نام كتاب: الإقتصاد و الإجتماع
نويسنده: خالد فائق العبيدى
موضوع: اعجاز علمى
تاريخ وفات مؤلف: معاصر
زبان: عربى
تعداد جلد: 1
ناشر: دارالكتب العلمية
مكان چاپ: بيروت
سال چاپ: 1426 / 2005
نوبت چاپ: اوّل
ص: 1
ص: 2
الكتاب الرابع عشر: الاقتصاد و الاجتماع
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
الحمد للّه رب العالمين و الصلاة و السلام على أفضل و أشرف رسله و أنبيائه سيدنا محمد صلّى اللّه عليه و سلّم، و على آله و صحبه أجمعين، و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، و بعد.
لقاؤنا يتجدد معكم للمرة الثانية عشرة في سلسلتنا (ومضات إعجازية)، و سنتعرض في هذا الكتاب إلى روعة و سبق القرآن الكريم في مجال غاية في الأهمية، و هو علوم بناء الأفراد و الأسر و المجتمعات بناء هادفا متأنيا مازجا بين الروح و المادة.
لم يعرف العالم نظاما اقتصاديا و اجتماعيا عادلا يضمن للجميع حقوقهم دون غصبٍ أو تمييز بين عرق أو دين أو انتساب مثل النظام الاقتصادي و الاجتماعي الإسلامي، هذا النظام العظيم الذي وصل حدا يضرب به المثل في التأريخ البشري في العدالة و المثالية، كما هو الحال في عهد سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي اللّه عنه الذي لم يبق فردا واحدا من أفراد الأمة الإسلامية المترامية الأطراف يدخل ضمن إطار الفقراء، فالكل دون استثناء مكتف و مرتاح، هذا في الصدر الأول من عصر الرسالة الإسلامية، و هذا ما يؤكد عظمة التشريع الإسلامي للاقتصاد و أحوال المال من الزكاة و الصدقات و التدابير الاقتصادية الإسلامية العظيمة الأخرى التي تحتاج إلى مجلدات كثيرة و هذا يترك لأهل الاختصاص... أما في عصرنا هذا فإن النظام الاقتصادي و الاجتماعي الإسلامي الذي طبق في السويد باقتراح من أولف بالمه نهاية العقد الثمانيني و بداية العقد التسعيني من القرن العشرين قد أنقذها من هاوية اقتصادية و اجتماعية مرعبة.
لقد سبق التشريع الإسلامي كل الشعارات و الثورات و المؤسسات الداعية لذلك كالثورة الفرنسية و منظمة الأمم المتحدة و منظمة حقوق الإنسان و الدعوات المتعلقة بمحاربة التمييز العنصري بدءا من حقوق الإنسان، و عدالة توزيع الثروات، و حرية العقيدة و الفكر السامي غير المبتذل، و تطبيق مبدأ القانون فوق السلطة، و احترام العهود و المواثيق مع الصديق و العدو، و سماع و احترام الرأي الآخر.. لكن الفرق الرئيس بينهما رغم تقدم الأول أي الإسلام على الثاني أي الدعوات الحديثة هو أن الأول دعى و طبق فملأ الدنيا عدلا
ص: 3
و رحمة لأن الإسلام جاء لتحقيق هذا الغرض، أما الثاني فدخلت فيه المصالح الضيقة للنفس البشرية و مطامعها فلم يطبق و لم يعدل و إنما كانت شعارات فقط أو تطبيق رمزي بأحسن الأحوال.
و القصص في عدل الإسلام الذي لم يشهد تاريخ البشرية مثله أكثر من أن تذكر، فهذا سيدنا الصديق رضي اللّه عنه، الرجل عند المواقف، الذي يهابه الجبال من الرجال، و أي رجال، إنهم الصحابة رضوان اللّه تعالى عنهم، يذهب يوميا، فيما يروي سيدنا عمر رضي اللّه عنه، بعد صلاة الفجر و إكمال الورد بالذكر حتى طلوع الفجر إلى مكان جعل الصحابة يسألون عنه، حتى يقول سيدنا عمر: هممت يوما أن أتبعه بعد شروق الشمس و خروجه من المسجد لأعرف الخبر و أستقصي الأمر، فاتبعته و وجدته دخل بيتا في طرف المدينة، فإذا هو بيت امرأة عجوز لا عائل لها، فدخلت عليها و سألتها عن أحوالها فقالت: لو لا هذا الشيخ الذي يأتينا يوميا لإنجاز عمل البيت من إعداد الطعام و التنظيف لكان حالنا بأتعس حال، فقال لها الفاروق أ تعرفين من هو قالت لا. و كان سيدنا عمر رضي اللّه عنه كلما يذكر القصة بعد توليه أمر المسلمين يجلس و يضع يده على وجهه قائلا: أتعبت الخلفاء من بعدك يا أبا بكر..
و ها هو الفاروق عمر رضي اللّه عنه في تطبيق العدالة و الاقتصاص من الظالم و إن كان مسئولا مع القبطي الذي ظلمه ابن عمرو بن العاص - ابن الأكرمين - بضربه بالسوط على رأسه عقب سباق بينهما، و قوله المأثور و المشهور لأبيه عمرو بن العاص والي مصر (متى استعبدتم الناس و قد خلقتهم أمهاتهم أحرارا) إلا دليلا بسيطا عن العدل الذي ساد الأرض و أممها إبان الحكم الإسلامي بعد الجور و الظلم الذي عانته من قبل الحكم الفارسي و الروماني و الحبشي قبل ذلك.
و عدل سيدنا عثمان رضي اللّه عنه مع رعيته و قبوله للنقد خلال الفتنة يسجل بأحرف من نور... و من بعده سيدنا علي عليه الرضوان و السلام مع اليهودي في قصة الدرع، و مع غيره من الرعية تبين عظمة هذه الأمة.
و ما كل ذلك إلا إخراج للناس من الظلم الذي وقع بهم جراء تسلط الأشراف و الرؤساء و الأكابر عليهم و عدم الاقتصاص منهم إذا أخطئوا، و هو ما شخّصه الرسول الأكرم صلّى اللّه عليه و سلّم بقوله في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم (الحدود 3196) عن عروة عن
ص: 4
عائشة أنّ قريشا أهمّهم شأن المرأة المخزوميّة الّتي سرقت فقالوا من يكلّم فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقالوا و من يجترئ عليه إلاّ أسامة حبّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فكلّمه أسامة فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: (أتشفع في حدّ من حدود اللّه)، ثمّ قام فاختطب فقال: (أيّها النّاس إنّما أهلك الّذين قبلكم أنّهم كانوا إذا سرق فيهم الشّريف تركوه و إذا سرق فيهم الضّعيف أقاموا عليه الحدّ و ايم اللّه لو أنّ فاطمة بنت محمّد سرقت لقطعت يدها). و ما ذلك إلا تحقيق لأوامر اللّه و رسوله في القضاء و العدل الاجتماعي و الاقتصادي الذي سنحاول جاهدين في هذا الكتاب من سلسلتنا أن نطرق بعض أبوابه الواسعة.
تكثر هذه الأيام عقد الندوات و المؤتمرات في كل دول العالم لأجل نيل المرأة كافة حقوقها و تمام استقلالها من نير احتلال الرجل تارة، و لأجل تشريع زواج الجنس الواحد تارة أخرى، و لأجل إعطاء أهل البغاء حقوقهم الكاملة و تشريع مهنتهم السامية تارة ثالثة، و هلم جرّى.. و عجبا و حسرة على العباد، فلا يتركون حالة تشيع معها الفوضى الفكرية و التخبط الاجتماعي و الانحطاط الخلقي إلا و طرقوها بدعوى الحرية و المساواة و الديمقراطية، بينما يذبح البشر جوعا و قتلا و حصارا فترمل النساء و يسبى أو ييتّم الأطفال تحت شعارات شتى، و ترمى آلاف الأطنان من القمح و الزبد و اللحم في البحر لئلا يؤثر ذلك على اقتصاد الأغنياء بينما يتضور الفقراء جوعا، و لا من مجيب أو سامع أنّات الملايين من البشر... و بأحسن الأحوال تجتمع الوفود، في فنادق السعود، لتنفق النقود، و تكتب العهود، و يبقى الحال على ما هو عليه.. أية عدالة لنظام عالمي جديد أعمى تلك التي يعدنا بها من يسمون أنفسهم أهل التحضر و العدالة و الديمقراطية؟!.
الحق أيها الأخوة أن الذي يريد أن يصلح و يصدق النية في ذلك من الساسة و الحكام يستطيع الإصلاح، لأن توافر النوايا و الإمكانات و التعاضد بين أمم البشر موجود، لكن المشكلة أنه حتى الذين يريدون الإصلاح تاهوا في زحمة أهل المصالح الضيقة و النوايا الخبيثة الذين يخلطون الخبيث بالطيب، فيتكلمون بكلمة الحق و يريدون بها الباطل.. و الحق أن البشر يجرب ليفشل فيكرر التجربة بعناد أشد و كبر أعلى نحو أوامر خالقه، الذي يعلم خيره فيأمره باتباعه و يعلم شره فيجنبه الخوض فيه.
و ما يحصل اليوم من تخبط للبشرية و انتشار الفقر و الأمراض التي لم يعهدها بنو
ص: 5
البشر من قبل كالأيدز و السارس و جنون البقر و أنفلونزا الطيور، و كذلك التلوث البيئي و فتحة الأوزون و ظاهرة الاحتباس الحراري و ما تبعها من زيادة حرارة الأرض، و تدمير الكوكب بتغيير مستمر في بنيته البيئية بحجة التطور و الحاجة للتصنيع، و انتشار الفوضى العارمة جراء العولمة في كل العالم، و كثرة القتل بالحروب الفتاكة و الحصارات المهلكة، و انتشار الكوارث الطبيعية جراء كل ذلك من زلازل و براكين و فيضانات و تصحر و جفاف و حرائق و أعاصير و خسف الأرض و غير ذلك، إلا صور بسيطة لنتائج التدخل العشوائي و غير المنتظم للبشر و تلاعبهم بمصيرهم ليقودوه إلى هاوية سحيقة من حيث لا يشعرون، و ما خفي كان أعظم!.
أما الإسلام الذي تنبأ بحصول كل هذه الفوضى في العالم في آخر الزمان(1) فإنه جاد في إحلال الخير لكل البشرية، فلا يبحث عن تجربة و خطأ، إنما هو إرشاد الخالق لخير المخلوق، فأعطى الإسلام لكل ذي حق حقه، و حرّم الظلم بكل أنواعه و على كل المخلوقات حتى الحيوان و الجماد.. و ها هو العلم يثبت يوميا صحة و دقة الأوامر الإسلامية في التشريعات سواء أ كانت للأحوال الشخصية، أو للجنح و الجرائم، أو للعلاقات الخاصة و العامة بين الكتل البشرية من الأسرة إلى الجيرة إلى المحلة فالمدينة فالدولة، و انتهاء بعلاقات الأمم ببعضها سلما و حربا.
و لكن البشر رغم كل الأدلة يعاندون و يكابرون لا لشيء إلا لأنهم إذا ما أقروا بأحقية التشريع الإسلامي فإن بضاعتهم ستبور، و تفسد دعاواهم الباطلة و تخسر تجارتهم الفكرية العقيمة، فتكون الضربة القاضية لأتباع إبليس من الإنس و الجن، و هذا بالطبع لن يتحقق لأن للجنة أهلها و للنار أهلها، و ستستمر المعركة بين جند اللّه و جند إبليس حتى يقضي اللّه أمرا كان مفعولا مصداقا لقوله تعالى:
وَ لَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَ ما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَ ما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظّالِمِينَ (145)، (البقرة: 145)... وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماًن.
ص: 6
وَ عُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)، (النمل: 14).. أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَ أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70) وَ لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)، (المؤمنون).
المشكلة أن الأهواء و الشهوات بكافة أشكالها هي التي تحكم البشر و لو أنهم قدروا اللّه حق قدره و عرفهم مع من يتعاملون، لما تجرّأ أحد على الاعتراض على أوامر اللّه و تشريعاته، و لكن اللّه تعالى رءوف بالناس على ظلمهم رغم كونه سبحانه غني عنهم و هم من يحتاج إليه في كل الأحوال:
وَ اللّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ يُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27)، (النساء: 27).. فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ (50)، (القصص: 50).. أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللّهُ عَلى عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللّهِ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (23)، (الجاثية: 23).
على أن التشريع الحنيف أعطى فسحا عظيمة في جنباته لاستيعاب المتغيرات التي تطرأ على المجتمع، لكن الأصل هو الحفاظ على إنسانية البشر و كرامتهم و حرية أفكارهم و حرمة دماءهم و أعراضهم و أموالهم، فلا تجارة بجمال المرأة و جسدها، و لا أموال تزاد بربا يسحق الأغلبية المحرومة، و لا اعتداء على أهل ذمة أو عقيدة مخالفة، و لا قبول بأي جنس عمل يحول البشر الذين خلق الكون من أجلهم إلى مجرد آلات تستغل لرفع نفر قليل و سحق أمم بأكملها.
هذا الكتاب يبين لكل من يريد أن يستبين أن أي تشريع جاء به الإسلام كان لسبب مصلحي في الصحة و الاقتصاد و الاجتماع، و لكل البشر دون استثناء و دون تمايز بين الرجل و المرأة، الأسود و الأبيض، العربي و الأعجمي، إلا بالاستحقاق الذي تقتضيه المصلحة العامة و بما شرّعه اللّه تعالى الخالق الكامل العالم بكل خفايا مخلوقاته لمصلحة المخلوق الناقص مهما علا علمه، و اللّه غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون...
ص: 7
و سنفرد في نهاية الكتاب ملحق بتاريخ التشريع الإسلامي.
إن هذه الدنيا التي نعيش فيها لهي بحق اسم على مسمى، فهي حياة دنيا لا قرار فيها و لا ثبات لأي شيء و ديدنها التغيير و التبديل من حال إلى حال.. بل هي طريق إلى حياة أخرى أهم و أبقى - هي حياة البقاء و الاستقرار أو الدار الآخرة - فما نزرعه في حياتنا الدنيا نحصده هناك في ذلك العالم الذي ينتظرنا في عالم غيب اللّه تعالى، عند ملك الملوك، المليك المقتدر، هناك حيث لا أحد يظلم فتيلا، فإما رضا و ثواب، و إما سخط و عقاب.. إما إلى نار و إما إلى جنة.
ص: 8
لفظ الشريعة في أصل الاستعمال اللغوي الماء الذي يرده الشاربون، و هي في نفس الوقت طريق و منهاج و منبع يرتوي منه، ثم نقل هذا اللفظ إلى معنى الطريقة المستقيمة التي يفيد منها المتمسكون بها هداية و توفيقا(1).
أما الشريعة فقها فهي ما يختص بالأوامر و النواهي و الإرشادات التي وجهها اللّه تعالى إلى عباده ليكونوا مؤمنين صالحين عاملين، سواء أ كانت متعلقة بالأفعال أم بالعقائد أم بالأخلاق، و ذلك لأنها محكمة مستقيمة و لأنها الطريق إلى حياة النفوس و ارتواء العقول. و نفوس البشر مجبولة على الأثرة و عدم الانضباط و حب الذات، فالناس بحاجة إلى تشريع ينظم علاقاتهم و يحد من أنانيتهم و يمنعهم من العشوائية و عدم الانضباط في السلوك و التصرفات، و إلا كان الأمر فوضى بينهم، و الفرد في المجتمع يرغب في إيجاد نظام يحدد له الحدود و الواجبات في المجتمع الذي يعيش فيه.
و حيث إن البشر لا يستقرون على ضابط واحد يضبطهم لفترة زمنية معينة، فهم دائمو التغيير في الفكر و المنطق و المعتقد بحسب مراحل الحياة التي يعيشون و نوع البيئة المحيطة و عوامل أخرى عديدة، من أجل ذلك كانت الشرائع السماوية رحمة بالعباد و فصلا بينهم فيما يختلفون أنزلها خالقهم كي يبين لهم أفضل السبل لفضّ هذه الاختلافات و النزاعات فضلا عن تنظيمها لعلاقات الناس بربهم و خالقهم كي يتوجهوا له بالحمد و الشكر و العرفان بجميل النعم، فالتشريع الإلهي عدل من اللّه تعالى و رحمة لعباده(2).
تهدف الشرائع السماوية عامة و شريعة الإسلام بوجه خاص إلى تحقيق مصالح
ص: 9
العباد و حفظها و منع الضرر عنهم، إلا أن هذه المصالح ليست هي ما يراه الإنسان مصلحة له و نفعا حسب هواه و رغبته، إنما المصلحة ما كانت مصلحة في ميزان الشرع الذي شرعه خالق الإنسان و الكون معا فهو سبحانه مسبب أسبابه و أصل وجوده، و هو سبحانه القيوم - أي القائم - على ديمومة هذا الكون و هذا الإنسان حتى ينتهي العالم بإذنه، و هو سبحانه الوحيد الذي أحاط بكل شيء علما، و من دواعي و متطلبات هذه القيومية و هذه الإحاطة أن يحدد الأطر و القوانين و النواميس التي يمشي بها هذا الكون بشكل صحيح سواء أ كان في المادة أو الروح، فيعرف تبعا لذلك أن الأمر الفلاني مناسب للإنسان باستخدام الأسلوب الفلاني و هكذا.. و يقسم العلماء مقاصد الشريعة هذه إلى ثلاثة أقسام و هي حسب الأهمية و الأولوية:
و معناها أنها لا بدّ منها في قيام مصالح الدين و الدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدين و الدنيا على استقامة، بل فساد و تهارج و فوت حياة، و في الآخرة فوت النجاة و النعيم و الرجوع بالخسران المبين. و هذه الضروريات هي خمس، حفظ الدين و النفس و العقل و النسل و المال. و الحفظ يكون بأمرين فأما أحدهما فهو ما يقيم أركانها و يثبت قواعدها و هو عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود، و أما الثاني فهو ما يدرأ عنها الاختلال و يحافظ عليها من كل ما يمكن أن يؤثر عليها أو يقوضها.
و معناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة و رفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج و المشقة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تراع دخل على المكلفين الحرج و المشقة، و لكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة و هي جارية في العبادات و العادات و المعاملات.
و هي الأخذ بما يليق من محاسن العادات و تجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات، فهي التي تجعل أحوال الناس تجري على مقتضى الآداب العالية و الخلق القويم. فإذا فاتت لا يختل نظام الحياة و لا يلحق الناس المشقة و الحرج، و لكن تصير حياتهم على خلاف ما تقتضيه المروءة و مكارم الأخلاق و الفطرة السليمة.
و لكل من هذه الأقسام الثلاثة مكملات و هذه بالتأكيد ليست على مرتبة واحدة،
ص: 10
و قد نتجت عن هذه المصالح الثلاثة و مكملاتها عدة قواعد فقهية استنبطها الفقهاء(1).
إذن أول مقاصد الشريعة و أهمها هو الضروريات بأقسامها الخمسة، و أهم هذه الأقسام هو حفظ الدين و من ثم النفس و العقل للكائن البشري الذي هو أهم مخلوق في هذا الكون بل خلق الكون لأجله، فجعل اللّه تعالى كل ما في الكون من أمور عظيمة لا يجحدها إلا مكابر مسخر بأمره لأجل خدمة هذا المخلوق. و من ثم أنزل الكتب و أرسل الرسل ليبينوا للناس على مر الأجيال حقيقة و سبب وجودهم، و حذروهم من مغبة انقيادهم وراء ما خلق لأجلهم و ترك ما هو أهم ألا و هو ما خلقوا من أجله(2).
تتميز تنظيمات اللّه تعالى بسلامتها من أي غرض و ميل إلى الهوى و تفضيل لبشر على بشر في لون أو نسب أو جنس، فالخلق عند اللّه تعالى سواء، بالإضافة إلى نفوذ علمه و إحاطته بجميع خلقه. و الناس لو سلمت تنظيماتهم الوضعية من الهوى و الغرض فهي لم تسلم من النقص و العوج و الزيغ، بدليل تناقض أحكامهم، بل إن الشخص الواحد يناقض نفسه فينقض اليوم ما أبرمه بالأمس. و يؤكد أهل الشريعة الإسلامية أن هذه الشريعة تعتبر أساسا و مصدرا لكل تشريع لأنها شمولية أي شاملة للجنس البشري لأي جيل في كل زمان و المكان بحيث لا يمكن أن تقوم مقامها شرعة أخرى لشمولها الأصول و الفروع و الظاهر و الباطن، فهي الحق و هي العدل و هي المصلحة و حيثما كان الحق و العدل و المصلحة فثم شرع اللّه تعالى، وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)، (المائدة: 48).. ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18)، (الجاثية: 18).
و الأحكام التي تناولها الشرع الإسلامي ثلاثة: الأحكام الاعتقادية، و الأحكامم.
ص: 11
الخلقية، و الأحكام العملية. و هذه الأنواع الثلاثة تشمل جميع أنواع تنظيم العلاقات من عبادات و حقوق و واجبات و أخلاق و تعاملات و أقوال و أفعال و تصرفات بين الإنسان و ربه، نفسه، أهله، جنسه، بيئته في الأرض و الكون، و كل ما يحفظ حقوق الجميع بما يحفظ لكل ذي حق حقه، و ما ينجي الكائن البشري في دنياه و آخرته. فحدد الإسلام العبادات التي يتقرب بها الإنسان من ربه عز و جلّ من صلاة و صيام و زكاة و حج، و تناول أحكام المعاملات بين الناس، فنظم العقود و حدد أحكامها كعقد الإيجار و الرهن و ما إلى ذلك، و تناول أحكام و مسائل الأحوال الشخصية و شئون الزواج و تنظيم شئون الأسرة و العلاقات الأسرية و حقوق كل فرد فيها، و أوضح السبل و الإجراءات القضائية في المحاكم و طرق الإثبات، و بين مركز الحاكم بين المتقاضين، و حدد أحكام النظام الإداري و الدستوري في الدولة، و بين السبل لاختيار رئيس الدولة و حقوقه تجاه الرعية و واجباته نحوها، كما نظم القانون الدولي و علاقات الدول ببعضها في الحرب و السلم. و كل ذلك نظم تنظيما دقيقا بقواعد قانونية رصينة لا يأتيها الباطل من بين يديها و لا من خلفها لأنها من لدن حكيم عليم بشئون البشر و سائر الكون، صِبْغَةَ اللّهِ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَ نَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138)، (البقرة: 138)(1).
و حيث أن الأحكام الشرعية الإسلامية التي نسخت ما قبلها تعهد اللّه بحفظها من أي تحريف أو تلاعب بشري قد يصيبها، فإنها خالدة باقية دائمة حتى يرث اللّه الأرض و من عليها.
إذا ما تدبرنا آيات اللّه الخالدات من و جهة نظر تشريعية قانونية و اجتماعية و اقتصادية، فما ذا نرى؟:
- المسلم الغني مستخلف في مال اللّه و ملكه، و الثروة أمانة في عنق حاملها يسأل عنها يوم القيامة، من أين جمعها و فيم أنفقها.
- الكسب الحلال يؤدي إلى أسرة كريمة طيبة، و الكسب الحرام يترك أثره في الجوارح و السلوك ليكون أسرة فاسدة مفسدة كالطفيليات و المكروبات المدمرة.
- توزيع عادل للثروات بحيث لا يبقى فقير أو محتاج، و هذا ما حققه الخليفةف.
ص: 12
الراشدي الخامس عمر بن عبد العزيز رضي اللّه عنه.
- ردع لكل متطاول بشكل لا يتجرأ بعده الآخرون على التقليد و هذا ما أثبته التطبيق العملي في المجتمع الإسلامي - كقطع يد السارق مثلا -.
- نظام عظيم للزواج و تكوين الأسرة و تربية الأولاد.
- القانون فوق السلطة، و لا يستثنى الحاكم و المحكوم من عدالة القضاء، فالإسلام هو أول من وضع هذا الشعار و طبقه.
- تكريم لا يدانيه تكريم للمرأة بدءا من ولادتها و تحريم الوأد الذي كان شائعا بين العرب قبل البعثة الشريفة، مرورا بحث الوالدين على تربية البنات على أصول الخلق الرفيع و العلم النافع، ثم أهمية المرأة في البيت و القضاء و العلم و الحرب و السلم و غير ذلك مما تزخر به كتب الفقه الإسلامي في أهمية دور المرأة في أن تكون بانية للأسرة و المجتمع لا أن تكون مدمرة له وفق المفهوم الغربي الذي يجعل من المرأة عبارة عن جسد يباع و يشترى بأبخس الأثمان، و ما يتبع ذلك من اتباع الشهوات للجنسين، و ترك الطريق الأمثل في الزواج و تكوين الأسر إلى الطريقة الغرائزية الحيوانية في تصريف الشهوة.
إن نظرة ثاقبة إلى سورة النساء فقط و تدبر مدى الروعة العظيمة في تقسيم الميراث في الإسلام و حقيقة إعطاء النصف و الربع و الثلث و السدس لحالات مختلفة يريك مدى الترابط بين القانون و علم الاجتماع و الاقتصاد و الرياضيات. فإذا تأملت لما ذا هذه الكسور و حقيقة تقسيمها بهذه الدقة و ربطها مع الحالات الاجتماعية المختلفة لكل تقسيم، لعلمت الدقة في مراعات اللّه تعالى لحقوق الأسرة برمتها و منها المرأة بأصنافها الثلاث الزوجة و البنت و الأم، من جهة و دقة التقسيم الرياضي من جهة ثانية.
قام المهندس الأستاذ مولود مخلص الراوي بتقديم بحث رائع في هذا الموضوع إلى المؤتمر الأول للإعجاز القرآني الأول المنعقد بمدينة السلام بغداد للفترة 21-26 رمضان 1410 ه الموافق 16-21 نيسان 1990 م، و أسماه (الإعجاز في علم المواريث) و الذي يتضمن إعداد برنامج حاسوبي للقسّام الشرعي يمكنه حل جميع مسائل الميراث مفردة كانت أم متناسخة (متعددة الوفيات) بأعداد صحيحة أو ما يعرف بالتصحيح و بنفس الأسلوب الشائع في تنظيم القسّامات الشرعية. و قد جرى اختبار البرنامج عمليا من قبل
ص: 13
لجنة شرعية متخصصة ثم تم اعتماده من قبل وزارة العدل العراقية للاستخدام عمليا في المحاكم العراقية(1).
يقول أحد الحقوقيين الغربيين و هو يعلق على ما جاء في سورة النساء: (لا يمكن أن يكون هذا القرآن من عند محمد لأننا الآن و في عصر التطور الهائل لا نستطيع أن نعطي تشريعا بهذه الروعة و التفصيل و الدقة و العدالة لكل أفراد الأسرة دون استثناء).
و قد اعترف الراسخون في العلوم القانونية من رجالات الغرب بأن التشريع الإسلامي يعد في طليعة المصادر الصالحة لسد حاجات التشريع الحديث. و نطق بذلك قرار مؤتمر القانون المقارن المنعقد في مدينة لاهاي، في شهر آب من سنة 1937 م، الموافق لجمادي الآخرة من سنة 1356 ه، و قد دعي إليه الأزهر، فمثله مندوبان من كبار علماءه فحاضرا فيه عن المسئولية الجنائية و المسئولية المدينة في الإسلام، و عن نفي أية علاقة مزعومة بين القانون الروماني الوضعي و الشريعة الإسلامية الغراء. و قد خرج المؤتمر على أثر ذلك بقرار تأريخي خطير بالنسبة إلى رجال التشريع الأوربي، جاء فيه:
1. اعتبار الشريعة الإسلامية مصدرا مهما من مصادر التشريع العام.
2. اعتبارها حية قابلة للتطور.
3. اعتبارها تشريعا قائما بذاته، ليس مأخوذا من غيره(2).
كان النظام القضائي الإسلامي أول من جاء بفكرة القضاء و القانون فوق الحكم و السلطان، و طبقها فعلا في كثير من الحالات منها القصة المعروفة للإمام علي كرم اللّه وجهه مع اليهودي الذي اشتكى إلى القاضي بأن أمير المؤمنين - حاشاه - قد سرق درعه، فحضر الطرفان أمام القاضي و انتهت القضية بإعلان اليهودي إسلامه لما رأى من عدل الإسلام.. و هكذا أخذ الغربيون منا هذا التراث العظيم و صدروا لنا دكتاتورياتهم التي كانت في عصور ظلامهم، ثم ادعوا أنهم متحضرون لأنهم ديمقراطيون، فتنبهوا4.
ص: 14
معشر المسلمين لهذه المغالطة.
و ها هو الأمير تشارلز يدلي باعتراف خطير خلال مؤتمر عقد بلندن عام 1996 م من أن 60% من القضاء البريطاني يعتمد في روحه و بعض نصوصه على التشريع الإسلامي(1).
و لأهمية الموضوع لعامة الناس كي يفهموا عظمة هذا الدين و سعة آفاقه و تعدد آراءه و شمول آلاءه، فقد أفردنا ملحقا في نهاية الكتاب لتبيان تاريخ التشريع الإسلامي و المراحل التي مرّ بها بشكل مختصر قدر الإمكان.).
ص: 15
إن ما يشهده العالم من ظلم اقتصادي لفئات كبيرة من المجتمع البشري يؤكد ضرورة ملحة ألا و هي كيفية تكوين نظام اقتصادي يجعل العدالة هي السمة الأبرز لتكوينه، و يطرد كل الأفكار التي من شأنها أن تكون دولا غنية و أخرى فقيرة أو على الأقل أن يكون الفرق بسيطا مقبولا و ليس ساحقا للغالبية الفقيرة.
إن أهم مبدأ جاء به التشريع الاقتصادي الإسلامي هو إزالة تلك الهوة بين الفريقين الأغنياء و الفقراء و محاولة تقليصها قدر الإمكان. يقول اللّه تعالى: ما أَفاءَ اللّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَ اتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7)، (الحشر: 7). أي لكي لا تكون الغنائم محصورة بين مجموعة الأغنياء فقد شرع التوزيع للجميع دون استثناء، فالمبدأ إذن منع الاحتكار المالي و السلعي كي لا يحصل الخلل و المن ثم المظالم و المآسي التي تؤدي إلى الاقتتال من أجل المال. و إنك لتجد في التشريع الحنيف ما أغنانا عن ذكره الكثير من الباحثين و المتخصصين في هذا الشأن المهم، و ما ذكر في الكتب و المؤلفات و المجلدات ما يجعلنا نبتعد عن التفصيل و نقترب من الاختصار. دائما ما يحث الإسلام و كتابه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم الناس على التكامل و التكافل الاقتصادي، و ينهاهم عن الاحتكار و الغش و السحت و السرقة و أكل مال اليتيم و اليمين الفاجر و الربح الفاحش و غير ذلك من القيم الرائعة في التعامل التجاري و الاقتصادي بين الأفراد و الدول، كما شرعت الزكاة و جعلت من دعائم النظام الإسلامي لما لها من أثر إيجابي على المجتمع، و كذا و الصدقات و المكوس و نظم بيت المال للحفاظ على التوازن بين الغني و الفقير في الأمة. و قد فرض على الأغنياء ما يغني الفقراء و هدد الممانعون بأشد العقاب في الدنيا و الآخرة لأن الفقر كاد أن يكون كفرا، كما جعل الدّين ثقيلا على النفس لأنه يمنع الحي من الراحة و الميت من نيل الأجر حتى يسدد عنه دينه. و قد طبق كل ذلك في عهود كثيرة و أثبت نجاحه و تميزه.
ص: 16
الناحية الاقتصادية في نظام الحكم الإسلامي تستند على مسألتين، الأولى هي كيفية أخذ الدولة للمال من الأمة، و الثانية كيفية إنفاقه. أما الأولى، فكانت الدولة الإسلامية تأخذ الزكاة على الأموال و الأراضي و عروض التجارة و المواشي و الزروع و الثمار، باعتبار أن الزكاة عبادة، لتقوم بتوزيعها على مستحقيها من الأصناف الثمانية المقررة شرعا، كما تأخذ الخراج و الجزية و ضرائب الجمارك بحكم إشرافها على التجارة في الصعيدين الداخلي و الخارجي، و كانت تقوم على إدارة ما هو داخل في الملكية العامة أو ملكية الدولة كالمعادن و القنوات و غيرها من موارد بيت المال. أما من حيث إنفاق هذه الأموال فإنها توزعها حسب الأحكام الشرعية، و قد طبقت أحكام النفقة على العاجز و حجزت على السفيه و المبذر، و أوجدت أماكن الفقراء و المعسرين، و نفذت أحكام العمل و العمال، و منعت الاحتكار و الغش و الاستغلال و الرشاوى و كل وسائل الكسب غير المشروع. و من الحق أن نقول إن بعض الحكام كانوا يسيئون تطبيق أحكام الشرع في هذه الناحية، و كان البعض الآخر يحسن غاية الإحسان في رعاية هذه الناحية، تبعا لنفسية الحاكم و مدى التزامه بالأحكام الشرعية، و موقف الأمة منه و خصوصا العلماء، فإذا حصل لبعض الحكام أن يقصر و يسيء فلا يعني هذا عدم التطبيق(1).
لا أريد هنا أن أدخل في تفاصيل هذا العلم الواسع و عظمة التشريع الإسلامي في الزكاة و الصدقات و التدابير الاقتصادية الإسلامية العظيمة الأخرى و التي تحتاج إلى مجلدات كثيرة لتفصيلها و هذا يترك لأهل الاختصاص(2). إلا أنني سأركز على أمر غاية في الخطورة بل هو أخطبوط مرعب التهم العالم كله بسبب نظام اقتصادي غير عادل حذر الإسلام منه أيما تحذير ألا و هو (الربا).
الربا لغويا هو مطلق الزيادة و النمو، و هو حسب ما فصله الإمام الرازي رحمه اللّه في مختار الصحاح: (ربا) الشيء زاد و بابه عدا. و الرابية ما ارتفع من الأرض و كذاز.
ص: 17
(الربوة) بضم الراء و فتحها و كسرها و الرباوة أيضا بفتح الراء. و الربو النفس العالي يقال ربا من باب عدا إذ أخذه الربو. قال الفراء في قوله تعالى: فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10)، (الحاقة: 10)، أي زائدة كقولك أربيت إذا أخذت أكثر مما أعطيت.
و رباه تربية و ترباه أي غذاه و هذا لكل ما ينمي كالولد و الزرع و نحوه. و الربا في البيع و قد أربى الرجل و الربية مخففة لغة في الربا و هو في حديث صلح أهل نجران. قال الفراء: هو ربية مخففة سماعا من العرب و القياس (ربوة) بالواو(1).
يقول اللّه تعالى في محكم كتابه:
1 - اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَ مَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللّهُ الرِّبا وَ يُرْبِي الصَّدَقاتِ وَ اللّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفّارٍ أَثِيمٍ (276)، (البقرة).
2 - يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ (279)، (البقرة).
3 - يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَ اتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)، (آل عمران: 130).
4 - وَ أَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ وَ أَكْلِهِمْ أَمْوالَ النّاسِ بِالْباطِلِ وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161)، (النساء: 161).
5 - وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللّهِ وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)، (الروم: 39).
فإن الآيات المباركات تبين ما لخطورة هذا الأمر و عظمة تأثيره السلبي على2.
ص: 18
الاقتصاد للفرد و المجتمع، كما تبين مدى التهديد العظيم الذي هدد به اللّه تعالى المتعاملين بالربا ألا و هو حرب من اللّه و رسوله، و هذا ما نراه اليوم.
و لقد اكتشف علميا أن القلق الذي يحدث نتيجة تراكم الثروات يؤدي إلى إفراز مادة الأدرينالين التي بدورها ترفع ضغط الدم و تؤدي إلى الحزن و الألم، و هذا يؤدي إلى مرض البول السكري، و يتعرض الإنسان إلى الانفعالات العصبية فيرى الدنيا في عينيه سوداء قاتمة لا أمل فيها. يؤدي ذلك بالتراكم إلى تخبط الإنسان فيصبح بحال غير طبيعي كأن به مسا من جن أو كأنه مجنون، و هذا ما وصفه تعالى في كتابه الكريم في الآيات التي استعرضناها آنفا من الآية 275 من سورة البقرة و التي تصف حالة المتعاملين بالربا: اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا... . كما و أنك تجد نسبة عالية من الناس قد أصابهم من الربا أما مباشرة أو أصابهم من رشاشه تماما كما تنبأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فيما سيكون من أمر الناس عند آخر الزمان(1) ، فاختلطت أموالهم الحلال بحرامه بسبب البنوك و التعاملات الربوية من جهة و بسبب تداخل المصالح العالمية اليوم بشبكة عنكبوتية و التي أصبح معها من الصعب بمكان الانفكاك منها شئنا أم أبينا. فما ذا كانت النتيجة أننا أكلنا في بطوننا بعض هذا الحرام المتأتي من الربا المفروض علينا فرضا، فأصبح الرجال و النساء يرقصون و يتمايلون في الملاهي و الطرقات كأنهم بهم مس من الشيطان، إلا من رحم ربي، فصدق اللّه و رسوله.
ذكرنا تلك المشاكل الصحية المتأتية من الربا رغم أنه يفترض أن ندرجها ضمن المواضيع الطبية، و لكن الموضوع يقتضي الإشارة المباشرة. و لا أريد هنا الدخول في الأسباب التي أوصلتنا إلى هذه النهاية لأن الشرح يطول، و لكنني سأذكر بعض الأمور من كتاب ألفه رجل أمريكي اسمه وليم غاي كار و ترجمه إلى العربية سعيد جزائرلي و طبعته بالنسخة العربية دار النفائس للطباعة و النشر. اسم الكتاب (أحجار على رقعة الشطرنج) دفع المؤلف حياته ثمنا له و كان قد استغرق في تأليفه و جمع وثائقه و حقائقه حوالي أربعين عاما و قد أحدث ضجة كبيرة في خمسينات القرن العشرين و لا يزال من المصادر).
ص: 19
المهمة التي تقض مضاجع اليهود و فضائحهم التي تزكم الأنوف. يذكر المؤلف في هذا الكتاب حقائق مذهلة توصل إليها ببحث و استقصاء مضنيين مفادها أن سبب ما نعانيه هو المشكلة الاقتصادية التي أكلت العالم بسبب ما فعله المرابون اليهود طيلة أربع قرون من الزمن سيطروا فيها على المال العالمي و مصادره و أمسكوا بزمام الشريان الاقتصادي العالمي فتحكموا به و بنوا إمبراطورية اقتصادية مهولة أساسها الربا بأضعاف مضاعفة و من ثم تحولت سيطرتهم إلى سيطرة إعلامية و اجتماعية و سياسية و عسكرية و هذا ما نراه اليوم من سيطرتهم على أعقد العقد السياسية فيما يسمى الدول الكبرى في العالم، ألا و هو الكونغرس الأمريكي و بالتالي سيطرتهم على تعيين الرئيس الأمريكي نفسه، (و أضيف هنا أن أكثر من 80% من الحكومة الأمريكية منذ عام 1992 م و لحد اليوم هم من اليهود المؤصلين و هذه أكبر نسبة لليهود في تاريخ الحكومات الأمريكية)، بل إن المحافظين الجدد الذين يرسمون السياسة الأمريكية الحالية هم صهاينة أو متصهينون، فشتان بين جورج واشنطن الذي سمى اليهود بالحشرات التي يجب أن تسحق و تطرد، و بين ما وصلت إليه أمريكا اليوم، و كذلك شتان ما بين الملك إدوارد الأول الذي طرد ما تبقى من اليهود بعد ذبحهم ذبح الشاة و بين ونستون تشرشل الذي يقول أنا صهيوني ابن صهيوني، و كل من جاء بعده.
إن حب اليهود للمال جاء منذ عهد سيدنا موسى عليه السّلام بعد حادثة العجل الذي عبدوه بعد ما نجاهم اللّه تعالى من فرعون و كما أخبرنا القرآن الكريم، يقول اللّه تعالى:
... وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ... ، (البقرة: من الآية 93)، أي جعل الذهب و الفضة و المال الإله الذي يحكمهم بعد ما كفروا باللّه تعالى و سمحوا لأنفسهم بأن يعبدوا عجلا مصنوعا من الحلي الذي أخذوه من أهل مصر القديمة. هذا العقاب الإلهي لهم بأن أصبحوا عبدة للمال جعلهم لا يتورعون عن فعل أي شيء و من ذلك الربا الذي حرم عليهم في التوراة بنص الآية القرآنية التي ذكرناها (النساء: 161).
إن الكتاب الذي أشرنا إليه يذكر أسماء هؤلاء المرابين و انتساباتهم و مؤسساتهم و أين و صلوا الآن بعد أربعة قرون من العمل الأخطبوطي الدءوب توارثوه جيلا بعد جيل، و هو كتاب غاية في الأهمية و الروعة يعطي لقارئه الفكرة الواضحة حول خبث هؤلاء الناس و مكرهم و دهائهم الذي جعل من كل دول العالم مقلدا لهم أو طائعا ذليلا بسبب
ص: 20
الحبال التي أوثقوها حول رقاب الشعوب و ما فعلوه من أسلوب اقتصادي خنق العالم و كبله بالديون و المشاكل الاقتصادية التي لا تنتهي و ما صندوق النقد الدولي إلا ذراع واحد من أذرع هذا الأخطبوط المرعب.
لنتحول الآن إلى كاتب آخر و هو الدكتور حسين مؤنس، إذ كتب بحثا في مجلة أكتوبر المصرية (العدد 475، ديسمبر، 1985، ص 50-52)، توصل فيه في النهاية إلى تعبير نصه: «إذن فالربا يعني خراب الدنيا فعلا»، قال فيه: «خلال السنوات الماضية تجلى بوضوح أكثر فأكثر أن العالم كله يسير بسرعة متزايدة نحو كارثة اقتصادية بلا حدود، و أن تلك الكارثة لا ترجع إلى أن موارد الخير و الرزق في الأرض قد قلّت و لم تعد تكفي الناس، لأن الحقيقة عكس ذلك فقد ازدادت هذه الموارد خلال السنوات الماضية بصورة تخطت كل التوقعات و الدراسات، فإنتاج العالم من الغذاء يبلغ اليوم أضعاف حاجة البشرية جميعا إذا هي دبرت بعدالة، ففي بعض بلاد الدنيا مقادير من الغذاء تكفي أهل الأرض جميعا، فهذه أمريكا تتحدث عن جبال القمح، و هذه أوربا تحدثت عن جبال الزبد، بينما في قارة إفريقيا يموت 10% من سكانها سنويا في حين أن الملوك و الأمراء يعملون موائد تكفي إنقاذ أضعاف هذا الرقم من موتهم و هلاكهم و لا أحسب هذا التفاوت إلا من جراء الربا».
و قد ساق الرجل أمثلة عديدة بالأرقام حول موضوع الربا فمثلا نراه يقول «إن القلم الذي أكتب به الآن يكلف من مواد و صناعة و هندسة و نقل و أمور أخرى رقما يساوي عشر المبلغ الذي أشتريه به»، و أمثلة أخرى عديدة، و يقول أيضا متسائلا بعد هذه الأمثلة، (ما الذي يجعل هذا الفرق الهائل بين الواحد و العشرة؟! فيجيب، الوسطاء و البنوك، ثم يتساءل في نهاية البحث ما الذي يعطي الدولار كل هذه القوة؟!، إنه الربا، إنها المعاملات الربوية التي هي أساس الاقتصاد الغربي كله. لأن الثروة الأمريكية التي لا تصدق و التي يصل قيمة المداورة اليومية لها مئات البلايين من الدولارات لا يمكن أن تكون قد تكدست بهذه الصورة الرهيبة عن طريق التجارة الحرة الشريفة، لأن أرباح المعاملات التجارية مهما بلغت فإن للمكاسب التجارية حدودا، و الشطارة و المهارة مهما بلغت فهي لن تسمح لك ببيع منتجاتك بأكثر من أربعة أو خمسة أضعاف تكلفتها، فإذا أنت بعتها بمائة ضعف فأنت هنا تدخل في ميدان السرقة، و السرقة
ص: 21
تسمى في عرف التجارة الغربي ( Intrest ) أو ( Benifet ) و الترجمة العربية الفصيحة للكلمتين هو الربا». و توصل في نهاية بحثه إلى أن مأساة البشرية التي نعيشها الآن هو أساسها أن «عالمنا الراهن يقوم على الربا من البداية حتى النهاية».. فشتان بين عدل الاقتصاد في الإسلام و شريعته السمحاء التي ملأت العالم رحمة و عدلا طيلة ثمانية قرون و بين بربرية حضارة العم سام.
تعلق بعض المتأخرين بكلمة (أضعافا مضاعفة) التي وردت في قوله تعالى في الآية 130 من آل عمران التي أوردناها آنفا، و قالوا أن الربا المحرم هو ما كان أضعافا مضاعفة، أما ما كان بسيطا و قليلا فلا حرمة فيه. إن هذا الفهم الخاطئ للآية الرد على هؤلاء كما يذكر الأستاذ صلاح الدين عبد المجيد هو أن هذا من باب التدرج في التشريع تماما كما تدرج حكم تحريم الخمر، و العبرة دائما بالحكم الأخير، فكما يلاحظ من آيات الربا التي أوردناها أن هناك تدرجا في الحكم بتحريمه حتى وصل إلى درجة الحرب من اللّه و رسوله على فاعليه و العياذ باللّه.. و الأحاديث الشريفة الصحيحة في ذلك كثيرة، نذكر منها:
1. أخرج البخاري في الوصايا (2560) عن أبي هريرة رضي اللّهم عنه عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال (اجتنبوا السّبع الموبقات)، قالوا يا رسول اللّه و ما هنّ قال (الشّرك باللّه و السّحر و قتل النّفس الّتي حرّم اللّه إلاّ بالحقّ و أكل الرّبا و أكل مال اليتيم و التّولّي يوم الزّحف و قذف المحصنات المؤمنات الغافلات).
2. أخرج الإمام مسلم في المساقاة (2995) عن جابر قال لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم آكل الرّبا و مؤكله و كاتبه و شاهديه و قال هم سواء 3. أخرج أبو داود في البيوع (2896) عن سليمان بن عمرو عن أبيه قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في حجّة الوداع يقول (ألا إنّ كلّ ربا من ربا الجاهليّة موضوع لكم رءوس أموالكم لا تظلمون و لا تظلمون ألا و إنّ كلّ دم من دم الجاهليّة موضوع و أوّل دم أضع منها دم الحارث بن عبد المطّلب كان مسترضعا في بني ليث فقتلته هذيل)، قال (اللّهم هل بلّغت)، قالوا نعم ثلاث مرّات، قال (اللّهمّ اشهد)، ثلاث مرّات و لقد أصدر المؤتمر السنوي لمجمع البحوث الإسلامية الذي عقد عام 1965 م قرارا
ص: 22
هذا نصه: (الفائدة على أنواع القروض كلها ربا محرم، لا فرق في ذلك بين ما يسمى بالقرض الاستهلاكي و ما يسمى بالقرض الإنتاجي، و إن كثير الربا و قليله حرام). إن الربا له أضرار كثيرة في جوانب ثلاثة: الجانب الخلقي و الجانب الاجتماعي و الجانب الاقتصادي.
يرى عميد الاقتصاديين الأوربيين (كينز) أن الربا هو سبب الكساد، و أن المجتمع النامي لكي يحقق آماله في التنمية عليه أن يصل في تعامله الاقتصادي إلى الدرجة التي تصير درجة الفائدة (الربا) صفرا.. و إن نظرة واحدة إلى ديون العالم النامي التي و صلت إلى أرقام مرعبة، هي كلها ديون ربوية، و مهما عملت الدولة لتسديد تلك الديون تراها تغرق فيها أكثر، السبب ببساطة أن المبدأ هو مبدأ إيغال في المشكلة و ليس حلها.
على أن هناك فوائد لا تنكر من عمل المصارف الإسلامية كتيسير التبادل و تعزيز طاقة رأس المال و تحويل النقود بين الدول و بيع و شراء العملات و إصدار الشيكات و تحصيل الديون و بيع أسهم الشركات و تأجير الخزائن الحديدية و تسهيل التعامل مع الدول الأخرى.. و من هنا بدأت فكرة البنوك غير الربوية في خمسينيات القرن العشرين الميلادي، و قد أثبتت نجاحا باهرا مما دفع إلى تطوير الفكرة و انتشارها حتى وصل إلى أوربا و أمريكا(1).
في بدايات العقد التسعيني من القرن العشرين الميلادي عقد مؤتمر عن الاقتصاد الإسلامي في جامعة ليفيبوروه البريطانية بحضور كبار اقتصاديي العالم، و استمعوا إلى شروح عن آيات القرآن الكريم و أحاديث المصطفى صلّى اللّه عليه و سلّم المتعلقة بتنظيم الشئون الاقتصادية، فكان الانبهار العظيم من الجميع، و تم الاتفاق على تدريس الاقتصاد الإسلامي في الجامعات البريطانية في البكولوريوس و الماجستير و الدكتوراة.
و فعلا في عام 1996 م تأسس معهد ماركفيلد للدراسات الإسلامية الاقتصادية تحت إشراف أساتذة مسلمين متخصصين أمناء و أوفياء، و ليس المستشرقين الذين شوهوا الإسلام و كتابه و سنة رسوله، و دسوا لنا السم في الدسم. و قد قام هؤلاء الأساتذة بالإشرافف.
ص: 23
على الطلاب من مختلف المراحل الجامعية و لأربعة جامعات بريطانية كمرحلة أولى.
و ها هي المصارف الإسلامية غير الربوية تبدأ بالانتشار في أمريكا و أوربا و تدر بالربح الوفير باعتراف الغربيين أنفسهم، و ها هي الإنجازات تترى لتكون بداية الخير، فأول الغيث قطر كما يقولون، و الحمد للّه رب العالمين.
ص: 24
لقد كون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم مجتمعا رائعا بعد أن طبق النواميس و الأوامر الإلهية التي جاء بها القرآن الكريم، فبدأ بالنفس و الأهل و الأقربون صعودا إلى المجتمع و المدينة و الدولة، فكانت تلك الحقبة تمثل أعظم الحقب التي حفظت للإنسان كرامته و عزته بعد أن عرف ربه و استقام على ذلك.
و هنا أسرد قصة لطيفة لأحد الرحالة الأوربيين الذي زار بغداد في العصر العباسي الثاني، فآجر منزلا، و كان يستيقظ كل صباح فيجد القمامة التي رماها في باب بيته ليلة الأمس و قد أزيلت، و كان يتعجب للأمر. فقرر ذات ليلة أن يراقب الباب و لا ينام، فإذا بجاره يخرج عند هجيع الليل ليحمل القمامة و يرميها بعيدا. فأتى لجاره بعد ذلك فسأله عن الأمر، فقال له الجار، إني و اللّه لم أكن أتمنى أن تعلم بهذا، أما أنك و قد علمت و سألتني فسأجيبك... إن ديننا قد وصى بالجار، و إنني رجل أخاف العبور على الصراط يوم القيامة، فلم يفهم السائل، فسأله عما عناه بالصراط، ففسر له الأمر، فازداد عجبه. و عند ما عاد لبلده روى القصة لأهله و قال لهم متسائلا: هل استطاعت كل فلسفاتنا أن تضع في الناس خلقا رفيعا مثل ما فعله الصراط بالمسلمين؟... ذكرت تلك القصة لأبين لكل من يدعي أن المسلمين أخذوا النظافة من الغرب أن يعود لهذه الحضارة الرائعة و ذلك التاريخ المشرف ليعرف إلى أية أمة ينتمي.
و لقد كفلت حضارة الإسلام العظيمة للبشر كل ما يحتاجونه لإقامة الأسس و المرتكزات التي حددتها، و من ذلك:
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النّاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النّاسَ جَمِيعاً وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)، (المائدة: 32).
ص: 25
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَ لا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَ لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَ لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ (11)، (الحجرات: 11).. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَ لا تَجَسَّسُوا وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَ اتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ تَوّابٌ رَحِيمٌ (12)، (الحجرات: 12).
في البخاري (الحج 1623) عن ابن عبّاس رضي اللّهم عنهما أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم خطب النّاس يوم النّحر فقال: (يا أيّها النّاس أيّ يوم هذا قالوا يوم حرام قال فأيّ بلد هذا قالوا بلد حرام قال فأيّ شهر هذا قالوا شهر حرام قال فإنّ دماءكم و أموالكم و أعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا)، فأعادها مرارا ثمّ رفع رأسه فقال: (اللّهمّ هل بلّغت اللّهم هل بلّغت). قال ابن عبّاس رضي اللّهم عنهما فو الّذي نفسي بيده إنّها لوصيّته إلى أمّته فليبلغ الشّاهد الغائب لا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)، (النور: 27).
و في هذا يطول الشرح و التفصيل لكثرة ما ورد في ذلك.
للحاكم و المحكوم، ففي الترمذي (الفتن 2094) عن أبي بكر الصّدّيق أنّه قال أيّها النّاس إنّكم تقرءون هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ و إنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول: (إنّ النّاس إذا رأوا الظّالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم اللّه بعقاب منه). و في صحيح مسلم (الإيمان 82) عن تميم الدّاريّ أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال: (الدّين النّصيحة) قلنا لمن قال: (للّه و لكتابه و لرسوله و لأئمّة المسلمين و عامّتهم).
كما ذكرنا في ما سبق من آيات و كذلك قوله
ص: 26
تعالى: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ، (الأنعام: من الآية 164). أَلاّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38)، (النجم: 38)..
* وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)، (التوبة: 122)... و قد حث النبي صلّى اللّه عليه و سلّم على طلب العلم في عدة أحاديث كما في حديث النسائي في الطهارة (158) عن عاصم أنّه سمع زرّ بن حبيش يحدّث قال أتيت رجلا يدعى صفوان بن عسّال فقعدت على بابه فخرج فقال ما شأنك قلت أطلب العلم قال إنّ الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يطلب فقال عن أيّ شيء تسأل قلت عن الخفّين قال كنّا إذا كنّا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في سفر أمرنا أن لا ننزعه ثلاثا إلاّ من جنابة و لكن من غائط و بول و نوم.
فقد دعا الإسلام للعمل لأنه من أهم و سائل الارتزاق، و هو أساس الاقتصاد، و الدعامة الأساسية للإنتاج، و هو عبادة من أجلّ العبادات مع النية الخالصة، و كل قطرة عرق تبذل فيه تكون في ميزان المسلم مع صلاته و صيامه و زكاته.. و المسلم لا يعمل من أجل الدنيا و الحرص عليها و على فتنها و متاعها، بل لأن العمل أساس كل شيء بل هو أساس التقرب إلى اللّه تعالى.. يقول العلامة أبو الأعلى المودودي رحمه اللّه (إذا تعاطيت التجارة و الصناعة أو اشتغلت بالخدمة، و أديت ما عليك من الواجب بكل أمانة و صدق اتقاء للّه تعالى، ثم كسبت الحلال و تجنبت الحرام، كان كسبك هذا و سعيك في سبيله عبادة للّه تعالى، مع أنك ما قمت بكل ذلك إلا لتكسب الرزق لنفسك).. لذلك تجد أن القرآن الكريم قد قرن العمل بالإيمان في آيات كثيرة، فجاء الحث عليه في كتاب اللّه و سنة رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم و في أقوال السلف الصالح. يقول اللّه تعالى في دعوة صريحة للعمل و الارتزاق و طلب الرزق و الكسب و السعي لكسب المعاش فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَ ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللّهِ وَ اذْكُرُوا اللّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)،
ص: 27
(الجمعة: 10).. و يقول تعالى أيضا هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَ كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَ إِلَيْهِ النُّشُورُ (15)، (الملك: 15).. و كأن القرآن يصرخ بالناس أن اعملوا لتأخذوا ثمرة عملكم، و اتعبوا و انصبوا لتجدوا لذة كسبكم. فالسعي إذن هو الوسيلة إلى الكسب.. كما و قرن القرآن الكريم السعي في التجارة بالجهاد في سبيل اللّه تعالى إعلاء دينه، فيقول تعالى.. وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللّهِ وَ آخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ... ، (المزمل: من الآية 20).. و الآيات في هذا المعنى كثيرة، إذ أحصى بعض الباحثين المحققين الآيات القرآنية الداعية إلى العمل و السعي لكسب العيش فكانت تزيد على 160 آية، و التي ذكرت مطلق العمل بلغت 360 آية، كما وردت معاني أخرى للعمل في 109 آية.
و في الحديث الشريف نجد الأحاديث الكثيرة التي ترغب بالعمل، منها قوله صلّى اللّه عليه و سلّم في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند المكثرين (8060) عن أبي هريرة عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال (خير الكسب كسب يد العامل إذا نصح).. و قوله صلّى اللّه عليه و سلّم فيما ينقل البخاري رحمه اللّه تعالى في كتاب البيوع (1930) عن خالد بن معدان عن المقدام رضي اللّهم عنهم عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: (ما أكل أحد طعاما قطّ خيرا من أن يأكل من عمل يده و إنّ نبيّ اللّه داود عليه السّلام كان يأكل من عمل يده).. و قوله صلّى اللّه عليه و سلّم في حديث الطبراني في الأوسط و الأصبهاني من حديث ابن عباس رضي اللّه عنه: (من أمسى كالا من عمل يده أمسى مغفورا له).. و أخرج الترمذي في كتاب البيوع (1130) عن أبي سعيد عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال: (التّاجر الصّدوق الأمين مع النّبيّين و الصّدّيقين و الشّهداء).
و يسمو الإسلام بالعمل حتى يجعله بمنزلة الجهاد في سبيل اللّه، فقد روى كعب ابن عجرة رضي اللّه عنه قال مر على النبي صلّى اللّه عليه و سلّم رجل، فرأى أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم من جلده و نشاطه، فقالوا يا رسول اللّه لو كان هذا في سبيل اللّه!، فقال صلّى اللّه عليه و سلّم: (إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل اللّه، و إن كان خرج يسعى على أبوين كبيرين فهو في سبيل اللّه، و إن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل اللّه، و إن كان خرج يسعى رياء أو مفاخرة، فهو في سبيل الشيطان)، رواه الطبراني و رجاله رجال الصحيح.. و قد نهى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم عن المسألة و حث على القوة الاقتصادية فاليد العليا خير
ص: 28
من السفلى، و خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى كما قال صلّى اللّه عليه و سلّم، و حث على الدقة و الإتقان في العمل و قرنه بحب اللّه للعبد، و حث على إعطاء العامل و الأجير أجره بسرعة دون إبطاء.
أما أقوال السلف الصالح رضي اللّه عنهم في هذا المعنى كثيرة، منها ما يذكره الغزالي رحمه اللّه تعالى في الإحياء (64/2) و هو قول سيدنا عمر رضي اللّه عنه (ما من موضع يأتيني الموت فيه أحب إلي من موطن أتسوق فيه لأهلي: أي أبيع و أشتري)، و قوله رضي اللّه عنه (إني لأرى الرجل فيعجبني فأسأل: أ له حرفة؟، فيقال: لا، فيسقط من عيني)..
و قالت أم المؤمنين عائشة رضي اللّه عنها (المغزل بيد المرأة خير من الرمح في يد المجاهد).. و يقول بعض الصالحين (ليست العبادة أن تصف قدميك - يعني للعبادة - و غيرك يقوت لك: ابدأ برغيفيك فاحرزهما ثم تعبد).. و قال ابن خلكان (لو يعلم المسلمون و أبناء المسلمين ما أعد اللّه تعالى للمسلمين في إحياء الأرض، ما ترك مسلم بقعة دون إحياء رجاء الثواب المدخر عند اللّه تعالى).
و يسمو الإسلام بالعمل أيضا حتى يجعله فوق الكثير من العبادات، فالرجل الذي يعمل و يعول أخاه العابد يصير أعبد منه، و هناك من يفضل الصناع على العباد كالشيخ الشعراني و هو من المتصوفة، ذلك لأن نفع العبادة تعود على صاحبها حسب، بينما نفع الحرف فيعود على الناس جميعهم بالخير.. و إذا كان الإسلام قد دعا إلى العمل فقد نهى عن الجلوس في البيت من غير عمل، فهذا سيدنا عمر رضي اللّه عنه يدخل المسجد بعد الصلاة، فيرى فيه قوما قابعين بدعوى التوكل على اللّه، فما كان من فاروق الإسلام إلا أن علاهم بدرته، و قال كلمته المشهورة (لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق و يقول: اللهم ارزقني، و قد علم أن السماء لا تمطر ذهبا و لا فضة، و أن اللّه تعالى يقول فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَ ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللّهِ وَ اذْكُرُوا اللّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)..
و هذا الإمام أحمد رضي اللّه عنه سئل عمن يجلس في بيته من غير عمل بحجة أن رزقه سيأتيه فأجاب السائل (هذا رجل جهل العلم، أما سمع قول النبي صلّى اللّه عليه و سلّم (.. جعل رزقي تحت ظل رمحي..)، و قوله حين ذكر الطير (.. تغدو خماصا و تروح بطانا..).
ص: 29
وَ تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ اتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2)، (المائدة: من الآية 2). و هكذا كان العمل الجماعي للخير أمر فيه خير. ففي الترمذي (الفتن 2092) عن ابن عبّاس قال قال رسول صلّى اللّه عليه و سلّم: (يد اللّه مع الجماعة). و تعاون الجماعة في الإسلام من أعظم القربات إلى اللّه تعالى، فعن عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهم أخبره أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال «المسلم أخو المسلم لا يظلمه و لا يسلمه و من كان في حاجة أخيه كان اللّه في حاجته و من فرّج عن مسلم كربة فرّج اللّه عنه كربة من كربات يوم القيامة و من ستر مسلما ستره اللّه يوم القيامة»، و عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم «من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدّنيا نفّس اللّه عنه كربة من كرب يوم القيامة و من يسّر على معسر يسّر اللّه عليه في الدّنيا و الآخرة و من ستر مسلما ستره اللّه في الدّنيا و الآخرة و اللّه في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه...».
كما سنفصل لاحقا.
لقد كثر الحديث هذه الأيام عن حقوق الإنسان في دول العالم و في دول الغرب بالذات و تحديدا في الولايات المتحدة، فبدأت تسوق هذه الحقوق و كأنها بضاعتها أو أنها وصية عليها، و أصبحت ذريعة في إخضاع من هم دونها و إيذاء الأمم و الشعوب تحت دعوى الدفاع عن حقوق الإنسان. لكن الواقع يشير و منذ ما يربو عن ال 50 عاما أن الدول الغربية نفسها هي أول من لا يطبق هذه الحقوق إلا في الأمور التي تفيد مصالح ضيقة لجماعات معينة دون غيرها، و الأمثلة في هذا أكثر من أن تذكر. إن الكلام عن حقوق الإنسان لا يأخذ مداه ما لم يكن هناك تنفيذ و تفعيل لتلك الحقوق. فبدون منهجية تفعيل حقوق الإنسان و ضماناتها الحقيقية يصبح الكلام عنها و السعي إليها... كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَ ما هُوَ بِبالِغِهِ... ، (الرعد: من الآية 14).. فلا ينفع الكلام و التأشير و التعداد ما لم تقترن بالتطبيق.
يذهب علماء القانون العام إلى تقسيم حقوق الإنسان إلى مجموعات من أجل تيسير دراستها، فقسموها إلى مجموعة الحريات الشخصية التي تشمل الحرية الشخصية للفرد و حرية التنقل و السكن و المراسلات، ثم تأتي مجموعة حريات الفكر و تشمل حرية العقيدة و التعليم و الصحافة و الرأي. القسم الثالث هي مجموعات حريات التجمع مثل حرية
ص: 30
التظاهر و تأليف الجمعيات و الأحزاب و الحركات، ثم مجموعة الحقوق و الحريات الاجتماعية مثل حق العمل و اختيار نوعه و الراحة و الفراغ و المعونة عند العجز و المرض و الشيخوخة. ثم تأتي مجموعة الحريات الاقتصادية، مثل حق التملك و التجارة و الصناعة. و مجموعة الحقوق السياسية مثل حق الانتخاب و الترشيح و تقرير المصير...
و قد سبق الإسلام و كما فصلنا آنفا إلى تشريع هذه الحقوق بل أضاف إليها حقوقا أخرى.
و رغم أن هذه الحقوق و الحريات جاءت تعدادا و مناشدة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان غير أنه لا توجد وسائل فعالة لتفعيلها و نقلها من النظرية إلى التطبيق. و فوق ذلك فإنها باتت معرضة لأن تعصف بها العولمة بأبعادها الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية من جهة أخرى، و تحكّم الدول الكبرى المتغطرسة التي تشن الإرهاب الدولي تحت غطاء الدفاع عن حقوق الإنسان. و بقي ميثاق حقوق الإنسان حبرا على ورق و لم ينفذ منه شيء، فالعالم اليوم يعيش حالة غالب و مغلوب، و تفرد قوة عظمى بالهيمنة على العالم، بل إنها اختطفت الأمم المتحدة و ميثاقها و جعلتهما ألعوبة في يدها، فكان حق الفيتو سيئ الصيت لصالح مصالح خاصة ضيقة بمجموعة بشرية معينة قمة الإساءة للمنظومة الدولية و حقوق الإنسان، ثم جاء تشكيل المحكمة الجنائية الدولية ليسهم في تعزيز الظلم و الاستبداد في جعل جرائم أميركا و أعوانها في منأى عن المسائلة و العقاب..
لكن الأمر يختلف بالنسبة للشريعة الغراء، التي يستنبط منها نظام كامل متكامل لحقوق الإنسان لا يهتم بالدرج و التعداد، بل جعل حقوق الإنسان منهجا و فعلا و تطبيقا. و حين كانت أوربا تغط في نوم عميق و تعيش قرونها الوسطى المظلمة تحت جبروت القساوسة و النبلاء و السلطات المطلقة للحكام، جاء الإسلام بتصور شامل لحقوق الإنسان، و كانت دولة الإسلام تنشر العدل و الإحسان، على أسس و مبادئ شرعية قانونية لم تعرفها البشرية من قبل، و كان الخليفة مقيدا بأحكام الكتاب و السنة، ملتزما باحترام حقوق الإنسان و الأفراد و حرياتهم التي نص عليها الإسلام، و وضع الضمانات التي تكفل حمايتها من كل جور و اعتداء.. إن المنهج الإسلامي يقوم على إقامة العدل و تقديمه على السلم عند التقاطع بينهما، و لا يحترم السلم المبني على الظلم، و أعلن القرآن الكريم أن إقرار العدل في الأرض هو أعظم هدف بعد عبادة اللّه تعالى، و التي هي أعلى غاية على الإطلاق لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْمِيزانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَ رُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)، (الحديد: 25). و قوله تعالى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللّهِ ، (الحجرات: من الآية 9).. و بعد فإن الإسلام أسس على الأرض أول دولة قانونية تخضع فيه السلطة خضوعا تاما لقيود تسمو عليها، لأن مصدرها كتاب اللّه و أساسها الفكري العقيدة، لا تقبل التلبس بالظلم و الباطل و كما ذكرنا في قصة الإمام علي عليه الرضوان و السلام مع اليهودي، ترعى حقوق الإنسان من خلال منظومة كاملة من الأحكام، و حقوق الإنسان في الإسلام ذات صفة دينية تقوم على العقيدة و العبادات، و هي ليست منحة من بشر و إنما هي منح إلهية واجبة على الجميع، و لا مجال فيها لاستثناء أو تمييز ما بين حاكم و محكوم(1).
ص: 31
لكن الأمر يختلف بالنسبة للشريعة الغراء، التي يستنبط منها نظام كامل متكامل لحقوق الإنسان لا يهتم بالدرج و التعداد، بل جعل حقوق الإنسان منهجا و فعلا و تطبيقا. و حين كانت أوربا تغط في نوم عميق و تعيش قرونها الوسطى المظلمة تحت جبروت القساوسة و النبلاء و السلطات المطلقة للحكام، جاء الإسلام بتصور شامل لحقوق الإنسان، و كانت دولة الإسلام تنشر العدل و الإحسان، على أسس و مبادئ شرعية قانونية لم تعرفها البشرية من قبل، و كان الخليفة مقيدا بأحكام الكتاب و السنة، ملتزما باحترام حقوق الإنسان و الأفراد و حرياتهم التي نص عليها الإسلام، و وضع الضمانات التي تكفل حمايتها من كل جور و اعتداء.. إن المنهج الإسلامي يقوم على إقامة العدل و تقديمه على السلم عند التقاطع بينهما، و لا يحترم السلم المبني على الظلم، و أعلن القرآن الكريم أن إقرار العدل في الأرض هو أعظم هدف بعد عبادة اللّه تعالى، و التي هي أعلى غاية على الإطلاق لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْمِيزانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَ رُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)، (الحديد: 25). و قوله تعالى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللّهِ ، (الحجرات: من الآية 9).. و بعد فإن الإسلام أسس على الأرض أول دولة قانونية تخضع فيه السلطة خضوعا تاما لقيود تسمو عليها، لأن مصدرها كتاب اللّه و أساسها الفكري العقيدة، لا تقبل التلبس بالظلم و الباطل و كما ذكرنا في قصة الإمام علي عليه الرضوان و السلام مع اليهودي، ترعى حقوق الإنسان من خلال منظومة كاملة من الأحكام، و حقوق الإنسان في الإسلام ذات صفة دينية تقوم على العقيدة و العبادات، و هي ليست منحة من بشر و إنما هي منح إلهية واجبة على الجميع، و لا مجال فيها لاستثناء أو تمييز ما بين حاكم و محكوم(1).
رغم أننا قد تحدثنا عن بعض أوجه العظمة و الروعة في التشريع الإسلامي في الزواج و أسس تكون الأسرة في كتاب الطب النفسي، إلا إننا هنا سنحاول الولوج أكثر في هذا الموضوع.
إن من أشد ما تبتلى به الأمم و المجتمعات و الأفراد عدم الاتعاظ بأخطاء و تجارب غيرها من الأمم و المجتمعات البشرية على المستويين الفردي و الجماعي، و لذا حفل القرآن الكريم بقصص الأمم السابقة، فأحد أسباب ارتقاء العنصر البشري مقارنة بغيره من المخلوقات تراكم الخبرات بين الأجيال و انتقالها بين الأمم، لكن كثيرا ما يتخلى الإنسان عن هذه الميزة من تلقاء نفسه فيكرر أخطاء غيره و يطيل فترة تطوره و تقدمه. و من الأخطاء التي ما زالت تعاني منها الأمة و مجتمعاتها استيراد أنماطا اجتماعية و اقتصادية غربية ذات قضايا و اهتمامات مختلفة تماما عن واقعنا و حاجاتنا. لقد عشنا قرونا عديدة لا نجادل في مسلّمة جاءت في كتاب اللّه تعالى تقول:... وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى... ، فلم يكن رجالنا يرون في ذلك ميزة لهم - إلا حالات شاذة لا يقاس عليها -، و لم تكن نساؤنا يرين فيها إقلالا من شأنهن أو حطا من قدرهن، بل هي توصيف لواقع و فطرة نراها
ص: 32
شاخصة ليس فقط بين بني البشر بل بين الذكر و الأنثى لدى مخلوقات اللّه تعالى مما نرى حولنا. لكن هذا الواقع تغير لا بسبب اكتشاف جديد وضعنا أيدينا عليه أو مشكلة نجمت عن هذه المسلّمة، بل لأن تيارا في بعض بلدان الغرب سعى لأن يكون عكس ذلك بدعوى أن المرأة مظلومة لأنها لم تعط حقوقها عبر التاريخ، فجاءت استجابات مجتمعاتنا لهذه الدعاوى سريعة دون تمحيص أو تروي لمعرفة الحقيقة و إعطاء كل ذي حق حقه، فالمرأة في الغرب تخرّج امرأة تقود طائرة حربية، فنفعل حتى و لو كنا لا نقاتل أعدائنا، و هم يعملون فرق رياضية نسوية في الجمباز الخليع فنفعل و لكن بالبنطال، و المرأة عندهم تلبس الخليع لموضة خريف عام كذا فنفعل و نقلد كالببغاوات و الأرجوزات، و غير ذلك من الأمثلة التي تنم عن عقد نفسية مترسخة في كثير ممن ينتمون لهذه الأمة بالاسم فقط، اسمها الغرب.
إن حقيقة كون الجنسين متساويين في كل شيء و بشكل مطلق تم ترويجها في السنين الأخيرة من حياة البشرية، فدعوى تحرير المرأة و دعوى المساواة و إنقاذ الجنس اللطيف من همجية الرجال و تسلطهم جاءت متأخرة و بالتحديد في القرنين الماضيين فقط.
فلم نسمع في تاريخ الحضارات جميعا صدى لهذه الدعوة، لا لأن الرجل كان يضطهد المرأة و يبيعها في سوق النخاسة، أو يتمتع بها و يرميها، أو لأسباب أخرى، و إنما لأن هذه الدعوة هي باختصار كلمة حق يراد بها باطل.
فحقيقة أن المرأة مضطهدة في كثير من حقوقها لا ينكرها عاقل، و لكن المشكلة هذا التكالب و الثورة غير المنضبطة في سبيل تحقيق ما يزعم أنه تطبيق عادل لما يضمن للمرأة حقوقها المتكافئة مع حقوق الرجل بما يجعل المجتمع يسير في طريق الخير و المساواة، و لكن الحقيقة أن المسألة أخطر من ذلك بكثير.
لقد أعطى الإسلام حقوقا للمرأة و تكريما لم يشهد التاريخ البشري مثيلا له من قبل، فقد كانت البنت محتقرة، و محل سخرية و تذمر لأهلها في أغلب المجتمعات البشرية قبل الإسلام، و لا يقتصر ذلك على عرب الجزيرة كما يظن البعض و إن كان يبدو أن الأمر لدى العرب يأخذ منحى أكبر، فقد كانت توأد و تدفن حية لمجرد كونها أنثى، فكان هذه الأفعال و غيرها من أشد الأفعال التي ردّها الإسلام و حرّمها بقوله تعالى أَ فَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَ اتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40)،
ص: 33
(الإسراء: 40).. وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَ يُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59)، (النحل).. أَمِ اتَّخَذَ مِمّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَ أَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ (17) (الزخرف)..
وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)، (التكوير).
و هكذا نزل القرآن الكريم ليعطي المرأة المنزلة الراقية التي تستحق، فأفرد لها سورة باسمها (سورة النساء) و التي ثبتت حقيقة مهمة في بداياتها و هي مساواة المرأة للرجل في النشأة و الخلق و العبودية للّه تعالى يا أَيُّهَا النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَ نِساءً وَ اتَّقُوا اللّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ الْأَرْحامَ إِنَّ اللّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1)، (النساء: 1). فكلمة زوج تعني المقابلة، فللزوجية في القرآن عدة معاني و هنا تعني التقابل أو التكامل أو المساواة و ليس التضاد...
كذلك جمع اللّه تعالى بين الجنسين في مهمة استخلاف اللّه البشر على إدارة الأرض و إصلاحها و هو يقصد جنس البشر ذكرا كان أو أنثى (البقرة: 30)، و سوّى بين الجنسين في التكريم و التفضيل الذي خصّ به الإنسان (الإسراء: 70)، و ساوى بينهما في الخلق من طين (ص: 16)، و نفى الإسلام عن المرأة مسئولية الخطيئة الأصلية. كما ركزت الآيات و الأحاديث على المساواة في العمل مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (97)، (النحل: 97). هنا تجدر الإشارة إلى أن تقديم الذكر على الأنثى لا يفيد التفضيل كما يظن البعض، فكما يعلم من قواعد اللغة و الأحكام الشرعية أن التغليب هنا يفيد المساواة، فالقرآن كان يمكن أن يشير إلى النساء بصيغة جمع المذكر الذي يفهم على أنه يعني الإناث أيضا، و هذا يعرف لغة بالتغليب، و لكن القرآن فضل الوضوح منعا للبس و تأكيدا للمساواة. كذلك ساوى الشرع الحنيف بين الجنسين في اكتساب الأجر وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَ سْئَلُوا اللّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً ، (النساء:
ص: 34
32). كما ساوى الإسلام بين الجنسين في الولاية و تولي المسئوليات كالدعوة إلى اللّه و عمل الخير و النهي عن الشر و الجهاد و غير ذلك من المسئوليات التي تقيم المجتمع و الدولة بقوله تعالى: وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ يُطِيعُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)، (التوبة: 71).
و قد كانت السيدة عائشة رضي اللّه عنها من كبار رواة الحديث و عنها قال عروة بن الزبير (ما رأيت أحدا أعلم بفقه أو طب أو شعر من عائشة أم المؤمنين رضي اللّه عنها). و يروى أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه ولّى (أم الشفاء بنت عبد اللّه) على مرفق اقتصادي مهم هو حسبة السوق. كما أن سمراء بنت نهيك الأسدية كانت تمر بالسوق تأمر بالمعروف و تنهى عن المنكر. و هناك أميرات ولّين الحكم في التاريخ الإسلامي كشجرة الدر وقت المماليك في مصر.
كما ساوى الإسلام الجنسين بمسئولية تحمل النتائج بغض النظر عن الفاعل: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)، (المدثر: 38).. و أخرج البخاري في صحيحه (كتاب الجمعة 844) عن ابن عمر رضي اللّهم عنهما أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول: (كلّكم راع و كلّكم مسئول عن رعيّته الإمام راع و مسئول عن رعيّته و الرّجل راع في أهله و هو مسئول عن رعيّته و المرأة راعية في بيت زوجها و مسئولة عن رعيّتها و الخادم راع في مال سيّده و مسئول عن رعيّته و كلّكم راع و مسئول عن رعيّته).
أما عن العقوبة لجرم كالسرقة فقد قدم الرجل السارق على المرأة السارقة لأنه الأقدر على ذلك: وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللّهِ وَ اللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)، (المائدة: 38). بينما في الزنا قدمت المرأة الزانية في العقوبة على الرجل لأن بيدها إتمام الجرم من عدمه، فهي تستطيع منع الجرم إن أرادت حتى و إن أراد الرجل الزاني اَلزّانِيَةُ وَ الزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)، (النور: 2). و القاعدة الفقهية في هذا الباب الذي يعنى بالعقوبات
ص: 35
و المعروف قانونا بالمساواة القانونية بين الجنسين تقول (النساء شقائق الرجال). و لكن الإسلام غلّظ العقوبة في الدنيا و الآخرة على الذين يدّعون أمر الزنا على المرأة دون بينة و يتهمونها جزافا و بهتانا، إذ عليهم بأربعة شهود على دقة ادعاءهم: وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4)، (النور: 4).. إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ، (23)، (النور: 23).
أما في المعاملة فقد أمر الشرع الحنيف الرجال بحسن المعاملة مع النساء، فها هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يوصينا بالنساء في كل الأوقات، بل و حتى قبل وفاته صلّى اللّه عليه و سلّم كان آخر كلامه أن استوصوا بالنساء خيرا، و كان أحن الناس على أزواجه، ففي الحديث الذي أخرجه الترمذي (المناقب 3830) عن عائشة قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: (خيركم خيركم لأهله و أنا خيركم لأهلي).. و في بعض أسفاره كان يأخذ إحدى زوجاته صلّى اللّه عليه و سلّم فحصل أن ساق الحادي الجمل بقوة فوبخه صلّى اللّه عليه و سلّم على هذا الفعل و أمره أن يرفق بالقوارير أي بالنساء، و سماهنّ كذلك لرقتهن، فقد أخرج البخاري في الأدب (5741) عن أنس بن مالك قال كان النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم في مسير له فحدا الحادي فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم: (ارفق يا أنجشة ويحك بالقوارير). و المتتبع لسيرة المصطفى صلّى اللّه عليه و سلّم و سير الصحابة و التابعين يجد القصص الرائعة التي تذرف لها الدموع من فرط المحبة و الإخلاص و حسن التعامل و المودة بين الزوجين في البيت المسلم و بين الحاكم و المحكوم في حالة الدولة و القضاء.
أما قدسية الزواج فقد كرّم الإسلام الزوجة أيما تكريم منذ خطبتها و حتى أقرب الأجلين الموت أو التفريق إن حصل و ما يتخلل ذلك من معاملات، و في كلتا الحالتين لا يجوز للزوج أن يأخذ من الزوجة ما قدمه لها إلا إذا أتت بفاحشة وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (20)، (النساء: 20). و أما الزوجة الصالحة فقد جعلت أعظم كنز يعطى للرجل في دنياه. ففي سنن أبي داود (الزكاة 1417) عن ابن عبّاس رضي اللّه عنهما قال: لمّا نزلت هذه الآية وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ... ، قال كبر ذلك على المسلمين فقال عمر رضي اللّه عنه أنا أفرّج عنكم فانطلق فقال يا نبيّ اللّه إنّه كبر على
ص: 36
أصحابك هذه الآية فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: (إنّ اللّه لم يفرض الزّكاة إلاّ ليطيّب ما بقي من أموالكم و إنّما فرض المواريث لتكون لمن بعدكم)، فكبّر عمر ثمّ قال له (أ لا أخبرك بخير ما يكنز المرء المرأة الصّالحة إذا نظر إليها سرّته و إذا أمرها أطاعته و إذا غاب عنها حفظته).
أما تعدد الزوجات و التي أخذها الغرب حجة على الإسلام كما توهموا، فهي اختيارية و شرعت لأسمى غرض و هو الخوف على النساء من الضياع خصوصا أولاء الأطفال منهن و الذين لا يجدون من يعيلهن، فهي اختيار و بشروط مهمة أهمها إقامة العدل بينهن فإذا تعذر ذلك فزوجة واحدة تكفي وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاّ تَعُولُوا (3)، (النساء: 3). تدبر الآية و انظر أنها شرطية ابتدأت ب (و إن) أداة شرط. أي إن خفتم ألا تعطوا اليتامى حقوقهم فلكم أن تتزوجوا من أمهاتهن لترعوهم، ثم تعود الآية لتقول، ف (إن) مرة أخرى خفتم ألا تعدلوا بين النساء فزوجة واحدة فقط. و يدل على صعوبة القدرة على العدل بين النساء قوله تعالى وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَ إِنْ تُصْلِحُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129)، (النساء: 129). و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم دائما ما يطبق العدل بين الزوجات في الأمور الدنيوية و المعيشية فيوزع عليهن الرزق بالتساوي و كذلك كان يعطيهم حق الزوجية دون تمييز، أما في الأمور العاطفية فقد كانت السيدة عائشة رضي اللّه عنها أحب زوجاته إلى قلبه و أمور القلب ليس للإنسان عليها من سلطان. فقد أخرج الترمذي (النكاح 1059) عن عائشة أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم كان يقسم بين نسائه فيعدل و يقول: (اللّهمّ هذه قسمتي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك و لا أملك)، قال أبو عيسى حديث عائشة هكذا رواه غير واحد مرسلا. و معنى قوله لا تلمني فيما تملك و لا أملك إنّما يعني به الحبّ و المودّة كذا فسّره بعض أهل العلم.
و لك أخي الكريم أن تعرف سماحة الإسلام في التشريع الذي ينظر لكل الناس صغيرهم و كبيرهم ذكرهم و أنثاهم ليحقق العدل. فكل تلك التفاصيل لتبين لك عظمة الزواج و مكانة الزوجة، كيف لا و قد جعلت وثيقة الزواج ميثاقا غليظا يشبه الميثاق
ص: 37
الغليظ الذي أعطي لأولي العزم من الأنبياء عليهم السلام و كما فصلنا في كتاب الطب.
و لقد ذكرنا بعض الحالات التي ساهمت فيها المرأة في الحرب و السلم و التمريض في كتاب الطب، و نضيف أن الإسلام أعطى حقا للمرأة في أمور عديدة اقتصادية و اجتماعية و علمية و غيرها. و لكن الشرع الحنيف ثبّت حقائق واضحة لا يمكن تجاوزها، ألا و هي أن الرجل أفضل من المرأة لا لغرض التفضيل المتعصب، و لكن لأن الرجل يمتلك من المقومات الخلقية و الخلقية ما يجعله كذلك.
على أن الجهال و أصحاب الأغراض و المصالح الضيقة و الفهم القاصر للدين استغلوا هذه الحقيقة فقدموا نماذج صارخة لظلم المرأة و استغلالها السيئ عبر التاريخ قديمه و حديثه، فحصلت ردة فعل طبيعية للمرأة معتقدة أن الثورة على التقاليد الشرعية و نفي الدين و إبعاد الشريعة عن واقعنا هو الحل، فتسممت الأفكار بدعاوى الغرب في تحرير المرأة، و التي جاءت بعد عقود الظلم التي عاشتها هناك.
يبين اللّه تعالى أن للذكر أحقية عن الأنثى من أوجه عدة لا لتحقير المرأة بل لتكريمها. فكما أن الملك أو المسئول يحمى من قبل أناس متخصصون أقوى منه خوفا من غدر الغادرين، و كما أن الجواهر تحمى في زجاج خاص خوفا من السراق، كذلك المرأة جعلت بهذه المواصفات كي تكرّم و تحمى لأنها لا تقدر على معترك الحياة القاسية لوحدها دون رجل يقوم عليها و يحميها و يوفر لها سبل العيش الرغيد، تماما كما أن الرجل القوي لا يقدر على هذه الحياة بدون المرأة..
و هنا نريد أن نعكس الحالة فنقول مثلا لما ذا أحل اللّه الفضة للمؤمنين من الذكور في الدنيا و حرّم الذهب، بينما أحلهما للإناث، هل ليحقّر الرجال مثلا دون النساء، أم في المسألة اعتبارات أخرى؟!.
لقد أثبتت البحوث الطبية أن الذهب يؤثر على كريات الدم الحمراء للرجال دون النساء بسبب وجود طبقة شحمية بين الجلد و اللحم للنساء تمنع الإشعاعات الناتجة من معدن الذهب. و الذي يبلغ عمر النصف فيه 2,7 يوما، بينما لا تؤثر إشعاعات معدن الفضة على الرجال و النساء، كما أثبتت البحوث الطبية العديدة أن إشعاعات الذهب لها دور سلبي على الهرمونات الجنسية الذكرية. و عن كتاب أطلس الكون الذري للدكتور أنيس الراوي، فإن جسم الإنسان لا يحوي على الفضة في تركيبه بينما يحوي
ص: 38
الذهب و اليورانيوم و الحديد و أغلب العناصر الأخرى، كما و أن الفضة و الذهب كأوان يتفاعلان مع مركبات الطعام لتكوين مركبات تتفاعل مع الأنزيمات البشرية فتكون مادة تؤذي صحة الجسم.. و هذا بالضبط ما اخبرنا به صلّى اللّه عليه و سلّم بقوله «الذهب و الحرير حرام على ذكور أمتي حل لإناثها»(1) ، و قد نهانا صلّى اللّه عليه و سلّم عن الشرب بآنية الذهب و الفضة و لبس الحرير و الديباج و قال «هي لهم في الدنيا و لكم في الآخرة»(2) ، كما و أن الفضة أرخص بكثير من الذهب و هي تلائم حالة الأمة الوسط التي ارادها اللّه لأمتنا. و هذا ما يثبت لنا مدى الفائدة العظيمة من تحريم الذهب على الرجال من أمة سيدنا محمد صلّى اللّه عليه و سلّم بسببها و كم أن الإسلام يراعي الناس بكل أحوالهم، فما من تحريم لشيء إلا و جاء بسبب فائدة إما صحية أو اجتماعية أو نفسية أو غيرها.
إذن، هنا اختصاص لحالة عامة إذ أن التحريم للذهب جاء للذكور لأسباب عدة منها صحية و منها نفسية و اجتماعية و غيرها و ليس تحقيرا لهم بل تكريما و فائدة، فنفس الكلام ينطبق على التفاصيل الشرعية في حقوق المرأة و واجباتها.
هذه الحقيقة تؤكد أن تكريم المرأة و علو شأنها في الإسلام جاء لعظمة دورها في المجتمع الإسلامي، و كما أن الذهب يتعب لاستحصاله فهو إما في باطن الأرض أو عند الجواهري فلا يستحصل إلا بمال كثير فكذلك المرأة المسلمة كنز لا يرى إلا لصاحبه و لا يستحصل إلا بتعب و ثمن غال و كل من يريد أن يغير هذه السنة الا و هي كرامة المرأة و سترها و حجابها و عدم ظهور زينتها إلا لزوجها و المحارم فقد ساهم في تغيير سنة اللّه في خلقه و تناغم مخلوقاته وَ اللّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ يُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27)، (النساء: 27)، و اللّه أعلم(3).
جاءت الآيات التي تؤكد على حقيقة قوامة الذكر على الأنثى كما يلي:
1. في المجال القضائي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّىف.
ص: 39
فَاكْتُبُوهُ وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَ لا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَ لْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَ لْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَ لا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَ لا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَ لا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللّهِ وَ أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَ أَدْنى أَلاّ تَرْتابُوا إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاّ تَكْتُبُوها وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ وَ إِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَ اتَّقُوا اللّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (282)، (البقرة: 282).. يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَ إِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَ لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11)، (النساء: 11).. في هذه الآيات المباركات دلائل و استنباطات عديدة منها اقتصادية في أهمية الاكتتاب و العقد و الشهود، و منها اجتماعية لغرض تثبيت الحقوق لكل الأطراف في الميراث و العقود، و منها حقائق علمية في أن حقل الذاكرة في دماغ الرجل أكبر منه عند الأنثى لذلك يتم الاعتماد في الشهادة على الرجال أكثر من النساء، و قد فصلنا في هذا في كتاب الجملة العصبية.
2. في المجال الفيزيائي و الجسماني: فَلَمّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَ اللّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَ إِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَ إِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَ ذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36)، (آل عمران: 36).. اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللّهُ وَ اللاّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ اهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَ اضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كانَ عَلِيًّا
ص: 40
كَبِيراً (34)، (النساء: 34).. تبين الآيات أن الرجال أكثر قوة في أمر العمل و المشاق الجسمانية من المرأة. و كان لهذا التفضيل السبب الرئيس الذي جعل للرجل القيومية على الأسرة.
لكي نفهم المسألة علينا فهم الآية من خلال علوم القرآن الكريم من حيث الإعراب و سبب النزول و التفسير لغة و اصطلاحا و معنى. و ذلك من خلال مراجعتنا لما ذكرته المصادر التالية:
1. التبيان في إعراب القرآن (ج: 1 ص: 178): قوله تعالى قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ
على متعلقة بقوامون و بما متعلقة به أيضا و لما كان الحرفان بمعنيين جاز تعلقهما بشيء واحد "فعلى" على هذا لها معنى غير معنى الباء و يجوز أن تكون الباء في موضع الحال فتتعلق بمحذوف تقديره مستحقين بتفضيل اللّه إياهم و صاحب الحال الضمير في قوامون و ما مصدرية فأما ما في قوله و بما أنفقوا فيجوز أن تكون مصدرية فتتعلق من بأنفقوا و لا حذف في الكلام و يجوز أن تكون بمعنى الذي و العائد محذوف أي و بالذي أنفقوه فعلى هذا يكون من أموالهم حالا فالصالحات مبتدأ قانتات حافظات خبران عنه و قرئ فالصوالح قوانت حوافظ و هو جمع تكثير دل على الكثرة و جمع التصحيح لا يدل على الكثرة بوضعه و قد استعمل فيها كقوله تعالى وَ هُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ بما حفظ اللّه في ما ثلاثة أوجه بمعنى الذي و نكرة موصوفة و العائد محذوف على الوجهين و مصدرية و قرئ بما حفظ اللّه بنصب اسم اللّه و ما على هذه القراءة بمعنى الذي أو نكرة و المضاف محذوف و التقدير بما حفظ أمر اللّه أو دين اللّه و قال قوم هي مصدرية و التقدير حفظهن اللّه و هذا خطأ لأنه إذا كان كذلك خلا الفعل عن ضمير الفاعل لأن الفاعل هنا جمع المؤنث و ذلك يظهر ضميره فكان يجب أن يكون بما حفظهن اللّه و قد صوب هذا القول و جعل الفاعل فيه للجنس و هو مفرد مذكر فلا يظهر له ضمير و اللاتي تخافون مثل قوله و اللاتي يأتين الفاحشة و مثل و اللذان يأتيانها و قد ذكروا و اهجروهن في المضاجع في وجهين أحدهما هي ظرف للهجران أي اهجروهن في مواضع الاضطجاع أي اتركوا مضاجعهن دون ترك مكالمتهن.
2. العجاب في بيان الأسباب (ج: 2 ص: 868-869): قوله تعالى (الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) ، الآية. أخرج ابن أبي حاتم من
ص: 41
طريق أشعث بن عبد الملك عن الحسن قال جاءت امرأة إلى النبي تستعدي على زوجها أنه لطمها فقال رسول اللّه القصاص فأنزل اللّه تعالى اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ الآية فرجعت بغير قصاص و أخرجه عبد بن حميد و ابن المنذر من طريق حماد بن سلمة و أخرجه الواحدي من طريق هشام كلاهما عن يونس و أخرج ابن المنذر من طريق جرير بن حازم كلاهما عن الحسن أن رجلا لطم امرأته فخاصمته إلى النبي فجاء أهلها معها فذكر نحوه و فيه فجعل رسول اللّه يقول القصاص القصاص و لا يقضي قضاء فأنزل اللّه هذه الآية فقال النبي أرادوا أمرا و أراد اللّه غيره و نقل الثعلبي عن الكلبي قال نزلت في سعد بن الربيع و امرأته عميرة بنت محمد بن مسلمة و ذكر نحو القصة الآتية عن مقاتل... و نقل عن أبي روق أنها نزلت في جميلة بنت عبد اللّه بن أبي و زوجها ثابت بن قيس بن شماس كانت نشزت عليه فلطمها فاستعدت عليه فنزلت قلت و قد تقدم ذكر هذه الأخيرة في تفسير البقرة في قوله تعالى فيما افتدت به و كان ذلك الخلع أول خلع في الإسلام و قال مقاتل نزلت في سعد بن الربيع كان من النقباء و امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير و هما من الأنصار و ذلك أنها نشزت عليه فلطمها فانطلق أبوها معها إلى رسول اللّه فقال أفرشته كريمتي فلطمها فقال لتقتص من زوجها فانصرفت مع أبيها لتقتص منه فقال النبي ارجعا هذا جبريل أتاني فأنزل اللّه تعالى الرجال قوامون على النساء الآية، فقال النبي أردنا أمرا و أراد اللّه أمرا و الذي أراد اللّه خير و رفع القصاص و قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة صك رجل امرأته فأتت النبي فأراد أن يقيدها منه فنزلت و أخرجه عبد بن حميد من رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة بلغنا فذكر.
3. لسان العرب (ج: 12 ص: 497، 503-505): و القامة جمع قائم عن كراع قال ابن بري رحمه اللّه قد ترتجل العرب لفظة قام بين يدي الجمل فيصير كاللغو و معنى القيام العزم كقول العماني الراجز للرشيد عند ما هم بأن يعهد إلى ابنه قاسم
قل للإمام المقتدى بأمهما قاسم دون مدى ابن أمه
فقد رضيناه فقم فسمه
أي فاعزم و نص عليه، و منه قوله تعالى وَ أَنَّهُ لَمّا قامَ عَبْدُ اللّهِ يَدْعُوهُ أي لما عزم و قوله تعالى إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي عزموا فقالوا قال و قد يجيء القيام بمعنى المحافظة و الإصلاح و منه قوله تعالى اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ و قوله تعالى إِلاّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً أي ملازما محافظا و يجيء القيام بمعنى الوقوف و الثبات. يقال للماشي قف لي أي تحبس مكانك حتى آتيك و كذلك قم لي بمعنى قف لي و عليه فسروا قوله سبحانه وَ إِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا قال أهل اللغة و التفسير قاموا هنا بمعنى وقفوا و ثبتوا في مكانهم غير متقدمين و لا متأخرين و منه التوقف في الأمر و هو الوقوف عنده من غير مجاوزة له و منه الحديث المؤمن وقاف متأن.
ص: 42
أي فاعزم و نص عليه، و منه قوله تعالى وَ أَنَّهُ لَمّا قامَ عَبْدُ اللّهِ يَدْعُوهُ أي لما عزم و قوله تعالى إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي عزموا فقالوا قال و قد يجيء القيام بمعنى المحافظة و الإصلاح و منه قوله تعالى اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ و قوله تعالى إِلاّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً أي ملازما محافظا و يجيء القيام بمعنى الوقوف و الثبات. يقال للماشي قف لي أي تحبس مكانك حتى آتيك و كذلك قم لي بمعنى قف لي و عليه فسروا قوله سبحانه وَ إِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا قال أهل اللغة و التفسير قاموا هنا بمعنى وقفوا و ثبتوا في مكانهم غير متقدمين و لا متأخرين و منه التوقف في الأمر و هو الوقوف عنده من غير مجاوزة له و منه الحديث المؤمن وقاف متأن.
و منه قامت الدابة إذا وقفت عن السير و قام عندهم الحق أي ثبت و لم يبرح و منه قولهم أقام بالمكان هو بمعنى الثبات. و يقال قام الماء إذا ثبت متحيرا لا يجد منفدا و إذا جمد أيضا، و قامت السوق إذا نفقت و نامت إذا كسدت و سوق قائمة نافقة و سوق نائمة كاسدة و قاومته قواما قمت معه صحت الواو في قوام لصحتها في قاوم و القومة ما بين الركعتين من القيام قال أبو الدقيش أصلي الغداة قومتين و المغرب ثلاث قومات و كذلك قال في الصلاة. و قام الرجل على المرأة مانها و إنه لقوام عليها مائن لها و في التنزيل العزيز اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ و ليس يراد هاهنا و اللّه أعلم القيام الذي هو المثول و التنصب و ضد القعود إنما هو من قولهم قمت بأمرك، فالرجال متكفلون بأمور النساء معنيون بشئونهن و كذلك قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ
أي إذا هممتم بالصلاة و توجهتم إليها بالعناية و كنتم غير متطهرين فافعلوا كذا. و أقام الصلاة إقامة و إقاما فإقامة على العوض و إقاما بغير عوض و في التنزيل وَ أَقامَ الصَّلاةَ و من كلام العرب ما أدري أ أذن أو أقام يعنون أنهم لم يعتدوا أذانه أذانا و لا إقامته إقامة لأنه لم يوف ذلك حقه فلما ونى فيه لم يثبت له شيئا منه إذ قالوها بأو و لو قالوها بأم لأثبتوا أحدهما لا محالة و قالوا قيم المسجد و قيم الحمام قال ثعلب قال ابن ماسويه ينبغي للرجل أن يكون في الشتاء كقيم الحمام و أما الصيف فهو حمام و جمع قيم عند كراع قامة قال ابن سيده و عندي أن قامة إنما هو جمع قائم على ما يكثر في هذا الضرب و الملة القيمة المعتدلة و الأمة القيمة كذلك و في التنزيل وَ ذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ أي الأمة القيمة و قال أبو العباس و المبرد هاهنا مضمر أراد ذلك دين الملة القيمة فهو نعت مضمر محذوف و قال الفراء هذا مما أضيف إلى نفسه لاختلاف لفظيه قال الأزهري و القول ما قالا و قيل الهاء في القيمة للمبالغة و دين قيم كذلك و في التنزيل
ص: 43
العزيز دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ و قال اللحياني و قد قرئ دينا قيما أي مستقيما قال أبو إسحاق القيم هو المستقيم و القيم مصدر كالصغر و الكبر إلا أنه لم يقل قوم مثل قوله لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً لأن قيما من قولك قام قيما و قام كان في الأصل قوم أو قوم فصار قام فاعتل قيم و أما حول فهو على أنه جار على غير فعل و قال الزجاج قيما مصدر كالصغر و الكبر و كذلك دين قويم و قوام و يقال رمح قويم و قوام قويم أي مستقيم، قال إلا أن القيم مصدر بمعنى الاستقامة... و في الحديث تسوية الصف من إقامة الصلاة أي من تمامها و كمالها قال فأما قوله قد قامت الصلاة فمعناه قام أهلها أو حان قيامهم و في حديث عمر في العين القائمة ثلث الدية هي الباقية في موضعها صحيحة و إنما ذهب نظرها و إبصارها و في حديث أبي الدرداء رب قائم مشكور له و نائم مغفور له أي رب متهجد يستغفر لأخيه النائم فيشكر له فعله و يغفر للنائم بدعائه و فلان أقوم كلاما من فلان أي أعدل كلاما و القوم الجماعة من الرجال و النساء جميعا و قيل هو للرجال خاصة دون النساء و يقوي ذلك قوله تعالى لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَ لا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ أي رجال من رجال و لا نساء من نساء فلو كانت النساء من القوم لم يقل و لا نساء من نساء، و قوم كل رجل شيعته و عشيرته و روي عن أبي العباس النفر و القوم و الرهط هؤلاء معناهم الجمع لا واحد لهم من لفظهم للرجال دون النساء و في الحديث إن نساني الشيطان شيئا من صلاتي فليسبح القوم و ليصفق النساء قال ابن الأثير القوم في الأصل مصدر قام ثم غلب على الرجال دون النساء و لذلك قابلهن به و سموا بذلك لأنهم قوامون على النساء بالأمور التي ليس للنساء أن يقمن بها الجوهري القوم الرجال دون النساء لا واحد له من لفظه قال و ربما دخل النساء فيه على سبيل التبع لأن قوم كل نبي رجال و نساء و القوم يذكر و يؤنث لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها إذا كانت للآدميين تذكر و تؤنث مثل رهط و نفر و قوم قال تعالى وَ كَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ فذكر و قال تعالى كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) فأنث قال فإن صغرت لم تدخل فيها الهاء و قلت قويم و رهيط و نفير و إنما يلحق التأنيث فعله و يدخل الهاء فيما يكون لغير الآدميين مثل الإبل و الغنم لأن التأنيث لازم له و أما جمع التكسير مثل جمال و مساجد و إن ذكر و أنث فإنما تريد الجمع إذا ذكرت
ص: 44
و تريد الجماعة إذا أنثت ابن سيده و قوله تعالى كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إنما أنث على معنى كذبت جماعة قوم نوح و قال المرسلين و إن كانوا كذبوا نوحا وحده لأن من كذب رسولا واحدا من رسل اللّه فقد كذب الجماعة و خالفها لأن كل رسول يأمر بتصديق جميع الرسل و جائز أن يكون كذبت جماعة الرسل و حكى ثعلب أن العرب تقول يا أيها القوم كفوا عنا و كف عنا على اللفظ و على المعنى و قال مرة المخاطب واحد و المعنى الجمع و الجمع أقوام و أقاوم و أقايم كلاهما على الحذف قال أبو صخر الهذلي أنشده يعقوب:
فإن يعذر القلب العشية في الصبا فؤادك لا يعذرك فيه الأقاوم
و يروى الأقايم و عنى بالقلب العقل و أنشد ابن بري لخزر بن لوذان:
من مبلغ عمرو بن لأ ي حيث كان من الأقاوم
و قوله تعالى فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ قال الزجاج قيل عنى بالقوم هنا الأنبياء عليهم السلام الذين جرى ذكرهم، آمنوا بما أتى به النبي صلّى اللّه عليه و سلّم في وقت مبعثهم و قيل عنى به من آمن من أصحاب النبي و أتباعه و قيل يعنى به الملائكة فجعل القوم من الملائكة.
4. تفسير البيضاوي (ج: 2 ص: 184): الرجال قوامون على النساء يقومون عليهن قيام الولاة على الرعية و علل ذلك بأمرين وهبي و كسبي فقال بما فضل اللّه بعضهم على بعض بسبب تفضيله تعالى الرجال على النساء بكمال العقل و حسن التدبير و مزيد القوة في الأعمال و الطاعات و لذلك خصوا بالنبوة و الإمامة و الولاية و إقامة الشعائر و الشهادة في مجامع القضايا و وجوب الجهاد و الجمعة و نحوها و التعصيب و زيادة السهم في الميراث و الاستبداد بالفراق و بما أنفقوا من أموالهم في نكاحهن كالمهر و النفقة.
إذن يفهم من معنى القوامة من كل ما سبق أنها تعني الاهتمام، العناية، الرعاية، توفير الأمن و السكن و الطعام و الملبس و كل شئون الحياة، تقديم المشورة و النصح. و كل تلك المعاني تتطلب الخلق الحسن و حسن المعاملة و العشرة و الإحسان و الصبر على المرأة إن حصل منها تقصير في شئون معينة بل و حتى في شئون الطاعة لقوله تعالى: وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَ اصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَ الْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132)،
ص: 45
(طه: 132). و يتبين من مراجعة المصادر أعلاه أن من ضمن أسباب التنزيل للآية أن رجلا قد ضرب امرأته فجاءت تشتكي إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم لأنها تعرف أنه صلّى اللّه عليه و سلّم سيأخذ لها الحق، و قد همّ بأخذ القصاص لها لو لا أن جبريل عليه السّلام، جاء بالأمر الإلهي أن الرجال أحق بالقوامة. و لا يظن البعض هنا أن الرجال من حقهم ضرب المرأة لأي سبب، و إنما جاءت الآية لتعطي معنى أنه في حالة استخدام الضرب كحل أخير بعد انتهاء كل الأساليب الأخرى يكون تأديبيا و ألا يكون مبرحا و يتجنب الوجه كما جاء في الأحاديث، و لكي يعطي قناعة أنه في حالة الحصول لا يفترض القصاص المقابل من قبل المرأة للرجل بضربه لأنه لو شرع ذلك فلك أن تتخيل أن المرأة تضرب زوجها، فهل تبقى بعد ذلك قيمة للزوج كقيّم عليها واجب الاحترام. و بالمقابل على الزوج أن يتجنب الضرب و الإهانة و يستخدم الحجة و يتحلى بالصبر.
القوامة التي عنتها الآية الكريمة لا تكون للرجل بوصفه ذكرا على المرأة بوصفها أنثى لقوة جسمه و تحمله المشاق حسب، و لكن يكون له بما يكتسبه من أخلاق، و يمارسه من أدوار على المرأة بما تكتسبه من أدوار و أخلاق، فقد خلق اللّه تعالى الذكر و فيه استعداد فطري لكي يكون رجلا مسئولا و راعيا كما خلق المرأة و لها استعداد فطري لتكون حانية راعية مهتمة بشئون أولادها و زوجها. و اكتساب القوامة للرجل لغة بقيامه على شئون الأسرة بكافة احتياجاتها كالأمن و العيش و غيره. و على هذا الأساس تفهم القوامة من فهم المسئولية و الرعاية و الإدارة و الإشراف التي أرشد لها الحديث (كلكم راع)، و ليس التحكم و السيطرة. فالقوامة إمارة لا من باب الولاية السياسية و السلطة الاستبدادية، من باب (تفضل على من شئت تكن أميره)، دون من أو تطاول(1).
ترى هل تم إثبات حقيقة وجود الفروق بين الجنسين، و هل أن قوامة الرجل حقيقة، و هل أن كذبة مساواة الجنسين حققت علميا و تشخيصيا من قبل أهل الاختصاصات الطبية و النفسية و الاجتماعية و القانونية؟!. إذا ما تم ذلك هل يبقى لدعاة كذبة المساواة و مؤتمراتهم العالمية و الإقليمية و المحلية من معنى؟!... سوف نناقش
ص: 46
المسألة من الناحية العلمية المجردة دون عواطف و أحكام مسبقة، و نعود لجذورها لنحللها علميا و نستبين الحقائق، كي يتبين الحق و أهله و الباطل و أهله، و عندئذ كل نفس بما كسبت رهينة.. و سنرى:
بعد دعوى تحرر المرأة في بريطانيا و بقية أوربا في بدايات القرن الميلادي العشرين، شهد الغرب في الستينات الميلادية من القرن نفسه نموا و فورانا ملحوظا لحركة الليبرالية و الفوضوية و الماركسية التي وصلت أفكارها إلى حد التناقض فيما يتعلق بالطروحات السياسية و الاقتصادية، لكن القاسم المشترك بينها كان ما يسمى بالمساواة بين المرأة و الرجل و تحرير المرأة من قيودها، حيث ظهرت الحركات النسوية المعروفة بال (فيمنزم) التي راحت تدفع بالمرأة في كل مجالات الحياة معتبرة ذلك إنجازا و تقدما يصب في كفة المرأة. و من ضمن الأفكار التي رفعوا لواءها (نظرية النوع أو جندر)، و مفادها أن الرجل ليس رجلا لأن اللّه خلقه كذلك، و لا المرأة امرأة لأن اللّه خلقها كذلك، و أن الحالة التي تبدو لنا طبيعية ليست كذلك و أن الصفات المميزة لكل نوع حتى النفسية منها ليست كذلك، و عليه فإن العلاقة القائمة بين الرجل و المرأة في الحياة الزوجية مرفوضة، لأنها تجعل من المرأة الجانب المظلوم.. و أن الأسرة كرست نظام الظلم على المرأة لأنها لا تملك حرية نفسها في اختيار من تريد لنفسها، فقد ظلمها الرجل - على حد تعبير الفلسفة الماركسية - بفرض رجل واحد في حياتها و هو الزوج بغرض معرفة نسب الولد. فلا بد إذن من الثورة على الأسرة كنمط اجتماعي كرّس لظلم المرأة و وأد دورها الاجتماعي و الطبيعي لتخرج إلى نطاق الشواذ باسم الحرية و المساواة و ضرورة إزالة الملكية الخاصة حتى لا يتحكم الرجل في المرأة بماله.. لذلك تطالب (النوعيات) بتطهير التلفاز من كل أنماط الصور المعهودة حتى ينمو الأطفال معتادين على الصور الجديدة غير المقيدة بإطار جنسي معين، و أنه لا بد من صياغة و تحديد العلاقات بتغيير كلمة (زوج) إلى كلمة (شريك). و لهذا ركزت الحركة النسوية في حديثها عن تلك الحقبة على موضوع المساواة و نسب الأولاد و الوراثة كحقوق اغتصبها الرجل من المرأة و استقوى بها عليها.
و قد هيمنت (النوعيات) على برامج المرأة في أغلب الجامعات الأمريكية، ففي مادة بعنوان (إعادة صياغة صور النوع - الجندر -) تشرح المادة الموزعة على الطالبات و الطلاب فكرة الأمومة المكتسبة و تحث على حق الإجهاض من منطلق أن زواج المرأة
ص: 47
بالرجل ظلم و نكاحه لها اغتصاب، كما تشرح المادة أن الذكورة و الأنوثة لا تعني شيئا فهي مجرد نمط اجتماعي يحدده الدور الاجتماعي، و تركز المادة على فكرة التخلص من النوع الذي يعتبره مفتاح التخلص من النظام الأبوي و ظلم الرجل.
هذه الرؤية المتطرفة التي صيغت بهذا الشكل المضحك هزمت أمام سيل الأبحاث و الدراسات العلمية في مجالات شتى، منها نفسي و منها اجتماعي و منها طبي، و التي أكدت حقيقة الاختلاف بين المرأة و الرجل، و من ثم ضرورة اختلاف الوظائف و الأدوار الاجتماعية بينهما. سنستعرض لكم أدناه بعض هذه الأبحاث و ما توصلت إليه من شهادات تنطق بالحق و الدليل المادي الملموس و التي هي شهادات من أهلها:
1. يقول الدكتور إبراهيم الفقي - اختصاصي تنمية بشرية/النفس و الذهن و صاحب الكتب و المؤلفات و البحوث المعروفة عالميا - أن العلم الحديث و المراقبة الترددية للدماغ البشري أثبتا باليقين أن أسلوب تفكير الجنسين مختلف بشكل كبير بل و جذري، فالرجل يمتاز بأسلوب تسلسلي للتفكير ( Seqancial Way )، أما أسلوب تفكير المرأة فهو أسلوب حلزوني ( Spiral Way ).
2. بينت البحوث النفسية أن معدل الإصابة بمرض الكآبة عند النساء أكثر بثلاثة أضعاف ما هي عند الرجال.
3. يقول الباحث الطبيعي الروسي (أنطون نميلاف) في كتابه الذي أثبت فيه عدم المساواة الفطرية بينهما بتجارب العلوم الطبيعية و مشاهدات توثيقية: (ينبغي أن لا نخدع أنفسنا بزعم أن إقامة المساواة بين الرجل و المرأة في الحياة العملية أمر هين ميسور، الحق أنه لم يجتهد أحد في الدنيا لتحقيق هذه المساواة بين الصنفين مثل ما اجتهدنا في روسيا السوفييتية، و لم يوضع في العالم من القوانين في هذا الباب مثل ما وضع عندنا، و لكن الحق أن منزلة المرأة قلّما تبدلت في الأسرة، لا في الأسرة حسب بل قلّما تبدلت في المجتمع أيضا).. و يقول في مكان آخر: (لا يزال تصور عدم مساواة الرجل و المرأة ذلك التصور العميق راسخا ليس في قلوب الطبقات ذات المستوى الذهني البسيط فحسب، و إنما في قلوب الطبقات السوفييتية العليا أيضا).. و يقول عن الفوضى الجنسية التي أحدثتها محاولات تطبيق المساواة:
(الحق أن جميع العمال قد بدت فيهم أعراض الفوضى الجنسية، و هذه حالة جد
ص: 48
خطرة تهدد النظام الاشتراكي بالدمار، فيجب أن نحاربها بكل ما أمكن من الطرق، لأن المحاربة في هذه الجبهة ذات مشاكل و صعوبات. ولي أن أدلكم على آلاف من الأحداث يعلم منها أن الإباحية الجنسية قد سرت عدواها ليس في الجهال الأغرار حسب، بل في الأفراد المثقفين من طبقة العمال).
4. يقول الدكتور (أليكسس كاريل) الحائز على جائزة نوبل: (يجب أن يبذل المربون اهتماما شديدا للخصائص العضوية و العقلية في الذكر و الأنثى، كذا لوظائفها الطبيعية. هناك اختلافات لا تنقص بين الجنسين و لذلك فلا مناص من أن نحسب حساب هذه الاختلافات في إنشاء عالم متمدن.
5. الدراسات و الأبحاث التي أكدت وجود الفروق السلوكية و البيولوجية بين الرجال و النساء دفعت عددا من التربويين إلى الاستفادة من هذه الحقيقة في مجال التعليم، و من هنا ولدت فكرة مدارس الجنس الواحد في أمريكا و أوربا في سابقة يستغربها الكثيرون و يراها البعض طبيعية. فقد أعلنت إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش عن عزمها تشجيع مبدأ عدم الاختلاط بين البنين و البنات في المدارس العامة، و ذلك في عودة لقانون كان سائدا قبل 30 عاما. و قد صدر إعلان عن هذا المشروع في السجل الفيدرالي و هو الصحيفة الرسمية الأمريكية بتاريخ 2002/5/8 م، و جاء في بعض فقراته: (أن وزير التربية ينوي اقتراح تعديلات للتنظيمات المطبقة حاليا تهدف إلى توفير هامش مبادرة أوسع للمربين من أجل إقامة مدارس غير مختلطة، و إن الهدف من هذا الإجراء هو توفير وسائل جديدة لمساعدة التلاميذ على التركيز في الدراسة و تحقيق نتائج أفضل). و قد أثار القرار نقد البعض و استحسان الآخرين.
على إثر ذلك أكد البروفيسور أميليوفيانو أن العديد من الدراسات التي أجريت على تلاميذ و تلميذات أظهرت أنه في بعض مراحل نموهم يرتفع مستوى التحصيل الدراسي لديهم في حالة الفصل بين الجنسين أثناء الدراسة. و أضاف (إن بعض الفتيات يشعرن بالميل إلى بعض الفتيان، الأمر الذي يحرمهن من تطوير حياتهن الاجتماعية و العلمية فضلا عن التحصيل الدراسي، و كذلك الحال بالنسبة للتلاميذ الذين يفضلون الانفصال عن الفتيات حتى لا يتحتم عليهم الالتزام ببعض اللباقات و التصرفات التمثيلية التي تؤدى في حالة حضور الفتيات.
ص: 49
6. أيدت الجمعية الوطنية لتشجيع التعليم غير المختلط هذه التوجهات و عرضت دراسة أجرتها جامعة ميتشيغان في بعض المدارس الكاثوليكية الخاصة المختلطة و غير المختلطة تفيد أن الطلاب في المدارس غير المختلطة كانوا أفضل في مستوى القراءة و الكتابة و الرياضيات.. كما صدرت شهادة أخرى بنفس الاتجاه عن الوكاة التربوية الوطنية الأمريكية أفادت نتائج بياناتها الاحصائية بأن الفتيات الأمريكيات في الفصول المختلطة أكثر عرضة للقلق و الاكتئاب و الانتحار.. و في دراسة لمجلة نيوزويك الأمريكية ذكرت بالأرقام و الإحصائيات أن الدراسات في الكليات النسائية غير المختلطة هن الأكثر تفوقا و نجاحا في حياتهن الدراسية و المهنية بعد التخرج.. كل تلك الإعلانات تأتي لتهدم الصرح الكبير الذي بني ليحتضن النظرية القائلة بوجوب المساواة و الاختلاط و الشذوذ.
7. و في بريطانيا أكدت بحوث نشرت في العديد من الدوريات أن المدارس التي حققت تفوقا دراسيا في طلبتها هي تلك المدارس التي لا يوجد فيها اختلاط بين الجنسين، فقد حققت 15 مدرسة للذكور و 14 خاصة بالإناث التفوق في شهادة ( A-LEVEL ).. هذه النتائج جعلت مجلس إدارة مدرسة (شين فيلد) الثانوية في منطقة برنت و ود تقرر فصل الطلاب عن الطالبات، و قال المدير الدكتور أوزبورن (قد يبدو القرار عودة إلى الماضي، و لكنه اتخذ لمصلحة الطلبة و مستقبلهم من الجنسين، فقد اكتشفنا أن الطالبات في التعليم المختلط يضيعن جزءا كبيرا من أوقاتهن في الاهتمام بالمظاهر و المكياج و أنهن مع وجود الطلاب الذكور يفقدن زمام السيطرة و لا يعرفن الهدف).. و تؤكد الإحصاءات أنه عند ما يدرس الطلبة من كل جنس بعيدا عن الجنس الآخر فإن التفوق العلمي يتحقق، ففي وسط التعليم المختلط أخفقت البنات في تحقيق التفوق في مجال الرياضيات و العلوم و الفيزياء و التكنلوجيا و الكومبيوتر، و قد أيدت الإدارة التعليمية في منطقة نيوهام هذه الحقائق في دراسة تحليلية.
8. إليزابيث فليجوري - رئيسة رابطة مدارس البنات الخاصة - لم تؤكد هذه الإحصاءات حسب، بل أكدت أيضا أنه مع التوسع في استخدام التكنلوجيا في العملية التعليمية تزايد معدل التفوق لدى البنات في المدارس غير المختلطة، و أن
ص: 50
نسبة النجاح بينهن ارتفعت في الشهادات العامة إلى 93% و نسبة التفوق بامتياز إلى 50%. و قالت فليجوري (في محيط نسائي خالص بعيد عن الضغوط النفسية و الاجتماعية و تأثير الجنس الآخر، استطاعت البنات من أن يؤكدن تفوقهن و قدرتهن على استيعاب المعلومات و استخدامها و تحليلها و اتخاذ القرارات فيها)...
و لعل شهادة شيرلي وليامز الأستاذة في جامعة هارفارد و التي أمضت حياتها الدراسية في مدارس غير مختلطة حتى حصلت على شهادة ( A-LEVEL ) ثم التحقت بكلية سرفيل - غير المختلطة أيضا - بجامعة أوكسفورد، توضح الكثير من تميز التعليم غير المختلط، فتقول (في هذا الجو الخالي من الضغوط التي يسببها وجود الرجال، يكون عطاء البنات عاليا و إيجابيا و مثيرا يؤكد قدرتهن على الإبداع و التفوق و العطاء، كما أن وجودهن لوحدهن دون الرجال يزرع في أنفسهن الثقة العالية و الصداقة الحميمة البعيدة عن الأغراض و الشبهات).
9. أعد عالم الاجتماع الأمريكي روس ستولز نبيرج دراسة لجامعة شيكاغو تحت عنوان (لما ذا تشكل الزوجة العاملة خطرا على زوجها؟)، قال فيه (إن السبب الرئيسي في ذلك هو أن الأزواج و الزوجات ما زالوا يؤدون أدوارا مختلفة في الزواج، و ليس هناك مساواة بينهما في هذا، و أن مهمة الحفاظ على سلامة العائلة و صحتها تبقى ضمن مسئوليات الزوجة، فالنساء يتدربن منذ الطفولة على التعامل مع المشاكل الطبية و نشر الوعي الصحي بين أفراد الأسرة و يلممن بالأعراض المرضية.
كما و أنهن المسئولات عن الحياة الاجتماعية)... و حذر فلاسفة غربيون من مغبة المساواة المطلقة غير المنضبطة بين الرجال و النساء، فقد انتقد الدكتور اليكسس كاريل في كتابه (الإنسان ذلك المجهول) الحضارة المادية الغربية و ما جنته من تحلل و انهيار للأسر و المجتمعات، و أعزى ذلك للمساواة بين الجنسين رغم وضوح الفروق العضوية و الجسدية و الفيزيائية و النفسية بينهما.
10. تشير عدة إحصائيات في دول متقدمة أن 70% من النساء يفضلن البقاء في البيت و عدم العمل إذا ما توفرت لهن القدرة المالية للعيش بسبب الضغوط الشديدة التي تتعرض لها المرأة في العمل و الذي لا يتناسب مع قابلية تحملها، مما يزيد في تعرضها لتدهور في الصحة أو الحالة النفسية. و قد كشفت نتائج في الولايات المتحدة
ص: 51
أن المرأة استطاعت أن تقلص الهوة بينها و بين الرجل في مجالات علمية مختلفة و لكنها تفوقت عليه في مجال الاكتئاب و التدخين و الانتحار و المخدرات و الكحول.
11. يشير الدكتور محمد رشيد العويد ردا على الداعين للمساواة و المتقولين بأن الفروق إنما جاءت بسبب البيئة المحيطة و العادات التي نشئا وسطها و التربية التي تلقياها في الصغر بقوله (الدراسة و البحث و العلم أثبتت أن الفروق بين الجنسين فروق عضوية موروثة و ليست مكتسبة و من ثم فإن محاولة المساواة بينهما محاولة فاشلة مناقضة لطبيعة كل منهما. لقد قام فريق بحثي بتشكيل معسكر ضم عددا من الأطفال من الجنسين أشرف على تربيتهم مربون يتبدلون كل فترة زمنية معينة، و قد حذفت كلمة رجل و امرأة في المعسكر و تم تجنب كل إشارة أو عمل أو سلوك فيه تفريق بين الجنسين من الأطفال الذين ترعرعوا أحرارا من كل قيد أو صفة يطلقها عليهم المجتمع حتى أنهم تركوهم يمارسون جميع الأعمال دون الأخذ بنوع العمل إذا كان يخص الرجل أو المرأة.. و حين كبر سكان المعسكر و خرجوا للمجتمع آثرت المرأة القيام بدور الأم و ربة البيت، و آثر الرجل القيام بدوره في تأمين دخل الأسرة و العمل الشاق و مارس الحياة بشكل عادي جدا دون تأثير محسوس لذلك المعسكر و ما بذل فيه من جهود و أموال و أمور أخرى لمحو الفروق بين الجنسين، فثبت بذلك أن نمط الحياة التي يختارها كل من الجنسين لنفسه تخضع لتحكم طبيعة الجنس و تكوينه العضوي).
12. لقد بينت البحوث أن البنات يولدن بدهون أكثر و أنهن يسبقن الذكور في الحصيلة اللغوية. يستطيع الطفل بعد العام الأول من عمره تمييز جنس الأطفال - ذكر أو أنثى - بغض النظر عما يرتدونه، كما تتميز لعب كل جنس عن الآخر في هذه السن، و في سن الروضة يصبح لديه فكرة واضحة عن الفارق بين الولد و البنت بل و يتصرف كل جنس بشكل يختلف عن الآخر. تقول الدكتورة ميريام ستوبارد الاستشارية النفسية (تفرض الضغوط الاجتماعية على الأطفال منذ ولادتهم اتباع النموذج الخاص بكل جنس، و تحدد الأسرة مميزات شخصية كل منهما، و تأتي المدرسة و دور الحضانة بمن فيها من مدرسين و أصدقاء لصياغة هوية كل من الجنسين أيضا).
ص: 52
13. من الناحية الاجتماعية و مجال النمو الجسماني و اكتساب المهارات: تقول الدكتورة ستوبارد (يتميز الأطفال بعضهم عن بعض سواء أ كانوا أناثا أم ذكورا، و يؤثر الأهل في معدل سرعة التطور لاكتساب المهارات لدى الجنسين. فمن ناحية النمو الجسماني نرى الإناث أسرع في معدل نموهن فهن يسبقن الذكور في النضوج في مرحلة المراهقة، و يبدو نموهن أكثر انتظاما و سرعة إلى أن يبلغ الصبي سن البلوغ فينضج و يصبح أكثر قوة و سرعة فتقوى لديه العضلات و العظام، و يصبح أقل سمنة و تنمو عضلة القلب و الرئتين لتستوعب أكبر قدر ممكن من الأوكسجين الذي يحتاجه الدم لتغذية العضلات و العظام. و تكون الإناث في مرحلة ما قبل المدرسة أكثر رشاقة و مقدرة على القفز و الوثب و في الحركات الإيقاعية و التوازن، بينما يصبح الذكر في وقت لاحق أفضل في تلك النشاطات التي تحتاج إلى الركض و القفز... أما في النمو اللغوي نجد الإناث أسرع من الذكور في اكتساب المهارات الكلامية و يستطعن صياغة جمل أطول و تركيب أحاديث إنشائية و تلازم هذه الميزة الإناث في حياتهن المستقبلية، كما يبدو أنهن يستطعن الكتابة و القراءة أسرع و تبدو قواعدهن اللغوية و نطقهن أفضل). و تضيف ستوبارد: (و يظهر أن الإناث و حتى سن البلوغ أفضل بقليل من الذكور في الرياضيات و لكن الذكور يظهرون مهارات أفضل أثناء سن المراهقة و لا سيما في الهندسة الفراغية و هم يستوعبون العلاقات الرياضية و الأبعاد الهندسية، و هذا التميز يبقى واضحا و مستمرا في سن ما بعد المراهقة)..
و تضيف الدكتورة ستوبارد (يكون الذكور عادة أكثر عدائية و سيطرة من الإناث، كما يظهر الذكر ميلا إلى التنافس و الطموح، و مما لا شك فيه أن الإناث أكثر اجتماعية و يقمن علاقات صداقة متينة و تغلب عليهن صفة المسايرة، و يكن لينات العريكة).
و تنصح ستوبارد الوالدين بضرورة مراعاة الاختلافات الفطرية بين الجنسين لتقويم نقاط الضعف لدى كل منهما كتوفير الكتب و المستلزمات الأخرى التي تعين كل جنس على معالجة نقاط ضعفه عن الجنس الآخر، و عدم ذكر تلك العيوب أمامهما.
و تذكر الأبحاث أن البنات أكثر اتساقا و مرونة من الأولاد و أقل ميلا للنوم و أكثر استعدادا لتهدئة النفس، بينما الأولاد أكثر حركة و ميلا للقوة.
14. من النواحي السلوكية و التطورات و التقلبات في العلاقات الاجتماعية: الدكتور حامد
ص: 53
زهران أستاذ الصحة النفسية بجامعة عين شمس فيتحدث عن الفروق بين الجنسين من ناحية النمو الاجتماعي قائلا (يتعلم كل جنس المعايير و القيم و الاتجاهات المرتبطة بجنسه مما يؤدي إلى اختلاف الذكور عن الإناث في بعض أنماط السلوك. و يرى بعض الآباء أن بعض سمات السلوك الاجتماعي تليق. بالذكور كالشجاعة و القوة الجسمانية و التحكم في الرياضة البدنية و الميل إلى التنافس و الاستقلال. بينما هناك أنماطا سلوكية تجتذب الإناث حصرا كالوقار الاجتماعي و النظام و الدقة. و في مرحلة الطفولة الوسطى، نجد أن الإناث يسبقن الذكور دراسيا و يتفوقن عليهم، و رجع ذلك إلى أن نموهن أسرع عن أقرانهن الذكور خلال تلك السنوات، و لأنهن يقضين أوقاتا أطول في البيت مع الكبار. و الذكور يتجهون ليصبحوا أكثر خشونة و استقلالا و منافسة من الإناث اللاتي يتجهن إلى أن يصبحن أكثر أدبا ورقة و رأفة و تعاونا من الذكور. و يشير الدكتور زهران إلى التنميط الجنسي أي تبني الأدوار و اكتساب صفات الذكورة بالنسبة للذكور و الأنوثة بالنسبة للإناث، و يتضمن التنميط الجنسي اكتساب المعايير السلوكية و الميول و الاهتمامات و نوع الألعاب و النشاط العام. فنجد الذكور يهتمون بالنشاط التنافسي و الألعاب الخشنة كالدراجات و المصارعة و الفنون القتالية و كرة القدم و غيرها، بينما الإناث يهتمون بالنشاطات الرقيقة كالطبخ و الحياكة و الخياطة و أعمال المنزل. فالجنسين إذن يختلفون بحكم الوراثة و البيئة العضوية و وظائف الأعضاء، و مع النمو يتميز الجنسان اجتماعيا من حيث الملابس و المعايير السلوكية و خصائص الشخصية. و في نهاية مرحلة الطفولة يبتعد كل جنس عن الآخر، و يظل هكذا حتى المراهقة، و تكون الاتصالات الاجتماعية بين الجنسين مشوبة بالفظاظة و نقص الاستجابة و المضايقات و الخجل و الانسحاب).. و هنا تجدر الإشارة للحكمة الإسلامية في تشريع هذه النقطة، فالمتأمل للتشريع الإسلامي المتعلق بحضانة الصغار يلمس إدراكا عبقريا للفروق بين الاحتياجات التربوية للذكر عن تلك التي للأنثى، في عالم الطفولة. و في ذلك تقول الدكتورة كوثر محمد المنياوي (تنتهي حضانة النساء للصبي في الإسلام بانتهاء المدة التي يحتاج فيها للنساء، و ذلك بأن يأكل و يشرب و يلبس وحده ثم يكون مع أبيه حتى يبلغ سن الرشد فيستقل حينئذ بنفسه. بينما
ص: 54
حضانة البنت تنتهي إذا بلغت البلوغ الطبيعي للنساء. و إذا كانت الأم مطلقة لا يحق لها الاحتفاظ بالولد بل يجب تسليمه للأب الذي يوفر له سبل الحياة و التعود على حياة الرجولة و التخلق بأخلاق الرجال و اكتساب الخبرة و المعرفة و تحصيل الفضائل و غير ذلك، و لو ترك لأمه فلن تستطيع مواجهته أو منعه من فعل أمور قد توقعه في التهلكة بعد أن يكبر لا لعيب فيها بل لعدم قدرتها على منعه إذا تطلب الأمر استخدام الحزم، أما البنت فلا بأس في تركها للأم لأنها تستطيع تفهم مشاعرها و تقلبات السلوك الحاصل لها خلال نموها فيمكنها معالجة المسألة بحكمة).
15. من الناحية الطبية و علم وظائف الأعضاء: لقد ثبت علميا أن المرأة أقدر من الرجل بما لا يقاس على الصمود في وجه الأمراض، و المؤكد علميا أنها متفوقة تفوقا عضويا واضحا على الرجل. هذا التفوق يسميه العلماء (الانتقاء الطبيعي)، أي أن اللّه تعالى كما زود الرجل بقوة جسمانية فيزيائية في عضلاته فإنه زود المرأة بجهاز خلقي و قابلية يضمن لها الصمود أمام الإرهاق المفرط و مقاومة و تحمل الأمراض المختلفة و آلامها أكثر من الرجل. يفسر الدكتور محمد رشيد العويد ذلك بأن الخالق العليم جل شأنه قد ميز الأنثى بهذه القدرة لأنه تعالى أسند إليها مهمات عضوية مرهقة لم يسند مثلها للذكور مثل الحمل و الولادة و ما يسبق ذلك و ما يليه من حمل و نفاس ناهيك عن التغيرات الهرمونية و العضوية، هذا فضلا عن الحيض و آلامه التي شرحناها في كتاب سابق. و يضيف البروفيسور الألماني المعروف في جامعة برلين رودولف باوماشن (إن المرأة قادرة على تحمل الإرهاق و الصدمات النفسية أكثر من الرجل)، و أضاف استنادا لنتائج سلسلة من التجارب الطبية و العلمية أن جسم المرأة يتفاعل بسرعة عنيفة و سريعة مع حالات الإرهاق النفسي و يفرز كميات كبيرة من هرمونات الإرهاق كمادة الأدرينالين و النورادنالين و أسيدات دهنية متحركة، إلا أن هذه الهرمونات تتقلص بسرعة كبيرة لدى المرأة بعد الإرهاق و الانفعال النفسي.
و استخلص البروفيسور من هذه التجارب أن المرأة تنفعل بصورة أسرع من الرجل إلا أنها تهدأ بالسرعة نفسها. و خلافا لذلك فإن جسم الرجل يفرز هذه الهرمونات الناتجة عن الإرهاق بشكل بطيء مما يجعلها تستقر لمدة أطول في الدورة الدموية،
ص: 55
فالإرهاق أثره أطول في الرجال مقارنة بالنساء. كذلك فإن للنساء عاطفة جياشة و حس مرهف ورقة في المشاعر بشكل أكبر من الرجل لأن تعاملها مع الأطفال بشكل مباشر يتطلب ذلك.
لأجل ذلك جهز اللّه تعالى النساء بكل تلك الإمكانات و لم يزودها للرجال لأن لكل واحد منهما مهام تختلف عن الآخر و أحدهما يكمل الآخر و لا يتضاد أو يتقاطع معه لبناء أسرة أساسها المودة و الرحمة لبناء المجتمع الفاضل الراقي وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)، (الروم: 21). و لأجل ذلك أيضا نبه تعالى عن تلك الآلام التي تعانيها المرأة عند الحمل و الوضع و غيره و التي أثبت علميا أنها أقوى أنواع الآلام من بين كل أنواع آلام الأمراض الأخرى التي تحصل للبشر في كتابه الكريم و سماه (و هنا) بل و شدّد فقال (وهنا على وهن)، و في الآية الأخرى بلفظ (كرها) و هذا كله تبيانا لشدة التعبير عن الألم و معاناته، بقوله سبحانه و تعالى وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)، (لقمان: 14).. وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَ إِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)، (الأحقاف: 15). فلم يبين القرآن الكريم في كل آياته تركيزا على حالة ألم لمرض قدر تركيزه على ألم الوضع. بل أن المرأة التي تموت في الولادة تعتبر شهيدة، لذلك ذكرت أحاديث كثيرة للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم في الأم تبين لك منزلتها في الإسلام. و يا لها من منزلة جعلت الجنة تحت قدميها، و جعلت منزلة الأم مقدمة على منزلة الأب بثلاثة أضعاف. ففي صحيح مسلم (البر و الصلة و الآداب 4622) عن أبي هريرة قال: قال رجل يا رسول اللّه من أحقّ النّاس بحسن الصّحبة، قال صلّى اللّه عليه و سلّم:
(أمّك ثمّ أمّك ثمّ أمّك ثمّ أبوك ثمّ أدناك أدناك).
16. أثبتت البحوث الطبية أن الجنسين يستمران بفروقهما بعد البلوغ و الكبر، بل و يتطور الأمر إلى نشوء الخلاف الحقيقي بين الجنسين جسديا و عضويا و نفسيا. في
ص: 56
الذكور تبدأ الخصية بإفراز هرمونات جنسية ذكرية المعروفة بالأندروجين، أهم ما فيها التيستوستيرون (الذي ذكرنا السبق القرآني حول تأثيره في النظام الهرموني في سورة مريم في كتاب الطب من هذه السلسلة) الذي يسبب العديد من التأثيرات الجسدية المسئولة عن كل الخصائص الذكورية للذكر، و هكذا تحصل مجموعة من الظواهر الجنسية الثانوية كنمو الذقن و شعر الصدر فضلا عن عمق الصوت، كما يعزى للتيستوستيرون النمو السريع الذي يحصل في هذا السن. هذا النمو يحصل متأخر لدى الذكور لكنه يدوم فترة أطول مما لدى الإناث، و يتجسد ذلك بنمو أشد وضوحا في تركيبة العضلات و قوة الأطراف السفلية التي يعتمد عليها نمو الشباب أطول من الفتيات. كما أن توزيع الدهون لدى الرجال يختلف بحيث يذهب السواد الأعظم منه للمعدة و الجزء الأعلى من الجسم.. بينما الفتاة عند بلوغها تبدأ بإفراز هرمونات جنسية هي الإستروجين من مبيضها، و التي تأثيرها عن تأثير التيستوستيرون بحيث تنمي المبيض و الرحم و تدفع الإباضة الأولى. و يعتبر الإستروجين المسئول أيضا عن الشكل الأنثوي الذي يتميز باتساع الحوض و ضيق الكتفين. كما و تختلف المرأة في توزيع الدهون و كميتها، إذ يحتوي جسم المرأة على ضعف ما يحتويه الرجل من الدهون و يذهب أغلبه للفخذين و الردفين. كما و يحوي جسم المرأة على صنف آخر من الهرمونات الجنسية هو البرجيستيرون الذي يكون فعالا خلال المرحلة الثانية من دورة مبيضها أي بعد كل إباضة فيتولى نمو النهدين و بدء المحيض.
17. الناحية المرضية: أثناء حياتهما سيتعرض الرجل و المرأة للأمراض، و لكن لكل جنس مكامن ضعفه، فالرجل أكثر تعرضا لأمراض القلب من المرأة بمعدل الضعف، ذلك ان التيستيرون يؤدي إلى تنمية ما يعرف بالكوليستيرول السيئ تأثيره على جدران الأوعية الدموية، بينما يعمل الأستروجين لدى المرأة على تنمية ما يعرف بالكوليستيرول الجيد الذي يتولى تنظيف الأوعية الدموية. إلا أن المرأة تتوقف عن إنتاج الأستروجين بعد سن اليأس مما يجعلها معرضة لأمراض القلب بمعدل النسبة ذاتها لدى الرجل.
18. الفروق السلوكية عند الكبر: لا يستطيع الرجال التعبير عن عواطفهم فيلقون ما
ص: 57
تحويه جعبتهم مرة واحدة، بينما النساء يستخدمن المحاورة و الكلام غير المباشر مما يجعلها قادرة على التحكم في الحديث كما ترغب و هي عند ما تتحدث تستخدم الابتسامة أو الحركات لتعبر عن التعجب أو الغضب. و المرأة تتحدث أكثر من الرجل و تقرأ أسرع منه. الرجال يلجئون إلى الدعابة أكثر من النساء للتأثير على الآخرين في حين تلجأ المرأة بالتعبير بالوجه و الجسم للتأثير على الآخرين. يفضل الرجال النظر إلى الأشكال ذات الزوايا الحادة في حين تفضل النساء النظر إلى الأشكال الدائرية مثل شكل القلب.
19. فروق فسيولوجية و تركيبية: عند تناول الرجل وجبة من النشويات يشعر بالهدوء في حين تشعر المرأة بالنعاس، و يصاب 4% من الرجال بعمى الألوان. الكرات الدموية البيضاء لدى النساء أكثر من الرجال و جهاز المناعة لديها أقوى. و المرأة أقل إصابة منه بأمراض القلب و قرحة المعدة، كما أن حجم معدتها أكبر من معدة الرجل، و هي تحرق الأوكسجين أسرع من الرجل حيث تزيد و تنقص نسبة كريات الدم الحمراء مما ينتج عنه سرعة إغمائها. و يدق قلب الرجل في المتوسط 72 دقة لكل دقيقة بينما المرأة يدق قلبها أكثر من الرجل لكل دقيقة. جسم الرجل في المتوسط يحتوي على 20 قدما مربعا من الجلد أما جسم المرأة فيحتوي على 17 قدما مربعا من الجلد.
20. الفروق في الذكاء و وظائف الدماغ: رغم أن الدماغ مسئول عن كل ما سبق من فعاليات جسمانية أو وظيفية، نقول أن المسألة فيها بحوث تفصيلية تبين الفارق بين دماغ الجنسين في سبل تنظيمهما و أساليب عملهما رغم تساوي نسب الذكاء بينهما و تشابه الشكل العام فيهما. فقد قام علماء من جامعة ولاية نيويورك في بافالو في الولايات المتحدة بإجراء تجارب على 17 ولدا و 18 بنتا تتراوح أعمارهم بين 8-11 عاما، لدراسة كيف تتغير موجات الدماغ في جزءيه عند القيام بعملية التعرف على تعابير وجوه معينة عرضت عليهم، و وجد العلماء أن كل جنس استخدم جزءا من الدماغ يختلف عن الجزء الذي استخدمه الجنس الآخر في معالجة المعلومات. و يعتقد العلماء أنه من المحتمل أن الأولاد تعرفوا على تعابير الوجوه بطريقة عامة، و هي مقدرة مرتبطة بالجزء الأيمن من الدماغ، بينما عالجت
ص: 58
الفتيات معلومات التعرف على تعابير الوجه بطريقة خاصة، و هي قدرة مرتبطة بالجزء الأيسر من الدماغ... أما مخ الرجل فيزيد وزنه عن مخ المرأة بمقدار 100 غرام و نسبة وزن مخ الرجل لجسمه تعدل 40/1 بينما نفس النسبة عند المرأة تعدل 44/1. و يقول الباحثون أنهم وجدوا تخزين المعلومات يختلف في الرجل عما هو في المرأة، و هو ما يفسر تفوق الرجل عن المرأة في عالم الاختراعات و الابتكارات، بل أن جميع التخصصات في الفنون و الأعمال الخاصة بالمرأة كالطبخ و الأزياء زاحم الرجال بها النساء و تفوقوا عليهن. أما في حالة الدماغ لمراحل النشاط الذهني المتقد فقد تم الإثبات بالبحوث و التجارب و المراقبة أن حقل الذاكرة في دماغ الرجل أكبر حجما منه في دماغ المرأة، و هنا يتجلى أمر اللّه تعالى بجعل الشهادة برجلين، فإن تعذر فرجل و امرأتان كي تذكر إحداهما الأخرى إن هي نسيت، يقول تعالى في البقرة (282): يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَ لا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَ لْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَ لْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَ لا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَ لا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَ لا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللّهِ وَ أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَ أَدْنى أَلاّ تَرْتابُوا إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاّ تَكْتُبُوها وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ وَ إِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَ اتَّقُوا اللّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (282)... أما في حالة الكبر و الشيخوخة فإن المرأة المسنة تبدي مطولة أكبر من الرجل المسن في نواحي وظيفية عديدة للدماغ، فقد أثبتت الدراسات أن النساء يمضين سنين أطول بعقل سليم و ذكاء يحسدن عليه، و جاء في الدراسة التي أجريت لمصلحة جامعة ليدن في هولندا و شملت 599 شخصا تتجاوز أعمارهم الخامسة و الثمانين، أن النساء المسنات أسرع استجابة و عقولهن أكثر
ص: 59
حدة. كذلك أظهرت الدراسة أن النساء المسنات يتفوقن على الرجال المسنين في القدرة على استعادة الماضي و التذكر. و العجيب كما ذكرت الدراسة أن 70% من المستطلعات لم ينلن تعليما عاليا و على الرغم من ذلك سجل نتائج عقلية أفضل من الرجال، و عزا الخبراء السبب في ذلك إلى أن دماغ المرأة مهيأ ليعمل لمدة أطول لأنها تعيش عمرا أطول. و أفادت نتائج بحث آخر لنفس الفئة العمرية روعي فيه أن النساء المبحوثات أقل تعليما من الرجال أن قدرة النساء المسنات العقلية أفضل مما هي لدى الرجال المسنين، و يرجع ذلك إلى كونهن أقل عرضة للإصابة بالنوبات القلبية مما يجعل تدفق الدم إلى أدمغتهن أيسر. كما أجرى الخبراء في هذا البحث اختبارا لمعرفة سرعة التفكير و القدرة على التذكر لدى المبحوثين فحقق نسب أعلى في اختبارات سرعة الفهم و القدرة على الاحتفاظ بذاكرة قوية، و تبين أن سرعة الفهم كانت 33% لدى النساء مقابل 28% لدى الرجال، و قد عزي ذلك لأمور عضوية تتعلق بالغياب النسبي لأمراض الشرايين عند النساء(1).
و بعد، و رغم كل تلك النتائج الواضحة و الصيحات المخلصة لا زالت دعوى الجندر تلقى رواجا في مجتمعاتنا الإسلامية فارتفعت نبرة الحديث عن الاضطهاد للمرأة و وجوب حصولها على حقوقها كاملة، و لا ندري ما ذلك الكمال في الحقوق و إلى أي حد يصل؟!.
كما وصلت الدعاوى إلى حد ضرورة إيجاد اتحاد عالمي يوجد هوية جديدة فوق القوميات و الاختلافات كي تتحدث نساء العالم عن أنفسهن، و عملت الأفلام السينمائية و التمثيليات التلفازية و الاجتماعات و المؤتمرات الدولية و صرفت الملايين من الدولارات على كل هذا دون الالتفات إلى حقيقة الداء و الانصراف لعلاجه بهدوء و دون تعصب أو تزمت لا يؤدي إلا إلى تباعد الهوة بين المشكلة و علاجها، و كأن المسألة حرب شعواء بين الجنسين، و ليس تكامل و تعاضد و تعاون.
و هكذا و كخلاصة من هذا البحث فإننا نرى أن الإسلام أعطى للمرأة و الأسرة قيمة عظيمة لم يعطها أي دين سابق و لا شريعة و لا قانون أرضي، فهي لها القيمة المادية).
ص: 60
العظمى المتمثلة بالذهب كما لها القيمة الاعتبارية الجليلة إذ أنها تربي الأجيال و تحفظ النسل فهي تمثل العمود الفقري في الحياة و مثلها كمثل الدرة المحفوظة في لوح زجاجي يمنع لمسها إلا لصاحبها. و على هذا الأساس تآمر الغرب و على رأسهم اليهود على مكانة المرأة في أمتنا و أوهموا ضعيفات الإيمان بأن نزع الحجاب و لبس اللئالئ و التزين و السفور و الإتيكيت و الموضة و معارضة الوالدين و الاختلاط و المساواة مع الرجال كل ذلك من باب التحضر، كما أوهموهن بأن ضرورة إيجاد ال "حبيب" لهن هو من دواعي الشخصية الحديثة المتطورة و الاستقلال في التفكير، و ان الخلق و الحشمة و التصرف السليم المبني على الشريعة و الدين في كل مجالات الحياة هو من دواعي الرجعية و التخلف، ألا ساء ما يحكمون.
قال مسئول غربي "لا تستقيم حالة الشرق ما لم يرفع الحجاب عن وجه المرأة و يغطى به القرآن" أي لن يستطيع الغرب الحاقد السيطرة على الشرق المسلم حتى تزيح المرأة المسلمة الحجاب عن وجهها و تنبذ كتاب اللّه وراء ظهرها(1)... و هذا ما أرادوه لنسائنا و مجتمعاتنا و استجاب لهم الكثيرون مخدوعين تارة و مطيعين تارة و مقلدين تارة أخرى بينما رفض هذه (العولمة) القديمة النساء المؤمنات و العوائل المؤمنة، و لهؤلاء المساكين المقلدين نقول إنكم بهذا اشتركتم ليس فقط بجريمة إغضاب رب العالمين و ترك الشرع الحنيف و إنما أصبحتم مشتركين في جريمة هدم ما بنته أجيال و أجيال من خلق عظيم و تعاليم سامية و دفعت بسببه دماء زكية طاهرة كثيرة على مدى أكثر من 1300 عام.
لنرى الوجه الحقيقي للإسلام من خلال ما قالته نساء غربيات، ففي مقابلة أجرتها مجلة الوطن العربي (العدد 314) مع امرأة فرنسية متخصصة في الفن الإسلامي نادية أوبريي قالت: "وجدت المرأة المسلمة (العربية) محترمة و مقدرة داخل بيتها أكثر من الأوربية و أعتقد أن الزوجة و الأم العربيتين تعيشان سعادة تفوق سعادتنا" .ثم توجه النصح للمرأة المسلمة قائلة "لا تأخذي من العائلة الأوربية مثالا لك لأن عائلاتنا هيث.
ص: 61
أنموذج رديء لا يصلح مثالا ليحتذى".
و في مقابلة أخرى أجرتها مجلة صدى الأسبوع "مع براونين ميزاك ايفانز - إنجليزية أعلنت إسلامها في البحرين - كان من الأمور التي دفعتها إلى اعتناق الإسلام هو مكانة المرأة في الإسلام و كذلك تركيبة الأسرة المسلمة حيث قالت" المرأة المسلمة دائما في حماية و رعاية، تجد من يعيلها أينما حلت، و هي جزء هام من المجتمع الإسلامي..
جو عائلي تفتقده الكثير من الأسر الغربية الأب و الأم ثم الأولاد و بعدهم الأقارب..
العائلة المسلمة كأنها مملكة واسعة الأطراف، أما العائلة الغربية فإنها تقتصر على رجل و امرأة فقط، طرفين لا توابع تخلفهما، أما في الإسلام فلا يوجد و سيط بين الإنسان و ربه"(1).. و القصص من هذا القبيل أكثر من أن تذكر في هذا الكتاب، و منها قصة القسيس إسحاق المصري نائب البابا البروتستانتي الذي أسلم و سمى نفسه إبراهيم و فصلّ قصة إسلامه في محاضرة شيقة(2).
في محاضرته الرائعة «قصة الإيدز الكاملة»، يقول الدكتور عمر عبد الستار عن موضوع الحجاب بعد أن يعرض صور عديدة تتعلق بالموضوع و تخص تشخيص المسألة الطبية لمرض الإيدز، و عند ما يصل إلى الصورة أو السلايد الخاص بالبويضة يقول: انظروا روعة هذا الشكل و ما حوله من غشاء، هذا الغشاء الرقيق الجميل هو حجاب للبيضة فكل شيء أنثوي خلقه اللّه تعالى جميلا و رقيقا محفوظا عن الذكر بحجاب لا يسمح لأحد أن يخترقه إلا واحدا فقط، فهذه البويضة يلاحقها ملايين من الحيوانات المنوية و لا يخترق الغشاء أو الحجاب هذا و لا يسمح بذلك إلا لواحد فقط، ثم يغلق الحجاب نهائيا.. هذا الأمر مشمول به كل شيء أنثوي في الكون إلا نساء هذا العصر الذين ارتموا بوحل الحضارة الزائف.
و لنعد الآن إلى الآية المباركة زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِينَ وَ الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ وَ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَ الْأَنْعامِ وَ الْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ اللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)، (آل عمران: 14)، كيف أنهان.
ص: 62
ربطت الشهوات بالتسلسل فإذا بالمرأة التي هي أقوى الشهوات للرجل تصبح بمساعدة القناطير المقنطرة من الذهب و الفضة المطحنة و الجاروشة التي تطحن الرجال و الأمم، و هذا ما كان في تاريخ البشرية و في حاضرها و في مستقبلها إلا ما رحم ربي. و من أراد التخلص من هذا الإعصار الجارف و التيار الهائل الذي لم يرحم و لن يرحم أحد فما عليه إلا التمسك بزورق النجاة الذي هو في حمى ملك الملوك ألا و هو الإسلام الحنيف الذي يعطي الجميع حقوقهم دون استثناء و لا يهمه في ذلك تعليقات الجهال و الفسقة و السفهاء فهؤلاء هم المحرقة التي تتقد فيها نيران هذه الفتن(1).
أما عن الوالدين و احترامهما فإنه لا يوجد تشريع أرضي أو سماوي أعطى لهما أهمية قدر اهتمام الإسلام بهما، فيكفي أن القرآن الكريم قد قرن في غير موضع الإشراك باللّه بعقوقهما * وَ قَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَ لا تَنْهَرْهُما وَ قُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (23) وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوّابِينَ غَفُوراً (25)، (الإسراء).. هذه الآية تحديدا عند ما قرأها الأمير تشارلز الشخصية البريطانية المعروفة و أمير ويلز تغيرت نظرته تماما عن الإسلام، فامتدحه بخطبة مشهورة أمام البرلمان البريطاني عام 1996 م.
و بعد خير الكلام كلام اللّه يأتي خير الهدي هدي رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم في مسألة الوالدين، و قد جعل بر الوالدين مفضلا على الجهاد في سبيل اللّه و هو ما قاله صلّى اللّه عليه و سلّم للصحابي الذي أراد الجهاد «أ لك والدان»، قال نعم، قال صلّى اللّه عليه و سلّم «ففيهما جاهد»، و عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه أنّ رجلا سأل النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أيّ الأعمال أفضل قال «الصّلاة لوقتها و برّ الوالدين ثمّ الجهاد في سبيل اللّه»، و في حديث قلت يا نبيّ اللّه أيّ الأعمال أقرب إلى الجنّة قال «الصّلاة على مواقيتها قلت و ما ذا يا نبيّ اللّه قال برّ الوالدين قلت و ما ذا يا نبيّ
ص: 63
اللّه قال الجهاد في سبيل اللّه».
و بعد فهذا غيض من فيض رحمة الإسلام الشاملة لكل خلق اللّه تعالى و التي لم تتميز بشموليتها و خصائصها أية حضارة أخرى باعتراف كبار منظري و مستشرقي الغرب و تلك مقارنة بسيطة لأجل وضع القارئ الكريم بالصورة المطلوبة للدخول في قوانين القرآن الكريم في الحضارات.
ص: 64
يبني الإسلام مجتمعا عاملا غير خامل و لا كسول، متكلا غير متواكل، خلوقا غير منحرف، عادلا غير متطرف. للرجل دوره، و للمرأة دورها، و الكل راع و مسئول عن رعيته. الفساد و الانحراف بكل أشكاله و ما يؤدي إليه مرفوض لأن اللّه تعالى لا يحب الفساد.
و الإسلام يحث على العمل و النجاح و الكد و عدم الركون للكسل و الفشل و الإحباط، و في هذا تفصيل كبير، و لعلنا ذكرنا بعض الآيات و الأحاديث الدالة على العمل خلال هذا الكتاب و غيره(1).. و لقد أثبت العلم الحديث أن النجاح في العمل هو من أحد أسرار إطالة الأجل، و لعل العمل الصالح على رأس هذه الأعمال لما يوفره من شحنة طاقة للخير تعم النفس فتجعل منها شعلة للخير و الإنجاز.. و ما الأحاديث الدالة على شروط حسن الخاتمة و التي تتعهد بتوفيرها لأهل العمل الصلح مثل الإخلاص و بر الوالدين و صلة الرحم و حسن الخلق و السريرة و غيرها لتدل على هذا المفهوم من بابه الواسع، و صدق الصادق الأمين الذي بين في الحديث الصحيح الذي يرويه أهل السير و منهم البخارى و مسلم و أبي داود و غيرهم أن العمل الصالح و على رأسه صلة الرحم هو من شروط طيب الرزق و طول العمر و بقاء الأثر، فقد روى البخاري في البيوع (1925) عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه، سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول (من سرّه أن يبسط له في رزقه
ص: 65
أو ينسأ لّه في أثره فليصل رحمه)..
و لقد بينت البحوث الحديثة صدق هذا السبق الإسلامي، في بحث أجري مؤخرا تبين أن نجاح المرء في عمله و حياته من أهم أسباب زيادة العمر و طيب الرزق.. يقول أحد المشتركين في البحث: (لما ذا يعيش بعض الناس لفترة أطول من غيرهم؟ هذا السؤال شغل بال الكثيرين لعدة أجيال. و في كثير من الأحوال تبدو الإجابة واضحة: اتباع نظام غذائي جيد و رعاية صحية جيدة و عدم الإصابة بالكثير من الأمراض. لكن بالنسبة لآخرين فإن السبب يشوبه الكثير من الغموض. فلما ذا، مثلا، يعيش رجل ياباني أربع سنوات أكثر من البريطاني؟ و لما ذا تتوفى سيدة تعيش في مانشستر قبل ثلاث سنوات من سيدة تعيش في ظروف مماثلة لكن في لندن؟. و لما ذا يطول عمر رجل يعيش في غرب لندن ست سنوات عن رجل يعيش في شرق لندن).
وضع العلماء مجموعة من الأسباب على مدى السنوات تتراوح بين أسلوب الحياة و الاختيارات التي يقوم بها الإنسان مثل التدخين، و بين الجينات. إلا أن كتابا لسير مايكل مارموت بروفيسور علم الأوبئة و الصحة العامة في جامعة يونيفيرستي كوليج لندن، يوفر إجابات مختلفة لهذه الأسئلة. و قام مارموت بدراسة الاختلافات بين طول الأعمار لمدة ثلاثة عقود. و في الستينات أجرى ما أصبح يعرف الآن باسم دراسة وايتهول، و هي دراسة على صحة الموظفين الحكوميين في لندن. و خلصت الدراسة إلى أن صحة موظفي الحكومة ترتبط بعلاقة وثيقة بدرجتهم الوظيفية في الحكومة. و أن الموظفين الذين يحتلون مناصب كبرى يتمتعون بصحة أفضل. و خلصت دراسات أخرى إلى نتائج مماثلة في جماعات اجتماعية مختلفة مثل الأكادميين و الحاصلين على جوائز أوسكار.
فقد خلصت الدراسات إلى أن الحاصلين على درجة الدكتوراة يعيشون أطول من الحاصلين على درجة الماجيستر، و الذين يعيشون بدورهم فترة أطول من الحاصلين على شهادة جامعية، و الذين يعيشون أطول ممن لم يكملوا دراستهم الجامعية. و بالصورة نفسها، فإن الممثلين الحاصلين على جائزة أوسكار يعيشون متوسط ثلاث سنوات أطول من الذين رشحوا للحصول على الجائزة دون أن يحصلوا عليها بالفعل.
و يعتقد مارموت أن هذه النظرية يمكن تطبيقها على أي جماعة في المجتمع بدءا من السياسيين إلى الذين يعيشون تحت خط الفقر. و يصر على أن الصحة العامة و طول
ص: 66
العمر يتأثر بدرجة كبيرة بمكانة الإنسان في المجتمع. و أطلق مارموت على هذا اسم "عرض الوضع الاجتماعي" و هو نفس الاسم الذي أطلقه على كتابه. و يقول: "الدليل دامغ. و يشير إلى أن تبوأ منصب اجتماعي مرموق يؤدي إلى تحسن الصحة. و الذين يحتلون قمة الهرم الاجتماعي يعيشون أطول." و يعتقد مارموت أن الوضع الاجتماعي ربما يكون أهم من النظام الغذائي المتبع و الرعاية الصحية. و يقول: "يعتقد الناس أن طول العمر يتحدد إما بالرعاية الصحية و التدخين أو النظام الغذائي المتبع." ..هذه الأمور مهمة أيضا لكن الدليل يظهر أنها مجرد جزء من الصورة الكاملة. "و يقول مارموت إن موقعنا في الهرم الوظيفي يتأثر بأمرين: الدرجة التي نسيطر بها على حياتنا و الدور الذي نلعبه في المجتمع و يسأل:" هل يشعرون بأنهم يسيطرون على حياتهم و يتمتعون بفرص تمكنهم من التواصل الاجتماعي الكامل؟ "..و يبدو أن المال ليس له تأثير كبير، و يقول مارموت:" المزيد من المال لا يعني صحة أحسن. المال حد ذاته ليس مهمّا. "و ربما تفسر هذه النظرية السبب في أن الحياة في بعض الدول الفقيرة نسبيا مثل اليونان و مالطة أطول منها في المملكة المتحدة أو الولايات المتحدة.
و يعتقد مارموت أن منح الناس المزيد من السيطرة على حياتهم و ضمان أن يلعبوا دورا كاملا في المجتمع سيعزز صحتهم و يزيد من أعمارهم و يوصي بأن تعمل الحكومة على ضمان أن يحصل جميع الأطفال على تعليم جيد، و أن يحصل العمال على المزيد من السيطرة على حياتهم و ألا تعتبر المسنين مجرد" كومة من العظام ".كما يوصي بضرورة أن يبذل المزيد من الجهود لضمان أن يشعر المواطنون بأنهم جزء من مجتمعاتهم.
الفساد كل اضطراب في النواميس الإلهية مادية كانت أم معنوية، في البر و في البحر، للزرع و الضرع، للحرث و النسل، للإنسان و الحيوان، في الخلق و السلوك كما في المجتمعات و الدول. للفساد هذا أشكال عدة فصلها القرآن الكريم بما يأتي:
1. وَ إِذا تَوَلّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ وَ اللّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (205) (البقرة: 205).
2. فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَ كانُوا مُجْرِمِينَ (116) (هود:
ص: 67
2. فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَ كانُوا مُجْرِمِينَ (116) (هود:
116).
3. وَ ابْتَغِ فِيما آتاكَ اللّهُ الدّارَ الْآخِرَةَ وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَ أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللّهُ إِلَيْكَ وَ لا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) (القصص: 77).
4. ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) (الروم: 41).
5. وَ قالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَ لْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26) (غافر: 26).
من أهم ما حذر الإسلام منه هو الانكباب على الدنيا و ملذاتها، و جعلها القيمة الأساسية لفلسفة الوجود، فهي رأس كل فتنة و فساد. على عكس الحضارة الغربية التي جعلت من الدنيا أساس كل شيء، و دونها يهون كل خلق و تموت كل فضيلة. فكان الفكر الغربي ربيب الفكر اليهودي يدعو دائما إلى شيوع الغرائز كالجنس و التسلط و القتل و النفوذ و التعصب الأعمى، و أساس كل ذلك اللهث وراء المال، إله اليهود الذي أشرب في قلوبهم بعد ما عبدوا العجل المصنوع من الحلي الذي سرقوه من المصريين القدماء، رغم كل المعجزات الإلهية التي أعطاها اللّه تعالى لنبيه موسى عليه السّلام لعل هؤلاء القوم يفقهون حديثا، إلا أن قلوبهم أصبحت أقسى من الحجارة، فماتت قلوبهم و ضمائرهم فهم كالأنعام بل هم أضل.
و لأن هذا الفكر المسخ يعلم مدى تأثير النساء، شجع هؤلاء الحيوانات البشرية الجنس و التحلل و الشذوذ الجنسي، و جعل المرأة جسد يباع و يشترى تحت تعريف واحد هو (الحب) بين الجنسين الذي يجب أن يقدس و لا يمس بأي سوء. و ما هو في الواقع إلا الجنس بعينه و تحلل المجتمع و تدمير فكره و سلوكه كي يسهل السيطرة عليه كما جاء في بروتوكولات حكماء صهيون، و مع الأسف طبق في مجتمعاتنا الإسلامية:
1." إذا أردت أن تدمر مجتمعا فانشر فيه الفساد".
2." إذا أردت أن تدمر أمة فسلمها بيد جهالها "،و معلوم أن الجهال أكثر
ص: 68
الناس استجابة للشهوات.
3." إذا أردت أن تدمر جيشا فسلمه بيد المدنيين "،و معلوم ما للجيش في الأمة و الوطن من اهمية فتدميره داخليا يكون من أناس لا يفهمون في الترتيبات العسكرية و هم المدنيون.
4." كأس و غانية تدمر أمة محمد".
و رغم أن اللّه تعالى قد حذرنا من هذه الأمور بقوله جل و علا: زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِينَ وَ الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ وَ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَ الْأَنْعامِ وَ الْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ اللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) (آل عمران: 14). إلا أننا ركضنا وراء دعاوي هذا الفكر و اعتبرنا أن هذا كله من دواعي الحضارة و التطور، و ما هو إلا الفساد بعينه الذي حذرنا اللّه تعالى منه.
حول هذا الموضوع (موضوع الحب و الهوى) الذي تدور حوله كل ما يسمى بالأعمال الدرامية من تمثيليات و أفلام و مسلسلات و أغاني، حتى انهم إذا أرادوا أن يخرجوا فيلما تاريخيا مثلا حول شخصية معينة أقحموا فيها دورا فيه عشقا و حبا. بل و أحيانا يزورون الأحداث بحجة الحبكة الدرامية ليضعوا فيها امرأة تعشق و تلبس الثياب (العارية) لتغري و تفتن من يراها كي يقال أن هذا الأمر أمرا مقدسا حتى في الأديان.
هذا ما عودوا عليه الأجيال منذ نشأة السينما و لحد الآن و ضحكوا بها على الكثيرين. و هذا هو لعمري بالضبط ما تريده الصهيونية و الماسونية و مأجوريهم من المستشرقين و أدعياء الحضارة (الجاهلية) الغربية و أصحاب القلوب و العقول الخالية من كل شيء إلا من الهوى و الهوس بكل ما يدفع الإنسان إلى حيوانية مقيتة و قسوة أين منها قسوة الحجر و الصوان و هي بالتأكيد خالية من محبة اللّه و رسوله و من الغيرة المحمدية.. إذن الهدف واضح و هو أنهم أرادوا تدمير أجيال بكاملها و خلع محبة اللّه و رسوله من القلوب و وضع محلها محبة الهوى و النساء و النفس و النفوذ و الجاه و المال و كل الشهوات الأخرى كي يسهل تحطيمها، و كان لهم ما أرادوا بفعل هؤلاء من يدعون أنهم فنانين، رغم أن الفن رسالة سامية تسمو بالفكر الإنساني و تقومه و ترفع عنه كل معاني الرذيلة و الانحطاط الخلقي.
ص: 69
لكنهم أرادوا به أمرا آخر، أي كلمة حق يراد بها باطل، فبدعوى الحب هذه يحققون ما يصبون إليه، فأنصت لهم دون تروي من كان بقلبه مرض، و هم أدعياء الفن هؤلاء المساكين الذين يتصورون انهم يحسنون صنيعا، و اللّه تعالى يقول:
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (103) اَلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104)، (الكهف).
و المصيبة أنهم إذا ما حاولت نصحهم و إرشادهم إلى الحق اتهموك بالجهل و الرجعية و عدم مواكبة العصر و ما إلى ذلك من التهم، و قد تحقق فيهم قول اللّه تعالى:
وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7)، (لقمان)، أي و من الناس من يشري ما يلهي عن طاعة اللّه و يصد عن سبيله، مما لا خير و لا فائدة فيه، قال الزمخشري: و اللهو كل باطل ألهى عن الخير، نحو السمر بالأساطير و التحدث بالخرافات المضحكة، و فضول الكلام و ما لا ينبغي، و روى ابن جرير عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه انه سئل عن الآية فقال: و اللّه الذي لا إله إلا هو - يكررها ثلاثا - إنما هو الغناء، و قال الحسن البصري نزلت هذه الآية في الغناء و المزامير(1). و هذا أيضا تفسير الكشاف و الطبري و ابن كثير.
و الأدهى و الأمر انهم ينسبون هذا إلى اللّه تعالى و يقولون أن نجاحنا و شهرتنا بفضل اللّه - حاشا للّه - وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَ اللّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (28)، (الأعراف: 28)، فسبحان اللّه عما يصفون و تعالى اللّه علوا كبيرا فأولئك و أمثالهم قال اللّه عنهم اَلَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَ كانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101)، (الكهف: 101).
و قد سئل الدكتور عبد الملك السعدي حول الفتوى في هذا الأمر فرأيت أن انقله بالكامل لما فيه من الفائدة:
السؤال: ما هو حكم الشريعة في الغناء من الرجل و المرأة و ما حكم الموسيقى المقترنة8.
ص: 70
به أو منفردة عنه؟ الجواب: هذا السؤال ذو شقين الغناء و المغني.
أولا: الغناء الغناء... كلام منظوم حسنه حسن و قبيحه قبيح.
فالحسن.. هو المدح المعتدل، و الرثاء بدون مغالاة، و الشعر الحماسي الباعث على البطولة كما سنذكر من غناء يوم بعاث(1) ، و ما فيه من حث على الخير و العمل الصالح، و الشعر الوطني المحبب للوطن و للحفاظ عليه، و مدح الباري جل شأنه و دعاؤه، و مدح النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و إخوانه و أصحابه الصالحين دون مبالغة فهذا مباح يجوز التغني به و سماعه.
القبيح.. ما فيه إثارة الفتنة أو إثارة الغريزة كالشعر الغزلي و ما فيه وصف النساء أو فيه غرام و حب و هوى جنسي فهذا يحرّم التغني به و سماعه.. و الأدلة على ذلك:
منها قوله تعالى وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6). و الغناء الماجن من لهو الحديث لا من خيره و حسنه. و منها قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم «إن الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل» رواه الترمذي و الإمام احمد. و ما ينبت النفاق يحرم قوله و سماعه..
و من ذلك نهيه صلّى اللّه عليه و سلّم عن بيع و شراء القينات، أي الجاريات المغنيات. حيث يقول صلّى اللّه عليه و سلّم «لا تبيعوا القينات و لا تشتروهن و لا تعلموهن و لا خير في تجارة فيهن و ثمنهن حرام» رواه الترمذي و الإمام احمد و ابن ماجة... و النهي عن شرائهن و تحريم ثمنهن دليل على تحريم فعلهن و قولهن، قد ورد بروايات متعددة و بطرق مختلفة حتى بلغ درجة الحسن لغيره و ان كان سند كل رواية فيها ضعف إلا أنها بمجموعها تبلغ درجة الحسن لغيره.6.
ص: 71
ثانيا: المغني و هو إما ذكر أو أنثى: فالذكر.. يجوز أن يغني للذكور إذ لا تحصل بصوته فتنة لهم إذا كان غناؤه من النوع الحسن.. و أما المرأة.. يجوز أن تغني للنساء لأنه لا يحصل بصوتها فتنة لهن و لا سيما إذا كانت جارية(1) صغيرة و كان الغناء من النوع الحسن.
فقد روى البخاري عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: «دخل عليّ أبو بكر رضي اللّه عنه و عندي جاريتان تغنيان بغناء يوم بعاث فانتهرني و قال (مزمارة الشيطان عند النبي صلّى اللّه عليه و سلّم) فأقبل عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقال (دعهما) فلما غفل غمزتهما فخرجتا» رواه البخاري (باب الحراب و الدرق يوم العيد).
أما غناء الجنس لغيره، كأن تغني المرأة للرجال أو للرجال و النساء أو الرجل للنساء كما في الوسائل الصوتية و المرئية الآن فعلى من يرى أن صوت المرأة عورة و هي رواية عن الإمام احمد و المرجوع عند الحنفية و المشهور لدى الإمامية فإنها آثمة إذا غنت و حرام الاستماع إليها.. و أما على من يرى أنه ليس عورة و هم الجمهور ففيه تفصيل:
إن غنت بصوت مرقق و خاضع و فيه تليّن و تميّع تستميل به الرجال و يحصل فتنة حرّم عليها الغناء، و ان أظهرته بشكل طبيعي و بصوت غليظ و كان من النوع الحسن فلا أرى مانعا من ذلك لأنه لا يثير الغرائز و كذا حكم الاستماع إليه إن استمع إليه ببراءة و عدم طمع فلا مانع. و الدليل على ذلك قوله تعالى.. فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ... ، (الأحزاب: من الآية 32)، و لم يقل و لا تقلن بل قال لا تخضعن بالقول، و بالنسبة للرجل جعل المحذور الطمع الذي في قلبه و يعني به الافتتان و الغريزة الجنسية.
هذا التفصيل إذا خلا من المعازف أما إذا اقترنت به المعازف (كالموسيقى) المهيجة فانه حرام لغيره استماعه لاقترانه بمحرم.. و من أدلة تحريم المعازف... ما روى البخاري - في باب ما جاء من يستحل الحر - عن أبي مالك الأشعري انه سمع النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يقول:
«ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر - بكسر الحاء و تخفيف الراء أي الفرج - و الحرير و الخمر و المعازف».. و وجه الاستدلال به أن المعازف محرمة و استحلالها كفرب.
ص: 72
و قد قرنها صلّى اللّه عليه و سلّم بالخمر و الحرير و الزنا. و كذا إذا ظهرت المغنية على الرائي (التلفزيون) و هي متبرجة و وضعها مثير فانه حرام لغيره مطلقا.
و قد أخطأ من أطلق العنان لبعض الفنانات بالإباحة مطلقا و لو من على شاشات التلفاز و بشكل مثير و معه التبرج أو قال بإباحته مطلقا، و كذا من يفسر الحديث أعلاه بأن المراد أن يجتمع الكل في آن واحد أي تحرم المعازف إذا كانت مقترنة بالخمر و الحرير و الحر فإنه لم يتذوق العربية و لم يعرف أن الواو لمطلق الجمع و ليس (واو) حال أو (واو) معية فقط، و كذا من طعن بإسناد الحديث بأنه معلق و يرفض ما قام به ابن حجر العسقلاني في إثبات وصله و كل ذلك لأجل أن يرضي المجتمع على حساب غضب اللّه تعالى و رسوله. نعوذ باللّه من علم يسخر لمجاراة الناس و محاباتهم(1).
أما الدكتور عبد الكريم زيدان فيقول في مفصله حول هذا الموضوع و بعد أن يفصل كل ما يخصه، و تاريخ نشوء الغناء و تطوره، و أساليبه، و ما ذهب إليه الأئمة و العلماء من مختلف المذاهب ما نتيجته:
و في ضوء ما ذكرنا كله لا يبدو لنا سائغا سماع الغناء في المذياع في الراديو أو التلفزيون لما فيه من الفتنة الظاهرة و لما يقترن به، مما يجعله محظورا على النحو الذي بيناه، لا سيما أغاني التلفزيون حيث تجتمع الصورة و ما فيها من فتنة و شبه عري مع حركات المغنية و ما فيها من فتنة و إثارة، و مع الصوت المفتن، و بالإضافة إلى ذلك كله فإن الغناء قلما تخلو ألفاظه و عباراته من الخنا و الفحش و وصف محاسن النساء و إثارة الشهوات، و كذلك الحال في أغاني الذكور من صبيان مرد، و من شباب مخنثين، و من رجال متصابين. و في ضوء هذا الواقع يمكن القول أن غناء المغنيات و المغنين في الراديو و التلفزيون على النحو الذي وصفناه - و هو الواقع - لا يجوز، و إن الاستماع إليه لا يجوز لا سيما أغاني التلفزيون(2).
الحقيقة العلمية: يقول الدكتور فائق السامرائي: إن للموسيقى تأثيرا علاجيا كما1.
ص: 73
أثبتت البحوث الحديثة، فحاليا هناك الكثير من المعاهد العلاجية في دول عديدة تأخذ بنظرية الموسيقى و العلاج النفسي بواسطة الموسيقى... يقسم شيكوفنسكي أستاذ الأمراض النفسية و العصبية في جامعة صوفيا طرائق هذه المعالجة الطبية الموسيقية إلى خمسة أنواع و كالآتي:
1 - المحيط الخلفي العلاجي: و ذلك بوساطة بث برامج موسيقية غير منتقاة تشيع جوا هادئا أثناء العمل و الطعام و المطالعة في المستشفى.
2 - العلاج التأملي الموسيقى: تجري على شكل جلسات فردية أو اجتماعية، و فيه تنتقى الموسيقى انتقاء يتلاءم مع شخص المريض و أسلوب علاجه، فالكآبة لها موسيقاها، و كذلك الجنون و الحزن و غيرها. فآلات النفخ الهوائية تزيد من حالات التوتر و الاضطراب و عدم الراحة، بينما الوترية و البيانو تضفي جوا رقيقا هادئا.
3 - العلاج الجماعي الموسيقى: و يعتمد على الحركات الراقصة المشابهة للتمارين الرياضية و يشترك فيه الإيقاع مع الموسيقى لإعطاء توافق بين الفعاليات الحسية و الجسدية. و يتطلب هذا النوع تظافر جهود كل من مصمم الرقصات و المعالج الموسيقى و الطبيب لوضع برنامج علاجي بكل مواصفاته. و هنالك أساليب أخرى لهذا النوع من العلاج يدخل فيه التنويم المتزامن مع الموسيقى، و طرق و تقنيات مختلفة أخرى لتنفيذ العلاج بحسب إمكانات المعهد و مقدرة معالجيه على الابتكار.
4 - العلاج الدوائي: يتم هذا العلاج أما بشكل فردي أو جماعي سواء كان عزفا أو غناء مع تفضيل الشكل الجماعي على الفردي. و هنالك توقيتات لجلسات هذا العلاج حسب ما يراه الطبيب، و تنتقى الموسيقى و الكلمات حسب حالة المريض. و هو مطبق منذ قرن من الزمن في بريطانيا ثم كندا و بلغاريا و بقية دول العالم، كما أثبت أنه يفيد الأطفال خصوصا لحالات العوق العقلي و الانحراف السلوكي و الأمراض العقيلة و العصبية.
5 - العلاج الموسيقى الإبداعي: و قسمها شواب عام 1974 م إلى ثلاثة أنماط: لحني و إيقاعي و ارتجالي، و يتم الأداء فيها من قبل المرضى.
ثم توصل الباحث في نهاية البحث إلى أن الموسيقى علاج مساعد و ثانوي و ليس أساسي، فهو لا يرقى إلى مستويات العلاجات الطبية التقليدية، و يمكن درجه ضمن قائمة المؤثرات الثقافية التي يمكن استخدامها ضمن و سائل العلاج الذي يهدف إلى إزالة
ص: 74
المتسلط النفسي للمريض بعد تشخيصه و تصميم الطرق العلاجية الكفيلة بتخفيفه و التخلص منه. كما أنها تساعد في تحرير المريض من المتسلط المرضي النفسي للانحرافات العاطفية و الهواجس و الأوهام و التخيلات و الانحراف الغريزي(1).
لقد أوضحنا في كتابنا (المنظار الهندسي للقرآن الكريم)، الأشكال الذبذبية لأصوات الآلات الموسيقية المختلفة، و كيف أن هذه الأصوات درست علميا بشكل مفصل بما يتعلق بعلم الصوت و هندسته و كيف أنها تحمل شدة ضوضاء عالية، و إذا ما ربطنا هذا مع ما توصل إليه الأطباء النفسانيون بتأثير الموسيقى كعلاج و وقاية - و ليس تأثيرها على الأشخاص الأسوياء - فإن نتائجها ليست أساسية كما تم توضيح هذا في البحث السابق، بل إنها أحيانا تؤدي إلى عكس النتائج كالاضطراب النفسي و الانحراف الغريزي و الأوهام و التخيلات خصوصا إذا ما صوحبت بصور مرئية مليئة بمحركات الشهوات و الأمراض و العقد النفسية التي يتلقاها المتلقي بشكل يؤثر سلبا على نفسيته و بالتالي على تصرفاته.
و لعل العود الحميد إلى اللّه تعالى لكثير من أهل الوسط الفني في مصر، و اعتزالهم العمل فيه بوضعه المزري الذي لا يبني عقلا و لا خلقا من جهة، و انتحار عدد من الفنانات و الفنانين من مختلف الجنسيات أو إصابتهم بأمراض نفسية أو عقلية أو جسمانية من جهة أخرى، يوضح دون أدنى شك لكل مراقب مدى اضطراب الحالة النفسية لأهل هذا الوسط خصوصا من لديه حس مرهف منهم و هم يرون أمام أعينهم مستنقع الانحطاط و السوقية و الإسفاف الذي و قعوا فيه، فتراهم إما أن يعودوا و يتوبوا و يعتزلوا، أو يحصل لهم تطرف في السلوك كردة فعل على الرفض الداخلي لما هم فيه فينتحروا أو يصابوا بمرض معين، و العياذ باللّه!... نسأل اللّه تعالى ان يكون هذا العود الحميد لكثير من هؤلاء الفنانين و الفنانات إلى رشدهم، و ارتداء الكثيرات منهن الحجاب و اعتزالهم الرذيلة التي سموها فنا لهو الخير و الأمل في أسلمة فننا و تطهيره من الدس اللعين للحاقدين من بعض أهل الغرب.
و إذا ما حولنا نظرنا صوب التأثير النفسي و الروحي لكتاب اللّه فإننا نجده شفاء3.
ص: 75
للمرضى و راحة للمتعبين و هدوءا و سكينة للأسوياء، فهذا ما أثبتته معاهد كبيرة في الولايات المتحدة الأمريكية و دول أخرى عديدة إسلامية و غير إسلامية، فمنذ عدة سنوات و البحوث مستمرة حول هذا الموضوع و وصلت إلى دراسة الموجات الصوتية للقرآن الكريم الذي أدخل بصوت الحاسوب و تأثيره على المرضى و الأصحاء، و أثبتت فيه أن تأثيره مهما جدا و أكثر أهمية من الموسيقى العلاجية.. على أن هذا الأمر يجب أن ينتبه إليه المسلمون بشكل حذر، فإذا كان على أساس علمي بحت فمرحبا به، أما إذا كان يهدف إلى تحويل أنظار العالم من المعاني الروحية العظيمة للقرآن الكريم و الأمور التشريعية و العلمية الرائعة التي جاءت فيه صوب مقارنته بالموسيقى فإن هذا هو الكيد بعينه.
إن الإسلام لا يعارض أي غريزة أعطاها اللّه للإنسان، فغريزة التمتع بالأصوات الشجية هو شيء جميل وافقت الشريعة الغراء عليه، فوضعت له الأطر و القوانين المثلى التي تمنعه من الانحراف.. فالإسلام الذي شرعه خالق البشر قد اعطى الأمر بناء على القمة العليا للعلم، إذ إن الموسيقى المبنية على الآلة و ليس الصوت البشري أو الحيواني سيكون لها تأثيرات سلبية جانبية على السلوك البشري عموما، فضلا عن الأصوات البشرية التي تعمل على تخريب الأخلاق و إفساد الذمم بالكلام المعسول الذي لا ينفع، و هذا ما نلمسه اليوم في مجتمعاتنا التي اضحت مدمنة على سماع المسكرات الصوتية و المخدرات الموسيقية.
و حيث إن العلم البشري لم يصل بعد إلى نهايته فإن دراسة التأثيرات الموسيقية على السلوك لم تبلغ مواصفاتها النهائية بسبب عدم معرفة الإنسان و إحاطته بكافة جوانب عقله و استغلاله بشكل صحيح. و على هذا الأساس كان تعامل الإسلام مع سماع المعازف و الأغاني - بالصورة التي بيناها آنفا - و التي تؤدي إلى الانحراف السلوكي الذي نجده اليوم واضحا أمامنا، فجاء هذا التعامل على أساس هذا الباب و ليس غيره، فهو تعامل علمي قبل أكثر من ألف و أربعمائة عام بدأ علماء اليوم - و ليس السفهاء - يتعاملون معه و يذهبون إلى صحة مذهبه.
لننظر الآن إلى المسألة من ناحية علمية بحثية بعيدا عن العواطف و الاتجاهات الفكرية:
فقد قام باحثون من جامعات أمريكية متعددة بدراسة إحصائية دامت سنين عديدة
ص: 76
حول المتزوجين من علاقة تسبق الزواج من عشق و غيره و نشرت عام 1997 م، و اتضح من هذه الدراسة أن اكثر نسب الطلاق، و الانفصال و عدم التفاهم بعد الزواج، كانت من هؤلاء و هذه النسبة اكبر بكثير من الزواج المتأني و الناضج و المعتمد على التعارف بعد الزواج عند العوائل المحافظة على تقاليدها، كما و أعطى البحث دراسة إحصائية حول موضوع الحالات النفسية للأزواج قبل و بعد الزواج و تبين أن اكثر المشمولين بالدراسة يكذبون على الطرف الآخر قبل الزواج و يبنون حياتهم على كذبة ثم يزول القناع بعد الزواج لتتبين الحقائق التي تصدم الطرف الآخر فيكون رد الفعل عنيفا و يحصل التباعد و التنافر و الطلاق أحيانا كثيرة و كذلك الخيانات الزوجية و غير ذلك من الأمور التي أدت إلى تدمير الأسر و تفككها و بالتالي انحلال المجتمع و أثبت في نهاية البحث أن موضوع العشق و الهوى هذا ما هو إلا كذبة كبيرة تخدع الكثيرين و أن الزواج الناضج المتأني هو الادوم و الأكثر استقرارية و اتزان، و قد شمل البحث أشخاصا مختلفي الأعمار و الوظائف و الأحوال الاجتماعية و الاقتصادية(1). و من أراد التفصيل في هذا الأمر فبإمكانه الرجوع إلى أطباء نفسيين متخصصين في هذا المجال و علماء اجتماع ليعلموا هذه الحقيقة علميا و عمليا و واقعيا.
و لئن كان العلم قد توصل إلى أن القشرة الدماغية لدى البشر متطورة و معقدة بشكل عظيم جدا، و أن الجهاز المسئول عن الانفعالات و منها الحب و العواطف الموجود في الفص الأيمن للدماغ يحفز الهرمونات الجنسية لأداء وظيفتها، فإن عملية الخفقان و الاضطراب الذي يحصل للقلب و المرافقة لعملية النظر إلى الجنس الآخر لم يتوصل العلم لحد الآن لفهم مكنوناتها و أسرارها العجيبة فهي لا تزال قيد البحث و الدراسة، و إن كل ما توصل إليه العلم في هذا المجال هو أن الاضطراب القلبي مصاحب لكل انفعال عاطفي حزنا كان أم فرحا، غضبا أم خوفا يأتي بسبب إفراز هرمونات و مواد معينة كمادة الأدرينالين مثلا في حالة الخوف. و إن الاضطراب القلبي الناتج عن فعل المحرماتم.
ص: 77
كالسرقة و الرشوة و الزنا و النظر إلى الجنس الآخر يأتي من حيث شدته بالمرتبة الثانية بعد حالة الخوف المباشر. إلا أن الإسلام العظيم قد حسم الأمر بقوله تعالى:
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30) وَ قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ ما ظَهَرَ مِنْها وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَ لا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَ تُوبُوا إِلَى اللّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)، (سورة النور)، فقد ربط بين النظر و الشهوة الجنسية ربطا سببيا واضحا. و هنا دعوة إلى المتخصصين في مجال النفس و الجملة العصبية و الدماغ إلى سبر أغوار هذا اللغز و خصوصا من لديهم حس ديني و خلقي كي لا ندع الشيطان و حزبه يتمكنوا منا، و صدق اللّه العظيم إذ ينبئنا أن فعل الشيطان و جيشه في شياطين الإنس و الجن سيتمكن ممن يتولونه و يتبعونه، فيقول الحق جل و علا وَ اسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ وَ شارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ وَ عِدْهُمْ وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاّ غُرُوراً (64)، (الإسراء: 64).
إن التحليل المنطقي للحالة هو أن غريزة الجنس تتحرك داخل النفس البشرية عند رؤية الجنس الآخر إذ يقع منها موقعا يحرك النزوات الشهوانية و تعتمد هذه الحالة على التراكم النفسي للشخص و الجو البيئي و التربوي له و تختلف درجتها من شخص إلى آخر، هذه النزوة تتحول إلى رغبة جامحة و خصوصا عند اللذين لهم حالات عاطفية متهيجة كالمراهقين أو أصحاب التطرف الجنسي و الأمراض النفسية المرتبطة بالجنس و لكن دور القلب هنا يشبه دور المعارضة في العمل السياسي إذ أن له صوت آخر يمتزج مع صوت النفس الراغبة و التي تشتهي دائما كالطفل المدلل الذي لا يمل من الطلبات، و صوت القلب هذا لا يعرف الكذب فهو كالجهاز المبرمج لأداء وظيفة و وظيفته هو إرشاد الإنسان إلى صحة العمل الذي يقوم به فإذا ارتكبت الحواس أي عمل لا يرضاه اللّه تعالى
ص: 78
فإن القلب يضطرب كما هو الحال عند ما يقدم إنسان على سرقة أو رشوة أو قتل أو غش أو كذب أو نظرة إلى امرأة أو سماع لكلام يثير الشهوة و كذلك في حالة الخوف.. و هكذا هنا القلب يضطرب لأنه يرفض هذه الحالات لأن اللّه تعالى فطره على هذا العمل و إذا استمع الإنسان لهذا الصوت سلم أما إذا لم يفهمه أو لم يستمع إليه فإن الصدأ يصيب القلب شيئا فشيئا حتى يصبح الأمر طبيعيا لدى الشخص صاحب هذا القلب و هؤلاء هم أصحاب القلوب الميتة.
هذه الحقائق العلمية هي التي يعتمد عليها جهاز الكشف عن الكذب إذ يضطرب القلب عند ما يكذب بذبذبات أسرع من الحالة الطبيعية بسبب إفراز مادة الأدرينالين، فيسجل الجهاز هذه الذبذبات و يتبين إن كان الرجل يكذب أم لا. و هكذا فإن القلب كأنما ينادي صاحبه، أن احذر يا حاملي فإنك تخالف أمر اللّه و لا يحق لك عمل ذلك، و هذا الأمر بالضبط هو مفتاح اللغز الذي لم يفهم عند الكثيرين فيفسرون خفقان القلب على انه صوت يدعوك لعمل الشيء الذي ترغب النفس له، و لكن الحقيقة هو أن الصوت هذا هو صوت معارض لرغبة النفس لذلك فمن يستمع إليه فإن هذا يقوده إلى تزكية نفسه و تعويدها على تحمل الضغط النفسي الناتج من الغرائز الزائدة عن الحاجة البشرية، و من لا يستمع إليه فإنه سيتبع هواه و غرائزه و ينحدر إلى الحيوانية حتى و إن كان مثقفا أو متعلما علما ماديا إلا أن ميكانيكية سيطرته على هواه لا تزال جاهلة و أمية.
و الدليل العلمي لهذا إضافة إلى ما سبق يكمن في حالتين:
الأولى هو أنه في الحيوانات عند رؤية الجنس الآخر لها لا يضطرب قلبها و هذا منطقي شرعا إذ أن الحيوانات فطرت على الغريزة. و أما الحالة الثانية فتخص البشر إذ أن المتزوجين لا يتعرضون لاضطراب قلبي عند ممارسة الجماع مع أزواجهم أو عند رؤيتهم ما يثير الشهوة الجنسية فيهم بنفس الشدة التي تحصل عند ممارسة الزنا و العياذ باللّه، و هذا دليل أن القلب هنا لا يعترض على هذا إذ أن الأمر لا خطأ فيه و لا جريرة و لكنه مع الأسف يفسر عند الكثيرون خطأ على أن الحب قد مات بين الزوجين بينما هو في الحقيقة الحالة الطبيعية لعمل القلب...
إذن نحن أمام حقيقة علمية و واقعية تقول إن هذا الأمر كله مبالغ فيه و إن التركيز يجب أن ينصب على كيفية إرشاد الناس إلى الزواج الصحيح و بناء الأسر بشكل عقلاني
ص: 79
و ملتزم لا كما يطبل و يزمر له جنود إبليس و خدمة الماسونية و الصهيونية من الفنانين و المطربين علموا أم لم يعلموا، فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة و ان كنت لا تدري فالمصيبة أعظم، و إن الحب الذي زوروه و حرفوه هو الحب الملائكي العظيم الذي ليس فيه استفادة مادية و لذة شهوانية بل هو حب روحي لمساته وجدانية صافية تسمو بالنفس و تجعلها في مرحلة ملائكية راقية سامية ألا و هو حب اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم و دينه و قرآنه و حب الوالدين و الأولاد و الأسرة و الوطن و الأمة و الإخوان و الأصحاب مصداقا لقوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ اللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)، (آل عمران: 31)، بينما الحب غير السامي ربطه اللّه تعالى بالشهوة المحرمة و المقصود بها في غير أبواب الحلال في قوله تعالى:
* وَ قالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30)، (يوسف: 30).
و من يشأ التفصيل في موضوع الأثر الذي يتركه التلاعب بمشاعر الناس باستخدام موضوع الحب هذا عن طريق التمثيل و الغناء، فهناك كتب صدرت عن الماسونية في الوطن العربي و سيجد فيها صور فوتوغرافية لممثلين و فنانين مصريين من الجيل القديم و هم يؤدون القسم الماسوني، هؤلاء الذين دفعوا المجتمع إلى الانحراف الخلقي و التفسخ و التهتك فعمت الفوضى، و انقلب الابن و البنت على والديهما تحت شعارات باطلة، و انتشر الزنا، و ابتعدنا عن كل خلق و سمو و معروف دافعت عنه أجيال و سالت بسببه دماء زكية و استشهد في سبيله مئات الألوف و الملايين من أبناء هذه الأمة العظيمة، و نسينا قول اللّه سبحانه و تعالى وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلاً (32)، (الإسراء: 32) و لم يقل (و لا تزنوا) أي كل المقربات و المؤديات إلى الزنا يجب مقاطعتها، و كذلك قوله صلّى اللّه عليه و سلّم: «كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا ذلك لا محالة فالعينين زناهما النظر و الأذنان زناهما الاستماع و اللسان زناه الكلام و اليد زناها البطش و الرجل زناها الخطا و القلب يهوى و يتمنى و يصدق ذلك الفرج و يكذبه»(1) ، و قوله صلّى اللّه عليه و سلّم «إذا زنىد.
ص: 80
العبد خرج منه الإيمان فكان على رأسه كالظلة فإن أقلع رجع إليه» رواه أبو داود و الحاكم و الصحيح الجامع 586، و الحقيقة أن الإنسان يجب أن يقي نفسه و أولاده و أهله من الأسباب المؤدية إلى الزنا و أخطرها النظر إلى ما فشا من تبرج و سفور و خلاعة تصديقا لقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم «إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم و يثبت الجهل و يشرب الخمر و يظهر الزنا»(1).. و ليعلم أولياء الأمور انهم مسئولون أمام اللّه عن هذا لقوله صلّى اللّه عليه و سلّم «أن اللّه سائل كل راع عمّا استرعاه أحفظ أم ضيع، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته» رواه النسائي في الكبرى 9174، السلسلة الصحيحة 1636، و قد ذكرنا الآثار الصحية السيئة للزنا في كتاب الطب من هذه السلسلة.
فصدر و صدق قول اللّه تعالى في حق أدعياء الفن هؤلاء:
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَ لَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10)، (البروج: 10).
وَ اللّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ يُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27)، (النساء: 27)... و صدق المثل الأجنبي الذي يقول: (إن الأغبياء فقط يقعون في الحب).
أسال اللّه أن يهدينا و يهديهم أجمعين و يعيدنا إلى ديننا الحق عودة حميدة، إلى دين العزة و الرفعة و المجد و العلم العظيم و الخلق الكريم، الدين الذي وصلت به هذه الأمة إلى منزلة لم تصلها أمة عبر التاريخ.
و آخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين و أفضل الصلاة و أتم التسليم على سيدنا محمد و على آله و صحبه أجمعين. اللهم لك الحمد ملء السماوات و ملء الأرض و ملء ما شئت من شيء بعد.
إلى اللقاء مع الكتاب القادم و السلام عليكم و رحمة اللّه تعالى و بركاته.د.
ص: 81
ص: 82
ص: 83
ص: 84
تاريخ التشريع الإسلامي(1)
التشريع أو الفقه الإسلامي هو مجموعة الأحكام الشرعية التي أمر اللّه عباده بها، و مصادره أربعة و هي التالية:
1. القرآن الكريم.
2. السّنّة النبوية.
3. الإجماع.
4. القياس.
سوف نتناول في بحثنا في هذا الملحق مواضيع تتعلق بالشريعة الإسلامية و تاريخها و كيفية تكاملها و كيفية وصولها إلينا، و سنفصّل مصادر التشريع الإسلامي و نشرح كيفية تدوين القرآن و السنة مع ذكر آراء و مذاهب الصحابة، و نركز على مسألة المذاهب و نشأتها و وجه الحاجة إلى أن يتبع المسلم مذهبا من هذه المذاهب، ذلك لأن الكثيرين لا يعلمون شيئا عن كيفية نشأتها، و من ثم فهم لا يعلمون لما ذا ينبغي لهم أن يتبعوا واحدا منها. و هذا بحث ينبغي على كل مسلم أن يتعلمه لأنه يتعلق تعلقا وثيقا بأساس الدين.
و سنبدأ إن شاء اللّه تعالى بدراسة تاريخية للشريعة الإسلامية منذ فجر ظهورها تقريبا إلى يومنا هذا، سائلين المولى عز و جل أن يتقبل منا عملنا المتواضع جدا بقبول حسن، كما نرجو من الإخوة و الأحبة أن لا يقصروا كما عودونا بأي نصيحة أو اقتراح، جزاكم اللّه تعالى عنا كل خير.
ينقسم تاريخ التشريع إلى ستة أدوار:
1. الدور الأول: التشريع في حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.
2. الدور الثاني: التشريع في عصر كبار الصحابة (من سنة 11 إلى سنة أربعين هجرية).
3. الدور الثالث: التشريع في عهد صغار الصحابة و من تلقى عنهم من التابعين.
ص: 85
4. الدور الرابع: تدوين السنة و أصول الفقه و ظهور الفقهاء الأربعة الذين اعترف الجمهور لهم بالإمامة و الاجتهاد المطلق، و أنه من اتبع واحدا منهم كان ناجيا عند اللّه تعالى إن شاء اللّه عز و جل.
5. الدور الخامس: القيام على المذاهب و تأييدها و شيوع المناظرة و الجدل من أوائل القرن الرابع إلى سقوط الدولة العباسية.
6. الدور السادس: من سقوط بغداد على يد هولاكو إلى الآن و هو دور التقليد المحض... و لا يعني هذا بأي حال من الأحوال توقف الاجتهاد، فالمسائل المستحثة و المستجدة التي تستوجب الفتوى فإن هناك من علماء الأمة من يتصدى لها مخلصا النية للّه تعال معتمدا على مصادر التشريع الرئيسية.
مصادر التشريع الرئيسية في الإسلام أربعة، و هي:
و هو كلام اللّه تعالى و هو المصدر و المرجع لأحكام الفقه الإسلامي، فإذا عرضت لنا مسألة رجعنا قبل كل شيء إلى كتاب اللّه عز و جل لنبحث عن حكمها فيه، فإن وجدنا فيه الحكم أخذنا به، و لم نرجع إلى غيره. و لكن القرآن لم يقصد بآياته كل جزئيات المسائل و تبيين أحكامها و النص عليها، و إنما نص القرآن الكريم على العقائد تفصيلا، و العبادات و المعاملات إجمالا و رسم الخطوط العامة لحياة المسلمين، و جعل تفصيل ذلك للسنة النبوية. فمثلا: أمر القرآن بالصلاة، و لم يبين كيفياتها، و لا عدد ركعاتها. لذلك كان القرآن مرتبطا بالسنة النبوية لتبيين تلك الخطوط العامة و تفصيل ما فيه من المسائل المجملة.
و هي كل ما نقل عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم من قول أو فعل أو تقرير. و تعدّ في المنزلة الثانية بعد القرآن الكريم، شريطة أن تكون ثابتة عن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم بسند صحيح، و العمل بها واجب، و هي ضرورية لفهم القرآن و العمل به.
هو اتفاق جميع العلماء المجتهدين من أمة سيدنا محمد صلّى اللّه عليه و سلّم في عصر من العصور على حكم شرعي، فإذا اتفق هؤلاء العلماء - سواء كانوا في عصر الصحابة أو بعدهم - على حكم من الأحكام الشرعية كان اتفاقهم هذا إجماعا و كان العمل بما أجمعوا عليه واجبا. و دليل ذلك أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أخبر أن علماء المسلمين لا يجتمعون على
ص: 86
ضلالة، فما اتفقوا عليه كان حقا، فقد روى أحمد في مسنده عن أبي بصرة الغفاري رضي اللّه عنه: أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: "سألت اللّه عز و جل أن لا يجمع أمّتي على ضلالة فأعطانيها" ...و الإجماع يأتي في المرتبة الثالثة من حيث الرجوع إليه، فإذا لم نجد الحكم في القرآن، و لا في السنة، نظرنا هل أجمع علماء المسلمين عليه، فإن وجدنا ذلك أخذنا و عملنا به... مثاله، إجماع الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم على أن الجد يأخذ سدس التركة مع الولد الذكر، عند عدم وجود الأب.
و هو إلحاق أمر ليس فيه حكم شرعي بآخر منصوص على حكمه لاتحاد العلة بينهما. و هذا القياس نرجع إليه إذا لم نجد نصا على حكم مسألة من المسائل في القرآن و لا في السنة و لا في الإجماع. فالقياس إذا في المرتبة الرابعة من حيث الرجوع إليه... و أركان القياس أربعة: أصل مقيس عليه، و فرع مقيس، و حكم الأصل المنصوص عليه، و علة تجمع بين الأصل و الفرع... و دليله قوله عز و جل: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2)، [الحشر: 2]، أي لا تجمدوا أمام مسألة ما، بل قيسوا وقائعكم الآتية على سنّة اللّه الماضية. و روى مسلم و غيره عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، و إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر" .و روى أبو داود و الترمذي عن أبي هريرة أن معاذ بن جبل رضي اللّه تعالى عنه أرسله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إلى اليمن ليعلّم الناس دينهم، فقال صلّى اللّه عليه و سلّم: (يا معاذ بما تقضي؟)، قال: بكتاب اللّه، قال صلّى اللّه عليه و سلّم: (فإن لم تجد في كتاب اللّه؟)، قال: فبسنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، قال: (فإن لم تجد؟)، قال: أقيس الأمور بمشبهاتها (و هذا هو الاجتهاد)، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و قد تهلل وجهه سرورا: (الحمد للّه الذي وفق رسول رسول اللّه لما يرضي رسول اللّه)، و في رواية أخرى قال صلّى اللّه عليه و سلّم: (فإن لم تجد في سنة رسول اللّه؟)، قال: أجتهد رأيي و لا آلو (أي أجتهد و لا أترك)... مثاله: إن اللّه تعالى حرّم الخمر بنص القرآن الكريم، و العلة في تحريمه: هي أنه مسكر يذهب العقل، فإذا وجدنا شرابا آخر له اسم غير الخمر، و وجدنا هذا الشراب مسكرا حكمنا بتحريمه قياسا على الخمر، لأن علة التحريم - و هي الإسكار - موجودة في هذا الشراب؛ فيكون حراما قياسا على الخمر.
و سيأتي فيما يلي معالجة و تعريف و تبيان كل مصدر من هذه المصادر من خلال
ص: 87
الحديث عن الأدوار التي مر بها تاريخ التشريع الإسلامي.
لقد أوجب اللّه تعالى على المسلمين التمسك بأحكام الفقه الإسلامي، و فرض عليهم التزامه في كل أوجه نشاط حياتهم و علاقاتهم. و أحكام الفقه الإسلامي كلها تستند إلى نصوص القرآن الكريم و السنّة الشريفة. فإذا استباح المسلمون ترك أحكام الفقه الإسلامي، فقد استباحوا ترك القرآن و السنّة، و عطّلوا بذلك مجموع الدين الإسلامي، و لم يعد ينفعهم أن يتسمّوا بالمسلمين أو يدّعوا الإيمان، لأن الإيمان في حقيقته هو التصديق باللّه تعالى، و بما أنزل في كتابه، و في سنّة نبيّه صلّى اللّه عليه و سلّم... و الإسلام الحقيقي يعني الطاعة و الامتثال لكل ما جاء به الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم عن ربه عز و جل مع الإذعان و الخضوع و الرضا.
و أحكام الفقه الإسلامي ثابتة لا تتغير و لا تتبدل مهما تبدّل الزمن و تغيّر، و لا يباح تركها بحال من الأحوال. فشرع اللّه صالح لكل زمان و مكان، و الأدلة من القرآن و السنّة كثيرة و عديدة. أما في الكتاب، فقد قال اللّه تعالى:
اِتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَ لا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (3)، [الأعراف: 3]... فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65)، [النساء: 65]... وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ، [الحشر: 7]... وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36)، [الأحزاب: 36]...
و أما في السنة فالأحاديث كثيرة أيضا منها:
- ما رواه البخاري و مسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:
"من أطاعني فقد أطاع اللّه، و من عصاني فقد عصى اللّه." - ما رواه أبو داود و الترمذي قوله صلّى اللّه عليه و سلّم: "عليكم بسنّتي".
و بناء على هذه النصوص يعدّ من يختار من الأحكام غير ما اختاره اللّه و رسوله، قد ضلّ ضلالا بعيدا، قال تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63)، [النور: 63].
ص: 88
و سنتناول فيما يأتي من هذا الملحق إن شاء اللّه تعالى معالجة أهم النقاط المتعلقة بالأدوار الأربعة الأولى فقط و التي تهمنا.
من المعلوم أنّ أهم مصدرين من مصادر الشريعة الإسلامية هما كتاب اللّه عز و جل و سنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فهما المصدران الأساسيان للتشريع الإسلامي و سائر أحكام الإسلام.
و لكن في الحقيقة هناك مصدر أساسي واحد لا ثاني له للشريعة الإسلامية ألا و هو القرآن الكريم، و لكن لما أمرنا اللّه عز و جل أن نتّخذ من كلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم شارحا و مبيّنا و مفصّلا لكتابه الكريم، كانت السنة النبوية بأمر القرآن المصدر الثاني للتشريع. لقد أمرنا اللّه تعالى أن نطيع الرسول عليه الصلاة و السلام في ما أخبر و أن نعتمد على شرحه في غوامض كتاب اللّه، فطاعتنا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إنما هي فرع من طاعة اللّه عز و جل. قال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللّهَ ، [النساء: 80].. وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)، [النحل: 44]... وَ أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ احْذَرُوا ، [المائدة: 92].. وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ، [الحشر: 7].. وَ ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ، [النحل: 64]..
إذا فالشريعة الإسلامية في عهد النبي عليه الصلاة و السلام، كانت تعتمد اعتمادا فعليا على مصدرين فقط هما القرآن و السنة، أما الإجماع و القياس فلم يكن لهما وجود في ذاك العصر لأن القياس يلجأ إليه عند وجود مسألة لا نص فيها، و ما دام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم حيا فالنص مستمر و لا إشكال و حتى لو أنّ النبي عليه الصلاة و السلام قاس أو اجتهد فلا بد أن يتحول هذا الاجتهاد إلى نص. و تفصيل ذلك أنه إذا اجتهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في مسألة فإما أن يقره اللّه تعالى عليها فتصبح نصا حينئذ أو أن يصوب اللّه تعالى له فيكون نصا أيضا.
هو كلام اللّه تعالى القديم، المنزل على سيدنا محمد صلّى اللّه عليه و سلّم، المتعبّد بتلاوته، المبتدأ ببسم اللّه الرحمن الرحيم، الحمد للّه رب العالمين و المختتم بسورة
ص: 89
الناس. و القرآن الكريم هو وحي من اللّه تعالى للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم باللفظ و المعنى.
لكي نعرف الفرق بين القرآن و بين الحديث القدسي و الحديث النبوي، نعطي التعريفين الآتيين:
- الحديث النبوي: هو ما أضيف إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلقيّة أو خلقيّة. مثال القول: قوله عليه الصلاة و السلام: "إنما الأعمال بالنيات..."، جزء من حديث رواه البخاري و مسلم.
مثال الفعل: قول عائشة رضي اللّه عنها في صفة صوم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: "كان يصوم حتى نقول لا يفطر و يفطر حتى نقول لا يصوم" .و كالذي ثبت من تعليمه لأصحابه كيفية الصلاة ثم قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" رواه البخاري.
مثال الإقرار: كأن يقر أمرا علمه عن أحد الصحابة من قول أو فعل، سواء أ كان ذلك في حضرته صلّى اللّه عليه و سلّم، أم في غيبته ثم بلغه، و من أمثلته: "أكل الضب على مائدته صلّى اللّه عليه و سلّم"، فأقرهم على أكله - و هذا دليل الشافعية على جواز أكل الضب - و لم ينكر عليهم ذلك إذ يستحيل أن يرى معصية و لا ينكرها أو يسكت عنها.
فائدة: إذا فعل إنسان طاعة و سكت عنها النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، دل ذلك على استحبابها فضلا عن جوازها، لأنه لا يجوز لأحد أن يختلق طاعة ما ليتعبّد اللّه بها، فليس للعبد أن يتعبّد له بأمر لم يأمره به جل و علا، من هنا كان عدم صحة و جواز النذر إلا فيما كان من جنسه طاعة أو واجب، فمن نذر أن يشرب كوب ماء مثلا، لا يصح نذره و بالتالي لا يلزمه الوفاء به.
مثال الصفة: ما روي: من أنه صلّى اللّه عليه و سلّم، "كان دائم البشر، سهل الخلق..." ،رواه البخاري و مسلم.
- الحديث القدسي: هو ما يضيفه النبي صلّى اللّه عليه و سلّم إلى اللّه تعالى: أي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يرويه على أنه من كلام اللّه، فالرسول عليه الصلاة و السلام راو لكلام اللّه بلفظ من عنده.
فالحديث القدسي معناه وحي من عند اللّه عز و جل و لفظه من عند النبي صلّى اللّه عليه و سلّم.
مثال الحديث القدسي: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فيما يرويه عن ربه عز و جل: "إني حرمت الظلم على نفسي و جعلته بينكم محرما" .
ص: 90
و عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: يقول اللّه تعالى: "أنا عند ظن عبدي بي، و أنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي..."، أخرجه البخاري و مسلم.
إذا فالحديث القدسي هو حديث تلقى الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم مضمونه من الوحي فبيّنه للناس بكلامه و لفظه أي أوحى اللّه تعالى له بالمعنى و الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم صاغ هذا المعنى بعبارته.
- الفرق بين القرآن و الحديث النبوي: هناك فروق عدة أهمها:
1 - أنّ القرآن الكريم كلام اللّه أوحى به تبارك و تعالى إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بلفظه و معناه، و تحدى به العرب الفصحاء و الجن و الإنس و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا، فعجزوا عن أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور مثله، أو بسورة من مثله، و لا يزال التحدي قائما، فهو معجزة خالدة إلى يوم الدين. أما الحديث لم يقع به التحدي و الإعجاز.
إعجاز السنّة لا يضاهي إعجاز القرآن رغم أنّ السنة تعتبر من أفصح كلام العرب حيث ورد في الحديث الشريف أنه صلّى اللّه عليه و سلّم أوتي جوامع الكلم، إلا أنها تأتي بالمرتبة الثانية بعد القرآن.
2 - القرآن الكريم جميعه منقول بالتواتر، فهو قطعي الثبوت، و الأحاديث أكثرها ظنية الثبوت أما الأحاديث المتواترة فهي قطعية الثبوت.
فائدة: كون الحديث قدسيا لا يعني أنه متواتر أو صحيح، إذ لا علاقة بين كونه قدسيا و بين درجته، فقد يكون الحديث القدسي صحيحا، و قد يكون حسنا، و قد يكون ضعيفا أو حتى موضوعا، ذلك لأن الحكم على الحديث من حيث الصحة أو الضعف إنما يكون على السند الذي وصل به إلينا.
3 - القرآن من عند اللّه لفظا و معنى، فهو وحي باللفظ و المعنى، أما الحديث فمعناه من عند اللّه و لفظه من عند الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، فهو و حي بالمعنى دون اللفظ.
4 - القرآن نتعبّد اللّه بتلاوته، فهو الذي تتعين القراءة به في الصلاة، أما الحديث فلا تجزئ قراءته في الصلاة.
ص: 91
الراجح أنّ القرآن له تنزلان:
الأول: نزوله جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ في السماء السابعة إلى بيت العزة في السماء الدنيا. يقول اللّه تعالى في كتابه العزيز مبينا هذا المعنى:
شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ ، [البقرة: 185]... و قال جل و علا: إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنّا كُنّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)، [الدخان: 3-4]، أي في ليلة القدر و ليست ليلة النصف من شعبان كما يعتقد كثير من عامة الناس... و قال تبارك و تعالى: إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)، [القدر: 1].
الثاني: نزوله من السماء الدنيا إلى الأرض مفرّقا منجما في ثلاث و عشرين سنة...
يقول اللّه تعالى: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106) [الإسراء: 106]... تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) [الجاثية: 2].
هذه الآيات و كثير غيرها، تفيد أنّ جبريل عليه السّلام نزل به على قلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و أنّ هذا النزول غير النزول الأول إلى السماء الدنيا فالمراد به نزوله منجّما أي على دفعات، و يدل التعبير بلفظ التنزيل دون الإنزال على أنّ المقصود النزول على سبيل التدرج، فالتنزيل لما نزل مفرقا و الإنزال أعم يفيد النزول دفعة واحدة كما كان حال التوراة و الإنجيل، قال تعالى: الم (1) اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ أَنْزَلَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنّاسِ وَ أَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ اللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4)، [آل عمران].
و قد نزل القرآن منجّما في ثلاث و عشرين سنة منها ثلاث عشرة سنة بمكة على الرأي الراجح، و عشر بالمدينة، و كان ينزل بحسب الوقائع و الأحداث خمس آيات و عشر
ص: 92
آيات و أكثر أو أقل.
1 - تثبيت فؤاد النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و تكريمه بإنزال الوحي عليه مرارا و تكرارا. قال تعالى:
كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (32)، [الفرقان: 32].
قال السخاوي: "في نزوله إلى السماء جملة تكريم بني آدم و تعظيم شأنهم عند الملائكة و تعريفهم عناية اللّه بهم، و رحمته لهم، و لهذا المعنى أمر سبعين ألفا من الملائكة أن تشيع سورة الأنعام، و زاد سبحانه في هذا المعنى بأن أمر جبريل بإملائه على السفرة الكرام، و إنساخهم إياه، و تلاوتهم له." 2 - التحدي و الإعجاز.
3 - تيسير حفظه و فهمه و تدبر معانيه و الوقوف عند أحكامه.
4 - مراعاة حال المخاطبين بالوحي و عدم مفاجأتهم بما لا عهد لهم به و مسايرة الحوادث و التدرج في التشريع.. و أوضح مثال على ذلك، التدرج في تحريم الخمر: فقد نزل قوله تعالى: وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً ، [النحل: 67] أشارت الآية إشارة خفية إلى أن الخمر ليس رزقا أي لا ينتفع به. ثم نزل قوله تعالى: * يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ، [البقرة: 219]، ثم نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى ، [النساء: 43]، ثم قال تبارك و تعالى مصرّحا بالنهي و التحريم القاطع في سورة المائدة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)، [المائدة: 90].
5 - الدلالة القاطعة على أنّ القرآن الكريم تنزيل من حكيم حميد، إذ لو كان من كلام البشر لوقع فيه التفكك و الانفصام و استعصى أن يكون بينه التوافق و الانسجام، يقول تعالى: وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82)، [النساء: 82]. فأحاديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم - و هي ذروة الفصاحة و البلاغة بعد القرآن الكريم - لا تنتظم حباتها في كتاب واحد سلس العبارة، دقيق السبك، مترابط المعاني،
ص: 93
رصين الأسلوب و متناسق الآيات و السور.
لقد كان للعرب لهجات شتى، فكل قبيلة لها من اللحن في كثير من الكلمات ما ليس للآخرين، إلا أنّ قريشا من بين العرب قد تهيّأت لها عوامل جعلت للغتها الصدارة بين فروع العربية الأخرى، فكان طبيعيا أن يتنزّل القرآن بلغة قريش تأليفا للعرب و تحقيقا لإعجاز القرآن... فقد أخرج أبو داود من طريق كعب الأنصاري أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه كتب إلى ابن مسعود رضي اللّه عنه: "إنّ القرآن نزل بلسان قريش، فأقرئ الناس بلغة قريش..." .و لقد كان واضحا لكبار الصحابة رضوان اللّه عليهم أنّ القرآن إنما نزل بلسان قريش قوم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و في ذلك حكم جليلة أهمها:
1 - أنّ قريشا هم قوم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و قد جرت سنّة اللّه في رسله أن يبعثهم بألسنة أقوامهم، قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ... ، [إبراهيم: 4].
2 - أنه عليه الصلاة و السلام قد أمر بتبليغهم الرسالة أولا، قال تعالى: وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)، [الشعراء: 214]. فلا بد من مخاطبتهم بما يألفون و يعرفون ليستبين لهم أمر دينهم. فأنزل اللّه القرآن بلغتهم و أساليبهم التي يفضلونها في مستوى رفيع من البلاغة لا يجارى.
3 - إنّ لغة قريش هي أفصح اللغات العربية و هي تشمل معظم هذه اللغات لاختلاط قريش بالقبائل و لاحتوائها الجيّد الفصيح من لغاتها.
و إذا كان العرب تتفاوت لهجاتهم في المعنى الواحد بوجه من وجوه التفاوت، فكان لا بد للقرآن أن يكون مستجمعا و شاملا لهذه اللهجات مما ييسر على العرب القراءة و الحفظ و الفهم. و نصوص السنّة قد تواترت بأحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف.
عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قال: "سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم. فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم. فكدت أساوره في الصلاة. فتصبّرت حتى سلّم فلبّبته بردائه فقلت من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ، قال: أقرأنيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم. فقلت له
ص: 94
كذبت، أقرأنيها على غير ما قرأت. فانطلقت به أقوده إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم. فقلت: إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها. فقال صلّى اللّه عليه و سلّم: أرسله. اقرأ يا هشام، فقرا القراءة التي سمعته... فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: كذلك أنزلت. ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: اقرأ يا عمر، فقرأت التي أقرأني فقال صلّى اللّه عليه و سلّم: كذلك أنزلت. إنّ هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسّر منه" ،رواه البخاري و مسلم و أبو داود و النسائي و الترمذي و أحمد و ابن جرير.
قوله: "فكدت أساوره في الصلاة" :أي أواثبه و أقاتله، و قال النووي: أي أعاجله و أواثبه... و قوله: "فلبّبته بردائه" :أي جمعت عليه ثوبه عند لبّته و جررته به لئلا يتفلت مني. و اللبة: الهزمة التي فوق الصدر، و فيها تنحر الإبل... و قوله: "كذبت":
أي أخطأت، لأن أهل الحجاز يطلقون الكذب في موضع الخطأ... و سبب تخطئة عمر كان بسبب رسوخ قدمه في الإسلام بخلاف هشام فإنه كان قريب العهد بالإسلام فخشي عمر من ذلك أن لا يكون أتقن القراءة، بخلاف نفسه فإنه أتقن ما سمع، و كان سبب اختلاف قراءتهما أن عمر حفظ هذه السورة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قديما، ثم لم يسمع ما أنزل فيها بخلاف ما حفظه و شاهده و لأن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أقرأ هشاما على ما نزل أخيرا فنشأ اختلافهما من ذلك. و مبادرة عمر للإنكار محمولة على أنه لم يكن سمع حديث أنزل القرآن على سبعة أحرف إلا في هذه الحادثة.
يفيد هذا الحديث أنّ النزاع بين الصحابيين الجليلين راجع إلى كيفية تلاوة القرآن، لا إلى تفسيره و بيان معانيه و هذا يبرهن على أنّ القرآن يقرأ بأكثر من وجه.
و هذه الأوجه التي أنزل عليها القرآن ليست من لغة واحدة بل هي من عدة لغات عربية كلها توقيفية أي أوحي بها إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم.
و روى مسلم في صحيحه عن أبي بن كعب قوله رضي اللّه عنه: "كنت في المسجد فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرتها عليه. ثم دخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه، فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم. فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه.
و دخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه. فأمرهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقرءا. فحسّن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم شأنهما. فسقط في نفسي من التكذيب و لا إذ كنت في الجاهلية. فلما رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ما قد غشيني ضرب في صدري ففضت عرقا و كأني أنظر إلى اللّه عز و جل فرقا، فقال لي
ص: 95
صلّى اللّه عليه و سلّم: (يا أبي أرسل إليّ أن أقرأ القرآن على حرف فرددت إليه أن هوّن على أمّتي فردّ إليّ الثانية اقرأه على حرفين. فرددت إليه أن هوّن على أمّتي. فردّ إليّ الثالثة: اقرأه على سبعة أحرف، فلك بكل ردة رددتها مسألة تسألنيها فقلت: اللهم اغفر لأمّتي.
اللهم اغفر لأمّتي، و أخّرت الثالثة ليوم يرغب إليّ الخلق كلهم حتى إبراهيم صلّى اللّه عليه و سلّم).
يتبيّن من ذلك أن كل حرف من الأحرف السبعة تنزيل من حكيم حميد. و قد يتساءل المرء عن كلام اللّه تعالى كيف يقرأ على سبعة أوجه...؟ و قد تعتريه الدهشة و يختلجه الشك بإثارة الشيطان وساوسه في نفسه ليكدر صفو إيمانها، و يوهن من قوة يقينها باللّه و رسوله و كتابه.
و في هذا الحديث معالجة عملية لمثل هذه الحالة النفسية الدقيقة الحرجة. فالرسول صلوات اللّه و سلامه عليه و على آله يباشر بنفسه القيام بهذه المداواة.
فلقد ضرب في صدر الصحابي الجليل ضربة نبويّة قطع بها دابر الشك الوافد قبل استقراره و تمكنه، فأخذ على الشيطان سبيله إلى قلب أبيّ، ثم أتبع ذلك ببيان يثلج الصدر ببرد اليقين، و يفعم القلب بنور الإيمان، أعلى مراتب الإيمان" اعبد اللّه كأنك تراه "مما جعل أبيا يرى نفسه كماثل أمام الحضرة الإلهية، فغشيه شعور عظيم بالمهابة و الحياء من اللّه، و يروعه ما كاد ينزلق فيه بعد إذ هداه اللّه من ضلال أشد من ضلال الجاهلية، فانتابه إحساس قوي بالخجل و الوجل فلاذ بالإذعان لمشيئة اللّه و حكمته البالغة التي قضت بإنزال القرآن على سبعة أحرف.
ما المراد بالأحرف السبعة؟: اختلف العلماء في المراد بالأحرف السبعة، و تشعبت أقوالهم، و تعددت، و لكننا سنورد أرجح الأقوال و هو قول محمد بن الجزري في بيان المراد بحديث أنزل القرآن على سبعة أحرف.
قال ابن الجزري: لا زلت أستشكل هذا الحديث و أفكر فيه و أمعن النظر من نيف و ثلاثين سنة، حتى فتح اللّه عليّ بما يمكن أن يكون صوابا إن شاء اللّه.
ذلك أني تتبّعت القراءات صحيحها و شاذها و ضعيفها و منكرها فإذا هو يرجع اختلافها إلى سبعة أوجه من الاختلاف لا يخرج عنها و ذلك:
أولا: الاختلاف في الحركات بلا تغير في المعنى و الصورة:
نحو: (البخل) بأربعة أوجه و (يحسب) بوجهين.
ص: 96
ثانيا: الاختلاف في الحركات بتغير المعنى فقط:
نحو: فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ ، [البقرة: 37]، و قرئ بنصب" آدم "و رفع " كلمات".
ثالثا: الاختلاف في الحروف بتغير المعنى لا الصورة:
نحو: (تبلو) و (تتلو) و (ننجيك ببدنك) و (ينجيك ببدنك).
رابعا: الاختلاف في الحروف بتغير الصورة لا المعنى:
نحو: (بصطة و بسطة) و نحو (الصراط و السراط).
خامسا: الاختلاف في الحروف بتغير الصورة و المعنى:
نحو: (فامضوا، فاسعوا).
سادسا: الاختلاف في التقديم و التأخير:
نحو: (فيقتلون و يقتلون)، قرئ (فيقتلون و يقتلون).
سابعا: الاختلاف في الزيادة و النقصان:
نحو: (أوصى، و وصى).
قال ابن الجزري: فهذه سبعة لا يخرج الاختلاف عنها.
و هنا لا بد من التوضيح بأن كل كلام اللّه المنزل على سيدنا محمد صلّى اللّه عليه و سلّم منسجم يؤكد بعضه بعضا، و يفسر بعضه الآخر، لا تصادم بين نصوصه و لا تنافي بين مدلولاته..
قال تعالى: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82)، [النساء: 82]. و هذه الحقيقة تنطبق على القرآن في قراءاته على حرف أو على السبعة بمجموعها. فإنها جميعا لا تخرج في تفاوتها إلى تصادم النصوص أو تنافي المدلولات، بل التوسعة بالأحرف السبعة لا تحلّ حراما و لا تحرم حلالا. قال ابن شهاب الزهري:" بلغني أن تلك السبعة الأحرف إنما هي في الأمر الذي يكون واحدا، لا يختلف في حلال و لا حرام".
و حكى ابن عطية انعقاد الإجماع على ذلك:" فالإجماع أن التوسعة لم تقع في تحريم حلال، و لا في تحليل حرام، و لا في تغيير شيء من المعاني المذكورة ".
ص: 97
1 - تيسير القراءة و الحفظ و التخفيف على العباد و التسهيل عليهم و مراعاة حال العرب في اختلاف ألسنتهم.
2 - مزيد الإعجاز اللغوي في القرآن.
3 - الإعجاز في المعاني و الأحكام ذلك أن حكما فقهيا معينا أو معنى جديدا يفهم من قراءة أخرى كقوله تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ ، [البقرة: 222]، و في قراءة حَتّى يَطْهُرْنَ ، فأفادت القراءة الثانية عدم جواز مجامعة الرجل زوجته إذا طهرت من حيضها حتى تغتسل.
4 - توحيد لغات العرب. فلقد نزل القرآن بلسان قريش أولا، ثم أنزلت الحروف لتسهّل تلاوته للعرب قاطبة على اختلاف لغاتهم، لأن الحروف قد راعت تفاوت اللغات في الألفاظ التي يحرج العرب النطق بها كونها قرشية.
5 - الأحرف السبعة خصيصة لأمة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم. قال الإمام ابن الجزري مفصلا حكم إنزال القرآن على سبعة أحرف:" و منها إعظام أجور هذه الأمة من حيث إنهم يفرغون جهدهم ليبلغوا قصدهم في تتبع معاني ذلك و استنباط الحكم و الأحكام من دلالة كاللفظ... و منها بيان فضل هذه الأمة و شرفها على سائر الأمم، من حيث تلقيهم كتاب ربهم هذا التلقي و إقبالهم عليه و البحث عنه لفظة لفظة و الكشف عنه صيغة صيغة، فلم يهملوا تحريكا و لا تسكينا و لا تفخيما و لا ترقيقا... مما لم يهتد إليه فكر أمة من الأمم.
الأحرف السبعة مزية للقرآن على الكتب السماوية: قال الطبري في شرح حديث الأحرف السبعة: "و معنى ذلك كله، الخبر منه صلّى اللّه عليه و سلّم عما خصه اللّه تعالى به و أمته من الفضيلة و الكرامة التي لم يؤتها أحدا في تنزيله. و ذلك أن كل كتاب تقدم كتابنا نزوله على نبي من أنبياء اللّه، صلوات اللّه عليهم، فإنما نزل بلسان واحد، متى حول إلى غير اللسان الذي نزل به كان ذلك له ترجمة و تفسيرا لا تلاوة له على ما أنزله اللّه...
و منها ظهور سر اللّه تعالى في توليه حفظ كتابه العزيز و صيانة كلامه المنزل بأوفى البيان و التمييز.." .
ص: 98
و نشير هنا إلى أن الأحرف السبعة لا تعني القراءات السبعة بل تعني سبعة أوجه في الخلاف و قد وصل إلينا عشرة قراءات متواترة لكتاب اللّه تعالى. القراءات هي اختلاف ألفاظ الوحي في كتابة الحروف أو كيفيتها من تخفيف و تثقيل و غيرهما. و قد عرّف ابن الجزري القراءات بقوله: "علم القراءات، علم بكيفية أداء كلمات القرآن و اختلافها حسب ناقليها".
كلمة جمع تأتي بمعنيين:
المعنى الأول: بمعنى حفظه و منه يقال جمّاع القرآن أي حفّاظه، و هذا المعنى هو الذي ورد في قوله تعالى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ (17)، [القيامة: 17] ذلك أنه كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يجهد نفسه و يردد وراء جبريل حين كان ينزل عليه بالوحي خشية أن لا يحفظ ما أنزل عليه فأنزل اللّه تعالى هذه الآية تطمينا للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم و تثبيتا لفؤاده حيث أوضحت الآية الكريمة أن اللّه سبحانه و تعالى قد تعهد بتحفيظه إياه و عدم نسيانه و تفهميه معناه. المعنى الثاني، جمع القرآن بمعنى كتابته كله في صحيفة واحدة بين دفتي كتاب.
كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم مولعا بالوحي، يترقّب نزوله بشوق، فما من آية تنزل إلا و يدعو ثلة من أصحابه، اختارهم لكتابة الوحي، فيأمرهم بكتابة ما نزل. و كان كلما نزلت آية حفظت في الصدور و وعتها القلوب. و قد اتخذ النبي عليه الصلاة و السلام كتّابا للوحي منهم: الخلفاء الأربعة، و عبد اللّه بن مسعود و معاذ بن جبل و زيد بن ثابت و أبي بن كعب و خالد بن الوليد و غيرهم رضي اللّه عنهم. و هكذا كان القرآن يكتب آية فآية و مقطعا فمقطعا. و لم يكن ترتيبه حسب ترتيب النزول بل كان سيدنا جبريل يقول للمصطفى عليه الصلاة و السلام إنّ اللّه يأمرك أن تضع هذه الآية على رأس كذا آية من سورة كذا، فيأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كتّاب الوحي بوضع هذه الآية في ذلك المكان. و عند ما نزلت آخر آية - على الرأي الذي رجّحه كثير من علماء الحديث - و هي قول اللّه تعالى:
وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (281)، [البقرة: 281]، قال جبريل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، ضع هذه الآية على رأس مائتين و واحد و ثمانين آية من سورة البقرة بين آيتي الربا و الدّين. و هكذا تكامل نزول القرآن كله، و توفي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بعد ذلك بتسع ليال. و كان صلّى اللّه عليه و سلّم يعرض على جبريل كل سنة ما كان يجتمع عنده من كتاب اللّه، و قد عرضه كله مرتين عليه في نفس السنة التي توفي فيها صلّى اللّه عليه و سلّم.
ص: 99
وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (281)، [البقرة: 281]، قال جبريل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، ضع هذه الآية على رأس مائتين و واحد و ثمانين آية من سورة البقرة بين آيتي الربا و الدّين. و هكذا تكامل نزول القرآن كله، و توفي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بعد ذلك بتسع ليال. و كان صلّى اللّه عليه و سلّم يعرض على جبريل كل سنة ما كان يجتمع عنده من كتاب اللّه، و قد عرضه كله مرتين عليه في نفس السنة التي توفي فيها صلّى اللّه عليه و سلّم.
إذا القرآن كان يكتب من فم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و كان الصحابة يخطّونه على جريد النخل و صفائح الحجارة و رقاع الجلد... و هذا يدل على مدى المشقة التي كانوا يتحملوها في الكتابة حيث لم تتيسر لهم أدوات الكتابة إلا بهذه الوسائل. و لم تكن هذه الكتابة في عهد النبي صلّى اللّه عليه و سلّم مجتمعة في مصحف عام، و لم يجمع الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم القرآن بين دفتي كتاب في حياته لأن إمكان نزول الوحي كان مستمرا كما أنّ إمكان نسخ بعض الآيات كان مستمرا. و قبض النبي عليه الصلاة و السلام و القرآن محفوظ في الصدور و مكتوب على نحو ما سبق، بالأحرف السبعة التي أنزل عليها، و هذا ما يسمى بالجمع الأول (حفظا و كتابة).
إنّ ترتيب الآيات و السور في القرآن الكريم توقيفي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عن جبريل عليه السّلام عن رب العزة سبحانه و تعالى و هذا بإجماع العلماء، فقد كان جبريل عليه السّلام يتنزل بالآيات و يرشد إلى موضعها من السورة أو الآيات التي نزلت قبل، فيأمر الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم كتبة الوحي بكتابتها في موضعها. أخرج الحاكم في المستدرك بسند على شرط الشيخين عن زيد بن ثابت أنه قال: "كنا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم نؤلف القرآن من الرقاع" ، (أي كنا نرتب الآيات و السور وفق إشارة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم).
من المتفق عليه أنّ النبي عليه الصلاة و السلام منع أصحابه من كتابة غير القرآن في أول عهد النبوة خلال ثلاث سنوات أو تزيد قليلا، و قد صح عنه عليه الصلاة و السلام أنه قال لأصحابه: "لا تكتبوا عني غير القرآن و من كتب عني فليمحه" .و لكن الأمر اختلف فيما بعد حيث سمح لهم بعد ذلك بالكتابة. لكن ترى ما الحكمة في ذلك؟.
ص: 100
السبب أنّ النبي صلّى اللّه عليه و سلّم خشي في أول الأمر أن يلتبس على الناس أسلوب القرآن بأسلوب الحديث فيختلط عليهم هذا بذاك فيكتبون حديثا و هم يظنونه قرآنا أو يكتبون آية و هم يظنونها حديثا و هذا احتمال وارد جدا، لأن الصحابة لم يتعرفوا بعد على القرآن تعرفا تاما و لم يتذوقوه تذوقا يجعلهم يفرّقون بينه و بين غيره من أحاديث النبي عليه الصلاة و السلام... فلما نزل قسط كبير من القرآن، و تعرفوا إلى أصوله و خصائصه، أذن لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أن يكتبوا الحديث. و لقد صح عن النبي عليه الصلاة و السلام أنّ بعضا من الصحابة نهى عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما أن يكتب عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم الحديث و قال إنّ رسول اللّه بشر و هو ينطق بالغضب و الرضى فلا تكتب إلا القرآن، فذهب و سأل النبي صلّى اللّه عليه و سلّم عن ذلك فقال له: "اكتب، فو اللّه لا يخرج منه - و أشار إلى فمه - إلا الحق" .كما ورد أيضا عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنه قال: "لم يكن أحد من الصحابة أكثر مني حديثا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إلا ما كان من شأن عبد اللّه بن عمر فإنه كان يكتب و لم أكن أكتب" .إذا قسط يسير من حياة النبي عليه الصلاة و السلام بعد البعثة، الحديث لم يكن يكتب فيه و القسط الأكبر كان يكتب على قطع متفرقة من الصحف و الأوراق و نحو ذلك و لم يدوّن - أي لم يجمع بين دفتي كتاب - لا في حياته و لا بعد وفاته عليه الصلاة و السلام إلا في ما بعد أواخر عصر التابعين - كما سوف نرى - على يد أبي بكر بن حزم رضي اللّه عنه و من ثم باقي العلماء من بعده بأمر من عمر بن عبد العزيز ثم باقي العلماء من بعده كالإمام مالك و أحمد و غيرهم.
فائدة: الفرق بين الكتابة و التدوين: الكتابة هي أن يكتب الإنسان ما يريد كتابته في أوراق متفرقة دون ضم بين دفّتي كتاب، و هذا ما يسمى بالكتابة المطلقة. أما التدوين فهو جمع ما يراد كتابته مرتبا بين غلافين في كتاب واحد... من هنا كان خلط المستشرقين بين الكتابة و التدوين، لجهلهم باللغة العربية - إن حسنّا الظن بهم - فقالوا إنّ الحديث لم يكتب إلا بعد وفاة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و انقراض عصر الصحابة و الحقيقة أنّ الحديث كتب و لكنه لم يدوّن أي لم يجمع بين دفتي كتاب. و لقد كان عند سيدنا علي رضي اللّه عنه صحيفة تسمى "الصحيفة الصادقة" و لكنها ليست صحيفة واحدة فقد كان مكتوب فيها مجموعة أحاديث متفرقة، و كثيرون آخرون من الصحابة كانوا يكتبون أيضا.
ص: 101
توفي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و قد تكامل القرآن نزولا و لكنه لم يجمع في مصحف واحد بين دفتي كتاب، بل كان محفوظا في صدور الحفّاظ و صحف كتّاب الوحي، و كان عدد الحفاظ في العهد النبوي كثيرا جدا. و كان قد وعى كثير من الصحابة حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، بعضهم في الصدور كأبي هريرة، و بعضهم في الكتابة في السطور لا تدوينا. و تولى أبو بكر رضي اللّه عنه الخلافة و لا يزال التشريع يعتمد على مصدرين أساسيين هما القرآن و السنة، و سنتكلم أولا عن القرآن و ما طرأ عليه من جديد.
حصل في أول عهد أبي بكر رضي اللّه عنه ما دفعه إلى وجوب جمع القرآن كله في مصحف ذلك أنه واجهته أحداث جسام في ارتداد جمهرة العرب، فجهز الجيوش لحروب المرتدين، و كانت غزوة أهل اليمامة سنة 12 للهجرة تضم عددا كبيرا من الصحابة القرّاء، فاستشهد في هذه الغزوة سبعون قارئا (أي حافظا) من الصحابة، فهال ذلك عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، فدخل على أبي بكر و أشار عليه بجمع القرآن و كتابته بين دفتي كتاب خشية الضياع بسبب وفاة الحفاظ في المعارك. و لكن أبا بكر نفر من هذه الفكرة و كبر عليه أن يفعل ما لم يفعله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و ظل عمر يراوده حتى شرح اللّه تعالى صدر أبي بكر لهذا الأمر، فأرسل إلى زيد بن ثابت لمكانته في القراءة و الكتابة و الفهم و العقل، و لأنه كان صاحب العرضة الأخيرة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أي كان آخر الصحابة الذين قرءوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كاملا و قال صلّى اللّه عليه و سلّم: "خذوا عنه القرآن" أو بما معناه، و قصّ عليه قول عمر رضي اللّه عنه. نفر زيد من ذلك كما نفر أبو بكر الذي ظل يراجعه حتى شرح اللّه تعالى صدره لذلك. و يروي زيد بن ثابت فيقول: "قال أبو بكر: إنك شاب عاقل لا نتهمك، و قد كنت تكتب الوحي لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فتتبّع القرآن فاجمعه. يقول زيد:" فو اللّه لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل مما أمرني به من جمع القرآن "،و قال لأبي بكر: كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم؟.
قال: هو و اللّه خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح اللّه صدري للذي شرح
ص: 102
اللّه له صدر أبي بكر و عمر، فتتبّعت القرآن أجمعه من العسب و اللخاف و صدور الرجال، و وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري. لم أجدها مع غيره لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ، [التوبة: 128] حتى خاتمة براءة فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه اللّه، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر".
و كان زيد بن ثابت لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة، و قوله أنه لم يجد آخر سورة التوبة إلا عند أبي خزيمة الأنصاري لا يعني أنها ليست متواترة، و إنما المراد أنه لم يجدها مكتوبة عند غيره، و كان زيد يحفظها، و كان كثير من الصحابة يحفظونها كذلك، و لكنّ زيدا كان يعتمد على الحفظ و الكتابة معا، فكان لا يكتب الآية حتى يأتيه اثنان من الصحابة حفظا هذه الآية من فم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، و اثنان آخران كتباها بين يدي النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و لا يكتفي بمن كتب و لكن ليس بين يدي المصطفى صلّى اللّه عليه و سلّم، و هذا شرط لا بد منه حيث إن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم مع أنه كان أمّيا و بقي أمّيا حتى توفي و لكنه كان يصوّب و يصحح لكتبة الوحي الذين يكتبون بين يديه إذا أخطئوا و هذا من معجزاته صلّى اللّه عليه و سلّم. و هنا يظهر لنا شدة حرص زيد بن ثابت رضي اللّه عنه و مبالغته في الاحتياط. أخرج ابن أبي داود من طريق هشام ابن عروة عن أبيه أنّ أبا بكر قال لعمر و لزيد: "اقعدا على باب المسجد فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب اللّه فاكتباه" .و فسر الجمهور أنّ المقصود شاهدين عدلين في الكتابة و شاهدين عدلين في الحفظ.
قال السخاوي: "المراد أنهما يشهدان على أنّ ذلك المكتوب كتب بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم" ...و قال أبو شامة: "و كان غرضهم أن لا يكتب إلا من عين ما كتب بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، لا من مجرد الحفظ..." .و الذي يظهر أنّ أبو خزيمة الأنصاري شهادته بشهادة رجلين و لذلك أخذ منه زيد بن ثابت. و لعله جاء بعد أبي خزيمة من عنده هذه الآية مكتوبة بين يدي النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و لكن زيدا كان قد اكتفى بأبي خزيمة لأن شهادته بشهادتين كما ذكرنا و ذلك لأنه كان لأحد من اليهود دين على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أدّاه له، فجاءه اليهودي يوما و أخذ يوبخ رسول اللّه عليه الصلاة و السلام و يعيّره و يتهمه بأنه أخّر سداد دينه، فأخبره عليه الصلاة و السلام أنه أدّى له الدّين، و لكن اليهودي أنكر، فقال صلّى اللّه عليه و سلّم (من يشهد لي؟)، فقام أبو خزيمة فشهد له. فقال له صلّى اللّه عليه و سلّم: (كيف تشهد لي على شيء لم تره؟)، (أي إنك ما رأيتني حين سددت دين ذلك اليهودي)، فقال أبو
ص: 103
خزيمة: يا رسول اللّه أصدقك بخبر السماء أ فلا أشهد لك على هذا!... فقال صلّى اللّه عليه و سلّم:
(شهادة أبي خزيمة بشهادتين)، فكان أحد من الصحابة إذا أراد نكاحا أو معاملة أتى بأبي خزيمة الذي كان يكفي عن شاهدين.
و قد تم جمع القرآن كله بين دفتي كتاب خلال سنة واحدة تقريبا أي بعد سنة من وفاة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، فكان أبو بكر رضي اللّه عنه أول من جمعه بهذه الصفة في مصحف واحد مرتب الآيات و السور مشتملا على الأحرف السبعة التي نزل بها، و يرى بعض العلماء أنّ تسمية القرآن بالمصحف نشأت منذ ذلك الحين، و هذا الجمع هو المسمى "بالجمع الثاني" .و قد ظفر مصحف أبي بكر بإجماع الأمة عليه و تواتر ما فيه. و بعد وفاة أبي بكر رضي اللّه عنه، انتقلت هذه الصحف أو الأوراق المجمّعة إلى بيت سيدنا عمر طوال فترة خلافته، و لما توفي أصبحت هذه الأوراق عند ابنته حفصة رضي اللّه عنها.
سؤال: لما ذا كانت هذه الصحف عند حفصة بعد عمر لا عند عثمان بن عفان؟.
الجواب: حفصة هي زوجة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و أم المؤمنين، و كانت حافظة للقرآن كله فضلا عن كونها تجيد القراءة و الكتابة، هذه المميزات جعلتها أهلا لحفظ الصحف عندها، و كذلك لأن عمر رضي اللّه تعالى عنه توفي دون أن يعيّن خليفة، بل جعل الأمر شورى بين ستة توفي النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و هو عنهم راض، فبايع المسلمون عثمان، فكيف يوصي بالمصحف إلى عثمان و هو لم يعيّنه خليفة من بعده؟، لذلك بقي المصحف عند ابنته حفصة رضي اللّه عنها.
روى البخاري عن أنس أنّ حذيفة بن اليمان قدم على عثمان و كان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية و أذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة - ذلك لأنهم أعاجم يخطئون بقراءة القرآن - فقال لعثمان أدرك الأمّة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود و النصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت، و عبد اللّه بن الزبير و سعيد بن العاص، و عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، و قال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم و زيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنه إنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف
ص: 104
في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة و أرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا و أمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة و مصحف أن يحرق.
و قد شرعت اللجنة الرباعية في تنفيذ قرار عثمان سنة خمس و عشرين أي بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بحوالي أربعة عشر سنة. كتبت هذه المصاحف على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن. لقد تعمد الصحابة كتابة هذه المصاحف بالخط الذي يكون أكثر احتمالا للأحرف، و قد وفّقوا لذلك لعدم وجود النقط و الشكل...
و هكذا فإن الأصل في عمل عثمان أن يكون مستجمعا كافة الأحرف السبعة في مصاحفه و أن عثمان و من معه لا يفرطون في شيء أوحى به اللّه إلى رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم.
روى ابن أبي داود أن سويد بن غفلة الجعفي قال: "سمعت علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه يقول: يا أيها الناس لا تغلوا في عثمان، و لا تقولوا له إلا خيرا (أو قولوا له خيرا) في المصاحف و إحراق المصاحف، فو اللّه ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا جميعا، فقال ما تقولون في هذه القراءة، فقد بلغني أن بعضهم يقول إن قراءتي خير من قراءتك و هذا يكاد يكون كفرا، قلنا فما ترى؟ قال نرى أن نجمع الناس على مصحف واحد، فلا تكون فرقة و لا يكون اختلاف، قلنا فنعم ما رأيت" .و استنسخت اللجنة سبعة مصاحف، فأرسل عثمان بستة منها إلى الآفاق و احتفظ لنفسه بواحد منها هو مصحفه الذي يسمى "الإمام" ،و لقد تلقّت الأمّة ذلك بالطاعة و أجمعت الصحابة على هذه المصاحف. و لقد جرّدت المصاحف العثمانية مما ليس من القرآن كالشروح و التفاسير، فمن الصحابة من كان يكتب في مصحفه ما سمع تفسيره و إيضاحه من النبي صلّى اللّه عليه و سلّم مثال ذلك: قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ... ، (البقرة: من الآية 198)... فقد قرأ ابن مسعود و أثبت في مصحفه: ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج، فهذه الزيادة للتفسير و الإيضاح. و بهذا قطع عثمان رضي اللّه عنه دابر الفتنة و حصّن القرآن من أن يتطرّق إليه شيء من الزيادة و التحريف على مر العصور. و جمع عثمان للقرآن هو المسمى "ب:" الجمع الثالث ".و اتّبع زيد بن ثابت و الثلاثة القرشيون معه طريقة خاصة في الكتابة ارتضاها لهم عثمان، و قد سمى العلماء هذه الطريقة ب:" الرسم العثماني للمصحف "نسبة إليه، و هو رسم لا بد من كتابة القرآن به لأنه الرسم الاصطلاحي الذي توارثته الأمة منذ عهد عثمان رضي اللّه
ص: 105
عنه. و لهذا الرسم أحكام و قواعد حيث كتب على نحو يتوافق و القراءات العشر.
و لما أعيدت صحف حفصة إليها ظلّت عندها حتى توفيت و قد حاول مروان بن الحكم أن يأخذها منها ليحرقها فرفضت، حتى إذا توفيت أخذ مروان الصحف و أحرقها و قال مدافعا عن وجهة نظره:" إنما فعلت هذا لأنّ ما فيها قد كتب و حفظ بالمصحف الإمام، فخشيت إن طال بالناس زمان أن يرتاب في شأن هذه الصحف مرتاب ".و قد وافقه علماء عصره على هذا و كان فعله صوابا و حكمته عظيمة.
و من المعروف أنّ ابن كثير و هو من علماء القرن الثامن هجري، قد رأى مصحف الشام أي المصحف الذي أرسله عثمان رضي اللّه تعالى عنه إلى الشام و قال في كتابه" فضائل القرآن: "أمّا المصاحف العثمانية الأئمة فأشهرها اليوم الذي في الشام بجامع دمشق عند الركن شرقي المقصورة المعمورة بذكر اللّه، و قد كان قديما بمدينة طبرية ثم نقل منها إلى دمشق في حدود سنة 518 ه. و قد رأيته كتابا عزيزا جليلا عظيما ضخما بخط حسن مبين قوي، بحبر محكم، في رق أظنه من جلود الإبل".
مما لا شك فيه أنّ الصحف التي كتبت على عهد النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و المصاحف العثمانية التي وزّعت على الأمصار، كانت خالية من الشكل و النقط أي من التشكيل بالفتحة و الضمة و الكسرة. و مما لا ريب فيه أيضا أنّ رسم المصاحف العثمانية التي نسخت على هدي المصحف الأول، يقوم على إملاء خاص به في ذلك العصر و فيما بعده أيضا و هو يتفق في جملته مع الرسم القرشي في ذلك الوقت، و من هنا قال عثمان رضي اللّه عنه للكاتبين كما ورد في صحيح البخاري: "إذا اختلفتم أنتم و زيد في كلمة من كلمات القرآن (أي في كيفية كتابتها أي إملائها) فاكتبوها بلسان قريش فإنّ القرآن أنزل بلسانهم" .إذا كان للقرآن إملاء خاصا من حيث كتابة الهمزة مثلا أو الأحرف اليائية و الواوية و من حيث الزيادة و النقص و ما شابه ذلك. أما ظاهرة كتابته و هجائه الخاص فلم يطرأ عليها تغيير أو تحوير يذكر. فقد أخذ الناس يعتبرون الرسم القرآني رسما معيّنا خاصا به و لم يجدوا ما يدعو إلى مدّ يد التغيير إليه، بعد أن وصل إليهم بهذا الشكل صورة طبق الأصل للكتابة المعتمدة الأولى. لقد رأى العلماء أنّ الحيطة في حفظ القرآن تدعو إلى وجوب إبقائه على شكله الأول، و تحريم أو تكريه أي تطوير كتابي فيه تطبيقا للقاعدة الشرعية الكبرى (سد الذرائع). فنهى مالك عن تغيير هذه الكتابة الخاصة
ص: 106
بالقرآن كما حرّم أحمد بن حنبل ذلك أيضا.
كانت المصاحف العثمانية خالية من النقط و الشكل لأنّ العرب كانوا يعتمدون على السليقة العربية السليمة التي لا تحتاج إلى الشكل بالحركات. و ظل الناس يقرءون القرآن في تلك المصاحف بضعا و أربعين سنة حتى خلافة عبد الملك، فلما تطرّق إلى اللسان العربي الفساد بكثرة الاختلاط بالأعاجم و ذلك بسبب الفتوحات الإسلامية الواسعة، أحسّ أولو الأمر بضرورة تحسين كتابة المصحف بالشكل و النقط و غيرهما مما يساعد على القراءة الصحيحة. و يرجّح أنّ أول من وضع ضوابط للعربية و تشكيل القرآن، هو أبو الأسود الدّؤلي من التابعين، و ذلك بأمر من علي ابن أبي طالب كرّم اللّه وجهه و كان قد أمره بذلك زياد والي البصرة و لكنه تباطأ في بادئ الأمر إلى أن سمع قارئا يقرأ قوله تعالى: أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ ، [التوبة: 3]، فقرأها بجر اللام من كلمة "رسوله" فغير بذلك المعنى كله و أصبح معنى هذه القراءة الخاطئة أن اللّه تعالى بريء من كل المشركين و من النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و العياذ باللّه تعالى، بينما المعنى الصحيح للآية هو أن اللّه تعالى و كذلك رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم كلّ بريء من المشركين. أفزع هذا اللحن (الخطأ) أبا الأسود فذهب إلى الوالي زياد و قال له: "قد أجبتك إلى ما سألت" .و انتهى في اجتهاده أن جعل علامة الفتحة نقطة فوق الحرف و جعل علامة الكسرة نقطة أسفله و جعل علامة الضمة نقطة بين أجزاء الحرف و جعل علامة السكون نقطتين. و أعانه في ذلك عدد من العلماء و تبعه آخرون منهم: يحيى بن يعمر، و نصر بن عاصم الليثي و غيرهما... فلم ينفرد أبو الأسود الدؤلي وحده في تشكيل القرآن و لكنه كان أول من بدأ بذلك. و كلما امتد الزمان بالناس، ازدادت عنايتهم بتيسير الرسم العثماني، فكان الخليل بن أحمد الفراهيدي أول من صنّف النقط و رسمه في كتاب و أول من وضع الهمزة و التشديد و الرّوم و الإشمام. و من المعلوم إنّ علم النحو لم يقعّد و يدوّن إلا خدمة لضبط القرآن، حتى إنّ معظم علوم العربية الأخرى إنما قامت لخدمة القرآن أو نبعت من مضمونه. ثم تدرج الناس بعد ذلك فقاموا بكتابة العناوين في رأس كل سورة و وضع رموز فاصلة عند رءوس الآي و تقسيم القرآن إلى أجزاء و أحزاب و أرباع و الإشارة إلى ذلك برسوم خاصة، و ذكر المكي و المدني من السور. حتى إذا كانت نهاية القرن الهجري الثالث، بلغ الرسم ذروته من الجودة و الحسن.
ص: 107
من شروط كون القراءة مقبولة و صحيحة:
1 - أن تكون موافقة للرسم العثماني في أحد مصاحفه السبعة.
2 - أن تكون متواترة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.
3 - أن تكون صحيحة في لغة العرب.
إن القراءة الصحيحة التي وصلت إلينا عشرة، و من المعلوم أنه من فروض الكفاية أن يكون في كل بلدة (كبيروت مثلا) حافظا لكتاب اللّه تعالى على القراءات العشر بالسند المتصل إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و مجازا بذلك.
قام أعلام الهدى من الصحابة و التابعين بضبط منازل القرآن ضبطا يحدد الزمان و المكان، فكانوا يؤرخون كل آية بوقت و مكان نزولها.
روى البخاري عن ابن مسعود رضي اللّه عنه أنه قال: "و اللّه الذي لا إله غيره ما نزلت سورة من كتاب اللّه إلا و أنا أعلم أين نزلت؟ و لا نزلت آية من كتاب اللّه إلا و أنا أعلم فيم نزلت؟ و لو أعلم أنّ أحدا أعلم مني بكتاب اللّه تبلغه الإبل لركبت إليه" .و قد عني العلماء بتحقيق المكي و المدني بدقة و عناية فائقة، فتتبعوا القرآن آية آية و سورة سورة، لترتيبها وفق نزولها، مراعين في ذلك الزمان و المكان و الخطاب حتى اكتمل بذلك علم سمي "ب:" علم المكي و المدني".
أصح الأقوال أن:
المكي: ما نزل قبل الهجرة و إن كان بغير مكة.
المدني: ما نزل بعد الهجرة و إن كان بغير المدينة، بأن نزلت آية ما في مكة بعد الهجرة مثلا عند ما فتح النبي صلّى اللّه عليه و سلّم مكة، فتسمّى مدنية و لا تسمّى مكية.
فإنّ معرفة مواقع النزول تساعد على فهم الآية و تفسيرها تفسيرا دقيقا.
مثال ذلك: من قرأ سورة" الكافرون "و لم يعلم زمن نزولها و هل هي مكية أم مدنية، فإنه يحار في معناها، و قد يستخرج منها أنّ المسلمين غير مكلفين بالجهاد في أي الأحوال و إنما عليهم أن يقولوا للآخرين لكم دينكم ولي دين.
فإذا علم أنّ هذه السورة إنما نزلت في مكة عند ما قال بعض صناديد الشّرك لرسول
ص: 108
اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:" تعال يا محمد نعبد إلهك يوما و تعبد إلهنا يوما "،إذا علم هذا، أدرك أنّ هذه السورة إنما هي علاج لتلك المرحلة ذاتها و ليست دليلا على عدم مشروعية الجهاد الذي نزلت فيه آيات كثيرة أخرى في المدينة.
سؤال: من المعلوم أن سورتي المعوذتين نزلتا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في المدينة المنورة بعد أن سحره ذلك اليهودي لبيد بن الأعصم، فلما ذا يكتب عنهما في المصاحف أنهما مكّيتان؟.
الجواب: قد تكون هاتين السورتين نزلتا على النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أكثر من مرة. فقد ورد أن سورة الفاتحة نزلت على قلب النبي صلّى اللّه عليه و سلّم مرات عديدة تثبيتا لفؤاده، فقد تكون هاتين السورتين نزلتا لما سحر لبيد بن الأعصم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في المدينة بعد الهجرة، و أوحى اللّه تعالى إلى نبيه صلّى اللّه عليه و سلّم مرة أخرى بهاتين السورتين تثبيتا لفؤاده و تعليما له و لأمته من بعده أن قراءتهما تبطل سحر الساحر و هما رقية من سحر الساحر أو الحاسد.
2 -
بعد وفاة النبي عليه الصلاة و السلام، قام الصحابة من بعده بحمل لواء الإسلام و تبليغ ما علموه منه صلّى اللّه عليه و سلّم. و لقد تميّز الصحابة بخصائص و مميزات أهّلتهم لحفظ الحديث في الصدور، و فيما يلي نورد أهم العوامل التي ساعدتهم لحفظ الحديث الشريف:
1 - صفاء أذهانهم و قوة قرائحهم و ذلك أنّ العرب أمة أمّية لا تقرأ و لا تكتب، و الأمّي يعتمد على ذاكرته فتنمو و تقوى لتسعفه حين الحاجة، كما أنّ بساطة عيشهم بعيدا عن تعقيد الحضارة جعلتهم ذوي أذهان نقية، لذلك عرفوا بالحفظ النادر و الذكاء العجيب حيث اشتهروا بحفظ القصائد من المرة الأولى و حفظ الأنساب...
2 - قوة الدافع الديني لأنهم أيقنوا أن لا سعادة لهم في الدنيا و لا فوز في الآخرة إلا بهذا الإسلام، فتلقّفوا الحديث النبوي بغاية الاهتمام و نهاية الحرص.
3 - تحريض النبي صلّى اللّه عليه و سلّم على حفظ حديثه، قال زيد بن ثابت:" سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول: (نضّر اللّه امرأ سمع مقالتي فبلّغها، فربّ حامل فقه غير فقيه و ربّ حامل
ص: 109
فقه إلى من هو أفقه منه) أخرجه أبو داود و الترمذي و ابن ماجة، و في رواية: (نضّر اللّه امرأ سمع منا شيئا فبلّغه كما سمعه، فربّ مبلّغ أوعى من سامع)، قال الترمذي حديث حسن صحيح. قال العلاّمة القسطلاني: "المعنى أنّ اللّه تعالى خصّه (أي ناقل حديث النبي صلّى اللّه عليه و سلّم) بالبهجة و السرور لأنه سعى في نضارة العلم و تجديد السنّة، فجازاه النبي صلّى اللّه عليه و سلّم في دعائه له بما يناسب حاله من المعاملة" .و بالفعل هذا ما نجده في وجوه المحدثين من نضارة و نور يعلو محياهم و حسن سمت يضفي عليهم هيبة و وقارا.
4 - اتباع النبي صلّى اللّه عليه و سلّم الوسائل التربوية في إلقاء الحديث على الصحابة و سلوكه سبيل الحكمة كي يجعلهم أهلا لحمل الأمانة و تبليغ الرسالة من بعده، فكان من شمائله في توجيه الكلام:
أ - أنه لم يكن يسرد الحديث سردا متتابعا بل يتأنّى في إلقاء الكلام ليتمكّن من الذهن، قالت عائشة رضي اللّه عنها فيما أخرجه الترمذي: "ما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يسرد كسردكم هذا و لكنه كان يتكلم بكلام بيّن فصل يحفظه من جلس إليه".
ب - لم يكن يطيل الحديث بل كان كلامه قصدا، قالت عائشة فيما هو متفق عليه: "كان يحدّث حديثا لو عدّه العادّ لأحصاه".
ج - أنه كثيرا ما يعيد الحديث لتعيه الصدور، روى البخاري و غيره عن أنس فقال: "كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يعيد الكلمة ثلاثا لتعقل عنه".
5 - مواظبة الصحابة على حضور مجالس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم التي كان يخصصها للتعليم و اجتهادهم في التوفيق بين مطالب حياتهم اليومية و بين التفرغ للعلم، فها هو عمر بن الخطاب يتناوب الحضور مع جار له من الأنصار على تلك المجالس، فقال عمر: "كان ينزل صاحبي يوما و أنزل يوما فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي و غيره و إذا نزل فعل مثل ذلك" ،رواه البخاري.
6 - مذاكرة الصحابة فيما بينهم، قال أنس: "كنا نكون عند النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فنسمع منه الحديث فإذا قمنا تذاكرناه فيما بيننا حتى نحفظه".
7 - أسلوب الحديث النبوي، فقد أوتي النبي صلّى اللّه عليه و سلّم بلاغة نادرة شغفت بها قلوب العرب و قوة بيان يندر مثلها في البشر و من هنا سمى القرآن الكريم الحديث "حكمة".
8 - كتابة الحديث و هي من أهم وسائل حفظ المعلومات و نقلها للأجيال. ورد في
ص: 110
سنن أبي داود عن عبد اللّه بن عمرو أنه قال: "كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أريد حفظه..." .و قد تناولت الكتابة في عهد النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قسما كبيرا من أهم الأحاديث و أدقها لاشتمالها على أمهات الأمور و على أحكام دقيقة.
اعتمد أئمة المفتين في هذا الدور و جلّ الصحابة قوانين محددة فيما يتعلق برواية الحديث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و أهم هذه القوانين هي التالية:
التقليل من الرواية: خشية أن ينتشر الكذب و الخطأ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم...
روى الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ عن سيدنا أبي بكر أنه جمع الناس بعد وفاة نبيهم عليه الصلاة و السلام فقال: "إنكم تحدّثون عن رسول اللّه أحاديث تختلفون فيها و الناس بعدكم أشد اختلافا، فلا تحدّثوا عن رسول اللّه شيئا، فمن سألكم فقولوا بيننا و بينكم كتاب اللّه فاستحلّوا حلاله و حرّموا حرامه".
التّثبت في الرواية: كان الصحابة يتثبّتون فيما يروى لهم، فلم يكن أبو بكر و لا عمر يقبلان من الأحاديث إلا ما شهد اثنان أنهما سمعاه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و ذلك للأسباب التالية:
أ - قوله تعالى: إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105)، [النحل: 105].
ب - قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا... ، [الحجرات: 6].
ج - لما سئل الزبير بن العوّام لما ذا لا تحدّث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كما يحدّث فلان و فلان؟ قال: "أما إني لم أفارق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و لكني سمعته يقول:" من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار".
د - ورد في الحديث الصحيح أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:" من حدّث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين".
إذا فقد كان من طبع الصحابة الحرص الشديد و الخوف من الكذب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كيف لا و قد مدحهم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فيما يرويه البخاري:" اللّه اللّه في أصحابي لا تسبوهم
ص: 111
و لا تؤذوهم فمن آذاهم فقد آذاني و من آذاني فقد آذى اللّه، و الذي نفسي بيده لو أنّ أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم و لا نصيفه "...روى ابن شهاب عن قبيصة بن ذؤيب أنّ جدة جاءت إلى أبي بكر تلتمس أن تورّث فقال:" ما أجد لك في كتاب اللّه شيئا و ما علمت أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ذكر لك شيئا "،ثم سأل الناس فقام المغيرة فقال:" سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يعطيها السدس "فقال:" هل معك أحد "؟،فشهد محمد ابن مسلمة بمثل ذلك، فأنفذه لها أبو بكر رضي اللّه عنه (أي أعطاها السدس)... و عن سعيد أنّ أبا موسى رضي اللّه عنه سلّم على عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه من وراء الباب ثلاث مرات فلم يؤذن له فرجع فأرسل عمر في أثره فقال: لم رجعت؟ قال:" سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول (إذا سلّم أحدكم ثلاثا فلم يجب فليرجع)، قال: "لتأتيني على ذلك ببيّنة أو لأفعلنّ بك" ،فجاءنا أبو موسى منتقعا لونه و نحن جلوس فقلنا: "ما شأنك" ؟فأخبرنا و قال: "فهل سمع أحد منكم" ؟فقلنا: "نعم كلنا سمعه" ،فأرسلوا معه رجلا منهم حتى أتى عمر فأخبره. و قد قال عمر لغير واحد من الصحابة: "أما إني لم أتهمك و لكنني أحببت أن أتثبّت".
نقد الروايات: و ذلك بعرضها على نصوص و قواعد الدين، فإن وجد مخالفا لشيء منها ردوه و تركوا العمل به. هذا هو الخليفة عمر فيما أخرج مسلم عنه: أفتى عمر ابن الخطاب بأنّ المبتوتة (التي طلقها زوجها ثلاثا) لها النفقة و لها السكنى و لمّا بلغه حديث فاطمة بنت قيس أنّ زوجها طلقها ثلاثا فلم يجعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لها سكنى و لا نفقة، قال: "لا نترك كتاب اللّه و سنّة نبينا لقول امرأة لعلها حفظت أو نسيت، قال اللّه عز و جل: لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَ لا يَخْرُجْنَ إِلاّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ، [الطلاق: 1].
و لا بد من الإشارة إلى أنه لم يكن هناك حاجة إلى جرح و تعديل أي البحث و التدقيق عن عدالة و صدق الراوي لأنّ الصحابة كلهم عدول و ذلك بنص القرآن، قال تعالى: وَ السّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ، [التوبة: 100]. أما المنافقون فكانوا كما قال عنهم العلماء أحقر من أن يحملوا علما أو يؤخذ عنهم العلم!!!.
ص: 112
كان علماء الصحابة إذا سئلوا في مسألة ما، نظروا في كتاب اللّه تعالى فإن لم يجدوا نظروا في سنة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، فإن لم يجدوا نصا لا من الكتاب و لا من السنة، سألوا باقي الصحابة هل قضى أحد قبلنا في هذا الأمر بقضاء؟ فإن سمعوا أنّ أحدا قضى بقضاء و نفذ و وجدوا أنّ الأمر قريب قضوا. و لقد كان الصحابة يتحفظون تحفظا شديدا في الاجتهاد، فكان الواحد منهم إذا اضطر إلى الاجتهاد في حال عدم وجود نص، جمع مجلس الشورى و طرح القضية التي هو بصددها و استشار الصحابة العلماء و تجاذب معهم أطراف البحث و النقاش و لم ينفرد في إعطاء حكم، فإن انتهى إلى شيء - سواء كان أبو بكر أو عمر أو عثمان أو أي ممن جاء بعدهم - كان يقول:" هذا رأيي فإن كان صوابا فمن اللّه تعالى و إن كان خطأ فمني و أستغفر اللّه تعالى "...و ورد أنّ رجلا ممن أرسلهم سيدنا عمر واليا على جهة من الجهات قال للناس: هذا ما قضى به اللّه و قضى به عمر، فسمع عمر ذلك و أرسل إليه يقول:" بئس ما قلت، بل هذا ما قضاه عمر، لا تجعلوا الرأي سنّة اللّه في الناس فتحمّلوها خطأ الناس".
و كان الصحابة يقولون إذا كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم المؤيّد بالوحي، قال اللّه تعالى له:
وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران: 159] فما بالك بمن جاء بعده! فإذا استشاروا و أجمعوا على رأي واحد، فذاك هو الإجماع، أما إذا اختلفوا فكل يقضي بما يرى. و من مظاهر الشورى أنّ سيدنا أبا بكر رضي اللّه عنه لمّا جهّز جيش أسامة بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم - و كان هذا أول ما قام به أبو بكر - قال لأسامة و قد رأى أنّ عمرا رضي اللّه عنه قد انخرط بين أفراد الجيش:" إن رأيت أن تعطيني عمر و تبقيه عندي فعلت".
انظروا كيف يقول خليفة المسلمين، - ذاك الشيخ الكبير لأسامة الذي لم يبلغ من العمر التاسعة عشر بعد، هذا الكلام بأدب متناهي! لما ذا؟ لأنّ أبا بكر كان يرى أنه قد تعرض له الفتوى و المشكلات و هو بحاجة إلى أمثال سيدنا عمر رضي اللّه عنه ليستشيره و ليأخذ رأيه. و طبعا أجابه أسامة لذلك و بقي عمر عند أبي بكر الذي لا يتأخر في استشارة من حوله من الصحابة كعثمان و عليّ و غيرهم رضي اللّه عنهم أجمعين. و ما أكثر ما كان يقول عمر:" لو لا علي لهلك عمر ".و كذلك علي كان إذا عرض عليه رأي لم يبتّ بهذا الرأي حتى يستشير كبار الصحابة و في مقدمة هؤلاء أبو بكر و عمر.
فلنلاحظ صورة الأخوّة الواقعية في حياة الصحابة و آل البيت و محبتهم لبعضهم
ص: 113
البعض، لا شك أنّ جيلا ربّاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لا بد أن يكون هذا حاله. مستحيل أن يكون النبي عليه الصلاة و السلام أعظم مربّي أوجده اللّه تعالى لينجد به الإنسانية ثم يخفق في تربية أصحابه. فإن تصوّرنا أنه بعد وفاته صلّى اللّه عليه و سلّم كان أصحابه أعداء لآل البيت و العكس لكان ذلك علامة على أنه أخفق في تربية هذا الجيل و هذا يعدّ عيبا شديدا في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم - و حاشاه من ذلك - الذي لم يستطع أن يربي جيلا واحدا فهو أعجز من أن يربّي أمّة!!! و الرسول صلوات اللّه و سلامه عليه منزّه عن مثل هذا... و قد سئل عليّ لما ذا كثرت الفتن في عصره و لم تكثر في عصر أبي بكر و عمر فقال رضي اللّه عنه:" لما كانوا هم الخلفاء كنت أنا الرعية فأطعنا و لمّا صرت أنا الخليفة كنتم أنتم الرعية فعصيتم".
إذا كان الصحابة يتواصون بالتدقيق في مسألة الاجتهاد بعد الشروط التي ذكرناها كلها، كما كانوا يتواصون فيما بينهم بالتريّث و الفهم الشديد و عدم العجلة في الإفتاء، فها هو عمر لمّا أرسل كتابه لأبي موسى قال له بعد أن أمره أن يتتبع نصوص القرآن و السنّة فإن لم يجد، قال له:" الفهم، الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب اللّه و سنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، أي لا تستعجل، تريّث و فكّر و تأمّل.
و لا بد من الإشارة إلى أنّ سيدنا عمر رضي اللّه عنه هو أول من فصل سلطة القضاء عن رئاسة الدولة، ففي عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و عهد أبي بكر كان كل منهما رئيس الدولة و القاضي في آن واحد. و في عصر عمر، عند ما اتسعت الفتوحات و لم يعد يجد الوقت كافيا لأن يجلس مجلس القضاء و مجلس إدارة أمور المسلمين، عندئذ فصل سلطة القضاء عن سلطة رئاسة الدولة و عيّن أول قاض أثناء خلافته و هو جريج رضي اللّه عنه... و كان الصحابة لا يجيبون على سؤال فرض لم يقع بعد، فإذا سألهم سائل عن مسألة ما، كان أحدهم يجيب: "هل وقعت هذه المشكلة التي تسأل عنها؟ فإن قال لا ما وقعت بعد و لكننا نحب أن نعلم إن وقعت هذه المشكلة ما ذا نصنع! كان الصحابي يجيب:" إذا وقعت فاسألوا عنها أمّا الآن فقد كفانا اللّه مهمة البحث في أمر لم يقع ".فهم لا يريدون توسيع نطاق الاجتهاد إلى أكثر من الحد الضروري، و هذه سياسة كانت متّبعة من قبل جميع علماء ذاك العصر.
ص: 114
سؤال: هل وقع الخلاف في الاجتهاد في أحكام الشريعة الإسلامية و متى وقع و لما ذا؟ الجواب: أمّا في عصر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فالخلاف لم يقع و لا سبيل أصلا للخلاف ما دام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم حي يمكن الرجوع إليه في أي أمر. و بعد وفاته عليه الصلاة و السلام، بدأ الخلاف الاجتهادي يظهر في بعض المسائل الفرعية التي لا تتعارض مع أصول الدين للأسباب التالية:
أولا: تفاوت الصحابة في رواية الحديث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كل حسب وضعه و مقدار تفرغه و ملازمته له. و نتيجة لذلك كان إذا وقعت مشكلة، تساءل الصحابة عن حكمها، و الذي لم يسمع من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في هذا الأمر شيئا، يفتي بظاهر القرآن. أما الذي حفظ و روى عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قدرا أكبرا فهو يذكر أنّ هذا الموضوع قد أوضح النبي عليه الصلاة و السلام حكمه، فهو يختلف في فتواه عن الأول الذي لم يسمع و القاعدة تقول: من حفظ حجة على من لم يحفظ. من هنا كان لا بد أن يقع الاختلاف في الفتاوى بين أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم. فكانت إذا عرضت على أبي بكر أو عمر حادثة جديدة و لم يسمع من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فيها شيئا، جمع الصحابة و قال:" أنشدكم اللّه رجلا سمع من فم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فتوى في هذه القضية ".و كان من عادة عمر رضي اللّه عنه إذا سئل في موضوع أن يبحث عنه في كتاب اللّه ثم السنّة فإن لم يكن قد سمع في المسألة شيئا نادى في الناس:" من سمع عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم في هذه المسألة شيئا "؟،فإن لم يجبه أحد قال:" هل قضى أبو بكر في هذا الموضوع من قبلي شيئا "؟فإن قال له قائل إنّ أبا بكر قد سئل و قضى في هذا الأمر بكذا، قضى عمر بمثل ما قضى به أبو بكر رضي اللّه عنهما و إلا اجتهد عمر.
مثال: دية الأصابع، رجل قطعت إصبعه، الخنصر أو البنصر أو السبابة أو الوسطى، ما هو القدر الذي ينبغي أن يؤخذ من الجاني كدية لهذا الإنسان؟ فكر عمر ابن الخطاب رضي اللّه عنه في الموضوع و هو لا يذكر في هذا حديثا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فأراد أن يجتهد في الأمر، و أراد أن يجعل دية كل إصبع على حسب فائدة تلك الإصبع، و لكنه تريّث و أخذ يسأل أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فجاء من أخبره أنّ النبي عليه الصلاة و السلام قضى بأنّ في كل إصبع عشرا من الإبل متساوية يعني في قطع
ص: 115
الأصابع العشرة دية كاملة. فرجع عمر رضي اللّه عنه و قال:" إن كدنا لنقضي في هذا برأينا".
مثال آخر دية الجنين: سئل سيدنا عمر رضي اللّه عنه عن دية الجنين، اعتدى إنسان على امرأة حامل فأسقطت جنينا، ما الجزاء؟ وقف عمر يناشد المسلمين أن يكون فيهم رجلا سمع عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أمرا في الدية. معلوم في القرآن أنّ عقاب من اعتدى على إنسان و مات، هو القصاص فإن عفا وليّه تصبح عقوبته دفع الدية، هذا هو الحكم العام و الجنين يعتبر إنسانا و مات، و على هذا يأخذ الجاني الحكم نفسه، إما القصاص و إما الدية... و لكن عمر تريّث، لعل في سنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم شيئا خاصا. فقام أحد الصحابة و قال إنّ جمل بن مالك جاء يشكو إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أنه كانت له زوجتان فتخاصمتا فضربت إحداهما الأخرى فألقت جنينا ميتا، فقضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم للجنين بغرّة يعني بنصف عشر الدية (خمسة من الإبل) فتهلل وجه عمر باسما و قال:" إن كدنا أن نقضي في هذا برأينا".
ثانيا: عدم الاتفاق على صحة نسبة حديث ما إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.
ثالثا: عدم الاتفاق على معنى كلمة أو جملة في كتاب اللّه تعالى أو حديث المصطفى عليه الصلاة و السلام و ذلك بسبب ورود لفظ يحتمل معنيين.
رابعا: اختلاف الفتوى بسبب الرأي: كانت ترد على الصحابة أقضية لا يرون فيها نصا من كتاب أو سنّة و إذ ذاك كانوا يلجئون إلى القياس و كانوا يعبّرون عنه بالرأي.
خامسا: قياس الفرع على الأصل: البعض يرى إنّ هذا الفرع يشبه ما نص اللّه تعالى عليه في آية كذا.
نعرض لطائفة من أمثلة الخلاف بين الصحابة في بعض الفتاوى:
- عرضت مشكلة على ابن مسعود رضي اللّه عنه: رجل عقد نكاحه على امرأة و لم ينص في هذا العقد على مهر و مات قبل الدخول بها، فما الذي تستحقه هذه المرأة؟ أفتى ابن مسعود بأنّ لها كامل مهرها أي صداق مثلها من النساء. بينما سيدنا علي كرّم اللّه وجهه عند ما سمع بهذه القضية قال:" أنا أختلف معه في هذه المسألة، هذه المرأة إذا مات زوجها ليس لها إلا الميراث، تأخذه و ليس لها ما وراء ذلك شيء و عليها العدة و لا
ص: 116
صداق لها ".سبب هذا الخلاف أنّ هذه المسألة ليس فيها نص واضح صريح من كتاب اللّه تعالى، كل ما في الأمر قوله تعالى: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ، [البقرة: 236].
يقول سيدنا علي رضي اللّه عنه:" أ رأيت لو أنّ زوجها لم يمت و لكن طلق، ليس لها شيء بنص كلام اللّه عز و جل ".فسيدنا علي قاس وفاة الزوج على طلاقه لها. قال ابن مسعود:" الرجل الذي يطلق، يطلق بقصد الاختيار و يترتب على ذلك أشياء كثيرة، لكن مات الزوج و حبل الزوجية موجود، و لا يسبب الموت انقطاع الزوجية عند جمهور العلماء، فالموت لا يقاس على الطلاق لأن الطلاق عمل اختياري و الموت أمر قصري".
مسألة أخرى: المرأة التي توفي عنها زوجها و هي حامل، ما عدتها؟ سيدنا عمر رضي اللّه عنه قال: عدتها وضع حملها. و قال سيدنا علي و ابن عباس رضي اللّه عنهم: عدتها بأبعد الأجلين، أي أيهما كان أبعد وضع حملها أم مضي أربعة أشهر و عشرا تأخذ به. قال جمهور الفقهاء أنّ عدة المرأة تنتهي بوضع حملها و القول بأبعد الأجلين مرجوح، و دليل ذلك ما أخرجه البخاري و مسلم عن سبيعة بنت الحارث الأسلمية أنها كانت تحت سعد بن خولة و هو ممن شهد بدرا فتوفي عنها في حجة الوداع و هي حامل، فلم تلبث أن وضعت حملها بعد وفاة زوجها، فلما طهرت من دم النفاس تجمّلت للخطّاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك فقال لها:" ما لي أراك متجمّلة، لعلك ترجين النكاح؟ و اللّه ما أنت بناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر و عشرا "!قالت سبيعة:" فلما قال لي ذلك جمعت عليّ ثيابي حين أمسيت، فأتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فسألته عن ذلك، فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي و أمرني بالتزوج إن بدا لي ".و قد روي أنّ ابن عباس رجع إلى حديث سبيعة لما احتجّ به عليه.
أبرز من كانت إليهم الفتيا في عصر الصحابة: الخلفاء الراشدون و سيدنا عبد اللّه بن مسعود و زيد بن ثابت و عبد اللّه بن عباس و عبد اللّه بن عوف و عبد اللّه بن عمر و هؤلاء التسعة كانوا في ذلك العصر بمثابة الأئمة الأربعة في عصرنا.
أسئلة و أجوبة:
سؤال: لما ذا انحصرت الفتيا ببعض الصحابة و لم يفتوا كلهم؟.
ص: 117
الجواب: لأن عامة الصحابة لا وقت و لا قدرة لهم على الاجتهاد، فمنهم من كان يشتغل بالزراعة و منهم من كان يشتغل بالتجارة و منهم من كان يشتغل بالجهاد و هكذا و حتى يصل الإنسان لرتبة يستطيع معها الاجتهاد لا بد له من علم غزير و ذلك يحتاج عادة إلى وقت و تفرّغ. فكان عامة الصحابة يأخذون بفتاوى واحد من هؤلاء التسعة غالبا كما نأخذ نحن اليوم بفتاوى واحد من الأئمة الأربعة.
سؤال: لما ذا لم يمد اللّه تعالى بحياة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم ليجيب على هذه الأسئلة التي حدثت و استجدت في عصر الصحابة؟.
الجواب: لكي يعلّم اللّه سبحانه و تعالى هذه الأمة الاجتهاد و كيفية استنباط الأحكام من النصوص و حتى يخفف عنها لأن في اختلاف الفقهاء سعة.
سؤال: الحكم في شرع اللّه تعالى أ ليس واحدا؟ فكيف لنا أن نأخذ بقول أكثر من إمام؟.
الجواب: إنّ اللّه تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها، فإذا عمّيت علينا دلائل حكم شرعي و تشابهت الأدلة و لم نستطع أن نصل إلى الحكم بيقين، فإنّ من رحمة اللّه تعالى بعباده أنه لا يطالبهم إلا ببذل الجهد في معرفة حكمه تعالى. مثال ذلك: الاجتهاد في القبلة في الصلاة، هي حقيقة واحدة و لكن في حال لم تتبيّن و لم يتمكن لأربعة أشخاص من تحديدها جاز لكل واحد منهم أن يصلي إلى جهة ما، حسب اجتهاده الشخصي و صلاتهم صحيحة بالاتفاق حتى و لو صلى كل واحد منهم إلى جهة مختلفة عن جهة الآخر.
سؤال: يدّعي أحمد أمين في كتابه فجر الإسلام: كان بعض من هؤلاء الصحابة عندهم روح واسعة لفهم النص و كانوا يتجاوزون النص إلى ما يسميه علماء القانون اليوم بروح النص. و يقول أحمد أمين إنّ في مقدمة هؤلاء عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه. فعمر كان عبقريا و كان لا يقف عند حرفيّة النص بل كان يتجاوزه إلى المصالح و إلى العلل و إلى روح التشريع الإسلامي. ها هو في أكثر من حالة خالف النص و عمل بالمصلحة، مثال ذلك كما يدّعي أحمد أمين:
1 - قال اللّه تعالى: * إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي الرِّقابِ وَ الْغارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)، (التوبة: 60).. عطّل عمر سهم المؤلفة قلوبهم لما في ذلك من فهم و مراعاة لواقع المسلمين و مصلحتهم.
ص: 118
1 - قال اللّه تعالى: * إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي الرِّقابِ وَ الْغارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)، (التوبة: 60).. عطّل عمر سهم المؤلفة قلوبهم لما في ذلك من فهم و مراعاة لواقع المسلمين و مصلحتهم.
2 - يقول اللّه تعالى: وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ، [المائدة: 38]، سرق بعض الناس في عام المجاعة متاعا فلم يقم عليهم عمر الحد.
3 - قضى عمر بأنّ الرجل الذي قال لزوجته أنت طالق ثلاثا بكلمة واحدة، تطلق ثلاثا، و هذا مخالف لقوله تعالى: اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ... ، (البقرة: من الآية 229)، و مخالف لحديث النبي صلّى اللّه عليه و سلّم الصحيح الذي رواه مسلم عن ابن عباس رضي اللّه عنهما:" كان الطلاق على عهد النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، طلاق الثلاث واحدا، و كان ذلك في خلافة أبي بكر و صدرا من خلافة عمر، فقال عمر لقد استعجل الناس في أمر كانت لهم فيه أناة فمن استعجل أناة اللّه ألزمناه به. فطلاق الثلاثة بكلمة واحدة يعتبر ثلاث طلقات. و يضيف أحمد أمين فيقول، إنّ عمر في كل ذلك إنما كان عبقريا و ذكيا لأنه لم يتمسك بحرفية النص و إنما رأى المصلحة و جرى وراءها و إن خالفت النص و هذا هو المطلوب كما يزعم أحمد أمين. فهل كان من بين الصحابة من كان يتجاوز حرفيّة النصوص و يأخذ بروح النص كما يقول بعض الناس اليوم، و يأخذ بالمصالح التي تعتمد عليها النصوص، بمعنى آخر هل كان الصحابة أصحاب نزعة تحررية؟.
الجواب: كلام أحمد أمين المضلل قد يدفعنا بناء لما تقدم إلى القول بأنّ الربا حلال و المتاجرة بالخمر و السّلم مع اليهود كذلك!، و أما القول أن المصلحة قد تكون في مخالفة النص من كتاب اللّه تعالى، فهذا كفر و العياذ باللّه تعالى، لأنه من أعلم بمصلحة الناس من رب الناس، من خالق الناس الذي يعلم سرهم و نجواهم و يعلم ما كان و ما سيكون و ما لم يكن و لو كان كيف يكون. و الحقيقة أنه ما وجد قط إنسان أكثر حيطة في التمسك بالنص و حرفيته من عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه. فقد مر معنا من خلال الأمثلة التي ذكرناها سابقا في هذا البحث كيف كان ينادي بالناس هل منكم من سمع من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم شيئا في هذا؟!!.. لكن من الذي يستطيع أن يطبق النص؟ إنّ أقدر الناس على
ص: 119
تطبيق النص، أفهمهم للنص و أعرفهم و أعلمهم للقواعد العربية و أصول الدلالات في منطوق النص و مفهومه الموافق و مفهومه المخالف و دلالة الخطاب و فحواه. و عمر كان من أعلم الناس بقواعد تفسير النصوص، و تعالوا ننظر معا ما ذا فعل عمر؟.
بالنسبة لقوله تعالى: * إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي الرِّقابِ وَ الْغارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)، (التوبة: 60).. هناك في اللغة العربية اسم موصول للفقراء أي للذين يتصفون بالفقر، للمساكين أي للذين يتصفون بالمسكنة، للعاملين عليها أي للذين يقومون بجباية الزكاة، للمؤلفة قلوبهم أي للذين تشعرون بالحاجة إلى أن تؤلفوا قلوبهم... الفقراء، إن زال الفقر عنهم لن يعودوا أهلا لأخذ الزكاة، و مناط وجوب إعطاء الزكاة للمؤلفة قلوبهم أن يشعر المسلمون أنهم بحاجة إلى تأليف قلوب من وفدوا إلى الإسلام من جديد. إذا مناط الحكم أن ننظر إلى واقعنا، فإذا كان هذا الواقع عزيز قوي و كان من دخل في الإسلام، وحده يعزه و يغنيه و يحميه، إذا وجدنا أنّ الأمر كذلك فإنّ مناط دفع الزكاة إليهم ارتفع. أما إن كان الإسلام في ضعف فيكون حكم إعطاء الزكاة للمؤلفة قلوبهم عندئذ ساريا، و قد كان الإسلام في عهد عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه عزيزا لا بل في أعزّ أحواله.
بالنسبة للمسألة الثانية، و هي أنّ رجلا سرق في عام المجاعة و كان أجيرا و علم عمر أنّهم كانوا يبخسون حقه فقال لهم: "و اللّه لو لا أني أعلم أنكم تظلمونه و لا تعطونه حقه لقطعت يده" ،و الآن عام مجاعة، فجمعا بين النصوص التالية: قوله تعالى: وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما... ، (المائدة: من الآية 38)، و قوله صلّى اللّه عليه و سلّم: (ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم فإنّ الحاكم لأن يخطئ في العفو خيرا من أن يخطئ في العقوبة)، و هذا قانون عام في القضاء و بدلا من العقوبة يعزّر القاضي المذنب و يعاقبه و لكن لا يقطع يده. إذا عمر عمل بالنص و لكنه علم بالحديث الذي خصص الآية و قضى بموجبه و ليس كما زعم الجاهل بأنه ترك النص و تبع المصلحة التي رآها مناسبة و في ذلك دليل على أنّ الحديث يبين و يشرح كلام اللّه تعالى الذي قال في كتابه العزيز:
وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ، [النحل: 44]. هذا من جهة و من
ص: 120
جهة أخرى، فإنّ للسرقة نصابا حتى تقطع يد السارق فإن سرق شيئا قيمته دون النصاب يعزّر و لا تقطع يده. و المبلغ الذي سرقه الرجل ربما ليس بذاك المبلغ الكبير أو احتمال أن يكون سرقه ليسد ضرورة و الضرورات تبيح المحظورات.
و ينبغي قبل أن نطبق هذه القاعدة أن نعلم ما معنى الضرورة و ما الفارق بين الضرورات و الحاجيات و التحسينيات؟. و قد بيناها في بداية الفصل الأول من الكتاب.
و أما المسألة الثالثة، فقوله تعالى: اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ... ، (البقرة: من الآية 229)، لا علاقة له بالموضوع الذي أفتى به عمر، و إنما هي بيان للطلاق و أنه ينبغي أن يفرق بين الطلقة و الأخرى و إلا كان آثما، أي من طلق زوجته ثلاثا في مجلس واحد كان آثما. أما من لم يتق اللّه تعالى و ارتكب المحرّم فقال لزوجته أنت طالق بالثلاث فهذا لن يجعل اللّه تعالى له مخرجا لأن اللّه تعالى قال:
وَ مَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2)، و هذا لم يتق اللّه تعالى، و ارتكب الحرام و طلق زوجته ثلاثا بمجلس واحد، لم يجعل اللّه له مخرجا. فإذا القرآن يقضي بأن من طلق زوجته ثلاثا في مجلس واحد فهو ثلاث و هناك أحاديث صحيحة كثيرة نصّت على أنّ الرجل إن طلق ثلاثا في مجلس واحد فهو ثلاث و لكنه طلاق بدعي مكروه، و من ذلك حديث رواه الشيخان عن عويمر العجلاني رضي اللّه عنه و قد اتهم زوجته بالزنا، و جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فدله على الملاعنة التي أنزلها اللّه تعالى في محكم كتابه. و لكنه لم يكن يعرف أنّ نتيجة الملاعنة التفريق الأبدي، و عند ما علم ذلك جلس أمام ركبتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و قال: "يا رسول اللّه كذبت عليها إن أمسكتها هي طالق ثلاثا" .فإذا عويمر العجلاني طلق زوجته في مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ثلاثا بكلمة واحدة، و لو لا أنّ هذا كان جاريا في عصر النبوة لما قال ذلك.
و حديث فاطمة التي قالت لسيدنا عمر طلقني زوجي البتة فلم يجعل لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم نفقة و لا سكنى، كلمة البتة كناية عن ثلاث طلقات و في ذلك دليل أنّ النبي عليه الصلاة و السلام أفتى أنه طلقها ثلاثا.
أيضا ما رواه الشافعي و الترمذي و النسائي و كثيرون عن ركانة رضي اللّه عنه أنه طلق زوجته قائلا أنت طالق البتة، و جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم نادما فقال له رسول اللّه
ص: 121
صلّى اللّه عليه و سلّم: "آلله (أي أقسم عليك باللّه) ما أردت (بكلمة البتة) إلا واحدة؟، فقال ركانة:
" و اللّه ما أردت بها إلا واحدة ".فأعادها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم له، فلو لم تكن كلمة البتة تعني ثلاثا لما سأل النبي صلّى اللّه عليه و سلّم ركانة ما ذا أراد من قوله البتة، و لو لم يكن طلاق الثلاثة في المجلس الواحد يقع لما سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ركانة عن قصده بكلمة البتة. أما حديث مسلم الذي يرويه عن طاوس و عن ابن عباس:" كان طلاق الثلاث على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم واحدة في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و في عهد أبي بكر و في صدر من خلافة عمر ثم قال عمر إنّ الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فمن استعجل أناة اللّه ألزمناه بها"، قال ابن جرير الطبري في شرح هذا الحديث و أبو وليد الباجي و النووي في شرحه على صحيح مسلم، معناه أي كان الرجل في صدر الإسلام إذا أراد أن يطلّق زوجته ثلاث تطليقات لا يستعمل إلا نفس اللفظة أي لفظة البتة فيقول:" أنت طالق البتة "،و إذا أراد أن يطلق طلقة واحدة قال:" أنت طالق البتة ".فالبتة كناية عن طلقة واحدة أو ثلاث حسب النية، و كان الشائع الأغلب في عهد النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و في عهد أبي بكر و شطر من عهد عمر أنه يقصد بذلك طلقة واحدة. هذا هو الغالب و العام لأنه نادر جدا من الصحابة من طلق ثلاث مرات دفعة واحدة لأنّ ذلك محرّم. فكان الرجل إذا جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أو أبي بكر و قال له إني طلقت زوجتي البتة، صحيح أنّ البتة كناية عن طلاق الثلاث و لكن الشائع الأغلب أنه يقصد بها واحدة، لذلك كان يسأل عن نيته، فإذا قال واحدة حكم له بواحدة. و لمّا كانت خلافة عمر تغيّر حال الناس و أخذ كثير من الناس يطلق ثلاث طلقات بكلمة واحدة، و شاع بينهم استعمال لفظ البتة على الثلاث، لذلك حكم عمر على من قال له إني طلقت زوجتي البتة أنه طلقها ثلاثا إلا أن يقسم أنه ما قصد إلا واحدة ذلك لأننا نحكم على الألفاظ حسب العرف فإذا كان عرف الناس أن يطلّقوا طلاق البتة و يقصدون به ثلاثا وقع ثلاثا كما أصبح العرف في عصرنا لمن قال لزوجته أنت عليّ حرام وقع طلاقا و هذا اللفظ في أصله كناية و لكن لما شاع استعمال الناس له على أنه طلاق أصبح يفتى لمن قال هذا اللفظ لزوجته أنه طلقها. و هذا الذي قال به عمر من أن من طلق زوجته ثلاثا في مجلس واحد وقعت ثلاث تطليقات و بانت منه بينونة كبرى و هو ما قاله جمهور علماء الحديث و أجمعت عليه الأمة. إذا هذا الحديث في واد و ما استدلّ عليه و فهمه أحمد أمين في واد آخر!
ص: 122
شبهة أخرى: عند ما انتصر جيش عمر في القادسية بقيادة سعد بن أبي و قاص و فتح المسلمون العراق، غنم المسلمون غنائم كثيرة و أموال منقولة و غير منقولة. أمّا الأموال غير المنقولة فقد اعتبرت أنها سواد العراق و هي مثل غوطة دمشق أراض واسعة شاسعة كلها مزروعة. سيدنا عمر قسم الأموال المنقولة على الجيش و لكنه لم يقسم السواد و ذلك بعد أن شاور الصحابة مثل سيدنا معاذ و علي و عثمان و جمهور الصحابة كانوا معه في ذلك... و يقول بعض المستشرقين: تعاطى عمر مع روح النص حين فعل ذلك لأنه خلاف الآية القائلة: * وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ ، [الأنفال: 41].
الجواب على هذه الشبهة ما يلي: قال عمر و وافقه على ذلك جمهور الصحابة، لو قسمنا هذه الأراضي الشاسعة سيمتلكها المسلمون في هذا العصر و تأتي الأجيال الأخرى و ليس لهم شيء، فرأى أنه من الخير أن تكون هذه الأراضي ملكا لبيت مال المسلمين حتى تستغني الأجيال به إلى ما شاء اللّه. و لكن يا ترى هل تجاوز عمر بذلك النص؟..
قال تعالى: ما أَفاءَ اللّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ ، [الحشر: 7]... وَ الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ ، [الحشر: 10]. إذا استنادا على قول اللّه تعالى هذا تعطى هذه الأموال غير المنقولة للّه أي للمصالح العامة و للرسول (و من بعده لبني هاشم) و لذي القربى و اليتامى و المساكين و الفقراء و الأجيال الآتية من بعدهم، لقوله تعالى:
وَ الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ... ،. لذلك قال عمر إذا وزعت هذه الأراضي الآن و امتلك كل واحد منكم قسما منها، كيف يمكن أن أنفذ أمر اللّه في أن أجعل في هذه الأراضي حصصا للأجيال القادمة؟!!! أما ما جاء في سورة الأنفال، فالمقصود به الغنائم المنقولة. و الآن بعد هذا التوضيح أ ليس هذا تمسّكا بالنص من سيدنا عمر؟ و لكن من يفقه؟ و من يعلم كيف يستخرج الأحكام من النصوص؟ و هذا لا يعني أنّ الإنسان لا يبحث عن المصلحة و لكن المصلحة تكون مع النص لأنّ اللّه تعالى أعلم أين تكون مصلحة العباد. أمّا ما ليس فيه نص كالمصالح المرسلة، فها هو عمر الذي خطط لبناء الكوفة و البصرة حيث أرسل مهندسه و أمر أن تكون الشوارع الأساسية عرض 30 ذراع و الشوارع الفرعية عرض
ص: 123
20 ذراعا، و البيوت التي تبنى على الشوارع الأساسية لا مانع من أن يكون ارتفاعها عاليا و البيوت التي من ورائها أخفض.
عند ما فتحت العراق و الشام جمع عمر مجلس شوراه و قال لهم رأيت التجارة بأيدي الأقباط و إني آمركم أن تتجروا فقال له بعض الحاضرين يا أمير المؤمنين أمر كفيناه أي الأقباط كفونا العمل، كأنه يقول أنّ اللّه تعالى جعلهم خدّاما لنا، فلما ذا نتاجر؟ قال عمر:" لأن قلتم هذا و اللّه ليكوننّ رجالكم تبعا لرجالهم و ليكوننّ نساؤكم تبعا لنسائهم ".فإذا كان عمر كغيره من الصحابة الكرام يهتم بمصلحة المسلمين، و هذه الأمثلة التي ذكرناها من المصالح المرسلة. أما إذا كان هناك نص، فكان عمر و باقي الصحابة أكثر من يتمسك به لأنهم يعلمون حقا أن المصلحة مع النص أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)، [الملك: 14].
يبتدئ هذا الدور من ولاية معاوية بن أبي سفيان رضي اللّه تعالى عنه، أي في بداية العهد الأموي سنة 41 هجرية إلى أوائل القرن الثاني من الهجرة.
1 - تفرّق المسلمين سياسيا و اتساع نطاق الخلاف لظهور نزعتين سياسيتين بعد مقتل عثمان رضي اللّه تعالى عنه و هما: الخوارج و شيعة علي (و هي فئة سياسية، أي لها بعض الآراء السياسية المعينة لا أنها كانت تخالف المسلمين في بعض أمور الدّين كحال الشيعة في عصرنا، أما الشيعة كمذهب ديني كما هو في عصرنا لم يكن له وجود في ذلك العصر و لم يظهر هذا المذهب إلا في القرن الثالث الهجري).
2 - انتشار الصحابة في البلاد بعد أن كانوا محصورين بين مكة و المدينة و ذلك لاتساع رقعة الإسلام و الاحتياج إلى فتاوى جديدة و بالتالي إلى سماع الأحاديث.
3 - ظهور الكذب في الحديث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و ذلك للأسباب التالية:
أ - وجود الزنادقة و أعداء الدين من اليهود (كعبد اللّه بن سبأ) و الروم و المزدكية و غيرهم الذين كانوا يكيدون للإسلام باطلا، و هؤلاء لبسوا مسوح الإسلام و كانوا يظهرون التّدين و يجلسون مجلس الرواية عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ليستمعوا الأحاديث ثم يجلسون
ص: 124
مجالس أخرى يعلّمون الناس فيها أحاديث مكذوبة. و قد تلبّس كثير من هؤلاء المجرمين بالجرم المشهود فعوقبوا و أنزلت بهم الخلافة الإسلامية آنذاك أشد العقوبات فكان أحدهم يقول قبل أن يقتل لينفّس عن غيظه: أين أنتم من الأحاديث التي وضعتها فيكم أحرّم الحلال و أحلّ الحرام.
ب - انتصار المتعصبين لمذاهبهم كدعاة المبتدعة: يروي عبد اللّه بن ذريعة يقول:
قال لي شيخ من الخوارج تاب:" إنّ هذا الحديث دين، فانظروا عمّن تأخذون الحديث، فإنّا كنا إذا رأينا رأيا جعلناه حديثا "...و كذا من فئة الشيعة، ورد أنّ جابر الجم و هو ممن غالى من التشيع قال أنا عندي خمسون ألف حديث، يرويها ابتداعا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.
ج - العاطفة الإسلامية الفجة التي لا تضبطها قواعد العلم، كالتي نجدها عند جهلة المتعبدين الذين وضعوا الأحاديث في الفضائل و غيرها. أراد بعض الجهلة أن يرغّبوا العامة في الجنة و يخوّفوهم من النار، فأخذوا يضعون (أي يختلقون) الأحاديث و هم يقولون إذا وقعوا بيد العلماء:" نحن نكذب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و لا نكذب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم"!.
د - رغبة بعض الفسقة من المحدثين في جمع عدد كبير من الناس حولهم في المساجد و تنافسهم فيما بينهم لجعل حلقة الواحد منهم أكبر من حلقة غيره، و هذه الظاهرة نجدها حتى في عصرنا اليوم فتجد واحدا ممن ادعى العلم يروي الأحاديث الموضوعة و المكذوبة في دروسه و عامة الناس لا يعرفون لا بل يظنونه من كبار العلماء! و كان العلماء يحذّرون من مجالسة هؤلاء القصاصين.
فائدة: من علامات الحديث الموضوع ما يلي:
1 - ذكر أعداد كثيرة (سبعون ألفا مع كل ألف...).
2 - الأجر الكثير على العمل القليل.
3 - قصص عن سيدنا موسى و سيدنا داود عليهما السلام.
4 - الأحاديث المتعلقة بفضائل بعض السّور المذكورة في بعض كتب التفاسير، أما الأحاديث الواردة في فضل سورة البقرة و آل عمران و الكهف و يس و تبارك و الإخلاص و ما شابه فيحتج بها.
ص: 125
من هنا كان لا بد من صحوة المسلمين لمجابهة هذا الخطر، فمنعوا رواية الحديث و حصروها فيمن كانوا أهلا لذلك. و بدأ تدوين السنّة بأمر من عمر بن عبد العزيز، ففي عام 99 هجرية كان أبو بكر بن حزم أول من دوّن أحاديث النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و جمعها بين دفتي كتاب و من ثم تبعه الكثيرون كسفيان بن عيينة و غيره. و باشر العلماء أيضا بتدوين العلوم الكفيلة بحفظ الرواية كعلم الجرح و التعديل، و وضع شروط الرواية و شروط الحديث الصحيح و الحسن و الضعيف و المرسل و الموقوف... و في ما يلي نورد بعض التعاريف المهمة المتعلقة بعلم مصطلح الحديث:
لقد تواترت الأحاديث عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم كما نعلم، في وجوب الأخذ بهديه في كل شيء من الأمور، و من ذلك قوله صلّى اللّه عليه و سلّم:" عليكم بسنتي و سنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها و عضوا عليها بالنواجذ، و إياكم و محدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، و كل بدعة ضلالة "...و النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قد حض على اتباع سنته لما فيها من مضاعفة الأجر:
قال صلّى اللّه عليه و سلّم:" من أحيى سنة من سنتي قد أميتت بعدي كان له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا "،أخرجه الترمذي. و عنه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:
" المتمسك بسنتي عند فساد أمتي له أجر مائة شهيد "،أخرجه الطبراني في الأوسط و البيهقي في الزهد.
لذلك عنيت الأمة الإسلامية بالحديث النبوي، و بذلت من أجله أعظم الجهد. فقد نقل لنا الرواة أقوال الرسول عليه الصلاة و السلام في الشئون كلها العظيمة و اليسيرة، بل الجزئيات التي قد يتوهم أنها ليست موضع اهتمام، حتى يدرك من يتتبع كتب السنة أنها ما تركت شيئا صدر عنه صلّى اللّه عليه و سلّم إلا روته و نقلته. و لقد علم الصحابة بقيادة الخلفاء أنهم خرجوا هداة لا جباة، فأقام الكثير من الصحابة الفاتحين في أصقاع متفرقة ينشرون العلم و يبلّغون الحديث.
و نجد هذا الحرص، يسري من الصحابة إلى التابعين فمن بعدهم... من هنا تقرر للناظر حقيقة لها أهميتها، و هي أن الصحابة رضوان اللّه عليهم أجمعين يرجع إليهم الفضل في بدء علم الرواية للحديث، ذلك لأن الحديث النبوي في حياة المصطفى كان
ص: 126
علما يسمع و يتلقّف منه صلّى اللّه عليه و سلّم - كما مر معنا - فلما لحق صلّى اللّه عليه و سلّم بالرفيق الأعلى، حدّث عنه الصحابة بما وعته صدورهم الحافظة و رووه للناس بغاية الحرص و العناية، فصار علما يروى و ينقل، و وجد بذلك علم الحديث رواية حيث وضع الصحابة له قوانين تحقق ضبط الحديث، و تميز المقبول من غير المقبول و من هنا نشأ علم مصطلح الحديث.
هو" ما أضيف إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم من قول أو فعل أو تقرير أو وصف خلقي أو خلقي... و معنى علم الحديث كتعبير لغوي إدراك الحديث، و لكنه استعمل عند العلماء كاصطلاح يطلقونه بإطلاقين:
أحدهما: علم الحديث رواية أو رواية الحديث.
و الثاني: علم الحديث دراية أو علم دراية الحديث.
علم الحديث رواية: "هو علم يشتمل على أقوال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و أفعاله و تقريراته و صفاته و روايتها و ضبطها و تحرير ألفاظها" .فهو علم موضوعه ما أضيف إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، و يبحث عن روايتها و ضبطها و دراسة أسانيدها و معرفة حال كل حديث، من حيث القوة و الضعف. كما يبحث في هذا العلم عن معنى الحديث و ما يستنبط منه من الفوائد.
باختصار، فعلم الحديث رواية يحقق بذلك غاية عظيمة جدا تقوم على "الصون عن الخلل في نقل الحديث".
علم الحديث دراية: و يطلق عليه "مصطلح الحديث" ،و هو: "علم بقوانين يعرف بها أحوال السند و المتن".
و السند هو حكاية رجال الحديث الذين رووه واحدا عن واحد إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.
و أحوال السند: هي ما يطرأ عليه من اتصال، أو انقطاع، أو تساهل بعض رجاله في السماع، أو سوء الحفظ، أو اتهامه بالفسق أو الكذب أو غير ذلك.
و أما المتن: فهو ما ينتهي إليه السند من الكلام. و أحوال المتن، هي ما يطرأ عليه من رفع، أو وقف، أو شذوذ أو علة، أو غير ذلك. فعلم المصطلح يضبط رواية الحديث و يحفظ الحديث النبوي من الخلط فيه أو الافتراء عليه، و لو لا هذا العلم لاختلط الحديث الصحيح بالضعيف و الموضوع و لاختلط كلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بكلام غيره!. و يعتبر القرن الثالث الهجري عصر التدوين الذهبي للسنّة، و فيه أصبح كل نوع من أنواع الحديث علما خاصا، فأفرد العلماء كل نوع منها بتأليف خاص. و لقد توالت سلسلة الجهود
ص: 127
العلمية متواترة متضافرة لحمل الحديث النبوي و تبليغه علما و عملا، فنا و دراسة و شرحا، منذ عهد النبي صلّى اللّه عليه و سلّم إلى عصرنا الحاضر، و إنها حقا لمكرمة عظيمة أكرم اللّه بها هذه الأمة، بل هي معجزة تحقق صدق التنزيل: إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ (9)، [الحجر: 9]. قال الحافظ أبو علي الجياني: "خص اللّه تعالى هذه الأمة بثلاثة أشياء لم يعطها من قبلها: الإسناد، و الأنساب، و الإعراب".
1 - الحديث الصحيح: هو الحديث الذي اتصل سنده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط من أوله إلى منتهاه، دون شذوذ أو علة.
فالعدالة و الضبط يحققان أداء الحديث كما سمع من قائله، و اتصال السند على هذا الوصف من الرواة يمنع اختلال ذلك في أثناء السند، و عدم الشذوذ يحقق و يؤكد ضبط هذا الحديث الذي نبحثه و أنه لم يدخله و هم، و عدم الإعلال يدل على سلامته من القوادح الخفية، فكان الحديث بذلك صحيحا لتوفر النقل الصحيح، فيحكم له بالصحة إجماعا.
2 - الحديث الحسن: هو الحديث الذي اتصل إسناده بنقل عدل خفّ ضبطه فهو كالحديث الصحيح إلا أنّه في إسناده من خفّ ضبطه.
بالمقارنة بين هذا التعريف، و بين تعريف الحديث الصحيح، نجد أن راوي الحديث الصحيح تام الضبط، أما راوي الحديث الحسن فهو خف ضبطه.
فالمقصود أنه درجة أدنى من الصحيح، من غير اختلال في ضبطه و ما كان كذلك يحسن الظن بسلامته فيكون مقبولا.
3 - الحديث الضعيف: هو الحديث الذي فقد شرطا من شروط الحديث المقبول من عدالة أو ضبط أو اتصال أو سلامة من الشذوذ و العلة.
4 - الحديث الموضوع: هو المختلق المصنوع. أي الذي ينسب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كذبا، و ليس له صلة حقيقية بالنبي صلّى اللّه عليه و سلّم، و هو ليس بحديث.
5 - الحديث الموقوف: هو ما أضيف إلى الصحابة رضوان اللّه تعالى عليهم. سمّي موقوفا لأنه وقف به عند الصحابي، و لم يرفعه إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم. و بعض العلماء يطلقون على الموقوف اسم الأثر.
ص: 128
6 - الحديث المقطوع: هو ما أضيف إلى التابعي.
7 - الحديث المرسل: هو ما أضافه التابعي إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، بأن يقول: "قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم" سواء كان التابعي كبيرا أو صغيرا.
الجرح عند المحدثين هو الحكم على راوي الحديث بالضعف لثبوت ما يسلب أو يخل بعدالته أو ضبطه. و التعديل هو عكسه، و هو تزكية الراوي و الحكم عليه بأنه عدل ضابط.
فعلم الجرح و التعديل هو ميزان رجال الرواية، به نعرف الراوي الذي يقبل حديثه و نميزه عمن لا يقبل حديثه. و من هنا اعتنى به علماء الحديث كل العناية، و بذلوا فيه أقصى جهد، و تكبدوا المشاق، ثم قاموا في الناس بالتحذير من الكذابين و الضعفاء المخلطين و لقد انعقد إجماع العلماء على مشروعيته، بل على وجوبه للحاجة الملجئة إليه.
و لقد اشترطت شروط لا بد من أن تتوفر في الجارح و المعدل لكي تجعل حكمه منصفا كاشفا عن حال الراوي، كالعلم، و التقوى، و الورع، و الصدق، و اليقظة التي تحمله على التحري و الضبط و أن يكون عالما بأسباب الجرح و التعديل و بتصاريف كلام العرب فلا يضع اللفظ لغير معناه.
و لقد تعجب علماء الغرب و قالوا نحن لا نتصور أنّ أي حضارة ينشأ فيها علم كهذا، لأنه علم يحتاج إلى جهد كبير و إنفاق الأموال و السفر... و لكن لو علموا كيف كان حب المسلمين لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و كيف كان الواحد منهم يفديه بروحه كما فعل ذاك الصحابي في معركة أحد و هو سيد الأنصار، حيث جعل من نفسه و صدره و وجهه درعا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و عند ما انتهت المعركة أرسل النبي عليه الصلاة و السلام يتفقده، جاءه الصحابة فوجدوه ملقيا على الأرض على شفير الموت، سألوه عن حاله فقال لهم: "كيف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم؟ قالوا: بخير، قال: إذا أنا بخير و الحمد للّه، بلّغوا عني الأنصار، لأن متم جميعا فداء للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم خير لكم من أن يجرح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بجرح".
لذلك شعر علماء المسلمين أنهم بعملهم هذا (و هو تدوين السنة) إنما يدافعون عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و عن حديثه، فكان الواحد منهم يشقي نفسه و يفني عمره بالسهر و التعب و السفر و إنفاق الأموال في سبيل المحافظة على سنّة الحبيب محمد صلّى اللّه عليه و سلّم، جزاهم اللّه تعالى
ص: 129
عن أمة الإسلام كل خير.
و يعود تدوين هذا الكتاب إلى منتصف القرن الثاني هجري، و قد استغرق تصنيفه و جمعه و تحريره أربعين عاما. أما عن تسميته، فقد روي عن الإمام مالك أنه قال: "عرضت كتابي هذا على سبعين فقيها من فقهاء المدينة، كلهم وطّأني عليه فسمّيته الموطأ، (وطّأ أي وافق)... و قد جمع في الموطأ 1720 حديثا مرفوعا و 600 مرسلا و 222 موقوفا و أقوال التابعين و فتاويهم. و الموطأ له مكانة عالية جدا و أغلب ما فيه صحيح. قال الشافعي:" ما على ظهر الأرض كتاب بعد كتاب اللّه أصح من موطأ مالك".
و لم يكن كتاب البخاري قد ظهر بعد.
دوّنه في أول القرن الثالث هجري و يعتبر من أشهر دواوين السنة المشهورة و أجمعها للأحاديث، فقد وضع فيه الإمام أحمد قرابة ثلاثين ألف حديث، انتقاها من نحو سبعمائة و خمسين ألف حديث. و لقد راعى فيه تسلسل نظام الطبقات بالنسبة للصحابة الذين أسند إليهم الحديث، حيث قدّم أولا أحاديث العشرة المبشّرين بالجنة و أولهم الخلفاء الأربعة ثم بعدهم أحاديث أهل البيت و أقدم الصحابة إسلاما... أكثر أحاديث المسند صحيحة بل و فيه من الأحاديث الصحيحة زيادة على ما في الصحيحين بل و السنن الأربعة، و فيه الحديث الحسن و الضعيف، و يقال إنّ فيه بعض الأحاديث الموضوعة و لكن ما وجد فيه لا يزيد عن أربعة أحاديث و قد اعتذر عنها بأن تركها الإمام أحمد سهوا، و قد عاجلته منيّته قبل إتمام تنقيح المسند منها، و قيل هي من زيادة ابنه عبد اللّه بن أحمد.
و يسمى الجامع الصحيح و يعتبر صحيح البخاري عند أهل السنة و جمهور الفقهاء و الأصوليين أصح كتب السنة و الأحاديث على الإطلاق، بل هو عندهم أصح كتاب بعد القرآن الكريم... و يعتبر صحيح البخاري أول كتاب دوّن في بداية النصف الثاني من القرن الثالث هجري، و قد بذل الإمام البخاري في تصنيف كتابه" الجامع الصحيح "جهدا كبيرا و وقتا طويلا بلغ ستة عشر عاما حتى جمعه... و قد اختار أحاديثه من ستمائة ألف حديث، و اقتصر على إخراج الصحيح منها و لم يستوعب كل الصحيح بل اختار منه ما وافق شرطه، و قد ترك من الصحيح أكثر مما أثبته لئلا يطول الكتاب. جمع الإمام البخاري في كتابه هذا نبذة من أحاديث الأحكام و الفضائل
ص: 130
و الأخبار و الأمور الماضية و المستقبلية بالإضافة إلى الآداب و الرقائق و الدعوات و المغازي و السّير لذلك سمي كتابه بالجامع الصحيح. و ما كان من الأحاديث غير المسندة مما لم يتصل سنده من المعلقات، مما حذف من أول سنده راو أو أكثر فهذا خارج عن نمط الكتاب و منهجه و موضوعه و مقاصده، و إنما أورده البخاري للاستشهاد فقط في تراجم أبواب الكتاب و لا يوجد شيء منها في صلب الكتاب. و مما ينبغي أن يعلم أنّ ما أورده البخاري منها بصيغة الجزم مثل "قال" و "ذكر" و روى "فهذا يفيد الصحة إلى من علّق عنه، و أما ما علّقه عن شيوخه بصيغة الجزم فليس من المعلّق و إنما هو من المتصل و قد يعلّق البخاري الحديث في بعض المواضع من الجامع الصحيح و هو بسند متصل في مكان آخر في نفس الصحيح و قد يكون الحديث معلقا عنده في الصحيح و هو صحيح متصل عند مسلم أو عند غيره من أصحاب كتب السنة المشهورة. أما إذا كان المعلق بصيغة لا تدل على الجزم و يقال لها صيغة التمريض مثل" قيل "و" يروى "و" يذكر"، فهذا لا يستفاد منه الصحة و لا عدمها بل يحتمل.
أحاديث الجامع الصحيح على ما حققه ابن حجر بلغت 2602 حديثا غير مكررا، و إنّ جملة ما فيه من الأحاديث المكررة سوى المعلقات و المتابعات 7398 حديثا و جملة ما فيه من المعلقات 341 و جمع ما فيه بالمكرر 9082.
أجمع شروحه:
أ - فتح الباري شرح صحيح البخاري للحافظ ابن حجر العسقلاني الشافعي.
ب - عمدة القاري بشرح البخاري للعيني الحنفي.
يسمى الجامع الصحيح و يعتبر ثاني كتب الصحاح. استغرق جمعه 12 عاما، و قد انتقاه من ثلاثمائة ألف حديث. جملة ما في صحيح مسلم دون المكرر أربعة آلاف حديث و هو بالمكرر يزيد على صحيح البخاري لكثرة طرقه. لم يستوعب البخاري و مسلم في صحيحيهما كل الأحاديث الصحيحة و لا التزما إخراج كل الصحيح و إنما أخرجا من الصحيح ما هو على شرطهما. فقد روي عن البخاري أنه قال:
" ما وضعت في كتابي الجامع إلا ما صح و تركت من الصحاح مخافة الطول ".و قال مسلم:" ليس كل شيء عندي صحيح وضعته هنا و إنما وضعت ما أجمعوا عليه ".إذا فإنّ كثيرا من الأحاديث الصحيحة توجد عند غيرهما من الكتب المعتمدة، ممن التزم أصحابها إخراج الصحيح فيها كمستدرك الحاكم و صحيح ابن حبّان و صحيح ابن
ص: 131
خزيمة. و الصحيح أن يقال إنه لم يفت الأمهات الست - الصحيحين و السنن الأربعة (سنن أبي داود و سنن الترمذي و سنن ابن ماجة و سنن النّسائي) - إلا اليسير من الأحاديث الصحيحة و توجد هذه الزوائد من الأحاديث الصحيحة في مسند أبي يعلى و البزّار و بقية السنن الأخرى.
اعتنى أبو داود بأحاديث الأحكام خاصة و انتقى صحيحه من خمسمائة ألف حديث و اشتمل على أربعة آلاف حديث من أحاديث الأحكام خاصة، لذلك فهو مرجع للفقهاء في أحاديث الأحكام. و هذا الكتاب هو أول السنن الأربعة و أقدمها منزلة بعد الصحيحين. قال أبو داود:" قد ذكرت فيه الصحيح و ما يقاربه و ما كان فيه و هن شديد بيّنته و ليس في كتابي هذا الذي صنّفته عن رجل متروك الحديث شيء ".و لكن مع هذا مع فهو لا ينص على صحة الحديث و لا ضعفه، فيسكت عنه. و ما سكت عنه في منهجه صالح للاحتجاج به و لكن العلماء تتبعوا أحاديث السنن و دققوا فيها و حكموا عليها.
و يسمى سنن الترمذي، و يعتبر في المرتبة الثانية بعد سنن أبي داود. التزم فيه الترمذي بأن لا يخرّج إلا حديثا عمل به فقيه أو احتج به مجتهد. و لم يلتزم الترمذي بإخراج الصحيح فقط و لكنه أخرج الصحيح و نصّ على صحته و أخرج الحسن و بيّنه و نوّه به و أكثر من ذكره و هو الذي شهره، و أخرج الحسن الصحيح. يعتبر كتاب الترمذي من مظان الحديث الحسن. و أخرج أيضا الضعيف و نصّ على ضعفه و أبان علته و أخرج بعض الأحاديث المنكرة في باب الفضائل و نبّه عليها غالبا. تميّز كتابه بالاستدلالات الفقهية و استنباط الأحكام من الأحاديث و بيّن من أخذ بها أو عمل بها من الصحابة و التابعين و الأئمة المجتهدين من فقهاء الأمصار. و قد تضمّن كتابه أيضا كتابا آخر سماه" العلل "،كشف فيه علل بعض الأحاديث و بذلك يكون جامع الترمذي قد تضمّن فوائد كثيرة.
صنّف النسائي" سننه الكبرى "التي تعتبر أقل الكتب - بعد الصحيحين - حديثا ضعيفا و رجلا مجروحا، ثم استخلص منه" السنن الصغرى" و تسمى" المجتبى "و هذا الكتاب هو أقل السنن حديثا ضعيفا و عدد أحاديثه 5761 حديثا.
يعتبر هذا الكتاب أدنى الكتب الستة في الرتبة. رتب ابن
ص: 132
ماجة الأحاديث فيه على أبواب الفقه شأنها شأن السنن الأخرى. جمع فيه 4341 حديثا منها 3002 حديثا أخرجها أصحاب الكتب الخمسة و 1339 حديثا زائدا عن الكتب الخمسة، منها 428 حديثا صحيح الإسناد و 613 حديثا ضعيفا و الباقي 99 حديثا ما بين واه أو منكر أو موضوع.
خلاصة: إنّ أصحاب السنن الأربعة لم يلتزموا إخراج الصحيح فقط كما فعل صاحبا الصحيحين البخاري و مسلم، بل أخرجوا الصحيح و الحسن و الضعيف، و تتفاوت كتبهم في المنزلة بحسب تفاوتهم في العلم و المعرفة، و لقد كان منهجهم في التأليف هو ترتيب الأحاديث على أبواب الفقه و الاقتصار على أحاديث الأحكام. أما أصحاب الجوامع فقد تناولوا مع أحاديث الأحكام أحاديث العلم و الوحي و التفسير و المغازي و السّير و القصص و الفتن و أشراط الساعة و غير ذلك من المواضيع العامة الجامعة لكثير من الأبواب... و نخلص إلى القول أن كل ما في صحيح البخاري و مسلم صحيح و أغلب ما في السنن الأربعة صحيح.
فوائد:
- إذا قيل رواه الشيخان أو متّفق عليه أو أخرجه صاحبا الصحيحين، فمعناه أنه رواه البخاري و مسلم في صحيحيهما، و قد يرمز له بعض المحدّثين ب" ق "أي متفق عليه.
- إذا قيل رواه الجماعة، يقصد به أصحاب الكتب السبعة: الصحيحان و السنن الأربعة و مسند أحمد.
- إذا قيل رواه الستة، فهم البخاري و مسلم و أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجة ما عدا مسند الإمام أحمد.
- إذا قيل رواه أصحاب السنن أو الأربعة فيعني أصحاب السنن عدا البخاري و مسلم.
- إذا قيل رواه الخمسة فهم أصحاب السنن الأربعة و أحمد فقط.
- إذا قيل رواه الثلاثة فهم أصحاب السنن ما عدا ابن ماجة.
ملاحظة: للبخاري كتب أخرى غير الجامع الصحيح مثل الأدب المفرد و غيره و لم يلتزم البخاري بهذه الكتب الصحة كما التزمها في الجامع الصحيح.
ص: 133
و يمتد من أوائل القرن الثاني إلى منتصف القرن الرابع و هو دور تدوين السنة و الفقه و ظهور كبار الأئمة الذين اعترف لهم الجمهور بالزعامة و سيأتي فيما يلي ترجمة كل واحد منهم:
قال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم مبشرا بأبي حنيفة:" لو كان الإيمان عند الثريا لذهب به رجل من فارس ".و في لفظ لمسلم:" لو كان الإيمان عند الثريا لذهب به رجل من أبناء فارس حتى يتناوله".
نزل ثابت والد الإمام الكوفة و كان من وجوه بلاد فارس، و عمل بالتجارة و كان ماهرا فيها و حافظ على نفس المستوى الاجتماعي الذي عاشته الأسرة من قبل، في رخاء و بحبوحة. التقى ثابت الإمام عليّ كرّم اللّه وجهه الذي دعا له بالبركة فيه و في ذريته.
و الإمام أبو حنيفة هو النعمان بن ثابت بن زوطي، ولد سنة 80 من الهجرة بالكوفة. بدأ أبو حنيفة و منذ نعومة أظافره يذهب مع أبيه إلى متجره حيث كان يلازمه و يتعلم منه أصول و أسس التعامل مع البائعين و المشترين، و تابع خطى أبيه و عاش في رخاء و يسر و كان بزّازا أي تاجر أقمشة و ثياب و كان له شريك في متجره يساعده.
كان يقول:" أفضل المال الكسب من الحلال و أطيب ما يأكله المرء من عمل يده".
جاءته امرأة بثوب من الحرير تبيعه له فقال كم ثمنه، قالت مائة، فقال هو خير من مائة، فقالت مائتين، فقال هو خير من ذلك، حتى وصلت إلى أربع مائة فقال هو خير من ذلك، قالت أ تهزأ بي؟ فجاء برجل فاشتراه بخمسمائة.
و ذات يوم أعطى شريكه متاعا و أعلمه أنّ في ثوب منه عيب و أوجب عليه أن يبين العيب عند بيعه. باع شريكه المتاع و نسي أن يبين و لم يعلم من الذي اشتراه، فلما علم أبو حنيفة تصدّق بثمن المتاع كله.
و كان أبو حنيفة يجمع الأرباح عنده من سنة إلى سنة فيشتري بها حوائج الأشياخ و المحدثين و أقواتهم و كسوتهم و جميع لوازمهم ثم يدفع باقي الدنانير من الأرباح إليهم و يقول: أنفقوا في حوائجكم و لا تحمدوا إلا اللّه فإني ما أعطيتكم من مالي شيئا و لكن من
ص: 134
فضل اللّه عليّ فيكم.
كان الخليفة أبو منصور يرفع من شأن أبي حنيفة و يكرمه و يرسل له العطايا و الأموال و لكن أبا حنيفة كان لا يقبل عطاء. و لقد عاتبه المنصور على ذلك قائلا: لم لا تقبل صلتي؟. فقال أبو حنيفة: ما وصلني أمير المؤمنين من ماله بشيء فرددته و لو وصلني بذلك لقبلته إنما وصلني من بيت مال المسلمين و لا حق لي به.
وقع يوما بين الخليفة المنصور و زوجته شقاق و خلاف بسبب ميله عنها، فطلبت منه العدل فقال لها من ترضين في الحكومة بيني و بينك؟ قالت أبا حنيفة، فرضي هو به فجاءه فقال له: يا أبا حنيفة زوجتي تخاصمني فانصفني منها، فقال له أبو حنيفة:
ليتكلّم أمير المؤمنين. فقال المنصور: كم يحلّ للرجال أن يتزوج من النساء؟ قال: أربع.
قال المنصور لزوجته: أسمعت. فقال أبو حنيفة: يا أمير المؤمنين إنما أحلّ اللّه هذا لأهل العدل فمن لم يعدل أو خاف أن لا يعدل فواحدة لقوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً ، [النساء: 3]، فينبغي لنا أن نتأدّب مع اللّه و نتّعظ بمواعظه. فسكت المنصور و طال سكوته، فقام أبو حنيفة و خرج فلما بلغ منزله أرسلت إليه زوجة المنصور خادما و معه مال و ثياب، فردها و قال: أقرئها السلام و قل لها إنما ناضلت عن ديني و قمت بذلك المقام للّه و لم أرد بذلك تقربا إلى أحد و لا التمست به دنيا.
كان حريصا على أن يكون مظهره حسنا تماما لذا كان كثير العناية بثيابه.
رأى مرة على بعض جلسائه ثيابا رثة فأمره أن ينتظر حتى تفرّق المجلس و بقي وحده فقال له: ارفع المصلى و خذ ما تحته، فرفع الرجل المصلى و كان تحته ألف درهم، و قال له خذ هذه الدراهم و غيّر بها حالك، فقال له الرجل إني موسر و أنا في نعمة و لست أحتاج إليه، فقال له أبو حنيفة: أما بلغك الحديث:" إنّ اللّه يحب أن يرى أثر نعمته على عبده"؟.
لزم أبو حنيفة عالم عصره حمّاد بن أبي سليمان و تخرّج عليه في الفقه و استمر معه إلى أن مات. بدأ بالتعلم عنه و هو ابن 22 سنة و لازمه 18 سنة من غير انقطاع و لا نزاع. يقول أبو حنيفة:" بعد أن صحبت حمّادا عشر سنين نازعتني نفسي لطلب الرئاسة، فأردت أن أعتزله و أجلس في حلقة لنفسي. فخرجت يوما بالعشيّ
ص: 135
و عزمي أن أفعل، فلمّا دخلت المسجد رأيته و لم تطب نفسي أن أعتزله فجئت فجلست معه، فجاء في تلك الليلة نعي قرابة له قد مات بالبصرة، و ترك مالا و ليس له وارث غيره، فأمرني أن أجلس مكانه. فما هو إلا أن خرج حتى وردت عليّ مسائل لم أسمعها منه، فكنت أجيب و أكتب جوابي. ثم قدم، فعرضت عليه المسائل و كانت نحوا من ستين مسألة، فوافقني بأربعين و خالفني في عشرين، فآليت على نفسي ألا أفارقه حتى يموت و هكذا كان".
و كان أبو حنيفة شديد الأدب مع شيوخه حتى أنه كان لا يتخلى باتّجاه بيت شيخه حمّاد كان إذا نام يحرص أن لا تتوجه قدماه باتجاه بيت شيخه حمّاد. و قيل إن أبا حنيفة لم يكثر من الشيوخ مخافة أن تكثر حقوقهم عليه فلا يستطيع أداءها، فتأملوا في أدبه الرائع!.
أولع أبو حنيفة بالفقه الفرضي بخلاف معظم علماء عصره الذين كانوا يقولون نحن مضطرون أن نعلّم حكم اللّه في أمر حصل أمّا إذا لم يقع لا نحمّل أنفسنا هذه المئونة. و معظم شيوخ أبي حنيفة كانوا على هذا المنوال و إن وجد فيهم من استجاز لنفسه أن يتوسع قليلا فإلى حد محدود جدا. و أبو حنيفة كان على النقيض إذ كان يفرض الوقائع و إن لم تقع و كان يتأمل في حكمها و يعطي كلا منها فتوى. هذا الأمر أعطى فقهه غزارة و غنى و مدعاة لأن يتبع الناس الفقه الأوسع و الأكثر استجابة لواقع الحال، فما لم يقع اليوم سيقع غدا لا سيما عند ما يكون هذا الإمام عالما بعلم الاجتماع و خبيرا بالمشكلات التي ستنجم، مثال ذلك: لقي أبو حنيفة قتادة رضي اللّه عنه و هو عالم من أجلّ علماء الحديث فسأله ما تقول في رجل غاب عن أهله أمدا طويلا و لم يعرف مصيره، فتزوجت امرأته من زوج آخر و بعد حين جاء زوجها، ما تقول في هذا؟ قال قتادة: أوقعت هذه المسألة؟ قال لا، فقال له و قد ظهر الغضب على وجهه:
فلما ذا تسألني عنها؟ قال له هذا الكلام المهم:" إننا نستعد للبلاء قبل نزوله فإذا ما وقع عرفنا الدخول فيه و الخروج منه".
كان أبو هبيرة واليا بالكوفة في زمان بني أميّة، فظهرت الفتن بالعراق، فجمع فقهاءها ببابه و فيهم ابن أبي ليلى و ابن شبرمة و داود بن أبي هند، فولّى كل واحد منهم صدرا من عمله، و أرسل إلى أبي حنيفة فأراد أن يجعل الخاتم في يده و لا ينفذ كتاب إلا من تحت يده و لا يخرج من بيت المال شيء إلا من
ص: 136
تحت يد أبي حنيفة. و كان المقصود حمل أبي حنيفة على الولاء له قسرا و قهرا أو إغراء بالإكثار من المسئوليات و المهمات، فامتنع أبو حنيفة و قال لو أرادني أن أعد له أبواب مساجد واسط لما فعلت!... و قد سجن أبو حنيفة و ضرب ضربا مبرحا مؤلما أياما متتالية حتى سقط فاقد الوعي.
كان يقول: آخذ ما في كتاب اللّه و بما صحّ عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و ربما اشترط زيادة عن الصحة الشهرة فيما تقتضيه الشهرة في الأحكام و المسائل، فإن لم أجد آخذ بقول الصحابة، آخذ بقول من شئت منهم و أدع قول من شئت منهم عند ما يختلفون و لكني ألزم نفسي بالأخذ من الصحابة و إذا لم أجد و آل الأمر إلى إبراهيم النخعي و إلى التابعين كالأوزاعي، فإني أجتهد كما اجتهدوا و لا ألزم نفسي باتّباع رأي واحد منهم ما دام الأمر اجتهاديا. و كان يأخذ بحديث الآحاد و يعمل بها ما أمكن.
مثال: قوله تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ، [المزمل: 20] و حديث النبي عليه الصلاة و السلام يقول:" لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب "،متفق عليه، فحكم أنّ أصل قراءة القرآن في الصلاة ركن، أمّا تقسيم القراءة للقرآن الكريم إلى الفاتحة و بعض ما تيسر من القرآن فواجب و بذلك عمل بالقرآن و السنة معا.
و كذلك الطمأنينة في الركوع ليست فرضا عند أبي حنيفة لإطلاق قوله تعالى:
اِرْكَعُوا ، أمّا الطمأنينة فثابتة بخبر الآحاد لذلك هي عنده واجبة.
و من منهجه أنه يقدّم السنّة القولية على الفعلية لجواز أن يكون الفعل خصوصية للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم.
و يقدّم السنّة المتواترة على خبر الآحاد عند التعارض و عدم إمكان الجمع بينهما، كالجمع في السفر حيث قال أنه جمع صوري و هكذا كان يفعل عبد اللّه بن عمر. أبو حنيفة لا يجيز للمسافر أن يجمع بين الصلوات و لكن القصر عنده واجب.
و يقدّم السنّة و لو حديثا مرسلا أو ضعيفا على القياس، لذلك قال بنقض الوضوء من الدم السائل معتمدا على حديث مرسل، و كذلك نقض وضوء و بطلان الصلاة بالقهقهة أيضا بحديث مرسل.
و من منهجه أيضا الاستحسان: و الاستحسان لغة هو وجود الشيء حسنا و معناه
ص: 137
طلب الأحسن للإتباع الذي هو مأمور به كما قال تعالى:... فَبَشِّرْ عِبادِ (17) اَلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ، [الزمر: 17-18]. و هو عند الفقهاء نوعان:
1 - العمل بالاجتهاد و غالب الرأي في تقدير ما جعله الشرع مدلولا إلى آرائنا نحو قوله تعالى: مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)، [البقرة: 236]، أوجب ذلك بحسب اليسار و العسرة و شرط أن يكون بالمعروف، فعرفنا أنّ المراد ما يعرف استحسانه بغالب الرأي و لا خلاف في هذا النوع.
2 - هو الدليل الذي يكون معارضا للقياس الظاهر الذي تسبق إليه الأوهام قبل إمعان التأمّل فيه، و بعد إمعان التأمل في حكم الحادثة و أشباهها من الأصول يظهر أنّ الذي عارضه فوقه في القوة، فإنّ العمل به هو الواجب، فسمّوه بذلك استحسانا للتمييز بين هذا النوع من الدليل و بين الظاهر الذي تسبق إليه الأوهام. مثاله: لو قال لامرأته:
إذا حضت فأنت طالق، فقالت: قد حضت، فكذّبها الزوج، فإنها لا تصدّق في القياس باعتبار الظاهر و هو أنّ الحيض شرط للطلاق كدخولها الدار و كلامها زيدا. و في الاستحسان تطلّق لأن الحيض شيء في باطنها لا يقف عليه غيرها، فلا بد من قبول قولها فيه.
العرف و العادة: هو ما استقر في النفوس من جهة العقول و تلقته الطباع السليمة بالقبول. و إنما يكون العرف دليلا حيث لا دليل شرعي من كتاب و سنة. قال ابن مسعود: ما رآه المسلمون حسنا فهو عند اللّه حسن... و ألّف ابن عابدين رسالة" العرف" تضمنت مسألة تضمين الخياط و الكواء (و مثالهما إذا أحرقا القماش أو أضاعاه).
و أبو حنيفة هو أساس من جمع بين مذهبي أهل الحجاز أهل الحديث و أهل العراق أهل الرأي. كان أبو حنيفة من علماء الرأي و لكنه ذهب إلى الحجاز و أقام في مكة ست سنوات يأخذ العلم من علماء الحجاز أمثال عبد اللّه بن عمر... يذكر أن أبا حنيفة دخل يوما على المنصور فقال له أحد الجالسين: هذا عالم الدنيا اليوم... فقال له المنصور: يا نعمان من أين أخذت علمك؟ قال: من أصحاب عبد اللّه بن عمر عن عبد اللّه بن عمر (أهل الحديث) و من أصحاب عبد اللّه بن عباس عن عبد اللّه بن عباس و من أصحاب عبد اللّه بن مسعود عن عبد اللّه بن مسعود (أهل الرأي)... إذا لأول مرة خرق أبو حنيفة الحدود الفاصلة بين المذهبين. عند ما ذهب إلى أهل الحجاز تعلم منهم
ص: 138
الحديث و تعلموا منه كيفية استخراج الأحكام فاستفاد و أفاد. و انعكس هذا الأمر على تلامذته مثل أبو يوسف و محمد بن الحسن الشيباني و غيرهم... و كان لإخلاصه في طلب العلم يرجع عن رأيه إذا اطلع على حديث أو فتوى صحابي.
لمّا مرض أبو يوسف قال أبو حنيفة: لئن مات هذا الغلام لم يخلفه أحد على وجه الأرض. فلمّا عوفي أعجب بنفسه و عقد له مجلسا في الفقه فانصرفت وجوه الناس إليه، فلمّا بلغ ذلك أبا حنيفة قال لبعض من عنده: اذهب إلى مجلس يعقوب (يعني أبو يوسف) و قل له: ما تقول في قصّار دفع إليه رجل ثوبا ليقصّره بدرهمين ثم طلب ثوبه فأنكره القصّار ثم عاد له و طلبه فدفعه له مقصورا، له أجرة؟ فإن قال نعم قل له أخطأت و إن قال لا قل أخطأت. فسار إليه الرجل فسأله فقال نعم له أجرة فقال له أخطأت، فنظر ساعة فقال لا، فقال أخطأت، فقام من ساعته لأبي حنيفة فلما رآه قال: ما جاء بك إلا مسألة القصّار. قال: أجل. قال: سبحان اللّه من قعد يفتي الناس و عقد لنفسه مجلسا يتكلم في دين اللّه تعالى و هذا قدره لا يحسن أن يجيب في مسألة من الإجارات، فقال: علّمني، قال: إن كان قصّره بعد ما غصبه فلا أجرة له لأنه قصّره لنفسه، فإن قصّره قبل غصبه فله الأجرة لأنه قصّره لصاحبه، فعاد أبو يوسف و لم يترك بعدها مجلس أبي حنيفة قط.
موقفه من آل بيت النبي صلّى اللّه عليه و سلّم في عصره كموقف الأئمة الأربعة و موقفنا جميعا و هو حب آل البيت و الانتصار لهم كما قال الإمام الشافعي عند ما اتّهم بالتشيع: إن كان رفضنا حب آل محمد فليشهد الثقلان أني رافض.
و من المعلوم أنّ أبا حنيفة كان متشيّعا إن صح التعبير لآل البيت (أي كان يحبهم و يقف معهم إذا تعارضوا مع الخليفة في عصره)، لكنه كان دائما يعلن أنّ أبا بكر أفضل من عمر و عمر أفضل من عثمان و يرى أنّ كلا من عثمان و علي بمستوى واحد. و معنى ذلك أنّ حبه لآل البيت كان حبا شعوريا تفرّع عن حبه للمصطفى صلّى اللّه عليه و سلّم و لم يكن حبا مذهبيا ينحاز عن أهل السنّة و الجماعة. و ذكر أبو حنيفة أنه التقى بالإمام محمد الباقر و هو من أئمة الإمامية و هو والد جعفر الصادق، فسأله أبو حنيفة: ما تقول أصلحك اللّه في أبي بكر و عمر؟ فأثنى محمد الباقر عليهما خيرا و قال يرحمهما اللّه تعالى و أخذ يفيض بالحديث عن آثارهما فقال له بعضا من أهل العراق يقولون إنك تتبرأ منهما، قال معاذ اللّه، كذبوا و رب الكعبة! أتعلم من هو عمر لا أبا لك؟ إنه ذاك الذي زوجه عليّ من
ص: 139
ابنته أم كلثوم، و هل تدري من هي أم كلثوم لا أبا لك؟ إنّ جدها رسول اللّه و إن جدتها السيدة خديجة سيدة نساء الجنة و إنّ أمها فاطمة الزهراء و إنّ أباها عليّ فلو لم يكن عمر أهلا لها لما أعطاه عليّ ابنته!.
و قد اشتهرت كلمة لأبي حنيفة جاء فيها:" ما قاتل عليّ أحدا إلا و عليّ أولى بالحق منه أي في عصره بعد أبي بكر و عمر ".لم يكن حبه لآل البيت يدفعه إلى الانتقاص من صحابة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بل على العكس، لأن أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و سلّم كلهم يحبون و يوقرون آل بيته صلّى اللّه عليه و سلّم و آل البيت كلهم يحبون و يجلّون و يوقرون كل صحابة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم. هذا الخط يجسّد الصراط العريض الذي أشار إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في أحاديث بلغت في مجموعها مبلغ التواتر المعنوي مثاله:" عليكم بالجماعة "،" عليكم بالسواد الأعظم و من شذّ شذّ في النار "،" إنّ الشيطان مع الواحد و هو من الاثنين أبعد "،" سألت ربي أن لا تجتمع أمتي على ضلالة "،" من أراد أن يلزم بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة"...
و كان أبو حنيفة على علاقة طيبة مع المنصور و لكن لما قتل أبو جعفر المنصور محمد بن عبد اللّه بن حسن الملقّب بالنفس الزكية من الطالبيين بدأ أبو حنيفة يغير موقفه من الخليفة و أخذ ينتقد مواقفه و أخطاءه عند ما تطرح عليه الأسئلة و كان ذلك يغيظ الخليفة كثيرا. انتفض أهل الموصل على المنصور و كان المنصور قد اشترط عليهم أنهم إن انتفضوا حلّت دماؤهم، فجمع المنصور العلماء و الفقهاء و القضاة و كان بينهم أبا حنيفة و قال لهم: أ ليس صح أنّ رسول اللّه قال المؤمنون عند شروطهم يلتزمون بها و أهل الموصل قد اشترطوا ألا يخرجوا عليّ و ها هم قد خرجوا و انتفضوا و لقد حلّت دماؤهم فما ذا ترون؟ قال أحد الحاضرين: يا أمير المؤمنين، يدك مبسوطة عليهم و قولك مقبول فيهم فإن عفوت فأنت أهل العفو و إن عاقبت فبما يستحقون. التفت المنصور إلى أبي حنيفة يسأله و يستنطقه ليوقع به فقال أبو حنيفة: إنهم شرطوا لك ما لا يملكونه و شرطت عليهم ما ليس لك لأنّ دم المسلم لا يحلّ إلا بإحدى ثلاث فإن أخذتهم أخذت بما لا يحلّ و شرط اللّه أحق أن يوفى به. عندئذ أمر المنصور الجميع أن ينصرفوا ما عدا أبي حنيفة و قال له: إنّ الحق ما قلت، انصرف إلى بلادك... و يروى أنه كان لأبي حنيفة جار رافضي كان عنده بغلان سمى واحدا أبا بكر و الآخر عمر، و في أحد الأيام رفسته بغلة فوقع ميتا، فقال أبو حنيفة: انظروا البغلة التي رفسته هي التي سماها عمر، و هكذا كان!.
ص: 140
أما سبب انتشار مذهب أبي حنيفة و اتّباع الناس له بخلاف مذهب معاصريه أمثال الأوزاعي و عطاء بن أبي رباح و إبراهيم النخعي و هم شيوخ أبي حنيفة و ذلك لعدة عوامل نذكر منها ما يلي:
1 - أخذ أبو حنيفة عن أربعة آلاف شيخ من التابعين و أفتى في زمن التابعين.
2 - قيّض اللّه تعالى لأبي حنيفة تلاميذ كانوا في الوقت نفسه فطاحل من العلماء و قد دوّنوا آراءه و فتاويه و اجتهاداته بخلاف باقي الأئمة في عصره. فأبو يوسف دوّن فقه أبي حنيفة في الكتب و كذا فعل محمد بن الحسن الذي دوّن كل فقهه و الاجتهادات الأخرى حتى التي تراجع عنها، و هناك كتب تسمّى كتب "ظاهر الرواية" كلها للإمام محمد. و قام كلّ من أبي يوسف و محمد بجمع الأحاديث التي يرويها الإمام في فتاويه كمستندات لفقهه مثل كتاب الآثار و كتب أخرى و أحاديث كثيرة موزّعة في هذه المدونات. و لقد كانت طريقة أبي حنيفة بالتعليم مبنية على السؤال و الإقناع برأي ثم قوله و لكني أرى غير هذا و يعلم أصحابه الفتوى و طريقة التفكير.
و أبو حنيفة هو أول من من رتب مسائل الفقه حسب أبوابها من طهارة و صلاة...
دوّنها الإمام أبو يوسف - في غالب الأحيان - في سجلات حتى بلغت مسائله المدونة خمسمائة ألف مسالة. انتقل تلامذته الفحول البالغون 730 شيخا إلى بلادهم خاصة بلاد الأفغان و بخارى و الهند... فشرّق فقه الإمام أبي حنيفة و غرّب و شمأل و جنّب حتى ليعد علي بن سلطان القاري المتوفى سنة 1014 هجري ثلثي المسلمين في العالم على مذهب الإمام أبي حنيفة.
3 - إنّ اللّه تعالى شاء أن يكون أبو يوسف قاضيا و أن يتولى القضاء لثلاث من الخلفاء المهدي و الهادي و هارون الرشيد و سمّي بعد ذلك قاضي القضاة و كان و هو حنفي يقضي بمذهب أبي حنيفة و كذلك كان أغلب القضاة الذين كان ينصّبهم و المدونات التي كانت تدوّن في دار الخلافة كانت تدوّن على مذهب أبي حنيفة، كل هذا و غيره جعل فقه الإمام أبي حنيفة ينتشر أكثر من فقه من سبقه أمثال الأوزاعي و جعفر الصادق و غيرهم....
تميّز عصر أبي حنيفة بوجود الفرق المبتدعة المختلفة مثل: الشيعة و المعتزلة و المرجئة و القدرية و الجهمية أو المعطلة... هذه الفرق كلها كانت أشبه ما تكون بالحاشية على الجسم الكبير كحاشية في أطراف جسم المجتمع الإسلامي، فكانت هذه
ص: 141
الفرق مع قلة أتباعها يبثّون الشّبه و تسمّت كل فرقة باسم، فقام علماء المسلمين يردون على هؤلاء المبتدعة. و كان لا بد من أن يسمّوا أنفسهم باسم حتى يتبين قول هؤلاء المبتدعة من قول عامة المسلمين، فسمّوا عامة المسلمين أهل السنّة و الجماعة و هي ما كان عليه صلّى اللّه عليه و سلّم و الصحابة و التابعين و هم السواد الأعظم من الأمّة. و بظهور الأئمة الأربعة، اشرأبّت أعناق الناس إليهم يأخذون من فقههم و ينهلون من علومهم و كانت لهم عبقرية نادرة في الاستنباط مما دعا الناس إلى الإقبال عليهم و الأخذ منهم، فجمع هؤلاء الأئمة الناس على منهج أهل السنّة و الجماعة فيما يتعلق بالعقيدة و حذّروا الناس من البدع و دافعوا عن الإسلام دفاعا قويا. و ألّف أبو حنيفة كتاب "الفقه الأكبر" بيّن فيه عقيدة المسلمين ورد فيه على المبتدعة... و نقل أنّ له مسندا و لكن المحقق أنّ هذا المسند من جمع أبي يوسف عن أبي حنيفة سماه: "الآثار"..
- الفضيل بن عياض قال فيه: كان أبو حنيفة رجلا فقيها معروفا بالفقه، واسع المال معروفا بالإفضال على كل من يطوف به، صبورا على تعلّم العلم بالليل و النهار، حسن الليل، يقوم الليل (و هذا شيء معروف عنه)، كثير الصمت، قليل الكلام حتى يرد مسألة في حلال أو حرام.
- عبد اللّه بن المبارك العالم الكبير و التابعي الجليل يقول: كان أبو حنيفة مخ علم أو مخ العلم أي كنت تأخذ منه لباب العلم.
- مالك بن أنس قال عنه: لو جاء إلى أساطينكم فقايسكم على أنها خشب لظننتم إنها خشب.
- الإمام زفر قال: جالست أبا حنيفة أكثر من عشرين سنة فلم أر أحدا أنصح للناس منه و لا أشفق عليهم منه، كان بذل نفسه للّه تعالى، أمّا عامة النهار فهو مشتغل في العلم و في المسائل و تعليمها و فيما يسأل من النوازل و جواباتها و إذا قام من المجلس عاد مريضا (أي زار) أو شيّع جنازة أو واسى فقيرا أو وصل أخا أو سعى في حاجة، فإذا كان الليل خلى للعبادة و الصلاة و قراءة القرآن، فكان هذا سبيله حتى توفي رضي اللّه تعالى عنه.
- أجمع علماء عصره على أنه لم يجتمع لأحد غيره في ذلك العصر ذكاء و قوة بادرة و علم و قوة استنتاج.
ص: 142
- كان أبو حنيفة في زيارة شيخه الأعمش يوما (و الأعمش من كبار المحدثين)، فجاء إلى الأعمش رجل يسأله عن مسألة في العلم فقال لأبي حنيفة: أجبه. فأجابه، فقال له: و من أين لك هذا؟ قال: من حديث حدثتنيه هو كذا و كذا. فقال الأعمش:
حسبك ما حدّثتك به في سنة تحدّث به في ساعة، أنتم الأطباء و نحن الصيادلة.
سؤال: لما ذا نتبع أبا حنيفة و لا نتبع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم؟ الجواب: بعد أن أوضحنا الأدوار الثلاثة و بدأنا الكلام عن الدور الرابع لم يبق لهذا السؤال أي معنى فأبو حنيفة لم يخترع شيئا بل اتّباعنا له هو عين اتّباع لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لأن الذي فعله أبو حنيفة هو أن شرح لنا آيات كتاب اللّه عز و جل و أحاديث النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و استخرج منها الأحكام و بوّبها على أبواب الفقه. فمن المعلوم أن للقرآن الكريم تفاسير عديدة، كل تفسير عني بناحية من النواحي، فتفسير يعنى بالعقيدة كتفسير الرازي و تفسير يعنى بالمأثور كتفسير ابن كثير و تفسير يعنى باللغة كتفسير الآلوسي و ابن عاشور و غيرهم، كذلك هؤلاء الأئمة الأربعة، كل ما فعلوه أنهم عمدوا إلى الكتاب و السّنة و أقوال الصحابة فجمعوها و استنبطوا منها الأحكام و بوّبوها بأبوابها: باب الطهارة باب الصلاة... إلخ و دوّنوها لنا، فإذا أخذنا عنهم نكون حقيقة قد أخذنا عن اللّه عز و جل و عن رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم، ذلك لأن عامة الناس لا يفقهون آيات كتاب اللّه تعالى و لا أحاديث النبي عليه الصلاة و السلام و لا يعلمون الناسخ و المنسوخ و العام و الخاص و ما إلى ذلك...
سؤال: إنّ أبا حنيفة بشر غير معصوم يصيب و يخطئ فكيف نتبعه؟ الجواب: كونه بشر لا ينقص من مكانته و لا يمنع من جوازه، لا بل ضرورة اتباعه أو أحد الأئمة الأربعة لكل من لم يبلغ درجة الاجتهاد ثم من الذي يستطيع أصلا أن يكشف خطأ الإمام في الاجتهاد خاصة إذا كان من العوام؟ و إن كان مجتهدا وصل إلى درجة الاجتهاد المطلق فهذا المجتهد نفسه غير معصوم أيضا، فمن نتبع إذا!!!؟ إنّ اللّه تعالى أمرنا باتباع العلماء و المجتهدين المخلصين في قوله تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43)، أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ ، و أهل الذكر هم أمثال أبي حنيفة و مالك... و من المعلوم أنه ليس من الضرورة أن يكون قول الإمام هو القول المفتى به في المذهب، فالإمام لم يكن لوحده يمثّل مذهبه، هناك فقهاء كثيرون محققون ينتسبون للمذهب نفسه يصوّبون الإمام إن أخطأ. و الذي يريد أن يحقق في مسألة مس المرأة الأجنبية عند الحنفية و الشافعية ليرجّح قول أحدهما، إن كان هذا
ص: 143
الإنسان وصل بدرجة اجتهاده إلى مرتبة هؤلاء الأئمة فلا بأس و على كل الأحوال هو بعد بحثه سيخرج بقول ما، و قوله أيضا سيكون اجتهاديا و هو غير معصوم فما ذا فعل إذا؟ و إذا أراد أحد العلماء في درس عام مثلا أن يرجّح قولا على قول فإنما يكون الهدف من ورائه أن يقول الناس إنّ فلانا عالما جليلا بلغ من العلم درجة يستطيع أن يحكم فيها على الأئمة و لن يفيد الناس شيئا إلا حملهم من تقليد أبي حنيفة أو الشافعي و غيرهما من الذين اتفقت الأمّة على وجوب تقليد واحد منهم، إلى تقليده هو في هذه القضية، فبما ذا يكون قد نفع المسلمين؟!!!. يقول المثل: من جهل شيئا عاداه. و بالفعل فالرجل الذي يسمع بإنسان عالم و يسمع آراءه و اجتهاداته لكن ما جالسه و ما سمع منه حججه، لن يستطيع أن يحكم عليه. عند ما لمع اسم أبي حنيفة و انتشر صيته في العراق و قبل أن يراه علماء الحجاز أو علماء الشام ربما كان هنالك كثير من علماء الحجاز من يضيق ذرعا باجتهاداته و ربما نعتوه بأنه مبتدع و لكن بعد أن رأوه و جاء هو إلى الحجاز و جالسوه و سمعوا منه و سمعوا حججه اختلف الأمر تماما! مثال ذلك: يقول عبد اللّه بن المبارك إنّ الإمام الأوزاعي سأله من هو هذا المبتدع الذي ظهر في العراق (و يقصد أبا حنيفة)، فقال ابن المبارك: لم أجب، ثم أخذت أعرض له مسائل عويصة في الفقه و أحدثه عن فتاوى يمكن أن تكون جوابا، فقال لي: و اللّه إنّ هذه الأجوبة لأجوبة سديدة، من هو صاحبها؟ قلت له: فقيه في العراق. قال: من هو؟ قلت: هو أبو حنيفة.
قال: إنّ هذا الإنسان نبيل و ذو علم غزير فالزمه. ثم إنّ الأوزاعي التقى بعد ذلك بأبي حنيفة و تناقشا في كثير من المسائل العلمية فتحولت نظرة الأوزاعي و أخذ يوصي الناس بمجالس أبي حنيفة و الاستكثار من علمه و فضله.
كثيرون اليوم هم الذين ينتقصون من مكانة أبي حنيفة و ينتقدون فتاويه و اجتهاداته و هذا سهل لأنهم يزنون تلك الاجتهادات بميزانهم هم، فتبين من خلال ميزانهم هذا أنّ أبا حنيفة جاهل مع العلم أنهم لن يكونوا أعلم من الأوزاعي أو عبد اللّه بن المبارك. و مما يذكر أيضا أنّ الشافعي عند ما رحل إلى بغداد، التقى بمحمد بن الحسن ليتتلمذ على يده و لو وسعه أن يتتلمذ على أبي حنيفة لفعل و لكنه لم يستطع بسبب وفاة أبي حنيفة في العام الذي ولد فيه الشافعي و كان يقول: أخذت من محمد وقر بعير من علم. و كثيرة هي المسائل التي أخذ فيها الشافعي برأي محمد و كثيرة هي المسائل التي اخذ فيها محمد برأي الشافعي و تراجع عن رأيه. فهناك مثلا من يتهم أبا حنيفة بأنه لم يكن يحفظ إلا
ص: 144
بضعة عشر حديثا و لم تكن له بضاعة في رواية الأحاديث... إذا رجعت إلى ترجمة الإمام لوجدت الإجماع على أنّ هذا كذب، فقد صح عنه أنه:
- تفرّد برواية و تخريج أكثر من مائتي حديث فضلا عن الأحاديث التي اشترك مع المحدثين الآخرين في روايتها.
- لو أردت أن تجمع الأحاديث من مصنفات محمد بن الحسن و أبي يوسف و غيرهما من مرويّات أبي حنيفة فلسوف تجد الشيء الكثير.
- لو وقفت على مناقشة بسيطة في مسألة من مسائل الفقه بينه و بين أحد الأئمة لرأيته يروي عددا كبيرا من الأحاديث.
مروياته في باب الصلاة تزيد عن مائة حديث.
قال ابن المبارك: قلت لسفيان الثوري: ما أبعد أبا حنيفة عن الغيبة، ما سمعته يغتاب عدوا له. قال: و اللّه هو أعقل من أن يسلّط على حسناته ما يذهب بها... كان أبو حنيفة يختم القرآن في كل يوم ثم حين اشتغل بالأصول و الاستنباط و اجتمع حوله الأصحاب أخذ يختمه في ثلاث في الوتر... صلى أبو حنيفة ثلاثين سنة صلاة الفجر بوضوء العتمة و حج خمسا و خمسين حجة.
قال مسعر بن كدام: رأيت الإمام يصلي الغداة ثم يجلس للعلم إلى أن يصلي الظهر ثم يجلس إلى العصر ثم إلى قريب المغرب ثم إلى العشاء، فقلت في نفسي متى يتفرغ للعبادة؟ فلما هدأ الناس خرج إلى المسجد و كان بيته بجوار المسجد الذي يؤم فيه حسبة للّه تعالى. فانتصب للصلاة إلى الفجر ثم دخل فلبس ثيابه. و كانت له ثياب خاصة يلبسها لقيام الليل و خرج إلى صلاة الصبح ففعل كما فعل، ثم تعاهدته على هذه الحالة فما رأيته مفطرا و لا بالليل نائما. و كان يغفو قبل الظهر إغفاءة خفيفة، و قرأ ليلة حتى وصل إلى قوله تعالى: فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْنا وَ وَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27)، [الطور: 27] فما زال يرددها حتى أذّن الفجر. و ردد قوله تعالى: بَلِ السّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَ السّاعَةُ أَدْهى وَ أَمَرُّ (46)، [القمر: 46]، ليلة كاملة في الصلاة. و قالت أم ولده: ما توسّد فراشا بليل منذ عرفته و إنما كان نومه بين الظهر و العصر في الصيف و أول الليل بمسجده في الشتاء.
ص: 145
عرض عليه الخليفة القضاء مرارا و ضرب عليه و قال إني لا أصلح، قال الخليفة بل أنت تكذب أنت تصلح، فقال: أ رأيت، أنت تقول عني كذاب، فإني لا أصلح للقضاء. و كان أبو حنيفة ينقد قضاء القضاة بشدة و يبين أخطاءهم، فاتخذ المنصور هذا الموقف ذريعة للتخلص منه فعرض عليه من جديد تولي منصب القضاء فأبى و رفض فحبسه و جرى بينهما حوار قال فيه: اتق اللّه و لا ترع أمانتك إلا من يخاف اللّه و اللّه ما أنا بمأمون الرضى فكيف أكون مأمون الغضب، لك حاشية يحتاجون إلى من يكرمهم لك فلا أصلح لذلك. ثم حبسه و ضربه على مشهد من العامة ثم أخرج من السجن و منع من الفتوى و الجلوس إلى الناس حتى توفي. و قبل أبو حنيفة أن يعمل كأحد العمال في بناء سور بغداد تفاديا للنقمة، و لمّا أحسّ بالموت سجد فخرجت نفسه و هو ساجد عام 150 هجري و كان يردد المنصور بعد وفاة الإمام: من يعذرني من أبي حنيفة حيا و ميتا.
عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:
"يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم، فلا يجدون أحدا أعلم من عالم المدينة" ،أخرجه الترمذي و هو حديث حسن صحيح. قال العلماء: و عالم المدينة هو مالك بن أنس و هو الذي بشر به النبي صلّى اللّه عليه و سلّم.
ولد مالك بن أنس عام 93 هجري و توفي عام 179 للهجرة. ولد في المدينة المنورة من أسرة أصلها من اليمن و كانت أسرته هذه أسرة علم، والده أنس كان عالما و اسم جده مالك أبو عامر الأصبحي و كان محدّثا و راويا سمع الحديث من أبي بكر و عمر و عثمان و كثير من الصحابة رضي اللّه عنهم. و لقد روى مالك الحديث عن أبيه وجده. و يروى أنه ذات ليلة و قد اجتمع أفراد أسرة مالك على عادتهم متحلقين حول الأب يسرد عليهم بعض وقائع أيامه و أحداثه، سأل الوالد أبناءه سؤالا في الدين فأجابوه جميعا إجابات سليمة صحيحة عدا مالك الذي عجز و تلجلج و كان في العاشرة من عمره قد حفظ القرآن الكريم و شيئا من حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إلا أنّ عقله في مثل سنه لم يكن ليسمح له بالفهم و العلم فعجز عن الجواب فعنّفه أبوه أنس و وبخه
ص: 146
و نهره لانشغاله باللعب عن طلب العلم. و انفجر مالك بالبكاء و هو يأوي إلى صدر أمه، فضمّته إليها و عانقته و لاطفته و خففت عنه ما به من حزن و ألم و في اليوم التالي شدّت على رأسه عمامة جديدة و ضمّخته بأطيب العطر و أشارت عليه بإتيان مسجد الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و سلّم و الجلوس إلى حلقات العلم المنتشرة هناك و دعت له بالخير و بالتفقه و الفهم و الحفظ. و منذ ذلك اليوم لازمته عادة الاستحمام و التطيب كلما أتى مجلس العلم سواء كان متعلما أو معلما فيكون في أحسن سمت و أكمل مظهر و أرقى صورة، و دخل مالك بوابة العلم الكبرى و لم يغادرها حتى توفاه اللّه تعالى. و كان يجد نفسه بحاجة إلى مزيد علم، فقد كان يهمه أحيانا أمر علمي أو مسألة فبعد أن تنفضّ الحلقات و يأوي الشيوخ إلى دورهم فلا يجد مالك صبرا إلى الغد كي يسأل و يفهم لذا راح يسعى إلى الشيوخ في بيوتهم و مساكنهم و قد ينتظر أحدهم في الطريق الساعات الطوال ما يجد فيها ظل شجرة تقيه حرارة الشمس حتى إذا ما رآه يدخل داره ينتظر لحظات ثم يقرع الباب و كان في بعض الأحيان يحمل معه تمرا يهديه لجارية الفقيه لتمكّنه من الدخول على العالم.
و تعلق بالعلم تعلقا جادا فلزم عبد الرحمن بن هرمز و هو عالم من أجلّ علماء المدينة سبع سنوات لم يختلف فيها إلى غيره و كان يأخذ عنه المسائل الاجتهادية و قضايا الفقه و كان ابن هرمز مشهورا بقوة عارضته و دلائل الحق و يقول الإمام مالك عن نفسه أنه اتخذ لنفسه ما يشبه الطرّاحة الصغيرة، كان يأخذها معه فيجلس على صخرة أمام دار ابن هرمز و لم يكن يطرق بابه خوفا من أن يزعجه منتظرا خروج الإمام يعني ابن هرمز إلى الصلاة، فإذا خرج اتبعه و ذهب معه إلى المسجد.
ثم بدأ يأخذ عن نافع مولى (أي خادم) عبد اللّه بن عمر و كان من أحفظ علماء الحديث، كان حافظا و كان فقيها، أخذ الفقه و الحديث عن ابن عمر... ثم أخذ مالك أيضا عن الزهري و كان يلازمه كما لازم ابن هرمز و كان يسير معه من بيته إلى المسجد.
يقول الإمام مالك عن نفسه: كنت أخرج من وقت الظهيرة و ليس للأشياء ظل أتيمم درسا عند الزهري... و أخذ مالك الحديث عن الزهري مع قلة من إخوانه و يقال إن الزهري حدّثه في يوم من الأيام نيفا و أربعين حديثا له و لبعض زملائه، فلما عادوا في اليوم التالي قال الزهري: استحضرتم كتابا لتسجلوا ما أملي عليكم خيفة أن تنسوها؟، فقال قائل منهم ينبؤك عنها هذا الشاب الأشقر (أي الإمام مالك)، فسأله الزهري فتلا
ص: 147
عليه منها أربعين حديثا مع أسانيدها فقال الزهري: و اللّه ما ظننت أنّ أحدا يأتيها غيري (أي لا يحفظها).
و كان الإمام مالك إذا جلس لتلقي الحديث يسجل الحديث و هو جالس و لما سئل هل أخذت من عمرو بن دينار قال لم آخذ و ذلك لأني ذهبت إلى مجلسه فرأيته يحدّث و الناس حوله واقفين يكتبون عنه فلم أحب أن أكتب حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و أنا قائم لأنه كان يرى في هذا منقصة لحديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم... و تلقى الإمام مالك الفقه عن شيخه الكبير ربيعة الذي كان يلقّب "بربيعة الرأي" مع أنه كان من علماء أهل المدينة.
تفوّقت مكانة مالك العلمية على كل أرباب الحلقات في المسجد النبوي و عرف له الجميع هذه المكانة سواء كانوا من شيوخه السابقين أو من العلماء الذين عاصروه. جلس الإمام مالك للفتيا و كان عمره 25 سنة تقريبا على أصحّ الروايات و يقول عن نفسه: لم أجلس للفتيا حتى أمرني بالفتيا قرابة سبعين عالما، و أصبح رأيه في أية قضية تعرض أو فتواه فيها مقدّما على غيره مما جعل أصحاب الفتيا يتوقفون حتى قيل من غير حرج: (لا يفتى و مالك في المدينة!)...
و مما اشتهر به مالك أنه كان يقول لجاريته إذا جاء الناس إلى بابه ليسمعوا العلم أن تسألهم: هل جئتم لسماع الحديث أم ابتغاء المسائل؟ فإن قالوا جئنا للمسائل خرج إليهم و سمع منهم و أفتاهم و إن قالوا جئنا لنسمع الحديث قالت الجارية تريثوا قليلا فتدخلهم إلى الدار و يدخل مالك فيغتسل و يلبس أحسن ثيابه و تحديدا البياض من الثياب و يتطيّب ثم يدخل عليهم ليروي حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم. و كان يبكي إذا قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.
عاش مالك في المدينة المنورة و لم يبارحها (بخلاف كثير من العلماء) إلى أي جهة أخرى ليأخذ العلم من العلماء إذ إن المدينة هي دار هجرة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و كان العلماء هم الذين يرحلون إليها من جميع أنحاء العالم إما للحج أو الزيارة أو مجالسة علماء المدينة.
فكان أطيب الطّيب عند مالك ما يفوح و ينتشر من قبر المصطفى صلوات اللّه و سلامه عليه و أرقّ النسيم ما يهبّ حاملا ذكريات الماضي و ذكريات الوحي و النبوة و الجهاد و البطولة.
و بالرغم من أنه لم يغادر المدينة إلا أنه اطلع على الظروف و البيئات المختلفة بسبب
ص: 148
احتكاكه بالعلماء من جميع أنحاء العالم الذين كانوا إذا قدموا المدينة زاروه و إن لم يزوروه قدم هو إليهم، يلقاهم و يتناقش معهم، لذلك اتسعت آفاقه الفكرية و مداركه الاجتهادية و أقام للمصلحة التي هي محور الشريعة الإسلامية ميزانا دقيقا... و اختار دار الصحابي الجليل عبد اللّه بن مسعود سكنا له و كأنه يريد أن يشعر على الدوام بنبضات عصر النبوة تخفق مع خفقات قلبه و تتردد مع أنفاسه و يعيش يومه كله في عبق كريم و هذا التواصل الوجداني بين مالك و بين حبيبه المصطفى صلّى اللّه عليه و سلّم جعله في عقله و حسه يتّخذ من حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أساسا و محورا لعلمه و فقهه.
كان مالك في صدر حياته فقيرا و كان والده صانعا، و تفرّغ مالك للعلم فأورثه ذلك شيئا من الفقر و لم تكن يومها تنفق الدولة على طلبة العلم (ثم لما كان ذلك ارتاح العلماء و ازدهر العلم كثيرا)، لكنه بعد ذلك استغنى إذ كان له أخ يعمل بالتجارة فكان مالك إذا تجمع له مال يعطيه لأخيه ليتاجر له به ثم فتح اللّه عليه و استغنى فكان كثير العطاء لطلبة العلم. و كان يحب أن يظهر أثر نعمة اللّه عز و جل عليه في ملبسه و في مطعمه و مسكنه و صار متجملا في مظهره و كان الذين يغشون داره من الضيوف يجدون في أطرافها المخدات للاتكاء و الجلوس و يجدون كل أسباب الراحة و النظافة و المظهر الأنيق في داره و لم يكن هذا عن حب للمال بل كان ينفق معظم ماله في طرق الخير تماما كأبي حنيفة و الشافعي رضي اللّه تعالى عنهم أجمعين.
و يروى عنه في الأثر المشهور أنه قال: "ما أحب لامرئ أنعم اللّه عليه أن يري أثر نعمته عليه و خاصة أهل العلم".
و يروي الشافعي أنه في إحدى زياراته لبيت الإمام مالك رأى على الباب هدايا من خيل و بغال أعجبته فقال لمالك بعد أن دخل عليه: ما أحسن هذه الأفراس و البغال. فرد عليه مالك يقول: هي لك فخذها جميعا. قال الشافعي: أ لا تبقي لك منها دابة تركبها؟ فقال مالك: إني لأستحي من اللّه تعالى أن أطأ تربة فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بحافر دابة!. إلى هذا الحد من الحساسية المفرطة في الحب و التقديس بلغ العشق في قلب مالك للمدينة التي تضم أطهر الأجساد و أعظم خلق اللّه و أكرم الناس عليه أفضل الصلاة و أزكى السلام.
اشتهر عن الإمام مالك كثرة ترداده لكلمة "لا أدري" و ما كان عليه شيء أسهل من هذه الكلمة و لم يكن يشعر أن في هذا منقصة له بل كان إذا
ص: 149
سئل عن مسألة قال للسائل أنظرني حتى أفكر، و ربما يأتيه في الغد فيجيبه و ربما يقول له أيضا أنظرني. و يروى أنّ رجلا جاءه من أقصى المغرب فسأله عن موضوع و قال:
جئتك من مسيرة ستة أشهر من المغرب و حمّلت هذا السؤال، فقال له مالك: قل لمن أرسلك إنه لا يدري. قال فمن الذي يعلم؟ قال: الذي علّمه اللّه و لم يجبه و لكن قال له إن شئت عد غدا ريثما أفكر بها و أقرأ ما يمكن أن يتصل بها، حتى إذا جاء الغد جاءه الرجل فقال له مالك: فكرت بها مليا و لا أدري ما الجواب! و لقد عوتب مالك في ذلك فبكى و قال: إني أخاف أن يكون لي في المسائل يوم و أي يوم. و قال لهؤلاء المنتقدين:
من أحبّ أن يجيب عن مسألة فليعرض على نفسه الجنة و النار و ليتصور موقفه من اللّه غدا. فلننظر جميعا إلى هذا الرجل الذي هان عليه أن يظهر جهله و هو العالم الذي يوثق بعلمه أين نحن اليوم من موقفه هذا حيث الواحد منا إذا ما سئل اعتصر دماغه و ذهنه و قد يصل به الأمر إلى أن يلفق جوابا خوفا من أن يقول عنه الناس إنه جاهل!!! و هذا الأمر و للأسف الشديد كثيرا ما يحدث مع علمائنا اليوم الذين يسارعون بالفتوى، الأمر الذي يوضح لنا الفرق بين هذا العصر و ذلك العصر و لعل هذه المقارنة توضح لنا أيضا الفرق بين قرب أولئك الأئمة من رحمة اللّه تعالى و بعدنا نحن عنها، أضف إلى ذلك كله سمو أهدافهم و مقاصدهم حيث كان همّهم الأكبر هو مرضاة اللّه سبحانه و تعالى نسأل اللّه عز و جل العفو و العافية و أن يرزقنا الإخلاص و أن نحيا محياهم و أن نحشر معهم إن شاء اللّه تعالى.
و جاء في ترتيب المدارك للقاضي عياض: "قال مصعب بن عبد اللّه: كان مالك إذا ذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم تغيّر لونه و انحنى حتى يصعب ذلك على جلسائه، فقيل له يوما في ذلك، فقال: لو رأيتم لما أنكرتم عليّ ما ترون، كنت آتي محمد بن المنكدر و كان سيد القرّاء (أي سيد العلماء) لا نكاد نسأله عن حديث إلا بكى حتى نرحمه. و لقد كنت آتي جعفر بن محمد (أي جعفر الصادق) و كان كثير المزاح و التبسم، فإذا ذكر عنده النبي صلّى اللّه عليه و سلّم اخضرّ و اصفرّ و كنت كلما أجد في قلبي قسوة آتي محمد بن المنكدر فأنظر إليه نظرة فأتّعظ بنفسي أياما.
عاش مالك في الخلافة الأموية و العباسية في عصر تسوده الفتن و كان موقفه كموقف الحسن البصري و سعيد بن
ص: 150
المسيب الذين كانا قبله و هو موقف استنكار الفتن و الدعوة إلى الابتعاد عنها و كان إذا سئل عن تلك الفتن نصح بالابتعاد عنها و بعدم الولوج فيها. و قد صح أن الحسن البصري كان ينهى عن الدعاء على أمثال الحجاج و غيره و كان ينهى عن مد اللسان في قول السوء في حقهم على الرغم من أنه لو شققنا صدر الحسن البصري لرأيناه يستنكر الكثير من أعمالهم. و قد سمع مرة الحسن البصري رجلا يسب الحجاج فقال له: لا تفعل يرحمك اللّه إنكم من أنفسكم أوتيتم، إننا نخاف إن عزل الحجاج أو مات أن تليكم القردة و الخنازير. و روى البصري عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قوله المشهور: "عمّالكم عملكم و كما تكونوا يولّى عليكم" ،عمالكم أي رؤساؤكم هم أعمالكم أي انعكاس لأعمالكم... و كان الإمام مالك ممن يغشى مجالس الخلفاء و لم يكن يبتعد عنها و ذلك للنصح و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الوصية بالخير فما كان يوفر جهدا ليوصي الخليفة أو ينصحه عند ما تسنح الفرصة و قد عوتب في ذلك فقال: لو لا أني أتيتهم ما رأيت للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم في هذه المدينة سنّة معمول بها، فكان إذا أتاهم نصحهم لكي يحيوا سنة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و خاصة في المدينة المنورة و كانوا يستجيبون لنصيحته.
لكنه كان إلى جانب ذلك يحترم نفسه في مجالس الخليفة و الولاة و كان يفرض سلطانه عليهم. و كان إلى جانب كونه مهابا كان يحافظ على عزة نفسه في هذه المجالس على خلاف عادته في المساجد حيث كان إذا دخل المسجد يقف في آخر الصف و لا يأبى أن يتقدم و إن أصرّوا على تقديمه و يجلس حيث ينتهي به المجلس و كان كثير التواضع و لكن إذا غشي مجلس الخلفاء أو الولاة فرض عزته على المجلس كله.
جاء المهدي مرة إلى المدينة و اجتمع إليه الناس و العلماء و ذهب مالك ليزوره فلما وصل وجد المجلس مزدحما و التفت الناس ينظرون أين سيجلس مالك يا ترى و ما سيكون موقفه. فقال الإمام مالك للمهدي: يا أمير المؤمنين أين يجلس شيخك مالك؟ فتضامّ المهدي و صغّر من جلسته و قال: هاهنا يا أبا عبد اللّه إلى جانبي، فوسع له و دخل مالك و تعالى و دينه أن يهان في شخصه، الإمام مالك كان سمته سمة علم و إسلام و سمة المحافظة على الشرع لذا ينبغي لهذه السمة أن تكون هي المهيمنة و أن تكون هي العزيزة في كل مكان، فاللّه تبارك و تعالى بالقدر الذي نهانا عن الكبر أمرنا أن نعتز بالإسلام و بالقدر الذي أمرنا بالتواضع نهانا في الوقت نفسه عن الذل و جاء في دعاء النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:
ص: 151
(اللهم إني أعوذ بك من الذل إلا إليك)، و أي إنسان صاحب ذوق دقيق يستطيع أن يفرّق بين التواضع و الذل المرفوض... و لما زار الرشيد المدينة و أراد لقاء مالك و كان قد سمع عن علمه الكثير، طلب أن يأتيه حيث نزل فقال مالك لرسول الخليفة: قل له إنّ طالب العلم يسعى إليه و العلم لا يسعى إلى أحد! فجاءه الخليفة زائرا معتذرا...
و لقد روى الإمام مالك ذات مرة حديث "ليس على مستكره يمين" و شرحه لتلامذته في المسجد و راح يبيّن للناس أنّ من طلّق امرأته مكرها لا يقع منه طلاق...
و لقد كان لهذا الحديث أثر كبير و حافز قوي لثورة أحد أحفاد الحسين بن علي و هو النفس الزكية على السلطة العباسية و كان الخليفة وقتها المنصور. كان محمد يرى بأن أبا جعفر قد أخذ البيعة لنفسه غصبا و إكراها فليس له في رقاب الناس يمين و لا عهد، و كان محمد يستند إلى فتوى مالك في أنه ليس على مستكره يمين. أحسّ والي المدينة بخطورة الموقف فأرسل إلى مالك أن يكفّ عن الكلام في هذا الحديث و أن يكتمه على الناس. أبى مالك أن يكتم الحديث أو أن يتراجع عن فتواه فضرب أسواطا على مرأى الناس و جذب جذبا غليظا من يديه و جرّ منها حتى انخلع أحد كتفيه و حمل إلى داره و هو بين الحياة و الموت و ألزموه الإقامة في الدار إقامة جبرية في عزلة و حبس. فزع الناس في المدينة و التجئوا إلى اللّه تعالى يشكون الظلم و الظالمين و اشتد سخطهم على الوالي و على الخليفة و غضب العلماء و الفقهاء في كل الأمصار و الأقطار. و رأى المنصور أنه لا بد من تصرّف يمتص غضب الناس يزيح التهمة عن نفسه فأمر والي المدينة بإطلاق مالك ثم جاء المنصور بنفسه إلى الحجاز في موسم الحج و التقى بالإمام مالك و اعتذر إليه و قال: أنا ما أمرت بالذي كان و لا علمته و إنه لا يزال أهل الحرمين بخير ما كنت بين أظهرهم.
و أمر بإحضار الوالي مهانا و بضربه و حبسه إلا أنّ مالكا عفا عنه.
أجمع المؤرخون و المترجمون أن الإمام مالك بلغ الذروة في معرفة السنّة و الحديث و الفقه و قلما نال عالم مثلما نال مالك من المدح و أقرّ له علماء الرأي في العراق و علماء الحديث في الحجاز بأنه إمام في كل منهما (أي الحديث و الفقه). قال عنه سفيان بن عيينة و كان معاصرا له: كان لا يبلغ من الحديث إلا صحيحا و لا يحدّث إلا عن ثقة للناس و ما أدري المدينة إلا ستخرب بعد موت مالك... قال عنه الشافعي: إذا جاءك الأثر عن مالك فشدّ به (أي تمسّك به) و هو
ص: 152
صحيح. و يقول إذا ذكر العلماء فمالك هو النجم فيهم.
طلب المنصور من مالك أن يضع كتابا يتضمّن أحاديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و أقضية الصحابة و فتاوى ليكون قانونا تطبّقه الدولة في كل أقطارها و ديارها.
تردد مالك ثم ألحّ عليه المنصور فقبل. و راح مالك يعمل عملا متقنا جدا خلال سنين عدة راح خلالها طائفة من العلماء يعملون و يحاولون أن ينافسوا مالكا طمعا في كسب رضا الخليفة. و كان أصحاب مالك يأتونه و يقولون له بأنّ تأخره في الإنجاز قد أتاح للآخرين أن يسبقوه فقال مالك: "لا يرتفع إلا ما أريد به وجه اللّه تعالى" ،و لقد كتب كثير من معاصريه كتبا كالموطإ و قدّمت إلى الخليفة، و كلما سئل مالك أن يستعجل كتابه فقد سبقه الناس كان يقول: "ما كان للّه يبقى" ،حقيقة هكذا كان. و ظلّ الإمام مالك عاكفا على عمله الضخم سنوات توفي خلالها المنصور حتى كان تمام العمل في زمن هارون الرشيد الذي تقبّله بقبول حسن و تقدير عظيم و أراد أن يعلّق الموطأ في الكعبة و لكن مالكا أبى ذلك. و يعتبر اليوم كتاب الموطأ من أهم كتب السنّة و يكاد لا تخلو منه مكتبة إسلامية، أما تلك الكتب التي كتبها منافسوه فلم يبق لها أثر و كما يقول العلماء لو لا هذه الحادثة مع الإمام مالك لما علمنا أصلا أنه ألّفت هكذا كتب، فتأمل يرحمنا اللّه و إياك و لنتّعظ من هذا و لنتيقن إن كل عمل لا يبتغى به وجه اللّه تعالى لا يبقى، كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ ، [القصص: 88]، قيل في تفسير هذه الآية، كل شيء هالك إلا ما أبتغي به وجه اللّه تعالى.
الإمام مالك شأنه كشأن الإمام أبي حنيفة لم يدوّن منهجا و لكن هذه القواعد أخذت و جمّعت من خلال عباراته في كتبه و في مقدمة ذلك الموطأ فمن خلال كلامه نجد أنه يأخذ بالحديث المرسل و هو الحديث الذي رواه التابعي رأسا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إن كان هذا التابعي ثقة.
أولا: إذا وجد في القرآن نصا بعبارة صريحة قاطعة واضحة على مبدأ أو حكم ثم وجد حديثا مرويا عن طريق الآحاد يعارض هذا الخبر فإنّ مالك يأخذ بصريح القرآن و يدع الآحاد... قال مالك و هو يفسر قوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)، (الأنعام:
ص: 153
أولا: إذا وجد في القرآن نصا بعبارة صريحة قاطعة واضحة على مبدأ أو حكم ثم وجد حديثا مرويا عن طريق الآحاد يعارض هذا الخبر فإنّ مالك يأخذ بصريح القرآن و يدع الآحاد... قال مالك و هو يفسر قوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)، (الأنعام:
145).. هذا نص صريح و واضح بعدم تحريم غير ما ذكر. و في المقابل روي في خبر الآحاد الصحيح: عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يرويه أبو داود أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع و كل ذي مخلب من الطيور. فرجّح مالك النص على الآحاد فيجوز عنده أكل كل ذي ناب من السباع و ذي مخلب من الطيور و إن كان جمهور الفقهاء على الحرمة.
ملاحظة: الإمام مالك كغيره من العلماء يأخذ بالحديث الآحاد إن كان صحيحا و هو عنده حجة و لكن إذا تعارض مع نص من كتاب اللّه تعالى أو مع حديث متواتر و لم يمكن الجمع بينهما، قدّم النص من كتاب اللّه عز و جل أو الحديث المتواتر و لم يجعل حديث الآحاد يخصص النص القرآني أو الحديث المتواتر كما فعل غيره من الفقهاء كالشافعي مثلا.
ثانيا: مالك يعيش في المدينة و بصمات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم واضحة في هذه البلاد فعادات أهل المدينة و ما يتفق عليه علماء أهل المدينة في عصره و العصر الذي قبله كلها من مخلفات النبوة لأن العهد ما بعد بينه و بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، بناء على ذلك إذا وجد حديث آحاد مرويا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بالسند و وجد عمل أهل المدينة على خلاف ذلك الحديث يرجّح مالك عمل أهل المدينة على ذلك الحديث، لا لأنه يرفض الحديث و لكن لأنه يعتقد أن ما أجمع عليه علماء المدينة ما أخذوه من عند أنفسهم و إنما هي وراثة ورثوها عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم. يقول الإمام مالك في رسالة للّيث بن سعد: إنّ أهل المدينة هم من الذين قال اللّه تعالى عنهم: وَ السّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ ، [التوبة: 100]، و أوضح اللّه تعالى أنّ هؤلاء السابقون من المهاجرين و الأنصار الذين استقر بهم المقام في المدينة المنورة ينبغي أن يتّبعوا و أن نهتدي بهديهم".
مثال ذلك، الحديث الصحيح الآتي:" المتبايعان بالخيار ما لم يتفرّقا ".الشافعي عنده التفرق هو تفرق الأبدان و عند الحنفية هو تفرق موضوع الكلام و لكن مالك يقول عمل أهل المدينة على خلاف هذا، فعلماء المدينة السبعة و عامة الناس يقولون إن العقد إذا تمّ بالإيجاب و القبول كان العقد لازما.
ص: 154
مثال آخر، الحديث المشهور:" البيّنة على المدّعي و اليمين على من أنكر ".قال مالك نأخذ بهذا الحديث و لكن يخصّصه و يفسّره عمل أهل المدينة و هو أنّ هذا الحديث يطبّق بشرط أن ينظر القاضي فيجد أنّ بين المدّعي و المدّعى عليه علاقة ما إمّا جوار أو قرابة أو شركة... فإن لم يجد القاضي مثل هذه الصلة فله أن لا يسمع الدعوى و ذلك لكي لا يتلاعب السفهاء بالوجهاء فيأخذوا منهم أموالهم خشية تشويه سمعتهم، مثال ذلك أن يدّعي سفيه على أحد الوجهاء دعوى باطلة، فلو أخذ بها القاضي لاضطر ذلك الوجيه إلى الذهاب إلى القاضي و عندها قد يدفع الوجيه شيئا من المال للسفيه الذي ادعى عليه تلك الدعوى الباطلة و ذلك لكي لا تشوّه سمعته بالامتثال بين يدي القاضي.
ثالثا: إذا ثبت قانون شرعي و قاعدة شرعية عامة مثل:" وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى "، يقول الإمام مالك: إذا وجدنا بين هذه القاعدة الضخمة الكبيرة و بين جزئيات الأدلة تناقضا، نأخذ بالقاعدة و نترك هذه الجزئيات.
مثال ذلك: الحديث الصحيح عن عائشة رضي اللّه عنها: "إنّ الميّت ليعذّب ببكاء أهله عليه" .قال مالك هذا يتناقض مع القاعدة التي مرّت معنا سابقا (و لا تزر وازرة وزر أخرى)، و بناء على ذلك فلا ذنب للميت إن بكى أهله عليه فلم يأخذ بالحديث.
و لكن الشافعي مثلا و هو تلميذ مالك أخذ بالحديث و قال إنّ عذاب الميت في قبره هنا هو عذاب نفسي و ليس عقابا من اللّه عز و جل و إنما هو عقاب خاص يأتي نتيجة لتصرفات أهله، فهو يتألم من فعل أولاده و يتمنى لهم الصلاح لأن اللّه تعالى يطلعه على أفعالهم التي قد لا تخلو من معاصي و أمور مختلفة تكون سببا لغضب اللّه تعالى عليهم.
مثال آخر: الإمام مالك وحده يفتي بعدم نجاسة لعاب الكلب و كذا رشحه و لكن الحديث الصحيح يقول: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه و ليغسله سبعا إحداهن بالتراب" .قال مالك من المتفق عليه أنه يجوز استعمال الكلب في الصيد و الكلب إذا اصطاد لا بد أن يمسك الطريدة بفمه و يصيبه من لعابه لذلك أخذ بالقاعدة العامة التي تفيد جواز صيد الكلب، ثم قال عن هذا الحديث انه مضطرب و هذا دليل ضعف فقد ورد الحديث بعدة روايات (أولهن - أخراهن - إحداهن بالتراب).
رابعا: الأخذ بالاستحسان و هو عبارة عن جزئية صغيرة اقتضتها مصلحة دينية ثابتة في كتاب اللّه و إن عارضت هذه الجزئية مبدأ كليا و يؤخذ به استثناء.
ص: 155
مثال ذلك قاعدة أن الأخ الميت إذا مات و ترك أخا شقيقا أي لأب و أم هذا يسمّى عصبة و يأخذ كل ما تبقى من المال مثلا إذا كان الميت ليس له إلا أخ يأخذ كل الأموال و إذا مات و ليس له إلا أخ أو أخ شقيق، الأم تأخذ السدس و الأخ أو الأخوة الأشقاء يأخذون الباقي. إن مات رجل و ترك زوجا و أمّا و إخوة لأم و أخا شقيقا، الزوج يأخذ النصف و الأم تأخذ السدس و الأخوة لأم يأخذون من الثلث لم يبقى للأخ الشقيق شيء إن طبّقنا هذه القاعدة.
هنا الإمام مالك و غيره عادوا فوجدوا أنّ الأمر قد رفع إلى سيدنا عمر رضي اللّه عنه فحكم أنه ليس للأخوة الأشقاء شيء فقال الأخوة الأشقاء هب أننا إخوة لأم فقط أ لا يكون لنا؟ قال: نعم، ثم جعل الإخوة للأم و الأخ الشقيق يشتركون معا في الباقي.
القاعدة على خلاف ذلك و لكن هذه الجزئية هي لمصلحة الشريعة لأن الشريعة تقتضي هذا الاستثناء.
فائدة: الحقيقة أنه ليس بين الأئمة خلاف في الأصول الشرعية فإنهم متفقون على حوالي سبعين بالمائة منها و إنما هناك خلاف في العناوين يتعلق بالفروع الجزئية و يشكّل حوالي ثلاثين بالمائة فقط و ذلك رحمة بالأمة و توسيعا عليها، فالحمد للّه أولا و آخرا الذي وفقهم أن يجتمعوا على ما اجتمعوا عليه فإن اجتماعهم هذا خير للأمّة و الحمد للّه الذي ألهمهم أن يختلفوا فيما اختلفوا فيه فإن اختلافهم أيضا رحمة للأمة.
خامسا: مبدأ سد الذرائع: و هذا المبدأ مأخوذ من قوله تعالى: وَ لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّوا اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108)، (الأنعام: 108).. "وَ لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّوا اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ "، الأئمة كلهم يأخذون بهذا المبدأ و لكنهم يختلفون بالمقدار الذي ينبغي أن يأخذوا به، مثال ذلك سب المؤمن لدين كافر أو لمن يتخذه إلها بزعمه أصله مباح و لكن إذا كان هذا العمل المباح ينتج عنه عمل محرّم فيسب الكافر اللّه تعالى عندها يصبح هذا العمل المباح في أصله محرما لا لذاته و لكن لما قد ينتج عنه و هذا ما يسمّى بمبدإ سد الذرائع.
و مثال ذلك أيضا، إطالة السهر مباح أيضا و لكن إن كان هذا سيمنعك عن أن تستيقظ لصلاة الصبح تحوّل المباح إلى محرّم و هذا باتفاق الأئمة.
ص: 156
مثال آخر، بيع السلاح في أصله مباح و لكن إذا علمت أنّ هذا يأخذ منك سلاحا ليؤذي به الآخرين أو كان وقت الفتنة فلا يجوز.
سادسا: المصالح المرسلة: رائدها في الشريعة الإمام مالك.
جاءت الشريعة لتحقيق خمسة أنواع من المصالح و هي على هذا الترتيب: الدين، الحياة، العقل، النسل أو العرض و المال. كل الأئمة الأربعة أخذوا بها.
المصالح المرسلة هي أن يرى العالم الفقيه أمامه مصلحة حديثة العهد طارئة، لم تكن موجودة من قبل تقتضي حكما شرعيا و لكن هذا الفقيه لا يجد عليه (أي على الحكم الشرعي) دليلا من القرآن أو السنّة و لا يجد دليلا على حكم يشبهه للقياس لا سلبا و لا إيجابا، فما العمل؟ يقول مالك: أنا أعود بهذه المسألة في الحكم إلى جنس هذه المصلحة التي يحققها الحكم، ننظر هل هي واحدة من هذه المصالح الخمس التي جاءت الشريعة بحمايتها و رعايتها؟ فإن كانت واحدة من هذه المصالح و كان الأخذ بها لا يفوّت مصلحة أهمّ منها يقول مالك أنا أجتهد على وفق هذه المصلحة. و هذا باب عظيم في الاجتهاد و سنورد في ما يلي بعض الأمثلة و النماذج لتوضيح الصورة:
1 - منع عمر بن عبد العزيز الناس أن يشتروا أراض في منى و أن يبنوا عليها بيوتا لهم لأن ذلك سيضيق على الحجّاج مع أنه لا يوجد نص في ذلك و لكن من باب المصالح المرسلة أصدر عمر بن عبد العزيز أمره هذا (و هو ما يسميه الحنفية مقاصد الشريعة).
2 - قال الإمام مالك لو أنّ صبيانا يلعبون و يتشاجرون و يمزّق أحدهم ثوب الآخر أو يتلف متاعا (يكسر زجاج منزل أو سيارة مثلا) فالوالد (أي أبو الولد الذي سبب الضرر) يضمن (أي يدفع تعويضا عن الضرر الحاصل) و إن لم يكن الولد بالغا. و لكن هنا الشهود كلهم أولاد و القاعدة أنّ الشهادة لا تصحّ إلا من بالغ كبير. ما ذا نفعل إذا تركنا القضية هكذا؟ طبعا ستقع مفاسد كثيرة. المصلحة المرسلة هنا التي تتوخاها الشريعة هي أن نقبل شهادة الصبيان بعضهم على بعض في أمور إجرائية من هذا القبيل.
3 - تدوين قواعد اللغة العربية و المجامع الفقهية و المؤتمرات كلها أشياء حسنة تخدم مصلحة الدين...
سابعا: العرف: إنّ العرف في الشرع له اعتبار فيما لم يرد فيه نص أو كان الأمر غامضا، و الأئمة كلهم متفقون على ذلك. يقسم مالك العرف إلى قسمين: عرف قولي عرف فعلي أو سلوكي (فقط في العقود).
ص: 157
مثال على العرف القولي: كلمة اللحم، فلو أنّ رجلا أقسم أن لا يأكل لحما، ننظر ما ذا تعني كلمة اللحم في عرفهم أحيانا تطلق و يقصد بها لحم الضأن (الخروف) و في بعض الأعراف تطلق و يقصد بها لحم البقر و في بعض الأعراف يقصد بها لحم السمك.
فإذا يقع القسم على ما هو معروف عندهم إلا إن قصد كل اللحم ساعتئذ تكون النية مقدّمة على دلالة العرف.
مثال آخر على العرف القولي: لو نذر فلان أن يتصدّق بكل ما في جيبه من دراهم و كانت الدراهم في عرفهم تطلق على عملة البلاد فلا يجب عليه أن ينفق من العملات الأخرى إن وجدت في جيبه إلا إن نوى غير ذلك.
أما العرف السلوكي فهو مثلا أن يعقد فلان على فلانة دون أن يتفقا على موعد لدفع المهر و كان العرف أن يدفع قبل الدخول ساعتئذ يكون هذا هو الحكم.
و لو اشترى أحدهم سيارة مثلا و لم يشترط أن تكون مكيّفة و البائع لم يشترط ذلك فاختلف المشتري و البائع، ننظر إن كان العرف أن تكون غير مكيفة كما في بلادنا فالحق مع البائع أما إن كان العرف أن تكون مكيفة كما في بلاد الخليج فيكون الحق مع المشتري.
يقول الإمام مالك إن النصوص القرآنية و نصوص السنّة إنما تفسّر على ضوء العرف القولي في عصر النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، و هكذا فالعرف القولي مفتاح هام و خطير جدا لفهم النصوص.
و نضرب على ذلك مثلا ما جاء في الصحيح أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: إن زكاة الفطر هي صاع من غالب قوت البلد. كلمة صاع عبارة عن مكيال معيّن هذا المكيال يتغير من بلد إلى بلد و من عصر إلى عصر، فالصّاع في العراق كان غير الصاع في مصر غير الصاع في المدينة... فإذا نحن نفسر ذلك بما كان معروفا عند ما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم هذا الحديث في المدينة.
مثال آخر كلمة النبيذ كانت تعني أو يقصد منها شراب مكوّن من الماء و التمر و لا يقصد بها النبيذ المسكر المعروف في عصرنا و قد شرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم النبيذ و هذا كان سبب الإشكال الذي وقع فيه الكثير من المستشرقين عند ما قرءوا كتب التاريخ فوجدوا أن هارون الرشيد كان يشرب النبيذ و ظنوه من السكارى.
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:" إنّ من أشدّ الناس عذابا يوم القيامة المصوّرون "،و في
ص: 158
حديث آخر" كلّف أن ينفخ فيه الروح و ما هو بنافخ "،هنا نفسر المصوّر حسب العرف الدارج في زمن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و بهذا لا يشمل الحديث الصور الفوتوغرافية و المرايا و انعكاس الضوء فيكون حكم هذه الأشياء الجواز علما أن الإنسان له أن يبتعد عن هذه الأمور من باب الورع و لكن هذا لا ينفي جوازها و عدم حرمتها فالورع أمر و الجائز أمر آخر. و بالطبع فالشيء المصوّر له حكم آخر إن كان صورا لفتيات عاريات لا خلاف في أنه حرام قطعا.
أما الدليل الشرعي للأخذ بالعرف أن اللّه تعالى أمرنا بكثير من الآيات أن نحتكم إلى العرف بقوله تعالى: وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199)، أي اجعل العرف أساسا... قالت هند زوجة أبي سفيان يوم فتح مكة و كانت تبايع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم على أن لا تسرق و لا تزني، قالت له: لقد كنت آخذ من مال أبي سفيان الهنة تلو الهنة (أي الشيء القليل دون علمه)، ما ذا أصنع؟ فقال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عن المستقبل:" خذي ما يكفيك و أولادك بالمعروف".
مثال آخر: قال اللّه تعالى * وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ ، قال الإمام مالك إن كانت المرأة من الأغنياء أو كانت شريفة (العادة عندهم أن النساء الأغنياء لا يرضعن) ساعتئذ لا يجب عليها الإرضاع و لكن هو حق لها، أما إن كانت غير ذلك فهو واجب عليها، لأن ذلك لم يأت بصيغة الأمر الجازم كقوله تعالى: وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ ، [البقرة: 233].
و نأخذ بالعرف فقط في الأمور التي علّقها النص على العرف، أما ما ورد فيه نص فلا يغيّره العرف حتى لو ترك أهل بلد ما جميعا العمل بحكم شرعي، يبقي الحكم الشرعي كما هو. فلا نقول إنّ العرف السائد اليوم هو عدم ارتداء الحجاب مثلا خلافا للعرف قديما و أن الزمن قد تغير، فلو كان الأمر هكذا ما كان للشريعة الإسلامية معنى إذا كنا دائما نحتكم إلى العرف فقط دون النص.
شاع مذهب الإمام مالك في المغرب كثيرا مع أن مالكا لم يترك المدينة و ذلك لأن المدينة كانت تستقطب أناسا و علماء كثر أيام الحج و في غير أيام الحج... و من الأسباب التي ساهمت على انتشار مذهب الإمام مالك دون
ص: 159
سواه كمذهب الأوزاعي أو سفيان الثوري، تقييض اللّه سبحانه و تعالى لمالك تلاميذ كثر من مختلف الأصقاع فمن مصر كان الليث بن سعد و من المغرب و من العراق و من الشام و من اليمن، كلهم تتلمذوا على الإمام مالك و هم الذين قاموا بنشر مذهبه حتى وصلنا بالتواتر بحيث يستطيع الإنسان أن يجزم أنه عند ما يقرأ الموطأ أو المدونة برواية سحنون أو غيره من تلامذة مالك يستطيع أن يجزم أنه يتبع إماما راسخا في العلم يبرأ ذمته عند اللّه باتباعه و الحمد للّه. و هكذا انتشر مذهبه في المغرب و في مصر و في صعيد مصر و في اليمن و في أنحاء مختلفة متفرقة حتى أنّ فرنسا حين استعمرت أقسام كثيرة من المغرب مدة طويلة، اطّلع علماء القانون الفرنسيون على الفقه الإسلامي لا سيما مذهب الإمام مالك فأعجبوا به أيّما إعجاب، لذلك نرى أن القانون الفرنسي اليوم يعتمد اعتمادا كبيرا على فقه مالك. و بواسطة هذه النافذة انتشر الفقه الإسلامي في فرنسا و اطّلع عليه كثير من المستشرقين في أوروبا الذين بدءوا يتحركون لصدّ و محاربة هذا الغزو الإسلامي و ذلك بزرع الشكوك و الشبهات ليبعدوا الناس عن الإسلام، فادعوا قائلين: هؤلاء العرب أصحاب الأدمغة القانونية مثل مالك و أبو حنيفة جاءوا إلى الأعراف القبلية عند العرب فدوّنوها و جمعوها و نظّموها و فكروا بطريقة يخلدون هذه الأحكام بها و وجدوا أنّ الطريقة هي أن يبتدعوا لها إطارا دينيا فاخترعوا لها الأدلة من الأحاديث و النصوص القرآنية لكي يرسخوا بهذه الأدلة الأعراف العربية و القبلية التي كانت سائدة منذ العصر الجاهلي!!!. أ يعقل هذا الكلام؟ الإمام مالك الذي رحل إليه الناس و قال لا أدري و الذي كان لا يحدّث حتى يغتسل و يلبس البياض من الثياب و يبكي عند ما يذكر حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و الذي لم يطأ المدينة بحافر دابة قط أدبا مع النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، أ يعقل بعد كل هذا أن يقال عنه ما قيل؟. فهذا شاخت، و هو أحد المستشرقين أعداء الإسلام يقول إنّ مالكا اخترع الحديث! فكل واحد يقيس الناس على نفسه: الدجّالون أمثال كريمر و شاخت و غيرهم يجلسون في ما بينهم فيختلقون الأكاذيب ثم يظهرونها على أنها حقائق و يظنون أن غيرهم يفعل الشيء نفسه.
يقول الدكتور أمين المصري رحمه اللّه و هو أحد علماء الشام إنه عند ما ذهب إلى أوروبا لنيل شهادة الدكتوراة في الشريعة الإسلامية - هكذا حظنا أن ندرس الشريعة الإسلامية في أوروبا؟! -، فكّر في موضوع لأطروحته، فوجد كتاب شاخت عن الفقه الإسلامي من أهم الكتب في أوروبا (و كتاب شاخت هذا يعتمد و يؤكد هذه النظرية الباطلة
ص: 160
التي أشرنا إليها عن اختراع مالك للحديث)، فقرر أن تكون أطروحته دراسة هذا الكتاب. فجاءت دراسته موضحة بما لا مزيد عليه اللبس الحاصل كاشفة أكاذيبهم دافعة لكل أباطيلهم و افتراءاتهم بحيث يتبين القارئ المنصف حقد أولئك المستشرقين و تعنتهم الذي أخرجهم عن المنهج العلمي في البحث و دفعهم لاختلاق الأكاذيب... هذا ما دفع إدارة الجامعة إلى رفض أطروحته و ألزمته بالتحول عن هذا الموضوع، فلما أبى لم يستطع أن يحصل على شهادة الأستاذية و اضطر أن يأخذ شهادة في علم النفس و علم التربية و أن يترك دراسة الشريعة الإسلامية في الغرب.
وفاته: توفي الإمام مالك في أوائل عام 179 ه عن 87 سنة في الأرض التي لم يفارقها قط إلا للحج حبا و شوقا للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم. و قد بقي مفتيا للمدينة مدة ستين سنة. و كان من أبلغ الناس حزنا عليه و أشدهم بكاء تلميذه النجيب و وارث الإمامة من بعده محمد بن إدريس الشافعي. و لقد دفن مالك رضي اللّه عنه في البقيع.
و كان الإمام مالك قد ترك حضور الجنازات في آخر حياته و كان يأتي أصحابها فيعزيهم ثم ترك ذلك كله و لم يشهد الصلوات في المسجد و لا الجمعة أيضا، فعوتب في ذلك فقال: ليس كل الناس يقدر أن يتكلم بعذره. و علم بعد ذلك أنه كان قد اصيب بسلس البول و كان يخشى أن ينجّس مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و قال و هو يودّع الدنيا: لو لا أني في آخر يوم من الدنيا و أوله من الآخرة ما أخبرتكم، سلس بولي، فكرهت أن آتي مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم على غير طهارة استخفافا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و كرهت أن أذكر علّتي فأشكو ربي!!!.
- كلما كان رجل صادق لا يكذب في حديثه (أي مطلق حديث) إلا متّع بعقله و لم يصبه مع الهرم آفة و لا خرف.
- من لم يكن فيه خير لنفسه لم يكن فيه خير لغيره.
انتهينا من الحديث عن الإمام مالك و فقهه و السبب الذي جعل مذهبه ينتشر و يترسخ في كثير من أنحاء العالم الغربي و الإسلامي و عرفنا كيف أنّ اجتهاد الإمام مالك زاد في التقريب بين مذهبي أهل الحديث في الحجاز و أهل الرأي في العراق. و عرفنا لما ذا نمت مدرسة الحديث في الحجاز و لما ذا نمت مدرسة الحديث في العراق. تكلمنا أيضا عن دور الإمام أبي حنيفة و الإمام مالك في نسج شجون الصلة بين هذين المذهبين في الشكل
ص: 161
الذي ذكرناه و انتهينا إليه. و الآن ننتقل إلى الكلام عن الإمام الشافعي رحمه اللّه تعالى.
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عن علي و ابن عباس: "اللهم اهد قريشا فإنّ العالم منهم يسع طباق الأرض في آخرين" ،رواه أحمد و الترمذي و قال حسن...
و قال صلّى اللّه عليه و سلّم: "لا تسبّوا قريشا فإنّ عالمها يملأ الأرض علما" ،قال ابن حجر الهيثمي حديث حسن له طرق عديدة.
هو محمد بن إدريس الشافعي، ولد بالاتفاق عام 150 هجرية أي في العام الذي توفي فيه أبو حنيفة و قد غالى البعض فقال في اليوم نفسه الذي مات فيه أبو حنيفة. و الصحيح الذي ذهب إليه الجمهور أنه ولد في غزة في فلسطين، والده قرشي و يلتقي نسبه مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في عبد مناف جده صلّى اللّه عليه و سلّم. أما أمه فمن قبيلة أخرى، من قبيلة الأسد و هي قبيلة عربية أصيلة و لكنها ليست قرشية. ولد الشافعي في أسرة فقيرة جدا، و بعد ولادته بعامين توفي أبوه فقررت أمه العودة بابنها محمد إلى مكة لأنه قرشي حتى لا يضيع نسبه و لأن له سهم من ذوي القربى.
و لكن هذا المال الذي كانت تأخذه من سهم ذوي القربى كان قليلا و قليلا جدا، فعانت هي و وليدها محمد حرمانا و فقرا. و لكن الأم كانت قوية الشخصية راسخة الإيمان، على جانب من العلم و الحفظ، فأرادت لولدها أن يتعلم و يحفظ فدفعت به إلى مكان في مكة يقرئ الصبيان. و لكن الأم لم تجد أجر المعلم، فكان الشيخ المقرئ يهمل و يقصّر في تعليم الصبي المتعطّش إلى العلم و المعرفة و لكن كان المعلم إذا علّم صبيا شيئا، تلقّف الشافعي ذلك الكلام ثم إذا قام المعلم من مكانه ليقضي شأنه أخذ محمد مكانه و راح يعلم الصبيان تلك الأشياء. و رآه المعلم يفعل ذلك، فارتاحت نفسه و نظر إلى أنّ الشافعي يكفيه من أمر الصبيان أكثر من الأجرة التي يطمع بها منه فترك طلب الأجرة و استمرت هذه الحال مع الشافعي حتى حفظ القرآن و هو دون العاشرة من عمره و منهم من قال و هو ابن سبع سنين.
عرف الشافعي بشجو صوته في القراءة. قال ابن نصر: كنا إذا أردنا أن نبكي قال بعضنا لبعض: قوموا إلى هذا الفتى المطلبي يقرأ القرآن، فإذا أتيناه (يصلي في الحرم) استفتح القرآن حتى يتساقط الناس و يكثر عجيجهم بالبكاء من حسن صوته فإذا رأى
ص: 162
ذلك أمسك من القراءة.
كانت أمه قد وجّهته لإتقان القراءة و التلاوة و التفسير على شيوخ المسجد الحرام و لم يكد يبلغ الثالثة عشرة من عمره حتى أتقن ذلك إتقانا جيدا ملفتا للنظر. ثم اتجه الشافعي إلى علم الحديث فلزم حلقة سفيان بن عيينة و مسلم بن خالد الزنجي في المسجد الحرام. و كان الورق غالي الثمن باهظ التكاليف و الشافعي و أمه في قلة و فقر فكيف يفعل في التدوين؟ يروى أنه كان يلتقط العظام العريضة فيكتب عليها أو يذهب إلى الديوان فيجمع الأوراق المهملة التي يلقى بها فيستوهبها و يكتب على ظهرها. هذه المعاناة وفقته إلى أن يعتمد على الحفظ فتكوّنت لديه حافظة قوية ساعدته مستقبلا على حفظ كل ما يسمع و ما يلقى إليه من علم و معرفة.
و بذكائه و ملاحظته أدرك الشافعي أنّ لغة قريش قد دخلتها ألفاظ غريبة و لم يعد لسانها هو اللسان العربي السليم في فصاحته و بيانه، و علم أنه لا يستطيع أن يجيد علوم القرآن و الحديث و استخراج الأحكام من النصوص إلا إذا أتقن اللغة العربية الصحيحة.
و كان يحضر في المسجد الحرام دروس إمام مصر الليث بن سعد حين يأتي حاجا أو معتمرا و كان يوصي مستمعيه أن يتقنوا اللغة و أسرارها و أن يتعلموا خاصة كلام هذيل و هم قبيلة في البادية و أن يحفظوا أشعارهم لأن هذيل أفصح العرب. انطلق الشافعي إلى مضارب هذه القبيلة فأقام في ظهرانيهم و لازمهم عشرة أعوام عكف خلالها على دراسة اللغة و آدابها و حفظ الشعر (حفظ أكثر من عشرة آلاف بيت) كما تعلّم الرماية و الفروسية و برع فيهما. و روى الشافعي عن نفسه فقال: كانت همّتي في شيئين، في الرمي و العلم فصرت في الرمي بحيث أصيب عشرة من عشرة ".و سكت عن موضوع العلم تواضعا علما أنه في العلم أكثر من ذلك. عاد إلى مكة و هو يحمل ثروة هائلة من شعر و أدب العرب حتى قال الأصمعي - راوية العرب المشهور -" صحّحت أشعار الهذليين على فتى من قريش يقال له محمد بن إدريس ".و أصبح الشافعي حجة عصره في اللغة. و عاد إلى مكة ليتعلّم عند علمائها من أتباع عبد اللّه بن عباس و جعفر الصادق.
و كان الإمام سفيان بن عيينة إذا جاءه شيء من التفسير أو الفتيا التفت إلى الشافعي فقال: سلوا هذا الغلام.
و كان الشافعي يوما يحضر مجلس ابن عيينة فحدّث ابن عيينة بحديث أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كان معتكفا، فأتته صفية، فلما ذهبت ترجع مشى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم معها فأبصره رجل
ص: 163
من الأنصار فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:" إنها صفية، إنّ الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم ".فقال ابن عيينة: ما فقه هذا الحديث يا أبا عبد اللّه؟ فقال الشافعي: لو كان القوم اتهموا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لكانوا بتهمتهم إيّاه كفارا و لكنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أدّب من بعده فقال إذا كنتم هكذا فافعلوا هكذا حتى لا يظنّ بكم، لا أنّ النبي صلّى اللّه عليه و سلّم - و هو أمين اللّه في وحيه - يتّهم. فقال ابن عيينة: جزاك اللّه خيرا يا أبا عبد اللّه ما يجيئنا منك إلا ما نحبه. و لا عجب في ذلك فقد كان يعمل و يهتدي وفق توجيهات أمّه البارّة التي كانت عالمة، حافظة و فقيهة. فقد استدعيت مرة للشهادة أمام قاضي مكة و معها امرأة أخرى و أراد القاضي أن يفرّق بينها و بين المرأة الأخرى في الشهادة ليسمع كلاّ منهما على حدة، فاعترضت و طلبت إلى القاضي أن تكون شهادتها و شهادة المرأة الأخرى بحضور كليهما و استدلّت على ذلك بقوله تعالى: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى ، [البقرة: 282].
و أجازه شيخ الحرم الإمام مسلم بن خالد الزنجي و كان أول من أجازه فقال له و هو غلام: أنت يا أبا عبد اللّه و اللّه لقد آن لك أن تفتي. و لكن الشافعي مع هذا رفض أن يفتي و كيف يفعل ذلك و هو يعتبر أنّ سلّم العلم ما زال طويلا، و كيف يفعل ذلك و الإمام مالك في المدينة و قد سمع من حديثه عند ما جاء حاجّا إلى بيت اللّه الحرام؟!!!.
و أدرك الشافعي ما عند مالك من علم واسع و أحب لقاءه و لكنه تهيّب أن يرحل إليه قبل أن يأخذ من علومه شيئا، فأقبل على الموطأ فحفظه غيبا و لم يكن يملك ثمنه فاستعاره و حفظه. و خشي أن لا يستقبله الإمام مالك لحداثة سنّه فلقد اشتهر عن مالك أنه رغم سماحته و طيب خلقه كان صارما في العمل و لا يبيح وقته للناس و لا يستقبل من يطرق بابه خلال راحته في داره. و لكن الشافعي الشاب المتوقد المتوهج المتعطش إلى غرف العلم لا يشبع نهمه الجلوس في حلقات درس مالك في المسجد و لكنه يريد أن يتفرّد بلقائه. فتوسطت له أمّه عند والي مكة، فأرسل معه رسالة إلى والي المدينة. فلما وصلت الرسالة إلى والي المدينة و قرأها قال: يا فتى إنّ مشيي من جوف مكة إلى جوف المدينة حافيا راحلا أهون عليّ من المشي إلى باب مالك، فلست أرى الذل حتى أقف على بابه!... فقال الشافعي: أصلح اللّه الأمير، إن رأى الأمير يوجه إليه ليحضر. فقال الأمير: هيهات، ليت أني لو ركبت أنا و من معي و أصابنا من تراب العتيق (حي يسكنه مالك) نلنا بعض حاجتنا. و واعده على الذهاب إلى مالك في وقت العصر. و يروي
ص: 164
الشافعي فيقول: و ركبنا جميعا، فو اللّه لكان كما قال، لقد أصابنا من تراب العتيق فتقدم رجل منا فقرع الباب فخرجت إلينا جارية سوداء فقال لها الأمير: قولي لمولاك أني بالباب. فدخلت ثم خرجت فقالت: إنّ مولاي يقرئك السلام و يقول إن كان لديك مسألة فارفقها في رقعة يخرج إليك الجواب و إن كان للحديث فقد عرفت يوم المجلس فانصرف. فقال لها الأمير: قولي له إنّ معي كتاب والي مكة إليه في حاجة... فدخلت و خرجت و إذا بمالك قد خرج و عليه المهابة و الوقار و هو شيخ طويل مسنون اللحية، فرفع الوالي الكتاب إلى الإمام مالك فطفق يقرأه فلما بلغ إلى هذا:" إنّ هذا رجل يهمني أمره و حاله فتحدثه... و تفعل... و تصنع... ".فرمى مالك الكتاب من يده ثم قال:
سبحان اللّه أو صار علم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يؤخّذ بالرسائل؟!!! قال الشافعي: فرأيت الوالي قد تهيّب أن يكلّمه فتقدمت و قلت:" أصلحك اللّه... إني رجل مطلبيّ من بني المطّلب و حدّثته عن حالتي و قضيتي فلما سمع كلامي نظر إلي و كان لمالك فراسة فقال:
ما اسمك؟ قلت: محمد، فقال: "يا محمد إنه سيكون لك شأن و أي شأن، إنّ اللّه تعالى قد ألقى على قلبك نورا فلا تطفئه بالمعصية. إذا جاء الغد تجيء مصطحبا معك ما تقرأ به. و طلب منه أن يأتي بمن يقرأ له الموطأ لصغر سنه و لكن الشافعي جاءه في اليوم الثاني و معه الموطأ و بدأ يقرأ عن ظهر غيب و الكتاب في يده. و كلما قرأ قليلا تهيّب مالكا و أراد أن يقطع و لكن أعجب مالك حسن قراءته و إعرابه فقال: زد يا فتى، حتى قرأ عليه الموطأ في أيام يسيرة. قال مالك عنه: ما يأتيني قرشي أفهم من هذا الغلام، و قال:
إن يك يفلح فهذا الغلام.
و لازم الشافعي مالكا تسعة أعوام و لم ينقطع عنه إلا لزيارة أمّه أو لرحلة علمية و كان قد ذهب في بعض الرحلات إلى العراق و حصل ثروة من علم أبي حنيفة. و تلقى الشافعي علومه من مالك و من باقي علماء المدينة. و كانت المدينة أجلّ بلد حافظ على الطابع الإسلامي الأصيل، و أكثر الصحابة كانوا فيها، فإنّ النبي صلّى اللّه عليه و سلّم بعد رجوعه من حنين ترك فيها نحو اثني عشر ألف صحابي، لبث فيها نحو عشرة آلاف، ثم ماتوا فيها و تفرّق في سائر الأقطار نحو ألفين. و ما كان يوثق بعلم العالم في جميع أقطار الخلافة الإسلامية إلا أن يؤم المدينة، يختلف إلى علمائها و يروي عن حفاظها.
و في إحدى رحلات الشافعي العلمية غاب عن المدينة زهاء عامين و كان دائم السؤال عن شيخه مالك، و يوم عاد دخل الحرم النبوي و تهيّأ للجلوس في حلقة مالك و ما هي إلا
ص: 165
لحظات حتى وصل مالك و فاح ريح الطيب في أرجاء المسجد و جلس مالك على كرسي أعدّ له و أخذ يلقي المسائل على التلاميذ المتحلقين حوله و من بينهم و في زحمتهم الشافعي الذي لا يكاد يراه مالك. سكت الحاضرون و لم يجيبوا على مسائل مالك فتضايق الشافعي ثم أوحى بالجواب إلى الذي بجواره و كذلك بجواب آخر و آخر، مالك يلقي المسألة و جار الشافعي يجيب، ثم سأله مالك متعجبا: من أين لك هذا العلم؟ فقال إنّ بجانبي شابا يقول لي الجواب و إذا هو الشافعي فتلقاه مالك بالترحاب و الحفاوة و السرور و قال له: أتمم أنت هذا الباب و هذه إجازة من مالك للشافعي بالفتيا. فلما كان عام 179 توفي مالك و بكاه الشافعي بكاء حارا. و كان الشافعي يعاني من الفقر و لا يبالي في سبيل إقباله على العلم و الدراسة فلما توفي مالك شعر بفراغ فالتفت يبحث عن عمل و كان قد وصل إلى قمة الشباب، فبحث له بعض القرشيين عن عمل في اليمن بواسطة والي اليمن، فأعطي عملا جيدا في نجران دون مستوى المحافظ بشيء قليل.
في اليمن تنامت ثروة الإمام الشافعي العلمية بالتعرف على فقه إمام مصر الليث بن سعد الذي كان تلامذته منتشرين هناك. و لكن والي مدينة نجران تحفّظ عليه فوشى إلى هارون الرشيد بشأنه و شأن عدد من الناس معه كان مجموعهم عشرة و كانت الخلافة العباسية آنذاك تحسب حسابا للشيعة لا سيما العلويين - أي أسرة و ذرية سيدنا علي رضي اللّه عنه - ذلك لأن الخلافة العباسية قامت على سواعد الشيعة أي المتشيعين و المناصرين لعلي رضي اللّه تعالى عنه و أرضاه، إلا أنّ العباسيين تنكروا لهم بعد قيام الخلافة. لذا كانت الخلافة العباسية دائما تخشى من ثورة العلويين عليهم. و كان والي نجران قد اتّهم الشافعي بأنه يحرّض العلويين على الثورة. و سيق إلى هارون الرشيد مكبّلا بتهمة خيانة الدولة و كانت عقوبة هذه الخيانة القتل. دخل الشافعي ثابت الفؤاد على الخليفة ينتظر الحكم عليه و هو يردد:" اللّه يا لطيف... أسألك اللطف فيما جرت به المقادير ".قال الشافعي للخليفة: السلام عليك يا أمير المؤمنين و بركاته (دون أن يلفظ و رحمة اللّه). فردّ عليه الرشيد: و عليك السلام و رحمة اللّه و بركاته، ثم أضاف فقال: بدأت بسنّة لم تؤمر بإقامتها، و رددنا عليك فريضة قامت بذاتها و من العجب أن تتكلم في مجلسي بغير أمري أو إذني. فقال الشافعي: إنّ اللّه تعالى قال:" وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً "، و هو الذي إذا وعد وفّى، فقد مكّنك في أرضه و أمّنني بعد خوفي... حيث رددت عليّ السلام بقولك و عليك رحمة اللّه، فقد شملتني رحمة اللّه بفضلك. فقال الرشيد: و ما عذرك بعد أن ظهر أنّ صاحبك - يعني الثائر العلوي - طغى علينا و بغى و اتّبعه الأرذلون و كنت أنت الرئيس عليهم؟ فقال الشافعي: أما و قد استنطقتني يا أمير المؤمنين فسأتكلم بالعدل و الإنصاف و لكن الكلام مع ثقل الحديد صعب، فإن جدت عليّ بفكه أفصحت عن نفسي و إن كانت الأخرى فيدك العليا و يدي السفلى و اللّه غني حميد. فأمر الرشيد بفك الحديد عنه و أجلسه، فقال الشافعي: حاشا اللّه أن أكون ذلك الرجل، و لكن قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ، [الحجرات: 6] لقد أفك المبلّغ فيما بلّغك. و إنّ لي حرمة الإسلام و ذمة النسب و كفى بهما وسيلة و ما أنا بطالبيّ و لا علوي و إنما أدخلت في القوم بغيا عليّ. أنا محمد بن إدريس، و أنا طالب علم. فقال الرشيد: أنت محمد بن إدريس؟ قال: نعم، ثم التفت إلى محمد بن الحسن الشيباني و سأله: يا محمد ما يقول هذا؟ أ هو كما يقول؟ قال محمد بن الحسن: إنّ له من العلم شأنا كبيرا و ليس الذي زعم عليه من شأنه (معلوم أنه بين العلماء المخلصين نسب أقوى من الرحم). و كأنّ اللّه تعالى وضع هذه المحنة التي انزلق فيها الشافعي من أجل أن يعيده عز و جل من عمل الدنيا إلى عمل الآخرة و هذا واضح جدا و عسى أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم و عسى أن تحبوا شيئا و هو شر لكم و لكن هذه الحقيقة لا تظهر إلا آخرا عند ما يكون الإنسان في طور المفاخرة و أمّا في طور الحكم الإلهي فيكون كالغائص في جوف البحر لا يعلم إلا من وثق بعلم اللّه سلفا.
ص: 166
في اليمن تنامت ثروة الإمام الشافعي العلمية بالتعرف على فقه إمام مصر الليث بن سعد الذي كان تلامذته منتشرين هناك. و لكن والي مدينة نجران تحفّظ عليه فوشى إلى هارون الرشيد بشأنه و شأن عدد من الناس معه كان مجموعهم عشرة و كانت الخلافة العباسية آنذاك تحسب حسابا للشيعة لا سيما العلويين - أي أسرة و ذرية سيدنا علي رضي اللّه عنه - ذلك لأن الخلافة العباسية قامت على سواعد الشيعة أي المتشيعين و المناصرين لعلي رضي اللّه تعالى عنه و أرضاه، إلا أنّ العباسيين تنكروا لهم بعد قيام الخلافة. لذا كانت الخلافة العباسية دائما تخشى من ثورة العلويين عليهم. و كان والي نجران قد اتّهم الشافعي بأنه يحرّض العلويين على الثورة. و سيق إلى هارون الرشيد مكبّلا بتهمة خيانة الدولة و كانت عقوبة هذه الخيانة القتل. دخل الشافعي ثابت الفؤاد على الخليفة ينتظر الحكم عليه و هو يردد:" اللّه يا لطيف... أسألك اللطف فيما جرت به المقادير ".قال الشافعي للخليفة: السلام عليك يا أمير المؤمنين و بركاته (دون أن يلفظ و رحمة اللّه). فردّ عليه الرشيد: و عليك السلام و رحمة اللّه و بركاته، ثم أضاف فقال: بدأت بسنّة لم تؤمر بإقامتها، و رددنا عليك فريضة قامت بذاتها و من العجب أن تتكلم في مجلسي بغير أمري أو إذني. فقال الشافعي: إنّ اللّه تعالى قال:" وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً "، و هو الذي إذا وعد وفّى، فقد مكّنك في أرضه و أمّنني بعد خوفي... حيث رددت عليّ السلام بقولك و عليك رحمة اللّه، فقد شملتني رحمة اللّه بفضلك. فقال الرشيد: و ما عذرك بعد أن ظهر أنّ صاحبك - يعني الثائر العلوي - طغى علينا و بغى و اتّبعه الأرذلون و كنت أنت الرئيس عليهم؟ فقال الشافعي: أما و قد استنطقتني يا أمير المؤمنين فسأتكلم بالعدل و الإنصاف و لكن الكلام مع ثقل الحديد صعب، فإن جدت عليّ بفكه أفصحت عن نفسي و إن كانت الأخرى فيدك العليا و يدي السفلى و اللّه غني حميد. فأمر الرشيد بفك الحديد عنه و أجلسه، فقال الشافعي: حاشا اللّه أن أكون ذلك الرجل، و لكن قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ، [الحجرات: 6] لقد أفك المبلّغ فيما بلّغك. و إنّ لي حرمة الإسلام و ذمة النسب و كفى بهما وسيلة و ما أنا بطالبيّ و لا علوي و إنما أدخلت في القوم بغيا عليّ. أنا محمد بن إدريس، و أنا طالب علم. فقال الرشيد: أنت محمد بن إدريس؟ قال: نعم، ثم التفت إلى محمد بن الحسن الشيباني و سأله: يا محمد ما يقول هذا؟ أ هو كما يقول؟ قال محمد بن الحسن: إنّ له من العلم شأنا كبيرا و ليس الذي زعم عليه من شأنه (معلوم أنه بين العلماء المخلصين نسب أقوى من الرحم). و كأنّ اللّه تعالى وضع هذه المحنة التي انزلق فيها الشافعي من أجل أن يعيده عز و جل من عمل الدنيا إلى عمل الآخرة و هذا واضح جدا و عسى أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم و عسى أن تحبوا شيئا و هو شر لكم و لكن هذه الحقيقة لا تظهر إلا آخرا عند ما يكون الإنسان في طور المفاخرة و أمّا في طور الحكم الإلهي فيكون كالغائص في جوف البحر لا يعلم إلا من وثق بعلم اللّه سلفا.
لذا ينبغي للمسلم أن يراجع نفسه كل فترة من الزمن و يحاول أن يتذكر ما هي الأشياء التي حصلت معه في الماضي و ظنها حينذاك شرا و إذا بها مع مرّ السنين الخير كله، ذلك يفيد الإنسان بزيادة ثقته باللّه تعالى فإنّ أكثر المعاصي و الإحباطات إنما هي ناتجة عن عدم الثقة باللّه و عدم المشاهدة له دائما عز و جل (ثقة عين اليقين).
كان الشافعي على عقيدة جمهور أهل السنة و الجماعة و كان يستدل على أنّ أولى الناس بالخلافة هو أبو بكر رضي اللّه عنه بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، أنّ امرأة جاءت إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم تسأله في أمر فقال لها ارجعي فيما
ص: 167
بعد، فقالت: فإن لم أجدك؟ فأمرها النبي عليه الصلاة و السلام أن تأتي أبا بكر، أي إن ذهبت و عادت و كان الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم قد توفي فعليها أن تأتي إلى أبي بكر.
و بقي الشافعي في العراق فتعرّف على محمد بن الحسن و وطّد صلته به و عاد و تفرغ للعلم و ترك الدنيا و العمل فيها... يقول الشافعي: "أخذت من محمد بن الحسن وقر بعير (أي حمل بعير) من سماعه عن أبي حنيفة، أي لو جمعت العلم الذي أخذته منه في كتب فإن هذه الكتب تبلغ حمل بعير و كل ما فيها ليس فيه شيء من عندي، كله أخذته سماعا من محمد بن الحسن" .انظروا إلى تواضع الشافعي الذي ما حال بينه و بين هذه الكلمة المكانة العالية التي تبوّأها قد تقدّم ربما على محمد ابن الحسن و هو المجتهد المطلق ما قال في نفسه ما ذا سيقول عني الناس لو سمعوا أني تلميذ محمد بن الحسن. و هذا من باب ذكر فضل أهل الفضل. و قد ملأ الشافعي كتابه" الرسالة" مناقشات طريفة جدا بينه و بين محمد بن الحسن الشيباني ملئت علما. و كان محمد بن الحسن يقدره تقديرا عظيما و لا يؤثر على مجلسه مع الإمام الشافعي أي مجلس. و قد حصل أن اتفق يوما أنّ الإمام الشافعي كان ذات مرة متجها إلى بيت محمد بن الحسن ليتدارس معه العلم و ليأخذ منه و لكن محمد بن الحسن كان متجها إلى الموعد الذي كان قد ارتبط به مع الخليفة، فآثر مجلس الشافعي و تخلّف عن مجلس الخليفة.
و قد لبث الشافعي في العراق زهاء عامين عاد بعدها إلى مكة و أخذ يدرس في الحرم المكي، و هذه فترة ازدهار علمه، منذ هذا العهد بدأ الشافعي يصب كل تفكيره و يعمل كل فهمه في تدوين الفقه و أصوله أي بدأ في تدوين موازين الاجتهاد و أصول استنباط الأحكام من نصوص القرآن و السنّة حتى تجتمع العقول المختلفة على هذه الموازين.
فالقرآن و السنة كل منهما ملىء بالأحكام و لكن كيف نفهمهما، ما هي قواعد الفهم، ما هي قواعد الدلالة العربية التي على أساسها نستنبط الأحكام من القرآن و من السنة؟ هذا ما بدأ يشغل بال الشافعي فوضع و خطط لهذا العلم و هو علم جديد لم يكن موجودا من قبل هو "علم أصول الفقه" ...بقي الشافعي في مكة تسع سنوات يجمع هذه القواعد و يدونها و ينسجها و قبل ذهابه إلى مكة كان قد زار مسجد الإمام الأعظم أبي حنيفة و هناك صلى الفجر على مذهب الإمام (أي أبو حنيفة) مخالفا مذهبه في الحركات و القنوت و ما إلى ذلك، و لما سئل عن ذلك قال: إني فعلته أدبا مع الإمام أبي حنيفة أن
ص: 168
أخالفه في حضرته. انظروا إلى أدب علمائنا بعضهم مع بعض.
أصبح من عادة الشافعي أن يجلس في الحرم عند بئر زمزم حيث كان يجلس الصحابي الجليل شيخ المفسرين عبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنهما... و بدأ يؤلف في مكة كتابه "الرسالة" ،و كان صيته العلمي في هذا الوقت يطبق الآفاق في مختلف أنحاء البلاد و مقاطعات الدولة الإسلامية الشاسعة، فيأتيه طلاب العلم و المعرفة من أقصى الأماكن و كان من هؤلاء أحمد بن حنبل الذي كان تلميذا للإمام ابن عيينة إمام الحديث في عصره في المسجد الحرام. و ابن عيينة كان يروي جلّ أحاديثه عن الزهري و هو أعلى الأسانيد، فكان الناس يغشون مجلسه. و لكن الإمام أحمد لما علم بمجلس الشافعي و سمع منه ترك مجلس ابن عيينة و أصبح يغشى مجلس الشافعي فلما سئل عن ذلك قال: إنك إن فاتك الحديث بعلوّ تجده بنزول و لا يضرك ذلك أما إن فاتك عقل هذا الفتى - يقصد الشافعي - فإني أخاف أن لا تجده إلى يوم القيامة، ما رأيت أحدا أفقه بكتاب اللّه تعالى من هذا الفتى القرشي. و كان أحمد يقول:
كان الفقه مقفلا على أهله حتى فتحه اللّه للإمام الشافعي. قال الحسن بن محمد الزعفراني: كنا نحضر مجلس بشر المريسي المعتزلي القدري المناظر البارع و كنا لا نقدر على مناظرته فسألنا أحمد بن حنبل فدلّنا على الشافعي، فسألناه شيئا من كتبه فأعطانا كتاب اليمين مع الشاهد فدرسته في ليلتين ثم غدوت على بشر المريسي و تخطّيت إليه فلما رآني قال: ما جاء بك يا صاحب الحديث؟ قال الحسن الزعفراني: ذرني من هذا، ما هو الدليل على إبطال اليمين مع الشاهد؟ فناظرته فقطعته فقال: ليس هذا من كيسكم، هذا من كلام رجل رأيته بمكة معه نصف عقل أهل الدنيا. و كان بشر المريسي لما رأى الشافعي المفتي في مكة يحدّث قال لأصحابه المعتزلة: إني لا أخاف عليكم من أحد و لكني أخاف عليكم من هذا الفتى فإنّ معه نصف عقل أهل الدنيا.
و الذي يدعو إلى الإعجاب أن يكون الشافعي كتب هذه الرسالة في أصول الفقه و هو شاب و كان قد طلبها منه إمام المحدّثين في بغداد لكي يستفيد منها هو و غيره من كبار العلماء في كيفية فهم النصوص. و لما كتب الشافعي الرسالة و وصلت إلى إمام المحدثين في بغداد، جعل يتعجب و يقول: لو كانت أقل لنفهم... و قال الإمام المزني: قرأت الرسالة خمسمائة مرة، ما من مرة إلا و استفدت منها فائدة جديدة. و في رواية عنه قال: أنا أنظر في
ص: 169
الرسالة من خمسين سنة، ما أعلم أني نظرت فيها مرة إلا و استفدت شيئا لم أكن عرفته.
كتاب "الرسالة" هو مقدمة ضخمة لكتابه "الأم" مثل مقدمة ابن خلدون لكتابه "تاريخ الأمم و الملوك" ،و مقدمة ابن خلدون ليست كتابا مستقلا و إنما هي مقدمة لموسوعة تاريخية و لأهمية هذه المقدمة طبعت طبعا مستقلا و افردت باسم مستقل و أصبحت مقدمة ابن خلدون اسم مستقل تماما، و كذلك كتاب "الرسالة" فهو في أصله عبارة عن مقدمة كبيرة و واسعة جدا لكتاب "الأم" و هو عبارة عن سبعة أجزاء، إلا أنّ "الرسالة" فيما بعد أفردت بالطباعة و أصبحت عبارة عن كتاب مستقل لأنه يحوي علما مستقلا، و قد تضمّن ما يلي:
أولا: بيان أنّ أي علم شرعي لا بد أن يدور على فلك نص مأخوذ من الكتاب أو السنّة. ثم أكّد أهمية و حجية حديث الآحاد (و حديث الآحاد هو الحديث الذي يرويه صحابي واحد أو اثنين أو ثلاثة عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم) و قد ذكرنا طرفا من ذلك من قبل، و استدلّ على حجية الآحاد بأدلة كثيرة منها:
- أنّ اللّه تعالى حينما أنزل في القرآن الكريم تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى مكة المكرمة، جاء صحابي و أخبر الصحابة الذين كانوا يصلّون في مسجد ذي القبلتين فاستداروا و هم في الصلاة، فإذا أخذوا بخبر الواحد!.
- حينما أنزل اللّه تعالى آية تحريم الخمر، أخبر صحابي باقي الصحابة بذلك، فانتهوا و ألقوا خمورهم.
- إنّ النبي صلّى اللّه عليه و سلّم بعث معاذ رضي اللّه عنه إلى اليمن ليبلّغ عنه و لقد أخذ عنه أهل اليمن.
- إن اللّه عز و جل قد أمرنا أن نأخذ بقول الشاهدين و هما من الآحاد.
و هذا الأمر أي حجية حديث الآحاد لم يخالف فيه أحد من الأئمة الأربعة و إنما اختلفوا في نسخ الآحاد للقرآن أي هل ينسخ حديث الآحاد حكم آية من كتاب اللّه تعالى و هل يخصص هذه الآية أم لا؟...
ثانيا - و كان قد ظهر في عصر الشافعي من يدّعي أنه يأخذ بالقرآن الكريم وحده و يدع العمل بالحديث الآحاد و هم من الزنادقة، فردّ عليهم الشافعي ردا مفحما و سمّي بذلك "نصير السنّة النبوية" ...ثم عقد الشافعي بابا سمّاه "الدلالات" أي كيف تدل
ص: 170
النصوص على معانيها سواء كان المفهوم الموافق أو المفهوم المخالف و كيف نستخرج قواعد القياس على نص في كتاب اللّه تعالى... و أوضح البيان، أي كيف يمكن أن يكون القرآن بعضه بيانا لبعض و أنّ النص قد يكون عامّا و قد يكون خاصا و قد يكون مطلقا و قد يكون مقيّدا. و النص المطلق يمكن أن يأتي نص آخر في المعنى ذاته فيقيّده و يفسّره... و أوضح أيضا فيما إذا كان يمكن للسنّة أن تخصص القرآن العام أو أن تقيّده و هل يصح العكس...
و باختصار كتاب "الرسالة" هو عبارة عن مفاتيح لكيفية فهم الأحكام من النصوص. و قد كان المجتمع آنذاك يفتقر إلى هذا العلم و لم يكتب فيه أحد قبلا، صحيح أنّ الإمام أبو حنيفة و الإمام مالك كل منهما بنى فقهه على أصول و مبادئ و لكن هذه المبادئ لم تسجّل و لم يصرّح بها كلها بل إنّ تلامذتهما هم الذين استنبطوا الأصول من فروع المسائل. و الذي أعان الشافعي على هذا العلم علم استنباط الأحكام من النصوص فضلا عن كونه عالما بالفقه و الحديث و بلوغه درجة قصوى من الذكاء، هو أنه عاش في البادية عشر سنوات حيث أخذ الطبيعة العربية و السليقة العربية من ينبوعها، فكان يعلم كيف يفهم الرجل العربي الجملة و كيف يأخذ المعنى إثر المعنى من الجملة الواحدة، و مما جعل من الشافعي حجة في اللغة.
عاد الشافعي إلى العراق و أقبل العلماء جميعا من شتى المذاهب على كتاب "الرسالة" و أعجبوا به أيما إعجاب و كان الشافعي يشرح و يناقش هذه القواعد. و كان الشافعي يضرب في طول البلاد و عرضها في سبيل أن ينقل علم الحجاز إلى العراق و بالعكس و يجمع الكل تحت مظلة هذه القواعد، فلقد تنبّه إلى ثغرات علماء العراق و هي أنهم كلما فقدوا النص استنجدوا بالرأي و استحسنوا و مالوا إلى ما تطمئنّ إليه نفوسهم و لكن على أي أساس؟ و على أي قاعدة؟ و ما هو المقياس الذي يوضح الرأي المتفق مع شرع اللّه تعالى و حكمه و الرأي المتنكر عن شرع اللّه تعالى و حكمه؟ لا يوجد! إذا هذه هي الثغرة التي يعاني منها أهل العراق. أما أهل الحجاز فلاحظ أنهم يأخذون بالنص دون أن يتوغلوا في فهم طرق دلالته و قوانين هذه الدلالة. إذا رأوا نصا في كتاب اللّه تعالى أو سنة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم تصوّروا ضرورة تطبيق هذا النص دون التأمل في كيفيته و أسلوبه، و هذه هي ثغرتهم، فكان كتاب الرسالة سدا لثغرة أهل الحديث فتقبله
ص: 171
المسلمون في جميع أنحاء البلاد و أقبلوا عليه. و يقول الشافعي في هذا الموضوع: صحيح أننا لا نخرج عن دائرة النص و لكن هناك فرق بين من لا يغوص في أعماق النص و لا يتعمق به و بين من يبحث و يتفكر و يتعلم و يتعمق و يستنبط معان عديدة فيجد أنّ مسافة النص 10 أمتار من حيث المعنى. و ضرب على ذلك أمثلة عديدة فقال:
- إنّ اللّه عز و جل خاطب عباده في كتابه بألفاظ عامة و أراد منها الخاص و خاطب عباده بألفاظ خاصة و أراد منها العموم، مثال على ذلك: قوله عز و جل: "اَلَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إِنَّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ " إنما أريد بالناس الأولى رجل واحد هو أبو سفيان، فيكون هنا اللفظ عام يراد منه الخاص.
- مثال على الخاص الذي يراد منه العام: قال اللّه تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ، [الطلاق: 1]، فهو خطاب للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم وحده و لكن المقصود به عموم الناس.
من هنا كثر إعجاب الإمام أحمد بالشافعي فعن صالح بن أحمد بن حنبل قال:
جاء الشافعي يوما إلى أبي يعوده - و كان عليلا - فوثب أبي إليه، فقبّل ما بين عينيه، ثم أجلسه في مكانه و جلس بين يديه. قال فجعل يسائله ساعة، فلما وثب الشافعي ليركب قام أبي فأخذ بركابه و مشى معه، فبلغ يحيى بن معين هذا الخبر فوجه إلى أبي: يا أبا عبد اللّه، يا سبحان اللّه! أ اضطرك الأمر إلى أن تمشي إلى جانب بغلة الشافعي؟ فقال له أبي: و أنت يا أبا زكريا لو مشيت من الجانب الآخر لانتفعت به قال: ثم قال أبي: من أراد الفقه فليشم ذنب هذه البغلة. و قال الفضيل بن زياد: قال أحمد بن حنبل: هذا الذي ترون كله أو عامته من الشافعي، ما بتّ مدة أربعين سنة إلا و أدعو اللّه للشافعي. قلت و هذا من شيم أهل الفضل يعرفون الفضل لأصحابه.
و كان الشافعي بالمقابل يحب و يجلّ الإمام أحمد كثيرا و كان يجلس بين يديه يتعلم منه الحديث و يقول له إذا صح عندك الحديث فأخبرني عنه. و كان الإمام أحمد يحدّث ابنته كثيرا عن الشافعي و عن تقواه و علمه و في يوم نزل الشافعي ضيفا عند أحمد و لعل ذلك كان في رحلة الشافعي الأخيرة له إلى بغداد، فأعطاه غرفة لينام فيها. و كان الإمام أحمد كثير التعبد و كثير التنسك فأخذت ابنته تراقب الشافعي كيف تكون عبادته و متى سيستيقظ من الليل و أيهما أكثر تعبدا والدها أم الشافعي. فلاحظت أنّ غرفة الشافعي بقيت مظلمة إلى قبيل أذان الفجر بينما الإمام أحمد كان يقوم أكثر الليل. و في الصباح
ص: 172
قالت لأبيها: أ هذا هو الشافعي الذي حدثتني عنه؟ فلم يجبها الإمام أحمد و دخل على الشافعي فقال له: كيف كانت ليلتك يا أبا عبد اللّه؟ فقال له: لقد فكرت الليلة في بضع آيات من كتاب اللّه تعالى و رواية في حديث النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، فاستخرجت منها أحكاما كثيرة - و في رواية فوق الستين حكما - فقال الإمام أحمد لابنته: لضجعة واحدة من الإمام الشافعي خير من صلاة أبيك الليل كله!.
هذا يصور لنا كيف كان أدب و تعظيم أئمة المسلمين بعضهم لبعض و نظر كل واحد منهم إلى الآخر على أنه إمام و حجة. أما اليوم فللأسف كثير ممن يدّعون حب إمام من الأئمة يسفّهون أو ينتقدون إماما آخر. و قد أنبأنا النبي صلّى اللّه عليه و سلّم عن هذا الداء الخطير و أنه من أشراط الساعة أن يلعن آخر هذه الأمة أولها.
لقد طاف الشافعي في آفاق العالم الإسلامي، و لم يترك بقعة إلا زارها من الحجاز حتى أقصى الشرق و الشمال و لكنه لم يأت مصر بعد. و مصر مهد عريق في الحضارة و العلم و هي في الوقت عينه مجتمع علماء فحول و فضلا عن ذلك هي مدرسة إمامه و شيخه الليث بن سعد. و بينما إمامنا العظيم في تطلعه هذا إذ جاءته دعوة كريمة لزيارة مصر فوافقت هوى قلبه و نفسه و كانت الدعوة من أحد تلامذته و محبّيه، الفقيه العالم، و التاجر الواسع الثراء" ابن عبد الحكم ".فشد الشافعي رحاله على الفور و كان وداع الناس و العلماء خاصة له في بغداد مؤثرا جدا. كانوا يبكون و يحاولون إقناعه بالبقاء خصوصا الإمام أحمد... و امتدت إقامة الشافعي في مصر خمس سنوات حيث استقبل استقبالا حافلا من مختلف الطبقات إذ سبقه صيته إلى هناك و حاول الكثيرون أن يستفيدوا من ضيافتهم له فعرضوا عليه الإقامة عندهم من الوالي حتى أقل الناس شأنا و لكن الشافعي آثر التشبه برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم حين هاجر إلى المدينة المنورة فنزل عند أقارب أمه... و كان أول ما فعله الشافعي أن قام بزيارة قبر الإمام الليث بن سعد و وقف عند القبر خاشعا يردد و يقول: للّه درّك يا إمام... لقد حزت أربع خصال لم يكملن لعالم: العلم و العمل و الزهد و الكرم.
كانت السيدة نفيسة رضي اللّه عنها حفيدة الحسن بن علي و الحسين بن علي رضي اللّه عنهم موئل علم و دين و تقوى، تقيم في مصر، و كان الشافعي يعرف مقدارها و مكانتها. فاستأذن في زيارتها فأذنت له و رحبت
ص: 173
به و أعجبها عقله و ورعه و سمع منها ما لم يكن قد وصل إليه من حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.
كان الشافعي جامعة علم في شتى الفنون، فكان يجلس في جامع تاج الجوامع في مصر بعد صلاة الفجر و يبدأ بالقرآن و علومه فيأتيه علماء التفسير و علوم القرآن الفطاحل ليتعلموا منه، فإذا انتهى تحوّل إلى الحديث فيأتيه علماء الحديث ليتعلموا منه و إذا فرغ انتقل إلى علوم اللغة و آدابها فيأتيه علماؤها يدرسون عنه و هكذا... و في مصر أعاد الشافعي النظر في" الرسالة "فجدد تأليفها - و" الرسالة" التي بين أيدي الناس اليوم هي" الرسالة "المؤلفة في مصر - كما أعاد النظر في كتابه" الحجة "فألّف بدله كتاب" الأم "و هو مجموع لكتب كثيرة جديدة ألّفها الشافعي في مصر و هذا الكتاب هو المعروف و المشهور في أيامنا. و تراجع الشافعي عن بعض مسائله الفرعية في العراق و أفتى بغيرها من هنا إذا قيل اليوم في المذهب الشافعي القديم فإنما يراد به أقواله في العراق المجموعة في كتابه" الحجة "و إذا قيل مذهب الشافعي الجديد فيراد به أقواله في مصر المجموعة في كتابه" الأم ".و ابتكر الشافعي كتبا - كما يقول الإمام النووي - لم يسبق إليها، منها: أصول الفقه و كتاب" القسامة "و كتاب" الجزية "و كتاب" أهل البغي "و غيرها.
فائدة: الفتوى اليوم هي على المذهب الجديد إلا في بعض المسائل التي لا تتجاوز العشرين مسألة حيث يفتى فيها بالقول القديم.
الشافعي رضي اللّه عنه إن وجد نفسه يخالف في بعض آرائه الإمام مالك، لم يكن يعرّض لذلك و لم يكن يناقشه و لم يكن يتحدث حتى لا يضع نفسه من أستاذه موضع المناقش أو الرّاد على رأيه و لكن في الوقت نفسه يخالف بأدب. إلى أن بلغه أنّ في المغرب أناسا وصل بهم التقديس الأعمى للإمام مالك. فصاغ الشافعي هنا في هذا الوقت المتأخر من حياته" خلاف مالك "أي" خلافياتي مع مالك "و قال إنّ الإمام مالك بشر يصيب و يخطأ و هو أي الشافعي بشر يصيب و يخطأ و بدأ يناقش مسائل يرى خلافا فيها مع مالك. و في كثير من الأحيان ذهب كثير من الأئمة العظام ضحية عصبية تلامذتهم و هذا في التاريخ كثير. قد يكون الإمام عظيما لكن له تلامذة يتعصبون و يتشنّجون.
من هنا كان الشافعي ينادي مرارا و تكرارا: (إذا صح الحديث فهو مذهبي) يعني
ص: 174
إن صح حديث لم أكن قد سمعت به و أفتيت بخلافه و وصل إليكم و فقهتم المعنى فإنّ هذا هو مذهبي. إذا هذا القول ليس موجها إلى عامة الناس و إنما هو موجّه إلى فقهاء مذهبه و تلامذته و أصحابه. يعني مثلا قد يأتي من يعترض و بالفعل فقد أتى في هذا الزمن كثير من اعترض على الشافعي، يقول مثلا إن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال في الحديث الصحيح:" من لحم جزور فليتوضأ "،و الشافعي يقول إذا صح الحديث فهو مذهبي. نقول ليس مطلق حديث وقع عليه إنسان يستطيع أن يطبق عليه مقولة الشافعي إذ ينبغي أولا أن يكون من أهل النظر و الاجتهاد، ثانيا أن يرى هل اطّلع على هذا الحديث الشافعي أو أصحابه أو فقهاء المذهب من بعد و كيف فسروه؟ و لقد رد الشافعية على هذا الحديث فقالوا هذه واقعة حال و الواقعة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كان جالسا مع بعض أصحابه و قد أكلوا لحم جزور و خرجت رائحة كريهة من أحد الحاضرين ثم حان وقت الصلاة و من البديهي أنّ الذي سيذهب للوضوء سيعلم حاله، فرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم الأديب الرفيع الذوق قال رفعا للحرج عن هذا الصحابي: من أكل لحم جزور فليتوضأ. هذه واقعة حال و وقائع الأحوال لا تصلح للاستدلال. ثم لو صح أنّ لحم الجزور ينقض الوضوء، فمن المعلوم أنّ أهل مكة و المدينة لا يأكلون في ذلك الوقت من اللحوم إلا لحم الإبل و لو صح أنه ينقض الوضوء لعلم ذلك و شاع و لكن لم ينقل إلا عن هذا الصحابي و في هذه الحالة...
و كان الشافعي يدعو إلى عدم التعصب في أمر من الأمور لأن الشيطان دائما يتربص بالمسلمين على الأطراف التي تشكل الإفراط أو التفريط فكلما ابتعد الإنسان عن القصد في الطريق تخطّفه الشيطان و إنه لا يستطيع أن يتخطّفه إلا إذا خرج عن الجادة الوسطى كما قال تعالى:" أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ".
علم أصول الفقه إجمالا هو الميزان العربي الذي تزان به فهوم الفقهاء بنصوص الكتاب و السنّة. و هذا العلم ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
- قسم يسمى: "الدلالات".
- قسم يسمى: "البيان".
- قسم يسمى: "صفات المجتهد و كيفية الاجتهاد".
فقسم الدلالات عبارة عن كيف يفهم العربي الكلام العربي، مثلا نقول الأمر
ص: 175
(افعل، اقرأ، اكتب) يدل على الوجوب و النهي يدل على طلب الترك الجازم و يدل على الحرمة. اللفظ يدل بمعناه الإيجابي دلالة منطوق و يدل بمعناه السلبي دلالة مفهوم مخالف. هذه كلها دلالات و الكلمة تتفاوت حسب قوة الدلالات على المعنى عبر سلم من الدرجات. فأقوى دلالة على المعنى اسمها "النص" ،في الدرجة الثانية يأتي ما يسمى "بالظاهر" ،و في الدرجة الثالثة "المجمل" ،و في الرابعة "المتشابه" .النص كيف يفهم و الظاهر كيف يؤوّل... هذا خلاصة قسم الدلالات.
القسم الثاني و هو قسم "البيان" أي كيف يأتي نص في القرآن الكريم بيانا لنص آخر، و كيف يأتي نص من القرآن بيانا لحديث من السنّة، و كيف يأتي حديث من السنة بيانا لنص من القرآن أي شرحا له. كثيرا ما يأتي نص من القرآن عاما محتملا فيأتي نص آخر واضح وضع النقاط فيه على الحروف فيفسر هذا النص الذي يسمى الخاص على العام عن طريق ما يسمى بالتخصيص أو التقييد أو التأويل أو النسخ، و هذا خلاصة القسم الثاني.
أما القسم الثالث و هو "الاجتهاد" :ما الاجتهاد؟ و بأي الأحكام نجتهد؟ القاعدة تقول أنه لا اجتهاد في معرض النص و إذا لم يكن هناك نص و لكن هناك إجماع أيضا لا اجتهاد. و إذا كان الاجتهاد واردا فما هي شروطه يا ترى؟ و ما هي شروط المجتهد أي ما هي الشروط التي ينبغي أن تتوفر فيه من علم و دراية و ذوق و فقه و ما إلى ذلك حتى يستطيع أن يجتهد؟ كل هذه الأسئلة تكمن إجابتها في هذا القسم.
هل هناك خلاف في أصول الفقه بين العلماء؟ الحقيقة أنّ هناك خلاف بين الأئمة في بعض الفروع أما في أصول الفقه فالخلاف قليل جدا جدا. الإمام الشافعي عند ما دوّن هذا العلم وافقه العلماء الذين كانوا في عصره، فكل من المالكية و الحنابلة و الشافعية طبّقوا هذه القواعد التي دوّنها الشافعي، لذلك لا يوجد عندنا كتب أصول فقه للمالكية و الحنابلة، فقط الحنفية هم الذين خالفوا الشافعي في مسائل في أصول الفقه. لذلك عند ما ندرس أي كتاب في أصول الفقه نجد أنّ هذه الأصول تأخذ أحد طرفين طريقة الأئمة الثلاثة مالك و الشافعي و أحمد و تسمى طريقة المتكلمين و طريقة الحنفية.
ملاحظة: هنا قد يرد إشكال ألا و هو إن كان الإمام الشافعي هو الذي وضع قواعد أصول الفقه بمعنى أنّ الفقه الذي تفرّع من هذه الأصول يمكن أن نعتبره فقها وضعه
ص: 176
الشافعي و بالتالي لا تثبت البيّنة على أنّ الفقه هو حكم اللّه عز و جل و شرعه المنزل، هذا من جهة و من جهة أخرى هناك إشكال آخر أثاره بعض المستشرقين يقول فيه: من أين جاء الإمام الشافعي بقواعد أصول الفقه؟ لعله ابتدعها من عنده!.
الجواب: إنّ هنالك فرقا دقيقا و لكن هاما جدا بين قولنا إنّ الإمام الشافعي وضع علم أصول الفقه و بين قولنا إنه دوّن علم أصول الفقه. الشافعي لم يخترع و لا قاعدة واحدة من قواعد علم أصول الفقه إطلاقا و إنما بحكم أنّ الشافعي حجة و إماما في اللغة عكف على أساليب العرب و كيفية فهمهم للكلام و المعاني التي تستخلص من العبارات فاستخرج من قواعد العرب و اصطلاحات اللغة العربية في الفهم و النطق استخرج من ذلك قواعد دوّنها و لفت إليها أنظار الفقهاء و المحدّثين. و لكي نقرب الصورة أكثر نضرب المثال التالي: إنّ أول من دوّن علم اللغة العربية هو أبو الأسود الدؤلي، فهل لأحد أن يقول إذا أن أبو الأسود الدؤلي اخترع اللغة العربية؟!!! فأبو الأسود الدؤلي إذا كان وضع قواعدها فهذا لا يعني أنه اخترعها. نحن جميعا نعلم أنّ اللغة العربية كانت موجودة من قبل أبي الأسود بكثير و أنّ الناس كانوا يرفعون الفاعل و ينصبون المفعول به و يجرّون المضاف إليه و ما إلى ذلك قبل الدؤلي بقرون و لكن الذي حصل أنّ أبا الأسود عمد بعبقريته الفذة إلى النطق العربي و تتبّعه فوجد أنّ العرب دائما ترفع الفاعل و ما إلى ذلك، فقعّد له قوانين و قواعد حتى يستطيع من لا يجيد العربية بالسليقة أن ينطق النطق السليم. و الكلام نفسه يطبّق على الشافعي و علم أصول الفقه، فالشافعي مثلا وجد أنّ العرب إذا سمعوا جملة ما، تدرك لها معناها الإيجابي و تأخذ بالاعتبار معناها السلبي. مثال على ذلك، عند ما تسمع العرب حديث "مطل الغني ظلم" (أي إذا كان المدين مليئا غنيا و ماطل في دفع الدّين المترتب عليه فهو ظالم) العرب قبل الفقهاء فهموا من هذا الكلام أنّ مطل الفقير ليس بظلم و هذا ما سماه الشافعي "المفهوم المخالف" .إذا هو لم يخترع هذا و إنما تتبع لغة العرب و قعّدها.
أخذ الشافعي بالمصالح المرسلة و الاستصلاح و لكن لم يسمها بهذا الاسم و أدخلها ضمن القياس و شرحه شرحا موسعا. و كذلك كان الشافعي يأخذ بالعرف مثل مالك و لكن كل لدرجة ما.
يروى إنه في أحد الأيام، في مجلس مالك، كان فيه الشافعي، جاء رجل يستفتي
ص: 177
مالكا، يقول أنه ابتاع طائرا من رجل أقسم البائع باللّه تعالى و في رواية بالطلاق أنّ طائره هذا لا يفتأ عن التغريد. فلما أخذه الشاري وجده يغرد حينا و يسكت حينا، فسأل مالكا فقال له: لك حق خيار العيب (أي أنه لك الحق في رده بسبب عيب فيه) و قد حنث في يمينه أو على الرواية الأخرى وقع الطلاق. و كان الشافعي جالسا في ذلك المجلس و لكنه لم يتكلم أدبا مع شيخه مالك. فلما ذهب الرجل لحق به و سأله: طائرك يغرد في اليوم أكثر أو يسكت أكثر؟ قال الرجل: بل التغريد أكثر، فقال له الشافعي: إذا البيع صحيح و ليس لك خيار العيب و لم يحنث و في تلك الرواية لم يقع الطلاق. فجاء الرجل إلى مالك، فلما ناقشه الشافعي قال له: يا سيدي، الألفاظ التي ننطق بها إنما نضعها في ميزان العرف الشرعي إن وجد (مثل الطلاق و العتق...)، لكن إن فقد العرف الشرعي عندئذ نشرحه بالعرف اللغوي الدراج بين الناس فإن فقد العرف اللغوي الدارج بين الناس نعود إلى اللغة العربية في جذورها و أمهاتها. و نحن نعود في هذا إلى كلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقد روينا عن المصطفى عليه الصلاة و السلام أنّ امرأة جاءت تستشيره في رجلين قد خطباها فأيهما تتزوج، فقال لها النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: أما فلان فلا يضع العصا عن عاتقه و أما فلان فصعلوك (أي لا يليق بك من حيث المستوى الاجتماعي و غيره). قال الشافعي:
فقوله صلّى اللّه عليه و سلّم لا يضع العصا عن عاتقه كناية عن كثرة السفر و قد علمت أنه يصلي فيضع العصا عن عاتقه و يأكل و يضعها عن عاتقه و ينام و يغتسل و في كل ذلك يضع العصا عن عاتقه و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم صادق فيما يقول، إذا هذه الكلمة سارت مسار العرف الدراج و هنا (أي في مسألة الطائر) عرف في السوق لو قال البائع هذا الطائر لا يفتأ عن التغريد يعني أنّ أكثر أوقاته التغريد.
و كان الشافعي يتمسك بالأحاديث الصحيحة و يعرض عن الأخبار الواهية و الموضوعة.
و اعتنى بذلك عناية فائقة. و قال الشافعي ذاكرا فضل اللّه تعالى عليه: ما كذبت قط و ما حلفت قط باللّه تعالى صادقا و لا كاذبا. قال أبو زرعة: ما عند الشافعي حديث فيه غلط.
و قد وضع الشافعي في فن مصطلح الحديث مصطلحات كثيرة، لم يسبق إليها مثل:
الاتصال و الشاذ و الثقة و الفرق بين حدّثنا و أخبرنا...
ص: 178
كان يقسم ليله إلى ثلاثة أجزاء: ثلث ينام و ثلث يكتب و ثلث يصلي. و كان يختم القرآن في كل شهر ثلاثين مرة و في رمضان ستين ختمة. و من نوافل الشافعي كثرة صلاته على النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و كان يحضّ على ذلك أصحابه و تلاميذه و من يحضره. و كان أسخى الناس على الدينار و الدرهم و الطعام لا يدخل على مكة حتى يتصدّق بما معه.
كان الشافعي من الأئمة العاملين فرابط فترة في مصر في الثغور و هي المواضع التي يخشى هجوم العدو منها على بلد مسلم. و في آخر حياته ظهرت عليه علة البواسير و كان يظن أنّ هذه العلة إنما نشأت بسبب استعماله اللّبان - و كان يستعمله للحفظ - و بسبب هذه العلة ما انقطع عنه النزيف و ربما ركب فسال الدم من عقبيه.
و كان لا يبرح الطست تحته و فيه لبدة محشوة، و ما لقي أحد من السقم ما لقي.
و العجيب في الأمر بل يكاد يكون معجزا أن تكون هذه حال الشافعي و يترك في مدة أربعة سنوات كلها سقم من اجتهاده الجديد ما يملأ آلاف الورق مع مواصلة الدروس و الأبحاث و المناظرات و المطالعات في الليل و النهار، و كأنّ هذا الدأب و النشاط في العلم هو دواؤه الوحيد الشافي!. و ألحّ على الشافعي المرض و أذابه السقم و وقف الموت ببابه ينتظر انتهاء الأجل. و في هذه الحال، عند آخر عهده بالدنيا و أول عهده بالآخرة، دخل عليه تلميذه المزني فقال: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت من الدنيا راحلا و للإخوان مفارقا و لكأس المنيّة شاربا و على اللّه جلّ ذكره واردا و لا و اللّه ما أدري روحي تصير إلى الجنة فأهنّئها أو إلى النار فأعزّيها! ثم بكى و أنشأ يقول:
و لما قسى قلبي و ضاقت مذاهبي جعلت الرّجا مني لعفوك سلّما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما
و ما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل تجود و تعفو منّة و تكرّما
و دفن الشافعي رحمة اللّه تعالى عليه في القاهرة في أول شعبان، يوم الجمعة سنة 204 هجري. مات و كان له ولدان ذكران و بنت و كان قد تزوج من امرأة واحدة...
له رحمه اللّه تعالى و رضي عنه أقوال مهمة، منها:
- ما تقرّب إلى اللّه عز و جل بعد أداء الفرائض بأفضل من طلب العلم.
ص: 179
- طلب العلم أفضل من صلاة النافلة.
- من ضحك منه في مسألة لم ينسها أبدا.
- من حضر مجلس العلم بلا محبرة و ورق كان كمن حضر الطاحون بغير قمح.
- ما ناظرت أحدا قط إلا أحببت أن يوفّق أو يسدد أو يعان و يكون له رعاية من اللّه تعالى و حفظ، و ما ناظرت أحدا إلا و لم أبال بيّن اللّه تعالى الحق على لساني أو لسانه.
نحن كلما رأينا سيرة إمام قلنا و اللّه هذا أحق بالاتّباع و كلما سمعنا دليله قلنا و اللّه هذا لهو الدليل المقنع! نعم كلهم أحق بالاتّباع و كلهم عندهم أدلّتهم المقنعة فلذلك و رحمة من اللّه تعالى بنا جاز لنا أن نتبع من شئنا منهم و الحمد للّه رب العالمين.
الإمام أحمد بن حنبل رجل النصف الأول من القرن الثالث، فليس من أحد في عصره بلغ من الشهرة و الثقة و الاعتقاد ما بلغه، ذلك أنه كان رحمه اللّه إماما في الورع، إماما في الزهد، إماما في التفقه، إماما في طريقته الفقهية، إمام أئمة الحديث في عصره و إماما في الثبات و الصبر.
ولد الإمام أحمد بالاتفاق في عام 164 هجري في بغداد و توفي عام 241 فكان عمره عند ما مات الشافعي أربعين عاما، و كان الشافعي يكبره بأربعة عشر عام. و هو عربي الأصل من قبيلة شيبان لم تخالط العجمة نسبه قط و يلتقي نسبه مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عند نزار بن معد. توفي والده و هو صغير و تولت أمه تربيته و كانت رعاية والدته له أشبه ما تكون برعاية والدة الشافعي. و كانت والدته فقيرة و كانت شابة حسناء جميلة فتقدم لخطبتها و الزواج منها عدد كبير من الراغبين لكنها رفضت و امتنعت و فضلت أن تعيش لولدها و نذرت نفسها له، و هذا الأمر أنشأ في نفس أحمد برا بأمه...
و لم يتزوج حتى ماتت لكي لا يدخل على الدار سيدة أخرى تنازع أمه السيادة و كان قد بلغ الثلاثين.
كسائر أترابه تعلم القرآن في صغره و تلاه تلاوة جيدة و حفظه عن ظهر قلب. و عند ما تجاوز الخامسة عشرة من عمره، بدأ يطلب العلم، و أول من طلب العلم عليه هو الإمام أبو يوسف القاضي. و الإمام أبو يوسف كما هو معلوم من أئمة الرأي مع
ص: 180
كونه محدّثا و لكن في البداية و بعد مرور فترة لأحمد مع أبي يوسف وجد الإمام أحمد أنه يرتاح لطلب الحديث أكثر. فتحول إلى مجالس الحديث و أعجبه هذا النهج و اتفق مع صلاحه و ورعه و تقواه و أخذ يجول و يرحل في سبيل الحديث حتى ذهب إلى الشامات و السواحل و المغرب و الجزائر و مكة و المدينة و الحجاز و اليمن و العراق و فارس و خرسان و الجبال و الأطراف و الثغور و هذا فقط في مرحلته الأولى من حياته. و لقد التقى الشافعي في أول رحلة من رحلاته الحجازية في الحرم، و أعجب به و كنا قد ذكرنا أن الإمام أحمد بقي أربعين سنة ما بات ليلة إلا و يدعو فيها للشافعي. و كان يقول عند ما يروي حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: إنّ اللّه يبعث على رأس كل أمّة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها. و كان يقول: لقد أرسل اللّه تعالى سيدنا عمر بن عبد العزيز يجدد لهذه الأمة دينها على رأس المائة الثانية و آمل أن يكون الشافعي على رأس المائة الثالثة. و قد حيل بين أحمد و مالك ابن أنس فلم يوفّق للقائه و كان يقول: لقد حرمت لقاء مالك فعوّضني اللّه عز و جل عنه سفيان بن عيينة. (لاحظوا مدى تعظيم الأئمة لبعضهم البعض، بينما الجماعات في عصرنا لا همّ لهم إلا تسفيه العلماء و منهم من يتعصب لمذهبه فيسفه باقي الأئمة حتى يرفع من شأن إمامه) و الشافعي كان يكثر من زيارة الإمام أحمد، فلما سئل عن ذلك أنشد قائلا:
قالوا يزورك أحمد و تزوره قلت الفضائل لا تبارح منزله
إن زارني فبفضله أو زرته فلفضله فالفضل في الحالين له
قصته و يحيى بن معين مع عبد الرزاق: ارتحل يوما الإمام أحمد من العراق هو و يحيى بن معين قاصدا المحدث الكبير عبد الرزاق في اليمن لطلب الحديث منه. فلما و صلا مكة و أخذا يطوفان حول البيت، فإذا بهما يريان الإمام عبد الرزاق فقال يحيى بن معين لأحمد تعال نسأله أن يحدثنا بدلا من أن نلحق به إلى اليمن فقال الإمام أحمد:
"خرجت من بغداد و أنا قاصد أن أرحل إلى دار عبد الرزاق بن الهمام اليمني صاحب المصنف في اليمن من أجل مزيد من المثوبة و الأجر فلن أفسد هذه النية" .حاول عبد الرزاق أن يصل أحمد ببعض المال و هو في ديار الغربة فرفض و صمم أن يكسب عيشه و عمل نساخا.
و كان أشد ما أتعب الإمام أحمد و أرهقه من العلماء هو عبد اللّه بن المبارك الذي
ص: 181
ظل أحمد يسعى وراءه هنا و هناك ليلقاه و لكن من غير جدوى. و كان ابن المبارك فقيها محدّثا واسع العلم و واسع الغنى و كان من أزهد الناس. و تعلّم أحمد من ابن المبارك حقيقة الزهد و كان يطعم الفالوذج و يأكل الخبز و إذا اشتهى طعاما طيبا لم يأكله إلا مع ضيف و يقول: بلغنا أنّ طعام الضيف لا حساب عليه. و قيل له قلّ مالك فقلّل من صلة الناس فقال: إن كان المال قلّ فإنّ العمر قد نفد. و أصبح يعتبره أحمد أستاذه في الحديث و السلوك. و حاول أن يصله مثل عبد الرزاق و لكن أبى أحمد و قال: أنا ألزمك لفقهك و علمك لا لمالك. و تلقى الحديث عن هشيم بن بشير و استفاد منه أكثر ما استفاد من غيره و تعلم منه الهمة العالية في الحديث. و تلقى الفقه و أصوله عن الشافعي.
حج الإمام أحمد خمس مرات إلى بيت اللّه، حج منها ثلاث مرات ماشيا راجلا و ذلك لأنه كان قليل المال و لكن ما منعه ذلك عن الحج.
من عظيم ما عرف به الإمام أحمد هو تعففه و له في ذلك قصص رائعة، فقد كان يسترزق بأدنى عمل و كان يرفض أن يأخذ من صديق و لا شيخ و لا حاكم قرضا أو هبة أو إرثا لأحد يؤثره به. و قد يقبل هدية و لكنه يعجل في إعطاء من أهداه هدية مثلها أو خيرا منها، رافعا بذلك شأن العلم و العلماء. و لقد أجمعت الأمّة على صلاحه و كان مضرب مثل في الصلاح و التقوى حتى أنّ بعض العلماء قال: لو أنّ أحدا قال إنّ الإمام أحمد هو من أهل الجنة لم يحنث و لم يتألى على اللّه تعالى، و دليلهم على ذلك إجماع أهل العراق و الشام و غيرهم على هذا الأمر و الإجماع حجة.
تنبيه: إجماع الأمة على هذا الأمر إنما كان بعد مماته.
اشتهر الإمام أنه محدّث أكثر من أن يشتهر أنه فقيه مع أنه كان إماما في كليهما. و من شدة ورعه ما كان يأخذ من القياس إلا الواضح و عند الضرورة فقط و ذلك لأنه كان محدّث عصره و قد جمع له من الأحاديث ما لم يجتمع لغيره، فقد كتب مسنده من أصل سبعمائة و خمسين ألف حديث، و كان لا يكتب إلا القرآن و الحديث من هنا عرف فقه الإمام أحمد بأنه الفقه بالمأثور، فكان لا يفتي في مسألة إلا إن وجد لها من أفتى بها من قبل صحابيا كان أو تابعيا أو إماما.
و إذا وجد للصحابة قولين أو أكثر، اختار واحدا من هذه الأقوال و قد لا يترجّح عنده قول صحابي على الآخر فيكون للإمام أحمد في هذه المسألة قولين.
ص: 182
و هكذا فقد تميز فقهه أنه في العبادات لا يخرج عن الأثر قيد شعرة، فليس من المعقول عنده أن يعبد أحد ربه بالقياس أو بالرأي و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول: "صلوا كما رأيتموني أصلي" ،و يقول في الحج: "خذوا عني مناسككم" .كان الإمام أحمد شديد الورع فيما يتعلق بالعبادات التي يعتبرها حق للّه على عباده و هذا الحق لا يجوز مطلقا أن يتساهل أو يتهاون فيه.
أما في المعاملات فيتميز فقهه بالسهولة و المرونة و الصلاح لكل بيئة و عصر، فقد تمسّك أحمد بنصوص الشرع التي غلب عليها التيسير لا التعسير. مثال ذلك: "الأصل في العقود عنده الإباحة ما لم يعارضها نص" ،بينما عند بعض الأئمة الأصل في العقود الحظر ما لم يرد على إباحتها نص... و كان شديد الورع في الفتاوى و كان ينهى تلامذته أن يكتبوا عنه الأحاديث فإذا رأى أحدا يكتب عنه الفتاوى، نهاه و قال له: "لعلي أطلع فيما بعد على ما لم أطلع عليه من المعلوم فأغير فتواي فأين أجدك لأخبرك؟...
و لما علم اللّه تعالى صدق نيته و قصده قيّض له تلامذة من بعده يكتبون فتاويه و قد كتبوا عنه أكثر من ستين ألف مسألة. و لقد أخذ بمبدإ الاستصحاب كما أخذ بالأحاديث المرسلة.
مع انتشار علمه في الآفاق، لم يفت و قد أصرّ الناس عليه بالفتوى فلم يفت إلا بعد أن بلغ الأربعين من عمره و ذلك لأسباب:
1 - تقليد النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و هو في هذا كعبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما.
2 - كان يعتبر الفقه أو مجلس الفتيا مجلس الوراثة النبوية.
3 - كيف يفتي و الشافعي شيخه و إمامه و هو لا يزال على قيد الحياة.
و مع أنه أوتي حافظة لم يؤتها أحد في عصره إلا نادرا، كان يحمل كتبه أي كتب الحديث و يأتي بها إلى المجلس و يوصي تلامذته أن لا يحدّثوا إلا من كتاب. و كان إذا جلس في الدرس يسود مجلسه الوقار و السكينة كأنما على رءوسهم الطير، و كانت هذه السكينة تظلل مجالسه كلها إلى جانب تواضعه العظيم. و أي مجلس جلس فيه الإمام أحمد سواء كان معلما أو متعلما ساده السكينة و الوقار، كان هذا الطبع منه يهيمن على الشيوخ الذين كان يأخذ عنهم، و ذلك بسبب احترامه و تقديره و الشخصية العظيمة التي كان يتمتع بها. يروى عن أستاذه يزيد بن
ص: 183
هارون أنه مدح بمناسبة ما فتنحنح أحمد، فوضع يزيد يده على جبينه و قال: أ لا أخبرتموني أنّ أحمدا هنا.
و كان كثير التواضع هيّنا طريا و لكن كان الواحد إذا نظر إليه تذكر اللّه تعالى. لقد ألبسه اللّه عز و جل ملابس هيبته فقام مستعزا بعزة اللّه تعالى. و كان بعيدا جدا عن الخوض في الفلسفة و ذلك أنّ الفلسفة في عصره كانت في بدايتها، ثم طبق العلماء قاعدة:
خذ الحكمة و لا تبالي من أي وعاء خرجت. و كان الإمام أحمد يعيش بعيدا عن أمور الفلسفة و شغل نفسه بالأحاديث و آثار الصحابة، حتى أنّ من ترجم له قال: إنّ الإمام أحمد من طبقة الصحابة معنويا و إن جاء متأخرا إلا أنه في طبعه و سلوكه و عقيدته و حياته العامة أشبه ما يكون بالصحابة. و قال بعض العلماء لو كان الإمام أحمد في عصر بني إسرائيل لاحتمل أن يكون نبيا!. سئل الشافعي عمن يصلح للقضاء فأشار إلى أحمد الذي قال:" أنا أجلس في مجلسك لكي يزيد فيّ العلم زهدا في الدنيا و أنت تطلبني للقضاء!!!؟ ".و لقد كان عاملا بأحاديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و هو الذي يروي: كل معروف صدقة و من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق... فطبّق هذا الحديث على نفسه، فكان لا يلقى الناس إلا مبتسما و يقدمهم عليه إذا مشوا في الطريق أو دخلوا مكانا أو اصطفوا لصلاة الجماعة. و كان إذا قرأ القرآن أو صلى و دخل عليه أحد سكت على الفور و إذا خرج من عنده عاد لصلاته و قراءته و ذلك خشية الرياء. و كان مستجاب الدعوة.
و من الجدير بالذكر أنّ الشافعي قبل وفاته كان قد أرسل برسالة مع الربيع إلى الإمام أحمد قبل وفاته جاء فيها: لقد رأيت النبي صلّى اللّه عليه و سلّم في المنام في الرؤيا و قال لي أبلغ أحمد بن حنبل عني السلام و قل له إنه مدعو إلى محنة و فتنة سيدعى فيها إلى القول بخلق القرآن و سيثبت على الحق و إنّ اللّه تعالى سيرفع له علما بذلك إلى قيام الساعة.
و أعطى الإمام أحمد قميصه الذي يلي جسده للربيع على هذه البشرى فقال له الشافعي:
لن أطالبك بالقميص (رحمة به و لعلمه أن الربيع لا يؤثر على بركة قميص الإمام أحمد أحدا) و لكن بله بالماء ثم أعطني الماء حتى أتبرّك به.
عاش الإمام أحمد في عصر المأمون ثم المعتصم ثم الواثق ثم المتوكل. في هذه العصور، كانت صولة المعتزلة و جولتهم في أعلى ذروتها لا سيما في عصر المأمون. و كان المأمون تلميذا لأبي هذيل العلاف من رؤساء المعتزلة، فافتتن بالفلسفة
ص: 184
اليونانية. و استغل هذه الصلة أحمد بن أبي ذؤاد المعتزلي المتعصب و راح يكلم المأمون و يتودد إليه حتى عيّنه وزيرا خاصا له و مستشارا. الإمام أحمد كما سبق و ذكرنا، كان بعيدا عن الفلسفة و عن الاعتزال و في هذه الأثناء قال المعتزلة بخلق القرآن أي أنّ القرآن حادث مخلوق و ليس كلام اللّه الأزلي القديم و تبنى المأمون هذا القول. و في عام 218 ه أرسل كتابا إلى نائبه في بغداد و هو إسحاق بن إبراهيم يوضح فيه هذا القول مدعوما بالحجة العلمية المفصلة على زعمهم. و الواضح أنّ هذا لم يكن من كلام المأمون و لكن من كلام وزيره خاصة و المعتزلة عامة. و أمر المأمون إسحاق أن يجمع كل العلماء و يقنعهم بأنّ القرآن مخلوق و أمره أن يقطع رزق و جراية كل من لم يقتنع بهذا. امتثل إسحاق بادئ ذي بدء لهذا الأمر فجمع كل العلماء من أهل السنّة و هددهم بقطع أرزاقهم و منع الجراية عنهم إن هم لم يقتنعوا، و أرسل إلى المأمون بأجوبة هؤلاء التي تتضمن رفض هذا القول.
فأرسل المأمون ثانية أمرا بقطع أرزاق من لم يقتنع و إرساله إليه مقيدا بالأغلال تحت تهديد القتل. و كان الإمام أحمد من بين الثلة التي رفضت أن تقتنع و لم تتراجع، فقيّدوا جميعا بالأغلال و ذهب بهم إلى طرطوس. و في الطريق تراجع البعض خوفا و مات البعض الآخر و لم يبق إلا أحمد الذي جاءه خادم المأمون و قال له: إنّ المأمون أقسم على قتلك إن لم تجبه. و لكن أحمد رفض التراجع عن الحق و بينما هو في الطريق لا يفصله عن المأمون إلا ساعات من السّير، إذ جثى على ركبتيه و رمق بطرفه إلى السماء و دعا بهذه الكلمات: سيدي غرّ حلمك هذا الفاجر حتى تجرّأ على أوليائك بالضرب و القتل، اللهم فإن يكن القرآن كلامك غير مخلوق فألقنا مؤنته. توفي المأمون قبل أن يصل أحمد إلى طرطوس فأعيد الإمام أحمد و أودع السجن ريثما تستقر الأمور. و جاء بعد ذلك المعتصم و لكن المأمون كان قبيل موته قد أوصى أخاه أن يقرّب ابن أبي ذؤاد المعتزلي منه. لذلك لما استقر الأمر للمعتصم استدعى الإمام أحمد و هو مثقل بالحديد و كان عنده ثلة من المعتزلة على رأسهم ابن أبي ذؤاد الذي كان يضمر كيدا شديدا لأحمد، و سأله: ما تقول في خلق القرآن؟ قال: أقول إنه كلام اللّه. قال: أ قديم أم حادث؟ قال: ما تقول في علم اللّه؟ فسكت أبو ذؤاد. قال أحمد: القرآن من علم اللّه و من قال إنّ علم اللّه حادث فقد كفر! و طلب المعتصم أن يناقشوه و كاد أن يقتنع بقول أحمد و لكن قال له المعتزلة و ابن أبي ذؤاد إنه لضال مبتدع. عرض المعتصم على الإمام أحمد أن يرجع عما يقول مغريا
ص: 185
إياه بالمال و العطايا و لكن الإمام أحمد قال له: أرني شيئا من كتاب اللّه أعتمد عليه (أي أعطني دليلا على ما تزعم من كتاب اللّه تعالى). و حذّر المعتزلة المعتصم إن هو أطلق سراحه أن يقال إنّ هذا الرجل تغلب على خليفتين اثنين فسيق أحمد إلى الضرب و التعذيب. و كان يضرب ضربا مبرحا حتى يغشى عليه ثم يأتون به في اليوم المقبل.
و برغم ذلك أقبل أحمد على الناس في السجن يعلّمهم و يهديهم.
أمر ابن أبي ذؤاد بنقله إلى سجن خاص حيث ضاعفوا له القيود و الأغلال و أقاموا عليه سجانين غلاظ شداد، و كم سالت دماؤه الزكية و كم أهين و هو رغم هذا كله يرفض أن يذعن لغير قول الحق و لو كلفه ذلك حياته. و بعد مرور عامين و نصف على هذه المعاناة و هذه المحنة، أوشكت الثورة أن تشتعل في بغداد نقمة على الخليفة المعتصم و ابن أبي ذؤاد، فقد وقف الفقهاء على باب المعتصم يصرخون: أ يضرب سيدنا! أ يضرب سيدنا! أ يضرب سيدنا! فلم يجد المعتصم بدا من إطلاق سراحه و أعيد إلى بيته يعالج جراحه. و لما سئل عن المعتصم دعا له بالرحمة و أن يعفو اللّه تعالى عنه و قال إنه يستحي أن يأتي يوم القيامة و له حق على أحد!. ثم تولى الواثق الحكم و حاول ابن أبي ذؤاد إقناعه بموضوع خلق القرآن و لكن خشي الفتنة. أما المتوكل فكان من أهل السنّة و حاول أن يكرم الإمام أحمد و أن يصله و لكنه رفض شاكرا و لقد ندم المعتصم على ما وقع منه و كان يرسل كل يوم من يطمئن على حاله، بينما ابتلي ابن أبي ذؤاد بالفالج الذي أقعده أربع سنوات و استرد منه المتوكل كل أمواله التي تعدّ بالملايين. و كان الإمام أحمد يصلي من الليل قبل ضربه 300 ركعة و بعد مرضه الشديد صار يصلي 150 ركعة.
كان بإمكان الإمام أحمد أن يفتي الناس بكفر الخليفة أثناء حكم المأمون أو المعتصم و كيف يفعل ذلك و هو يراقب اللّه تعالى في كل لحظة، فكان يقول أنه لا يجوز الخروج على إمام المسلمين برا كان أو فاجرا ما دام مسلما و هذا هو قول الجمهور و باقي الأئمة.
بدأ بجمع مسنده منذ أن كان عمره ستة عشر سنة، فسجل الأحاديث بأسانيدها، في أوراق منثورة و ظل على هذه الحال إلى أن قارب الوفاة. و لما شعر بدنو أجله بدأ يجمعها و يحذف منها... و أملى هذه الأحاديث كلها على أولاده و أهل بيته و أنبأهم بالعمل الذي قام به و لعله أوصى ابنه عبد اللّه أن ينهض بجمع هذه
ص: 186
الأحاديث و تنسيقها من بعده فجمعها عبد اللّه بطريق السند و هذا الأسلوب يعتبر صعبا جدا و هو أن يرتب الأحاديث حسب درجة رواتها من الصحابة فيبدأ بالأحاديث المروية عن أبي بكر ثم عن عمر ثم هكذا. و كانت طريقة الإمام أحمد في انتقاء الأحاديث أنها إن كانت تتعلق بأحكام أو عقيدة كان لا بد من اشتراط الصحة فيها، أما إن كانت تتعلق بفضائل الأعمال و لها ما يؤيدها من الكتاب أو السنة الصحيحة فلا بأس أن تكون ضعيفة. و إن كان الحديث يعارضه نص آخر أقوى منه لا يمكن الجمع بينهما، حذف الأضعف.
مثلا نجد اسم عبد اللّه بن لهيعة في المسند مع أنّ الحفاظ ضعفوه لا لأنه اتّهم بالكذب و لكن الرجل كان عنده كتب و مخطوطات كثيرة كان يروي عنها ثم تلفت، فلما تلفت أخذ يرويها من الذاكرة و كثيرا ما كان يخطئ و رواة الحديث كانوا متشددين و مدققين و محتاطين جدا في هذا الأمر. جزم ابن تيمية و ابن القيم أنه ليس في المسند حديث موضوع، و قال البعض فيه أربعة أحاديث موضوعة و لكنها ليست من أحمد.
و الأحاديث الضعيفة التي في المسند لا تتعلق بالأحكام و هي ليست شديدة الضعف. و لقد طاف أحمد بن حنبل الدنيا مرتين حتى جمع مسنده.
من أقواله: له أقوال جليلة منها: إذا أردت أن يدوم لك اللّه كما تحب فكن كما يحب.
قصة ثوب أحمد بن حنبل: وقعت حريق في بيت صالح بن أحمد بن حنبل و كان قد تزوج بامرأة ثرية، فلما علم بأمر الحريق راح يبكي لا على شيء و لكن على ثوب أبيه الذي كان يتبرك به، و لما دخل إلى بيته، وجد الثوب على السرير و قد أكلت النار ما حوله و بقي سالما.
و هناك مذاهب فقهية عديدة أخرى لا يتسع المجال لتفصيلها، كالزيدية للإمام زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم الرضوان و السلام جميعا، و الجعفرية للإمام جعفر الصادق رضي اللّه عنه، و الظاهرية لابن حزم الأندلسي.. و هناك أيضا مذاهب أخرى قسم منها دثر أو قلّ أتباعه كمذهب الأوزاعي و الثوري و عطاء بن أبي رباح و إبراهيم النخعي و عبد اللّه بن المبارك و غيرهم الكثير.. فقد
ص: 187
ذكر الأستاذ الدكتور عبد الحميد حمد العبيدي أنه أشرف على بحوث دراسات عليا ماجستير و دكتوراه عديدة بكلية الشريعة بجامعة بغداد في تفصيل المذاهب الفقهية فوجدوا أنها بالعشرات.. و قد قسّم هذه المذاهب الفقهية إلى عدة أقسام:
1 - من العلماء من كان له مذهب فقهي و كان له طلاب علم و أتباع، فدونوا علمه فوصلنا كما هو الحال في المذاهب الأربعة لأهل السنة مع المذهبين الشيعيين الزيدية و الجعفرية.
2 - منهم من كان له مذهب فقهي كبير الشأن و اتبعه كثير من الناس فدونه أتباعه و لكنه دثر كما هو حال كثير من المذاهب كمذهب الأوزاعي و الثوري و عطاء بن أبي رباح و إبراهيم النخعي و عبد اللّه بن المبارك و غيرهم الكثير، فضعف أتباعها و انتهت و لم تعد متبعة.
3 - منهم من كان له اتباع و لكنهم بقي منهم القليل كما هو حال المذهب الظاهري لابن حزم الأندلسي، و كذلك الأشاعرة و الأباضية.
4 - و منهم من كان له مذهب و لكن لم يدون و لم يكن له طلاب يدونون علمه.
و غير ذلك من التصانيف مما لا يتسع المجال لذكره، و ما ذلك إلا لسعة أفق هذا الدين ليشمل كل الأجناس و يستوعب كل الحضارات و على مر العصور، إذ معلوم أن الخلاف في المذهب الفقهي عن الآخر متأت من خلاف على تفسير آية أو مجموعة أحاديث، أو خلاف على إجماع أو قياس و كما فصلنا في بداية الملحق هذا.. هذا الخلاف إنما هو خلاف في الفروع و ليس في أصول الدين كما حصل في فرق الأديان السابقة التي اختلفت في الأصول فذمّها اللّه تعالى في القرآن الكريم في آيات عديدة منها قوله تعالى مخاطبا نبيه صلّى اللّه عليه و سلّم إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْ ءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159)، (الأنعام: 159)..
لذلك فهذا الخلاف مقبول عند اللّه تعالى فلا يصل إلى مرحلة الاختلاف(1) التي ذمّها اللّه تعالى في كتابه الكريم و حذر منها المصطفى صلّى اللّه عليه و سلّم. و كل هذه المذاهب كانف.
ص: 188
أصحابها علماء أجلاء أوصلوا الدين للأمة و كانوا يحترمون رأي بعضهم البعض و لا يتجرأ أحدهم على الآخر بالقدح أو الذم أو الاستهزاء كما يفعل بعض علمائنا اليوم و مع الأسف، بل على العكس كانوا و كما رأينا في بعض زوايا هذا الملحق متآخين متحابين كل ما يرجوه هو إيصال العلم الحق من منبعه الصافي من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إلى الناس كي لا يضيع الدين، فاجتهدوا لذلك فجزاهم اللّه تعالى عن دينه و كتابه و رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم ألف خير.
على أن هناك اتجاهات مدمرة لأصل العقيدة و الشريعة و مناف لإجماع الأمة، من هذه الاتجاهات:
من كان له مذهب نحى به منحى غير مقبول من الأغلبية، فأدى في زمانه إلى صراع فكري لإثبات بطلانها أخذ زمنا ليس بالقصير كالمعتزلة و الزنادقة و غيرها.
منهم من اتخذ اتجاهات شاذة متطرفة و مغالية كالخوارج، و منهم من وصل به التطرف لحد الكفر و الإلحاد كالعلي إلهية و القدرية و الباطنية و البابية و البهائية و غيرهم.
أما ما حصل من تحول في مسار المذاهب بعد إقحام بعضها في الصراعات السياسية، أو تحول بعضها إلى الاتجاه السياسي المحض فقد أدّى بالأمة إلى الانشقاق إلى فرقتين رئيسيتين استغلها أعداء الأمة على مر العصور لإثارة النعرات و التفرقة و الاقتتال فيما بينها لخدمة مصالح الأعداء.. و هذا ما يفرح شياطين الإنس و الجن عند ما ترى أمة الحبيب صلّى اللّه عليه و سلّم و هي تفترق و تتناحر، و هو ما لا يرضاه اللّه تعالى لهذه الأمة المرحومة، و هو أيضا ما يحزن الحبيب صلّى اللّه عليه و سلّم و آله الأطهار و صحابته الأخيار الذين رووا بدمائهم الزكية الطاهرة أرض اللّه الواسعة لنشر من أجل أن تكون كلمة اللّه هي العليا و كلمة الذين كفروا السفلى، فنسأل اللّه تعالى أن يحقن دماء المسلمين و يعيدهم إلى وحدتهم و دينهم و كتابهم و سنة رسولهم صلّى اللّه عليه و سلّم و طريق عظماء هذه الأمة من الآل و الأصحاب و التابعين و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.. و الحمد للّه رب العالمين...
ص: 189
1. كتاب (المنظار الهندسي للقرآن الكريم)، دار المسيرة، عمان - الأردن، ط/ 1، 1422 ه - 2001 م.
2. كتاب (المنظار الهندسي للقرآن الكريم)، دار المسيرة، عمان - الأردن، ط/ 2، 1425 ه - 2004 م.
3. كتاب (أنت و الأنترنت - جلّ ما تحتاجه من خدمات الشبكة العالمية -)، دار الرشد، ط/ 1، 1422 ه - 2001 م.
4. كتاب (القرآن منهل العلوم)، طبع الجامعة الإسلامية، بغداد، ط/ 1، 1423 ه - 2002 م.
5. كراس (مواصفات الفحوص المختبرية لأعمال الهندسة المدنية)، مع مجموعة من المختصين، 1423 ه - 2002 م.
6. كتاب (القوانين القرآنية للحضارات - النسخة المختصرة، 125 صفحة من القطع الصغير -)، طبع ببغداد عام 1424 ه - 2003 م.
7. سلسلة كتب (ومضات إعجازية من القرآن و السنة النبوية - 15 جزءا -)، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان.
أ. التأريخ و الآثار.
ب. المادة و الطاقة.
ت. الفلك.
ث. الأرض.
ج. الرياح و السحب.
ح. المياه و البحار.
خ. النبات و الإنبات.
د. الحيوانات و الحشرات.
ذ. الطب.
ص: 190
ر. الصيدلة و الأمراض.
ز. الوراثة و الاستنساخ.
س. الجملة العصبية و الطب النفسي.
ش. الأحكام و الباراسايكولوجي.
ص. الاقتصاد و الاجتماع.
ض. آخر الزمان.
8. كتاب (القوانين القرآنية للحضارات - النسخة المفصلة، 365 صفحة من القطع الكبير)، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان..
9. كتاب (تفصيل النحاس و الحديد في الكتاب المجيد)، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان.
10. عدة بحوث في مجال الهندسة المدنية منشورة في مجلات و مؤتمرات هندسية مرموقة داخل العراق و خارجه.
11. عدة بحوث و مقالات في مجال الإعجاز القرآني منشورة في صحف و مجلات و مؤتمرات مرموقة داخل العراق.
12. عدة أعمال مرئية تلفازية و حاسوبية في محطات محلية و أخرى فضائية عربية.
1. كتاب (استنباط الحلول من أسباب النزول)، قيد التأليف.
2. كتاب جامعي عن المواد الهندسية، قيد التأليف.
3. تصاميم شبكات الخدمات المائية و الصحية، قيد الإعداد.
ص: 191
مقدمة 3
الفصل الأول: نظرة عامة 9
الفصل الثاني: الاقتصاد في الإسلام 16
الفصل الثالث: النظام الاجتماعي الإسلامي 25
الفصل الرابع: بعض دلائل الرقي في السلوك الاجتماعي في الإسلام 65
الملحق: تاريخ التشريع الإسلامي 85
فهرس المحتويات 192
ص: 192