سبيله من الإخبار في الأمر الذي).
ص: 540
يجب القطع به على اللّه،و على المرويّ عنه و ما يقتضيه من ذمّة و البراءة منه أو تعظيمه و وجوب موالاته،فوجب بذلك أنّه لا حجّة في هذه الرّواية،على أنّ في الرّواية ما يدلّ على ضعف الخبر عنها و بعدها عن أن تكون قالته، و ذهب عليها وجه الخطأ عنه و ذلك أنّها ذكرت/ثلاثة أحرف:منها حرفان صحيحان جائزان عند سائر أهل العربيّة،فيها الرفع و النّصب جميعا في لغة قريش و غيرها و هما:قوله:(و الصّابئون)،و قوله:(و المقيمين الصّلاة)، و سنذكر وجه جواز ذلك و حجّته إن شاء اللّه،فهذه جملة تسقط تعلّقهم بهذه الرّواية عن عثمان و عائشة.
ثم إنّا نقول بعد ذلك:فإن صحّت هذه الرّواية و كانت على ما يدّعون ظاهرة معلومة في الصّحابة مشتهرة فيهم،فقد بطل بذلك قولهم إنّ الصّحابة جهلت و حذفت و أثبتت في المصحف ما لا علم لها بصوابه من خطئه، لأجل أنّ عثمان و عائشة قد عرفا اللّحن و الخطأ و ذكرا ذلك عن أنفسهما، و لو لم يعرفاه لما ذكراه و نبّها عليه،و كذلك سائر الصّحابة يجب أن تكون قد عرفت هذا اللّحن و الخطأ،إن كانت هذه الرّواية عن عثمان و عائشة مشهورة فيهم عنهما،لأجل أنّهم أهل الفصاحة و اللّسن و المعرفة بوجوه العربية و ضروب الخطاب و التّصويب في الكلام،و اللّغة لغتهم،و إنما أنزل القرآن بلسانهم و فيهم،و ليس يقصر الخلق الكثير و الدّهماء منهم في الفصاحة و المعرفة بلسان العرب و الجائز فيه و غير الجائز،عن منزلة عثمان و عائشة،بل فيهم من قد قيل إنّه أفصح منهما و أكثر انبساطا و تصرّفا في معرفة اللّسان و القدرة على التكلّم به،فإذا شهر فيهم قول عثمان و عائشة إنّ في القرآن لحنا و إنّه من خطأ الكاتب فلم نحفظ أحدا أنكر ذلك على عثمان و عائشة أو عارض فيه أو احتجّ فيه أو ردّه أو قدح فيه بوجه من وجوه الطّعن،
ص: 541
علم بذلك أنّهم لم يمسكوا عن المعارضة في هذا الأمر العظيم إلاّ لعلمهم بصواب ما قاله عثمان و عائشة و معرفتهم بذلك،و لو لا هذا لأنكروا هذا القول و ردّوه،و لم يكن في موضع العادة أن لا يقدح قادح منهم في هذا القول،مع اعتقادهم خطأ قائله و صحّة ما نسبه إلى الخطأ و اللّحن،و لو ردّ هذا منهم رادّ و قدح فيه قادح لوجب في مستقرّ العادة ظهور ردّه و قدحه/، و أن يعلم في الجملة أنّ ذلك أمر قد روي كما روي ما هو قدح فيه من قبل عثمان و عائشة،و إذا لم يكن ذلك كذلك ثبت أنّ هذا القول كان مسلّما في الصّحابة،و غير مردود إن كان قد ثبت صحّة هذه الرّواية و ظهورها في الصّحابة على ما يدّعون،و إذا كان ذلك كذلك وجب علم سائر الصّحابة و الدّهماء منهم بوقوع هذا اللّحن و الخطأ في المصحف و بان بذلك جهل من نسبهم إلى الجهل به و الذّهاب عن الصّواب.
و كذلك هذه الرّواية إن كانت صحيحة على ما يدّعون،فقد ناقضوا في قولهم إنّ عثمان و عائشة و كثيرا من الصّحابة قصدوا إلى تحريف بالمصحف و تبديله و الإلباس على الأمّة فيه و الغشّ لها و الإدغال في دينها بإثبات اللّحن و الخطأ فيه،لأنّهما لو قصدا ذلك لكتما ذكر اللّحن و أعرضا عنه و تغافلا (1)عنه و لم يناديا به و ينبّها،و كذلك الباقون منهم لو قصدوا أو بعضهم غشّ من بعدهم و الإلباس في كتاب اللّه لناقضوا عائشة و عثمان و ردّوا عليهما و احتجّوا للّحن و الخطأ و ألبسوا ترتيبه و ردّ قول من نبّه عليه،حتى يصوّروا الباطل بصورة الحق،هذه سبيل من قصد الإلباس و التّمويه و كتمان الصّواب و طيّه و نشر الباطل و إذاعته،و الدّعاء إليه،فلمّا أظهرت عائشة و عثمان هذا القول و رضي به الباقون و أقرّوه و صوّبوه و عدلوا عن القدح فيه و الاعتراض عليه،ا.
ص: 542
ثبت أنّهم جميعا أنصار الحقّ،و أهل الحياطة و الحراسة لكتاب اللّه و التنبيه على الواجب له و فيه،و ما يجب أن نعتقد في صحيح ما ثبت فيه،و غلط من أدخل فيه ما ليس منه،و كيف ينسب قوم هذه سبيلهم إلى التّمويه و قصد الإلباس و الإدغال للدّين و أهله،لو لا الغباوة و جهل من يعتقد ذلك فيهم، و يروي مثل هذه الرّواية عنهم،و بمواضع التخليط و المناقضة في كلامه و احتجاجه،و نحن الآن نبيّن وجه التّأويل في هاتين الرّوايتين لو صحّتا عن عثمان و عائشة و ما/الذي قصداه بذلك،و أنّهما لم يعتقدا أنّ في القرآن لحنا لا يجوز في لغة منه و على كلّ وجه.
فنقول و باللّه التوفيق:إنّه يمكن إن كانت هذه الرّواية صحيحة أن يكون عثمان لما أراد بقوله:«أرى فيه لحنا و ستقيّمه العرب بألسنتها»،إنّ فيه لحنا في لغة بعض العرب و على مذهب قبيلة منهم لا يتكلمون بتلك الكلمات على الوجه الذي أثبت في المصحف،و أنّ من لم يؤلّف الكلام بتلك الحروف على ذلك الوجه اعتقد أنّه لحن و أنّه لا يقرأ به،و أنّ لسانه لا ينطلق به،و لا يمكنه مفارقة نشوءه و طبعه و عادته في الكلام،فأراد بقوله إنّه لحن عند من اعتقد ذلك و صعب عليه التكلّم به،و استكبره و خفي عليه و ظنّ لأجل ذلك أنّ اللّه لم ينزّله و لم يقل ذلك على سبيل القطع بأنّه لحن و أنّه غير جائز،و أراد بقوله:لتقيمنّه العرب بألسنتها أنّه ستقرأ تلك الكلمات و ينطق بها كلّ ناطق منهم على الجائز في لغته و المألوف في طبعه و عادته،فيتكلم به قوم على وجه ما ثبت في المصحف إذا كان التكلّم به على ذلك الوجه لسانهم،و يتكلم به آخرون على الوجه الشائع الجائز المألوف في لغته،لأنّ اللّه سبحانه أطلق القراءة بتلك الأحرف على هذه الوجوه المختلفة نظرا لعباده و تسهيلا عليهم و تخفيفا لمحنتهم في التكليف،و لم يرد بقوله:و لتقيّمنّه
ص: 543
العرب بألسنتها،أنّه ليس فيها متكلّم به على وجه ما ثبت في المصحف، و أن ذلك خطأ غير جائز.
و يمكن أيضا أن يكون إنّما قصد بقوله:إنّ فيه لحنا عند من توهّم ذلك و خفي عليه وجه الصّواب في إعرابه على ما ثبت رسمه،و لم يعرف الوجه في جوازه،و أن يكون أراد بقوله:و لتقيّمنّه العرب بألسنتها،أي لتحتجنّ العرب و ليتيحنّ الوجه في صحة ذلك،و صواب ما ثبت في المصحف، و ليبيحنّ اللّه تعالى منهم في كل عصر و أوان يظهر فيه دعوى وقوع اللّحن فيما يتوهم و يظنّ أنّه لحن من/يعرب عن صوابه،و يحتجّ بجوازه،و يكشف عن وجه صحّته،و تخطئة دعوى الخطأ فيه،و ذلك إقامة له ممّن صنعه من العرب و إفصاح عن معناه و صوابه بلسانه.
فأمّا أن يكون أراد القطع على أنّ فيه لحنا،لا يسوغ بوجه،و هو مع ذلك مقرّ له و غير مغيّره،فذلك غير جائز و لا بدّ من حمل كلامه على مثل هذا التّأويل و نحوه،لأجل قيام الدّليل القاطع على أنّه لا لحن و لا خطأ في المصحف،و أنّ هذه الأحرف جائزة حسنة و صواب على ما ثبت رسمها في المصحف بما سنوضّحه و نكشفه فيما بعد،و أنّه لا بدّ أن تكون عائشة و عثمان من أعرف النّاس بجواز ذلك و صحّته،و أنّهما أفصح و أعرف بهذا الباب من سائر من بعدهما من أهل الأعصار و جميع من يظنّ أنّه يستدرك عليهما.
و مما يعتمد عليه في تأويل قول عثمان:أرى فيه لحنا،هو أنّ المقصد به ما وجد فيه من حذف الكاتب و اختصاره في مواضع و زيادة أحرف في مواضع أخر،و أنّ الكاتب لو كان كتبه على مخرج اللفظ و صورته لكان أحقّ و أولى و أقطع للقالة و انقى للشّبهة عمّن ليس الكلام باللّسان طبعا له،و قوله:
«لتقيّمنّه العرب بألسنتها»،معناه أنّها لا تلتفت إلى المرسوم المكتوب الذي
ص: 544
وضع للدّلالة فقط،و أنّها تتكلّم به على مقتضى اللّغة و الوجه الذي أنزل عليه من مخرج اللّفظ و صورته.
فمن هذه الحروف و الكلمات ما كتب في المصحف من الصّلاة و الزكاة و الحياة بالواو دون الألف،و كان الأولى أن تكتب الصّلاة و الزّكاة و الحياة على مخرج اللّفظ و مطابقته،و كذلك إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و صالح و الرحمن و أمثال هذه الأسماء التي تسقط الألف منها و هي ثابتة في اللّفظ و المخرج،و نحو إلحاقهم في آخر الكلمة من قالوا و قاموا و كانوا و أمثال ذلك ألفا،و الألف غير ثابتة و لا بيّنة في اللّفظ،فرأى عثمان كتابة هذه بالكلمات أو الأسماء و رسمها على مطابقة اللّفظ و مخرجه أولى و أحقّ،و أن المتكلّم إن تكلّم بها و تلاها/على حدّ ما رسمت في المصحف كان مخطئا لاحنا خارجا عن لغة العرب و عادتها،و متكلّما بغير لسانها،غير أنّه عرف هو و كلّ أحد من كتب المصحف و غيرهم من أهل العلم باللّغة أنّ العرب لا تلفظ بالصّلاة و الزّكاة و الحياة بالواو و تسقط الألف،و لا تحذف الألف في لفظها بالرحمن و سلمان و إسماعيل و إسحاق و صالح و نحو ذلك،و لا تأتي بألف في قاموا و قالوا و كانوا و أمثال ذلك،و أنّها لا تتكلم بذلك،إلاّ على مقتضى اللّفظ و وضع اللّغة لشهرة ذلك و حصول العلم به،و تعذّر النّطق به على ما رسم في المصحف،فلذلك قال:«و لتقيّمنّه العرب بألسنتها»،أي أنّها تنطق به على واجبه و لا تشكّ في ذلك،لأجل أنّ الرّسم في الخطّ بخلافه.
و ممّا يدلّ على صحّة هذا التّأويل،و أنّه المقصود بما صدر عن عثمان، ما رواه أبو عبيد عن حجّاج بن هارون بن موسى عن الزّبير بن حريث عن عكرمة قال:«لما كتبت المصاحف عرضت على عثمان فوجد حروفا من
ص: 545
اللّحن،فقال:لا تغيّروها فإنّ العرب ستغيّرها،أو قال:ستغيّر بها بألسنتها»، أو كان الكاتب من ثقيف و المملي من هذيل لم تؤخذ فيه هذه الحروف.
و إنّما قصد بذلك و اللّه أعلم،أنّ ثقيفا كانت أبصر بالهجاء و أشدّ تمسّكا في الكتابة بمخارج الألفاظ و أعلم بذلك،و أنّ هذيلا تظهر الهمز في ألفاظها و تكثر استعمالها في مواضع لا تستعمله قريش،و الهمزة إذا بانت و ظهرت في لفظ المملي سمعها الكاتب و صوّرها على مخرج اللّفظ،و كان القارئ لذلك الرّسم مخيّرا بين أن يسلك طريقة قريش فيليّن و يسقط الهمز،و بين أن يهمز على لغة هذيل،و متى لم يحمل قوله هذا على ما ذكرناه لم يكن لذكر ثقيف و هذيل معنى يعرف و تقف عليه،و لذلك قال عثمان:«لا يملينّ مصاحفنا و لا يكتبها إلاّ غلمان قريش و ثقيف،و لم يذكر هذيلا،لأنّه لم يكن يرى الهمزة في جميع المواضع التي تستعمل هذيل فيها الهمزة.
و إذا كان ذلك كذلك ثبت أنّ اللّحن الذي/أراده عثمان هو غلط الكاتب و تركه مراعاة مخرج اللّفظ و حذفه في موضع ما هو ثابت في اللّفظ، و زيادته في موضع ما ليس فيه،و لم يقصد بذلك أنّ فيه لحنا لا يجوز التكلّم به،لأنّه كان و الصّحابة و الكتبة للمصحف و زيد بن ثابت أجلّ قدرا و أفصح لسانا و أثبت معرفة و فهما باللّغة من أن يكتبوا فيه لحنا،و يذهب ذلك على الجماعة سوى عثمان و عائشة،و لو قصد عثمان بذكر اللّحن هذه الحروف الأربعة التي يدّعى أنّها لحن،لم يجر أن يعدل عن تغييرها و محوها و إثباتها على الواجب الصّحيح مع قلّتها و نزارتها،و أنّه لا كلفة عليه و لا على الكتبة و كل من عنده نسخة في تغييرها و رسمها على الصّواب،فلا عذر لهم في ذلك.
ص: 546
فوجب أنّه إنّما أراد بذكر اللّحن الهجاء الذي رسم على غير مطابقة اللّفظ و منهاجه،و أنّه لمّا رأى ذلك قد اتّسع و كثر في المصحف كثرة يطول تتبّعها،و يحتاج معها إلى إبطال النّسخة التي رفعت إليه،و استئناف غيرها، إلزام الكتبة في ذلك و سائر من عنده نسخة منه كلفة و مشقّة شديدة،و علم أنّ ذلك يصعب على أهل الذّكاء و الفطنة الذين نصبهم لكتبة المصحف و عرضه،لأنّهم لم يعتادوا الكتابة إلاّ على ذلك الوجه،و أنّ أيديهم لا تجري إلاّ به،أو خاف نفورهم من ذلك،و تنكّرهم له و نسبتهم إلى ميل عليهم و قدح فيهم،و خشي حصول قالة و تفرّق الكلمة فأبقاه على ما رفع إليه من لحن الهجاء،و قال:إنّ العرب ستقيّمه بألسنتها،لموضع شهرة تلك الألفاظ،و علمه و علم النّاس بأنّ العرب لا تتكلّم بها أبدا على ما قيلت و رسمت في الخطّ،و إذا كان ذلك بان صحة ما قلناه و بطلان ما قدّروه.
فإن قالوا:على هذا الجواب فقد صرتم إلى أنّه قد وقع في خطّ المصحف و رسمه خطأ،و ما ليس بصواب،و ما كان غيره أولى منه،و أنّ القوم أجازوا ذلك و أمضوه و سوّغوه،و ذلك إجماع منهم على خطأ،و إقرار بما ليس بصواب.
يقال لهم:لا يجب ما قلتم،لأجل أنّ اللّه إنّما أوجب على القرّاء و الحفظة/أن يقرءوا القرآن و يؤدوه على منهاج محدود،و سبيل ما أنزل عليه،و أن لا يجاوزوا ذلك و لا يؤخّروا منه مقدّما و لا يقدّموا مؤخّرا،و لا يزيدوا فيه حرفا و لا ينقصوا منه شيئا،و لا يأتون به على المعنى و التّعريب دون لفظ التنزيل على ما بيّناه فيما سلف،و لم يأخذ على كتبة القرآن و حفّاظ المصاحف رسما بعينه دون غيره أوجبه عليهم و حظر ما عداه،لأنّ ذلك لا يجب لو كان واجبا إلاّ بالسّمع و التّوقيف،و ليس في نصّ الكتاب و لا في
ص: 547
مضمونه و لحنه أنّ رسم القرآن و خطّه لا يجوز إلاّ على وجه مخصوص و حدّ محدود،و لا يجوز تجاوزه إلى غيره،و لا في نصّ السّنّة أيضا ما يوجب ذلك و يدلّ عليه،و لا هو ممّا أجمعت عليه الأمة،و لا دلّت عليه المقاييس الشّرعية،بل السّنة قد دلّت على جواز كتبه بأيّ رسم سهل و سنح للكاتب، لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه كان يأمر برسمه و إثباته على ما بيناه سالفا،و لا يأخذ أحدا بخط محدود و رسم محصور و لا يسألهم عن ذلك،و لا يحفظ عنه فيه حرف واحد،و لأجل ذلك اختلفت خطوط المصاحف،و كان منهم من يكتب الكلمة على مطابقة مخرج اللّفظ،و منهم من يحذف أو يزيد ممّا يعلم أنّه أولى في القياس بمطابقته و سياقه و مخرجه،غير أنّه يستجيز ذلك لعلمه بأنّه اصطلاح و أنّ النّاس لا يخفى عليهم،و لأجل هذا بعنيه جاز أن يكتب بالحروف الكوفيّة و الخطّ الأوّل،و أن يجعل اللام على صورة الكاف و أن يعوّج الألفات،و أن يكتب أيضا على غير هذه الوجوه،و ساغ أن يكتب الكاتب المصحف على الخطّ و الهجاء القديمين،و جاز أن يكتب بالهجاء و الخطوط المحدثة،و جاز أن يكتب بين ذلك.
و إذا علم و ثبت أنّ خطوط المصاحف و كثيرا من حروفها مختلفة متغايرة الصّورة،و أنّ النّاس قد أجازوا ذلك أجمع و لم ينكر أحد منهم على غيره مخالفة لرسمه و صورة خطّه،بل أجازوا أن يكتب كلّ واحد بما هو عادته و اشتهر عنده،/و ما هو أسهل و أولى من غير تأثيم و لا تناكر لذلك،علم أنّه لم يوجد على النّاس في ذلك حدّ محدود محصور،كما أخذ عليهم في القراءة و الأداء،و السّبب في ذلك أنّ الخطوط إنّما هي علامات و رسوم تجري مجرى الإشارات و العقود و الرّموز و كلّ شيء يدلّ على اللّفظ و ينبي عنه،و إذا دلّ الرّسم على الكلمة و طريقها و الوجه الذي يجب التكلّم عليه
ص: 548
بها،وجب صحّته و صواب الكاتب له على أيّ صورة كان و أيّ سبيل كتب، و إذا كان ذلك كذلك بطل ما توهّموه.
و في الجملة فإنّ كلّ من ادّعى أنّه قد ألزم النّاس و أخذ عليهم في كتب المصحف رسما محصورا و صورة محدودة لا يجوز العدول عنها إلى غيرها، لزمه إقامة الحجّة و إيراد السّمع الدّال على ذلك و أنّى له به،و إن عارضوا بمثل هذا في قراءة القرآن على إيراد معناه أيّ لفظ كان و على أيّ سبيل تسنح و بوجه،و قد بينا من قبل الحجّة على فساد ذلك بغير طريق فأغنى عن إعادته (1).
فأما قول عائشة في تلك الحروف إنّها من غلط الكاتب،فقد قلنا فيه أنّه أيضا من أخبار الآحاد التي لا حجّة فيها،و أنّه لا يسوغ لذي دين أن يقطع على أنّ عائشة لحّنت الصّحابة و خطّأت الكتبة،و محلّهم من الفصاحة و العلم بالعربية محلّهم بمثل هذه الرّواية،على أنّ فيها ما يدلّ على بطلان الخبر عنها،لأنّها خطّأت الكاتب في جميع هذه الحروف و منها ثلاثة جائزة سائغة عند سائر أهل العربية و واحد ليس هو من لغة قريش،و هو قوله:«إنّ هذان لساحران»،يذكر أنّه لغة بالحارث بن كعب،فلو كانت خطأت الكاتب في هذا الحرف فقط لخروجه عن لغة قريش،لكان الأمر أقرب،فأمّا أن تخطّئه فيما لا خلاف في جوازه في كلّ لغة،و إن كان غير ذلك الوجه أشهر و أظهر فإنّها بعيدة فيه لبراعتها و فصاحتها و كونها من العلماء باللّسان و وجوه الخطاب و الإعراب..
ص: 549
و الأشبه فيما يروى عنها و عن غيرها من الصّحابة في هذا الباب إن صحّ و سلم/مسنده و طريقه،أن يكونوا قالوا:إنّ الوجه الأشهر الظاهر المعروف المألوف في هذه الحروف غير ما جاء به المصحف و ورد به التنزيل،و إنّ استعماله على ذلك الوجه غامض قليل،أو غلط عند كثير من النّاس،و لحن عند من لا يعرف الوجه فيه و نحو هذا الكلام فلم بضبط ذلك الرّواة عنهم، و لم يسمعوا علّته و لم يوردوه على وجهه،إمّا لسهو لحقهم أو لذهابهم عن سماع تمام الكلام،أو لاقتصارهم على شاهد الحال و إذكارهم بذلك من كان سمع هذا الكلام من عائشة و عثمان،فأمّا أن يقطع عثمان و عائشة على أنّ في القرآن لحنا و غلطا وقع من الكتبة فذلك باطل لما بيّناه سالفا.
فأمّا قوله تعالى: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ ،فإنّه يجوز قراءته على موافقة خطّ المصحف الذي نقلته الجماعة و قامت به الحجّة،و يجوز أيضا قراءته بمخالفة خطّ المصحف و أن يتلى:«إنّ هذين لساحران».
فأمّا ما يدلّ على صحة قراءته على موافقة خطّ المصحف فنقل جماعة الأمّة الّذين ببعضهم تقوم الحجّة على أنّ القرآن منزّل على وجه موافقة المصحف،و أنّه يجوز أن يقرأ:«إنّ هذان لساحران»،و أنّ ما تضمّنه المصحف من هذا الحرف و غيره صحيح سليم من الخطأ،فلا وجه لإنكار ذلك و تخطئة القارئ به مع النّقل و الإجماع الذي وصفناه،و قد قال قائلون من جلّة أهل النّحو:إنّ إثبات الألف في الرّفع و النّصب و الخفض في هذان هو الأصحّ و هو القياس،قالوا:لأنّ الألف في ذلك تتبع فتحة ما قبلها كما أنّ الواو في مسلمون تابعة لضمة ما قبلها،و الياء في مسلمين تابعة للكسرة ما قبلها،قالوا و غيرهم من سائر النّاس و الرّواة:و هذه اللّغة هي لغة
ص: 550
بالحارث بن كعب،و أنّهم يقولون:مررت برجلان،و قبضت منه درهمان، و جلست بين يداه،و ركبت بغلاه،و أنشدوا في ذلك:/
تزوّد منّا بين أذناه ضربة دعته إلى هابي التّراب عقيم
يعني موضعا كثير التراب.
و أنشدوا فيه:
فأطرق إطراق الشّجاع و لو يرى مساعا لناباه الشّجاع لصمما
و أنشدوا أيضا قول الآخر:
شالوا علاهنّ فشلّ علاها و أشد مستاحقت حقواها
و قال الآخر:
أيّ قلوص راكب تراها طارقا علاهنّ قطر علاها (1)
و إذا كان الأمر في جواز هذا الحرف،و تكلّم أهل اللّغة من فصحاء العرب و احتجاج قوم له و قولهم إنّه الأصل،و إنّه أقيس على ما وصفناه، و وجدناه مكتوبا في المصحف على ذلك،وجدنا نقله متواترا قد قامت به الحجّة،و علمنا أنّ الصّحابة و الفصحاء الذين كتبوا المصحف مع أمانتهم و فضل علمهم و شدة احتياطهم و صحة قرائحهم و أذهانهم،و قرب عهدهم بالوحي،و كون القرآن منزّلا عليهم،و ثاقب معرفتهم بتصرّف الكلام و وجوه الإعراب،لم يكتبوا ذلك في المصحف إلاّ عن علم و إتباع سنّة و موافقة لتوقيف على جواز ذلك و صحته،وجب القطع على صحّة قراءة هذه الحروف على موافقة خطّ المصحف و توثيقه،لأنّ نقل خطّ المصحف و شهادة الجماعةا.
ص: 551
بصحته و سلامته،و أنّه لا خطأ فيه،أحد الأدلّة على صحّة الخطّ و التّلاوة، و على موافقته،فوجب بذلك جواز هذا الحرف و صحّته،و تجهيل من أنكره و استبعده و استوحش من قراءته على هذا الوجه.
فإن كان مخالفا للغة قريش،و كانت قريش لا تكاد تتكلّم به على هذا الوجه،فأمّا وجه جواز قراءته بخلاف خطّ المصحف،و أن يقرأ:«إنّ هذين لساحران»،فهو:إنّ الأمّة قد اتفقت على جواز ذلك و ترك تخطئة من قرأه بخلاف خطّ المصحف،و العدول عن تضليله و تأثيمه،و أنّ ذلك هو لغة/ قريش مع اتفاقها على أنّ القرآن منزّل بلغة قريش.
و إذا كان ذلك كذلك،و كان هذا الحرف في لغة قريش فيتكلّم به على خطّ المصحف،وجب أن يكون منزّلا أيضا على مخالفة خطّ المصحف، و أن يكون القارئ به على مخالفة خطّ المصحف مصحّحا مصيبا إذا كان ذلك هو لغة قريش،كما أنّ القارئ له بخلاف لغتهم مصحّح لنقل الجماعة لذلك و شهادتهم بصحّة خطّ المصحف،و أنّه منزّل على ما ثبت فيه،و أنّ الأشهر الواضح هو المعروف في لغة قريش و أكثر العرب،و هو المعروف الذي لا يشكّ فيه،يوجب جواز القراءتين و تصحيحهما استدلالا بما ثبت من خطّ المصحف،و ترك التّأثيم و التّضليل في ذلك،و لذلك استجاز كثير من السّلف أن يقرءوا:«إنّ هذين لساحران»،و روي ذلك عن عائشة و عن عبد اللّه ابن الزّبير،و الحسن البصري و سعيد بن جبير و إبراهيم النّخعيّ،و قرأ به جماعة من قرّاء الأمصار،منهم:أبو عمرو بن العلاء،و عاصم الجحدري، و عيسى بن عمران،و أبان بن تغلب،و مسلمة بن محارب،و هذا أشهر و أظهر عند أهل النّقل من أن يحتاج فيه إلى إطالة و إكثار،حتى إنّ في النّاس من يقول:لا يجوز قراءته،إلاّ على مخالفة خطّ المصحف،و قد علم أنّ
ص: 552
هذه الطّبقة لا تقرأ بما تعلم أنّه مخالف للتّنزيل،و أنّ الأمّة لا تترك تأثيمهم و تضليلهم مع علمهم بأنّهم قد قرءوا و أقرءوا النّاس بخلاف المنزّل،و بما لا يجوز و يسوغ،و إذا كان ذلك كذلك ثبت بهذه الجملة جواز قراءة هذا الحرف على الوجهين و اللّحنين جميعا.
و قد كان عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه يختار أن لا يقرأ النّاس إلاّ بلغة قريش،و روى النّاس عنه أيضا:أنّه سمع رجلا يقرأ هذا الحرف من يوسف:
ليسجننّه(عتّى) (1)حين [يوسف:35]،فقال له عمر:من أقرأك هذا، قال:ابن مسعود،قال عمر: (لَيَسْجُنُنَّهُ حَتّى حِينٍ) ،ثمّ كتب إلى ابن مسعود:سلام عليك،أمّا بعد فإنّ اللّه أنزل هذا القرآن فجعله قرآنا عربيا مبينا،و أنزله بلغة هذا الحيّ من قريش،فإذا/أتاك كتابي هذا فأقرئ النّاس بلغة هذا الحيّ من قريش،و لا تقرئهم بلغة هذيل» (2).
فهذا عمر يختار أن لا يقرأ النّاس إلاّ بموافقة لغة قريش،و ليس هذا القول من عمر،و من كلّ من روى عنه إنكارا لأن يقرأ الناس بغير لغة قريش إذا كان منزّلا بلغة قريش،و بوجه يخالف لغتهم،و كانت الحجّة قد قامت بذلك،و لكنّه اختيار منهم لملازمة لغة قريش،لأنّها هي الأظهر المعروفة، و النّاس لها آلف،و الألسن بها أجرى،و القلوب لها أوعى،و ليس يمنع ذلك من أن ينزّله اللّه سبحانه بخلاف الوجه الأظهر،كما أنزله على الوجه الأظهر المعروف،و قد ينظم الشاعر قصيدة و ينشئ الخطيب خطبة،و يعمل المترسّل رسالة،فيعرب كلّ واحد منهم بكلمة في قصيدته و خطبته فيكون ذلك سائغا).
ص: 553
جائزا،غير أنّه ممّا يقل استعماله و معرفة النّاس بجوازه،و يكون الأظهر الأشهر غيره،و كذلك يسوغ أن ينزّل اللّه الكلمة بقراءتين إحداهما أظهر و أشهر،و لا ننكر مع ذلك أن يكون الرّسول قد أقرأ في أكثر أيّامه في آخر عمره،و آخر عرضه عرض القرآن فيها بالوجه الّذي يخالف خطّ المصحف، ليبيّن لهم أنّه منزّل على ذلك الوجه،و ليستفيض و يظهر عنه،و أن يكون أكثر النّاس قد قرءوا على عصره و بعده بموافقة خطّ المصحف للّذي هو الأقلّ في الاستعمال،و لم يلتفتوا إلى أنّ ذلك ليس بمعروف في لغة قريش،لأنّ الغرض في ذلك القراءة بالجائز،و ما كثر استعماله و أن يؤثروا القراءة على آخر ما وقع عليه العرض،و إن كان غيره شائعا جائزا،و إذا كان ذلك كذلك ثبت بما وصفناه جواز القراءتين جميعا و أنّ الكلمة منزّلة على الوجهين جميعا.
و أمّا قوله تعالى: وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ الصّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَ الضَّرّاءِ [البقرة:177]،فقد اختلفت في وجه القراءة بالصابرين،فقال بعضهم:هو نصب على المدح،و العرب تنصب على الذّمّ و المدح،كأنّهم/ -زعموا-قرنوا قراءة المدح بمدح مجدّد غير متّبع لأوّل الكلام،و قال بعضهم:إنّما نصب الصّابرين لأنّه أراد: وَ آتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ السّائِلِينَ وَ فِي الرِّقابِ وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ الصّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَ الضَّرّاءِ [البقرة:177]،لأنّ البأساء الفقر،و كأنّه قال:و آتى الفقراء،و الضّراء:البلاء في البدن من المرض و الزمانة،و كأنّه قال:و آتى المال الصّابرين من الفقراء و أصحاب البلاء الصّابرين على فقرهم و بلائهم الذين لا يسألون و لا يلحّون،و جعل الموفين وسطاء بين المعطين و الصّابرين نسقا على من آمن باللّه و هذا بيّن غير متعسّف و لا مستبعد،و القرّاء جميعا على نصب الصّابرين إلاّ عاصم الجحدري،
ص: 554
فإنّه كان يرفع الحرف الذي قرأ به،و ينصبه إذا كتبه كراهية مخالفة خطّ المصحف الذي هو الإمام.
فأما قوله تعالى: وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ [النساء:162]،فقد ذكر فيه وجوه،فقال قوم:أراد به يؤمنون بما أنزل إليك و إلى المقيمين الصّلاة، و قال آخرون:أراد يؤمنون بما أنزل إليك و يؤمنون بالمقيمين الصّلاة،و اعتبروه بقوله في موضع آخر: وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [التوبة:61].
و قال خلق من أهل العربية هو نصب على المدح،لأنّ العرب تنصب على المدح،و تفرد الممدوح و تعطف عن ردّه إلى ما قبله،و قال أبو عبيدة و جلّة من أهل العلم بالعربية:هو نصب على تطاول الكلام بالسّبق و هم يستعملون ذلك في الكلام إذا طال أو تكرّر الوصف الذي يمدحون به أو يذمون،يتحرّجون من الرّفع إلى النّصب،و من النّصب إلى الرّفع،و ربّما فعلوا ذلك و إن لم يتطاول الكلام أيضا و لم ينكروا الوصف و الذّم و المدح، و يعملون في ذلك على القصد و النيّة في اتباع الكلام بعضه بعضا،/و ربّما أضمروا شيئا ينصبون به أو يرفعون،نحو ما قدّمنا عنهم من أنّه أراد يؤمنون بما أنزل إليك،و إلى المقيمين الصّلاة،أو أنّه أراد يؤمنون بما أنزل من قبلك و من قبل المقيمين الصّلاة و نحو ذلك،و أنشدوا في جواز رفع ذلك و نصبه على تطاول الكلام و تكرر الوصف و المدح قول الشّاعر (1):
لا يبعدنّ قومي الذين هم سمّ العداة و آفة الجزر النّازلين بكل معترك و الطيّبون معاقد الأزر).
ص: 555
و أنشد في ذلك أيضا:
و كلّ قوم أطاعوا أمر سيّدهم إلاّ نميرا أطاعت أمر غاويها
الطاعنين و لمّا يطعنوا أحدا و القائلون لمن دار تخيلها (1)
و قد اتفقوا على جواز إسناد ذلك على الوجهين جميعا:
أحدها:أن يقولوا النّازلين و الطّاعنين منصوب،ثمّ يقولوا و الطيّبون و القائلون فيرفعون،أو أن يقولوا النّازلون و الطاعنون فيرفعون،ثمّ يقولوا و الطّيبين أو القائلين فينصبون،و يعملون الكلام في الإعراب على النيّة و إتباع الكلام بعضه بعضا،و قد قالوا:إنّ رفع مثل هذا و نصبه عند تطاول الكلام شائع جائز،و إذا كان ذلك كذلك وجب القول بصحّة هذه القراءة و صوابها و لط من زعم أنّها ملحونة.
فأمّا قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصّابِئُونَ [المائدة:69]، فقد قيل فيه أيضا:إنّه ردّ على موضع إنّ الّذين آمنوا،قالوا:و موضعه رفع، لأنّ إنّ هاهنا مبتدأ لا تحذف في الكلام معنى أخواتها،لأنّك تقول:زيد قائم،ثمّ تقول:إنّ زيدا قائم فلا يكون بين إدخال إنّ و اطّراحها فرق في المعنى،و كذلك نقول زيد قائم،ثمّ نقول:لعلّ زيدا قائم،فيحدث في الكلام معنى الشّك،و نقول:/زيد قائم،ثمّ نقول:ليت زيدا قائم،فتحدث ليت معنى التّمني،و يدلّ على هذا أنّهم يقولون:إنّ عبد اللّه قائم و زيد، فيرفع زيدا،لأنّك قلت:عبد اللّه قائم و زيد،و تقول:لعلّ عبد اللّه قائم و زيدا،فتنصب مع لعلّ و ترفع من أنّ لما أحدثته لعلّ من معنى الشّك،و لأنّ).
ص: 556
إنّ لم تحدث فيه شيئا،و كان الكسائيّ يجيز:إنّ عبد اللّه و زيد قائمان،و إنّ عبد اللّه و زيدا قائم،و إنّ عبد اللّه و زيد قائم،و البصريون يجيزون ذلك و يحتجّون بقوله: إِنَّ اللّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ (1)[الأحزاب:56]، و ينشدون في ذلك:
فمن يك أمسى بالمدينة داره فإنّي و قيّار بها لغريب
و هذه جمل تنبئ عن صحّة هذا الحرف،و بطلان دعوى كونه ملحونا.
قالوا:و ممّا ورد أيضا ملحونا خطأ لا يجوز ما أثبتوه في مصحفهم من قوله في المنافقين: فَأَصَّدَّقَ وَ أَكُنْ مِنَ الصّالِحِينَ [المنافقون:10]،و موضعه نصب و إنّما هو فأكون بإثبات الواو لا غير ذلك.
فإنّه يقال لهم:ليس الأمر على ما قدّرتم،بل الوجهان جميعا جائزان سائغان،و قد قرأ السّلف الآية على الوجهين،فقرأ بعضهم:«و أكن»مجزوما، و قرأ منهم:«فأكون»منصوبا بإثبات الواو،و لكلّ من ذلك وجه،و قد اشتهر عنهم قراءة الوجهين جميعا،فقرأ أبيّ و عبد اللّه بن مسعود و سالم مولى أبي حذيفة:«و أكون»بإثبات الواو،و روى ابن مجاهد عن أحمد بن الحسن قال:حدّثنا الحسن بن عرفة قال:حدّثنا شجاع بن أبي نصر عن عيسى بن عمر الثقفيّ:«أنّ أبيّ بن كعب و عبد اللّه بن مسعود و سالما مولى أبي حذيفة كانوا يقرءون.«فأصّدّق و أكون»،و روى أيضا ابن مجاهد عن شجاع بن أبي نصر عن حمزة الزّيات عن الأعمش عن أصحاب عبد اللّه بن مسعود الذير.
ص: 557
قرأ عليهم الأعمش عن عبد اللّه بن مسعود أنّه كان يقرأ:«فأصّدّق و أكون»، و هذه القراءة هي قراءة ابن محيص و أبي عمرو بن العلاء و عيسى بن عمر الثّقفيّ،و كلّ/هذه الأخبار و الرّوايات،و عمل القرّاء بذلك و تجويزهم له، أوضح دليل على جواز القراءة بهذا الوجه،أعني النّصب لجوازها بالجزم، لأنّ مثل هذا الحذف المثبت في المصحف على خلاف الوجه الأشهر الظاهر يحرك دواعي القوم و هممهم عن البحث عنه،و السؤال عمّا لأجله ثبت في الإمام بخلاف الوجه الأظهر،و كيف سبيله و المخرج عنه،و كيف هو في قراءة عبد اللّه و أبيّ و غيرهما من القرّاء المشهورين المنتصبين لإقراء القرآن، و لا يجوز في مستقرّ العادة و ما ركّبت عليه الطباع إهمال الأمّة لذلك، و ذهاب أهل القرآن عن البحث عن ذلك،و السؤال عن قراءة في حرف كلّ مشهور بالقراءة،و معروف بالأخذ عنه،و لو كشف لهم البحث و السّؤال عن أنّه مقروءا في كلّ حرف و عند كلّ قارئ على وجه واحد لا يسوغ غيره، لتوفّرت هممهم و دواعيهم على نقل ذلك عن كافتهم،و اشتهاره و لارتفع الخلاف فيه،و لم يخف عليهم إجماع القرّاء عليه و المضيّ على ذلك الخلف بعدهم و المتبعون لهم.
و لمّا لم يكن ذلك كذلك و كانت القراءة بالنّصب،و إثبات القرّاء ظاهر منهم و مشهور عنهم،و كانت مقروءة و مأخوذا بها عند جماعة من الأئمّة و الخلف الصّالح،ثبت بذلك إشهار القراءتين جميعا،و أنّ الحرف مقروء على الوجهين،و أن القوم قد وقفوا على أنّ الحرف منزّل على الوجهين جميعا، فإنّ السنّة قاضية بذلك فهذه جملة تكشف عن جواز القراءتين على الوجهين جميعا،و أنّ القوم قد وقفوا على أنّ الحرف منزّل على الوجهين جميعا و صحّتها،و غلط من زعم أنّه لا يجوز قراءة الحرف بالنّصب،و إثبات الواو.
ص: 558
فأمّا وجه جواز القراءة بالجزم و حذف الواو و هي الأكثر و الموافقة لخطّ المصحف،فهو أنّه عطف بأكن على موضع الفاء من فأصّدق،فيجعل حكمهما مردودا إلى ما يجب لأصدّق من الإعراب لو لم تدخل الفاء في الكلام،فلمّا دخلت الفاء عملت في نصب أصّدق،و بقيت و أكن على حكمها قبل دخول/الفاء،لأنّها عطف على الفعل المجزوم.
و أمّا جواز القراءة بالنّصب،و إثبات الواو فهو بيّن ظاهر،لأنّه عطف على الفعل المنصوب الذي هو التّصدّق،و موضعه نصب،و قد قال أهل العلم بالعربية:إنّ القراءة بإثبات الواو لا تخالف خطّ المصحف،قالوا:
لأنّ الواو إنّما حذفت من الكتاب اختصارا،و حكوا:أنّ في بعض المصاحف:
(فقلا)له قولا لّيّنا [طه:44]،قاف،لام،ألف،بغير واو،و قالوا:و هذا لا يكون و إن أثبت كذلك و حذفت الواو من فقولا إلاّ على أن ينطق بالواو، و إن كانت محذوفة،و إن حذفت من الكتاب على وجه الاختصار،و هذا أيضا ليس ببعيد،و يجب أن يكونوا إنّما أثبتوا الواو في كلّ موضع ذكر فيه أكون،لأنّه لا يجوز أن يقرأ إلاّ بالنّصب و إثبات الواو،و أثبت في هذا الموضع أكن بحذف الواو،و خصّ بذلك لأجل جواز قراءته مجزوما و منصوبا،فأثبت على أحد الوجهين الجائزين و هو الأخضر لحذف الواو، و إن كانت الحجّة قائمة لجواز قراءته بالنّصب و إثبات الواو لا يخالف خطّ المصحف الذي حذف منه الواو،و على سبيل الاختصار،و إن لم تكن القصّة كذلك،و قد ذكرنا وجه جواز النّصب و قيام الحجّة به و شهرته و ثبوته عن السّلف،و أخذهم و كثير من الخلف به.
و إذا كان ذلك كذلك صحّ ما قلناه،و بطل قول من منع جواز قراءة هذا الحرف بغير الجزم،و بطلان قول من ادّعى كون الجزم في القراءة ملحونا.
ص: 559
فإن قالوا:إذا أجزتم قراءة هذا الحرف بالجزم و النّصب،و أجزتم أيضا قراءة قوله:«إنّ هاذان لساحران»،تارة كذلك و تارة:«إنّ هذين لساحران»، فألا أجزتم أيضا قراءة قوله:«و المقيمين الصّلاة»،بالرّفع،و أن يقرءوا:
«و المقيمون الصّلاة»،و كذلك فألا أجزتم قراءة قوله:«و الصّابئون»بالنّصب، و أن يقرءوا:«و الصابئين»منصوبا،و إن كان ذلك مخالفا لخطّ المصحف كما صنعتم ذلك في«أصّدّق و أكن»،و«إنّ هذين لساحران»،و إن خالفت القراءة خطّ المصحف حيث تكونوا قد أعطيتم القياس/حقّه و مضيتم مع موجبه.
يقال لهم:لا يجب ما قلتم لأجل أنّنا قد بيّنّا جواز قراءة الحرفين الأولين على الوجهين جميعا،و بيّنا أنّ قوما من السّلف،و خلقا من الخلف قرءوا بذلك،فاشتهر عنهم و قامت الحجّة به من غير تناكر و لا ترافع،و أوضحنا ذلك بما يغني عن ردّه،فوجب تجويز الوجهين جميعا في«أصّدق و اكن»، و في«إنّ هذين لساحران»،و لم ينقل عن أحد من السّلف،و لا قامت الحجّة بأنّ أحدا منهم قرأ:«و المقيمين الصلاة»بالرفع،«و الصّابئين بالنّصب»،و هو إذا قرئ كذلك مخالف لخطّ المصحف،و إذ قرئ على موافقة خطّ المصحف فقد قرئ بوجه صحيح جائز،و قد بيّنا صحّته و سلامته لغير وجه،فلا يسوّغ لأحد ترك قراءتهما على موافقة خطّ المصحف الذي قد نتّفق أنّه قد أنزل كذلك،و قرئ به إلى مخالفة الخطّ في المصحف الذي لا يؤمن معه أن يكون اللّه سبحانه ما أنزله على ذلك الوجه،و إن كان جائزا سائغا،و قد أوضحنا فيما سلف أنّ القراءة تثبت تارة جواز ما بخطّ المصحف و نقله و الشّهادة بصحّته،و تثبت تارة بالنّقل عن السّلف و ظهور القراءة للحرف بينهم، و إن خالف خطّ المصحف،فوجب لأجل هذه الجملة جواز قراءة ما قلناه على الوجهين جميعا،و لم يجز قراءة:«و المقيمين الصّلاة»:«الصّابئون»
ص: 560
بخلاف خطّ المصحف،و على ما لا نعلم أنّ اللّه سبحانه أنزله عليه،و إن كان سائغا ظاهرا و كان هو الأشهر في اللّغة العربية،لأنّه قد يجوز أن يترك الحرف و الحرفان على خلاف الوجه الأظهر الأشهر على ما بيّناه من قبل إذا كان لإنزاله على خلاف ذلك في اللّغة توجّها صحيحا،و إذا كان ذلك كذلك بطل ما سألوا عنه و طالبوا به.
فأمّا ما يروى عن عاصم الجحدريّ من أنّه كان إذا قرأ:«و الصّابئون» قرأه بالرفع،و إذا كتبه منصوبا كراهية مخالفة خطّ المصحف،فإنّه إن ثبت عنه رواية لذلك عن السّلف وجب إجازة قراءته على الوجهين،و إن لم يكن عنده/في ذلك رواية و كان من رأيه و اجتهاده و ظنّه أنّ ذلك من اللّحن،فإنّه خطأ منه مردود،لأنّنا قد بيّنا جواز ذلك و وجه ما يجوز أن يضمر فيه فلا وجه لمخالفته إن لم تكن هناك رواية مشهورة عن الصّحابة الذين هم السّلف في جواز قراءة هذا على خلاف خطّ المصحف و هذه جملة تكشف عن بطلان جميع ما يتوهّمونه في هذا الباب من دخول الخلل و الغلط في نقل القرآن و جمعه و إثباته.
و اعلموا رحمكم اللّه:أنّ ضبط السّلف و الخلف لهذه الأحرف اليسيرة المعدودة و خوضهم فيها،و اختلافهم في وجوه قراءتها،و ما ذكر عن بعضهم:
أنّها ملحونة على تأويل ما قلناه،أو:أنّها من غلط الكاتب،و قول بعضهم:
إنّه لا يجوز قراءة شيء منها على مخالفة خطّ المصحف،و قول آخرين:
يجوز ذلك،و قول بعضهم:يجوز قراءة بعضها على مخالفة خطّ المصحف و على موافقته،و لا يجوز قراءة بعضها على مخالفة خطّ المصحف،و حمل بعضهم نفسه على أن يقرأ بعضها على مخالفة خطّ المصحف،فإذا كتبه كتبه على موافقة خطّ المصحف كراهية مخالفة الإمام و كلام الناس في هذا الباب.
ص: 561
و تخريج الوجوه و تقدير الحرف و إظهار الأسباب الذي يخرج بها الكلام عن أن يكون لحنا إلى غير ذلك ممّا ذكر في هذا الباب من أدلّ الأمور على صحّة نقل القرآن و ضبطه،و شهرة أمره فيهم و ظهور نقله بينهم و إحاطتهم بعلمه و معرفتهم بما ثبت منه و إدراكهم بعلم جميعه و بمعرفة نظمه و ترتيبه، و كماله و سلامته،لأنّ العادة موضوعة على أنّ القوم الذين لم يهملوا الكلام في هذه الأحرف اليسيرة،و البحث عنها و تطلّب الوجوه لها،و الكشف عن معانيها و الكلام في قراءتها و إثباتها،لا يجوز أن يذهبوا عن معرفة قرآن قد حذف و نقص،و عن علم قرآن زيد و بدّل و غيّر و اختلّ عن نظمه و سننه، و أزيل عن نظامه و ترتيبه،بل موجب العادة فيهم أنّهم لو لحق كتابهم اليسير من ذلك،لعظم/خوضهم و استدراكهم له و تماديهم و تجادلهم فيه،و إذكار بعضهم لبعض موضع الغلط و الإهمال،و لتفاقم الأمر في ذلك و ظهر و انتشر و كثر الحديث به و القول فيه،و ظهر ظهورا تعلمه العذراء في خدرها فضلا عن قرّاء القرآن،و أصحاب السنن و الآثار،و نقلة الحديث و الأخبار،و لكانت عنايتهم بذلك و اشتغالهم بالخوض فيه من أكثر شأنهم و أفشى شيء فيهم، و لما لم يكن الأمر فيما يدعونه من تغيير القرآن و نقصانه و زيادته و مخالفة ترتيبه،و تقديم مؤخره و تأخير مقدمه،على ما ذكرنا وجب بهذه الجملة بطلان جميع ما يدّعون من هذا الباب،و ثبت بما وصفناه أن اللّه سبحانه قد عصم الأمة من ذهابها عن حفظ كتاب ربها،و نفى ذلك عنها،و حفظ عليها و لها ما استحفظها من كلامه،ورعا لها ما استرعاها من القيام بحفظ كتابه، و جمع لها ما ضمن جمعه،و حرسه من أن يأتيه الباطل من بين يديه،أو من خلفه على ما أخبر سبحانه بذلك في نصّ كتابه،و على لسان نبيه و رسوله.
ص: 562
فهذا من الحجج القاهرة و الأدلة الباهرة على بطلان قول من ادّعى دخول الخلل و الفساد على القرآن،و كيف يجوز في وضع العادة أن يذهب من القرآن مثل سورة البقرة في المقدار و لا يبقى منها إلا آيات،و أضعاف ما في أيدينا من سورة الأحزاب،على قوم ضبطوا هذه الأحرف و تكلّموا فيها بما وصفناه و خاضوا فيها الخوض الذي قدمناه،و أن توهم ذلك عليهم من التفريط الشديد و الجهل العظيم و العناد الدال على إلحاد صاحبه و تلاعبه، نعوذ باللّه من الحيرة و الضلال و نرغب إليه في التوفيق و السداد.
فإن قال قائل:قد زعمتم أن هذه الأحرف مثبتة في المصحف و مقروءة على خلاف الوجه الأظهر في اللغة،و على ما يظنه من قصر علمه أنها ملحونة فاسدة،و أن الأشهر في اللغة غير ما أثبت عليه،فخبرونا لم أثبتها القوم كذلك،فإن كانوا إنما أثبتوها على خلاف الوجه المألوف الأشهر لأنهم بذلك أمروا و عليه وقفوا/فلم أمرهم اللّه بذلك و أنزله على خلاف الوجه الأظهر و عدل سبحانه إلى الأمر فكتبه على الوجه الموهم للخطأ و ما يدعو إلى الالتباس و الشبهة؟و ما وجه الحكمة و الصواب في ذلك؟ يقال له:أما إطباق الجماعة على كتابة هذه الحروف على خلاف الوجه الأظهر الأشهر فهو أصح دليل على أنهم مأمورون بذلك و موقفون عليه و مؤخذون به،و أنه لو لا إلزامهم ذلك و جواز القراءة ببعضها مع إطلاق القراءة بغيره رحمة،و تضييقه القراءة ببعضها على وجه ما ثبت،و موافقة خط المصحف،لكتبوه على الوجه الأظهر الأشهر لا سيّما و ليس في ذلك ما يتعلق باختلاف منفعة أو دفع مضرة،أو يعود بإثبات إمامة و تأثيل محل و رئاسة و تفضيل قوم،و بنقص آخرين و لا يضر بهم إثباته على الوجه الأشهر
ص: 563
في باب دنيا و لا دين،و إثباته له على ما أثبتوه،إذا كانت الحال على ما وصفناه من أدل الأمور على أنهم مأمورون بذلك و مخبّرون بصحّته و جوازه.
فأمّا وجه الحكمة من أمرهم بذلك و توقيفهم عليه،فإننا قد بيّنا في غير موضع من الكلام في الأصول أن حكمة الباري سبحانه لا تثبت له إلا من جهة فعله و تعبده،و أنه لا يشرع و يأمر و ينهى و يخفف المحنة تارة،و يغلظها أخرى لعلة و باعث و خاطر و محرّك،و أسباب تدعوه إلى ما شرع و يبعثه على ما تعبد،و كشفنا ذلك بغير وجه،و أقرب ما يقال في هذا أنّه إنما أنزله سبحانه كذلك و أمرهم بإثباته على هذا الوجه،و إن كان السلف يعرفون وجه الصواب فيه،و المخرج تغليظا لمحنة الخلف و تشديدا لها و لتعمل آراءها و أفكارها،و تكثر نظرها و استخراجها فيما بيّن صواب هذه الأحرف و تخرجها عن اللحن و الخطأ،و ينقصون تصحيح ما يؤديهم النظر و الاستخراج و معرفة لطيف ما يحتج به لصحة هذه الأحرف على من خالفهم من الملحدين، و قدح في كتابهم و على سلف من الزائغين و المنحرفين،فيكون ذلك ذريعة إلى إجزال ثوابهم و سبيلا و وصله/تفضلهم و إعظامهم و الاحتجاج على أهل الجهل و الإهمال و التقصير بهم،و الأمر بالرجوع إلى بيانهم و المصير إلى برهانهم،و لو أنزل تعالى جميع كتابه بالأحرف الظاهرة و بما يستوي في معرفته الخاصة و العامة لبطلت هذه الفضلية و زالت المئونة،كما أنه لو أنزل جميع كتابه محكما بينا غير مشكل و لا مجمل و لا محتمل للتأويل و لا مما يحتاج في معرفة معناه إلى برهان و دليل لخفت المحنة و زالت المئونة و بطلت فضيلة العالم على الجاهل،و المجتهد الناظر على المهمل المقصر، و بطل معنى ما قصده تعالى بقوله: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7]،و لم يكن هذا التعظيم لشأن أهل العلم،و التفخيم و الإشادة
ص: 564
بذكرهم،و النص على تفضيلهم معنى،فهذا وجه من الصواب و الحكمة بين مع تسليم القول بالأصلح،و أن اللّه سبحانه لم يأمر بذلك و يشرعه إلا لعلة و وجه من وجوه المصالح و الحكمة.
و قد يمكن أيضا أن يكون تعالى إنما أنزل هذه على هذا الوجه،و أمر بإثباتها كذلك ليبعث سلف الأمة و خلفها على حفظ كتابه و تأمل ألفاظه و تبحر معانيه،و إنعام النظر في وجوهه و مبانيه و طرق إعرابه،و الفحص عن باقي ألفاظه،و هل في الكتاب ما يجري مجرى هذه الحروف و يشاكلها أم لا؟فيصيروا بذلك إلى ملازمة دراسته و كثرة تصفحه،و تعرف حال ألفاظه و حروفه و شدة ضبطه و تكرار الفكر فيه،و الاعتبار لألفاظه و معانيه و الاحتجاج لما طعن فيه و التنبيه على وجه المخرج منه،و يكون هذا أدعى الأمور لهم إلى حفظه و حراسته و الإحاطة به،و إطالة الفكرة فيه،و التتبع له،و التوقيف عند كل شيء منه،ورد بعضه إلى بعض،و اعتبار اللفظ بمثله،و قياسه على نظيره،و معرفة السبب الذي خولف ببعضه حكم مثله،و جعل مباينا لما من سبيله أن يكون كهو و جاري مجراه،حتى يكونون في كل عصر و زمان و حين من الأحيان على مثل هذه الحال من دراسته و تحفظه و تأمل جميعه و تتبّعه/ و الاحتجاج له،و الاجتهاد في الدفاع عنه،و دفع كيد القادحين في تنزيله و الملحدين في تأويله،و لو أخلاهم سبحانه من أحرف منه غريبة و ألفاظ شاذة و وجوه غير مألوفة عند كثير منهم،يحتاج منهم فيها إلى طلب الوجه و المخرج،لعدل القوم عن الدرس و التحفظ و البحث و التأمل،و ثقلت عليهم مئونة الاحتجاج،و تكلف النظر و الاستدلال،و لعوّلوا على أنه كله ظاهر جليّ و مألوف معروف،و أن الحليم العليم سبحانه منزله،و محمدا صلى اللّه عليه مؤديه و متحمله،و الأمة المتلقية حفّاظه و كتبته،و أن ذلك أجمع يغني
ص: 565
عن الفكرة و الحفظ و كثرة الدرس و التأمل،فيصير بهم الحال إلى قلة الدرس له،و القيام به،و الإنكار على من قبلهم،و العمل على حكم منزله و صدق رسوله و فصاحة أمته،و كل ذلك أسباب تدعو إلى التقصير و الإهمال،و ترك حياطة القرآن و دراسته و وجود الطاعن و الملحد سبيلا إلى القدح في القرآن، و التوهين لأمره و التمكين من الزيادة فيه،و النقصان منه.
فلما أراد اللّه تعالى حياطته و حراسته و تحصينه و جمعه،و الحفظ له على أمة نبيه،حرك خواطرهم،و جمع هممهم و دواعيهم على حفظه و تأمله من ملازمة دراسته و التفكر و التأمل لوجوه إعرابه،بما أنزل فيه من هذه الوجوه العربية و الأحرف الشاذة القليلة في الاستعمال،و هذا أيضا وجه من وجوه الحكمة و الصواب ينبي عن صحة ما قلناه،و فساد ما دانوا به و توهموه و باللّه التأييد.
ص: 566
ذكر مطاعنهم في صحة القرآن و نظمه من جهة اللغة
و وصف شبه لهم تجمع ضروبا من مطاعنهم
على التنزيل و الكشف عن إبطالها
قالوا:و مما يدل على نقصان القرآن،و تغيير نظمه و زيادة الكلمة منه في غير موضعها،و العدول بها عن مكانها الذي هو أولى بها،و دخول الخلل و الغلط على جامعيه-فإن الصحيح المرسوم على ما أنزل و رتّب عند الإمام و شيعته القائمين للّه بالحق فيه/و الذابين عنه-وجودنا فيه الكلام الذي ليس له تمام و لا متناسب في اللفظ،و لا في المعنى،و وجودنا فيه كثيرا من الكلام المنقطع المنبتر الذي لا يقتضي صلته بتمامه،و إيراد جواب له حتى يكون تاما مفيدا،و وجودنا الاستثناءات منه واردة في غير مواضعها،و مبطلة مناقضة لما قبلها،و ما هي استثناء منه.
و علمنا بأنه قد أحيل القول في كثير منه،و وصف الشيء فيه بغير صفته و نسب إلى ما ليس منه في شيء،نحو قوله تعالى: قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً [الإنسان:16]،و القوارير لا تكون من فضة أبدا،و قوله: لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (1)[الذاريات:33]،و الحجارة لا تكون من طين،و وجدنا أيضا
ص: 567
المصحف الذي في أيديكم منطويا على وصف الهادي الباري تعالى بغير صفته نحو قوله: وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات:147]و أو موضوعة للشك و هو مستحيل في صفته،و قوله: وَ ما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى [طه:17]و هذا لفظ استخبار و استفهام،و هو ممتنع على علاّم الغيوب،و قوله: وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم:
27]و ذلك يقتضي أن خلق بعض الأشياء أصعب و أشق عليه من غيره الأهون منه،و هو موجب لأن يكون ممن يناله الوصب و التعب،يتعالى عن ذلك.
و وجدنا فيه أخبارا متنافية متناقضة نحو قوله: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً [فصلت:11]بعد إخباره في أول القصة بأنه خلق الأرض قبل السماء،و قوله في آية أخرى: أَمِ السَّماءُ بَناها(27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوّاها(28) وَ أَغْطَشَ لَيْلَها وَ أَخْرَجَ ضُحاها(29) وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النازعات:
27-30]يريد بعد خلق السماء و بنائها،و ذلك خلف و تناقض من القول.
و وجدناه أيضا منطويا على ما لا معنى له،و على كنايات عن قوم لا وجه لترك ذكرهم و إظهار أسمائهم،نحو قوله: لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً [الفرقان:28]و أمثال هذا مما سنذكر في كل فصل منه جملة مقنعة إن شاء اللّه.
قالوا:و قد علم أن هذا الاختلاف و التخليط و اللّحن و التناقض و التكرار للقصة بعينها/على وجه يقتضي العي و اللكنة و الإطالة بما لا معنى له،لا يجوز أن يكون واردا من عند العليم الحكيم،فوجب أنّه من تحريف جامعي المصحف و غلطهم،أو إلباسهم و عنادهم،و إدغالهم (1)للدين و أهله و إدخالهم فيه ما ليس منه.).
ص: 568
و اعلموا-رحمكم اللّه-قبل الكلام عليهم أنّ هذه المطاعن بأسرها مطاعن الملحدين في كتاب اللّه تعالى،و قد سبقوا إلى ذكرها و الاحتجاج بها و زادوا على قدر ما تذكره الرافضة من هذه الأبواب،لأنها إنّما تذكر قليلا من كثير من كلام الملحدين في هذا الباب،و من هذه الفصول التي احتجّ بها الملحدون ما تودعه الرافضة كتبها،و تحتج به على تخليط السلف في كتاب اللّه،و تغييرهم له،و فيما تورده في نفس المناظرة و الدعوة إلى ضلالتهم على وجه التمويه على المستضعفين ممن يدّعونه أو يناظرونه،و ربّما أجهدوا أنفسهم عند قوله للعامّة الغوغاء من أتباعهم:إنّ هذا المصحف مصحف عثمان،و أنّه مغيّر مبدّل و مزيد فيه و منقوص منه و متواضع على تحريفه، و قصد التخليط فيه في إيراد جميع شبه الملحدين و مطاعنهم على كتاب اللّه، و إن كانوا عالمين بفساده و وجه المخرج منه،و جواز استعماله في اللغة قصدا منهم إلى الإلباس و تشكيك من اشتركوه (1)في صحة كتاب اللّه، و الاستعانة بما يوردونه عليه،ضمن شبه الملحدين على ما يحاولونه من استجابة الناس إلى ذم السلف،ترك العمل على مصحف عثمان،و تعلق قلوب سامع شبههم بالقرآن الصحيح الذي عند الإمام علمه،و ليس على أحد له أدنى فضل و مسكة و مطالبة شبهة فيما يتعلّقون به.
و نحن نذكر من كل ما تعلّقوا به جملة بينة على ما وراءها،و نفتح طريق العلم بصحّة ما طعنوا فيه و توهمهم و عنادهم فيما صاروا إليه على سبيل الإشارة به و التلويح،و إنّنا إن قصدنا لاستيفاء الكلام في جميع هذه الفصول و الأبواب،احتجنا أن نبسطه و نتقصّاه في دسوس أوراق/و خرجنا بذلك.
ص: 569
عن غرض الكتاب،و نحن نرجو إغناء من نصح نفسه و هدي لرشده بقدر ما نذكره و استقلاله به عن أمثاله،و ما هو بمعناه و ما توفيقنا إلا باللّه و هو المستعان.
قالوا:و ممّا يدلّ على تغيير القوم لكتاب اللّه تعالى و نقصانهم منه ما في مصحف عثمان من قوله عز و جل: *لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَ هُمْ يَسْجُدُونَ [آل عمران:113]فذكر أمة واحدة و لم يذكر أخرى،و سواء تأتي للمعادلة بين شيئين،يستويان و يتفاضلان،و متى ذكر أحدهما و لم يذكر الأخرى كان الكلام ناقصا،مبترا غير مفيد،قالوا:
و من هذه أيضا قوله: وَ لَوْ لا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اللّهَ تَوّابٌ حَكِيمٌ [النور:
10]و ينبغي أن يقال:و لو لا فضل اللّه عليكم و رحمته لنالكم كذى و كذى أو لأصابكم بكذى و نحوه،و إلا لم يكن الكلام تاما.
قالوا:و فيه أيضا قوله: وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى [الرعد:31]و لم يقل لكان هذا القرآن أو مثل هذا القرآن و نحو ذلك مما تتم به الفائدة،و من هذا أيضا قوله: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَ قائِماً [الزمر:9]و لم يذكر ضدّ هذا،و لا بدّ من ذكره ضدّه و خلافه، لأنك تقول أم من هو مصدق لك و منقاد لأمرك كمن هو مخالف عليك و مكذب لك،و متى لم يذكر نقيض الموصوف الأول أخلت،و تبتّر الكلام.
قالوا:فوجب أن يكون هذا أجمع و أمثاله يقتضي من ناحية وضع اللغة، و مقتضى الخطاب أن يكون القرآن المرسوم في مصحف عثمان مغيرا ناقصا، يقال لهم:لا يجب شيء مما ظننتم،لأن سائر ما تعلّقتم به و ادّعيتم الإحالة فيه معروف مستعمل في اللغة،و قد تكلّم فيه أربابها.و قالوا:إنّه باب حذف الجواب المقدر في الكلام على وجه الاختصار و الاقتصار على شاهد الحال،
ص: 570
و مفهوم الخطاب،فأما قوله: لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ إلى آخر/الآية،و المراد و أمة أخرى ليست كذلك فحذف الجواب على وجه الاختصار.
و أمّا قوله: وَ لَوْ لا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اللّهَ تَوّابٌ حَكِيمٌ فإنّما المراد و اللّه أعلم لعذّبكم بذنوبكم أو أخذكم بها،و نحو ذلك الحذف أيضا على الاختصار،و كذلك المقصد بقوله: وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى ،لكان هذا القرآن أو مثل هذا القرآن و نحوه،فحذف اقتصارا على العلم بالمراد به.
فأما قوله تعالى: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَ قائِماً ،فالمراد به و اللّه أعلم كمن هو بضد هذه الصفة و تارك لهذه القربة و هذا الاجتهاد،فحذف اقتصارا على ما ذكره بعد ذلك من قوله: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9]،و قد ورد مثل هذا في اللغة و الشعر كثير من ذلك.
قال الشاعر:
عصيت إليها القلب إني لأمرها سميع فما أدري أرشد طلابها
أراد:فما أدري أرشد طلابها،أم غيّ،فحذف ذكر الغيّ.
و قال آخر:
فأقسم لو أنّا يا رسول سواك و لكن لم نجد لك مدفعا
أراد به:رددناه أو حجبناه،فحذف ذكر الرد و الحجاب.
و قال آخر:
أراك فلا أدري أهمّ هممته و ذو الهمّ يوما خاشع متضائل
ص: 571
أراد أهمّ هممته أو شيء غيره فحذف ذكر غير الهم،و هذا كثير من أن يتبع.
و مثل هذا ما يتعلّقون به قوله عز و جل: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلّهِ وَ الرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَ أَطِيعُوا اللّهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الأنفال:1]ثم وصف المؤمنين ثم قال: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ [الانفال:5]و لم يذكر الشيء الذي شبّهه بإخراج اللّه له من بيته بالحق،و كما أنّه يدخل في الكلام لتشبيه الشيء بغيره،و ذلك أن اللّه تعالى/شبّه إخراجه من بيته مع كراهة قوم من المؤمنين لذلك بتنفيله عليه السلام يوم بدر لسلب القاتل،و جعله لمن أتى بأسير كذى و كذى، و إنّما فعل ذلك لقلّة المسلمين يومئذ و كراهة كثير منهم القتال،و كره قوم منهم أن يكون لكل من قتل قتيلا سلبه،فقال اللّه لهم: قُلِ الْأَنْفالُ لِلّهِ وَ الرَّسُولِ ،أي يضعها حيث شاء، فَاتَّقُوا اللّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ ،أي فرّقوها بينكم على ما أمر اللّه ثم قال: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ ،أي أنّهم كرهوا ذلك كما كرهوا إخراجك يوم أخرجت من بيتك،فحذف و جعل ما تقدّم في أوّل السورة جوابا لهذا الكلام،و اقتصر على دلالة الكلام عليه، و مثل هذا قول الشاعر:
فلا تدفنوني إنّ دفني محرّم عليكم و لكن خامري أمّ عامر (1)
يقول:لا تدفنوني،و لكن دعوني للتي يقال لها إذا صيدت:خامري أم عامر يقصد الضّبع لتأكلني،فحذف و لكن دعوني،للعلم باقتضاء الخطاب له.).
ص: 572
قالوا:و من هذا الباب أيضا قوله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [محمد:15]و لم يأت بالشيء الذي جعل الجنّة مثلا له،و هذا يقتضي فساد الكلام و خلوّه من فائدة،و استعماله على غير ما يجب و ذلك ينفي أن يكون من عند الحليم العليم.
يقال لهم:ليس الأمر في ذلك على ما قدمتم لأن المثل قد يكون معناه النسبة الذي هو مماثلة الشيء لغيره،لأنك تقول:هذا الشيء مثل هذا و أمثاله،كما تقول هذا شبه الشيء،و شبيهه و شبهه،و قد يكون بمعنى صفة الشيء و صورته،و كذلك المثل و المثال يكون بمعنى الصفة و الصورة و الخلقة،يدلّ على ذلك قولهم للمرأة الجميلة الرقيقة الرائعة كأنّها تمثال و مثال أي كأنّها صورة،و كما يقال كأنّها دمية،يعني الصورة،و هذه المرأة مثل أي صورة،و منه قولهم مثلت له كذى أي صوّرته،و أرني مثال الدار و مثال زيد أي:صورة ذلك،و قولهم:مثّل له الحظّ أي صوّره له ما يقتفي فيه أثر الممثل،و هذا أظهر و أشهر من أن يحتاج إلى إكثار و إذا/كان ذلك كذلك حمل قوله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ إلى آخر ما نعتها به على أنّه أراد أنّ صورتها و صفتها أنّ فيها كذى و كذى.
و من هذا أيضا قوله: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29]إلى آخر ما وصفهم و صوّرهم،لأنّه لم يضرب لهم مثلا في أول الكلام،فيردّ بمثلهم عليهم،و روي أنّ عليا عليه السلام كان يقرأ:
«مثال الجنّة التي وعد المتّقون»،و«أمثال الجنّة»،و هذا بمثابة مثل الجنّة.
فأمّا قوله تعالى: يا أَيُّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [الحج:73]فإنه إنّما لم يأت بالمثل،لأنّ في الكلام معناه،و ما يدلّ عليه و هو قوله: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ،فكأنه قال إنّما مثلكم أيها الناس في عبادة الأصنام و غيرها مثل من عبد إلها لا يقدر على خلق ذبابة و لا يقدر على الاعتصام من سلب ما يسلبهم الذباب في أنّ عابد من هذه صفته جاهل مقصّر و قاصد بالعبادة و التعظيم من لا يجوز له فحذف على وجه الاختصار و الاحتذاء بما يدلّ على ما في سياق الكلام،و من الحذف و الاختصار أيضا حذف جواب القسم،و منه قوله: وَ النّازِعاتِ غَرْقاً (إلى قوله) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5)(ثم قال) يَوْمَ تَرْجُفُ الرّاجِفَةُ [النازعات:1-6]و لم يذكر ما أقسم لأجله و إنّما معناه و النازعات و كذى و كذى لتبعثنّ،و كذلك قوله: ق وَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ(1) (ثم قال) بَلْ عَجِبُوا [ق:1-3]و لم يأت بذكر ما أوقع القسم له،و التقدير و القرآن لتبعثنّ، فقال الكافرون هذا شيء عجيب،فحذف ذكر البعث لما في الكلام من الدلالة عليه من جحد الكفّار للبعث و النشور،و من هذا أيضا قوله: إِلاّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ [الرعد:14]فأراد إلا كباسط كفّيه إلى الماء ليفيض عليه ليبلغ فاه،فاستطال و حذف لدلالة الكلام/عليه.
ص: 573
فأمّا قوله تعالى: يا أَيُّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [الحج:73]فإنه إنّما لم يأت بالمثل،لأنّ في الكلام معناه،و ما يدلّ عليه و هو قوله: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ،فكأنه قال إنّما مثلكم أيها الناس في عبادة الأصنام و غيرها مثل من عبد إلها لا يقدر على خلق ذبابة و لا يقدر على الاعتصام من سلب ما يسلبهم الذباب في أنّ عابد من هذه صفته جاهل مقصّر و قاصد بالعبادة و التعظيم من لا يجوز له فحذف على وجه الاختصار و الاحتذاء بما يدلّ على ما في سياق الكلام،و من الحذف و الاختصار أيضا حذف جواب القسم،و منه قوله: وَ النّازِعاتِ غَرْقاً (إلى قوله) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5)(ثم قال) يَوْمَ تَرْجُفُ الرّاجِفَةُ [النازعات:1-6]و لم يذكر ما أقسم لأجله و إنّما معناه و النازعات و كذى و كذى لتبعثنّ،و كذلك قوله: ق وَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ(1) (ثم قال) بَلْ عَجِبُوا [ق:1-3]و لم يأت بذكر ما أوقع القسم له،و التقدير و القرآن لتبعثنّ، فقال الكافرون هذا شيء عجيب،فحذف ذكر البعث لما في الكلام من الدلالة عليه من جحد الكفّار للبعث و النشور،و من هذا أيضا قوله: إِلاّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ [الرعد:14]فأراد إلا كباسط كفّيه إلى الماء ليفيض عليه ليبلغ فاه،فاستطال و حذف لدلالة الكلام/عليه.
قال الشاعر (1):
فإنّي و إيّاكم و شوقا إليكم كقابض ماء لم تسقه أنامله
أراد كقابض ماء ليرفعه لم تسقه أنامله،فحذف و اقتصر،و قد يقع الحذف و الاقتصار بالكناية عن غير مذكور تقدّم،كما نكنّي عما تقدّم له ذكر الاقتصار على دلالة الحال و الخطاب،و ما خرج الكلام عليه،و منه قوله تعالى:
فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً [العاديات:4]يعني الوادي،و قوله: إِذا جَلاّها [الشمس:3] يعني الدنيا،و لم يتقدم لها ذكر و قوله: حَتّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص:32]يعني).
ص: 574
الشمس،و لم يجز ذكرها و قوله: إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ [القصص:10]؛ أي:بموسى،و إن لم يذكره و قوله: إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1] يعني القرآن،و لم يتقدم ذكره و قال: وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللّهُ النّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ [النحل:61]يعني الأرض،و إن لم يتقدّم لها ذكر،و هذا أجمع سائغ مستحسن في اللغة،و معروف عند أهلها،و ليس لأحد أن يقول:إنّ هذا كلام ناقص مبتّر غير مفيد،إذا كانت المقاصد به معروفة و العادة باستعمال أمثاله جارية مألوفة.
قال المثقّب العبدي (1):
فما أدري إذا يممت أرضا أريد الخير أيّهما يليني
أالخير الذي أنا أبتغيه أم الشرّ الذي هو يبتغيني
فكنّا بقوله أيّهما عن الخير و الشر لما ذكرهما بعد الكناية.
و قال آخر:
إذا نهي السفيه جرى إليه و خالف و السفيه إلى خلاف
يعني تاليه إلى السّفه.
و منه قول حاتم:
أما ويّ ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما و ضاق بها الصدر (2)).
ص: 575
يعني النفس،و لم يتقدم لها ذكر.
و قال لبيد:
حتى إذا ألقت يدا في كافر و أجن عورات الثّغور ظلامها (1)
يعني الشمس إذا ابتدأت في المغيب،و الكافر المعط،و الثغور الأودية و الشعاب/من كل موضع يخافه يسمى ثغرا.
و قد يحذف و يختصر بأن يوقع على شيئين و هو لأحدهما و لا يذكر فعل الآخر،و يقام فعل أحدهما مقام ما ذكر معه على وجه الإيجاز و الاختصار و يضمر في الكلام ما كان يجب أن يذكر و يظهر،و من هذا قوله تعالى:
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ(17) بِأَكْوابٍ وَ أَبارِيقَ وَ كَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ(18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَ لا يُنْزِفُونَ(19) وَ فاكِهَةٍ مِمّا يَتَخَيَّرُونَ(20) وَ لَحْمِ طَيْرٍ مِمّا يَشْتَهُونَ(21) وَ حُورٌ عِينٌ(22) [الواقعة:
17-22]و الفاكهة و اللحم و الحور لا يطاف بها،و إنّما معنى ذلك أنهم يؤتون مع ما يطاف به عليهم بلحم طير و فاكهة و حور عين،و منه أيضا قوله تعالى:
فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَ شُرَكاءَكُمْ [يونس:71]أي فادعوا شركاءكم.
قال الشاعر:
تراه كأن اللّه يجدع أنفه و عينيه إن مولاه بان له وفر
و إنّما عنى تراه كأن اللّه يجدع أنفه و يفقأ عينيه،فأجرى على العين فعل الأنف على سبيل الحذف و الاختصار.).
ص: 576
و قال الشاعر:
و رأيت زوجك في الوغى متقلّدا سيفا و رمحا و الرمح لا يتقلد به،و أجرى عليه فعل السيف.
و قال آخر (1):
إذا ما الغانيات برزن يوما و زجّجن الحواجب و العيونا
و العيون لا تزجج و إنّما أراد زجّجن الحواجب و كحّلن العيونا.
و قد يحذف أيضا المضاف و يقام المضاف إليه مقامه،و يجعل الفعل له، و منه قوله: وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [البقرة:93]أي حبّ العجل و:
اَلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ [البقرة:197]أي:وقت الحج،و قوله: لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ [الحج:40]الصلوات و بيوت الصلوات،و قوله: لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ [الإسراء:75]يريد ضعف عذاب الحياة و ضعف عذاب الممات،في أمثال لهذا يطول ذكر جميعها،و ليس لأحد أن يدّعي الفساد و الإحالة و النقصان في شيء من هذا/،و إن ظنّ ذلك الجاهل الذي لا علم له بعادة الاستعمال،و طريقة أهل اللسان،و من الحذف و الاختصار المعروف في كلامهم حذف لا في القسم،و منه قوله: يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء:176]أي:ألاّ تضلوا فحذف لا،و قوله: كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ [الحجرات:2]أي لا تحبط.
قال الشاعر:
فقلت يمين اللّه أبرح قاعدا و لو قطعوا رأسي لديك و أوصالي).
ص: 577
يريد:يمين اللّه لازمة لي لا أبرح قاعدا،فحذف على وجه الاختصار، و هذا أكثر من أن يتتبع فمن ادّعى الفساد و التخليط بمثل هذا فقد جهل و أبعد.
قالوا:و مما يدلّ أيضا على نقصان القرآن و تغيير نظمه أنّنا وجدنا في مصحف عثمان ما ليس بملائم و لا متناسب من الكلام،و اللّه يجلّ عن إنزال كلامه على هذا الوجه من الفساد و النقصان.
قالوا فمن هذا قوله تعالى: *جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنّاسِ وَ الشَّهْرَ الْحَرامَ وَ الْهَدْيَ وَ الْقَلائِدَ (إلى قوله) ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ [المائدة:97].
قالوا:فأيّ مناسبة بين جعله البيت الحرام قياما للناس و بين قوله:
«ليعلموا أنّ اللّه يعلم ما في السموات و ما في الأرض و أنّ اللّه بكلّ شيء عليم؟» و هل كان أن لو لم يجعل البيت قياما للناس أن لا يعلموا أنّ اللّه بكل شيء عليم،و إذا كان بكلّ شيء عليم جعل ذلك أو لم يجعله،فما معنى هذا الكلام،و ما معنى جعله البيت الحرام و الشهر الحرام قياما للناس.
فيقال لهم:ليس الأمر في هذا على ما ظننتم،و ذلك أنّ العرب كانت في جاهليتها تشنّ الغارات،و تسفك الدماء الحرام،و تأخذ الاموال بغير الحق و تخفيف السبيل و تطلب الثأر فيقتل بالمقتول قاتله و غير قاتلة، و بالواحد الجماعة و يقتل القاتل و جاره و من في ذمامه فجعل اللّه الكعبة البيت الحرام و ما حوله و الشهر الحرام قوما/للناس أي أمنا لهم،لأنّ الخائف منهم كان إذا لجأ إلى البيت حقن دمه،و سلمت نفسه و زال خوفه،قال اللّه تعالى: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ النّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:67]
ص: 578
يعني بالقتل و الإخافة و الغارات و كانوا إذا دخل الشهر الحرام يكفّون عن الحرب و القتل و شنّ الغارات و يتبسّطون في الأرض آمنين على أموالهم و أنفسهم،فجعل اللّه البيت الحرام و ما حوله و الهدي و التقليد إليه من مصالح خلقه،و عائدا بحفظ نفوسهم و أموالهم و حقن دمائهم،و لو تركهم على ما كانوا عليه لتفانوا و لذهبت أموالهم و أنفسهم و لم يستقرّ بهم دار و لا قرار، و عرّفهم تعالى أنّه جعل ذلك من مصالحهم،فقال تعالى: ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ [المائدة:97]يقول كما أنّني علمت أنّ جعل الكعبة الحرام و الحرم قياما للناس و أمنا لهم،فإنّ ذلك من مصالحهم،و اعلموا أيضا أنّني أعلم ما في السموات و ما في الأرض من مصالح أهلها و مرافقهم و وجوه دفع المضار عنهم،و أنّني مع ذلك بكل شيء عليم،فأيّ كلام أليق بكلام،و أشبه به من هذا لو لا الجهل و التخليط.
قالوا:و من هذا الباب أيضا قوله: وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء:3]و هل يصيرون مقسطين في اليتامى بنكاحهم النساء،و كيف يكون ذلك و هم عند نكاح النساء أعجز عن القسط و العدل في اليتامى،و أيّ تناسب بين هذا الكلام؟ فيقال لهم:ليس الأمر في هذا أيضا على ما قدّرتم،و ذلك أنّ اللّه شبّه خوفنا بالعجز عن العدل و القسط في اليتامى،بعجزنا عن العدل بين أكثر من أربع نسوة،لو أطلق لنا نكاح أكثر من أربعة،فقال كما تخافون أن لا تعدلوا بين اليتامى إذا كفلتموهم،فخافوا أيضا أن لا تعدلوا بين النساء إذا نكحتموهنّ و أكثرتم منهن،فانكحوا إذا كنتم تخافون/ذلك اثنتين و ثلاثا و أربعا،و لا تتجاوزوا ذلك،لا تقصّروا و تعجزوا عن العدل بينهن،ثم قال
ص: 579
و إن خفتم أيضا أن لا تعدلوا بن الاثنتين و الثلاث و الأربع فانكحوا واحدة، و اقتصروا معها على ما ملكت أيمانكم من الإماء،ذلك أدنى أن لا تعولوا، أي لا تميلوا و تجاوزوا.
و قد روي هذا الذي قلناه بعينه عن ابن عباس؛فإنّه قال:«قصر الرجال على أربع من أجل اليتامى فيقول لما كان النساء مكفولات بمنزلة اليتامى، و كان العدل على اليتامى صعب شديد على كافلهم قصر الرجال على ما بين الواحدة إلى الأربع من النساء،و لم يطلق لهم ما فوق ذلك لأن لا يميلوا»، و إذا كان ذلك كذلك بطل توهّمهم و زال تعجّبهم.
و قد قيل:إنّ تأويل هذه الآية أنّه قد كان مباحا لهم في صدر الإسلام أن ينكحوا ربائبهم اللاتي في حجورهم من نسائهم اللاتي دخلوا بهنّ،و أن منهم من كان يخاف أن لا يعدل بين الربيبة و بين غيرها ممن ليست بربيبته، لكونه واليا على الربيبة و مربيا لها و مستوليا على أمرها فقال لمّا علم ذلك من حالهم:و إن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى إذا أنتم نكحتموهنّ و تزوجتم بهنّ فيما يتعلق بحقوق الزوجية و العدل بينهنّ و بين غيرهن،فانكحوا غيرهنّ من النساء اللاتي ليس في حجوركم و لا لكم عليهنّ ولاية لتحسم أطماعكم في تحيّفهن،و هذا تأويل صحيح.
و قيل أيضا:إنّ تأويل الآية أنّكم إن خفتم أن لا تعدلوا في اليتامى الأطفال إذا تزوجتم بهنّ و كنّ ذوات أموال تخافون أخذها و أكلها بالباطل و عجز الأطفال عن منعكم منها و صدّكم عنها،و استيفاء ما تتلونه منها، فانكحوا ما طاب لكم النساء البذّل القادرات على تدبير أموالهنّ،و منعكم من تخطّفها؛لأنّكم تكونون عند ذلك أبعد في أكل أموالهنّ بالباطل، و الاعتداء عليهن،و هذا أيضا قريب/ليس ببعيد.
ص: 580
و يمكن أيضا أن يكون التأويل في ذلك أنّكم إذا خفتم الإثم و النار بأن لا تعدلوا بين اليتامى فخافوا مثل ذلك في ترك العدل بين النساء،و انكحوا ما طاب لكم من النساء،يعني به من أحلّ لكم منهنّ و هم اثنتين أو ثلاث أو رباع،و لا تنكحوا أكثر من ذلك فتتركوا العدل بينهنّ إذا كثروا فتتورّطوا لذلك في الإثم و النار،فكأنّه قال:إن خفتم النار بترك العدل بين اليتامى فخافوا ذلك في ترك العدل بين النساء و انكحوا قدر ما أحللته لكم ممّا أعلم أنّكم تستطيعون العدل بينهن،و لا تتجاوزوا ذلك،و لو قال مكان هذا فإن خفتم أن لا تعدلوا بين اليتامى فاعدلوا في الحكم و أوفوا الكيل و قوموا بالفرائض لتتبرءوا من الإثم،لكان ذلك صحيحا جائزا كما يقول القائل:إن خفت السلطان في منع الحرام فلا تقذف المحصنات،و لا تشتم الناس،يريد بذلك فإنّ الضّرر عليك في مثل هذا،ما خفت منه أو أكثر،و قد يمكن أيضا أن يكون أراد بالآية أنّكم إن خفتم إذا تزوجتم بالأيتام أو الأطفال اللاتي لا وليّ لهنّ و طالبنكم بحقوق الزوجية و إقامة العدل بينهنّ،فانكحوا البالغات البذّل اللاتي يقدرن على أخذكم بالعدل بينهن،و تكونون عند نكاحهن أبعد من الظلم لهنّ.
قالوا:و من ذلك أيضا قوله: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ [لقمان:31]،قالوا:فما معنى تخصيصه للصبّار الشّكور دون غيره،و فيما ذكره آيات لكل مكلّف ممن صبر و شكر و ممّن ليست هذه صفته.
فيقال لهم:ليس فيما ذكرتموه من هذا متعلّق و ذلك أن اللّه كنّى و هو أعلم بذكر الصبّار الشكور عن المؤمن لأجل أنّ أفضل صفات المؤمن الصبر المقترن بالشكر،فكأنّه قال:إنّ في ذلك لآيات لكل مؤمن،و قد قال في
ص: 581
موضع آخر: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً/لِلْمُؤْمِنِينَ (1)[الحجر:77]فلا تعلّق فيما وصفتم،و إنّما يخصّ المؤمنين المتفكرين و المعتبرين بالذكر في ذلك، و تضاف الآيات إليهم دون الكافرين،و من أهمل نفسه و صدّق و عاند و تنكّر الحقّ لأجل أنّهم هم المنتفعون بالنّظر في هذه الآيات،و المستدلون بها و المتبرون بعجيب صنعها و لطيف ما فيها،و كذلك قوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ [ق:37]،يعني من كان له علم،و إن كان لو نظر في ذلك من لا علم له لعلم بصحيح النظر ما علمه المؤمنون،و اتّعظ و انزجر بذلك،فذلك ما ظنوه.
قالوا:و من هذا الباب أيضا قوله تعالى: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفّارَ نَباتُهُ [الحديد:20]،و كيف يعجب النبات الكفار دون المؤمنين الأبرار، و هذا إذا طلع و اخضرّ و أينع،أعجب المؤمنين و الكافرين.
فيقال لهم:لم يرد اللّه تعالى بذكر الكفّار هاهنا الكفّار باللّه تعالى و بالأديان،و إنّما عنى و هو أعلم بالزرّاع الكفار،لأنّ مغطّي الزرع إذا بذره في الأرض و ستره كافر،و منه قيل للمتسلّح المعتد:متكفّر بسلاحه؛أي:
متغط به،من قول الشاعر:في ليلة كفر النجوم غمامها.
يريد غطّى الغمام النجوم و سترها و إنّما قال يعجب الزّراع نباته، و خصّهم بذلك لأنّهم هم المبلون به و المترقبون لما تخرجه الأرض و المنتفعون به قبل غيرهم،فأضاف ذلك إليهم.
قالوا:و من ذلك أيضا قوله تعالى: قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً [الإنسان:
16]،و قد علم أنّ القوارير لا تكون من فضة،و في هذا الكلام إحالة و فسادد.
ص: 582
و نقصان ما لا يتمّ الفائدة،و ينتظم الكلام و معناه الآية،فوجب أن يكون ما هذه صفته فليس من عند اللّه.
يقال لهم:ليس الأمر في هذا على ما قدّرتم،لأنّ اللّه تعالى أراد أنّ تلك الأكواب التي هي كيزان لا عرى لها في بياض الفضة و صفاء القوارير على مذهب النسبة،فكأنّه قال:هي أكواب قوارير كأنّها الفضة من بياضها/ فحذف كأنّها أو مثل الفضة،أو تشبه الفضة لحصول العلم بذلك و علم أهل اللسان به،و هذا شبيه بقوله: كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ [الصافات:49]،و كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَ الْمَرْجانُ [الرحمن:58]،و لو قال:إنهن ياقوت و مرجان و بيض مكنون و حذفت كأنّهنّ،و هو يعني بذلك لكان صحيحا سائغا على طريقة أهل اللسان،و لهذا استجازوا أن يقولوا:فلان درة لا قيمة لها و جوهرة نفيسة،و هذه الجارية لؤلؤة و ياقوتة،و هذا شراب من نار و من نور،يريدون بذلك أنه يشبه الجوهرة و الياقوتة،و أنّ الشراب يشبه النور و النار،و إذا كان ذلك كذلك سقط ما تعلقوا به هم و إخوانهم من الملحدين.
قالوا و من هذا أيضا قوله: لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (1)[الذاريات:
33]،و قد علم أنّ الحجارة خلاف الطين،فعلم بذلك فساد هذا الكلام، و أن اللّه لم ينزّله كذلك.
يقال لهم:هذا غلط لأنّ عبد اللّه بن عباس ذكر الذي أرسل عليهم آجر، و الآجر حجارة من طين لأنّ أصله الطين،و سمّاه حجارة لأنّه كان في صلابة الحجارة و شدّتها،و ذلك صحيح غير بعيد،بأن يكون اللّه تعالى أمر الملائكة أن ترميهم بالآجر،و أن يكون هو تعالى رماهم بها،فخلق حركات الآجرل.
ص: 583
و اعتماداته على رءوسهم،و قد ذكر في السيرة أنّ ولد نوح عليه السلام تفرّقوا في الأرض،و كانت الأرض لسانا واحدا،فلمّا ارتحلوا من المشرق وجدوا بقعة في الأرض سبعة سبخة فنزلوا ثم جعل الرجل يقول للرجل:
هلمّ فلنليّن لبنا فنحرقه فيكون اللّبن حجارة و نبني مجدلا رأسه في السماء، و ذكر بعض من رأى هذه الحجارة أنّها حمن مختّمة،و قال آخرون:بل هي مخطّطة و ذلك تسويمها،و هذا يزيل توهّمهم و يبطل شبههم.
قالوا:و ممّا يدلّ على تغيير القوم لنظم القرآن و ترتيبه على غير ما أنزل و وضعهم لأشياء منه في غير حقّها و مواضعها وجود الاستثناءات (1)منه واردة في غير مواضعها/و موجبة للنقص و فساد المعنى و المقصود قالوا:
فمن ذلك قوله: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدخان:56].
قالوا:و قد ثبت أنّ أهل الجنة و غيرهم أيضا من الأحياء لا يصحّ أن يذوق الموتة الأولى التي ماتوا بها في الدنيا؛لأنّ الموت الذي كان في الدنيا مضى و انقضى،و لا يجوز أن يعلا و يخلق مرة أخرى،فيذوقه أهل الجنة و لا غيرهم.
قالوا:على أنّه قد أخبر في غير موضع،أنّ أهل الجنة لا يموتون أبدا، و لا يألمون و لا ينقطع و يزول ما هم فيه من العيش السليم و النعيم المقيم، و من هذه حاله لا يذوق الموت جملة،لا الموتة الأولى التي كانت في الدنيا و لا في غيرها،و وجب أن يكون قوله إلا الموتة الأولى استثناء يفسد من وجهين:».
ص: 584
أحدهما:أن الموتة الأولى لا تصحّ أن تعاد فيذوقها أحد،و الآخر:أنّ أهل الجنة لا يذوقون الموت أبدا،لا الموتة الأولى و لا غيرها.
قالوا فهذا يدلّ على أنّ هذا الاستثناء ليس من كلام اللّه،أو هو من كلامه غير أنّه وارد في غير هذا الموضع،أو على غير هذا الوجه،أو كان معه كلام من حكاية عن مبطل،أو قول لقائل،أو مقدم أو مؤخّر يخرجه عن الفساد و الاستحالة.
فيقال لهم:لا يجب شيء ممّا قلتم،لأجل أنّ إلاّ هاهنا بمعنى سوى، و سوى هو بمعنى غير،فكأنّه قال تعالى«لا يذوقون الموت غير الموت الذي كانوا ذاقوه في الدنيا،و قوله فيها ليس معناه أنّهم يذوقون في غيرها الموت، و لكن لما ذكر الجنة و وصفها،بأنّها دار مقامهم و قرارهم و أنّه لا دار لهم سواها،قال:لا يذوقون فيها الموت،و مثل هذا قوله: وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ [النساء:22]،يعني سوى ما قد سلف في الجاهلية،و قد يقول القائل:ما ينالك في هذا الأمر ضرر و لا حزن إلا ما نالك و سوى ما نالك،لا يريد بذلك أنّك ينالك ما قد نالك و انقضى و مضى،و إنّما يعني بذلك أنّه لا ينالك شيء غير الذي قد نالك من قبل و هذا أبين من أن يحتاج/إلى إكثار.
و أمّا قولهم:إنّ أهل الجنة لو جاز أن يموتوا لم يصحّ أن يذوقوا الموتة الأولى التي كانت في الدنيا،لأنّها لا تصحّ أن تخلق و تعاد مرة أخرى،فإنّه باطل؛لأنّ الموت المنقضي و جميع الأعراض الفانية يصحّ أن تخلق و تعاد بعد فنائها،و أن يقدّم خلقها و يؤخر أيضا،و إن استحال بقاؤها و استمرار الوجود بها وقتين فصاعدا،و قد بيّنا ذلك و دللنا على صحته في كتاب«شرح
ص: 585
اللّمع لأبي الحسن الأشعريّ» (1)بما تغني الناظر فيه،و إذا كان ذلك كذلك سقط ما قالوه.
قالوا:و من هذه أيضا قوله تعالى: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلاّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108]،قالوا:و قد علم أنّ قوله غير مجذوذ يقتضي أن يكون دائما غير مقطوع،و قوله: «إِلاّ ما شاءَ رَبُّكَ» يقتضي أنّهم يمكثون في الجنة دهرا ثم لا يكونون فيها لقوله: «إِلاّ ما شاءَ رَبُّكَ» ،لأنّه يقتضي إلا ما شاء اللّه من إخراجهم،و هذا تناقض و استثناء في غير موضعه.
يقال لهم:لا يجب ما قلتم لأنّ العرب تعبّر عن معنى الأبد و التأبيد بألفاظ كثيرة،يقصدون بها الإخبار عن دوام الشيء و تأبيده،فمن ذلك قولهم:لا أفعل ذلك ما تكرر العصران و ما اختلف الجديدان،و ما اختلف الليل و النهار،و ما طلعت الشمس،و ما غربت،و ما ظمأ البحر،و ما أقام أحد،و ما در للّه شارق،و أمثال هذه الألفاظ قال امرؤ القيس:
و إنّي مقيم ما أقام عسيب (2)
يعني جبلا قائما،استجازوا جعل هذه الألفاظ مكان ذكر الأبد لاعتقادهم أن العصرين يتكرران أبدا سرمدا،و أنّ الليل و النهار يختلفان و يتجددان أبدا).
ص: 586
دائما،و أن البحر لا يزال ظاميا مرتفعا،و أن الجبل و السموات و الأرض لا تزولان و لا يتغيران أبدا،فقالوا كذلك:لا أكلمك ما اختلف الجديدان و ما ظمأ البحر،و هم لا يعنون بذلك مدة من الزمان/منقطعة متناهية،و إنّما يعنون الأبد الذي لا انقطاع له و لا تأخير،فخاطب اللّه العرب بما تعهده في كلامها و تعرفه في عرفها فقال تعالى: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ ، يعني أنّهم خالدون فيها أبدا سرمدا فعبّر عن هذا بدوام السموات و الأرض لاعتقادهم في أصل اللغة أنّهما غير منقطعين و لا مبتعدين.
فهذا الكلام جواب من قال:كيف قال خالدين فيها ما دامت السموات و الأرض،و قدر دوام السموات و الأرض منقطع متناهي،و هو قد أخبر أنّ خلودهم و دوامهم غير مجذوذ و لا مقطوع،و إن وجب اعتقاد انقطاع دوام السموات و الأرض من جهة السمع،قال اللّه تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ [إبراهيم:48]،و قال: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ (1)[الأنبياء:104]،فأخبر عن تغييرها و تبديلها.
و أمّا قوله تعالى: إِلاّ ما شاءَ رَبُّكَ ،فإنّ معناه سوى ما شاء ربك،و معنى ذلك أن اللّه تعالى لما علم أن مكث السموات و الأرض منقطع متناهي (2)، قال: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلاّ ما شاءَ رَبُّكَ ،أي سوى ما شاءه.
ص: 587
ربك من إدامة خلودهم بعد فناء السموات و الأرض و تبديلهما الذي علمه، و إن كنتم أنتم لا تعرفون ذلك في وضع لغتكم و تعارفكم،لأنّه لو لم يقل:
إلا ما شاء اللّه أن تكون مدة مقامهم في الجنة مدة مقام السموات و الأرض إلى حين فنائها و تبديلها،هذا وجه صحيح،و قد يقول القائل:لأسكنن في هذه الدار حولا أو شهرا إلا ما شئت،و قد يصح أن يريد بقوله:إلا ما شئت أن أزيد على ذلك،و قد يصحّ أن يعني إلا ما شئت أن أنقص منه فإذا علمنا بوجه قاطع أنّه لا ينقص من سكنى سنة حمل قوله:إلا ما شئت على الزيادة على ذلك دون النقصان،و كذلك إذا قال بعد قوله: إِلاّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ،يعني غير مقطوع حمل على أنّه أراد سوى ما شاء من/الزيادة على قدر دوام السموات و الأرض،إذ كان قدر دوامها منقطعا متناهيا (1).
و يحتمل أيضا أن يكون تعالى أراد بقوله:«إلا ما شاء ربك»،مع دوام السموات و الأرض من كونهم في الدنيا و من كونهم بأرض المحشر،لأنّهم في الدنيا و في الموقف للحساب لا في الجنة و لا في النار،فكأنّه قال:و هم أبدا في الجنة و عبّر عن ذلك بدوام السموات و الأرض إلا قدر ما نقص من ذلك من مدة مقامهم في الدنيا،و في المحشر و هذا أيضا وجه صحيح.
و يحتمل أيضا أن يكون تأويل قوله:«إلا ما شاء ربك»من كون المؤمنين من أهل الإجرام في النار،فقال خالدين فيها يعني المؤمنين إلا ما شاء ربك من مدة كونهم معاتبين في النار على إجرامهم إلى حين تدركهم رحمة اللّه لهم و شفاعة نبيه فيهم،و إذا كان ذلك كذلك زال توهمهم للمحال بهذا الاستثناء و سقط تعجّبهم.ب.
ص: 588
قالوا:و مما يدلّ أيضا على تغيير القرآن و تلاوة القوم له و رسمه على خلاف ما أنزل اللّه تعالى،وجودنا فيه خطابا للحاضر بما هو مبين للغائب، و ليس يحسن أن يقول القائل اختبرتك فوجدته ثقة مناصحا،و رأيتك أمس صحيحا مناظرا فاستعقلته و استرجحته،لأنّ ذلك أجمع خطاب للحاضر بما هو موضوع للغائب،و قد وجدنا مثل هذا في مصحف عثمان فمن ذلك قوله:
حَتّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [يونس:22]،فبدأ بخطاب الحاضر فيه بقوله:«كنتم»ثم جاء بخطاب الغائب بقوله:«و جرين بهم»،و منه أيضا قوله: وَ لكِنَّ اللّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَ الْفُسُوقَ وَ الْعِصْيانَ [الحجرات:7]و ذلك خطاب الحاضر،ثم قال: أُولئِكَ هُمُ الرّاشِدُونَ ،و هو خطاب للغائب،و منه أيضا قوله تعالى: وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ [الروم:39]،و هم للغائب و قوله:
آتيتم و تريدون للحاضر،و هذا تخليط لا يجوز وروده من عند الحكيم العليم.
فيقال/لهم:هذا توهم منكم،لأنّ أهل اللغة قد أطبقوا على أنّه قد يحسن أن يصل الخطاب الحاضر ما يصلح للغائب في مواضع قد عرفت و جرت بها عادتهم،و لذلك قد يرد خطاب الغائب أيضا على وجه ما يستعمل خطاب الحاضر،و يجب أن يسوغ ذلك و يستحسنه حيث استحسنوه.
قال الشاعر (1):
يا دار ميّة بالعلياء فالسند أقوت و مرّ عليها سالف الأبد
يريد:قويت يا دار،و مرّ عليك سالف الأبد.).
ص: 589
و قال آخر:
يا ويح نفسي كان جلدة خلة و بياض وجهك للتراب الأعفر (1)
فبدأ بخطاب الغائب ثم وصله بما يصلح للحاضر،و إن لم يجب أن يقاس على ذلك سائر ما ذكروه،و كذلك يحسن من اللّه تعالى استعمال مثل هذا،و إن لم يستحسن ذلك في كل موضع،و إذا كان ذلك كذلك بطل ما تعلقوا به.
فأما قوله تعالى: وَ ما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى [طه:17]،و قوله:
أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ [المائدة:116]،و قوله:
ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص:65]، مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ [الأنبياء:42]،فإنه وارد على طريق التقرير و التقريع للقوم،و الاحتجاج على من ادّعى على عيسى و أمه ما ادّعت النصارى،و ربّما ورد من هذا الباب لفظ الاستفهام و المراد به التعجب نحو قوله: عَمَّ يَتَساءَلُونَ(1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ، كأنه قال:عمّ يتساءلون يا محمد؟!قال:عن النبأ العظيم يتساءلون؟! و كذلك قوله: لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ [المرسلات:12]جاء على وجه التعجب، ثم قال: لِيَوْمِ الْفَصْلِ(13) (أجلت)،و ما ورد منه على وجه التوبيخ نحو قوله تعالى: أَ تَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ [الشعراء:165]،و مذهب العرب في هذا معروف إذا قال قائلهم:تعرفني؟أ تدري من أنا؟على مذهب التهديد، فلا تعلق لأحد منهم في هذا الباب.).
ص: 590
و مما خلطوا به ما ليس منه قوله تعالى: وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات:147]/،و أو موضوع للشك و هو مستحيل على اللّه، و هذا باطل و قد قيل فيه ثلاثة أشياء،فقيل إنّ أو هاهنا بمعنى الواو فكأنه قال:إلى مائة ألف و يزيدون،و أنشدوا في ذلك قول الشاعر (1):
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى بزينتها أو أنت في العين أملح
يريد:و أنت في العين أملح.
و قول الآخر (2):
نال الخلافة أو كانت له قدرا كما أتى ربّه موسى على قدر
يريد و كانت له قدرا.
و قال قائلون:إنّ أو هاهنا بمعنى بل يزيدون،و قالوا:أراد الشاعر بأو:
بل كانت له قدرا،و بل أنت في العين أملح،قالوا:و قد تجيء الواو بمعنى أو،قال اللّه تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ [النساء:3]، يريد مثنى أو ثلاث أو رباع،و قال قائلون:أراد بقوله:أو يزيدون عندكم و في تقديركم،فكأنّه قال:أرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون في حزركم و حدسكم،و هذا أيضا وجه حسن،فبطل ما توهموه.).
ص: 591
و من تخاليطهم في المصحف الذي لا يليق باللّه سبحانه قوله: وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم:27]،قالوا:و ذلك يؤذن بأنّ فعل بعض الأمور أشقّ عليه من بعض.
قال الملحدون:و هذا ما يأباه القوم في صفة صانعهم،قالوا و من هذا قوله تعالى: اَللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة:15]،و قوله: وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللّهُ وَ اللّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [الأنفال:30]،و اللعب و الاحتيال ممتنع عليه،و هذا باطل،و قد قال الناس في هذا ثلاثة أقوال:
أحدها:أنه أراد و هو أهون عليه عندكم و في تقديركم إذا كان ابتداء الشيء لا على مثال و نظير تقدّم أصعب عندكم من إعادته على مثال سلف، فضرب لهم المثل بما عندهم،ثم قال عقيب ذلك: وَ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى [الروم:27]،أي أنّني أجلّ عن أن تكون هذه صفتي،و هذا ضد قوله:أو [409]يزيدون/يزيد عندكم و في تقديركم.
و قال آخرون:أراد بقوله:«و هو أهون عليه»على الخلق،و الهاء في عليه مردودة عليهم،و إنّما صار ذلك كذلك لأنّه يقول لهم سبحانه:كونوا أحياء ناطقين مميّزين و إذا هم بشر منتشرون،و ذلك أسهل عليهم من كونهم نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم طفلا،و من التنقّل من أصلاب الرجال إلى أرحام النساء و من الطفولية إلى الكبر و الهرم حالا بعد حال فكذلك صارت الإعادة أهون عليهم من الابتداء،فيمكن أن يكون أراد بقوله:«و هو أهون عليه»في أنه هيّن عليه،فيكون أهون بمعنى هيّن،لأن ذلك مستعمل في اللغة و هو المراد بقولهم اللّه أكبر إنّما معناه الكبير و لم يرد إضافته إلى شيء هو أكبر منه و المبالغة في تعظيمه عليه.
ص: 592
قال الفرزدق يهجو جريرا:
إنّ الذي رفع السماء بنى لنا بيتا دعائمه أعزّ و أطول
يريد أنّه عزيز طويل و لم يرد وصف بيت جرير بأنّه عزيز،و أنّ بيته أعزّ و أطول منه.
و قال آخر:
لعمرك ما أدري و إني لأوجل على أننا نغدوا المنيّة أول
يريد أني و جل فجعل أوجل بمعنى و جل،لأنّ أفعل تستعمل بمعنى فعل،و إذا كان ذلك كذلك بطل ما تعلقوا به بطلانا بينا.
و أما قوله تعالى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ [الرحمن:31]،فلم يرد الفراغ من الشغل،يتعالى عن ذلك،و إنّما أراد أنّنا نقصد لحسابكم و جزائكم، و العرب تقول:سأفرغ لكلامك و سأفرغ لمسائلتك و مواقفتك يعني بذلك القصد إلى هذا دون الفراغ من شغل قاطع،فلا تعلّق لهم في هذا الباب.
و أما قوله تعالى: وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللّهُ ،و قوله: اَللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ، و أنّ المراد به و اللّه أعلم يجازيهم على مكرهم و استهزائهم،و قد نسمي الجزاء على/الشيء باسمه لما بينهما من التعلق،و قد ذكر هذا في إثبات المجاز،و ذكروا منه قوله: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النّارِ [البقرة:175]،و قوله:
فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [البقرة:194]،و قوله: وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى:40].
و قال الشاعر (1):
ألا لا يجهلنّ أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينام.
ص: 593
يريد فنكافئه على جهله،و قد قيل الجزاء على الشيء إنّما يسمّى باسمه لمقاربته له و تعلقه به و طول الاصطحاب،كما قالوا:القمران و العمران و الأسودان،و هلاك أمتي في الأحمرين و أمثال ذلك.
قال الشاعر (1):
أخذنا بآفاق السماء عليكم لنا قمراها و النجوم الطوالع
يعني الشمس و القمر.
و قال آخر:
فقولوا لأهل المكّتين تحاشدوا و سيروا إلى آطام يثرب و النخل (2)
يعني مكة و المدينة،و كذلك لمّا كان الجزاء مقرونا بالعمل،و كان على كل جرم عقوبة سموا الجزاء على الفعل باسمه للاصطحاب،و إذا كان ذلك كذلك بطل ما توهّموه من أنّ اللّه تعالى وصف نفسه باللعب،و الهزل و المكر الذي هو تطلب المكائد و الحيل.
فأما تعلقهم بأنّ اللّه لا يصف رسله بما لا يجوز عليهم،و قد وجدنا في المصحف أن إبراهيم قال لمّا جنّ عليه الليل و رأى كوكبا قال: هذا رَبِّي إلى آخر القصة،فقد قيل في هذا إنه كان أول حال بلوغه و طلب ما كلفه صلّى اللّه عليه و سلّم من معرفته ربّه تعالى،و لم يعرف كفرا و لا شركا قبل ذلك،و لا في حال نظره.
و قيل أيضا:إنّه خرج على مذهب العلم لقومه و البيّنة لهم على وجه الاستدلال على حدث هذه الأفلاك.).
ص: 594
و قيل أيضا:إنّه خرج على مذهب التقرير و الاستفهام و أنّ ألف الاستفهام أسقط على مذهب الإيجاز/و الاختصار،فكأنّه قال على طريق التعجّب و التوبيخ لقومه أ هذا ربي فحذف ألف الاستفهام و أنشدوا في ذلك قول الشاعر (1):
كذبتك عينك أم رأيت بواسط غلس الظلام من الرباب خيالا؟
يريد أ كذبتك عينك؟فحذف الألف اقتصارا على ما في الكلام من دلالة استفهام،و هو قوله أم رأيت بواسط لأن أم من حروف الاستفهام.
و يقول الآخر (2):
ثم قالوا تحبّها قلت بهرا عدد القطر و الحصى و التراب
يريد قالوا أ تحبّها.
و أنشدوا أيضا قول امرئ القيس:
أ صاح ترى و مضا أريك وميضه (3)
أراد صاح أ ترى،فحذف الألف على وجه الاختصار،و إذا كان ذلك كذلك،سقط ما ظنوه.ل.
ص: 595
قالوا:و ممّا يدل أيضا على وقوع التخليط و التناقض و التناقض الذي لا يجوز على اللّه سبحانه في القرآن،ما نجده فيه من الكلام المتناقض،نحو قوله تعالى: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ(35) وَ لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات:35-36]، و قوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌّ [الرحمن:39]،مع قوله:
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الصافات:50]،و *يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها [النحل:111]،و قوله: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [الزمر:31]،و قال: لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ [ق:28]،و قوله: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ [البقرة:285]،و قوله: وَ لَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ [الدخان:32]، و قوله بعد ذلك: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ [يونس:94]،و كيف يكون في شك وصفته ما قدّم،و منه أيضا قوله: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاّ مِنْ ضَرِيعٍ [الغاشية:6]،و قوله في موضع آخر: فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ(35) وَ لا طَعامٌ إِلاّ مِنْ غِسْلِينٍ [الحاقة:35-36]و الغسلين غير الضريع،و هذا-زعموا-تناقض على أنّ الضريع نبت و النار لا نبات فيها،و كذلك قوله: إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ(64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ [الصافات:64]/،قالوا و لا معنى لهذا التشبيه الذي لا يعرفونه،و لأنّه لا يجوز أن يكون في النار شجرا و نبتا،لأنّ النار تحرق الشجر و النبات.
قالوا:و منه أيضا قوله: وَ ما كانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:
33]،و قوله على إثر ذلك: وَ ما لَهُمْ أَلاّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ [الأنفال:34]،و هذا تناقض بيّن.
قالوا:و منه قوله: وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء:82]على وجه نفي الاختلاف عنه و فيه،و قد وجد من الاختلاف في
ص: 596
القرآن المكي و المدني و الناسخ و المنسوخ،و الاختلاف في أحكامه التي ضمّته العقلية و السمعية شيء كثير لا خفاء به،و ذلك تناقض بين و خلل في القول.
و منه أيضا أنّه أخبر أنّه خلق الأرض قبل السماء،ثم أخبر أنّه خلق الأرض بعد السماء،حيث قال: *قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ (إلى قوله) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت:9-11]،ثم قال في موضع آخر: أَمِ السَّماءُ بَناها(27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوّاها(28) وَ أَغْطَشَ لَيْلَها وَ أَخْرَجَ ضُحاها(29) وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النازعات:
27-30]،و هذا أيضا-زعموا-تناقض ظاهر،و منه أنّه أخبر في غير موضع أنّه خلق السموات و الأرض في ستة أيام ثم فصّلها لهم في ثمانية فقال:
أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ(9) وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَ بارَكَ فِيها وَ قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيّامٍ سَواءً لِلسّائِلِينَ(10) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ(11) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَ أَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها [فصلت:9-12]،و اليومين مع الستة التي خلقت الأرض و أقواتها فيها ثمانية،فأجمل ذلك في ستة و فصّلها في ثمانية،و هذا-زعموا-تناقض بيّن.
قالوا:و من ذلك أيضا قوله: تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ ،و ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ [الأنعام:38]،مع قوله: وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ (إلى قوله) وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ [آل عمران:7]/،و الواو هاهنا واو استئناف لا واو عطف،و قوله: كهيعص ،و حم، عسق ،و الم و غير ذلك من الحروف المذكورة في أوائل السور التي لا يعرف معناها،و قوله:
وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا [عبس:31]ما يعرف معناه و غير ذلك ممّا لا يعرف الخلق له معنى،و هذا-زعموا-نقض قوله: تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ [النحل:89].
ص: 597
فيقال لهم:ليس فيما أوردتموه شبهة يسوغ التعلق بها.
فأمّا قوله: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ [المرسلات:35]،فإنّ ذلك اليوم أوقات و تارات و هو في طوله بجنب ما وصف اللّه سبحانه في قوله: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:4]،و أَلْفَ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ [السجدة:5]، هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ(35) وَ لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات:35-36]، وَ لا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص:78]،عند قيامهم من قبورهم و حشرهم و تبديل الأرض غير الأرض و السماوات و برزوا للّه الواحد القهّار فلا يزالون كذلك إلى حين العرض و المسائلة،ثمّ يؤذن لهم في النطق،فإذا استقر أهل الجنّة في الجنّة،و أهل النار في النّار لم يؤذن لهم في الاعتذار و لا في الخصام،و قيل لهم: لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ [ق:28]،و ذلك لا ينفي تخاصمهم في النّار و تلاومهم و ما ذكره اللّه من ندمهم في قوله:
نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنّا نَعْمَلُ [الأعراف:53]،إلى أمثال ذلك،و هذا ينفي التناقض الذي ظنوه.
فأما قوله تعالى: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاّ مِنْ ضَرِيعٍ ،مع قوله: فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ(35) وَ لا طَعامٌ إِلاّ مِنْ غِسْلِينٍ ،فإنّه غير متنافي و لا متناقض،و ذلك أنّ عذاب أهل النّار دركات و طبقات و أهلها فيها على قدر ذنوبهم في الكثرة و القلة، و كذلك قصة أهل البوار،و فريق منهم طعامه الضريع،و فريق منهم طعامه الغسلين،و فريق آخر طعامه الزقّوم،كما أخبر اللّه في موضع آخر،و قوم منهم شرابهم الحميم،و قوم منهم شرابهم الصديد،فالذي ليس له طعام إلا من غسلين غير الذي لا يطعم إلاّ الضريع/،و شارب الصديد فيها غير شارب الحميم،و إذا كان ذلك كذلك بطل ما توهّموه،و الضريع نبت يكون
ص: 598
بالحجاز يقال لرطبه الشبرق و هو ممّا لا يشبع و لا يسمن و لا يغني شيئا، و العرب تعرفه و تصفه بذلك.
قال الهذلي يصف سوء رعي الإبل:
و حبسن في هزم الضريع (1)فكلها حدباء دامية اليدين حرود
و الحرود التي لا تلد،فضرب اللّه لهم بذكر الضريع مثلا،فكأنّه قال:
إنّ أهل النّار يقتاتون ما لا يغنيهم و لا يشبعهم،فهم في ذلك كآكل الضريع الذي لا يسمن و لا يغني من جوع،و الغسلين هو من فعلين،من غسلت فهو غسالة أهل النّار،و قال قوم هو ما يسيل من أجسام المعذبين.
فأما قوله: إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ [الصافات:64]، لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاّ مِنْ ضَرِيعٍ ،و قولهم:كيف يكون في النار نبت و شجر؟فإنّه لا تعلق لهم فيه،إن كان كنّى بذلك الضريع و شجرة الزقوم عن جوعهم، و أنّهم لا يشبعون و عن شيء مشبه لشجرة تشبه رءوس الشياطين في قبح منظرها،فليس هناك نبت و لا شجر،و إنّما ذلك أمثال و تشبيه،و إذا كان أراد تعالى تحقيق نبت و شجر يخرج من النّار،فإنّ ذلك غير مستحيل.
و أمّا قولهم أنّه لا معنى لتمثيل طلع الشجرة برءوس الشياطين من وجهين:
أحدهما:أن الشجرة لا طلع لها و إنّما يكون الطلع دون الشجر.
و الوجه الآخر:أننا لا نعرف رءوس الشياطين،و ليس هو ما تعرفه العرب،فيمثل لها به بعض الأشياء،فإنّه باطل لأنّه إنّما أراد بقوله تعالى:).
ص: 599
طلعها ثمرها لطلوعه كل سنة و منه سمي طلع النخل طلعا (1)عند أول خروجه،مأخوذ ذلك من طلوعه،فإذا تغيّرت حاله و انتقل إلى حكم آخر سمي باسم آخر من بلح و بسر و رطب،فطلعها المراد به ثمرها الطالع،و أما الشياطين التي مثلها برءوسها فإنّها حيات خفيفات الأجسام قبيحات المناظر و الرءوس.
قال الشاعر:/
عجين تحلف حين أخلف كمثل شيطان الحماط أعرف
يريد كأنه حية تأوي الحماط،و الحماط شجر،و الأعرف الحية من هذا الذي له عرف،و العرب تقول إذا رأت منظرا قبيحا كأنه شيطان الحماط، و قال يشبّه التواء زمام ناقته بتلوّي الحية:
تقلب مني حضرميّ كأنه تعمج شياطين بذي خروع قفر
يزيد تشبيه تلوّي زمامها بتلوّي هذه الحية التي تسمى شيطان،و لم يرد الشياطين الذين هم الجن،و إذا كان ذلك كذلك بطل تعجّبهم و زال تمويههم.
فأمّا قوله تعالى: وَ ما كانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ ما كانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33]،مع قوله: وَ ما لَهُمْ أَلاّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ [الأنفال:
34]فلا تناقض فيه،و ذلك أنّ النّضر بن الحارث قال: اَللّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال:
32]،يعني بذلك أهلكنا جميعا و محمدا و من اتّبعه عاما،فأنزل اللّه تعالى:
وَ ما كانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ أي:و فيهم قوم يستغفرون و هما.
ص: 600
المسلمون،ثم بيّن ذلك قوله تعالى: وَ ما كانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ ، ثم قال تعالى: وَ ما لَهُمْ أَلاّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ يعني:النّضر و من كان بمثابته وَ هُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ ما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ [الأنفال:34]يعني المسلمون،فلا تناقض في ذلك.
و أمّا قوله: وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها مع قوله: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ فلا تنافي فيه لأن قوله: دَحاها معناه بسطها و ليس معناه أنّه خلقها و أنشأنها،و قد جاء في الحديث«أن الأرض خلقت ربوة غير مبسوطة ثم بسطت»،فقوله:دحاها يريد بسطها،و قد يخلقها ربوة و يخلق السماء بعدها ثم يبسطها بعد خلق السماء فلا تنافي في ذلك.
فأمّا قولهم إنه أجمل خلق السماوات و الأرض في ستة أيام ثم فصّلها لهم في ثمانية،فإنه أيضا لا تعلّق فيه من وجهين:
أحدهما:أنه إذا أدخل القليل في الكثير المشتمل عليه كان ذلك صحيحا،لأنه إذا خلقها في ثمانية/أيام فقد خلقها في ستة لا محالة،لأن الستة داخلة في الثمانية،و لذلك لم يكن من أقرّ و أخبر بأن لزيد عليه ستة دراهم ثم أقرّ له بعد ذلك بثمانية فاعترف أن له ثمانية كاذبا في إقراره و خبره،لأن أحد إقراريه و خبريه داخل في الآخر،فهذا جواب.
و جواب آخر:و هو أنّ اللّه سبحانه لم يخبر أنه خلق الأرض في يومين هما غير الأربعة أيام التي قدّر فيها أقوات الأرض،لأنّه يمكن أن يكون خلق الأرض في يومين،و خلق أقواتها في يومين آخرين،ثم قال:خلق الأرض في يومين و بارك فيها و قدّر فيها أقواتها في أربعة أيام،أي أنّ خلقها و خلق أقواتها كان في أربعة أيام،و هذا كما يقول القائل حوطت داري و بنيت
ص: 601
سورها في يومين و فرغت منها و من بيوتها و مرافقها في عشرة أيام،لا يعني بذلك عشرة ليس فيها اليومين اللذين فرغ فيهما من تسويرها،و إذا كان ذلك كذلك سقط ما توهّموه و زال ما نحلوه كتاب اللّه من التناقض و الاختلاف.
فأما قوله تعالى: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256]مع قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة:5]،و قوله: فَضَرْبَ الرِّقابِ [محمد:47]و أخذه للعباد بالدخول في الدين ففيه ثلاثة أجوبة:
أحدها:أنّه لا إكراه في الدّين و لا قتل و لا حرب لمن له عهد و ذمة بقي عليها،و يمكن أن يكون التأويل في ذلك أنه لا إجبار و لا حمل و لا اضطهاد في الدين،أي ليس يفعله فاعل إلا على سبيل الطوع و الاختيار،و على وجه يقتضي الثواب،و لا بدّ أن يكون من كلّفه إما قادرا عليه أو على تركه و الانصراف عنه و الإيثار لضدّه عليه.
و يمكن أيضا أن يكون المعنى في ذلك أنّ ما وقع منهم من التصديق على سبيل الإلجاء و الجهل و الفزع من السيف و من ظاهر القول و الإقرار، فليس بدين يعتدّ به و يثاب صاحبه و إنّما الدين منه ما وقع طوعا مع قصد دينه،و لذلك قال تعالى: *قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا [الحجرات:14]أي:/استسلمنا خنوعا و رهبة من السيف و ما وقع كذلك فليس بدين و لا إسلام.
و يمكن أيضا أن يكون أراد بقوله:«لا إكراه في الدين»أي:لا إكراه يقع و يصحّ في نفس التصديق و الإقرار الذي يكون بالقلب،لأنّ الإكراه على تصديق القلب و المعرفة لا يصحّ،لأنّه يقع مكتسبا مستدلا عليه بما يختار عند إيقاعه،و لا يصحّ الإكراه عليه كما يتأتى ذلك في الأفعال الظاهرة
ص: 602
الواقعة بالجوارح،و قد قال خلق من الناس إن الإكراه على العلوم و أفعال القلوب لا يصحّ،و إنّما يتأتّى ذلك في أفعال الجوارح،و الدين من أفعال القلوب،و إذا كان ذلك كذلك بطل ظنّهم أنّ نفي الإكراه عن الدين ينصرف إلى نقض أمره بالقتال عليه و الدخول فيه.
و أمّا قوله تعالى: وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها [آل عمران:145] (1)، و قد نرى من يريدها فلا يصل إليها ليس ينقض لأنّ من هاهنا ليست للعموم و الاستغراق،بل يراد بها تارة الكلّ و تارة البعض فكأنّه أراد أن من أراد ثواب الدنيا آتاه منها إذا كان في المعلوم أنه يؤتاه منها و لم يرد بذلك الكل،و قد أوضحنا ذلك في كتابي«أصول الفقه»و غيرهما أنّه لا صيغة للعموم بهذا اللفظ و لا بغيره بما يغني الناظر فيه،فبطل تعلّقهم به،و يحتمل أن يكون أراد بقوله نؤته منها إمّا قليلا أو كثيرا،أو لم يرد أننا نأتيه الكثير و كلّما يريده،و ليس أحد أراد ثوابها إلا و قد أتي منها إما قليل أو كثير فبطل ما ظنّوه.
فأمّا قوله في قصة إبراهيم: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى (إلى قوله) وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260]،فليس بنقض لقوله: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوّاهٌ مُنِيبٌ [هود:75]،و قوله: وَ لَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ [الدخان:32]،فيحتمل أن يكون أراد بقوله: لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بإجابتك لي إلى ما سألته و إلى مشاهدة نمرود و من أنكر نبوءتي إجابتك لي،و لم يرد ليطمئنّ قلبي بإزالة شك في كونك قادرا على ذلك.).
ص: 603
و يمكن أن يكون أراد بقوله ليطمئن قلبي مشاهدتي ميتا (1)أحييته،لأنّني و إن/كنت عالما معترفا بكونك قادرا على ذلك فإنّني غير راء له و لم أره قط،فقال أرني لأخبر به إذا أخبرت عن مشاهدة،فيطمئنّ قلبي إلى مشاهدة ذلك لا إلى العلم بأنّه من مقدوراتك.
و يمكن أن يكون تأويل قوله:«ليطمئنّ قلبي»أي:ليطمئن قلوب هؤلاء الشاكين في ذلك فذكر نفسه و أراد غيره،و مثل هذا قد يقوله و يستعمله المحتجّ على غيره يقول القائل أنا أريد أن أفعل كذا ليراه و يطمئنّ قلبي برؤيتك له،أي ليزول شكّك فيطمئنّ قلبي بسكون قلبك و زوال شكّك،و إذا كان هذا هكذا بطل التناقض الذي توهّموه.
فأمّا قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ [آل عمران:90]،فلا منافاة أيضا بينه و بين قوله: يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ [الشورى:25]،و قوله: تَوّابٌ حَكِيمٌ [النور:10]،و قوله: فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ [التوبة:11]،و نحو ذلك،لأنّه يحتمل أن يكون أراد بقوله: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ أي:التوبة الأولة من الكفر الأوّل،أي لا تنفعهم توبتهم من الكفر مع عودتهم إليه و مفارقتهم الإيمان،و ذلك صحيح،لأنّ التوبة الأولة غير نافعة مع العود،فإمّا أن تكون غير عاصمة من العقاب على الكفر الثاني،أو يكون العود إلى الكفر و الذنب ناقصا (2)للتوبة الأولة،حتى يرجع عقاب الأول و الثاني على قول كثير من الناس،و لم يرد بقوله لن تقبل توبتهم إن تابوا من ارتدادهم،و وافق اللّه بالتوبة و الإقلاع عن الكفر،فبطل ما ظنّوه.ه.
ص: 604
و يمكن أيضا أن يكون التأويل في ذلك أنه لن يقبل توبتهم الظاهرة، و إذا وقعت على وجه النفاق،فيحتمل أن يكونوا قوما آمنوا نفاقا ثم عادوا إلى إظهار الكفر،فقال تعالى:إن تابوا منه نفاقا مثل توبتهم الأولى فلن يقبل منهم هذا الجنس من الإقلاع،لأنّه ليس بتوبة في الباطن،و إن كان توبة في الظاهر عند من لا يعرف المواطن و الأسرار،فلم تكن هذه توبة ندم على الكفر و عدم مواقعة مثله،و هذا أيضا يبطل ما قدّروه من التناقض.
و قد قيل إنّ/الآية نزلت في المتربصين من أهل مكة حين تربّصوا بالنبي صلّى اللّه عليه ريب المنون،و قالوا له:فإن ذهبت الحرف ذهبنا إليه و تبنا فقبل توبتنا فقال اللّه تعالى قل لهم لن تقبل توبتهم هذه لأنّها على الحقيقة ليست مخلصة للّه،و إنما هي للتربّص و المدافعة.
فأمّا قوله تعالى: وَ كانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً [الكهف:101]، ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ [هود:20]،و قوله: اُنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً [الفرقان:9]؛فلا منافاة أيضا بينه و بين قوله: لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها [البقرة:286]،و لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها [الطلاق:7]؛لأن قوله: «لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها» أراد به بعض الأنفس دون بعض،و كذلك قوله: إِلاّ ما آتاها ،و قوله: لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً ، خبّر عن بعض المكلفين دون بعض فزال ما توهموه.
و يحتمل أن يكون أراد بالوسع و ما آتاها أنّه لا يكلف الإنفاق و لا الزكاة مع عدم المال،و ما كلّف ذلك تعالى،لأنّه مما لا يستطاع فعله،و لا تركه و ليس كذلك حال عدم الاستطاعة على الإيمان و القبول،لأنّه قد يستطاع تركه و الدخول في ضدّه،فليس كتكليف الزكاة و النفقة مع عدم الطول و المال.
ص: 605
و يحتمل أيضا أن يكون أراد بقوله: وَ كانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً ،أنّهم كانوا لا يستطيعون ذلك لتركه و إيثار ضدّه لا للعجز عنه،و أن يكون أراد بقوله: لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها ،أي ما لا تعجز عنه من تكليف الطيران و تنقيط المصاحف مع العمى،و الإخبار عن الغيوب،و نحو ذلك و هذا ما لا تنافي فيه و لا تناقض،فبطل ما توهموه.
و قد قال كثير من الناس إنّ معنى قوله: لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً ،أي أنّ ذلك يثقل عليهم و يأبونه،و يكرهونه كما يقول القائل:أنا أكلّم زيدا و ما أستطيع كلامه و النظر إليه،أي:إنّ ذلك يثقل علي،لا يعني به نفي قدرته على خطابه،و كيف ينفيها و هو قد خاطبه،و يحتمل أيضا أنهم كانوا يمنعون من سماع بعض ما يضرّون به النبي صلّى اللّه عليه و سلّم/من أخباره و أحواله و عن أمته، و يمنعون من ذلك و يحال بينهم و بينه مع حرصهم عليه و طلبهم له،و ليس ذلك من باب تكاليفهم في شيء.
و أما قولهم: اُنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً [الإسراء:48]،أي:لا يستطيعون معارضة القرآن و الطعن عليه بوجه يوجب فساده و تناقضه،و كونه شعرا و من أساطير الأولين،كما زعموا ذلك و ادّعوه.و يحتمل أن يكون أراد أنهم لا يستطيعون جعلك مجنونا كما ادّعوا ذلك عليك أو الكشف عن أنك ساحر على ما ادّعوه و راقبوه،و ليس هذه السبيل التي أمروا بها فيكون ذلك تناقضا على ما قدّروه.
فأمّا قوله تعالى: لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خُلَّةٌ [البقرة:254]،فلا تناقض بينه و بين قوله: اَلْأَخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67]، لأنه عنى تعالى-و هو أعلم-لا خلة فيه تنفع و إن كانت هناك خلة لا تنفع،
ص: 606
فيمكن أن يكون أراد لا بيع فيه و لا خلة أي لا خلة مبتدأة،مستأنفة لما الناس عليه من شغل العرض و الحساب و الجزاء و الثواب و العقاب.و يحتمل أن يكون أراد به لا خلة في الآخرة بين أهل النار،فكأنه قال الأخلاء في الدنيا يومئذ أعداء لا تنفعهم خلّتهم التي كانوا في الدنيا عليها،و لم يرد إثبات الخلة في الآخرة من حيث نفاها فتعالى عن ذلك،فبطل ما قالوه.
و أمّا قوله: إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ [البقرة:143] و قوله: حَتّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَ الصّابِرِينَ [محمد:31]فلا تناقض بينه و بين قوله: عَلاّمُ الْغُيُوبِ [التوبة:78]،و بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ [النساء:176] و نحوه،لأنّه عنى و هو أعلم إلا لتعلم أنت يا محمد و يعلم الذين معك فذكر نفسه و أراد غيره،و ذلك شائع في اللغة،و القائل بقول يريد أن يفعل كذى ليعلم و يحتجّ لكذا،ليعلم من المحقّ من المبطل،و القويّ من الضعيف، أي:ليعلم ذلك من شكّ فيه دون المحتجّ المتقدم العلم بصحة ما يحتجّ/ له.
و يحتمل أن يكون أراد بقوله إلاّ ليعلم أتباع الرسول ممن يتبعه ممّن هو كائن موجود،فإنّه قد علمه قبل كونه متيقنا معروفا و هو يعلمه إذا كان، و وجد ثابتا موجودا،و كذلك قوله: حَتّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ ،أي حتى تعلم أنت و هم أو حتى نعلم المجاهدين مجاهدين،و نعلم جهادهم كائنا موجودا،لأنّه يعلمه قبل وجوده معدوما و يعلمه إذا وجد كائنا موجودا، و التغيير و الوقت جاري على معلومه لا على نفسه تعالى و علمه،لأنّه لم يزل بصفات ذاته غير متغيّر و لا حائل على صفته،و العلم من صفات نفسه.
و قيل إنّ اللّه تعالى لما أمرهم باتّباع الرسول و نهاهم عن المفارقة و الانقلاب على الأعقاب،قال: لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ ،
ص: 607
أي:فليتّبعوا الرسول و لا ينقلبوا على أعقابهم،فنعلمهم عند ذلك منقلبين، و مثله قول الشاعر (1):
لا أعرفنّك بعد الموت تندبني و في حياتي ما زوّدتني زادي
أي لا تكن كذلك،و لا تفعل هذا فأعرفك به و فاعلا له على مذهب النهي و التحذير له من ذلك،و من أن يعرف بهذه الصفة،و النهي على الحقيقة نهي عن المعروف الذي هو الفعل لا عن المعرفة التي هي فعل المعلوم أو صفته،و كذلك إذا قال القائل:لا أرينّك هاهنا و لا أسمع لك كلمة،فإنّما هي نهي عن الكون المرئي و الكلام المسموع المتعلقين بقدرة المكلّف الموجود،و ليسا بنهي عن رؤية الزاجر المتلوّي و سمعه،لأنّ ذلك ليس من مقدورات المخاطب الموجود،فعلى هذه التأول يسوغ حمل الآية و في إبطال ذلك إبطال ما قدّره.
فأمّا قوله تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ [البقرة:255]،و قولهم يجب أن يكون كذبا لأنّنا نرى السموات و الأرض في غير كرسيّ و لا شيء يحيط بهما،فإنّه لا تعلّق لهم فيه،و ذلك أنّه أراد بهذا و هو أعلم أنّ له كرسيا قدر عظمه و سعته،قدر عظم السموات و الأرضين و سعتهما،و لم يرد أنّهما في الكرسيّ،كما/يقول القائل قد وسع حلم زيد الإغضاء عن كلّ أحد و إن لم يوجد من كلّ أحد مكروه عليه حلم عنه.
و قد يمكن أن يكون أراد بالكرسيّ القدرة و السلطان،و الكرسي عند العرب الأصل،فلمّا كانت الأشياء كلّها داخلة ثمّ قدرته تعالى و سلطانه،ت.
ص: 608
صار سلطانه أصلا لكل قدرة و سلطان لأحد،و لكل مقدور مخترع،فقال لأجل ذلك وسع كرسيّه السموات و الأرض.
و قد يمكن أن يكون أراد بقوله: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ علمه المحيط بجميع الأشياء و بجميع السموات و الأرض و ما فيهما و بينهما، و العرب تسمّي العلم كرسيّا قال الشاعر:
ما لي بعلمك كرسيّ أكاتمه و هل بكرسيّ علم الغيب مخلوق
و قال آخر:
يحف بها بيض الوجوه و عصبه كراسيّ و بالأحداث حين تنوب
يعني بكراسي:علماء بما كان و ما يحدث و ينوب من الخطوب.
فأمّا قوله: وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ [آل عمران:143]، و طعنكم عليه بأنّه كذب و أنّ أحدا من أولئك و من غيرهم لا يتمنّى الموت بل يأباه و يكرهه،فلا تعلّق لهم فيه من وجهين:
أحدهما:أنّه لا يمتنع أن يكون فيهم من قد تمنّى الشهادة و أحبّ لقاء اللّه تعالى بما يعلمه و يرجوه من تحصيل ثوابه.
و الوجه الآخر:أنّه أراد بذكر الموت أنّهم كانوا يتمنّون اللقاء و الحرب، ثم قال:فقد رأيتموه أي فاصبروا على ما كنتم تمنّونه و لم يرد تمنّي مفارقة الحياة،فبطل ما قالوه،و قد يسمّى اللقاء و الحرب موت على معنى أنّه من أسباب الموت،و كذلك يقال لمن هو في الصف و الشدة إنه في الموت؛ أي:في الشدة.
ص: 609
قال الشاعر:
يأيّها الراكب المرخي مطيّته سائل بني أسد ما هذه الصوت
و قل لهم بادروا بالعذر و التمسوا قولا يبرئكم إنّي أنا الموت/
و لم يرد أنه ضدّ الحياة،و لكنّه عنى أنّه يكون فيه ما هو من أسباب الموت فبطل ما توهّموه.
فأمّا قوله تعالى: لَوْ تُسَوّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَ لا يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً [النساء:42]، فإنّه لا تنافي أيضا بينه و بين قوله: عَلاّمُ الْغُيُوبِ ،و يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ [البقرة:235]،و ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاّ هُوَ رابِعُهُمْ وَ لا خَمْسَةٍ إِلاّ هُوَ سادِسُهُمْ [المجادلة:7]،و ما جرى مجرى ذلك،لأنّ اللّه تعالى لا يجوز أن يكتم شيئا،لكونه عالما بالغيوب،و ما أضمرته القلوب،و انطوت عليه النفوس،و إنّما أراد تعالى لو تسوّى بهم الأرض،أي:تمنّوا أن تسوّى بهم الأرض و تمنّوا أن لا يكتموا اللّه حديثا،فحذف واو العطف اقتصارا على مفهوم الخطاب،و أراد بقوله: وَ لا يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً ،أي:لا يتهيّأ لهم كتمان شيء من أعمالهم و اعتقاداتهم و إخلاصهم و نفاقهم عنه،و لا يستطيعون ذلك لكونه عالما بما ينطوي عليه،فكأنّه قال لست ممّن أكتم شيئا أو ينكتم عنى شيء.
و يمكن أيضا أن يكون في جهّال الناس من ظنّ أنّه إذا استسرّ بشيء في نفسه انكتم يوم القيامة عن ربّه،و كان اعتقاده هذا كفر و ضلال فإذا ورد أرض القيامة و حاسبه على اعتقاده و سرائره و ذاته،لم يكن اعتقد في الدنيا كتمان شيء عنه تعالى لما انكشف و علم ضرورة أنّ الأسرار غير خافية و لا منكتمة عنه،فندم عند ذلك على جهله و اعتقاده فيه سبحانه ما يستحيل و يمتنع في صفته،و إذا كان ذلك كذلك زال ما قدّروه و بطل ما توهّموه.
ص: 610
و أما تعلّقهم بقوله: قالُوا وَ اللّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23]،و قولهم كيف يخبر عنهم بذلك و هم مشركون،فإنّه لا تعلّق لهم أيضا فيه من وجوه:
أحدها:أنّ هذا القول حكاية عنهم و خير عن قولهم و لم يقل اللّه إنّه هو يقول يوم القيامة إنهم غير مشركين فيكون ذلك نقضا لإخباره/عنهم أنّهم مشركون و إذا كان ذلك كذلك بطل ما قدّروه.
و قد يحتمل أيضا أن يكونوا يخبرون بذلك عند أنفسهم عن ظنّهم و توهمهم أنّهم كانوا غير مشركين باللّه،فيحلفون يوم القيامة أنّهم ما كانوا عن أنفسهم في الدنيا مشركين و إن تبيّن لهم يوم القيامة أنّهم كانوا مشركين.
و يحتمل أيضا أن يكونوا يحلفون (1)يوم القيامة أنّهم ما عبدوا الأصنام في الدنيا على وجه الإشراك باللّه و اعتقاد استحقاقها للعبادة على وجه ما يستحقّه اللّه،و إنّما عبّدناها على وجه التقرب إلى اللّه،و إن كان نفس عبادتها على هذا الوجه شرك باللّه.
و يمكن أيضا أن يكونوا إنّما يقولون هذا القول و يحلفون بهذه الأيمان يوم القيامة إذا استديم العذاب و زفرت بهم جهنم،و أمّلوا بهذا القول و الحلف و الاستغاثة و الضجيج أن يخفف عنهم من عذابهم،فيقولون عند تأميل ذلك بالصياح:و اللّه ربّنا ما كنّا مشركين وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاّنا مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ [فصلت:29]،و يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا [الأنعام:31]،و يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللّهِ [الزمر:56]، و نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنّا نَعْمَلُ [فاطر:37]،و نحو هذا من القول رجاء التخفيف،قال اللّه تعالى: اُنْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الأنعام:24].
ص: 611
أي:كيف أخلفت آمالهم و ظنونهم بهذا القول،و كيف يكذبون في قولهم:
ما كُنّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23]رجاء التخفيف،و هو لا ينفعهم.
قال الشاعر:
كذبتم و بيت اللّه لا تأخذونها مراغمة ما دام للسّيف قائم
يعني كذبت آمالكم،و أخلف ظنكم و قد قيل:إنّ معنى كذبوا على أنفسهم،أنّهم أوجبوا بقولهم هذا و بكفرهم أيضا في الدنيا على العذاب، كما يقال كتب عليهم الحج أي:وجب.
فأمّا قوله تعالى: وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106] فإنّه لا اختلاف و لا تناقض فيه،لأنّه عنى سبحانه و هو أعلم ما يؤمن/ أكثرهم بلسانه إلا نفاقا و هو مشرك بقلبه،و لذلك قال: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا (1)[الحجرات:14]،و يمكن أن يكون أراد و ما يؤمن أكثرهم باللّه أي ما يصدّق أكثرهم باستحقاق اللّه للعبادة إلا و هم مشركون مع ذلك،بتصديقهم لاستحقاق الأصنام و الملائكة،و كلّما عبدوه العبادة،كما يستحقّها الباري تعالى،و ذلك شرك باللّه،فلا تناقض في هذا.و يحتمل أيضا أن يكون أراد بقوله: وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ ،بعد إيمانهم فيكون معنى مشركون إلاّ و هم يشركون في الثاني،و يكون الخبر خاصا فيمن علم ارتداده بعد إسلامه،و هذا أيضا ينفي التناقض الذي توهموه إبطالا ظاهرا.
فأمّا قوله تعالى: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَ لكِنَّ الظّالِمِينَ بِآياتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33]فإنه لا تناقض بينه و بين إخباره بأنهم يكذّبونه،و قد كذّبوه في كثير من المواضع كقولهم: ما هذا إِلاّ سِحْرٌ مُفْتَرىً [القصص:36]، إِفْكٌ ق.
ص: 612
اِفْتَراهُ [الفرقان:4]،و: إِفْكٌ قَدِيمٌ [الأحقاف:11]،و: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ [السجدة:3]،و: ما هذا إِلاّ سِحْرٌ مُفْتَرىً [القصص:36]،و:
أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها [الفرقان:5]،و أمثال ذلك ممّا يطول تتبعه، لأنّه تعالى إنما عنى بقوله: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ،إنهم لا يستطيعون جحد حجّتك و معارضة آياتك،و إقامة برهان على تكذيبك و كذبك،فلمّا عجزوا عن ذلك قال فإنّهم لا يكذّبونك عند الناس بحجة تكشف عن تكذّبك،و لا يكذّبونك أيضا بمعناه،و لم يرد بذلك أنهم لا يكذّبونه في شيء يخبرهم به، و لا أنّهم لا يقولون إنّه كاذب و لكنه عليه السلام لا يصير بذلك كاذبا،و إنما يكون مكذّبا،و مكذبا إذا أقاموا على كذبه حجّة و برهانا.
فأمّا قوله تعالى في قصة الملائكة و الرسل: قالُوا لا عِلْمَ لَنا [المائدة:
109]،فإنّه لا تناقض بينه و بين إخباره عن كونهم كراما كاتبين و عن قوله:
فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ [النساء:41]،و كيف يجيء بأنبياء و ملائكة للشهادة على الأمم،و هم يقولون إنّنا لا علم لنا بما هم عليه،أو بما كانوا عليه،و ذلك أنّه إنّما يقول الملائكة و الرسل/:إنّه لا علم لنا بسرائرهم و ما في ضمائرهم من إخلاص لك و نفاق،أو لا علم لنا بما استسرّوا به من الأعمال دون أنبيائهم،و لا علم لنا بما حدث منهم بعدنا و بعد مفارقتنا لهم،فأمّا أن يقولوا لا علم لنا فيما قد علموه و رأوه و شاهدوه من أفعال الأمم الظاهرة،فذلك محال في صفتهم فبطل بهذا ما قالوه.
و أمّا قوله: أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ [المائدة:
116]،فإنّه ليس بمخبر عن إثبات قولهم لذلك حتى يكون نقيضا لإخباره عنهما بأنّهما مؤمنان،و إنّما هو قول صورته الاستفهام،و إنّما يقال لهما ذلك في القيامة على مذهب التقرير لهما،ليسمع مدّعي ذلك عليهما و أنهما
ص: 613
قالاه إنكارا لقوله و تكذيبهما له،و ليس ذلك على وجه الاستفهام لهما و لا على تحقيق الإخبار عنهما بقول ذلك و لا على التقريع لهما به،و إنّما هو على وجه ما قلناه.
و أمّا قوله: وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [الأعراف:11]،فإنّه لا تناقض بينه و بين إخباره بأنّه خلق آدم و أسجد له ملائكته قبل خلق ولده و تصويرهم،لأنّه تعالى لم يرد بقوله ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة قبل خلق ولده و تصويرهم،لأنّه تعالى لم يرد به الترتيب و التراخي،و إنّما جعل ثم هاهنا بمعنى واو الجمع،فكأنّه قال:خلقناكم و صوّرناكم و قلنا للملائكة اسجدوا لآدم،و واو الجمع لا توجب الترتيب و لا تراخي و لا تعقيب،و مثل هذا شائع في اللغة،قال الشاعر:
سألت ربيعة من خيرها أبا ثمّ أمّا فقالت يزيدا
يريد أن يزيد خيرهم أبا و أمّا و لم يرد بثم هاهنا التراخي و الترتيب، و إنّما أراد سألت ربيعة من خيرها أبا و أمّا،و هذا يبطل ما قدّروه.
و يمكن أيضا أن تكون ثمّ إنما جاءت لنسق خبر على خبر كأنّه هو الذي أخبرك أنّه خلقكم و أخبركم أنّه صوّركم،و أخبركم أنّه أسجد الملائكة لآدم و أمرها بذلك،و هذا الأمر بالإسجاد هو المتقدّم/،و قد وقع في الخبر متأخرا،و ذلك شائع في اللغة و العرب تقول:فلان جواد كريم طريف ثمّ شريف الوالدين،و لا يعني بذلك أنّ شرف والديه يكون بعد هذه الصفات، بل هو متقدم،و إن تأخّر في الذكر و الخبر.
و كذلك الجواب عن قوله تعالى: وَ إِمّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ [يونس:46]و هو شهيد على ما يفعلون
ص: 614
قبل أن يرجعوا إليه،و إن تأخّر في الذكر،و ثمّ هاهنا بعنى الواو على ما ذكرناه أو بمعنى مع،كأنّه قال و هو مع ذلك شهيد على ما يفعلون ثمّ صوّرناكم،و قلنا مع ذلك للملائكة اسجدوا لآدم،و إذا جعلت ثمّ بمعنى مع أو بمعنى الواو بطل توهمهم و ما حاولوا به الطعن في القرآن.
فأمّا قوله في إخباره عن صالح: فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ [هود:63]، و ليس ينقض لإخباره عن ثواب الرسل و رفع درجتهم و منازلهم بغيرهم على رداءتهم و تكذيبهم،لأنّه لم يرد بقوله:فما تزيدونني غير تخسير لكم، و ضلال و شرّ لا حقّ بكم دوني،و كذلك قوله: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ [يس:30]،ليس بتحسر من اللّه،لأنّ التحسير لا يجوز عليه، و لكن يا حسرة لهم في تخلفهم عن إجابة الرسل،و كذلك يقول القائل منّا لمن يعظه و يرشده إذا طغى و لم يقبل:ما تريد بي إلا شرّا و وبالا،يعني بذلك شرّا و وبالا عليك دوني فكذلك تأويل الآية و هذا يبطل كيدهم و إلباسهم إبطالا ظاهرا بيّنا.
و أمّا قوله تعالى: وَ نَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ [الأنبياء:
47]،فإنّه لا منافاة أيضا بينه و بين قوله: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً [الكهف:
105]،لأنّه تعالى لم يرد بالآية الثانية نفي الموازنة و نفي الموازين،و إنّما أراد أحد أمرين:
إمّا أن يكون أراد أنّنا لا نقيم لهم مع أمرهم قدرا و لا جاها و لا نخلطهم بأهل الجاه و الأقدار عندنا كما يقال:فلان لا وزن له عند فلان يعني بذلك أنّه لا قدر له،و ليس يعني/أنّه لا يزن شيئا و أنّه لا ثقل له،و لا يمكن وزنه، أو أن يكون أراد أننا لا نقيم لهم يوم القيامة وزنا مستقيما ينفعهم،إذا كانت
ص: 615
أعمالهم باطلة و طاعاتهم معدومة،محبطة فموازينهم يومئذ خفيفة شائلة لا حسنة و لا طاعة تردّها و تقوّمها،فلا نقيم وزنا إلا ناقصا متفاوتا.
فأما تعلّقهم بقوله تعالى: وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران:97]، و قولهم مثل الخلق بالحرم و الثبت من الأماثل و الأفاضل كعبد اللّه بن الزبير، و من جرى مجراه،و هذا تكذيب للخبر،فإنه لا تعلّق لهم فيه،لأنّ هذا القول خرج مخرج الخبر و المراد به الأمر بأمان من دخل البيت،و أن لا يقتل و لم يرد الإخبار عن أنّ كلّ داخل إليه آمن،و على مثل هذا خرج قول الرسول:«من ألقى سلاحه فهو آمن،و من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، و من دخل الكعبة فهو آمن»،إنّما قصد به الأمر بأمان من ألقى سلاحه، و دخل هذه المواضع،و لم يرد بذلك الخبر،و مثل هذا قوله تعالى:
وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]،و هو يعني بذلك الأمر لهم بالتربّص دون الخبر عن تربّص كلّ مطلقة لأنّها قد تعصي اللّه و لا تتربص،و كذلك قال:و من دخله كان آمنا أي:أمّنوا من دخله و هو على صفة من يحبّ أن يؤمّن،فمن لم يفعل ذلك عصى و خالف،و متى جعل هذا القول أمرا بطل تمويههم.
و قد يمكن أيضا أن يكون أراد بقوله:و من دخله كان آمنا عام الفتح، و قد قال الرسول صلّى اللّه عليه:«من ألقى سلاحه كان آمنا و من دخل دار أبي سفيان كان آمنا و من اعتصم بالكعبة كان آمنا و من أغلق بابه كان آمنا»، فلا يناقض عدم الأمن في غير ذلك الوقت و جوده فيه.
و يحتمل أن يكون أراد أنّ كلّ من دخل البلد الحرام الذي هو مكة كلّها كان آمنا في بعض الأوقات دون بعض جميعها،و إذا كان ذلك كذلك بطل ما توهّموا به.
ص: 616
فأمّا قوله: فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنّارُ مَثْوىً لَهُمْ [فصلت:24]،فإنّه لا تناقض/ بينه و بين إخباره عنهم بالضجيج،و الاستغاثة و عض الأنامل و التأسف، و الحسرة و شكوى العذاب و الآلام،لأنّه لم يقل إنّهم يصبرون على نار جهنّم، فيكون ذلك نقيضا لإخباره عنهم بالضجيج و الاستغاثة،و إنّما قال:«فان يصبروا فالنار مثوى لهم»،يقول:فإن يصبروا أو يجزعوا لا ينفعهم ذلك فإن النار مثوى لهم.
و يمكن أن يكون إنما أراد بقوله:فإن يصبروا على آلهتهم و العبادة لها و مداومة تعظيمها،فالنار مثوى لهم،و إن ينتقلوا عن ذلك و يرجعوا عنها يسلموا،لأنّ اللّه سبحانه قد أخبر عنهم أنّهم قالوا: إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها [الفرقان:42]فقال في جواب ذلك:فإن يصبروا فالنار مثوى بهم يعني ما قالوا إنهم صبروا عليه.
فأمّا قوله تعالى: وَ ما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ [الإسراء:59]،فإنّه أيضا غير مناف لإخباره عن إرساله بالآيات و قوله:
سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت:53]،و إخباره عن انفراق البحر و قلب العصا حيّة،و إبراء الأكمه و الأبرص،و إحياء الموتى،و غير ذلك،من ناقة صالح و طوفان نوح،لأنّه يحتمل أن يكون عنى تعالى و ما منعنا أن نرسل بالآيات المهلكة المصطلمة إلا أن كذّب بها الأولون،فكأنّه قال حكمنا بإرسالها على من كذّب بها من الأولين،و ليس من حكمنا أن نرسل بها على من كذّب بها من أمة محمد صلّى اللّه عليه.
و يمكن أن يكون إنّما أراد و ما منعنا أن نرسل بالآيات التي طلبها اليهود و قوم محمد عليه السلام إلا أنّنا قد حكمنا أنّنا إذا أرسلنا بها و كذّبت عجّلنا
ص: 617
العقاب و اصطلمنا،فقال حكمنا بذلك منعنا من أن نرسل بها في هذه الأمّة و هذه الآيات نحو قوله: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ [النساء:153]،و قوله: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً... أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ [الإسراء:90-93]و نحو/ ذلك.
و يمكن أيضا أن يكون تأويل قوله و ما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذّب بها الأولون،و تكون إلا ساقطة و على وجه الزيادة في الكلام،فكأنّه قال:ما منعنا أن نرسل بالآيات تكذيب من كذّب بها من الأولين،بل نرسل بها و إن كذّبت فيما سلف،و مثله قول الشاعر:
و كلّ أخ مفارقه أخوه لعمرو أبيك إلا الفرقدان
أي:و الفرقدان،فدخل إلا زيادة في الكلام،و هذا يبطل أيضا ما ظنوا الانتفاع به.
و أمّا قوله تعالى: وَ إِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ الْفُرْقانَ [البقرة:53]،فإنّه لا منافاة بينه و بين إخباره بأنّه آتى محمدا (1)الفرقان و أنزله عليه،ليكون للعالمين نذيرا،لأنّ أكثر ما فيه أن يكون آتاهما جميعا الفرقان،و أنزل عليهما،و هذا غير متناقض و لا متضاد لو كان المراد بالفرقان كتاب محمد صلّى اللّه عليه،و كيف و ليس ذلك هو المراد،فيحتمل أن يكون أراد بفرقان موسى آياته التي فرق بها البحر و فرّق بها بينه و بين فرعون و السحرة،فتكون تلك الآيات فرقانا بين الحق و الباطل،و النبي و المتنبي.و يحتمل أيضا أنا.
ص: 618
يكون أراد بذكر الفرقان انفراق البحر دون كتاب أنزله سماه فرقانا،لأنّه قال: وَ إِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ [البقرة:50].
و يحتمل أيضا أن يكون آتى موسى كتابه و كتابا كان قبله اسمه فرقان كاسم كتابنا،و يحتمل أيضا أن يكون أراد بالآية أنّنا آتينا موسى ذكر القرآن الذي أنزلناه عليك و أوحينا بذكره إليه ليصدّق و يوصي بتصديق من ينزل عليه و يثبّتونه،ليكون ذلك حجة على قومه،و على وجه الحجة للنبي صلّى اللّه عليه في دفع ذلك عن موسى.
و يمكن أيضا أن يكون عنى بالآية و إذ آتينا موسى الكتاب و آتيناكم الفرقان فحذف و آتيناكم على مذهب الاختصار و الاكتفاء بشاهد الكلام، و إخراج القول على المعنى،كما قال الشاعر:/
تراه كأنّ اللّه يجدع أنفه و عينيه إنّ مولاه بان له وفر
أي و يعمي عينيه،فحذف و اختصر،و إذا كان ذلك كذلك سقط ما تعلقوا به من التأويل.
فأمّا قوله: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غافر:46]،فإنّه لا منافاة بينه و بين إخباره عن قولهم في الدنيا،لأنّه يمكن أن يكونوا يحيون في قبورهم و يعذّبون بعذاب دون عذاب الآخرة،ثم يقال لهم في الآخرة أدخلوا أشدّ العذاب،و وقت عذابهم في القبر غير وقت موتهم في الدنيا.
و يمكن أن يكون أراد نقلهم في جهنّم من طبقة إلى طبقة أسفل منها إلى ما هو أشدّ منه،فقال لهم:أدخلوا آل فرعون عذابا أشدّ مما كنتم فيه، و يجوز أن يكون أشدّ العذاب هو نفس العذاب بجهنّم الذي و عدوا به،فقيل لهم أدخلوا أشدّ العذاب،و هو الذي كنتم توعدون به،كما يقال القائل:
ص: 619
أدخلوا فلانا المسجى و المطبق ثم يقال أدخلوه إلى أضيق محبس،و يكون الأضيق هو السجن،و المطبق الذي ذكره من قبل فلا تنافي بين هذا الكلام و بين شيء من كلام اللّه سبحانه،و قيل معناه أنّهم بعرضها أي:قاربوا دخولها كما يقال فلان بعرض هلكة أي:قد قاربها و قيل أعمالهم أعمال من يستحق أبدا المقام على الذّل و نحو ذلك،فكأنّهم يغدون و يرجعون إليها بأعمالهم كما يقول القائل:غدو فلان يغدوا و يروح إلى النار أي من غدو و رواح على أعمال أهل النار.
فأمّا قوله تعالى: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف:6]،فإنّه لا مناة بينه و بين قوله: وَ لا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص:78]،و قوله في المرسلين: وَ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور:54]،و نحوه من إعذار الرسل،لأنه أراد بقوله: وَ لا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ،سؤال استخبار و استفهام لإحصائها و تقدّم العلم بها و الكتابة لها،و أراد بقوله: وَ لَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ،مسألة تقرير للحجة على الكافر ليستمعوا/قول الرسل و شهادتهم عليهم بالأداء إليهم.
و يمكن أن يكون سؤال الرسل سؤال تخصيص لهم و أمر بإقامة الشهادة على الأمم،كقول القائل:هذا يقوم،و هذا يضرب زيدا أي افعل ذلك كما أمرت،و قد يكون السؤال سؤال تقريع بالعجز كقولك:هل تعلم من الغيب شيئا،و هل يستطيع أن يتكلّم،و قد يكون السؤال سؤال توبيخ و تفنيد مواقفة على ترك الواجب،كقول الشاعر:
أ لم أك جاركم فتركتموني لكلبي في دياركم عواء
يريد التوبيخ لهم بتضييع جارهم و قلة حفاظهم.
ص: 620
فأمّا قوله تعالى في قصة النبيّ صلّى اللّه عليه و أمره له بأن يقول: وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ (1)[الأعراف:188]فإنّه غير مناقض لإخباره عنه بأنّه يتلقى و خبّر عمّا كان و يكون و عن أمور السموات،لأن ذلك إنّما يعلمه و يدركه بتوقيف جبريل له،و ليس ذلك من الغيب في شيء،و إنّما العالم بالغيب من علمه بغير خبر و توقيف،و حجة و دليل و ضرورة و طباع، و هو اللّه تعالى.
و يحتمل أيضا أن يكون تاويل ذلك أنّني لا أعلم وقت موتي فأستكثر من فعل الطاعات و البر،و هو و إن علم بعض الغيوب بالوحي إليه فغير عالم بجميعها،و يجوز أيضا أن يكون معنى الآية إنّ أهل مكة لما قالوا للرسول أ لا يخبرك ربّك بالبيع الرخيص فتشتريه فتربح فيه،و يخبرك بالأرض التي تريد أن تجدب فترحل عنها إلى الخصبة،فأنزل اللّه قل: وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ [الأعراف:188]أي:لا أعلم هذا و لا يجب أن أعلمه،و لا يجب على اللّه إعلامي إياه،لأنّ له امتحان قلبي و نفسي بما شاء.
فأمّا قوله في قصة إبراهيم: يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ [هود:74]فإنّه ليس بنقيض لإخباره بأنّه لَحَلِيمٌ أَوّاهٌ مُنِيبٌ [هود:75]منقاد،لأنّه أراد و هو أعلم بقوله أي تكلّمنا و تسألنا في قوم لوط،و لم يرد أنّه يناظرنا و يخاصمنا،و يروم إبطال قولنا و إخبارنا و أمرنا/و هذا كما يقوله السيّد منّا لعبده،و من يجب عليه طاعته إذا سأله في الأمر:أنت تجادلني في هذا و تحاجّني،أي:تلحّ].
ص: 621
في المسألة و الطلب،و يحتمل أن يكون أراد بقوله تجادلنا في قوم لوط،أي:
يجادل رسلنا من الملائكة الذين أخبروه بأنهم جاءوا بعذابهم و اصطلامهم، و يحتمل أن يكون ذلك الجدال ليس بمنازعة و مناظرة إنّما هو سؤال لهم و بحث عن قصّتهم كقوله: فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ [الذاريات:31]و نحو ذلك ممّا باحثهم عنه و فيه.
فأمّا قوله تعالى: كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً [الإسراء:97]،فإنّه ليس بنقض لقوله: فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ [البقرة:86]،و: لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ (1)[الزخرف:75]،لأنّه لم يرد بالخبو السكون و الهدوء،و إنّما أراد كلّما أرادت و قاربت أن تخبوا زدناها سعيرا،و يحتمل أن يكون أراد كلّما قدّروا أنها تخبوا و تهدأ زدناهم سعيرا،بخلاف ظنّهم.
و يمكن أن يكون أراد أنّ الخبو هو نفس الزيادة في السعير،فكأنه قال خبت ازداد حرّها و تضرّمها و تلظّيها،و ازداد كذلك عذابهم و ألمهم،فيكون ذلك خبرا عن نفس خبوها هو نفس الزيادة في سعيرها الذي به يزيد ألمهم و نحو هذا قول الشاعر:
فقلت أطعمني عمير تمرا و كان تمرا كمّثرة و زندا
فجعل نفس الكمّثرة و الزند تمرا.
فأمّا قوله تعالى: فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ [الشعراء:32]و هو أكبر الحيات، فلا منافاة بينه و بين قوله: تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ [القصص:31]،لأنّ الجانّ هو الصغير من الحيّات،-زعموا-لأنّ التأويل أنّه رآها في خفّة حركتها و سرعتها و تلوّيها،و تلقّفها كأنّها الجانّ الصغير في خفّته و سرعته،و هذا منة.
ص: 622
أحسن التشبيه،و يمكن أن يكون أراد بقوله كأنّها جان،كأنّها من الجنّ في هول منظرها،و قبحها و بشاعتها و الهلع و الترويع برؤيتها.
فأمّا قوله: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى [طه:67]،فإنّه أيضا غير مناف لإخبار اللّه عنه بتصديقه و سكون قلبه،لأنّ تلك الخيفة طباعيّة بشريّة غير كسبية اختياريّة،و ليست من الشكّ في قوله: خُذْها وَ لا تَخَفْ [طه:21]في/ شيء و لا من جنسه و لكنّها خيفة بشرية،و يمكن أن يكون أوجس خيفة في غير الوقت الذي قال له فيها لا تخف،إمّا قبل أن يقول له ذلك إلى أن قال خذها و لا تخف،أو بعد ذلك الوقت،لأنّه لم يقل لا تخاف أبدا فلا تعلّق لهم في ذلك،و يمكن أن يكون تأويل الآية أنّه خاف أن يفتتن قومه و يظنّون أنّ ما أتى به سحر كقول السحرة فقال له:لا تخف إنّك أنت الأعلى،أي إنّ آيتك تنكشف عن صدقك و تزيل كلّ ريب من قلوب أتباعك المؤمنين فيكون كذلك أعلى بالحجة و البراهين.
فأمّا قوله تعالى: ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَ لا يَحْيى [الأعلى:13]،فإنّه غير متناقض، لأنّه لم يرد أنّه يكون غير ميت و لا حيّ و إنّما عنى و هو أعلم أنّ حياته لا تنعدم فيستريح من العذاب و إدراك الآلام،و لا يحيى حياة طيبة يسلم فيها من العذاب و إدراك الآلام.
قال الشاعر:
ألا من لنفس لا تموت فينقضي قضاها و لا تحيا حياة لها طعم
و لم يرد أنّها غير حية و لا ميتة،و إنّما أراد المعنى الذي وصفناه.
و أما قوله تعالى: سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَ زَفِيراً [الفرقان:12]،فإنّه ليس بخبر باطل على ما توهّموه،لأنّ الغيظ لا يسمع،لأنّه قد يمكن أن يخلق لهم في
ص: 623
الآخرة إدراك النفس للغيظ و وجوده في أسماعهم،و يسمّى سماعا للغيظ، و كذلك القول عندنا في جواز سماع كلّ موجود و رؤيته من أفعال الجوارح، و أفعال القلوب،و أمّا تعلّقهم بأنّها جماد لا تغتاظ فيسمع غيظها أو لا يسمع فباطل،لأنّه إنّما كنّى بذكر الغيظ عن تسعّرها و شدة لهيبها.
و قد يمكن أن يحييها اللّه عز و جل على يبسها،و يخلق فيها غيظا على أهلها،لأنّ الحياة لا تحتاج إلى بيّنة و لا بلّة،و لا يضادّها اليبوسة و الحرارة، بل لا تحتاج إلا إلى محلها فقط،و قد بيّنّا ذلك في الكلام في الأصول بما يغني عن تأمّله،و يحتمل أن يكون أراد سمعوا لها زفيرا و تلهّبا،و علموا عند ذلك تغيظها،و استدلّوا/على العلم بالتغيّظ و الزفير و اللهيب المسموع، و سمي العلم بالتّغيظ سماعا له.
فأمّا قوله تعالى: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ [الفرقان:70]فإنّه غير متناقض من حيث كان السيئات لا تبدّل حسنات أبدا،لأنّه تعالى لم يعن هذا،و إنّما أراد و هو أعلم أنني أبدّل عذابهم و جزاء سيئاتهم حسنات في نعيم و رحمة بما أحدثوه و جدّدوه من الإنابة و التوبة،فلا تعلّق لهم في الآية.
فأمّا قوله تعالى: إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها [النور:40]،فإنّه لا اختلاف فيه و لا تناقض لأنّه لم يكن يعن بذلك أنّها بحيث يجوز أن يراها،و يمكن ذلك فيها مع قوله: ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ [النور:40]و العادة على ما هي عليه في رؤية اللّه و امتناع روية الكائن فيما هذه سبيله،و إنّما أراد بقوله لم يكد يراها،لم يرد أن يراها أي:لأنّه لا يطمع في ذلك و لا يرجوه،فكان معنى يريد.
قال الأفوه الأودي:
فإن تجمّع أوتاد و أعمدة و ساكن بلغوا الأمر الذي كادوا
ص: 624
أي:الأمر الذي أرادوا،و إذا كان ذلك كذلك بطل ما ظنّوه.
فأمّا قوله تعالى: أَكادُ أُخْفِيها [طه:15]فتأويله أكاد أدنيها آتي بها على وجه التقريب كذلك،و التهديد،ثم قال:أخفيها ليجزي كلّ نفس بما تسعى،قال الشاعر:
هممت و لم أفعل و كدت و ليتني تركت على عثمان تبكي حلائله
فأمّا قوله تعالى: نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النّارِ [النمل:8]فليس فيه نقض لذمّ من في النار و لعنهم،و إنّما أراد بورك موسى المقارب للنار التي رآها، كما يقال:فلان في النار و في الماء إذا قارب ذلك،و إن لم يكن فيه،و كما يقول القائل:إذا بلغت المحول و قطربّل فأنت في بغداد،على وجه التقريب لذلك،فيقال إن اللّه سبحانه بارك بهذه الآية على من في النار.
فأمّا قوله تعالى: وَ هَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ [سبأ:17]،فإنّه ليس بنقيض لقوله: لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى [طه:15]:و قوله في المؤمنين: جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17]و نحو ذلك،لأنّه إنّما/عنى بقوله:و هل نجازي إلا الكفور،مثل ما يجازي به الكفور،أي لا يعاقب في النار بعقاب الكفر إلا كافر،و يحتمل أن يكون عنى و هل نجازي بما جوزوا به من تغيير النّعم أو إنزال الخسف و النّقم إلا الكفور.
فأمّا قوله تعالى: بَلْ عَجِبْتَ وَ يَسْخَرُونَ [الصافات:12]فإنّه غير مناف لإخباره عن عصمة اللّه و وقاء ربّه و تصديقه،و إنّما أراد بل جازيتهم على تعجّبهم منك و ممّا جئت به و يسخرون أي و هم في تماديهم،و يمكن أن يكون ذلك على معنى الأمر كأنّه قال:قل يا محمد بل عجبت و يسخرون على وجهه،على جهة الخطاب لمن تعجب مما ينزل بهم.
ص: 625
فأمّا قوله: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ [السجدة:5]،فإنّه غير مناف لقوله: مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:4]،لأنّه أحوال و تارات،فتارة منه تقدّر بألف سنة،و تارة بخمسين ألف سنة،و يمكن أن يكون أراد أن الملك يعرج من الأرض إلى حيث يخرج من السموات ما مقداره من سنّي غيره ألف سنة من أيام الدنيا،فلا تناقض إذا في هذا.
و أمّا قوله: وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً [نوح:16]لم يرد أنّه جعلها في الكواكب،و إنّما عنى و هو أعلم،و جعل القمر معهنّ نورا فجعل فيهنّ مكانا معهن.
فأمّا قوله: إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها [الأحزاب:72]فليس بخبر على أنها أحياء مكلفة،و إنّما قصده تعالى تعظيم شأن حمل الأمانة،و أنّ كلّ أحد يضعف عنها،و إن عظم خلقه،و يضعف عن أن يطيقها،قالوا:و ذلك نحو قول العرب عرضت الحمل على البعير فأبى أن يحمله،أي أنّه صغير لا يقوى على الحمولة لصغره و ضعفه.
و قيل إنّه أراد بذلك أنّه تعالى عرضها على أهل السموات و الأرض و الجبال فأبوا أن يحملوها لثقلها،و القصور عن القيام بحقّها،كما قال وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف:82]يريد:أهل القرية،و أصحاب العير،و قوله:
وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ [الأحزاب:72]يعني:الكفور بجهله بحق اللّه فيها،و استحقاره لها فبطل ما قالوه أن تجيء السموات و الأرض و يعرض عليهنّ القيام بحق اللّه فيما فرضه،و الخروج من جميعه فأبين ذلك و اعترفن بالعجز/عنه فلا إحالة في هذا و لا تناقض من كلّ وجه.
فأمّا قوله: وَ قَوْمَ نُوحٍ لَمّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ [الفرقان:37]و أنّه ليس بنقيض لإخباره أنّه هو وحده كان الرسول،لأنّه يمكن أن يكذّبوا لمّا كذبّوه صاروا
ص: 626
بذلك إلى تكذيب من كان قبل نوح لما بشّروا بنوح و وصّوا بتصديقه و قبول قوله،فيصير المكذّب له مكذبا لمن كان قبله،و كذلك هم مكذّبون لمن بعد نوح من الرسل،الذين يخبرون بنبوّته و مكذّبون لمن كان قبله منهم ممن خبّر بذلك،و يمكن أن يكون منهم من قد أدرك أنبياء قبل نوح،فكذّبهم،أو من اتصلت بهم دعوة الرسل و حججهم فكذّبهم،و أرسل نوحا فكذّبه أيضا، و يمكن أن يكون معنى قوله:لما كذّبوا الرّسل أي كذّبوه،فكذبوا الملائكة التي كانت تنزل بالوحي عليه،و إذا كان ذلك كذلك اضمحلّ إلباسهم.
فأمّا قوله: وَ النَّجْمِ إِذا هَوى [النجم:1]فليس بخبر عن باطل لرؤيتنا النّجم غير هاو و رؤية ذلك وقت مبعث النبي صلّى اللّه عليه،لأنّه قد قيل إنّ النجوم قرب مبعث النبي صلّى اللّه عليه كثر انقضاضها و راع ذلك قريشا و العرب،و سألوا بعض الكهّان عن ذلك فقال:إن كانت النجوم العوامل تنقض فهي القيامة،يعني البروج الاثنا عشر و الطوالع السبعة،و إن لم تكن هي فيسظهر أمر عظيم،فظهر بعث النبي صلّى اللّه عليه و آياته،فلمّا كذّبت قريش قال اللّه سبحانه: وَ النَّجْمِ إِذا هَوى(1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَ ما غَوى أي:هو الذي دلّ انقضاض النجوم على أمره،فلا إحالة في هذا و لا اختلاف.
ص: 627
فأمّا دعوى الملحدة تناقض ما ورد من آي القرآن في الهدى و الضلال و خلق الأفعال و القضاء،و تقدير الأعمال و تكليف ما لا يطاق و ما يكثر ابن الراونديّ و أضرابه من هذا الباب و تضلّ به القدريّة و المعتزلة و من تابعهم من التعلّق بهذه الآيات في حملهم لها على غير تأويله و ما قصده اللّه بها،إمّا للجهل بذلك أو لقصد العناد و إيثار التمويه و الإلباس،فإنّه لا تعلّق للفريقين في شيء منه،و نحن نبيّن/ذلك بيانا يوقف على الواضحة إن شاء اللّه.
قال الملحدون:و ممّا ورد متنافيا متناقضا من آي القرآن تناقضا لا خفاء به على أحد قوله: وَ يُضِلُّ اللّهُ الظّالِمِينَ [إبراهيم:27]و قوله: أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللّهُ عَلى عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً [الجاثية:23]،و قال: وَ مَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الرعد:33]،في أمثال هذه الآيات ممّا فيها ذكر إضلال اللّه لمن أضلّه و نحو قوله: وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ [الأنفال:24]،و قوله: إِنّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً [الكهف:57]،و قوله: وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً [الأنعام:125]،بعد قوله: وَ مَنْ يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ [المائدة:41]،و قوله: ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ [التوبة:127]،و قال:
وَ نَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام:110]،و قال: خَتَمَ اللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ [البقرة:7]،و قوله: فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللّهَ ما وَعَدُوهُ [التوبة:77]،و قال: وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ نَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام:110]، و قال: أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْمى أَبْصارَهُمْ [محمد:23]،و قوله:
ص: 628
وَ نَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام:110]،و قال: خَتَمَ اللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ [البقرة:7]،و قوله: فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللّهَ ما وَعَدُوهُ [التوبة:77]،و قال: وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ نَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام:110]، و قال: أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْمى أَبْصارَهُمْ [محمد:23]،و قوله:
وَ مَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً [النساء:88]،و قوله: مَنْ يَشَأِ اللّهُ يُضْلِلْهُ [الأنعام:39]،و قوله: وَ أَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ [المائدة:64]، و قال في هزيمة المؤمنين يوم أحد: وَ عَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ [آل عمران:152]،في نظائر هذه الآيات ممّا أخبر فيها أنّه تعالى تولّى إضلالهم و الختم على قلوبهم،و تغشية أبصارهم و جعل الأكنّة على قلوبهم.
قالوا:ثم نقض ذلك أجمع بأن خبّر في آيات كثيرة أنّهم هم المضلّون لأنفسهم و الخاتمون عليها و تبرّيه من معاصيهم و إضلالهم،و نقض ذلك أيضا بأن أضاف إضلالهم مرة إلى آلهتهم و مرة إلى/الشيطان،و مرة إلى فرعون و السامريّ و مرة إلى الشياطين،و كلّ هذا متهافت متناقض لا شبهة في تناقضه بزعمهم.
فأمّا نقضه لذلك بإضافته إليهم فكثير،منه قوله سبحانه: كُفّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ [البقرة:109]،و قوله: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:
165]،و قوله: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الإسراء:7]، و قوله: وَ لكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَ تَرَبَّصْتُمْ وَ ارْتَبْتُمْ [الحديد:14]فأضاف ذلك إليهم دونه،و قوله: كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14]، و قوله: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [يس:30] فأضاف ذلك إليهم و قال: جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [الأحقاف:14]، ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ (1)،و: لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء:23]يعني عما يفعلون،فأضاف أفعالهم إليهم،كما أضاف فعل نفسه إليه تعالى،و قوله:
ص: 629
165]،و قوله: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الإسراء:7]، و قوله: وَ لكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَ تَرَبَّصْتُمْ وَ ارْتَبْتُمْ [الحديد:14]فأضاف ذلك إليهم دونه،و قوله: كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14]، و قوله: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [يس:30] فأضاف ذلك إليهم و قال: جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [الأحقاف:14]، ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ (1)،و: لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء:23]يعني عما يفعلون،فأضاف أفعالهم إليهم،كما أضاف فعل نفسه إليه تعالى،و قوله:
فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللّهِ [القصص:50]فأضاف الاتباع إليهم،و قوله: ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النّاسِ [الروم:41]فأضاف ما عوقبوا عليه إليهم دونه،و قوله: فَلَمّا زاغُوا أَزاغَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5]فأضاف الزيغ الأول إليهم،و جعل الثاني عقوبة،و قوله: وَ يَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ وَ ما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ [آل عمران:78]،و قوله: وَ أَمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [فصلت:17]،و قال: فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(20) وَ إِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ [الانشقاق:20-21]،فاستبطأهم استبطاء من يعلم أنّ الفعل لهم و منهم و بأيديهم.
و كذلك قوله: وَ ما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ [النساء:39]، و قوله: وَ ما مَنَعَ النّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى [الكهف:55].].
ص: 630
و أمّا نقضه ما قدّمناه-زعموا-بنفيه ذلك عن نفسه و بيّن كثيرا منه قوله:
ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79]،و قوله:
وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]،و قوله في ذمّه الكفّار بقولهم: لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ،و قوله: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللّهُ ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ شَيْ ءٍ ،فذمّهم بهذا القول الذي أخبر به عن نفسه/في قوله: وَ لَوْ شاءَ اللّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَ ما يَفْتَرُونَ [الأنعام:
137]،و قوله: وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها [السجدة:13]،في أمثال هذا ما خبّر فيه بمثل قول المشركين الذي ذمّهم و عيّرهم به،و قوله: وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ [التوبة:115] و قوله: وَ يُضِلُّ اللّهُ الظّالِمِينَ [إبراهيم:27]،و قوله: وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ [البقرة:26]،و قوله: وَ ما رَبُّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46]، و هو قد أخبر فيما سلف أنّه يسألهم عن فعله و يعذبهم على قضائه و قدره، و ذلك هو الظلم بعينه.
فأمّا نقض ما أخبر به من تولّيه لإضلالهم بإضافته ذلك إلى غيره من المجرمين و الشياطين و غيرهم فظاهر كثير،منه قوله: وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَ ما هَدى [طه:79]،و قوله: وَ ما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ [الشعراء:99]،و قوله:
رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاّنا مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ [فصلت:29]،و قوله: وَ أَضَلَّهُمُ السّامِرِيُّ [طه:85]،و قوله: رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النّارِ [الأعراف:38]،و قوله: اَلشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَ أَمْلى لَهُمْ(25) [محمد:25]،و قوله: فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ [القصص:15]فأضاف ذلك إلى الشيطان،و قوله:
ص: 631
رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاّنا مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ [فصلت:29]،و قوله: وَ أَضَلَّهُمُ السّامِرِيُّ [طه:85]،و قوله: رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النّارِ [الأعراف:38]،و قوله: اَلشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَ أَمْلى لَهُمْ(25) [محمد:25]،و قوله: فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ [القصص:15]فأضاف ذلك إلى الشيطان،و قوله:
وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [النمل:24]ثمّ نقض قوله: وَ مَنْ يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً [المائدة:41]بقوله: وَ اللّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ [البقرة:205]،و قوله: وَ لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَ إِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر:7]،و قوله: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا [النور:
19]فذمّ من أحبّ ذلك بما خبّرنا به يريد ذلك أجمع،و هذا زعموا تناقض ظاهر لا يأتي من قبل حكيم عليم سميع بصير.
قالوا ثمّ أخرج نفسه و الشياطين عن أن يكون لهم في الإضلال صنع و سلطان بقوله: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً [المزمل:19،الإنسان:29]، و فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً [النبأ:39]،و قوله: وَ ما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ [النساء:39]،و قوله: فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الانشقاق:20]و بذمّه لهم على هذه الأفعال،و لو كانت من عنده أو من عند قادتهم أو من/عند الشياطين لما ذمّهم على ذلك،و لكان ذمّ من بقي من قبله أولى.
و كيف يقول: وَ ما مَنَعَ النّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا [الكهف:55]، وَ ما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا [النساء:39]،و هو يقول: خَتَمَ اللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ [البقرة:7]، وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [يس:9]،و يقول: جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً [الكهف:57]،و كيف يسمع أو يخنع و يستجيب من ختم على قلبه و بصره و سمعه،و حيل بينه و بين قلبه و رشده.
و اعلموا رحمكم اللّه أنّه لا تنافي و لا تناقض في شيء مما تلاه الملحدون و تعلّقوا به،و لا حجّة فيه و لا شبهة لقدريّ يحاول بما يتلوه من ذلك إبطال
ص: 632
إضلال اللّه الضالين بالختم و الطبع و التغشية،و تقليب القلوب و الأبصار و التفرقة بين المرء و قلبه.
و نحن نكشف ذلك كشفا يزيل ما حاولوه من الإلباس و التمويه و يجلّي غماء الشبهة بإذن اللّه عن ذي الجهل و النقص منهم.
فأوّل ما يجب أن نثبته في هذا الفصل الفرق بين الإضلال و الضلال.
فنقول:إنّ الضلال هو الذهاب عن الحقّ،و ضدّه الهدى و تصور الأمر على غير ما هي به،و هو من فعل النفس،و الخبر عن ذلك باللسان عبارة عن الضلال الذي في القلب،و من فعل النفس و هو أيضا في نفسه ضلال، لأنّه خبر باطل و قول كذب و ضدّ الحقّ و الصدق،و الذي هو الخبر عن الشيء على ما هو به،و هو محرّم على المخبر به إذا شرح بالكفر صدرا و لم يكن معتقدا به،كما أنّ اعتقاد الباطل معصية محرّمة على معتقدها،فقد استوى العقد و القول الذين ليسا بحقّ و هما ضدّ الهدى،و الصواب في أنّهما ضلالات و ذهابات عن الحقّ أحدهما عقد و الآخر قول و خبر،و الضلال الذي هذه صفته لا يكون إلا لضالّ به،و من ضالّ يوصف به،و يتعلّق بقدرته إذا كان منتهيا عنه و مأمورا بتركه،هذا/أصل الضلال،و منه سمّي الضلال عن الطريق المحجّة إذا عدل عنها للجهل بها ضالاّ عن الطريق،و منه الضلال عن الرأي الذي هو الذهاب عن صوابه،و منه الضلال عن الحقّ الذي هو العدول،و منه سمّيت الضالّة ضالّة.
و قد قيل:إن الضلال عن الحقّ الذي هو بمعنى العذاب،و استشهد قائل ذلك بقوله: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَ سُعُرٍ [القمر:47]،يعني:في عذاب و سعر و ليس هذا باستشهاد صحيح،لأنّه يحتمل أن يكون عن أنّ المجرمين في الدنيا في ضلال عن الحقّ و في سعر في الآخرة،أو في ضلال في الدنيا
ص: 633
عن الحق،و سعر هو نفس ضلالهم عن الحق،و إنّما سمّى أعمالهم سعرا على معنى أنّه يستحق بها الكون في السعير،كما قال: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النّارِ [البقرة:175]،يعني على عمل أهل النّار فلا حجّة في الآية،و على أنّه لو كان الأمر على ما ذكروه لصار تقدير الكلام إنّ المجرمين في عذاب لأنّ السعير نفسه عذاب،و هو يغني عن ذكر العذاب،و هذا مستثقل مستغث من الكلام،فوجب أن يكون قوله:في ضلال يعني ذهاب عن الحقّ،و في سعر من أعمالهم هذه،أو سيكون في سعر يوم القيامة،و على أنّه سمّى العذاب ضلالا فعلى معنى أنّه ذاهب بصاحبه عن الثواب و اللذّات،فهو راجع إلى الذهاب عن الجنّة على وجه الشبه بالذهاب عن الحقّ،و الأمر المقصود الذي فيه السلامة و النجاة.
و قيل إنّ الضلال يكون بمعنى الهلاك بدلالة قوله: أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ [السجدة:10]أي:هلكنا،و قد يمكن أيضا أن يكون ضلالهم في الأرض ذهاب عن مواضع مقصودة فيها المصالح و الرشاد و إن سلّم أنّ الضلال بمعنى الهلاك و البلى في القبور،فذلك غير ضار و لا نافع للملحد و لا لقدريّ على ما سنبينه إن شاء اللّه،و قيل إنّ الضلال يكون بمعنى الغفلة، و منه قوله: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما [البقرة:282]،/و قوله: وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى [الضحى:7]أي:تغفل إحداهما،و وجدك غافلا على النبوّة، فهداك إليها و شرّف قدرك بها،و هذا أيضا عائد إلى معنى الذهاب عن الشيء و ذلك أن غفلة إحداهما التي خيفت إنّما هو ذهابها عن ذكر الحقّ و إقامة الشهادة عليه بحسب الصواب،و ما يجب في التحمّل و الأداء،و الذهاب عن ذلك بالغفلة ذهاب عن الحق،كما أنّ الذهاب عنه بالقصد و الاعتماد ذهاب عن الحق،غير أن إحداهما معتمد،و الآخر غير معتمد.
ص: 634
و قوله: وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى أي غير عارف بشريعة بعينها قامت بها الحجّة لحصول الفترة و الذهاب عن العلم،فذلك ذهاب عن أمر من الصواب؛الواجب على من علمه و قامت الحجّة عليه به و إن لم يكلّفه عليه السلام مع الفترة،و ليس كل ضلال مذموما بنفس الاسم و بكونه ضلالا، و إنّما المذموم من ذلك ما حظره اللّه و نهى عنه؛و لذلك نقول قد ضلّ زيد عن الرأي،و ذهب عليه رشده و إن لم يقصد بذلك ذمه،بل الإخبار عن ذهابه عمّا قصده فقط،و ربّما كان قصده التذكير على المؤمنين.
فأمّا قوله: فَعَلْتُها إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضّالِّينَ [الشعراء:20]،فليس فيه دلالة على أنّه كان من الغافلين عمّا فعله،بل لا ينكر عندنا أن يقع منه الذنب على وجه العمد و إن كان مغفورا،و يمكن أن يكون وقع عن عفلة و سهو،أعني القتل و لكن ليس حجّة ذلك قوله:و أنا من الضالين بل شيء آخر إن دلّ على ذلك،و كل شيء يسمّى ضلالا فإنّ هذا أصله و هو مأخوذ منه و مشبّه به.
فأمّا الإضلال فإنّه غير الضلال و هو متعلق بالمضلّ للضالّ دون الضال بقدرته،و إن قيل أحيانا زيد قد أضلّ نفسه بكفره و خلافه عن الحقّ،فعلى وجه التشبيه بإضلال غيره له،و الإضلال الحقيقي الذي هذه الأسماء اسم له قولنا إغواء و تزيين للباطل و تقبيح الحق،إنّما هو الحيلولة بين المرء و قلبه و إزاغة القلوب عن الحق،و خلق الباطل فيها الذي/هو اعتقاد غير الحق.
و قولنا ختم و طبع و غشاوة و صمّ و عمي و سدّا إنّما هو عبارة عن هذا الاسم من المفعول في القلوب و المضاد لاعتقاد الحقّ و الصواب،و اللّه هو المنفرد بخلق ذلك في قسمه لنا به،و عدل عليه في حكمه و قضائه، و المتفرد بالقدرة على تقليب القلوب و الحيلولة بين أصحابها و بينها، و القدرة على خلق ضدّ الحقّ فيها لا يشركه في القدرة على إغواء القلوب
ص: 635
و تصوير الأمور بغير ما هي به،و الخلوص إلى الطبع و الختم،ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل،و لا شيطان متقول،و لا أحد من خلق اللّه،هذا هو حقيقة الإضلال.
و قد يسمّى الدعاء إلى الباطل و التزيين له،و التحمّل في اعتقاده و الوسوسة المخيلة لكونه حقا إضلالا لمن قبل ذلك،و أجاب إليه، و استصير به و إغواء الشيطان و وسوسته إضلالا لمن قبل دون من لم يقبله، و كذلك دعاؤه إلى الضلال و دعاء سائر أئمة الكفر إليه إضلالا لمن قبل ذلك،و استصير به،و كذلك سحر السّحرة و فعل السامريّ الذي هو صياغة العجل إضلالا و إغواء لمن قبل ذلك و استصير به دون من خالفه،و بعد عنه، و قد يسمّى تسميته الضال و من ليس بضالّ و الحكم عليه باسم الضلال إضلالا،و إن لم يكن إضلالا على الحقيقة؛و لكن على وجه التشبيه له بفعل الضلال في الغير و بما يستصير به المفعول فيه،قال النجاشيّ:
ما زال يهدي قومه و يضلّنا حقّا و ينسبنا إلى الكفار
و لسوف يعلم حين يلقى ربّه من شرّنا و أحقّنا بالنّار
يعني ما زال يسمّينا ضالين و يحكم لنا بذلك و يسمّي قومه مهتدين، و قال آخر:
و ما زال شرف الراح حتى أشرّني صديقي و حتى ساءني بعض ذلك
يعني:تسمية صديقه و جليسه له شريرا دون خلق الشرّ فيه،و هذا إن جاز/استعماله فمجاز و على وجه الاستعارة و التشبيه بالإضلال الذي هو نفس الذهاب عن الحق،و كأنّ الخبر بذلك قد صار بمثابة من فعل ذلك فيه إذا كان عند المسمّى قضيّة ما سمّاه به،كما إنّ من خلق به الضلال ضالّ عند
ص: 636
من خلق الضلال في قلبه،و تسمية المسمّى المخبر بذلك على وجه التشبيه بفاعل الضلال في القلوب.
و يمكن أن يكون لما كان الحكم و التسمية للغير بالضلال يضرّ بالمسمّى و يغمّه و يصوّره عند الناس قبح حاله،كما أنّ وجود الضلال في قلبه يغمّه و يضرّه و يهلكه أجري على التسمية لهذه الوصمة و المضرّة اسم ضلال للقلب الذي هو الذهاب عن الحق.
و الضلال في الحقيقة،هو ضد الهدى الذي يوجد في محلّه و يعاقبه، قال اللّه تعالى: وَ مَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الرعد:33]،و قال: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللّهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [النحل:36]و أمثال لهذه الآيات فيها تحقيق الضلالة التي هي ضد الهدى (1)و الذهاب عن الحقّ و الصواب.
قال لبيد بن الربيعة:
من هداه سبل الخير اهتدى نعم البال و من شاء أضلّ
و لم يرد بالهدى الذي به ينعم بال المهتدي،الحكم و التسمية و لا بالضلال،التسمية به،بل أراد شرح الصدور و تضييق القلوب.
فأمّا الهدى فهو ضدّ الضلال و هو معرفة القلب بوجوب كلّ واجب و تصديقه بذلك،و اعتقاد الأمور على ما هي به،و الإخبار عن ذلك باللسان هدى أيضا،لأنّه خبر حقّ و صدق،و نقيض ما صوّر به،و الهداية التي هي الإرشاد من اللّه خلق الهدى في القلوب و شرح الصدور و توسعتها و إقرارها بالحقّ و تسهيله و تيسيره عليها و فعل الألطاف الجامعة لهم على فعل الطاعات،ا.
ص: 637
و قد تكون الهداية بمعنى الدعاء إلى الشيء،و لا تسمّى/الدعوة إلى الحق هداية إليه إلا لمن قبلها و انتفع بها.
قال القطامي:
ما ذا هداك لتسليم على دمن بالغمر غيّرهنّ الأعصر الأوّل يريد بقوله(ما ذا هداك):ما ذا دعاك إلى الهدى إذ اهتديت لتسليم على دمن بالغمر غيّرهن الأعصر الأول و بعثك على ذلك.
و قد تكون الهداية بمعنى التوفيق و شرح الصدر و تسهيل القول الحقّ على ما بيّناه من قبل،و هي الهداية الحقيقية المقصودة بقوله: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص:56]،أي:إنّك لا توفق من أحببت،و لم يرد أنّك لا تأمره بالهدى و تدعوه إليه،و هي المراد بقوله:
وَ مَنْ يَهْدِ اللّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ [الزمر:37]و المعتمد في الرغبة إلى اللّه في الهداية في الرغبة،لأنّ الدعوة قد حصلت لكل،و لأنّه قد ضلّ كثير ممّن دعي إلى الحق،فدلّ ذلك على أن الهدى المرغوب فيه و الذي لا يضلّ صاحبه،و لا يهدي به النبي عليه السلام من أحبّ هدايته هو التوفيق و شرح الصدور الذي قدمناه.
قال الحطيئة:
تحنّن عليّ هداك المليك فإنّ لكل مقام مقالا...
يريد:وفّقك المليك للحق،و شرح صدرك به و لم يرد دعوته إلى ذلك،لأنّها قد سلفت و وجدت.
و قد تكون الهداية إلى الشيء بمعنى التقديم إليه،و منه قولهم:قد أقبلت هوادي الخيل أي:مقدّماتها،و يقال هوادي الخيل أعناقها لأنّها تتقدمها.
ص: 638
قال الشاعر (1):
إذا لم يختزن للبيت لحما غريضا من هوادي الوحش جاعوا
يعني:تدخر لهم من أوائل ما يتقدّم إلى الوحش.
و قال الأعشى:
إذا كان هادي الفتى في البلاد صدر القناة أطاع الأميرا
يعني أوائل القناة و مواضع الأسنّة منها،و العصا تسمّى الهادية إما لأنّها تتقدّم/المتوكّئ عليها،أو لأنها من شدّة تهديه بحسّه بها و توقيه الوهاد و التلاع،و ما في سبله من الأذى،و ما يريد معرفته.
و أمّا قول من زعم أنّ الهداية تكون بمعنى الزيادة،و اعتلّ لذلك بقوله تعالى: وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ [محمد:17]،فإنّه تعلق باطل،لأنّ قوله زادهم هدى،إنّما يريد بزيادتهم رشادا و تبصرا،و اتخاذا للهداية في قلوبهم في مستقبل أزمانهم و أعمارهم،و ليس يبيّن معنى الهداية بجعله زيادة على هدى كان قبله،و كما أنّه قال قائل لمّا علموا زدناهم علما إلى علمهم،و لم يكن في ذلك إخبار عن خاصية العلم وحده،و حقيقته المحيطة به،فكذلك ذكر الهداية و الزيادة فيهما لا ينبئ عن معناها.
و قد قيل إنّ الهدى ثواب الجنّة،و احتجّ لذلك بقوله: وَ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ(4) سَيَهْدِيهِمْ وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ [محمد:4-5]،يعني:أنه يهديهم إلى طريق الجنة،و هذا أيضا إن صحّ فعلى وجه تشبيه الثواب في نفعه بهدى القلب و استبصاره في الانتفاع به،و استدفاع الضرر،هذه جملة في معنى).
ص: 639
الهداية و الهدى و الإضلال و الضلال كافية،و إذا كانت هذه الجملة ثابتة وجب أن يكشف بعد ذلك بأنّه لا تناقض في إضافة إضلال كل ضالّ من العصاة بالكفر و غيره إلى نفسه،و بين إضافته إلى الفراعنة و المردة مرّة و إلى الشياطين و إلى فرعون و السامريّ و كلّ داع إلى ضلالة و إنّ القرآن يشهد بعضه لبعض،و يصدّق بعضه بعضا.
فنقول:إنّ الهداية التي أضافها اللّه تعالى إلى نفسه و أخبر بها لا يشركه فيها ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل و لا أحد من خلقه،و هي شرح الصدور و تطهير القلوب،و خلق الإيمان و التصديق فيها و تسهيله عليها،و خلق الألطاف الجامعة الدواعي و الهمم على فعله من القدرة على فعله،و الأسباب المسهّلة له،و غير ذلك ممّا لا يقدر عليه أحد من/خلقه،فهذا الضرب من الهداية لم يضفه اللّه تعالى إلى الملائكة و لا إلى أنبيائه و لا إلى أحد من خلقه،إذ لم يكن ذلك من أفعالهم و لا ممّا يدخل تحت قدرهم،و إنّما معنى الهداية التي يضيفها اللّه تعالى و رسوله و المسلمون مرة إلى الأنبياء و مرّة إلى الأئمة و العلماء،إنّما هي الدعوة إلى الإيمان و شهادة الحقّ و الإرشاد إليها،بذكره الأدلّة و التنبيه على موضع الحجّة و التزيين لذلك و التقبيح لتركه،و التحذير و الوعيد عن التخلف عنه و تجنبه،و كثرة الحثّ و الحضّ على فعله،و الإخبار بما عليه من جزيل الثواب و بما في تركه من أليم العقاب،إلى غير ذلك.
و جملة هذه الهداية المضافة إلى غير اللّه من سائر أوليائه،إنّما هي معنى الدعوة إلى الإيمان و التزيين له و الإرشاد إليه و التنبيه على مواضع الهداية عليه،و الترغيب في فعله و التحذير من تركه،فأمّا أن يكون لأحد منهم سلطان على فعل في القلوب و شرح الصدور و خلق القدر و الألطاف و تقليب القلوب و الأبصار و صرفها و الحيلولة بين المرء و قلبه،فإنّ ذلك غير
ص: 640
جائز على قول أحد من الأمّة،و ممّا قد قامت الأدلّة على بطلانه و كذب كلّ من ادّعى ذلك لنفسه من الخلق أو لغيره من الخلق،و لو كان إلى الأنبياء و المؤمنين هداية الخلق بما يهديهم إليه سبحانه به ليهدوا الناس أجمعين و من آثروا إيمانه و كرهوا إضلاله.
و كيف يكون ذلك كذلك و اللّه تعالى يقول لرسوله: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص:56]،و قال له:أ فتراه إنّك لا تأمر من أحببت و لا تدعوه إلى كلمة الحقّ و لا تزين له الصواب،و لا ترغب و ترهّب مع إخباره عنه بأنّه موضع لرسالته،و الأداء عنه؟هذا ممّا لا يقوله مسلم و لا ملحد لأنّ الكلّ قد اتّفقوا على أنّه عليه السلام بيّن و أنذر و حذّر، و إنّما قال له:«إنّك لا تهدي من أحببت»،أي ليس إليك هدايته بشرح الصدور و توسعته و تطهير/القلب،و خلق الإيمان فيه و تسهيله عليه و لذلك روي عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أنّه قال:«بعثت داعيا و مبلغا،و ليس إليّ من الهدى شيء،و خلق إبليس مزيّنا و ليس له من الإضلال شيء» (1)،و قد ورد القرآن بتصديق هذا في قوله: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ،و قوله: وَ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور:54]،و قوله: *لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَ لكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [البقرة:272]،و قوله: وَ ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاّ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ [الكهف:56]،و قوله تعالى: إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً(45) وَ داعِياً إِلَى اللّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِراجاً مُنِيراً(46) [الأحزاب:45-46]،في أمثال هذا ممّا خبّر فيه أنّ الهداية إليه وحده و ليس يجوز أن يكون إليه وحده ما هو مشترك بينه و بين خلقه.).
ص: 641
و اعلموا-رحمكم اللّه-أن دعوة الرسول لا تكون هداية لأحد و لا توصف بذلك حتى يقارنها قبول المدعو و انتفاعه بها،و متى عريت من ذلك لم تكن هداية له،فلذلك لا يجوز أن يقال إنّ الرسول قد هدى أبا جهل و أبا لهب و سائر من كفر به من قريش،و لم ينتفع بدعوته لأنّه إذا لم ينتفع المكلّف بالدعوة لم تكن من أسباب هدايته،و صارت ضررا عليه و وبالا و طريقا إلى عقابه،لأنّه لو لم تكن الدعوة لم يستوجب العقاب،فهي إذن ضرر مع عدم القبول و الانتفاع،قال سبحانه و تعالى: الم(1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ(2) [البقرة:1-2]،و قال: وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ [البقرة:26]،و قال: وَ هُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [فصلت:44]،فبيّن بذلك أجمع و أمثاله من الأخبار أنّ الدعوة هداية لمن قبلها و انتفع بها دون من ردّها و استضرّ بورودها،فبان بهذه الجملة أنّه لا منافاة بين إضافة اللّه سبحانه الهداية إليه،و بين إضافة الهداية إلى رسله و ملائكته و المؤمنين إذا كان من أضافه إلى نفسه من ذلك غير ما أضافه إلى خلقه.
على أن الهداية التي أضافها إليهم إنّما هي الدعوة و التزيين و الإرشاد و التنبيه و الترغيب و التحذير،و على ذلك يدلّ قوله: وَ ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاّ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ [الكهف:56]،/و قوله: وَ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور:54]،و كلّ هذا ممّا قد هدى اللّه سبحانه المؤمنين به على وجهين:
أحدهما:أنّ نفس دعوة الرسل و ترغيبهم و ترهيبهم و إرشادهم من فعل اللّه تعالى و خلقه و ترتيبه و تدبيره،فهو أيضا هاد بذلك للمنتفع بالدعوة حسب هداية المكتسب له من الرّسل،و لا يجوز أن يكون الباري الهادي بهذه الهداية المكتسب لها دون خالقها الذي صارت نفسا حادثة موجودة به دون المكتسب لها،فوجب لذلك أن يكون لا تناقض بين إضافة الهداية الواحدة
ص: 642
إليهم تارة و إليه أخرى،لأنّها مضافة إليه تعالى من جهة الخلق و الاختراع، و مضافة إليهم من جهة التصرّف و الاكتساب،و قد شرحنا هذه الفصول، و كيف يكون عدلا واحدا لعدلين و هداية لمهديين،و وجه الاشتقاق من خلق الهداية و العدل و اكتسابها و طريق تعلّقهما و إضافتهما في«شرح اللمع»و غيره مما يغني الناظر فيه إن شاء اللّه.
و الوجه الآخر:أن اللّه تعالى قد هدى كل قابل للإيمان بمثل هداية الرسل في الدعوة و الإرشاد و التزين و الترغيب و الترهيب،فصارت هذه الهداية مشتركة و مضافة إلى اللّه تعالى و إلى أوليائه،و معنى الاشتراك فيها أن المضاف إلى اللّه سبحانه منها كالمضاف إلى رسوله و أوليائه،و الضرب الأوّل هو الذي انفرد اللّه تعالى به،و لم يضفه إلى أحد من خلقه،و هو الذي عناه بقوله: فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ [الأنعام:125]،و قوله:
أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ [المجادلة:22]،و قوله: حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَ الْفُسُوقَ وَ الْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرّاشِدُونَ [الحجرات:7]،فلم يضف من ذلك شيئا إلى رسله و لا إلى أحد من خلقه، فبان بهذا أنّه لا تناقض في إضافات الهداية مرة إلى اللّه سبحانه،و مرة إلى رسوله،و مرة إلى المؤمنين و الملائكة إذا نزّلت/بحسب ما بيّناه و رتّبناه.
فأمّا إضافته الإضلال مرّة أخرى إلى نفسه تعالى و مرّة إلى الشياطين و مرّة إلى المجرمين و مرّة إلى السامريّ و إلى فرعون و غيره من الكفّار،فإنّه لا تناقض أيضا في ذلك و لا تنافي،و ذلك أن الإضلال الذي أضافه اللّه إلى نفسه هو الذي لا يدخل تحت قدرة أحد من خلقه من جميع الفراعنة و الشياطين و المجرمين،و هو الطبع على القلوب،و جعل الأكنّة عليها و الختم و الإعماء،
ص: 643
و ما ذكره من المد في الطغيان و الوقر في الآذان،و تقليب الأفئدة و الأبصار، و الحول بين المرء و قلبه و تضييق صدره و ما يعقبه من النّفاق في قلوب أعدائه الأشرار،و كلّ هذا ممّا ينفرد اللّه بالقدرة عليه،و كذلك خلق نفس الكفر و الإضلال و الإقدار عليه و التمكين منه،مما ليس لكافر و لا لشيطان مارد سلطان و لا قدرة على خلقه في القلوب فما أضاف اللّه تعالى شيئا من ذلك إلى أحد من خلقه بل قال:«ختمنا»و«طبعنا»و«جعلنا على أبصارهم غشاوة»، «نقلب أفئدتهم و أبصارهم»،و«أعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه»، و«جعلنا من بين أيديهم سدّا و من خلفهم سدّا فأغشيناهم فهم لا يبصرون»، فلم يضف تعالى شيئا من ذلك إلى أحد من الشياطين أو المجرمين أو فرعون أو السامري،إذ ما كان ذلك من صفاتهم و لا مما يدخل تحت قدرهم.
و أما الإضلال الذي أضافه اللّه تعالى إلى الكفّار و المجرمين فهو الدعوة إلى الضلال،و تزيينه و إيراد الشبهة فيه،و ليس ذلك من خلق شيء في القلوب بسبيل،و أما الإضلال المضاف إلى فرعون و السامريّ خاصة و من جرى مجراهم فهو إلباسهم في الدين و مكرهم بأهله،و حيلهم التي نصبوها لإيقاع الشبه في الحق،و ليس ذلك من خلق الضلال في القلوب في شيء.
و أمّا الإضلال المضاف إلى إبليس و الشياطين فقد يكون أيضا بمعنى الدعوة إلى الضلال،و يكون الوسوسة في الصدور،و حديث النفس بما جعل لهم من السلطان على هذه الوسوسة/و على سلوك بني آدم و ختومه على قلوبهم،فهذا ممّا يختصّ به الشياطين دون سائر الخلق،و كلّ هذه التفاسير في الإضلال التي نزّلناها قد ورد به الأخبار و القرآن على ما سنذكر جملة منه،و إذا كان ذلك كذلك،لم يكن من إضافة الإضلال إلى نفسه تعالى
ص: 644
و إلى جميع من ذكر من خلقه منافاة و لا مناقضة على ما يظنّه الملحدون و من تابعهم من القدريّة و المتحيّرين في مذاهبهم من أهل الملّة،فبان بهذه الجملة أن اللّه تعالى لم يجعل إلى أحد من خلقه إضلال أحد،و إن جعل له القدرة على هذه الأسباب التي ذكرناها،و لو قدر إبليس و الشياطين و المجرمون على إضلال أحد من الناس،و كان ذلك إليهم و في أيديهم لأضلّوا الأنبياء و سائر المؤمنين،و كل من آثروا إضلاله و حاولوا الإلباس عليه في دينه، و لمّا لم يكن ذلك كذلك؛ثبت أنّ الإضلال الذي أضافه تعالى إلى نفسه لم يجعل لأحد من خلقه إليه سبيلا،و لا عليه سلطانا.
و كذلك قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«و خلق إبليس مزينا و ليس له من الضلالة شيء»،و قد قال اللّه تصديقا لهذه الرواية و لما قلناه: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الإسراء:65،الحجر:42]،و قال: *وَ قَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ [فصلت:25]،و قال:
إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً [النساء:76]فأخبر أنّ القرناء إنّما إليهم التزيين فقط،و أنّهم إنّما ضلوا بما حقّ عليهم من القول و القسمة لجهنم.
قال اللّه تعالى: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ(29) فَرِيقاً هَدى وَ فَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ [الأعراف:29-30]،ثم قال: مَنْ يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَ مَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ [الأعراف:178]،و قال: وَ مَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً [الكهف:17]،و قال: أَ لَيْسَ اللّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَ يُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ(36) وَ مَنْ يَهْدِ اللّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ [الزمر:36-37] فبيّن بذلك و أمثاله أنّ الضّالّ من أضلّه اللّه،و أنّه لا هادي له و أنّ/المهتدي من هداه و أنّه لا مضلّ له فهذا تنزيل يزيل الريب و الشبهة و يبطل ما يلبّس به القدرية و الملحدة،و قد أخبر سبحانه أنّ الإضلال منه ما وصفناه من الطبع
ص: 645
الختم على القلوب و تغشية الأبصار و تقليب القلوب و الحول بين المرء و قلبه، و غير ذلك ممّا عددناه،و خبّر تعالى أنّ إضلال الشياطين إنّما هي الوسوسة و التزيين و التسويل للنّفس،و وعد الشرّ،و أمثال ذلك.
قال اللّه تعالى: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27]، و قال: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ فأخبر أنه يوسوس في صدور الناس،و قال:
يَعِدُهُمْ وَ يُمَنِّيهِمْ وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاّ غُرُوراً [النساء:120]،و قال:
اَلشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ [البقرة:268]،و قال:
اَلشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَ أَمْلى لَهُمْ [محمد:25]،و الشيطان يضلّ على وجهين:
أحدهما:الدعوة إلى الضلال و الوعد و التزيين للباطل.
و الآخر:الوسوسة،و قد ورد عن الرسول تصديق ذلك و الإقرار به، فروى عبد اللّه بن مسعود عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أنه قال:«إن للشيطان لمة بابن آدم، و للملك لمة،فأمّا لمّة الشيطان إيعاد بالشرّ و تكذيب بالحق،و أما لمّة الملك فإيعاد بالخير و تصديق بالحق،فمن وجد من ذلك شيئا فليعلم أنّه من اللّه و ليحمد اللّه،و من وجد الأخرى فليتعوّذ باللّه من الشيطان الرجيم،ثمّ قرأ عليه السلام: اَلشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَ اللّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَ فَضْلاً [البقرة:268]» (1).
و روى أنس بن مالك عن النبي عليه الصلاة و السلام أنه قال:«إنّ الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم،فإن ذكر اللّه خنس،و إن نسي اللّه التقم قلبه»،و روي عن عبد اللّه بن عباس أنّه قال:«إنّما سمي الشيطان7.
ص: 646
الوسواس الخناس لأنّه خاتم على القلب،فإذا ذكر اللّه خنس،و إذا لم يذكر وسوس» (1)،في روايات كثيرة في هذا المعنى،من نحو قوله:«إنّ الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم» (2)،و قوله:«ما منكم من أحد إلا و له شيطان،قالوا و لا أنت يا رسول اللّه،قال و لا أنا،و لكن اللّه يعينني/عليه»، و في رواية أخرى:«و لكن أعان اللّه عليه» (3)و أمثال هذا،فهذا القدر من الإضلال هو الذي إلى الشيطان،و هذه الوسوسة هي تزيين و حديث و كلام خفي لا يسمعه الموسوس له،ثم يعتقده إن لم يعصم و يوفق و يعان،و ليست شيئا يفعلها الشيطان في قلب ابن آدم لأنّه لا قدرة له،و لا لأحد من الخلق على أن يفعل شيئا في غير محل قدرته من قلب آدمي و غيره من الأماكن و المحال.
و أمّا إضلال المجرمين،فقد أخبر اللّه تعالى،أنه هو دعاؤهم إلى الضلال و إلباسهم في الدين في غير موضع من كتابه،قال تعالى: وَ ما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ [الشعراء:99]يعني:الذين نصبوا الأصنام و عبدوها و سنّوا ذلك و دعوا إليه،و قال تعالى: قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النّارِ [ص:61]،يريدون من قدّم لنا الدعوة إلى ذلك و أمر به،و قالوا:
رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاّنا مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ 5.
ص: 647
[فصلت:29]،و قد تظاهرت الروايات بأنّ المضلّ من الجن إبليس،و المضلّ من الإنس ابن آدم الذي قتل أخاه.
و أما إضلال فرعون لقومه،فإنّما هو الدعوة إلى الضلال و إلباسه عليهم بالشبهات و إشغالهم عن تأمل آيات موسى بقوله: يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً [غافر:36]،و منه قوله: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما [طه:63]،و بقوله: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَ لْيَدْعُ رَبَّهُ [غافر:26]، يوهم بذلك أنّه قادر على قتله و أن ربّ موسى لا ينفعه،و منه قوله: يا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَ هذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَ فَلا تُبْصِرُونَ [الزخرف:51]، يوهم بذلك أنّ هذه صفة من ينبغي أن يعبد،و قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [طه:
24]،و قوله: فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ [القصص:38]،يوهم قومه أنّه ينادي صاحب الخضر أو يشغلهم ببناء الصرح عن النظر في آيات موسى و تصديقه،و يتحمل في المدافعة بالأوقات،/و منه قوله: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَ لا يَكادُ يُبِينُ [الزخرف:52]،يعني:موسى لأجل لثغة كانت في لسانه،و عقدة، فعابه لأجلها بأنّه لا يبين عن نفسه،ثم قال: فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ [الزخرف:53]،يوهم أنّه لو كان عظيم الشأن لكان مسوّرا بسوار من ذهب،لأنّه كذى كان شأن العظيم إذا ارتفع منهم،أن يسوّر سوارا من ذهب،فهذا قدر طاقة فرعون و مبلغ ما عنده في إضلاله قومه،فأمّا أن يكون له سلطان على القلوب و النفوس و الإضلال بما ينفرد اللّه سبحانه بالقدرة عليه من ذلك فمعاذ اللّه،و قد قال اللّه تعالى: وَ ما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاّ فِي تَبابٍ [غافر:37]،و لو أمكنه إضلال أحد لأضلّ موسى و قومه، مع إيثاره لذلك و حرصه عليه،و لكن ذلك ليس إليه و لا داخل تحت قدرته.
ص: 648
فأمّا إضلال السامريّ لعبدة العجل،فهذا أيضا بالدعاء لهم إلى ذلك و تزيينه،و قوله هذا إلهكم و إله موسى،و بما صنعه من قبضة قبضها من أثر الرسول و ما سوّلت له نفسه،و قد قال اللّه تعالى في قصّة موسى: فَإِنّا قَدْ فَتَنّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَ أَضَلَّهُمُ السّامِرِيُّ [طه:85]،فبدأ بذكر الفتنة التي بها بدأ، و ذلك أنّ اللّه بصّره أثر الرسول فقبض منه القبضة و جعل للعجل بعد أن صنع خوارا يخور به و يمشي،و ليس ذلك تحت قدرة أحد من الخلق و لو لا الخوار و مشيه لما عبده القوم،و لا كان عليهم فيه شبهة،و روي من غير طريق عن ابن عباس:«إن العجل كان يخور و يمشي و إن موسى قال:يا ربّ هذا السامريّ أمرهم أن يتّخذوا العجل،أ رأيت الروح من نفخها فيه؟قال الربّ:
أنا،قال:فأنت إذا أضللتهم و في رواية أخرى«يا ربّ علمت أنّ الحليّ حليّ آل فرعون،و أنّ السامريّ صاغ العجل،و الخوار ممن؟فقال مني يا موسى، فقال: إِنْ هِيَ إِلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَ تَهْدِي مَنْ تَشاءُ [الأعراف:155]» فأخبر موسى أنّ الفتنة من عند اللّه،و أنّ اللّه يهدي من يشاء،و يضلّ بها من يشاء/و لم يضف إلى السامريّ ذلك و لا جعله إليه،و موسى عند القدرية مجبر مذموم بهذا القول،و إن كانوا يخافون في إظهار ذلك من خوف السيف، فبان بهذه الجملة كيفية إضافة اللّه تعالى الإضلال تارة إلى نفسه و تارة إلى فرعون و السامريّ و تارة إلى المجرمين،و تارة إلى إبليس و الشياطين،و أنّه لا تناقض في ذلك و لا تنافي إذا كان منزّلا مرتّبا على ما بيّناه،و بطل بذلك ما قاله الملحدون و توهّموه.
و اعلموا-رحمكم اللّه-أنّ خلق اللّه الروح و الخوار و المشي في العجل، و دعوة السامريّ و إلباس فرعون و المجرمين لا يكون ضلالا إلا لمن استضرّ به و أجاب إليه،و ضلّ عند مشاهدته،و كان ممّن قسمه اللّه لناره،و لا يجوز
ص: 649
أن يكون شيء من ذلك إضلالا لمن خالفه و اعتقد بطلانه،و دعا إلى خلافه و تمسّك بالحقّ الذي أمر به،و لذلك لم يكن مضلا بما خلقه من حياة العجل و خواره أحدا ممّن لم يعبده،و لا كان فرعون و السامري و المجرمون و الشياطين مضلّين لأحد من الأنبياء و المؤمنين و المتمسكين بإيمانهم،لما لم يستضروا بذلك و لا أجابوا إليه،فوجب بذلك أن تكون الدعوة إلى الضلال إضلالا لمن أجاب إليها،دون من خالفها و ردّها،و لو لم يكن الأمر في ذلك على ما قلناه،و كان على ما قاله الملحدون في آيات اللّه و توهّمته القدرية لما أخبر اللّه بعض قولنا هذا،و تأويلنا عن أصفيائه و أنبيائه و المتحملين لرسالته و من جعلهم واسطة بينه و بين خلقه.
قال اللّه تعالى في قصّة شعيب بعد وصف سيرته مع قومه: *قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَ وَ لَوْ كُنّا كارِهِينَ(88) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجّانَا اللّهُ مِنْها وَ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ/رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَ أَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ [الأعراف:88-89]فأخبر عنه عليه السلام باعترافه بأنّ اللّه قد نجّاه من ملتهم التي هي الكفر،و قد علم أنّ هذه النجاة ليست هي الدعوة و البيان،لأنّه لو كان ذلك كذلك لكان نجا بدعوته جميع قوم شعيب و سائر الكافرين،ثم قال:و ما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء اللّه ربنا،فأخبر أن عوده و عود كلّ أحد إلى ملّة الكفر و دخوله فيها لا يكون إلا بمشيئة اللّه،و هذا نفس ما قلناه و أخبرنا به.
فأخبر تعالى عن موسى بمثل ذلك فقال: وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيّايَ أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنّا إِنْ هِيَ إِلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَ تَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا [الأعراف:155]،فأخبر عنه أنّه أضاف فتنتهم و ضلالهم إليه،و أنّه يضلّ بها من يشاء و يهدي بهداه من يشاء،هذا مع المرويّ عنه في التفاسير ممّا قد بيّنّاه،و من قوله:«فممن الخوار،قال:مني يا موسى،قال:إن هي إلا فتنتك تضلّ بها من تشاء»،و هذا تصريح منه بمذاهب أهل الحقّ التي أخبرنا عنها،و مثل هذا أيضا قول موسى: رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَ مَلَأَهُ زِينَةً وَ أَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ [يونس:88].
ص: 650
فأخبر تعالى عن موسى بمثل ذلك فقال: وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيّايَ أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنّا إِنْ هِيَ إِلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَ تَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا [الأعراف:155]،فأخبر عنه أنّه أضاف فتنتهم و ضلالهم إليه،و أنّه يضلّ بها من يشاء و يهدي بهداه من يشاء،هذا مع المرويّ عنه في التفاسير ممّا قد بيّنّاه،و من قوله:«فممن الخوار،قال:مني يا موسى،قال:إن هي إلا فتنتك تضلّ بها من تشاء»،و هذا تصريح منه بمذاهب أهل الحقّ التي أخبرنا عنها،و مثل هذا أيضا قول موسى: رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَ مَلَأَهُ زِينَةً وَ أَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ [يونس:88].
و أخبر تعالى بمثل هذا بعينه عن نوح عند ذكر قصته مع قومه و كثرة دعائه لهم فقال تعالى: قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ(32) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللّهُ إِنْ شاءَ وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ(33) وَ لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [هود:32-34]،فأخبر عنه أنّه اعتقد و قال إنّ نصحه غير نافع لهم،إن كان اللّه يريد أن يغويهم،و لو لم يجز أن يعذّبهم اللّه،و أن يزيد غيّهم و ضلالهم/ يضف إرادة ذلك إليه سبحانه،و يحيل عليه ضيق المقاليد بالأمر عليه،و لو تتبّعت قصص الرسل و أقاويلهم لوجدت جميعها شاهدة بما قلناه،و ليس يجوز أن يكون لرسول من الرسل قول و مذهب في القدر و خلق الأفعال و الهدى و الضلال يخالف مذهب نوح و شعيب و موسى عليهم السلام،لأنّ ذلك يوجب تكذيب بعض أنبياء اللّه لبعض،و اعتقاد بعضهم فيه تعالى ما لا يليق به،و لا يجوز في صفته و قد نزههم اللّه عن ذلك،و رفع أقدارهم و عظم بالإيمان و التقدّم في العلم به على سائر الخلق شأنهم و مكانهم.
و كيف لا يكون هذا قول الرسل و دينهم في اللّه تعالى،و هم يسمعونه يقول في كتبهم مثل الذي قاله لرسولنا في كتابه،و ما هو بمعناه ممّا حكاه
ص: 651
عنهم و ما لم يحكه،و اللّه يقول في كتابنا المنزّل على رسوله: وَ لَوْ لا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ [النساء:83]،و قد علم كلّ ذي تحصيل أنّه لا يجوز أن يكون أراد بهذا الفضل الذي لولاه لاتّبعوا الشيطان،و ما زكى منهم من أحد،و كانوا من الخاسرين،هو نفس البيان و الأمر الذي هو على من ضلّ و خسر و اتّبع الشيطان،فدلّ بذلك على أنّ هذا الفضل هو الهداية لخلق الإيمان و توسعة الصدور و التوفيق،و جمع الهمم و الدواعي على إيثاره و فعله و أنّه ليس له مثل هذا الفضل على من كفر و ضلّ،و على هذا دلّ قوله:
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ [الحجرات:17]،و لو كانت الهداية هي الدعوة و البيان فقط،لكانت هذه المنّة بعينها له على أبي جهل و أبي لهب و سائر الكافرين،و لو كانت الكتمان و التصديق و الطاعة و الانقياد من اختراع المؤمنين و خلقهم و تقديرهم دون ربّ العالمين و دون رسوله لم يكن للّه عليهم/منة بالإيمان و التصديق و لا لرسوله،إذ كان الإيمان فعلهم و من تقديرهم و واقع باختيارهم،و كان من المحال أن يمنّ اللّه عليهم بفعلهم و خلقهم،و لا قدرة له عليه عندهم و لا ملك له يتعلّق عليه،و لا هو ربّ له و لا إله له.
و كذلك قوله سبحانه: حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَ الْفُسُوقَ وَ الْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرّاشِدُونَ(7) فَضْلاً مِنَ اللّهِ وَ نِعْمَةً [الحجرات:7-8] و قوله: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ [الأنبياء:101]، و قد علم اللّه أنّه لا يمكن أن يكون هذا التحبيب للإيمان و التزيين له و التكريه للكفر،هو نفس الأمر و النهي،و الوعد و الوعيد،و الترغيب و الترهيب،إذ قد وجد ذلك لمن ليس بمحبّ الإيمان و لا كاره للكفر،و كذلك فلا يجوز أن تكون الحسنى السابقة للمؤمنين هو سبق بيانه إليهم و ترغيبه إيّاهم،لأنّ
ص: 652
ذلك أجمع ممّا قد سبق للكافرين،و هم غير مبعدين من النار،و لا يجوز أيضا أن يكون سبق الحسنى لهم بمعنى أنّها الجنّة بما كان لأمره و نهيه إياهم،و إنّما سبقت الجنّة إن كانت هي الحسنى بما سبق لهم من الهداية و قسمهم لها دون البيان و الأمر و النهي.
و على هذا دلّ قوله: وَ إِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِينَ(62) وَ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَ لكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:62-63]،و قوله في مثل هذا: وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:103]،فأخبر سبحانه أن لو أنفق جميع ما في الأرض ما ألّف بين قلوبهم و أنّهم أصبحوا بنعمته إخوانا/ و أنقذهم من النّار،و امتنّ بهذا أجمع عليهم،و قد علم أنّه لا يجوز أن يكون هذا التأليف بين قلوبهم و الاستنقاذ لهم هو نفس الدعوة و البيان،لأنّ ذلك أجمع موجود في الكافرين لا يوجب أن لا يكون اللّه سبحانه في هذا التأليف و الاستنفاذ من النعمة إلا ما للرسول،و ما لبعضهم على بعض،لأنّ الدعوة و الإقدار قد وجد من الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم و من بعضهم لبعض،فدلّ ذلك على أنّه إنّما امتنّ عليهم بما هو وحده القادر عليه،و المختصّ بالتفضّل به.
و كيف يكون التأليف بين قلوبهم هو نفس الدعوة و الإنذار و هو يقول للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم: لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ [الأنفال:63]، و هو عليه السلام على قولهم قد ألّف بين قلوبهم،إن لم يكن التأليف بين قلوبهم شيئا سوى الدعوة و الإنذار،هذا خلف من القول و بما يتعالى اللّه عنه.
ص: 653
ثم أخبر تعالى فيما قدّمنا ذكره من الآي و غيرها أنّه فعل بالضالّين و الكافرين من ضيق الصدور و الطبع على القلوب و الختم،و جعل الأكنّة عليها،و التغشية على الأبصار نقيض ما فعله بالمؤمنين و أخبر عن أوليائه و أصفيائه،و من هو أعلم باللّه من جميع الملحدة و القدريّة أنّهم رغبوا في أن يفعل بهم ما فعله بالمؤمنين و أن يجمعهم عليه و يجنّبهم ما فعله بالكافرين، فقال تعالى فيمن أحسن الثناء عليه و أقرّ بالاقتداء به: وَ الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَ لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر:10]،و هذا قول من قد علم أنّ جعل الغلّ في قلوبهم من فعل اللّه ربّ العالمين،و لو لم يجز ذلك عليه،و كان فعله ظلما و سفها على ما يقوله المبطلون،لكان ذلك رغبة إلى اللّه في أن لا يفعل ما يستحيل في صفته و ما إذا فعله كان بفعله ظالما جائرا سفيها،و كلّ سائل و راغب إلى/اللّه فيه جاهل به و مستخفّ مفتر عليه،و اللّه تعالى يجلّ عن أن يثني على قوم هذه سبيلهم و صفتهم.
و ليس يجوز أن يكون مرادهم بقولهم و لا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا أي لا تسمينا غالّين و مدغلين و منافقين و نحو ذلك،لأنّهم لا بدّ أن يكونوا إنّما رغبوا إليه في أن لا يسمّيهم بذلك،إذا فعلوا الغلّ و النفاق و الإدغال و إذا لم يفعلوه،فإن كانوا رغبوا إليه في أن لا يسمّيهم بقبح أفعالهم و موجب صفاتهم،و إن فعلوا ذلك و وقع منهم بذلك رغبة إليه في السّفه و الإغراء بمعاصيه و قلب اللغة،و إبطال الترغيب و الترهيب و الكذب في خبره،و التسوية بين أعدائه و أوليائه،و الظلم بأهل طاعته إذا لم يفرّق في الأسماء القبيحة بينهم و بين حالي الإجرام و الذنوب،و اللّه سبحانه لا يثني على قوم هذه صفتهم،و إن كانوا رغبوا إليه في أن لا يسمّيهم بذلك إذا لم
ص: 654
يفعل الغلّ و النفاق فكأنّهم إنّما رغبوا إليه في أن لا يكون عليهم و لا يضيف إليهم ما لم يكن منهم،و يصفهم بما ليس في صفتهم،و في أن لا يظلمهم و لا يجوز عليهم في ذمّهم بما لم يكن منهم،و اللّه يجلّ عن هذه الصفة و عن مدح قوم رغبوا إليه في أن لا يكون على هذه الأوصاف.
و كلّ هذا يدلّ على ما قلناه،و على إبطال ما قاله القدريّة و الملحدون في آيات اللّه،و كذلك القول في كلّ رغبة وقعت من مؤمن في أن يجعله مؤمنا مصدّقا و أن لا يجعله كافرا و لا ضالا نحو قول إبراهيم: رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة:128]،و لا يجوز أن يكون معنى هذه الدعيّة أن سمّينا مسلمين إذا أسلمنا أو سمّينا بذلك،و إن لم نسلم و لا أن تبيّن لنا و أمرنا لأحد سبق منه هذا الأمر و تقدّم إليه و إلى غيره من الكافرين،فالتعلّق بكلّ هذا تعليل و تمريض.
و قولهم بعد ذلك:إنّ هذه الدعوات من الرّسل و المؤمنين إنّما وقعت/ على وجه الرغبة فقط،لا معنى لها و لا يجوز على غير ما رغبوا إليه فيه، و أنّها بمثابة قوله لنبيّه: قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ (1)،و قد علم أنّه لا يجوز عليه الحكم بغير الحقّ و إنّما ذلك أمر بالرغبة فقط،إنّما هو لبس و قصد للتمويه لأنّ التأويل في قوله: قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ :أي عجّل الحكم به كلّه أو بعضه،لأنّه تعالى له تعجيل الحكم بالحقّ و له تأخيره،و ليس له عند المعتزلة تقديم جعل الغلّ للمؤمنين في القلوب و لا تأخير ذلك و لا يصحّ أن يقع منه بحال،و هذا يبطل تمويهاتهم بهذه الأباطيل.).
ص: 655
و كيف لا يجوز على اللّه ما قلناه و هو تعالى يقول: وَ ما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَ لِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:166]و ليس يجوز أن تكون هزيمة من انهزم و انحرافه بأمر اللّه و إيجابه،و إنّما أراد بذكر إذنه قضاءه و قدره و ما قذفه في قلوبهم،و قد قال تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنّاهُمْ وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ نَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ وَ لا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ (إلى قوله) فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ [المائدة:13-14]،فأخبر أنّه جعل قلوبهم قاسية و أنّه أغرى بينهم العداوة و البغضاء إلى يوم القيامة،و ليس هذا من الحكم و التسمية بسبيل،و لأنّ ذلك لو كان كذلك لكان النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و المؤمنين و كل منتم لهم، و حاكم عليهم يجعله إيمانهم قد أغرى العداوة بينهم و جعل قلوبهم قاسية، و هو ما لا يقوله أحد.
و قال سبحانه: وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها [الأنعام:25]،فأخبر بتغطية قلوبهم و ليس ذلك من التسمية بسبيل،و قال: وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسى وَ هارُونَ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(84) وَ زَكَرِيّا وَ يَحْيى وَ عِيسى وَ إِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصّالِحِينَ(85) وَ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ يُونُسَ وَ لُوطاً وَ كلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ(86) وَ مِنْ آبائِهِمْ وَ ذُرِّيّاتِهِمْ وَ إِخْوانِهِمْ/وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَ هَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ(87) ذلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [الأنعام:84-88]،و لو كان الهدى منه لا يكون إلا بمعنى الدعوة و البيان لم يكن لهذا الامتنان عليهم معنى،و لكان قد هدى بهذا الهدى جميع المكلّفين،و لم يكن لقوله: يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ معنى،و كلّ هذا يبطل ما قالوه.
و قال تعالى في نقيض صفة هؤلاء الأنبياء: قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللّهِ وَ ما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ(109) وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ
ص: 656
مَرَّةٍ وَ نَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام:109-110]،افترى أنّه فعل بهؤلاء ما فعله بمن قال و ألّف بين قلوبهم،و بمن قال و كنتم على شفا حفرة من النّار فأنقذكم منها،لو لا الجهل و العناد و قصد التمويه و الإلباس؟ و كيف يكون ذلك كذلك و اللّه تعالى يقول: وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ(118) إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النّاسِ أَجْمَعِينَ [هود:118-119]،فأخبر أنّه للخلاف الذي لا يزالون عليه خلقهم،و أنّه قد حقّت كلمته بأن يملأ جهنّم من الجنّة و النّاس أجمعين،و لا يجوز أن يكون قوله و لذلك خلقهم منصرفا إلى الرّحمة و هو يقول: وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ [الأنعام:125]،و يقول: وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ [الأنعام:112]، وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها [السجدة:13]، وَ لَوْ شاءَ اللّهُ ما فَعَلُوهُ [الأنعام:
137]، وَ لَوْ شاءَ اللّهُ ما أَشْرَكُوا [الأنعام:107]،فكلّ هذا يدلّ على بطلان تأويلهم.
و أمّا تعلّق القدريّة في كثير من إخباره تعالى بإنعامه على المؤمنين و تأليفه بين قلوبهم و استنقاذهم من جهنّم و حرمان الكفّار ذلك أجمع،بأنّه إنّما أريد بذلك إعطاؤه تعالى للمؤمنين الألطاف الداعية لهم إلى فعل الطاعة،و الجامعة لهممهم عليها،و أنّه ليس له مثل هذه النّعمة و الهداية على الكافرين،فإنّه أيضا باطل من قولهم،لأنّ اللّطف عندهم واجب على اللّه سبحانه/فعله بعد تكليفهم و قبح منه تركه،كما أنّه يجب عليه فعل الإقدار و التمكين و فعل الثواب و الجزاء بعد الطاعة،فمحال منه إذا أن يمتنّ على المؤمنين بما هو واجب عليه و لازم له،و لأنّه تعالى أيضا عندهم غير قادر على إعطاء مثل ذلك اللطف للكافرين،و لا هو عنده و في خزائنه و سلطانه،
ص: 657
لأنّه لو كان ملم بفعله بهم لوجب بخله عليهم و استفساده لهم،و ذلك إخراج له عن الحكمة،فإذا لم يكن عندهم قادرا على التسوية بين الكافرين و المؤمنين فما معنى امتنانه على المؤمنين،و إخباره بتخصيصه لهم بأجر لو حاول فعله بالكافرين لم يكن عنده و لا تحت قدرته،على أنّ القول بأنّ الهداية لطف من فعل اللّه فيهم نقض لقول من قال منهم إنّها لا تكون بمعنى الحكم و التسمية،و جميع ما قدّمناه و نزّلناه يدلّ على إبطال ما ألبس به الملحدون،و تعلّقت به القدريّة،و تكشف عن ترتيب الإضلال من اللّه و من غيره،و ترتيب الهداية منه و تفضيلها،و يوجب تنزيل الظواهر التي يوردونها، و حملها على ما رتّبناه دون ما قالوه.
فأمّا إضافة المعاصي و ضروب الكفر و الضلال في آيات كثيرة من كتابه إلى أنفس العصاة و الكفّار،فإنّه أيضا غير مناف لإضافة إضلالهم تعالى إلى نفسه،لأنّه سبحانه إنّما أضاف ذلك إليهم من حيث كانوا مكتسبين له و قادرين عليه،و على تركه،و من حيث كانت هذه المعاصي صفات لهم و حالّة فيهم و متعلّقة بهم ضربا من التعلّق،و أضاف إضلالهم إلى نفسه تعالى من حيث هو الخالق لها و القادر على اختراعها دون جميع الخلق،و من حيث كان سبب اكتسابهم لها و ما ورّطهم فيها من قوله تعالى و إن كان عادلا حكيما بذلك أجمع،لأنّ الخلق خلقه و هم تحت قبضته لا اعتراض لمخلوق في حكمه و قضائه و قدره،فهذا التنزيل أيضا لا ينافي إضافة/المعاصي تارة إليهم و تارة إليه،من جهة الخلق قال اللّه سبحانه: وَ اللّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ [الصافات:96]،و قال: وَ قَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَ أَيّاماً آمِنِينَ [سبأ:
18]،و قال: كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]،و قال: وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوانِكُمْ [الروم:22]،و قال: وَ أَسِرُّوا
ص: 658
قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ(13) أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:13-14]،يقول:كيف لا أعلم القول و إن أخفيتموه،و أنا الخالق له،في نظائر لهذه الآيات خبّر فيها عن خلق أفعال العباد.
ثمّ قال في إضافة الأفعال إليهم: كُفّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ [البقرة:109]،و قال: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ [الحج:10]،و قال: جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [الواقعة:24]،و قال: إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [المجادلة:15]، و قال: فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللّهِ [هود:14]، فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللّهِ [القصص:50]، فأضاف اتّباع الهوى إليهم،و قال: وَ لكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَ تَرَبَّصْتُمْ وَ ارْتَبْتُمْ وَ غَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتّى جاءَ أَمْرُ اللّهِ وَ غَرَّكُمْ بِاللّهِ الْغَرُورُ [الحديد:14]،و قال:
فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [النساء:62]،و قال:
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ [الفتح:26]فأضاف جعل ذلك إليهم في نظائر هذه الآيات يكثر تتبّعها،أضاف في جميعها الاكتساب إليهم،و ذلك لا ينافي ما أخبر به من خلقه لأفعالهم على ما بينّاه و رتّبناه.
ثم بيّن تعالى أن سبب ضلالهم بما اكتسبوا ممّا نهوا عنه،كان من عنده و من قبله في آيات كثيرة،كما بيّن أنّه خالق لأفعالهم في آيات كثيرة فقال تعالى: ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ [التوبة:127]،فأضاف صرف قلوبهم إلى نفسه،و هو سبب انصرافهم عن الحقّ،و قال: سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها [الأعراف:146]،و قال: وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَ اتَّبَعَ هَواهُ وَ كانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف:28]،و قال: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً [آل عمران:178]،
ص: 659
فأضاف الإملاء و الصّرف عن آياته إلى نفسه و جعله من أسباب ضلالهم، و قال تعالى: وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:
36]،فأضاف تقييض الشيطان إلى نفسه،و جعل ذلك من أسباب ضلال المتّبع لغيره،و قال: وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً [الإسراء:16]،فأخبر أنّ سبب هلاكهم،هو إرادته لذلك و تأميره لمن في أهل القرية.
فبيّن تعالى بجميع هذه الآيات وجه إضافة الضّلال و الإضلال إليهم، و وجه إضافة ذلك إليه و أكذب من افترى عليه،و قال إنّه غير خالق لأفعال عباده و لا قادر عليها و لا مالك لها،و من قال من العباد لا يكتسبون شيئا و لا يقدرون عليه و لا يتعلّق بهم أمر من الأمور و أنّهم كالباب و الحجر و الجماد، و متى تدبّرت هذه الآيات و نزّلت التنزيل الذي وصفناه و رتّبت الترتيب الذي رتّبه اللّه تعالى و أراده انتفى عنها التناقض و الاختلاف،و صار بعضها حجّة لبعض و شاهدا بصدقه،و متى جهل ذلك التبس عليه الأمر و ضرب بعض القرآن ببعض،و اعتقد تنافيه و تناقضه،و صار ذلك ذريعة إلى تعطيله و تلاحده نعوذ باللّه من الحيرة و الضلال.
فأمّا تعلّق الملحدة و القدرية في معارضة ما تلوناه من الآي في أنّ الباري مضلّ لمن شاء من العباد بضروب الضلال الذي ذكرناه بقوله تعالى: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79]،فإنّه من عناد الزنادقة و جهل القدرية و غفلتها،و ذلك أنّ اللّه سبحانه عاب هذا القول من قائله و ذمّه و فنّده عليه،فقال في أول القصة: وَ إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللّهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ [النساء:78]فعيّرهم بهذا القول و أخرجه مخرج الذمّ لهم عليه،ثم قال: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ فردّ هذا القول/
ص: 660
و أخرجه مخرج الذمّ الذي عيّرهم عليه و أكذبهم فيه،بقوله لنبيه عليه السلام:
قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ (ثم قال) فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً(78) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:78-79]،على وجه التعيير لهم بهذا القول اقتصارا على شاهد الحال و مفهوم ذمّهم و تعييرهم بهذا القول في أوّل الخطاب،فكأنّه قال كلّ من عند اللّه فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا،يقولون ما أصابك من حسنة فمن اللّه و ما أصابك من سيئة فمن نفسك،فحذف يقولون لأجل دلالة الخطاب و مخرج القصد و البينة و الكلام،و يدلّ على أنّ هذا هو التأويل أمران:
أحدهما:إجماع الأمة على أنّ اللّه ذمّ قائل هذا في النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فلا يجوز أن يذمّهم بقوله و يصدّقهم فيه و يقول مثل قولهم و لا جواب عن هذا.
و الوجه الآخر:أنّ اللّه تعالى قال: وَ إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللّهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ فهذا يدلّ على أنّ الذي يصيبهم من قبل غيرهم،و أنّه ليس من اكتسابهم،لأنّ أهل اللغة لا يستجيرون أن يقول القائل منهم:أصابتني سيئة إذا اكتسبت معصية،و إنّما يقولون أصبت سيئة أي فعلتها،و كذلك إذا فعل الحسنة لا يقول:أصابتني حسنة،و إنما يقول أصبت حسنة،و المصاب عندهم بالحسنة و السيئة هو الموجود ذلك به،من فعل غيره من نعمة هي حسنة أو بلية و أذيّة و نقمة،هي من فعل غيره،فأمّا استعمال أصابني ذلك في فعل الإنسان نفسه،فذلك محال ممتنع،فبطل بذلك ما قالوه.
فأمّا القدري فإنّه لا يقول إنّ الحسنة التي هي الطاعة و ضدّ السيئة من اللّه،لأنّه لا يقول أنّ اللّه خلق الحسنة كما لا يقول أنه خلق السيئة.
ص: 661
فإن قالوا:أراد بقوله: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ ،أي:فاللّه أمر بها و دعا إليها و لم يرد أنّه خلقها.
قيل لهم:فكذلك/أراد بقوله: وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ،أي:
من نفسك الأمر بها و دعاؤها إلى فعلها،و لم يرد أنك تخلقها كما لم يرد بإضافة الحسنة إلى نفسه تعالى بأنّه خالق لها فإنّما أضاف السيئة إلى رسوله على وجه ما أضاف الحسنة إلى نفسه،فإن لم يكن أراد بأحد الإضافتين الخلق منه،و لم يرده أيضا بالأخرى،و لا جواب لهم عن هذا.
و قد أجمع أهل التأويل و العلم بالقرآن على أنّ المراد بذكر الحسنة و السيئة في هذه الآية النّصر و الغنيمة و الانصراف و الهزيمة و ذهاب المال و الكراع و غير ذلك من الأموال،و أنها منزّلة في شأن الحرب.
قال اللّه سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً(71) وَ إِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ (أي هزيمة) قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً(72) وَ لَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللّهِ (أي نصر من اللّه) لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً(73) (إلى قوله) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ (النصر) يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللّهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ (قال اللّه تعالى) قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً [النساء:71-78]،يقولون ما أصابك من حسنة فمن اللّه على وجه الذمّ و التعيير لهم بهذا القول،فأمّا أن يكون عرض بذكر هذه الآية لأفعال العباد فليس بقول لأحد من أهل التأويل.
و قد قيل في تأويل قوله: وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ أي:ما أصابكم من مصيبة فمن أنفسكم أي:ممّا اكتسبتم من الخلاف على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في
ص: 662
لزوم أماكنكم و انصراف الرّماة منكم يوم أحد لطلب الغنيمة،و تركهم الصفّ حتى أعقبكم ذلك السيئة التي هي الهزيمة.
قال اللّه تعالى في قصة أحد: أَ وَ لَمّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ (يعني ما أصابكم يوم أحد) قَدْ أَصَبْتُمْ/مِثْلَيْها (يعني يوم بدر) قُلْتُمْ أَنّى هذا (يعني ما أصابكم يوم أحد) قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]أي:عقوبة بما كان من عصيانكم لأمر الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم للرّماة منكم بلزوم مركزهم فلمّا انكشف العدوّ قال الرماة أو بعضهم:نخاف أن يجعل رسول اللّه لكل قاتل و كلّ إنسان ما يصيبه من الغنيمة و سلب من قتله ففارقوا مكانهم و اختلطوا بالمشركين، و دخلوا رجالاتهم،و أصاب المشركون فرصة و خللا في الصف،فانثنوا عليهم و كان ما كان من هزيمتهم،فالملحد يقدّر أن هذه الآية نقض لإخبار اللّه سبحانه عن نفسه بأنه يضلّ و يختم على القلوب،و القدريّ يتوهم أنّها معارضة لما يحتجّ به أهل الحق و نافية لكون السيئات التي هي المعاصي من عند اللّه،فإنّ اللّه سبحانه ما عرض لشيء من ذلك،و إنّما تأويل السيئة الشدة و المصيبة.
قال اللّه سبحانه: أَ وَ لَمّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها و لم يرد أصابتكم ذنوب أصبتم مثليها،و قال: وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ يريد من شدّة و نقمة و لم يرد ما أصابكم من مصيبة فبما كسبتم من معصية،فوجب أن يكون التأويل في ذلك على ما وصفناه و أن لا يكون للملحد و القدري في الآية تعلّق.
و قد قيل إنّ تأويل الآية أنّ القوم كانوا إذا أصابهم الجدب و الشدّة قالوا هذا من عند محمد و بشؤم طائره،و إذا أصابهم الخصب و الرخاء قالوا هذا من عند اللّه و برّءوا الرسول منه غضّا من قدره و تطيّرا به،فأنكر اللّه تعالى
ص: 663
ذلك من قولهم،و قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ،فالحسنة و السيئة هاهنا إنّما هما الشّدة و الرّخاء،قال اللّه تعالى: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ [التوبة:50]،و قال: وَ إِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها يعني الشدّة و الرخاء و النصر و الهزيمة و لم/يرد الطاعة و المعصية.
و ممّا يدلّ على ذلك و يشهد له إخبار اللّه تعالى عمّن سلف من منافقي الأمم بمثل هذا القول الذي أخبر به عن منافقي أمّة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم قال تعالى:
وَ لَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَ نَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ(130) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ (يعني الخصب) وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ (يعني السنين نقص الثمرات) يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَ مَنْ مَعَهُ [الأعراف:130-131]،يقولون هذا بشؤم موسى و من تبعه.
و كذلك كانت قصة المنافقين مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إذا أصابهم نصر و رخاء و إنعام أو هزيمة و شدة و جذب،فعابهم اللّه على ذلك،كما عاب قوم فرعون، و قال لصالح: يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ (يعني بالعذاب و النقم قبل العافية) لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النمل:46]فكلّ هذه الآيات و الأخبار تدلّ على أنّ السيئة و الحسنة ليستا مقصورتين على الطاعة و المعصية و تدل على غباوة الملحدة و القدريّة في تأويل هذه الآية.
و أمّا تعلق الملحد و القدريّ بقوله تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللّهُ ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ شَيْ ءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الأنعام:148]،و قوله: وَ قالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ [الزخرف:20]،و قوله: وَ قالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ نَحْنُ وَ لا آباؤُنا [النحل:35]،فالجواب عنه أنّ القوم إنّما
ص: 664
قالوا ذلك على وجه النفاق و اعتقاد خلاف ما يظهرون من هذا القول،و على وجه الهزل بالرسول و الإنكار لقوله: وَ لَوْ شاءَ اللّهُ ما فَعَلُوهُ [الأنعام:
137]، وَ لَوْ شاءَ اللّهُ ما أَشْرَكُوا [الأنعام:107]، وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها [السجدة:13]،و نحو هذا القول،فقالوا هذا القول على وجه الردّ و الإنكار،كما قال سبحانه في ذمّهم بقولهم: أَ نُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللّهُ أَطْعَمَهُ [يس:47]،و هذا القول حق لمن قالوه معتقدين لصحّته و لكنّهم/قالوا ذلك على سبيل التكذيب للرسول،و كما ذمّ المنافقين بقوله تعالى: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّهِ وَ اللّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ اللّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ [المنافقون:1]،فأكذبهم في قولهم،لأنّهم قالوه نفاقا على غير وجه الاعتقاد لصحّته،و يدلّ على ذلك أنّ القوم كانوا يجحدون الرحمن و ينكرونه و لا يعرفون اللّه سبحانه فيكف يصدّقون بأنّه لو شاء الرحمن ما عبدوهم.
قال اللّه تعالى: وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَ مَا الرَّحْمنُ أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَ زادَهُمْ نُفُوراً [الفرقان:60]،و قال تعالى: وَ لَوْ شاءَ اللّهُ ما أَشْرَكُوا وَ ما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً [الأنعام:107]،فقالوا هم لما سمعوا ذلك لو شاء اللّه ما أشركنا و لا آباؤنا و لا حرّمنا من شيء قال اللّه سبحانه: كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا [الأنعام:148]،فأخبر أنّهم قالوا هذا القول على وجه التكذيب،و كل هذا ردّ على الملحدة و القدرية،و كيف يجوز أن يعرف اللّه سبحانه و يعرف أنّه لو يشاء أن يؤمن لآمن من هو كافر و من هو غير عارف به،هذا جهل ممّن ظنّه و توهّمه لأنّهم لو عرفوا اللّه و عرفوا أنّه قادر على أن يلطف بهم و يجعلهم مؤمنين لكانوا مصدقين أبرارا،و لم يكونوا كافرين مكذبين و لم يقل اللّه: كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [يونس:39]،
ص: 665
وَ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَخْرُصُونَ أي:تكذّبون فكيف يردّ هذا القول على المشركين لو قالوه على وجه الإقرار و التصديق و هو سبحانه يخبر بصحّة ذلك و يدعوا إليه،و يقول: وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ [الأنعام:112]،و يقول: اِتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ(106) وَ لَوْ شاءَ اللّهُ ما أَشْرَكُوا وَ ما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ [الأنعام:106-107]،و يقول:
وَ كَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَ لِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَ لَوْ شاءَ اللّهُ ما فَعَلُوهُ [الأنعام:
137]،في أمثال/لهذه الآيات يخبر فيها أنّه لم يكن ما كان من الكفّار إلا بمشيئته،و أنّه لو شاء أن لا يكون لما كان،فكيف يكذّب قوما قالوا هذا القول و اعتقدوا صحتّه،لو لا جهل من يتعلّق بهذا و وغادته من القدريّة و الملحدة.
و ممّا يدلّ أيضا على أنّ التأويل في ذلك على ما قلناه و إن كان ظاهرا لا يحتاج إلى تأويل عند من تأمّل صدور الكلام و القصص،و إعجازها، و مخارج الكلام و أسبابه،أنّ اللّه تعالى قال: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللّهُ ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ شَيْ ءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الأنعام:148]،بالتشديد كما كذّب قومك يا محمد و لو أراد الإخبار عن أنّ هذا القول كذب منهم لقال كذلك كذّب الذين من قبلهم مخففا من الكذب و لم يقل كذّب مشدّد من التكذيب،فهذا أيضا دليل واضح من نفس التلاوة على أنّ القوم قالوا ذلك على وجه التكذيب للرسل،و لمّا ورد من إخبار اللّه تعالى بما قدّمنا ذكره و لم يقولوه على وجه الاعتقاد و التصديق.
فإن قالوا:قد قال اللّه تعالى عقيب قوله: كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَخْرُصُونَ [الأنعام:148]أي:تكذّبون في قولكم لو شاء اللّه ما أشركنا فقد أكذبهم في هذا القول.
ص: 666
فإن قالوا:قد قال اللّه تعالى عقيب قوله: كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَخْرُصُونَ [الأنعام:148]أي:تكذّبون في قولكم لو شاء اللّه ما أشركنا فقد أكذبهم في هذا القول.
قيل لهم:معاذ اللّه أن يكون أكذبهم في هذا القول مع اعتقاد صحّته و الإيمان به،و كيف يكذّبهم فيه و هو قد أخبر به على ما قد بيّنّاه من قبل، و إنّما عنى تعالى بقوله: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَخْرُصُونَ أي:
تكذّبون بقولكم إنّ اللّه حرّم هذا و حرّم السائبة علينا و الوصيلة و الحام، و البحيرة و أنّه شرع ذلك لهم،قال اللّه تعالى: ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لا سائِبَةٍ وَ لا وَصِيلَةٍ وَ لا حامٍ [المائدة:103]أي:لم يفعل ذلك،و قال تعالى: وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَ اللّهُ أَمَرَنا بِها [الأعراف:28]،قال اللّه تعالى:
قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:28]،فعلى مثل هذا قال:إن أنتم إلا تخرصون في ادّعائكم تحريم اللّه سبحانه ما لم/ يحرّمه فبطل بذلك ما تعلّقوا به.
فأمّا ما تعلّقوا به من قوله: كُفّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ [البقرة:109] فإنّه لا تعلّق فيه،لأنّ اللّه تعالى قال: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفّاراً حَسَداً موضع الوقف و انقطاع الكلام،ثم تبدأ بقوله: حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ [البقرة:109] (1)،و ذلك أنّ اليهود قالوا:كلّ الأنبياء من ولد إسحاق،فما بال هذا من ولد إسماعيل؟فحسدوه إذ لم يكن من أنفسهم من بين إسرائيل و عاندوه و أصحابه،و حتى بعثة.
ص: 667
رؤساؤهم طائفة منهم يؤمنون بالنبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و قالوا لهم آمنوا أوّل النهار و اكفروا آخره فإن سئلتم عن ذلك فقولوا قد كنّا نظنّ أنّه النبيّ(الذي) (1)بشّرنا به فآمنا،فلمّا رجعنا إلى أحبارنا و علمائنا أخبرونا بأنّه ليس هو الذي بشّرنا به، فلعلّهم إذا فعلتم ذلك أن ينفضّ جمعه و يكفر به أصحابه،و متى كان آمن به فأخبر تعالى نبيّه صلّى اللّه عليه و سلّم بذلك و المؤمنين فقال: وَ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَ اكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آل عمران:
72]،يعني عن الإيمان بما آمنوا به من تصديق محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم ثم قال: كُفّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ [البقرة:109]،أي لأنّ النبي صلّى اللّه عليه و سلّم لم يكن من بني أمّتهم و أعمامهم قال اللّه تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة:128]أي من بني أمّتكم و من بنبي عمّكم،و قال: لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَ لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ [البقرة:84]أي:لا يخرج بعضكم بعضا،و قوله: وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً [النساء:29]أي لا يقتل بعضكم بعضا،و لم يذكر النفس في هذه المواضع الروح و الحياة، و النفس التي في الجسد،و إنّما أراد بالنّفس البعض.
و يمكن أن يكون أراد بقوله: كُفّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ،أي:أنّ قولهم أنّ اللّه أمرنا بتكذيبك و ردّك إلى دين موسى كذب يفترونه من عند أنفسهم ما أنزله اللّه و لا وقف عليه و لا أمرهم به و لم يرد إنّني ما خلقت تكذيبهم و لا قدّرته و لا قضيته و إذا كان/ذلك كذلك سقط ما ظنّه القدريّة و الملحدون.
و أمّا قوله تعالى: يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَ ما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَ يَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ وَ ما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ [آل عمران:78]فإنّهه.
ص: 668
ليس بنقض لإخباره عن إضلالهم و الطبع على قلوبهم و الخلق و التقدير لأعمالهم،لأنّ القوم لم يدّعوا أنّ اللّه خلق أفعالهم و قضى و قدّر أعمالهم، فينفي اللّه سبحانه ذلك عن نفسه بقوله: وَ ما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ،و إنّما ادّعوا أن التوراة أنزلها اللّه محرّفة و مبدّلة على ما أوهموا سفلتهم و عامّتهم و أوغاد النّاس،و إنّما ادّعوا ذلك بعد أن حرّفوا التوراة و غيّروها،و غيّروا وصف الرسول و ذكر البشارة به في التوراة فقال اللّه تعالى: يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ يعني:التوراة و اللّيّ الكذب،و منه قوله تعالى: لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي الدِّينِ [النساء:46]،ثم قال: لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَ ما هُوَ مِنَ الْكِتابِ (كما يدّعون) وَ يَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ وَ ما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ [آل عمران:
78]أي:لم ينزّل اللّه عليهم الكتاب بذلك،و إذا كان ذلك كذلك بطل ما ظنّه الملحدة و القدريّة من التعلّق بهذه الآية.
فأمّا قوله تعالى: أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ [التوبة:3]و أنّه أيضا لا معارضة بينه و بين إخباره عن إضلالهم،و توليه لخلق أعمالهم،لأنه تعالى إنّما قصد بذلك البراءة من العهود التي كانت بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و بين المشركين،و لم يعرّض لذكر شركهم و معاصيهم،فقال اللّه تعالى: بَراءَةٌ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَ أَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ(2) (إلى قوله) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة:1-5]،فكلّ هذا يدلّ على أنّ البراءة من اللّه و رسوله إنّما هي براءة من العهود و إنفاذ الرسول لسورة براءة،و القصّة في ذلك مشهورة،و أنّه قال:«لا يؤدّي عني إلا رجل منّي»يعني عليّا عليه السلام، فحمل الآية على التبرّي/من شركهم و معاصيهم جهل و غباوة أو عناد و إلباس على الضعفاء،و لو كانت براءة اللّه فيهم براءة من خلق أفعالهم
ص: 669
لكانت براءة الرسول منهم براءة من خلق أعمالهم،و ذلك جهل ممّن صار إليه،و لو كانت براءة اللّه من المشركين براءة من خلق أعمالهم لكانت أيضا براءة من خلق ذواتهم،لأنّ البراءة براءة منهم دون شركهم،لأنّ اللّه سبحانه لم يعرض لذكره،و إنّما ذكرهم بأعيانهم،و لو كانت براءته من المشركين براءة من خلق أعمالهم لكانت ولايته للمؤمنين و قوله: اَللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:257]توليا لخلق أعمالهم و إيجاد طاعاتهم،و لمّا لم يجب ذلك بطل ما قالوه.
فأمّا قوله تعالى: ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ [الملك:3]،فإنّه أيضا لا معارضة بينه و بين إخباره عن خلق كثير منهم و معاصيهم المتفاوتة القبيحة،و تولّيه لإضلالهم و الختم و الطبع على قلوبهم،لأنّه إنّما عنى بخلق الرحمن في هذه الآية السماء،يدلّ على ذلك أنّه ابتدأ و قال: خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ [الملك:3]يعني في السماء،ثم قال: فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ [الملك:3]يعني هل ترى في السماوات من صدوع و شوق و خلل و قد علم أنّ الكفر لا يرجع البصر فيه و إليه،و لا يجوز أن يكون فيه فطور و شقوق،فثبت أنّه إنّما نفى التفاوت عن السماوات من المخلوقات،و لم يعرض في هذه الآية لذكر المعاصي و غيرها من أفعال العباد فبان بذلك سقوط ما ظنّه الملحدة و القدرية.
و يمكن أيضا أن يكون إنّما نفى التفاوت عن جميع ما خلق من حيث لم يقع شيء منه و غيره متفاوتا على إرادته،و بخلاف ما قصده،و لا قصد أن يكون شيئا منه قبيحا فوقع حسنا،و حسنا فوقع قبيحا بخلاف القصد بالكفر، و إن كان متفاوتا على مكتسبه من حيث قصد كونه حسنا دينا فوقع قبيحا فاسدا،فإنّه غير متفاوت على اللّه لأنّه/منافي خلقه على ما قصده و أراده
ص: 670
من القبيح و خلاف للحسن،فوجب بذلك بطلان ما قالوه،و هذا كما يقول:
إنّ رمي الكافر للمؤمن و إصابته له غير متفاوت عليه،من حيث كان إصابة لما قصده و لتأتيه على ما أراده و إن كان متفاوتا عليه من حيث قصده حسنا دينا فكان قبيحا فاسدا،فإذا ليس في جميع خلق اللّه ما هو متفاوت على اللّه تعالى،و إن كان منه المتفاوت على غيره لتأتيه بخلاف قصده و إرادته.
و أما قوله تعالى: اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ [السجدة:7]،فإنّه لا معارضة بينه و بين إخباره عن إضلال الكفّار و خلق أعمالهم و الختم على قلوبهم،لأنّه لم يقل الذي حسّن فيكون معناه جعل الشيء حسنا،و إنّما قال الذي أحسن يعني يحسن كيف يخلق و يعلم ذلك،و هذا كما يقول:إنّ الكافر قد أحسن الرمي إذا أصاب نبيا و مؤمنا فقتلهما،و لا نقول إن رميه حسن، و لا أنّه محسن في فعله،و إنّما نعني بقولنا أحسن الرمي أي علم ذلك و أحسنه،على أنّه يمكن أن يكون أراد بقوله: أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ من خلال المعاصي التي نهى عنها،و العموم عندنا لا صيغة له،و هذا كقوله:
اَللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ [الزمر:62]، وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ [النمل:23]، تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْ ءٍ [الأحقاف:25]، يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ ءٍ [القصص:57]أي:بعض الأشياء فكذلك قوله: أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ [السجدة:7]،معناه بعض الأشياء إن كان من حسن يحسن،و إن كان من أحسن يحسن فهو على العموم في جميع ما خلقه،لأنّه عالم بجميع خلقه.
و أما قوله تعالى: وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلاً [ص:27]، وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلاّ بِالْحَقِّ [الحجر:85]،و إنّما المعنى في ذلك أنّه خلقهما بقوله كونا،و قوله الحق،و قوله: وَ ما بَيْنَهُما باطِلاً ،أي ما
ص: 671
خلقناهما و نحن لا نريد إثابة المنيبين الطائعين و عقوبة المجرمين العاصين قال/اللّه تعالى: ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النّارِ(27) [ص:27].
و يحتمل أيضا أن يكون أراد أنّني ما خلقت ذلك و ليس لي خلقه و إحداثه و ما خلقته إلا ولي ذلك و أنا مالك لذلك و فاعل لما لي فعله و عادل به،و هو سبحانه على ما أخبر به من صفة ملكه و قدرته و تصرّفه من حيث له ذلك،لا معقّب لحكمه و لا اعتراض لمخلوق عليه،و لذلك قال: لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء:23].
فأما تعلّق الملحدة و القدريّة بقوله تعالى: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]فإنّه لا تعارض بينه و بين قوله: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ(29) فَرِيقاً هَدى وَ فَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ [الأعراف:29-30]،و قوله:
وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ [الأعراف:179]،و ذلك أنّه أراد تعالى بعض الإنس و بعض الجنّ،و هم الذي قسمهم للجنّة،و علم وقوع العبادة منهم دون الكفّار الذين قسمهم للنّار،و قد أجمع المسلمون على خصوص الآية،لأنّه لم يرد بها الأطفال من الجنّ و الإنس و لا المجانين المستنقصين و لعلهم مثل عدد العقلاء البالغين،فكذلك لم يرد الكفّار الذين أخبر أنّ الضلالة حقّت عليهم و أنّه خلقهم لناره.
فإن قالوا:ما أنكرتم أن يكون إنّما أراد بقوله: وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ أي:سيذرأ لها في الميعاد خلقا من الجنّ و الإنس.
قيل لهم:هذا صرف الكلام عن ظاهره بغير حجّة،فإن ساغ لكم هذه الدعوى ساغ لنا أن نقول إنّما أراد بقوله: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]أي:ما أخلقهم في الآخرة إلا ليعبدون،و ذلك يقع
ص: 672
منهم أجمعين في الآخرة اضطرارا فيكون و ما خلقنا بمعنى و ما يخلق في المستقبل كما قال: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً [القصص:8]يعني عاقبة أمره و هم إنّما التقطوه ليكون لهم حبيبا،و كذلك قول الشاعر:
أموالنا لذوي الميراث نجمعها و دورنا لخراب الدّهر نبنيها/
يريد أنّ ذلك عاقبة أمرها،و لم يرد أنّ المال يجمع للوارث،و أنّ الدور تبنى لخرابها و كذلك قوله: إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً [يوسف:36]،أي ما يكون خمرا و يؤول حاله إلى ذلك،و إذا كان ذلك كذلك بطل ما ظنّه الملحدون من تعارض،و ما ظنّه القدريّة من التأويل.
و ممّا يدلّ على ذلك أيضا أنّ أهل التأويل قالوا:إنّ قوله إِلاّ لِيَعْبُدُونِ أي لكي يعبدون،و كلّ كي من اللّه تعالى فهي نافذة واجبة،و إن كانت غير نافذة و لا واجبة من المخلوقين في جميع الأحوال قال تعالى: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَ تُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا [مريم:97].
و قد يسّر به و أنذر و نفذ الأمر فيها كما أخبر،و قال تعالى: فَيَنْسَخُ اللّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللّهُ آياتِهِ وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(52) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ [الحج:52-53]و قد قدّر ذلك، و كذلك قوله: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان:1] و قد كان و تمّ و قامت حجة النذارة به،في أمثال لهذه الآيات كثيرة قد تم و انبرم فيها خبر كي،لأنّها من اللّه تعالى واجبة نافذة،فلو كان اللّه أراد أنّه خلق جميع الإنس و الجن لعبادتهم له،و لم يمتنع أحد منهم من عبادته، و لكنّه تعالى أراد البعض منهم دون الكلّ.
ص: 673
و يمكن أيضا أن يكون أراد بقوله: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ أي إلا للأمر بعبادتي و التكليف لذلك،و قد كانوا مأمورين و على صفة ما أراد منهم من كونهم مكلفين مأمورين بالطاعة و الإيمان،و لم يرد أنه خلقهم لكي تقع العبادة منهم أبدا،و في كل وقت،و إنّما أراد أنّهم يكونون مأمورين بذلك في سائر الأوقات،أعني أوقات السلامة من الجنون و الآفات، و الأحوال المانعة الصادة عن التكليف،و إذا كان ذلك كذلك بطل ما قاله الملحدة و القدرية.
فأما تعلّقهم/بقوله تعالى: وَ أَمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [فصلت:17]،فلا معارضة بينه و بين إخباره بأنّه أضلّ الكافرين من ثمود و غيرهم،لأنّه يمكن أن يكون أراد بقوله:هديناهم أرشدناهم و بيّنّا لهم، فاستحبّوا العمى على الهدى،أي فلم ينقادوا لما بيّن لهم،و ذلك لا ينفي أن يكون قد خلق استحبابهم العمى على الهدى و ضلالهم عن الحق،لأنّ خلقه لضلالهم لا ينافي بيانه للحق لهم من طريق القول و الخبر،و ذكر الأدلة و مراقيها فكأنّه إنّما أراد بالهداية هاهنا الإرشاد بالقول و الدلالة،و يكون إنّما سمّي البيان و الإرشاد بالقول هداية على معنى أنّنا بيّنا لهم بالقول بيانا لو قبلوه و انتفعوا به،لكان هداية لهم،و لم يرد بذلك أنّ القول هداية لهم،و إن لم يقبلوه و ينتفعوا به،و تقدير الكلام:و أمّا ثمود فهديناهم و آتيناهم من القول و البيّنات ما لو قبلوه و صاروا إليه لكان هداية لهم،فلا منافاة إذا بين هذه الهداية و بين إضلاله لهم بخلق الضلال و تضييق الصدور.
و يحتمل أن يكون أراد بقوله: وَ أَمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى ،الإخبار عن قوم خلق هدايتهم،و إيمانهم ثم استحبّوا العمى بعد ذلك على الهدى،بالرّدة عن الإيمان،و ذلك لا ينقض بعضه بعضا،لأنّنا
ص: 674
نقول:إنّ اللّه خلق هداية كل مهتدي في المعلوم أنّه يرتد و يرجع بعد هدايته و خلق رجوعه عن ذلك،و ليس في قوله فاستحبّوا ما يدلّ على أنه غير خالق لاستحبابهم و ضلالهم.
و يحتمل أيضا أن يكون إنّما أراد بقوله: وَ أَمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ ،فهدينا فريقا منهم و هم المؤمنون و يكون قوله: فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى مقصودا به الكافرين منهم دون الذين لم يستحبوا لأنّهم كانوا فريقين مؤمنون و كافرون،قال اللّه تعالى: إِلى 1ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ [النمل:45]،فيمكن أن يكون الذين/هداهم المؤمنون، و الذين استحبّوا العمى على الهدى هم الكافرون،فيكون قوله:هديناهم على الخصوص،و كذلك قوله:فاستحبوا،فبان بهذا أنّه لا اعتراض لملحد و لا لقدريّ بهذه الآية علينا و لا تعلق.
و أمّا تعلّقهم بقوله: وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ [البقرة:26]،و قوله:
فَلَمّا زاغُوا أَزاغَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5]،و قوله: وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ [التوبة:115]،و أنه أيضا لا تعلق لملحد فيه و لا لقدري،بل هذه الآيات كلّها شاهدة على فساد قول القدريّة، و ذلك أنّه لا تعارض بين قوله: فَلَمّا زاغُوا أَزاغَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ و بين إخباره عن إضلاله لكلّ ضالّ على سبيل الابتداء و الجزاء،لأنّه يحتمل أن يكون أراد أنّهم لما زاغوا زيغا أولا أزاغ اللّه قلوبهم زيغا ثانيا هو أشدّ من الأول، و إعماء لهم أكثر من الأول لأنه تعالى حكم أنّه لا يزيغها ذلك الزيغ الشديد إلا بعد زيغ أول هو دونه،و أن يجعل ذلك جزاء لهم و عقوبة على الزيغع.
ص: 675
الأول،و إن كان هو الخالق،لأنّ الجزاء عليه لم يقع من حيث الخلق، و لكن من حيث اكتسبوه على ما بيّناه في كتاب«خلق الأفعال»،و كذلك قوله: وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ ،كأنّه ضلال عظيم مخصوص حكم تعالى بأنّه لا يضلّ به إلا بعد خلقه بضرب من الضلال دونه في الفاسقين، فإذا فسقوا بالضلالة الأولة،أضلّهم بالضلال الثاني الذي هو أعظم و أضرّ من الأوّل،و كذلك قوله: وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ [التوبة:115]إنّما هو متوجه إلى ضلال مخصوص،فكأنّه قال:و ما كان اللّه ليضلّ قوما بذلك الضرب من الضلال حتى يبيّن لهم ما يتّقون ثم يعصون في البيان الأوّل،يضلّهم بالإضلال العظيم الثاني على سبيل العقوبة و الانتقام،و إن كان/قد قيل في تأويل الآية وجه آخر،و ليس بين إخباره بأنّه لا يضلّ بضرب من الضّلال إلا قوما فسقوا و ضلّوا و زاغوا عن الحق،و بين إخباره بأنّ كلّ ضلال ابتداء فهو المضلّ به تناقض و لا منافاة و إذا كان ذلك كذلك بطل ما توهّموه.
فأمّا القدريّة فإنّ جميع هذه الآيات عليهم لأنّهم فريقان،فريق زعم أن اللّه لا يضلّ أحدا بفعل شيء فيه،و إنّما يضلّ بمعنى الحكم و التسمية بالضلال،و هو عندهم يضلّ بالحكم و التسمية على طريق الابتداء،و على غير وجه الابتداء،لأنّه لا يجوز عندهم أن لا يسمي أحدا بضلالة ضالا إلا حتى يكون منه ضلالا قبل ذلك و زيغ قلب،لأنه يسمّى بالضلال و الزيغ الأول،و إن لم يكن قبل ضلاله ضلال و لا زيغ،فلا حجّة لهم في هذه الآيات.
و لو جاز أن لا يسمّي اللّه بالضلال إلا من كان فيه فسق و ضلال تقدم لجاز أيضا أن لا يسمّى الفسق و الضلال الثاني إلا من كان منه ضلال أول،
ص: 676
و ما الفرق بين أن لا يسمّى بضرب من الضلال و بين أن لا يسمّى بشيء منه، و لجاز أيضا أن لا يسمّى بالهدى و الطاعة من ابتدأ بالهدى و الطاعة،و أن لا يسمّى بذلك إلا من كان منه هدى و طاعات قبل ذلك،و هذا عندهم ظلم و تخليط و خروج عن مقتضى اللغة و الاشتقاق،و إيجاب الأحكام فبان أنّه لا تعلّق لهذا الفريق بهذا الباب.
و الفريق الثاني:منهم من خلّط على أصله و لم يحقق،يتسرع إلى القول بأنّ اللّه يضل على وجه الجزاء على إضلال سلف و زيغ مقدر،و لذلك قال:
فَلَمّا زاغُوا أَزاغَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ .
فيقال لهم:قد قدرتم بأنّ اللّه يضلّ و يخلق الضّلال في الضّالين على وجه الجزاء فكأنّه عندكم يفعل القبيح و الجهل و الذهاب عن الحق على وجه الجزاء و الانتقام،و هذا ترك لقولكم إنّه لا يفعل الكفر إلا كافر،و لا يفعل القبيح إلا سفيه و لا يفعل العصيان و الشّر إلا عاص شرير،فإذا جاز/أن يفعل اللّه ذلك أجمع على وجه الجزاء،و إن لم يكن سفيها و لا عابثا و لا موصوفا بهذه الأفعال الواقعة منه فما أنكرتم أن يفعل ذلك ابتداء و إن لم يكن سفيها شريرا،و لم يوصف بشيء من أسماء هذه الأفعال؟و هذا ترك قولهم.
و يقال لهم:و كيف جاز عندكم أن يضلّ من كان منه ضلال متقدم،و لم يجب عليه نقله عن ذلك الضلال و رده عنه و إرشاده إلى الحق،و هذا بدأه بالضلال كابتدائه و فعل ما هو عندهم مذموم فاعله في الشاهد،و ممّن وقع منه.
فإن قالوا:إنّما أراد بالضلال الواقع منه على سبيل الجزاء الحكم و التسمية بالضلال،تركوا قولهم و لحقوا بالفريق الأوّل و كلّموا بما كلّموا به
ص: 677
من قبل.قيل لهم:فكان اللّه عندكم لا يسمّي الفاسق العاصي بمعصيته و فسقه حتى يتقدم منه فسق و عصيان قبل ذلك،فإن كان قالوا:أجل.قيل لهم:فإذا جاز أن لا يسمّيهم بالفسق و العصيان الأول و إن كان كالثاني و من جنسه و يكون ذلك عدلا و صوابا منه،فلم لا يجوز أن لا يسميهم أيضا بالفسق و العصيان الثاني؟!و يكون ذلك عدلا و صوابا منه؟!و لم لا يجوز أن لا يسمّى العبد بطاعته و إيمانه الأول المبتدأ و يسميه بمثل ذلك إذا وقع منه ثانيا،و هذا جهل منهم و تخليط،فبان بذلك أنّ هذه الآيات بأن تكون على القدريّة أولى،و أنّه لا مغمز و لا مطعن لملحد فيها.
و قد فسّر الناس قوله تعالى: وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ على أنّه لم يكن اللّه ليضلّ المؤمنين بعد أن آمنوا و اهتدوا،و يترك أن يبين لهم ما يجب أن يتّقونه و يحذرونه من استغفارهم للمشركين،و ذلك أنّ المؤمنين كانوا يستغفرون للمشركين،و أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أراد أن يستغفر للمشركين،لأبيه أو لبعض عمومته؛فأنزل اللّه تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا/لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة:113]،فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:«إنّ إبراهيم استغفر لأبيه»،و قال المسلمون:«إن استغفر النبيّ لأمّه أو لعمه استغفرنا لآبائنا و أمّهاتنا»؛فنهاهم اللّه عزّ و جلّ عن ذلك،و لو تركهم و ذلك مع حكمه بأنّه لا يغفر و لا يحلّ الاستغفار لهم لكان ذلك ضلالا منهم و ذهابا عن الحق الذي هو حكم اللّه و دينه،فلم يدعهم اللّه و ذلك و أن يضلوا بفعل ما يظنونه جائزا سائغا فأنزل جل ذكره: وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيّاهُ فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [التوبة:114]، إلى قوله: وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ ،فإنّما أراد بهذا الإضلال ترك البيان للمؤمنين ما يجب أن يبن
ص: 678
لهم،و لم يرد خلق الضلال فيهم على وجه الابتداء و الجزاء،فبان أنّه لا تعلّق لملحد و لا لقدري في ذلك.
و أمّا تعلّقهم بقوله تعالى: *وَ قَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ [الإسراء:
23]،و إنّ هذا نقض لإخباره أنّه خلق المعاصي و قدّرها،و أضلّ أهل الضلال،و ختم على قلوبهم،فإنّه ليس الأمر فيه على ما توهّمه الملحدون و القدريّة في هذا الباب،و ذلك أنّه إنّما أراد بهذا القضاء الأمر بعبادته و الوصية بذلك،و ذكر أنّ عبد اللّه بن مسعود كان يقرأ«و وصى ربّك ألا تعبدوا إلا إياه»،و أنّه كذلك مثبت في مصحفه،و هذه الوصيّة عامة للكافرين و المؤمنين،و ذلك لا ينقض أن يكون قد قضى معاصيه و الكفر به على معنى الخلق لذلك،و الإعلام لكونه،و الكتابة له،و القضاء يكون بمعنى الأمر و هو قوله *وَ قَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ ،أي:أمر ربّك،و يكون بمعنى الخلق و الإيجاد،نحو قوله: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت:12] أي:خلقهنّ،و نحو قوله: فَلَمّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاّ دَابَّةُ الْأَرْضِ [سبأ:14]يريد خلقنا موته،و قد قيل القضاء نفسه بمعنى الموت و منه/قولهم:نزل به قضاء اللّه،و قضى فلان نحبه إذا مات،و يكون القضاء بمعنى الإعلام و الإخبار قال اللّه تعالى: وَ قَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَ لَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً [الإسراء:4]،أي:أعلمناهم و أخبرناهم في الكتاب كقوله: *وَ قَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ إنّما يعني به أنّه أمر بذلك،و هذا لا ينفي قضاءه للكفر،و الخلاف على معنى التقدير و الخلق و الإيجاد فبطل توهّمهم و توهّم القدريّ لانتفاعه بهذه الآية.
و أما تعلّقهم بقوله: فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ [القصص:15]فإنّه أيضا لا معارضة بينه و بين إضافة ذلك إلى اللّه تعالى و بين
ص: 679
إخباره بأنّه خلق الوكزة و ما كان عندها،و ذلك أنّه إنّما أراد بقوله: هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ أنّه يأمر به الشيطان و يزيّنه و يدعو إليه و لم يرد أنّ الوكزة من خلق الشيطان و فعله و تقديره،و كيف يقول ذلك و هذا جهل ممن صار إليه و قاله،و ليس مذهب لأحد،و ليس يجب إذا نسبة ذلك إلى الشيطان،على أنّه من دينه و ما يدعو إليه،أن يكون ذلك منافيا لإضافة خلقه و تقديره إلى اللّه،فثبت أنّه لا حجّة لملحد و لا لقدريّ في التعلّق بهذه الآية.
فأمّا تعلّق الملحدة و القدريّة بقوله تعالى: وَ لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَ إِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر:7]،و قوله: وَ اللّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ [البقرة:205]، و قوله: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا [النور:19]الآية، فإنّه لا تعلّق لهم أيضا فيه،لأنّه أراد بالآيتين المتقدمتين أنّه لا يحبّ الفساد لأهل الصّلاح و لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر،و لم يرد أنّه لا يرضاه لأحد من خلقه و لا يحبّه من أحد منهم،و كيف يكون ذلك كذلك و هو يقول:
وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ [الأنعام:112]،و يقول: وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً [الأنعام:125]،و يقول: وَ لَوْ شاءَ اللّهُ ما أَشْرَكُوا [الأنعام:
107]،فدلت هذه الأخبار على أنّه لم يرض/لعباده المؤمنين الكفر،و لا يحبّ منهم الفساد،و إن كان قد أحبّ ذلك و رضيه لأهل الكفر و الفساد،و من نحو هذا قوله: عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللّهِ [الإنسان:6]،و قوله: يا عِبادِ فَاتَّقُونِ [الزمر:16]،و قوله: اَلَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إِنَّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [آل عمران:
173]،و كل هذا على الخصوص دون العموم،و كذلك حكم الآيتين.
و يمكن أيضا أن يكون إنّما أراد و اللّه لا يحب الفساد أن يكون صلاحا و دينا مشروعا،و لا يرضى لعباده الكفر أن يكون دينا لهم و شرعا مأذونا فيه، و أنّه رضي أن يكون قبيحا مذموما فسقط بذلك ما قالوه.
ص: 680
و يحتمل أيضا أن يكون أراد بالرضا و المحبّة الاجتباء و التفضيل و الاصطفاء،فقال:لا يحبّ الفساد،و لا يرضى لعباده الكفر أي لا يصطفيهما و يفضلهما،لأنّ المحبّة و الرضى عند كثير من الناس اصطفاء و تفضيل،و ذلك منفي عن الكفر و الفساد و لأنّ اللّه سبحانه قد حقّرهما و ذمّهما،و قال أصحاب هذا الجواب:و إطلاق المحبّة و الرضى يوهم الأمر بهما و يدين العباد بفعلهما،و ذلك باطل.
فأمّا قوله: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا فإنّما ذمّهم بمحبّتهم أن يكون ما قيل في أمّ المؤمنين حقّا و صدقا،فاللّه سبحانه لم يحبّ أن يكون ما أشيع من الفاحشة حقّا و صدقا على ما أشيع،و أن يكون إنّما ذمّهم على هذه الإرادة لكونها قبيحة منهيا عنها،لأنّهم قد نهوا عن إشاعة الفاحشة في المؤمنين و التخرّص عليهم و الأراجيف بهم،و نهوا عن محبّة إشاعة الفاحشة في المؤمنين،فنفس الإشاعة و نفس الإرادة لذلك معصيتان قبيحتان،و إرادة اللّه لذلك ليست بقبيحة و لا معصية،فلم يجب أن يكون مذموما بإرادته المعصية أن تكون قبيحة فاسدة ممن علم وقوعها منه،إذا لم يكن منهيا عن إرادته لذلك/كما يجب أن يكون مطيعا لإرادته للطاعة من العباد إذا لم يكن مأمورا بإرادته للطاعة،و إن كانت إرادتنا نحن للطاعة طاعة من حيث أمرنا بها،و إذا كان ذلك كذلك بطل ما توهّمه القدرية و الملحدة من حصول طائل و نفع لهم في التعلّق بهذه الآيات.
فأما تعلّق الفريقين بقوله تعالى: وَ قُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]،و قوله: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً [النبأ:39]، و فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً [المزمل:19]فإنّه لا تعلّق لهم في ذلك، لأجل أنّ الأمّة متفقة و جميع أهل اللغة و التفسير على أنّ المراد بقوله: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إنّما أخرج على وجه الزجر و التهديد،و على نحو قوله: اِعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت:40]و لم يرد به التخيير لهم بين الكفر و الإيمان،و لا الإخبار عن كونهم مخيرين في ذلك،ورد المشيئة إليهم، و قد روي عن ابن عباس أنّه قال:«فمن شاء اللّه له الإيمان فليؤمن بمشيئته، و من شاء اللّه له الكفر فليكفر بمشيئته».
ص: 681
فأما تعلّق الفريقين بقوله تعالى: وَ قُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]،و قوله: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً [النبأ:39]، و فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً [المزمل:19]فإنّه لا تعلّق لهم في ذلك، لأجل أنّ الأمّة متفقة و جميع أهل اللغة و التفسير على أنّ المراد بقوله: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إنّما أخرج على وجه الزجر و التهديد،و على نحو قوله: اِعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت:40]و لم يرد به التخيير لهم بين الكفر و الإيمان،و لا الإخبار عن كونهم مخيرين في ذلك،ورد المشيئة إليهم، و قد روي عن ابن عباس أنّه قال:«فمن شاء اللّه له الإيمان فليؤمن بمشيئته، و من شاء اللّه له الكفر فليكفر بمشيئته».
فأمّا قوله: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً ، فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً ،فإنّه غير معارض لإخباره بأنّ الأشياء كلّها كائنة بإرادته،و مشيئته، لأنّه قد خبّر في آيات أخر أنّ هذه المشيئة التي ذكرها و أثبتها لهم لا تكون و توجد أو يشاء لهم كون ما أرادوه،و لا أن يشاء لهم أن يسوء ذلك الشيء فقال سبحانه: وَ ما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ [الإنسان:30]فأخبر أنّهم لا يشاءون شيئا إلا أن يشاء لهم أن يشاءوه،و قد يشاء مشيئتهم للشيء و إن لم يشاءوا ما شاءوه بأن يكون شائيا لتمنّيهم لذلك الشيء،و إن لم يكن متمنيا لهم،و قال سبحانه: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ(28) وَ ما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [التكوير:28-29]،فنصّ لهم على أنّهم لا يشاءون الاستقامة حتى يشاء لهم،و في ضمن/هاتين الآيتين أنّني إذا شئت لكم أن تشاءوا الإيمان شئتموه لا محالة،و إلا فلا وجه لتمدحه بقوله: وَ ما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ ،و قوله: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ، وَ ما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ،و لأنّهم إذا شاءوا الاستقامة على ما يقول المعتزلة فلم يشاءوا ما شاء لهم أن يشاءوا لم يكن لقوله: وَ ما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ معنى، لأنّه قد شاء اللّه عندهم أن يشاءوا ذلك،فلا يشأه،و المعقول من قول القائل:ما يطلق فلان من محبسه إلا أن أشاء،أي:إذا شئت أن يطلق أطلق لا محالة،و أنّ كونه في الحبس لا يكون إلا بمشيئته،و إلا فإذا شاء أن
ص: 682
يخرج فلم يخرج و حبس بغير مشيئته كان كاذبا في تمدحه بقوله:ما يخرج فلان إلا أن أشاء و إذا شئت إطلاقه أطلق،فهذه الآيات دالة على صحة ما نقوله و نذهب إليه،و على إبطال ظن الملحدة و القدريّة.
و أما تعلّقهم بقوله: وَ ما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ [النساء:39]، و قوله: فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الانشقاق:20]و نحو ذلك،فإنّه غير معارض لإخباره بإضلالهم و الطبع على قلوبهم،لأنّه إنّما ورد ذلك على مذهب الترغيب و الحثّ لهم على اكتساب الإيمان،و ليس بين ترغيبهم و حثّهم على اكتساب الإيمان بالقول و بين إضلاله لهم بالفعل تنافي و لا تضاد.
و يمكن أيضا أن يكون إنّما قال ذلك على وجه الردّ لقول من يقول إنّهم ممنوعون من فعل الإيمان لعجز و آفة،و غير قادرين عليه،و لا على تركه، و أنّهم مجبرون على الكفر الذي وقع منهم،فأخبر أنّهم غير ممنوعين و لا مجبرين،و أنّهم مختارون لترك/الإيمان و مؤثرون للكفر عليه،و أنّ ما كان منهم لم يكن على وجه الجبر و الاضطهاد،و ذلك غير مناف لإخباره بإضلالهم،و إن كانوا مختارين و مؤثرين له،فبطل ما توهّموه.
فأمّا تعلّقهم في ذلك بذمّ العصاة و نهيهم عن المعاصي،و أنّه لا ينهى عمّا قضى و قدّر و خلق و ينهى عنه،فإنّه باطل لأنّه لم ينه العصاة عن خلق معاصيهم و إيجادها و تقديرها،لأنّ ذلك ممّا لا يصحّ منهم فعله و لا تركه و لا يدخل تحت قدرهم،و إنّما ينهاهم عن اكتساب ما خلقه و هم على ذلك قادرون و لما خلقه فيهم مكتسبون،و أثابهم و عاقبهم على اكتسابهم للأفعال التي هي متعلقة بهم،فالثواب على الخلق،و العقاب و الذمّ عليه ليس يتوجه من حيث كان خلقا غير متعلّق بالمكلف،و لكن من حيث كان كسبا مقدورا
ص: 683
له و متعلّقا به على ما قد بيّناه و شرحناه في الكلام في المخلوقين،و إذا كان ذلك كذلك بطل ما تعلقوا به.
فأما تعلّق الملحدة و القدريّة بقوله: وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ [آل عمران:110]،و قوله: فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الانشقاق:20]، و قوله: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [محمد:24]، وَ ما مَنَعَ النّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَ يَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ [الكهف:55]،في أمثال هذه الآيات مما فيه توبيخ لهم على ترك الإيمان و استبطاءه،و قول الفريقين فما معنى توبيخه إيّاهم و استبطائه لهم مع قوله: وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا [يس:9]،و قوله: جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ [الكهف:57]،و قوله:
وَ طُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ [التوبة:87]و ختم عليها بنفس الكفر المضاد للإيمان الذي يطالبون به،و قوله: وَ مَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [غافر:33]،و نحو ذلك.
فالجواب عن سائره أنّه أراد تعالى أن يبيّن لهم بذلك أنّ جميع ما ذكروه من الختم و الطبع و تغشية القلوب و الأبصار و التفرقة بين المرء و قلبه،و غير ذلك ممّا ذكره ليس بمنع لهم عن فعل الطاعة و القبول و لا عجز/عن ذلك، و لا جهل بما بيّنه لهم من الحقّ و دلّهم عليه من الهدى و الرشد،و لا مخرج لأدلّة التوحيد عن كونه أدلّة و لا مضادة لكمال عقل الكافر و الضالّ و مخرجة صفة له عن صفة من لو استدلّ على الحقّ لعرفه،و لو قصده و آثره لقدر عليه و تأتى منه،و لو حاوله لم يعوزه و يتعذّر عليه فعله،فكأنّه أراد تعالى الإخبار عن أنّ جميع ما فعلته بالكافرين و خبّرت به من الطبع على قلوبهم غير مخرج عن اختيار الكفر و إيثاره و كراهية الإيمان و استثقاله،و أنّهم مختارون للكفر على الإيمان،و مؤثرون لتركه عليه،و ربّما تجاوزوا إيثار ذلك إلى حدّ من
ص: 684
التمسّك به،يؤدون عليه الحريّة و يقيمون على الذلّ و لا ينزلون عن اعتقاد ما هم عليه و إظهاره برغبة أو برهية،فلمّا كانوا مع الختم و الطبع و تغشية القلوب و الأبصار قادرين على الكفر الذي دخلوا فيه و مختارين لترك الإيمان و كارهين لفعله و على صفة من لو أراد الإيمان لوقع منه و لو كره الكفر لتأتّى له تركه و الخروج عنه،و لم يكن مع فعل الطبع و الختم عاجزا عن فعل ما أمر به و لا ممنوع منه و لا محال بينه و بينه و لا مخبول منتقص،و لا ممّن يتعذّر عليه الاستدلال على الصواب الذي رغّب فيه و فساد الباطل الذي اختار الدخول فيه،بل آلته تامة و معارفه كاملة،و الأدلة المنصوبة له واضحة،صحّ لأجل ذلك أجمع أن يقال لهم فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ، وَ ما مَنَعَ النّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى ، وَ ما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللّهِ ، وَ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا و نحو هذا،لأنّ لا يظنّ ظانّ و يتوهّم متوهّم أنّهم مجبرون على الكفر و غير قادرين عليه،و لا مختارين لترك ما أمروا به و لا راغبين عنه،و أنّهم ممّن لو حاول الإيمان و النظر في الاستدلال لتعذّر منه و امتنع عليه،و معاذ اللّه أن يكون ذلك كذلك و أن يكونوا عجزة أو مجبرين على ما ظنّه الملحدة و القدريّة،أو أن/يكون تكليفهم لفعل الإيمان و صحيح النّظر و الاستدلال،بمثابة تكليف المقعد القيام و الأخرس الكلام و الضرير تنقيط المصاحف و إدراك المرئيّات،و تكليف النّاس علم الغيوب و معرفة ما كان و يكون مع قصد السّبيل و عدم الدليل،و كيف يكون ذلك و الأدلّة على التوحيد لائحة باهرة موجودة ثابتة،و كمال عقل الكافر موجود كائن،و معه من كمال العقل و الآلة ما يصل به إلى معرفة الغوامض و استخراج اللطيف و الدقائق،و حجاج المحتجين و مغالطة كثير من المؤمنين،و الحذق في الجدال و البيان يوم الخصام،و الإعراب عما في النفس و الغلبة و الإلباس في
ص: 685
الانتصار لباطله و بمجيئه حقّ خصمه،و كيف يكون من هذه حاله ممنوعا من النّظر و محالا بينه و بين صحيح الفكر و الرؤية.
و إذا كان ذلك كذلك كان جميع ما أخبر اللّه أنه فعله بالكافرين من الختم و الطبع و الإضلال لم يصرفهم إلى حال العجزة الممنوعين و الأطفال المنتقصين،و لا إلى صفة المكرهين المجبرين على فعل ما نهوا عنه،و كونهم غير قادرين عليه،و مؤثرين له على ضده حسن،لأجل ذلك أن يقول لهم:
فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ، وَ ما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللّهِ ، وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ ، وَ ما مَنَعَ النّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا ،أي أنّ ما فعلته من ذلك ليس بعجز عمّا كلّفوه و لا منع لهم و لا مبطل لكمال عقولهم و آلتهم و لا رافع لقدرهم على فعل ما دخلوا فيه،و ترك ما أمروا به،و هذا بيّن في إبطال ما توهّمه الفريقان،فإن قالت الملحدة و القدرية:فالإنسان المختوم على قلبه الذي خلق في قلبه الكفر و ضدّ الحق قادر عندكم على الحقّ و على فعل الإيمان حتى يصح أن يوبّخ على تركه و يستبطىء في تأخره عنه.
قيل لهم:إنّ نفس قدرتهم على الكفر هي قدرة على الإيمان و إنّها تصلح للضدين و تكون قدرة/على الفعلين الخلافين،و إنّما يكتسب بها ما تؤثر القادر على الفعل دون الذي يأباه و يكرهه.
فإن قالوا:فكان يمكنه أن يفعل بقدرة الكفر الإيمان،قيل لهم:أجل على هذا الجواب،غير أنّه اختار الكفر على الإيمان،فتصرّف بقدرته في فعل أحد مقدوريه،و إذا كان ذلك كذلك زال جميع ما تشبعون به و تشنعون.
فإن قالوا:أ فيمكنه أن يجمع بقدرته بين الإيمان و الكفر الذي اكتسبه و خلق فيه،قيل لهم:لا،كما لا يمكنه عندكم أن يجمع بين الإيمان و الكفر
ص: 686
في حال ما وجد بقدرته أحدهما،و إنّما يمكنه أن يفعل بالقدرة على الضدين، و كلّ واحد منهما بدلا من صاحبه،فأمّا الجمع بينهما،فإنّه باطل و محال ممتنع في قدرة كل قادر،و إن كانت قدرة على الضدين،و الجواب الآخر يقول:إنّ القدرة على الكفر غير القدرة على الإيمان،و نقول مع ذلك إنّ الكافر في حال كفره قد كان يصحّ وقوع الإيمان منه،و يتوهم بأن لا يكون كان الكفر منه،بل كان الإيمان بدلا منه.
فإن قالوا:أ فيصح من الكافر ترك الكفر الذي خلق فيه؟قيل لهم:
أجل،بأن لا يكون كان خلق فيه فهو عندنا على هذا الجواب،قادر على الإيمان لو آثره و اختاره،و كره الكفر و أباه.
فإن قالوا فهو عندكم قادر على كره الكفر،قيل لهم:بأن يختار الإيمان، فإن قيل:أ فيقدر على اختيار الإيمان و فعله؟قيل لهم:أجل،إن كره الكفر و آثر الخروج عنه،فليس هو عندنا بمثابة الزمن و المقعد و العاجز،و من لو حاول القيام بعمل لامتنع عليه،و تعذّر لعجزه و منع الآفات له من إيثاره بل الكافر مخلاّ عندنا بينه و بين إيثاره و اختياره،و ممكّن من الإيمان إن شاء و أحبّ و كره الكفر و تجنّبه،و هذا الجواب أيضا يبطل ما توهّموه إبطالا بيّنا و ينبغي في الجملة أن تكون المحاورة و المشاجرة في الاستطاعة و البدل و العجز و المنع و الفعل و الترك و تشبيه عدم القدرة على الفعل بفقد كمال العقل و عدم الدليل،و بطلان الجوارح/و الآلات بيننا و بين القدرية المعتزلة.
و الكلام في هذه الأبواب مذكور معروف،و استظهار أهل الإثبات عليهم في هذه المذاهب التي يعتقدون بطلانها على وجه قد صار معهم فيه الجلّة و الأئمّة،و حذّاق أهل النّظر و سائر البخاريّة و القدريّة،و أنّهم قد بلغوا بالحذق و التمويه في باطلهم إلى حدّ ما صاروا به في استهواء الناس أكثر من
ص: 687
أهل الحق،و صار الحقّ أكثر شبهة المثبتة و البخاريّة مهجورا،و صار صاحبه خائفا حذرا،و صار حقّه مغمورا لا يقدر عليه أن يظهره بين العامة،و عند كثير من الخاصّة،و لا في الجوامع و المساجد و الثغور و المواسم أمر بيّن لا خفاء به،و هو من أدلّ الدليل على كذب القدرية و المعتزلة في تسميتهم خصومهم في هذه المذاهب حشو و عامّة و نائبه.
و على أتباعهم عند تضايق الأمر بهم سبيل إخوانهم الملحدة في تسمية كافّة المسلمين و الملتين طغام و حشو و عامّة،غير موهن لحقّ المثبتة و لا حاطّ عند ذي تيقّظ و تحصيل عن رتبة التدقيق و الحذق،و إيراد ما يذهل القدرية و يخرس المعتزلة،و يملأ قلوبهم و صدورهم غيظا و خنقا،و يحذرون معه على نفوسهم و مهجتهم من تخطّف العامّة و الدّهماء لهم في قولهم:إنّهم يخلقون كخلق اللّه و يصنعون كصنعه و ينفردون بتقدير أعمالهم و إنشائها دون ربّهم و يكون ما يؤثرون و يشاءون،و لا يكون ما شاء اللّه مع قول الأمة ما شاء اللّه كان و ما لم يشأ لم يكن.
فأمّا الملحدون فلا ينبغي أن يقبل من مطاعنهم و اعتراضاتهم ما يصيرون به إلى قول بعض المتكلمين من المسلمين،لأنّه إذا صاروا إلى ذلك تركوا الإلحاد و الطعن على النبوة و القرآن،و إنّما يجب أن تكون مسائلهم و اعتراضاتهم أمورا تبطل دين المسلمين جملة،و يقدح في سائر مذاهبهم، لأنّهم لا يقصدوا ذكر هذا التناقض و الاختلاف الذي يظنّونه/في القرآن لإبطال مذهب المثبتة دون مذهب القدريّة،و إنّما قصدوا الإدخال على الجملة و ضمنوا بما أوردوه إبطال القرآن و التوحيد و النبوءة،فإذا صاروا إلى نصرة بعض مذاهب المصلين إلى القبلة فقد عجزوا عمّا ضمنوه و ظهر بغضهم تخلفهم،و كذلك فمتى سألوا عن آية و شيء من القرآن متوهمين فساده
ص: 688
و تناقضه فيخرج،و يصحّ جوابه على مذاهب بعض الأمة،فقد زالت العهدة و وضح الحق،و بطلت الشبهة،و هكذا يفعل اللّه سبحانه بمن ضلّ و عند عن الحق.
و قد علموا أنّ من الأمّة من يقول إنّ قوله: وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ [الأعراف:
179]،مراد به أنّنا سنذرأ يوم القيامة،و أن قوله: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]،على عمومه،و كذلك قوله: وَ أَمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [فصلت:17]،و أن قوله: وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ(118) إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ [هود:118-119]أي:أنّه للرحمة خلقهم، و أن قوله: وَ مَنْ يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً [المائدة:41] أي:من أراد عقابه بما كان من كفره،و أنّ الفتنة تكون بمعنى العذاب،قال اللّه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا [البروج:10]يقول عذّبوا المؤمنين و المؤمنات،و أنّ جميع ما ذكره اللّه من الختم و الطبع و التغشية و الإضلال إنما المقصد به الحكم و التسمية دون فعل شيء في القلوب،و أن قوله: وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى [الأنعام:35]، وَ لَوْ شاءَ اللّهُ ما فَعَلُوهُ [الأنعام:137]، وَ لَوْ شاءَ اللّهُ مَا اقْتَتَلُوا [البقرة:253]، وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها [السجدة:13]،إننا لو شئنا أن نجبرهم و نلجئهم إلى ذلك،لفعلناه دون مشيئة ذلك على وجه الطوع و الاختيار،و أنّه ليس من شيء يتعلّق به المثبتة إلا و قد أعدّوا له عند أنفسهم جوابا،و إذا كان ذلك كذلك،فجميع ما يتوهّمونه متناقضا من هذا الباب،فإنّه على خلاف ما توهّموه من قولنا و قول المخالفين من أهل القبلة،و ليس يجب على المسلم في جواب ما يتعلّقون به أكثر من تخريجه و تصحيحه على بعض المذاهب و الوجوه،و إذا كان ذلك بطل ما قالوه و كان/الكلام معهم إذا صاروا إلى
ص: 689
اعتقاد ذلك المذهب كلاما في القدر،و زال الطعن على القرآن و الإسلام، و هذا بيّن في إبطال جميع ما يحاولونه.
فتأملوا رحمكم اللّه فصول الأجوبة لهم على ما نزّلناه و بيّناه يتضح لكم جهلهم و تعرفون حيرتهم و تخليطهم و تعلّقهم بالأباطيل و التعاليل،و أنّهم كحاطب ليل و كالغريق بما يجد يتعلق و على ما وصفهم اللّه تعالى به من قوله: إِنْ هُمْ إِلاّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44]،لأنّ الأنعام ممنوعة من النّظر و الاستدلال و الخلوّ من تصحيح النظر و لطيف الفكر إلى كشف الغامض و حلّ الملتبس.
و الملحدة في تركها النظر و معرفة وجوه الخطاب و تصاريف الكلام، و معرفة ما يراد به و عليه من مجمل و مفسّر،و خاص و عام،و مطلق و مقيد، و ناسخ و منسوخ،و محكم و متشابه،و مستثنى في تصاريف الكلام،و منقطع و محذوف و مختصر،و كناية و تصريح و تأكيد و تنبيه،و حقيقة و مجاز،و استعارة و تشبيه،و قصد إلى ضرب مثل و تشبيه،و مستعمل على سبب حادث و أمر حاصل و جواب شامل،و شخص مخصوص و أمر محصور و عهد متقدّم، و عرف مستقرّ و عادة في الخطاب،و تعويل على متقدّم أو مؤخّر من البيان، أو على العرف و شاهد الحال،أو على إناطته و ربطه بدلائل العقول و قضاياها و الردّ إلى المستقر فيها،و بما جاء في الخطاب بلفظ المواجه الحاضر،و المراد به الغائب و بما جاء باللفظ الموضوع للغائب،و المراد به الحاضر،على ما بيّناه من قبل،و ربّما ذكر من له الاسم فيه و أريد غيره و ربّما ذكر الغير و أريد هو،و ربّما ورد اللفظ المشترك بين أمور مختلفة و المراد أحدها،و إن كان الظاهر لا ينبئ عنه فلذلك أمر اللّه سبحانه بالتدبر و الاعتبار و الاستبصار و جعل أهل العلم درجات،و فضّلهم على ذوي الجهل و النقص.
ص: 690
و ليس في شيء ممّا حكيناه/عنهم و نحكيه مستأنفا إلا و معناه ثابت صحيح إذا حمل على بعض هذه الوجوه،و القرآن لا يبطل و لا تستحيل معانيه،و يناقض لظنّ الملحد لذلك و حمله على ما يصنعه لنفسه و يقدّره بجهله،أو تجاهله و إلباسه،و إنّما يصير وضعه و توهّمه فاسدا متناقضا دون التنزيل و كلام ربّ العالمين.
فكيف يكون ذلك كذلك و اللّه يقول: إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر:9]،و يقول: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت:42]، و يقول: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ [القيامة:17]،و يقول: تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ [النحل:89]،و هذا بَيانٌ لِلنّاسِ [آل عمران:138]،و ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ [الأنعام:38]،في نظائر هذه الأخبار الواردة في حفظ القرآن و حياطته و صونه عن مطاعن الملحدين و الزائغين و حراسته،و قد بان بما قدّمنا و ما سنذكره من أجوبتهم صدق ما خبّر اللّه به من حفظ كتابه و حصول الاهتداء و البيان به.
فأمّا تعلّقهم بقوله تعالى: كَذلِكَ زَيَّنّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [الأنعام:108]، و قوله: زَيَّنّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ [النمل:4]،و قوله: زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِينَ [آل عمران:14]،إلى نظائر هذه الآيات،فقد قلنا من قبل في تأويل هذا التزيين،و أنّه ليس من تزيين الكافرين و الشياطين بسبيل،و أنّه ليس هو الدعوة إلى ذلك و الترغيب فيه،و في النّاس من يحمل ذلك على أنّه إنّما أراد بالتزيين خلق الشهوة و ما جعل في الطباع من الميل و التوق إلى ذلك،و ليس معناه الترغيب فيه و الدّعاء إليه،فبطل توهّم من ظنّ أن معنى زيّنا أنّنا أمرنا بذلك و دعونا إليه و رغّبنا فيه.
ص: 691
فأما قوله: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً [المائدة:48]،فلو حمل على أنّه خلق لكلّ أهل دين دينهم و ما هم عليه و طريقتهم،لما أخلّ ذلك بصحّة القرآن و لزوم التكليف،و حصول البيان على ما قد بيّناه من قبل، و لكن ليس هذا هو القصد،و إنّما أراد بالشرعة ما شرعه لهم و تعبّدهم به، و هذا الجعل بمعنى التعبّد،و تقدير الأديان و توظيف الفرائض و العبادات، و ليس من خلق الفعل/في شيء فبطل ما قدّروه.
و أما تعلّقهم بقوله: وَ أَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ [المائدة:
64]،فإن حمل ذلك على أنّه خلق عداوة بعضهم لم يخرجهم ذلك عن التكليف إلى يوم القيامة،و إمكان النظر و الاستدلال و تأتيه و قيام الحجّة عليهم،و لزومها لهم على ما بيّناه من قبل،و إن حمل على أنّ معنى ذلك أنّنا ألقينا بين ضروب أهل الكفر التعادي على كفرهم،و تبري بعضهم من بعض، لم يكن ذلك عند أحد قبيحا و لا ظلما،فكأنّه ألقى في قلوب اليهود عداوة النصارى على القول بالتثليث،و ذلك عداوة لباطل،و ألقى في قلوب النصارى عداوة اليهود و المجوس على شتم المسيح و تكذيبه و القول بالنّور و الظلمة و ذلك عداوة لباطل،فكأنّه على هذا الفرق ألقى بين أهل الباطل الذين ذمّهم على التعادي على باطلهم و لم يلق في قلوب المبطلين عداوة للحقّ و أهله، و إذا كان الكلام محتملا لذلك بطل ما توهّموه و زال التناقض الذي قدّروه.
فأمّا تعلّقهم بقوله تعالى: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً [آل عمران:178]، فإن حملناه على أنّه خلقهم للنّار و الضلال فذلك صحيح على ما قلناه.
و يمكن أيضا أن تجاب الملحدة أن يقال:إنّما عنى بقوله: لِيَزْدادُوا إِثْماً على عاقبة الفعل و أنّهم سيزدادون في الآخرة،و كذلك قوله:
فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التوبة:125]أي:سيزيدهم عذابا بما كان من
ص: 692
رجسهم و أمرهم بذلك،كما قال: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً [القصص:8]على عاقبة أمره،و ما يؤول به الحال إليه،و لم يلتقطوه وقت أخذه إلا ليكون لهم حبيبا و أنيسا.
و أمّا تعلّق الملحدين بقوله تعالى: وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ [البقرة:102]،و قولهم فما ذنب الساحر إن كان بإذن اللّه فعل،ما أبيح له و أمر به،فإنّه ليس على/ما قدّره،و لم يرد بقوله:بإذن اللّه،بأمر اللّه و إطلاقه و إباحته له فعل السحر الذي قد اتفق على أنّه قد نهاه عنه،و إنّما أراد بإذن اللّه أي أنّ اللّه خلق ذلك السحر و قدّره قبيحا باطلا كما يقال جاء المطر بإذن اللّه،و مات زيد و مرض و صحّ بإذن اللّه أي:بخلق اللّه ذلك و تقديره و إيجاده،و ليس ذلك بمعنى قوله: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النور:36]و ما جرى مجراه،و يمكن أيضا أن يكون أراد بالإذن هاهنا أنّ الضرر الذي يكون عند فعل الساحر،و الألم ليس من كسبه و فعله، و لكنّ اللّه هو الذي يخلقه،و يضر المسحور به بجري العادة،و يمكن أيضا أن يكون بإذن اللّه أي بعلم اللّه و سابق ما كتبه عليه في اللوح المحفوظ فيعبّر عن ذلك بالإذن.
و يمكن أن يكون أراد بالإذن أنّ ترك الساحر و سحره،و ترك إماتته و إعدامه و إبطال لسانه و جوارحه،و غير ذلك ممّا يمنعه من السحر لم يكن إلا بإذن اللّه،فكأنه قال:لو شئت أن أمنعهم بهذه الأمور من السحر لمنعتهم و لكن تركتهم،و ذلك بإذني،و يمكن أن يكون أراد بالإذن خلق الشخص المسحور ممن يقبل الألم و يستضر به كلّ بإذن اللّه و إيجاده له كذلك، و يحتمل أيضا غير هذا من الوجوه،فبطل قولهم أنّ الإذن لا يكون إلا بمعنى الإباحة و الإطلاق.
ص: 693
و أما تعلقهم بقوله تعالى: وَ إِنّا أَوْ إِيّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ:24]فإنّه لم يخرج على الشك و الارتياب بما جاءهم به،و كيف يكون ذلك كذلك و هو يخبرهم بأنّه الحق،و يحذرهم بالنّار من مخالفته،و إنّما عنى و هو أعلم و لكنّه على مذهب التوبيخ و التنبيه لهم و التعريض بأنّهم هم المبطلون كما يقول القائل لمن يلاحّه و يشاجره:إمّا أن نكون جميعا مبطلين أو محقّين،و إنّي و إياك لعلى حقّ أو في ضلال،يعني بذلك أنّ أحدنا محقّ أو أنّنا على أحد الأمرين إذا قال الرجل/لمن يشير عليه بترك ما هما جميعا فيه إلى غيره إنّي و إيّاك لعلى هدى أو ضلال،يريد أنّنا على هذا فلا يفارقه في خطأ و مهلكة،فلا يخالف في الخلاص من ذلك،و قد قيل إنّ معنى الآية الكريمة أنّنا لعلى هدى و إنّكم لعلى ضلال فحذف تكرار ذكرهم،و أو هاهنا بمعنى الواو كما قيل:قال الخلاقة أو كانت له قدرا أي:و كانت له قدرا.
فأما تعلّقهم بقوله تعالى: قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ [سبأ:
26]،و أنّ ذلك شكّ و إحالة على ما هو و هم فيه إلى اللّه،فإنه باطل،لأنّه إنّما ورد ذلك على وجه المتاركة و الزجر لهم عما هم عليه،كما يقول الرجل للرجل:مجلس الحكم بيننا ثم يحكم بيننا بالحق،ليس على وجه الشكّ في حقّه و لكن على وجه المتاركة و قطع المزايدة و التحذير من الحكم عليه بباطله.
فأمّا تعلّقهم بقوله: وَ ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ [الأحقاف:9]و أنّ ذلك شكّ منه و نقض لما وعد و توعّد به،فإنّه بعد و تخليط منهم،لأنه لم يعن ذلك،و إنّما أراد ما أدري ما أتعبّد به و يفرض عليّ و عليكم من الوظائف و العبادات و اتّباع شريعة من سلف أو استئناف سواه و تبعية ما قد شرع لي أو نسخه و تغيره،و لم يرد أنّني لا أدري هل يثاب المؤمنون و يجازى الكافرون أم لا؟
ص: 694
و قد قيل:إنّه كانت له عليه السلام ذنوب خاف منها قبل أن يقال له و ينزّل عليه: لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ [الفتح:2]،فقال لما خاف من ذلك:و ما أدري ما يفعل بي و لا بكم معاشر المذنبين من غفران لي و لكم أو عقاب أو مجازاة،و ليس هذا من الشكّ في دينه و نبوته بسبيل.
و أمّا تعلّقهم بقوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللّهِ [لقمان:27]و نحو ذلك و أنّه نقيض لقوله: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ/أَمْرِ رَبِّي وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً [الإسراء:85]،و ذلك أنّه لا جواب لما سألوا عنه من ماهية الروح و صفتها إلا ما قال لهم،فكأنّهم ظنّوا أن الروح جسم محسوس،و شخص مدرك و شيء متمثل متجسد،ذو طعم و هيئة و محسة و رطوبة و يبوسة فقال«و يسألونك عن الروح يعني أ هي صورة أم صغيرة أم كبيرة أم حلوة أم حامضة،أم رطبة أو يابسة أو بيضاء أو سوداء،فقال:قل الروح من أمر ربي،أنّها جنس يخالف جميع هذه الأجناس المدركات و ذوات الصور و الهيئات و الصفات التي سألتم عنها»،و كذلك سبيل الجواب عن نعت كلّ شيء لا يدرك بالحواس، و عن ماهيته في أنّ هذا جوابه.
و لو قال قائل:خبّرونا عن الحياة ما هي و ما صفة الغمّ و الشرور و اللذة و الألم،أ متحرك هو أم ساكن،أم أسود أم أبيض،أم صغير أم كبير،مربع أو مسدس،لوجب أن يكون هذا هو جوابه،فيقول:هذه الأجناس التي سألت عنها من الحياة و الحزن و السرور شيء من خلق اللّه،و أمور من فعله لا يعلمها إلا هو،أي لا يتأتّى فعلها و جعلها على صفاتها إلا له،و ليس فيها ذو هيئة و شكل و طعم و رائحة يخبرك عنه،و إذا كان ذلك كذلك بطل ما توهّموه من قصور القرآن و الرسول عن الجواب عن الروح،و هم يعنون
ص: 695
بالسؤال هل الروح حيّ أم لا؟و هل تبقى أم لا؟و هل الروحاني،روحانيّ بمعنى أو بنفسه؟و إنّما سألوا عن ماهية الروح و نعته كأنّهم يعنون صورتها و هيئتها،و إذا كان ذلك كذلك بطل ما قدّروه.
و أما تعلّقهم بقوله: *يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ وَ الْحَجِّ [البقرة:189]،فإنّه تعلّق باطل،لأنّهم لم يسألوه ما جنس الأهلة، و لم تطلع و تغرب؟و كيف سيرها؟و ما جنس الزمان و معناه؟و إنّما أرادوا لم وضعت/الأهلّة؟و لما ذا خلقت؟فقال: قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ وَ الْحَجِّ أي:
لهذا خلقت و وضعت،لأجل ديونهم و مدد أعمالهم و أجورهم،و معرفة أوقات حجّهم و صيامهم و وظائف دينهم،و قول من زعم أنّهم سألوا عن كيفية الأهلّة الغامضة جهل منه،و لو سألوا عن ذلك و هم يعنون بالكيفية جنس الهلال و طبيعته أو تقلّبه و حركته،و عن جنس الوقت نفسه و جنس التقدير،لأخبرهم بجميع ذلك.
فأما تعلّقهم بقوله: أَ وَ لا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً [مريم:67]، وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً [مريم:9]،و أنه نقيض لقوله: سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ مِمّا لا يَعْلَمُونَ [يس:36]،و أنّ ذلك إخبار بأنه قد خلق الأزواج كلّها من أنفسهم و من أشياء أخر لا يعلمون،فإنّه أيضا مما لا تعلّق لهم فيه،لأنّه لا يمكن أن يكون إنّما أراد بقوله: وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً أي:أنّه لم يكن شيئا مذكورا و مدركا و شيئا عاملا مكلفا و شيئا فطنا حاسا بل كان طينا جمادا إن كان عنى آدم عليه السلام،أو نطفة و ماء مهينا إن كان أراد المخلوق من ولده،و قول المسلمين إنّه خلق الإنسان لا من شيء صحيح،و ليس بنقيض لهذا الكلام، لأنّه أراد أصول الأزواج و أوّل الحيوانات و عناصر الأشياء و ليس الماء
ص: 696
و الهواء و التراب و النار التي هي عند الفلاسفة أصول الأشياء التي هي قديمة لم تزل،و منها تنمو الأشياء و تزيد،و إليها تنحلّ و تفسد،و إذا كان ذلك كذلك بطل ما قالوه،و قد يقول القائل لمن يسمع كلامه و يدركه و يشاهد فعله و يحسه:ما قلت شيئا و ما صنعت شيئا،أي:ما صنعت شيئا نافعا، و ما قلت شيئا مفيدا محصّلا،و ليس يعني بذلك كونه و وجوده،و هذا يزيل توهّمهم و يقطع مادة أشغالهم.
فأما تعلّقهم بقوله تعالى:/ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ(19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ(20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)[التكوير:19-21]،و أنّه نقيض لقوله: اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ [التوبة:80]،و أنّ هذه صفة معصي غير مطاع،فإنّه جهل منهم لأنّ الرسول المطاع هو جبريل في قول كثير من المسلمين،هو مطاع في السماء و عند الملائكة و لم يرد به إجابة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم إلى جميع ما يلتمسه.
و يحتمل أن يكون الرسول هو محمد صلّى اللّه عليه و سلّم و يكون معنى قوله: مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ عند المؤمنين به و عند خزنة الجنّة،و ليس يعقل من قول مطاع أن اللّه هو الذي يطيعه،و إنّما يعقل من ذلك أنه إنّما يطيعه من يأمره و ينهاه ممّن أجابه و عرف حقّه و نبوته،فبطل ما قالوه.
فأما تعلّلهم بقوله في قصة نوح و محمد عليهما السلام و قوله: وَ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللّهِ وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَ لا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ [هود:31]،و قوله في قصة محمد مثل ذلك،و أنّه نقيض قوله تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً(26) إِلاّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً [الجن:26-27]،فإنّه ليس على ما ظنّوه،لأن نوحا و محمدا إنّما نفيا عن أنفسهما إدراك الغيوب من غير توقيف و إخبار على وجه ما يدركه اللّه سبحانه
ص: 697
(من) (1)العلم بمعلوماته الغائبة من غير اضطرار و لا استدلال و لا خبر،فإذا اطّلعا على ذلك صارا يعلمانه من جهة الوحي و التوقيف،و إذا كان ذلك كذلك بطل ما قالوه.
و يحتمل أن يكون قوله: إِلاّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ قطع الكلام و استئنافا لذكر الرسول و قصته و تأييده و حفظه و غير ذلك،و إذا كان ذلك كذلك بطل ما قالوه.
فأما تعلّق الملحدة بقوله: وَ فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ [الزخرف:71]،و ذكر فيها من صحاف الذهب و الفضة و الولدان و غير ذلك من تعظيم شأن نعيمها و إيصال لذّاتها و شرورها/و أنّه منقوص بوصفه لها بأنّ فيها أنهارا من ماء غير آسن،و أنهارا من لبن لم يتغيّر طعمه،و أنهارا من خمر لذّة للشاربين،و قولهم أن اللبن و الخمر ليس ممّا يستلذ،و اللبن خاصة لا يطلبه و يشتهيه إلا جائع مضرور،و أن الموضع الموصوف بأنّ فيه ماء غير آسن لا يكون إلا جدبا قحطا غير مخصب فإنّه باطل،لأنّ الخمر عند كل أحد مستلذ مشتهى،و لذلك حرّمت و منعت كسائر اللذات،و ما تدعوه إليه النفوس و الطباع،و ذكره الأنهار إنّما هو إخبار عن كثرته،و أنّه غير محصور و لا مغيّر مقتّر محدود.
فأمّا ذكره اللبن فإنّه صحيح،لأن العرب تلذّ اللبن و تشتهيه و تؤثره على الماء و تختاره عليه،و تجعله بمثابة الطعام و الشراب،و ليس بعد الماء شراب مفطور مخلوق من غير صنعة و لا مزاج،و شرب غيره من كلّ مائع سواه، فإنّه لا يلذّ بشربه إلا بصنعة و مزاج و تعديل،و كذلك ذكره العسل،لأنه مما يلذ و يحب.ل.
ص: 698
فأمّا قولهم:إنه قلّ ما يؤكل و يشرب عسلا صرفا حتى يمزج و يعالج، فإنّه كذب،لأنّ كثيرا من الناس يشتهيه صرفا،و لعله يمزج لمزاجته ممزوجا،و اللّه سبحانه إنّما ذكر لهم الأشربة في الجنّة من هذه الأجناس، ليدلهم على أنّ هناك لبن و عسل و خمر و ماء و أنواع ما تدعو إليه الأنفس،لا لكي يدلّ بذلك على أنّه مثل طعم الذي في الدنيا و صفته لا يفوقه و يزيد عليه،و كذلك إنّما وصف الماء بأنّه في أنهار و أنّه غير آسن و لا متغير،لأنّ القوم الذين خوطبوا بذلك إنّما كانوا يشربون من العيون الضيقة و الآبار النزة و ربّما كان الماء لقلته آسنا متغيرا،فعرّفهم أنه هناك غير قليل و لا محصور مغير مقتّر محدود،فبان بذلك بطلان ما قالوه،و كذلك قوله: فاكِهَةٌ وَ نَخْلٌ وَ رُمّانٌ [الرحمن:68]، وَ لَحْمِ طَيْرٍ مِمّا يَشْتَهُونَ [الواقعة:21]،و غير/ذلك إنّما أورده لكي يعرّفهم أنواع ما في جنانه،و لم يذكره لكي يعرّفهم أنّه على صفات ما في الجنّة من الثمار و اللحوم،على صفات ما تقع عليه هذه الأسماء و النعوت في الدنيا من غير تحصيل مزية و لا زيادة حسن و طيب و لذة،و ما لا يقدر جميع من على وجه الأرض على تركيب طعام و شراب يبلغ لذته،و إن صنعوه و عالجوه بكلّ مزاج و تركيب،و إذا كان ذلك كذلك بطل ما توهّموه.
فأما تعلّقهم بقوله: رَحِيقٍ مَخْتُومٍ(25) خِتامُهُ مِسْكٌ [المطففين:25-26]، و إنّ ذلك نقيض لوصفه أنهار الخمر،لأنّ الختم يقتضي العزّة و القلة، و قولهم:و لم ختمه الخشية الغارة و اللصوص؟و نحو ذلك من الجهالات، فإنّه حمق و بله و تلاعب من الملحدة،لأنّ معنى(ختامه مسك)أي منقطعه يوجد عنده طعم المسك من رائحته و هو من أجمل الشراب،و لو كان الختام هو الختم و الطابع لم يدل ذلك على القلة و لكان على التشريف لأولياء اللّه
ص: 699
و الكرامة،و لذلك يتخذ الملوك خزائن الشراب و يضعون عليها الخواتيم و الأقفال و يغطون الآنية بفاخر الثياب،و يتهادون الأشربة مختومة مضمونة، و إن أرسلوها مع أمنائهم و أولادهم إلى أخصّ الناس بهم مع أمان السمّ و الإدغال و مزاج الشراب ما يؤذي شاربه،و كلّ هذا على وجه التكرمة و الإعظام فبطل بذلك ما قالوه.
يتلوه إن شاء اللّه في الورقة التي تليها بعد البياض الذي يلي هذه الصفحة فإن قالوا:مزاجها كافورا و زنجبيلا فإنه غير مفسد لطعم الشراب، و الحمد للّه ربّ العالمين.
فرغ منه كاتبه حامدا اللّه تعالى و مصليا على رسوله سيدنا محمد النبي و آله الطاهرين و سلامه و حسبنا اللّه و نعم الوكيل./ فصل/: (1)ا.
ص: 700
فإن قالوا:مزاجها كافورا و زنجبيلا،فإنّه غير مفسد لطعم الشراب لأنّ من الناس من يعجبه الشراب عند مقطعه شيء من لذع الزنجبيل و الكافور و طعمهما و ريحهما،و يميل إلى شدّة برد الشراب،و لعلّه تعالى أراد طعم الكافور و ريحه و برده،أو برده خاصة و كلّ ذلك محبوب مشتهى عند أكثر الناس.
و يمكن أيضا أن يكون عنى تعالى أنّ برد ذلك الشراب و نفاذ عمله في اللذّة و طعمه و ريحه اللذين هما له،كنفاذ برد الكافور و الزنجبيل و طعمه و ريحه،من غير أن يكون معنى ذلك الشراب في الطعم و الريح معناهما، و قد يقول القائل:إنّ له لسانا أحدّ من السيف،و شرابا مثل شعل النيران، و أنّ ريح هذا تيّم كريح المسك و الكافور و لا يعني بذلك تساوي معنى ما ذكره و ما شبّهه،و إنما يعني نفاذ عمله و رائحته،و إذا كان ذلك كذلك بطل ما قالوه.
فأمّا قوله: يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ [الكهف:31]و أن ذلك ليس تعظيما في الزينة،و لا من زينة الرجال،فإنه كذب لأن العسجد من أفضل الزينة،و إنما كره للرجال لموضع التشبيه بالنساء،و لعلّه أن يكون لأجل ما يلحق البلواء و الخيلاء،و صار ذلك مستهجنا في الدنيا لموضع التعبّد و العادة،و في عامّة النّاس و أوساطهم،فأمّا ملوك العرب و العجم و الرّوم
ص: 701
فهم إلى اليوم يتسوّرون و يلبسون الأطواق و الأسورة و التيجان،و يبالغ في ذلك و يتنوّق فيه و يرصّعه،و لكن ذلك لعظمائها دون صغارها و سفاسفها، و أهل الجنّة في أجلّ رتبة و أرفع منزلة و أيسرهم نعيما في الجنّة،و إن لم يكن في نعيمها يسيرا أعظم من سائر نعيم ملوك الدنيا،فزال ما قالوه.
فأمّا تعلّقهم بقوله: عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَ إِسْتَبْرَقٌ [الإنسان:21] (1)و إن ذلك نقص منه،لتعظيم شأن ما فيها لأجل أن السّندس هو البزيون- زعموا،و الاستبراق غليظ الدّيباج/،فإنّه لا تعلّق فيه؛لأنه إن كان السّندس هو البزيون،فإن لهم من الفرش ما هو على نمط البزيون و صفته،و مخالف لجنسه في كونه و هيئته و لينه،و لعلمه أن يكون ألين من كلّ سندس من مرعزّى الأوبار و ألين الأصواف،و ما لا يقدر البشر أبدا على إيجاد مثله و لا ينتهون إليه،فأمّا الإستبرق فإنّه إن كان غليظ الديباج فإنّه من الحسن و الهيئة،و جميل المنظر و ليّن الملمس،بحيث يقصر عنه وصف الواصفين، و ليس كلّ الناس ترغب في ضعيف الديباج و رقيقه،بل الدّهماء منهم ترغب في متينه و غليظه،لأنّه أجلّ و لذلك عظم الروميّ و الملكيّ على التستريّ و ما جرى مجراه،فكيف بغليظه إذا كان بصفة ما قلناه؟!و كلّ هذا تلاعب منهم و تخالع و استهواء للعامّة من أتباعهم،و الأوغاد من معظّميهم و شيعتهم، و من أدلّ الأمور على ضيق الأمر بهم،و عدم المطاعن على شيء من كتاب اللّه.
فأمّا تعلّقهم بقوله: إِنَّ اللّهَ لا يَظْلِمُ النّاسَ شَيْئاً [يونس:44]، وَ ما رَبُّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46]، وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [فاطر:18]،و نحو».
ص: 702
هذا،و أنّ ذلك منقوض بقوله تعالى: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ [النساء:56]،و لا جرم-زعموا-للجلود التي لم تكن عليهم في الدنيا،و لم تصحبهم،و تكون من جملتهم وقت المعصية،فعقاب جلودهم و إيلامها على ذنب (1)لم يكن منها و لا (1)هي من جملته وقت اقترافهما:ظلم و عدوان،فإنّه باطل لا تعلق فيه من وجوه:
أحدها:أنّ الأمر في هذا ليس على ما يدّعونه عند أهل الحق من أنّ إيلام الحي على غير جرم و لا لعرض ظلم،و إنّما يكون ذلك ظلما ممن ليس له فعله،و من نهي عنه و تجاوز ما حدّ له و تصرّف في ملك غيره، و الذي هو أملك بالمخلوقات منه،و اللّه تعالى ليس هذه سبيل إيلامه لما آلمه من خلقه،و قد أتلف الأطفال في الدنيا و أباح إيلام الحيوان و ذبحه و سلخه و أكله،و كدّه و حمل الأثقال/عليه لغير ذنب و لا لغرض،كان مصير البهائم إليه بجزاء و ثواب و عذاب،و ذلك حسن و عدل منه.
و الجواب الآخر:إنّما أراد بقوله:(غيرها)أنّها كلّما نضجت و احترقت فصارت حمما أعيدت حينئذ رطبة مؤتلفة محتملة للألم و العقوبة،فقيل غيرها أي أعيدت كالذي كانت،و على صفتها التي صارت بالاحتراق إليها، كما يقول جاءني زيد اليوم بغير الوجه الذي فارقني به بالأمس،أي:بغير صفة الوجه التي كان عليها،و كذلك قولهم:زيد هذا الذي عرفناه و أنت غير الذي كنّا نعرفك،يعنون تغاير صفاته دون ذاته.
و يمكن أيضا أن يقال:إنّ العذاب إنمّا هو على الأرواح دون الخلق، فإذا عظمت جلودهم و أنضجت آلمت أرواحهم،و هي المعاقبة دون الجلود،ة.
ص: 703
فإذا أمكن تخريج هذا على بعض مذاهب المسلمين،فقد خابت آمالهم و انقطع رجاؤهم و زال إشغابهم،و صحّ أنّ القرآن هدى و نور منزل من عند حكيم عليم.
و أمّا تعلّقهم بقوله تعالى: اَلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللّهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللّهَ [الأحزاب:39]،و أنّه نقض ذلك قوله: وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَ اتَّقِ اللّهَ وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللّهُ مُبْدِيهِ وَ تَخْشَى النّاسَ وَ اللّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ [الأحزاب:37]،لأنّ هذا تصريح بأنّه خشي النّاس و لم يخش اللّه أو كاد أن لا يخشاه،و هو نقيض الخبر الأوّل،فإنّه ممّا لا تعلّق لهم فيه من وجوه:
أحدها:أنّ في النّاس من يحمل هذا على أنّ اللّه سبحانه حكى قول رسوله لزيد بن حارثة،و أنّه كان يعظه بمثل هذا الكلام،و بقوله: وَ اتَّقِ اللّهَ وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللّهُ مُبْدِيهِ ،كأنّ الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم قال لزيد:و تخفي في نفسك ما اللّه مبديه،و قال له: وَ تَخْشَى النّاسَ وَ اللّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ ،و ليس هذا بعتاب للنبي صلّى اللّه عليه و مثل هذا التأويل سائغ غير بعيد.
و الوجه الآخر/:أنّه قد كان أوحي إلى النبي صلّى اللّه عليه أنّ امرأة زيد تكون زوجة لك فكتم هذا و لم يخبر به زيدا و لا غيره؛مخافة أن يتسرع زيد إلى طلاقها إذا علم رغبة الرسول فيها،و أن يقول عند ذلك المنافقون أمره بطلاقها،و فرّق بينه و بينها،ثم تزوّجها،و يجعلون ذلك و صمة و مطعنا و ذريعة إلى الغميزة عليه و القدح في فضله،فيجب لذلك الإخبار بما أنزل اللّه عليه فأخبر به خشية ما ذكرناه فقال: وَ تَخْشَى النّاسَ وَ اللّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ أي:لا تخف في إظهار ذلك،فإنّهم لن يضروك بشيء خفته.
ص: 704
و قوله: وَ اللّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ أمر له بأن يخشى اللّه و بيّنه على أنّه أحقّ و أولى أن يخشى،و ذلك لا يدل على مخالفة المأمور إلى ضدّه و ارتكابه لتركه أو العزم على ذلك،فبطل التعلّق بهذا الموضع.
و يحتمل أيضا:أن يكون كره إظهار ذلك لئلا يقول المنافقون:قد حرّم اللّه على أمّته حلائل أبنائهم،و زيد ابنه،و قد تبنّاه،ثم تزوّج بحليلته،فقال:
ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللّهِ [الأحزاب:40]أي ليس زيد ابنه بنوة تمنع من تزويج امرأته،فقال:قل لهم هذا و لا تخشاهم،فإنّ اللّه أحق أن تخشاه،و ليس ذلك بركوب لمأثم.
ثم إنه لو سلّم أن الرسول صلّى اللّه عليه كان راغبا فيها و مؤثرا لطلاقها لكي يتزوّجها إذا فورقت و اعتدّت و حلّت للأزواج،و أنّه خاف أن يظهر ذلك الموضع للقالة التي قدمناها و القذف له،لم يكن ذلك ذنبا من ذنوبه،و خشية النّاس و تركه لخشية اللّه،لأنّ ميل الطباع و شهوات النفوس و الرغبة في النّساء و الوقوع في حبائلهن،و تعلّق القلوب بهنّ إذا خرج عن التكليف و الاكتساب لم يكن صاحبه ملوما مذموما إذا عزم العازم على التزويج بمن يؤثره إذا حلّت/للأزواج،لتسكين طبعه و إحمام نفسه و دفع الوسوسة، و الحوم حول الحمى و مكابدة الألم و مدافعة النّفس و طلب الاشتغال عن ذلك بطاعة اللّه،فإنّه بهذا العزم و القصد مطيع للّه،فكأنّه قال له عليه السّلام لا تخف الناس في كشف هذه الحال لهم بأنّها مطلقة مباحه،و اعلم أن اللّه أحقّ أن تخشاه،و يخبر بالمباح المطلق لك من دينه و في شريعته،و إذا كان ذلك كذلك؛بان أنّه لا عيب على الرسول و لا عار،و أنّه غير مواقع بذلك ذنبا و لا عصيانا و لا تارك لخشية اللّه تعالى،و بطل ما قدّروه و زال ما توهّموه.
ص: 705
فأمّا قولهم:إنّه لا معنى لقوله في أمّ الكتاب بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لأنّه قد أفاد بالرّحمن ما أفاده بالرّحيم،و لا لقوله:
اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لأنّه إن كان حمد نفسه فأيّ فائدة في حمده لنفسه،و إن كان أراد الأمر بحمده فألا قال:قولوا الحمد للّه ربّ العالمين، فإنّه تعلّق باطل و ليس الأمر فيه على ما توهّموه،لأنّ في قوله: بِسْمِ اللّهِ إضمار كلام مقدّر قد حذف لأنّه قد عرف أنّ القصد به بسم اللّه أفتتح أو أبتدئ أو أستعيذ أو أستنصر و نحو ذلك،و لكن لما كثر استعمال ذلك و ما يقوم مقامه في فواتح الكتب و الخطب و الرسائل و عرف الغرض فيه و مقصد العرب بقولهم في مبادئ كتبهم:«باسمك اللهم»حذف ذكر الابتداء أو الافتتاح أو الاستعاذة و ما يقدّر في هذا الكلام ممّا تتمّ به فائدة،لأنّه إن لم يقدّر ذلك لم يكن للقول: «بِسْمِ اللّهِ» معنى و لا خبر فتنعقد به الفائدة،و هذا يسقط ما توهّموه.
فأمّا قوله: اَلرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فإنّ ابن عباس قال في تأويله:
«إنّهما اسمان دقيقان أحدهما أدقّ من الآخر صاحبه،فالرّحمن الدّقيق و الرّحيم العاطف على خلقه بالرزق و الإنعام،و هما اسمان مشتقان من الرّحمة»/.
و قد يجوز أن يكون إنّما كرّر الاسم باللفظين؛لأنّ في أحدهما من المبالغة ما ليس في الآخر،لأنّ رحمان من أبنية المبالغة على وزن قولك شبعان و غضبان و ملآن إذا امتلأ غضبا و شبعا،فقال:«الرحيم»و هو اسم مشترك بينه و بين غيره لأنّك تقول:اللّه رحيم،و زيد رحيم،و مولى رحيم، ثم قال:«الرحمن»على وجه المبالغة،لأنّ رحمته وسعت كلّ شيء و لأنّ عنده من الرّحمة ما ليس عند خلقه ثم قال:«الرحيم»على وجه المبالغة أيضا،فإنّه بمعنى العاطف الرقيق على خلقه بالرزق و الانعام،و إن كانت
ص: 706
الرّقة منتفية عنه تعالى فوجب أن يكون إنّما كرّر الاسم المشتق من الصفة الواحدة بلفظين لمعنيين متزايدين مختلفين على ما بيّنّاه من قبل.
و قد قيل إنّه إنّما كرّر قوله: اَلرَّحْمنِ الرَّحِيمِ على وجه التوكيد و تمكين المعنى المقصود و أنّه بمنزلة قوله تعالى: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى [النجم:10]،و قوله: فَغَشّاها ما غَشّى [النجم:54]،و فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ [طه:78]و كلّ هذا على وجه التوكيد،على أنّه قد قيل إنّ قوله: فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ أي:غشي قوم موسى منه مثل ما غشي قوم فرعون فسلم قوم موسى من مثل ما هلك به قوم فرعون،و قيل: فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ أي:غشيهم قدر منه دون جميعه،و قيل إنّه أراد أنّه أظلم منه قدر ما جعل ما تحته يبسا فمشوا فيه.
و أمّا قوله تعالى: اَلْحَمْدُ لِلّهِ فإنّ فيه فائدة،و هو قول يحتمل أن يراد به الخبر بأنّ الحمد للّه،و إذا أريد به ذلك فمعناه أنّ المستحقّ للحمد و الشكر هو اللّه المنعم على جميع الخلق،و لكلّ نعمة أنعم بها أحد على أحد فأخبرهم بذلك أنّه هو تعالى مستوجب الحمد،و يحتمل أن يكون أمرا،و معناه إذا كان أمرا مضمرا و إن كان محذوفا،أي:قولوا الحمد للّه،و مثل ذلك قول الشاعر:
وقفت يوما به أسائله و الدمع مني الحثيث يستبق/
يا ربع أنّى بقولهم سلكوا بأيّ وجه تراهم افترقوا
يريد:أقول يا ربع،فحذف،و مثل هذا كثير فبطل ما توهّموه.
فأمّا تعلّقهم بقوله: هُوَ اللّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ [الحشر:22-23]، و بقوله: اَلْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255]،و هُوَ اللّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ [الحشر:24]، و قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]،و قولهم:ما فائدة القول،إن كان
ص: 707
مدحا فهو قبيح،و إن لم يكن مدحا فما فائدته؟فإنّه لا تعلّق فيه،لأنّنا نقول:هو مدح و إن لم يكن قبيحا لثلاث أوجه:
أحدها:أنّه امتدح لغير اجتلاب منفعة و لا دفع مضرة،و ليس كذلك سبيل مادح نفسه منّا،و لذلك قبح أن يمدح نفسه.
و الوجه الآخر:أنّه إنما يقبح المدح منّا بكل صفة لأنّه لا بدّ أن يلحقنا نقص فيها،و الباري على غاية الكمال و التناهي في أوصافه.
و الثالثة:أنّه إنّما قبح أن نمدح أنفسنا؛لأنّ غيرنا هو الجاعل لنا،و اللّه سبحانه لم يجعله جاعل على ما هو به من الصفات،فحسن منه لذلك مدح نفسه.
و قد يجوز أن يكون قال ذلك ليعلّمنا كيف نمدحه و نثني عليه لا ليمدح هو نفسه،و يجوز أيضا أن يكون قال ذلك الكلام في معنى التكرار و فوائده.
فأمّا تعلّقهم بقوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]،و قولهم:إن الموات و الجماد و الأعراض لا يجوز أن تسبّح،فإنّه لا تعلّق فيه لأنّه إنّما أراد بذلك و إن من شيء ناطق حيّ إلاّ يسبّح بحمده،و لم يرد كلّ ما يقع عليه اسم شيء،و قد يجوز أن يكون أراد و إن من شيء ناطق مؤمن مصدّق إلاّ يسبح بحمده،لأنّ الكافر و المجنون و الطفل أحياء ناطقون (1)غير مسبحين له،و قد قيل إنّه أراد بالتسبيح في هذه الآية الإخبار عن فاقته و حاجته إلى مدبّر يدبّره و مقيم يقيمه،فكأنّه قال:لو كان كلّ مخلوق يعرف نفسه و خالقه لسبّح بحمد خالقه،و اعترف بربوبيّته لموضع حاجته و افتقاره إليه.ة.
ص: 708
و أمّا تعلّقهم بقوله تعالى: وَ إِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ [البقرة:74]، و قوله: وَ الطَّيْرُ صَافّاتٍ/كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ [النور:41]،و قوله: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ وَ النُّجُومُ وَ الْجِبالُ وَ الشَّجَرُ وَ الدَّوَابُّ وَ كَثِيرٌ مِنَ النّاسِ [الحج:18]،و قوله: وَ النَّجْمُ وَ الشَّجَرُ يَسْجُدانِ [الرحمن:6]،و قوله: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ [الحشر:21]،فإنّه لا تعلّق لهم في شيء منه،و لا إحالة فيه بوجه.
و ذلك أنّ قوله: لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً أي:لو أنزلناه على جبل يعقله و يسمعه لا نقضّ و تصدّع على ما هو عليه من عظمة و صلابة،و لو كان ممّن يعقل على وجه التقدير،و يمكن أن يكون أراد أنّنا لو عقّلنا الجبل و أسمعناه القرآن لا نقضّ و تصدّع من خشية اللّه.
فأمّا ما أخبر به من سجود الشمس و القمر و الجبال و الشجر و غير ذلك، و تسبيح هذه الأشياء فإنّما أراد به-و هو أعلم-الإخبار عن ذلّها و تواضعها، و الذلّ و التواضع الحاصل فيها إنّما هو فقرها و حاجتها إلى صانع يصنعها، و مدبّر يدبّرها و يقيم ذواتها،و لولاه لم تكن،و كذلك قوله: يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ أي:أنّ فيه آثار الصنعة و دلائل الفاقة و الحاجة،فسمي بذلك هبوطا و خضوعا و سجودا و تسبيحا على هذا التأويل،و لم يرد السجود بالجبهة و التسبيح الذي هو النطق،قال جرير:
لمّا أتى خبر الزّبير تضعضعت سور المدينة و الجبال الخشّع
و قال ابن أحمر الشاعر:
و عرفت من شرفات مسجدها حجرين طال عليهما العصر
بكيا الخلاء فقلت إذ بكيا ما بعد مثل بكاكما صبر
ص: 709
و الحجارة لا تبكي و لا تخشع إلا على التمثيل و التقدير و الإخبار عن عظم الأمر و أنّه ممّا تهدّ الجبال و تبكي له على وجه التعظيم للشأن.
و قال آخر (1):/
ساجد المنخر لا يرفعه خاشع الطرف أصمّ المستمع
و لم يرد سجود الجبهة.
و قال أمية:
سبحان من سبّحت طير الفلاة له و الرّيح و الرّعد و الأنعام و الكفر
يعني بالكفر مواضع الرهبان،و هي الصوامع،و قال أيضا:
هو الذي سخّر الأرواح ينشرها و يسجد النجم للرحمن و القمر
و إنّما أراد بذلك ما قدّمناه من الفاقة و الحاجة إلى الصانع الحكيم.
و يمكن أيضا أن يكون إنّما أراد بقوله: يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ ،و قوله:
وَ النَّجْمُ وَ الشَّجَرُ يَسْجُدانِ ، أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ وَ النُّجُومُ ،أي:لو رأى ذلك المسخّر المتدبّر بحاله و حاجته إلى صانع يقيمه لسجد للّه و لسبّحه و لهبط عند التأمل و الفكر من خشية اللّه الخالق،كذلك لما في ذلك من أوضح الأدلّة و البراهين،قال الشاعر:
أمّا النّهار ففي قيد و سلسلة و الليل في جوف منحوت من الساج
يعني بذلك أنّ من في النّهار و في الليل على هذه الصفة و اللفظ للّيل و النهار و المراد به غيرهما.).
ص: 710
قال الطرماح (1):
و أخو الهموم إذا الهموم تحضّرت جنح الظلام و ساده لا ترقد
فجعل الوسادة لا ترقد،يريد أنّ من عليها لا يرقد لطرق الهموم قلبه و فكره،فكذلك إنّما ذكر اللّه تعالى هذه الأشياء،و وصفها بهذه الصفة،و هو يريد بذلك الوصف لغيرها الذي يشاهدها و يعتبر بها،و يفكّر في خلقها، و هذا أيضا ليس ببعيد،و إذا كان ذلك كذلك سقط ما توهّموه من سقوط معنى هذا الكلام و حصول الإحالة فيه.
و قد ذكروا أنّ ممّا لا معنى له في القرآن قوله تعالى: *يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ [المائدة:67]،قالوا/:و قد علم كلّ سامع لهذا الكلام أنّه لا معنى لقوله:
«بلّغ و إن لم تبلّغ فما بلغت»،و أي فائدة في أن يقال لمن لم يبلّغ الرسالة:
أعلم أنّك إن لم تبلغ فما بلغت.
يقال لهم:في هذا أجوبة:
أحدها:أنّه إنّما أراد بقوله تعالى-و هو أعلم-«فإن لم تفعل ما بلغت رسالته»أي لم تبلغ كلّ ما أرسلت به على كماله و تمامه و ترك الكتمان و الطيّ لشيء منه،و لم يرد بقوله: فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ في الشيء الذي لم يبلّغه بعينه،فإنّ ذلك أمر معلوم على ما وصفتم،و إذا كان ذكر الرسالة مجملا معرّضا لأن يراد به كلّ الرسالة على الاستيفاء لها و الاستيعاب،و أنّه يعنى به البعض منها دون جميعها كان حمل الآية على هذا التأويل صحيحا ممكنا، و أن يكون إنّما حثّ على تبليغ الرسالة في شيء بعينه أوحي إليه،قيل له فيهم.
ص: 711
إن لم تفعل ذلك فما تحمّلت عن اللّه سبحانه كلّ ما أمرك به و لا أدّيت جميع رسالاته،و هذا واضح من التأويل و باللّه التأييد.
و جواب آخر و هو:أنّه يمكن أن يكون المراد بقوله تعالى: وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ أي:فما تستحقّ ثوابا و لا جزءا على أداء ما أدّيته منها إذا أخللت بأداء شيء من جميعها،كما يقول السيد لعبده و المستأجر لأجيره:ابن داري هذه و علي شرفها و إن لم تعلّ الشّرف منها فما عملت شيئا و لا ثواب لك على عملك،و هو ليس يعني بقوله:فما عملت إلا إسقاط الاعتقاد بما عمله،و هذا أيضا بيّن في جواب ما تعلّقوا به.
و جواب آخر هو:أنّه يحتمل أن يكون المراد بقوله: بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هو المراد بقوله: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ أي:تبلّغه تبليغا شائعا ذائعا مكشوفا تقوم به الحجّة،و ينقطع به العذر،و يؤثّر في النفس التأثير الذي يقع معه العلم بصحته و لذلك قال:«اصدع»لأنّه عنى به شدّة البلاغ و كشفه على وجه يؤثّر تأثير الصّدع في الزجاج و غيره ممّا يتصدّع/و ينكسر،فكأنّه سبحانه قال له:بلّغ ما أنزل إليك من ربّك بلاغا ظاهرا،و أراد بقوله: وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ،أي:إن لم تظهر،و أدّيته خفيّا مكتوما فما بلّغت البلاغ الذي قيل لك بلّغه (1)و هذا أيضا واضح في إسقاط ما تعلّقوا به.
و قد طعنوا أيضا في القرآن و في تصديق الرسول صلّى اللّه عليه بقوله:
وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران:97]،قالوا:و قد قتل فيه الخلق من عبد اللّه ابن الزبير و غيره،و لعلّ الخوف و القتل فيه و في المسجد في كثير من الأوقات كان أكثر و أظهر منه في غيره،فهذا كذب لا محاله-زعموا-و هذا..
ص: 712
باطل لا تعلّق لهم فيه،لأنّه لم يرد بذلك الإخبار عن حصول الأمر،و إنّما هو كلام صورته الخبر،و المراد به الأمر كأنّه قال تعالى:ليكن من دخله آمنا غير مخوف،و هو جاري مجرى قوله: وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]و صيغته الخبر،و المراد به ليتربصن المطلقات بأنفسهن ثلاثة قروء،و قد لا يفعلن ذلك و يعصين بترك التربّص،لأنّ هذا القول ليس بخبر عن حصول ذلك منهن،و إنّما هو أمر ورد بصيغة الخبر فزال ما توهّموه.
و قد يمكن أن يكون خبرا عن الأمان من عذاب الآخرة و سوء النكال إذا دخله خائفا للّه و خاشعا له و نادما على تفريطه و متقرّبا بذلك إلى وجهه تعالى بعد المهاجرة من داره و بلده،و لم يرد أنّه آمن من ظلم الخلق،أو من إقامة ما يجب عليه من قصاص و قود و حدّ،و قد يمكن إن كان خبرا عن حصول الأمر أن يكون أراد به وقتا مخصوصا و عاما مخصوصا و ناسا مخصوصين، فيكون صيغته العموم و المراد به الخصوص إن ثبت للعموم صيغة.
فأمّا طعنهم في القرآن بقوله: اَلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ [البقرة:46]و إنّ في هذا مدحا لهم على الظنّ للقاء ربّهم،و الظنّ- زعموا-شكّ و ضدّ اليقين،و هم بذمّهم لأجل ظنّهم لذلك/و شكّهم فيه و ترك العلم به أولى بالمدح.
و الجواب عنه:أنّه أراد تعالى بذكر الظنّ هاهنا اليقين؛لأنّ الظنّ يكون بمعنى اليقين،و منه قوله تعالى: وَ رَأَى الْمُجْرِمُونَ النّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها [الكهف:53]يريد تيقّنوا ذلك و تحقّقوه،و منه أيضا قوله: وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ(24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ [القيامة:24-25]،يريد تتيقّن المفاقرة،و ترى و تشاهد العذاب غير أنّه لما ذكر رؤية المؤمنين لربّهم باسم النظر ثم ذكر
ص: 713
رؤية الكافرين للعذاب و ما يقع به النّكال عبّر عن رؤيتهم بذلك بغير اسم النظر فقال: تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ [القيامة:25]،أي:ترى العذاب و ما يقع به و تتيقنه،و قول من قال:إنّ الظنّ لا يكون بالوجه باطل،لأنّه إذا كان بمعنى اليقين و رؤية البصر كان واقعا بالعين التي في الوجه.قال الشاعر (1):
فقلت لهم ظنّوا بألفي مدجّج سراتهم في الفارسيّ المسرّد
أراد أن أيقنوا بذلك و اعلموه.
و قد طعنوا أيضا في القرآن بقوله سبحانه: وَ لَوْ لا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاّ قَلِيلاً [النساء:83]،قالوا:و هذا نقض ظاهر و إبطال للمعنى المقصود بالكلام،لأنّه استثنى بقوله: إِلاّ قَلِيلاً بعض من أخبر بفضله عليه و عصمته له التي لأجلها نجى من سلم من اتباع الشيطان، و إذا جعل فضله عليهم هو المانع لهم من اتباع الشيطان،فكيف يتّبعه قليل ممن تفضّل عليه و رحمه،و إن جاز أن يتّبع بعض من عليه فضله و رحمته للشيطان،فلم لا يجوز اتباع جميع من تفضّل عليه و رحمه الشيطان؟و هذا هو الإحالة و الإفساد لمعنى الكلام،و الإفساد لمعنى الكلام،و إثبات التفضّل و الامتنان.
فيقال:الاستثناء في هذا الموضع بقوله: إِلاّ قَلِيلاً لم يرجع إلى أقرب المذكور إليه في الآية،إنّما رجع إلى المذكور المتقدّم قبل الذي يليه، لأنّ اللّه سبحانه قال: وَ إِذا جاءَهُمْ/أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83]، ثمّ عقّبه بقوله: وَ لَوْ لا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاّ قَلِيلاًف.
ص: 714
[النساء:83]،فقوله إِلاّ قَلِيلاً إما أن يكون استثني من قوله لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ إلا قليلا لا يستنبطون و لا يعلمون لتركهم الاستنباط،أو لمقاربة معنى استنباطهم من إفساد له باستثقال الحقّ،أو تخليط فيه بتقديم أو تأخير و طلب الغلبة،و ما جرى مجرى ذلك،فكأنّه قال:لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا قليل لا يستنبطون فلا يعلمون،أو إلا قليلا يستنبطون استنباطا فاسدا فلا يعلمون.
أو أن يكون استثني من قوله: وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ إلا قليلا منهم إذا جاءهم ذلك لا يدفعونه،فيردّ الاستثناء فيه إلى المذكور المتقدّم،و الاستثناء في الكلام ربّما رجع إلى أقرب المذكور و هو الذي يليه،و ربّما رجع إلى جميع الجملة المقدّم ذكرها،و ربّما رجع إلى أبعد المذكور منها إذا وسعه،و إنّما يجب إيقافه على حكم الدليل لموضع الاحتمال لردّه إلى كلّ شيء من ذلك،و قد بيّنّا ذلك و أوضحناه في كتاب «جامع الأبواب و الأدلة»،و استقصينا القول في الأصول الشرعية و في غيره من أصول الفقه بما يغني الناظر فيه إن شاء اللّه.
فأمّا تعلّقهم بقوله: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ [يونس:94]،و أنّ هذا نقيض ما وصف به سائر رسله من أنّهم أعلم الخلق به،و أعرفهم بصدقه و صفاته،و أنّهم مختارون و مصطفون على علم على العالمين،فإنّه لا تعلق لهم فيه من وجوه.
أولها:أنّ هذا القول ليس بخبر عن حصول شكّه عليه السلام فيما أنزل عليه و إنّما هو تقرير له و تنبيه أنّه منزل على غيره أيضا،و قد يقول القائل لمن يعلم أنّه لا شكّ عنده في الأمر،و لا/ريب:فإن كنت في شكّ ممّا أنزله و أخبر به فسل غيري و سل الناس عنه،و سيما إذا كان يريد بذلك إظهار
ص: 715
صدقه بحضرة من ينكر ذلك و يدفعه،و ربّما قال له ذلك في الأمر الشائع الذائع ليجعل له طريقا إلى سؤال الناس و إخبارهم بما عندهم من العلم في ذلك الأمر ليزول ذلك الشكّ و يقوى سلطان الحجّة،و تبطل الشبهة.
و القوم أعني قريشا،و من خالف الرسول كانوا يقولون له فيما نقلوه إفك افتراه،و إفك مفترى و محدّث و مجنون،و إن هذا إلا خلق الأوّلين،و شاعر مجنون،فقال له: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ ،ليجعل له ذريعة إلى ذلك،و مطالبة علمائهم مثل عبد اللّه بن سلام و غيره بما في كتابهم من ذلك تصديقا لقوله أنّنا قد أبنّا بذلك من كان قبلك،و لم يقل إنّك شاك فيما أنزل عليك.
و يوضّح هذا أيضا أنّ القائل قد يقول لمن يعلم بتيقّنه ظلم زيد و جهله و تخليطه و أنّه لا شكّ في ذلك:إن كنت في شكّ من ظلم زيد فعامله لتنظر، و إن كنت في شك من تخليط فلان و خبطه فقاوله و ناظره،و إن كنت في شكّ من هول البخر فاركبه،و إن كنت في شكّ من جود فلان أو بخله فمن يعرف حاله فسله و التمس منه لتعلم ردّه أو إجابته،في أمثال هذا ممّا قد ظهر استعماله بينهم،فعلى هذا الوجه ورد قوله: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ .
و قد يمكن أن يكون النبي صلّى اللّه عليه و سلّم ظنّ أنّ بعض ما أنزل إليه من العبادات أو بعض ما قصّ عليه قد أنزل على موسى،و أحبّ اللّه أن يقطع شكّه في ذلك فقال:فإن كنت في شكّ مما أنزل إليك في أنّه منزل على موسى و من كان قبلك فسلهم عن ذلك ليخبروك عنه،فيزول شكّك،و قد يكون من مصالحه و مصالح أمّته أو بعضها الأمر بسؤال/أهل الكتاب عمّا يشكّ عليه السلام في أنّه منزل عليهم،و ربّما كان ذلك تقوية ليقين غيره إذا عرفه،فلم يرد بذلك الشكّ في أنّه من عند اللّه،و إنّما أراد الشكّ في أنّه منزل على غيره أم لا.
ص: 716
و قد يجوز أيضا أن يكون أنزل عليه جملة قصة و عبادة مجملة أخّر عنه بيانها إلى وقت الحاجة،و قد بيّن تفصيلها و شرح تلك القصة في كتاب موسى،فقال له: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يعني في شكّ من تفصيله، فارجع في ذلك إلى أهل الكتاب فإنّني قد أنزلت تفصيل ذلك عليهم،و ليس هذا من الشكّ في أنّ ما أنزل عليه منزل من عند اللّه بسبيل.
و قد يجوز أن يكون أراد بقوله: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ أي إن كان قومك أو بعضهم في شكّ فسل أهل الكتاب ليخبروهم بمثل ما تخبرهم به فيؤمن عند ذلك من كان إخبارهم إياه به لطفا له،فيكون ذاكرا للنبي صلّى اللّه عليه و المراد به غيره،و على نحو هذا ورد قوله: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الزمر:65]،الخطاب له في الظاهر و المراد به غيره الشاكّ فزال بذلك ما قدحوا به.
فأمّا تعلّقهم بقوله عز و جل: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ [السجدة:5]، و أنّه مناقض لقوله: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:4]،فإنّه باطل لأنّه أراد بقوله ألف سنة،أنّ جبريل ينزل من السماء و يصعد إليها في يوم،و مقدار سيره مسيرة ألف سنة من سني خمسمائة البشر في الدنيا،لأنّ ما بيننا و بينها مسيرة خمسمائة عام،فلذلك قال تعالى و هو أعلم: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ [السجدة:5]، يعني مقدار سيركم له لو سرتموه ألف سنة،و قوله: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ فإنّما أراد به-و هو أعلم-يوم القيامة،و أنّ اللّه سبحانه يحاسب جميع الخلق فيه،و مقدار حساب جميع الخلق لو تولاّه غير اللّه خمسين ألف سنة من/أيام الدنيا،و لذلك قال عز و جل في آخر الكلام: وَ هُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ [الأنعام:62]؛لأنّه يحاسب في ذلك اليوم وحده قدر زمن تحاسب
ص: 717
الخلق في مدة خمسين ألف سنة،فصار لذلك أسرع الحاسبين،و قد روي عن عبد اللّه بن عباس أنّه قال:قوله: أَلْفَ سَنَةٍ يعني به نزول جبريل من السماء إلى الأرض،و قوله: مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ يريد قدر نزوله من العرش إلى الأرض و صعوده إليه،لأنّ ما بين العرش إلى الأرض أضعاف ما بين السماء إلى الأرض».
و قد يجوز أن يكون عنى بقوله-و هو أعلم-خمسين ألف سنة،أنّ الناس يلحقهم من الشدّة و الهول أمر عظيم كما يقول القائل كأنّ يومنا هذا سنة، و كانت ليلتي شهرا يعني بذلك ما ناله فيها من الشدة،فيعبّر عن ذلك بالطول.
فأمّا ادّعاؤهم التناقض في قوله تعالى: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ [الشعراء:
28]،و رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَ رَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [الرحمن:17]،و بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَ الْمَغارِبِ [المعارج:40]،فإنّه باطل من وجوه:
أحدها:أنّه يمكن أن يكون أراد بالمشرق و المغرب اسم الجنس العامّ لكلّ مشرق و مغرب،فيكون المشرق و المغرب على هذا التأويل هما المشارق و المغارب و هذا نحو قوله: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:2]، و قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ [عبس:17]،و الإنسان و نحو ذلك مما يراد به الجنس دون الواحد.
و قد يتأوّل الناس ذلك على تأويل صحيح لا تناقض فيه،و هو أنّه إنّما أراد بربّ المشرق و المغرب اليوم الذي يستوي فيه الليل و النهار،فتشرق الشمس فيه في مشرق واحد في ذلك اليوم،و تغرب في مغرب واحد أبدا في ذلك اليوم إلى أن تعود إلى الشروق و الغروب فيهما لا يعود إلى مثلهما إلا بعد حول في ذلك اليوم.
ص: 718
فأما قوله: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَ رَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [الرحمن:17]و أنه عنى أطول يوم في السنة يشرق فيه/في مشرق و تغرب في مغرب و لا تعود إلى مثلها إلا بعد سنة،و الآخر أقصر يوم في السنة تشرق فيه في مشرق و تغرب في مغرب لا تعود إلى مثلها إلا بعد سنة،و أما قوله: بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَ الْمَغارِبِ [المعارج:40]، فإنّما أراد به مشارق أيام السنة كلّها و مغاربها،لأنّها تطلع كلّ يوم في مشرق غير المشرق الذي تطلع فيه في اليوم الثاني و كذلك غروبها تغرب كلّ يوم في مغرب غير المغرب الذي غربت فيه قبله،و علوّ الشمس و دنوّها من العالم، و قربها و بعدها و حرّ الزمان و برده و اعتداله أحد الأدلّة على اختلاف مغاربها و مشارقها،و هذا واضح في إبطال ما ظنّوه من التناقض و الاختلاف.
فأمّا تعلّقهم بقوله تعالى: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّ عَشْراً [طه:103]،و إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّ يَوْماً [طه:104]،و إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّ قَلِيلاً [المؤمنون:114]،و ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ [الروم:55]،و ادّعاؤهم الاختلاف و التناقض فيه،فإنّه باطل لأنّهم لما خرجوا من قبورهم و رأوا ما(كانوا) (1)يكذّبون من النشور قال بعضهم لبعض إن لبثتم إلا عشرا،ثم استكثر بعضهم العشر فقال:إن لبثتم إلا يوما، و قد دلّ على ذلك قوله: يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّ عَشْراً [طه:103]،ثم قال: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّ يَوْماً [طه:104]ثم شكّوا في اليوم،فقيل لهم: كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ(112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [المؤمنون:112-113]ثم استكثروا ذلك فقالوا:إن لبثتم إلا قليلا، ثم استكثروا ذلك فحلفوا ما لبثوا غير ساعة،و الاختلاف في القول و التلوّن إنّما يكون من الكفّار و مكذّبي البعث يوم الحساب،لاختلاف ظنونهم و شدّة.
ص: 719
ما يمرّ بهم،و هذا يلحق الناس مع الأمن و السكون،أعني السكون و اختلاف الظنون،فكيف به مع الحيرة و الهول.
فأما تعلّقهم بالتناقض عندهم في قوله: ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا [المائدة:109]،و أنّه نقيض قوله: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء:41]،و قوله: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ/شَهِيداً [البقرة:143]،و نحوه فإنّه باطل،لأنّه روي أنّ اللّه عز و جل يسأل الرسل عند زفرة جهنم الرابعة و غلبة الجزع و الفزع على قلوبهم و زوال الذّكر عنهم و شغلهم بأنفسهم،فيقولون عند ذلك:لا علم لنا،ثم تسكن جهنم و يزول عنهم الرّوع و الفزع،و يعود الذّكر و العلم فيشهدون عند السكون و زوال الرّوع على أممهم،و قد يلحق الناس ذلك عند شدّة الموج و عصوف الرياح و ظهور الزلازل،و السواد و الصواعق و الآيات و الأمور المخوّفة،فينقطعون بذلك عن التمييز فكيف بهم عند هول يوم القيامة و زفير جهنم و رؤيتها؟ و أمّا تعلّقهم بتناقض قوله: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ(35) وَ لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات:35-36]،و قوله: يَتَساءَلُونَ [الصافات:27]،و يَتَلاوَمُونَ [القلم:30]و نحوه،فقد أجبنا عنه بأنّه تارات ينطقون في بعضها و لا ينطقون في البعض،و يمكن أيضا أن يكون عنى بذلك أنّهم لا ينطقون فيه بعذر و لا حجّة،و العرب تقول واقفت فلانا على جرمه،و ما صنع،فما تكلّم و لا تنفّس و لا اعتذر،يعنون بأنّه ما تعلّق بحجّة و عذر،و كذلك يقولون:نوظر فلان فيما يقوله و يدين به فما أتى منه بكلمة و لا حرف،يراد بذلك كلمة احتجّ بها و حرف دلّ به على مذهبه،و إذا كان ذلك كذلك سقط ما ظنوه.
ص: 720
و كذلك الجواب عن قوله: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لا يَتَساءَلُونَ [المؤمنون:101]،يعني عند القيام من القبور لشدة الرّوع،فإذا اختلطوا و امتزجوا و طال الوقوف تكلّموا و تساءلوا و تلاوموا،و إذا دخلوا أيضا جهنّم تلاعنوا كما أخبر فقال: كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها [الأعراف:38].
و كذلك الجواب عن قوله: اِخْسَؤُا فِيها [المؤمنون:108]يعني في وقت منها ثم ينطقون بعد ذلك من شدّة العذاب فيقولون ربّنا أخرجنا منها، و ارجعنا نعمل صالحا/،و غير ذلك مما حكاه عنهم تعالى،و قد يمكن أن يكون أراد لا يتكلّمون بعذر و لا يحتجون بحجّة،و كذلك لا يتساءلون و لا ينطقون بحجّة،و لكن بالتلاوم و التوبيخ و النّدم و التأسّف على ما كان منهم.
فأمّا تعلّقهم بما ادّعوه من التناقض في خلق آدم من قوله: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ [آل عمران:59]،و قوله في موضع آخر: مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون:12]،و قوله في موضع آخر: مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخّارِ [الرحمن:
14]،و قوله في موضع آخر: مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر:26]،و في موضع آخر: وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ [السجدة:6].
و قولهم إنّ هذا غاية التناقض و التضادّ،فليس الأمر على ما ادّعوه، و ذلك أنّ اللّه سبحانه خلق آدم من تراب أحمر و أبيض و أسود و غير ذلك على ما وردت به التفاسير،فلذلك اختلفت ألوان ذريته،ثمّ بلّ ذلك التراب بماء فصار طينا ثم صار سلالة يعني لازقا إذا عصر ينسلّ من بين الأصابع،ثم خمّره فأنتن فصار حمأ مسنونا فخلق من الحمأة بعد تنقّل أحوال الطين،فلما صوّر جسمه قبل أن ينفخ فيه الروح جفّ و يبس فصار صلصالا كالفخار يابسا إذا ضرب سمع له صلصة،ثم نفخ فيه الروح فصار إنسانا.
ص: 721
فأمّا قوله: مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [السجدة:8]فلم يعن به آدم،و إنّما أراد به ذريته أوّل إنسان خلق منهم،خلق من نطفة آدم و حواء ثم كلّ أولادهم من نطفة إلا عيسى بن مريم.
فأمّا تعلّقهم بقوله: وَ اللّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23]،و أنّه نقيض قوله: وَ لا يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً [النساء:42]،لأنّهم إذا حلفوا له أنّهم غير مشركين فقد كتموه حديثا،و أيّ حديث،فإنّه لا تعلّق لهم فيه،لأجل أنّ اللّه ضمن للموحّدين غفران ما دون الشرك إن شاء،و التجاوز عنهم،و الجزاء على إيمانهم،فلمّا رأى المشركون الصفح عنهم،و ذكروا ضمان اللّه الغفران لهم قال بعضهم لبعض إذا سألنا حلفنا أنّا لم نكن مشركين حتى يتجاوز عنّا و ذلك قوله: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ/لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْ ءٍ [المجادلة:18]،فلمّا اجتمعوا قال لهم تعالى:أين شركائي قالوا عند ذلك:
وَ اللّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23]،فلمّا كتموا الشرك الذي كانوا عليه في الدنيا ختم اللّه عند ذلك على أفواههم و أنطق جوارحهم فتشهد بالشرك عليهم فيودّون أن الأرض انشقت بهم،و لم يكتموا اللّه ما دانوا به من الشرك.
و يمكن أيضا أن يعني بقوله: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ عَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوّى بِهِمُ الْأَرْضُ [النساء:42] (1)من شدة الهول و الجزع،ثم ابتدأ فقال:
وَ لا يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً [النساء:42]،لأنّه عالم به و لا يقدرون على كتمان ما هو أعلم به منهم،و يمكن أن يكون أراد أنّهم يحلفون أنّهم ما كانوا عند أنفسهم مشركين باللّه أي أننا كنا نظنّ أنّنا على الحقّ،و كنّا غير متعمّدين للشرك،و ذلك أنّ ما حلفوا عليه غير نافع لهم و لا مقبول منهم،لأنّهم كانوا بصفة من يصحّ علمهم بباطلهم و يتأتى لهم متى أرادوه و قصدوه.ه.
ص: 722
فأمّا تعلّقهم في قوله تعالى في قصة موسى: وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143]،فإنّه أراد المصدّقين بأنّ أحدا لا يراك في الدنيا،لأنّه قال:
تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ يعني من سؤاله الرؤية،و القصة تشهد بذلك،و التوبة هاهنا الرجوع عن المسألة فقط،لا على أنّ ذلك ذنب قبيح تجب التوبة منه،و النّدم عليه الذي هو الإقلاع عن الذنب،و قوله في قصة السّحرة: أَنْ كُنّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء:51]يعني المصدّقين بموسى و نبوته،و ما جاء به،و قوله في قصة محمد صلّى اللّه عليه: وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:163]يعني أنه أوّل المسلمين من أهل مكة،فلا تناقض في ذلك و لا تضادّ.
فأمّا تعلّقهم بقوله تعالى: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غافر:46]، و أنّه نقيض قوله: فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ [المائدة:115]، فإنّه غير متناقض لأنّه عنى-و هو أعلم-أدخلوا آل فرعون أشدّ العذاب الذي هو عذاب الدخول من الباب الذي يدخلون منه/إلى جهنم،و قوله: فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ يعني بالمسخ لهم خنازير و لم يعذّب بذلك في الدنيا أحدا غيرهم،و قوله في المنافقين: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النّارِ [النساء:145]فيمكن أن يكون آل فرعون و المنافقين جميعا في أشدّ العذاب بأن يدخلوا جميعا من باب واحد و يحصلوا في درك جهنم،فما الذي يمنع من ذلك؟ و قد يمكن أن يكون الدرك الأسفل فيه مراتب و طبقات من العذاب آل فرعون في أشده،و المنافقون في قريب منه،و قوله: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاّ مِنْ ضَرِيعٍ [الغاشية:6]،و غِسْلِينٍ [الحاقة:36]،و شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ [الأنعام:
70]،و إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ(43) طَعامُ الْأَثِيمِ [الدخان:43-44]،فإنّه غير
ص: 723
متضاد لأنّه طعام أهل طبقات جهنم و أحوالهم مختلفة و كذلك الحميم و الغسلين لأهل طبقتين،و قد يجوز أن يكون الغسلين من الحميم و الضريع من شجرة الزّقوم فلا يكون في ذلك تناقضا و لا تنافيا.
فأمّا تعلّقهم بقوله: وَ أَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ [محمد:11]،و أنّه نقيض قوله: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ (1)[الأنعام:62]،فإنّه غير متناقض لأنه أراد لا ناصر لهم من دون اللّه،و منه قوله: فَإِنَّ اللّهَ هُوَ مَوْلاهُ [التحريم:4]، و قوله: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ [الأنعام:62]،فلأنّهم اتّخذوا مواليا عبدوهم و عنوهم و قلّدوهم،فلمّا حشروا وراءهم خذلوهم و تبرّءوا منهم، و لم ينفعوهم،فقال اللّه: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ فلا تناقض في ذلك.
فأمّا تعلّقهم بقوله: وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، و أنّه مخالف لقوله: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ حَتّى يُهاجِرُوا [الأنفال:72]،فإنّه ليس على ما ظنّوه لأنّ الولاية الأولة ولاية الدين و النّصرة و المحبّة في اللّه،و الولاية الثانية ولاية المواريث،لأنّ اللّه كان حكم في بدء الإسلام بقطع المواريث بين من لم يهاجروا جميعا،فإن مات مسلم غير مهاجر ردّ ماله على من هاجر من المسلمين دون أهله/و أقاربه حثا و حضّا على الهجرة،فلمّا كثر الإسلام و استقلّ الناس و استغنى المهاجرون و أثروا ردّ اللّه المواريث بين الأهل هاجروا أو لم يهاجروا،فسقط بذلك ما قدّروه من التناقض.
فأمّا تعلّقهم بقوله: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام:103]،و أنّه نقيض قوله: إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة:23]،فإنّه باطل لأنّه أراد أنّها لا تدركه في الدنيا،و قوله إلى ربها ناظرة يومئذ و هو يوم القيامة،فلا تناقض في ذلك و لا.
ص: 724
اختلاف،و قد بيّنا الكلام في الآيتين و جميع ما يمكن أن يقال فيهما في الكلام في الأصول بما يغني الناظر فيه إن شاء اللّه.
فأمّا تعلّقهم بقوله تعالى: وَ كانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً [النساء:17]، وَ كانَ اللّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً [الأحزاب:25]،و سَمِيعاً بَصِيراً [النساء:58]،و أنه نقيض قوله: وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ [الأنعام:101]،و عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ [البقرة:
106]،لأنّ قوله«كان»موضوع لما مضى و باد و انقضى،و قوله وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ و نحوه يقتضي وجوده في هذا الوقت،و كونه عالما و على هذه الأوصاف،و ذلك مختلف متضاد،فإنّه لا تعلّق لهم فيه،لأنّ لفظة كان موضوعة لما مضى و سبق و تقدّم،و قد يكون ما هذه سبيله باقيا و قد يكون معدوما منقضيا،لأنّ الجالس في مكانه قد يقول:كنت جالسا من أول النهار، و كنت ذاكرا لما تجاريناه عند لقاء زيد،و هو لا يعني بذلك أنّه كان جالسا و قام ذاكرا ثم نسي و ذهب ذكره،و إنّما يعني تقدّم جلوسه و ذكره،و كذلك لو قال كانت الشمس منذ أوّل الدهر،و كانت السماء يوم ابتدئ العالم، و نحو هذا لم يوجب بذلك اللفظ تقضّيهما،و عدمهما بعد الكون السابق، و إنّما يوجب بذلك سبقهما و تقادم وجودهما و نفي حدوثهما في هذا الوقت، و كذلك قوله: وَ كانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً ،و قَوِيًّا عَزِيزاً ،و سَمِيعاً بَصِيراً ،أنّه لم يزل على هذه الأوصاف و أنّه لم يستحدثها و لم يتجدد له و ليس/يوجب ذلك عدمه بعد تقدّمه و خروجه عن هذه الصفات بعد ثبوتها، و إذا كان ذلك كذلك بطل ما توهموه.
و قد يقال كان زيد موجودا،و كان مرضه شديدا،و كان ماله كثيرا و يعني بذلك أنّه كان و عدم و تقضى بلفظة«كان»التي تفيد التقدّم و سبق ما جرى في وصفه،ثم قد تقدّم الدليل على عدمه،و قد لا يكون معدوما.
ص: 725
فأما تعلّقهم بقوله: نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَ نَجْواهُمْ [الزخرف:80]، لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْ ءٌ [آل عمران:5]و نحوه،و أنّه نقيض قوله: وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ [آل عمران:
77]فإنّه باطل لأنه عنى بالأول أنّه عالم و أنّه سميع بصير لا تخفى عليه الأوصاف و المرئيات و لا تستر عنه بعض المعلومات،و أراد بالثاني نظر التعطّف و الرحمة،من قولهم فلان لا ينظر لنفسه و عيلته،يراد أنّه لا يتعطف عليهم و لا يرحمهم،و ليس هو من نظر الرؤية في شيء.
و أمّا تعلّقهم بقوله تعالى: وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً [الإنسان:24]، و أنّه نقيض قوله: وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا [الكهف:28]،لأنّ الآثم و الكفور ممن أغفل قلبهما عن ذكره و في الآية الأولى تخيير له في أن لا يطيع الآثم إن شاء أو الكفور فإنّه باطل،لأنّ أو في هذا الموضع بمعنى الواو،لا بمعنى التخيير،و هو مثل قوله: وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات:147]يعني و يزيدون،و منه قولهم:ما أكره أن يأكل طعامي أو يلبس ثيابي أو يتبسّط في ملكي،و يركب مركوبي و ليس هو هاهنا واو تخيير و إنّما يريد أنّه لا يكره أن يأكل أو يلبس و يركب و قد مضى في هذا من قبل و نحوه ما فيه مقنع.
و أمّا قوله: أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ [المائدة:
116]،فإنّما يريد التقرير على ذلك ليكذبهم و تقوى الحجّة عليهم،و ليس يعني به السؤال و الاستخبار،و كذلك قوله: وَ ما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى [طه:17]،إنّما هو تقوية لإظهار ما يريد فيها من الأعجوبة،و قد قيل إنّ عيسى عليه السلام/لم يعلم ما أحدثوا بعده من الكفر بعبادته،فقال له ذلك ليقول لا،فيعلمه أنّهم قد عبدوه بعده.
ص: 726
فأما تعلّقهم بقوله تعالى: ما مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [الأعراف:12]، و أنّه نقيض قوله و أمره بالسجود لأنّه تفنيد له على أن لم يسجد،و هو قد أخبر في هذه الآية أنّه قد أمره أن لا يسجد فكيف يلومه على أن لا يسجد، فإنّه باطل لأنّه إنّما عنى أن لا يسجد أن يسجد،لأنّهم يقولون ما منعك ألا تجيبني و تتبعني إذا خفت،يريدون ما منعك أن تجيبني و تتبعني فيدخلون لا و إلا زائدا في الكلام،قال الشاعر:
و ما ألوم البيض ألاّ تسخرا إذا رأين الشّمط القفندرا
يعني:لا ألومهنّ إن يسخرن إذا رأين الشّيب.
و أمّا تعلّق الملحدة و القدرية بقوله تعالى: وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً [العنكبوت:
17]، وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ [المائدة:110]،و إِنْ هذا إِلاّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ [الشعراء:137]،و فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون:14]،و أنّ ذلك أجمع على زعم الملحدة خاصة نقيض قوله: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللّهِ [فاطر:3]، وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ [النحل:
20]،و قوله: أَمْ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ [الرعد:16]،فإنّه باطل لا تعلّق فيه لأنّ الآيات الأولة كلها وردت لنفي الخلق و الإبداع و إكذاب من قال إنّه أو بعض من يعبده يخلق و يبتدع و يخترع و هو بمثابة قوله: مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ [القصص:72]،و أَ إِلهٌ مَعَ اللّهِ و نحوهما مما نفي به إله غير اللّه،و ليس يجب إذا وصل قوله: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللّهِ [النمل:61]،بقوله: يَرْزُقُكُمْ [فاطر:3]،أن يكون إنّما نفى بذلك خالقا غير اللّه يرزق على ما تزعم القدريّة كما لا يجب إذا وصل قوله: مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللّهِ بقوله: يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ،أن يكون إنّما نفى إلها غير اللّه يأتي بليل،و لم ينف إلها لا يأتي بليل،لأنّ هذا ليس بقول لمسلم أنّه
ص: 727
امتدح بنفي إله معه كما امتدح بنفي خالق و غيره معه على كل وجه،فلذلك قال: هذا خَلْقُ اللّهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [لقمان:11]،و لو كانوا /يخلقون أجناسا و أعيانا من الأعراض لقالوا هذه الأشياء كلّها من خلق اللّه و هذه كلّها كخلق اللّه و مثله،فوجب أن يكون كلّ ما قدّموه من نفي خالق غير اللّه على النفي و المدح على الحقيقة.
فأمّا قوله: وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً [العنكبوت:17]،فإنّما يعني به أنّكم تختلقون كذبا،لأنّ الخلق يكون بمعنى الاختلاق الذي هو الكذب،و منه قولهم:حديث مخلوق يعنون مختلق متكذب و قوله: إِنْ هذا إِلاّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ [الشعراء:137]إنّما هو حكاية عن قول الكفار في القرآن،و إنّما عنوا به أنّه من كذب الأولين،و قوله: فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون:
14]،إنّما يعني به-و هو أعلم-أحسن المصورين تصويرا و أحسن المقدّرين تقديرا،لأنّ الخلق يكون بمعنى التصوير و التقدير،و كذلك التأويل في قوله:
وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ [المائدة:110]يعني تصوّر و تقدّر،و التصوير و التقدير قد يوصف به الخلق كما يوصف به الخالق،و ليس التقدير و التصوير من الإبداع و الإنشاء في شيء،فإنّما نفى خالقا غيره مبدعا منشئا،و لم ينف مصوّرا و مقدّرا غيره،و ليس معنى المصوّر أنّه خلق الصورة و التصوير،و لا معنى المقدّر أنّه خلق الفكر و التقدير،و إنّما معناه أنّ له تقديرا و تصويرا، و هل هو خالق لما هو له من ذلك أو غير خالق له؟معتبر بالدليل.
قال الحجاج:
أني لا أهمّ إلاّ أمضيت و لا أخلق إلا فريت
يعني:أقدر إلا أمضيت،و هذا التقدير فكر و روية و طلب للعلم بصواب العاقبة،و هذا غير جائز على اللّه سبحانه.
ص: 728
و قال الشاعر (1):
و لأنت تفري ما خلقت و بعض ال قوم يخلق ثم لا يفري
يعني بذلك تقدّر ما تمضيه و تنفذه،و منهم من يقدّر و يفكّر و لا يمضي لتردّده و تشكّكه أو تهيّئه و رهبته،و ذلك أيضا غير جائز على اللّه سبحانه، و قال آخر:
و لا نيط بأيدي الخالقين و لا أيدي الخوالق إلا جيّد الأدم/
يريد بأيدي المقرّبين و المصوّرين،و هذا التقدير الذي معناه التصوير للشيء يجوز على الخلق و على الخالق سبحانه،فقوله: وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ يعني تصوّر،و قوله: أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ،يريد أحسن المصوّرين تصويرا،فصار التقدير ضربين:
أحدهما فكر و روية و استخراج صواب العاقبة و ذلك ممتنع على اللّه سبحانه.
و الآخر التصوير،و ذلك جائز على اللّه سبحانه،و تصوير اللّه تعالى لما يصوّره خلق له سبحانه،و موجود بالأجسام المصوّرة و هو تأليفها و جعلها على مقدار ما،و صورة مخصوصة،و تصوير العباد إنّما هي حركات أيديهم و آلتهم و قبضها و بسطها في الجهات و فعل الاعتمادات التي يفعل اللّه عندها تقطيع الأجسام و توصيلها و تألفها على وجوه مخصوصة بجري العادة و تلك الحركات و الاعتمادات موجودة بأنفسهم،و في مجال قدرهم و ليس هي من تقطيع الأجسام و توصيلها و اختراع تأليفها في شيء،و العباد مكتسبون لما يوجد بهم من هذه الحركات و الاعتمادات التي توصف و تسمّى تقديراف.
ص: 729
و تصويرا و غير خالقين لها و لا مبدعين لأعيانها،و قد بيّنّا هذا و فصّلناه في الكلام في المخلوق بما يغني الناظر فيه إن شاء اللّه.
فأمّا تعلّقهم بقوله تعالى: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ [الزخرف:
81]،و أنّه نقيض قوله: وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]،و قوله:
*وَ اعْبُدُوا اللّهَ وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً [النساء:36]،و نحو ذلك فإنّه باطل، لأنّه لم يرد بقوله: فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ المقرّين بالولد،و لا أراد بقوله: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ ،الشكّ في ذلك و الارتياب به و إنّما هو على معنى قول العرب إن أنكرها يقول فإني أنكر ما يقول و تقولون،و اللّه إن كان لفلان عندي حقا،و اللّه إن كان لفلان ولد أي:و اللّه ما له عندي حقا و ما له ولدا، فإن هاهنا ليس للشكّ و لا للشرط على الحقيقة،و قوله تعالى: فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ فإنّما يعني به الآبقين الغضاب له من ذلك.
قال الشاعر/:
متى يشادوا الوصل تصرم حبله و يعبد عليه لا محالة ظالم
يعني بذلك أنّه يأنف و يتكذّب عليه.
و قد قيل إنّ العابد يكون بمعنى الجاحد،تقول العرب:عبدني حقّي أي جحدني،و الأوّل أولى.
فأمّا تعلّق الملحدة بقوله: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الإسراء:78]، و قوله: وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَ اصْطَبِرْ عَلَيْها [طه:132]،و قوله عن أهل النار:
لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [المدثر:43]،فإنّ ذلك أجمع نقيض قوله: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ [الماعون:4]،لأنّه أوجب بذلك الويل للمصلين و هو قد أمرهم بها و دعاهم إليها،و مدحهم عليها،فإنّه من الباطل الضعيف،لأنّه قد وصل
ص: 730
قوله: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ بما يدل على أنّهم مذمومون بصلاة فعلوها على غير وجه ما أمروا بها،لأنّه قال بعد ذلك: اَلَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ(5) اَلَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ(6) وَ يَمْنَعُونَ الْماعُونَ [الماعون:5-7]،فكأنّه ذمّهم على الصلاة المفعولة في غير وقتها،و ذمّهم بالسهو عن أدائها في وقتها،إمّا بالتغافل عن ذلك أو بالاشتغال عنها بالتجارة و اللهو و غير ذلك،و مؤخّر الصّلاة عن أوقاتها عاص مذموم.
و قوله: اَلَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ يمكن أيضا أن يكون ذما للمصلين للرّياء و النفاق لا للّه تعالى،و المصلي على هذا الوجه منافق مذموم،و يمكن أن يكون أراد بقوله: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ لغير اللّه تعالى من الجن و النيران أو الشمس أو الملائكة أو الكواكب الذين هم عن الصلاة للّه سبحانه ساهون تاركون لها،و قوله: وَ يَمْنَعُونَ الْماعُونَ أي:يمنعون أداء الزكوات و حقوق الأموال،فأيّ تناقض في ذلك،لو لا الجهل و العناد؟و قوله: لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ إنّما هو إخبار من الكفار عند سؤال الخزنة لهم: ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [المدثر:42]،فقالوا: لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ(43) وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ(44) وَ كُنّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ(45) وَ كُنّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ [المدثر:43-46]،فقالوا:إنّما عوقبنا على هذا أجمع،و ذلك أحد الأدلة على أنّ الكفار مخاطبون بالشرائع و الأحكام بشريطة تقديم فعل التوحيد و الإيمان باللّه ثم تعقيبه بالصلاة/و ما يترتب بعدها من العبادات،و لو لم يكونوا بالصلاة مأمورين لم يكونوا على تركها معاقبين،و قد تكلمنا على ذلك و على ما يمكن أن يتعلق به في هذا التأويل في أصول الفقه بما يقنع من تأمله إن شاء اللّه،فمن ظنّ أن ذلك نقيض قوله: أَقِمِ الصَّلاةَ ،و كان يأمر أهله بالصلاة،و أمر أهلك بالصلاة، فقد أبعد و ضلّ ضلالا بعيدا،و الناس أبدا يقولون ويل للمصلين لغير وجه
ص: 731
اللّه تعالى،و للمصلي رياء و نفاقا،و لقبول الوصايا و أخذ الودائع و الحيل على أموال الناس و لذلك تمثلوا:
ذيبا تراه مصلّيا فإذا بصرت به ركع يدعو و جلّ دعائه ما للفريسة لا تقع
و كذلك قال: وَ لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاّ وَ هُمْ كُسالى وَ لا يُنْفِقُونَ إِلاّ وَ هُمْ كارِهُونَ [التوبة:54]،فترى أنّه ذمّهم على الصلاة أم على فعلها بالكسل و غير نيّة و لا على وجه العبادة و القربة؟! و أمّا تعلّقهم بقول اللّه تعالى: إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [المائدة:42]، و أنّه نقيض قوله: وَ أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً [الجن:15]،فإنّه باطل لا تعلّق به لأنّ القاسط غير المقسط،لأنّه بالميم العادل المنصف،فإذا قلنا فلان مقسط أردنا به أنّه عادل منصف،و القاسط بلا ميم في الاسم إنّما هو اسم الجائر الظالم و هو حطب جهنم،فهذا مما يشتبه لفظه و يتقارب و معناه مختلف،و إنّما هو كقولهم هجد و تهجّد،فهجد بلا تاء معناه نام و رقد، و تهجّد بالتاء بمعنى قام للّه و سهر.
فأمّا قوله تعالى: وَ لَهُ الدِّينُ واصِباً [النحل:52]،و قوله: وَ لَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ [الصافات:9]،فمعناه متفق لأنّ الواصب هو الدائم الثابت الباقي، فقوله: وَ لَهُ الدِّينُ واصِباً يعني باقيا دائما،و الدين خير محمود و قوله: وَ لَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ يعني مقيم دائم غير أنّه لا خير لهم فيه و لا فرج.
أما تعلّقهم بقوله تعالى: إِنَّ اللّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر:53]،و أنّه نقيض قوله: إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء:
48]،فإنّه لا تناقض/فيه من وجوه:
أولها:أنّ العموم لا صيغة له بمقولة الذنوب جميعا و لو وصله بقوله كلّها و سائرها و قليلها و كثيرها و صغيرها و كبيرها،لم يكن ذلك أجمع مفيدا
ص: 732
للعموم الذي هو استغراق جنس ما وقع عليه الاسم،لما قد بيّناه في الفقه و غيره من الكلام في الوعيد.
و الوجه الآخر:أنه أراد بقوله: يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً أنه يغفرها بالتوبة منها و النّدم عليها و العزم على ترك معاودة أمثالها،و قد دخل في ذلك الكفر و الشرك و ما دونهما و قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ،يعني أنّه يغفر ما دون الشرك بغير توبة تفضلا منه،و لا يغفر الشرك بغير توبة،و لا يتفضل على المشرك بذلك فخالف بين المشرك و الموحّد في هذا الباب،و هذا أيضا ينفي ما ظنوه من التناقض و الاختلاف.
و الوجه الآخر:أنّه أراد على قول قوم أنّه يغفر الذنوب جميعا التي هي صغائر إذا وقعت مجانبة للكبائر،فلذلك قال: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ [النساء:31]،فهذه الآية عندهم مفسرة لذلك و مثبتة لمعناها،و إذا كان ذلك كذلك سقط ما توهّموه.
و أمّا قوله تعالى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً [الإنسان:1]،و قولهم إنّ هذا تناقض،لأنّه لا يجوز أن يأتي على ما هو إنسان حين لا يكون فيه شيئا و هو مع ذلك إنسان،فإنّه باطل لأنّه أراد-و هو أعلم-أحد معنيين:
أحدهما:أنّه أتى عليه و هو معدوم حين لم يكن فيه إنسانا و لا شيئا بل كان عدما متلاشيا،و قوله: عَلَى الْإِنْسانِ إنما يعني:هل أتى على الإنسان أي على من صار إنسانا بعد أن لم يكن شيئا و لا إنسانا.
و الوجه الآخر:أنّه أراد بذلك أنّه قد أتى على آدم عليه السلام حين و هو مصوّر من طين،لم يكن شيئا حيّا عاقلا مذكورا بالحياة و التمييز و التحصيل
ص: 733
ثم نفخت فيه الروح/،فصار حيا عالما مذكورا بالخيرة مخاطبا،و العرب تقول:كم أتى عليك من دهر و زمان لم تكن فيه شيئا تعني بذلك أنّك لم تكن مقدّرا فيها إنسانا يذكر،و ممن يفكر فيك و تخطر على بال،و إن كان قد كان شخصا ماثلا و شيئا ثابتا.
فأمّا تعلقهم بقوله: وَ تَرَى النّاسَ سُكارى وَ ما هُمْ بِسُكارى [الحج:2]، و وَ تَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَ هُمْ لا يُبْصِرُونَ [الأعراف:198]و أمثاله،فإنّما عنى به سبحانه أنّهم من شدة الخوف و الفزع بمثابة السكران و الثّمل و ما هم مع ذلك بسكارى،أي هم عقلاء عالمون بما ينالهم،و العرب تقول:فلان قد أسكره الجوع و العطش،و أسكره المال و الغمر،أي:جعله بمثابة السكران و إن كان عاقلا مميزا،و قوله: وَ تَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ ،أي:كأنّهم ينظرون إليك، و هم لا ينظرون،يعني به أمثلة العيون من الأصنام و ضربه مثلا لمن يسمع و لا يعقل و لا ينتفع و يبصر و لا يستدلّ،و لا يعتبر على ما قلناه من قبل.
و أمّا تعلّقهم بقوله تعالى: فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ [الأعراف:107]،و قوله:
تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ [النمل:10]،و أنّ ذلك متناقض لأنّ الجانّ صغير الحيات و الثعبان كبيرها،فإنّه باطل لأنّه قال: فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ ثم قال: تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ ،فقال:كانت مع كبرها و عظمها تهتز و تسرع في المشي و التلوي و التثني اهتزاز الجانّ الصغير،و هذا غاية الهول من منظرها و إظهار الآية و الأعجوبة فيها،و لم يقل فإذا هي جانّ فيكون ذلك نقيض قوله،فإذا هي ثعبان مبين،و إنّما قال تهتز كأنّها جانّ فبطل ما ظنّوه.
فأمّا تعلّقهم بقوله تعالى: وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ [الروم:49]،و قولهم:كيف أدخل«قبل»مرتين و ما معنى هذا الكلام؟فإنّه أيضا لا تعلّق فيه،لأنّه يجوز أن تكون«قبل»الثاني لغير ما ورد
ص: 734
له«قبل»الأول،لأنّه قال: وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ ،يعني قبل/ إنزال العذاب عليهم،و ما أنزله فيكون«قبل»هاهنا قبل إنزال العذاب عليهم و ما أنزله،فتكون قبل هاهنا قبل إنزال،ثم قال:من قبله،أي من قبل رؤيته،و النّظر إليه،فيكون«قبل»الثاني وارد بغير ما ورد له الأول،فالأول قبل إنزال ما أنزل و«قبل»الثاني قبل النّظر،و قد يجوز أيضا أن يكون ذكر قبل مرتين على وجه التأكيد و على مثال قولهم:عجّل عجّل،و اضرب اضرب،و الأسد الأسد،و نحوه قال الشاعر:
يرمي بها من فوق فوق و ماؤه من تحت تحت شربه يتغلغل
فأمّا تعلّقهم بقوله تعالى: وَ قالُوا ما هِيَ إِلاّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ [الجاثية:24]،و قولهم:هذا قول دهرية جحدة،فكيف يقرّون بالحياة بعد الموت،و هم يستجهلون معتقد ذلك فإنّه لا تعلّق أيضا فيه من وجهين:
أحدهما:أنّهم قالوا ذلك على وجه التقديم بما هو مؤخر عندهم فكأنّهم قالوا:ما هي إلا حياتنا الدنيا نحيا و نموت،فقالوا مكان ذلك نموت و نحيا،كما تقول العرب شربت و أكلت،و الأكل قبل الشرب،يعنون أكلت و شربت،و كذلك قولهم:نروح و نغدوا،و الغدوّ قبل الرواح.
و الوجه الآخر:أنّهم لم يريدوا بذلك أنفسهم فقط،بل عنوا به جنس الناس،فقالوا:ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت،و يحيا قوم بعدنا من نسلنا، و يموت أولئك و يجيء بعدهم آخرون،و أن أهل الدنيا لا ينفكّون من موت و حياة،و لا حياة و لا موت في دار غيرها فأكذبهم اللّه تعالى في ذلك، و قال:إنّ ذلك ظنّ منهم و توهّم و أخبر به في غير موضع فبطل ما قدّروه.
ص: 735
فأمّا تعلّقهم بقوله تعالى: وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ [الإسراء:82]، و قالوا:و أنتم تقولون إنه كله مبارك و شفاء،و الجواب أنّ من هاهنا صله، فكأنّه قال و ينزل القرآن شفاء،فأدخل من زائدة و هو كقوله: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ /[نوح:4]،و قولهم:فلان في صحّة من عقله،يعنون في صحّة عقله،و قولهم:عيّن من هذا الثوب قميصا،و من الفضّة خاتما،يعنون جميعا دون البعض و كقولهم:خاتم من حديد،و ثوب من خز،و أدخلوا من زائدة في الكلام.
فأمّا تعلّقهم بقوله تعالى: لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاّ مَنْ رَحِمَ [هود:
43]و قولهم:كيف يكون من رحمه عاصما من أمر اللّه،فالجواب عنه:لا معصوم من أمر اللّه إلاّ من رحم فأقام عاصم مقام معصوم،و قد يمكن أيضا أن يكون أراد لا عاصم اليوم من أمر اللّه إلا من رحم بأن جعل له شفاعة و دعاء مقبولا في دفع العذاب فيكون بدعائه و رغبته عاصما من أمر اللّه و عذابه.
فأمّا تعلّقهم بقوله تعالى: فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22]،فإنّه نقيض قوله: خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ [الشورى:45]،فكيف ينظر من طرف خفيّ من يكون بصره حديدا؟فالجواب عنه:أنّه أراد-و هو أعلم-فبصرك اليوم حديد علمك بعلمك و تيقّنك و ذكرك له بعد أن كنت فيه شاكا أو جاحدا،و قوله: خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ يعني به الذّلة و الخوف و الاستكانة و الاستسلام لعذاب اللّه،و لا تناقض في ذلك بحمد اللّه و منّه.
و اعترضوا أيضا قوله تعالى: وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22]، و قوله: يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ [البقرة:210]،قالوا و المجيء و الإتيان حركة و زوال و ذلك عندهم محال في صفته،فالجواب عن هذا عند بعض
ص: 736
الأمّة أنّه يجيء و يأتي بغير زوال و لا انتقال و لا تكييف بل يجب تسليم ذلك على ما روي و جاء به القرآن،و الجواب الآخر:أنّه يفعل معنى يسمّيه مجيئا و إتيانا،فيقال:جاء اللّه بمعنى أنّه فعل فعلا كأنّه جائيا،كما يقال أحسن اللّه،و أنعم و تفضّل على معنى أنّه فعل فعلا استوجب به هذه الأشياء.
و يمكن أن يكون أراد بذلك/إتيان أمره و حكمه و الأهوال الشديدة التي توعدهم بها و حذّرهم من نزولها و يكون ذلك نظيرا لقوله عز و جل: وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللّهِ فَأَتاهُمُ اللّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [الحشر:2]،و لا خلاف في أنّ معنى هذه الآية أنّ أمره و حكمه إياهم و عقوبته و نكاله، و كذلك قوله: فَأَتَى اللّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ [النحل:26].
فأمّا قولهم:و ما معنى ظلل الغمام،و أيّ مدخل للغمام في هذا الوعيد و التحذير،و أيّ ضرر عليهم بكونه آتيا في غمام،فإنّه باطل لأنّ الظلل هاهنا الأهوال و شدة الحساب،و هو على نحو قوله عز و جل: وَ إِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ [لقمان:32]أي:في عظم السحائب و بما خلق من غمّها و كربها، و يجوز أن يكون الظّلل هو الغمام بعينه و يجعل اللّه عز و جل ما ينالهم من كونه إذا أظلّهم و غمّهم به دليلا على حضور وقت المحاسبة و المسائلة و هول يقاسونه و يخافونه من ذلك.
و اعترضوا أيضا في القدح في الرسل و أخبار القرآن بقوله عز و جل عن إبراهيم عليه السلام: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260]،قالوا و هذا يوجب شكّه و اضطراب قلبه و معرفته،و ذلك نقيض قوله و وصفه لهم بأنّهم مصطفون و مهتدون و خلاف أمره بالاقتداء بهم في قوله: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90].
ص: 737
و الجواب عن ذلك أمور منها:أنّه قال ليطمئنّ قلبي على معنى أنني أزداد إيمانا بك،و يمكن أن يكون أراد ليطمئنّ قلبي بإجابتك لي إلى ذلك، و لتكون آية لي و حجة على قومي،لأنّ في ترك الإجابة توهّم لانحطاط قدره،و يمكن أن يكون أراد بقوله:ليطمئن قلبي أي لأعلم ذلك ضرورة و مشاهدة،و إن كنت عالما به من جهة النظر و الاستدلال فإنّ الخواطر تزول مع المشاهدة و هي قائمة طارقة مع عدم الضرورة و إن كان إبراهيم و غيره من النبيين/و الصدّيقين يدفع العارض منها بحجج اللّه القاهرة و أدلته الباهرة.
فإن قالوا:فقد سأل موسى عليه السلام مثل ذلك في قوله: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:143]فلم يجبه و قال:لن تراني،يقال لهم:قد يجوز أن تكون إجابة إبراهيم إلى ما سأل من مصالحه أو مصالح بعض أمته، و أن تكون إجابة موسى إلى ما سأل عنه ليس من مصالحه و مصالح أحد من قومه،و يجوز أن يمنع موسى لأنّه أراد منعه،و أجاب إبراهيم لأنّه أراد إجابته،و لو منعهما جميعا أو أجابهما لكان ذلك جائزا،على أن إبراهيم لم يسل إزالة المحنة جملة،و إنّما سأل إزالة المحنة بالنظر في إثبات القدرة على إحياء الموتى فقط،و موسى سأل رؤية اللّه ببصره،و في ذلك زوال المحنة و التكليف جملة،فبطل ما اعترضوا به.
قالوا:و من الإحالة في القرآن قوله: وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ(169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ [آل عمران:
169-170]،قالوا:فكيف يكون المقتول حيا،فرحا مع موته و نقض بنيته و تقطّع أوصاله و مشاهدته على حاله؟و ما ظنّوه من الإحالة في هذا باطل لأنّ أكثر الأمّة تقول:إنّ اللّه يحييهم في قبورهم و ينعّم أرواحهم في أجسامهم أو بعضهم،فمنهم من يقول:إنّ ذلك حالهم دائما و منهم من يقول:يكون
ص: 738
ذلك عند المسائلة في القبر،و بعد فراق منكر و نكير له،و كذلك قولهم عذاب الكافرين،و قد بيّن هذا الكلام ما ورد فيه من الأخبار في باب عذاب القبر و نعيمه،و هذا ليس بمستحيل من جهة العقل و الحياة،و عند أهل الحقّ لا يحتاج إلى بنية و بلّة و رطوبة،فبطل ما توهّموه،و من الناس من يقول:
أراد بقوله:أحياء،الإخبار عن عاقبة أمرهم و ما يؤول إليه حالهم من النعيم بثواب الآخرة و فرحهم/بذلك،كما يقال:ما مات من ذكره باقي،و ما مات من خلّف مثل فلان من الولد بل هو حيّ،و كما يقال للمظلوم المقهور:أنت الغالب الرابح و ظالمك هو الخاسر،يراد بذلك أنّ عاقبتك الربح و النصر و عاقبته الخسران و النقص،و كما يقال:ما مات فلان ما بقي ذكره و أثر إحسانه و كتب ذكره و بيانه.
قال الشاعر:
فقلت و الدمع من حزن و من فرح في اليوم قد أخذ الخدين منسجمه
أ لم تمت يا شقيق الجود من زمن فقال لي لم يمت من لم يمت كرمه
قال و على هذا قال رجل للنعمان بن مقرّن و قد كتب إلى عمر بن الخطاب كتابا يقول له فيه:«و قد يرى الشاهد ما لا يرى الغائب»،فقال له الرجل العمر تقول هذا؟بل هو و اللّه الشاهد،و أنت الغائب،يريد بذلك أن فهمه أحضره،و معرفته أكبر فهو أمثل لذلك من حالك،و إن كنت حاضرا،فأمّا القطع على أنّه لا بد من بلاء الشهداء و تقطّع أوصالهم،فإنّه لا طريق إليه، بل الروايات بخلاف ذلك على ما يرويه أهل البصرة في طلحة بن عبيد اللّه، و أنّ عائشة بنته لما أخرجته من موضع النز و قد رأته في اليوم يشتكي ذلك و يخبر بتأذّيه فوقعت المسحاة على إصبع له فدمت.
ص: 739
و روى جابر بن عبد اللّه قال:«لما أراد معاوية أن يجري العين التي عند قبور الشهداء أمر مناديا فنادى في المدينة من كان له قتيل فيخرج إليه،قال جابر:فخرجنا إليهم فأخرجناهم رطابا ينثنون و أصابت المسحاة إصبع رجل منهم فانقطرت دما»فقال الحسن البصريّ و قد سمع ذلك:أ لا ينكر بعد هذا منكر؟ قالوا:و من الإحالة أيضا قوله: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185] و في الناس خلق يقتلون،و في الأنفس بهائم تذبح و المقتول ليس بميت و لا ذائق للموت،فيقال لهم:إن كان الأمر على ما ذكرتم/من أنّ المقتول لا موت فيه،فإنّما أراد بذلك كلّ نفس ماتت حتف أنفها و لم تقتل فيكون قولا مخصوصا و بمثابة قوله: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ،و كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38]،و لم يرد أنفس الأطفال و البهائم و المتنقصين فزال ما ظننتم.
و الصحيح أن المقتول ميت و أنّ اللّه يميته،و يرفع بالموت ما فيه من الحياة،لأنّه مع نقض البنية محتمل الحياة و الموت و لا يجوز ارتفاع الموت إلا بضدّه من الحياة و إلاّ آل ذلك إلى جواز تعرّي الجواهر من جميع المتضادات من الأكوان و غيرها من الأعراض،و ذلك باطل محال لما قدمناه في غير هذا الكتاب،و قد يجوز أن يقول قائل أراد بذكر ذوق الموت مفارقة الحياة،فعبّر عن ذلك بذكر الموت كما يجوز بقوله ذائقة الموت،و الموت لا يذاق و لا يجوز ذلك عليه،و لكنه هو من مجاز الكلام فسقط ما قالوه.
قالوا:و مما ورد و لا معنى له قوله عز و جل: وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً [النساء:57]،و الظل لا يكون إلا ظليلا،و هذا باطل لأنّ من الظلّ ما هو ظلّ،تتخرّقه السماء ثم الرياح،و السّافي المؤذي فيكون ظلاّ و ليس بظليل،
ص: 740
و أراد و هو أعلم بقوله ظليلا أنّه ظلّ لا يتخرّقه شيء من ذلك و أنّ أهله على سلامة من جميعه.
و قالوا:و من الإحالة في الكلام قوله: *لا يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاّ مَنْ ظُلِمَ [النساء:148]فكأنّه يحبّ من المظلوم أن يجهر بالسوء، و هذا متناقض جدا-زعموا-فيقال لهم:ليس ذلك على ما توهّمتم،و معنى هذه اللفظة الذي هو لفظ الاستثناء لكن لا يحبّ اللّه الجهر بالسوء من القول و لكن من ظلم فله أن يخبر بظلم من ظلمه و دخول الضرر عليه،و لا يجب الكشف عن عورات الناس و زلاتهم و كثرة التتبع لهم و التحسّس عليهم.
و قال بعضهم:قوله إلا من ظلم فإنّه/يحلّ له أن يدعو اللّه على ظالمه و يستكفّه شرّه،و يرغب إليه في منعه من ظلمه،و قد قال قوم قوله:لا يحبّ اللّه الجهر بالسوء من القول كلام تام،ثم ابتدأ فقال:إلا من ظلم فإنّ له أن ينتصر و يمنع الظلم و يدفعه فبطل بذلك ما قالوه.
قالوا:و من هذا قوله تعالى أيضا: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء:159]،قالوا:و نحن نجد خلقا يموتون و لا يؤمنون به،فيقال لهم:إنّما عنى بقوله:قبل موته،قبل موت المسيح عليه السلام،و لم يرد أنّ كلّ من هو من أهل الكتاب يؤمن بالمسيح قبل موته أن يموت و تضرب عنقه،فإنّ من قتل و لم يؤمن به فقد مات و لم يؤمن،فليست الهاء راجعة على المكلّف من أهل الكتاب،و إنّما أراد أنّ أهل العصر الذي ينزل فيه عيسى من السماء من أهل الكتاب،يؤمنون به عند نزوله و يعرفون صدقه.
قالوا:و من هذا حكايته عن اليهود لعنهم اللّه أنّهم قالوا: نَحْنُ أَبْناءُ اللّهِ وَ أَحِبّاؤُهُ [المائدة:18]،و اليهود لم تقل ذلك،و لا ذهب إليه أحد من أسلافهم و لا أخلافهم.
ص: 741
و الجواب عن هذا أنّ المذكور في تأويل هذه الآية أنّ أسلافهم قالوا لنا قربة و محبة منه كقرب الولد من والده و محبّة الوالد لولده،و لم يقولوا إنّهم أبناء اللّه على مثل قول النصارى لعنهم اللّه في المسيح إنّه ابن اللّه و قنوم من أقانيمه،و قد يقول القائل:أنا ابنك و أخوك،أي:خبر لك و مكاني منك مكان أخيك و أبيك،و تقول:أنت ابني و ولدي أي:مكانك مني و لطيف منزلتك عندي و منّي كمنزلة ولدي و أقرب الناس إليّ،و مثل هذا غير منكر في مجاز الكلام،و إذا كان ذلك كذلك سقط ما تعلّقوا به.
قالوا:و من الإحالة الواردة في القرآن قوله: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ [المائدة:26]،قالوا و قد روي/أنّهم كانوا عسكرا كثيرا و محال في مستقرّ العادات و الضرورات أن يتيه العالم الكثير في قطعة من الأرض اتسعت أو ضاقت أربعين سنة لا يهتدون إلى الخروج منها.
فيقال لهم:خرق هذه العادة من آيات موسى عليه السلام و كان زمن خرق العادات،فإذا أراد اللّه تيههم و الانتقام منهم بذلك محى الآثار و أبطل العلامات و خالف بين الآراء و طمس على القلوب و ألقى في القلوب الشكوك في غير المحجّة،فتاه الخلق عند ذلك،و انخرقت بما يفعله العادة،و كان ذلك من حجج النّبوة فزال ما قلتم.
و قد تأول قوم الآية على أنّه لم يرد بالتيه أربعين سنة ضلالهم و ذهابهم عن الطرق،إنّما عنى بذلك،أنّه فرض عليهم الجولان في تلك الأرض أربعين سنة و حبسهم فيها و حرّم عليهم الخروج عنها عقوبة لهم على ما سلف من خلافهم و إجرامهم،فشبّه مقامهم و دورانهم في تلك الأرض أربعين سنة بحال الذين يتيهون في الأرض،و هذا إن صحّ الخبر عنه فليس ببعيد في التأويل،فبطل ما توهموه.
ص: 742
فأمّا قوله تعالى: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه:44]،و أمثال ذلك فليس بوارد على الإيجاب،و هو نظير قول الرجل لمن يخاطبه:كل من هذا الطعام لعلك تشبع،نحو قول السيّد لعبده:أطعني لعلك تسلم من ذمّي،و تنال ما تحبّ من جهتي،و هذا ترغيب منه،لو أراد الشكّ لم يكن من عنى في طاعته و لكنّ إدخال لعلّ في الكلام أرقّ و ألطف و أدعى إلى المراد و أجمع للهمّة على الطاعة.
و أمّا اعتراضهم على قوله: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذا دَعانِ [البقرة:186]، و قد يدعى فلان يجيب فإنّه باطل من وجوه أقربها:أنّه أراد بقوله:أجيب إن شئت أن أجيب،ففيه إضمار،و يمكن أن يكون/أراد أجيب إن كان في معلومي أنّي أجيب،و يحتمل أن يكون أراد بقوله:أجيب إن كانت إجابة المسألة مصلحة للسائل،فإذا لم يجبه علم أنّه لم تكن مصلحة له،و يكون قد شرط في إجابة الدّعاء أن تكون مصلحة للمكلف،فمن أجيب بذلك كان من مصالحه،و من لم يجب فليس ذلك بصلاح في دين و لا دنيا،و ليس يعترض هذا الجواب سؤال من قال لنا فهو لا بدّ أن يفعل الأصلح،سأل ذلك أم لم يسأله،لأنّ هذا قول القدرية،و يجوز عندنا أن لا يفعل بالعبد ما هو الأصلح له و يكون قد حكم أنّه لا يجيب دعوة داع إلا بأن تكون إجابته من مصالحه.
و يمكن أن يكون أراد:أجيب دعوة الداعي من قبيل دون قبيل و فريق دون فريق،و لم يرد جميع من يسمّى داعيا،و من يكون منه دعاء و إن اعترض في ذلك فلا نقض عليه بالعلم،لأنّ اللّه عز و جل لا بد أن يكون عالما بما يفعله،و لا بد أن يفعله،و ما لا يفعله و لا بدّ أن لا يفعله.و يقال لهم:فما معنى الدعاء إذا كان لا يفعل مع سبق العلم بأنّه لا يفعل و لا بد أن يفعل مع
ص: 743
سبقه بأن يفعل،سأل السائل أم لم يسأل،و لا جواب لهم عن ذلك،إلا نحو ما قلناه،و إذا كان الطاعن بذلك منجّما مثبتا لأحكام النجوم،قيل له،فما معنى السعي و الكدح من المنجّم،و الاضطراب في طلب الكسب و المعاش، و إذا كانت النجوم و الطوالع توجب حصول المطلوب،فلا بدّ من حصوله، و إن كانت لا توجبه فلا بدّ من عدمه،و عدم الانتفاع بتمنّيه و السعي له،و لا جواب عن ذلك.
و اعترضوا أيضا على قوله تعالى: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ [آل عمران:
18]،و قالوا:و ما معنى هذه الشهادة من اللّه عز و جل،و أي فائدة و حجّة فيها على التوحيد و هي شهادة منه لنفسه،و الجواب عن ذلك أنّ هذه الشهادة تنزيه منه لنفسه و تعظيم له سبحانه و تعالى عمّا يقول المشركون المتخذون معه إلها غيره.
و شيء/آخر و هو أنّه يجوز أن يكون معنى شهادته لنفسه بذلك هو ما أظهره من إتقان صنعه و عجيب تدبيره في كلّ حادث و إلزامه إمارة الصّنع و الالتجاء إلى صانع صنعه و مدبّر دبّره لتقوم دلالة أفعاله على وحدانيته مقام الشهادة بذلك،كما يقال:أفعال زيد تشهد بعدالته و تقاه،و أفعال فلان تشهد بفجوره و فسوقه،يعني بذلك أنّها تدلّ دلالة الشهادة عليه و له بذلك.
و معنى شهادة الملائكة و أولي العلم له بذلك،هو إيضاحهم لهذه الأدلّة و التنبيه عليها و الدعاء إلى النظر فيها،فيكون تنبيههم قائما مقام الشهادة به، فبطل ما ظنّوه.
قالوا:و مما لا معنى له،و من الإحالة في القول قوله تعالى في قصّة عيسى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران:55]،قالوا:و ما الفائدة في أن يرفع إليه أو إلى ملائكته ميتا،و كيف يرفعه إليه حيا أو ميتا و ليس هو في
ص: 744
مكان و لا تحويه الأقطار،فيقال لهم:هذا من المقدّم المؤخر فكأنّه قال:
إنّي رافعك إليّ و متوفّيك،و الواو لا توجب الترتيب،و إنّما توجب الجمع بين المذكورين،و قد قال قوم إنّه أراد برفعه رفع درجته و تعظيم شأنه و تبليغه المنزلة التي من بلغها عظمت منزلته.
قالوا:و قوله إليّ،أي:إلى موضع كرامتي و مواضع أوليائي و هو بمثابة قول إبراهيم: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي [الصافات:99]أي:إلى حيث أولياؤه و حيث يعبد و يذكر.
و قال أكثر الأمة:أراد بقوله: وَ رافِعُكَ إِلَيَّ أنّه رفعه إلى السماء حيا، و أنّه لا يموت حتى ينزل فيصلّي خلف المهدي،و يكون داعيا إلى شريعة نبيّنا عليه السلام و مؤكّدا لها غير داع إلى شريعته،فأمّا قوله:متوفّيك فقال أكثرهم:مميتك بعد رفعك و إنزالك من السماء،و قال قوم:متوفّيك بمعنى/ قبضتك إليّ لا بمعنى الموت،قالوا:و التوفّي القبض و لذلك قبل توفّي زيد إذا قبض،فبطل طعنهم بما ذكروه.
و قالوا:و من الإحالة في الكلام قوله عزّ و جلّ: وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هذا غافِلِينَ(172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَ كُنّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَ فَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [الأعراف:172-173]،قالوا:و ليس في العالم مكلّف و لا غير مكلّف يذكر أخذ مثل هذا الإقرار عليه،و إشهاد اللّه نفسه على ذلك،و لو كان ذلك حقا و أمرا مأخوذا عينا لوجب علمنا به و ذكرنا له، و هذا باطل من تعلّقهم من وجوه:
أحدها:أنّه لا يجب ذكرنا لأخذ الإقرار علينا،و إن كنّا إذ ذاك عالمين به،لأنّ اللّه سبحانه أنسانا ذلك فأذهب ذكره و حفظه عن قلوبنا و فعل من
ص: 745
ذلك ما شاء،و قد ينسى الإنسان أشياء كثيرة كان رآها و سمعها،و أمورا كانت منه و من غيره إذا تطاول بها الدهر،و إذا كان ذلك كذلك لم ينكر ما ذكره تعالى و أخبر به من أخذه الإقرار عليهم بالربوبيّة على أنّه لو كانت العادة جارية بأنّ مثل هذا لا ينسى في وقتنا و عادتنا لم يجب أن يكون مثله لا تنساه الذريّة،لأنّ العادة المتقررة في وقت من الأوقات لا يجب أن تكون مقرّرة مستمرة أبد الدهر و في سالفه،و لا يجب أن تكون العادة لقوم عادة لغيرهم إلا فيما ساوى اللّه فيه بين أحوال الناس على اختلافهم،و إذا كان ذلك كذلك لم يجب أن تكون عادة الذريّة أن لا ينسى ما كان من إقرارها و أخذه عليها و شهادة أنفسهم عليهم.
فإن قالوا:فأنتم خاصة تذهبون إلى أنّهم استخرجوا من ظهر آدم عليه السلام كأمثال الذرّ صغرا مستضعفين،و من هذه حاله لا يصحّ كمال عقله و تمام/فكرته و وقوع النظر منه،لأنّ العقل و النظر يحتاج إلى بنية و بلّة و ذاك متعذر في الذرّة،فبطل ما قلتم.
يقال لهم:العلم و الأقدار و الكلام و النظر،و الاستدلال لا يحتاج شيء منه و لا من غيره من الصفات إلى بنية و بلّة على ما بيّناه في غير هذا الكتاب، فبطل ما قالوه،على أنّه إن احتاج إلى ذلك فلا يمنع أن تبنى الذرّة و ما في قدرها بنية تحتمل العلم كما بنيت بنية تحتمل الحياة و الإدراك و الإحساس، و نحن نجد الذرّة و النمل و البعوض حيا مدركا ملهما لأمور ادّخار الأقوات و حفظها و إظهارها و نفي ما يزيل العفن و الفساد عنها إلى غير ذلك من عجيب أفعالها،فيجوز أيضا إكمال عقل الذرّة و ما هو أصغر منها.
فإن قالوا:فيجوز أن ينطق و يسأل و يجيب،قيل كل ذلك صحيح في المقدور،و إن لم تجريه عادة،فإن قالوا:فيجوز أن تقدر الذرّة على حمل
ص: 746
الجبال و الأرضين و السموات كما يجوز ما قلتم،يقال لهم:المحدثات بأسرها ما عظم جرمه و ما صغر من ملك و إنسان و شيطان لا يصحّ أن يفعل في المحمول حملا و أكوانا تتحرك و ترتفع بها،و إنّما يفعل الحمل في نفسه و هو حركاته و اعتماداته التي يفعل اللّه عندها ارتفاع الأجسام المرفوعة،و لو سكّن الخردلة عند اجتهاد جبريل في دفعها لم ترتفع،و لو رفع الجبال الثقال عند محاولة الطفل و البعوض لرفعها لارتفعت،و إذا كان ذلك كذلك بطل هذا التعجّب و وجب إثبات الخبر باستخراج الذّرة و أخذ الإقرار عليهم، و إكمال عقولهم و نظرهم.
و قد قال قوم:إنّهم إذ ذاك كانوا ملهمين و مضطرّين إلى المعرفة و الإقرار، و الأولى أن يكونوا مكتسبين لذلك؛لأنّ الكلام خارج مخرج الاحتجاج عليهم في الآخرة بما كان من إقرارهم و إشهادهم أنفسهم عليهم/،و قد قال سبحانه: شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هذا غافِلِينَ [الأعراف:
172]،فأخبر أنّهم يخبرون بغفلتهم عن ذلك و نسيانهم له و قال: وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الأعراف:172]،فالآية كلّها تدلّ و تشهد بما يذهب إليه أهل الحقّ و دهماء الأمّة.
فإن قالوا:فقد قال اللّه عز و جل: وَ اللّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً [النحل:78]،فإذا لم يعلموا و هم أطفال كاملوا البنية و الحواسّ كانوا عن العلم و الأمور و التوحيد إذا كانوا كالذرّ مستخرجين من صلب آدم أولى.
يقال لهم:لا حجّة فيما تعلّقتم به،لأنّه لا يمتنع أن يمنعهم من العلم إذا كانوا أطفالا و يعطيهم ذلك إذا كانوا كالذرّ،و قد أعطى اللّه عزّ و جلّ
ص: 747
عيسى بن مريم النطق و هو صبيّ ساعة ولد،و أعطى يحيى بن زكريا الحكم صبّيا،و إذا كان ذلك كذلك بطل ما اعترضوا به.
و قد قال قوم من مدّعي الأمّة إنّه ليس معنى الآية ما طعن به الملحدون و لا صحّ الحديث باستخراج الذّريّة،بل ظاهر الآية يوجب أخذ الإقرار من بني آدم في كلّ حين يبلغون فيه حدّ التكليف،لأنّه قال: وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ [الأعراف:172]،و لم يقل من آدم و قال من ظهورهم،و لم يقل من ظهره،و قال ذريّاتهم و لم يقل ذريّته،قالوا:فهذا يوجب أن يكون الإقرار مأخوذا على ذريّة آدم في كلّ حين(حين) (1)بلوغهم حدّ التكليف.
قالوا:و كذلك قال: أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ [الأعراف:173] و لم يقل أبونا،و كنّا ذريّة من بعدهم،يقول:إنّني لو أمتّهم أطفالا لقالوا:
إنّما أشرك آباؤنا و كنّا نحن أطفالا لم نبلغ حدّ التكليف و تلقّي الدعوة،فأراد اللّه تعالى الإخبار بأنّه بلّغهم حدّ من أشرك من آبائهم قبل شركهم،و إذا كان ذلك كذلك فقد زال طعن الملحدين عن أصحاب هذا الجواب.
و الجواب الأوّل هو الحقّ لأنّ اللّه تعالى قد أخبر عن الذّريّة/أنّها أقرّت بالرّبوبيّة،و قالت بلى،و نحن نعلم أنّ كثيرا من بني آدم المكلّفين لم يقولوا عند التكليف:بلى أنت ربنا،و لا أقرّوا بذلك،و أنّهم ماتوا و هم كفّار جاحدون مكذّبون فبطل الجواب الثاني.
فإن قالوا:لم يرد بقوله: قالُوا بَلى ،القول المسموع و كذلك قوله:
أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ ،ليس هو من القول المسموع و إنّما أراد أنّه ألزمهم آثار الصنعة و الحدوث و الالتجاء إلى صانع صنعهم فعبّر عن ذلك بقوله: أَ لَسْتُ.
ص: 748
بِرَبِّكُمْ يريد إلزامي لكم صفات المربوبين،و قوله:بلى،أي لم يمتنعوا من أمارات الحدث،و لم يستطيعوا الانفكاك منها فأقام لزومها لهم مقام قولهم لم يطيقوا و صدّقوا بلى،و قوله: وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ معناه ما أوجده في أنفسهم و أراهم إياه بعد النسيان و القوة من تغيّر الحالات و الزيادة و النقصان و الكبر و الهرم بعد الشباب و القوّة من الخبر إلى غير ذلك.
يقال لهم:كلّ هذا الذي قلتموه إن ساغ استعماله في اللغة فإنّه مجاز و اتّساع و ليس بحقيقة و لا وجه للعدول بالكلام عن ظاهره في إخباره عن قوله لهم و جوابهم ببلى بغير حجّة و لا دليل بل الواجب التمسّك بظاهر الكلام،فإن قيل:الذي يدلّ على ذلك استحالة نطق الذرّ و علمه فقد بيّنّا فساد ذلك بما يغني عن ردّه،فدعواهم لذلك باطل.
فإن قالوا:فقد قال من بني آدم و أنتم تقولون من آدم،يقال لهم:الخبر الثابت عن الرسول صلّى اللّه عليه أنّه استخرجها من آدم فيجب إثباته،و ذلك لا ينافي قوله من بني آدم،لأنّه استخرجها من آدم عليه السلام كما ورد به الخبر،ثم استخرج بعضهم من بعض،فاستخرج من المستخرج ذريّة،و من الذريّة ذريّة أخرى إلى آخرهم،و أحصاهم و عدّهم عدا،و إذا كان ذلك كذلك ثبت الاستخراج من صلب آدم بالخبر و الاستخراج/من الذريّة المستخرجة منه بالقرآن،و إذا كان ذلك كذلك بطل ما قالته القدريّة و ما تعلّقت به الملحدة و باللّه التوفيق.
قالوا:و مما لا معنى له أيضا قوله تعالى: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف:176]،قالوا:فأيّ فائدة في تمثيل الكافر بالكلب في هذا المعنى؟و ليس الأمر على ما توهّموه لأجل أنّ
ص: 749
اللّه عزّ و جلّ ضرب هذا المثل للكافر الذي إن وعظ و زجر نفر و كفر،و إن ترك أو رفق به استكبر و كفر فهو مع العظة و التذكرة ضالّ معرض،و مع الترك ضالّ معرض،و كذلك الكلب حاله تخالف سائر الحيوان لأنّ كلّ ما يلهث من الحيوان فإنّما يلهث لمرض و تعب و كلال و عارض يزول اللّهث بزواله،و الكلب يلهث في جميع حالته في صحّته و مرضه و راحته و كلاله و ريّه و عطشه،فلا مثال لمن ذكر اللّه حاله من الكفّار من جميع الحيوان إلا الكلب،و إذا كان ذلك كذلك سقط ما قالوه.
قالوا:و من هذا أيضا قوله تعالى: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَ لا ضَرًّا إِلاّ ما شاءَ اللّهُ وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَ ما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاّ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:188]،قالوا:فكيف أمره بأن يقول:قل لا أملك لنفسي نفعا و لا ضرّا إلا ما شاء اللّه،و هو يملك تصرّفه و جميع أفعاله، و يتصرّف فيها بإرادته و ما معنى قوله: وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ ،و قد استكثر من الخير من لا يعلم الغيب.
يقال لهم:ليس الأمر على ما توهّمتم لأنّ النبيّ عليه السلام و غيره لا يملك لنفسه نفعا و لا ضرّا،و إنّما مالك نفعه و ضرّه اللّه عزّ و جلّ الخالق لعين النفع و الضرّ القادر على إيجادهما،و الخلق لا يقدرون على ذلك و لا يتصرّفون فيما يريدون أو يكرهون إلا بأن يشاء اللّه تصرّفهم.
و في هذه الآية دلالة بيّنة واضحة على أنّ اللّه خالق أفعال عباده و ما يضرّهم/منها و ما ينفعهم،فإنّه مالك لها و قادر عليها و موجد لها إذا وجدت، و هي مقدورة له،لأنّ مالك الشيء و القادر عليه فاعل له إذا وجد مقدوره و مملوكه،و ليس يكون فاعلا لمقدوره إلا لوجوده فقط.
ص: 750
و أمّا التعلّق بقوله: وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَ ما مَسَّنِيَ السُّوءُ فمعناه-و اللّه أعلم-أنّني لو كنت أعلم الغيب لكنت إلها قديما، و القديم لا يناله السوء و لا يلحقه نقص و لا تغيير.و يمكن أن يكون أراد أنّني لو كنت أعلم الغيب لنجوت من الحوادث و النّوازل أو اعتددت لكلّ أمر عتاده و ما يدفعه و يزيله.
و يحتمل أيضا أن يكون أراد أنّني لو كنت أعلم أجلي و وقت موتي و قربه لأكثرت الطاعة للّه و الجهاد في سبيله،و إنّما أؤخّر بعض ذلك لإخفاء وقت أجلي،و ليس يمتنع أن يستكثر من الخير من لا يعلم الغيب على غلبة ظنّه و قوّة حدسه أو الاحتياط و التحرّر،و إن صحّ أن يستكثر من الخير من قد علم حاله و اطّلع على ما يكون منه فلا تناقض في هذا.
و قد قيل إنّ السوء المذكور هاهنا هو الخبال و الجنون،و منه قوله تعالى: إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ [هود:54]قيل:بخبال و جنون نسبوه إليه فكأنّه قال:لو كنت أعلم الغيب ما مسّني من المرض و النوم و الآفات المستغرقة القاطعة عن التمييز و ما يجري مجرى السوء الذي هو الخبال.
قالوا:و من هذا أيضا قوله: رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظّالِمِينَ [المؤمنون:94]،و كيف يجعله مع الظالمين و هو قد نهاه عن الظلم و عن الكون مع الظالمين،يقال لهم:قد بيّنا الكلام في هذا في باب خلق الأفعال و التعديل و التجويز بما يغني الناظر فيه،و قد يجوز أن يجعله اللّه مع الظالمين بأن يضلّه و لا يلطف له و يحرمه التوفيق،و ذلك عدل منه و صواب في حكمته،و إنّما أمره بأن يرغب إليه في التثبيت على الإيمان و أن لا/ يزيغ قلبه بجواز وقوع ذلك منه تعالى.
ص: 751
و لا وجه لجواب القدريّة عن هذا،فإنّه أقرّ له بالدّعاء ليزيد في ثوابه، لا أنّه يجوز أن يجعله مع الظالمين،لأنّ اللّه لا يأمر برغبة لا معنى عنها، و بأن نرغب إليه في أن لا يفعل ما إذا فعله به كان سفيها عند القدريّة،فإن كان رغب إليه في أن لا يضلّه و لا يخلق ضلاله فتلك عندهم رغبة باطلة، و إن كان يرغب إليه في أن لا يجازيه على ظلمه و أن يحكم بثوابه و لا يحكم بعقابه،فذلك أيضا سؤال باطل لا وجه له فبطل جواب القدريّة عن الآية.
قالوا:و من الأخبار الباطلة في القرآن قوله: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لا يَتَساءَلُونَ [المؤمنون:101]،و كيف لا يكون بينهم أنساب مع ثبوت أنسابهم،و كون بعضهم ابن بعض و أباه و أخاه و أمّه،و كيف لا يتساءلون مع قوله: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (1)[الصافات:50].
و قد قدّمنا الجواب عن هذا،و قلنا إنّهم لا يتساءلون تارة و يتساءلون أخرى،و يمكن أن يكون أراد لا يتساءلون ساعة النفخ في الصور و انتشارهم من القبور،فإذا نفخ فيه أخرى قاموا ينظرون،و أقبل بعضهم على بعضهم يتساءلون و قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا [يس:52]،و يسألون إذ ذاك عمّا هم فيه،و قد روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال لعائشة رضي اللّه عنها،و قد سألته عن هذه الآية«هي ثلاث مواطن يذهل الناس فيها:وقت إلقاء كتاب كلّ إنسان إليه،و وقت نصب الموازين و عند الجواز على جسر جهنّم» (2)،فهذه الثلاث مواطن لا معارف فيهنّ لأحد،و لا يتساءلون.).
ص: 752
فأمّا قوله: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يعني فلا يتعارفون في هذه المواطن أنسابهم،و على هذا دلّ قوله: يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمّا أَرْضَعَتْ [الحج:2]،و يحتمل أن يكون أراد بقوله: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ ،فلا أنساب بينهم نافعة لهم،و لا أنساب بينهم يتراحمون و يتعاطفون بها كتعاطف ذوي الأنساب/بعضهم على بعض في الدنيا،و إذا كان ذلك كذلك بطل ما توهّموه.
قالوا:و من هذا أيضا قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ [النور:
25]،و قد علم أنّ أكثر الأديان التي يوفّيها أهلها ليست بحقّ،و هذا أيضا باطل من توهّمهم،لأنّه لم يرد تعالى بالدين هاهنا الدينونة بالمذاهب و التديّن بالأقوال و إنّما أراد الحساب و الجزاء،من قولهم:كما تدين تدان، أي كما تفعل يفعل بك،و منه: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]،يعني يوم الجزاء و الحساب،و منه قوله: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللّهِ... (إلى قوله) ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [التوبة:36]أي:الحساب الصحيح،و في قوله:يوفّيهم اللّه دليل على ذلك،لأنّه إنّما يوفّى العالمين جزاء اكتسابهم من ثواب أو عقاب.
قالوا:و مما لا معنى له قوله تعالى: وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللّهَ رَمى [الأنفال:17]،و كيف يكون اللّه هو الرامي و الرسول لم يرم،و هو الرامي على الحقيقة،فيثبت الرمي لمن لم يكن منه و ينفيه عمّن وقع منه، يقال لهم:إنّما أراد بذلك-و اللّه أعلم-أنّني أنا المقدّر لك على الرمي و الموفّق لك فيه،و التبليغ برميك ما لم تظنّ أنّك تبلغه بها،فأضاف الرمي إلى نفسه على هذا التأويل،و نفاه عن نبيّه على معنى نفي إقداره لنفسه و توفيقه لها و بلوغه بالرّمية ما قيّضه اللّه من هزيمة العسكر يوم بدر،و ذلك أنّ النبيّ
ص: 753
صلّى اللّه عليه و سلّم حين حمي الوطيس في ذلك اليوم قبض قبضة من تراب و حثاه في وجوه المشركين و قال«شاهت الوجوه»فانهزم القوم بإذن اللّه،و لم يقدر النبيّ عليه السلام أن يبلّغ رميته تلك ما بلغ،و إنّ القوم ينهزمون و نظير هذا قول الرجل لغيره:ما أنت عملت ما عملت،و لا أنت كلّمتني و لقيتني بهذا،و إنّما فلان فعله بي،و أنا فعلته بنفسي إذا كان قد أرشد إلى ذلك و مكّن منه و أعان عليه، و مهّد أسبابه و إذا كان ذلك كذلك سقط ما توهّموه سقوطا/بيّنا ظاهرا.
قالوا:و ممّا ورد في القرآن من الإحالة قوله: وَ اللّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللّهُ ما يَشاءُ [النور:45]قال الملحدون:و في هذه الآية إحالة من وجوه.
أحدها:قوله أنّه خلق كلّ دابّة من ماء،و ليس الأمر كذلك لأنّ منها ما خلق من البيض و التراب دون النّظف و الماء الدافق،فبطل أن تكون كل دابّة من ماء.
و منها حصره مشي جميعها على بطنها أو على رجلين أو على أربع،و ليس الأمر كذلك،لأنّ فيها كثيرا يمشي على أكثر من أربع كالعنكبوت و كرخان الأذن و السرطان و غير ذلك فلا وجه لحصره المشي على قدر ما ذكره.
و منها أنّه لا فائدة في ذكر هذا و إعلامنا إيّاه لأنّنا قد علمنا أنّ الدوابّ تمشي كذلك،و أيّ فائدة في ذكره إلاّ الحشو به و التشاغل بما لا معنى له، قالوا على أنّه قال فمنهم،و هذا كناية عن العقلاء،و قوله:كلّ دابّة يدخل فيها ما يعقل و ما لا يعقل.
يقال لهم:جميع ما ذكرتم لا يوجب القدح في القرآن.فأمّا قوله: كُلَّ دَابَّةٍ ،فإنّ لفظة كل ليست موضوعة للاستغراق و العموم بل هي معرّضة للعموم و الخصوص،و كذلك جميع و سائر و أيّ و من،و كلّ لفظ يدّعي
ص: 754
القائلون بالعموم أنّه موضوع هو محتمل للعموم و الخصوص،و قد بيّنّا ذلك في أصول الفقه و غيره بما يغني الناظر فيه،فبطل تعلّقهم بالعموم و لو ثبت أيضا لجاز تخصيصه بدليل فإذا علمنا أنّ منه ما لم يخلق من ماء قلنا أراد بقوله كلّ دابّة ذكرها،و كلّ ما يمشي على بطنه أو على رجلين أو على أربع دون ما عدا ذلك،على أنّه لم يقل من ماء دافق،و إنّما قال من ماء،و كلّ دابّة مخلوقة مما فيه صور من البلّة و الرّطوبة،فإنّ الأصول عند كثير منهم الماء و الأرض و الهواء و النار هذه هي أصول الأشياء التي منها تنمو،أو إليها تنحلّ و تفسد فكلّ دابّة مركّبة/من أصل فيه بلّة و رطوبة و جزء من المائية فبطل ما قالوه.
فأمّا قولهم فمنهم فإن ابتدأ فقال كلّ دابّة و هو لفظ يصلح تناوله للناس و غيرهم،و يجب عند قوم تناوله لذلك،ثم فصّل و ذكر الناس منهم فقال منهم:فكنّى عنهم كناية العقلاء و قال على بطنه يريد الحيّة و ما يجري مجراها، و العرب تقول:لا يكون المشي(إلاّ) (1)لما له قوائم يمشي بها المعتمد عليها، و لكنّها مع ذلك إذا خلطت ما لا يمشي مع الماشي وصف الجميع بأنّه يمشي كما يقول:أكلت خبزا و لبنا،و الخبز هو الذي يقال أنّه يؤكل و اللّبن يشرب فيقولون أكلت خبزا و لبنا لجمعهم لهما في الذكر،و لا يقولون:أكلت لبنا فكذلك يقولون:الحيّة و الإنسان يمشيان و لا يقولون الحيّة تمشي و كذلك العرب تتبّر عمّا لا يعقل إذا ذكر مع العاقل في اللفظ الموضوع لما يعقل فيقولون:الرجل و إبله مقبلون،و لا يقولون ذلك في الإبل وحدها،و يقولون في الإنسان و غيره هذان مقبلان،و هذان الشخصان مقبلان،و لا يقولون ذلك في اثنين لا عاقل فيهما،و إذا كان ذلك كذلك بطل ما قالوه.ه.
ص: 755
فأمّا قولهم إنّه حصر مشي جميع الدواب على أربع و فيها ما يمشي على أكثر من ذلك،فإنه باطل لأنّه لم يحصر ذلك و لا قال لا شيء من الدوابّ، و إنّ كلّ الدوابّ تمشي على أربع،و إنّما قال فمنها من يمشي كذا،و منها من يمشي كذا،و منهم من يمشي كذا،و لا شكّ أنّ منهم من يمشي على ما ذكر فهذا لا ينقض أن يكون منهم من يمشي على أكثر من ذلك و لا كون من يمشي على أكثر من أربع قوائم ناقضا بمشي ما يمشي على أربع و أقلّ منها، و إذا كان ذلك كذلك بطل ما قالوه.
على أنّه قد قال كثير من الملحدين إنّ كلّ حيوان إذا سعى و مشى فإنّه لا يمشي إلا على أربع من قوائمه،و يكون معتمدا عليها في أربع جهات لا على أكثر منها،فإن كان ذلك/كما قالوه،فما يمشي حيوان و إن زادت قوائمه على أربع على أكثر من أربع منها،و بطل ما قالوه.
و أمّا قولهم فلا معنى لذكر ذلك إذا علم قبل خبره،فإنّه باطل لأنّ معنى ذلك إخبارهم بقدرته على إقدارهم على المشي مع اختلاف آلة المشي،و أنّه لو شاء أن يجعلها كلّها تمشي على بطونها أو على قوائم تعتمد عليها لفعل ذلك،فكأنّه يقول:انظروا أ فليس في الحيوان ما يمشي كذلك لجنسه أو إيجاب خلقته أو لصورته،و إنّما ذلك بتقدير العزيز العليم الذي يعطي القدرة على المشي على وجه واحد تقطع به المسافة مع اختلاف الآلة،و إذا كان ذلك كذلك بطل ما توهّموه.
قالوا:و من هذا أيضا قوله عزّ و جلّ: ما 1كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَ اللّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَ اللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(67)ه.
ص: 756
لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ(68) فَكُلُوا مِمّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَ اتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنفال:67-69]،قالوا:و في هذه الآية ضروب من الإحالة.
فمنها لومه للنبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم،و عتابه له على أخذه الفداء،و قوله إنّ ذلك ليس له منع قولكم بأنّه معصوم في الأداء عن اللّه و وضع الشرع و إخباره تعالى بأنّه مصطفىّ معصوم.
و منها تغليظ في العتاب له و لهم بقوله: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَ اللّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ،و هذا نصّ منه على عصيان رسوله و عصيان متّبعيه على رأيه،و إنّهم خالفوا بما صنعوا من ذلك حكمه و مراده،و اتّبعوا عرض الدنيا مؤثرين له على ثواب الآخرة.
و منها الزيادة في بيان اقترافه و إيّاهم الذنب في أخذ الفداء بقوله: لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ،و هذا تعظيم منه لشأن معصيتهم و قبح تجرّمهم.
و منها أنّه قال عقيب ذلك: فَكُلُوا مِمّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً ،قال:و كيف يأكلونه حلالا/طيّبا و هم قد خالفوا فيما أخذوه و عدلوا عن نصرة الدين إلى أخذ عرض من الدنيا يسير فشتّان بين الإخبار عن أكلهم له حلالا طيّبا و بين الإخبار عن قصدهم به تحصيل عرض الدنيا و الإعراض عن ثواب الآخرة، ليوافقه أمره في الإثخان في القتل،قالوا:و هذا كلّه متناقض جدّا.
فيقال لهم:لا تعلّق لكم في شيء مما ذكرتم.
فأمّا قول اللّه تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ فليس بعتاب للنبيّ صلّى اللّه عليه و اللّه أعلم،و لا لوم منه له على ذلك لخطأ
ص: 757
كان منه في أخذ الفداء،لأنّ الناس في أخذه الفداء و قتل من قتل،و منّه على من أطلق على أقاويل.
فمنهم من يقول كان قد نصّ له عليه السلام على التخيير بين القتل أو المنّ أو أخذ الفداء،و القائلون بهذا لا يسوّغ لهم القول بأنّه لم يكن له أخذ الفداء مع نصّه له عليه و منهم من يقول لم يكن عنده نصّ في ذلك و إنّما فعله باجتهاده و عضّده مشورة أبي بكر و من كان على مثل رأيه في المنّ و أخذ الفداء و هؤلاء على قسمين.
فمنهم من يقول إنّ الرسول لا يجوز عليه الخطأ في الاجتهاد،فكيف لا يكون له فعل ما أدّاه إليه الاجتهاد،و هو فرضه و صواب مقطوع عليه إذا فعله،و منهم من يقول يجوز على النبيّ صلّى اللّه عليه الخطأ في الاجتهاد غير أنّ المأثم عنه في ذلك موضوع،و فرضه الحكم بما أدّاه إليه الاجتهاد، و لا يجوز لقائل هذا أن يقول:إن لم يكن للنبي عليه السلام أخذ الفداء ممّن رأى أخذه منه،مع قوله:إنّ ذلك فرضه عليه السلام إذا رآه،و كان جهد ما عنده لأنّ ذلك تناقض من القول لا شبهة فيه على أحد،فعلم أنّه لا عتب على النبيّ عليه السلام في ذلك إن كان منصوصا له على جواز ما فعله و التخيير له بينه و بين غيره،أو كان ذلك بقياسه و جهد رأيه و إذا كان ذلك علم أنّه/ليس التأويل في الآية على ما توهّموه.
و قد زعم قوم من ضعفة المفسّرين و من الفقهاء و المتكلّمين أنّ النبي صلّى اللّه عليه إنّما عوتب لأنّه أخذ الفداء من غير تقدّم من اللّه عزّ و جلّ إليه في ذلك و لا أذن له فيه،لا من جهة نصّ له على التخيير في ذلك،و لا من جهة الاجتهاد المؤدّي إلى أنّ الواجب في الحكم أخذه،و إذا كان ذلك أنظر للأمّة و أبصر للدّين،و هذا القول خطأ من قائله،لأنّه غاية الطعن على
ص: 758
الرسول و القدح في عدالته،لأنّه إذا فعل من ذلك ما لم يأذن اللّه له فيه من جهة نصّ أو اجتهاد،فقد عصى اللّه بذلك،و تقدّم بين يديه و افتات في دين اللّه و حكم فيه بهواه و ذلك نقيض وصفه عزّ و جلّ له في قوله: وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى(3) إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى [النجم:3-4]،و إن جاز ذلك عليه لم نأمنه منه في جميع ما أدّاه و وضعه من الشرع.
و ليس يجوز لمسلم أن يقطع على تخطئة أدنى المؤمنين منزلة في قول أو فعل و هو يجد سبيلا إلى حمل ذلك منه على تأويل يخرجه عن الخطأ و العصيان،فضلا عن الرسول عليه السلام و نحن نجد للآية من التأويل ما يوجب نفي ما قالوه عن الرسول عليه السلام،و على كلّ حال فلا بدّ من أن يكون له في الأسرى حكم شرعي أو حكم عقليّ،فإن كان له حكم شرعيّ في ملّة الرسول عليه السلام فلا يجوز أن يخفى ذلك عليه باتفاق.
و إن لم يكن له في ذلك حكم شرعيّ وجب تبقيتهم في أنفسهم و أموالهم على حكم العقل،فإمّا أن تكون أنفسهم في العقل و أموالهم مباحة أو محظورة،و كلّ ذلك لا يوصف بأنّه مباح و لا محظور،و لا بدّ أن يكون النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أعلم الناس به،و إن كان ذلك مباحا في العقل أو غير محظور فيه، و إن لم يوصف بإباحة و لا حظر لم يكن في أخذ الأموال منهم جرم،لأنّ حكم العقل الواجب التمسّك به إلى حين نقل السمع له إلى غيره،فلا عيب على فاعله،و إن كان ذلك/محظورا في العقل و لم يرد السمع على الرسول بإطلاقه و تغيير حكمه فقد ركب عليه السلام محظورا مخالفا لحكم اللّه و ذلك منتف عنه صلّى اللّه عليه و سلّم و إذا كان ذلك كذلك بطل قول من زعم أنّه فعل من ذلك ما لم يكن له بنصّ و لا اجتهاد.
ص: 759
و قد اعتذر قوم منهم في هذا بأن قالوا:ما فعله الرسول من أخذ الفداء ممن أخذه،كان هو الصواب عند اللّه و الأنظر للأمّة و الأقوى و الأصلح في باب الدّين،و لكن إنّما عاتبه لأنّه فعل الذي هو الأصلح و الأولى من غير أن يأمر اللّه به،فلامه و عنّفه على ذلك لفعله قبل أمره،و إن كان لو أمره لم يأمره إلا بذلك بعينه.
قالوا:و على هذا نجد كثيرا من السّادة يلومون من تحت طاعتهم على فعل الأصلح و الأصوب الذي لو أمروهم لم يأمروهم إلا به،لأجل فعلهم له بغير إذن منهم،و هذا الاعتذار غير مخلّص لهم مما ألزمناهم و إن كان ما فعله النبيّ هو الأنظر للدّين و المسلمين،لأنّه لا بدّ إذا لم يكن أمره به من أن يكون قد نهاه عنه،و حظره عليه في عقل أو سمع،أو لا يكون ناهيا له عنه، و إن كان ناهيا له عنه،فقد أخطأ و اعتمد ترك الصواب،و مخالفة النهي، و هذا تصريح بالقدح فيه و الطعن في عدالته و أمانته حاشاه من ذلك،و إن كان غير ناه له عنه و لا محرّم لفعله في عقل و لا سمع فلا عيب عليه و لا وجه لقوله: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى و هو قد جعل له ذلك،و هذا ما لا مخرج لهم منه.
و قد احتجّ قوم بهذه الآية في إبطال الاجتهاد جملة،و احتجّ بها آخرون في إبطال اجتهاد النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و أنّه لم يكن مأمورا بذلك،و هذا الاحتجاج باطل من قولهم،و ذلك أنّه لا يخلو النبي صلّى اللّه عليه و سلّم من أن يكون اجتهد،أو لم يجتهد و إن كان لم يجتهد فلم يبطل اللّه اجتهادا له و لا لامه عليه و لا خطأه فيه،و إن كان قد/اجتهد و حكم برأيه،فقد أقرّوا أنّه كان مجتهدا.
فإن قالوا:كان مأمورا بالاجتهاد فقد أبطلوا قولهم،و إن كان منهيّا عن ذلك،و محظورا عليه الحكم به ففعل من هذا ما نهي عنه عاد بهم الأمر إلى
ص: 760
الطعن على الرسول و القدح في أمانته و الجرح لعدالته فبطل ما قالوه.و لو صحّ أنّ النّبيّ عليه السلام منهيّ عن الحكم بالاجتهاد،لم يدلّ ذلك على نهي الأمّة عن ذلك و منعهم منه،و أنّ أكثر القائسين يقولون إنّه كان محظورا عليه الاجتهاد،و إن كان مفروضا على الأمّة لعلل قد ذكرناها في أصول الفقه بما يغني الناظر فيها و في الاعتراض عليها.
و إذا كان ذلك كذلك بطل التعلّق بالآية في إبطال أمر النبيّ عليه السلام بالاجتهاد و أمر الأمة به و لو ثبت أنّ النبيّ عليه السلام أخطأ في اجتهاده في هذا الحكم-و حاشاه من ذلك-لم يوجب خطأه فيه أن يكون في الأصل منهيّا عن الاجتهاد،فهذا بعيد من المعتلّ به في إبطال القياس،ثم رجع بنا الكلام إلى تأويل الآية على وجه ينفي الخطأ و العصيان و العيب عن الرسول عليه السلام.
فإن قال الملحدون،أو بعض من ذكرناه من ضعفة المسلمين:فما معنى الآية عندكم؟قيل لهم:يحتمل-و اللّه أعلم-أن يكون أراد بقوله: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ،أي:لم يكن ذلك لنبيّ من قبلك،و إنما خصصناك أنت بذلك تخفيفا عن الأمة التي بعثت إليها و تكرمة لذلك بتمييز قومك و أهل عصرك بتحليل العفو عنهم،و أخذ الفداء منهم، فكأنّه قال ما كان لنبيّ غيرك فحذف ذكر الغير و ما يقوم مقامه لكونه مما يفهم و يعلم من حال الرسول.
و يحتمل أيضا أن يكون أراد ما كان لنبيّ أن يفعل ذلك،إذا كان الإثخان في القتل هو الأحوط في باب نصرة الدّين،و الأصلح الأنظر للمسلمين،و لم يقل إنّ ذلك ليس لنبيّ على الإطلاق،و لكن بهذه الشريطة،/لأنّ كلّ نبيّ
ص: 761
مبعوث بما هو الأحوط للملّة في نظام أمر الشريعة،فكأنّه قال:ما كان لنبيّ أن يكون له أسرى و أخذ فداء دون القتل،و القتل عنده أحظّ،و ما فعلت من ذلك إلا الأحظّ الأصلح في باب الدين و هو أليق بالنبيّ صلّى اللّه عليه و غيره من النبيين،و يدلك على صحّة هذا التأويل أنّه قد يقوى المسلمين بأخذ الفداء،و أنّه قد أمّن عليه من أولئك الأسرى،و آمن خلق من نسلهم و ولدوا أنصارا للدين و المسلمين،و لا يجوز عند كثير من الأمّة أن يأمر اللّه بقتل من في المعلوم أنّه إن بقّاه آمن و أسلم،و نسل أذكياء طاهرين،و أنصارا للدين و المؤمنين،حتى خلطوا و ضاقوا ذرعا في جواب هذا السؤال لمّا طولبوا به.
فقالوا:كان الأصلح أن لا يقتل من أخذ منه الفداء،و لكن لم يجز للنبي عليه السلام أن يفعل هذا الأصلح الأصوب إلا بإذن اللّه،و حتى يكون هذا الذي يشرعه له و يأمره به،فيكون الأصلح للنبيّ أن لا يأخذ الفداء،و أن ينتهي عن أخذه حتى يأتيه أمر من اللّه عز و جل بذلك.
و هذا يؤول بهم إلى أنّ النبيّ عليه السلام قد كان فعل ما هو الأصلح الأصوب عند اللّه،و لكنّه فعله بغير أمره و تقدّم بذلك بين يديه،و هو لا يعلم ما الأصلح من ذلك عند اللّه،فإن كان قد نهاه عن أخذ الفداء بعقل أو سمع إلا بأن يأمره بأخذه،فأخذ بغير أمره فقد عصا و اعتمد الخطأ و حاشاه من ذلك،و إن كان لم ينهه عنه فلا معنى لقولهم ليس له فعل ذلك حتى يأذن له فيه،و لغيرهم أن يقول لهم و ليس له الامتناع من أخذه،و إن كان ذلك الأضرّ في باب الدين،حتى يحظر اللّه عليه فعل ذلك،حتى يكون هو النّاهي له عنه و المنزل فيه و حيا،و هذا جواب من قال منهم قد فعل الأصلح عنده من غير أن يأذن له فيه.
ص: 762
و قد تحتمل الآية أن يقولوا في جوابها و جواب هذه المطالبة/،إنّما أراد في الجملة أنّه ليس لنبيّ أن يكون له أسرى،و إن كان ذلك هو الأصلح عند اللّه،إلا بأذن اللّه دون أمره،و لم يخبر اللّه أنّ رسوله فعل من ذلك شيئا بغير أمره،و إنّما ذكر هذه الجملة فقط،فكلّ هذا يبين صحّة التأويلين اللذين ذهبنا إليهما دون الحكم بتخطئة الرسول في نص أو اجتهاد.
فإن قالوا:فما معنى قوله: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَ اللّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ قيل لهم:أراد بذلك-و هو أعلم-إنّ منكم من أخذ ذلك تعجّلا لعرض الدنيا، و لم يقصد به نصرة الدين و الأحظّ للمؤمنين،و أنّه أخذه مع الغناء عنه،فإمّا أن تكون هذه صفة للرسول عليه السلام و أبي بكر و علية المؤمنين الذين قالوا إنّ أخذه منهم فداء قوة للدين،و لعلّهم أن يؤمنوا فيكثروا المسلمين،فمعاذ اللّه أن يكون قصد من هذه سبيله ابتغاء عرض الدنيا،و أن يخلوا أمة و أهل عصر نبيّ و عسكر إمام و خليفة نبي و إمام من قوم تكون الدنيا عندهم و تعجيل أعراضها آثر من ثواب الآخرة،و يكونون إليها أميل،و اللّه سبحانه إنّما عاتب هذه الطبقة دون من عداها و هذا بيّن في سقوط ما قالوه.
ص: 763
فإن قالوا:فما وجه قوله: لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [الأنفال:68]قيل له:معنى ذلك أنه لو لا سبق حكمي و أمري بإطلاق أخذ الفداء لكم و تحليل أكل غنائم المشركين من محاربتكم،و أنني فرّقت في ذلك بينكم و بين من عداكم من الأمم السالفة،لنا لكم و مسّكم فيما أخذتم عذاب عظيم،لأنّه قد روي في السيرة و ذكر المفسرون أنّه لم تحلّ الغنائم لأمة نبيّ قبل نبينا عليه السلام و أمة قبل أمّتنا،و أنّهم كانوا إذا أخذوا الغنائم حازوها و لم يردّوها على المشركين،و لم ينتفعوا بها و لكن يحرّقونها بالنار،فأكرم اللّه هذه الأمة و زاد في تفضيله عليها،و التوسعة في أحوالها؛ لتحليله لها أخذ الغنائم/و الانتفاع بها في وجوه التصرف من الأكل و غيره، فهذا تأويل قوله: لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ،يعني سبق حكمه بإطلاق ذلك.
فأمّا قوله تعالى: فَكُلُوا مِمّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً [الأنفال:69]فهذا هو الدال على صحّة ما قلناه،من أنّني قد أحللت لكم ذلك بعد أن كنت حرمته على سائر الأمم قبلكم،فسلمتم بأخذه مع التحليل بسبق الكتاب به من العذاب،ثم أكّد تحليله و إطلاقه و بيان الفرق في ذلك بيننا و بين من سلف من الأمم بقوله تعالى: فَكُلُوا مِمّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً أي:لستم في أكله و لحوق مأثم بكم فيه كمن قبلكم،ممّن حرّمت ذلك عليه،و إذا كان ذلك كذلك بان سقوط قدحهم في القرآن بهذا الضرب من الاعتراض.
ص: 764
فإن قال قائل من الملحدة و القادحين في أخبار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و غيرهم من ضعفاء الأمة و مبتدعيها و الطاعنين على سلفها،فما معنى ما روي من قول النبي عليه السلام«لو نزل عذاب من السماء ما نجا منّا إلا عمر ابن الخطاب».
قيل له:أراد بذلك أنّه لم يكن ينجو إلا هو،و من كان على مثل رأيه و صدّق نبيّه في مناصحة الرسول و نصرة الدين،و الاحتياط على المسلمين، و إنّما خصّه بالذكر لما كان أظهر نفسه و إشهاره بالسيف،و سؤاله للرسول بأن يسلّم إلى كل رجل أقرب الناس إليه ليضرب عنقه،و قوله افعل يا رسول اللّه و اقطع شأفة الكفر،فهؤلاء الذين أخرجونا من مكة و فعلوا و فعلوا،فلما كان أكثرهم حرصا على ذلك،و إظهار القول فيه نسب أهل رأيه من الأمة إليه،فقال عند ذلك:لو نزل عذاب من السماء ما نجا منه أي من الأمة إلا من كان على مثل رأي عمر في منصاحته الدين ممن أشار بالقتل و استئصال شأفة الكفر،و ممن أشار بالمنّ و أخذ الفداء إذا كان ذلك هو الأصلح الأنظر للأمة،و ليسوا مطالبين بها/عند اللّه في هذا الباب،و إنما يطالب كلّ واحد منهم بأن يشير و يقول بما هو عنده الأحظّ للدين،سواء كان هو الأحظّ عند اللّه أم لا،و حرام على من الرأي عنده أخذ الفداء و المنّ أن يشير بالقتل، و حرام على من رأى الأحوط للدين و المؤمنين بالقتل أن يشير بأخذ الفداء و المنّ،لأنّ فرض كلّ واحد من المشيرين و أهل الرأي،خلاف فرض غيره إذا اختلفت عندهم الآراء و وجوه الصواب،و إن كانوا إذا اتفقوا على الرأي صار فرضهم واحدا كمشاهدي القبلة و الذين يغلب على ظنّهم كونها في جهة واحدة في تساوي فرضهم و وجوب اختلاف فرائض من اختلف في اجتهاداتهم و آرائهم في جهة القبلة.
ص: 765
فإذا كان ذلك كذلك بأن الرسول عليه السلام لم يرد بهذا القول إن ثبت جميع الأمة،و هو منهم كانوا مستوجبين للعذاب لو نزل إلا عمر بن الخطاب، فهذا بعيد من الصواب،و لكنّه أراد عليه السلام أنّه هو و من كان على مثل رأيه هم الناجون.
فإن قيل:و ما معنى نزول العذاب على قوم قد أشار كلّ واحد منهم بما عنده و ما هو فرضه،و الأولى في الدين أن يشير به،فكلّهم إذا كانوا كذلك بمثابة عمر بن الخطاب،في رأيه و مشورته و أدائه بما أشار به لفرضه.
يقال لهم:لم يعن الرسول عليه السلام أحدا بذلك ممن ذكرتم،و كانت حاله في الاحتياط للدين و المسلمين كحال عمر بن الخطاب،لأنّهم كلّهم على ما ذكرتم بمنزلة واحدة في درجة من الحق و الصواب متساوية،و لكنّه علم عليه السلام أنّ فيهم قوما منافقين قصدهم بما يذكرونه من الرأي إضعاف الدين و توهين المسلمين،و منهم أيضا طبقة من المسلمين هم إلى جمع الأموال و تعجل عرض الدنيا أميل منهم إلى ثواب/الآخرة لعاجل النفع و مركب الميل و الطبع،فهم بذلك عصاة غير كفار،و إن كانوا ليسوا من أهل القوة و البصائر في الدين،و تحصيل وافر الحظ من ثواب اللّه عزّ و جلّ،فإذا كان ذلك عنده عليه السلام متقرّرا ساغ أن يقول مثل هذا القول في عمر و موافقته و طبقته تحذيرا من قلّة المناصحة في الدين و المثابرة عن نيل قطعة من الدنيا و فان حقير،و هذا بيّن واضح في إبطال ما تعلقوا به،و باللّه التأييد.
قالوا:و مما ورد من الإحالة في القرآن قوله عز و جل: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ [التوبة:
ص: 766
29]،فمن الإحالة في الآية أمره لهم بإعطاء الجزية و أمرنا بأخذها منهم، و إن كانوا يمتنعون بإعطائها من الإيمان به و يقيمون بها على الكفر؛فلا يخلوا إعطاؤهم الجزية من أن يكون طاعة للّه أو معصية له،فإن كان معصية له لأنّه طريق الامتناع من الإيمان و الاعتصام به مع المقام على الكفر،فكيف يأمرهم بما هو معصية له؟ و المعصية هي ما نهى عنه فهذا يوجب أن يكون أداء الجزية طاعة منهم من حيث أمروا به،و معصية من حيث امتنعوا به من الإيمان،و الإقرار بالرسول عليه السلام و هذا هو الاحالة،و إن كان أداء الجزية طاعة منهم و ليس بمعصية فكيف يكون طاعة لهم و هو ممتنع به من الإيمان به،هذا أيضا إحالة من القول.
قالوا:و كذلك إن كنّا نحن و الرسول مطيعين في أخذ الجزية منهم؛ وجب أن نكون مطيعين بأخذ ما يمتنعون به من الإيمان باللّه،و ذلك محال لأن الواجب علينا ترك(كلّما)يؤدي فعله إلى الصدّ عن الإيمان به.
قالوا:و من/الإحالة في الآية أيضا قوله تعالى في أهل الكتاب أنهم:
لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ،و ليست هذه صفة أهل الكتاب،لأنّهم يؤمنون باللّه و بالثواب و العقاب و اليوم الآخر،فهذا-زعموا-تقوّل عليهم و وصف لهم بغير صفتهم.
فيقال لهم:لا تعلّق لكم في شيء مما وصفتم و ذكرتم،فأمّا قولكم إنّهم مأمورون بدفع الجزية إلينا فإنه باطل،لأنّهم مأمورون بفعل الإيمان باللّه و رسوله و بترك ما يمتنعون به من ذلك،فإن كانوا يمتنعون بأداء الجزية من الإيمان فهم مأمورون بترك الأداء،و لكن ليس أداء الجزية مما يمتنعون به
ص: 767
من الإيمان باللّه و تصديق رسوله،و إنما يمتنعون به من قتلنا لهم و قتالنا إيّاهم، فإنما يأخذها منهم بدلا من قتلهم و قتالهم لا من الإيمان باللّه و برسوله،و لو آمنوا بهما لزال فرض قتالهم،و إذا زال فرضه لم يجز إثبات بدل منه يقوم مقامه،فبان بذلك أنّ الجزية ليست ببدل من إيمانهم.
و أما قولكم:إنّهم مأمورون بأدائها مع المقام على الكفر باللّه و برسوله، فإنّه أيضا كلام باطل محال،لأن الكافر لا علم له باللّه،و لا إيمان فيه به و قد أقمنا أوضح الدليل على ذلك في باب الكلام في الوعيد و الأسماء و الأحكام،و إذا ثبت ذلك،ثبت أنّ اللّه سبحانه لا يجوز أن يأمر الكافر به بأن يفعل طاعة لوجهه،من أداء جزية أو صدقة أو بر أو شيء من القرب مع المقام على الكفر به و الجحد له و لرسله،لأنّه لا يجوز وقوع طاعة من الكافر يصحّ أن يراد اللّه بها،و أن لا يراد بفعلها من المقام على الجهل،و الكافر كذلك عندنا غير مأمور مع المقام على جهله باللّه و كفره بشيء من القرب إلى اللّه عزّ و جلّ،و كيف يؤمر بالقرب إلى اللّه سبحانه و فعل طاعته لوجهه من/ يجحد اللّه و لا يعرفه؟! و اليهود و كلّ كافر باللّه و جاحد لنبوة بعض أنبيائه غير عارف باللّه و لا إيمان فيه به على ما بيّناه في غير هذا الكتاب،و إذا صحّ ذلك بطل أن يكون الكافر مأمورا مع المقام على كفره بشيء من القرب إلى اللّه عزّ و جلّ،و إنّما يؤمر الكافر بفعل الطاعة و العبادات بشريطة تقديمه فعل الإيمان باللّه،ثم التقرّب إليه بفعل الطاعة له،و قد علم أن أهل الكتاب لو آمنوا باللّه و برسوله لم يجب قتالهم و قتلهم و لم يلزمهم أداء الجزية إلينا،يكون بدلا من قتلهم و قتالهم،لأنّ ذلك محظورا علينا إذا آمنوا باللّه و برسوله؛فسقط بذلك ما ظنّوه من أمر الكافر بأداء الجزية.
ص: 768
و قد قال من خالف أهل الحق من القدرية:إنّ أهل الكتاب مأمورون بأداء الجزية إذا أقاموا على كفرهم و لم يؤمنوا باللّه و برسوله،و أنّهم لم يؤمروا بأدائها ليمتنعوا بها من الإيمان،و لكن يمتنعون به من قتلهم و قتالهم.
قالوا:و هم مطيعون للّه بهذا الفعل و ببر الوالدين و كثير من القرب،غير أنّهم غير مثابين على فعل هذه الطاعات في الآخرة لامتناعهم من الإيمان الذي بفعله يصلون إلى ثواب أعمالهم،و ذلك معرض لهم لو أرادوا الوصول إليه بأن يؤمنوا ليصلوا بذلك إلى ثواب طاعاتهم،فقدّر أصحاب هذا الجواب على أنّهم مأمورون بأداء الجزية و غير ذلك مما إذا فعلوه كانوا مطيعين به،غير أنّهم ليسوا بمثابين على طاعاتهم،فلا سؤال لهم عليه من حيث طعنوا.
و لكن يجب البيان للقدرية بأنّهم مخبّطون في قولهم على أصولهم الفاسدة بأنهم مأمورون بما لا ثواب لهم عليه،لأنّ ذلك جور على أصولهم،لأنّ الأمر بالطاعة و العبادة أمر بإدخال ضرر على النفس و ألم و كدّ مع المقام على/الجحد،فإن كان لا ثواب عليه و في تركه عقاب،فكان الكافر و الفاسق المصرّ عندهم مأمورين بفعل الطاعة للّه مع المقام على الكفر و الفسق،و معروف أنّهم غير مثابين على الضرر الداخل عليهم بفعل العبادة إذا فعلوها،و إنّ عليهم في ترك ذلك عقابا فهذا عندهم نفس الظلم و العدوان،و القول بجواز إدخال ألم و ضرر على المكلف،لا نفع له فيه في عاجل و لا آجل،و لا هو مستحقّ و لا مقصود به النفع،و هذا عندهم حدّ الظلم و حقيقته،فكأنّ الكافر و الفاسق إنما يجب أن يطيعا اللّه عز و جل خوفا من عقابه فقط،لا لرجاء ثوابه،و ليس بعادل و لا حكيم عندهم المطاع الذي هذه صفته،فهذا نقض لأصولهم بيّن.
ص: 769
فأمّا نحن فإنّنا مأمورون لا محالة بأخذ الجزية من أهل الكتاب بما أقاموا،على كفرهم و مطيعون بذلك،لأنّه مأخوذ علينا ذلك فيهم،سواء امتنعوا من أدائها إلينا من الإيمان،أو من قتلنا لهم و القتال،و لو قال لنا سبحانه صريحا خذوا الجزية ممن يمتنع بأخذكم لها من الإيمان بي؛لوجب أن نكون بأخذها طائعين،و إن كانوا هم بالمقام على أدائها و الامتناع من الإيمان عاصين،كما نكون نحن طائعين بطاعة الإمام إذا أمرنا بتنفيذ حكم يقول لنا قد علمت وجوبه،أو قامت البيّنة عندي به،و أنتم لا تعرفونها، و إن كان هو عاصيا بالأمر بإنفاذ الحكم إذا علم من جرح الشهود ما لم يعلمه،و كان غير عالم بما ادّعى العلم به،و كما يجب على المستفتي قبول قول المفتي،و إن كان المفتي له عاصيا بفتواه له بغير دين اللّه،و إن لم يفعل ذلك العامي،و إذا كان ذلك كذلك!لم يستحيل أن يكون فعل الشيء من غير المكلف معصية،و يكون اتّباعه عليه و الانقياد له منا طاعة و بطل بذلك كل ما قالوه في هذا/الفصل.
فأما قوله عزّ و جلّ في صفة أهل الكتاب بأنّهم لا يؤمنون باللّه و لا باليوم الآخر،فإنّه صحيح على أصول أهل الحق خاصة،لأنّهم كفار باللّه،و الكافر باللّه غير مؤمن به من وجه،و قول اللّه بأنّهم غير مؤمنين أصدق من إخبارهم عن أنفسهم بأنهم مؤمنين باللّه،و لو علم أنهم مؤمنون به لما قال إنهم كافرون به،لأنّ ذلك تحيّف لهم،و وصف بغير صفتهم،و لم يقل إنّ الجاحد لنبّوة الرسل يجب كونه كافرا باللّه و غير مؤمن به،لأجل إيجاب العقل ليضمن الجهل بالنبوّة لعدم العلم باللّه،و الإقرار بوجوده و قدمه و ربوبيته،لكن لأجل ورود السمع بأنّ جاحدها كافر باللّه،فصار جحد النبوة أحد الأعلام و الأدلة على كفر الجاحد لها باللّه،و بمثابة كون دخول الدار
ص: 770
علامة على الكفر و الإيمان إذا قال الرسول لا يدخل هذه الدار إلا مؤمن باللّه و برسوله،أو كافر باللّه و برسوله،لا لأجل تضمّن الأكوان التي هي دخول الدار لوجود الإيمان باللّه أو الكفر به على ما بيناه في غير أهل الكتاب،و كل مخبر من أهل الكتاب المظهر لليهودية و غيرها من الملل،إما أن يكون جاحدا بقلبه و مظهرا بلسانه ما ليس فيه أو يكون مخبرا عن اعتقاد موطن لوجود الباري و قدمه و توحيده،و تقليد منه في ذلك،و هو يظنّه علما، فيكون لذلك جاهلا باللّه و غير مؤمن به،و إذا كان ذلك كذلك بطل قولهم إنّ اليهوديّ مؤمن باللّه و اليوم الآخر،هذا جوابنا.
و قد أجاب قوم عن ذلك بأن قالوا إنما أراد بقوله في صفة اليهود و أهل الكتاب بعد قوله: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا [التوبة:28]،بأنهم لا يؤمنون باللّه أنّ أفعالهم،أفعال من لا يؤمن باللّه و يضاهون أفعالهم و طرائقهم،فيكون/ذلك على طريقة التشبيه لهم بمن لا يؤمن باللّه،لا على نفي الإيمان عنهم على التحقيق،كما يقول القائل:هذا الظالم الجبار لا يؤمن باللّه،أي:فعله و طريقته فعل من لا يؤمن باللّه على مذهب التشبيه.
و أجاب آخرون عن ذلك بأنهم قالوا:إنما عنى بقوله: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ الذين ابتدأ بذكرهم في قوله: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا ،فقال: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ،فحذف تكرار لفظة الذين،و قد يكرّر هذا اللفظ تارة و يستثقل تكراره أخرى،و يقتصر على ذكره دفعة واحدة على وجه الحذف و الاختصار و إذا كان ذلك كذلك بطل ما تعلّقوا به في هذه الآية من جميع الوجوه.
ص: 771
قالوا:و من الإحالة الواردة في القرآن في صفة اليهود قوله عزّ و جلّ:
وَ قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَ قالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ [التوبة:
30]،قالوا:و اليهود جميعا تنكر ذلك،و قد علم أن هذا ليس من دينها.
فيقال لهم:صيغة الظاهر لا توجب استغراق جميع اليهود،و قولهم كلّهم بذلك و تناوله لمن مضى منهم و من في الحال،و من هو آت بل هو قول محتمل للخصوص و العموم،و ظاهره أيضا مفيد لفعل ماض من قوم قالوا ذلك و سلفوا من اليهود،و ليس يخبر عمّن يأتي بعد النّبي عليه السلام من أهل عصرنا و غيرهم من أهل الأعصار،و إذا كان ذلك كذلك و كان اللّه عز و جل أصدق منهم و كان المؤدي لهذا القول عنه من قامت الحجة القاهرة بثبوت نبوته،وجب حمل الآية على أنّ طائفة منهم ممن سلف قال ذلك و اعتقده،أو رئيس من رؤسائهم وداع من دعاتهم،و قد ورد في الآثار عن بعض السلف أن الذي قال ذلك واحد منهم،هو المسمى فنحاص،و يجوز أن يكون/هو الذي ابتدأ القول بذلك و اتبعه عليه قوم منهم فقال:و قالت اليهود،و هو يريد البعض منهم،إما رئيس منهم أو طائفة منهم،و إذا كان ذلك كذلك بطل ما تعلّقوا به.
و أما قوله تعالى: وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء:82]،فإنما أراد-و هو أعلم-أنّهم كانوا يجدون فيه تنافيا و تناقضا كثيرا لا معنى له،و لا يسوغ و يجوز استعمال مثله في اللغة العربية و لو وجد نظمه مختلفا متنافيا من ضروب من أوزان كلام العرب،لا يخرج عما يعرفونه و لوجدوا فيه الثقيل الجزل الرصين،و الخفيف المستغثّ السخيف، كما يوجد ذلك أجمع في كلام جميع العرب من أهل النظم و النثر،و لم
ص: 772
يجدوه على حد واحد و نمط غير مختلف و لا متزايد في جزالة اللفظ، و حسن النظم و الفصاحة،و البراعة الخارقة للعادة.
و لم يعن بقوله: لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً اختلاف قراءته و اختلافا في تأويله و أحكامه الغامضة،فكيف يريد ذلك و هو تعالى قد أنزل القرآن على سبعة أحرف كلّها شاف كاف،و قد تظاهرت الأخبار بذلك عن الرسول عليه السلام و أنّه أقرأهم قراءات مختلفة و صوّبهم،فلم يقل له قائل منهم هذا اختلاف في التنزيل.
و لو كان الأمر على ما ادّعوه لم يذهب ذلك على الصحابة،و لم يجز في مستقر العادة إضرابهم عن ذكر هذه الموافقة،و كذلك لا يجوز أن يكون على اختلافه في الأحكام و التأويل،لأنّ ذلك لا يجعل القرآن نفسه مختلفا، و اللّه قال: لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ،و الاختلاف في تأويله غير الاختلاف في تنزيله و لا خلاف بين أهل اللغة أن التناقض و الكذب يسمى مختلفا و خلفا من القول،و لذلك يقولون فيمن اعتقدوا فيه الكذب حديثه مختلف، و قد اختلفت روايته و قوله في هذا،و هذا خلف من الكلام،و اللّه تعالى إنما نفى عن كلامه هذا/الاختلاف لأنّ ذلك يوجب أن يكون نفس كلامه مختلفا،و ليس الاختلاف في تأويل كلامه اختلافا فيه،لأنّ اللّه تعالى قد نصب الأدلة القاطعة على مراده بالمحتمل؛إما ببيانه في آية أخرى أو سنة ثابتة أو إجماع من الأمة،أو دليل عقل و خبر جلّ ثناؤه فيما احتمل أمورا كثيرة من الأحكام الشرعية نحو قوله: وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]،و قوله: أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ [البقرة:237]، و قوله: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ [النساء:43]،و أمثال ذلك.
ص: 773
و ليس يجب إذا اختلف العلماء في ذلك و خيّروا فيه،إذا استوت عندهم التأويلات،و خيّرت العامة في استفتاء من شاءوا منهم أن يكون ذلك مصيّرا لكتابه مختلفا،كما أنّه لا يجب إذا خير العلماء و العامة في الكفارات الثلاثة أن يصير حكمه مختلفا،فإذا كان ذلك كذلك ثبت أن التأويل في نفي الاختلاف ما قلناه دون ما ظنوه.
و قد يمكن أيضا أن يكون تعالى عنى بقوله: لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً عاريا من دليل قائم على صحيح ما اختلف فيه من فاسده،حتى يصير لعروّه من ذلك مشكلا ملبسا لا سبيل إلى معرفة المراد بتأويله و القصد به،و لم يرد نفي الاختلاف الذي قام الدليل على صحّة صحيحه و بطلان فاسده،فإذا كان ذلك كذلك زال ما تعلقوا به.
فأما قوله تعالى: تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ [الفيل:4]،و لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ [الذاريات:33] (1)،و قوله: قَوارِيرَا(15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً [الإنسان:15-16]فإننا قد أبنّا الجواب عنه و المراد به فيما سلف بما يغني عن رده.
فأما قوله تعالى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ [يونس:94]،مع قوله: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ [البقرة:285]،و الخطاب له عند كافة أهل التأويل،و المراد به أمته،و هذا مما يسوغ و يجوز في اللغة،و مثله قوله: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65]،الخطاب له و المقصد به غيره، على أنه قد يجوز أن يقول القائل لغيره في الأمر الذي يعلم أنه يحقه و يعرفه/ه.
ص: 774
يقينا فإن كنت في شكّ مما قد أخبرتك به و ريب مما قلته فسل فلانا،و سل غيري،و إنّما يورد ذلك على وجه التأكيد و التثبيت للعارف بما يقوله،لا على أنّه في الحقيقة شاكّ مرتاب في خبره،و كذلك قد يهدد المرء من يعلم أنه لا يخالفه و لا يعصيه و يقول له:إن عصيتني عاقبتك،إذا علم أنّ ذلك لطف له في التمسّك بطاعته و الانزجار عن معصيته و إذا علم أنّ سامعي توعّده يصلحون و يرهبون سماع ذلك الوعيد،و إذا كان ذلك كذلك زال تعلّقهم بالآية.
و أمّا قوله تعالى: تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ [النحل:89]،و ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ [الأنعام:38]،و قوله: هذا بَيانٌ لِلنّاسِ [آل عمران:138]،فلا منافاة بينه و بين قوله: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ [آل عمران:7]لأمور:
أحدها:أنّه يمكن أن يكون المراد بقوله تبيانا لكلّ شيء،و هذا بيان للناس على قول من وقف على قوله: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ [آل عمران:7]، و جعل قوله: وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7]واو استئناف،أنّه سبحانه ما فرّط فيه من شيء فرض على المكلّفين علمه و العمل به و المصير إلى موجبه، و جعلهم في حرج و مأثم في الجهل به،أو رعاهم و ندبهم على سبيل القصد إلى معرفته،و كذلك قوله: تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ و بَيانٌ لِلنّاسِ ،إنما أراد به أنّه لما ألزموه و كلفوه و أخذوا بمعرفته،و لم يرد تعالى أنه بيان لما لا نهاية له من معلوماته على وجه التفصيل،و لا أنّه بيان لجميع ما تعبّد به من شرائع من سلف من النبيين و مشتمل على شرح جميع سنن المتقدمين و أقاصيص الأولين.
و لذلك قال: وَ رُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ رُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [النساء:164]،و لا أراد أنه بيان لتأويل ما لا يعلم تأويله إلا اللّه
ص: 775
وحده،و بمعنى قوله: كهيعص [مريم:1]و غير ذلك من الحروف المقطعة في أوائل السور و غيرها من الكلمات التي لا يعلم معناها/إلا اللّه تعالى على قول من وقف عند قوله: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ قالوا:لأنّ القرآن خاصّ و عام،و كذلك قوله: تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ ،و ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ ،مخصوص فيما ألزم الناس معرفته دون ما أسقط اللّه عنهم فرض العمل به من المتشابه و هو بمثابة قوله: خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ [الرعد:16]، و يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ ءٍ [القصص:57]، وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ [النمل:
23]،و تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْ ءٍ [الأحقاف:25]،و كلّ ذلك على الخصوص،و إن كان واردا بلفظ العموم،و إذا ثبت هذا بطل ما تعلقوا به.
فأمّا نحن و كثير من أماثل أهل العلم،فإنّنا لا نعتقد أنّ للعموم صيغة تثبت له،و نقول إنه يجب التوقيف و التثبت في قوله: تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ ، و ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ ،و هل أراد به الخصوص أو العموم،لأنّه عندنا كلام محتمل للأمرين جميعا فلا مطالبة لهم علينا،و الذي نختاره و نذهب إليه في تأويل قوله: وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ أنّه ما اشتبه ظاهره،و احتمل تأويلات كثيرة مختلفة،و احتيج في معرفة المراد به إلى فحص و تأمّل،و ردّ له إلى ظاهر آخر و دليل عقل و ما يقوم مقام ذلك،مما يكشف المراد به، و إنّ ذلك مما يعلم اللّه تأويله،و يعلمه أيضا الراسخون في العلم،و أنّ اللّه سبحانه لم ينزل من كتابه شيئا لا يعرف تأويله،و لا طريق للعرب الذين أنزل عليهم،و لا لهم سبيل إلى العلم به،و لا يجوز أن يكلمهم بما هو سبيله مع قوله: إِنّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [الزخرف:3]،و قوله: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسانِ قَوْمِهِ [إبراهيم:4]،و قوله: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل:103]في نظائر هذه الآيات الدالة على
ص: 776
أنّه نزل بلسان العرب،و ما تعرفه و تعقله في عادة خطابها،و لا نقول بالوقف على قوله: إِلاَّ اللّهُ بل الواو عندنا في قوله: وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ و او نسق و عطف،و أن جميع ما روي عن بعض المفسرين و أهل اللغة أنه لا يعرف له تأويلا،فإنّه معروف المعنى و التأويل/عند غيره،و مما قد كشف اللّه سبحانه عن المراد بواضح أدلته،و بيّن براهينه،و إذا كان ذلك كذلك بطل توهّمهم أنّ اللّه سبحانه قد أنزل في كتابه ما لا يعرفه أهل اللغة و لا طريق للخلق جميعا إلى معرفة المراد به.
فإن قالوا:فلا معنى على هذا التأويل لقوله: وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ،لأنّ ما قد أوضح الدليل على المراد به و عرف به معناه فليس بمتشابه.
قيل لهم:ليس الأمر على ما ظننتم لأنّ ما عرف بالدليل إذا كان ظاهره محتملا لتأويلات مختلفة،فهو مشتبه على من أهمل و صدف بنفسه عن صحيح النظر،و على من نظر و اجتهد إلى أن يعلم و يعرف المراد به،و تزول الشبهة و الريب عن قلبه،و هو أيضا مشتبه على من ارتدّ عن دينه،و اعتقد الجهل و صحّة الشبهات بعد معرفته و صحيح نظره،لأنه إذا لم يكن طريق معرفة المراد بالمتشابه الضرورات و درك الحواس و تركيب الطباع و العادات، و لا صيغة للكلام بظاهره؛جاز أن يلحق الناس فيه ما وصفناه،و كلما كان الشيء المقصود بالآية ألطف و أغمض؛كانت معرفته أصعب و أبعد،و كان الاشتباه فيه أكثر،و كلّما قرّب كان أجلى و أظهر،و لو كان كلّ قول إلى معرفة المراد به سبيلا و طريقا غير متشابه،لم يجز على هذا أن يكون في كلام البلغاء و الشعراء أو الخطباء و العرب العاربة شيء متشابه،و لوجب أن تكون الخاصة و العامة في منزلة متساوية،و طبقة واحدة من معرفة اللغة، و إثبات المعاني،و غامض الإعراب،و معرفة غريب الشعر و الحديث،و كلام
ص: 777
الفصحاء و نوادر اللغة،إذا لم يكن في ذلك شيء مشتبه،و هذا جهل ممن صار إليه و حمل نفسه عليه.
و إذا كان الأمر على ما وصفناه و كان كلّ ما ذكرنا حاله من غريب الكلام و مشكل الألفاظ متشابها على من لم يعرفه،و على من عرفه قبل تحقّقه،و على من جهله و شكّ/فيه بعد العلم به،و إن كان الدليل على المراد به قائما منصوبا معرّضا لمن طلبه سقط ما قالوه،و وجب أن يكون ما هذه سبيله من كلام اللّه سبحانه متشابها و إن كان الدليل على المراد به منصوبا لائحا.
فإن قالوا:أ فليس قد قال كثير من أهل التفسير إنّ الوقف واجب على قوله إِلاَّ اللّهُ و أنكروا ما قلتموه.
قيل لهم:أجل،فقد غلط و وهم من قال ذلك لأنّهم لم يرووه عن اللّه تعالى و لا عن رسوله،و إنما صاروا إلى ذلك بتأويلهم و اجتهادهم و هم غير معصومين من الزلل.
فإن قالوا:فقد يجوز عندكم أن تكون الواو في قوله: وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ واو استئناف لوصف المؤمنين بأنّهم يؤمنون به،و يسلمونه من غير معرفة بالمراد به،و يجوز أن تكون واو نسق و اشتراك في الصفة.
قيل لهم:يجوز ذلك عندنا و عند سائر أهل اللغة و صحة الاستعمال، غير أنّ اللّه تعالى و رسوله عليه السلام قد دلاّ بما قدمنا ذكره عن الآي على أنّ اللّه سبحانه أنزل القرآن بلسان العرب،و ما تجد و تعتقد في خطابها، فلذلك جعلنا الواو هاهنا واو نسق و اشتراك.
فإن قالوا:كيف يسوغ لكم جعل الواو واو نسق،و أنتم إذا فعلتم ذلك (قطعتم الراسخون في العلم)عن أن يقولوا آمنا به،لأنه ليس في الكلام واو
ص: 778
نسق توجب للراسخين فعلين،و لو كان التأويل على ما ذكرتم لكان من حقه أن يقول:و ما يعلم تأويله إلا اللّه و الراسخون في العلم،و يقولون آمنا به حتى يوجب لهم الواو الأول نسقهم على اللّه سبحانه و الواو الثاني قولهم:
آمنّا به كلّ من عند ربنا،و إذا لم يفعل ذلك بطل ما قلتموه.
يقال لهم:لا يجب ما طالبتم به لأنّ أهل اللغة قالوا:إنّ يقولون هاهنا في معنى الحال و اسم الحال،و بمثابة قوله لو قال و الراسخون في العلم قائلون آمنا به لأنّهم يحلون الفعل المضارع محلّ الاسم من وجوه:
أحدها:إنّك تقول مررت برجل يأكل،و يقوم و يقول،فيحلّه محلّ قولك مررت برجل/قائم،و قائل هذا-زعموا-أحد وجوه المضارعة بين الاسم و الفعل،و يوضّح ذلك و يبيّنه أنهم يقولون:لا يأتيك إلا عبد اللّه زيد يقول:أنا مسرور بزيارتك،يعنون لا يأتيك إلا عبد اللّه زيد قائلا أنا مسرور بزيارتك،فجعلوا يقول بمنزلة قولهم:قائل مسرور.
قال الحميدي يرثي رجلا في قصيدة أولها:
أصرمت حبلك من أمامة بعد أيام برامه الريح تبكي شجوه و البرق يلمع في غمامه
يعني بذلك البرق لامعا في غمامة تبكي شجوه أيضا،لأنّه لو لم يرد أنّ البرق يبكي شجوه،كما أنّ الريح تبكي شجوه لكان هاذيا،و لكان قوله:
و البرق يلمع في غمامة كلاما متقطعا أجنبيا مما قاله،و لم يكن لذكر لمعان البرق معنى،لأنه لا تعلّق بين لمعان البرق و بكاء الريح شجوا من بكائه و كأنّه رجل،قال:و الريح تبكي شجوه و زيد راكب أتانته،و أيّ تعلّق بين بكاء الريح و ركوب زيد،فدلّ ذلك على أنّه أراد بقوله:و البرق يلمع في
ص: 779
غمامة أنه لامع في غمامة تبكي أيضا شجوه و لم يحتج أن يقول الريح تبكي شجوه و البرق يلمع في غمامه،و إذا كان ذلك كذلك بطلت هذه الشبهة، و صحّ أنّ التأويل على ما وصفناه.
و قد اختلف الناس في معنى وصف الخطاب بأنّه متشابه و محكم،فأمّا معنى وصفه بأنّه محكم فإنّه منصرف إلى معنيين:
أحدهما أن يكون ظاهرا مبيّنا عن المراد بنفسه و ظاهره،نحو قوله:
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّهِ [الفتح:29]، يا أَيُّهَا النَّبِيُّ [التحريم:1]، حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ [النساء:23]، وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً [الإسراء:32]و نحو ذلك.
و قد يوصف أنّه محكم على معنى إحكام النّظم و التأليف،و تضمنه للمعنى الصحيح من غير اختلاف و لا تناقض و لا غيره من معنى يصح أن يقصد بالخطاب إليه،و كذلك صار غريب حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و صحابته،و مشكل كلامهم و كلام البلغاء من الشعراء و الخطباء/و المترسلين محكما،و إن كان غامضا يحتاج إلى تفسير و تأويل.
فأما معنى وصف الخطاب بأنّه متشابه،فقد اختلف فيه،فقال قائلون:
المتشابه هو المنسوخ من الآية،و أن المحكم هو الناسخ،و قال آخرون:
المتشابه هو مثل قوله: الم الر ، كهيعص ، طسم ، حم، عسق و نحو ذلك من الحروف المقطعة في أوائل السور،و ما عدا ذلك فهو محكم بأسره.و قال قائلون:المحكم الذي يعرف المراد به من نفس ظاهره من غير تأويل و لا نظر و اجتهاد ورد له إلى غيره،و المتشابه:ما كان المراد به في تأويله دون لفظه،و المحكم تأويله هو تنزيله من غير صرف له عن ظاهره و تطلّب لمعناه،و قال آخرون:المتشابه ما اشتبه لفظه و اختلف معناه.
ص: 780
و الذي نختاره في ذلك أن المتشابه هو كلّ ما أشكل و التبس المراد به و احتيج في معرفة معناه إلى طلب التأويل،و سواء كان مشتبه اللفظ و إن اختلف معناه،أو كان لفظا غير مشبه للفظ آخر،غير أنّ المراد به لا يعرف و لا يوصل إليه من نفس ظاهره و فحواه و لحنه،و لكن بالتأمل و الاستخراج، و إنما سمي ما هذه سبيله متشابها لاشتباه معناه و اختلاطه و التباسه بغيره عند من لم يعرفه و لم يوف النظر حقّه.
و أصل المتشابه في الكلام أن يشبه اللفظ اللفظ في صيغته و صورته، و إن اختلف معناهما،و منه قوله: تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [البقرة:118]أي:
أشبه بعضها بعضا في الكفر و الإصرار و العتو،و منه قوله تعالى في ثمر الجنة: وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً [البقرة:25]،يعني في الصورة و اللون و الهيئة، و إن اختلفت الروائح و الطعوم،و منه قولهم:أشبه زيد عمرا في خلقته و حسن هديه و طرائقه،و قولهم:اشتبه عليّ الأمر إذا ألبس بغيره،و منه سمّيت الشّبهة المصوّرة للباطل بصورة الحق شبهة،و منه سمّي نصار الباطل،و أصحاب الحيل و النارنجيات أصحاب الشبه،/هذا أصل التشابه في اللغة،و قد يكون المشتبه من كتاب اللّه مشتبها بأن يتفق لفظه و صورته و يختلف معناه،و قد يكون بأن يغمض و يدقّ و يخفى معناه،فلا بدّ من تبيين الإمعان بالنظر،و البحث عنه،و ليس فيه إلا ما قد عرف أهل العلم تأويله، و المراد بحجّته و دليله و ليس في أهل التأويل من قال:إني لا أعرف معنى هذه الكلمة و الآية منه،بل قد فسّروا سائره و بيّنوه و كشفوا عنه،و كلّ ما يروى عن أحد منهم من السلف،و من بعدهم أنه لا يعرف معنى شيء منه، فإنّه لا معتبر به،لأنّه خبر واحد و يجب صرفه إلى أنه قد عرفه و فسّره بعد أن كان لا يعرفه،أو إلى أنّه هو وحده لا يعرف ذلك دون رسول اللّه و صحابته،
ص: 781
و الراسخون في العلم،و ليس يحفظ عن أحد منهم أنه قال:لست أعرف معنى هذه الكلمة و لا رسول اللّه،و لا أحد من علماء الأمة،و إذا كان ذلك كذلك بطل شغبهم و زال توهّمهم.
فأما قوله: الم ، الر ، حم ، عسق ، كهيعص ، و نحوه من الحروف المقطّعة في أوائل السور،فقد اختلف الناس في تأويلها،فقال بعضهم:إنها من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا اللّه سبحانه،و هذا باطل بما قدمناه من قبل،و من قال إن معناه معروف عند أهل العلم في ذلك أقاويل.
فقال بعضهم:هي أسماء السور و بمثابة الأسماء الأعلام الموضوعة للأشخاص.و قال آخرون:إنها أقسام أقسم اللّه بها لأجل تضمّنها لأجل ما سنصفه بعد ذكر الخلاف،و قال آخرون:هي حروف مأخوذة من أسماء اللّه تعالى و صفاته،و كلّ حرف منها كناية عن اسم هو منه.
و قال بعض من تكلّم في هذا الباب:هذه الحروف كناية عن حساب كحساب الجمّل،و أنّ كلّ حرف منها لقدر من عدد سنيّ بقاء أمة محمد صلّى اللّه عليه،و قال آخرون:معنى التكلّم بها و جعلها في أوائل السور/ أن قوم الرسول صلّى اللّه عليه كانوا يلغون في القرآن و لا يسمعون له و يصدّون عن سماعه و فهمه قصدا للطعن فيه و الصّدف عنه،فأراد اللّه أن يبدأهم بهذه الحروف المقطّعة،ليفرغوا لذلك و يصغوا إليه و يستكثروه و يطمعوا في أن يقول بعضهم لبعض اسمعوا ما يقوله و يهذي به،و إذا نصتوا له أقبل عليهم بالقرآن و والى حكم الكلام و فصيح الخطاب بعد ما صرفهم بالحروف المقطّعة عن اللغو و الإعراض.
ص: 782
و قال آخرون:إنه لا معنى لهذه الحروف أكثر من ابتداء الكلام بها و تقديمها أمامه،لأنّ ذلك من شأن العرب و عادتهم عند التكلم،لأنّها تبدأ بالحرف و الحرفين،فيقول القائل منهم:ألا إني ذاهب،إلى قائل لفلان كذا و كذا.
هذه جملة ما يعلم أنّه قيل في تأويلها،و ليس يخرج عن أن يكون بعض ما قيل في ذلك.
فأمّا من قال:إنها أسماء أعلام السور التي هي في أولها،فليس ببعيد لأن صاد و قاف و نون قد صارت أسماء أعلام لهذه السّور كزيد و عمرو،لأنّه قد علم من قول القائل:إني قرأت صاد أنه قرأ السورة إلى آخرها،التي هذه الحروف في أولها،و يجب على هذا أن يقال إن اللّه سبحانه قد أحدث في الشريعة أسماء لهذه السّور لم تكن من قبل أسماء لشيء في اللغة،و ليس هذا من تغيير الأسماء اللغوية في شيء،لأن تغيير الاسم عن وضع اللغة إنما هو نقله إلى غير ما وضع له،و هذه الحروف لم تكن في اللغة أسماء لأشياء،ثم صارت أسماء في الشريعة لغيرها،فلم يكن لذلك تغيير اللغة، و على أنّ في الناس من أجاز تغيير الأسماء اللغوية،و وضعها في الشريعة لإفادة ما لم تكن مفيدة في اللغة،و لا سؤال عليهم في ذلك.
فإن قيل:أو ليس قد وقع بعض هذه الحروف مشتركا نحو حم اللتين هما في أوائل الحواميم السبعة،فكيف يجوز أن تكون أعلاما؟ قيل لهم:إذا اتفق ذلك ضمّ إليها شيء تصير مع ذكره/مميزة لما بقي له،فيقال:قرأت حم السجدة،و حم المؤمن،و حم الأحقاف،و ذلك بمثابة الأسماء المشتركة التي تكون أعلاما مميزة مع ضمّها إلى نعوت أصحابها و صفاتهم و غير ذلك.
ص: 783
فأما من قال:معناها أنها أقسام أقسم اللّه سبحانه بها فإنه أيضا غير بعيد،و وجه القسم بها أمران:
أحدهما:تعظيم هذه الحروف و تفخيم شأنها،و إنّما عظّمها بالقسم لأنّها مبادئ كتبه المنزلة بالألسنة المختلفة و مبادئ أسمائه الحسنى و صفاته العلى،و أصول كلام الأمم التي بها يتفاهمون و يتخاطبون و يوحدون اللّه سبحانه،و يسبّحونه،و موقع الانتفاع بها عظيم خطير،و الجهل بها ضرر عظيم،فكأنّه أراد بهذا التأويل بحم عسق،أي و حروف المعجم لهو الكتاب لا ريب فيه،و حروف المعجم لهو كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه،و العرب قد تكني عن جميع الشيء بكلمة منه و تذكر بعضه، فيقول القائل:قرأت البقرة و الحمد،و أنشدت قفا نبك،يريد بذلك جميع السور و القصيدة،كما يقول القائل:تعلمت أ ب ت ث يريد جميع المعجم لا هذه الأربعة أحرف فقط.
قال الشاعر:
لما رأيت أمرها في حطّي و أزمعت في لددي و لطي
أخذت منها بفروق شمط و لم يرد حطي فقط،و إنّما كنّا بذكر حطي عن أبي جاد التي منها حطي، لأنّه قصد بذلك التمثيل لعودها إلى أول ما تكرهه،كتبدي الصبي بتعلم أبي جاد.
فأما قول من قال:إنها مأخوذة من أسماء اللّه و صفاته و كناية بكلّ حرف عن الاسم الذي هو فيه فليس بمستنكر أيضا،و قد روي عن عبد اللّه بن
ص: 784
عباس:«أنّه قال في كهيعص:إن الكاف من كاف و الهاء من هاد و الياء من حكيم و العين من عليم و الصاد من صادق» (1).
و العرب تستعمل الترخيم في كلامها،و يكنّى ببعض حروف الاسم و الفعل عن جميعها فيقولونك يا حار يريدون يا حارث،و يا صاح/يريدون يا صاحب،و يقولون عم صباحا أي:أنعم صباحا،و قال بعض القراء:
«و نادوا يا مال ليقض علينا ربك»،يعني:يا ملك،فرخّم،قالوا:و العرب تقول أمسك فلان عن فل يعنون عن فلان،و أنشدوا قول الشاعر:
فواطبا مكة من ورق الحمى يعني الحمام.
و قال آخر:
فقلت لها قفي فقالت قاف أي وقفت و أومأت بالقاف عن اسم الوقوف،و هذا في كلامهم أكثر من أن يحصى،و إذا جاز ذلك و ساغ في اللسان جاز أن يكنى اللّه تعالى بكل حرف من هذه الحروف عن اسم من أسمائه هو من جملته على وجه الحذف و الاختصار،فكأنّه قال:الكافي الهادي الحكيم العليم الصادق الذي أنزل عليك الكتاب،و قد يجوز أن يكون أقسم بالأسماء و الصفات التي هذه الحروف منها،فكأنّه قال:و العليم الحكيم و صاحب هذه الأسماء،لقد أنزل عليك الكتاب.).
ص: 785
فأما قول من قال:إنها حروف وضعت لحساب قدر بقاء الأمة فقد يجوز ذلك إذا أطلع اللّه نبيه عليه،أو بعض ملائكته بأن يعرّفه أن كلّ حرف منها لقدر من السنين كما قيل:ألف واحد و ياء اثنين،و كذلك في سائر حروف الجمل.
فأما قول من قال:إنها ابتدئت في أوائل السور ليروعهم سماعها و تنصرف هممهم إلى الإصغاء إليها،فليس ببعيد أيضا،لأنه يمكن أن يقصد ذلك،و لكن لا بدّ لها من معنى هو القسم بها أو بأسماء اللّه التي هي من جملتها أو توقيف على وضعها بحساب السنين،و إلا عريت من فائدة، و ليس يجوز أن يلهيهم عن لغوهم و صدفهم عن سماع القرآن بأصوات و أمور لا معنى لها.
و إذا كان الأمر في تأويل هذه الأحرف على ما وصفناه زال و بطل تعلّقهم بها و قولهم إنّه لا يعرف معناها و لا وجه للخطاب بها و ثبت بذلك أنّ جميع ما أنزله اللّه من محكم و متشابه معلوم معروف المعنى.
و قوله تعالى: وَ فاكِهَةً/وَ أَبًّا [عبس:31]إنّما أراد به الحشيش لأن أبّا اسم الحشيش على ما ذكر،و ليس من شيء ذكره اللّه تعالى إلا و معناه معروف و إليه سبيل،و إن جهله أهل التفسير و من لا إغراق له في البحث و التأمل.
فإن قالوا:فما الذي أراد بإنزال المتشابه؟قيل لهم:أراد بذلك امتحان عباده و اختبارهم و تفضيل الذين أوتوا العلم درجات،و أن ينفع بذلك من يعلم قوة يقينه و استبصاره بمعرفة المتشابه و أن يضلّ به و يضرّ من علم أنّه يصدف عن تأويله و يلحد فيه و يستبصر و يعمي عند إنزاله بصيرته و يصير
ص: 786
طريقا و سبيلا إلى تعلقه به،و إيثار الفتنة به و سوء التأويل فيه،كما وصفهم بذلك في ظاهر التنزيل،فلا سؤال علينا في ذلك و لا مطعن.
قالوا:و مما يدلّ أيضا على وقوع الخلل و التخليط في القرآن ما نجده فيها من الحشو للكلام الذي لا معنى له نحو ما فيه من قوله: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران:167]،و القول لا يكون إلا بالفم، و قوله: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ [البقرة:79]،و الكتابة لا تكون إلا باليد،و قوله: وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام:38]،و الطائر لا يطير إلا بجناحيه،و قوله: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46]،و قوله: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:26]و السقف لا يخرّ إلا من فوقهم،و قوله: فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ [الصافات:93]و لا معنى لذكر اليمين دون الشمال،و قوله: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ [البقرة:196]،و أغبى الناس و أقلهم ذهنا و بصيرة يعلم أن ثلاثة و سبعة عشرة،فلا معنى لهذا الكلام.
فيقال لهم:لا تعلّق لكم في شيء مما ذكرتم لأمرين:
أحدهما:أنّ العرب قد تكرر و تريد اللفظة التي معناها معنى ما قبلها للتوكيد،و تستجيز ذلك و تستحسنه في عادتها و صرف خطابها،و لذلك يقول القائل منهم:رأي عينيّ و سمع أذني،و كلمته من فمي،و سمعته من فيه، على وجه التأكيد للخبر،و كذلك قولهم:/عجّل عجّل،و قم قم،فإذا ساغ ذلك و جاز تكرار الكلمة لتوكيد،كان تكراره بلفظين مختلفين أحسن و أولى،و اللّه سبحانه إنما خاطب العرب على عادتها،و المألوف من خطابها،فسقط بذلك ما قلتم.
و الوجه الآخر:أنّ لكلّ شيء مما أوردتموه معنى زائدا صحيحا.
ص: 787
فأمّا قوله تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ فإنّما المراد به أنّهم قالوا ذلك بأنفسهم و أفواههم بغير إشارة و لا كتاب و لا مراسلة لأنّ القائل قد يقول:
قلت لزيد كذا و هو يعني أمرت من يقول له،و راسلته به،و كتبت بذلك إليه، و أشرت إشارة و رمزت رمزا،قال اللّه تعالى: آيَتُكَ أَلاّ تُكَلِّمَ النّاسَ«ثَلاثَةَ أَيّامٍ»إِلاّ رَمْزاً [آل عمران:41]،و قال الشاعر:
و قالت له العينان سمعا و طاعة و حدرتا كالدّر لما ينظم
و قال آخر:
و تخبرني العينان ما القلب كاتم فإذا قال له قلت له بفمي و لساني
زالت التأويلات.
و كذلك الجواب في قوله: يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ لأنّه أراد أنّهم تولّوا خطّه بأيديهم لا بواسطة و أمر منهم،و على وجه ما يقول القائل:كتب رسول اللّه إلى النجاشيّ،و كتب الخليفة إلى فلان،أي أمر بالكتاب إليه.
فأمّا قوله تعالى: وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ ،فإنّه أراد جنس الطيران دون السرعة في الأمر و القصد لأنّ القائل من العرب قد يقول لمن يأمره طر و أسرع في هذا الأمر،أي بادر،و يقول:طرت إلى فلان،أي أسرعت،فإذا قيل طار الشيء بجناحيه انصرف إلى جنس الطيران بالجناح الذي هو الأصل الذي يشبّه به السرعة في القصد و الأمر.
فأمّا قوله: وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ فإنما أورده تعالى على مذهبهم في قولهم نفسي التي بين جنبيّ،و نفسه لا تكون إلا بين جنبيه.
فأمّا قوله تعالى: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ ،فهو لأنّ السقف قد يخرّ عليهم من/تحتهم إذا كانوا في الغرف،و قد يقول القائل:خرّ عليّ في
ص: 788
بيتي سقف،و إن كان تحته،و قد يخرّ عليهم السقف أيضا و إن لم يكونوا تحته و لا فوقه،كما يقول القائل:خرّ علينا في الدار سقف،و إن لم يكونوا تحته و لا فوقه،و إنما يقصد الإخبار عن سقوط السقف فقط في ملكه و داره، أو قربه و جواره،فإذا قال:من فوقي أفاد أنّه كان تحته.
و أمّا قوله تعالى: فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ ،فإنّما ذكر اليمين لأنّه بها وقع دون الشمال،و قد يقع الضرب بالشمال كما يقع باليمين و لأنّ اليمين أكثر قوة و أشدّ تمكّنا و بطشا من الشمال.
قال الشماخ (1):
إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين
أي أخذها بقوة و بطش و تبسط في الكرم.
و أمّا قوله تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ [البقرة:196]ففيه وجوه:
أحدها:أن ذلك عادة العرب في كلامها و إكمالها للعدد الذي تفصله قال الشاعر (2):
تجمّعن من شتى ثلاث و أربع و واحدة حتى كملن ثمانياي.
ص: 789
و قال آخر:
ثلاث و اثنتان فهنّ خمس و سادسة تميل إلى ثمان
و لم يستهجن هذا أحد في تخاطب أهل اللسان و عادتهم،و كذلك حكم قوله: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ،و قوله تعالى: *وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [الأعراف:142].
و الوجه الآخر:أنه قال تلك عشرة كاملة،أخرج الواو هاهنا عن أن تكون بمعنى التخيير و بمثابة قوله أو سبعة إذا رجعتم،كما قال: مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ [النساء:3]يعني أو ثلاث أو رباع،فكان يجوز أن يظنّ ظانّ أو السبعة في الحضر بدل من صيام الثلاثة في السفر،و أنه للتخيير و بمعنى أو، فرفع سبحانه جواز ذلك و قطعه بقوله تلك عشرة كاملة.
و يحتمل أيضا أن يكون إنما أراد تلك عشرة كاملة،ليدلّ بذلك أنّ السبعة في الحضر/هي أيام أيضا،لأنه لو قال فصيام ثلاثة أيام في الحج و سبعة إذا رجعتم،و قال:أردت سبعة أشهر أو سبع سنين أو أسابيع لساغ ذلك،فلما قال:تلك عشرة كاملة دلّ بذكر العشرة و الكمال على أن السبعة أيام،لا يحسن أن يقال ثلاثة أيام و سبع سنين،أو سبعة أرطال عشرة كاملة، و إنما دخل ذكر التكميل في جنس المعدود.
و يحتمل أيضا قوله كاملة أنها كاملة الأجر و الثواب،و إذا كان ذلك كذلك سقط جميع ما يتعلقون به من هذا الجنس سقوطا بيّنا.
قالوا:و مما يدلّ أيضا على وقوع الفساد و التخليط من القوم في القرآن، و دخول الخلل في الكتاب ما نجده فيه من الكلام المنقطع عن تمامه و نظامه و المتصل بما ليس من معناه في شيء،نحو قوله في العنكبوت في قصة
ص: 790
إبراهيم عليه السلام و وعظه لقومه في قوله: اُعْبُدُوا اللّهَ وَ اتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(16) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَوْثاناً وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللّهِ الرِّزْقَ وَ اعْبُدُوهُ وَ اشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [العنكبوت:16-17]،و يجب أن يتصل بذلك:
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللّهُ مِنَ النّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت:24]فقطعوا تمام القصة و بتروها و وصلوا بقوله إليه ترجعون قصة محمّد صلّى اللّه عليه و ما يخرج عن قصة إبراهيم، و هو قوله: وَ إِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ(18) أَ وَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ(19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ(20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ يَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَ إِلَيْهِ تُقْلَبُونَ(21) وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ(22)/ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللّهِ وَ لِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [العنكبوت:18-23]،ثم أتبعوا ذلك بقوله: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ [العنكبوت:24]،و هذا تمام قول إبراهيم لهم:
فابتغوا عند اللّه الرزق،و اعبدوا و اشكروا له إليه ترجعون،و هذا زعموا تخليط ظاهر و بتر للكلام و قطع له عن صلته و خلطه بما ليس منه بسبيل.
فيقال لهم:ليس الأمر في هذا على ما توهمتم،و ذلك أن اللّه سبحانه هو الذي رتبه كذلك،و رسوله صلّى اللّه عليه على ما بيناه من قبل و ما سنوضّحه فيما بعد،فأما ظنّكم أن هذا بتر للكلام و إفساد له فإنّه جهل و ذهاب عن معرفة فضل الفصاحة و القدرة على التصرف في الكلام،لأنّ أهل اللغة يعدّون هذا الباب من ضروب الفصاحة و البلاغة و القدرة على
ص: 791
التبسط في الكلام،و الخروج عنه إلى نعت ما يعرض فيه و وصفه،ثم العود إليه على وجه غير مستهجن و لا مستثقل،و يصفون من صنع ذلك في خطبته و شعره بالاقتدار على الكلام.
و يسمّون هذا النمط في الشّعر الاستطراد،و معنى ذلك أن يكون في وصف شيء و نعته فيعرض عن ذكره إلى ذكر غيره الذي عرض ذكره فيما كان فيه،أو لم يعرض ثم يعود إلى صفة ما كان فيه و استيفاء ما قصده عن الإخبار عن معانيه بالكلام السهل و الرجوع المسلسل المتناسب،و يسمّونه الالتفات، و هو انصراف المتكلم عن المخاطبة إلى الإخبار و غير ذلك من الالتفات،و هو الخروج من معنى يكون فيه إلى معنى آخر،و ليس يقدر على مثل ذلك كلّ فصيح لسن حتى يكون ذلك مع فصاحته قادرا منبسطا في الكلام،لأنّ إتمام القصة و حكايتها إذا طالت ربما تعذّر نظمه على وجه الفصاحة و البراعة على أهل البلاغة و اللسن،و ربما احتاجوا في ذلك إلى تكلّف شديد مختلف فيه كلامهم،حتى يكون منه الجزل الرصين،و منه اللين الخفيف،و كيف/ بالخروج عن قصة إلى غيرها ثم العود إليها،لأنّ ذلك أشدّ و أصعب عند كل متكلم بلغة،و متعاط لنظم حكايات السير و القصص و ضروب الأمثال، و محاولة البلاغة في الكلام،و هذا النمط من الخروج عن كلام إلى غيره و ما ليس من معناه و لا مما قصد بافتتاح الكلام ثم العود إلى ما ابتدأ بالكلام فيه و قصد إليه كثير معروف،و من الاستطراد قول حسان بن ثابت (1)رحمه اللّه:).
ص: 792
إن كنت كاذبة التي حدثتني فنجوت،منجى الحارث بن هشام
ترك الأحبّة أن يقاتل عنهم و نجا برأس طميرة و لجام
و قد علم أنّ حسان لم يقصد بابتداء الكلام و التحذير من الكذب في الحديث إلى ذكر هرب الحارث بن هشام و فشله و تعييره به،و إنّما قصد شيئا غير ذلك،و إن كان قد أدخله في كلامه،و خرج به عما ابتدأ الكلام لأجله، و قال أبو تمام الطائي (1):
صبّ الفراق علينا صبّ من كثب عليه إسحاق بعد الروع منتقما
و قد عرف أيضا كلّ سامع لهذا الشعر أن الشاعر لم يقصد بابتداء الكلام الإخبار عن انتقام إسحاق ممن انتقم منه بعد ترويعه،و إنما قصد الإخبار عن صفة الفراق و شدته فقط،ثم خرج إلى الدعاء عليه بانتقام إسحاق،فخرج من معنى إلى غيره.
و قال البختري في صفة فرس كريم سهل الأخلاق:
سهل موارده و لو أوردته يوما خلائق حمدويه الأحول
و قد علم أن البحتري لم يقصد في هذا الكلام وصفه خلائق حمدويه و سجيّته،و إنما قصد غير ذلك،ثم عاد إلى ذكره.
و قال سريّ الرفّاء:
نزع الوشاة لها بسهم قطيعة يرمي بسهم البين من يرمي به).
ص: 793
ليت الزمان أصاب حبّ قلوبهم بفتى بن عبد اللّه أو بحرابه
بسلاح معتقل السلاح و إنّما يعتلّ بين طعانه و ضرابه
و قد علم أيضا أن الشاعر لم يقصد بما شرع فيه إلى وصف سلاح ابن عبد اللّه و اعتلاله،و ما لأجله يعتلّ من الضرب و الطعن،و إنما قصد إلى ذمّ الوشاة و ما حاولوه من الأمور الموجبة للضّرر و القطعية،و إن كان قد خرج بين ذلك إلى الدعاء عليهم بقتال ابن عبد اللّه و حرابه و بعث السلاح،و ما لم يبتدئ بالكلام لأجله،فأمّا الالتفات في الكلام الذي هو خروج من معنى كان فيه إلى معنى آخر ما على أن يعود إليه بعد ذكر ما يعرض و نعته،أو بأن يضرب عنه جملة،فإنّه كثير في كتاب اللّه و في كلام العرب و شعر الفصحاء، و أظهر من أن يحتاج معه إلى إغراق،قال اللّه تعالى: حَتّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [يونس:22]فعدل عن خطاب الحاضر إلى ما هو كناية عن الغائب،و سواء كنّى عن الحاضر الذي ابتدأ بخطابه أو غير الحاضر فقد خرج،و قال اللّه تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ(19) وَ ما ذلِكَ عَلَى اللّهِ بِعَزِيزٍ [إبراهيم:19]،ثم قال: وَ بَرَزُوا لِلّهِ جَمِيعاً [إبراهيم:21]و ذلك كثير.
و قال جرير في هذا المعنى:
متى كان الخيام بذي طلوع سقيت الغيث أيتها الخيام
أ ننسى يوم تصقل عارضيها بقرع بشامة سقي البشام
و لو لم يخرج من معنى إلى غيره لكان من حقه أن يقول:متى كان الخيام بذي طلوع أيتها الخيام،لأنّ هذا هو تمام ما ابتدأ به من الكلام فقط، فأمّا الدعاء للخيام بسقي الغيث،و وصف عارضي صاحبته و فرعها،فليس
ص: 794
مما ابتدئ الكلام لأجله،و شرع فيه بسبيل،غير أنّه اقتدار في البلاغة و حسن الفصاحة.
و قال أيضا الطائي:
و أنجدتم من بعد اتهام داركم فيا دمع أنجدي على ساكني نجد/
فخرج عن الإخبار بانتقالهم من نجد إلى تهامة،إلى التحزن و استدعاء الدمع،و قال أهل اللغة و من جنس البلاغة و التمكن من الخروج عن الشيء إلى غيره ثم العود إليه اعتراض الكلام في كلام لم يتم معناه ثم العود إليه.
و أنشدوا قول النابغة الجعدي:
أ لا زعمت بنو سعد بأنّي ألا كذبوا كبير السّن أنّي (1)
فاعترض في كلامه و خبّر أخبارا عنهم بأنهم كذبوا فخرج عن الإخبار عن قولهم قبل تمامه إلى الإخبار بكذبهم عليه،ثم عاد إلى تمام الإخبار عنهم،و إلا فقد كان يكفيه أن يقول:زعمت بنو سعد بأني كبير السّن أني.
و قال كثير عزة:
لو أنّ الباخلين و أنت منهم رأوك تعلّموا منك المطالا).
ص: 795
فأعرض في ذكر الإخبار بأنّ الباخلين لو رأوه لتعلّموا منه المطال إخباره بأنّه من جملة الباخلين،و لو لم يعرض ذلك لكان من حقه أن يقول:لو أنّ الباخلين رأوك لتعلموا منك المطالا.
و قال آخر:
ظلموا بيوم دع أخاك بمثله على مشرع يروي و لما يصرد
و لو لم يعرض في الكلام طلب ترك أخيه لمثله لقال:ظلموا بيوم على مشرع تروي و لما يصرد،و هذا أكثر من أن يتتبع.
قال أبو حية البحتري:
ألا حيّ من أجل الحبيب الغوانيا لبسن البلى مما لبسن اللياليا
ثم رجع بعد قوله لبسن بما لبسن اللياليا،أي تتميم ما شرع فيه.
و أكد من هذا أجمع و أبين قوله تعالى: ص وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص:1] ثم أضرب عن ذلك،و خرج منه إلى غيره،فقال: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَ شِقاقٍ [ص:2]فعدل عما بدأ بذكره إلى غيره اقتدارا على الكلام و البلاغة و إذا كان هذا أجمع و أمثاله ما قد عدّ في الفصاحة و البلاغة و القدرة على التبسّط في الكلام.
و كان ما خاطب اللّه سبحانه/به و رسوله عليه السّلام مما تعلّقوا به أقرب من كثير مما ذكرنا و أشبه و أشدّ تلاوة،إلا أنّه خرج من قصة رسول اللّه و حكاية كلام قومه إلى قصة رسول اللّه هو مخاطب له،و إلى تفنيد قومه من قريش على تكذيبهم و ردّهم،تثبيتا للنبي عليه السّلام و حثا له على الصبر و قوة العزم،و كلّ هذا مناسب،لأنّه قصّ على رسول اللّه قصة رسول قبله و خطابه لأمّته،ثم خرج من ذلك إلى أن ذكر قريشا في تكذيبهم لرسوله و تشبيه ذلك بتكذيب الأمم قبلهم و صبر أولي العزم من الرسل على ردّهم و مكارههم،ثم
ص: 796
خرج من ذلك إلى تنبيههم على آثار قدرته و شواهد ربوبيته،و حذّرهم عقابه، ثم عاد بأحسن الرجوع و النظم إلى إخبار رسوله بخوافي قوم إبراهيم،و كلّ هذا اقتدار على النظم لا خفاء به،و مما يتعذر على أكثر أهل العلم و الخطابة و النثر و لا يسهل و لا يتأتى إلا للقليل منهم،فمن توهّم إفساد الكلام به و إخراجه عن طريقة البلاغة و عادة أهل اللغة،فقد ظنّ عجزا و تقصيرا.
و كذلك الجواب عن كلّ ما خرج اللّه تعالى في قصة من حكايتها و ذكرها، إلى شيء غيرها،ثم عاد إلى تمامها و استيعابها،و لا تعلّق لهم بهذا و نحوه.
قالوا:و ما يدلّ أيضا على فساد كثير من المودع بين الدّفتين و تغييره و خروجه عن سنن الحكمة و جودنا فيه ما لا فائدة و لا غرض في ذكره و لا معنى له معقول يجري إلى إفادته نحو قوله: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف:176]و ما لهذا الكلام و المثل معنى يعرف،و نحو قوله: وَ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَ قَصْرٍ مَشِيدٍ [الحج:45]،و قوله:
*وَ تَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَ إِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ [الكهف:17]و لا فائدة تعرف في الإخبار عن تزاور الشمس عن كهفهم ذات اليمين و انقراضها ذات الشمال،و أمثال هذا ما يطول تتبعه، و قسمه بالتين/و الزيتون،و بمواقع النجوم و بالنفس و ما سواها و بالفجر، و غير ذلك مما لا معنى للقسم به.
فيقال لهم:ليس شيء مما تتعلقون به و تظنون أنه لا فائدة فيه إلاّ و فيه من الفوائد و ضروب الحكمة ما يبطل توهّمكم.
فأما قوله: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ،فإنّ اللّه سبحانه ضرب بذلك مثلا للكافر الذي لا يرجع و يرعوي و ينزجر إن وعظ و دعي إلى طاعة اللّه،و ذكّر بآلائه و نعمه،و إن ترك و لم
ص: 797
يوعظ فهو في ذلك كالكلب الذي يلهث عند التعب،و الإعياء و العطش، و يلهث في حال الراحة و الصحة و الشّبع و الريّ،و كلّ ما سواه من الحيوان إنّما يلهث عند الإعياء و المرض و العطش،فمثل الكافر في عدم انتفاعه بالعظة و تركها كالكلب الذي يلهث كيف تصرّفت به الحال.
و أما قوله: وَ تَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَ إِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ ،فإنّ المقصد به تعريف اللّه سبحانه إيّانا حسن اختياره لهم أصلح المواضع،و أنّه تعالى بوأهم كهفا في مغناة من الجبل مستقبلا بنات نعش،و أنها إذا طلعت تزاور عنهم يمينا و تستدبرهم في كهفهم طالعة و جارية و غاربة،و لا تصل إليهم و تدخل كهفهم فتؤذيهم بحرّها و سمومها،و تشحب ألوانهم و تبلي ثيابهم،و أنّهم مع ذلك كانوا في فجوة من الكهف و هو المتّسع منه،ينالهم فيه نسيم الريح و بردها و ينفي عنهم غمة الغار و كربه،فهذا هو الفائدة في ذكر طلوع الشمس و تزاورها،و الفجرة من الغار و ما في ذلك من حسن الصنيع و اللطف و الاختيار.
و أما قوله تعالى: وَ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَ قَصْرٍ مَشِيدٍ ،فإنّه أراد به تخويف الكافرين و عظتهم،و التنبيه لهم على انقراضهم و تعطيل مساكنهم و لحوقهم بالأمم قبلهم فيتعظون و يعتبرون بالنظر إلى آثار من كان قبلهم و خلوّ مساكنهم/ و انهدام قصورهم فيتعظون عند رؤيتهم لبيوت من سلف قبلهم خاوية قد سقطت على عروشها،و بئر كانت يشرب أهلها قد غار معينها،و عطّل غشاؤها،و العرب أبدا تبكي الآثار و تندب الديار و تصف الدّمن و الأطلال و تقول:يا دار أين ساكنوك و بانوك و عامروك،قال اللّه سبحانه: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا [النمل:52]،و قال: فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاّ قَلِيلاً [القصص:58]،و قال: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ
ص: 798
رِكْزاً [مريم:98]،و كل هذا وعظ و تحذير من اللّه سبحانه عذابه و نزول نقمه و مذكّرة العمل للدار الباقية،و قال الأسود بن يعفر:
جرت الرياح على محلّ ديارهم فكأنّهم كانوا على ميعاد
فأرى النعيم و كلّ ما يلها به يوما يصير إلى بلى و نفاد (1)
و ما ذكره اللّه تعالى أبلغ في الموعظة و أوجز و أبدع نظما و أجدر أن يلوذ به سامعه و يعمل لمعاده.
فأمّا قوله تعالى: وَ الشَّمْسِ وَ ضُحاها(1)... (إلى قوله) وَ نَفْسٍ وَ ما سَوّاها [الشمس:1-7]، وَ الْفَجْرِ(1) وَ لَيالٍ عَشْرٍ [الفجر:1-2]، وَ التِّينِ وَ الزَّيْتُونِ [التين:1]،و كلّ شيء أقسم بذكره فإنّما المراد به-و اللّه أعلم-القسم بخالقه تعالى و مقدره و النافع به و المحكم لعجيب صنعه و تدبيره،فحذف ذكر الخالق لذلك اقتصارا و اختصارا،و قد يمكن القسم بنفس الشيء العظيم النّفع به و لذلك أقسم بالتين و الزيتون،لأنّ الانتفاع بهما و بما يعتصر من زيت الزيتون كثير،و قد قيل إن التين و الزيتون جبلان:
أحدهما:الجوديّ الذي نزل عليه نوح،و الآخر جبل طور سيناء،و قيل غير ذلك من المواضع الشريفة،و قيل هما مسجد بيت المقدس و مسجد مكة، و قوله: وَ هذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ يعني مكة،و قد يجوز القسم بالمواضع الشريفة على وجه التعظيم،كما يجوز القسم باللّه تعالى،و ليس يقسم بالشيء إلا على وجه التعظيم/إما لكونه خالقا إلها أو لكونه رسولا له أو لعظم الانتفاع به أو لغير ذلك مما يوجب تعظيمه،و إذا كان ذلك كذلك بطل ما قالوه و باللّه التوفيق.).
ص: 799
قالوا:و مما يدلّ على فساد نظم القرآن و وقوع التخليط فيه كثرة ما فيه من تكرار القصة بعينها مرة بعد مرة و تكرار مثلها،و ما هو بمعناها و تكرار اللفظ و الكلمة بعينها مرات كثيرة متتابعة،و الإطالة بذلك،و ذلك-زعموا- عيّ و حشو للكلام بما لا معنى له و استعمال له على وجه قبيح ضعيف مستغيث في اللغة،قالوا:و إن لم يكن الأمر على ما وصفناه فخبرونا ما الفائدة بتكرار القصة الواحدة و القصص المتماثلة.
يقال لهم:ليس الأمر في ذلك على ما قدّرتم،و للتكرار فوائد نحن ذاكروها-إن شاء اللّه-فمنها أنّ اللّه سبحانه لما خاطب العرب بلسانها على وجه ما تستعملها في خطابها،و كانت تستجيز الإطالة و التكرار تارة إذا ظنوا أن ذلك أبلغ في مرادها و أنجع،و تقتصر على الاختصار أخرى في مواطن الاختصار،خاطبهم اللّه سبحانه على ما جرت عليه عادتهم،و العرب تقول:
عجّل عجّل و قم قم،فتقول:و اللّه لا أفعله،ثم و اللّه لا أفعله،إذا أرادت التوكيد و حسم الطمع في فعله،و تقول تارة:و اللّه أفعله بإسقاط لا فتختصر مرة و تطوّله أخرى،و يقول قائلهم:آمرك بالوفاء و أنهاك عن الغدر،و آمرك بطاعة اللّه و أنهاك عن معصيته،و الأمر بالوفاء نهي عن الغدر،و الأمر بطاعة اللّه نهي عن معصيته.
ص: 800
و قال الشاعر:
كم نعمة كانت لنا كم كم و كم
و قال آخر:
هلا سألت جموع كندة حين قوم ولّوا أين أينا
و قال عوف بن الجزع:
و كادت فزارة تصلّي بنا و أولى فزارة أولى فزارا/
و ذلك كثير لو تتبع،فعلى هذا الوجه من الكلام جاء قول اللّه تعالى:
أَوْلى لَكَ فَأَوْلى(34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى [القيامة:34-35]،و كَلاّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ(3) ثُمَّ كَلاّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ [التكاثر:3-4]،و قوله: وَ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ(17) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ [الانفطار:17-18]،و قوله: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً(5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الشرح:5-6]،على أنّه يحتمل أن يكون معنى قوله: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إنّ عسرا كان معه يسرا،ثم إنّ مع العسر يسرا عسرا آخر غير الأول.
و يحتمل قوله تعالى: كَلاّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ إذا حضرتم و عاينتم الملائكة، كَلاّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ(3) ثُمَّ كَلاّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ إذا حشرتم و حوسبتم، و رأيتم أهل الجنة و أهل النار فيكون ذلك في وقتين،و متعلقا بشيئين.
و وجه آخر في حسن التكرار من اللّه عز و جلّ،و هو أنّ في ذلك مرة بعد مرة من التثبيت لرسوله عليه السّلام و المؤمنين،و المواعظة و التخويف لهم و الرغبة في طاعة اللّه و الانزجار عن معصيته عند تكرار الكلام؛و إعادة القصص و ضرب الأمثال ما ليس في المرة الواحدة و لا شبهة على أحد في تعاظم النفع بتكرير الزجر و الوعظ و عظيم موقعه من النفس و توفيقه للقلب و التثبيت على طاعة اللّه،و الإذكار لجنته و ناره،قال اللّه سبحانه: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً [الفرقان:32]،فأخبر أنّ إنزاله أجزاء و نجوما و تكراره عليه في الأوقات المتراخية تثبيتا له و للمؤمنين لأنّهم إذا سمعوا ما أخبر اللّه سبحانه من إهلاكه العاصين و تنجيته المؤمنين كانوا أقرب إلى طاعته و أشدّ انزجارا عن معصيته.
ص: 801
و وجه آخر في حسن التكرار من اللّه عز و جلّ،و هو أنّ في ذلك مرة بعد مرة من التثبيت لرسوله عليه السّلام و المؤمنين،و المواعظة و التخويف لهم و الرغبة في طاعة اللّه و الانزجار عن معصيته عند تكرار الكلام؛و إعادة القصص و ضرب الأمثال ما ليس في المرة الواحدة و لا شبهة على أحد في تعاظم النفع بتكرير الزجر و الوعظ و عظيم موقعه من النفس و توفيقه للقلب و التثبيت على طاعة اللّه،و الإذكار لجنته و ناره،قال اللّه سبحانه: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً [الفرقان:32]،فأخبر أنّ إنزاله أجزاء و نجوما و تكراره عليه في الأوقات المتراخية تثبيتا له و للمؤمنين لأنّهم إذا سمعوا ما أخبر اللّه سبحانه من إهلاكه العاصين و تنجيته المؤمنين كانوا أقرب إلى طاعته و أشدّ انزجارا عن معصيته.
و وجه آخر في حسن ذلك،و هو أنّ اللّه سبحانه أنزل المتكرر في أوقات متغايرة،و أسباب مختلفة فحسن منه تكرار القصة للزجر و الموعظة،كما يحسن ذلك من الخطيب إذا خطب و تكلّم في/المحافل و يوم المجتمع، و دعى إلى حقن الدّماء و نصرة الجار،أو التطوّل و الإفضال،فقد يجوز و يحسن أن يكون في هذه المواقف إذا تغايرت و اختلفت أسبابه و خطبه و قيامه في الناس ببعض ما كان ذكره في غير ذلك الموقف،و إنما يستثقل و يستغث التكرار إذا كان في موقف واحد،و سبب واحد،و اللّه سبحانه إنما كرّر بعض القصص و الوعد و الوعيد في أوقات متغايرة و لأسباب مختلفة فحسن ذلك منه تعالى و ساغ على عادة أهل اللسان.
و وجه آخر أيضا يوجب حسن ذلك من القديم تعالى،و هو أنّ النبي عليه السّلام كان يحتاج إلى إنفاذ الرسل و الدعاة إلى النواحي و البلدان ليدعوا إلى الحق و إلى طاعة اللّه و ليقرءوا عليهم القرآن فأنزل اللّه سيرة نبي بعد نبي و قصة بعد قصة،و القصة واحدة بألفاظ مختلفة لتقرأ كلّ قصة على أهل ناحية،و لتقرأ القصة الواحدة بالألفاظ المختلفة على أهل الأطراف و النواحي المختلفة،و ربما علم أنّ سماع أهل النواحي المتغايرة القصة الواحدة يكون لطفا لهم في الانزجار و الانقياد إلى الإيمان فكرّرها و أنزلها بألفاظ مختلفة على قدر ما أراده تعالى و علمه من اللطف،ثم على سماعه لتلك القصة بالألفاظ المختلفة،و ربما كان لطف أهل الناحيتين و المصيرين
ص: 802
في استماع قصتين من قصص الرسل و الإخبار بنوعين من العقاب،و إن كانت سيرة النّبيّين مع قومهما سواء،و إذا كان ذلك كذلك ساغ و حسن منه تعالى تكرار القصص و القصة الواحدة على سبيل ما وصفناه.
و من الفوائد في تكرار القصة و القصص المتماثلة بالألفاظ المختلفة على الوزن الواحد،أنّه تعالى إنما كرّر ذلك لأن لا تقول قريش أو بعضها للنبي صلّى اللّه عليه كيف تتحدانا أن نأتي بمثل هذا الكلام الذي حكيت به قصة نوح و موسى و إبراهيم،و ليس له لفظ يحكى به و يورده من البحر/و الوزن الذي أوردته إلا اللفظ الذي بدأت به و سعيت إليه،فإن أوردناه بعينه، قلت:هذا نفس ما تلوته عليكم و تحدّيتكم بمثله،و إن طالبتنا بمحاولة لفظ غيره،فليس للقصة و المعنى الذي عبّرت عنه بهذا الوزن من الكلام لفظ غير الذي أوردته و سبقت إليه فكأنّك إذا تطالبنا بالمحال و هذه شبهة كما ترى، فأراد اللّه تعالى حسم أطماع العرب في التعلّق بذلك فكرر القصة الواحدة، و القصص المتماثلة و المعنى الواحد بألفاظ مختلفة من بحر واحد و على وزن واحد هو وزن القرآن الخارج عن جميع النظوم و الأوزان ليعلمهم اقتداره و عظم البلاغة في كلامه و يعرفهم عجزهم عن ذلك و يقطع به شعثهم و شبههم،و هذا من جيّد ما يعتمد عليه في فوائد التكرار.
فإن قالوا:فما الفائدة في تكرار: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [الكافرون:1] قيل لهم:قد ذكر في ذلك وجوه.
فمنها أنه أراد يأيها الكافرون لا أعبد الآن ما تعبدون،و لا أنتم الآن عابدون ما أعبد و لا أنا عابد ما عبدتم في المستقبل،و لا أنتم عابدون ما أعبد في المستقبل و إنما أنزلت السورة في قوم المعلوم عند اللّه من حالهم
ص: 803
أنّهم لا يؤمنون و لا يعبدون اللّه أبدا و إذا كان ذلك كذلك خرج الكلام على هذا التأويل عن أن يكون تكرارا.
و يحتمل أيضا أن يكون أراد لا أعبد ما تعبدون مع عبادتي اللّه بل أفرده بالعبادة وحده،و لا أنتم عابدون ما أعبد مع عبادتكم الأصنام و لا أنا عابد ما عبدتم مفردا لعبادته و لا قارنا بينها و بين عبادة اللّه تعالى و هذا أيضا يخرج الكلام عن التكرار.
و يحتمل أيضا أن يكونوا قالوا له:أعبد بعض آلهتنا حتى نعبد إلهك فقال:لا أعبد ما تعبدون و لا أسلّمه،و لا أنتم عابدون ما أعبد،يريد إن لم تؤمنوا حتى أعبد أنا بعض آلهتكم،و هذا أيضا يخرج الكلام من التكرار.
و يحتمل أيضا أن يكونوا قالوا له:أعبد آلهتنا يوما واحدا أو شهرا واحدا حتى نعبد إلهك يوما/أو شهرا أو حولا،فأنزل اللّه تعالى: وَ لا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ(4) وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ [الكافرون:4-5]،على شريطة أن تؤمنوا به في وقت و تشركوا به في وقت آخر،و هذا أيضا يزيل معنى التكرار.
و قد قيل أيضا إنّ قريشا أرادت النبي صلّى اللّه عليه و سلّم على عبادة آلهتها ليعبدوا ما يعبد و أنّهم كرّروا هذا القول و أبدوا و أعادوا به،فكرر اللّه سبحانه جوابه، و أبدى و أعاده لكي يقطع بذلك أطماعهم فيما أرادوه منه.
قالوا و هو تأويل قوله: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم:9]أي:تلين لهم فيلينون في أذاهم،و هذا أيضا فائدة أخرى في جنس التكرار في هذه السورة و ترداد الكلام فبطل تعلّقهم بهذا و إعظامهم الأمر فيه.
و إن قالوا فما معنى تكرار: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات:15]، و قوله: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:32]،و قوله في سورة الرحمن: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرحمن:13]،قيل لهم:فليس في هذا شيء من التكرار المستكره بل هو الفصاحة و ما عليه عادة أهل الخطاب.
ص: 804
و إن قالوا فما معنى تكرار: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات:15]، و قوله: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:32]،و قوله في سورة الرحمن: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرحمن:13]،قيل لهم:فليس في هذا شيء من التكرار المستكره بل هو الفصاحة و ما عليه عادة أهل الخطاب.
فأما قوله تعالى في المرسلات: فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ فهو:أنّه ذكر فيها تعالى أمرا بعد أمر من خلقهم و أهل الكفر و الطغيان من عباده خلفهم بسلفهم ثم قال عقيب كل شيء يذكره من ذلك فويل يومئذ للمكذبين بهذا الشيء الأول،الذي ذكرته،ثم ويل يومئذ للمكذبين بالشيء الثاني الذي ذكرته،فالويل الثاني غير الويل الأول و ربما كان لغير من له الويل الأول كأنّ المكذب بالويل الأول مما ذكره غير المكذب الثاني،لأنّه تعالى قال: أَ لَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ(16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ(17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ(18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات:16-19]بإهلاكنا الأولين و إلحاقنا بهم الآخرين،ثم قال: أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ(20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ(21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ(22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ(23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات:20-24]،ثم كذلك أخبر بالويل لمكذّب كل شيء عدّه و وصفه من نعمه و نقمه و وجوب/أفضاله و حكمه،فخرج ذلك عن أن يكون تكرارا لأنّ القائل قد يقول لغيره،أ لم ننعم عليك بإيوائك و أنت طريد،أ تكذب بهذا؟أ لم أهلك عدوك و أنصر وليّك و من نصرك، أ تكذّب بهذا؟و يقول:ويل لمن كفر نعمتي و ويل لمن جحد حقّي،و ويل لمن ظلمني و ويل لمن كذب عليّ،في أمثال ذلك مما لا يعدّه أحد من أهل اللسان عيّا و لا لكنا و إطالة و تكرارا.
و أمّا قوله تعالى في سورة القمر: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ فهو جار أيضا على هذه السبيل،لأنه تعالى عدّد فيها نعما و أفضالا و عقابا و انتقاما و أمورا متغايرة، ثم قال عقيب كل شيء من ذلك: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ يعني متّعظ و منزجر بهذا لأنّه قال تعالى: وَ حَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَ دُسُرٍ(13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ(14) وَ لَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:13-15]ثم قال: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ(16) وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:16-17]،و تيسير القرآن غير الآية و السفينة و الغرق،ثم قال في آخرها: وَ لَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:51]يعني أشياع أهل الكفر و الخلاف على النبي صلّى اللّه عليه و ذلك غير القصص الأولة فكانّه قال:فهل من مدّكر منكم بما كان من إهلاكي لمن كان قبلكم و أشياعكم.
ص: 805
و أمّا قوله تعالى في سورة القمر: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ فهو جار أيضا على هذه السبيل،لأنه تعالى عدّد فيها نعما و أفضالا و عقابا و انتقاما و أمورا متغايرة، ثم قال عقيب كل شيء من ذلك: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ يعني متّعظ و منزجر بهذا لأنّه قال تعالى: وَ حَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَ دُسُرٍ(13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ(14) وَ لَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:13-15]ثم قال: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ(16) وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:16-17]،و تيسير القرآن غير الآية و السفينة و الغرق،ثم قال في آخرها: وَ لَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:51]يعني أشياع أهل الكفر و الخلاف على النبي صلّى اللّه عليه و ذلك غير القصص الأولة فكانّه قال:فهل من مدّكر منكم بما كان من إهلاكي لمن كان قبلكم و أشياعكم.
فأمّا قوله في مواضع من هذه السورة: وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ،فإنّه تعالى إنّما قال ذلك لأنّه أودع في القرآن أقاصيص الأوّلين و سير المتقدمين،و ما كان من تفضّله على المؤمنين و إهلاكه للكافرين بضروب الهلاك و الانتقام،و قال عقيب كلّ قصة من تلك القصص،و لقد يسرنا لكم قراءة القرآن و حفظ القصص المتغايرة التي أودعناها فهل من مدّكر،و متعظ بتيسيرنا لذلك و سماعه و حفظه له.
و قد يقول القائل:لقد يسّرت/سبيل هذا الباب من العلم فاسلكه و اعرفه،ثم يقول في غيره أيضا:و لقد سهّلت لك هذا الباب الآخر من العلم فاضبطه و حصّله ثم كذلك شأن ما نبّه عليه و سهّل السبيل إليه،و كذلك لما أودع اللّه سبحانه كلّ شيء من القرآن و موعظة و قصة غير الأخرى جاز أن يقول:و لقد يسّرنا القرآن الذي فيه ذكر هذه القصة فهل من مدّكر بها،ثم يقول:و لقد يسّرنا أيضا القرآن الذي فيه ذكر القصة الثانية و الثالثة و ما بعدها فهل من مدّكر بذلك،و إذا كان هذا كذا لم يكن ذلك من المعنى و التكرار بسبيل.
و كذلك حكم قوله تعالى في النّمل: أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَ إِلهٌ مَعَ اللّهِ ثم قال: أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَ جَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَ جَعَلَ لَها رَواسِيَ وَ جَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَ إِلهٌ مَعَ اللّهِ [النمل:60-61]،يقول اللّه تعالى مع ذكر كل نعمة من نعمه و أنه من آثار قدرته و شواهد ربوبيته:هل مع اللّه إله يفعل ذلك أو يقدر،على وجه التنبيه لهم و الإذكار بنعمه و الدعاء إلى الاستدلال على وحدانيته،و ليس هذا و نحوه من العيّ و التكرار في شيء.
ص: 806
و كذلك حكم قوله تعالى في النّمل: أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَ إِلهٌ مَعَ اللّهِ ثم قال: أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَ جَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَ جَعَلَ لَها رَواسِيَ وَ جَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَ إِلهٌ مَعَ اللّهِ [النمل:60-61]،يقول اللّه تعالى مع ذكر كل نعمة من نعمه و أنه من آثار قدرته و شواهد ربوبيته:هل مع اللّه إله يفعل ذلك أو يقدر،على وجه التنبيه لهم و الإذكار بنعمه و الدعاء إلى الاستدلال على وحدانيته،و ليس هذا و نحوه من العيّ و التكرار في شيء.
فأمّا تكراره في سورة الرحمن: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فإنّه أيضا ليس بتكرار،لأنّه عدّد لهم ضروبا من الإنعام مختلفة،ثم قال للإنس و الجنّ عقيب ذكر نعمه،فبأيّ آلاء ربكما تكذّبان،أي بأيّ هذا تكذبان أم بهذا أم بهذا،فيدلّهم بذلك على كثرة نعمه عليهم،و أنه لا ينبغي أن يكفروا و يجحدوا شيئا من ذلك.
و قد تقول العرب لمن تنهاه عن البغي و الفساد في الأرض،أ تقتل فلانا و أنت تعلم براءة ساحته،و تقتل فلانا و أنت تعرف نسكه و دينه،و تقتل فلانا و أنت تعلم إجابة دعوته،و حسن قبوله في الناس،و لا يزال يعدد عليه أوصاف/من ينهاه عن قتله،و يعتقد انزجاره بذكر صفاته،و يكرر ذكر القتل و ليس ذلك بعي و لا تكرار من القول بل هو نفس تعبير البراعة،و حسن اللّسن،فسقط ما تعلّقوا به.
فإن قالوا:فإن اللّه تعالى قد كرّر في هذه السورة قوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ،عند ذكر ما ليس من النّعم و الإفضال في شيء،فقال: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ(43) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَ بَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ(44) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرحمن:43-45]،و قال: يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَ نُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ(35) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرحمن:35-36].
ص: 807
يقال لهم:إنّ ذكره للمؤمنين و إعلامه أيّامهم ما أعدّه لأهل الكفر من عذاب السعير و وصفه لجهنّم و شواظها و شرّها نعمة له على المؤمنين الذين علم أنّهم ينتفعون بهذا الوعظ و التحذير،و أنّهم ينهون بذلك عنه و يعرفون مراده و يخافون سطوته و عقابه و يرجون رحمته و ثوابه،لأنّ ذلك لطفا و داع إلى الطاعة و حسن الانقياد للّه المفضي لهم إلى الخلود في العيش السليم و النعيم الدائم المقيم فذكر الوعيد للمؤمنين و وصف جهنّم و حرّها و شدة نكالها من أعظم النعم على المؤمنين من الجن و الإنس،و إذا كان ذلك كذلك صحّ ما قلناه و اضمحلّ ما تعلقوا به.
فأما قوله تعالى: يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَ نَجْواهُمْ [التوبة:78]فليس بتكرار، لأنّه قيل إنّ السرّ ما أسرّوه في أنفسهم،و النّجوى ما أبدوه و تناجوا به بينهم، و لو كان السرّ هو النّجوى لجاز أن يذكره مكررا بلفظين معناهما واحد كما يقول القائل:آمرك ببر و الديك و أنهاك عن عقوقهم،و آمرك بالوفاء و أنهاك عن الغدر،و معنى اللفظين واحد،و لا تعلّق لهم في هذا أيضا،و هذه جمل تكشف عن نقض ما ذكرناه من مطاعنهم في كتاب اللّه عز و جل من جهة اللغة،و تنبّه على طريق الجواب عما أضربنا عن ذكره إن شاء اللّه تعالى.
انتهى المجلدة الأوّلة،يتلوه في المجلدة باب الكلام على من زعم من الرافضة أن القرآن قد نقص منه و لم يزد فيه شيء،و لا يجوز الزيادة فيه.
و باللّه التأييد و الحمد للّه ربّ العالمين و صلواته على سيدنا محمّد النبي و آله الطاهرين و سلامه.
و فرغ منه كاتبه حامدا اللّه تعالى و مصلّيا على رسوله محمّد و آله و صحابته و حسبنا اللّه و نعم الوكيل.
ص: 808
1-إتقان البرهان في علوم القرآن:أ.د.فضل حسن عباس،عمان،دار الفرقان،1997.
2-الإتقان في علوم القرآن:الحافظ جلال الدين عبد الرحمن السيوطي،تحقيق:محمد أبو الفضل إبراهيم،طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب،1974.
3-الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان:الأمير علاء الدين علي بن بلبان الفارسي، تحقيق:الأستاذ شعيب الأرناءوط،مؤسسة الرسالة،ط 1412،1 ه-1992 م.
4-أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم:شمس الدين أبو عبد اللّه محمد بن مفلح المقدسي، بيروت،مكتبة خياط،1906.
5-أسد الغابة في معرفة الصحابة:عز الدين ابن الأثير،أبو الحسن بن علي بن محمد الجزري،تحقيق و تعليق:علي محمد معوض،عادل أحمد عبد الموجود،بيروت، دار الكتب العلمية،1994.
6-الإصابة في تمييز الصحابة:ابن حجر العسقلاني،دار الكتب العلمية،بيروت،ط 1، 1416 ه-1966 م.
7-إعجاز القرآن:أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني،القاهرة،المكتبة السلفية،1930.
8-الأعلام:خير الدين الزركلي،دار العلم للملايين،ط 1992،10 م.
9-الباقلاني و آراؤه الكلامية:د.محمد رمضان عبد اللّه،مطبعة الأمة،بغداد،1986، توزيع وزارة الأوقاف،بغداد.
10-البداية و النهاية:ابن كثير،تحقيق:عبد الوهاب فتيح،دار الحديث،القاهرة،ط 1، 1413 ه-1992 م.
11-البرهان في علوم القرآن:الإمام بدر الدين محمد بن عبد اللّه الزركشي،طبعة دار المعرفة،بيروت،لبنان،تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.
12-تاريخ بغداد(أو مدينة السلام):لأبي بكر أحمد بن علي الخطيب،القاهرة،مكتبة الخانجي،1931 م.
13-تاريخ الحكماء:جمال الدين القفطي،مكتبة المثنى،بغداد،مؤسسة الخارجي،مصر.
14-تاريخ الطبري:تاريخ الرسل و الملوك،تحقيق:محمد أبو الفضل إبراهيم،القاهرة، دار المعارف،1996 م.
ص: 809
15-التاريخ الكبير:محمد بن إسماعيل البخاري،دار المعارف العثمانية،1942 م.
16-تاريخ دمشق:ابن عساكر،تحقيق:محيي الدين العموري،دار الفكر،1405 ه- 1985 م.
17-تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري:أبو القاسم علي بن الحسن هبة اللّه بن عساكر الدمشقي،تعليق العلامة محمد زاهد الكوثري،نشر حسام الدين القدسي،دمشق،1928 م.
18-تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:لأبي العلي محمد بن عبد الرحمن المباركفوري، تحقيق:عبد الوهاب عبد اللطيف،ط 3،القاهرة،مكتبة ابن تيمية،1987 م.
19-تذكرة الحفاظ:شمس الدين أبو عبد اللّه محمد بن أحمد بن عبد اللّه الذهبي،دار الكتب العلمية،بيروت.
20-تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة:أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني،مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية،1906 م.
21-التعريفات:علي بن محمد الجرجاني،القاهرة،مكتبة مصطفى البابي الحلبي.
22-تفسير أبي السعود(المسمى:إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم):لقاضي القضاة الإمام أبي السعود محمد بن محمد العمادي،دار إحياء التراث،بيروت.
23-تفسير القرآن العظيم:شهاب الدين أبو الثناء الألوسي،بيروت.
24-تقريب التهذيب:ابن حجر العسقلاني،دراسة و تحقيق:مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية،بيروت،1413 ه-1933 م.
25-تكملة الإكمال في الأنساب و الأسماء و الألقاب:جمال الدين أبو حامد محمد بن علي المحمودي المعروف بابن الصابوني،بيروت،عالم الكتب،1986 م.
26-التمهيد:لأبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني،المكتبة الشرقية.
27-تهذيب الكمال في أسماء الرجال:للمزي جمال الدين أبي الحجاج يوسف بن عبد الرحمن،تحقيق و ضبط:بشار عواد معروف،مؤسسة الرسالة.
28-الثقات من الصحابة و التابعين و أتباع التابعين:الحافظ ابن حبان،تحقيق:عبد الخالق الأفغاني،حيدرآباد،1986 م.
29-جامع البيان عن تأويل آي القرآن:الإمام الطبري،دار الفكر،بيروت.
30-الجامع لأحكام القرآن:لأبي عبد اللّه محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي،تصوير مؤسسة مناهل العرفان و مكتبة الغزالي عن الطبعة المصرية.
ص: 810
31-الجامع لأخلاق الراوي و آداب السامع:أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي،قدم له و حققه:محمد عجاج الخطيب،بيروت،مؤسسة الرسالة،1997 م.
32-الجرح و التعديل:أبو محمد عبد الرحمن بن محمد الرازي،حيدرآباد،دائرة المعارف العثمانية،1952 م.
33-حلية الأولياء و طبقات الأصفياء:لأبي نعيم الأصفهاني،تحقيق:مصطفى عبد القادر عطا،دار الكتب العلمية،ط 1418،1 ه-1996 م.
34-دراسات في الفرق و العقائد الإسلامية:د.عرفان عبد الحميد،مؤسسة الرسالة، ط 1404،1 ه-1984 م.
35-الرسالة:محمد بن إدريس الشافعي،تحقيق:محمد أحمد شاكر،المكتبة العلمية، بيروت.
36-الزهد:ابن المبارك،تحقيق:حبيب عبد الرحمن الأعظمي،الهند،مجلس إحياء المعارف،1966 م.
37-سنن ابن ماجة:أبو عبد اللّه محمد بن يزيد القزويني،تحقيق:محمد فؤاد عبد الباقي،دار إحياء التراث العربي،1395 ه-1975 م.
38-سنن أبي داود:سليمان بن الأشعث السجستاني،تحقيق:محمد محمد الدين عبد الحميد،المكتبة العصرية،بيروت.
39-سنن البيهقي:أبو بكر أحمد بن الحسين،بيروت،دار الجيل،1995 م.
40-سنن الترمذي:أبو عيسى محمد بن عيسى السلمي،تحقيق:أحمد محمد شاكر،دار الكتب العلمية،بيروت.
41-سنن الدارمي:أبو محمد عبد اللّه السمرقندي،بيروت،دار إحياء السنة،1990 م.
42-سنن سعيد بن منصور:أبو عثمان بن منصور بن شعبة الخراساني،حققه و علق عليه:
حبيب الرحمن الأعظمي،بيروت،دار الكتب العلمية،1985 م.
43-السنن الكبرى:الإمام النسائي،تحقيق:عبد الغفار سليمان البغدادي،سيد كردي حسن،دار الكتب العلمية،بيروت،ط 1411،1 ه.
44-سير أعلام النبلاء:الإمام الذهبي،تحقيق و تخريج الأستاذ شعيب الأرناءوط، مؤسسة الرسالة،ط 1417،1 ه-1996 م.
ص: 811
45-سيرة ابن هشام:السيرة النبوية،أبو محمد عبد الملك بن هشام المعافري،تحقيق:
مصطفى السقا و جماعة،ضمن سلسلة تراث الإسلام.
46-السيرة النبوية:محمد أبو شهبة.
47-شرح السنة:الإمام البغوي،تحقيق:علي محمد معوض و عادل أحمد عبد الموجود،دار الكتب العلمية،بيروت،ط 1412،1 ه-1992 م.
48-شرح مشكل الآثار:الإمام الطحاوي،تحقيق:الأستاذ شعيب الأرناءوط،مؤسسة الرسالة،ط 1415،1 ه-1995 م.
49-شرح معاني الآثار:الإمام الطحاوي،تحقيق:محمد زهري النجار،دار الكتب العلمية،بيروت،ط 1399،1 ه-1979 م.
50-شرح المعلقات السبع:الزوزني أبو عبد اللّه الحسين بن أحمد بن الحسن،القاهرة، المطبعة الأزهرية،1921 م.
51-شعب الإيمان:القزويني أبو القاسم بن عبد الرحمن،القاهرة،إدارة الطباعة المنيرية.
52-صحيح ابن حبان:تحقيق:الدكتور محمد مصطفى الأعظمي،المكتب الإسلامي، بيروت،ط 1412،2 ه-1992 م.
53-صحيح ابن خزيمة:أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة السلمي،تحقيق:مصطفى الأعظمي،بيروت،1412 ه-1992 م.
54-صحيح البخاري:محمد بن إسماعيل،دار الكتب العلمية،بيروت،ط 1412،1 ه- 1992 م.
55-الكامل في ضعفاء الرجال:أبو أحمد عبد اللّه بن عدي الجرجاني،دار الفكر، بيروت،1984 م.
56-الطبقات الكبرى:محمد بن سعد،دار الفكر العربي،القاهرة.
57-ظلال الجنة في تخريج السنة:ناصر الدين الألباني،على هامش كتاب السنة، المكتب الإسلامي،ط 1400،1 ه-1980 م.
58-العلل المتناهية في الأحاديث الواهية:ابن الجوزي،تحقيق:الشيخ خليل الميس، دار الكتب العلمية،ط 1403،1 ه-1983 م.
59-عون المعبود في شرح سنن أبي داود:أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي، ضبط و تحقيق:عبد الرحمن محمد عثمان،المدينة المنورة،المكتبة السلفية،1968.
ص: 812
60-غاية النهاية في طبقات القراء:ابن الجزري،شمس الدين أبو الخير محمد بن محمد بن محمد الدمشقي،تحقيق:جوتهلف برجستراس،القاهرة،مكتبة الخانجي،1932 م.
61-غيث النفع في القراءات السبع:لولي اللّه علي النوري الصفاقسي،مطبوع بهامش كتاب سراج القارئ المبتدي لابن القاصح،طبعة البابي الحلبي،1954 م.
62-فتح الباري بشرح صحيح البخاري:ابن حجر العسقلاني،دار إحياء التراث العربي، بيروت،1985 م.
63-الفصل في الملل و الأهواء و النحل:لابن حزم الظاهري الأندلسي،مكتبة و مطبعة محمد علي صبيح،القاهرة.
64-فضائل القرآن:أبو عبيد القاسم بن سلام،تحقيق:مروان العطية و آخرين،الطبعة الأولى،دار ابن كثير،دمشق،1995 م.
65-فقه السيرة النبوية:د.محمد سعيد رمضان البوطي،دار الفكر المعاصر،بيروت، دار الفكر،دمشق،ط 1412،1 ه-1991 م.
66-الفهرست:ابن النديم،محمد بن إسحاق،القاهرة،المكتبة التجارية.
67-الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة:للإمام الذهبي،طبعة دار الكتب العلمية،بيروت،لبنان،الطبعة الأولى،1983 م.
68-الكامل في التاريخ:عز الدين أبي الحسن بن محمد الشيباني المعروف بابن الأثير، تحقيق:عمر عبد السلام تدمري،مكتبة الرشيد،الرياض،الطبعة الأولى،1997 م.
69-كشف الخفاء و مزيل الإلباس عما اشتهر من أحاديث على ألسنة الناس:إسماعيل بن محمد بن عبد الهادي العجلوني،القاهرة،مكتبة القدسي،1931 م.
70-الكنى و الأسماء:للإمام مسلم بن الحجاج،دراسة و تحقيق:عبد الرحيم القشقري، الطبعة الأولى،1984 م.
71-كنز العمال في سنن الأقوال و الأعمال:علاء الدين علي بن حسام الدين الهندي، مؤسسة الرسالة،بيروت،1409 ه-1989 م.
72-لسان الميزان:ابن حجر العسقلاني،تحقيق:عادل أحمد عبد الموجود و علي محمد معوض،دار الكتب العلمية،بيروت.
73-مجمع الزوائد و منبع الفوائد:نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي،القاهرة،مكتبة القدسي،1933 م.
ص: 813
74-مختار الصحاح،زين الدين محمد بن أبي بكر الرازي،القاهرة،المطبعة الأميرية، 1950 م.
75-مختصر في شواذ القرآن:أبو عبد اللّه الحسين بن أحمد بن خالويه،تحقيق:جوتهلف برجستراس،القاهرة،المطبعة الرحمانية لجمعية المستشرقين الألمان،1934 م.
76-مختصر شعب الإيمان:أبي جعفر القزويني،صححه و علق عليه:محمد خير الدمشقي،القاهرة،دار الطباعة المنيرية 1936 م.
77-المدخل إلى دراسة علم الكلام:د.حسن محمود الشافعي،مكتبة و هبة،القاهرة، ط 1991،2 م.
78-مرآة الجنان:عفيف الدين أبو السعادات عبد اللّه بن أسعد اليافعي،دائرة المعارف النظامية،حيدرآباد،1918 م.
79-المستدرك على الصحيحين في الحديث:أبو عبد اللّه محمد بن عبد اللّه المعروف بالحاكم النيسابوري،دار المعرفة،بيروت.
80-مسند أبي عوانة:يعقوب بن إسحاق الأسفراييني،دار المعرفة،بيروت،1980 م.
81-مسند أبي يعلى الموصلي:تحقيق:حسين أسد،دار المأمون للتراث،بيروت و دمشق،ط 1405،1 ه-1985 م.
82-مسند الإمام أحمد بن حنبل:تحقيق:عبد اللّه الدرويشي،دار الفكر،ط 1، 1422 ه-1985 م.
83-مسند الحميدي:تحقيق:حبيب الرحمن الأعظمي،المكتبة السلفية،المدينة المنورة.
84-مشكل الآثار:الطحاوي،حيدرآباد،دائرة المعارف النظامية،1914 م.
85-المصنف في الأحاديث و الآثار:ابن أبي شيبة،تحقيق:سعيد محمد اللحام،دار الفكر،بيروت.
86-معجم البلدان:أبو عبد اللّه ياقوت الحموي،دار صادر،بيروت.
87-معجم الفرق الإسلامية:شريف يحيى الأمني،دار الأضواء،ط 1406،1 ه-1986 م.
88-المعجم الكبير:الطبراني،أبو القاسم سليمان بن أحمد،تحقيق:عمر ماجد الكيال، 1996 م.
89-المعجم الأوسط:الطبراني،أبو القاسم سليمان بن أحمد،تحقيق:محمود محمد الطحان،الرياض،مكتبة المعارف،1986 م.
ص: 814
90-المعجم الصغير:أبو القاسم الطبراني،بيروت،دار الكتب العلمية،1983 م.
91-معرفة القراء الكبار على الطبقات و الأمصار:الذهبي،شمس الدين أبو عبد اللّه محمد ابن أحمد بن عثمان،تحقيق:محمد سيجاد الحق،القاهرة،دار الكتب الحديثة، 1969 م.
92-المغني:موفق الدين أبي محمد بن قدامة المقدسي،دار الكتاب العربي،بيروت.
93-المفردات في غريب القرآن:الراغب الأصفهاني،تحقيق:محمد سعيد الكيلاني، القاهرة،مكتبة مصطفى البابي الحلبي،1961 م.
94-المقتضب:لابن المبرد،تحقيق:محمد عبد الخالق عضيمة،القاهرة،وزارة الأوقاف، لجنة إحياء التراث،1399 م.
95-موسوعة الإمام الشافعي،تحقيق:أحمد بدر الدين حسونة،دار قتيبة،ط 1416،1 ه- 1996 م.
96-الموضوعات:ابن الجوزي،تحقيق:عبد الرحمن محمد عثمان،المكتبة السلفية، المدينة المنورة،ط 1386،1 ه-1966 م.
97-موطأ الإمام مالك،تحقيق:محمد فؤاد عبد الباقي،دار إحياء التراث العربي، 1406 ه-1986 م.
98-ميزان الاعتدال:الإمام الذهبي،دراسة و تحقيق:علي معوض و عادل أحمد عبد الموجود،دار الكتب العلمية،بيروت،ط 1416،1 ه-1996 م.
99-النجوم الزاهرة في أخبار مصر و القاهرة:جمال الدين أبي المحاسن يوسف بن تغري بردي،القاهرة،مطبعة دار الكتب المصرية،1929 م.
100-نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام:علي سامي النشار.
101-نصب الراية لأحاديث الهداية:جمال الدين أبو محمد عبد اللّه بن يوسف الحنفي الزيلعي،المكتبة الإسلامية،بيروت،1973 م.
102-نكت الانتصار للقرآن:دراسة و تحقيق:د.محمد زغلول سلام،نشر منشأة المعارف بالإسكندرية.
103-نهج البلاغة:مجموع ما اختاره الشريف أبو الحسن الرضي من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب،شرح محمد عبده،تحقيق:عبد العزيز سيد الأهل،دار الأندلس،بيروت،ط 1382،1 ه-1963 م.
ص: 815