نام كتاب: الإعجاز القرآني في ضوء الاكتشاف العلمي الحديث
نويسنده: مروان وحيد شعبان
موضوع: اعجاز علمى
تاريخ وفات مؤلف: معاصر
زبان: عربى
تعداد جلد: 1
ناشر: دارالمعرفة
مكان چاپ: بيروت
سال چاپ: 1427 / 2006
نوبت چاپ: اوّل
ص: 1
ص: 2
ص: 3
ص: 4
إلى الروح الغالية التي سهرت الليالي و السنوات و هي تكافح و تكابد الحياة لإنشاء أسرة تكتب في سجل الخادمين لشرع اللّه و دينه...أمي.
إلى الذي أحاطني بعطفه الحارّ و حنانه الفوّار،صاحب الفضل الكبير،و القلب الرحيم..أبي.
إلى إخوتي و أخواتي،الذين عشت معهم مرحلة التأسيس في درب الهدى و الوفاء و الإيمان...
إلى كل من يطوف حول كعبة الحقيقة المقدسة من بني البشر أهدي هذا العمل المتواضع...
ص: 5
ص: 6
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
بقلم:الشيخ محمد علي الصابوني
نحمده تعالى و نصلي و نسلم على رسوله الكريم محمد بن عبد اللّه،خاتم النبيين، و بعد...
فعصرنا الذي نعيش فيه،عصر العجائب و الغرائب،عصر الخوارق و المدهشات! لا تكاد العين ترى فيه إلا كلّ طريف و جديد! ما كان مستحيلا و غير معقول منذ قرون...أصبح واقعا في هذه الأيام!!
و لا عجب في ذلك،فهو عصر الازدهار العلمي،و التقدم الحضاري،عصر المكتشفات و المخترعات،عصر الذرة،و عصر الأقمار الصناعية و المراكب الفضائية، عصر غزو الفضاء،و يمكننا أن نقول جازمين:
إنه عصر(ظهور معجزة القرآن)تحقيقا لقول اللّه العلي الكبير: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (1).
اللّه أكبر إن دين محمد و كتابه أهدى و أقوم قيلا
لا تذكر الكتب السوالف عنده طلع الصباح فأطفئ القنديلا
لقد أيّد اللّه خاتم الأنبياء محمدا صلى اللّه عليه و سلم بالمعجزة القرآنية الخالدة،و جعل هذا القرآن أجلّ و أعظم برهان على صدق رسالته..فهو نبي أميّ لا يعرف القراءة و لا الكتابة،و لا يعرف أن يفكّ حرفا عن حرف حتى آخر حياته صلوات اللّه عليه،و هذا ما أكده القرآن الكريم في صفة هذا النبي العظيم حين قال سبحانه: وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَرْتابَ الْمُبْطِلُونَ(48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظّالِمُونَ (49) (2).
ص: 7
و كأني بالقرآن يهتف و ينادي أصحاب النهى و العقول فيقول لهم:فكّروا في شأن هذا النبي الأمي الذي جاءكم بهذا الكتاب المعجز،أ يعقل أن يكون هذا الكتاب من صنعه و تأليفه؟و هو لم يتتلمذ على يد أحد،و لم يقرأ كتابا،و لا خطّ بيده حرفا،ثم جاءكم بكتاب حوى العجائب من علوم،و فنون،و قصص،و أخبار،و أمور غيبيّة،و أخبركم عن مكتشفات لم تعرفوا عنها شيئا إلاّ في عصركم هذا،أ فلا يكون ذلك أعظم برهان على عظمته و صدقه!؟
تصوروا أن عشرة أطباء اجتمعوا على تشخيص داء مريض،و كلّ منهم نابغة في تخصصه،و عجزوا جميعا عن معرفة المرض،و وصف العلاج و الدواء له!و جاءهم رجل من البادية،لا يعرف شيئا عن الطب،و لم يمارس هذه الصنعة مطلقا،و بمجرد إلقاء نظرة على المريض،و وضع يده على جسده،عرف المرض و وصف له الدواء، و شفي المريض بتناول العلاج الذي عجز عن معرفته كبار الأطباء،أ ليس هذا الأمر يدعو إلى الدهشة؟و الإجلال و الإكبار لهذا الذي وصل إليه نبوغ هذا الرجل،و الإقرار له بالحذاقة و قوة المعرفة!؟
هذا هو مثل خاتم الأنبياء مع كبار الأطباء!!أتاهم بعلوم و معارف قبل أربعة عشر قرنا من الزمان،لم يصلوا إلى معرفة بعضها إلا في هذا العصر،عصر ظهور (المخترعات و المكتشفات).
و حين طلب المشركون من سيد الخلق معجزة تدلّ على صدقه،جاء القرآن يقرّعهم و يوبّخهم على تركهم التدبر لآيات هذا الكتاب الحكيم الذي جاءهم به نبي أمّي من عند الرحمن،بأفصح حجة و أوضح بيان،فقال جلّ ثناؤه: أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَ ذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (1).
نبي أمّي جاءكم بكتاب جمع شتات العلوم،و كشف لهم عن حقائق علمية ما عرفها البشر إلاّ منذ زمن قريب،و قال لهم:إن معجزتي إليكم هذا الكتاب المبين،فاتوا بمثل سورة واحدة منه إن كنتم صادقين.
أ لا يكفي هذا أن يكون برهانا قاطعا ساطعا على صدق دعواه؟
لقد بهر القرآن العرب برونقه و جماله و عذوبته و حلاوته و بذلك الأسلوب الرائع الخلاب!1.
ص: 8
و اسمعوا هذه القصة:
روي عن جبير بن مطعم أنه قال:قدمت المدينة المنورة لأسأل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في أسارى بدر،فوافيته يقرأ في صلاة المغرب وَ الطُّورِ(1) وَ كِتابٍ مَسْطُورٍ(2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) (1).يقول فلما قرأ: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ(7) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (8) (2)شعرت كأنما صدع قلبي..فأسلمت خوفا من نزول العذاب،فلما انتهى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إلى هذه الآية: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ(35) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36) (3)أحسست أن قلبي كاد يطير)!!
و بهر القرآن«علماء الكون»حين رأوا فيه بعض ما توصلوا إليه بعد جهد جهيد،من مكتشفات رائعة سبقهم إليها القرآن الكريم،سواء أ كان ذلك في علوم الطبيعة،أو الطب،أو الفلك،أو الأجنة،أو في علوم(جيولوجيا الأرض)!!
و قد اطلعت على بعض فصول،مما كتبه أخونا الفاضل الشيخ«مروان شعبان»حفظه اللّه حول:«الإعجاز القرآني في ضوء الاكتشاف العلمي الحديث»فألفيته بحثا قيما،فيه جهد مشكور ينبغي أن يطبع،و أن يستفيد منه من يريد أن يعرف عظمة هذا الدين، و روعة هذا القرآن،الذي جاء معجزة خالدة،تنطق بصدق رسالة النبي الأمي(محمد بن عبد اللّه)صلوات اللّه و سلامه عليه،سواء أ كان المطّلع عليه مسلما أو رجلا لا يدين بالإسلام،فإن ما حواه الكتاب المنير من علوم و معارف،و بدائع و روائع،حريّ بكل إنسان منصف أن يعرفه و أن يدرسه ليتبيّن له صدق معجزة خاتم النبيين،و صدق اللّه العظيم حيث يقول: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ(15) يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَ يَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) (4).
خادم الكتاب و السنة الشيخ محمد علي الصابوني 14 صفر الخير سنة 1421 ه الموافق /5/16سنة 2000 م6.
ص: 9
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد للّه و كفى،و سلام على عباده الذين اصطفى،و بعد فقد طلب مني الأخ في اللّه حقا و المحبّ صدقا الشيخ مروان شعبان إلقاء نظرة سريعة في كتابه القيم «الإعجاز القرآني في ضوء الاكتشاف العلمي الحديث»و بعد تجوال النظر في صفاته وجدت فيه الترتيب و التنسيق مع التعزيز بأسرار الإعجاز بثوب جديد في أسلوبه أنيقا في مظهره نادرا في مخبره،ليستفيد الناظر فيه بمطالعته لأنه من أمثل ما جمع في هذا الباب،و أن هذا الأسلوب الجديد يلائم حقا مستوى العصر و يراعي ما اتصف به الجيل الجديد من تطلع إلى فهم أسرار الكون و معرفة موقف الإسلام من المكتشفات-التي هي سرّ إبداع اللّه تبارك و تعالى الخالق العظيم من خلقه على أيدي المسلمين و غيرهم، و لا يخفى أن علماء الإسلام كانوا سباقين إلى مثل هذه العلوم و المعارف.و ما جهود الرازي و الحسن بن الهيثم و ابن سينا و القاسم و اليعقوبي و الإدريسي-صاحب الكشف الجغرافي و اقتحام المحيطات-ليس ببعيد،و هذا مما يدل على أن الإسلام هو مصدر الحضارة الحقيقة،و أن علماء الإسلام ساهموا بأروع ما في هذه الحضارة للبشرية سائلين اللّه تعالى المزيد من التوفيق للباحث لما يحبه و يرضاه،و أن ينفع بجهوده العلميّة طلاب العلم الشريف،و رواد الحق و الحقيقة في عصر الشتات و التمزق،إنه سميع مجيب.
د.إبراهيم الشيخ محمد حسن مفتي محافظة الحسكة
عضو مجلس الإفتاء الأعلى في دمشق
ص: 10
بقلم:الشيخ محمد حكمت المعلم
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
الحمد للّه الذي علم بالقلم،و أوحى بالملك،و هدى بالفطرة.الحمد للّه مستوجب الحمد و الثناء بإنزاله الكتاب على عبده،الحمد للّه الذي أنزل الكتاب على عبده و لم يجعل له عوجا قيما و الصلاة و السلام على النبي الأمي الذي بلغ هذا الكتاب على أكمل وجه و أدى الرسالة و نصح الأمة فجزاه اللّه عنا خير الجزاء.
و بعد...فقد اطلعت على كتاب:«الإعجاز القرآني في ضوء الاكتشاف العلمي الحديث»لمؤلفه مروان وحيد شعبان التفتنازي فوجدته كتابا جامعا لمظاهر الإعجاز في كتاب اللّه،جيد في أسلوبه،جميل في تبويبه قيّم في حسن العرض و الأداء و التشويق.
و إذا كان العلماء قد وضعوا لتفسير كتاب اللّه قواعد و مناهج و ضوابط فقالوا:تفسير القرآن بالقرآن،ثم تفسيره بالسنة القولية و الفعلية المأثورة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم،ثم بأقوال الصحابة رضوان اللّه عليهم فهذا لا يمنع من التدبير في كتاب اللّه و التفكير بآياته و رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم القائل حين نزلت خواتيم آل عمران:«ويل لمن يقرأها و لا يتدبرها و يتفكر في معانيها»و القرآن هو المعجزة الأبدية المتجددة في كل آن إلى قيام الساعة لأنه دستور البشرية إلى أن يرث اللّه الأرض و من عليها،و وجوه الإعجاز في كتاب اللّه متعددة في التنظيم و الأسلوب و التركيب و في إخباره عن المغيبات و في تشريعاته.
نزل القرآن على قوم برعوا بالفصاحة و البلاغة و قرض الشعر فارتجزوه و علّقوه على أستار الكعبة و سجدوا له،فلما سمعوا القرآن ذهلوا و أسقط في أيديهم و قال كبيرهم:
إن لهذا القرآن لحلاوة و إن عليه لطلاوة و إن أعلاه لمثمر و إن أسلفه لمغدق و إنه ليعلو و لا يعلى عليه.و قد ألّف الكثير من العلماء في وجوه إعجاز القرآن المؤلفات الكثيرة و جاء في هذا العصر الفتنة بالعلم فألهوا المادة و أعمتهم الحضارة الحديثة فوضعوها في المقام الأول،و ربما قدموا النظريات العلمية على الحقائق الدينية،فإذا عرضت لمسألة دينية أو حكم شرعي قالوا لك:و لكن هذا لا يقره العلم و لا يوافق عليه و ما دروا أن
ص: 11
الحقائق الدينية يقينيّة و أن النظريات العلمية مبنية على الظن و الحدس وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (1)،فلا يمكن للنظرة العلمية أن تتصادم مع الحقائق الدينيّة،لأن مصدر الدين و العلم واحد قال تعالى: وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ (2)و قال:
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً (3) في هذا الجو المحموم من الفتنة بالعلم كان لا بد من التصدى لوثنية العلم و عولمة الإلحاد فجاء هذا الكتاب لعرض الحقائق العلمية المبثوثة في كتاب اللّه ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ (4)كل آية من كتاب اللّه لها منطوق و مفهوم و المستفاد بالعبارة و الإشارة و القرآن حمّال معاني إلى قيام الساعة له دلالة بالنص و العبارة و له دلالة بالإشارة بالمنطوق و المفهوم قوله تعالى: وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ (5)نص بالنفقة على الوالد و قوله:المولود له مع مولود لهما إشارة إلى أن النسب للأب،و في قوله تعالى: بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (6)في معرض التحدي و الرد على منكري البعث،العين أعقد تركيبا من البنان و لكن المراد إن لكل إنسان بنانه الخاص و بصمته التي تميزه عن سواه،و من آياته أيضا اختلاف ألسنتكم و ألوانكم، و إعجاز القرآن يتجلى بأنه كتاب هداية و علم أدنى العامة فهما يقرأه فيهتدي بمواعظه و أعلى الخاصة فهما يقرأه فيجد فيه الفلسفة العميقة و العلم الدقيق.
و ختاما جزى اللّه المؤلف خير الجزاء،و نفع به و بمؤلفه المؤمنين و المسلمين، و جعل هذا الكتاب دستور هداية لكل طالب للحقيقة و بداية لمزيد من الكشف و البحث، فهو الكتاب الذي لا تفنى عجائبه،و لا تنفد غرائبه،و لا يشبع منه العلماء،و لا يمله الحكماء،و لا يبلى على كثير و الرد...و السلام.
الشيخ محمد حكمت المعلم4.
ص: 12
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد للّه رب العالمين،و الصلاة و السلام على المبعوث رحمة للعالمين،سيّدنا محمّد و على آله و صحبه و من سار على نهجهم و اتبع هداهم إلى يوم الدين و بعد:
لقد تبوّأ القرآن الكريم سدّة الصدارة في حياة المسلمين،فتحلّق حوله المسلمون ينهلون من ينابيعه الصافية و يتزوّدون من معينه الذي لا ينضب،فكان نورا لعقولهم، و مرشدا في حياتهم،و قبسا وضّاء لأرواحهم و نفوسهم...و القرآن الكريم منذ نزل من السماء رسم معالم الطريق للبشرية،و ضبط سلوكهم بتشريعه و إرشاداته،فكان المحور الذي تدور حوله أهداف المفكرين و العباقرة،و الدافع الحيّ لأساطين العلم و التأليف على الاستمرار و التواصل في مسيرة الاستنباط و الكتابة و التعليم...
و هو صمام الأمان من كل زلل،و العصمة الواقية،و الحجة البالغة،و النور الساطع؛ يا أَيُّهَا النّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (1).
و لقد قام جهابذة العلم قديما و حديثا بدراسة القرآن الكريم،و تشرفوا بخدمته،فبرع المفسرون لآيات الذكر الحكيم،يعرضون أسباب النزول و يبينون الناسخ و المنسوخ، و يوضحون المحكم منه و المتشابه،فأثرت دراساتهم هذه المكتبة العربية،بل و فاضت الكتب،تأليفا و تصنيفا و تبويبا و تحقيقا،حول القرآن و علومه...
و لقد فكرت مليا،و أنا الضعيف القاصر في آيات كتاب اللّه،فرأيت أن تكون خدمتي لكتاب اللّه في الوقوف عند الآيات الكونية فيه (2)،فهي جديرة بالبحث و التحليل و الكشف عن بعض أسرارها،فأسرار القرآن الكريم ذاخرة في كل آية من آياته،و عطاء هذا الكتاب متجدّد على ممر الأحقاب و ترادف الدهور...
ص: 13
و من أهم الأسباب التي دفعتني لاختيار هذا الموضوع و للكتابة فيه،أننا نعيش في عصر الثورة العلمية،و ينبغي أن نسخّر طاقاتنا و كل ما نملك في عصر السرعة هذا في سبيل دعوة الناس إلى اللّه تعالى،و الدعوة إلى اللّه تعالى تتعدّد سبلها و تختلف وسائلها تبعا لاختلاف الزمان و المكان و الحال،و هذا هو السر في تباين وسائل الدعوة و أدواتها لدى الأنبياء و المرسلين عليهم السّلام،فكانت بيناتهم تنسجم و تتناسب مع المستوى العلمي و العقلي لأقوامهم،لكن تلك البينات كانت حياتها مرهونة بحياة أصحابها من الأنبياء، فبرحيلهم عن هذا العالم،رحلت معهم بيناتهم،إلا ما خلدته الكتب السماوية و التاريخ.
و لئن كان علماؤنا اشترطوا مطابقة الدعوة للحال،فإن أبرز ظاهرة تميّز بها عصرنا أنه عصر الاكتشافات العلمية،و الثورة التقنية التكنولوجية،فالإعجاز العلمي بناء على ذلك هو أهم وسيلة دعوية تتلاءم مع معطيات زماننا،ذلك لأن الإيمان بالله تعالى ما هو إلا ثمرة تحريك العقل و إعمال الفكر قبل أن يكون مسألة عاطفية شعورية.
و مما لا يخفى على أحد،أن الداعية ينبغي أن يتسلّح بسلاح المنطق السليم و البرهان القويم،ليقيم الحجة و يثبت صدق دعوته،و إن السلاح العلمي المادي يعتبر من أقوى الأدلة المقنّعة للمكلفين،ذلك لأنه مشاهد و مرئي و لا يستطيع أحد أن ينكره...و إبراز مظاهر الإعجاز العلمي في هذا الصدد،و التي تتمثل في عرض الآيات الكونية العلمية مقارنة مع المكتشفات العصرية،لهو أعظم أسلوب يتفق مع ما توصل إليه الإنسان في هذا العصر،و الذي يمعن النظر في آي القرآن الكريم،و ما ورد مما صح عن النبي الكريم صلى اللّه عليه و سلم يلاحظ أن عددا ليس بالقليل من الآيات و الأحاديث توجه عقولنا لدراسة الآيات الكونية مع معطيات العلوم الإنسانية،ليقف الإنسان بعد ذلك على مشاهد الجلال في كتاب اللّه تعالى حيث يتضح له السبق القرآني في ميدان إثبات الحقائق العلمية،و هذه الحقائق تتضح و تنجلي كلما تقدم العلم،و انكشفت أستار الكون و اتضحت غوامضه و بانت خفاياه،قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ (1).
و يشار إلى أن هناك عددا ليس بالقليل من الكتب التي استفدت منها،سواء في الدراسة التاريخية أم في التطبيقات المعاصرة،و من هذه الكتب:«مباحث في إعجاز3.
ص: 14
القرآن» (1)للدكتور«مصطفى مسلم»،و«الإعجاز في دراسات السابقين» (2)«لعبد الكريم الخطيب»،و«فكرة إعجاز القرآن» (3)«لنعيم الحمصي»،و«المعجزة الكبرى» (4)«لمحمد أبو زهرة»،و«الشفا بتعريف حقوق المصطفى» (5)«للقاضي عياض»،و«إعجاز القرآن» (6)«للباقلاني»،و في التطبيقات المعاصرة كتاب«الأرض مقدمة للجيولوجيا الطبيعية» (7)«لتاربوك لوتجنز»،و«الدقائق الثلاث الأولى من عمر الكون» (8)«لستيفن ونبرغ»،و«علم المحيطات» (9)«لريتشارد فيتر»،و«علم الفلك» (10)«لبيرسي سيمور»، و«الكون» (11)«لسان ساغان»،و غيرها كثير.
إلا أن ما يلاحظ على ما كتبه و توصل إليه السابقون ما يلي:
-معظم الذين كتبوا في هذا المجال،كانوا لا يرجعون إلى المصادر العلمية/.
ص: 15
الأصلية أعني العلوم التطبيقية،فكانوا يتناقلون المعلومات فيما بينهم،و هنا آثرت أن أرجع إلى الكتب العلمية التي كتبها الغربيون أنفسهم و غيرهم من أهل الاختصاص و أتناول المادة من مصادرها الأصلية.
-كثير من الكتب تخصّصت في الحديث عن العلوم و الاكتشافات العصرية دون الإشارة إلى الناحية التاريخية،و قليل منها تحدث عن الناحية التاريخية دون الإشارة إلى القضايا التطبيقية،لكني حاولت أن أجمع بينهما.
-معظم الذين كتبوا في هذا المجال لم يلتزموا بالضوابط و الموازين التي وضعها العلماء للتفسير العلمي،بل اعتمدوا في بحوثهم على النظريات و الفرضيات،و أقحموا المعارف الكونية إقحاما،أو أثنوا أعناق الآيات لتفسيراتهم،و كما هو معلوم أن النظريات تتغير و تتبدل،و لكنني اعتمدت في بحثي على القضايا اليقينية التي ارتقت إلى مستوى القطعية و ما أكثرها..و هذا هو السبب في أنني لم أخصص الرسالة في جانب معين،و الذين خصصوا أبحاثهم في جانب معين تجاوزوا الحدود و الضوابط،فالذي كتب في الطب القرآني مثلا،أكثر من ذكر القضايا الطبية،و كأن الكتاب كتاب طب، و هكذا في سائر العلوم،فمن أجل المحافظة على مقاصد الآيات،اكتفيت هنا بالحديث عن الإشارات القرآنية،و لم أجعل من القرآن الكريم كتاب علم فقط.
و المنهج المعتمد في هذه الدراسة،هو منهج الاستنباط و المقابلة،فإننا نستنبط من الآيات القرآنية ما نقف عليه من القضايا الكونية الثابتة عند المقابلة الدقيقة،و لسوف يكون مجال الدراسة هو رياض القرآن الكريم و معطيات العلوم الكونية.
و لا يخفى أن أي طالب أو باحث تعتريه خلال خطوات بحثه صعوبات و إشكالات تعرقل له مسيرة بحثه،لكن بفضل اللّه تعالى،ثم بفضل توجيهات الأستاذ المشرف و غيره من أهل العلم و الاختصاص،تذلل هذه الصعوبات و يتسنّى للطالب القدرة على تركيب مفردات القضية المدروسة ثم بناؤها بالشكل الدقيق.
و من أبرز ما استوقفني من المصاعب خلال مراحل البحث،محاولة هضم القضايا العلمية و الإحاطة بمصطلحاتها المتنوعة،فكنت أطيل القراءة في الكتب العلمية لفهم مصطلح معين أو قضية ما،و لا شك أن توفر كل وسائل البحث و الكتب المطلوبة أمر صعب للغاية،مما حتّم عليّ السفر و التنقل المستمر للحصول على المراجع المطلوبة، فضلا عمّا هو متوفر في المكتبات العامة،و قد سافرت إلى العديد من البلدان، و استفدت بفضل اللّه تعالى من هذه التنقلات.
ص: 16
و في المقابل فإن المستجدات العصرية التقنية المتطورة سهلت عليّ كثيرا من المشاكل،و من أهمها شبكة(الإنترنت)التي استفدت من مواقعها بشكل كبير،و خاصة في الجوانب العلمية البحتة،كذلك في الدخول على مواقع العلماء في التخصّصات المختلفة و الاستفادة منهم،أضف إلى ذلك القضايا العلمية المدونة باللغة الإنكليزية و التي قمت بترجمتها و الاستفادة منها،متوخيا في كل ذلك الدقة في المعلومة و التوثيق لما أسجله من بيانات و اقتباسات من الكتب المعتمدة،و يذكر أن الاستبيانات الشخصية من العلماء و الالتقاء بهم،كان دافعا للبحث إلى الأمام.
الخطة التي وفّقني المولى عزّ و جلّ لأسير عليها،تتضمن مقدمة،و عشرة فصول، و خاتمة،و كانت الفصول الثلاثة الأولى عبارة عن دراسة تاريخية لقضية إعجاز القرآن الكريم عبر التاريخ،و سبعة فصول عن التطبيقات المعاصرة للإعجاز العلمي في القرآن الكريم.
المقدمة:و تحدثت فيها عن أهمية البحث و سبب اختياري للموضوع،و أشرت إلى من سبق و أن كتب في هذا الموضوع،و الجهد الذي توصلوا إليه مبينا نتائج عملهم من مزايا و مآخذ،و ذكرت عددا من أبرز المراجع التي ارتكز البحث عليها،كما أنني أوضحت المنهج المتبع في هذه الرسالة،و أشرت إلى بعض الصعوبات التي اكتنفت البحث خلال مراحله،و في المقابل بيّنت ما قدم للبحث من تسهيلات.
الفصل الأول:و تضمن الحديث عن مفهوم المعجزة،و الفرق بين معجزة رسولنا محمد صلى اللّه عليه و سلم و معجزات الأنبياء من قبله عليهم السّلام،و عن التسلسل التي مرت به مراحل التحدي بالقرآن الكريم و كيف أن المشركين أعلنوا عجزهم و اعترافهم بعظمة كتاب اللّه تعالى.
الفصل الثاني:و جاء فيه الحديث عن نشأة الإعجاز في القرآن الكريم،و ما هي العوامل التي أدّت لظهور مصطلح الإعجاز،و أشرت إلى قضية«الصرفة»و أبرز القائلين بها،ثم نقد مذهب الصرفة من الناحية النقلية و العقلية،و بيّنت أوجه إعجاز القرآن و آراء العلماء في ذلك.
الفصل الثالث:تعرض للحديث عن الإعجاز العلمي في القرآن بين المؤيدين له و المعارضين و ذكرت أبرز العلماء المؤيدين من القدامى و المعاصرين،و كذلك أبرز
ص: 17
العلماء المعارضين من القدامى و المعاصرين،و أوضحت وجهة نظر كل من الفريقين، ثم أوردت أدلة كل منهما،و ذكرت الترجيح بعد مناقشة موضوعية.
الفصل الرابع:صدّر هذا الفصل بمدخل ارتكز على ثلاثة محاور هي:الإسلام دين العلم و الإعجاز العلمي كسبيل من سبل الدعوة،و الضوابط العلمية لتفسير القرآن على أساس العلم و تضمن هذا الفصل الحديث عن علم الفلك في القرآن الكريم،من حيث نشأة الكون،و تمدده،و نهايته،كل ذلك بين النصوص القرآنية و الحقائق العلمية.
الفصل الخامس:تحدثت فيه عن نجم الشمس و طبيعة تكوينه،و عن حركات الشمس و تنقّلاتها و تطرقت للحديث عن هذا النجم المتوهج و الملتهب و سبب ذلك، و عن تعدد الشموس و الأقمار في هذا الكون الرحيب،و النظام الإلهي الدقيق الذي يلف الكون بأسره.
الفصل السادس:و جاء فيه الحديث عن القمر و لما ذا هو منير و ليس ملتهبا،و عن حادثة انشقاق القمر ثم رتقه،و مآل القمر أنه سيجمع مع الشمس يوما ما.
الفصل السابع:و تضمن الحديث عن كوكبنا الأرض و ما فيه من آيات،و عن حركة الأرض و دورانها،و أشرت إلى قوة الجاذبية الأرضية و ما فيها من أسرار،كما تعرضت للغلاف الجوي للأرض من أكثر من زاوية،و عن نهاية الأرض و نقصانها و تآكلها بين القرآن و العلم.
الفصل الثامن:و تناولت فيه قضية الرياح،كتلك التي تبشر بالخير و الرحمة مثل «اللواقح و المبشرات»و أشرت إلى تكوين السحب و أنواعها،و إلى اللفتات العلمية في البرد و الرعد.
الفصل التاسع:تعرض للحديث عن علم الجبال،من حيث كيفية نشأة و تكوين الجبال،و كيف أن الجبال كانت كالوتد تحافظ على توازن الكرة الأرضية و استقرارها، و عن السر في الربط بين شهوق الجبال و غزارة المياه،و عن تعدد صخور الجبال و تعدد أنواعها و أشكالها.
الفصل العاشر:و جاء للحديث عن عالم البحار و الماء،و كيف أن الظلمات تتنوع و تتفاوت في البحار،و أشرت إلى وجود أمواج سطحية و أخرى جوفية،و عن اختلاط ماء البحر مع ماء النهر دون امتزاج،و أوضحت أن البحار مسجّرة في قاعها،و لما ذا تهتز الأرض بنزول ماء السماء بين القرآن و العلم.
ص: 18
الخاتمة:و ضمنتها أهم نتائج البحث مع ذكر بعض التوصيات.
و إني أتوجه بالشكر الجزيل إلى الأساتذة و العلماء و الإداريين في كل من كلية الإمام الأوزاعي في بيروت،و جامعة الشارقة،و جامعة أم درمان الإسلامية في الخرطوم، و إلى كل الأساتذة المتخصصين الذين تكرموا بمراجعة الرسالة و ترميم ما فيها من هنات،كما أشكر الإخوة الكرام الدكتور حسين الأميري و الأخويين الغاليين أحمد الحسن و رضوان شعبان لإسهامهم في إخراج هذه الرسالة،فجزى اللّه الجميع عني كل خير.
و أخيرا،فإن ما قدمته من جهد متواضع أسأل اللّه العلي القدير أن ينفع به الناس، و أن يجعله اللّه في ميزان حسناتي،و سببا لمغفرة زلاتي إنه جواد كريم.
و أتوجه إلى العلي القدير،أن يجعلني بجهدي المتواضع هذا من خدام كتابه المجيد،و سنة نبيه الكريم صلى اللّه عليه و سلم إنه ولي ذلك و القادر عليه و الحمد للّه رب العالمين.
ص: 19
ص: 20
تمهيد.
المبحث الأول:تعريف المعجزة لغة و اصطلاحا.
المبحث الثاني:الفرق بين معجزة النبي محمد صلى اللّه عليه و سلم و معجزات الأنبياء السابقين.
المبحث الثالث:مراحل التحدي بالقرآن الكريم.
المبحث الرابع:عجز المشركين و اعترافهم بعظمة القرآن الكريم.
ص: 21
ص: 22
إن المدقق في كتاب اللّه المجيد،و المتتبع لآيات الذكر الحكيم،لن يقف على لفظة المعجزة أبدا و كذلك الأمر ذاته في السنة المطهرة،و في أقوال الصحابة الكرام، غير أن القرآن الكريم استعمل ألفاظا أخرى تدل على مفهوم المعجزة،و ذلك في سياق إثبات نبوة الأنبياء عليهم السّلام،فمن تلك الألفاظ التي استعملها القرآن الكريم لغرض إثبات صدق الرسل لفظة:البينة،الآية،البرهان،و غيرها من الألفاظ الواردة في ثنايا قصص الأنبياء أو في معرض إقامة الحجة و البرهان في شتى المجالات.
يقول ابن تيمية (1):(و الآيات و البراهين الدالة على نبوة محمد كثيرة متنوعة و هي أكثر و أعظم من آيات غيره من الأنبياء،و يسميها من يسميها من النظار معجزات، و تسمى دلائل النبوة و أعلام النبوة،و هذه الألفاظ إذا سميت بها آيات الأنبياء كانت أدل على المقصود من لفظ المعجزات و لهذا لم يكن لفظ المعجزات موجودا في الكتاب و السنة و إنما فيه لفظ الآية و البينة و البرهان) (2).
(و إنما ظهر مصطلح المعجزة،في وقت متأخر بعض الشيء،عند ما دونت العلوم، و منها علوم العقائد في أواخر القرن الثاني الهجري و بداية الثالث) (3).
ص: 23
و سوف يذكر في هذا الفصل إن شاء اللّه تعريف المعجزة في اللغة و الاصطلاح، و بيان الفرق بين معجزة نبينا محمد صلى اللّه عليه و سلم و غيره من الأنبياء،ثم يعرج للحديث عن إعجاز القرآن و تحديه للعرب و الناس جميعا و يوضح عجز العالم عن مجاراة هذا الكتاب العظيم،و شهادتهم في ذلك.
ص: 24
المعجزة لغة:تحدث علماء اللغة عن الفعل:عجز،و مضارعه:يعجز،و المصدر منه:إعجاز،فعند ابن منظور(العجز:نقيض الحزم،عجز عن الأمر يعجز و عجز عجزا فيهما،و عجز فلان رأي فلان إذا نسبه إلى خلاف الحزم،كأنه نسبه إلى العجز،و العجز:الضعف) (1).
و في معجم مقاييس اللغة:(عجز عن الشيء يعجز عجزا،فهو عاجز،أي ضعيف، و قولهم:إن العجز نقيض الحزم فمن هذا،لأنه يضعف رأيه و يقولون:المرء يعجز لا محالة،و يقال:أعجزني فلان إذا عجزت عن طلبه و إدراكه و لن يعجز اللّه تعالى شيء، أي لا يعجز اللّه تعالى عنه متى شاء،و في القرآن:
وَ أَنّا ظَنَنّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللّهَ فِي الْأَرْضِ وَ لَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (2) (3) ،و يشير الفيروزآبادي إلى أن معنى العجز هو التثبيط فيقول:(التعجيز:التثبيط،و النسبة إلى العجز،و معجزة النبي صلى اللّه عليه و سلم ما أعجز به الخصم عند التحدي) (4).
و في«تاج العروس»:(العجوز،بالضم كعقود:الضعف و عدم القدرة،و في المفردات للراغب و البصائر و غيرهما،العجز:أصله التأخر عن الشيء و حصوله عند عجز الأمر أي مؤخره كما ذكر الدبر،و صار في العرف اسما للقصور عن فعل الشيء
ص: 25
و هو ضد القدرة،و في حديث عمر:لا تلثّوا بدار معجزة،أي لا تقيموا ببلدة تعجزون فيها عن الاكتساب و التعيش) (1).
رأينا أن مدلول كلمة:عجز،أعطانا عدة معاني،و إن تباينت بعض الشيء تبعا لاشتقاقاتها إلا أنها تدل بمجملها على الضعف،و هذا المصطلح مفتقر إلى قرينة تدل على معناه عند ما يرد في سياق الكلام ذلك لأنه مبهم إذا ما جرد عن القرائن،و يتضح هذا الذي نقول عند ما نطلق كلمة العجز على شخص،فنقول على سبيل المثال:زيد من الناس أصابه عجز،فما هو هذا العجز يا ترى؟هل عجز في جسده،و ما هو نوعه و صفته،أم أنه عجز مالي،أم أنه عجز في الإدراك و التفكير و كذلك الأمر إذا أطلق هذا اللفظ في شتى جوانب الحياة،غير أن علماء الكلام إذا أطلقوا مصطلح«المعجزة» فإنهم يعنون به المعنى الاصطلاحي الذي نثبته هنا،يقول السيوطي:(المعجزة،أمر خارق للعادة،مقرون بالتحدي،سالم من المعارضة،يظهره اللّه على يد رسله) (2).
و هكذا عرّف المعجزة ابن خلدون في مقدمته،حيث يقول:(إن المعجزات هي أفعال يعجز البشر عن مثلها فسميت بذلك معجزة،و ليست من جنس مقدور العباد، و إنما تقع في غير محل قدرتهم) (3).
و من خلال استعراض تعريف المعجزة،يمكن لنا أن نتبين شروطها،و سترد هذه الشروط كما ذكرها الإيجي (4)في المواقف بشكل موجز:
ص: 26
الشرط الأول:أن يكون فعل اللّه أو ما يقوم مقامه من المتروك،و إنما اشترط ذلك لأن التصديق من اللّه تعالى لا يحصل بما ليس من قبله،و قولنا:أو ما يقوم مقامه ليتناول التعريف مثل ما إذا قال:معجزتي أن أضع يدي على رأسي و أنتم لا تقدرون عليه ففعل و عجزوا،فإنه معجز دال على صدقه،و معنى المتروك،أي عدم الفعل، كعدم إحراق النار لسيدنا إبراهيم عليه السّلام.
الثاني:أن يكون المعجز خارقا للعادة،إذ لا إعجاز دونه،فإن المعجز ينزل من اللّه منزلة التصديق بالقول،و ما لا يكون خارقا للعادة بل معتادا،كطلوع الشمس في كل يوم،و بدوّ الأزهار في كل ربيع،فإنه لا يدل على الصدق لمساواة غيره إياه في ذلك.
الثالث:أن يتعذر معارضته،فإن ذلك حقيقة الإعجاز.
الرابع:أن يكون ظاهرا على يد مدعي النبوة.
الخامس:أن يكون موافقا للدعوى،فلو قال:معجزتي أن أحي ميتا ففعل خارقا آخر كنتق الجبل مثلا لم يدل على صدقه.
السادس:أن لا يكون ما دعاه و أظهره من المعجزة مكذبا له فلو قال:معجزتي أن ينطق هذا الضب فقال:إنه كاذب،لم يعلم به صدقه بل ازداد اعتقاد كذبه.
السابع:أن لا يكون المعجز متقدما على الدعوى بل مقارنا لها،لأن المعجز تصديق من اللّه و رسوله فلا يتصور أن يأتي التصديق قبل دعوى النبوة (1).
و تجدر الإشارة إلى أهم صفات المعجزة في القرآن الكريم،حيث إنها من لدن الحق عزّ و جلّ و الله سبحانه و تعالى يؤيد بها رسله لتكون آية على صدق دعواهم،و برهانا ساطعا على أن ما أتوا به هو من عند اللّه،و دورهم هو التبليغ و البيان،فلا يملك رسول من الرسل قدرة على إيجاد المعجزة من تلقاء نفسه،و لا يستطيع خرق ناموس من نواميس الحياة بقوة ذاتية تصدر من كيانه إلا بأمر اللّه و مشيئته،و هذا المعنى نطق به كتاب اللّه تعالى في غير ما موضع،من ذلك على سبيل المثال،قول اللّه تعالى على لسان عيسى بن مريم عليه السّلام: وَ رَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَ أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَف.
ص: 27
وَ أُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللّهِ وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) .
و في هذا الصدد يقول الحق عز و جل: وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (2).
و يؤكد الحق عز و جل على نفي طاقة النبي و عجزه عن أن يأتي بمعجزة من عنده و إن كان أشرف الخلق و أكرمهم على الحق،إلا أن ذلك الشرف لا يتعد طوق البشر ليصل إلى درجة الخلق أو الخرق،و إلى هذا يشير بيان اللّه بقوله وَ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (3).
يعلق الشيخ رشيد رضا (4)على هذه الآية فيقول:(...و إن كان شأنك معهم أنه كبر عليك إعراضهم عن الإيمان و عن الآيات القرآنية و العقلية الدالة عليه،و ظننت أن إتيانهم بآية مما اقترحوا يدحض حجتهم،و يكشف شبهتهم،فيعتصمون بعروة الإيمان عن بينة ملزمة و برهان،فإن استطعت أن تبتغي لنفسك نفقا كائنا في الأرض،أو معناه تطلبه في الأرض فتذهب في أعماقها،أو سلما في جو السماء ترقى عليه إلى ما فوقها فتأتيهم بآية مما اقترحوا عليك منهما،فأت بما يدخل في طوع قدرتك من ذلك.أي و ليس ذلك في قدرة البشر و إن كان رسولا،لأن الرسالة لا تخرج الرسول عن طور البشر في صفاتهم البشرية كالقدرة و الاستطاعة،فهم لا يستطيعون إيجاد شيء مما يعجز عنه البشر و لا يقدر عليه إلا الخالق تعالى) (5).7.
ص: 28
من القضايا البدهية في تاريخ الأديان و سير الأنبياء و المرسلين،أن الحق تبارك و تعالى جعل لكل نبي من الأنبياء آية أو معجزة تدل على صدق دعواه،و تفتح هذه المعجزة باب التحدي للقوم المرسل إليهم،لتبرز لهم وجوه الإعجاز التي لم يسبق لهم و أن تعاهدوها في سالف حياتهم أو حاضرهم.
و من كمال الحكمة أن تكون تلك المعجزة منسجمة و ملائمة لما نبغ فيه القوم و شاع في أوساطهم،في مختلف المجالات و شتّى مرافق الحياة،و الباعث على هذه الملائمة تعزيز إدراك كنه المعجزة و طبيعتها،و الكشف عن خواصها و حقيقتها،ليتسنّى للقوم المرسل إليهم معرفة وجه الحق من الباطل،و لن يتمكنوا من اتخاذ موقف حيال هذه الدعوى التي عرضت عليهم إلا بعد معرفتها فإذا ما تجلت لهم و اتضحت،استطاعوا يوم ذاك أن يصدروا الحكم عليها سلبا أو إيجابا لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره كما هو معلوم.
و لا غرابة أن يؤيد النبي بأكثر من معجزة،بل إن في ذلك ترسيخا لصدق مدعيها و تأكيدا على وجوب الخضوع لسلطانها و الانقياد لمستلزماتها.
(فموسى عليه السّلام قد حمل إلى بني إسرائيل عصا كانت تتفجّر منها المعجزات...
يلقي بها من يده فتنقلب حية تسعى،و يضرب بها البحر فينفلق عن طريق يبس بين جبال عالية من الماء...و يضرب بها وجه الحجر فيتفجر منه الماء،و تسيل العيون...ثم كان معه إلى جانب تلك العصا و معجزاتها معجزة أخرى هي يده،يدخلها في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء...ثم من معجزاته كذلك سوق آيات النقمة و البلاء على
ص: 29
فرعون و قومه) (1). فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَ الْجَرادَ وَ الْقُمَّلَ وَ الضَّفادِعَ وَ الدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (2).
و كذلك عيسى عليه السّلام كانت معجزاته متنوعة،كما قال الحق عز و جل: وَ رَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَ أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ وَ أُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللّهِ وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (3).
و قد تقرن المعجزة بتنزل الوحي من أول مرة،من غير سابق علم أو معرفة أو سؤال و هذا ما جرى لكليم اللّه موسى عليه السّلام كما أخبر القرآن بذلك،قال تعالى: فَلَمّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَ سارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ(29) فَلَمّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ(30) وَ أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلّى مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَ لا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ(31) اُسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَ اضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ(32) (4).
و يؤيد الرسول بالمعجزة بعد دعوة قومه إلى الهدى و الإيمان،فيكذبونه و يعرضون عن دعوته و تعاليم السماء،ثم يطلبون منه المعجزة الدالة على صدقه فيعطاها،و هذا ما جرى لمعظم الأنبياء و المرسلين عليهم السّلام.
قال تعالى: وَ إِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ(65) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَ إِنّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ(66) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ(67) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ أَنَا لَكُمْ ناصِحٌ2.
ص: 30
أَمِينٌ(68) أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَ زادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(69) قالُوا أَ جِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَ نَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ(70) (1) .
و هكذا مع سائر الأنبياء...و كيفما كان الحال،فإن المعجزة عطية من اللّه تعالى لرسوله يختارها له في الكيفية التي يشاؤها و لمن يريدها.
إذا علمنا هذا،فإننا من خلال عرض و استقراء معجزات الأنبياء السابقين يتضح أن معجزاتهم على نوعين:
النوع الأول:حسية،و قد أيد جميع رسل اللّه بها.
النوع الثاني:كتب و صحف منزلة،إلا أن هذه الصحف و تلك الكتب منها ما قد اندثر في غياهب الزمان،و انحجب عنا فأصبح أثرا بعد عين،كصحف إبراهيم و الزبور و غيره،و منها ما قد تسرب إليه التبديل و التحريف و لم يسلم منه إلا القليل،كالتوراة و الإنجيل.
و هذه المعجزات كما علمنا كانت منسجمة مع البيئة و المحيط الذي ظهرت فيه، و متناسبة مع المستوى العقلي و العلمي و الاجتماعي لدى القوم الذين خوطبوا بها،إلا أن تلك المعجزات المادية كانت حياتها مرتبطة بحياة أصحابها من الأنبياء،فلما رحل الأنبياء إلى دار القرار،ذهب وجه الإعجاز لتلك البينات من حيز الواقع المشاهد و المرئي،و لم يبق منها إلا النقول و الأخبار عبر وحي اللّه تعالى تقريرا و تحقيقا،و عبر التاريخ رواية.
و الشواهد كثيرة في كتاب اللّه تعالى على ما ذكرنا...(فالأنبياء الذين عاشوا في البلاد العربية كانت معجزاتهم مناسبة لبيئة العرب الصحراوية،فمعجزة صالح عليه السّلام كانت ناقة غريبة المنشأ و المولد بين نوق أهل البادية) (2).
قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ(153) ما أَنْتَ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ(154)3.
ص: 31
قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَ لَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ(155) وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) (1) .
و من الملاحظ أن معجزة صالح كانت من جنس ما شاع في أرجاء الجزيرة العربية من تربية الأنعام و رعيها،فلو أن صالحا أتاهم بمعجزة غريبة عنهم كعصا موسى مثلا،أو كإحياء الموتى لاستهجنها القوم و استنكروها و لقالوا بلسان واحد:نحن أمة لا نعرف سحرا و لا طبا،و لو كان لدينا علم بأعمال السحرة و أساليبهم لدحضنا ما جئت به و أبطلنا معجزتك.
و هذا موسى عليه السّلام فلقد اشتهر أهل مصر بالسحر و أفانين السحرة،و من هنا كان لزاما أن يؤيد موسى بمعجزة من نوع ما تعارف عليه قومه ليقيم الحجة عليهم و يثبت صدق ما ادعاه،و من أبرز معجزاته:العصا و اليد،قال تعالى: وَ ما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى(17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَ أَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَ لِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى(18) قالَ أَلْقِها يا مُوسى(19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى(20) قالَ خُذْها وَ لا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21) وَ اضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى(22) (2).
(فلو أن موسى عليه السّلام ذهب إلى فرعون و قومه بمعجزة لغوية كمعجزة النبي صلى اللّه عليه و سلم في القرآن و قرأها عليهم،لقالوا له:إن ما جئتنا به كلام عادي،ليس فيه إعجاز،و لا يدل على صدقك و لو كنا نعرف العربية أو نتقنها كالعرب،لأتيناك بكلام أبلغ من الكلام الذي جئتنا به و لما أفلحت معهم معجزته البلاغية،و ما ذاك إلا لأنهم لا يعرفون العربية،و لو عرفوها لكانت معرفتهم لها معرفة بسيطة لا تمكنهم من الوقوف على وجه الإعجاز في القرآن،و لذلك كان لا بد من معجزة تتناسب مع معارفهم و علومهم) (3).
(و بعد موسى عليه السّلام انتشرت الفلسفة الأيونية،و هي أساس الفلسفة اليونانية فيما بعد و كانت تقوم على الأخذ بالأسباب و المسببات،و تولد العلة من المعلول في انتظام قائم لا يتخلف فجاءت معجزات أنبياء بني إسرائيل في هذا العصر خارقة للأسباب3.
ص: 32
و المسببات،لتثبت أن الكون كله بإرادة مختار،لا يفعل إلا ما يريد و لا يصدر عنه بغير إرادته الثابتة شيء) (1).
و إننا نلحظ هذا المعنى من تعليم اللّه تعالى نبيه سليمان عليه السّلام منطق الطير و الحيوانات الأخرى كالنمل مثلا،قال تعالى: وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَ قالَ يا أَيُّهَا النّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ(16) وَ حُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ وَ الطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ(17) حَتّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ(18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَ قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصّالِحِينَ (19) (2).
و تسخير الريح له،قال سبحانه: وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَ رَواحُها شَهْرٌ وَ أَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ (3).
و في عصر عيسى عليه السّلام نبغ قومه و برعوا بالطب،فكانت المعجزات التي أجراها الحق تبارك و تعالى على يده من جنس ما اشتهر به القوم،و لقد كانت حياة عيسى عليه السّلام حافلة بالمعجزات الربانية بدءا من حمله و حتى رفعه إلى السماء.
فلقد جرت سنة اللّه في خلقه أن يكون الوالدان سببا في إنجاب المولود،فجاءت ولادة عيسى عليه السّلام معجزة خارقة لتلك السنن المعتادة،و في ذلك يقول مولانا تبارك و تعالى:
إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ(45) وَ يُكَلِّمُ النّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلاً وَ مِنَ الصّالِحِينَ(46) قالَتْ رَبِّ أَنّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(47) وَ يُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ (48) (4).
و عند الولادة سطّر القرآن الكريم معجزة نطقه في المهد بالحكمة و فصيح البيان، و كانت كلماته عليه السّلام معجزة في نطقه،و إلجاما لأفواه الذين أرادوا أن ينالوا من أمه8.
ص: 33
العذراء عليها السّلام قال تعالى: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا(27) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَ ما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا(28) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا(29) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا(30) وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا(31) وَ بَرًّا بِوالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبّاراً شَقِيًّا (32) (1).
و من معجزاته التي أجراها اللّه على يديه كذلك،ما ذكر الحق بقوله: إِذْ قالَ اللّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَ عَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلاً وَ إِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَ تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَ إِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَ إِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ (2).
و هكذا نرى أن معجزات الأنبياء السابقين عليهم الصلاة و السّلام كانت منسجمة مع ما نبغ فيه قومهم،لتثبت الحجة عليهم و يقوم البرهان على صدق دعوى الرسل،و لكن كما أشرنا سابقا أن هذه المعجزات كانت محصورة في زمن محدد و مرتبطة بوجود أصحابها من الرسل،و بعد التحاقهم بالرفيق الأعلى،غدت معجزاتهم تاريخا يذكر للعظة و العبرة.
أيّد اللّه سبحانه و تعالى نبيه محمدا صلى اللّه عليه و سلّم بمعجزات حسية مدركة،و بالمعجزة الخالدة القرآن الكريم،و ستذكر لمحة سريعة عن المعجزات الحسية،ليركز بعدها على المعجزة الخالدة.
بين معجزة نبينا محمد صلى اللّه عليه و سلم و معجزات الأنبياء السابقين،قاسم مشترك من جهة المعجزات الحسية فلقد أيّد الحق عز و جل رسوله الكريم صلى اللّه عليه و سلم بمعجزات حسية ورد ذكرها في القرآن الكريم و السنّة المطهرة،من ذلك نبع الماء من بين أصابعه صلى اللّه عليه و سلم،و تكثير
ص: 34
الطعام القليل،و حنين الجذع،و انشقاق القمر و غيرها،و لنوجز العرض في الحديث عن هذه المعجزات.
روى البخاري في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي اللّه عنه أنه قال:(رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و حانت صلاة العصر،فالتمس الناس الوضوء فلم يجدوه،فأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بوضوء،فوضع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يده في ذلك الإناء،و أمر الناس يتوضئوا منه فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه حتى توضئوا من عند آخرهم) (1).
و في رواية،قال قتادة:(قلت لأنس:كم كنتم قال:ثلاثمائة أو زهاء ثلاثمائة) (2).
و روى البخاري في صحيحه كذلك من حديث جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنه قال:(عطش الناس يوم الحديبية،و النبي صلى اللّه عليه و سلم بين يديه ركوة فتوضأ،جهش الناس نحوه،فقال:«ما لكم»؟قالوا:ليس عندنا ماء نتوضأ و لا نشرب إلا ما بين يديك،فوضع يده في الركوة فجعل الماء يثور بين أصابعه كأمثال العيون،فشربنا و توضأنا،قلت:كم كنتم؟قال:
لو كنا مائة ألف لكفانا،إنا كنا خمس عشرة مائة) 3.
ص: 35
و نحن نلحظ أن هذه المعجزة العظيمة أقامت الدليل القاطع على صدق نبوة محمد ابن عبد اللّه صلى اللّه عليه و سلم ذلك لأنها خرقت قوانين البشر،و ما اعتادوا عليه في حياتهم،و أظهرت لهم وجه الإعجاز العظيم،فالماء تراه الأعين كيف ينبع و يفور من بين أصابعه صلى اللّه عليه و سلم و أيدي الصحابة الكرام تغترف منه و تتوضّأ و الناس شربوا منه حتى ارتووا و انطفأ لهيب ظمأهم.
يقول القاضي عياض:(و مثل هذا في هذه المواطن الحافلة و الجموع الكثيرة،لا تتطرق التهمة إلى المحدث به،لأنهم كانوا أسرع شيء إلى تكذيبه لما جبلت النفوس عليه من ذلك،و لأنهم كانوا ممن لا يسكت على باطل،فهؤلاء قد رووا هذا،و أشاعوه و نسبوا حضور الجمّاء الغفير له،و لم ينكر أحد من الناس عليهم ما حدثوا به عنهم أنهم فعلوا و شاهدوه،فصار كتصديق جميعهم له) (1).
(عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي اللّه عنهما قال:كنا مع النبي صلى اللّه عليه و سلم ثلاثين و مائة،فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم:«هل مع أحد منكم طعام»؟فإذا مع رجل صاع من طعام أو نحوه،فعجن،ثم جاء رجل مشرك،مشعان طويل،بغنم يسوقها،فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم:«بيعا أم عطية»أو قال:«أم هبة»قال:لا بل بيع،فاشترى منه شاة،فصنعت،و أمر النبي صلى اللّه عليه و سلم بسواد البطن أن يشوى و أيم اللّه،ما في الثلاثين و المائة إلا قد حز النبي صلى اللّه عليه و سلم له حزة من سواد بطنها، إن كان شاهدا أعطاها إياه،و إن كان غائبا خبأ له،فجعل منها قصعتين،فأكلوا أجمعون و شبعنا،ففضلت القصعتان فحملناه على البعير) (2).
ص: 36
(و عن إسحاق بن عبد اللّه بن أبي طلحة:أنه سمع أنس بن مالك يقول:قال أبو طلحة لأم سليم لقد سمعت صوت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ضعيفا،أعرف فيه الجوع،فهل عندك من شيء؟قالت:نعم فأخرجت أقراصا من شعير،ثم أخرجت خمارا لها فلفّت الخبز ببعضه ثم دسته تحت يدي و لاثتني ببعضه،ثم أرسلتني إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم،قال:
فذهبت به،فوجدت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في المسجد و معه الناس فقمت عليهم،فقال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:«أ أرسلك أبو طلحة»؟فقلت:نعم،قال:«بطعام»؟قلت:نعم،فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لمن معه:«قوموا»فانطلق و انطلقت بين أيديهم،حتى جئت أبا طلحة فأخبرته،فقال أبو طلحة:يا أم سليم،قد جاء رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بالناس،و ليس عندنا ما نطعمهم؟فقالت:اللّه و رسوله أعلم،فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم،فأقبل رسول صلى اللّه عليه و سلم و أبو طلحة معه،فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:«هلمي يا أم سليم ما عندك»فأتت بذلك الخبز،فأمر به رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ففتّ،و عصرت أم سليم عكّة فأدمته،ثم قال رسول اللّه فيه ما شاء أن يقول،ثم قال:«ائذن لعشرة»،فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا،ثم قال:«ائذن لعشرة»فأذن لهم،فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا،ثم قال:
«ائذن لعشرة»فأكل القوم كلهم و شبعوا،و القوم سبعون أو ثمانون رجلا) (1).
و هناك غير هاتين الروايتين في السنن الصحيحة تدل بمجملها على تكثير الطعام القليل بين يديه صلى اللّه عليه و سلم،و هذه من دلائل نبوته صلى اللّه عليه و سلم،و إلا فهل يعقل عادة أن كسارة خبز من شعير،تكفي لسبعين رجل أشداء أقوياء،و يأكلون حتى يشبعوا و يزيد؟.
حديث حنين الجذع حديث مشهور معروف،و قد أخرجه أهل الصحيح و رواه عدد من الصحابة الكرام...
من ذلك ما رواه البخاري من حديث جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنه قال:(كان المسجد
ص: 37
مسقوفا على جذوع من نخل،فكان النبي صلى اللّه عليه و سلم إذا خطب يقوم إلى جذع منها،فلما صنع له المنبر و كان عليه،فسمعنا لذلك الجذع صوتا كصوت العشار،حتى جاء النبي صلى اللّه عليه و سلم فوضع يده عليها فسكنت) (1).
و رواية أخرى لجابر بن عبد اللّه(أن النبي صلى اللّه عليه و سلم كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة فقالت امرأة من الأنصار،أو رجل:يا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أ لا نجعل لك منبرا؟قال:
«إن شئتم»فجعلوا له منبرا فلما كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر،فصاحت النخلة صياح الصبي،ثم نزل النبي صلى اللّه عليه و سلم فضمه إليه يئن أنين الصبي،الذي يسكن،قال:«كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها» (2).
قال صاحب«فتح الباري»معقبا:(...و في الحديث دلالة على أن الجمادات قد يخلق اللّه لها إدراكا كالحيوان بل كأشرف الحيوان،و فيه تأييد لقول من يحمل وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ على ظاهره،و قد نقل ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي،عن أبيه عن عمرو بن سواد عن الشافعي قال:ما أعطى اللّه نبيا ما أعطى محمدا صلى اللّه عليه و سلم،فقلت:
أعطى عيسى إحياء الموتى،قال:أعطى محمدا حنين الجذع حتى سمع صوته،فهل أكبر من ذلك) (3).
معجزة انشقاق القمر من أعظم معجزاته الحسية صلى اللّه عليه و سلم التي خلّدها القرآن الكريم و ثبتت في الصحاح،و هي مكرمة إلهية لرسوله صلى اللّه عليه و سلم،و لم ينشقّ القمر لأحد من قبله من أنبياء اللّه و مرسليه،و قد رآها الناس رأي العين،و شاهدوا انفلاق القمر إلى فلقتين في كبد السماء،و سألوا أهل البوادي و القوافل الرّحالة عن ذلك فما أنكر منهم أحد،إلا من ركب رأسه،و آثر الجحود السافر على دلائل الحق و براهين الهدى.
ص: 38
و يثبت القرآن هذه المعجزة في سورة من كتابه العزيز،سماها سورة«القمر»و كان مطلع استهلالها قول الحق: اِقْتَرَبَتِ السّاعَةُ وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ (1).
روى الطبري بسنده في تفسيره،عن أبي عبد الرحمن السلمي قال:(نزلنا المدائن فكنا منها على فرسخ،فجاءت الجمعة،فحضر أبيّ،و حضرت معه،فخطبنا حذيفة فقال ألا إن اللّه يقول: اِقْتَرَبَتِ السّاعَةُ وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ ألا و إن الساعة قد اقتربت،ألا و إن القمر قد انشق،ألا و إن الدنيا قد أذنت بفراق و إن اليوم مضمار و غدا السباق...) (2).
يقول الحافظ ابن كثير: وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ قد كان هذا في زمان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كما ورد ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة،و قد ثبت في الصحيح عن ابن مسعود أنه قال خمس قد مضين،الروم و الدخان و اللزام و البطشة و القمر،و هذا أمر متفق عليه بين العلماء أن انشقاق القمر قد وقع في زمان النبي صلى اللّه عليه و سلم و أنه كان إحدى معجزاته الباهرات) (3).
و كما ذكر الحافظ ابن كثير بأن الأحاديث في هذه المعجزة ثابتة و كثيرة،و منها ما ورد في صحيح البخاري من حديث ابن عبد اللّه رضي اللّه عنه قال:(انشق القمر و نحن مع النبي صلى اللّه عليه و سلم،بمنى فقال:اشهدوا،و ذهبت فرقة نحو الجبل) (4).
قال الخطابي كما ورد في«فتح الباري»:(انشقاق القمر آية عظيمة لا يكاد يعدلها شيء من آيات الأنبياء،و ذلك أنه ظهر في ملكوت السماء خارجا عن جملة طباع ما في هذا العالم المركب من الطبائع،فليس مما يطمع في الوصول إليه بحيلة،فلذلك صار البرهان به أظهر) (5).
ثم إن حادثة انشقاق القمر على الرغم من استفاضة الأخبار حولها،و تخليد القرآن لها و كفى بالقرآن شاهدا على وقوعها،و ما نقل في الصحيح عن النبي صلى اللّه عليه و سلم على الرغم9.
ص: 39
من هذا كله،فإن العلم يأتي اليوم ليثبت وقوعها،و ذلك عند ما وطأ رواد الفضاء القمر و درسوا خصائصه و ظروفه بكل أنواعها،و كان مما انكشف لهم معجزة انشقاق القمر و سيأتي الحديث عن هذه القضية خلال عرضنا للصور التطبيقية حول الإعجاز العلمي في مبحث القمر إن شاء اللّه تعالى.
و بعد هذا العرض الموجز لطائفة من معجزات رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الحسية،هناك معجزات أخرى كثيرة وردت في الصحاح يمكن الرجوع إليها و الاستزادة و الاستفادة من أخبارها،و من أبرزها معجزة الإسراء و المعراج و غيرها...و يلفت الانتباه هنا إلى قضية لها بالغ الأهمية في هذا الصدد ألا و هي أن المعجزات التي ذكرنا،منها ما قد جرت مجرى إثبات و إظهار صدق رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في دعواه و دون معارضة أو تحد، و منها ما قد تحدى اللّه به القوم،و في كلتا الحالتين دليل ساطع على أن اللّه تبارك و تعالى قد أجرى على يد رسوله الكريم صلى اللّه عليه و سلم معجزات كانت خارقة لنواميس الكون و ما اعتاده البشر في حياتهم،و في نفس الوقت هي دليل على أن ما جاء به محمد صلى اللّه عليه و سلم هو من عند اللّه تبارك و تعالى...و في هذا يقول ابن حجر:(...و أما ما عدا القرآن من نبع الماء من بين أصابعه و تكثير الطعام و انشقاق القمر و نطق الجماد،فمنه ما وقع التحدي به، و منه ما وقع دالا على صدقه من غير سبق تحد،و مجموع ذلك يفيد القطع بأنه ظهر على يده صلى اللّه عليه و سلم من خوارق العادات شيء كثير) (1).
ثم إن هذه المعجزات الحسية التي وردت إن وقع بها التحدي للقوم الذين كذبوا النبي كانت معجزة،لأنه يشترط في المعجزة و كما مرّ معنا التحدي،و إن لم يقع بها التحدي،كتكثير الطعام و نبع الماء من بين أصابعه الشريفة صلى اللّه عليه و سلم،فهذه تدخل في نطاق دلائل و علامات النبوة،لأنه لا تحدي أي هي مما يعجز القوم عن الإتيان به،فمن من البشر ينبع الماء من بين أصابعه عند ما يشاء؟
و هذا ما أوضحه ابن حجر في مستهل حديثه عن علامات النبوة فقال:(العلامات جمع علامة و عبر بها المصنف لكون ما يورده من ذلك أعم من المعجزة و الكرامة و الفرق بينهما أن المعجزة أخص و لأنه يشترط فيها أن يتحدى النبي من يكذبه بأن7.
ص: 40
يقول:إن فعلت كذلك أتصدق بأني صادق،أو يقول من يتحداه:لا أصدقك حتى تفعل كذا،و يشترط أن يكون المتحدى به مما يعجز عنه البشر في العادة المستمرة،و قد وقع النوعان للنبي صلى اللّه عليه و سلم في عدة مواطن،و سميت المعجزة،لعجز من يقع عندهم ذلك عن معارضتها) (1).8.
ص: 41
سبقت الإشارة إلى أن من شروط المعجزة التحدي،و بما أن القرآن الكريم هو المعجزة الخالدة و هو الآية الساطعة الناطقة بنبوة محمد صلى اللّه عليه و سلم،فكان لزاما أن يميط اللثام عن مزاعم القوم،و ضعفهم و عجزهم أمام عظمته و إعجازه،فلذلك دخل معهم ساحة التحدي،و ميدان المبارزة...
و نلحظ ذلك في غير ما موضع من كتاب اللّه تعالى،حيث مهّد للتحدي بآيات عظيمة تعلن أن مصدر هذا القرآن هو من عند اللّه عز و جل،و من المحال أن يصدر من أدمغة البشر مهما ترقوا في مدارج العبقرة و التأمل...
و ها هو ذا يؤكد هذا المعنى من جهة،و يبدد سحب الظلام التي تغشّت سماء عقول القوم من جهة أخرى حول مصدر القرآن الكريم،قال تعالى: وَ ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللّهِ وَ لكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ... (1).
جاء في«فتح القدير»عند هذه الآية:(أي و ما صح و ما استقام أن يكون هذا القرآن المشتمل على الحجج البينة و البراهين الواضحة يفترى من الخلق من دون اللّه،و إنما هو من عند اللّه عز و جل و كيف يصح أن يكون مفترى،و قد عجز عن الإتيان بسورة منه،القوم الذين هم أفصح العرب لسانا و أدقهم أذهانا وَ لكِنْ كان هذا القرآن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب المنزلة على الأنبياء،و نفس هذا التصديق معجزة مستقلة،لأن أقاصيصه موافقة لما في الكتب المتقدمة،مع أن النبي صلى اللّه عليه و سلم لم يطلع على ذلك و لا تعلمه و لا سأل عنه و لا اتصل بمن له علم بذلك) (2).
ثم يقلب وجوه عموم هذا التحدي،و ذلك من خلال التنبيه على أن هذا الكتاب
ص: 42
الذي ضمّ بين دفتيه آيات و سورا كثيرة،و ما انطوت عليه هذه السور من أحكام الحلال و الحرام،و قصص الأقوام الغابرة،و سبل ترسيخ العقيدة في النفوس،و معالم الآداب و الأخلاق الرفيعة...
كل ذلك ذكر في القرآن الكريم بدقة بالغة،و حكمة عالية و وضوح لا يعتريه لبس، و إحكام لا يتسرب إليه تناقض قال تعالى: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (1).
و في موضع آخر يوضح الحق سفور جهلهم،و شدة مغالطتهم لأنفسهم و إنكارهم لواقعهم و ماضيهم،و ذلك من خلال توصيدهم أبواب الزمن أمام أربعين سنة عاشها رسول اللّه بين ظهرانيهم و الجميع موقن أنه أمي لا يقرأ و لا يكتب،فأنى له هذا القرآن؟ قُلْ لَوْ شاءَ اللّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (2).
يا سبحان اللّه،لقد كان بوسعه صلى اللّه عليه و سلم أن لا يتلوه عليهم و لا يقرأ شيئا منه إن كان من عنده،و لكنه وحي من عند اللّه تبارك و تعالى،ينبغي أن يبلغه،و يجب عليه أن يبين لهم أحكامه و توجيهاته كما أنزلت،و كما نصّ عليها الحكيم الخبير سبحانه و تعالى.
(لقد شعروا بعجزهم في قرارة أنفسهم عند ما دعوا إلى معارضة القرآن و الإتيان بمثله، و لكنهم عاندوا و استكبروا و لم يستجيبوا لنداء العقل و أحاسيس الفطرة التي يستشعرونها في داخلهم،و قالوا عند سماع آيات القرآن تقرع مسامعهم و تتحداهم) (3)؟ وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (4).
(و هذا كما ترى غاية المكابرة،و نهاية العناد،و كيف لا،و لو استطاعوا شيئا من ذلك فما الذي كان يمنعهم من المشيئة،و قد تحدوا عشر سنين و قرعوا على العجز1.
ص: 43
و ذاقوا من ذلك الأمرّين،ثم قورعوا بالسيف فلم يعارضوا بما سواه مع أنفتهم و فرط استنكافهم أن يغلبوا لا سيما في باب البيان) (1).
ثم إنهم راحوا يتهمون رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بأنه متقوّل مفتر على الحق عزّ و جلّ،و ذلك من خلال التدرج في أحكام القرآن،و النسخ الحكيم الذي لا تكاد تخلو منه شريعة سماوية أو منهج وصفي قال اللّه تعالى: وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَ اللّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ(101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) (2).
و للأستاذ المراغي (3)تعليق جميل في تفسيره لهذه الآية،يقول:(و إذا نسخنا حكم آية فأبدلنا مكانه حكم آية أخرى و الله أعلم بالذي هو أصلح لخلقه فيما يبدل من أحكامه قال المشركون المكذبون لرسوله:إنما أنت متقول على اللّه تأمر بشيء ثم تنهى عنه، و أكثرهم لا يعلمون ما في التبديل من حكم بالغة،و قليل منهم يعلمون ذلك و ينكرون الفائدة عنادا و استكبارا...ثم يبين لهؤلاء المعترضين على حكمة النسخ،الزاعمين أن ذلك لم يكن من عند اللّه،و أن رسوله صلى اللّه عليه و سلم قد افتراه) (4)فقال الحق سبحانه تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (5).
(و عند ما ضاقت عليهم الحيلة و سدّت في وجوههم السبل طرقوا كل باب في الادعاء و الافتراء و البهتان لشدة حرصهم على إبطال شأن القرآن و التشكيك في ربانية مصدره فقالوا: وَ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً (6)،و لكي5.
ص: 44
يلقوا ظلالا من الشكوك على افترائهم لعلها تكون مستساغة عند الجاهلين بواقع الأمور قالوا:إن الذي يعلمه ليس من قريش،و إنما هو رجل لديه علم لم تعلمه قريش،و لكن أنّى لأعجمي أن يأتي ببيان معجز للعرب الفصحاء) (1)؟!؟
وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (2) .
و لم يكتف القوم بهذا الهراء البليد،بل إنهم راحوا يروجون على الملأ،و بشتى وسائل إعلامهم في ذلك الزمان،أن الذي يجري على لسان محمد بن عبد اللّه ما هو إلا شعر نسج خيوطه و رتّب قوافيه في هدأة من الليل المحندس،أو على أقل تقدير هو سحر استقاه من شعوذة الدجالين و الكهنة.
و تتنزل آيات القرآن الكريم،لتمزّق أستار هذا الوهم،و تبدد أوصال هذه السذاجة و تصرخ في وجوه المبطلين قائلة: وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ(41) وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ(42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ(43) وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ(44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ(45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ(46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ(47) وَ إِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ(48) وَ إِنّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ(49) وَ إِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ(50) وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ(51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52) (3).
و لم يكتف الحق بذلك لكنه أعلن التحدي بالقرآن الكريم إعلان المظهر لعجزهم، المسفّه لعقولهم و هي المرحلة الأولى في التحدي.
كان التحدي في هذه المرحلة بكل ما تنزل من السماء من القرآن العظيم،قال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (4).
(أي قل لهم متحديا:و اللّه لئن اجتمعت الإنس و الجن كلهم و اتفقوا على أن يأتوا
ص: 45
بمثل ما أنزل على رسوله بلاغة،و حسن معنى و تصرفا و أحكاما و نحو ذلك،لا يأتون بمثله و فيهم العرب العظماء و أرباب البيان،و لو تعاونوا و تظاهروا،فإن هذا غير ميسور لهم،فكيف يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق الذي لا نظير له و لا مثيل...) (1).
(إلا أننا وجدنا العرب أرباب الفصاحة و البلاغة و البيان يعجزون جميعا عن الإتيان بمثل هذا القرآن،الذي تتلى آية التحدي فيه صباح مساء،على رءوس الأشهاد،و كأنها تثير فيهم الحمية لمجابهة هذا التحدي،إلا أنهم رغم هذا و رغم كل ما يبذلونه من محاولة للقضاء على القرآن و دعوته لم يجدوا إلى تحدّي القرآن أي سبيل،و لو وجدوا لفعلوا...إلا أنه العجز البشري،أمام القدرة الإلهية التي لا تتحدّى...) (2).
(و في تقاصر قوى هؤلاء جميعهم عن ذلك،مع طول الزمن دليل قاطع على أنه ليس مما اعتيد صدوره عن البشر،بل هو كلام عالم الغيب و الشهادة...) (3).
و تبدأ المرحلة الثانية،و هي مرحلة التحدي بعشر سور من القرآن الكريم،فبما أن القوم تعثرت عبقريتهم في طريقها لتحدي القرآن،و تقوّضت أركان الفكر و البيان لديهم و راح العجز يحيطهم من كل مكان عن الإتيان بمثل هذا القرآن،أرخى الحق لهم العنان و طالبهم بعشر سور من مثل هذا البيان،فقال تعالى:
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4) .
و يصف الدكتور مصطفى مسلم هذه المرحلة فيقول:(و لم يبق للمشركين أرض يقفون عليها و لا حجة يستندون إليها،فقالوا:إن هذه العلوم و الأمور الغيبية و الهدايات الواردة في القرآن لا عهد لنا بها،و هذا سبب عجزنا عن معارضة القرآن،قالوا ذلك و هم لا يدرون أن هذا حجة عليهم لأن محمدا صلى اللّه عليه و سلم ما هو إلا رجل منهم عاش بين أظهرهم و لم يزد في العلوم الاكتسابية عليهم بشيء،فأرخى القرآن الكريم لهم العنان
ص: 46
و تنازل معهم في المحاورة إلى مجال يتوهمون إحراز قصب السبق فيه و لم يطالبهم بشيء من حقائق الكون و التاريخ،و من قصص الأنبياء الغابرين و شأن الألوهية و كمالاتها و أمهات الأخلاق و مقومات الحضارات و رقيّ المجتمعات،و إنما عليهم أن يأتوا بمثل عشر سور من سور القرآن،و ليفتروا موضوعاتها كما يشاءون على أن تكون في فصاحة القرآن و بلاغته) (1).
و نجد تعليقا جميلا على هذه الآية في تفسير«إرشاد العقل السليم»(أي،بل يقولون افتراه و ليس من عند اللّه قُلْ إن كان الأمر كما تقولون فَأْتُوا أنتم أيضا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ في البلاغة و حسن النظم... مُفْتَرَياتٍ صفة أخرى لسور أخرت عن وصفها بالمماثلة لما يوحى لأنها الصفة المقصودة بالتكليف إذ بها يظهر عجزهم و قعودهم عن المعارضة،و أما وصف الافتراء فلا يتعلق به غرض يدور عليه شيء في مقام التحدي و إنما ذكر على نهج المساهلة و إرخاء العنان،و لأنه لو عكس الترتيب لربما توهم أن المراد هو المماثلة في الافتراء،و المعنى:فأتوا بعشر سور مماثلة له في البلاغة، مختلقات من عند أنفسكم إن صح أني اخلقته من عندي،فإنكم أقدر على ذلك مني لأنكم عرب فصحاء بلغاء قد مارستم مبادي ذلك من الخطب و الأشعار و حفظتم الوقائع و الأيام و زاولتم أساليب النظم و النثر) (2).
و لقد هشمت هذه الآية كبرياء المشركين،و فضحت عجزهم،و أردتهم في مهاوي الذل و الخذلان فما استطاع أحد أن يتفوه ببنت شفه،و لقد استعجمت ألسنتهم عن النطق بمثل هذا الكلام البديع و ذلكم النظم المتألق الفريد...
(أما زلتم تقيمون على الزعم بأن محمدا افترى هذا القرآن على اللّه...؟أم أنكم لم تبرحوا تتقوّلون أن القرآن أساطير الأولين اكتتبها محمد فهي تملى عليه بكرة و أصيلا،لئن دار بعض هذا في خلدكم فخلوا عنكم أخباره الغيبية و علومه اللدنية،فلن يكون أسهل عليكم حسب زعمكم من اختلاق عشر سور تماثله بلاغة أسلوب و فصاحة بيان،فأنتم العرب سادة الفصاحة و البلاغة؟و قد دعيتم إلى مثله في النظم في أي معنى أردتم مطلقا غير مقيد،موسعا غير مضيق،فليس إلى معاني القرآن دعيتم،و لكن إلى بلاغة أسلوبه و فصاحة عباراته...أما و قد عجزتم،و باء جمعكم بالخزي و الخذلان4.
ص: 47
و لم يبق لديكم بعد شائبة شبهة في صدق هذا الرسول،و حقيّة القرآن،و بطلان ما أنتم عليه من شرك،فهل تغادرون المكابرة و العناد و تدخلون الإسلام دين اللّه أفواجا) (1).
و في هذه المرحلة وسّع لهم الحق عز و جلّ،فتحداهم بسورة واحدة من القرآن الكريم حتى و لو كانت من أقصر سوره،فقال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (2).
و للشوكاني رحمة اللّه كلام نفيس حول هذه الآية نثبته هنا،يقول:(...و التقدير، أ يقولون افتراه و الاستفهام للتقريع و التوبيخ،ثم أمره اللّه سبحانه و تعالى أن يتحداهم حتى يظهر عجزهم،و يتبين ضعفهم،فقال:قل: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ أي إن كان الأمر كما تزعمون من أن محمدا افتراه فأتوا أنتم على جهة الافتراء بسورة مثله في البلاغة، و جودة الصناعة،فأنتم مثله في معرفة لغة العرب و فصاحة الألسن،و بلاغة الكلام وَ ادْعُوا بمظاهريكم و معاونيكم مَنِ اسْتَطَعْتُمْ دعاءه و الاستعانة به من قبائل العرب،و من آلهتكم التي تجعلونها شركاء للّه،ثم يقول:و سبحان اللّه العظيم ما أقوى هذه الحجة،و أوضحها و أظهرها للعقول،فإنهم لما نسبوا الافتراء إلى واحد منهم في البشرية و العربية،قال لهم:هذا الذي نسبتموه إليّ و أنا واحد منكم ليس عليكم إلا أن تأتوا و أنتم الجمع الجمّ بسورة مماثلة لسورة من سوره،و استعينوا بمن شئتم من أهل هذه اللسان العربية على كثرتهم و تباين مساكنهم،أو من غيرهم من بني آدم،أو من الجن أو من الأصنام،فإن فعلتم هذا بعد اللتيّا و التي فأنتم صادقون فيما نسبتموه إليّ و ألصقتموه بي...
فلم يأتوا عند سماع هذا الكلام المنصف،و التنزل البالغ بكلمة و لا نطقوا ببنت شفة،بل كاعوا عن الجواب،و تشبثوا بأذيال العناد البارد،و المكابرة المجردة عن الحجة) (3).
و لكي يبرهن الحق تبارك و تعالى على صدق نبوة محمد بن عبد اللّه صلوات اللّه
ص: 48
و سلامه عليه و يثبت عظمة القرآن،و لقطع(دابر وساوس الشيطان و نزغات أهل الباطن المرجفين،و لكي لا يقال إن محمدا تحدى أهل مكة،و الأميّة فاشية فيهم،و لا علم لهم بعلوم الأديان و بالأنبياء و الكتب،و لو أنه تحدى غيرهم لأمكنهم أن يأتوا بمثل قرآنه،كرر في المرحلة المدنية و بين ظهراني أهل الكتاب،و سجل العجز المطلق لكل المخلوقين إلى يوم القيامة،و لا زالت أصداؤه في أذن الزمن على مرّ العصور ليبرهن على خلود الرسالة و صدق صاحبها) (1)وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ(23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النّاسُ وَ الْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24) (2).
إنه تحدّ بعد تحد،و من جرّاء تكرار هذا التحدي طبع الحق عز و جلّ عليهم طابع العجز و القصور،ليحولهم إلى كتلة من الذل و الصغار،هيا شمّروا عن ساعد الجد و العنفوان، بكل وسائلكم و حيلكم،و استعينوا بمن شئتم و كيفما شئتم،و أتوا بسورة تماثل هذا الكلام الإلهي الأخّاذ.
يقول رشيد رضا في هذا المقام:(يا أيها الناس عليكم بعد أن تنسلوا من مضايق الوساوس و تتسللوا من مآزق الهواجس،و تنزعوا ما طوقكم به التقليد من القلائد و تكسروا مقاطر ما ورثتم من العوائد،أن تهرعوا إلى الحق فتطلبوه ببرهانه،و أن تبادروا إلى ما دعيتم إليه فتأخذوه بربانه،فإن خفي عليكم الحق بذاته،فهذه آية من أظهر آياته و هي عجزكم عن الإتيان بسورة من مثل سور القرآن من رجل أمي مثل الذي جاءكم به،و هو عبدنا و رسولنا محمد صلى اللّه عليه و سلم،و إن عجزتم عن الإتيان بسورة من مثله تساوي سورة في هدايتها،و تضارعها في أسلوبها و بلاغتها،و أنتم فرسان البلاغة و عصركم أرقى عصور الفصاحة،و قد اشتهر كثير منكم بالسبق في هذا الميدان،و لم يكن محمد صلى اللّه عليه و سلم ممن يسابقكم من قبل هذا البرهان،لأنه لم يؤت هذا الاستعداد بنفسه و لم يتمرن عليه أو يتكلفه لمباراة أهله،فاعلموا أن ما جاء به بعد أربعين سنة فأعجزكم بعد سبقكم،لم يكن إلا بوحي إلهي و إمداد سماوي لم يسم عقله إلى علمه،و لا بيانه إلى أسلوبه و نظمه) (3).1.
ص: 49
و بعد هذا التحدي العظيم الذي قصم الظهور،و أذلّ الأعناق،ما استطاع أحد منهم أن يتجرأ أو يتلفّظ بسورة تشابه كلام اللّه تعالى،بل راحوا يتساقطون و ينهزمون،بعجز سافر و ضعف ذليل،لقد مدّ اليأس سلطانه على نفوسهم،و امتلأت أقطار نفوسهم بالإحباط و الفشل،و رأوا أنفسهم ذرة أمام قلعة شماء شامخة،إنها قلعة البيان و صرح القرآن،إنه المعجزة الخالدة على مرّ العصور و الأزمان،إنه كلام اللّه.
تلك هي مراحل التحدي،و لقد أشار الحافظ ابن كثير إلى ترتيبها،على النحو الذي ذكرنا عند تفسيره لقوله سبحانه و تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (1)يقول:(فأتوا أنتم بسورة من مثله،أي من جنس هذا القرآن و استعينوا على ذلك بكل من قدرتم عليه من إنس و جن،و هذا هو المقام الثالث في التحدّي،فإنه تعالى تحدّاهم و دعاهم،إن كانوا صادقين في دعواهم أنه من عند محمد،فليعارضوه،بنظير ما جاء به وحده و ليستعينوا بمن شاءوا،و أخيرا أنهم لا يقدرون على ذلك و لا سبيل لهم إليه فقال سبحانه تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (2)ثم تقاصر معهم إلى عشر سور منه فقال في أول سورة هود: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (3).
ثم تنازل إلى سورة فقال في هذه السورة (4): أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (5).
رأينا من خلال هذا العرض،عظمة القرآن و هو يتحدّى العرب،و كيف أنه يطاولهم في المعارضة ثم إنه قد تنازل لهم في تحديهم بجميع القرآن إلى التحدي بعشر سور مثله،و من ثم إلى التحدي و لو بسورة واحدة،و هم مع ذلك يتقلبون في أطوار كليلة هزيلة من عجز إلى عجز و من نكص إلى نكص،و القرآن يتألق في كل مرحلة و ينتقل من فوز إلى فوز،و من ألق إلى ألق.8.
ص: 50
و لكن بعد هزيمة العرب و عجزهم عن تحدي القرآن الكريم،ما هو القدر المعجز من القرآن الكريم؟
أورد القاضي الباقلاني في كتابه«إعجاز القرآن»خلاف العلماء في ذلك فقال:(قدر المعجز عند الأشعريين:
الذي ذهب إليه عامة أصحابنا،و هو قول أبي الحسن الأشعري في كتبه،أن أقل ما يعجز عنه من القرآن السورة،قصيرة كانت أم طويلة،أو ما كان بقدرها،قال:فإذا كانت الآية بقدر حروف السورة،و إن كانت سورة الكوثر،فذلك معجز.
قال:و لم يقم دليل على عجزهم عن المعارضة في أقل من هذا القدر.
و ذهب المعتزلة إلى أن كل سورة برأسها فهي معجزة...و قد حكي عنهم نحو قولنا،إلا أن منهم من لم يشترط كون الآية بقدر السورة،بل شرط الآيات الكثيرة و قد علمنا أنه تحداهم تحديا إلى السور كلها و لم يخص،و لم يأتوا لشيء منها بمثل،فعلم أن جميع ذلك معجز) (1).
و يرى الشيخ الزرقاني (2)أن(القدر المعجز من القرآن هو ما يقدر بأقصر سورة منه، و أن القائلين بأن المعجز هو كل القرآن لا بعضه،و هم المعتزلة،و القائلين بأن المعجز كل ما يصدق عليه أنه قرآن و لو كان أقل من سورة،كل أولئك بمنأى عن الصواب) (3).
و يؤكد هذا الدكتور مصطفى مسلم فيقول:(و بما أن السورة جاءت بلفظ نكرة بسورة،فهي تشمل كل سورة في القرآن طويلة أو قصيرة،فيكون القدر المعجز من القرآن هو السورة من القرآن الكريم طويلة أو قصيرة،هذا هو رأي جمهور العلماء،إلا أن بعضهم زاد على ذلك:أن مقدار السورة القصيرة،هي ثلاث آيات معجز أيضا) (4).
ص: 51
استدراك:هناك استدراك بسيط يلفت الانتباه إليه هنا،و هو أن الجمهور ذهبوا إلى أن القدر المعجز من القرآن هو السورة،سواء كانت طويلة أم قصيرة كسورة الكوثر، لكن الذي زاد على هذا الذي ذهب إليه الجمهور-كما سلف-فقال:أو مقدار السورة القصيرة،و هي ثلاث آيات معجز أيضا،هذا الرأي يحتاج إلى تمحيص و تحقيق...فالحق سبحانه و تعالى قال: وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ(23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النّاسُ وَ الْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24) (1)فاللّه تبارك و تعالى تحداهم بِسُورَةٍ و هي نكرة فهي تشمل السورة القصيرة و الطويلة،لكنه لم يقل:أو مقدارها، فمقدار أقصر سورة و هي سورة الكوثر ثلاث آيات،هل هو معجز؟.
الجواب:نحن نعلم من خلال دراستنا لأسلوب القرآن الكريم في عرض السورة، أن السورة لها بناء متكامل،و وحدة موضوعية دقيقة،و تناسق و تساوق في إبراز معالم القضية المعروضة من مقدمة و لب و خاتمة،و لربما تبسط القضية فتأخذ شوطا واسعا أو تكون مقتضبة،و في كل الأحوال فإنها تعبر عن شخصية متكاملة،و هذا هو الميزان الذي ينبغي أن نحتكم إليه عند ما نقول:أو ما يماثل السورة من الآيات،فإن كانت هذه الآيات التي تماثل السورة خاضعة لهذا الميزان ففيها الإعجاز و إلا فالقول ما قاله ربنا بِسُورَةٍ ،و هذا لا يعني أن في مقدور أحد من البشر أن يأتي بمقدار أقصر سورة من الآيات،أي بثلاث آيات،لا و إنما نركز و نقيد قدر السورة بالوحدة الموضوعية،و البناء المت ناسق الذي هو شرط للقول بالإعجاز.4.
ص: 52
بعد ما استعرض الحق آيات التحدي في كتابه العظيم،و طلب منهم أن يأتوا بسورة من مثله و فيهم فحول الشعراء و الخطباء الذين ذاع صيتهم و انتشر خبرهم بين الناس،و إذا بالقوم تستعجم ألسنتهم،و تهتز أركان البلاغة و البيان لديهم،فراحوا يتهربون و يتهافتون و منهم من قد تسربل بقناع الأنفة و الاستكبار،فقال هو و أمثاله كما وصفهم ربنا تبارك و تعالى: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَ أَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَ زُوراً(1) وَ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً (5) (2).
و قولهم: وَ قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (3).
(و هكذا التمسوا لأنفسهم عذر القعود عن معارضته بأنه أساطير الأولين،أو قول شاعر مجنون أو هو كذب أعانه على اختلاقه أناس آخرون،و اعتبروا اتهامهم هذا عذرا يسوّغ صمتهم،و يبرر عجزهم الفاضح عن المعارضة...يا للمنطق السديد؟أ لا ترى أن هذا التهرب من مواجهة التحدي و من تقديم المعارضة ليس في الواقع إلا إقرارا منهم بالعجز و أي إقرار) (4)؟
يقول الإمام الباقلاني:(فلو كان هذا القرآن من ذلك القبيل:الشّعر أو من الجنس الذي ألفوه،لم تزل أطماعهم عنه،و لم يدهشوا عند وروده عليهم،فكيف و قد أمهلهم و فسح لهم في الوقت،و كان يدعو إليه سنين كثيرة،قال عز من قائل: أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَ جاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (4).
ص: 53
و بظهور العجز عنه بعد طول التقريع و التحدي بان أنه خارج عن عاداتهم،و أنهم لا يقدرون عليه،و قد ذكرنا أن العرب كانت تعرف ما يباين عاداتها من الكلام البليغ لأن ذلك طبعهم و لغتهم،فلم يحتاجوا إلى تجربة عند سماع القرآن،و هذا في البلغاء منهم دون المتأخرين في الصنعة) (1).
و يؤكد هذا المعنى الجرجاني فيقول:(و إذا ثبت أنهم-أي العرب-الأصل و القدوة فإن علمهم العلم،فبنا أن ننظر في دلائل أحوالهم و أقوالهم حين تلي عليهم القرآن و تحدوا إليه،و ملئت مسامعهم من المطالبة بأن يأتوا بمثله،و من التقريع بالعجز عنه،و بت الحكم بأنهم لا يستطيعونه و لا يقدرون عليه،و إذا نظرنا وجدناها تفصح بأنهم لم يشكّوا في عجزهم عن معارضته و الإتيان بمثله،و لم تحدثهم أنفسهم بأن لهم إلى ذلك سبيلا على وجه من الوجوه،أما الأحوال فدلت من حيث كان المتعارف من عادات الناس التي لا تختلف و طباعهم التي لا تتبدل أن لا يسلموا لخصومهم الفضيلة، و هم يجدون سبيلا إلى دفعها،و لا ينتحلون العجز و هم يستطيعون قهرهم و الظهور عليهم،كيف و أن الشاعر أو الخطيب أو الكاتب يبلغه أن بأقصى الإقليم الذي هو فيه يبأى (2)بنفسه،و يدل بشعر يقوله،أو خطبة يقوم بها،أو رسالة يعملها،فيدخله من الأنفة و الحمية ما يدعوه إلى معارضته،و إلى أن يظهر ما عنده من الفضل،و يبذل ما لديه من المنة،حتى إنه ليتوصل إلى أن يكتب إليه و أن يعرض كلامه عليه ببعض العلل، و بنوع من التمحل (3)،هذا و هو لم ير ذلك الإنسان قط و لم يكن منه إليه ما يهز و يحرك و يهيج على تلك المعارضة،و يدعو إلى ذلك التعرض،و إن كان المدعى ذلك بمرأى منه و مسمع،كان ذلك أدعى له إلى مباراته و إلى إظهار ما عنده) (4).
(...فكيف يجوز أن يظهر في صميم العرب،و في مثل قريش ذوي الأنفس الأبية و الهمم العلية و الأنفة و الحمية،من يدعي النبوة و يخبر أنه مبعوث من اللّه تعالى إلى9.
ص: 54
الخلق كافة،و أنه بشير بالجنة و نذير بالنار،و أنه قد نسخ به كل شريعة تقدمته،و دين دان به الناس شرقا و غربا،و أنه خاتم النبيين،و أنه لا نبي بعده،إلى آخر ما صدع به رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ثم يقول:و حجتي أن اللّه تعالى قد أنزل عليّ كتابا عربيا مبينا،تعرفون ألفاظه،و تفهمون معانيه،إلا أنكم لا تقدرون على أن تأتوا بمثله و لا بعشر سور منه، و لا بسورة واحدة و لو جهدتم جهدكم،و اجتمع معكم الجن و الإنس،ثم لا تدعوهم نفوسهم إلى أن يعارضوه،و يبينوا شرفه في دعواه،مع إمكان ذلك،و مع أنهم لم يسمعوا إلا ما عندهم مثله أو قريب منه) (1)؟
يتضح لنا مما سبق أن القوم قد عجزوا عن مجاراة القرآن،و أن ما أوتوه من بلغة و حنكة و فطنة تذوب و تتضاءل أمام روعة القرآن و بيانه،فمنهم من واجهه بكل قبيح و وقفوا له بكل سبيل،و هم موقنون في قرارة أنفسهم بعجزهم عن الإتيان و لو بسورة من مثله،و منهم من قد اهتزت مشاعرهم لسماعه،و تفاعلت أحاسيسهم لآياته،و استثارت كلماته من أقاصي أفئدتهم صبابة و كلفا،و هؤلاء على قسمين،فمنهم الذين أخبتوا للّه و حكّموا عقولهم،و نبذوا العصبية الحالكة فآمنوا بالله ربا و بمحمد نبيا و بالقرآن كتابا منزّلا،و منهم من استعبدهم الاستكبار و العناد و ركبوا رءوسهم فعرفوا الحق ثم حادوا عنه،و رأوا النور لكنهم آثروا الظلام،و كلا الفريقين قد أقرّ بعظمة القرآن و لكن شتان بين من قد أقرّ فآمن،و بين من قد أقرّ ثم نكص و كفر و فرّ،و لنستعرض بعض الأمثلة للفريقين.
روى ابن إسحاق:(أن عتبة بن ربيعة و كان سيدا قال يوما و هو جالس في نادي قريش و رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم جالس في المسجد وحده:يا معشر قريش أ لا أقوم إلى محمد فأكلمه و أعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء و يكف عنا؟و ذلك حين أسلم حمزة و رأوا أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يزيدون و يكثرون،فقال:بلى يا أبا الوليد قم إليه فكلمه،فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال:يا ابن أخي،إنك منا حيث قد علمت من السلطة في العشيرة،و المكان في النسب،و إنك أتيت قومك بأمر عظيم
ص: 55
فرقت به جماعتهم و سفهت به أحلامهم و عبت به آلهتهم و دينهم و كفرت به من مضى من آبائهم،فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها،قال:فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:«قل يا أبا الوليد أسمع»،قال:يا ابن أخي،إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا،و إن كنت تريد به شرفا سوّدناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك،و إن كنت تريد به ملكا ملّكناك علينا،و إن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك،طلبنا لك الطب و بذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه،فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه أو كما قال له،حتى إذا فرغ عتبة و رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يستمع منه قال:«أ قد فرغت يا أبا الوليد»قال:
نعم:قال:«فاسمع مني»قال:أفعل،فقال:بسم اللّه الرحمن الرحيم حم(1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ(2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(3) بَشِيراً وَ نَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ(4) وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمّا تَدْعُونا إِلَيْهِ (1)ثم مضى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بها يقرؤها عليه فلما سمعها منه عتبة أنصت لها و ألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه،ثم انتهى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إلى السجدة منها فسجد،ثم قال:«قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت و ذاك»،فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض:
نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به،فلما جلس إليهم قالوا:ما وراءك يا أبا الوليد؟قال:ورائي أني قد سمعت قولا و الله ما سمعت مثله قط،و الله ما هو بالشعر و لا بالسحر و لا بالكهانة يا معشر قريش أطيعوني و اجعلوها لي و خلوا بين هذا الرجل و بين ما هو فيه فاعتزلوه،فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم،و إن يظهر على العرب فملكه ملككم و عزه عزكم،و كنتم أسعد الناس به،قالوا:سحرك و الله يا أبا الوليد بلسانه،قال:هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم) (2).
هذه القصة توضح لنا بكل جلاء اعتراف سيد من سادات قريش،أمام صناديد الكفر و صناديد البلاغة و البيان،بإعجاز القرآن و أثره في النفوس،و وقعه في القلوب و الأفئدة.2.
ص: 56
و هو من أشد المشركين عداوة لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم،و من أكثر الذين ناصبوا رسالة الإسلام العداء فقد أشعل حربا سافرة لاهبة منذ بزوغ فجر الدعوة الإسلامية،لكنه يوم سمع القرآن الكريم افتتن ببلاغته،و سحر بإعجازه و بيانه،و لنسمع إعلانه الذي يدل على تأثره أمام قريش،يروي ابن عباس رضي اللّه عنه(أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش و كان ذا سن فيهم و قد حضر الموسم فقال لهم:يا معشر قريش،إنه قد حضر هذا الموسم و إن وفود العرب ستقدم عليكم فيه،و قد سمعوا بأمر صاحبكم هذا،فاجمعوا فيه رأيا واحدا و لا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا،فقالوا:أنت فقل و أتم لنا به رأيا نقول به،قال:لا بل أنتم قولوا لأسمع،قالوا:نقول كاهن،قال:ما هو بكاهن،لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكهان و لا بسجعهم،قالوا:فنقول مجنون،قال:ما هو بمجنون،لقد رأينا الجنون و عرفناه فما هو بخنقه...قالوا:فنقول شاعر،قال:ما هو بشاعر لقد عرفنا الشعر كله رجزه و هزجه و قريضه و مقبوضه و مبسوطه،فما هو بالشعر، قالوا:فنقول ساحر،قال:ما هو بساحر لقد رأينا السحار و سحرهم،فما هو بنفثه، و لا بعقده،قالوا:فما ذا نقول؟قال:و الله إن لقوله لحلاوة،و إن عليه لطلاوة،و إن أصله لعذق،و إن فرعه لجناة،فما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل،و إن أقرب القول أن تقولوا:هو ساحر يفرق بين المرء و أبيه،و بين المرء و أخيه،و بين المرء و زوجته،و بين المرء و عشيرته فتفرقوا عنه بذلك) (1).
يعلق الإمام الزركشي رحمه اللّه على هذه القصة فيقول:(...ثمّ صار المعاندون له ممن كفر به و أنكره يقولون مرة:إنه شعر لما رأوه منظوما،و مرة إنه سحر لما رأوه معجوزا عنه غير مقدور عليه و قد كانوا يجدون له وقعا في القلب،و قرعا في النفس يريبهم و يحيرهم،فلم يتمالكوا أن يعترفوا به نوعا من الاعتراف و لذلك قالوا:إن له لحلاوة و إن عليه لطلاوة،و كانوا مرة لجهلهم و حيرتهم يقولون: وَ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً (2)مع علمهم أن صاحبهم أمي و ليس
ص: 57
بحضرته من يملي أو يكتب شيئا و نحو ذلك من الأمور التي أوجبها العناد و الجهل و العجز،و قد حكى اللّه عن بعض مردتهم و هو الوليد بن المغيرة المخزومي،أنه لما طال فكره في القرآن،و كثر ضجره منه،و ضرب له الأخماس من رأيه في الأسداس، فلم يقدر على أكثر من قوله: إِنْ هذا إِلاّ قَوْلُ الْبَشَرِ (1)عنادا و جهلا به و ذهابا عن الحجة و انقطاعا دونها) (2).
قال ابن هشام:(و يقال:النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف،قال ابن اسحاق:فقال:يا معشر قريش إنه و الله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد قد كان محمد فيكم غلاما حدثا أرضاكم فيكم،و أصدقكم حديثا،و أعظمكم أمانة،حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب،و جاءكم بما جاءكم به،قلتم ساحر؟لا و الله ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة و نفثهم و عقدهم،و قلتم كاهن؟لا و الله ما هو بكاهن،لقد رأينا الكهنة و تخالجهم و سمعنا سجعهم،و قلتم شاعر؟لا و الله ما هو بشاعر لقد رأينا الشعر و سمعنا أصنافه كلها هزجه و رجزه،و قلتم مجنون؟لا و الله ما هو بمجنون،لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه و لا وسوسته و لا تخليطه،يا معشر قريش:فانظروا في شأنكم، فإنه و الله لقد نزل بكم أمر عظيم.
و كان النضر بن الحارث من شياطين قريش و ممن كان يؤذي رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و ينصب له العداوة،و كان قد قدم الحيرة و تعلم بها أحاديث ملوك الفرس و أحاديث رستم...فكان إذا جلس رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مجلسا فذكّر فيه بالله و حذّر قومه ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة اللّه،خلفه في مجلسه إذا قام،ثم قال:أنا و الله يا معشر قريش أحسن حديثا منه فهلم إليّ،فأنا أحدثكم أحسن من حديثه،ثم يحدثهم عن ملوك فارس و رستم...ثم يقول:بما ذا محمد أحسن حديثا مني) (3).
هذا هو إقرار و اعتراف كبار بلغاء قريش و فصحائها،و غير هؤلاء كثير ممن خفقت
ص: 58
قلوبهم،و ثارت عواطفهم،و تفاعلت أحاسيسهم بصدى القرآن و وقعه على مسامعهم فإنهم قد استيقنوا أن هذا الكلام هو كلام اللّه،و لا يمكن أن يكون من تأليف إنس أو جن،لأن الفرق بين كلام البشر و كلام اللّه كالفرق بيننا و بين اللّه،بل إن المشركين كانوا يتوقون في كل لحظة لسماع كلام الحق و تضيق عليهم الأرض بما رحبت إن هم انقطعوا عن الاستماع للقرآن.
(و لذلك كان النفر من قريش يتعاهدون على عدم سماع القرآن حتى لا يتأثروا به، و يذهبون إلى بيوتهم،إلا أن الواحد منهم لا يلبث أن يرجع إلى الكعبة ليسمع القرآن، الذي ملك عليه عقله و قلبه فيجد أن صاحبه الذي كان قد عاهده،قد سبقه إلى العودة لسماع القرآن المعجز،نديا من صوت محمد صلى اللّه عليه و سلم فيجتمعان أمام الكعبة و كل منهم قد نقض ما عاهد عليه صاحبه!و حق لهم هذا...فمن ذا الذي يرى المعجزة و يملك نفسه أن لا يتأثر بها...؟إذ لو كان الناس يملكون هذا،لما كان للمعجزة ذلك الأثر) (1).
و هذا ما أورده أصحاب السير في سيرهم،من أن المشركين كانوا يتلصصون في هدأة الليل،أو هاجرة النهار،ليستمتعوا و ينتشوا بسماع كلام الحيّ القيوم،فقد روى ابن هشام في سيرته:(قال ابن إسحاق:و حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، أنه حدث أن أبا سفيان بن حرب و أبا جهل بن هشام و الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي حليف بني زهرة،خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و هو يصلي من الليل في بيته فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه و كل لا يعلم بمكان صاحبه،فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا و قال بعضهم لبعض:
لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا،ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له،حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة،ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له،حتى إذا طلع الفجر تفرّقوا فجمعهم الطريق،فقال بعضهم لبعض:لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود على ذلك ثم تفرقوا،فأراد الأخنس أن يستفهم عما سمعه فلما أصبح الأخنس بن شريق،أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته فقال:أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما9.
ص: 59
سمعت من محمد؟فقال:يا أبا ثعلبة،و الله لقد سمعت أشياء أعرفها و أعرف ما يراد بها،و سمعت أشياء ما عرفت معناها و لا ما يراد بها،قال الأخنس:و أنا و الذي حلفت به،قال:ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته فقال يا أبا الحكم:ما رأيك فيما سمعت من محمد؟فقال:ما ذا سمعت تنازعنا نحن و بنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا،و حملوا فحملنا،و أعطوا فأعطينا،حتى إذا تحاذينا على الركب و كنا كفرسي رهان،قالوا:منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك مثل هذه و الله لا نؤمن به أبدا و لا نصدقه،قال:فقام عنه الأخنس و تركه) (1).
هذه بعض الروايات التي تحكي حال أولئك القوم الذين بهروا بجمال القرآن، و سحروا ببيانه و أقروا بإعجازه،و ترجموا هذه المشاعر بمقولاتهم التي سجّلها التاريخ لهم،و أثبتناها هاهنا،و لكنه العناد السافر الذي أعمى أبصارهم،و غلف قلوبهم فأظلمت و صدئت و قست ثم ماتت،فكانوا أضل من الأنعام الشاردة،و أغواهم الشيطان بمكائده و حباله،فجحدوا الحق و كفروا به بعد ما عرفوه،و سيكون عليهم يوم القيامة حسرة و ندامة.
و سنصغي الآن إلى الذين لامس القرآن الكريم شغاف قلوبهم،و وقعت كلماته الربانية في نفوسهم،فملك عليهم عقولهم،و سيطر على كيانهم،فاستجابت له جوارحهم و انسجمت مع إرشاداته سلوكياتهم،و سجدت نباهتهم لبلاغته،و طأطئوا الرءوس إجلالا لإعجازه فهداهم اللّه إلى الحق و النور المبين.
قال ابن إسحاق:(و كان إسلام عمر فيما بلغني أن أخته فاطمة بنت الخطاب و كانت عند سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل،و كانت قد أسلمت و أسلم بعلها سعيد بن زيد، و هما مستخفيان بإسلامهما من عمر،و كان نعيم بن عبد اللّه النحام من مكة رجل من قومه من بني عدي بن كعب قد أسلم،و كان أيضا يستخفي بإسلامه فرقا من قومه،و كان خباب ابن الأرت يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب،يقرئها القرآن،فخرج عمر يوما متوشحا سيفه يريد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و رهطا من أصحابه قد ذكروا له أنهم قد اجتمعوا في
ص: 60
بيت عند الصفا،و هم قريب من أربعين ما بين رجال و نساء،و مع رسول صلى اللّه عليه و سلم عمه حمزة ابن عبد المطلب،و أبو بكر بن أبي قحافة الصديق،و علي بن أبي طالب،في رجال من المسلمين رضي اللّه عنهم ممن كان أقام مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بمكة،و لم يخرج فيمن خرج إلى أرض الحبشة،فلقيه نعيم بن عبد اللّه فقال له:أين تريد يا عمر؟فقال:أريد محمدا هذا الصابئ و الذي فرق أمر قريش،و سفّه أحلامها،و عاب دينها،و سب آلهتها،فأقتله، فقال له نعيم:و الله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر،أ ترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض و قد قتلت محمدا!أ فلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم،قال:
و أي أهل بيتي؟قال:ختنك و ابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو و أختك فاطمة بنت الخطاب،فقد و اللّه أسلما و تابعا محمدا على دينه،فعليك بهما،قال:فرجع عمر عامدا إلى أخته و ختنه و عندهما خباب بن الأرت معه صحيفة فيها: طه يقرئهما إياها،فلما سمعوا حسّ عمر،تغيب خباب في مخدع لهم أو في بعض البيت،و أخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها،و قد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خباب عليهما،فلما دخل قال:ما هذه الهينمة التي سمعت؟قالا له:ما سمعت شيئا قال:بلى و الله لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدا على دينه و بطش بختنه سعيد بن زيد،فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها فضربها فشجها فلما فعل ذلك قالت له أخته و ختنه:نعم لقد أسلمنا و آمنا بالله و رسوله فاصنع ما بدا لك،فلما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع فارعوى و قال لأخته:أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرءون آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به محمد،و كان عمر كاتبا، فلما قال ذلك،قالت له أخته:إنا نخشاك عليها،قال:لا تخافي،و حلف لها بآلهته ليردنها إذا قرأها إليها،فلما قال ذلك طمعت في إسلامه فقالت له:يا أخي إنك نجس على شركك و إنه لا يمسها إلا الطاهر،فقام عمر فاغتسل فأعطته الصحيفة و فيها:
طه فقرأها،فلما قرأ منها صدرا قال:ما أحسن هذا الكلام و أكرمه،فلما سمع ذلك خباب خرج عليه فقال له:يا عمر و الله إني لأرجو أن يكون اللّه قد خصك بدعوة نبيه فإني سمعته أمس و هو يقول:«اللهم أيّد الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر ابن الخطاب»،فالله اللّه يا عمر،فقال له عند ذلك عمر:فدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم،فقال له خباب:هو في بيت عند الصفا معه فيه نفر من أصحابه،فأخذ عمر سيفه فتوشحه ثم عمد إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و أصحابه،فضرب عليهم الباب فلما سمعوا صوته قام رجل من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فنظر من خلل الباب فرآه متوشحا السيف
ص: 61
فرجع إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و هو فزع فقال:يا رسول اللّه هذا عمر بن الخطاب متوشحا السيف،فقال حمزة بن عبد المطلب:فأذن له فإن كان جاء يريد خيرا بذلناه له،و إن كان يريد شرا قتلناه بسيفه،فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:«ائذن له»،فأذن له الرجل،و نهض إليه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حتى لقيه في الحجرة،فأخذ حجزته أو بمجمع ردائه ثم جبذه به جبذة شديدة و قال:«ما جاء بك يا بن الخطاب؟فو الله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل اللّه بك قارعة»،فقال عمر:يا رسول اللّه جئتك لأومن بالله و برسوله و بما جاء من عند اللّه،قال فكبر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم تكبيرة عرف أهل البيت من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أن عمر قد أسلم،فتفرق أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من مكانهم،و قد عزوا في أنفسهم حين أسلم عمر مع إسلام حمزة،و عرفوا أنهما سيمنعان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و ينتصفون بهما من عدوهم) (1).
و ما حدث لعمر بن الخطاب حدث للطفيل بن عمرو الدوسي،و شعره لا يخفى على العرب و قصائده التي كان يتجمهر الناس في المحافل العامة و الأسواق لسماعها ليست بخافية،و مع ذلك عند ما قرع القرآن مغاليق قلبه،خفت شعره و التهبت مشاعره بالإيمان فكان في زمرة الموحدين،و ها هو ذا يحدثنا عن تأثير القرآن و وقعه في قلبه يوم سمعه غضا طريا نديا من النبي صلى اللّه عليه و سلم.
(...أن الطفيل بن عمرو قال:كنت رجلا شاعرا سيدا في قومي،فقدمت مكة فمشيت إلى رجالات قريش فقالوا:إنك امرؤ شاعر سيد و إنا قد خشينا أن يلقاك هذا الرجل فيصيبك ببعض حديثه،فإنما حديثه كالسحر فاحذره أن يدخل عليك و على قومك ما أدخل علينا،فإنه فرق بين المرء و أخيه،و بين المرء و زوجته،و بين المرء و ابنه،فو الله ما زالوا يحدثوني شأنه و ينهوني أن أسمع منه حتى قلت:و الله لا أدخل المسجد إلا و أنا ساد أذني،قال:فعمدت إلى أذني فحشوتها كرسفا،ثم غدوت إلى المسجد فإذا برسول صلى اللّه عليه و سلم قائما في المسجد،فقمت قريبا منه و أبى اللّه إلا أن يسمعني بعض قوله،فقلت في نفسي:و الله إن هذا للعجز و إني امرؤ ثبت ما تخفى عليّ الأمور حسنها و قبيحها،و الله لأتسمعن منه فإن كان أمره رشدا أخذت منه و إلا اجتنبته، فنزعت الكرسفة،فلم أسمع قط كلاما أحسن من كلام يتكلم به فقلت:يا سبحان اللّه ما
ص: 62
سمعت كاليوم لفظا أحسن و لا أجمل منه،فلما انصرف تبعته فدخلت معه بيته،فقلت:
يا محمد إن قومك جاءوني فقالوا لي كذا و كذا فأخبرته بما قالوا و قد أبى اللّه إلا أن أسمعني منك ما تقول،و قد وقع في نفسي أنه حق فاعرض عليّ دينك فعرض عليّ الإسلام فأسلمت...) (1).
(يعتبر لبيد أحد أصحاب المعلقات السبعة،الذين سارت بشعرهم الركبان،و من أشراف الشعراء المجيدين الفرسان،يفد على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و يسمع كلامه،و يسلم، و لكن ما ذا فعل بالشعر الذي جرى في كيانه مجرى الدم من عروقه،و جبلت به نفسه، و عرفت به حياته،و تناقله الناس عنه يتفاخرون به و يتمايلون طربا لسماعه،بل يصل بهم الأمر لدرجة الجنون لأجله...لقد ذهل هذا الرجل الفصيح البليغ،الذي فتن الناس بشعره،لقد ذهل عن نفسه و شعره،فلم يعد يتمكن من قول الشعر،إذ أفحمته عظمة القرآن و بلاغته فلم يقل بعد إسلامه إلا بيتا واحدا،و هو قوله:
الحمد للّه إذ لم يأتني أجلي حتى لبست من الإسلام سربالا)
(2) لقد تذوق لبيد حلاوة البيان،و تشربت عروقه منه،و فاض الشعر و الأدب في كيانه منذ نعومة أظافره،و لكنه يوم سمع القرآن تقوضت أركان البيان لديه،و امتدت أروقة البلاغة القرآنية في داخله حتى ملئت أقطار نفسه،و عرف الحق فوقف عنده،و انصاع لمستلزماته و أوامره،و أصبح يستحي أن ينبث ببنت شفة في حضرة كلام رب الأرباب...و يكفي أن نعلم ما للبيد من ثقل عظيم في دنيا الشعر،و ساحات الأدب و البيان،من أن الرسول صلى اللّه عليه و سلم قال فيه مدحا و ثناء و هو على المنبر:«أشعر كلمة قالتها العرب قول لبيد بن ربيعة ألا كل شيء ما خلا اللّه باطل» (3)،و ليس بعد شهادة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم شهادة،و لا يعرف الفضل إلا ذووه و مع تألق لبيد في بلاغته،و تفرده في شعره،أيقن أن كلامه يتساقط،و يتناثر أوزاعا،بل و لا يذكر أمام سلطان القرآن و هيمنته على النفوس و الأرواح.
ص: 63
كذلك الأمر بالنسبة لأنيس و لغيره ممن سمع القرآن،فقد مزق القرآن أستار الغفلة في كيانه و قشع سحب الظلام التي تلبّدت في سماء عقله،و رأى نور الحق،و ضياء الهدى ببضع آيات طرقت مسمعه من فم الحبيب صلى اللّه عليه و سلم،علما أن أنيسا كان من أبرز شعراء العرب و خطبائها،و ممن كان لهم صولة و جولة في ساحات الهجاء و الثناء إذا ما تبارى المتبارون،و ها هو ذا يصف القرآن و ما شعر عند سماع آياته،و الحديث طويل في صحيح مسلم و نأخذ موطن الشاهد فيه:(...فانطلق أنيس حتى أتى مكة فراث علي ثم جاء،فقلت:ما صنعت،قال:لقيت رجلا بمكة على دينك يزعم أن اللّه أرسله، قلت:فما يقول الناس؟قال:يقولون شاعر،كاهن،ساحر،و كان أنيس أحد الشعراء،قال أنيس:لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم،و لقد وضعت قوله على أقراء الشعر فما يلتئم على لسان أحد بعدي إنه شعر،و الله إنه لصادق و إنهم لكاذبون) (1).
(أ رأيت كيف اعترف المخالفون من المشركين بسموّ مكانة القرآن،و كيف أثنى عليه أناس تحولوا بسببه من الشرك إلى الإسلام بيقين فإنه لم يصدر ثناء هؤلاء و اعتراف أولئك المشركين حين صدر إلا تنويها بأمر يعرفه ذوو الخبرة،فهو إخبار عن شيء باد للعيون لا يرسل أحدهم بصره إلا رآه،فقد أطلق كل من القائلين قوله و هو واثق أنه معلوم للجميع فليس من منصف بصير بمراتب الفضل في اللغة مؤمنا كان أم جاحدا إلا وجد نفسه مسوقا للاعتراف بإعجازه،شاء أم أبى،لظهوره عند نظرائه لشدة وضوحه، لذا فإن أقوالهم دليل بالغ على إعجاز القرآن) (2).
و يذيّل هذا المبحث بذكر تصريحات أبرز أساطين العلم و المعرفة،و رائدي النهضة الحضارية الغربية المعاصرة الذين قرءوا القرآن بتدبر و رويّ،فأفرزت دراساتهم هذه مجموعة طيبة و كبيرة من شهادتهم بإعجاز القرآن،و بغض النظر عمّن آمن منهم،أو من قال ذلك على سبيل الإنصاف و الحق.
ص: 64
ذيل كتاب«إشارات الإعجاز»بطائفة من الأقوال و الآراء لكبار مفكري الغرب، يتحدثون و يقرّون بعظمة القرآن و إعجازاته و لنثبت بعضها هنا.
يقول:«واشنجون إيرفنج (1) w.lrving »:(كانت التوراة في يوم ما هي مرشد الإنسان و أساس سلوكه،حتى إذا ظهر المسيح عليه السلام اتبع المسيحيون تعاليم الإنجيل،ثم حلّ القرآن مكانهما فقد كان القرآن أكثر شمولا و تفصيلا من الكتابين السابقين،كما صحّح القرآن ما قد أدخل على هذين الكتابين من تغيير و تبديل،و حوى القرآن كل شىء،و حوى جميع القوانين،إذ أنه خاتم الكتب السماوية...) (2).
و يقول«بلاشير» (3):(لا جرم في أنه إذا كان ثمة شيء تعجز الترجمة عن أدائه فإنما هو الإعجاز البياني و اللفظي و الجرس الإيقاعي في الآيات المنزلة في ذلك العهد..إن خصوم محمد صلى اللّه عليه و سلم قد أخطئوا عند ما لم يشاءوا أن يروا في هذا إلاّ أغاني سحرية و تعويذية،و بالرغم من أننا على علم استقرائيا فقط بتنبؤات الكهان،فمن الجائز لنا الاعتقاد مع ذلك بخطإ هذا الحكم و تهافته،فإن للآيات التي أعاد صلى اللّه عليه و سلم ذكرها في هذه السور اندفاعا و ألقا و جلالة،تخلّف وراءها بعيدا أقوال فصحاء البشر كما يمكن استحضارها من خلال النصوص الموضوعة التي وصلتنا) (4).0.
ص: 65
و يقول«بكثول» (1):(القرآن هو الذي دفع العرب إلى فتح العالم،و مكنهم من إنشاء إمبراطورية فاقت إمبراطوريات إسكندر الكبير،و الإمبراطورية الرومانية،سعة و قوة و عمرانا و حضارة و دواما...).
و يقول«غوته» (2):إذا اتجهنا إلى القرآن نفرنا منه في البداية،و لكن سرعان ما يذهلنا ثم يجبرنا على تقديره في النهاية،أما أسلوبه و هدفه فعظيم و رهيب و سام،و لذا سيظل هذا الكتاب ذا تأثير فعّال على مدى الأجيال،و القرآن سيحافظ على تأثيره إلى الأبد، لأن تعاليمه عملية...و الإنسان منا إذا قرأ القرآن يرى فيه و لأول مرة شيئا جديدا لم يألفه و لكنه كلما ازداد في قراءته ازداد حبا له و اجتذابا إليه،حتى أخيرا يقول إلى إكباره و إجلاله) (3).
هؤلاء المفكرون العالميون درسوا الإسلام دراسة عميقة و شاملة،فأحبه بعضهم و آزره و آمن به آخرون و أعلنوا إسلامهم،و إذا رجعنا إلى الوراء قليلا فلسوف نجد أن الحروب الصليبية كانت من أبرز الدعائم التي نهضت عليها هذه الدراسات و التصورات حول القرآن الكريم،و هي سبب من أهم الأسباب الأولى التي جعلت الكثير من الغربيين يغيرون وجهة نظرهم فيما يخص الشرق بشكل عام و شامل و الإسلام بشكل خاص،ذلك لأن الغربيين يوم التحموا بالمسلمين رأوا منهم صفات النبل و الشهامة و الأخلاق و السلوك المستقيم و أيقنوا أن دين الشرق ليس كما يصوره الاستعمار من الانحطاط و التخلف،حينها انكب الأوربيون يدرسون و بشكل متسلسل الشرق،الذي كان9.
ص: 66
لا يحرك في عقولهم و نفوسهم إلا ما قد تأصّل فيها من عداوة و اشمئزاز،نتيجة ما قد رسمه لهم أشخاص حاقدون.
و لا أدل على هذا الذي نقول من أن الرحلات المتعددة،و الصلة المباشرة المستمرة مع الشرق كانت وثيقة متينة،و كان من نتائجها أنها قشعت الأوهام المظلمة التي تلبّدت في سماء عقول الغرب تجاه المسلمين و قرآنهم و نبيهم،فمن من كتّاب الغرب الذين يحترمون أقلامهم و أفكارهم،يجرؤ أن يكتب أو يقول بأن محمدا صلى اللّه عليه و سلم هو إله المسلمين كما كان يسوغ هذا لكتّاب غربيين مضوا؟.
و عند ما كتب الشيخ رشيد رضا مقدمة لكتاب«إعجاز القرآن»كان من جملة ما قال:
(فإن من أوتي حظّا من بيان هذه اللغة،و فاز بسهم رابح من آدابها حتى استحكمت له ملكة الذوق فيها لا يملك أن يدفع عن نفسه عقيدة إعجاز القرآن،ببلاغته و فصاحته و بأسلوبه في نظم عبارته و قد صرّح بهذا من أدباء النصرانية المتأخرين الأستاذ جبر ضومط مدرّس علوم البلاغة بالجامعة الأمريكانية في كتابه الخواطر الحسان) (1).
و الذي يستقصي هذه الأقوال المنصفة من علماء الغرب المنصفين يجدها كثيرة جدا،و تدل بمجملها على أن هؤلاء حين قرءوا القرآن جذبهم إليه،و شغل قلوبهم و عقولهم،و قذف في أعماق فكرهم و ضميرهم يقينا جازما بأن هذا الكتاب إنما هو كلام اللّه تعالى،و أنه فوق كل المعجزات،و أنه معجزة خالدة تبرهن بنفسها على نفسها،و لا يمكن أن يصل طوق أحد من البشر مهما أوتي من بلغة و فصل خطاب،إلى شيء يسير من بيان القرآن و إعجازه.
و لكن و بعد هذا العرض الذي عشنا أجواءه و تضاعيفه،لنا أن نتساءل،متى نشأ مصطلح إعجاز القرآن؟و كيف كانت بدايته؟و ما هي الدوافع الأساسية الأولى التي حفّزت علماء المسلمين لئن يكتبوا مدونات في هذا المجال؟هذا ما سيبحث في الفصل القادم إن شاء اللّه تعالى.7.
ص: 67
ص: 68
تمهيد.
المبحث الأول:الصّرفة و القائلون بها.
المبحث الثاني:نقد مذهب الصّرفة.
المبحث الثالث:أوجه إعجاز القرآن.
ص: 69
ص: 70
مما لا شك فيه أن للقرآن الكريم جاذبية و هيمنة على النفوس و العقول،كما أن لأسلوبه و نظمه و بيانه سحرا يستولي على الأفكار و الألباب،و قد أدرك ذلك العرب إبان نزوله،فالمؤمن منهم كانت النشوة القرآنية تنسكب في فؤاده،فيشعر بسعادة لا تفوقها سعادة،حتى الكافر و الجاحد منهم،كان يدرك و يستيقن أن هناك فرقا كبيرا بين كلام الخالق و كلام المخلوق،و أن ما جاء به محمد صلى اللّه عليه و سلم إنما هو كلام اللّه تعالى...
و لا غرو و لا عجب من ذلك،فالعرب قد بلغوا من الفصاحة و البيان درجة سامقة باسقة،اتزنت فيها أساليبهم الكلامية إفرادا و تركيبا،و زودهم اللّه بأدوات لغوية تمكنهم من قول الشعر البليغ و رصف الخطب الرنانة،و الحذق في البلاغة و البيان.
فسلامة الذوق العربي،و جودة القريحة،و براعة الاستهلال و الأداء،و إدراك كنه الألفاظ و أبعادها دفعت العرب بشعور و إدراك عميقين،أو بلا شعور أحيانا إلى تقديس القرآن و الخضوع لحسن بيانه و عذب كلامه...و ظلت هذه المعاني ماثلة في الأذهان، قائمة في الكيان،في عصر النبوة و الخلفاء الراشدين و فسحة من عصر الدولة الأموية، غير أن اتساع رقعة الإسلام و دخول الأعاجم في هذا الدين و امتزاجهم بالمجتمع العربي،أثّر في لغة العرب،و بدأت السليقة العربية تفقد رونقها و جمالها،لأن المسلمين من غير العرب قد وفدوا و معهم أفكار و تيارات و تصورات مختلفة حول الإله و الدين فراحوا يفكّرون بطريقة منطقية عقلية مجردة عن التذوق المتألق لمعاني اللغة الصافية.
في هذه الأثناء و تلكم الأجواء،ظهر الحديث عن وجه إعجاز القرآن،و لما ذا عجز العرب عن الإتيان و لو بسورة من مثله،و ما هو سرّ قصورهم عن ذلك،و كان أول ما بدأ ذلك في البصرة،التي كانت تحتضن مجموعة من المذاهب الكلامية و الفكرية المتعددة عندها برز مصطلح إعجاز القرآن بين الناس و تداولته الألسنة،و كان أول من قال به
ص: 71
النّظام و هو من كبار شيوخ المعتزلة عند ما قال:إن إعجاز القرآن ليس بشيء ذاتي فيه و إنما هو بصرف اللّه تفكير الناس عن معارضته،و هذا القول الغريب نجد أنه قد ذاع في البصرة،و عرف هذا القول«بالصّرفة».
عندها انبرى العلماء للرد على هذا القول المتهافت،و بدءوا يفنّدونه و يبينون خطأه و خطره و أوضحوا أن إعجاز القرآن شيء قائم بذاته،و أن اللّه تحدى به العرب فعجزوا عن الإتيان و لو بسورة من مثله،و لم يصرف عقولهم عن التفكير في معارضته...
فكتبوا كتبا كثيرة في ذلك،و نقدوا مذهب الصرفة،و تحدّثوا عن أوجه إعجاز القرآن، إلا أنهم اختلفوا في تحديد أوجه إعجاز القرآن،كما أنهم اختلفوا في ثبات الإعجاز العلمي على التحديد إلى مؤيدين و معارضين،غير أنهم اتفقوا جميعا على بطلان القول بالصرفة،و هذا مجمل ما سنجده في هذا الفصل إن شاء اللّه تعالى.
ص: 72
الصّرفة و القائلون بها
سبقت الإشارة إلى أن نشأة مصطلح«إعجاز القرآن»تساورت مع القول بالصرفة،بل إن القول بالصرفة كان هو الباعث الأول للحديث عن وجوه إعجاز القرآن الكريم،و قبل أن نتحدث عمّن صدر هذا القول،و من الذي تبناه و دعا إليه،أود أن أبدأ بتعريف كلمة«الصرفة»في اللغة و الاصطلاح،خلافا لمعظم الباحثين الذين يخوضون في الحديث عن الصرفة و مصدرها،دون الاستهلال بتعريفها.
بفتح الصاد و تسكين الراء،يقول ابن منظور:(الصرف:رد الشيء عن وجهه صرفه يصرفه صرفا فانصرف،و صارف نفسه عن الشيء،صرفها عنه،و قوله تعالى:
ثُمَّ انْصَرَفُوا رجعوا عن المكان الذي استمعوا فيه،و قيل:انصرفوا عن العمل بشيء مما سمعوا.
صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ أي أضلهم اللّه مجازاة على فعلهم،و صرفت الرجل عني فانصرف،و المنصرف قد يكون مكانا،و قد يكون مصدرا،و قوله عز و جلّ:
سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ أي أجعل جزاءهم الإضلال عن هداية آياتي،و صرف اللّه عنك الأذى و استصرفت اللّه المكاره،و صرف الشيء،أعمله في غير وجهه كأنه يصرفه عن وجه إلى وجه،و تصرف هو،و تصاريف الأمور:تخاليفها،و منه تصاريف الرياح و السحاب) (1).
ص: 73
و في«التوقيف على مهمات التعريف»:(الصرف:بالفتح رد الشيء من حالة إلى أخرى،أو إبداله بغيره و تصريف الرياح:صرفها من حال إلى حال،و منه تصريف الكلام و الدراهم،و الصريف اللبن إذا سكنت رغوته كأنه صرفت الرغوة عنه،و الصرف بالكسر:
صبغ أحمر خالص،ثم قيل لكل خالص من غيره صرف كأنه صرف عنه ما يشوبه) (1).
معناها(أن اللّه صرف العرب عن معارضة القرآن،و سلب علومهم،و كان مقدورا لهم،لكن عاقهم أمر خارجي فصار كسائر المعجزات) (2).
هذا معنى الصرفة،و لكن منشأ القول بالصرفة،و ما هي ملامح الجوّ الذي صدر عنه هذا الفكر و العوامل التي كوّنت هذا التصور في أدمغة أصحابها؟هذا ما أوضحه الإمام محمد أبو زهرة رحمه اللّه إذ يقول:(إن بعض المتفلسفين من علماء المسلمين اطلعوا على أقوال البراهمة في كتابهم«الفيدا»و هو الذي يشتمل على مجموعة من الأشعار،ليس في كلام الناس ما يماثلها في زعمهم و يقول جمهور علمائهم:إن البشر يعجزون عن أن يأتوا بمثلها،لأن براهما صرفهم عن أن يأتوا بمثلها...و عند ما دخلت الأفكار الهندية في عهد أبي جعفر المنصور ثاني خلفاء بني العباس و من والاه من حكام بني العباس تلقف الذين يحبون كل وافد من الأفكار،و يركنون إلى الاستغراب في أقوالهم فدفعتهم الفلسفة إلى أن يعتنقوا ذلك القول«الصرفة»و يطبقوه على القرآن و إن كان لا ينطبق، فقال قائلهم:إن العرب إذ عجزوا عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن،ما كان عجزهم لأمر ذاتي من ألفاظه و معانيه و نسجه و نظمه،بل كان لأن اللّه تعالى صرفهم عن أن يأتوا بمثله،و إن رواج تلك الفكرة يؤدّي إلى أمرين أولهما:أن القرآن الكريم ليس في درجة من البلاغة و الفصاحة تمنع محاكاته و تعجز القدرة البشرية عن أن تأتي بمثله،فالعجز ليس من صفات القرآن الذاتية،و ثانيهما:الحكم بأنه ككلام الناس لا يزيد عليه شيء في بلاغته أو في معانيه) (3).
ص: 74
و قد ذهب إلى هذا القول النّظّام من المعتزلة،و نسب إلى ابن المرتضى من الشيعة، و ابن سنان الخفاجي،و ابن حزم الظاهري الأندلسي،و هؤلاء هم أبرز من قال بالصرفة،و سوف نقتصر الحديث عليهم،و عمّا قالوه في هذا المجال تباعا.
1-النّظّام (1):
و هو أول من جهر بالقول بالصرفة،و هو من رءوس المعتزلة،و لقد أشار الإمام أبو الحسن الأشعري إلى مقولة النظّام في الصرفة في كتابه«مقالات الإسلاميين»فقال:
(و قال النظام:فأما التأليف و النظم فقد كان يجوز أن يقدر عليه العباد،لو لا أن اللّه منعهم بمنع و عجز أحدثهما فيهم) (2).
و يحدثنا الإمام أبو منصور البغدادي في كتابه«الفرق بين الفرق»عن النظام،و عن الظروف و العوامل التي كانت سببا في تكوين هذا الفكر لديه،و عن طرف من معتقداته البالية،و خاصة في الصرفة،فيقول:(إنما كان ينظم الخرز في سوق البصرة،و لأجل ذلك قيل له«النّظام»و كان في زمان شبابه قد عاشر قوما من الثنوية،و قوما من السمنية القائلين بتكافؤ الأدلة،و خالط بعد كبره قوما من ملحدة الفلاسفة،ثم خالط هاشم بن الحكم الرافضي،فأخذ عن هاشم و عن ملحدة الفلاسفة قوله بإبطال الجزء الذي لا يتجزأ ثم بنى عليه قوله بالطفرة التي لم يسبق إليها و هم أحد قبله،و أخذ من الثنوية قوله بأن فاعل العدل لا يقدر على فعل الجور و الكذب،و أخذ عن هاشم ابن الحكم أيضا قوله بأن الألوان و الطعوم و الروائح و الأصوات أجسام،و بنى على هذه البدعة قوله
ص: 75
بتداخل الأجسام في حيّز واحد،و دوّن مذاهب الثنوية و بدع الفلاسفة و شبه الملحدة في دين الإسلام و أعجب بقول البراهمة بإبطال النبوات،و لم يجسر على إظهار هذا القول خوفا من السيف،فأنكر إعجاز القرآن في نظمه،و أنكر ما روي من معجزات نبينا صلى اللّه عليه و سلم من انشقاق القمر،و تسبيح الحصى في يده،و نبوع الماء من بين أصابعه،ليتوصل بإنكار معجزات نبينا صلى اللّه عليه و سلم إلى إنكار نبوته،ثم إنه استثقل أحكام شريعة الإسلام في فروعها و لم يجسر على إظهار دفعها،فأبطل الطرق الدالة عليها،فأنكر لأجل ذلك حجة الإجماع،و حجية القياس في الفروع الشرعية...) (1).
ثم عرض بعد هذا البغدادي سلسلة طويلة من انحرافاته و ضلالاته،و أسماها «بالفضائح»بسط الكلام فيما أوجزناه و أثبتناه هاهنا،و غير البغدادي كثير من علماء الإسلام الذين أماطوا اللثام عن زيف و وهم ما ذهب إليه النظام،و ركّزوا على الصرفة التي جاهر بها،من ذلك ما أورده الإمام الشهرستاني في كتابه«الملل و النحل»إذ يقول:(إبراهيم بن سيّار النظّام قد طالع كثيرا من كتب الفلاسفة،و خلط كلامهم بكلام المعتزلة،و انفرد عن أصحابه بمسائل...و ذكر ثلاثة عشر مسألة أوضح فيها ضلاله و زيفه،منها قضية الصرفة) (2).
و من خلال استقراء حياة النظام يتبين لنا أنه كان شعلة من الذكاء و النباهة،حتى قال فيه الجاحظ:(قد أنهج-أي للمتكلمين-لهم سبلا،و فتق لهم أمورا،و اختصر لهم أبوابا ظهرت فيها النعمة و شملتهم بها المنفعة) (3).4.
ص: 76
و قال عنه الجاحظ أيضا:(و كان لا يرتاب بحديث النظّام إذا حكى عن سماع أو عيان) (1).
و وصفه أحمد أمين (2)بأنه(عقلية قوية سابقة لزمنها،فيها الركنان الأساسيان اللذان سببا النهضة الحديثة في أوروبا و هما:الشك و التجربة) (3).
لكن مع كل هذا الثناء و المديح سواء كان مبالغا فيه أم لا(لم يستخدم النظّام قدرته العقلية و طاقاته المعرفية و الذكائية في خدمة الشريعة الغراء،و الكشف عن أسرارها و حكمها و شموليتها للكون و الحياة و الإنسان،بل على العكس من ذلك تماما،فقد سلط قلمه و لسانه على الشرع السمح و استهتر بقضايا الدين،و طعن في أصول الشريعة كما طعن في فتوى أعلام الصحابة...) (4).
علاوة على ذلك فإنه كان منحرف السلوك،سيّئ الخلق،و هذا وصف ابن قتيبة له يقول:(وجدنا النظّام شاطرا من الشطّار،يغدو على سكر و يروح على سكر،و يبيت على جرائرها،و يدخل في الأدناس،و يرتكب الفواحش و الشائنات،و هو القائل:
ما زلت آخذ الزقّ في لطف و أستبيح دما من غير مجروح
حتى انثنيت و لي روحان في جسدي و الزقّ مطّرح جسم بلا روح
ثم نجد أصحابه يعدون من خطئه قوله:إن اللّه عز و جلّ يحدث الدنيا و ما فيها،في كل وقت من غير إفنائها...) (5).
و قد اتفق أكثر المعتزلة على تكفير النّظام كما قال البغدادي:(و قد قال بتكفيره أكثر شيوخ المعتزلة،منهم أبو الهذيل،فإنه قال بتكفيره في كتابه المعروف«بالرد على5.
ص: 77
النظّام»،و في كتابه عليه في الأعراض،و الإنسان،و الجزء الذي لا يتجزأ،و منهم الجبائي،فقد كفّر النظام في قوله:إن المتولدات في أفعال اللّه بإيجاب الخلقة...
و منهم جعفر بن حرب فقد صنّف كتابا في تكفير النظّام بإبطاله الجزء الذي لا يتجزأ...
و أما كتب أهل السنة و الجماعة في تكفيره فالله يحصيها،و لشيخنا أبي الحسن الأشعري رحمه اللّه في تكفير النظّام ثلاثة كتب،و للقلانسي عليه كتب و رسائل،و للقاضي أبي بكر محمد بن الطيب الأشعري رحمه اللّه كتاب كبير في نقض أصول النظام،و قد أشار إلى ضلالاته في كتاب،إكفار المتأولين) (1).
2-الشريف المرتضى من الشيعة (2):
و الصرفة عنده هي:أن اللّه سلبهم العلوم التي يحتاجون إليها في معارضة القرآن و الإتيان بمثله،أي إنهم قادرون على أن يأتوا بمثل القرآن،و ذلك بما زودوا من فصاحة و بلغة و بيان،إلا أنهم عاجزون عن ذلك بسبب أن اللّه سلبهم هذه العلوم التي يحتاجون إليها لمحاكاة القرآن و الإتيان بمثله.
و هذا قوله كما نقله الرافعي (3):(و قال المرتضى من الشيعة:معنى الصرفة أن اللّه سلبهم العلوم التي يحتاج إليها في المعارضة ليجيئوا بمثل القرآن) (4).
و إليه أشار ياقوت الحموي في كتابه«معجم الأدباء»إذ يقول:(قرأت بخط عبد اللّه ابن محمد بن سعيد بن سنان الخفاجي الشاعر في كتاب ألفه في الصرفة،زعم فيه أن
ص: 78
القرآن لم يخرق العادة بالفصاحة حتى صار معجزة للنبي صلى اللّه عليه و سلم و أن كل فصيح بليغ قادر على الإتيان بمثله،إلا أنهم صرفوا عن ذلك،لا أن يكون القرآن في نفسه معجز الفصاحة،و هو مذهب الجماعة من المتكلمين و الرافضة منهم بشر المريسي، و المرتضى أبو القاسم...) (1).
و يقول السفاريني (2):(و كان المرتضى العلوي يقول بالصرفة،يعني أن اللّه تعالى صرف العرب عن الإتيان بمثله...) (3).
و هكذا يتضح لنا الفرق الدقيق بين ما ذهب إليه النظّام في الصرفة،و ما ذهب إليه المرتضى فالنظّام يرى بأن الصرفة هي:عدم معارضتهم للقرآن مع قدرتهم عليها،لكن اللّه صرفهم عنها،أما عند المرتضى فالصرفة هي:عدم قدرتهم على الإتيان بمثل القرآن،لأن اللّه سلبهم العلوم التي يحتاجون إليها لمحاكاة القرآن و الإتيان بمثله،بعد أن كانت متأصّلة فيهم.
3-ابن حزم الأندلسي الفقيه الظاهري (4):
ابن حزم ممن قال بالصرفة في كتابه«الفصل في الملل و الأهواء و النحل»تحت
ص: 79
عنوان:الكلام في إعجاز القرآن،حيث يذكر عدة أقوال،و العديد من المسائل في إعجاز القرآن و يناقشها مع انتقاده لأكثرها،و هو يرى(أن القرآن في أعلى درجات البلاغة،حيث إن اللّه قد بلغ به ما أراد،فهو في هذا المعنى في الغاية التي لا شيء أبلغ منها،و ليس هو في أعلى درجات البلاغة في كلام المخلوقين،لأنه ليس من نوع كلامهم،لا من أعلاه و لا من أدناه و لا من متوسّطه...ثمّ يعلن الصرفة فيقول:فصحّ أنه ليس من نوع بلاغة الناس أصلا،و أن اللّه تعالى منع الخلق من مثله،و كساه الإعجاز،و سلبه جميع كلام الخلق...إذ لم يقل أحد من أهل الإسلام أن كلام غير اللّه تعالى معجز،لكن لما قاله اللّه تعالى و جعله كلاما له،أصاره معجزا،و منع من مماثلته،و هذا برهان كان لا يحتاج إلى غيره) (1).
(و على هذا فإن ابن حزم لا يرى القرآن معجزا ببلاغته،و أن في استطاعة الناس أن يأتوا بمثل بلاغته،مع اعترافه بأنه في أعلى طبقات البلاغة،و نراه من جهة ثانية يخالف طريقة المتكلمين،فهم يجعلون إعجاز القرآن وسيلة إلى إثبات أنه منزل من عند اللّه و إثبات النبوة،و هو يعكس الأمر فيجعله معجزا لأنه كلام اللّه) (2).
و للشيخ محمد أبو زهرة رحمة اللّه تعقيب نفيس على كلام ابن حزم الذي أوردناه آنفا يقول:(إن ذلك الكلام يبدو بادي الرأي غريبا من ابن حزم،و لكن المتأمل فيه يجده سائرا على مذهبه في نفي الرأي،و الحكم بظاهر القول من غير تعليل،فالاتجاه إلى تعليل الإعجاز بأن السبب فيه بلاغته التي علت عن طاقة العرب،و التي جعلتهم يخرون صاغرين بين يديه من غير مراء و لا جدال يعد تعليلا و هو من باب الرأي الذي ينفيه و التعليل الذي يجافيه،فلا بد أن يبحث عن سبب غير ما ذكر اللّه تعالى) (3).
4-ابن سنان الخفاجي (4):
و من الذين قالوا بالصرفة الخفاجي في كتابه«سرّ الفصاحة»فهو يرى أن أسلوب
ص: 80
القرآن لم يبعد كثيرا عن فصيح الكلام المختار من كلام العرب،و أن العرب عند ما عجزوا عن الإتيان بمثله،كان ذلك راجعا إلى أنهم سلبوا العلوم التي كانوا يتمكنون بها من معارضته...
يقول الخفاجي و هو يردّ على أبي الحسن الرماني الذي يرى أن إعجاز القرآن راجع إلى بلاغته و فصاحته و تلاؤم نظمه...يقول:(و لا فرق بين القرآن و بين فصيح الكلام في هذه القضية،و متى رجع الإنسان إلى نفسه و كان معه أدنى معرفة بالتأليف المختار، وجد في كلام العرب ما يضاهي القرآن في تأليفه،و لعل أبا الحسن الرماني يتخيل أن الإعجاز في القرآن لا يتم إلا بمثل هذه الدعوى الفاسدة...ثم يعلن القول بالصرفة فيقول:و إذا عدنا إلى التحقيق وجدنا وجه إعجاز القرآن صرف العرب عن معارضته،بأن سلبوا العلوم التي بها كانوا يتمكّنون من المعارضة في وقت مرامهم ذلك) (1).
و قد زعم السفاريني أن القاضي عياض له ميل إلى القول بالصرفة فقال:(قلت:
و في شفاء أبي الفضل القاضي عياض بعض ميل للقول بالصرفة،فإنه قال:و ذهب الشيخ أبو الحسن الأشعري إلى أنه مما يمكن أن يدخل مثله تحت مقدور البشر، و يقدرهم اللّه عليه،و لكنه لم يكن هذا،و لا يكون فمنعهم اللّه هذا و عجزهم عنه) (2).
و الحق أن القاضي عياض لم يمل إلى الصرفة،لا من قريب و لا من بعيد،و إنما استعرض أقوال العلماء في وجوه الإعجاز،سواء من أثبت الصرفة أو من نفاها،ثم إننا نجده قد بسط الحديث في إعجاز القرآن،و تحديه للعرب و للناس جميعا،و ذكر آيات التحدي تباعا و أوضح بإسهاب خصائص اللغة العربية،و ما كان عليه العرب من فصاحة و بلاغة و بيان و مع كل هذا،و القرآن يتحداهم،نجدهم عاجزين ناكصين...و هذا ما قاله القاضي عياض و هو يعرض أقوال العلماء في وجوه الإعجاز يقول:(و قد اختلف أئمة أهل السنة في وجه عجزهم عنه،فأكثرهم يقول:إنه ما جمع في قوة جزالته و نصاعة ألفاظه،و حسن نظمه،و إيجازه،و بديع تأليفه و أسلوبه لا يصح أن يكون في مقدور البشر و أنه من باب الخوارق الممتنعة عن إقدار الخلق عليها،كإحياء الموتى،1.
ص: 81
و قلب العصا،و تسبيح الحصى و ذهب الشيخ أبو الحسن إلى أنه مما يمكن أن يدخل مثله تحت مقدور البشر و يقدرهم اللّه عليه،و لكنه لم يكن هذا و لا يكون،فمنعهم اللّه هذا و عجزهم عنه) (1)،فنحن نميل إلى الاعتقاد بأنه قد عرض القولين مجرد عرض،بل إنه قد جزم بإعجاز القرآن بالتحدي لا بالصرفة (2).
هؤلاء هم أبرز من قال بالصرفة،بل هم الذين وضعوا التصور الواضح لمفهوم الصرفة،و يتضح لنا بعد أن تعرفنا على ما ذهبوا إليه أن آرائهم تتلخص بمذهبين:
أولا:النظّام و من سار على نهجه،و هؤلاء يرون أن العرب صرفوا عن معارضة القرآن و لم يحاولوا معارضته،و لو حاولوا لاستطاعوا أن يأتوا بمثله.
ثانيا:الشريف المرتضى و الخفاجي و من سار على نهجهما،و هؤلاء يرون أن اللّه سلب من العرب العلوم التي يحتاجون إليها لمعارضة القرآن الكريم،و لو حاولوا معارضته لفشلوا بسبب سلب العلوم التي تمكنهم من معارضته و الإتيان بمثله.
و كلا المذهبين مردود بأدلة قاطعة و واضحة،و هذا ما سيتناول في المبحث القادم إن شاء اللّه تعالى.ه.
ص: 82
نقد مذهب الصرفة
يتسنّى لنا من خلال ما بسطناه من الحديث عن الصرفة و قائليها،و ما تلخص لنا من مجموع ما ذهبوا إليه أن نركز النقد على هذا القول الشاذ بما يلي:
و الذين قالوا:إن اللّه صرف العرب عن المعارضة،و لو فكروا و حاولوا لاستطاعوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن.
1-بداية نقول:يلزم من القول بالصرفة أن الإعجاز ليس ذاتيا في القرآن،و إنما الإعجاز في المنع أي في غيره،و هذا القول باطل لأن اللّه سبحانه و تعالى وصف القرآن بأوصاف تدل على أنه معجز بذاته و أول و أهم هذه الأوصاف أنه قد تحداهم أن يأتوا بمثله،كما قال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (1)و أيضا قوله تعالى: وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (2)و قوله جلّ ثناؤه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (3)،فقد قرر سبحانه و تعالى في الآية الأولى أن الإنس و الجن مهما تضافرت قواهم،و تآزرت جهودهم ليعارضوه لم و لن يستطيعوا أن يأتوا و لو بسورة من مثله،فلو كان الإعجاز بالصرفة كما يقولون لاقتضى سياق الخطاب أن يأتي هكذا«لو اجتمع الإنس و الجن على أن يأتوا بمثله لصرفهم اللّه عن ذلك»و لكن لم يرد مثل هذا أبدا، بل إن الحق جعل التحدي في الإعجاز بالقرآن ذاته لا بالمنع و الصرف...
ص: 83
كذلك فإن الآية الثانية و الثالثة،تدلان على أن القرآن معجز بذاته لا بغيره،و ذلك لأن اللّه جل جلاله أودع فيه من المزايا و الصفات السامية،التي لا يمكن أن يصل إلى مستواها طوق أحد من الخلق ليعارضها و ليجاريها،و من هنا كان التحدي بالقرآن نفسه و نستبين ذلك من أن القرآن سلسل آيات التحدي لهم،و سفّه عقولهم و أثار حميتهم،فلو كان الإعجاز بالصرفة،لما عرض آيات التحدي،إنما كان يكفيه أن يقول لهم:إن دليل صدقي هو منعكم عن المعارضة،فالمعجزة تكون نفس المنع عن المعارضة و ليس القرآن و لكننا نجد أن الحق عرض آيات التحدي تباعا بصورة جازمة على أن المتحدى به هو القرآن ذاته،و أنه المعجز لمزايا أودعها في ذاته،و ليست هذه الصفات خاصة عنه.
2-وردت آيات كثيرة تدل على أن القرآن معجز بذاته،و ذلك بسبب قوة تأثيره في النفوس و هيمنته على الأفئدة،و من أجل هذا كان الكفرة يهمس بعضهم في البعض لئلا يصغوا إلى القرآن حتى لا يسحرهم جماله و بيانه،قال تعالى: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (1)كما أن القرآن كان له تأثير عجيب في نفوس المسلمين الخاشعين و إلى هذا يشير مولانا تبارك و تعالى: اَللّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللّهِ ذلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (2).يقول الشيخ محمد أبو زهرة:(إن العرب عند ما تلقوا القرآن راعهم بيانه،و أثار إعجابهم أسلوبه و عباراته، و قالوا:ما رأينا مثله شعرا و لا نثرا،فكان العجز لذاته،لا لشيء خارج عنه،و ما لنا نفترض ما لم يقولوا،و ما لم يفعلوا،و ما لم يقدروا،إلا أن يكون ذلك تمويها و إنكارا للواقع المستقر بفرض وهميّ...و أيضا فإنه لو كان العجز لأمر خارجي لا لأمر ذاتي فيه،بأن تكون عندهم القدرة على أن يأتوا بمثله و لكن صرفوا،فإن ذلك يقتضي أن يثبت أولا أنهم قادرون على مثله،و هم أولا قد نفوا ذلك عن قدرهم،و ليس لنا أن نفرض لهم قدرة قد نفوها عن أنفسهم،و لو كانوا قادرين لكان من كلامهم قبل نزول القرآن عليهم و ما يكون متماثلا في نسقه و نسجه،و لهم مثل رنينه و صوره البيانية في شعر3.
ص: 84
أو نثر،و لكن المتتبع للمأثورات العربية في الجاهلية و الإسلام لا يجد فيها ما يقارب القرآن في ألفاظه أو معانيه أو صوره البيانية) (1).
3-و أما الرد على النظّام و من معه فإنا نقول:(كيف يصح القول أن همتهم لم تتجه للإتيان بمثل القرآن،و هم الذين لم يتركوا سبيلا للقضاء على دعوة محمد صلى اللّه عليه و سلم و سلكوا كل طريق شاق،و حاربوه و ناوءوه و قاطعوه،و آذوه مع إبطاله لمعتقداتهم،و إثارته لحفيظتهم،و استفزازه لمشاعرهم،و إلهابه لغيرتهم و أصاب موضع عزتهم و فخارهم، و قد مكّنهم من نفسه لو استطاعوا فدعاهم و تحداهم أن يأتوا بمثل سورة من القرآن و لو كان فيهم أدنى قدرة،أو عرفوا أحدا يملكها في أقصى الأرض لبعثوا إليه كما بعثوا لليهود يسألونهم عمّا يسألون محمدا صلى اللّه عليه و سلم عنه ليحرجوه،فلا يصح بعد هذا أن يقال:إن همتهم لم تتجه للإتيان بمثله) (2).
ثم إن أول من رد على النظّام تلميذه الجاحظ،و الجاحظ كما نعلم معتزلي،و لكنه كان حافلا بالصياغة اللغوية،و ممن يجعلون لصفاء العبارة و رونقها شأنا في البلاغة، كذلك هو كما وصفه ابن النديم في الفهرست:(بأنه لم يقع بيده كتاب قط إلا استوفى قراءته كائنا ما كان حتى إنه كان يكتري دكاكين الوراقين و يثبت فيها للنظر) (3).
و ها هو ذا الجاحظ يتحدّث عن إعجاز القرآن و نظمه و أسلوبه البياني،رادّا في ذلك على أستاذه النظّام يقول:(بعث اللّه محمدا أكثر ما كانت العرب شاعرا و خطيبا، و أحكم ما كانت لغة،و أشد ما كانت عدّة،فدعا أقصاها و أدناها إلى توحيد اللّه و تصديق رسالته فدعاهم بالحجة،فلما قطع العذر و أزال الشبهة و صار الذي يمنعهم من الإقرار الهوى و الحميّة دون الجهل و الحيرة،حملهم على حظّهم بالسيف،فنصب لهم الحرب و نصبوا له و قتل من عليتهم و أعلامهم و أعمامهم و بني أعمامهم،و هو في ذلك2.
ص: 85
يحتجّ عليهم بالقرآن و يدعوهم صباحا و مساء إلى أن يعارضوه إن كان كاذبا بسورة.
واحدة أو بآيات يسيرة فكلما ازداد تحديا لهم بها و تقريعا لعجزهم عنها،تكشّف من نقصهم ما كان مستورا و ظهر منه ما كان خفيا،فحين لم يجدوا حيلة و لا حجة قالوا له:
أنت تعرف من أخبار الأمم ما لا نعرف،فلذلك يمكنك ما لا يمكننا،قال فهاتوها مفتريات،فلم يرم ذلك خطيب و لا طمع فيه شاعر و لا طمع فيه لتكلفه،و لو تكلفه لظهر ذلك،و لو ظهر لوجد من يستجيده و يحامي عليه و يكايد فيه،يزعم أنه قد عارض و قابل و ناقض،فدل ذلك العاقل على عجز القوم مع كثرة كلامهم،و استحالة لغتهم،و سهولة ذلك عليهم،و كثرة شعرائهم،و كثرة من هجاه منهم،و عارض شعراء أصحابه و خطباء أمته،لأن سورة واحدة و آيات يسيرة كانت أنقض لقوله و أفسد لأمره و أبلغ في تكذيبه و أسرع في تفريق أتباعه من بذل النفوس و الخروج من الأوطان و إنفاق الأموال،و هذا من جليل التدبير الذي لا يخفى على من هو دون قريش و العرب في الرأي و العقل بطبقات،و لهم القصيد العجيب و الرجز الفاخر،و الخطب الطوال البليغة و القصار الموجزة،و لهم الأسجاع و المزدوج،و اللفظ المنثور ثم يتحدى به أقصاهم بعد أن أظهر عجز أدناهم،فمحال-أكرمك اللّه-أن يجتمع هؤلاء كلهم على الغلط في الأمر الظاهر و الخطأ المكشوف البين،مع التقريع بالنقص و التوقيف على العجز،و هم أشد الخلق أنفة،و أكثرهم مفاخرة،و الكلام سيد عملهم،و قد احتاجوا إليه و الحاجة تبعث على الحيلة في الأمر الغامض فكيف بالظاهر الجليل المنفعة،و كما أنه محال أن يطبقوا ثلاثا و عشرين سنة على الغلط في الأمر الجليل المنفعة،فكذلك محال أن يتركوه و هم يعرفونه و يجدون السبيل إليه و هم يبذلون أكثر منه) (1).
(ذلك هو رأي الجاحظ في إقامة الحجّة على وقوع الإعجاز بالقرآن،و هو رأي كما ترى تقوم بين يديه حجج مشرقة،و أدلة قاطعة و إن أكثر الذين أقاموا الحجة على إعجاز القرآن من هذا الوجه إنما نظروا إلى رأي الجاحظ هذا،و اعتمدوا عليه،و داروا حوله) (2).
4-و يرد الزرقاني ردا دقيقا على من قال بالصرفة،و ذلك بعد ما عرض شبهة القائلين بها و بدأ بتفنيدها فقال:(...فينقضه الواقع التاريخي أيضا،و دليلنا على هذا ما4.
ص: 86
تواترت به الأنباء من أن بواعث العرب إلى المعارضة قد وجدت سبيلها إلى نفوسهم، و نالت منالها من عزائمهم،فهبوا هبّة رجل واحد يحاولون القضاء على دعوة القرآن بمختلف الوسائل فلم يتركوا طريقا إلا سلكوه،و لم يدعوا بابا إلا دخلوه،لقد آذوه و آذوا أصحابه فسبوا من سبوا،و عذّبوا من عذبوا،و قتلوا من قتلوا،و لقد طلبوا إلى عمه أبي طالب أن يكفه و إلا نازلوه و إياه،و لقد قاطعوه و قاطعوا أسرته الكريمة،لا يبيعون لهم و لا يبتاعون،و لا يتزوجون منهم و لا يزوجون،و اشتد الأمر حتى أكلت الأسرة الكريمة ورق الشجر و لقد فاوضوه أثناء هذه المقاطعة التي تلين الحديد مفاوضات عدة،و عرضوا عليه عروضا سخية مغرية،منها أن يعطوه حتى يكون أكثرهم مالا،و أن يعقدوا له لواء الزعامة فلا يقطعوا أمرا دونه،و أن يتوجوه ملكا عليهم إن كان يريد ملكا،و أن يلتمسوا له الطب إن كان به مس من الجن،كل ذلك في نظير أن يترك هذا الذي جاء به،و لما أبى عليهم ذلك،عرضوا عليه أن يهادنهم و يداهنهم فيعبد آلهتهم سنة و يعبدون إلهه سنة،فأبى أيضا،و نزل قول اللّه: قُلْ أَ فَغَيْرَ اللّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (1)و نزلت كذلك سورة الكافرون،و لقد اتهموه مرة بالسحر و أخرى بالشعر و ثالثه بالجنون و رابعة بالكهانة،و كانوا يتعقبونه و هو يعرض نفسه على قبائل العرب أيام الموسم،فيبهتونه و يكذّبونه أمام من لا يعرفونه،و لقد شدّوا وطأتهم على أتباعه حتى اضطروهم أن يهاجروا من وطنهم و يتركوا أهلهم و أولادهم و أموالهم فرارا إلى اللّه بدينهم،و لقد تآمروا على الرسول صلى اللّه عليه و سلم أن يثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه لو لا أن حفظه اللّه و حماه من مكرهم،و أمره بالهجرة من بينهم،و لقد أرسلوا إليه الأذى بعد ذلك في مهاجره،فنشبت الحرب بينه و بينهم في خمس و سبعين موقعة،منها سبع و عشرون غزوة،و ثمان و أربعون سرية،فهل يرضى عاقل لنفسه أن يقول بعد ذلك كله إن العرب كانوا مصروفين عن معارضة القرآن و نبي القرآن،و إنهم كانوا مخلدين إلى العجز و الكسل زاهدين في النزول إلى هذا الميدان،و هل يصح مع هذا كله أن يقال:إنهم كانوا في تشاغل عن القرآن غير معنيين به و لا آبهين له،و إذا كان أمر القرآن لم يحركهم و لم يسترع انتباههم فلما ذا كانت جميع هذه المهاترات و المصاولات مع أن خصمهم الذي يزعمون خصومته قد قصر لهم المسافة،و دلهم على أن سبيلهم إلى إسكاته هو أن يأتوا بمثل أقصر سورة مما جاءهم به،أ ليس ذلك دليلا ماديا على أن قعودهم عن1.
ص: 87
معارضة القرآن ليست إلا بسبب شعورهم بعجزهم عن هذه المعارضة و اقتناعهم بإعجاز القرآن،و إلا فلما ذا آثروا الملاكمة على المكالمة،و المقارعة بالسيوف على المعارضة بالحروف) (1).
5-كما أن الزركشي يورد ردا هاما في هذا الصدد،لأنه يعتبر القول بالصرفة قولا فاسدا لأن القول بالصرفة هو(زوال الإعجاز بزوال زمان التحدي،و خلوّ القرآن من الإعجاز و في ذلك خرق لإجماع الأمة،فإنهم أجمعوا على بقاء معجزة الرسول صلى اللّه عليه و سلم العظمى،و لا معجزة له باقية سوى القرآن،و خلّوه من الإعجاز يبطل كونه معجزة) (2).
هذه مجموعة من الردود الموجزة على النظّام و من تبعه،و قد تبين من خلال استعراضها بطلان القول بالصرفة التي زعمها هذا الفريق،و أما بالنسبة للرد على الفريق الثاني الذي يتمثل بالمرتضى و من تبعه،فهاك هو:
فهؤلاء زعموا أن اللّه سلب من العرب العلوم التي يحتاجونها في معارضة القرآن و يتلخّص الرد عليهم بما يلي:
1-نقول:(و هل انحطت علومهم و عقولهم بعد التحدي كما كانت عليه قبل التحدي؟!إننا إذا قارنا بين أساليبهم في الكلام قبل بعثة محمد صلى اللّه عليه و سلم و بعد البعثة،لم نجد تفاوتا بين أساليبهم،و على هذا الزعم كان ينبغي أن تسفّه أساليبهم بعد التحدي،و لو أن العلوم سلبت منهم فلما ذا لم يلجئوا إلى كلام فصحائهم من القدماء الذين لم يحضروا عصر التنزيل،و لم تسلب منهم العلوم،فيأتوا بقطعة شعرية أو خطبة محفلية فيعارضوا بها القرآن؟و لما ذا لم ينطقوا بهذا السلب و يشيعوا بأنهم سلبوا علومهم فلا يقدرون على معارضة القرآن؟و لا يقال:إن ذلك سيكون حجّة عليهم ملزمة لهم لتصديقه،لأن باب الافتراء كان مفتوحا عندهم،فكانوا يستطيعون أن يدّعوا أن علومهم
ص: 88
سلبت بطريق السحر كما افتروا:إن تأثير القرآن على الأنفس إنما هو من قبيل السحر) (1).
2-ثم إن قوله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (2)ففي الآية دليل على أن عجزهم كان مع وجود قدرتهم،و إلا فهل يمكن أن يستقيم التحدي و يتمّ مع المنع و العجز،و كذلك فإن إشارة الآية إلى المظاهرة و المعاونة دليل آخر على تكاتف القوى،و تآزر الجموع،و هل يكون هذا إلا مع بقاء القدرة،و في نفس الوقت دليل على العجز مع القدرة،فلو سلبت منهم العلوم كما يزعم المرتضى لما صحّ البتة التحدي لا عقلا و لا شرعا.
3-ثم إن(استعظام العرب لفصاحة القرآن و بلاغته،و تعجبهم من ذلك لهو دليل على بطلان الصرفة،فلو كانوا مصروفين عن المعارضة بنوع من الصرف لكان تعجّبهم للصرف لا للبيان المعجز و كلامهم قبله،كالفرق بين كلامهم بعد التحدي و بين القرآن، و لمّا لم يكن كذلك بطل القول بالصرفة) (3)،و التاريخ يثبت أن العرب أبدا لم تفقد عقولهم بعد التحدي،لأن سلب العلوم وقت التحدي يؤدي إلى زوال العقول و إلى الجنون،و لكنّ شيئا من هذا لم يحدث أبدا،بل بقيت العقول بعد التحدي كما كانت قبله،و كذلك العلوم.
4-و نجد أن للآلوسي في«روح المعاني»ردا على المرتضى مختصرا و معبرا يقول:
(و هو خاص بمذهب المرتضى أنه لو كان الإعجاز بفقدهم العلوم لتناطقوا به،و لو تناطقوا لشاع إذ العادة جارية بالتحدث بالخوارق فحيث لم يكن،دلّ على فساد الصرفة بهذا الاعتبار و استدل بعضهم على فساد القول بها بقوله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (4)فإنه يدل على عجزهم مع بقاء قدرهم،و لو سلبوا القدرة لم تبق فائدة لاجتماعهم،لأنه بمنزلة اجتماع الموتى،و ليس عجز الموتى مما يحتفل بذكره) (5).1.
ص: 89
5-و بالنسبة لزعم هذا الفريق بأن علوم العرب سلبت،يشير الدكتور مصطفى مسلم إلى لفتة هامة هاهنا فيقول:(و إن كان القرآن غير معجز بشيء ذاتي فيه،و إنما لم يعارضه العرب بصرف دواعيهم عن المعارضة،أو بسلب العلوم منهم،فهل أحسّ النظّام و المرتضى بما وصفوا العرب به من صرف و سلب؟فلما ذا لم يأتيا بمعارضة للقرآن،و كان النظّام من الأذكياء و الماهرين كما يشهد له تلميذه الجاحظ،و المرتضى مشهود له أنه كان من فرسان البلاغة و البيان) (1).و يذيّل هذا المبحث باستدراكين هامين حول نقد مذهب الصرفة،الأول للباقلاني و الثاني للجرجاني،يقول الباقلاني:
(و مما يبطل ما ذكروه من القول بالصرفة،أنه لو كانت المعارضة ممكنة و إنما منع منها الصرفة،لم يكن الكلام معجزا و إنما يكون المنع معجزا،فلا يتضمن الكلام فضيلة على غيره في نفسه) (2).
و يقول الجرجاني:(...ثم إن هذه الشناعات التي تقدّم ذكرها،تلزم أصحاب الصرفة أيضا و ذلك أنه لو لم يكن عجزهم عن معارضة القرآن،و عن أن يأتوا بمثله لأنه معجز في نفسه،لكان لأن أدخل عليهم العجز عنه،و صرفت هممهم و خواطرهم عن تأليف كلام مثله،و كان حالهم على الجملة حال من أعدم العلم بشيء قد كان يعلمه، و حيل بينه و بين أمر قد كان يتسع له،لكان ينبغي ألا يتعاظمهم،و لا يكون منهم ما يدل على إكبارهم أمره و تعجبهم منه،و على أنه قد بهرهم،و عظم كل العظم عندهم،و لكان التعجب للذي دخل من العجز عليهم،و لما رأوه من تغير حالهم،و من أن حيل بينهم و بين شيء قد كان عليهم سهلا،و أن سد دونه باب كان لهم مفتوحا،أ رأيت لو أن نبيا قال لقومه:إن آيتي أن أضع يدي على رأسي،و كان الأمر كما قال،ممّ يكون تعجب القوم؟أ من وضعه يده على رأسه،أم من عجزهم أن يضعوا أيديهم على رءوسهم) (3).
و في خاتمة المبحث يتضح أن الذي ذهب إلى القول بالصرفة،إنما هو إنسان ماكر مخادع،جاف في تذوقه لمعاني القرآن العذبة،ذلك لأن من قرأ القرآن بحسه و روحه، و عقله و فكره وجد نفسه يعيش في روضة من رياض الجنة،و يشعر أن كلام الحق يثير في3.
ص: 90
أقاصي نفسه مشاعر الحب و الولاء للّه تبارك و تعالى،فضلا عما يساور نفسه من نشوة يجد متعتها و هو يتلو القرآن الكريم...
زيادة على ذلك فقد صدق من قال:رب ضارّة نافعة،نعم فلقد كان للقول بالصرفة أثر واضح في دفع العلماء للرد عليه،و ذلك من خلال الاتجاه إلى البحث و الكتابة و التأليف في ميادين البلاغة القرآنية،و الكمّ الكبير من كتب البلاغة الذي نراه اليوم، إنما كان انعكاسا واضحا للمجهود الذي قدمه السلف الصالح،و هم يردون على القول بالصرفة،و ذلك من خلال دراسة أسرار الإعجاز في كتاب اللّه تعالى،و التأمل في أسلوبه البياني،و إيقاعه النفسي...فكانت هذه الكتب ثروة ذخرت بها المكتبة العربية و الإسلامية،و يعتقد أن أحدا من الناس اليوم لا يمكن أن يجرؤ على القول بالصرفة أو ينادي به،لأن من نادى به قديما إنما تذرع بفكرة عدم معارضته من الناحية البيانية،أما اليوم،و بعد انكشاف أسرار الكون،و الكشف عن غوامضه و خفاياه،و وقوف العلماء على الإعجاز العلمي الذي يبرهن على أن ما توصل إليه علماء اليوم من كثير من الحقائق الكونية،كان القرآن الكريم قد سبقهم لتسطير أسسها و تسجيل قواعدها قبل أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمن و الدارس لهذا الجانب العلمي من القرآن الكريم بدقة و أناة لا بد إلا و أن يطأطأ الرأس إجلالا و إخباتا لعظمة هذا الكتاب،على أننا نؤكد أن الجانب البياني إنما هو معجز أبد الدهر و أنه الرباط العام لكل مناحي و أوجه الإعجاز في كتاب اللّه...
فالقول بالصرفة وهم لا يستند إلى دليل أو برهان،بل هو مردود بأدلة نقلية و أخرى عقلية كما ورد ذلك في ثنايا البحث،كما أنه مردود بتكذيب الواقع التاريخي له،و الذي أوضح سفور الصرفة و بطلانها....و بإمكاننا الآن و قد طوينا ملف الصرفة و نقدها، أن ننتقل لموضوع أشمل من هذا،ألا و هو:أوجه إعجاز القرآن،و الذي سيدرس في المبحث القادم إن شاء اللّه تعالى.
ص: 91
أوجه إعجاز القرآن
اتضح من خلال المباحث السابقة،أن القرآن الكريم معجزة الدهر،و أن العرب قد خضعوا لسلطانه،و أقروا بإعجازه،و اعترفوا أنهم قاصرون عن مطاولته، و أنهم عاجزون عن الإتيان بأقصر سورة من مثله،ثم إن هذا الإعجاز نابع من ذاته، و ليس بسبب خارجي عنه...و إذا كان شأن إعجاز القرآن هذا،فلما ذا نجد أن العلماء اختلفوا قديما و حديثا في تحديد وجوه إعجاز القرآن و الجهات التي منها كان الإعجاز؟.
القرآن معجز،نعم،و لا خلاف في ذلك أبدا،لما دلت عليه البراهين الواضحة، و الدلائل الساطعة،التي سيقت لإشباع الحديث عن إعجاز القرآن،و لكن لسائل أن يتساءل فيقول:من أيّ جهة يمكن لنا أن نقف على إعجاز القرآن؟.
و لما ذا؟و كتاب اللّه لم يندّ على قواعد اللغة العربية،و لا على تركيب عبارات و جمل و أساليب الكلام العربي الذي استخدموه فيما بينهم،و أقروه على أنه لغة الخطاب المستعملة فيما بينهم؟.
و لما ذا؟و القرآن كانت صياغته من نفس الألفاظ التي يستخدمها العرب في صياغة خطبهم و أشعارهم و مدائحهم و قصائدهم،و أفانين الكلام الجذّاب لديهم؟.
و لما ذا؟و هل كانت المعاني التي ارتكزت عليها آيات القرآن غريبة على العرب...؟عند ما يتحدث القرآن عمّا سلف من قصص الأمم الغابرة،و ما جرى لتلك الشعوب البائدة،فهل يصعب على العربي فهم القصة و مغزاها و محتواها؟و عند ما
ص: 92
يتحدث عن التربية و التهذيب في الأخلاق و السلوك و المعاملات،فهل يتعسّر على العربي فهم هذه الأخلاقيات المطروحة و المعروفة؟.
و هكذا عند ما يتحدث عن باقي الجوانب الحياتية و التشريعية و غيرهما،فإن العرب كانوا بسليقتهم الصافية يدركون و بسهولة كل هذه المعاني القرآنية...
من أين جاء الإعجاز إذن؟إن القرآن لم يبعد عن كلام العرب و لغتهم،و المادة التي يتألف منها كلامهم؟
هذا ما يطوف في أذهان كثير من الناس،و لكن يقرر أن القرآن معجز...إنّه معجزة خالدة،مع كل ما ذكر،فإن العرب قد عجزوا عن الإتيان و لو بأقصر سورة من مثله.
و لهذا الذي ذكر،فإن العلماء قديما و حديثا انكبّوا على دراسة القرآن،و الكشف عن أسراره و وجوه الإعجاز فيه،فاتجهت أبحاثهم و دراساتهم الغزيرة لكي يقفوا على السر الذي به كان القرآن معجزة كبرى،و تبوّأ مكانة سامية و عظيمة تنزوي لديه الرقاب، و تقصر عن مطاولته النفوس و الطمع للوصول إلى عشر معشاره همم جهابذة الناس،مع أنه كلام من جنس كلامهم...
و راح العلماء يكتبون في وجوه إعجاز القرآن،فمن الذين أفاضوا الحديث عن إعجاز القرآن الإمام«الباقلاني»في كتابه«إعجاز القرآن» (1)،و الإمام البلاغيّ الكبير «عبد القاهر الجرجاني»في كتابه«دلائل الإعجاز» (2)،و كذلك القاضي«عياض»في كتابه القيّم«الشفا بتعريف حقوق المصطفى» (3)فقد تحدث عن وجوه إعجاز القرآن، و الإمام«القرطبي»و غيرهم...و من المعاصرين الذين تحدثوا عن وجوه إعجاز القرآن،حجة الأدب في العصر الحديث«مصطفى صادق الرافعي»،في كتابه«إعجاز القرآن» (4)،و قد أفرد الشهيد«سيد قطب»كتابا كاملا تحدث فيه عن وجه واحد من وجوه إعجاز القرآن هو«التصوير الفني في القرآن الكريم» (5)،و غير هؤلاء كثير ممن جنّدوا أقلامهم،و أسهروا ليلهم ليقعوا على أسرار وجوه الإعجاز في كتاب اللّه تعالى.7.
ص: 93
و سيقتصر الحديث على رأي اثنين من العلماء في وجوه الإعجاز،ثم يبين الراجح من مذاهبهم مع تعقيب و نقد و مناقشة لكل مذهب على حدة،ثم أقرر و أعدد تعدادا ما قد ألهمني اللّه إياه في تحديد أوجه إعجاز القرآن الكريم.
أولا-وجوه إعجاز القرآن كما حددها الإمام الباقلاني (1):
ذهب الإمام الباقلاني في تحديده لأوجه إعجاز القرآن إلى ثلاثة أوجه و هي:
(أ-يتضمن الإخبار عن الغيوب،و ذلك مما لا يقدر عليه البشر،و لا سبيل إليه،ثم أنه قد أدرج تحت هذا البند نوعين من إعجاز القرآن و هما:غيب المستقبل،و الوفاء بالوعد،و ساق طائفة من الأمثلة التي تدل على ما ذهب إليه.
ب-ذكر في هذا الوجه الثاني،ما يدل على أن القرآن أخبر عن غيوب ماضية،علما أن الرسول صلى اللّه عليه و سلم كان أميا لا يكتب و لا يحسن أن يقرأ.
ج-في الوجه الثالث تحدث عن القرآن من حيث أنه بديع النظم،عجيب التأليف، متناه في البلاغة إلى الحد الذي يعلم عجز الخلق عنه،ثم إنه قد فصّل الوجه الثالث في عشرة نقاط نذكرها هنا كما أوردها هو رحمه اللّه تعالى.
يقول:منها ما يرجع إلى الجملة و ذلك أن نظم القرآن على تصرف وجوهه و تباين مذاهبه خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم،و مباين للمألوف من ترتيب خطابهم،و له أسلوب يختص به و يتميز في تصرفه عن أساليب الكلام المعتاد،و ذلك أن الطرق التي يتقيد بها الكلام البديع المنظوم تنقسم إلى أعاريض الشعر على اختلاف أنواعه،ثم إلى أنواع الكلام الموزون غير المقفّى،ثم إلى أصناف الكلام المعدل المسجع،ثم إلى معدل موزون غير مسجع،ثم إلى ما يرسل إرسالا فتطلب فيه الإصابة و الإفادة و إفهام المعاني المعترضة على وجه بديع و ترتيب لطيف،و إن لم يكن معتدلا في وزنه و ذلك شبيه بجملة الكلام الذي لا يتعمل فيه،و لا يتصنع له،و قد علمنا أن القرآن خارج عن هذه الوجوه،و مباين لهذه الطرق،و يبقى علينا أن نبين أنه ليس من
ص: 94
باب مسجع،و لا فيه شيء منه و كذلك ليس من قبيل الشعر،لأن من الناس من زعم أنه كلام السجع،و منهم من يدعى فيه شعرا كثيرا و الكلام عليهم يذكر بعد هذا الموضع، فهذا إذا تأمله المتأمل تبين بخروجه عن أصناف كلامهم و أساليب خطابهم،أنه خارج عن العادة،و أنه معجز و هذه خصوصية ترجع إلى جملة القرآن،و تميز حاصل في جميعه.
و منها:أنه ليس للعرب كلام مشتمل على هذه الفصاحة و الغرابة و التصرف البديع، و المعاني اللطيفة و الفوائد الغزيرة،و الحكم الكثير،و التناسب في البلاغة،و التشابه في البراعة على هذا الطول و على هذا القدر،و إنما تنسب إلى حكيمهم كلمات معدودة، و ألفاظ قليلة،و إلى شاعرهم قصائد محصورة يقع فيها ما نبينه بعد هذا من الاختلال، و يعترضها ما نكشفه من الاختلاف،و يشملها ما نبديه من التعمل و التكلف و التجوز و التعسف،و قد حصل القرآن على كثرته و طوله متناسبا في الفصاحة على ما وصفه اللّه تعالى به فقال عز من قائل: اَللّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللّهِ ذلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (1)و قوله: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (2)فأخبر سبحانه أن كلام الآدمي إن امتد وقع فيه التفاوت و بان عليه الاختلال،و هذا المعنى هو غير المعنى الأول الذي بدأنا بذكره فتأمله تعرف الفصل.
و في ذلك معنى ثالث و هو:أن عجيب نظمه و بديع تأليفه لا يتفاوت و لا يتباين على ما يتصرف إليه من الوجوه التي يتصرف فيها من ذكر قصص و مواعظ و احتجاج،و حكم و أحكام،و إعذار و إنذار،و وعد و وعيد و تبشير و تخويف،و أوصاف و تعليم أخلاق كريمة،و شيم رفيعة،و سير مأثورة و غير ذلك من الوجوه التي يشتمل عليها،و نجد كلام البليغ الكامل و الشاعر المفلق و الخطيب المصقع يختلف على حسب اختلاف هذه الأمور،فمن الشعراء من يجود في المدح دون الهجو،و منهم من يبرز في الهجو دون المدح،و منهم من يسبق في التقريظ دون التأبين،و منهم من يجود في التأبين دون التقريظ...و متى تأملت شعر الشاعر البليغ،رأيت التفاوت في شعره على حسب2.
ص: 95
الأحوال التي يتصرف فيها،فيأتي بالغاية في البراعة في معنى،فإذا جاء إلى غيره قصر عنه،و وقف دونه،و بان الاختلاف على شعره و قد تأملنا نظم القرآن فوجدنا جميع ما يتصرف فيه من الوجوه التي قدمنا ذكرها على حد واحد في حسن النظم،و بديع التأليف و الرصف،لا تفاوت فيه و لا انحطاط عن المنزلة العليا،و لا إسفاف فيه إلى الرتبة الدنيا،و كذلك قد تأملنا ما يتصرف إليه وجوه الخطاب من الآيات الطويلة و القصيرة، فرأينا الإعجاز في جميعها على حد واحد لا يختلف.
و معنى رابع و هو:أن كلام الفصحاء يتفاوت تفاوتا بيّنا في الفصل و الوصل،و العلو و النزول و التقريب و التبعيد،و غير ذلك مما ينقسم إليه الخطاب عند النظم و يتصرف فيه القول عند الضم و الجمع،أ لا ترى أن كثيرا من الشعراء قد وصف بالنقص عند التنقل من معنى إلى غيره،و الخروج من باب إلى سواه،حتى إن أهل الصنعة قد اتفقوا على تقصير البحتري مع جودة نظمه و حسن وصفه في الخروج من النسيب إلى المديح، و أطبقوا على أنه لا يحسنه و لا يأتي فيه بشيء،و إنما اتفق له في مواضع معدودة خروج يرتضي و تنقل يستحسن،و كذلك يختلف سبيل غيره عند الخروج من شيء إلى شيء و التحول من باب إلى باب،و نحن نفصل بعد هذا،و نفسر هذه الجملة،و نبين أن القرآن على اختلاف فنونه،و ما يتصرف فيه من الوجوه الكثيرة،و الطرق المختلفة يجعل المختلف كالمؤتلف،و المتباين كالمتناسب،و المتنافر في الأفراد إلى حد الآحاد، و هذا أمر عجيب تبين به الفصاحة،و تظهر به البلاغة و يخرج معه الكلام عن حد العادة، و يتجاوز العرف.
و معنى خامس و هو:أن نظم القرآن وقع موقعا في البلاغة يخرج عن عادة كلام الجن،كما يخرج عن عادة كلام الإنس،فهم يعجزون عن الإتيان بمثله كعجزنا، و يقصرون دونه كقصورنا،و قد قال اللّه عز و جلّ: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (1)فإن قيل هذه دعوى منكم و ذلك أنه لا سبيل لنا إلى أن نعلم عجز الجن عن الإتيان بمثله و قد يجوز أن يكونوا قادرين على الإتيان بمثله،و إن كنا عاجزين كما أنهم قد يقدرون على أمور لطيفة و أسباب غامضة دقيقة لا نقدر نحن عليها،و لا سبيل لنا للطفها إليها،و إذا كان كذلك لم يكن إلى علم ما ادعيتم سبيل؟قيل:قد يمكن أن نعرف ذلك بخبر اللّه عز و جلّ،و قد8.
ص: 96
يمكن أن يقال إن هذا الكلام خرج على ما كانت العرب تعتقده من مخاطبة الجن،و ما يروون لهم من الشعر،و يحكون عنهم من الكلام،و قد علمنا أن ذلك محفوظ عندهم، منقول عنهم،و القدر الذي نقلوه من ذلك قد تأملناه،فهو في الفصاحة لا يتجاوز حد فصاحة الإنس،و لعله يقصر عنها،و لا يمتنع أن يسمع كلامهم،و يقع بينهم و بينهم محاورات في عهد الأنبياء صلوات اللّه عليهم،و ذلك الزمان مما لا يمتنع فيه وجود ما ينقض العادات،على أن القوم إلى الآن يعتقدون مخاطبة الغيلان،و لهم أشعار محفوظة مدونة في دواوينهم.
و معنى سادس و هو:أن الذي ينقسم عليه الخطاب من البسط و الاقتصاد،و الجمع و التفريق و الاستعارة و التصريح،و التجوز و التحقيق،و نحو ذلك من الوجوه التي توجد في كلامهم موجودة في القرآن،و كل ذلك مما يتجاوز حدود كلامهم المعتاد بينهم في الفصاحة و الإبداع و البلاغة و قد ضمنا بيان ذلك من بعد لأن الوجه هاهنا ذكر المقدمات دون البسط و التفصيل.
و معنى سابع و هو:أن المعاني التي تضمنها في أصل وضع الشريعة و الأحكام و الاحتجاجات في أصل الدين و الرد على الملحدين على تلك الألفاظ البديعة، و موافقة بعضها بعضا في اللطف و البراعة مما يتعذر على البشر و يمتنع و ذلك أنه قد علم أن تخير الألفاظ للمعاني المتداولة المألوفة،و الأسباب الدائرة بين الناس أسهل و أقرب من تخير الألفاظ لمعان مبتكرة،و أسباب مؤسسة مستحدثة،فإذا برع اللفظ في المعنى البارع كان ألطف و أعجب من أن يوجد اللفظ البارع في المعنى المتداول المتكرر و الأمر المتقرر المتصور،ثم انضاف إلى ذلك التصرف البديع في الوجوه التي تتضمن تأييد ما يبتدأ تأسيسه و يراد تحقيقه بأن التفاضل في البراعة و الفصاحة،ثم إذا وجدت الألفاظ وفق المعنى و المعاني وفقها لا يفضل أحدهما على الآخر فالبراعة أظهر و الفصاحة أتم.
و معنى ثامن و هو:أن الكلام يتبين فضله و رجحان فصاحته بأن تذكر منه الكلمة في تضاعيف كلام أو تقذف ما بين شعر فتأخذها الأسماع،و تتشوف إليها النفوس،و يرى وجه رونقها باديا غامرا سائر ما تقرن به،كالدرة التي ترى في سلك من خرز، و كالياقوتة في واسطة العقد،و أنت ترى الكلمة من القرآن يتمثل بها في تضاعيف كلام كثير،و هي غرة جميعه،و واسطة عقده،و المنادي على نفسه بتميزه،و تخصصه برونقه و جماله...
ص: 97
و معنى تاسع و هو:أن الحروف التي بنى عليها كلام العرب تسعة و عشرون حرفا، و عدد السور التي افتتح فيها بذكر الحروف ثمان و عشرون سورة،و جملة ما ذكر من هذه الحروف في أوائل السور من حروف المعجم نصف الجملة و هو أربعة عشر حرفا،ليدل بالمذكور على غيره،و ليعرفوا أن هذا الكلام منتظم من الحروف التي ينظمون بها كلامهم،و الذي تنقسم إليه هذه الحروف على ما قسمة أهل العربية،و بنوا عليها وجوهها.
و معنى عاشر و هو:أنه سهل سبيله،فهو خارج عن الوحشي المستكره،و الغريب المستنكر،و عن الصنعة المتكلفة،و جعله قريبا إلى الإفهام،يبادر معناه لفظه إلى القلب،و يسابق المغزى منه عبارته إلى النفس،و هو مع ذلك ممتنع المطلب،عسير المتناول،غير مطمع مع قربه في نفسه،و لا موهم مع دنوه في موقعه أن يقدر عليه أو يظفر به،فأما الانحطاط عن هذه الرتبة إلى رتبة الكلام المبتذل و القول المسفسف، فليس يصح أن تقع فيه فصاحة أو بلاغة،فيطلب فيه الممتنع،أو يوضع فيه الإعجاز و لكن لو وضع في وحشي مستكره،أو غمر بوجوه الصنعة،و أطبق بأبواب التعسف و التكلف لكان لقائل أن يقول فيه،و يعتذر أو يعيب و يقرع و لكنه أوضح مناره،و قرب منهاجه،و سهل سبيله و جعله في ذلك متشابها متماثلا...) (1).
نلحظ في تقسيم الإمام الباقلاني أنه جمع و ألمّ بما قيل في وجوه الإعجاز حتى زمانه،و تناول أفكارا ذكرت قبله بالنقد و الرد،و لعلّ الجديد الذي جاء به الباقلاني هو التفريع و التفصيل الذي ذكره هنا،كذلك المناقشة الموضوعية الدقيقة لآراء عرضها ثم بيّن بطلانها،و يتضح هذا لو تأمّلنا في الموازنة التي أقامها بين الشعر و السجع و القرآن، ثم نفى الشعر و السجع عن القرآن،و كذلك المقارنة بين ما ينسبه العرب إلى الجن من أقوال و بين القرآن...
ثم إننا نأخذ عليه أنه أسهب و بكثرة في الحديث عن الجانب البياني و فروعه و شعبه، في حين أنه أغفل عددا من وجوه القرآن لم يذكر منها إلا الغيبي،و الحق أن كتابه «إعجاز القرآن»يعتبر أول كتاب مستقلّ تحدث عن إعجاز القرآن،و هو من خيرة الكتب،بل من أهم الكتب التي يرجع إليها الدارسون لقضية الإعجاز حتى عصرنا هذا.2.
ص: 98
ثانيا-القاضي عياض و وجوه إعجاز القرآن (1):
أورد القاضي عياض رحمه اللّه في كتابه«الشفا في التعريف بحقوق المصطفى»أوجه الإعجاز في أربعة ثم أتبع بها وجهين حكم عليهما بالضعف،ثم ساق عدة أوجه و لم يعتد بها.
الوجه الأول:(حسن تأليفه،و التئام كلمه،و فصاحته،و وجوه إيجازه،و بلاغته الخارقة لعادة العرب و ذلك أنهم كانوا أرباب هذا الشأن،و فرسان الكلام،فقد خصوا من البلاغة و الحكم بما لم يخص غيرهم من الأمم،و أوتوا من دراية اللسان ما لم يؤت إنسان،و من فصل الخطاب،ما يقيد الألباب،جعل اللّه ذلك لهم طبعا و خلقة و فيهم غريزة و قوة...فما راعهم إلا رسول كريم بكتاب عزيز،أحكمت آياته و فصلت كلماته،و بهرت بلاغته العقول،و ظهرت فصاحته على كل مقول و تظافر إيجازه و إعجازه...) (2).
الوجه الثاني:(صورة نظمه العجيب،و الأسلوب الغريب المخالف لأساليب كلام العرب و مناهج نظمها و نثرها الذي جاء عليه،و وقفت مقاطع آية،و انتهت فواصل كلماته إليه،و لم يوجد قبله و لا بعده نظير له،و لا استطاع أحد مماثلة شيء منه،بل حارت فيه عقولهم،و تدلهت دونه أحلامهم،و لم يهتدوا إلى مثله في جنس كلامهم من نثر أو نظم،أو سجع أو رجز أو شعر) (3).
الوجه الثالث:(ما انطوى عليه من الأخبار بالمغيبات،و ما لم يكن و لم يقع،فوجد كما ورد،و على الوجه الذي أخبر به) (4).
الوجه الرابع:(ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة،و الأمم البائدة،و الشرائع الدائرة،مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذ من أحبار أهل الكتاب الذي قطع
ص: 99
عمره في تعلم ذلك،فيورده النبي صلى اللّه عليه و سلم على وجهه و يأتي به على نصه،فيعترف العالم بذلك بصحته و صدقه،و أن مثله لم ينله بتعليم) (1).
أما الوجهان اللذان ألحقهما بالأوجه الأربعة فهما:
(1-الروعة التي تلحق قلوب سامعيه و أسماعهم عند سماعه،و الهيبة التي تعتريهم عند تلاوته لقوة حاله و أناقة خطره،و هي على المكذبين به أعظم،حتى كانوا يستثقلون سماعه و تزيدهم نفورا) (2).
(2-كونه آية باقية،لا تعدم ما بقيت الدنيا،مع تكفل اللّه بحفظه) (3).
أما الأوجه التي ساقها رحمه اللّه و لم يعتد بها،فهي كما يذكرها هو:
(أن قارئه لا يمله،و سامعه لا يمجه،بل الإكباب على تلاوته يزيده حلاوة،و ترديده يوجب له محبة لا يزال غضا طريا...
و جمعه لعلوم و معارف لم تعهد العرب عامة،و لا محمد صلى اللّه عليه و سلم قبل نبوته خاصة، لمعرفتها،و لا القيام بها و لا يحيط بها أحد من علماء الأمم،و لا يشتمل عليها كتاب من كتبهم،فجمع فيه من بيان علم الشرائع و التنبيه على طرق الحجج العقليات،و الرد على فرق الأمم،ببراهين قوية،و أدلة بينة سهلة الألفاظ موجزة المقاصد...
و جمعه فيه بين الدليل و مدلوله،و ذلك أنه احتج بنظم القرآن و حسن رصفه،و إيجازه و بلاغته و أثناء هذه البلاغة أمره و نهيه،و وعده و وعيده،فالتالي له يفهم موضوع الحجة و التكليف معا من كلام واحد،و سورة منفردة.
و جعله في حيز المنظوم الذي لم يعهد،و لم يكن في حيز المنثور،لأن المنظوم أسهل على النفوس و أوعى للقلوب،و أسمع في الآذان،و أحلى على الأفهام،فالناس إليه أميل،و الأهواء إليه أسرع.
و منها تيسيره تعالى حفظه لمتعلميه،و تقريبه على متحفظيه،قال اللّه تعالى: وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (4)و سائر الأمم لا يحفظ كتبها الواحد منهم،فكيف الجمّاء على مرور السنين عليهم.
ص: 100
و مشاكلة بعض أجزائه بعضا،و حسن ائتلاف أنواعها،و التئام أقسامها،و حسن التخلص من قصة إلى أخرى،و الخروج من باب إلى غيره على اختلاف معانيه، و انقسام السورة الواحدة إلى أمر و نهي و خبر و استخبار،و وعد و وعيد،و إثبات و نبوة، و توحيد و تفريد،و ترغيب و ترهيب،إلى غير ذلك من فوائده دون خلل يتخلل فصوله) (1).
ثم يذيّل القاضي عياض عرضه لهذه الأوجه بخاتمة ينبه فيها إلى أن كل ما سرده هنا إنما هو من خواص القرآن و فضائله،و القول الفصل هو ما حصره في الأوجه الأربعة التي سبق و أن قررها،يقول في ذلك:(و هذا كله و كثير مما ذكرنا،أنه ذكر في إعجاز القرآن،إلى وجوه كثيرة ذكرها الأئمة لم نذكرها إذ أكثرها داخل في باب بلاغته،فلا يجب أن يعد فنّا منفردا في إعجازه،إلا في باب تفصيل فنون البلاغة و كذلك كثيرا مما قدمنا ذكره عنهم يعد في خواصه و فضائله،لا إعجازه) (2).
يتّضح لنا من خلال عرض رأي القاضي عياض رحمه اللّه في أوجه إعجاز القرآن أنه لم يأت بجديد و إنما أجمل ما ذكره الإمام الباقلاني في كتابه«إعجاز القرآن»مع إضافات يسيرة جاء بها كقوله:جمع القرآن علوما و معارف لم يجمعها كتاب قبله على إيجازه و غيرها...
ثم إننا نجد الوجه الثاني«نظم القرآن العجيب»هو الذي دار حوله أكثر العلماء الذين تناولوا قضية إعجاز القرآن،و ما انطوى عليه من أسرار،لأن نظم القرآن كان متفردا و بديعا،بحيث لم يقع العرب على مثله من قبله أبدا،بخلاف الوجه الأول الذي كان محطة نقاش و خلاف بين العلماء،هل يعتبرونه وجها من أوجه إعجاز القرآن،أم أنه دليل من دلائل الإعجاز؟.
و مما يلاحظ على القاضي عياض أنه قد حصر أوجه إعجاز القرآن في الأربعة المذكورة،و ألحقها بوجوه قالها الأئمة من قبله و لم يعتبرها هو أوجها إنما اعتبرها من خواص القرآن،من هذه الملحقات التي لا نوافقه على أنها ملحقة إلحاقا،و ليس وجها من أوجه الإعجاز قوله:و منها،أي من وجوه الإعجاز الروعة التي تلحق قلوب سامعيه و أسماعهم عند سماعه،و الهيبة التي تعتريهم عند تلاوته،لقوة حاله...و الحق أن هذا1.
ص: 101
الوجه يعتبر من أهم و أدق أوجه إعجاز القرآن،لأن الروعة التي تلحق قلوب سامعيه و الهيبة التي تعتريهم عند تلاوته،هي أساس الإعجاز التي قامت و ستبقى قائمة في القرآن إلى يوم الدين.
و لقد أورد المصنفون في علوم القرآن أقوالا لعلماء هذه الأمة في إعجاز القرآن،لا مجال لسردها و إنما نكتفي بما قد أورده و نقله السيوطي في الإتقان عن علماء الأمة يقول:(...اختلف أهل العلم في وجه إعجاز القرآن فذكروا في ذلك وجوها كثيرة كلها حكمة و صواب،و ما بلغوا في وجوه إعجازه جزءا واحدا من عشر معشاره،فقال قوم:هو الإيجاز مع البلاغة،و قال آخرون:هو البيان و الفصاحة،و قال آخرون:هو الرصف و النظم،و قال آخرون:هو كونه خارجا عن جنس كلام العرب من النظم و النثر و الخطب و الشعر،مع كون حروفه في كلامهم،و معانيه في خطابهم،و ألفاظه من جنس كلماتهم،و هو بذاته قبيل غير قبيل كلامهم،و جنس آخر متميز عن أجناس خطابهم، حتى إن من اقتصر على معانيه و غيّر حروفه أذهب رونقه،و من اقتصر على حروفه و غيّر معانيه أبطل فائدته،فكان في ذلك أبلغ دلالة على إعجازه،و قال آخرون:هو كون قارئه لا يكل،و سامعه لا يمل،و إن تكررت عليه تلاوته و قال آخرون:هو ما فيه من الإخبار عن الأمور الماضية،و قال آخرون هو ما فيه من علم الغيب و الحكم على الأمور بالقطع،و قال آخرون هو كونه جامعا لعلوم يطول شرحها و يشقّ حصرها) (1).
يتبيّن من خلال ما عرض من أقوال العلماء في أوجه إعجاز القرآن،أن سبب اختلافهم في تحديد أوجه الإعجاز،هو عدم وجود ضابط أو تعريف لمعنى الوجه في القرآن،و مرد ذلك إلى أن القرآن حمّال لأوجه كثيرة،و أن هذه الأوجه منها ما هو ظاهر للعيان في كل عصر من العصور كأسلوب البيان في القرآن،و منها ما قد يكتشفه و يقع عليه الناس مع مرور الزمن،و تعاقب الأجيال كالإعجاز العلمي في القرآن الكريم،ثم إن التباين في صفاء النفس،و ارتقائها في مدارج الكمال،و من ثم تفاعلها مع كلام اللّه و العيش في ظلال القرآن،و الكشف عن وجوهه و أسراره،يعتبر من أهم الدوافع التي تجعل صاحبها يحظى بالتعرف على وجوه جديدة في كتاب اللّه.
ص: 102
و سأحاول بعون اللّه أن أصوغ تعريفا لمعنى الوجه القرآني المعجز،و ذلك من مجموع ما قرأت و أجلت النظر في كتب علماء البلاغة و البيان و التفسير و علوم القرآن، و من خلال ما قد استقرّ في ذهني من تصور للأبعاد و المسالك التي سلكها علماء المسلمين،و هم يحاولون تقرير وجوه القرآن و كذلك من خلال المرتكزات و القواعد التي نهضوا عليها و هم يشيّدون صرح هذه الوجوه الشامخة بأدلة و براهين تثبت ما ذهبوا إليه من جهة،و تدحض شبهات المعاندين من جهة أخرى.
فالوجه القرآني المعجز هو:كل صفة في أسلوب القرآن أو لفظه أو معناه قد ندت عن قدرة البشر،فعجزوا عن الإتيان بمثلها.
و الذي أعنيه بهذا التعريف،أن الصفة القرآنية الواحدة قد ينضوي تحت إطارها مجموعة من إعجازات القرآن التي أعلن البشر عجزهم عن مجاراتها،و هذه المجموعة يربطها رابط واحد مشترك يجعلها تندرج تحت هذه الصفة العامة،ليصدق عليها اسم وجه القرآن المعجز...
و لكي أوضح ما أردته من هذا التعريف أضرب مثالا على ذلك:الأخبار الغيبية التي وردت في القرآن الكريم،سواء ما كان منها ماضيا أو مستقبليا،فإن هذه الأخبار كلها يربطها رابط واحد ألا و هو«الغيب»و بناء على ذلك فإنها تكون وجها واحدا،لا وجهين كما قسمهما كثير من العلماء القدامى و المعاصرين،فجعلوا الغيب الماضي وجها،و الغيب المستقبلي وجها آخر،و الحق أن الغيب بمجمله يعتبر وجها واحدا، لأنه يشترك في وحدة الموضوع،و ذات المقصود،و مجموع ما أخبر عنه القرآن من أخبار غيبية،في الماضي و الحاضر و المستقبل نعتبرها وجها واحدا،لأنها تندرج كلها تحت صفة واحدة ألا و هي«الإخبار بالمغيبات»و لم أجد فيما وقفت عليه من مصادر و مراجع للعلماء القدامى الذين أفاضوا الحديث عن إعجاز القرآن و وجوهه و لو تعريفا واحدا لمعنى الوجه،إذ بالتعريف يتسنّى لنا أن نحدد الضوابط و القيود للقضية المطروحة...
و بناء على هذا فإننا نستطيع الآن أن نثبت وجوه إعجاز القرآن كحد وسط بين الذين أكثروا و أسهبوا في ذكر الوجه،حتى خرجوا عن معنى الوجه القرآني إلى غيره،و بين الذين أقلوا في ذكر الوجوه حتى أغفلوا أهمها و أبرزها...و هي كما يلي:
ص: 103
1)الأسلوب البياني في القرآن.
2)الإخبار عن الغيب في القرآن.
3)الإعجاز التشريعي الشامل في القرآن.
4)الإعجاز العلمي في القرآن.
5)التأثير النفسي في القرآن.
و هذه أدق وجوه إعجاز القرآن،و هي تعتبر حدا وسطا بين الفريقين،و قبل ذلك فإنها تقوم على مرتكزات و ضوابط التعريف الذي أثبتناه آنفا،و قد مر معنا في ثنايا البحث و غضونه شرحا واضحا و أمثلة كثيرة لكل وجه من هذه الوجوه...علاوة على المؤلفات الكثيرة التي أفردها العلماء لهذه الأوجه ما عدا الوجه العلمي الذي سنسهب الحديث عنه في التطبيقات المعاصرة من هذه الرسالة إن شاء اللّه تعالى،و لكن هل هو محل اتفاق أي الإعجاز العلمي في القرآن بين العلماء؟و من من العلماء قد أقره و ما هي أدلته؟و من من العلماء رده،و ما هي أدلته؟و ما هو الرأي الراجح في هذه المسألة؟هذا ما سيدرس في الفصل القادم بعون اللّه تبارك و تعالى.
ص: 104
تمهيد.
المبحث الأول:أبرز المؤيدين من العلماء القدامى لإعجاز القرآن الكريم.
المبحث الثاني:أبرز المؤيدين من العلماء المعاصرين لإعجاز القرآن الكريم.
المبحث الثالث:أبرز المعارضين من العلماء القدامى و المعاصرين لإعجاز القرآن الكريم.
المبحث الرابع:أدلة الفريقين مع الترجيح في مسألة إعجاز القرآن الكريم.
ص: 105
ص: 106
القرآن الكريم كتاب هداية و نور،أنزله اللّه سبحانه و تعالى ليخرج الناس من الظلمات إلى النور،و من الجهل إلى العلم،و من الفرقة و الشقاق إلى الوحدة و الإخاء،قال تعالى: الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1).و هذه الهداية القرآنية عامة و شاملة لكل مناحي الحياة و الكون و الإنسان،ذلك أن اللّه أودع في القرآن من الركائز الإيمانية و الثوابت اليقينية ما يحقق اتزان الإنسان،و استقرار نفسيته و سعادتها و أودع فيه من الشرائع و التوجيهات ما يكفل صلاح المجتمع الإنساني و انضباطه،و سريان أسباب المودة و الرحمة فيه،و أودع فيه من الأخلاقيات و الآداب العامة ما يكفل استمرار الترابط البشري في أعلى أصعدة الإخاء و المحبة و الوئام،كما أنه أودع فيه من المعارف و الحقائق الكونية العلمية التي أخذت شوطا كبيرا فيه ما يكفل خلق جوّ نزيه خلال سعي الإنسان لاكتشاف أسرار الكون و البحث عن غوامضه و خفاياه،لتذليلها و تسخيرها له.
إذن،هداية القرآن متعددة الأبعاد،كثيرة الجوانب،و ما ينبغي أن تقصر على جانب دون آخر إلا أن الجانب الأخير الذي ذكر و هو الحقائق العلمية في القرآن،كان ميدانا للأخذ و الرد بين العلماء عبر مرور الأزمان و كرّ الأيام،فقد طرح التساؤل التالي:هل النصوص القرآنية قد اشتملت على العلوم و المعارف كلها،أي على علوم الطبيعة، و الفلك،و علم طبقات الأرض(الجيولوجيا)و علوم الحياة(البيولوجيا)و علم الطب و التشريح،و علم الوظائف(الفسيولوجيا)،و الرياضيات...أم أن القرآن كتاب هداية و نور،جاء ليعزز الإيمان في النفوس،و ليربط الخلق بالخالق و شرعه،و لا علاقة له بهذه المعارف؟.
ص: 107
اختلف العلماء إزاء هذه القضية قديما و حديثا إلى طائفتين،الأولى:ترى أن العلوم و المعارف قد أخذت مساحة كبيرة من القرآن،و خاصة عند ما يلفت القرآن نظرنا للحديث عن السماء و الأرض و الجبال و البحار و الأنهار و الإنسان و النجوم و الطيور...و على هذا فإن هناك تطابقا بين الثوابت العلمية التي وصل إليها علماء العصر،و بين الآيات القرآنية،غير أن بعضهم بالغ حتى جعل من القرآن الكريم موسوعة علمية تشتمل حتى على المخترعات و المكتشفات بأنواعها.
و الثانية:ترى أن القرآن الكريم كتاب هداية و نور،و ما المعارف العلمية إلا نتيجة من نتاج العقل البشري،و لا صلة لها بالقرآن.
و سوف تعرض بعون اللّه تعالى أبرز هذه الآراء من العلماء القدامى و المعاصرين، سواء من ذهب إلى صحة التفسير العلمي للقرآن الكريم،أو من عارض تفسير القرآن على أساس العلم،و بعد استعراض آراء كل طائفة،ستساق أدلة كل منها على حدة،ثم يعقد مبحث ختامي لهذا الفصل يثبت فيه الرأي الذي نميل و نطمئن إليه،مع بعض المناقشة و الاستدراكات.
ص: 108
أبرز من تبنّى فكرة التفسير العلمي للقرآن أبو حامد الغزالي،و فخر الدين الرازي، و الزركشي و السيوطي،و سنستعرض آراء كل من هؤلاء الأئمة في هذه القضية على حدة.
أولا-الإمام أبو حامد الغزالي (1):
(الكاتبون في هذا الموضوع يذهبون إلى أن الإمام أبا حامد الغزالي المتوفّى سنة 505 ه كان إلى عهده أكثر من استوفى هذا القول و أيده،و عمل على ترويجه في الأوساط العلمية الإسلامية مما يدل على أن هذه الفكرة كانت موجودة قبل الغزالي منذ أن ترجمت العلوم المختلفة إلى اللغة العربية و دونت العلوم المختلفة،بل إننا نستطيع أن نقول:إن بذورها كانت موجودة في عصر صحابة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقد استدل هؤلاء العلماء بقول عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه:من أراد علم الأولين و الآخرين فليتدبر القرآن، و لكنها كانت في بدايتها) (2).
ص: 109
إلا أن الإمام الغزالي يعتبر أول من أثار هذا الموضوع،و طرحه في الأوساط، و لذلك نجده قد عقد في كتابه الشهير«إحياء علوم الدين»بابا في آداب تلاوة القرآن و عنونه«في فهم القرآن و تفسيره بالرأي من غير نقل»و الذي قال فيه:(الأخبار و الآثار تدل على أن في معاني القرآن متسعا لأرباب الفهم،قال علي رضي اللّه عنه:إلا أن يؤتي اللّه عبدا فهما في القرآن،فإن لم يكن سوى الترجمة المنقولة فما ذلك الفهم؟و قال:إن للقرآن ظهرا و بطنا و حدّا و مطلعا،ثم يسوق أثرا عن ابن مسعود فيقول:و قال ابن مسعود رضي اللّه عنه:من أراد علم الأوّلين و الآخرين فليتدبر القرآن و ذلك لا يحصل بمجرد تفسير الظاهر،ثم يقول:و بالجملة،فالعلوم كلها داخلة في أفعال اللّه عز و جلّ و صفاته و في القرآن شرح ذاته و أفعاله و صفاته،و هذه العلوم لا نهاية لها،و في القرآن إشارة إلى مجامعها و المقامات في التعمق في تفصيله راجع إلى فهم القرآن،و مجرد ظاهر التفسير لا يشير إلى ذلك،بل كل ما أشكل فيه على النظار و اختلف فيه الخلائق في النظريات و المعقولات،ففي القرآن إليه رموز و دلالات عليه يختص أهل الفهم بدركها،فكيف يفي بذلك ترجمة ظاهره و تفسيره؟) (1).
و في كتابه«جواهر القرآن»و الذي ألفه بعد الإحياء نرى الإمام الغزالي عاد إلى نفس الموضوع ليتوسع فيه،و قد ذكر في الفصل الأول أن القرآن هو البحر المحيط و ينطوي على أصناف الجواهر و النفائس يقول:(أ و ما بلغك أن القرآن هو البحر المحيط،و منه يتشعب علم الأولين و الآخرين كما يتشعب عن سواحل البحر المحيط أنهارها و جداولها؟) (2).
و في الفصل الرابع من نفس الكتاب و الذي عنونه بكيفية انشعاب العلوم الدينية كلها عن الأقسام العشرة المذكورة،نجده قد قسّم علوم القرآن إلى قسمين:
(القسم الأول:علم الصّدف،و اعتبر الصدف أول ما يظهر،ثم يقف بعض الواصلين إلى الصدف على الصدف،و بعضهم يفتق الصدف و يطالع الدرّ،فكذلك صدف جواهر القرآن...و قد جعل منه علوم اللغة و النحو و القراءات،و علم مخارج3.
ص: 110
الحروف،و علم التفسير الظاهر،ثم رتّبها على أساس القريب و البعيد من القشر و اللب.
القسم الثاني:علم اللباب،و هو يتضمّن معرفة قصص القرآن،و ما يتعلق بالأنبياء، و ما يتعلق بالجاحدين و الأعداء،و علم الكلام،و علم الفقه و أصوله،و العلم بالله و اليوم الآخر،و العلم بالصراط المستقيم...) (1).
ثم يعنون الفصل الخامس انشعاب سائر العلوم من القرآن فيقول:(و لعلك تقول إن العلوم وراء هذه كثيرة،كعلم الطب،و النجوم،و هيئة العالم،و هيئة بدن الحيوان، و تشريح أعضائه،و علم السحر و الطلسمات و غير ذلك،فاعلم أنا إنما أشرنا إلى العلوم الدينية التي لا بد من وجود أصلها في العالم حتى يتيسّر سلوك طريق اللّه تعالى و السفر إليه...ثم هذه العلوم ما عددناها و ما لم نعدها ليست أوائلها خارجة عن القرآن فإن جميعها مغترفة من بحر واحد من بحار معرفة اللّه تعالى،و هو بحر الأفعال و قد ذكرنا أنه بحر لا ساحل له،و أن البحر لو كان مدادا لكلماته لنفد البحر قبل أن تنفد،فمن أفعال اللّه تعالى،و هو بحر الأفعال مثلا الشفاء و المرض،كما قال اللّه تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السّلام: وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (2)،و هذا الفعل الواحد لا يعرفه إلا من عرف الطب بكماله إذ لا معنى للطب إلا معرفة المرض بكماله و علاماته،و معرفة الشفاء و أسبابه،و من أفعاله تبارك و تعالى تقدير معرفة الشمس و القمر و منازلهما بحسبان،و قد قال اللّه تعالى: اَلشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (3)و قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً وَ قَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ ما خَلَقَ اللّهُ ذلِكَ إِلاّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ... (4)و لا يعرف حقيقة سير الشمس و القمر بحسبان و خسوفهما،و ولوج الليل في النهار،و كيفية تكور أحدهما على الآخر،إلا من عرف هيئات تركيب السموات و الأرض،و هو علم برأسه،و لا يعرف كمال معنى قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ(6) اَلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوّاكَ فَعَدَلَكَ(7) فِي أَيِّ صُورَةٍ5.
ص: 111
ما شاءَ رَكَّبَكَ (1) لا من عرف تشريح الأعضاء من الإنسان ظاهرا و باطنا،و عددها و أنواعها و حكمتها و منافعها،و قد أشار في القرآن في مواضع إليها،و هي من علوم الأولين و الآخرين،و في القرآن مجامع علم الأولين و الآخرين و كذلك لا يعرف كمال معنى قوله تعالى: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (2)،من لم يعلم التسوية و النفخ و الروح و وراءها علوم غامضة يغفل عن طلبها أكثر الخلق،و ربما لا يفهمونها أن سمعوها من العالم بها،و لو ذهبت أفصل ما تدل عليه آيات القرآن من تفاصيل الأفعال لطال،و لا تمكن الإشارة إلا إلى مجامعها،و قد أشرنا إليه حيث ذكرنا أن من جملة معرفة اللّه تعالى معرفة أفعاله فتلك الجملة تشتمل على هذه التفاصيل، و كذلك كل قسم أجملناه،لو شعب لا نشعب إلى تفاصيل كثيرة،فتفكّر في القرآن، و التمس غرائبه،لتصادف فيه مجامع علم الأولين و الآخرين،و جملة أوائله و إنما التفكّر فيه للتوصل من جملته إلى تفصيله،و هو البحر الذي لا شاطئ له) (3).
و يلاحظ أن هذا المنهج الذي سلكه و رسم أطره الإمام الغزالي،إنما هو منهج دقيق و صحيح،ذلك أن من يريد أن يفسر القرآن على أساس العلوم الكونية يجب أن يكون جامعا لأصول العلوم الشرعية و اللغة العربية على اختلاف مناحيها،بجانب إلمامه بالعلوم الطبيعية و الكونية و التطبيقية...فمن جمع بين هذه العلوم يستطيع أن يوضح إشراقات الهداية الربانية في القرآن الكريم،و بذلك يكون قد أدخل أداة أخرى لعلوم الكونية إلى دائرة الأدوات العلمية،و التي تتمثّل بالعلوم الشرعية أصولا و فروعا و علوم اللغة العربية و فروعها،و علوم الآلة،لفهم مقاصد النصوص القرآنية.
ثانيا-فخر الدين الرازي (4):
ثم جاء بعد الغزالي الإمام الرازي،ليقيم موازنة و مقارنة بين ما انتشر في وسطه من
ص: 112
علوم و معارف و ثقافة،سواء كانت وافدة و مترجمة عن الأمم الأخرى أو من تأليف المسلمين،و بيّن النصوص القرآنية،و المحور الذي يدور حوله الإمام الرازي من وراء تفسيره للقرآن على أساس العلم إنما هو ترسيخ فكرة التوحيد،و تقوية دعائم الكمال النفسي و الإيمان بالله تعالى،فكان تفسيره«مفاتيح الغيب»فيّاضا بالاستطرادات العلمية الكونية.
و ها هو ذا الإمام الرازي يرد على من اعترض عليه بسبب إكثاره من القضايا الكونية و العلمية في تفسيره فيقول:(و ربما جاء بعض الجهال و الحمقى و قال:إنك أكثرت في تفسير كتاب اللّه من علم الهيئة و النجوم،و ذلك على خلاف المعتاد؟فيقال لهذا المسكين:إنك لو تأملت في كتاب اللّه حق التأمل لعرفت فساد ما ذكرته،و تقريره من وجوه:الأول:أن اللّه تعالى ملأ كتابه من الاستدلال على العلم و القدرة و الحكمة بأحوال السموات و الأرض،و تعاقب الليل و النهار،و كيفية أحوال الضياء و الظلام، و أحوال الشمس و القمر و النجوم،و ذكر هذه الأمور في أكثر السور و كررها و أعادها مرة بعد أخرى،فلو لم يكن البحث عنها،و التأمل في أحوالها جائزا لما ملأ اللّه كتابه منها،و الثاني:أنه تعالى قال: أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَ زَيَّنّاها وَ ما لَها مِنْ فُرُوجٍ (1)فهو تعالى حثّ على التأمل في أنه كيف بناها و لا معنى لعلم الهيئة إلا التأمل في أنه كيف بناها و كيف خلق كل واحد منها،و الثالث:أنه تعالى قال: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ (2)فبيّن أن عجائب الخلقة و بدائع الفطرة في أجرام السموات أكثر و أعظم و أكمل مما في أبدان الناس،ثم أنه تعالى رغب في التأمل في أبدان الناس بقوله: وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ (3)1.
ص: 113
فما كان أعلى شأنا و أعظم برهانا منها أولى بأن يجب التأمل في أحوالها و معرفة ما أودع اللّه فيها من العجائب و الغرائب،و الرابع:أنه تعالى مدح المتفكرين في خلق السموات و الأرض فقال: وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً (1)و لو كان ذلك ممنوعا منه لما فعل) (2).
و الحق أن الإمام الرازي قد توسع في ذكر القضايا العلمية في تفسيره،حتى يخرجك في بعض الأحيان عن مقاصد النص القرآني الذي يبحثه بسبب إسهابه في ذكر المسائل الكونية و العلمية،و مع غزارة علم هذا الإمام،و الثروة العلمية الهائلة التي تركها لنا في تفسيره،و التي لا يستغني عنها أي باحث في علوم القرآن و فهم دقائقه و معانيه،فإن عددا ليس بالقليل من المسائل العلمية و الكونية التي أوردها في تفسيره قد أصبحت اليوم بعد الثورة العلمية غير دقيقة،لأنه إنما استقاها مما جدّ من ثقافة علمية في عصره و بيئته التي عاش فيها،و على كل حال فإن الإمام الرازي يعتبر من أول من طبق هذا الاتجاه عمليا،بعد ما أورده الغزالي في«إحيائه»بشكل نظري.
و لسنا بحاجة لإيراد أمثلة من تفسيره تدلنا على التطبيق العملي الذي قام به الرازي من تفسير النصوص القرآنية على أساس العلم،فتفسيره فياض بذلك،و لسوف نستشهد بآرائه و فهمه للنصوص القرآنية في الجانب التطبيقي من هذه الرسالة بعونه تعالى.
ثالثا-الإمام الزركشي (3):
ثم يأتي الإمام الزركشي في كتابه«البرهان في علوم القرآن»ليقرّر إمكانية استخراج كل شيء من القرآن الكريم.
ص: 114
و نراه يستدل على ذلك عند ما عقد فصلا في كتابه المذكور و عنونه في حاجة المفسر إلى الفهم و التبحر في العلوم،و ينقل فيه أقوال بعض الصحابة في ذلك،كما يسوق آراء الإمام الغزالي من كتابه«الإحياء»مدللا بكل ذلك على ما ذهب إليه.
يقول:(كتاب اللّه بحره عميق و فهمه دقيق،لا يصل إلى فهمة إلا من تبحر في العلوم، و عامل اللّه بتقواه في السر و العلانية،و أجله عند مواقف الشبهات،و اللطائف و الحقائق لا يفهمها إلا من ألقى السمع و هو شهيد،فالعبارات للعموم و هي للسمع،و الإشارات للخصوص و هي للعقل،و اللطائف للأولياء و هي المشاهد،و الحقائق للأنبياء و هي الاستسلام،و للكل وصف ظاهر و باطن،و حد و مطلع فالظاهر التلاوة،و الباطن الفهم،و الحد أحكام الحلال و الحرام،و المطلع أي الإشراق من الوعد و الوعيد،فمن فهم هذه الملاحظة بان له بسط الموازنة و ظهر له حال المعاينة...
ثم يقول:و بالجملة فالعلوم كلها داخلة في أفعال اللّه تعالى و صفاته،و في القرآن شرح ذاته و صفاته و أفعاله،فهذه الأمور تدل على أن فهم معاني القرآن مجالا رحبا و متسعا بالغا،و أن المنقول من ظاهر التفسير ليس ينتهي الإدراك فيه بالنقل و السماع، لا بد منه في ظاهر التفسير ليتقي به مواضع الغلط ثم بعد ذلك يتسع الفهم و الاستنباط، و الغرائب التي لا تفهم إلا باستماع فنون كثيرة،و لا بد من الإشارة إلى جمل منها ليستدل بها على أمثالها و يعلم أنه لا يجوز التهاون بحفظ التفسير الظاهر أو لا،و لا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل أحكام الظاهر،و من ادعى فهم أسرار القرآن و لم يحكم التفسير الظاهر فهو كمن ادعى البلوغ إلى صدر البيت قبل تجاوز الباب،فظاهر التفسير يجري مجرى تعلم اللغة التي لا بد منها للفهم،و ما لا بد فيها من استماع كثير...) (1).
و مما يلاحظ على الإمام الزركشي أنه أوغل في تحميل النصوص القرآنية بجزئيات المسائل الحسابية و الفلكية،مما أخرج نصوص القرآن عن مقاصدها الأساسية التي هي هداية البشر،و القرآن ذكر أسس و قواعد العلوم و أشار إليها إشارات،لكنه لم يكن موسوعة علمية تتضمن جزئيات العلوم و فروعه.2.
ص: 115
رابعا-الإمام السيوطي (1):
ثم جاء الإمام جلال الدين السيوطي ليؤكد في كتابيه«الإتقان في علوم القرآن» و«معترك الأقران»ما ذهب إليه من قبله من العلماء،بأن القرآن يحتوي على علم الأولين و الآخرين،و نراه يسوق طائفة من الآيات و الأحاديث و الآثار و أقوال العلماء ليدلل على ما ذهب إليه.
فمن الآيات قوله تعالى: وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (2)و قوله تعالى: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (3).
و من الأحاديث ما روي عن علي رضي اللّه عنه أنه قال:(سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول:«إنها ستكون فتنة»فقلت:ما المخرج منها يا رسول اللّه؟قال:«كتاب اللّه فيه نبأ ما قبلكم، و خبر ما بعدكم و حكم ما بينكم،و هو الفصل ليس بالهزل،من تركه من جبار قصمه اللّه، و من ابتغى الهدي في غيره أضله اللّه،و هو حبل اللّه المتين،و هو الذكر الحكيم،و هو الصراط المستقيم،هو الذي لا تزيغ به الأهواء و لا تلتبس به الألسنة،و لا يشبع منه العلماء،و لا يخلق عن كثرة الرد،و لا تنقضي عجائبه،هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا:إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به،من قال به صدق،و من عمل به أجر،و من حكم به عدل،و من دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم خذها إليك يا أعور) (4).
و من الآثار:(ما روي عن ابن مسعود أنه قال:من أراد العلم فعليه بالقرآن فإن فيه خبر الأولين و الآخرين،و عن الحسن قال:أنزل اللّه مائة و أربعة كتب أودع علومها
ص: 116
أربعة منها التوراة و الإنجيل و الزبور و الفرقان،ثم أودع علوم الثلاثة الفرقان،و قال الإمام الشافعي:جميع ما تقوله الأمة شرح للسنة،و جميع السنة شرح للقرآن...و قال أيضا:جميع ما حكم به النبي فهو مما فهمه من القرآن...و عن ابن سراقة أنه حكى في كتاب الإعجاز عن أبي بكر بن مجاهد أنه قال:ما شيء في العالم إلا و هو في كتاب اللّه فقيل له:فأين ذكر الخانات فيه،فقال:في قوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَ اللّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما تَكْتُمُونَ (1)فهي الخانات،و قال ابن الفضل المرسي في تفسيره:جمع القرآن علوم الأولين و الآخرين بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا المتكلم بها،ثم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم خلا ما استأثر به سبحانه و تعالى،ثم ورث ذلك عنه معظم سادات الصحابة و أعلامهم،مثل الخلفاء الأربعة،و ابن مسعود، و ابن عباس،حتى قال:لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب اللّه تعالى،ثم ورث عنهم التابعون بإحسان،و قال ابن سراقة:من بعض وجوه إعجاز القرآن ما ذكر اللّه فيه من أعداد الحساب و الجمع و القسمة و الضرب و الموافقة و التأليف و المناسبة و التنصيف و المضاعفة،ليعلم بذلك أهل العلم بالحساب أنه صادق في قوله،و أن القرآن ليس من عنده،إذ لم يكن ممن خالط الفلاسفة،و لا تلقى الحساب و أهل الهندسة.
ثم يعقب على ما أورده من أقوال العلماء فيقول:و أنا أقول قد اشتمل كتاب اللّه العزيز على كل شيء أما أنواع العلوم فليس منها باب و لا مسألة هي أصل إلا و في القرآن ما يدل عليها و فيه عجائب المخلوقات و ملكوت السموات و الأرض و ما في الأفق الأعلى و تحت الثرى و بدء الخلق و أسماء مشاهير الرسل و الملائكة و عيون أخبار الأمم السالفة...) (2).
هذه آراء أشهر العلماء القدامى الذين أيّدوا تفسير القرآن على أساس العلم،و سننتقل في المبحث القادم إلى أبرز من تناوله من العلماء المعاصرين و دافع عنه.1.
ص: 117
قبل الشروع في التعرف على أبرز العلماء المعاصرين و على رأيهم في هذا الصدد، يلفت الانتباه إلى أن الهدف الأساسي الذي يسعى المؤيدون للتفسير العلمي لتحقيقه إنما هو:استنباط بعض المعاني الجديدة من الآيات القرآنية على أساس العلوم الكونية،لكن ضمن إطار النص القرآني،و دون جرّ الآيات القرآنية إلى النظريات بشكل تعسفي،أو تحميل النص القرآني ما لا يحتمل،فإذا كان الأمر كذلك فإننا وجدنا في العصر الحديث من يحاول تفسير النصوص القرآنية تفسيرا تعسفيا قد أخرجها عن مدلولاتها اللغوية و معانيها الشرعية،فإذا ما سمع بنظرية علمية أسرع ليجد لها من كتاب اللّه ما يؤكدها و لا ضير إن ثنى أعناق الآيات و طوعها لهذه النظرية،أو أنه أقحم هذه النظرية إقحاما قسريا في نصوص القرآن...
و من هنا سيعرض في هذا المبحث لطائفتين من أقوال العلماء،الطائفة الأولى:
و هم العلماء المثبتون لقضية الإعجاز و لكن بمغالاة و منهم:محمد عبده،عبد الرحمن الكواكبي،طنطاوي جوهري،و الطائفة الثانية:و هم العلماء المثبتون لقضية الإعجاز و لكن باعتدال و منهم:مصطفى صادق الرافعي وحيد الدين خان،محمد جمال الدين الفندي،مصطفى المراغي،و سنبدأ بالحديث عن القسم الأول و هم المغالون.
أولا-الإمام محمد عبده (1):
يعتبر الشيخ محمد عبده من رواد هذا الاتجاه في تفسير القرآن في العصر الحديث،
ص: 118
بل من الذين أصدروا فتوى بجواز تفسير نصوص القرآن بمستجدات العصر و ما يتمخض عنه من اكتشافات و ابتكارات،و إذا ما رجعنا إلى أفكار الشيخ محمد عبده فلسوف نجد المنهج العلمي التطبيقي الذي سلكه في تحليل آيات القرآن واضحا في تفسيره لجزء«عم»و قد طبع في كتاب منهجي لطلاب المدارس في المراحل المتوسطة، و مع غزارة علمه و مكانته العلمية المرموقة إلا أنه لم يترك خلفه سوى تفسير جزء عم، و تفسير واسع لسورة العصر،و بعض المقالات الإسلامية،و نحن إذ نعرض طرفا من تفسيره في جزء عم،فإننا نجد التجاوز الواضح،بل المغالاة و هو يفسر بعض الآيات الكريمة بما استجد في عصره من علوم و معارف.
فها هو ذا يفسر قوله تعالى: وَ إِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (1)فيقول:(أما تسجير البحار فهو أن يفجر الزلزال ما بينها حتى تختلط و تعود بحرا واحدا،و هو بمعنى الملء فإن كل واحد منها يمتلئ حتى يفيض و يختلط بالآخر،و تسجير البحار على هذا المعنى لازم لما سبقه من تقطع أوصال الأرض،و انفصال الجبال و يدل على رجحان هذا التأويل ظاهر قوله تعالى في سورة الانفطار وَ إِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (2)و قد يكون تسجيرها إضرامها،فإن ما في بطن الأرض من النار إذ ذاك يظهر بتشققها و تمزق طبقاتها العليا،أما الماء فيذهب عند ذلك بخارا،و لا يبقى في البحار إلا النار) (3).
و في تفسير قوله تعالى: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (4)يقول:(انشقاق السماء...هو فساد تركيبها و اختلال نظامها عند ما يريد اللّه خراب هذا العالم الذي نحن فيه،و هو يكون بحادثة من الحوادث التي قد ينجر إليها سير العلم،كأن يمر كوكب في سيره بالقرب من الآخر فيتجاذبا فيتصادما،فيضطرب نظام الشمس بأسره،و يحدث من ذلك غمام و أي غمام!يظهر في مواضع متفرقة من الجوّ و الفضاء الواسع،فتكون السماء قد تشققت بالغمام و اختل نظامها حال ظهوره) (5).
(و قد انتقده بعض العلماء في هذا التفسير لخراب العالم،لأن الكون أعظم من أن يختل نظامه بمجرد ضرب كوكب في آخر من المجموعة الشمسية،فما أكثر5.
ص: 119
المجموعات الشمسية التي تتجاوز الأرقام الحسابية التي عرفها البشر!و ما أصغر أفكار البشر في شأن مستقبل العالم خرابا أو عمارا فمثل ذلك يجب تفويض الأمر فيه إلى اللّه تعالى فهو علام الغيوب) (1).
و عند ما يفسر سورة الفيل نجد تجاوزا و تعسفا شديدين في تفسير هذه السورة،يقول:
(و في اليوم الثاني فشا في جند الحبش داء الجدري و الحصبة،قال عكرمة:هو أول جدري ظهر في بلاد العرب و قال يعقوب بن عتبة:أول ما رؤيت الحصبة و الجدري ببلاد العرب ذلك العام،ثم يقول:و هذا ما اتفقت عليه الروايات و يصح الاعتقاد به، و قد بيّنت لنا هذه السورة أن ذلك الجدري أو تلك الحصبة نشأت من حجارة يابسة سقطت على أفراد الجيش بواسطة فرق عظيمة من الطير مما يرسله اللّه مع الريح،فيجوز لك أن تعتقد أن هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض...و أن هذا الحيوان الصغير الذي يسمونه بالميكروب لا يخرج عنها،هذا ما يصح الاعتماد عليه في تفسير السورة،و ما عدا ذلك فهو مما لا يصح قبوله إلا بتأويل إن صحت روايته) (2).
لا أدري من الذي سوّغ للإمام رحمه اللّه أن يقحم الميكروب في تفسير السورة مكان الطير الأبابيل،و ما أظن أن في اللغة العربية و مترادفاتها ما يسوّغ أن نطلق على لفظة الطير بالميكروب،أو بالجدري أو بالحصبة...ثم إن حماس الشيخ قد دفعه ليجزم قائلا:هذا ما يصح الاعتماد عليه في تفسير السورة،و ما عدا ذلك فهو مما لا يصح قبوله إلا بتأويل إن صحت روايته،و هذا كما هو واضح تحميل للنص القرآني ما لا يحتمل و ما لا يطيق أبدا،و قد أكثر العلماء في الرد عليه،و أرى أن المسألة من البطلان بحيث لا تستأهل تضييع الوقت في الرد على مثل هذه التعسفات.
ثانيا-عبد الرحمن الكواكبي (3):
عند ما يتحدث الكواكبي عن القرآن يصفه بأنه:شمس العلوم و كنز الحكم،و يعلل
ص: 120
السبب الذي جعل العلماء ينصرفون عن تفسير قسمي«الآلاء و الأخلاق»من القرآن تفسيرا علميا هو أنهم:(كانوا يخافون مخالفة رأي بعض السلف القاصرين في العلم، فيكفرون فيقتلون،و هذه مسألة إعجاز القرآن و هي أهم مسألة في الدين،لم يقدروا أن يوفوها حقها من البحث،و اقتصروا على ما قاله بعض السلف قولا مجملا من أنها قصور الطاقة عن الإتيان بمثله في فصاحته و بلاغته،و أخباره عن أن الروم من بعد غلبهم سيغلبون،مع أنه لو أطلق للعلماء عنان التدقيق و حرية الرأي و التأليف كما أطلق لأهل التأويل و الخرافات،لرأوا في ألوف من آيات القرآن ألوف آيات من الإعجاز لرأوا فيه كل يوم آية تتجدد مع الزمان و الحدثان تبرهن إعجازه بصدق قوله سبحانه و تعالى: وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (1)برهان عيان لا مجرد تسليم و إيمان) (2).
ثم يبدأ بسرد طائفة من الآيات القرآنية،و يحللها و يفسرها تفسيرا علميا فيقول:
(و مثال ذلك أن العلم كشف في هذه القرون الأخيرة حقائق و طبائع كثيرة،تعزى لكاشفيها و مخترعيها من علماء أوروبا و أمريكا،و المدقق في القرآن يجد أكثرها ورد التصريح أو التلميح به في القرآن منذ ثلاثة عشر قرنا،و ما بقيت مستورة تحت غشاء من الخفاء إلا لتكون عند ظهورها معجزة للقرآن،شاهدة بأنه كلام رب لا يعلم الغيب سواه،و ذلك أنهم قد كشفوا أن مادة الكون هي الأثير،و قد وصف القرآن بدء التكوين فقال: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ (3)و كشفوا أن الكائنات في حركة دائمة دائبة و القرآن يقول: وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (4)و حققوا أن الأرض منفتقة في النظام الشمسي و القرآن يقول: اَلسَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما (5)و حقّقوا أن القمر منشق من الأرض،و القرآن يقول: اِقْتَرَبَتِ السّاعَةُ وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ (6)...و حققوا أن طبقات الأرض سبع و القرآن يقول: اَللّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ (7)و كشفوا2.
ص: 121
وجود الميكروب و تأثيره كالجدري و غيره من المرض و القرآن يقول وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (1)أي متتابعة مجتمعة، تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (2)أي من طين المستنقعات اليابس إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة المحققة لبعض مكتشفات علم الهيئة و النواميس الطبيعية،و بالقياس على ما تقدم ذكره يقتضى أن كثيرا من آياته سينكشف سرها في المستقبل في وقتها المرهون،تجديدا لإعجازه ما دام الزمان) (3).
(و إذا كان لنا من تعليق على قوله فإننا نقول:إنه قد تأثر بهذا اللون من التفسير تأثّرا كبيرا حتى وصل به الأمر إلى حد الإفراط و المغالاة،و بسبب ذلك صار يتلمس لكل نظرية نصا من القرآن مدعيا أن هذا وجه من وجوه صدقه و دلائل إعجازه العلمي بعد أن اقتصر علماء السلف على حد قوله على أن فصاحته و بلاغته هي سبب إعجازه،فانظر إلى استدلاله على أن القمر منشق من الأرض بقوله تعالى: اِقْتَرَبَتِ السّاعَةُ وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ فإن هذا المعنى المزعوم لا تدل عليه أي من الآيتين،و هو معنى بعيد كل البعد عن معناهما،بالإضافة إلى أنه قد يستدل ببعض آية تاركا ما قبلها و ما بعده) (4).هذان من أبرز من تناول تفسير القرآن بمغالاة،و هناك غيرهما كثير مثل عبد العزيز إسماعيل في كتابه«الإسلام و الطب الحديث»و عبد الرزاق نوفل في عدة كتب له،و من أخطر و أجرأ من تعسف في هذا الصدد هو طنطاوي جوهري في تفسيره«الجواهر»الذي جاء في خمسة و عشرين جزءا،و الذي يتحدث فيه:(لقد وضعت في هذا التفسير ما يحتاجه المسلم من الأحكام و الأخلاق و عجائب الكون و أثبت فيه غرائب العلوم،و عجائب الخلق،مما يشوق المسلمين و المسلمات إلى الوقوف على حقائق معاني الآيات البينات في الحيوان و النبات و الأرض و السموات و لتعلمنّ أيها الفطن أن هذا التفسير نفحة ربانية،و إشارة قدسية،و بشارة رمزية،و أمرت به بطريق الإلهام،و أيقنت أن له شأنا سيعرفه الخلق،و سيكون من أهم أسباب رقيّ المستضعفين في الأرض) (5).
يقول فيه الدكتور حسين الذهبي:(و نجده يضع لنا في تفسيره كثيرا من صور النباتات1.
ص: 122
و الحيوانات و مناظر الطبيعة،و تجارب العلوم،بقصد أن يوضح للقارئ ما يقول، توضيحا يجعل الحقيقة أمامه كالأمر المشاهد المحسوس،و لقد أفرط في ذلك،و جاز حد المجاز.
و مما يؤخذ عليه:أنه قد يشرح بعض الحقائق الدينية بما جاء عن أفلاطون في جمهوريته أو بما جاء عن إخوان الصفا في رسائلهم،و هو حين ينقلها يبدي رضاه عنها و تصديقه بها في حين أنها تخالف في ظاهرها ما عليه أصحابه السلفيون و الأشاعرة.
هذا،و إنا نجد المؤلف يفسر آيات القرآن تفسيرا يقوم على نظريات علمية حديثة غير مستقرة في ذاتها،و لم تمض فترة التثبت منها،و هذا ضرب من التكلف ارتكبه المؤلف،إن لم يكن يذهب بغرض القرآن أحيانا،فلا أقل من أن يذهب بروائه و بهائه) (1).
أولا-وحيد الدين خان (2):
و سوف نقف مع كتابه«الإسلام يتحدى»و الذي قدم له الدكتور عبد الصبور شاهين.
عقد وحيد الدين خان في كتابه المذكور مبحثا بعنوان:القرآن و الكشوف الحديثة، تحدّث فيه عن قضية الإعجاز العلمي في القرآن الكريم،و وضع بعض الضوابط لهذا النمط من التفسير،و التي تدل على اعتدال الرجل و اتزانه إزاء هذه القضية،ثم ساق طائفة من الآيات القرآنية و فسّرها بناء على معطيات الحقائق العلمية،و بمنهج دقيق لا إفراط فيه و لا مغالاة.
و ها هو ذا يبين أهم قيد من القيود التي يرتكز عليها هذا التفسير فيقول:(إن مطابقة كلمات القرآن و ألفاظه للكشوف العلمية الحديثة مبنية على أن العلم الحديث قد استطاع الكشف عن أسرار الواقعة موضوع البحث،فتوفرت لدينا مواد نافعة لتفسير الإشارات
ص: 123
القرآنية في ذلك الموضوع،و لو أن دراسة المستقبل في موضوع ما تبطل واقعة من وقائع العلم الحديث كليا أو جزئيا فليس هذا بضائر مطلقا صدق القرآن،بل معناه أن المفسر أخطأ في محاولته لتفسير إشارة مجملة في القرآن،و إنني لعلى يقين راسخ بأن الكشوف المقبلة سوف تكون أكثر إيضاحا لإشارات القرآن،و أكثر بيانا لمعانيه الكامنة) (1).
و يبدأ بضرب بعض الأمثلة على إعجاز القرآن،و سبقه في تسجيل الحقائق العلمية التي وصل إليها علماء العصر،لكن بعد جهد جهيد،و عمل مضن و مستمر كلفهم أموالا طائلة فضلا عن سهر الليالي الطويل،فيقول:
(1-ذكر القرآن الكريم قانونا خاصا بالماء في سورتين هما الفرقان و الرحمن، و جاء في السورة الأولى قوله تعالى: وَ هُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَ جَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَ حِجْراً مَحْجُوراً (2)و أما الآية التي وردت في السورة الأخرى فهي تقول:
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ(19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ(20) (3) .
إن الظاهرة الطبيعية التي يذكرها القرآن في هذه الآيات معروفة عند الإنسان منذ أقدم العصور و هي أنه إذا ما التقى نهران في ممر مائي واحد،فماء أحدهما لا يدخل أي لا يذوب في الآخر،و هناك على سبيل المثال،نهران يسيران في«تشاتغام»بباكستان الشرقية إلى مدينة«أركان»في«بورما»و يمكن مشاهدة النهرين،مستقلا أحدهما عن الآخر،و يبدو أن خيطا يمر بينهما حدا فاصلا،و الماء عذب في جانب و ملح في جانب آخر،و هذا هو شأن الأنهار القريبة من السواحل،فماء البحر يدخل ماء النهر عند حدوث المد البحري و لكنهما لا يختلطان،و يبقى الماء عذبا تحت الماء الأجاج، و هكذا شاهدت عند ملتقى نهري«الكنج و الجامونا»في مدينة« الله آباد»فهما رغم التقائهما لم تختلط مياههما و يبدو أن خيطا فاصلا يميز أحدهما عن الآخر...
إن هذه الظاهرة كانت معروفة لدى الإنسان القديم...و لكنا لم نكشف قانونها إلا منذ بضع عشرات من السنين،فقد أكدت المشاهدات و التجارب أن هناك قانونا ضابطا للأشياء السائلة،يسمى بقانون المط السطحي (surface tension) و هو يفصل بين0.
ص: 124
السائلين،لأن تجاذب الجزئيات يختلف من سائل إلى آخر،و لذا يحتفظ كل سائل باستقلاله في مجاله،و قد استفاد العلم الحديث كثيرا من هذا القانون،الذي عبر عنه القرآن الكريم بقوله سبحانه: بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ و ملاحظة هذا البرزخ لم تخف عن أعين القدماء،كما لم تتعارض مع المشاهدة الحديثة.
و نستطيع بكل ثقة أن نقول إن المراد من البرزخ إنما هو المط أو التمدد السطحي الذي يوجد في الماءين و الذي يفصل أحدهما عن الآخر) (1).
ثم يستعرض عددا من الأمثلة في عدة جوانب من العلوم مقارنا ذلك مع ما ورد في كتاب اللّه تعالى،بدقة و موضوعية،ثم يقول:(لسنا نملك أمام هذا التوافق المدهش بين ما ورد في الماضي البعيد و ما اكتشف بالأمس القريب،إلا أن نؤمن بأن هذا الكلام صادر عن موجود يحيط علمه بالماضي و الحال و المستقبل على السواء) (2).
ثانيا-الدكتور محمد جمال الدين الفندي (3):
يعرض الدكتور الفندي قضية الإعجاز العلمي في القرآن لكن بتحفظ و تثبت دون مغالاة أو تجاوز و يقف عند حدود النص و مدلولاته اللغوية و الشرعية،و يعتمد المنهج الدقيق الصحيح،و هو:تفسير القرآن على أساس الحقائق العلمية الثابتة لا النظريات المتغيرة المتبدلة،و يسوق مجموعة من الأمثلة التي تثبت إعجاز القرآن الكريم،يقول:
(و سوف نوضح كيف تمشّى العلم مع القرآن الكريم منذ نزل و تلك قاعدة عامة طالما كانت التعليقات العلمية أو التفسيرات مبنية على حقائق سليمة علمية و قاصرة على الحقائق بعيدا عن النظريات المتطورة،و من غير أن نكلف الآيات ما لا طاقة لها به من مجاز أو كناية) (4).
ص: 125
و يبدأ بعرض أمثلة يوضح فيها سبق القرآن في تسجيل بعض قواعد العلوم و إعجازه في ذلك و من هذه الأمثلة التي ذكرها تعقيبه على قوله تعالى: وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَ ما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (1).
فيقول:(قال الأقدمون في ظل ما كان متوفرا لديهم من حقائق العلم أن لَواقِحَ هنا إنما تشير إلى تلقيح الرياح لبعض النباتات لكي تثمر أو يوجد الثمر،و هذه حقيقة قائمة لم تتغير لأن الرياح كانت و لا زالت و سوف تستمر في تلقيح بعض النباتات لتوجد الثمر،و في ظل الآفاق الواسعة التي فتحها أمامنا عصر العلم اتضح للعلماء و ثبت لديهم أن الرياح هي التي تثير السحاب و تكونه،مصدقا لبيانه تعالى: اَللّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَ يَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (2)و القرآن الكريم هو أول كتاب على الإطلاق قرر تلك الحقيقة العلمية،و في ظل تلك القضايا العلمية الهامة يستمر القرآن الكريم فيفرق بين السحاب الذي يمطر و السحاب الذي لا يمطر معلنا في إعجاز علمي أخّاذ أن نزول المطر إنما يتم عن طريق تلقيح الرياح للسحاب، وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ و لقد ثبت علميا أن السحب لكي تمطر يجب أن تستمر الرياح و تدأب على تلقيحها أو إمدادها بجسيمات عناصر المطر و هي بخار الماء و نوى التكاثف و بخار الماء عبارة عن جزئيات منفصلة من الماء،تحملها الرياح من أسطح البحار و المحيطات و تصعد بها إلى مناطق إثارة السحب لكي تتجمع من جديد على جسيمات صغيرة أخرى تذروها الرياح و تعرف باسم«نوى التكاثف».
و هذا التفسير الجديد إنما يربط بين أجزاء الآية الكريمة و يجعلها واضحة المعنى، حيث تكون الفاء في قوله: فَأَنْزَلْنا هي فاء السببية،أي نجم عن هذا التلقيح إخصاب السحاب،و من ثم نزول الماء العذب و هو المطر) (3).
2-و عند ما يفسر قوله تعالى: وَ السَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَ إِنّا لَمُوسِعُونَ (4)يقول:(قال الأقدمون:إن هذه الآية الكريمة تشير إلى حقيقة ما لدى الخالق من عظيم القدرة7.
ص: 126
و اتساع الملك رغم ما أودعه في الكون الفسيح من ألوان المادة و أجرام السماء،أي أن كلمة«موسعون»إنما تشير إلى اليسر و الغنى...و بتقدم آلات الرصد عرفت المجرات، و أقرب المجرات إلينا مجرة«المرأة المسلسلة»و هي تبعد عن مجرتنا بنحو 700 ألف سنة ضوئية (1)،و ما زالت أبعاد الكون تتسع حتى عرف الناس اليوم أن هناك نجوما هي في الواقع مجرات،تبدو لفرط بعدها عنا على هيئة نقط مضيئة هي أشباه النجوم و تبعد عنا بنحو 12 ألف مليون سنة ضوئية!.
إننا مرة أخرى نسلم بحقيقة المعنى الأول لكلمة«موسعون»كما أننا نسلم بصحة التفسير الحديث الذي سقناه،حيث إنه فعلا اتسعت أبعاد الكون المرئي أمام البشر اتساعا يكاد لا يصدقه العقل بتقدم آلات الرصد و التتبع،على أن هناك معنى آخر يشير إلى حقيقة أن الكون يتمدد،أي تزداد أبعاده بمرور الزمن و هذه إحدى نتائج حسابات النسبية،إلا أن الآية الكريمة إنما تضم هذه التفسيرات و الحقائق العلمية السليمة كلها، و رأينا إذا كيف ساير ركب العلم ما أثاره القرآن الكريم من قضايا العلم العامة...) (2).
يعلن الشيخ المراغي في مقدمة تفسيره عن المنهج الذي سلكه في تفسير القرآن الكريم،و يدقق على أهمية تلاقح المعرفة،بحيث يستند المفسر لكتاب اللّه في قضايا العلم على المختصين في العلوم الكونية و الطبيعية،ليكون لكلامه وزن و ثقل و مصداقية،و أن يواكب العلوم العصرية و مستجداتها و لا يركن إلى ما قيل في قضايا العلم قبل قرون...
يقول المراغي في مقدمة تفسيره:(و قد سلكنا في الوصول إلى فهم الآيات التي أشارت إلى بعض نظريات في مختلف الفنون استطلاع آراء العارفين بها،فاستطلعنا آراء الطبيب النطاسي،و الفلكي العارف،و المؤرخ الثبت،و الحكيم البصير ليدلي كل برأيه فيما تمهر فيه،لنعلم ما أثبته العلم و أنتجه الفكر،فيكون كلامنا معتزا بكرامة المعرفة التي تشرف بتفهم كتاب اللّه،فرجل الدين حامل لوائها عليه أن يسأل العلم دائما يستبصر بما ثبت لديه،و يساير عصره ما وجد إلى ذلك سبيلا،فإن قعدت به همته
ص: 127
إلى الموروث من قضاياه لدى الماضين ركب شططا و ازداد بعدا عن الحقيقة،و تضاءل أمام نفسه و أمام قارئي بحوثه و مؤلفاته) (1).
و إذا ما أردنا أن نتبين التطبيق العملي لهذا المنهج فلنستعرض بعض الأمثلة التي أوردها في تفسيره و كيف وازن بين آيات القرآن الكريم و بين مستجدات العلم.
ففي تفسيره لقول اللّه تعالى: وَ هُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَ أَنْهاراً وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(2) (3).
يقول المراغي: (وَ هُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ أي جعلها متسعة ممتدة في الطول و العرض لتثبت عليها الأقدام،و يتقلب عليها الحيوان،و ينفع الناس بخيراتها و زرعها و ضرعها ...و لا شك أن الأرض لعظم سطحها هي في رأي العين كذلك،و هذا لا يمنع كرويتها التي قد قامت عليها الأدلة لدى علماء الفلك،و لم يبق لديهم فيها ريب...
ثم يقول: وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ أي و جعل فيها من كل أصناف الثمرات زوجين اثنين ذكرا أو أنثى حين تكونها،فقد أثبت العلم حديثا أن الشجر و الزرع لا يولدان الثمر و الحب إلا من اثنين ذكر و أنثى،و عضو التذكير قد يكون مع عضو التأنيث في شجرة واحدة كأغلب الأشجار،و قد يكون عضو التذكير في شجرة و عضو التأنيث في شجرة أخرى كالنخل،ما كان العضوان فيه في شجرة واحدة إما أن يكونا معا في زهرة واحدة كالقطن،و إما أن يكون كل منهما في زهرة كالقرع مثلا) (3).
و في بيانه تعالى: وَ الشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(38) (4)يقول:(أي و الشمس تجري حول مركز مدارها الثابت الذي تسير حوله بحسب وضعها النجمي،فقد ثبت أن لها حركة رحوية حول هذا المركز تقدّر بمائتي ميل في الثانية، و هذا الوضع العجيب من تقدير العزيز القاهر لعباده...ثم يقول:و علماء الفلك قديما جعلوا الكواكب مركوزة في الأفلاك على ما نراه في كتبهم،فليس للكوكب أن يسبح من تلقاء نفسه،بل لا بد له من حامل يحمله و هو الذي يدور به و كيف يسبح ما لا حرية له، و لا قدرة له على السير بل هو محمول على غيره؟هكذا كان الرأي عندهم،و لكن رأي8.
ص: 128
علماء الفلك المحدثين:أن جميع الكواكب تسير في مدارات في عالم الأثير فهي إذا كأنها سمك في بحر لجي...ثم يعقب قائلا:فاعجب أيها القارئ الكريم للقرآن كيف أثبت ما دل على صحته الكشف الحديث،و دحض تلك الآراء التي كانت شائعة عصر التنزيل لدى علماء الفلك من اليونان و الهند و الصين) (1).
بعد هذه الجولة السريعة في صفحات كتب المثبتين لقضية الإعجاز العلمي في القرآن الكريم،من العلماء القدامى و المعاصرين،ننتقل في المبحث الآتي لنتعرف على أبرز المعارضين لتفسير القرآن على أساس العلم من العلماء القدامى و المعاصرين.1.
ص: 129
إذا كان قد وجد من العلماء القدامى من دعا و تبنى قضية التفسير العلمي للقرآن،فإن من العلماء القدامى من قد عارض هذا الاتجاه و رده،و على رأس هؤلاء العالم الأصولي الكبير،و الذي أخذ كتابه«الموافقات»شهرة كبيرة في أوساط العلماء منذ قرون،إنه الإمام الشاطبي.
الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الغرناطي الشاطبي (1):
عرض الإمام الشاطبي في كتابه«الموافقات»لأمية الرسول،و أمية هذه الأمة،و ساق أدلة على أمية هذه الأمة من القرآن الكريم و السنة المطهرة،و بما أننا أمة أمية فإن الشريعة التي نزلت فينا أمية كذلك؟على هذا الأساس كان منطلق رده لقضية التفسير العلمي للقرآن.
يقول الإمام الشاطبي:(ما تقرر من أمية الشريعة و أنها جارية على مذاهب أهلها و هم العرب ينبني عليه قواعد:
1-منها:أن كثيرا من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحدّ،فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين أو المتأخرين:من علوم الطبيعيات،و التعاليم و المنطق،و علم الحروف،و جميع ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون و أشباهها،و هذا إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح،و إلى هذا فإن السلف الصالح من الصحابة و التابعين و من يليهم كانوا
ص: 130
أعرف بالقرآن و بعلومه و ما أودع فيه،و لم يبلغنا أنه تكلم أحد منهم في شيء من هذا المدعى،سوى ما تقدم و ما ثبت فيه من أحكام التكاليف و أحكام الآخرة،و ما يلي ذلك،و لو كان لهم في ذلك خوض و نظر،لبلغنا منه ما يدلّنا على أصل المسألة؛إلا أن ذلك لم يكن،فدل على أنه غير موجود عندهم،و ذلك دليل على أن القرآن لم يقصد فيه تقرير لشيء مما زعموا نعم،تضمن علوما هي من جنس علوم العرب،أو ما ينبني على معهودها مما يتعجب منه أولو الألباب،و لا تبلغه إدراكات العقول الراجحة دون الاهتداء بأعلامه،و الاستنارة بنوره،أما أن فيه ما ليس من ذلك فلا) (1).
ثم يشرع الشاطبي رحمة اللّه بذكر أدلة المجيزين لقضية الإعجاز و يردها،فيقول:(و ربما استدلوا على دعواهم بقوله تعالى: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ (2)و قوله:
ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ (3) و نحو ذلك،و بفواتح السور و هي مما لم يعهد عند العرب و بما نقل عن الناس فيها،و ربما حكي من ذلك عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه و غيره أشياء.
فأما الآيات فالمراد بها عند المفسرين ما يتعلق بحال التكليف و التعبد،أو المراد بالكتاب في قوله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ اللوح المحفوظ،و لم يذكروا فيها ما يقتضي تضمنه لجميع العلوم النقلية و العقلية.
و أما فواتح السور فقد تكلم الناس فيها بما يقتضي أن للعرب بها عهدا،كعدد الجمل الذي تعرفوه من أهل الكتاب،حسبما ذكره أصحاب السير،أو هي من المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا اللّه تعالى،و غير ذلك.
و أما تفسيرها بما لا عهد به فلا يكون،و لم يدّعه أحد ممن تقدم،فلا دليل فيها على ما ادّعوا و ما ينقل عن عليّ أو غيره في هذا لا يثبت،فليس بجائز أن يضاف إلى القرآن ما لا يقتضيه،كما أنه لا يصح أن ينكر منه ما يقتضيه،و يجب الاقتصار في الاستعانة على فهمه على كل ما يضاف علمه إلى العرب خاصة،فبه يوصل إلى علم ما أودع من8.
ص: 131
الأحكام الشرعية،فمن طلبه بغير ما هو أداة له ضلّ عن فهمه،و تقوّل على اللّه و رسوله فيه،و الله أعلم،و به التوفيق) (1).
(و منطق الشاطبي هنا منطق قوي،و أدلته لا مطعن فيها،إلا ما كان من اعتماده على أمية الشريعة،بناء على أمية الأمة،ذلك أن أمية الأمة ليست أمرا مطلوبا و لا مرغوبا فيه،بل بعث اللّه رسوله في الأميين ليخرجهم من الأمية إلى باحة العلم و النور كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2)فهذه مهمة الرسول صلى اللّه عليه و سلم مع الأميين:التلاوة و التزكية و تعليم الكتاب و الحكمة،و لا أعجب أن كانت الآيات الأولى من الوحي تنبئ بذلك اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (3)فالأمية ممدوحة في حقه صلى اللّه عليه و سلم لأنها أدل على الإعجاز، و ليست ممدوحة في حق الأمة،و على الأمة أن تتحرر منها لتتعلم و تتفقه و تنظر في ملكوت السموات و الأرض...) (4).
1-الشيخ محمود شلتوت (5):
لم يخرج شيخ الأزهر محمود شلتوت عن الأطر التي رسمها الشاطبي لمعارضته، فها هو ذا يعلن معارضته الواضحة لتفسير القرآن على أساس العلم في مقدمة تفسيره فيقول:(و أما الناحية الثانية:فإن طائفة أخرى فهي طائفة المثقفين الذين أخذوا بواف من العلم الحديث،و تلقنوا أو تلقفوا شيئا من النظريات العلمية و الفلسفية و غيرها،
ص: 132
أخذوا يستندون إلى ثقافتهم الحديثة،و يفسّرون آيات القرآن على مقتضاها،نظروا في القرآن فوجدوا اللّه سبحانه و تعالى يقول: وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (1)فتأولوها على نحو زين لهم أن يفتحوا في القرآن فتحا جديدا،ففسروه على أساس من النظريات العلمية المستحدثة،و طبّقوا آياته على ما وقعوا عليه من قواعد العلوم الكونية و ظنوا أنهم بذلك يخدمون القرآن،و يرفعون من شأن الإسلام،و يدعون له أبلغ دعاية في الأوساط العلمية و الثقافية.
نظروا في القرآن على هذا الأساس،فأفسد ذلك عليهم أمر علاقتهم بالقرآن، و أفضى بهم إلى صور من التفكير لا يريدها القرآن،و لا تتفق مع الغرض الذي من أجله أنزله اللّه،فإذا مرت آية فيها ذكر للمطر أو وصف للسحاب أو حديث عن الرعد أو البرق تهللوا و استبشروا و قالوا:هذا هو القرآن يتحدث إلى العلماء الكونيين،و يصف لهم أحدث النظريات العلمية عن المطر و السحاب و كيف ينشأ و كيف تسوقه الرياح، و إذا رأوا القرآن يذكر الجبال أو يتحدث عن النبات أو الحيوان و ما خلق اللّه من شيء قالوا:هذا حديث القرآن عن علوم الطبيعة و أسرار الطبيعة،و إذا رأوه يتحدث عن الشمس و القمر و الكواكب و النجوم،قالوا:هذا حديث يثبت لعلماء الهيئة و الفلكيين أن القرآن كتاب علمي دقيق...) (2).
و بعد استعراضه بعض الآيات التي فسّرت تفسيرا علميا يقول:(إن هؤلاء في عصرنا الحديث لمن بقايا قوم سافلين فكّروا مثل هذا التفكير،و لكن على حسب ما كانت توحي به إليهم أحوال زمانهم فحاولوا أن يخضعوا القرآن لما كان عندهم من نظريات علمية أو فلسفية أو سياسية) (3).
ثم يبين جوانب الخطأ في هذا الاتجاه فيقول:(هذه النظرة للقرآن خاطئة من غير شك،لأن اللّه لم ينزل القرآن ليكون كتابا يتحدث فيه إلى الناس عن نظريات العلوم و دقائق الفنون و أنواع المعارف.1.
ص: 133
و هي خاطئة:من غير شك لأنها تحمل أصحابها و المغرمين بها على تأويل القرآن تأويلا متكلفا يتنافى مع الإعجاز و لا يسيغه الذوق السليم.
و هي خاطئة:لأنها تعرّض القرآن للدوران مع مسائل العلوم في كل زمان و مكان، و العلوم لا تعرف الثبات و لا القرار و لا الرأي الأخير،فقد يصح اليوم في نظر العلم ما يصبح غدا من الخرافات.
فلو طبقنا القرآن على هذه المسائل العلمية المتقلبة،لعرضناه للتقلب معها،و تحمل تبعات الخطأ فيها،و لأوقفنا أنفسنا بذلك موقفا حرجا في الدفاع عنه.
فلندع للقرآن عظمته و جلاله،و لنحفظ عليه قدسيته و مهابته،و لنعلم أن ما تضمنه من الإشارات إلى أسرار الخلق و ظواهر الطبيعة إنما هو لقصد الحث على التأمل و البحث و النظر...) (1).
2-سيد قطب (2):
موقف سيد قطب رحمه اللّه تعالى هو نفس موقف الشاطبي و شلتوت،و لندع لقلمه البليغ أن يعرب عما يعتقده في هذا المجال،و سوف نقتبس رأيه من تفسيره«الظلال» عند تعليقه على آية الأهلة يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ وَ الْحَجِّ وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَ اتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (3).
يقول:(القرآن قد جاء لما هو أكبر من تلك المعلومات الجزئية،و لم يجيء ليكون كتاب علم فلكي أو كيماوي أو طبي كما يحاول بعض المتحمسين له أن يلتمسوا فيه هذه
ص: 134
العلوم،أو كما يحاول بعض الطاعنين فيه أن يتلمسوا مخالفاته لهذه العلوم،إن كلتا المحاولتين دليل على سوء الإدراك لطبيعة هذا الكتاب و وظيفته و مجال عمله،إن مجاله هو النفس الإنسانية و الحياة الإنسانية،و إن وظيفته أن ينشئ تصورا عاما للوجود و ارتباطه بخالقه،و لوضع الإنسان في هذا الوجود،و ارتباطه بربه،و أن يقيم على أساس هذا التصور نظاما للحياة يسمح للإنسان أن يستخدم كل طاقاته،و من بينها طاقته العقلية التي تقوم هي بعد تنشئتها على استقامة،و إطلاق المجال لها لتعمل بالبحث العلمي في الحدود المتاحة للإنسان و بالتجريب و التطبيق،و تصل إلى ما تصل إليه من نتائج ليست نهائية و لا مطلقة بطبيعة الحال،إن مادة القرآن التي يعمل فيها هي الإنسان ذاته،تصوره و اعتقاده و مشاعره و مفهوماته و سلوكه و أعماله و روابطه و علاقاته،أما العلوم المادية و الإبداع في عالم المادة بشتى وسائله و صنوفه فهي موكولة إلى عقل الإنسان و تجاربه و كشوفه و فروضه و نظرياته،بما أنها أساس خلافته في الأرض و بما أنه مهيأ لها بطبيعة تكوينه،و القرآن يصحح له فطرته كي لا تنحرف و لا تفسد و يصحح له النظام الذي يعيش فيه كي يسمح له باستخدام طاقاته الموهوبة له،و يزوده بالتصور العام لطبيعة الكون و ارتباطه بخالقه و تناسق تكوينه،و طبيعة العلاقة القائمة بين أجزائه،و هو أي«الإنسان»أحد أجزائه،ثم يدع له أن يعمل في إدراك الجزئيات و الانتفاع بها في خلافته،و لا يعطيه تفصيلات لأن معرفة هذه التفصيلات جزء من عمله الذاتي...و إني لأعجب لسذاجة المتحمسين لهذا القرآن الذين يحاولون أن يضيفوا إليه ما ليس منه، و أن يحملوا عليه ما لم يقصد إليه،و أن يستخرجوا منه جزئيات في علوم الطب و الكيمياء و الفلك و ما إليها،كأنما ليعظموه بهذا و يكبروه،إن القرآن كتاب كامل في موضوعه،و موضوعه أضخم من تلك العلوم كلها،لأنه هو الإنسان ذاته الذي يكشف هذه المعلومات و ينتفع بها،و البحث و التجريب و التطبيق من خواص العقل في الإنسان،و القرآن يعالج بناء هذا الإنسان نفسه بناء شخصيته و ضميره و عقله و تفكيره، كما يعالج بناء المجتمع الإنساني الذي يسمح لهذا الإنسان بأن يحسن استخدام هذه الطاقات المذخورة فيه،و بعد أن يوجد الإنسان السليم التصور و التفكير و الشعور و يوجد المجتمع الذي يسمح له بالنشاط،يتركه القرآن يبحث و يجرب و يخطئ و يصيب في مجال العلم و البحث و التجريب،و قد ضمن له موازين التصور و التدبر و التفكير الصحيح كذلك لا يجوز أن نعلق الحقائق النهائية التي يذكرها القرآن أحيانا عن الكون في طريقه لإنشاء التصور الصحيح لطبيعة الوجود و ارتباطه بخالقه و طبيعة التناسق بين
ص: 135
أجزائه،لا يجوز أن نعلق هذه الحقائق النهائية التي يذكرها القرآن بفروض العقل البشري و نظرياته و لا حتى بما يسميه حقائق علمية مما ينتهي إليه بطريق التجربة القاطعة في نظره،إن الحقائق القرآنية حقائق نهائية قاطعة مطلقة،أما ما يصل إليه البحث الإنساني أيا كانت الأدوات المتاحة له فهي حقائق غير نهائية و لا قاطعة،و هي مقيدة بحدود تجاربه،و ظروف هذه التجارب و أدواتها،فمن الخطأ المنهجي بحكم المنهج العلمي الإنساني ذاته،أن نعلق الحقائق النهائية القرآنية بحقائق غير نهائية،و هي كل ما يصل إليه العلم البشري هذا بالقياس إلى الحقائق العلمية و الأمر أوضح بالقياس إلى النظريات و الفروض التي تسمى علمية،و من هذه النظريات و الفروض كل النظريات الفلكية،و كل النظريات الخاصة بنشأة الإنسان و أطواره،و كل النظريات الخاصة بنفس الإنسان و سلوكه،و كل النظريات الخاصة بنشأة المجتمعات و أطوارها،فهذه كلها ليست حقائق علمية حتى بالقياس الإنساني،و إنما هي نظريات و فروض كل قيمتها أنها تصلح لتفسير أكبر قدر من الظواهر الكونية أو الحيوية أو النفسية أو الاجتماعية إلى أن يظهر فرض آخر يفسّر قدرا أكبر من الظواهر أو يفسر تلك الظواهر تفسيرا أدق،و من ثم فهي قابلة دائما للتغيير و التعديل و النقص و الإضافة؛بل قابلة لأن تنقلب رأسا على عقب بظهور أداة كشف جديدة أو بتفسير جديد لمجموعة الملاحظات القديمة و كل محاولة لتعليق الإشارات القرآنية العامة بما يصل إليه العلم من نظريات متجددة متغيرة أو حتى بحقائق علمية،ليست مطلقة كما أسلفنا تحتوي أولا على خطأ منهجي أساسي كما أنها تنطوي على معان ثلاثة كلها لا يليق بجلال القرآن الكريم.
الأولى هي:الهزيمة الداخلية التي تخيل لبعض الناس أن العلم هو المهيمن و القرآن تابع،و من هنا يحاولون تثبيت القرآن بالعلم أو الاستدلال له من العلم على حين أن القرآن كتاب كامل في موضوعه و نهائي في حقائقه و العلم ما يزال في موضوعه ينقض اليوم ما أثبته بالأمس،و كل ما يصل إليه غير نهائي،و لا مطلق،لأنه مقيد بوسط الإنسان و عقله و أدواته،و كلها ليس من طبيعتها أن تعطي حقيقة واحدة نهائية مطلقة.
و الثانية:سوء فهم طبيعة القرآن و وظيفته،و هي أنه حقيقة نهائية مطلقة،تعالج بناء الإنسان بناء يتفق بقدر ما تسمح طبيعة الإنسان النسبية مع طبيعة هذا الوجود و ناموسه الإلهي،حتى لا يصطدم الإنسان بالكون من حوله،بل يصادقه و يعرف بعض أسراره و يستخدم بعض نواميسه في خلافته،نواميسه التي تكشف له بالنظر و البحث و التجريب
ص: 136
و التطبيق وفق ما يهديه إليه عقله الموهوب له ليعمل لا ليتسلم المعلومات المادية جاهزة.
و الثالثة هي:التأويل المستمر مع التمحل و التكلف لنصوص القرآن كي نحملها و نلهث بها وراء الفروض و النظريات التي لا تثبت و لا تستقر و كل يوم يجد فيها جديد، و كل أولئك لا يتفق و جلال القرآن كما أنه يحتوي على خطأ منهجي كما أسلفنا...) (1).
3-محمد عبد العظيم الزرقاني (2):
عقد الشيخ الزرقاني في كتابه القيّم«مناهل العرفان في علوم القرآن»بابا بعنوان:
موقف القرآن من العلوم الكونية،و فيه يعلن معارضته للتفسير العلمي للقرآن الكريم، يقول:(موقف القرآن من العلوم الكونية...و معنى هذا أن القرآن روعيت فيه بالنسبة إلى العلوم الكونية اعتبارات خمسة لا يصدر مثلها عن مخلوق،فضلا عن رجل أمي نشأ في الأميين و هو محمد صلى اللّه عليه و سلم.
أولها:أنه لم يجعل تلك العلوم الكونية من موضوعه،و ذلك لأنها خاضعة لقانون النشوء و الارتقاء و في تفاصيلها من الدقة و الخفاء ما يعلو على أفهام العامة،ثم إن أمرها بعد ذلك هين بإزاء ما يقصده القرآن من إنقاذ الإنسانية العاثرة و هداية الثقلين إلى سعادة الدنيا و الآخرة،فالقرآن كما أسلفنا في المبحث الأول كتاب هداية و إعجاز، و على هذا فلا يليق أن نتجاوز به حدود الهداية و الإعجاز حتى إذا ذكر فيه شيء من الكونيات فإنما ذلك للهداية و دلالة الخلق على الخالق،و لا يقصد القرآن مطلقا من ذكر هذه الكونيات أن يشرح حقيقة علمية في الهيئة و الفلك أو الطبيعة و الكيمياء،و لا أن يحل مسألة حسابية أو معادلة جبرية أو نظرية هندسية،و لا أن يزيد في علم الطب بابا و لا في علم التشريح فصلا،و لا أن يتحدث عن علم الحيوان أو النبات أو طبقات الأرض إلى غير ذلك...
ص: 137
و لكن بعض الباحثين طاب لهم أن يتوسّعوا في علوم القرآن و معارفه،فنظموا في سلكها ما بدا لهم من علوم الكون،و هم في ذلك مخطئون و مسرفون،و إن كانت نيتهم حسنة و شعورهم نبيلا،و لكن النية و الشعور مهما حسنا لا يسوغان أن يحكي الإنسان غير الواقع،و يحمل كتاب اللّه على ما ليس من وظيفته...إن وظيفته في هداية العالم أسمى وظيفة في الوجود،و مهمته في إنقاذ الإنسانية أعلى مهمة في الحياة،و ما العلوم الكونية بإزاء الهدايات القرآنية؟أ ليس العالم الآن يشقى بهذه العلوم و يخترب و ينتحر؟ ثم أ ليست العلوم الكونية هي التي ترمي الناس في هذه الأيام بالمنايا و تقذفهم بالحمم و تظهر لهم على أشكال مخيفة مزعجة من مدافع رشاشة و دبابات فتاكة و طائرات أزازة و قنابل مهلكة و غازات محرقة و مدمرات في البر و البحر و في الهواء و الماء؟و ما أشبه هذه العلوم للإنسان بعد تجرده من هدى اللّه و وحي السماء بالأنياب و المخالب للوحوش الضارية و السباع الواغلة في أديم الغبراء.
ثانيها:أن القرآن دعا إلى هذه العلوم ما دعا إليه من البحث و النظر و الانتفاع بما في الكون من نعم و عبر،قال اللّه سبحانه و تعالى: قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما تُغْنِي الْآياتُ وَ النُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (1)،و قال جل شأنه: وَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (2).
ثالثها:أن القرآن حين عرض لهذه الكونيات أشعرنا أنها مربوبة له تعالى و مقهورة لمراده،و نفى عنها ما علق بأذهان كثير من الضالين الذين توهموها آلهة و هي مألوهة و زعموها ذات تأثير و سلطان بينما هي خاضعة لقدرة اللّه و سلطانه...
رابعها:أن القرآن حين يعرض لآية كونية في معرضة من معارض الهداية،يتحدّث عنها حديث المحيط بعلوم الكون،الخبير بأسرار السموات و الأرض الذي لا تخفى عليه خافية في البر و البحر و لا في النجوم و الكواكب و لا في السحاب و الماء و لا في الإنسان و الحيوان و النبات و الجماد،و ذلك هو الذي بهر بعض المشتغلين بالعلوم الكونية و أوقع من أوقع منهم في الإسراف،و اعتبار هذه العلوم من علوم القرآن.
خامسها:أن الأسلوب الذي اختاره القرآن في التعبير عن آيات اللّه الكونية،أسلوب بارع جمع بين البيان و الإجمال في سمت واحد،بحيث يمر النظم القرآني الكريم على3.
ص: 138
سامعيه في كل جيل و قبيل فإذا هو واضح فيما سبق له من دلالة الإنسان و هدايته إلى اللّه،ثم إذا هو مجمل التفاصيل يختلف الخلق في معرفة تفاريعه و دقائقه باختلاف ما لديهم من مواهب و مسائل و علوم و فنون...) (1).
ثم يعقب قائلا:(و لا أحب أن نتوسع في هذا،فبين أيدينا أمثلة كثيرة و مؤلفات جمة تموج و تضطرب باستنباط علوم الكون من القرآن أو بتفسير القرآن و شرحه بعلوم الكون و أحداثها،فيما أعلم كتاب تحت الطبع الآن ألفه شاب فاضل مثقف و سماه بين القرآن و العلم و ضمنه شتيتا من الأبحاث المختلفة في الاجتماع و علم النفس و علم الوارثة و الزراعة و التغذية و فيما وراء الطبيعة،مما لا يتسع المقام لذكره،و مما لا نرى حاجة إليه خصوصا بعد أن تبين لنا أن العلوم الكونية خاضعة لطبيعة الجزر و المد،و أن أبحاثا كثيرة منها لا تزال قلقة حائرة بين إثبات و نفي،فما قاله علماء الهيئة بالأمس ينقضه علماء الهيئة اليوم،و ما قرره علماء الطبيعة في الماضي يقرر غيره علماء الطبيعة في الحاضر،و ما أثبته المؤرخون قديما ينفيه المؤرخون حديثا،و ما أنكره الماديون و أسرفوا في إنكاره باسم العلم أصبحوا يثبتونه و يسرفون في إثباته باسم العلم أيضا،إلى غير ذلك مما زعزع ثقتنا بما يسمونه العلم،و مما جعلنا لا نطمئن إلى كل ما قرروه باسم هذا العلم...ثم هل يليق بعد ذلك كله أن نحاكم القرآن إلى هذه العلوم المادية القلقة الحائرة،بينما القرآن هو تلك الحقائق الإلهية العلوية القارة الثابتة المتنزلة من أفق الحق الأعلى الذي يعلم السر و أخفى،ألا إن القرآن لا يفر من وجه العلم،و لكنه يهفو إلى العلم و يدعو إليه و يقيم بناءه عليه،فأثبتوا العلم أولا و وفروا له الثقة و حققوه ثم اطلبوه في القرآن،فإنكم لا شك يومئذ واجدوه،و ليس من الحكمة و لا الإنصاف في شيء أن نحاكم المعارف العليا إلى المعارف الدنيا،و لا أن نحبس القرآن في هذا القفص الضيق الذي انحبست فيه طائفة مخدوعة من البشر،بل الواجب أن نتحرّر من أغلال هذه المادة المظلمة،و أن نطير في سماوات القرآن حيث نستشرف المعارف النورانية المطلقة،و الحقائق الإلهية المشرقة...) (2).
يعتبر محمد رشيد رضا الناطق العام،و المدافع الأول عن أفكار شيخه محمد عبده،
ص: 139
لكننا نجده هنا يخالفه و يأخذ بالملامة على الذين يفسرون القرآن بالعلم،ففي مقدمة تفسيره يقول:
(كان من سوء حظ المسلمين أن أكثر ما يكتب في التفسير يشغل قارئه عن هذه المقاصد العالية،و الهداية السامية،فمنها ما يشغله عن القرآن بمباحث الإعراب و قواعد النحو،و نكت المعاني و مصطلحات البيان،و منها ما يصرفه عنه بجدل المتكلمين،و تخريجات الأصوليين،و استنباطات الفقهاء المقلدين،و تأويلات المتصوفين،و تعصب الفرق و المذاهب بعضها على بعض،و بعضها يلفته عنه بكثرة الروايات،و ما مزجت به من خرافات الإسرائيليات،و قد زاد الفخر الرازي،صارفا آخر عن القرآن هو ما يورده في تفسيره من العلوم الرياضية و الطبيعية،و غيرها من العلوم الحادثة في الملة على ما كانت في عهده كالهيئة الفلكية اليونانية و غيرها،و قلده بعض المعاصرين بإيراد مثل ذلك من علوم هذا العصر و فنونه الكثيرة الواسعة،فهو يذكر فيما يسميه تفسير الآية فصولا طويلة بمناسبة كلمة مفردة،كالسماء و الأرض من علوم الفلك و النبات و الحيوان تصد قارئها عما أنزل اللّه لأجله القرآن) (1).
هذا هو رأي المعارضين للإعجاز العلمي في القرآن الكريم،و سوف يتحدث المبحث القادم بعون اللّه عن أدلة الفريقين مع ذكر الترجيح.1.
ص: 140
استدل المؤيدون للتفسير العلمي بأدلة كثيرة نذكر منها:
1-الاستدلال بظاهر عموم بعض الآيات:
كبيانه تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ (1)و قوله سبحانه و تعالى: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ (2)و قوله تعالى: أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَ زَيَّنّاها وَ ما لَها مِنْ فُرُوجٍ (3)و قوله سبحانه: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (4)،و غير ذلك من الآيات الداعية إلى التفكر و التدبر في خلق اللّه عز شأنه.
2-الاستدلال بظاهر عموم بعض الأحاديث و الآثار:
كحديث أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال:«أنها ستكون فتنة»فقلت:ما المخرج منها يا رسول اللّه؟قال:«كتاب اللّه فيه نبأ ما قبلكم،و خبر ما بعدكم و حكم ما بينكم،و هو الفصل ليس بالهزل،من تركه من جبار قصمه اللّه،و من ابتغى الهدي في غيره أضله اللّه،و هو حبل اللّه المتين،و هو الذكر الحكيم و هو الصراط المستقيم،هو الذي لا يزيغ به الأهواء و لا تلتبس به الألسنة،و لا يشبع منه العلماء،و لا يخلق عن كثرة الرد،و لا تنقضي عجائبه،هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا:إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى
ص: 141
الرشد فآمنا به،من قال به صدق،و من عمل به أجر،و من حكم به عدل،و من دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم خذها إليك يا أعور» (1).
3-(و قالوا:إن اللّه سبحانه و تعالى ملأ كتابه من الاستدلال على العلم و القدرة و الحكمة بأحوال السموات و الأرض،و تعاقب الليل و النهار،و كيفية الضياء و الظلام، و أحوال الشمس و القمر و النجوم،و ذكر هذه الأمور في أكثر السور و كررها و أعادها مرة بعد أخرى،فلو لم يكن البحث عنها و التأمل في أحوالهم جائزا لما ملأ اللّه كتابه منها.
4-أن العلم الحديث قد يكون ضروريا لفهم بعض المعاني القرآنية،و ليس هناك ما يمنع من أن يكون فهم بعض الآيات فهما دقيقا متوقفا على تقدم بعض العلوم،فتكون الحقيقة العلمية من قواعد الترجيح في التفسير إذا كان للآية أكثر من معنى،فيتعين أن يؤخذ بالمعنى الذي تؤيده الحقائق العلمية.
5-تحقق فوائد كثيرة و منافع كبيرة من التفسير العلمي منها:
أ-إدراك وجوه جديدة للإعجاز في القرآن الكريم بإثبات التوافق بين حقائق القرآن الكريم و حقائق العلم.
ب-استمالة غير المسلمين إلى الإسلام و إقناعهم به ببيان إعجاز القرآن العلمي، و إقامة الحجة عليهم بذلك.
ج-امتلاء النفوس إيمانا بعظمة اللّه عز و جلّ و عظيم سلطانه و قدرته،بعد الوقوف على أسرار الكون التي كشفها القرآن) (2).
(و استدل المعارضون للتفسير العلمي بأدلة منها:
1-أن للتفسير شروطا و قيودا قررها العلماء ينبغي الالتزام بها،فلا يكون تفسير القرآن مباحا لكل من حصّل علما من العلوم و غابت عنه علوم أخرى لا بد منها للمفسر، و من ذلك عدم تحميل ألفاظ القرآن معان و إطلاقات لم توضع لها و لم تستعمل فيها.
ص: 142
2-أن القرآن الكريم كتاب هداية و إرشاد و ليس بكتاب تفصيل لمسائل العلوم و نظرياته و دقائق الاكتشافات و المعارف،و من طلب ذلك من القرآن فقد أساء فهم طبيعة هذا القرآن و وظيفته.
3-أن التفسير العلمي مدعاة إلى الزلل لدى أكثر الذين خاضوا فيه من المعارضين، لأن عملية التوفيق تفترض غالبا محاولة للجمع بين موقفين يتوهم أنهما متعاديان و لا عداء،أو يظن أنهما متلاقيان و لا لقاء.
4-أن تناول القرآن بهذا المنهج يضطر المفسر إلى مجاوزة الحدود التي تحتملها ألفاظ النص القرآني لأنه يحس بالضرورة متابعة العلم في مجالاته المختلفة،فيتعجّل تلمّس المطابقة بين القرآن و العلم تعجلا غير مشروع.
5-أن ما يكشف من علوم إنما هو نظريات و فروض قابلة دائما للتغير و التبديل و التعديل و النقض و الإضافة،بل قابلة لأن تنقلب رأسا على عقب و من ثم فلا يصح أن تعلّق الحقائق القرآنية النهائية بمثل تلك النظريات حتى نقف محرجين عند ثبوت بطلان تلك النظرية) (1).
هذه هي أدلة المؤيّدين و المعارضين،و من خلال ما ثار بين الفريقين من مدّ و جزر، و أخذ ورد،و نفي و إثبات،يتّضح لنا أن الجميع يريد أن يثبت أن القرآن الكريم هو كلام اللّه المنزّه عن النقص و التناقض،و أنه منزل من عند اللّه سبحانه و تعالى...
بعد التأمل في وجهة نظر الفريقين و الوقوف على ما أوجزنا من أدلتهم،يمكن لنا أن نخلص إلى نتيجة فنقول:دراسة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم لا تقتصر على الجانب البلاغي و البياني منه فهو تحدّى العرب إبان نزوله و هم أصحاب الفصاحة و فرسان البلاغة،و طالبهم بأن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا و فشلوا...و القرآن خاطب الإنسانية جمعاء لأنه منزّل عليها كلها على اختلاف الألسنة و اللغات،و أمرها بإعلان الدينونة و الولاء له،و لذلك كان لزاما أن نبرز جوانب الإعجاز في القرآن لكل البشر، و نوضح لهم أسرار القرآن في الكون و الحياة،و لكي يتحقق ذلك فإننا نرى أن اللّه قد وضع في القرآن آيات علمية كونية يتضح الإعجاز فيها في كل عصر من العصور...
ص: 143
و خلال عرضنا لنواحي الإعجاز في القرآن الكريم،ننبه إلى أن عملنا هذا لا يهدف إلى إبراز الحقائق العلمية الكونية،و من ثمّ للتدليل بها على إثبات مصداقية القرآن الكريم،و أنه تنزيل الحكيم العليم،فكتاب اللّه لا يدلل بشيء في الوجود على صحته، لأن كل حرف فيه ناطق على أنه منزل من لدن حكيم خبير،إنما سيكون عملنا شرحا و تفصيلا لآيات القرآن الكريم،فكما أن المفسرين القدامى فسروا القرآن على ضوء اللغة،أو ما أثر عن الرسول صلى اللّه عليه و سلم و أصحابه الكرام و التابعين،فكذلك نحن نفسر الآيات العلمية بما يتناسب معها و ينسجم مع منطوقها أعني الكشوفات العلمية،و هذا المنهج لا يلوي أعناق الآيات و يخضعها لحقائق العلم،و لا يحمّل النص القرآني ما لا يحتمل،و بالمقابل فإنه لا يحاول إقحام المعارف الكونية إقحاما قسريا لشرح آية من كتاب اللّه،معاذ اللّه،لا هذا و لا ذاك،إنما يعتمد هذا المنهج على وضوح الحقيقة العلمية و ثباتها و عند ما نقول:«ثباتها»أي إنها غير قابلة للتغيير أو التبديل،آنذاك نعرض من القرآن ما قد قرره في هذا الصدد و أثبته فتظهر المعجزة،من ذلك:حداثة الكون و خلقه،إنها حقيقة علمية غير قابلة للتبديل،فلم يعد هناك بعد الكشوفات العلمية أحد يقول بأزلية الكون،إن حداثة الكون أصبحت حقيقة واضحة قطعية،آنذاك و قبل ذلك ندلل على هذه الحقيقة بآيات القرآن الكريم التي يتحدث فيها الخالق على خلق الكون من العدم و إيجاده،و من ذلك دوران الأرض،و انشقاق القمر،و ارتباط وجود الماء بالجبال الشامخات...الخ،فكل هذه و غيرها كثير،حقائق ارتقت إلى مستوى القطعية و الثبات.
و أيضا فإن مما تجدر الإشارة إليه هنا هو أن القرآن الكريم كتاب هداية و نور،و ليس كتاب علوم كونية،فاللّه سبحانه و تعالى جعل الهداية التامة و الحق المبين بين دفّتي القرآن الكريم الذي أنزله ليخرج الناس به من الظلمات إلى النور،و من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد،و من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة،و من جور العباد إلى عدل الإسلام،و من وهدة الفجور و مستنقعات المعاصي إلى اليقين و الهدى،قال تعالى الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)و قال تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَ يُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ1.
ص: 144
اَلصّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (1) و قال اللّه تبارك و تعالى: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (2)فالله سبحانه و تعالى جعل القرآن الكريم نورا للقلوب و حياة للنفوس و ضبطا للسلوك و دستورا للمجتمعات،قال اللّه تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ (3).
و منهج الهداية الربانية في القرآن الكريم تبرز عند ما تتناول آياته المباركة نفس الإنسان بالتربية و التهذيب و التقويم و الإصلاح،و هذه الآيات التي تتحدث عن الوعد و الوعيد و الجنة و النار و الدنيا و الآخرة،و تلك التي تتحدث عن أخبار الأمم الغابرة، التي سادت ثم بادت بعد حين من الزمن،و أخرى تتحدّث عن قصة وجود الإنسان فوق رحب هذه الأرض و كيف أنه لا محالة صائر إلى الزوال و الفناء،و تلك التي تنظّم حياة الفرد و تقوم سلوكه و تضبط معاملاته بضوابط الشرع و أحكامه البينات...و منها ما فيه حديث عن ارتباط الأمة الإسلامية بغيرها من الأمم و الأسس التي ينبغي أن تسير وفقها الأمة الإسلامية في معاملاتها مع غيرها...و هكذا فإننا نجد أن القرآن الكريم حافل بموضوعات شتّى و متعددة كلها تصب في النهاية في بوتقة واحدة ألا و هي هداية الإنسان إلى الحق المبين.
لكن مع هذه الهداية في العقيدة و التشريع و الخلق و السلوك،نجد أن في القرآن الكريم صنفا آخر من أصناف الهداية،ألا و هو وجود آيات كونية و حقائق علمية وضعها الحق عز و جلّ في صفحات كتابه المجيد لتكون مؤشرا على عظمة الخالق و لتكون دليلا على أن هذا القرآن هو وحي السماء إلى الأرض و بذلك يزداد المؤمن إيمانا،و يتنبه غير المسلم إلى حقائقه العلمية التي سبقت ركاب العلم و أساطين المعرفة،فيخضع لسلطانها و ينقاد لصدقها فيعلن ولائه للّه سبحانه و تعالى،فالقرآن إذا ليس كتاب فلك و لا كتاب طب أو جيولوجيا...لا،إنما هو كتاب هداية و نور،و ما الحقائق العلمية في القرآن و الإشارات الكونية،إلا سبيلا من سبل الهداية،و مدخلا واسعا لرحاب الحق و رياض الإيمان.
و من أهم ما ينبغي أن يسترعي انتباهنا و نحن ندعو إلى اللّه في هذا الميدان،أن4.
ص: 145
التفسير العلمي للآيات الكونية في القرآن الكريم،إنما يخضع لتلك الضوابط و القيود التي نصّ عليها المفسرون و ستذكر فيما بعد.
و أعجب في هذا الصدد لمن يحاول إنكار قضية الإعجاز في القرآن أو السنة و يريد أن يحصر الإسلام في قضايا التشريع و المعاملات و الخلق...
و خلال التوصيف نقول لمثل هؤلاء الأحباب المخلصين:ثمة آيات كثيرة في كتاب اللّه نجانب الصواب إن لم نفسرها على أساس العلم،فعلى سبيل المثال،كيف لنا أن نفسّر قول اللّه تعالى: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (1).
لما ذا نرفض أن تفسّر هذه الآية طبق الواقع المناخي الذي يحدثنا بل و قد صوره لنا علماء المناخ و أرونا الجبال السائرة في كبد السماء«جبال البرد»و صوّروا لنا السحب الركامية و طبقاتها.
و كيف لنا أن نفسّر قول اللّه تعالى: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (2).
لقد أثبت العلم صور الأمواج السطحية و الأمواج الداخلية و اقتران هذه الأمواج بالبحار التي تلبّدت سماؤها بالغيوم الكثيفة...لما ذا لا نفسر هذه الآية بالمعطيات العلمية التي ارتقت إلى مستوى القطعية و المشاهدة و الرؤيا؟!و هكذا في سائر الآيات الكونية التي اتضحت حقائقها العلمية.
و يلفت النظر إلى أن الذين عارضوا تفسير القرآن على أساس العلم،لو سألنا أحدهم أو لو رجعنا إلى تفاسيرهم و نظرنا فيها كيف يفسرون الآيات التي تتحدث عن مظاهر الكون و الحياة و الإنسان؟لمعرفة ذلك نفتح تفسير«في ظلال القرآن»لشهيد الإسلام سيد قطب رحمه اللّه،فمما هو معلوم أن سيد قطب من المعارضين لقضية الإعجاز العلمي كما مر معنا،فلقد سلك منهجا في التفسير حاول فيه التحفظ و الابتعاد عن الإعجاز0.
ص: 146
العلمي في القرآن،لكننا نجده عند ما يفسر قول اللّه تعالى: فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً (1)نجده يقول ما نصه:(و هنا يقف الإنسان مدهوشا أمام ما كشف عنه القرآن من حقيقة في تكوين الجنين لم تعرف على وجه الدقة إلا أخيرا بعد تقدم علم الأجنة التشريحي،ذلك أن خلايا العظام غير خلايا اللحم،و قد ثبت أن خلايا العظام هي التي تتكون أولا في الجنين،و هي الحقيقة التي يسجلها النص القرآني فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً فسبحان العليم الخبير) (2).
و كم وبخ محمد رشيد رضا،-كما رأينا-الذين يؤيّدون الإعجاز العلمي،و لو رجعنا إلى تفسيره فلسوف نجده مولعا بتفسير الآيات تفسيرا علميا!.
ففي بيان الحق سبحانه تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ تَبارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (3)يقول:
(1-إن المادة التي خلقت منها السموات و الأرض كانت دخانا،أي مثل الدخان.
2-إن هذه المادة الدخانية كانت واحدة فتق اللّه رتقها،أي فصل بعضها من بعض، فخلق منها هذه الأرض و السموات السبع العلى.
3-إن خلق الأرض كان في يومين،و تكون اليابسة و الجبال الرواسي فيهما، و مصادر القوت،و هي أنواع النبات و الحيوان في يومين آخرين تتمة أربعة أيام.
4-إن جميع الأحياء النباتية و الحيوانية خلقت من الماء.
فيعلم من هذا أن اليوم الأول من أيام خلق الأرض هو الزمن الذي كانت فيه كالدخان حين فتقت من رتق المادة العامة التي خلق منها كل شيء مباشرة،أو غير مباشرة،و إن اليوم الثاني هو الزمن الذي كانت فيه مائية بعد أن كانت بخارية أو دخانية، و إن اليوم الثالث هو الزمن الذي تكونت فيه اليابسة،و نتأت منها الرواسي فتماسكت بها،و إن اليوم الرابع هو الزمن الذي ظهرت فيه أجناس الأحياء من الماء و هي النبات و الحيوان،فهذه أزمنة الأطوار من الخلق قد تكون متداخلة و أما السماء العامة،و هي4.
ص: 147
العالم العلوي بالنسبة إلى أهل الأرض فقد سوى أجرامها من مادتها الدخانية في يومين أي:زمنين كالزمنين اللذين خلق منهما جرم الأرض.
ثم يقول:هذا التفصيل الذي يؤخذ من مجموع الآيات يتفق مع المختار عند علماء الكون في هذا العصر،من أن المادة التي خلقت منها هذه الأجرام السماوية،و هذه الأرض كانت كالدخان و يسمونها«السديم» (1)و كانت مادة واحدة رتقا،ثم انفصل بعضها عن بعض،و يصورون ذلك تصويرا مستنبطا مما عرفوا من سنن الخلق،إذا صح كان بيانا لما أجمل في الآيات،و إذا لم يصح كله أو بعضه لم يكن ناقصا لشيء منها، فهم يقولون:إن تلك المادة السديمية كانت مؤلفة من أجزاء دقيقة متحركة،و أنها قد تجمع بعضها،و انجذب إلى بعض،بمقتضى سنة الجاذبية العامة،فكان منها كرة عظيمة تدور على محور نفسها،و أن شدة الحركة أحدثت فيها اشتعالا فكانت ضياء، أي نورا ذا حرارة،و هذه الكرة الأولى من عالمنا هي التي نسميها الشمس،و يقولون أيضا:إن الكواكب الدراري التابعة لهذه الشمس فيما نشاهد من نظام عالمنا هذا قد انفتقت من رتقها،و انفصلت من جرمها و صارت تدور على محاورها مثلها،و منها أرضنا هذه فقد كانت مشتعلة مثلها...و بعد استطراد في ذكر المسائل العلمية يختم كلامه قائلا:كل ذلك تفصيل لخلق العوالم أطوارا بسنن ثابتة و تقدير منظم لم يكن منه شيء جزافا،و قد أرشد الكتاب الحكيم إلى هذه الحقائق العامة الثابتة في نفسها و إن لم يثبت كل ما قالوه من فروعها و مسائلها) (2).
إذا،يتحتّم على الإنسان عند تفسيره لآية كونية أن يفسرها حسب ما يقتضيه حالها، و الجو القرآني الذي سيقت فيه،و إلا فسيكون تفسيرها بعيدا عن هدفها و مقصدها...
إن هذه اللغة،لغة العلم هي الرابط المشترك بين الناس جميعا،فلا يستطيع أحد أن ينكرها،و من أجل تحقيق أهداف الدعوة و نجاحها كان لا بد أن نسلك منهج العلم في زمن العلم،و نخاطب الناس باللغة التي يفهمون و اللهجة التي يعرفون...7.
ص: 148
و إلى هنا نأتي إلى نهاية الحديث عن الإعجاز القرآني في دراسته التاريخية،و لسوف تكون الفصول القادمة مركزة على التطبيقات المعاصرة للإعجاز العلمي في القرآن الكريم.
ص: 149
ص: 150
تمهيد.
المبحث الأول:بين الإسلام و العلم.
المبحث الثاني:مولد الكون و نشأته بين العلم و القرآن.
المبحث الثالث:تمدّد الكون و توسعه بين العلم و القرآن.
المبحث الرابع:نهاية الكون و فناؤه بين العلم و القرآن.
ص: 151
ص: 152
من أجلّ ما أقرّ به القاصي و الداني،أن الإسلام دين يحترم العلم و يدعو إليه،بل يفرض على معتنقيه أن يتزوّدوا من العلوم النافعة التي تؤهلهم للكشف عن أسرار الكون و الحياة،و الاستفادة من خيرات الأرض و ما حوت،و ذلك بدراسة العلوم الكونية،فضلا عن العلوم الشرعية التي تنور لهم سبل حياتهم الدنيوية و الأخروية، و لذلك كان لزاما على أبناء الأمة أن يعرضوا الإسلام بصورته المضيئة التي تؤكد على وجود مؤشرات قرآنية واضحة،تنسجم مع حقائق العلم القطعية التي يكتشفها العلماء، حتى يتبين للجميع أن ديننا يدعم مواكبة المستجدات و يؤكدها،طبعا بشروط و ضوابط سترد في ثنايا هذا الفصل.
كما ستتناول مباحث هذا الفصل الحديث عن تضافر أبحاث علماء الفلك و دراساتهم،حول نشأة الكون و مولده،و حول توسعه و نهايته،و ما أفرزته هذه الدراسات من المؤلفات سواء في القديم أو في الحديث،و لسنا بصدد استعراض الأفكار التي كانت سائدة لدى الأقوام الغابرة و نظرتهم للكون و الحياة،و ما شاع بينهم من أساطير حول الكون و ما حوى،و تشخيص ذلك من خلال مقاييس العلم و موازينه، و لا بتفنيد ظاهرة التنجيم التي قد امتدّ سلطانها يومذاك على تلك الشعوب و خاصة الوثنية منها،التي كانت تدين بالولاء و الخضوع للكواكب و النجوم،و تربط عقيدتها و مصيرها ارتباطا وثيقا بالأجرام السماوية...كذلك لن نتعرض إلى المجهود القيّم الذي بذله علماء الفلك في العصور الوسطى دراسة أو نقدا و تعقيبا،إنما سنحاول الخوض في علوم الفلك المعاصرة التي تطوّرت تطورا هائلا حتى فاقت معداتها و وسائلها و الاهتمام بها كل ميادين الحياة و مرافق العلم.
و لنبدأ الحديث عن مولد الكون و منشئه من خلال الآيات القرآنية الكثيرة،التي تضافرت ألفاظها و معانيها لترسم لنا الصورة الكونية الأولى،ثم نصغي إلى أقوال
ص: 153
المفسرين حول هذه الآيات،و إلى دلالات الكلمات القرآنية و أبعادها من خلال المعاجم،و من ثم نرى ما ذا يطالعنا أصحاب العلوم الفلكية البحتة عن المادة الأولى التي تشكل منها كوننا الواسع الرحيب؟و ما ذا يحدثنا من امتدت أروقة علومهم في آفاق السماء الشاسعة،و على التحديد أولئك الذين يكتشفون أسرار الكون،و تتكشف لهم حقائقه يوما بعد يوم؟كما سيبين هذا الفصل موضوع انتشار الكون و توسعه،و عن نهايته و فنائه بين معطيات القرآن و حقائق العلم،ثم نقف على التوفيق و الربط بين الإشارة القرآنية التي أصّلت الحقيقة المدروسة و سجلتها في صفحات القرآن الكريم،لتكون بذلك سابقة لأساطين العلم و المعرفة منذ أكثر من أربعة عشر قرنا.
إن القراءة الدقيقة في كتب علماء الفلك هؤلاء تظهر كيف تحدثنا أقلامهم،و تخط في صفحات كتبهم عظمة اللّه في خلقه و كونه،و الدقة البالغة في انسجام الكون و تناسق أجرامه،و النظام الباهر الذي سطع إماضه،و تألّق في ملكوت اللّه،بعد جولة في صفحات القرآن الكريم.
ص: 154
بين الإسلام و العلم
و يتناول في هذا المبحث ثلاثة قضايا و هي:
إن مما تميز به الإسلام عن غيره من الشرائع السماوية،أنه توج رسالته بالعلم، و أول كلمة نزلت من السماء إلى الأرض و على قلب النبي الكريم محمد بن عبد اللّه هي كلمة اِقْرَأْ (1)،فكانت تاجا وضعه الحق تبارك و تعالى فوق رأس هذه الأمة،فكان الإسلام بهذا مفرق الطريق،أو مفصلا في تاريخ الإنسانية،لظاهرة العلم التي برزت فيه و حركة النشاط الفكري التي دفعت المجتمع البشري الذي نزل فيه الإسلام إلى الأمام فضلا عن مزاياه الأخرى المتعددة.
و المعيار الدقيق لكمال الإنسان أو نقصانه،بيّنه الحق عز و جلّ بقوله: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (2)،و أولى القرآن الكريم العلم و أهله مكانة سامية بقوله: يَرْفَعِ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ (3).
غير أن الحق تبارك و تعالى وضع تصورا دقيقا و أساسا واضحا ينهض عليه العلم و تشاد عليه ركائزه،و أول هذه الركائز،التدبر في معرفة العلم الذي ستأخذه و ذلك عند ما قال وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (4)و الاقتفاء هو التتبع و ما من أدوات الشمول و العموم،أي عموم ما لم تعلم حقيقته و تدرك كنهه و تتبصر فيه الغث من السمين لا تتبعه،و ما ذلك إلا لأن
ص: 155
الأدوات التي تتحصّل من خلالها على العلوم و المعارف ستسأل عنها يوم القيامة،كما قال تعالى: إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً و منهج القرآن متفرد في هذا الصدد،لأنه يحث الناس على اقتفاء العلم النافع و هجر ما لا ينفع،و من هنا كان يقول النبي الكريم صلى اللّه عليه و سلم:«اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع» (1).
و إذا كان الأمر كذلك،فإن الحق عز و جلّ لا يقبل إيمان عبد قد اكتسبه بوسيلة المحاكاة و التقليد للآباء و الأجداد،دون إدراك حقيقة الإيمان الذي ينبع من معين العلم و العقل و الطاقة المبصرة النيرة و الولاء المطلق لرسالة الإسلام،قال تعالى: وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ (2).
بل إن القرآن قد جعل الإيمان ثمرة من ثمرات العلم الحق،لأن الأصل في الطريق إلى اللّه و إلى الإيمان هو العلم،قال تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللّهُ (3)فالعلم قد تقدم على التوحيد،لأن صاحب العلم الحق يقوده علمه إلى مراتع الإيمان و رياض التوحيد،أما العلم الذي يجعل صاحبه خاضعا لنزوات الحمأ المسنون لديه،و عقله تبعا لعصبياته و أهوائه،فإنه يوم القيامة من النادمين الذين يقرون و يعترفون أن بعدهم عن الإيمان في الدنيا ما كان إلا لأنهم ما عقلوا سر الحياة و ما أدركوا قصة وجودهم في الكون،و بالتالي غابت عنهم حقيقة العبودية للّه عز و جلّ،فأصبحوا أشبه ما يكونوا بالمجانين و في ذلك يحكي القرآن عن هؤلاء فيقول سبحانه: وَ قالُوا لَوْ كُنّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (4)نعم لو أنهم سمعوا الهدى و انقادوا لمستلزماته،و أعملوا عقولهم و فكروا فيها لما تخبّطوا في أوحال الشرك و دياجير الظلام.
يقول ابن القيم:(إن كل ما سوى اللّه مفتقر إلى العلم،و لا قوام له بدونه،فإن الوجود وجودان وجود الخلق و وجود الأمر.
و الخلق و الأمر مصدرهما علم الرب و حكمته،فكل ما ضمّه الوجود من خلقه و أمره0.
ص: 156
صادر عن علمه و حكمته،فما قامت السموات و الأرض و ما بينهما إلا بالعلم،و لا بعثت الرسل و أنزلت الكتب إلا بالعلم،و لا عبد اللّه وحده و حمد و أثني عليه و مجّد إلا بالعلم،و لا عرف الحلال من الحرام إلا بالعلم،و لا عرف فضل الإسلام على غيره إلا بالعلم) (1).
و من دأب القرآن الكريم أنه يربي المسلم و ينبه كل الناس على دوام التفكير،و التبصر في هذه المكونات التي زجّ الإنسان في داخلها،فإذا ما حدّق الإنسان البصر و أجال النظر في هذه المخلوقات و رأى الإبداع في خلقها،و الدقة في تناسقها،و التساوق في ارتباطها،فإنه بلا أدنى شك سينطق بلسان حاله و مقاله: رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النّارِ (2).
و لما انقاد الرعيل الأول سلفنا الصالح لمقتضيات هذه الآيات،حفزهم إيمانهم بالله للعلم و التعليم و العمل بما يتعلمون،و لذلك تجد في تاريخ الإسلام المجيد قد برز كبار العلماء في الكونيات و الطبيعة من علماء المسلمين و الفقهاء،و قدم هؤلاء للإنسانية العلوم النافعة في الطب و الهندسة و الفيزياء و الكيمياء و الرياضيات و الفلك...و العالم في الغرب و الشرق يعترف بفضلهم و ما قدموه كان سببا في نهضة الغرب و حضارته.
(و قد أثبت التقدم الفكري الحديث أن القرآن الكريم كتاب دعا إلى العلم دعوته إلى الدين،و أنه دعا صراحة إلى دراسة مختلف العلوم،و أنه حوى أصول هذه الدراسات في مختلف قطاعات العلم و يبلغ عدد الآيات العلمية في القرآن الكريم ما يقرب على 750 آية تشمل مختلف العلوم) (3).
(دين كهذا يكرم العلم و يحض على التعلم و يدعو إلى معرفة الخالق عن طريق معرفة مخلوقاته كيف وجدت و كيف نشأت،لهو الصراط السوي حيث لا لبس و لا غموض بل دراسة و تعلم و بحث و تفكير...ثم يقول:و منه يتضح أن الدين الإسلامي و العلم توأمان،و أن الدين لا يقف عقبة في سبيل العلم بل يدعو إليه و يعتمد عليه،و يشجع على6.
ص: 157
البحث،و يرغب في التعلم،بل و يجعل العلم هو الوسيلة الوحيدة لمعرفة اللّه سبحانه و تعالى،و الوقوف على عظمته و قدرته) (1).
ثم إن جمال الإسلام يكمن في أنه حث على العلم الذي ينفع البشرية،بغض النظر عن المعتقدات و الأديان،و هذه الحقيقة التي نفتخر بها،قد ذابت عند الغربيين و اضمحلت،ذلك أن ما توصلوا إليه من طغيان مادي و علم طبيعي أردى في كثير من الأحيان بالبشرية إلى الخراب،فقد اخترع لهم علمهم القنابل النووية و الراجمات و الطائرات القاصفة و المدرعات و الدبابات،فكانت أداة للتدمير و التشريد و التقتيل و سفك الدماء البريئة،و هدم البنيان،فأصبح الطفل يقتل و هو رضيع في حضن أمه و العجوز يذبح و أعين أولاده ترمقه،و مدن بأكملها تشطب معالمها من ساحة الوجود؟!.
إن سبل الدعوة إلى اللّه متعددة و متنوعة،و سبب هذا التعدد أن لكل مقام مقالا ينسجم معه و يتوافق مع الجو الذي يجب أن تحقق فيه الدعوة أهدافها.
و يظهر هذا الذي نقول من خلال المناهج التي سلكها الدعاة من رسل و غيرهم، عند ما قاموا بإعلان دعوة الحق و دحض الباطل و الضلال،و لقد سجّلها القرآن الكريم في صفحاته لتكون الأسوة التي تحتذى،و القدوة التي يسير وفق برنامجها كل من باع نفسه للّه و لدين اللّه.
و لقد أيّد الحق تبارك و تعالى الرسل و الأنبياء بالدلائل و البيانات التي تثبت صدق دعوتهم و أنهم مبعوثون من عند اللّه،كما أن هذه البيانات تنسجم مع البيئة و المحيط الذي ظهرت فيه،و هي تتناسب مع المستوى العقلي و العلمي لدى القوم الذين خوطبوا بها،قال اللّه تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ (2)،فبينة موسى كانت من جنس ما قد انتشر في قومه ألا و هو السحر،و بينة عيسى إبراء الأكمه و الأبرص و إحياء الموتى بإذن اللّه،و ذلك لأن الطب كان من أبرز ما اشتهر به قوم عيسى عليه السّلام،فأثبت موسى صدق رسالته بمعجزته العصا،لما أبطل عمل السحرة،و أثبت عيسى صدق رسالته لمّا أحيا
ص: 158
الموتى بإذن اللّه،و هذا ما عجز عنه قومه،إلا أن تلك المعجزات المادية كانت حياتها مرتبطة بحياة أصحابها من الأنبياء،فلما رحل الأنبياء إلى دار القرار،ذهب وجه الإعجاز لتلك البينات من حيز الواقع المشاهد و المرئي،و لم يبق منها إلا النقول و الأخبار عبر كتب السماء.
و يأذن الخالق جل جلاله بظهور المعجزة الخالدة القرآن الكريم،المعجزة المتجددة عبر الزمان،فلكل جيل من الأجيال نصيب وافر منها،و مهما تطورت العلوم المادية و تجددت الاكتشافات العصرية،فإن إعجاز القرآن الكريم مواكب لهذه المستجدات، مبين أنه قد تحدث عن بعض حقائقها وقت نزوله و لم يكن أحد قد أدركها بعد.
(و نظرا لكون عصرنا الحاضر هو عصر العلم و(التكنولوجيا)،و أن لغة العصر الحالي هي لغة العلم،و لكون القرآن الكريم هو كتاب هداية للناس كافة،و ليس مقتصرا على العرب فقط أو الناطقين باللغة العربية الذين يفهمون إعجازه اللغوي و البلاغي، فأصبح من اللازم على المسلمين إظهار أوجه إعجازه المتعددة الأخرى،و خاصة البرهان العلمي الذي أصبح أكثر وضوحا في الوقت الحاضر نتيجة التقدم الحاصل في العلم و«التكنولوجيا») (1).
كما أن(تقديم الخطوط العريضة لشريعة الحياة من أجل الإنسان،و ما ينضحان به أحيانا من بوارق من الإعجاز العلمي الباهر المتجدّد تجدد الحضارة و الإنسان هي عطايا من اللطيف الخبير لتطمئن به نفوس المؤمنين و لترعوى نفوس المشككين، و ليتراجع عن غيّهم السادرون،و ليتقاصر غرور المفتونين بنتائج العلم الحديث...
فالإعجاز القرآني بكل أنواعه،و لا سيما العلمي منه،بوابة كبيرة مشرعة الأبواب لكل من يبصر الطريق العلمي القرآني لولوج تلك الأبواب) (2).
إننا دخلنا في القرن الواحد و العشرين،و نحن أمام إرث علمي هائل قد خلّفه لنا القرن الراحل فلقد ترك لنا ثروة علمية أو ثورة علمية عجيبة مدهشة،فهلاّ جعلنا تدريس1.
ص: 159
الإعجاز العلمي في القرآن الكريم سبيلا من سبل الدعوة إلى اللّه،لا بل من أهم ما ينبغي أن يدرّس و يركز عليه.
إن الآيات الكونية و العلمية في القرآن الكريم تنادينا و تستنهض هممنا و تقول لنا:يا أتباع محمد أنا المعجزة المادية العلمية في عصر المادة،فلئن كان أجدادكم العرب و هم أصحاب الفصاحة و فرسان البلاغة قد ذهلوا عند سماعهم القرآن الكريم لما انطوى عليه من بلاغة و بيان و دقة،فخضعوا لسلطانه و استسلم أكثرهم لأوامره،فمتى يا مسلمون تبينون الجانب الكوني و العلمي في آيات القرآن؟.
فإلى كل داع إلى اللّه،و إلى كل داعية إلى الحق المبين،أن تكون دعوته قائمة على دعائم و ركائز العلم و المعرفة،و أن يبرز الحقائق العلمية التي قد سجلها القرآن و سبق أصحاب العلوم الذين يدعون أنهم هم أول من اكتشفها و تحدث عنها،عساهم أن ينصاعوا إلى الحق و الإيمان.
إن المسئولية تقع على عاتق كل مسلم دون استثناء،و أخص منهم العلماء و الحكام، الذين ملكوا زمام أمور المسلمين،و أقول لهم:يا قادتنا إن أصحاب الباطل يروّجون لباطلهم في الليل و النهار و كبار رؤساء الدول الغربية يدعمون حملات التنصير و الاستشراق دعما باهظا لترويج بضاعة الصليبيين و أباطيل الماسونيين...فهلاّ قمتم يا حكام العرب و المسلمين بتجهيز الدعاة إلى اللّه و إلى الحق،لعرض أوجه الإعجاز العلمي في القرآن على أساطين العلوم في الغرب،و أن تعلنوا للغرب أن الإسلام ليس دين إرهاب و سفك للدماء،إنما هو دين العلم،دين متابعة التكشفات العلمية و المستجدات العصرية لتقيموا الحجة و تثبتوا المعجزة؟
إذا كان أصحاب الباطل يدعون لباطلهم،فلما ذا نستحي من دعوتنا إلى الحق؟.
إذا كانت وسائل الإعلام غربا قد شوّهت صورة الإسلام،و أقنعت أبناءها هناك أن المسلمين ما تخلفوا إلا بالإسلام،لأنه دين الحرب و التقتيل و الدمار،فأصبح الغربيون يعرضون عن الإسلام إعراض المشمئز الكاره له،فلما ذا لا نقوم بتصحيح هذه الأفكار المغلوطة،و نبين لهم وجه الحق و الصواب؟إذا كنا نحن ضعفاء بمقومات حياتنا المادية،و بصناعاتنا و إنتاجاتنا المحلية،و كنا شعبا مستهلكا لما يصدره لنا الغرب في شتى جوانب الحياة،فإننا بحمد اللّه أقوياء في عقيدتنا،أقوياء في علومنا و معارفنا لكن هل من مبلّغ؟.
ص: 160
إن توجّه الدعاة بهذه البضاعة النضرة المتألقة يعني فتحا و انتصارا،و إن كل داعية متسلح بهذه العلوم هو خير من الأسلحة الثقيلة و أقوى من الصواريخ و الدبابات، و عرضنا لهذه الحقائق نبتغي من ورائه هداية الناس خاصة أولئك الذين توغّلوا في المادة فنسوا اللّه و الدار الآخرة،و هدايتهم تعني إحياءهم و بث روح الإيمان في قلوبهم و عقولهم،فالإسلام هو دين الحياة.
وضع العلماء قيودا و ضوابط لتفسير القرآن على أساس العلوم العصرية و هي:
البعد في تفسيرنا عن الفرضيات و التخمين و النظريات،لأن الفرضيات هي آراء يحاول أصحابها من الباحثين تفسير ظاهرة شاهدوها في مجال الطبيعيات و الكونيات و في شتّى الميادين و كما هو معلوم أن أي فرض علمي قابل للصحة و البطلان أو التعديل،و الحكم في ذلك هو التجربة و الواقع و إذا ما انتقل الفرض إلى حيز النظرية فإنه لا يزال كذلك قابلا للأخذ و الرد،لكن عند ما يرقى إلى مستوى الحقيقة العلمية و صعيد اليقين الجازم يومذاك يكون تفسيرا قويا لآيات القرآن الكريم،و نحن لا نجيز تفسير الآيات بالنظريات و الفرضيات،بل الدعامة العلمية التي ننهض عليها هي تفسير القرآن بحقائق العلم القطعية،و ذلك توصيدا لباب الشك و الريب هنا،فكم من نظرية ذاع صيتها و راجت بين الناس ثم أهيل عليها التراب فيما بعد و طويت في صفحات الزمن المنسي و أصبحت من الوهميات.
يقول الدكتور يوسف القرضاوي:(أن نستخدم من نتائج العلوم ما استقر عند أهله، و غدا حقيقة علمية يرجع إليها،و يعوّل عليها،و لا نعوّل على الفرضيات و النظريات التي لم تثبت دعائمها حتى لا نعرض فهمنا للقرآن للتقلب مع هذه الفرضيات،فليكن اعتمادنا على الحقائق المقررة،و لا يقال:إن العلم ليس فيه حقائق ثابتة إلى الأبد، فكم من قضايا علمية كانت يوما ما بل ظلت قرونا و قرونا حقائق مقدسة،ثم ذهبت قدسيتها العلمية،و أثبت التطور العلمي عكسها،و هذا صحيح و معروف،و لكن حسبنا الثبات النسبي للحقائق،فهذا هو الذي في مقدورنا بوصفنا بشرا،و قد قيل في تعريف التفسير هو:بيان المراد من كلام اللّه بقدر الطاقة البشرية) (1).
ص: 161
و تجدر الإشارة هنا إلى أنه لا تعارض بين نصوص القرآن و الحقائق العلمية،فإنه من المستحيل أن يتعارض نص قرآني قطعي الدلالة مع حقيقة علمية،لأن القرآن حق، و الحقيقة العلمية حق و كلاهما مصدرهما واحد و هو الحق تبارك و تعالى القائل: أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (1).
(و يستحيل التصادم بين الحقائق القرآنية و بين الحقائق العلمية لأنهما من مشكاة واحدة،و ينبغي أن يكون من المسلّمات في أذهاننا أن الحقائق القرآنية المتعلقة بأيّ جانب من جوانب الكون أو الإنسان و الحيوان و النبات إذا كانت قطعية الدلالة لا يمكن أن تصادمها حقيقة علمية توصل الجهد البشري إليها بناء على جهود المختصين خلال التاريخ الحضاري للبشرية) (2).
(إن الحقيقة العلمية إن لم يكن في القرآن ما يؤيدها فليس فيه قطعا ما يعارضها،نعم قد يكون هناك خلاف بين القرآن و بين بعض النظريات العلمية التي لم تبحث و لم تدرس بعد دراسة كاملة و على ذلك فمن أراد أن يفهم من القرآن مبدءا علميا فعليه أن يتخصص في ذلك العلم و يدرسه دراسة كاملة مستوفية،ثم بعد ذلك يأتي للقرآن فيجده قد سبق البحث الحديث و الحقائق العلمية و أتى بالحقائق الرائعة التي لا تقبل شكا و لا جدلا، لأنه تنزيل الذي يعلم السر في السموات و الأرض سبحانه) (3).
بحيث يكون تفسيرنا للآيات القرآنية خاضعا لدلالات اللغة العربية و قواعدها،و علم الصرف و أصول الاشتقاق،بالإضافة إلى علم البلاغة و أصول الفقه.
(و أن يكون الباحث ملتزما بالمعاني اللغوية في اللغة العربية للآيات التي يريد إيضاح إشاراتها العلمية،لأن القرآن عربي،كما أنه ينبغي أن يراعي التأليف بين الآيات و تناسبها و مؤاخاتها،فيربط بينها لتكون وحدة موضوعية متكاملة) (4).
ص: 162
العالم الذي زوده اللّه بالعلوم الشرعية أو الكونية،مهما ارتقى في سلم المعرفة و الاستنباط فينبغي أن يعلم أن هناك حدودا ينبغي أن يقف عندها،و أن الإحاطة بمراد كلام اللّه بشكل مطلق أمر محال فالباحث في هذا الميدان يحاول توأمة الحقيقة العلمية القاطعة بالآية القرآنية بوجه من الوجوه المترجمة و لا يكون جازما بأن مراد اللّه هذا الذي وصل إليه.
(و عند إحاطتنا بالدلالات اللغوية الحقيقية و المجازية و استعمالات العرب لها،إن وجدنا أن حقيقة علمية تؤيد إحدى هذه الدلالات،لا بأس عندئذ أن نرجح الدلالة التي أيدتها الحقيقة العلمية على أن لا نحكم بالبطلان و الفساد على الدلالات الأخرى للكلمة من جهة،و أن لا نحصر معنى الآية على الدلالة التي رجّحناها من جهة أخرى، فقد تكون الحقيقة العلمية التي رجحنا على ضوئها هذه الدلالة إحدى وجوه دلالات الآية،و ظلالها ممتدة إلى حقائق أخرى لم نتمكن من التوصل إليها حسب ثقافة عصرنا،إلا أن العلمي و الحضاري كفيل أن يميط اللثام لنا عن جوانب أخرى،فمثلا قوله تعالى: بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (1)كان إلى ما يقرب من مائة سنة ينظر إلى دلالة تسوية البنان نظرة تختلف عن نظرتنا لها الآن بعد معرفة قضية البصمات،إلا أننا لا نبطل كلام السلف في معنى الآية،فالآية تدل على ما قالوه و ما فهموه...و إن كان فهمنا الآن لدلالة الآية على ضوء معطيات العلم الحديث أعمق و أدل،و كذلك فإن شعورنا في صنعة كلام الخالق سبحانه و تعالى و حكمته سليم و صحيح،و مع ذلك فإننا لا نستطيع أن نقول:إن معنى الآية هو هذا فحسب،و ليس بعد فهمنا لها فهم آخر،بل قد يكشف لنا المستقبل عن أسرار إلهية في البنان فوق ما تصورناه و وصلت إليه مداركنا العصرية،و تبقى الآية الكريمة مجال بحث الباحثين،و استنباط المفكرين،و بصمة إعجاز على جبين العصور) (2).
من الأهمية بمكان أن يكون المتحدث في قضايا الإعجاز من أهل الاختصاص، بحيث يكون متمكّنا من العلوم الشرعية و اللغوية،و كذلك متمكنا بأساسيات و أبجدية
ص: 163
العلوم الكونية و الطبيعية التي يفسر بها النصوص القرآنية،أو يكون معتمدا فيما يطرحه على مختصين في كلا الميدانين،لكي لا يقع في الزلل و التأرجح،و بسبب عدم الالتزام بهذا القيد فإن كثيرا ممن كتب و تحدث في قضايا الإعجاز قد تعسف في تفسيره للنص القرآني،مما أدى للخروج عن مدلول النص و معناه،كما أنه يأتي بالحقيقة العلمية لكن بشكل معكوس لأنه غير مختص في هذا المجال،مما دفع كثيرا من العلماء أن ينادوا بمنع هذا النمط من التفسير.
و أيضا فإن مما تجدر الإشارة إليه أن القرآن الكريم كتاب هداية و نور،و ليس كتاب علوم كونية فحسب فالحق سبحانه و تعالى جعل الهداية التامة و الحق المبين بين دفّتي القرآن الكريم الذي أنزله ليخرج الناس به من الظلمات إلى النور،و من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد،و من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة و من جور الأديان إلى عدل الإسلام،و من وهدة الفجور و مستنقعات المعاصي إلى اليقين و الهدى،قال تعالى:
الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) و قال تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَ يُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (2)فالله عز و جلّ جعل القرآن الكريم نورا للقلوب و حياة للنفوس و ضبطا للسلوك و دستورا للمجتمعات،قال اللّه تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ (3).
و منهج الهداية الربانية في القرآن الكريم تبرز عند ما تتناول آياته المباركة نفس الإنسان بالتربية و التهذيب و التقويم و الإصلاح،و هذه الآيات التي تتحدّث عن الوعد و الوعيد و الجنة و النار و الدنيا و الآخرة،و تلك التي تتحدّث عن أخبار الأمم الغابرة، التي سادت ثم بادت بعد حين من الزمن،و أخرى تتحدث عن قصة وجود الإنسان فوق رحب هذه الأرض و كيف أنه لا محالة صائر إلى الزوال و الفناء،و تلك التي تنظم حياة الفرد و تقوم سلوكه و تضبط معاملاته بضوابط الشرع و أحكامه البينات...و منها ما فيه حديث عن ارتباط الأمة الإسلامية بغيرها من الأمم و الأسس التي ينبغي أن تسير وفقها
ص: 164
الأمة الإسلامية في معاملاتها مع غيرها...و هكذا فإننا نجد أن القرآن الكريم حافل بموضوعات شتى و متعدّدة،كلها تصب في النهاية في بوتقة واحدة ألا و هي هداية الإنسان إلى الحق المبين،لكن مع هذه الهداية في العقيدة و التشريع و الخلق و السلوك، نجد أن في القرآن الكريم صنفا آخر من أصناف الهداية،ألا و هو وجود آيات كونية و حقائق علمية وضعها الحق جل جلاله في صفحات كتابه المجيد لتكون مؤشرا على عظمة الخالق و لتكون دليلا على أن هذا القرآن هو وحي السماء إلى الأرض و بذلك يزداد المؤمن إيمانا،و يتنبه غير المسلم إلى حقائقه العلمية التي سبقت ركاب العلم و أساطين المعرفة،فيخضع لسلطانها و ينقاد لصدقها فيعلن ولائه للّه سبحانه و تعالى،فالقرآن إذا ليس كتاب فلك و لا كتاب طب أو(جيولوجيا)...لا،إنما هو كتاب هداية و نور،و ما الحقائق العلمية و الاشارات الكونية إلا سبيلا من سبل الهداية،و مدخلا واسعا لرحاب الحق و رياض الإيمان.
ص: 165
مولد الكون و نشأته بين القرآن و العلم
الآيات التي تتحدّث عن خلق الكون،و ما بث في تضاعيفه من مكونات و مخلوقات كثيرة جدا كما أن هناك عددا ليس بالقليل من هذه الآيات تسترعي انتباه الناس،و تدعوهم إلى التفكير و التأمل في خلق السموات و الأرض،و الدافع الحقيقي لهذا التأمل هو التعرف على عظم هذه المخلوقات و أسرار خلقها،و عجائب تكوينها، و بالتالي الوقوف على عظمة الخالق،و روعة إبداعه في صنعه و خلقه يقول تعالى:
أَ وَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ (1) و بقوله سبحانه و تعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2)و يقول تعالى: قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما تُغْنِي الْآياتُ وَ النُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (3).
هذه الآيات و غيرها تأمرنا أن نستخدم مدركاتنا،و وسائل الإدراك و النظر التي هي امتداد لمدركاتنا،و ما منحنا اللّه من مستجدات تقنية و علمية لنتعرف على قضية الخلق، و مراحل الخلق و كيف بدأ الخلق و ما تنطوي عليه السموات و الأرض من عجائب الخلق و التدبير،و السبيل الأوحد إلى ذلك هو ما أشار إليه الحق قُلِ انْظُرُوا فبالنظر و التأمل و الاستدلال يتوصل الإنسان للكشف عن حقائق الخلق.
و ما أجمل هذا الحث القرآني على دراسة الأرض و مكوناتها لنتعرف من خلال ذلك على بداية الخلق و على النشأة الأولى للكون قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)،و هذا لا يتنافى أبدا مع
ص: 166
قوله تعالى: ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (1)لأن الحق هنا يقرر ضعفهم و تفرده في الخلق و الإيجاد،و لكنه لا ينفي أبدا أن يفتش الإنسان عن المفردات العلمية و الكونية ليعلم ماهية بداية الخلق و التكوين.
و لقد عرض لنا القرآن الكريم بداية خلق الكون و المراحل التى مر بها عرضا بيانيا دقيقا،يصور كل طور من أطوار الخلق بوضوح و جلاء دون لبس أو غموض،و سوف نستعرض الآيات القرآنية التي تتحدّث عن كل مرحلة،و نزيّلها بفهم علماء التفسير و اللغة،ثم نحدّد معطياتها،لنرى مدى التوافق الدقيق بينها و بين ما وصل إليه علماء الفلك و الكون في عصرنا الحاضر.
يقول تعالى: أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَ فَلا يُؤْمِنُونَ (2).
الآية هنا تسترعي انتباه العباد،و تخلق فيهم الباعث الذي يولد في كينونتهم،و يثير في ساحة الإدراك و التفكير لديهم حب الاستطلاع و الرغبة في البحث و التنقيب عن سرّ انتقال هذا الكون العظيم من دنيا الفناء و عالم اللاشيء،إلى طور التخلق فالقرار ثم الحياة،ثم إن انبلاج هذا الكون من تلافيف العدم إلى حيّز الوجود و ميدان الإدراك، ليتطلّب من البشر أن يسخّروا ما أوتوا من قوة عقلية و علمية و مادية،في سبيل التعرف على خلق هذا الكون،و الوقوف عند المادة الأم التي تشكل الكون منها بأسره.
و الآية تشير إلى أن السموات و الأرض،أي الكون و ما بثّ في أرجائه من نجوم و مجرات و كواكب و شموس و أقمار كان شيئا واحدا،كان مادة واحدة،كتلة واحدة ثم انشطرت هذه المادة و فتقت و تفجرت،فانفصلت السموات عن الأرض،و تباعدت أجزاؤها و أصبحت عالما عظيما مترامي الأطراف،بعيد المدى،واسع الرحاب، و قوله سبحانه و تعالى: كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما تعبير دقيق و مشهد رائع،يأخذ بالألباب
ص: 167
و العواطف و الأحاسيس،لأنه يصور لنا المشهد الأول،و اللقطة الأولى من الكون ساعة الانفصال.
و بجولة سريعة في كتب المفسرين،يتكامل التصور الدقيق حول هذه المرحلة من خلال شرحهم لهذه الآية الكريمة و معطياتها.
ففي«جامع البيان»:(يقول تعالى ذكره:أ و لم ينظر هؤلاء الذي كفروا بالله بأبصار قلوبهم فيروا بها،و يعلموا أن السموات و الأرض كانتا رتقا،يقول:ليس فيهما ثقب، بل كانتا ملتصقتين يقال منه:رتق فلان الفتق إذا شدّه،فهو يرتقه رتقا و رتوقا،و من ذلك قيل للمرأة التي فرجها ملتحم:رتقاء،و وحد الرّتق،و هو من صفة السماء و الأرض، و قد جاء بعد قوله تعالى: كانَتَا لأنه مصدر،مثل قول الزّور و الصوم و الفطر، و قوله: وَ جَعَلْنا يقول:فصدعناهما و فرجناهما،ثم اختلف أهل التأويل في معنى وصف اللّه تعالى السموات و الأرض بالرتق،و كيف كان الرتق،و بأيّ معنى فتق؟قال ابن عباس:كانتا ملتصقتين،فرفع السماء و وضع الأرض...
و كان الحسن و قتادة يقولان:كانتا جميعا ففصل اللّه بينهما بهذا الهواء،و قال آخرون:بل معنى ذلك أن السموات كانت مرتتقة طبقة،ففتقها اللّه فجعلها سبع سماوات،و كذلك الأرض كانت كذلك مرتتقة،ففتقها فجعلها سبع أرضين) (1).
و في تفسير«القرطبي»:(و قال: رَتْقاً و لم يقل رتقين،لأنه مصدر،و المعنى كانتا ذواتي رتق...و الرتق السد ضد الفتق،و قد رتقت الفتق أرتقه فارتتق أي التأم،و منه الرتقاء للمنضمة الفرج،قال ابن عباس و غيره:يعني أنها كانت شيئا واحدا ملتزقتين ففصل اللّه بينهما بالهواء،و كذلك قال كعب:خلق اللّه السموات و الأرض بعضها على بعض ثم خلق ريحا بوسطها ففتحها بها،و جعل السموات سبعا و الأرضين سبعا) (2).
و في«الجلالين»(كانتا رتقا،سدّا بمعنى مسدودة: فَفَتَقْناهُما جعلنا السماء سبعا2.
ص: 168
و الأرض سبعا و فتق السماء أن كانت لا تمطر فأمطرت،و فتق الأرض أن كانت لا تنبت فأنبتت) (1).
و في«أضواء البيان»عدة أقوال منها:(الأول:أن معنى: رَتْقاً فَفَتَقْناهُما أي كانت السموات و الأرض متلاصقة بعضها مع بعض،ففتقها اللّه و فصل بين السموات و الأرض،فرفع السماء إلى مكانها،و أقر الأرض في مكانها،و فصل بينهما بالهواء الذي بينهما كما ترى.
القول الثاني:أن السموات السبع كانت رتقا،أي متلاصقة بعضها ببعض،ففتقها اللّه و جعلها سبع سماوات،كل اثنتين منها بينهما فصل،و الأرضون كذلك كانت رتقا ففتقها،و جعلها سبعا بعضها منفصل عن بعض) (2).
و نجد نفس المعاني في تفسير«البيضاوي»: كانَتا رَتْقاً ذات رتق أو مرتوقتين، و هو الضم و الالتحام،أي كانتا شيئا واحدا و حقيقة متحدة، فَفَتَقْناهُما التنويع و التمييز،أو كانت السموات واحدة ففتقت بالتحريكات المختلفة حتى صارت أفلاكا، و كانت الأرضون واحدة فجعلت باختلاف كيفياتها و أحوالها طبقات أو أقاليم،و قيل كانَتَا بحيث لا فرجة بينهما ففرج) (3).
و قال الرازي:(الرتق في اللغة:السد،يقال ارتتق الشيء فارتتق،و الفتق:الفصل بين الشيئين الملتصقين،و الرتق مصدر و المعنى كانتا ذواتي رتق...و عن ابن عباس رضي اللّه عنه أن المعنى كانتا شيئا واحدا ملتزقتين،ففصل اللّه بينهما،و رفع السماء إلى حيث هي و أقرّ الأرض) (4).
يقول صاحب«الكشاف»:(أي كانتا رتقا،و معنى ذلك أن السماء كانت لاصقة1.
ص: 169
بالأرض لا فضاء بينهما،أو كانت في القرآن الذي هو معجزة في نفسه فقام مقام المرئي المشاهد،و أن تلاصق الأرض و السماء و تباينهما كلاهما جائز في العقل) (1).
و لتوخّي الدقة و زيادة الضبط نفتح المعاجم اللغوية للتعرف على معاني بعض الكلمات القرآنية من حيث أصلها اللغوي و اشتقاقاتها،ليصبح وجه الاستدلال بها منسجما مع المقارنة الكونية للآية القرآنية.
يقول ابن منظور: كانَتا رَتْقاً (و الرتق ضد الفتق،و الرتق إلحام الفتق و إصلاحه) (2).
و في«القاموس المحيط»:(الرتق ضد الفتق،ارتتق التأم السموات متلاصقات و كذلك الأرض لا فرج بينها ففتقها اللّه و فرّج بينها...فإن قلت:متى رأوهما رتقا حتى جاء تقريرهم بذلك؟قلت:فيه وجهان،أحدهما أنه وارد) (3).
و لربما يخطر في البال هاهنا سؤال فيقول صاحبه:ما هي المادة التي تكونت الكتلة الكونية الأولى التي تم رتقها و فتقها؟
هذا السؤال قد حيّر علماء الفلك و المتخصصين في الفيزياء الكونية،فراحوا ينسجون تصورات نظرية حول هذه المادة و طبيعتها إلى أن اتفقوا على أن أصل المادة عبارة عن سدم،لكننا نجد القرآن الكريم قد أجاب على هذا السؤال بكل وضوح، و أشار إلى أن المادة الكونية الأولى للكون إنما هي من«الدخان»كما قال تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ (4)فالمادة التي تشكل منها كوننا العظيم إنما هي من الدخان.
و لنا أن نستخلص مما سبق،و من خلال التصور القرآني عن المرحلة الأولى لخلق الكون ما يلي:
1-أن السموات و الأرض في لحظة الخلق الأولى و بداية النشأة،كانتا كتلة واحدة متلاصقة ثم انفصلت و توزعت.
2-طبيعة هذه المادة التي تشكل الكون منها إنما هي الدخان.1.
ص: 170
قال تعالى: قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ(9) وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَ بارَكَ فِيها وَ قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيّامٍ سَواءً لِلسّائِلِينَ(10) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ(11) (1).
كان الحديث في الآية الأولى عن طبيعة المادة الكونية الأولى و ماهيتها،و كيف أنها كانت كتلة واحدة ثم انفصلت،أما هنا فالآية تتحدث عن أطوار خلق السموات و الأرض،و المراحل التي اعترتها بعد عملية انفصال المادة الأولى.
و هذه الآية الكريمة تقرر حقيقة كونية ثابتة و قطعية الدلالة و هي،أن الأرض بعد عملية فتق الرتق خلقت أولا،ثم تمّ تشكيل السماء و بناؤها من الدخان،و هذا ما ذهب إليه جمهور المفسرين،و لقد وقع في الخطأ و الخلط من حاول أن يقدم مرحلة خلق السموات على الأرض،بسبب رغبة شديدة دفعته إلى توأمة هذا النص القرآني مع التخمينات النظرية التي تحدث عنها بعض الفلكيين،من أن السموات خلقت قبل الأرض،و هذا الكلام لا يستند إلى دليل لا من النصوص القرآنية و لا من المعطيات العلمية الثابتة،و هذا ما سيوضح بعد إلقاء نظرة حول هذه الآية في كتب التفاسير.
ففي«أنوار التنزيل»:( قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ في مقدار يومين،أو نوبتين،و خلق في كل نوبة ما خلق في أسرع ما يكون،و لعل المراد من اَلْأَرْضِ ما في جهة السفل من الأجرام البسيطة و من خلقها فِي يَوْمَيْنِ أنه خلق لها أصلا مشتركا،ثم خلق لها صورا بها صارت أنواعا، ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ قصد نحوها من قولهم:استوى إلى مكان كذا إذا توجه إليه توجها لا يلوي على غيره،و الظاهر أن ثم تفاوت ما بين الخلقتين لا للتراخي في المدة لقوله: وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها و دحوها متقدم على خلق الجبال من فوقها: وَ هِيَ دُخانٌ أمر ظلماني،و لعله أراد به مادتها أو الأجزاء المتصغرة التي كتب منها: فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا بما خلقت فيكما من التأثير و التأثر و أبرزا ما أودعتكما من الأوضاع المختلفة و الكائنات المتنوعة،أو: أَتَيْنا في الوجود على أن الخلق السابق بمعنى التقدير أو الترتيب للرتبة،أو الإخبار أو إتيان
ص: 171
السماء حدوثها و إتيان الأرض أن تصير مدحوة،و قد عرفت ما فيه أو لتأت كل منكما الأخرى في حدوث ما أريد توليده منكما) (1).
و في«روح المعاني»:(الكلام على التقديم و التأخير و الأصل ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ إلخ، فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا إلخ،و هو أبعد عن القيل و القال،إلا أنه خلاف الظاهر،أو كوّنا و أحدثا على وجه معين و في وقت مقدّر لكل منكما،فالمراد إتيان ذاتهما و إيجادهما،فالأمر للتكوين على أن خلق و جعل و بارك و قدر بالمعنى الذي حكيناه عن إرشاد العقل السليم،و يكون هذا شروعا في بيان كيفية التكوين إثر بيان كيفية التقدير،و لعل تخصيص البيان بما يتعلق بالأرض و ما فيها لما أن بيان اعتنائه تعالى بأمر المخاطبين و ترتيب مبادئ معايشهم قبل خلقهم ما يحملهم على الإيمان،و يزجرهم عن الكفر و الطغيان،و خص الاستواء بالسماء مع أن الخطاب المترتب عليه متوجه إليهما معا اكتفاء بذكر تقدير الأرض و تقدير ما فيها كأنه قيل:فقيل لها و للأرض التي قدر وجودها و وجود ما فيها كونا و أحدثا،و هذا الوجه هو الذي قدمه صاحب الإرشاد و ذكره غيره احتمالا،و جعل الأمر عبارة عن تعلق إرادته تعالى بوجودهما تعلقا فعليا بطريق التمثيل من غير أن يكون هناك آمر و مأمور) (2).
و في«بحر العلوم»:(ثم استأنف فقال: سَواءً لِلسّائِلِينَ و من قرأ بالنصب يعني قدرها سواء صار نصبا على المصدر،و معناه:استوت استواء ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ أي صعد أمره إلى السماء،و هو قول اللّه: كُنْ و يقال:عمد إلى خلق السماء وَ هِيَ دُخانٌ يعني بخار الماء كهيئة الدخان،و ذلك أنه لما خلق العرش،لم يكن تحت العرش شيء سوى الماء كما قال تعالى: وَ كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ ثم ألقى الحرارة على الماء حتى ظهر منه البخار،فارتفع بخاره كهيئة الدخان،فارتفع البخار،و ألقى الريح الزبد على الماء،فزيد الماء،فخلق الأرض من الزبد،و خلق السماء من الدخان) (3).7.
ص: 172
و في«مختار الصحاح»:(الدخان:دخان النار معروف و جمعه دواخن،كعثان و عواثن،على غير قياس،و دخنت النار ارتفع دخانها،و بابه قطع و خضع،و ادخنت مثله،و دخنت النار إذا فسدت بإلقاء الحطب عليها حتى هاج دخانها،و دخن الطبيخ إذا تدخنت القدر،و الدخن الجاورس و الدخنة كالذريرة تدخن بها البيوت) (1).
و في«مفردات ألفاظ القرآن»نجد أن الدخان هو:(المستصحب للهيب،قال تعالى:
ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ أي هي مثل الدخان،إشارة إلى أنه لا تماسك لها،و دخنت النار تدخن كثر دخانها،و الدخنة منه،لكن تعورف فيما يتبخر به من الطيب) (2).
و يستخلص من معطيات النص القرآني ما يلي:
1-تم خلق الأرض بعد فتقها من الكتلة الدخانية في يومين خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ .
2-تم تسوية السموات السبع في يومين كما قال تعالى: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ و ذلك بعد فتقها و الانفجار و الانفصال الذي اعتراها بعد ما كانت دخانا،قال تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ .
3-تمّ تدبير الأرض و تهيئتها و تسخيرها لتعيش عليها المخلوقات في يومين وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها أي الجبال التي تساعد على توازن و استقرار الأرض وَ بارَكَ فِيها أي زاد فيها الخير و الزرع و الماء و غير ذلك وَ قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها من أرزاق و أسباب المعيشة.
و ينبه إلى أن المقصود بالأيام هنا هي المراحل و الحقب الزمنية،و ليست الأيام المعروفة لدينا كما أشار إلى ذلك كثير من المفسرين كما سبق،و لأن الزمن شيء نسبي كما هو معلوم،فيوم الأرض ليس كيوم الشمس و ليس كيوم المجرة و هكذا...
قال تعالى: أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها(27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوّاها(28) وَ أَغْطَشَ لَيْلَها وَ أَخْرَجَ ضُحاها(29) وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها(30) (3).
ص: 173
هذه هي المرحلة الثالثة من مراحل الخلق حسب تصوير القرآن لذلك،فالمرحلة الأولى كانت مرحلة تفجير الكتلة الدخانية«الرتق و الفتق»و المرحلة الثانية كانت مرحلة خلق الأرض لكنها غير مدحوة،و تسوية السموات و تشكيلها،ثم جاءت المرحلة الثالثة التي هي مرحلة دحي الأرض.
لكن قد يستشكل أحدنا أو يجول في خاطره سؤال مفاده،أيهما خلق أولا السموات أم الأرض؟ففي الآية السابقة عرفنا بنص قرآني واضح و صريح أن الأرض خلقت قبل السماء قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَ بارَكَ فِيها وَ قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيّامٍ سَواءً لِلسّائِلِينَ(10) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ(11) (1)و هنا نجد أن الحق يخبرنا أن الأرض خلقت بعد السماء وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها أي بعد خلق السموات،فكيف يكون ذلك؟.
إن الجواب على هذا السؤال أو الاستشكال سهل للغاية،و قد عرض هذا السؤال على ابن عباس رضي اللّه عنه و أجاب عليه،كما ورد في صحيح البخاري:(قال رجل لابن عباس رضي اللّه عنهما:إني لأجد في القرآن أشياء تختلف عليّ...قال تعالى: أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها إلى قوله: وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها فذكر خلق السماء قبل الأرض،ثم قال تعالى: قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ... فذكر في هذه خلق الأرض قبل خلق السماء...فقال ابن عباس رضي اللّه عنهما:خلق الأرض في يومين،ثم خلق السماء،ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين،ثم دحى الأرض و دحيها أن أخرج منها الماء و المرعى،و خلق الجبال و الرمال و الجماد و الآكام و ما بينهما في يومين آخرين،فذلك قوله تعالى: دَحاها و قوله: خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ فخلق الأرض و ما فيها من شيء في أربعة أيام،و خلق السموات في يومين...فلا يختلفن عليك القرآن،فإن كلا من عند اللّه عز و جلّ) (2).
و على هذا النسق سار المفسرون،ففي إرشاد العقل السليم:(فهي و ما في سورة البقرة من قوله سبحانه و تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى4.
ص: 174
اَلسَّماءِ فَسَوّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ (1) تدلان على تقدم خلق الأرض و ما فيها على خلق السماء و ما فيها،و عليه إطباق أكثر أهل التفسير،و قد روي أن العرش العظيم كان قبل خلق السموات و الأرض على الماء،ثم إنه تعالى أحدث في الماء اضطرابا فأزبد فارتفع منه دخان،فأما الزبد فبقي على وجه الماء،فخلق فيه اليبوسة فجعله أرضا واحدة،ثم فتقها فجعلها أرضين،و أما الدخان فارتفع و علا فخلق منه السموات،...و قيل إن خلق جرم الأرض مقدم على خلق السموات،لكن دحوها و خلق ما فيها مؤخر عنه لقوله سبحانه و تعالى: وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها و لما روي عن الحسن رحمه اللّه،من أنه تعالى خلق الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليه دخان ملتزق بها،ثم أصعد الدخان و خلق منه السموات و أمسك الفهر في موضعها،و بسط منها الأرض و ذلك قوله تعالى: كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما و ليس المراد بنظمها مع السماء في سلك الآمر بالإتيان إنشاءها و إحداثها بل إنشاء دحوها و جعلها على وجه خاص يليق بها من شكل معين و وصف مخصوص،كأنه قيل:ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه،ائتي يا أرض مدحوّة قرارا و مهادا لأهلك،و ائتي يا سماء مقبّبة سقفا لهم) (2).
و عند الطبري:(عن ابن عباس،قوله حيث ذكر خلق الأرض قبل السماء،ثم ذكر السماء قبل الأرض،و ذلك أن اللّه خلق الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء،ثم استوى إلى السماء فسوّاهنّ سبع سماوات،ثم دحا الأرض بعد ذلك،فذلك قوله: وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (3).
و عند ابن كثير:(أن الأرض خلقت قبل خلق السماء،و لكن إنما دحيت بعد خلق السماء،بمعنى أنه أخرج ما كان فيها بالقوة إلى الفعل) (4).
و في تفسير القرطبي:(أن اللّه تعالى خلق أوّلا دخان السماء ثم خلق الأرض،ثم استوى إلى السماء و هي دخان فسوّاها،ثم دحا الأرض بعد ذلك،و مما يدل على أن الدخان خلق أوّلا قبل الأرض ما روي عن ابن مسعود و عن ناس من أصحاب8.
ص: 175
رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في قوله عز و جلّ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ قال:إن اللّه تبارك و تعالى كان عرشه على الماء و لم يخلق شيئا قبل الماء،فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا فارتفع فوق الماء فسما عليه،فسمّاه سماء،ثم أيبس الماء فجعله أرضا واحدة،ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين) (1).
(فالكلمتان«دحاها-طحاها»تدلان على معنى البسط،دحا الأرض يدحوها، بسطها،قال شمّر:فأنشدتني أعرابية:الحمد للّه الذي أطاقا بنى السماء فوقنا طباقا ثم دحا الأرض فما أضاقا و الأدحوّة،مبيض النعام في الرمل...و مدحى النعام،موضع بيضها) (2).
هذه هي مراحل الخلق حسب معطيات القرآن الكريم و دلائله،و لا شك أن هذا التفصيل لمراحل خلق الكون عسير على العلم بل من المستحيل أن يصل إليه،لأنه من المغيبات التي لا تخضع لمدركات الإنسان،لكن يمكن للعلم أن يصل إلى حقائق كونية ثابتة عن أصل الكون و الخلق،لكنها مجملة و ليست مفصلة بهذه الدقة القرآنية العجيبة، و الدليل على ذلك أنهم حقا توصلوا إلى حقائق علمية تدل على أصل الكون و منشئه.
و العودة لملف علم الفلك،و النظر في أقوال علماء الكون،تظهر أن ما توصلوا إليه من حقائق كونية علمية ثابتة بعد جهد جهيد من الدراسة و البحث،هي ذاتها التي أشار إليها القرآن الكريم بوضوح القول و صريح العبارة،و أن ما كشفوا عنه اليوم هو الذي سبقهم إليه كتاب اللّه تعالى و سطّر ملامحه و أطره في صفحاته قبل أكثر من أربعة عشر قرنا.
الكون الذي يحوي في ثناياه النجوم و الكواكب و المجرات،و ما يتبعها من غازات و معادن و صخور و تراب و حيوانات و نباتات و إنسان،و غير ذلك من المخلوقات الأخرى،كان مثار اهتمام لدى الإنسان عبر مرور الأحقاب،سواء كان هذا الاهتمام مبنيا على الخرافة و الوهم،كما عند بعض الناس في القدم،و الذين اعتقدوا بأزلية الكون،و ربطوا تصوراتهم العقائدية بأجسام عدة من الكون كالشمس و الشجر7.
ص: 176
و النار...و جعلوها آلهة لهم،أو كان مرتكزا على الدراسات الصحيحة التي تعتمد على الرصد و الحسابات الفلكية و الرياضية.
و إذا ما طوينا صفحة الخيال أو الخرافة التي كانت سائدة و مسيطرة على عقل الإنسان في معظم الحضارات القديمة،و اتجهنا إلى التعرف على الدراسات الحديثة التي شهدها الإنسان في بداية القرن العشرين،فإننا نجد تطورا هائلا في مجال الفلك بسبب الاكتشافات الكبيرة لأسرار الكون،عبر المراصد الضخمة،و من خلال النظريات العلمية الجديدة.
و قبل الشروع في عرض و بيان آراء العلماء حول مولد الكون و نشأته،ينبه إلى أن هناك العديد من النظريات التي أعلنت حول أصل الكون،إلا أن معظمها خفت صوتها و غيّبت،عند ما ظهرت أحدث نظرية حول مولد الكون و التي تدعى بالانفجار العظيم ( big bang )بل و التي أجمع على صحتها جمهور علماء الفلك،مما دفع بعض الفلكيين إلى القول بأنها حقيقة قطعية كما سيأتي.
و بوسعنا الآن أن نستعرض طائفة من دراسات الفلكيين حول الانفجار الكوني العظيم،لنرى مدى التوافق بين ما أثبتوه،و بين الحقائق القرآنية التي سبق و أن قرر من خلالها الحق نشأة الكون.
(توصل عالم الفلك البلجيكي«جورج إدوارد لوميتر» (1)إلى نتيجة الانفجار العظيم، و أعلنها في عام 1927،و قد افترض في مستهل الأمر أن المادة الكونية كانت كلها مضغوطة في حجم ضئيل للغاية أسماه البيضة الكونية،ثم تعرض ذلك الجسم لتمدد مفاجئ سريع و ما زال يتمدد،و لما طرح«هبل» (2)قانونه في عام 1929،و شرح
ص: 177
المشاهدات التى استند إليها،بدا واضحا أن ذلك يجسد تماما ما ينبغي أن يكون من شأن كون في حالة تمدد،و كون كل المجرات تبتعد عنا بمعدل أسرع كلما كانت أكثر بعدا،أمر ليس له أي دلالة خاصة تتعلق بنا و بمجرتنا،فما دام الكون في حالة تمدد فهذا يعني أن كل مجراته تتباعد عن بعضها،و قد التقط الفيزيائي«جورج جاموف» (1)فكرة البيضة الكونية و عممها ثم أطلق على عملية التمدد الأولى اسم(الانفجار العظيم)،و ما زال ذلك الاسم مستخدما حتى الآن و يشير«جاموف»إلى أن الإشعاعات التي صاحبت الانفجار العظيم،لا بد أن يكون لها الآثار حتى الآن ما يمكن رصده من أي اتجاه على هيئة موجات(ميكروويف)ضعيفة،لها من المواصفات ما يمكن تقديره حسابيا،و بهذا الاكتشاف انتهى علماء الفلك إلى الاقتناع بوجود الانفجار العظيم، و من المتفق عليه الآن أن الكون قد بدأ بجسم ضئيل انفجر منذ خمسة عشر بليون سنة، و ما زال تحديد عمر الكون على وجه الدقة قيد البحث،و لكنه يصعب أن يقل عن عشرة بلايين سنة،و لن يزيد على الأرجح على عشرين بليون سنة) (2).
و هذا ما أكّده كثير من علماء الكون(يدرس علماء الكون الزمن الغابر باستقراء خارجي للشروط السائدة في الكون حاليا،بمعنى أنهم يستعملون قوانين الفيزياء لاستنباط الكيفية التي كان الكون عليها حين نشأته و بداية تكوينه،فلقد تبين أن الكون كان في بدايته حارا و كثيفا،و كان غازيا و كانت مادته و إشعاعه ممتزجين معا امتزاجا يختلف فيه تماما عما نعرفه عنهما من حيث تميزهما الواضح عن بعضهما،و يعود سبب الامتزاج إلى أنه في غاز ذي درجة حرارة مرتفعة يحمل الإشعاع طاقة هائلة،الأمر الذي يوفر إمكان تحوله إلى مادة،و هكذا فالإشعاع و المادة في بداية نشأة الكون سلكا سلوكا لا يكاد يميّز أحدهما عن الآخر...و هم يعتقدون أن درجة حرارته كانت عالية جدا مما أدى إلى الانفجار العظيم) (3).2.
ص: 178
و يؤكد هذا المعنى العالم«جون فايفر» (1)فيقول:(لقد كانت الظلمات السائدة حينذاك نقطة بداية لا نقطة نهاية،عند ما تكونت فيها سحابة لا تشبه سحب اليوم أبدا، فقد بدأت المادة تتجمّع بالغريزة كما تتجمع قطعان الأغنام،و هكذا بدأت كثافة السحابة تزداد،و بدأت الظلمة تنقشع و يبدو فيها بصيص من النور،و لقد كان هذا النور بداية تكون النجوم) (2).
رسم يبين عملية الانفجار العظيم و توسع الكون و هذا ما أثبته العلماء في أوائل القرن العشرين و ذكره القرآن الكريم منذ ألف و أربعمائة عام بأن السماء و الأرض كانتا رتقا ففتقناهما.
(و في اللحظات الأولى للكون عند ما كانت الكثافات هائلة،و درجات الحرارة9.
ص: 179
عالية،لا بد من أن الكون كان معتما،فلم تكن(فوتونات) (1)أشعة تستطيع التحرك إلا لمسافة قصيرة جدا،و بعدها ترتطم إما بجسيم أو(بفوتون)آخر،و لكن عند ما أخذ الكون بالاتساع أخذت الأطوال الموجية(للفوتونات)في الكرة النارية الأولية بدورها بالاستطالة شيئا فشيئا،و ازدياد الأطوال الموجية يعني انخفاض الطاقة التي يحملها كل (فوتون)،و بانخفاض الطاقة المحمولة في كل(فوتون)بدأت درجة حرارة الكرة النارية بالهبوط و ابتدأ الكون بعدها بالبرودة...و قد لعبت(الإلكترونات) (2)الحرة المنطلقة حول الكرة النارية،عند ما كان الكون في بدايته ساخنا،دورا مهما في الإبقاء على عتمة الكون،فقد كانت(الإلكترونات)الحرة تستطيع بسهولة و كفاءة تشتيت(الفوتونات)،إذ لم يكن لأي(فوتون)المجال للتحرك بعيدا،إذ كان و لا بد أن يرتطم(بالإلكترونات) السائبة) (3).
و يقول صاحب كتاب«قصة الكون»:(إن الكون قد بدأ على شكل كتلة ساخنة جدا من المادة،و لم يكن شبيها كليا بالمادة كما نعتقد،بل كانت توجد فيه على الأقل كتلة من الجسيمات الذرية الأولية مزدحمة مع بعضها،و قد قدر أن قطر هذه المادة لم يكن يتعدى بضع ملايين من الأميال،أي أنه كان من الممكن أن يوضع في مدار الأرض حول الشمس،و لا بد أن كثافة هذه المادة كانت مائة مليون طن لكل سنتيمتر مكعب،1.
ص: 180
أي أكثف من نواة الذرة،كما كانت درجة حرارتها بلا شك عالية إلى حوالي عشرة بلايين درجة،و مثل هذه الكتلة يمكن أن تكون غير مستقرة جدا فتنفجر عند وقت ما، و مع درجة الحرارة العالية لا بد أن الانفجار كان قويا،اندفعت بمقتضاه كل مادة الذرة الضخمة إلى الخارج،و في جزء من الثانية أصبح للكون وجود) (1).
و يؤكد هذه القضية«كارل ساغان» (2)في كتابه«الكون»فيقول:(و نعلم الآن أن كوننا يبلغ من العمر نحو 15 أو 20 مليار سنة،و هذا الزمن محسوب منذ ذلك الحدث التفجيري الاستثنائي،الذي يعرف بالانفجار الكبير،و في بداية الكون لم تكن هناك مجرات أو نجوم أو كواكب أو أي نوع من الحياة أو حضارات،بل مجرد كرة نارية مشعة منتظمة الشكل تملأ الفضاء كله) (3).
لا أرى داعيا في سرد المزيد من دراسات علماء الفلك و الكون،و التي تصور بمجملها أصل الكون و مولده،و تؤكد على أن الكون كان كتلة متماسكة حارّة،ثم بدأ
ص: 181
بانفجار مدو عظيم أدى إلى انفصال الكتلة الملتحمة،و تفرقت أجزاؤها في أنحاء الفضاء،و كانت درجة الحرارة وقتها عالية جدا ثم تبردت و انخفضت...
هذا ما توصل إليه علماء الكون (1)بعد دراسات حثيثة و مضنية،كلفتهم ما اللّه به عليم من الجهد و الوقت و المال،لكننا نجد أن القرآن الكريم قد سبقهم لتسطير هذه الحقيقة حول أصل الكون و مولده،قبل أكثر من أربعة عشر قرنا،حيث قال اللّه جل جلاله: أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَ فَلا يُؤْمِنُونَ (2)،ما أعظمها من آية و ما أدق بيان الحق فيها،فهي تصور لنا أن السموات و الأرض كانتا رَتْقاً أي كتلة واحدة ملتصقة متماسكة فَفَتَقْناهُما أي فصلنا أجزائهما من مجرات و كواكب و نجوم...و هذا ما كشف عنه العلم المعاصر اليوم،أو ليس هذا التوافق داعيا البشر ليطأطئوا الرءوس إجلالا و تعظيما لهذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه.0.
ص: 182
صورة رقم:(2)(مجرة إم 101 أو مجرة المروحة) إحدى أضخم و ألمع المجرات المعروفة و التي تسمى إم 101،أو مجرة المروحة نسبة لشكلها العام و التي تمتد على قطر يبلغ مائتين ألف سنة ضوئية،و تقع على مسافة اثنين و عشرين سنة ضوئية عن مجرتنا،كما أنها تخلف موجات من الكتل العالية،و تكثف الغاز ليدور حول مركز المجرة،و هذه الموجات تضغط على الغازات الموجودة و تسبب نشوء النجوم، و هذه الصورة التقطتها ناسا الفضائية الأمريكية في 2003/3/10 (1).th
ص: 183
تمدد الكون و توسعه
يقول سبحانه و تعالى: وَ السَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَ إِنّا لَمُوسِعُونَ (1).
تعطينا هذه الآية الكريمة مشهدا آخر من مشاهد تخلق الكون و تطوره،و هذا هو الطور الثاني الذي مرت به حركة الكون،فبعد أن طرأ عليه الانفجار العظيم،هبطت درجة حرارته المرتفعة،و بدأ بالتبرد،و التوسع،و الانتشار،و التمدد الدءوب المستمر...و إن هذا التوسع و ذاك التمدد،لم يسر عبر مسالك مستوعرة،و طرق و ساحات قد ازدحمت بالفوضى و الاضطراب...ليست الحالة كذلك بل كما عبّر القرآن الكريم بَنَيْناها و البناء يقتضي هندسة دقيقة،و يستلزم تصميما تشيع بين جنباته الرّتابة المتألقة.
و بإلقاء نظرة في كتب المفسرين حول معاني هذه الآية،و ما تصور لنا من معطيات كونية و علمية نجد ما يلي:
يقول القرطبي:(في السماء آيات و عبر تدل على أن الصانع قادر على الكمال، فعطف أمر السماء على قصة قوم نوح لأنهما آيتان،و معنى بِأَيْدٍ أي بقوة و قدرة،عن ابن عباس و غيره: وَ إِنّا لَمُوسِعُونَ قال ابن عباس:لقادرون،و قيل:أي و إنا لذو سعة، و بخلقها و خلق غيرها لا يضيق علينا شيء نريده،و قيل:أي و إنا لموسعون الرزق على خلقنا،و منه أيضا،و إنا لموسعون الرزق بالمطر و قيل:جعلنا بينهما و بين الأرض سعة) (2).
و يقول البيضاوي:(و إنا لموسعون،أي لقادرون،من الوسع،بمعنى الطاقة، و الموسع:القادر على الإنفاق،أو لموسعون السماء،أو ما بينها و بين الأرض،أو الرزق) (3).
ص: 184
و في«روح المعاني»:(و السماء،أي و بنينا السماء بنيناها،بأييد:أي بقوة،قاله ابن عباس و مجاهد و قتادة،و مثله الآد،و ليس جمع يد،و جوزه الإمام،و إن صحت التورية به،و إنا لموسعون،أي لقادرون،من الوسع بمعنى الطاقة،فالجملة تذييل إثباتا لسعة قدرته عز و جلّ كل شيء،فضلا عن السماء،...و اليد بمعنى النعمة لا الإنعام،و قيل:أي لموسعوها بحيث أن الأرض و ما يحيط بها من الماء و الهواء بالنسبة إليها محلقة في فلاة،و قيل:أي لجاعلون بينها و بين الأرض سعة،و المراد السعة المكانية) (1).
و في تفسير«فتح القدير»:(و إنا لموسعون،الموسع:ذو الوسع و السعة،و المعنى إنا لذو سعة بخلقها و خلق غيرها،لا نعجز عن ذلك،و قيل:لقادرون،من الوسع بمعنى الطاقة و القدرة،و قيل:إنا لموسعون الرزق بالمطر) (2).
و يقول ابن عاشور:(و الموسع:اسم فاعل من أوسع،إذا كان ذا وسع،أي قدرة، و تصاريفه جائية من السعة،و هي امتداد مساحة المكان ضد الضيق) (3).
و يقول سيد قطب رحمة اللّه:(و الأيد:القوة،و القوة أوضح ما ينبئ عنه بناء السماء الهائل المتماسك المتناسق،بأي مدلول من مدلولات كلمة السماء،سواء كانت تعني مدارات النجوم و الكواكب،أم تعني مجموعة من المجموعات النجمية التي يطلق عليها اسم المجرة،و تحوي مئات الملايين من النجوم و الكواكب...و السعة كذلك ظاهرة، فهذه النجوم ذات الأحجام الهائلة و التي تعد بالملايين،لا تعد أن تكون ذرات متناثرة في هذا الفضاء الرهيب) (4).
فكلمة تشير إلى الاستمرارية في البناء المتناسق،و هذا نفي لكل ما قد يمور في سراديب عقل إنسان،من أن الكون جامد ثابت لا حراك فيه و لا حركة،و أنه ملازم صفة واحدة لا ينفك عنها.
و إذا ما رجعنا إلى معاجم اللغة و فتشنا عن معنى كلمة(موسع)و عن الأبعاد التي تعطينا إياها فسوف نجد ما يلي:6.
ص: 185
(وسعه الشيء بالكسر يسعه سعة بالفتح،و الوسع و السعة بالفتح الجدة و الطاقة، و أوسع الرجل صار ذا سعة و غنى،و منه قوله تعالى: وَ السَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَ إِنّا لَمُوسِعُونَ أي أغنياء قادرون و يقال:أوسع اللّه عليك،أي أغناك،و التوسيع خلاف التضييق، تقول:وسع الشيء فاتسع و استوسع أي صار واسعا،و توسعوا في المجلس تفسحوا) (1).
و في لسان العرب:(...في أسمائه سبحانه و تعالى الواسع،و هو الذي وسع رزقه جميع خلقه و وسعت رحمته كل شيء،و غناه كل فقر،و يقال:الواسع المحيط بكل شيء...و السعة،نقيض الضيق و استوسع الشيء،وجده واسعا و طلبه واسعا، و أوسعه و وسعه،صيره واسعا،و قوله تعالى: وَ السَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَ إِنّا لَمُوسِعُونَ أراد جعلنا بينها و بين الأرض سعة،جعل أوسع بمعنى وسع،و قيل:أوسع الرجل صار ذا سعة و غنى،و قوله: وَ إِنّا لَمُوسِعُونَ أي أغنياء قادرون) (2).
هذا هو النبأ و القرار القرآني الصريح حول استمرارية الكون في عملية البناء الموسعة،فمن معطيات الآية الكريمة أن الكون في حالة اتساع مستمرة،و أنه غير ثابت محجم و محجر،فما ذا يقول علماء الفلك في هذا؟و ما ذا توصلوا في أبحاثهم حول توسع الكون؟.
المتتبع للمستجدات العلمية في أواخر القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين، يجد تنافسا هائلا بين العلماء فيمن يحظى بأسبقية تدوين اكتشافه حول حركة الكون و توسعه.
فلقد(لاحظ العالم النمساوي«دوفلر» (3)في سنة 1842،أن الموجات الصوتية و الضوئية الصادرة عن جسم متحرك،تغير أطوالها و ذبذباتها تبعا لحركاتها بالنسبة لراصدها،فهي تقصر فتزداد حدة إذا كانت صادرة عن جسم يتحرك نحو الراصد،أو
ص: 186
تطول فتخف حدتها إذا كانت صادرة عن جسم يبتعد عن راصده،هذه الظاهرة المعروفة في الفيزياء باسم ظاهرة«دوفلر»،و قد اكتسبت نظرية«دوفلر»هذه أهمية كبرى في علم الفلك عام 1868،عند ما استخدمت في دراسة الخطوط الطيفية المنفصلة،فقد برهن العلماء في ذلك العام أن في الخطوط المظلمة من أطياف بعض النجوم إزاحة بسيطة نحو الأحمر أو الأزرق مقارنة مع طيف الشمس) (1).
ثم جاء«أنيشتاين» (2)بنظريته النسبية(و التي تمثل مراجعة شاملة لقوانين الفيزياء التقليدية،فعند ما فرغ أنيشتاين من صياغة النظرية النسبية العامة في عام 1925،حاول استغلال نظريته في بناء نموذج نظري للكون،و لا بد من الإشارة إلى أن النظرية النسبية هي نظرية للجاذبية،تطبق على الأنظمة الحركية المنتظمة و غير المنتظمة،و يعتبر أنيشتاين بنظريته النسبية أن الجاذبية تمثل انحناء أو تحدبا في النسيج الزمكاني«الزمان و المكان»و بغياب الجاذبية يصبح كل من الزمان و المكان مسطحا،و في حالة وجود مجال جذبي ينحني الزمان و المكان...و رغم أن نظرية أنيشتاين حول الجاذبية أكثر دقة،إلا أنه لم يكن متأكدا من صحة ما توصل إليه في بناء النماذج النظرية للكون،و لم يكن أحد في ذلك الحين أيضا يظن أو يشك بوجود حركات كبرى في الكون،و لذلك اتجه أنيشتاين في أبحاثه إلى وضع نماذج ثابتة للكون،و قد تعرضت جهوده في هذا المجال للإحباط الشديد،فكلما سعى إلى بناء نموذج رياضي للكون يجد أن عمله يؤدي إلى كون ينكمش،و بدلا من أن يتابع ما توصل إليه في حساباته و يوافقها إذ كانت صيغته الرياضية تقوده دائما إلى حقيقة تدل على أننا لا نحيا في كون ثابت،و لذلك بدأ7.
ص: 187
الشك و الحيرة تصيبه في صحة معادلاته،و على ذلك أضاف إلى معادلاته مقدارا محددا أطلق عليه«الثابت الكوني»بحيث يمنع الثابت كون«أنيشتاين»من الانكماش، و بمعادلاته الخاطئة في بناء نماذج كونية ثابتة فوت«أنيشتاين»الفرصة في تعجيل اكتشاف«هبل»،بما لا يقل عن عشر سنوات،و بحلول عام 1929،أصبح جليا أننا نحيا في كون يتمدد،و لم يعد هناك أي تحفظ جديد،و لقد ندم«أنيشتاين»كثيرا في السنوات الأخيرة التالية لإضافته الثابت الكوني في معادلاته الأصلية في النسبية العامة، و أشار إلى ذلك بقوله:لقد كان ذلك هو أكبر خطأ وقعت به في حياتي) (1).
ثم استنتج العالم الفلكي الأمريكي«هبل»(أن المجرات تتباعد عن بعضها بعضا بسرعات تتناسب مع المسافة بينها،يشبه ذلك قليلا قالب الحلوى الذي نضعه في الفرن،فكلما انتفخ تباعدت فيه حبات الزبيب عن بعضها بعضا،و هذه الحركة لمجمل المجرات و المسماة توسع الكون) (2).
يقول«ستيفن هوكنغ» (3):(صورتنا الحديثة عن الكون يرجع تاريخها فقط إلى 1924،عند ما برهن عالم الفلك الأمريكي«إدوين هبل»على أن مجرتنا ليست المجرة الوحيدة،و الحقيقة أن هناك مجرات كثيرة أخرى،بينها قطع فسيحة من فضاء خاو، و حتى يثبت ذلك فإنه احتاج إلى تحديد المسافات إلى هذه المجرات الأخرى،و هي2.
ص: 188
بعيدة جدا بحيث إنها بخلاف النجوم القريبة التي تبدو في الواقع ثابتة،و اضطر«هبل» بسبب ذلك إلى استخدام وسائل غير مباشرة لقياس المسافات،و قام«هبل»بحساب المسافات إلى تسع مجرات مختلفة،و نحن نعرف الآن أن مجرتنا ليست إلا واحدة من مجرات يناهز عددها مائة ألف مليون مما يمكن رؤيته باستخدام(التلسكوبات الحديثة) ...و اكتشاف أن الكون يتمدد هو إحدى الثورات الثقافية العظيمة في القرن العشرين) (1)
و يقول«ستيفن هوكنغ»أيضا:(بعد انقضاء ساعات قليلة على الانفجار العظيم يكون توليد(الهليوم) (2)و العناصر الأخرى قد توقف بعد ذلك،و حتى لفترة مليون سنة تلت أو نحو ذلك يكون الكون قد استمر في توسعه من دون حدوث ما هو ذو شأن يذكر، و أخيرا عند ما تكون الحرارة قد انخفضت إلى آلاف قليلة من الدرجات،و لم يعد (للإلكترونات)و للنوى ما يكفي من الطافة للتغلب على الجاذبية الكهرومغناطيسية فيما بينها،تأخذ هذه(الإلكترونات)و النوى بالتكتل لتكوين الذرات و يكون الكون ككل قد استمر في التوسع و التبرد) (3).
ثم إن(المراقبين في سائر المجرات النموذجية،يرون دفعة مادية واحدة و في جميع الاتجاهات،و في أثناء هذا التوسع تزداد أطوال موجات الأشعة الضوئية متناسبة مع المسافة بين المجرات،و لا يظن أن هذا التوسع هو نتيجة لقوة كونية دافعة،بل إنه ببساطة سرعة انفلات و هروب اكتسبتها الأجرام عند حدوث انفجار سابق،و هذه السرعة تتناقص تدريجيا تحت تأثير الجاذبية) (4).
و لقد أكدت قياسات«هبل»(أن جميع المجرات،حتى الموغلة في الأعماق السحيقة من الكون تتحرك مبتعدة عنا و بسرعات هائلة،و تبدو لأعيننا و كأن الكون ينفتح3.
ص: 189
أمام ناظرينا،و على الرغم مما لوحظ من تباعد عام لجميع المجرات عن مجرتنا،إلا أنه تم الكشف عن استثناء وحيد في ذلك،و هو مجرة(المرأة المسلسلة)التي تبدو و كأنها تتحرك نحونا،و لقد عرف السبب الحقيقي لذلك منذ وقت قريب،و هو أن حركة شمسنا في مدارها حول مركز مجرتنا تقع في اتجاه مجرة المرأة المسلسلة) (1).
(و يقوم العلماء حاليا باستعمال مطيافات شديدة القوة و الفاعلية لتحليل ضوء النجوم،و بعد دراسات طويلة توصلوا إلى التأكد من أن الخطوط الطيفية تميل دائما إلى الاحمرار،و عند ما يبتعد مصدر ضوئي عن المرصد الموجود على الأرض نجد أن تردد الضوء يتضاءل،و بما أن اللون يحدد تردد الموجات الضوئية،و أن اللون الأحمر يكون تردده أقل،فإن العلماء قد استنتجوا أن ميل الخطوط الطيفية إلى الإحمرار إنما يدل على أن كل الأجرام تبتعد عن بعضها،مما ينتج عنه امتداد للكون بشكل عام) (2).
هذه هي الحقائق العلمية عن توسع الكون،التي قد توصل إليها العلماء في عصرنا الحاضر،و أثبتوا كما رأينا من تضافر أبحاثهم،أن الكون ليس ثابتا جامدا،إنما هو كون متحرك متوسع،و هذا الذي وصلوا إليه بعد كل الدراسات الشاقة و الأبحاث المضنية،نجد أن القرآن الكريم الذي نزل على نبيّ أمّيّ صلى اللّه عليه و سلم و على أمة بدائية تعيش بين بحار من الرمال في فناء الصحراء الواسع،قد سبق العلماء في إثبات هذه الحقائق العلمية،و سطرها في صفحاته المجيدة، وَ إِنّا لَمُوسِعُونَ لتكون سراجا مضيئا يتبصر بها جمهرة البشر معالم بناء حضارتهم،و سبل الوصول إلى الحق فاليقين،و ليعلم الجميع أن هذا الكتاب حق،و أنه تنزيل العزيز الحميد.
ص: 190
صورة رقم:(3)،مجرة(أندروميدا).
مجرة أندروميدا،قرص مستدير ذو هيئة لولبية،و لها ذراعان يتكونان من مليارات النجوم، و هي أقرب مجرة أساسية لمجرتنا،و هذه المجرة انطلق ضوؤها قبل اثنين مليون سنة ليصلنا، و هي في حالة توسع و انتشار،التقطت(ناسا)الفضائية هذه الصورة في 1995/7/24 (1).ml
ص: 191
صورة رقم:(3)،مجرة(درب التبانة).
و هذه مجرتنا(درب التبانة)،التي تحتوي على ملايين النجوم، و الضوء المشع هو من أقرب النجوم لمركز المجرة،التقطتها(ناسا)في 1996/6/13 (1).tm
ص: 192
نهاية الكون بين القرآن و العلم
إن الإيمان المقدس الذي شرفنا اللّه سبحانه و تعالى به،له متعلقات هامة ينبغي أن تكون ماثلة دائما في الأذهان و النفوس،و مستلزمات لا ينبغي أن تنفك عنه قيد أنملة،و أول ثمرة من مقتضيات الإيمان باللّه سبحانه و تعالى،أن يشرق في نفس العبد إماض التوحيد الناصع،و يستقر في سويداء قلبه أن الذي أبلج الكون من العدم،و فلقه من ظلام اللاشيء هو اللّه الخالق العظيم.
و هذه الحقيقة الشامخة هي المقوم الأول من مقومات الدين،و الدعامة الأولى التي ينهض على أساسها صرح الإسلام الشاهق السامي.
فإذا ما تكاملت التصورات السديدة حول هذه الحقيقة،و تساوقت المعاني المتلازمة في سبيل ترسيخ هذا التصور في أعماق النفس و الفؤاد،آنذاك نقف على مفرق الطريق، بين من حفلت نفوسهم بهذه الحقيقة فآمنوا بهذا و انصاعوا بشوق و حب لمتعلقاتها، و بين من تنكّب طريق هذه الحقيقة فارتكس على وجهه قد خسر الدنيا و الآخرة و ذلك هو الخسران المبين.
النزعات البشرية التي يصدرها الهوى كثيرة،إلا أن أخطرها تلك النزعات المسعورة التي تبناها جمهرة من الذين لا يقرّون بوحدانية الخالق لهذا الكون،فراحوا يروجون بين الناس أن الكون أزلي سرمدي،لا أول لأوّله،و سخروا لبث هذه الأفكار المسمومة أمة هائلة من البشر،و إمكانات ضخمة من القوة و المال،فأوغلوا في الجحود و إنكار الذات العليا،و اكتسى هذا الإلحاد أثوابا متعددة فتارة يعلنون كفرهم بالله و إنكارهم أن للكون خالقا باسم الشيوعية،و تارة باسم العلم و التمدن و هذه المسميات نتسامع عنها بين الفينة و الأخرى،و تظهر بصور و أشكال متعددة،إلا أن جوهرها و حقيقتها واحدة ألا و هي إنكار وحدانية اللّه و تصرفه في الكون.
هذه المزاعم العتيقة لم يبق من يعيرها اهتماما،بعد ما أثبتت البحوث العلمية أن
ص: 193
الكون حادث و ليس بأزلي،و هذا الصلف الذي روجوه،قد تصدى للرد عليه العلماء في شتى تخصصاتهم،و أثبتوا أن الكون تفجر من العدم.
ينص القانون(للديناميكا)الحرارية على أنه(من المحال أن يكون وجود الكون أزليا فهو ينص على أن الحرارة تنتقل من الأجسام الساخنة إلى الباردة،و حيث إنه لا يمكن أن يحدث العكس،أي انتقال الحرارة من الأجسام الباردة إلى الحارة بدافع ذاتي،فإن الكون يسير إلى درجة تتساوى و تتناسب فيها حرارة جميع الموجودات،و ينطفئ وهج الطاقة و يغور معينها،و تقف التفاعلات الكيميائية في الكون كله،لكن بما أن العمليات الكيميائية ما تزال مرئية و واقعية نعيشها في الكون من سطوع الشمس،و دوران الأرض، و حركة النجوم و الأفلاك،فهذا دليل على أن الكون ليس أزليا،إذ لو كان الكون أزليا لفقد طاقته منذ أعصار بعيدة،بناء على هذا القانون فإن الحياة التي تدب في الموجودات،تسير نحو الانكسار و التقويض حتى تنتهي تلقائيا،و تتوقف الحركة و يسود الفناء) (1).
(إن الاكتشاف العظيم في هذا القرن هو أن الكون ليس مستقرا و لا أبديا،كما كان يفترض معظم علماء الماضي،نحن اليوم مقتنعون بذلك تمام الاعتقاد،فللكون تاريخ و هو لا ينفك يتطور بتناقض كثافته و ابتراده و تشكل بناه،و تسمح لنا أرصادنا و نظرياتنا بإعادة تشكيل(السيناريو)و بالرجوع في الزمن،و هي تثبت لنا أن هذا التطور مستمرّ منذ ماض بعيد جدا يقع بين 10 مليارات و 15 مليار سنة وفق التقديرات) (2).
و يصرح«ستيفن هوكنغ»بوجود بداية و نهاية للكون فيقول:(إذن ليس مفاجئا أن يكون الكثير من العلماء غير مبتهجين لهذا الاستنتاج المنطوي على وجود متفرد لانفجار أعظم،و بالتالي على وجود بداية للزمن) (3).8.
ص: 194
هذا هو القرار العلمي الذي توصل إليه الدارسون،و هذا هو الواقع الذي ينطق الكون به،لأن الكون متغير و كل ما قد خضع لقانون التغير و التبدل،فإنه حادث مصيره الفناء و لو بعد حين.
و نزيد في التأكيد على نهاية الكون من الناحية العلمية،باستعراض نتائج ما استقر في دراسات الباحثين حول هذه القضية،يقول«ستيفن وينبرغ»:(و سيقف توسعه عند حد يتبعه بعدئذ انكماش متسارع،و ستهبط درجة حرارة الخلفية الكونية(للفوتونات) و(النوترينوات) (1)،ثم ترتفع تبعا لانتقال الكون من طور التوسع إلى طور الانكماش،و ستتغير دائما بتناسب عكسي مع قدر الكون...و ستبدأ الجزئيات في أجواء النجوم و السيارات بالتفكك إلى ذراتها المكونة لها،و ستنفصل(إلكترونات) الذرات عن نواها لتصبح حرة طليقة،ثم تذوب النجوم و السيارات في حساء كوني من الإشعاع...) (2).
(و أثناء استمرار هذا التوسع تبتعد المجرات بالتدريج،و يخبو نورها حتى تصبح غير مرئية،و كل مادة منها ما لم تبتلعها الثقوب السوداء ستبرد ببطء حتى تبلغ درجة حرارة الفضاء الصقيعية إلى الأبد...حتما و هناك في العلم وضع تنبؤات تولد كآبة لا تقل عمقا عن كآبة موت العالم الحي) (3).
(و في نهاية المطاف يتحول النجم المتقلص إلى بؤرة غير مرئية،يحيطها مجال جذبي شديدة القوة يمتص و يبتلع كل ما يمر جواره من أجسام مادية أو(فوتونات ضوئية)،أو نجوم هرمة مكدسة و منكمشة،و يرافق النجم المنهار المتقلص ازدياد في شدة المجال4.
ص: 195
الجذبي قرب سطحه لتصبح أعظم من أي قوة أخرى في النجم،و القادرة على اختفائه من الوجود و تحويله إلى ثقب أسود ذي درجة حرارة عالية) (1).
(و الإنسان يرى نفسه على مرآة المرصد في النهاية حسب نظرية«أنيشتاين»،على أن الكون مغلق و أحدب أي مكور كالكرة أو البيضة،و كما للكون بداية فإن له نهاية، و المخلوقات و الكائنات الحية على الكرة الأرضية تتوالد و تموت ثم تنشأ من جديد، و الشمس و كواكبها تسير نحو الهرم،و المجرة جميعها مع مكوناتها من نجوم و سحب كونية و سدم ستنكدر،و تنطفئ جذوتها،و تفقد خواصها،و ما سيصيب المجرة (2)سيصيب المجرات الأخرى و التي ستخلق من جديد سيصيبها كلها ما أصاب قبلها من موت و فناء) (3).
يتضح لنا مما سلف من دراسات العلماء،أن الكون صائر إلى نهاية محتومة،و فناء مؤكد،و قد تضافرت أبحاث العلماء حول نهاية الكون،و ركزت على تصورين للنهاية الكونية،و قد ذكرناهما في ثنايا سرد أقوال العلماء و هما:2.
ص: 196
1-الانكماش العظيم و نهاية الكون:و صاحب هذا الاتجاه هو العالم«ستيفن وينبرغ»و الذي أسهب في الحديث عن نهاية الكون،و أنه كما بدأ بانفجار عظيم،كذلك فإنه سيعود و ينكمش على نفسه كما بدأ،و قد أثبتنا تصوره هذا آنفا،و كان قد سجل هذا الاستنتاج في كتابه«الدقائق الثلاث الأولى من عمر الكون»ثم جاء«ستيفن هوكنغ» و أكد هذه الفكرة،و أطلق على نهاية الكون بناء على دراساته الفلكية ب(الانكماش العظيم)و ذلك في كتابه«تاريخ موجز للزمان»و يعتبر هذا الاتجاه من أقوى ما سجل حول نهاية الكون.
2-الثقوب السوداء و النهاية الكونية:و هذا التصور حول نهاية الكون،لا يختلف عن سابقه من حيث المضمون،فكلاهما ينص على النهاية الأكيدة للكون،إلا أن الاختلاف ناشئ من جهة الحيثية و الملابسات التي تعتري أطوار النهاية.
و لا بد من التركيز قليلا على قضية«الثقوب السوداء» (1)،لما لها من الأهمية البالغة في دراسات الفلكيين،و كذلك لأن اقتناع عدد ليس بالقليل من العلماء بأن مصير الكون و نهايته إنما سيتم ضمن مقبرة النجوم في السماء،ألا و هي الثقوب السوداء،فما هي تصورات العلماء حول هذه الثقوب؟و ما هي طبيعتها؟و كيف تتم عملية جذب الكواكب و النجوم إلى داخلها و كيف تكون النهاية؟.
يقول«ستيفن هوكنغ»:(و بعد عشرة مليارات سنة أو نحوها،ستكون معظم النجوم في الكون قد احترقت،و النجوم ذات الكتل المشابهة لكتلة الشمس سوف تتحول إما إلى أقزام بيضاء...أما النجوم ذوات الكتل الأكبر،فتتحول إلى ثقوب سوداء،و هذه أصغر من النجوم(النيوترونية) (2)و تمتلك حقلا ثقيلا شديدا يمنع الضوء،و كل شيء آخر من الخروج منها...و يتجمع في النهاية ليكون ثقبا أسودا عملاقا في مركز المجرة،و ما قلناه عن مجرتنا ينسحب على المجرات الأخرى،و مهما تكن المادة1.
ص: 197
المظلمة في المجرات و مجموعات المجرات فيتوقع أنها ستسقط في هذه الثقوب السوداء الضخمة أيضا) (1).
(و لقد تنبأت نظرية(أنيشتاين)نفسها في النسبية العامة،أن الزمكان(الزمان، المكان)بدأ مع الانفجار العظيم،و بأنه سوف ينتهي إما مع تفرد الانهيار العظيم،إذا ما عاد الكون بكامله إلى الانسحاق و التقوض،أو مع تفرد داخل ثقب أسود،إذا ما كان لمنطقة محلية كالنجم مثلا أن تنسحق،فأي مادة تقع داخل الثقب،سوف تدمر بالتفرد، و لا يبقى منها أي شيء محسوس سوى تأثير جاذبية كتلتها،من جهة أخرى فعند ما تؤخذ تأثيرات الكمّ بالحسبان،و أن الثقب الأسود و كذلك أي تفرد في داخله سوف تتبخر تلاشيا،و يختفي في النهاية) (2).
صورة لثقب أسود يبتلع ما حوله-صورة التقطت بواسطة تلسكوب هابل9.
ص: 198
إن هذه الثقوب السوداء التي تبتلع الكواكب و النجوم و الأجرام السماوية،و تلتهم الكون بجاذبيتها التي لا يفلت من قبضتها شيء حتى الضوء نفسه يكون لقمة سائغة عند ما يقع في شباكها قد أماط العلماء اللثام عن بعض خصائصها العلماء،و هاك هذه الخصائص:
(مراكز معظم المجرات بما فيها مجرتنا درب التبانة،تحتوي على ثقوب سوداء يقدر العلماء وجود حوالي نصف مليون ثقب أسود في مجرتنا.
-أن حوالي 80 إلى 90% من الكتلة الإجمالية في الكون،متوارية عن الأنظار على هيئة ثقوب سوداء.
-حسب بعض العلماء الوزن النوعي«الكثافة»للثقب الأسود،و وجدوا أنه قد يصل إلى 17800 طن لكل سم مكعب واحد.
-وزن الإنسان،أي قوة جذبه الواقف على سطح الثقب الأسود،سيصل عندها إلى 113 مليار طن!.
-إن حد الأمان أكبر من 30000 ميل،فلو اقترب نجم إلى هذه المسافة فيكون قد وقع في فخ الثقب الأسود) (1).
أما عن ماهية الثقب الأسود و طبيعته،فقد وضع العلماء تصورا نظريا عن الثقوب السوداء و تخيلات نسجوها من خلال ما توفر لديهم من معلومات مجردة حولها،فقد تصور العلماء(سفينة فضائية تقترب من ثقب أسود،كتلته تعادل 10 كتل شمسية،أول ما يلاحظه رواد السفينة تعاظم قوة جذبهم،كلما صغرت المسافة التي تفصلهم عن الثقب الأسود،ينظر الرواد من نافذة مركبتهم فيرون قرصا حلزونيا من الغازات،يدور حول الثقب الأسود،قام الثقب الأسود بشفطها من نجم قريب،و تنطلق أثناء ذلك دفعات غزيرة من الطاقة،معظمها بشكل«أشعة سينية» (2)قوية،تلك الأشعة قوية2.
ص: 199
الاحتراق،التي تمر عبر عضلات الإنسان و لحمه،و كأنها تخترق الهواء لا يوقفها إلا العظم،ينظر الرواد عبر مرصدهم الفلكي المحمول على متن السفينة،فيشاهدون ضوء النجوم البعيدة يحيط بمنطقة داكنة لا تسمح بمرور أي شعاع ضوئي،هي ستار مسرح الأحداث المحيط بالثقب الأسود و الذي يقارب قطره 37 ميلا،إن ما يقع ضمن مسرح الأحداث لا يمكن رؤيته أو سماعه من قبل أي شخص ينظر إليه من الخارج،أما إذا دخل المشاهد مسرح الأحداث عندها يكون قد فات الأوان،انطلاقا من هذه التصورات وجد العلماء أن قوة الجاذبية الخارقة للثقب الأسود،هي ذات آثار يمكن كشفها،فهي قادرة على أسر نجم قريب و وضعه في مدار حول الثقب الأسود،يطلق النجم المأسور أثناء ذلك إشعاعات قوية،و ما على العلماء في هذه الحالة إلا كشف صرخات الاستغاثة التي يطلقها النجم المأسور ليشكل إشعاعات سينية،و«فوق بنفسجية» (1)كي يستدلوا على وجود الثقب الأسود المتواري عن الأنظار) (2).
و في إطار دراسات العلماء حول الثقوب السوداء هذا المقال:(ساهم ارتفاع مفاجئ للمعان سحابة غازات عالية الحرارة بمركز مجرة درب التبانة،في دعم الفكرة القائلة بوجود ثقب أسود غاية في الشساعة وسط هذه المجرة،و يعتقد غالبية علماء الفلك أن ذلك الشيء يوجد فعلا هناك،لكن الأدلة المقدّمة لغاية الآن،و المبنية على تحركات في نجوم مجاورة،لم تصل إلى خلاصات حاسمة،و قد تمكنت عمليات مراقبة أجريت أخيرا لمركز المجرة،من رصد طاقة ناجمة عن وميض من(أشعة إكس)ظل يلمع و يفتر مدة عشر دقائق،و هذه الفترة إذا ما أضيفت إلى دلائل سابقة تسمح لعلماء الفلك بقياس كتلة و حجم الثقب الأسود المحتمل،و قد كانت المحصلة هي كتلة تفوق مليوني أضعاف كتلة الشمس،و يعتقد العلماء أن التفسير الوحيد لهذه الظاهرة هو وجود ثقب أسود هناك.5.
ص: 200
و من بين النظريات التي تحاول تفسير ما يعتري النجوم الواقعة بمركز المجرة من حركة سريعة،ما يذهب إلى القول بوجود شكل غير مرئي من المادة التي تشبه عنقودا من النجوم الداكنة،و أيا كان نوع التفسير،فإن ما يوجد هناك له من الضخامة ما يجعله قادرا على جذب أقرب النجوم المرئية بسرعة خارقة تصل إلى خمسة ملايين كيلومتر في الساعة،و ما يجعلنا نكاد نجزم بأن ما يجري الجدل حوله هو ثقب أسود،يجد سنده في شيء ما يحدث في أطرافه) (1).
صورة متخيلة لمادة و ضوء يدوران حول ثقب أسود هائل.
هذه هي الصورة العلمية التي توصل إليها العلماء و الباحثون عن نهاية الكون و فنائه، و قد فنّدوا بهذا هراء الإلحاد الذي يزعم بخلود العالم و عدم فنائه...
و من الملفت للانتباه،بل من المثير حقا،أننا نجد من خلال سرد ما توصل إليه العلماء في أبحاثهم أنهم قد قرروا أن للكون نهاية،و هذه النهاية صوروها بالانكماش
ص: 201
العظيم،أي بانطواء الكون على نفسه،و عودته إلى نقطة البداية و شكله الأولي،أو بالثقوب السوداء التي تقوم بشفط و ضغط الكواكب و إعادتها إلى غازات كتلك التي منها نشأ الكون...فكل التصورات العلمية التي تبناها الفلكيون في عصرنا ترسم السيناريو الواضح لنهاية الكون،و ارتداده إلى صورته التي كان عليها يوم وجد و نشأ،و الله أعلم.
و ليت شعري لو أن هؤلاء العلماء،أو المتخصصين من علماء الإسلام،عكفوا على كتاب اللّه تعالى و درسوه من جهة تخصصاتهم دراسة متأنية،لوجدوا الخطوط البيانية و الرئيسية التي ترسم أطر النهاية الكونية بكل وضوح...
إنه التوافق العجيب بين معطيات العلوم الحديثة و حقائق القرآن الكريم،فالعلماء اتفقوا على أن الكون سينتهي على شكل الصورة التي بدأ منها،و هذه الحقيقة لطالما قررها مولانا تبارك و تعالى في كتابه المجيد،قال جل جلاله: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنّا كُنّا فاعِلِينَ (1).
و قال تعالى: وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2).
و كيفما كان وجه الصورة لنهاية الكون و تآكله ثم فنائه،و نحن لا نجزم إلا بالصورة القرآنية التي أخذت مساحة كبيرة في القرآن الكريم و هي تقرر حقيقة النهاية،فإن الذي يعنينا من ذلك أن القرار الواضح الذي لم يعد يتسرب إليه شك أو مواربة أن سلطان الفناء و الخراب سيمتد ليطوق الكون بأسره،ثم ليحيله إلى العدم،و هذه الحقيقة كما أسلفنا،هي أصل من أصول الدين و العقيدة لدى كل مؤمن،و لقد قررها القرآن الكريم في كثير من الآيات الكريمة،و لنستعرض طائفة من الآيات القرآنية التي تصور لنا المشهد الأخير من قصة الكون و وجوده في مسرح الحياة الفانية.
قال تعالى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ(1) وَ إِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ(2) وَ إِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ(3) وَ إِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ(4) وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ(5) وَ إِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ(6) (3).6.
ص: 202
و قال تعالى: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (1)،في هذه الآية إيحاء و تصوير لمشهد الطمس الذي أسلفنا الحديث عنه،أ لا ترى أن الكواكب عند ما تبتلعها الثقوب السوداء تطمس طمسا فلا ترى أبدا و اللّه أعلم.
و يتحدث سيد قطب عن نهاية الكون فيقول:(هذا هو مشهد الانقلاب التام لكل معهود و الثورة الشاملة لكل موجود،الانقلاب الذي يشمل الأجرام السماوية و الأرضية،و الوحوش النافرة و الأنعام الأليفة و نفوس البشر و أوضاع الأمور،حيث ينكشف كل مستور،و يعلم كل مجهول و تقف النفس أمام ما أحضرت من الرصيد و الزاد في موقف الفصل و الحساب،و كل شيء من حولها عاصف و كل شيء من حولها مقلوب) (2).
إن هذه الأحداث المرعبة التي تضفي على الكون صورة الخراب و الاضطراب، و تجعل من الكون المتساوق في أجرامه،المتسق في حركته و جريانه،المنضبط في مساره،الرصين في إحكام بنائه،تجعل منه أنكاثا متناثرة،و أوزاعا متفرقة.
و يصف الإمام الرازي النهاية فيقول:(و تكوير الشمس هو انطفاؤها و خمدان لهيبها و تجمدها و انكدار النجوم و انفراطها من عقدها الفريد،و تناثرها من نظامها الدقيق...أما الجبال،فاعلم أن اللّه تعالى ذكر في مواضع من كتابه أحوال هذه الجبال على وجوه مختلفة،و يمكن الجمع بينها على الوجه الذي نقوله،و هو أن أول أهوالها الاندكاك و هو قوله سبحانه: وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (3).
و الحالة الثانية لها أن تصير كالعهن المنفوش،و ذكر اللّه تعالى ذلك في قوله: يَوْمَ يَكُونُ النّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ(4) وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ(5) (4).5.
ص: 203
و الحالة الثالثة:أن تصير كالهباء،و ذلك أن تتقطع و تتبدد بعد أن كانت كالعهن و هو قوله سبحانه و تعالى: وَ بُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا(1) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا(2) (3).
و الحالة الرابعة:أن تنسف لأنها مع الأحوال المتقدمة مارة في مواضعها،و الأرض تحتها غير بارزة فتنسف عنها بإرسال الرياح عليها و هو المراد من قوله تعالى:
وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (4) .
و الحالة الخامسة:أن الرياح ترفعها عن وجه الأرض فتصيرها شعاعا في الهواء كأنها غبار فمن نظر إليها،من بعد حسبها لتكاثفها أجساما جامدة،فهي في الحقيقة مارة إلا أن مرورها بسبب مرور الرياح بها صيرها مندكة متفتتة و هي قوله: وَ تَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (5).
ثم تبين أن تلك الحركة حصلت بقهره و تسخيره فقال سبحانه: وَ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَ تَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (6).
الحالة السادسة:أن تصير سرابا،بمعنى لا شيء،فمن نظر إلى مواضعها لم يجد منها شيئا،كما أن من يرى السراب من بعد إذا جاء الموضع الذي كان فيه لم يجده شيئا و الله أعلم) (5).
كذلك فإن الحديث عن السماء يأخذ بالألباب،و يثير الرعب و الهلع في النفوس، قال اللّه سبحانه و تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ بِأَمْرِهِ (6).
و قال سبحانه: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنّا كُنّا فاعِلِينَ (7).4.
ص: 204
و هكذا فإن كل شيء في هذا الوجود سيشيّع إلى مثواه الأخير،و يرقد في كفن الموت،فالحق هز المخلوقات التي يضمها الكون بين جنباته هزا عنيفا،و أوحى إليهم أن نواميس الدنيا المعهودة و قوانين الحياة المعروضة،و المقاييس التي عشناها و تفاعلنا معها قد سقطت الآن في رحى القيامة،و الجميع سيمثل بين يدي الديان،ليحاسب على الصغير و الكبير و الفتيل و القطمير.
صورة التقطت بواسطة التلسكوب الفضائي هابل،و تظهر ثقبا أسود.
و السيناريو الذي وضعه العلماء لنهاية العالم سيكون طاقة هائلة قاتمة تنمو و تتوهج إلى كمية كبيرة،بحيث مجرتنا لا يمكن لها أن تبقى متماسكة،و النجوم و الكواكب و حتى الذرات لا يمكن أن تتحمل القوة الداخلية المتزايدة،و قديما كان يقال نهاية العالم بالضغط الشديد أما الآن فبالانفجار و التمزق العظيم،ناسا بتاريخ،2003/3/3 (1).rg
ص: 205
نجم يموت و ينفث الأشعة الملتهبة من داخله.
كما أن هذه الصورة تجسيد حي لقوله سبحانه و تعالى: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (1)، أخذت هذه الصورة من ناسا،و التقطت بتاريخ،1995/6/28 (2).ml
ص: 206
تمهيد:
المبحث الأول:تحركات الشمس و انتقالاتها بين القرآن و العلم.
المبحث الثاني:الشمس متوهجة ملتهبة بين القرآن و العلم.
المبحث الثالث:تعدد الشموس و الأقمار بين القرآن و العلم.
المبحث الرابع:موت الشمس و نهايتها بين القرآن و العلم.
ص: 207
ص: 208
قال تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَ النَّهارُ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لا لِلْقَمَرِ وَ اسْجُدُوا لِلّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ (1).
الشمس آية من آيات اللّه،فهي نجم متألق في قبة السماء،و صديق حميم لعامة المخلوقات التي أودعها اللّه فوق رحب هذه الأرض و في جنباتها،إذ منها يستمد الكائن الحي،سواء الإنسان أم المخلوقات الأخرى،الطاقة الإشعاعية التي من شأنها أن تغذي الكائنات الحية،و ذلك بالحفاظ على عوامل نموها و نجاحها،و هي سبب في الاستحالة المائية حولنا،فعن طريقها يتحول الماء إلى بخار ماء ثم يتكاثف بعد ذلك بصور مختلفة منها المطر و البرد و الثلج...و هذه الظواهر الطبيعية من ضروريات الحياة،بل هي المقومات الأساسية التي تنهض عليها الحياة بأسرها.
نظرا لفوائدها الكثيرة التي لا مجال لسردها هنا،فإننا سنتعرف بعون اللّه تعالى على تركيب هذا النجم الوهاج،و خصائصه الفيزيائية،لنقف على مشاهد الروعة و الإبداع في خلق اللّه العجيب.
ثم سنتحدث عن بعض جوانب الإعجاز في الشمس،و التي سجّلها القرآن الكريم و قررها،قبل أن يكشف عنها و يصل إلى أسرارها العلماء،كحركة الشمس و جريانها، و كيف أن القرآن الكريم ركّز في كل آياته على أن الشمس سراج وهّاج مضيء،و ليس منيرا كالقمر و الإعجاز في ذلك،ثم نتحدث عن أسبقية القرآن في تقرير أن هناك كثيرا من الشموس و الأقمار و ليست شمسا واحدة،و لا قمرا واحدا كما كان يظن،ثم يطوى ملف الشمس في التعريج على نهايتها،و خمدان لهيبها،و انطفاء ضيائها بين القرآن و العلم.
ص: 209
تحركات الشمس و انتقالاتها
قبل أن نشرع في الحديث عن الإعجاز في تحركات الشمس و تنقلاتها،يشار إلى بعض خواص الشمس الفيزيائية،و ذلك للأهمية في هذا المبحث.
كشف العلماء عن بعض أسرار خلق اللّه في الشمس،و أطلعونا عليها و ذلك:(عن طريق استخدام المطياف الذي يحلل أشعة النور إلى أطياف،بواسطة الموشور الزجاجي،الموجود أمام عدسة المطياف،أمكن معرفة مركبات الشمس و درجة الحرارة فيها،إذ أن لكل عنصر يكون على شكل غاز متوهج لونا خاصا به،يميزه عن غيره،و يدلنا على مقدار درجة حرارته،و نوع المادة التي يتألف منها،و من تحليل الطبقة السطحية من الشمس إلى خطوط طيفية،تبين أن تركيب تلك الطبقة يكون على الشكل التالي و بالنسبة المحددة بجانب كل عنصر:
الهيدروجين و نسبته أقل بقليل من 70%.
الهليوم و نسبته أقل بقليل من 24%.
الأوكسجين و نسبته أقل بقليل من 1%.
الفحم و نسبته أقل بقليل من 4,0%.
الحديد و نسبته أقل بقليل من 16,0%.
السيليس و نسبته أقل بقليل من 1,0%.
الآزوت و نسبته أقل بقليل من 1,0%.
المغنيسيوم و نسبته أقل بقليل من 9,0%.
النيون و نسبته أقل بقليل من 07,0%.
و عند ما نبلغ الطبقة الوسطى من الشمس نجد أن غاز الهيدروجين،يأخذ بالتناقص لتصبح نسبته 65% بينما ترتفع نسبة الهليوم حتى تصبح 34%،و عند بلوغنا سطح
ص: 210
الطبقة المركزية أي النواة،يزداد تناقص الهيدروجين حيث لا تزيد نسبته هناك على 34%،بينما ترتفع نسبة الهليوم لتصبح 65%،و عند ما نقترب من مركز الشمس يختفي الهيدروجين تماما،و تصبح نسبة الهليوم هناك 99%و يبقى 1% للعناصر المعدنية التي تدخل في تركيب الشمس) (1).
و أما قطرها فيبلغ(4,1 مليون كيلومتر تقريبا،و معدل بعدها عن الأرض 150 مليون كم و معدل درجة الحرارة الداخلية 20 مليون درجة«سنتغريد»،أكبر من الأرض ب 1200000 مرة،و اللون أصفر،و مسافة الشمس من مركز المجرة 30000 سنة ضوئية،و سرعة الشمس حول مركز المجرة 220 كلم في الثانية،و تدور حول نفسها مرة كل 25 يوما من أيام الأرض،و تسيطر الشمس بقوة جاذبيتها على الكواكب العشرة التي تدور حولها،كما أنها تفقد في الدقيقة الواحدة 250000000 طن من المادة لتتحول إلى طاقة) (2).
بعد هذه اللمحات و المعلومات السريعة عن الشمس،نأتي للحديث عن بعض جوانب الإعجاز القرآني حول هذا النجم الكبير،و الحقائق العلمية التي سجلها كتاب اللّه في هذا الشأن،ثم كيف تكشفت بعد ذلك للعلماء في ميدان الفلك حديثا.
قال تعالى: وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى (3).
و قال سبحانه: وَ سَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ (4).
و قال سبحانه: وَ الشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (5).
نلاحظ أن هذه الآيات تقرر قرارا صريحا و واضحا أن الشمس تجري و تسبح في فلك السماء فهي ليست ثابتة كما كان يعتقد الناس قديما،فكانوا يعتقدون أن الشمس
ص: 211
مسمرة ثابتة في كبد السماء،لا يعتريها زوال،و تستهجن الحركة و المسير،و تركن إلى الاستقرار و الجمود...
لكن اللّه سبحانه و تعالى قرر أنها تجري،و الفعل تَجْرِي فيه إعجاز عظيم،لأنه لا يدل على حركة الشمس الظاهرية التي يبصرها الناس عند ما تشرق الشمس شيئا فشيئا، ثم ترتفع و تتوسط السماء،ثم تزول و تأوي إلى مهدها في الغياب،ثم تتوارى عن أنظار الخلائق...بل هو يدل و يعبر عن حركة واقعية أثبتتها الأرصاد،و حركتها العظيمة هذه يعبر عنها الفعل تَجْرِي بالسرعة الهائلة التي تقطعها الشمس خلال جريانها،لأن الجري أسرع من المشي أو السير،و لذلكم فإن جريان الشمس السريع هذا المقرون بجاذبية الشمس يجر معه الكواكب السيارة التي تدور حولها،و لقد أشرنا إلى المسافة الكبيرة التي تقطعها الشمس في الثانية،و التي توضح لنا تألق دقة التعبير القرآني بالفعل تَجْرِي الذي حمل الإعجاز الشمسي في أحرفه الرصينة.
و بنظرة دقيقة في كتب التفسير حول هذه الآيات نجد ما يلي:
ففي تفسير الطبري:(و سخر الشمس و القمر لمصالح خلقه و منافعهم،كل يجري، يقول:كل ذلك يجري بأمره إلى وقت معلوم و أجل محدود،إذا بلغه كورت الشمس و القمر،و بنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل) (1).
و عند ابن كثير:(و سخر الشمس و القمر كل يجري إلى أجل مسمى،قيل:إلى غاية محدودة و قيل إلى يوم القيامة،و كلا المعنيين صحيح) (2).
و قال الإمام البيضاوي:(و سخر لكم الشمس و القمر دائبين،يدأبان في سيرهما و إنارتهما و إصلاح ما يصلحانه من المكونات،و سخر لكم الليل و النهار يتعاقبان لسباتكم و معاشكم) (3).
و في تفسير«معالم التنزيل»:(و سخر لكم الشمس و القمر دائبين،يجريان فيما يعود3.
ص: 212
إلى مصالح العباد و لا يفتران،قال ابن عباس:دءوبهما في طاعة اللّه عز و جلّ،و سخر لكم الليل و النهار يتعاقبان في الضياء و الظلمة و النقصان و الزيادة) (1).
و في تفسير«زاد المسير»:(و سخر لكم الشمس و القمر لتنتفعوا بهما،و تستضيئوا بضوئهما دائبين في إصلاح ما يصلحانه من النبات و غيره لا يفتران،و معنى الدءوب مرور الشيء في العمل على عادة جارية فيه) (2).
و روي عن ابن عباس أنه(قرأ لا مستقر لها،أي جارية لا تثبت في موضع واحد) (3).
(و الشمس أي و آية لهم الشمس تجرى لمستقر لها،و فيه أربعة أقوال،أحدها:إلى موضع قرارها روى أبو ذر قال:سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن قوله: لِمُسْتَقَرٍّ لَها قال:
«مستقرها تحت العرش»و قال:«إنها تذهب حتى تسجد بين يدي ربها،فتستأذن في الطلوع فيؤذن لها» (4)،و الثاني:أن مستقرها مغربها لا تجاوزه و لا تقتصر عنه قاله مجاهد،و الثالث:لوقت واحد لا تعدوه قاله قتادة و قال مقاتل:لوقت لها إلى يوم القيامة،و الرابع:تسير في منازلها حتى تنتهي إلى مستقرها الذي لا تجاوزه،ثم ترجع إلى أول منازلها) (5).
إذن،يصرّح القرآن الكريم بأن الشمس تجري باتجاه معين،و هذا(ما قرره علماء الفلك بأن للشمس حركة حقيقية في الفضاء معلومة المقدار و الاتجاه،و كشف النقاب عن ذلك بعد ألف و مائتي سنة من نزول هذا الكتاب الحكيم و أوضح علم الفلك،أن الشمس لها مجموعة من الكواكب و الأقمار و المذنبات،تتبعها دائما،و تخضع لقوة7.
ص: 213
جاذبيتها،و تجعلها تدور من حولها في مدارات متتابعة بيضاوية الشكل،و جميع أفراد هذه المجموعة تنتقل مع الشمس خلال حركتها الذاتية) (1).
و لو فتشنا في المعاجم عن معنى دائِبَيْنِ لوجدنا ما يلي:
في لسان العرب:(الدءوب،المبالغة في السير،و أدأب الرجل الدابة إدآبا،إذا أتعبها،و الفعل اللازم دأبت الناقة تدأب دءوبا،و رجل دءوب على الشيء...يقال:
دأبت أدأب دأبا و دءوبا،إذا اجتهدت في الشيء،و الدائبان:الليل و النهار) (2).
و في مختار الصحاح:(دأب في عمله،جد و تعب،و بابه قطع و خضع،فهو دائب، بالألف لا غير و الدائبان:الليل و النهار) (3).
يستخلص من معطيات النصوص القرآنية ما يلي:
1-أن الشمس تجري في الفضاء بسرعة منتظمة.
2-ستتوقف الشمس عن الجري في وقت ما،و سيكون لها مستقر محدد لا يعلمه إلا الحق سبحانه و تعالى.
ما ذا قال العلماء عن حركة الشمس و جريانها؟.
لقد أثبتت الأبحاث العلمية أن الأجرام كلها تجري في الفضاء،و لكل كوكب أو جرم فلك خاص به يدور حوله و لا يحيد عنه أبدا،و الشمس من هذه الأجرام السيارة، و لها ثلاث حركات تقوم بها معا.
(و تتمها الشمس حول نفسها في زمن متوسط قدره 30 يوما،و نقول في زمن متوسط،لأن جسم الشمس الغازي لا يتصرف عند دورته المحورية تصرف الأجسام
ص: 214
الصلبة،كالأرض فالمنطقة الاستوائية في الشمس تتم دورة كل 25 يوما،بينما تحتاج المنطقة الواقعة عند درجة عرض 30 من سطح الشمس إلى 4,26 يوما كي تتم الدورة، أما عند درجة عرض 60 من سطح الشمس،فإن المنطقة هناك تحتاج إلى 32 يوما لإتمام الدورة،و المنطقة الواقعة عند درجة عرض 80 من سطح الشمس تحتاج إلى 35 يوما كي تتم دورتها،و قد أمكن التأكد من دوران الشمس حول نفسها عن طريق رصد الكلف الشمسية،التي كانت تدور مع سطح الشمس و التي احتاجت إلى 15 يوما حتى أتمت نصف دورة من الدورة الكاملة للشمس.
تقوم الشمس مع كل منظومتها بدورة انتقالية حول مركز مجرتنا،و لما كانت المنظومة الشمسية واقعة قرب حافة المجرة،و تبعد عن مركزها بمقدار 30 ألف سنة ضوئية،فإنها تحتاج إلى 250 مليون سنة كي تتم دورتها حول المجرة،علما بأن سرعتها لا تقل عن 206-220 كيلومتر في الثانية،أي ما يعادل 741600 كم في الساعة.
لقد ثبت أن المجرات تنطلق في الكون متباعدة عن بعضها،و قد دعا العلماء هذه الظاهرة باسم«الانتشار الكوني»و قدرت سرعة مجرتنا و ضمنها شمسنا،و هي تبتعد عن غيرها من المجرات في الكون بمقدار 980 كيلومترا في الثانية،أي ما يعادل 3528000 كيلومترا في الساعة) (1).
و في«الموسوعة الفلكية»نجد(أن الشمس تدور حول محورها مرة كل خمسة و عشرين يوما و تقاس حركتها بمراقبة البقع الكبيرة المظلمة على سطحها و التي تعرف باسم الكلف الشمسية) (2).
و لكي نفهم الآيات القرآنية التي سلف عرضها،يجب علينا النظر في موقع الشمس داخل مجرتنا درب التبانة،و أن نستعين بمعطيات العلم الحديث التي تقول:(تتكون مجرتنا من عدد هائل من النجوم موزعة على أسطوانة أكثر تماسكا في المركز منها على
ص: 215
المحيط،و يصل عدد النجوم إلى 130 بليون نجم«شمس»،و تحتل النجوم موقعا يبعد عن مركز الأسطوانة،و بما أن المجرة تدور حول نفسها،و كأن محورها مركزها،فإن ناتج ذلك هو أن الشمس تدور حول نفس هذا المركز في مدار دائري...و الشمس تستغرق 250 مليون سنة تقريبا لتدور في فلكها دورة واحدة حول مركز المجرة،و تجري الشمس في هذه الحركة بسرعة تقريبية قدرها 250 كم/ثا،تلك هي الحركة المدارية للشمس و التي صرح بها القرآن الكريم منذ أربعة عشر قرنا،و هي الآن علامة من مكتشفات العلم الحديث و لاحظ التعبير القرآني الدقيق وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ فقد لوحظ أن لكل نجم فلكا خاصا به يجري فيه حول مركز المجرة،و يذكرنا الخالق سبحانه عدة مرات في القرآن الكريم بالحقيقة التالية وَ الشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها و هذه الآية تدل على أن الشمس تتحرك حركة انتقالية بالإضافة إلى سباحتها في فلك خاص بها) (1).
هذا موجز للمفاهيم العلمية التي تتوافق مع التصورات و الحقائق الإعجازية في القرآن الكريم و المتأمل في قوله تعالى: وَ الشَّمْسُ تَجْرِي و قوله جلّ جلاله: وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ يجد التطابق العلمي المدهش مع هذه النصوص القرآنية،حول جري الشمس الحقيقي في الفضاء و ليس الظاهري،و عن تعبير القرآن على الدورة المدارية للشمس حول مجرتنا،و بيان الحق المعجز هذا،في التعبير عن تحركات الشمس و دورانها بيان يدهش أولي العقول و العلوم و الألباب،و يدفع المنصفين للإقرار بعظمة هذا الكتاب العظيم.
و أما بيانه تعالى: لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَ لاَ اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (2).
(فكل كوكب،و كل نجم،و كل مذنّب،يسبح في فلكه الذي قدّر له،لا يتحول عنه و لا يحيد،و في نفس الوقت الكل في وحدة متماسكة مترابطة بفعل الجاذبية،التي تنطق
ص: 216
بوحدانية اللّه خالق هذا النظام و مبدعه،و لكي تحتفظ الأجرام السماوية بأبعاد ثابتة فيما بينها دون صدام جعلها الخالق الأعظم تتجاذب فيما بينها تجاذبا صغيرا محدودا، بحجم كل منها و كتلته و بعده عن الشمس،و وفق هذا التجاذب تظل مواقع النجوم فيما بينها ثابتة،و الأجرام و شمسها على مسافات و أبعاد تتحقق للجميع سبحا و طوافا دون تماس أو صدام...إنه ميزان اللّه الدقيق الذي أودعه في قانونه الأعظم للكون) (1)، وَ السَّماءَ رَفَعَها وَ وَضَعَ الْمِيزانَ (2).
صورة تمثل اتزان المجموعة الشمسية.
قال تعالى: وَ السَّماءَ رَفَعَها وَ وَضَعَ الْمِيزانَ ،و الميزان من الاتزان،و من الملاحظ أن الكواكب التسعة في المجموعة الشمسية على مستوى واحد و كأنّها طبق موزون.7.
ص: 217
صورة رقم:(9)،تمثل جذب الشمس للمنظومة الشمسية.
إن قانون الجاذبية و قانون التوازن،يعملان بإحكام و إتقان في النظام الشمسي،و في النظام النجمي الذي يلف المجرات و الكون بأسره،و كذلك يعملان في أدق و أصغر الأشياء،في الذرة التي تحتوي على نظام الدوران العجيب الموجود ذاته في النظام الشمسي و النظام المجري و النظام الفلكي العام،إنها قدرة اللّه التي خلقت كل شيء موزون،و بقدر...
ص: 218
الشمس متوهجة ملتهبة
قال تعالى: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَ جَعَلَ فِيها سِراجاً وَ قَمَراً مُنِيراً (1).
و قال سبحانه: وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (2).
و قال سبحانه: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً (3).
و قال تعالى: وَ جَعَلْنا سِراجاً وَهّاجاً (4).
تثبت هذه الآيات المعجزة حقيقة علمية رائعة،ألا و هي أن الشمس جرم متوهج ملتهب،و إذا ما رجعنا إلى أقوال المفسرين في صفات الشمس هذه،و إلى المعاجم اللغوية،فإننا سنجد ما يلي:
يقول الشوكاني: وَ جَعَلْنا سِراجاً وَهّاجاً المراد به الشمس،و جعل هنا بمعنى خلق، و الوهّاج الوقّاد،و يقال:وهجت النار تهيج وهجا و و هجانا،قال مقاتل:جعل فيه نورا و حرا و الوهج يجمع النور و الحرارة) (5).
وَ جَعَلْنا سِراجاً وَهّاجاً :(أي كالمصباح لأهل الأرض ليتوصلوا بذلك إلى التصرف في ما يحتاجون إليه من المعاش) (6).
و عند الرازي:(الوهج مجمع النور و الحرارة،فبيّن اللّه سبحانه و تعالى أن الشمس
ص: 219
بالغة إلى أقسى الغايات في هذين الوصفين،و هو المراد بكونها وهّاجا،و الوهج،حر النار و الشمس،و هذا يقتضي أن الوهاج هو البالغ في الحر) (1).
و يقول الزمخشري: وَ جَعَلْنا سِراجاً وَهّاجاً :(أي متلألئا وقّادا،يعني الشمس، و توهجت النار،إذا تلمظت فتوهجت بضوئها و حرها) (2).
وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً هي(الشّمس لقوله تعالى: وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً و قرئ، سرجا و هي الشّمس و الكواكب الكبار وَ قَمَراً مُنِيراً مضيئا بالليل،و قرئ قمرا أي ذات قمر،و هي جمع قمراء،و لما أنّ اللّيالي بالقمر تكون قمراء أضيف إليها ثمّ حذف و أجري حكمه على المضاف إليه القائم مقامه) (3).
و يفرّق الألوسي تفريقا نفيسا بين الضوء و النور هاهنا فيقول:(و قيل:و سمي بذلك لأنه يقمر ضوء الكواكب،و في الصحاح لبياضه،و في وصفه ما يشعر بالاعتناء به، و على الفرق المشهور بين الضوء و النور يكون في وصفه بمنير دون مضيء،إشارة إلى أن ما يشاهد فيه مستفاد من غيره و هو الشمس) (4).
و يسبق الرازي الألوسي بهذه الحقيقة و هذا التفريق فيقول:(و نقول:النور اسم لأصل هذه الكيفية،و أما الضوء،فهو اسم لهذه الكيفية إذا كانت كاملة تامة قوية،و الدليل عليه أنه تعالى سمى الكيفية القائمة بالشمس اَلشَّمْسَ ضِياءً و الكيفية القائمة بالقمر نُوراً و لا شك أن الكيفية القائمة بالشمس أقوى و أكمل من الكيفية القائمة بالقمر) (5).
و لو بحثنا في المعاجم عن معاني بعض المفردات الواردة في الآيات القرآنية،لنرى أبعادها اللغوية من مثل«سراج،منير،ضياء»فلسوف نجد التالي:
في لسان العرب:(السراج:المصباح الزاهر الذي يسرج بالليل،و الشمس سراج النهار،المسرجة بالفتح،التي توضع فيها الفتيلة و الدهن،كما أنه بضوء السراج يهتدي الماشي،السراج:الشمس،و في التنزيل: وَ جَعَلْنا سِراجاً وَهّاجاً (6).2.
ص: 220
(و السراج،الزاهر الذي يزهر بالليل،و المسرجة التي توضع فيها الفتيلة،و أسرجت الدابة و الشمس،سراج النهار،و الهدى سراج المؤمنين) (1).
و أما منير،ففي لسان العرب:(النور ضد الظلمة،و في المحكم النور:الضوء أيا كان،و قيل:هو شعاعه و سطوعه،و الجمع أنوار و نيران،و قد نار نورا و استنار) (2).
و في المصباح المنير:(النور،الضوء و هو خلاف الظلمة،و الجمع أنوار،و أنار الصبح إنارة أضاء و نور تنويرا و استنار استنارة كلها لازمة،و نار الشيء ينور نيارا بالكسر،و به سمي أضاء أيضا فهو نير) (3).
و أما معنى الضياء،فالضوء:(بالضم،الضياء و ضاءت النار تضوء ضوءا و ضوءا، و أضاءت أيضا و أضاءت غيرها يتعدى) (4).
من خلال هذا العرض يمكن لنا استخلاص معطيات الآيات القرآنية كما يلي:
أولا:تبين لنا أن الشمس قد وصفت بأنها«سراج و مضيء»و القمر دائما يوصف بأنه منير.
ثانيا:من المعلوم أن السراج تتقد فيه الحرارة المتوهجة فيرسل معها ضياء حراريا، و هذا هو شأن الشمس،أما الإنارة،فهي التي تملأ الحيز نورا و ضياء دونما حرارة، و هذا هو شأن القمر،فالقرآن إذا عرض الشمس وصفها بأنها سراج مضيء،لأن حرارتها تنبعث من داخلها،و إذا عرض القمر وصفه بأنه منير لأن إنارته و ضياءه مستمد من الشمس لا من ذاته،لأن القمر جرم قد برد مع مرور الزمن بعد تكوينه من الغبار، كما سيؤكّده لنا علماء الفلك.
هذا البيان القرآني المعجز،الذي وصف به حقيقة كلّ من الشمس و القمر،
ص: 221
و الخصائص و السمات التي ينطوي عليها كلّ منهما،قد كشف عنه العلم مؤخرا بعد إثبات القرآن له،و تحدث العلماء عن مصدر الطاقة الشمسية و عن التفاعلات النووية التي تحدث في داخلها و عن النتائج التي تفرزها تلك التفاعلات.
ففي الوقت الذي جاء فيه«أنيشتاين»بنظريته(النسبية الخاصة،التي أثبت فيها تحول الكتلة إلى طاقة،فتحت أمام العلماء آفاقا جديدة أطلوا منها على الشمس،و بدراسة الشمس توصلوا إلى أن مصدر حرارة الشمس و نورها هو حدوث تفاعلات نووية داخل جرم الشمس،تؤدي إلى دمج أربع نويات من الهيدروجين،أي أربع(بروتونات)مكونة نواة واحدة من غاز(الهيليوم)،و بما أن كتلة نواة غاز(الهيليوم)هي أصغر من الكتلة التي ألفتها نويات غاز(الهيدروجين)الأربعة بمقدار 007,0 فإن هذه الكتلة الفائضة، تتحول إلى طاقة من الحرارة و النور،تطلقها الشمس نحو الفضاء المحيط بها و بمجموعتها الشمسية) (1).
و يحدثنا نفس الكتاب«الشمس»عن توهج الشمس و لهيبها:(...و سطح الشمس دائم الاضطراب و الصخب،إنما يلاحظ أن ذلك الاضطراب يزداد و يشتد خلال فترة الهياج الشمسي،و من أهم مظاهر الاضطراب الشديد اندفاع ألسنة من اللهب،قاعدة كل منها تزيد مساحته على عدة ملايين الكيلومترات المربعة،و تبلغ تلك الألسنة ارتفاعات كبيرة،إذ يتجاوز بعضها مسافة 350 ألف كم كما أن اندفاعها يكون خاطفا...و قد تنطلق تلك الألسنة على شكل فوّارات عمودية من اللهب بينما يتخذ بعضها شكل أقواس نارية،و تكون بعض الأقواس من الطول و الضخامة إلى درجة تنعطف معها باتجاه سطح الشمس حيث تتصل به مؤلفة قنطرة مهيبة...و من مظاهر الهياج الشمسي الشواظ الشمسي،و الذي يبدو على شكل كتل غازية مضيئة،تلاحظ في الطبقة التاجيّة من الشمس و قد قذفت بعيدا عنها إلى مسافة تزيد أحيانا على 500 ألف كيلومتر،ليتبدد بعضها في الفضاء،بينما يرتد بعضها الآخر إلى سطح الشمس على شكل همرات (2)،أو كتل من الوهج) (3).3.
ص: 222
صورة للشمس تظهر التفاعلات النووية،و ألسنة اللهب تنطلق منها.
و ألسنة اللهب هذه تعتبر(من أبرز المظاهر الشمسية،و هي كتل غازية متوهجة يمكن رصدها بسهولة عند حافة الشمس،و توجد منها أصناف عديدة،فمنها ألسنة اللهب الهادئة حيث تهبط الغازات ببطء على امتداد خطوط المجال المغناطيسي،و ألسنة اللهب الأنشوطية،و منها الألسنة المتفجرة و هي الأقل شيوعا و فيها يقذف الغاز بعنف بعيدا عن الشمس،أما الوميض الشمسي فهو من أعنف مظاهر النشاط الشمسي،و هي تظهر كومضات لامعة تمكث من ثانية و حتى ما يقارب الساعة،و هي تنتج من التحرر المفاجئ لقدر كبير من الطاقة كان مختزنا في المجال المغناطيسي) (1).6.
ص: 223
و لقد مكّنت الدراسات النظرية المعتمدة على(تجارب مختبرات الفيزياء النووية، من معرفة التفاعلات التي تتم في داخل الشمس و ما ينجم من طاقة متولدة عن تلك التفاعلات:تفاعلات الاندماج(الهيدروجينية)و انتقال تلك الطاقة إلى السطح، و إشعاعها بعد ذلك في الفضاء...و سطح الشمس في حالة نشاط مستمر،إذ تكثر العواصف الشمسية،و البقع الشمسية،و(الفوتونات)،و ألسنة اللهب و الخيوط المنبثقة من السطح) (1).
كما يلاحظ(بالقرب من أطراف قرص الشمس مناطق فاتحة اللون«مشاعل»و تمثل هذه الظاهرة مناطق الغازات الشديدة التسخن،و المرتفعة إلى الطبقات العليا من الغلاف الجوي للشمس و تظهر هذه الظاهرة في أغلب الأحيان عند ما تحتل البقع الشمسية أطراف القرص الشمسي،عندها نشاهد المشاعل محيطة بالقرص،و هي لهيب و ألسنة نارية متوهجة) (2).
و أما القمر فهو:(ثاني الأجرام سطوعا بعد الشمس،و لكنه لا ينبعث منه ضوء من تلقاء نفسه لأنه ليس ملتهبا متوهجا توهجا ذاتيا كالشمس،و لكنه بارد ينير كالمرآة يعكس جزءا من ضوء الشمس الساقط عليه) (3).
و لقد ثبت للعلماء أن القمر:(يعكس الضوء كالمرايا،ذلك الضوء الذي يأتيه من الشمس و القمر ليس جسما ملتهبا كالشمس كي يكون مضيئا بنفسه،فقد نزل عليه رواد الفضاء من الأمريكيين و أثبتوا أنه جسم صخري قليل الصلابة،و تتميز صخور القمر باللون الرمادي الغامق الداكن،و تشبه في ذلك لدرجة كبيرة لون الصخور الأرضية،أما تربته التي تعكس ضوء الشمس فتتخذ درجات الأسود الغامق...و الدراسات كلها تؤكد أن قشرة القمر أسمك كثيرا من قشرة الأرض،بل يحتمل أن يكون القمر صلبا في2.
ص: 224
جميع طبقاته حتى المركز،على اعتبار أنه برد إلى درجة عظيمة بمعدل أسرع مما بردت به أرضنا نظرا لصغر كتلته،فما معنى هذا كله؟...هذا معناه وجود الأدلة المادية من صخور القمر قد حللها العلماء بالفعل على الأرض،بما يؤكد أنه صخري و ليس نارا ملتهبة مثل الشمس و ينبني على ذلك أن القمر ليس مصدرا للضوء مثل الشمس و إنما هو عاكس فقط له) (1).
سبحان اللّه،هذا ما وصل إليه علماء عصرنا بعد أكثر من أربعة عشر قرنا،غير أن الحق سبحانه و تعالى قد سجل هذه الحقيقة العلمية في كتابه العظيم،لقد قرر القرآن منذ نزوله على النبي الأمي صلى اللّه عليه و سلم أن الشمس جسم ملتهب،و كرة نارية تصدر عنها الحرارة و الضوء،بخلاف القمر الذي يستمد نوره من ضوء الشمس،قال اللّه تبارك و تعالى: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَ جَعَلَ فِيها سِراجاً وَ قَمَراً مُنِيراً (2)،و قال سبحانه: وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (3)،و قال سبحانه: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً (4).
فما ينبغي لذي عقل منصف أن يقول:هناك تعارض بين العلم و الدين،أو أن يقول:
الدين أفيون الشعوب أو سبب تخلفها،لأن القرآن الذي حفظه اللّه تعالى،حقائقه و قوانينه الكونية تخرج هي و حقائق العلم من مصدر و مشكاة واحدة ألا و هي علم العليم جل جلاله.
ص: 225
تعدد الشموس و الأقمار
قال تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَ النَّهارُ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لا لِلْقَمَرِ وَ اسْجُدُوا لِلّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ (1).
تشير هذه الآية الكريمة من خلال قوله تعالى: خَلَقَهُنَّ إلى تعدد الشموس و الأقمار في هذا الكون،فالحق سبحانه و تعالى أتى بضمير الجمع المؤنث بدلا من ضمير المثنى،و كان مساق الآية يقتضي حسب قواعد اللغة أن يقول:(خلقهما)إشارة إلى شمسنا و قمرنا،لكنه عدل عن المثنى إلى الجمع ليسطّر معجزة قرآنية كونية هنا، و هي أن اللّه سبحانه و تعالى خلق شموسا و أقمارا كثيرة و هذا ما أثبته العلم و قرره الحق.
و بإلقاء نظرة دقيقة في تفاسير العلماء رحمهم اللّه تعالى،يتبين لنا إدراكهم لبعد هذه الإشارة القرآنية المعجزة.
يعلق الإمام الطبري على الآية فيقول:(يقول تعالى ذكره:و من حجج اللّه تعالى على خلقه و دلالته على وحدانيته،و عظيم سلطانه،اختلاف الليل و النهار،و معاقبة كلّ واحد منهما صاحبه و الشمس و القمر،لا الشمس تدرك القمر و لا اللّيل سابق النّهار و كلّ في فلك يسبحون،لا تسجدوا أيها الناس للشمس و لا للقمر،فإنهما و إن جريا في الفلك بمنافعكم،فإنما يجريان به لكم بإجراء اللّه إياهما لكم طائعين له في جريهما و مسيرهما،لا بأنهما يقدران بأنفسهما على سير و جري دون إجراء اللّه إياهما و تسييرهما،أو يستطيعان لكم نفعا أو ضرّا و إنما اللّه مسخرهما لكم لمنافعكم و مصالحكم،فله فاسجدوا،و إياه فاعبدوا دونها،فإنه إن شاء طمس ضوءهما،فترككم حيارى في ظلمة لا تهتدون سبيلا،و لا تبصرون شيئا...و قيل:و اسجدوا للّه الّذي
ص: 226
خلقهنّ،فجمع بالهاء و النون،لأن المراد من الكلام،و اسجدوا للّه الذي خلق الليل و النهار و الشمس و القمر،و ذلك جمع،و أنث كنايتهن) (1).
و عند القرطبي:(قوله تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ علاماته الدالة على وحدانيته و قدرته اَللَّيْلَ وَ النَّهارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ و قد مضى في غير موضع،ثم نهى عن السجود لهما،لأنهما و إن كانا خلقين فليس ذلك لفضيلة لهما في أنفسهما فيستحقان بها العبادة مع اللّه،لأن خالقهما هو اللّه و لو شاء لأعدمهما أو طمس نورهما: وَ اسْجُدُوا لِلّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ و صورهنّ و سخرهنّ،فالكناية ترجع إلى الشمس و القمر و الليل و النهار، و قيل:للشمس و القمر خاصة،لأن الاثنين جمع،و قيل:الضمير عائد على معنى الآيات إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ و إنما أنث على جمع التكثير،و لم يجر على طريق التغليب للمذكر و المؤنث لأنه فيما لا يعقل) (2).
و في تفسير الرازي:(و لما بيّن أن الشمس و القمر محدثان،و هما دليلان على وجود الإله القادر قال: لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لا لِلْقَمَرِ يعني أنهما عبدان دليلان على وجود الإله،و السجدة عبارة عن نهاية التعظيم فهي لا تليق إلا بمن كان أشرف الموجودات،فقال: لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لا لِلْقَمَرِ لأنهما عبدان مخلوقان وَ اسْجُدُوا لِلّهِ الخالق القادر الحكيم،و الضمير في قوله: خَلَقَهُنَّ لليل و النهار و القمر،لأن حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى أو الإناث،يقال للأقلام بريتها و بريتهن،و لما قال: وَ مِنْ آياتِهِ كن في معنى الإناث فقال: خَلَقَهُنَّ ،و إنما قال: كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ لأن ناسا كانوا يسجدون للشمس و القمر،كالصابئين في عبادتهم الكواكب و يزعمون أنهم يقصدون بالسجود لهما السجود للّه فنهوا عن هذه الواسطة،و أمروا أن لا يسجدوا إلا للّه الذي خلق الأشياء) (3).
و في تفسير«روح المعاني»: وَ مِنْ آياتِهِ الدالة على شئونه الجليلة جل شأنه تعالى: اَللَّيْلِ وَ النَّهارِ في حدوثهما و تعاقبهما و إيلاج كل منهما في الآخر وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ في استنارتهما و اختلافهما في قوة النور و العظم و الآثار و الحركات مثلا،7.
ص: 227
و قدم ذكر الليل قيل:تنبيها على تقدمه مع كون الظلمة عدما،و ناسب ذكر الشمس بعد النهار لأنها آيته و سبب تنويره،و لأنها أصل لنور القمر بناء على ما قالوا من أنه مستفاد من ضياء الشمس،و أما ضياؤها فالمشهور أنه غير طارئ عليها من جرم آخر،و قيل:
هو من العرش،لأنها من جملة مخلوقاته سبحانه و تعالى المسخرة على وفق إرادته تعالى مثلكم وَ اسْجُدُوا لِلّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ الضمير قيل للأربعة المذكورة،و المقصود تعليق الفعل بالشمس و القمر،لكن نظم معهما الليل و النهار إشعارا بأنهما من عداد ما لا يعلم و لا يختار ضرورة أن الليل و النهار كذلك،و لو ثنى الضمير لم يكن فيه إشعار بذلك) (1).
و في«أنوار التنزيل»: وَ مِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَ النَّهارُ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لا لِلْقَمَرِ لأنهما مخلوقان مأموران مثلكم وَ اسْجُدُوا لِلّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ الضمير للأربعة المذكورة و المقصود تعليق الفعل بهما إشعارا بأنهما من عداد ما لا يعلم و لا يختار، إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ فإن السجود أخص العبادات و هو موضع السجود عندنا لاقتران الأمر به) (2).
رأينا كيف أن المفسرين رحمهم اللّه تعالى،حاولوا أن يعيدوا الضمير خَلَقَهُنَّ للأربعة«الليل و النهار و الشمس و القمر»،و الحق أن الضمير في خَلَقَهُنَّ يرجع للشمس و القمر فقط،لأن المشركين كانوا يعبدون من جملة ما يعبدون الشمس و القمر، و لذلك وبخهم الحق في كثير من الآيات و نهاهم أن يعبدوهما،و لم يرد قط أن المشركين عبدوا طبيعة الليل أو طبيعة النهار؟.
و على هذا فإن الجمع هنا خَلَقَهُنَّ جاء آية معجزة كشف عنها علماء عصرنا، عند ما تحقّقوا بالدليل العملي و المرئي أن في كوننا ملايين من الشموس،و الكثير من الأقمار.
أما عن تعدّد النجوم فقد وجد العلماء أن:(النجوم على أنواع مختلفة،و هي برغم ظهورها للعين نقاطا لامعة في السماء،إلا أنها شموس مثل شمسنا،و تظهر هكذا
ص: 228
لبعدها عنا،حيث أن أقرب نجم إلينا يبعد مسافة تزيد على أربع سنوات ضوئية،و هو نجم(الشعرى)و لبعض النجوم كتلة تقل عن كتلة الشمس،و لبعضها الآخر كتلة تزيد بمائة ضعف و أكثر على كتلة الشمس) (1).
ثم إن النجوم التي تتكشّف لنا ليلا(تكون جزءا من مجموعات نجمية هائلة،و بطبيعة الحال فإن الشمس هي أقرب النجوم إلى الأرض،و إن كان ضوؤها يستغرق حوالي 8,5 دقائق ليصل إلينا و فيما عدا النجوم القريبة من الشمس،و هي التي تكون مضيئة،و يمكن رؤيتها بوضوح بالعين المجردة فهناك نجوم أخرى تبعد عنا مسافات بالغة،لدرجة أننا نشاهدها على هيئة سحب ضوئية تختلف شدتها،و يمكن للراصد في ليلة صافية أن يرى حوالي 2750 نجم في الكرة السماوية بالعين المجردة كما أن هناك العديد من النجوم التي لا نستطيع رؤيتها بسبب ما يفصل بيننا و بينها من السحب الغازية) (2).
و لقد اتضح أن شمسنا إحدى(نجوم مجرة تدعى(سكة التبانة)و هي عبارة عن تجمع نجمي هائل يحتوي على 130 بليون نجم(شمس)و أن الكون يحتوي على أكثر من 2 بليون مجرة،أي أن عدد النجوم في الكون أكثر من مائة بليون بليون نجم(شمس)،و أن هذه النجوم تتعدّد أنواعها حسب قوة إضاءتها و درجة حرارتها و كتلتها،إلى أنواع تتدرّج تنازليا في هذه الصفات إلى النوع الأزرق-الأبيض المزرق-الأبيض-الأبيض المصفر-الأصفر-الأصفر البرتقالي-الأحمر،و أن شمسنا من النوع الأصفر فهي نجم متوسط،و هناك نجوم أخرى عملاقة تدعى العمالقة الحمراء،و نجوم أخرى أقزام تدعى الأقزام البيضاء) (3).
و أما عن تعدد الأقمار فقد ثبت و تحقق وجود الكثير من الأقمار(و أغلب كواكب المجموعة الشمسية لها توابع تدور حولها،كما يتبع القمر الأرض و يدور حولها، فالتوابع كالكواكب أجسام باردة غير ملتهبة و لكن تصغرها حجما،و ترتبط معها برباط7.
ص: 229
الجاذبية فتدور حولها،فهي أقمارها و لكن ليست كل كواكب المجموعة الشمسية في مثل قناعة الأرض تكتفي بجذب تابع واحد و هو القمر،فكثير من الكواكب الأخرى لها أكثر من تابع،و المشتري على ضخامته له«12»تابعا يدور حوله) (1).
و زيادة لتأكيد القضية و الفائدة في آن واحد،نورد أرقاما و جداول بالأقمار.
و للمريخ(قمران هما«فوبوس و ديموس»يدور الأول حوله ثلاث مرات في اليوم الواحد،أما الثاني فإن دورته بحدود 30 ساعة،و كلا القمرين صغير جدا إذ يبلغ قطر الأول 13 كيلومتر ،و قطر الثاني 8 كيلومترات فقط) (2).
(و أقمار المريخ مظلمة جدا،درجة القدرة على عكس نور الشمس هي 5% و موادها التكوينية يمكن أن تكون مشابهة للمواد الفحمية و كل منها مغطّى بطبقة سطحية من المواد الصخرية المفكّكة بسماكة عدة مليمترات) (3).
و أما المشتري فعدد أقماره:(ستة عشر قمرا،تقع ثمانية منها على أبعاد صغيرة من الكوكب لا تتعدى مليون كيلومتر،بينما تتزايد أبعاد أربعة منها 12 مليون كيلومتر،أما الأربعة الأخرى فتدور على مسافات بين 21-24 مليون كيلومتر في اتجاه عكسي و في مستويات ذات ميل كبير،و قد اكتشفت حول المشتري حلقة رقيقة تدور حول الكوكب من حصوات صغيرة الحجم) (4).3.
ص: 230
التسلسل\القمر\سنة الاكتشاف\قطره\بعده عن المشتري 1-ميتس Metis \1979\49 كلم\600,172 كلم 2-ادراستيا Adrastea \1979\35 كلم\000,134 كلم 3-امالثيا\ Amalthea \1892\166 كلم\300,181 كلم 4-ثيبي\ Thebe \1979\75 كلم\000,222 كلم 5-آيو Io \1610\3632 كلم\600,421 كلم 6-أوروبا Europa \1610\3126 كلم\900,670 كلم 7-غانيميد Ganymede \1610\5276 كلم\1,1 مليون كلم 8-كاليستو Callisto \1610 4820 كلم\9,1 مليون كلم 9-ليدا Leda \1974\16 كلم\1,11 مليون كلم 10-هيماليا Himalia \1904\186 كلم\5,11 مليون كلم 11-لايسثيا Lysithea \1938 19 كلم\7,11 مليون كلم 12-إلارا Elara \1905 80 كلم\7,11 مليون كلم 13-أنانكي Ananke \1951\30 كلم 7,20 مليون كلم 14-كارمي Carme \1938\40 كلم\4,22 مليون كلم 15-باسيفاي Pasiphae \1908\50 كلم\3,23 مليون كلم 16-سينوب Sinope \1914\36 كلم\7,23 مليون كلم جدول رقم:(1)،يبين سنة اكتشاف القمر و قطره و بعده عن المشتري (1).
أقمار زحل و حلقاته:(و يدور حول زحل 18 قمرا و 7 حلقات ترى منها على الأرض 3 حلقات،و أكبر أقمار زحل هو القمر«تيتان»و هو ثاني أقمار المجموعة الشمسية بعد «جانيمن»،ثم يلي تيتان في الكتلة 8 أقمار متوسطة،و الباقية أقمار صغيرة أشكالها غير3.
ص: 231
منتظمة،و أبعد أقمار زحل يسمى«فوب»يبعد تقريبا 4 أمثال بقية الأقمار و يتحرك حركة تقهقرية) (1).
التسلسل\القمر\سنة الاكتشاف\قطرة\بعده عن زحل 1-بان Pan \1990\20 كلم\570,133 كلم 2-أطلس Atlas \1980\30 كلم\670,137 كلم 3-بروميثوس Prometheus \1980\220 كلم\353,139 كلم 4-باندورا Pandora \1980\90 كلم\700,141 كلم 5-ابيميثوس Epimetheus \1966\119 كلم\422,151 كلم 6-جانوس Janus \1966\190 كلم\472,151 كلم 7-ميماس Mimas \1789\390 كلم\600,185 كلم 8-انسيلادوس Enceladus \1789\500 كلم\100,238 كلم 9-تيثز Tethys \1684\1050 كلم\342,292 كلم 10-تيليستو Telesto \1980\22 كلم\700,294 كلم 11-كاليبسو Calypso \1980\25 كلم\670,294 كلم 12-ديون Dione \1684\1120 كلم\500,377 كلم 13-هيليني Helene \1980\32 كلم\060,378 كلم 14-ريا Rhea \1672\1530 كلم\200,527 كلم 15-تيتان Titan \1655\5150 كلم\2,1 مليون كلم 16-هيبريون Hyperion \1848\250 كلم\5,1 مليون كلم 17-يابيتوس Iapetus \1671\1460 كلم\6،3 مليون كلم جدول رقم:(2)،يبين سنة اكتشاف القمر و قطره و بعده عن زحل (2).4.
ص: 232
(أقمار أورانوس الخمسة عشر) (1).
التسلسل\القمر\سنة الاكتشاف\قطره\بعده عن أورانوس 1-كوريديليا Cordelia \1986\40 كلم\700,49 كلم 2-اوفيليا Ophelia \1986\50 كلم 800,53 كلم 3-بيانكا Bianca \1986\50 كلم\200,59 كلم 4-جولييت Juliet \1986\60 كلم\800,64 كلم 5-ديسديمونا Desdemona \1986\60 كلم\700,62 كلم 6-روزالند Rosalind \1986\80 كلم\900,69 كلم 7-بورتيا Portia \1986\80 كلم\100,66 كلم 8-كريسيدا Cressida \1986\60 كلم\900,69 كلم 9-بيلندا Belinda \1986 60 كلم\300,75 كلم 10-بوك Puck \1985\170 كلم\000,86 كلم 11-ميراندا Miranda \1948\480 كلم\282,128 كلم 12-آرييل Ariel \1951\1160 كلم\900,190 كلم 13-امبريال Umberial \1951\1190 كلم\000,266 كلم 14-تيتانيا Titania \1787\1610 كلم\300,436 كلم 15-أوبيرون Oberon \1787\1550 كلم\400,583 كلم جدول رقم:(3)،يبين سنة اكتشاف القمر و قطره و بعده عن أورانوس (2).
(و هذه حلقات نبتون بالإضافة إلى منبسط ما يسمى في بعض الأحيان الحلقة8.
ص: 233
«1989 N 4»الحلقة التي تقع داخل حلقة(أدامز)تتحرك في المدار نفسه لمدار القمر الصغير«غالاتيا»الذي تم اكتشافه حديثا) (1).
اسم الحلقة\المسافة من مركز نبتون(كلم)\العرض غال\900,41\50 لوفيرييه\200,53\50 المنبسط\200,53-100,59\4000 أدامز\900,62\50 جدول رقم:(4)،يبين اسم الحلقة،و المسافة من مركز نبتون،و العرض (2).
التسلسل\القمر\سنة الاكتشاف\قطره\بعده عن نبتون 1-ناياد Naiad \1989\50 كلم\000,48 كلم 2-ثالاسا Thalassa \1989\90 كلم\000,50 كلم 3-دسينيا Despina \1989\180 كلم\500,52 كلم 4-غالاتيا Galatea \1989\160 كلم\000,62 كلم 5-لاريسا Larissa \1989\200 كلم\100,73 كلم 6-بروتيوس Proteus \1989\420 كلم\600,117 كلم 7-ترايتون Triton \1846\2700 كلم\760,354 مليون كلم 8-نيريد Nereid \1949\3400 كلم\5,5 مليون كلم جدول رقم:(5)،يبين سنة اكتشاف القمر و قطره و بعده عن نبتون (3).
ص: 234
تلك هي أقمار المجموعة الشمسية التي يتربع على عرشها نجم الشمس الكبير، و تطوف حوله تسعة كواكب سيارة و مجموعة أقمار لها،إضافة إلى آلاف الكويكبات و ملايين المذنبات التي تحفها.
و رأينا أن لكل كوكب مداره الخاص،و فلكه الذي يطوف فيه بدقة و نظام قد حدده خالق الأكوان جل جلاله ف لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَ لاَ اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (1).
و ما تلك النجوم المرصعة في كبد السماء و التي تصل إلى المليارات المليارات ما هي إلا شموس كشمسنا و إن اختلفت في الحجم و الإشعاع،لكن طبيعتها واحدة،لأنّ خالقها سبحانه تعالى واحد إنها آيات اللّه في الآفاق و في الأكوان،و كلها ناطقة بالوحدانية، فالجمع في قوله: خَلَقَهُنَّ جاء ليترجم هذه الحقائق العلمية التي توصل إليها العلماء في تعدد الشموس و الأقمار،و لكنها أسبقية سطّرها القرآن الكريم قبل أربعة عشر قرنا.
و ما حدثنا عنه علم الفلك هو شيء يسير جدا،و يكاد لا يذكر أمام الكون العظيم المجهول و مهمة الإنسان أن يسير في الأرض معتبرا،و ينظر في السماء دارسا و باحثا عن آيات اللّه في الآفاق قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ (2).
ص: 235
صورة توضح بعض أقمار الكوكب العملاق المشتري (1)ml
ص: 236
موت الشمس و نهايتها بين القرآن و العلم
يقول مولانا تبارك و تعالى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1).
و يقول سبحانه و تعالى: وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ (2).
و يقول جل جلاله: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (3).
كثير ممن أعلنوا التمرد على الإيمان و التوحيد،و انغمسوا في حمأة الإلحاد،ظنوا أن الحياة الدنيا هي خلود أبدي،و أن الذي يمسك بزمام الأحياء إنما هي الطبيعة و الدهر،و راحوا ينسجون تصورات بالية،و خيالات وهمية حول ذلك،و كان من جملة هذه المعتقدات أن الشمس لن تموت،بل إن بعضهم قد جعلها إلها و عبدها!.
و تدور حركة الزمان،و تتهاوى تلك الخرافات بل و حتى تلك النظريات التي تتحدث على استمرارية الشمس في الحياة إلى اللانهاية،و يقتنع العلماء و يجمعون،كما سنرى على أن الشمس أمضت أكثر من نصف عمرها،و أن نهايتها محتومة،و انطفاؤها آت لا محالة.
و هناك نصوص قرآنية كثيرة تشير إلى أخطر الأحداث التي ستطرأ على الشمس و على الكون بأسره،إنها النهاية التي سيمتد سلطانها على المكونات جميعا،حيث ينفرط عقد الشمس المنتظم و تكور الشمس،و ينطفئ لهيبها،و تخمد و تقع واقعتها...
إنها نهاية رهيبة عبّر عنها القرآن بالفناء كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (4)،و لسيد قطب رحمه اللّه وصف و تعليق رائع على الآية فيقول:(في ظل هذا النص القرآني تخفت الأنفاس،و تخشع
ص: 237
الأصوات و تسكن الجوارح،و ظل الفناء يشمل كل حي،و يطوي كل حركة،و يغمر آفاق السموات و الأرض،و جلال الوجه الكريم الباقي يظلل النفوس و الجوارح، و الزمان و المكان،و لا يملك التعبير البشري أن يصور الموقف،و لا يملك أن يزيد شيئا على النص القرآني الذي يسكب في الجوانح السكون الخاشع،و الجلال الغامر، و الصمت الرهيب...الصمت الذي يرسم مشهد الفناء الخاوي) (1).
و في تفسير القرطبي:(قوله تعالى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ قال ابن عباس:تكويرها، إدخالها في العرش،و قال الحسن:ذهاب ضوئها،و قال سعيد بن جبير:عوّرت،و أبو عبيدة:كورت مثل تكوير العمامة،تلف فتمحي،قلت:و أصل التكوير:الجمع، مأخوذ من كار العمامة على رأسه يكورها أي لاثها و جمعها،فهي تكوّر و يمحى ضوؤها،ثم يرمى بها في البحر،و اللّه أعلم) (2).
و يقول الطبري:(اختلف أهل التأويل في قوله تعالى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ فقال بعضهم:معنى ذلك إذا الشمس ذهب ضوؤها،فعن أبيّ بن كعب،قال:ستّ آيات قبل يوم القيامة:بينا الناس في أسواقهم،إذ ذهب ضوء الشمس،فبينما هم كذلك،إذ تناثرت النجوم،فبينما هم كذلك،إذ وقعت الجبال على وجه الأرض،فتحرّكت و اضطربت و احترقت،و فزعت الجنّ إلى الإنس،و الإنس إلى الجنّ،و اختلطت الدوابّ و الطير و الوحش،و ماجوا بعضهم في بعض،و وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ، اختلطت و وَ إِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ ،قال:أهملها أهلها:و وَ إِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ ،قال:
قالت الجنّ للإنس:نحن نأتيكم بالخبر قال:فانطلقوا إلى البحار،فإذا هي نار تأجّج قال:فبينما هم كذلك إذ تصدّعت الأرض صدعة واحدة،إلى الأرض السابعة السفلى، و إلى السماء السابعة العليا قال:فبينما هم كذلك إذ جاءتهم الريح فأماتتهم،و عن مجاهد: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ قال:اضمحلت و ذهبت،و عن قتادة،في قوله تعالى:
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ قال:ذهب ضوؤها فلا ضوء لها) (3).
و كذلك قال ابن كثير:(معنى قوله تعالى: كُوِّرَتْ جمع بعضها إلى بعض،ثم لفت فرمي بها و إذا فعل بها ذلك ذهب ضوؤها) (4).8.
ص: 238
و يعلق الإمام الرازي على النهاية تعليقا جميلا فيقول رحمه اللّه:(ما معنى قوله تعالى:
فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ ؟نقول:المشهور أنها في الحال تكون حمراء،يقال:فرس ورد إذا أثبت للفرس الحمرة،و حجرة وردة أي حمراء اللون،و قد ذكرنا أن لهيب النار يرتفع في السماء فتذوب فتكون كالصفر الذائب حمراء،و يحتمل وجها آخر و هو أن يقال:وردة للمرة من الورود،كالركعة و السجدة و الجلسة و القعدة،من الركوع و السجود و الجلوس و القعود،و حينئذ الضمير في فَكانَتْ وَرْدَةً واحدة،أي الحركة التي بها الانشقاق كانت وردة واحدة،و تزلزل الكل و خرب دفعة و الحركة معلومة بالانشقاق لأن المنشق يتحرك،و يتزلزل،و قوله تعالى: كَالدِّهانِ فيه وجهان أحدهما:جمع دهن،و ثانيهما:أن الدهان هو الأديم الأحمر،فإن قيل:الأديم الأحمر مناسب للوردة فيكون معناه كانت السماء كالأديم الأحمر،و لكن ما المناسبة بين الوردة و بين الدهان؟نقول:الجواب عنه من وجوه الأول:المراد من الدهان ما هو المراد من قوله تعالى: يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (1)،و هو عكر الزيت و بينهما مناسبة، فإن الورد يطلق على الأسد فيقال:أسد ورد،فليس الورد هو الأحمر القاني،و الثاني:
أن التشبيه بالدهن ليس في اللون بل في الذوبان،و الثالث:هو أن الدهن المذاب ينصب انصبابة واحدة و يذوب دفعة،و الحديد و الرصاص لا يذوب غاية الذوبان، فتكون حركة الدهن بعد الذوبان أسرع من حركة غيره،فكأنه قال:حركتها تكون وردة واحدة كالدهان المصبوبة صبا،لا كالرصاص الذي يذوب منه ألطفه و ينتفع به و يبقي الباقي،و كذلك الحديد و النحاس،و جمع الدهان لعظمة السماء و كثرة ما يحصل من ذوبانها لاختلاف أجزائها فإن الكواكب تخالف غيرها) (2).
إذن،لا حاجة لمزيد من الآيات التي تصف نهاية الشمس و الكون،و لا لأقوال العلماء و المفسرين التي ملأت آلاف المجلدات و هي تتحدث على مشاهد الخراب و الدمار الذي سيلف الكون بأسره،فإن هذه القضية من مسلّمات الإيمان لدى الإنسان المؤمن،و يتسنّى لنا الآن أن نصغي إلى نتائج أبحاث العلماء حول نهاية الشمس و موتها.9.
ص: 239
أفاض العلماء في الحديث عن نهاية الشمس،و عن الصورة الرهيبة التي ستنتقل إليها و تتلوّن بها عند أنفاسها الأخيرة،و اعتبروا الشمس:(مثل أي إنسان لها مولد و بداية، ثم شباب،ثم شيخوخة،ثم موت...إن الشمس تتقلّص بتأثير الجاذبية،و هكذا تنقلب الطاقة إلى أشعة،و بناء على ذلك ستصل الطاقة الشمسية إلى نهاية محتومة، و حسب هذه الحقيقة ستتقلص الشمس،و بالتالي يتركز حقل الجاذبية في حجم أصغر، و بالتالي يزداد التركيز أكثر،و يتسارع التقلص فيزداد إنتاج الطاقة،و يتناقص رصيد الشمس منها بالتدريج،حتى تخمد و تتوقف عن التقلص حتى تموت،بعد أن ينفد مصدر طاقتها،و لا تجد إشعاعا ترسله إلى ما حولها...لقد قضت الشمس 25 مليون سنة حتى بلغت حجمها الحالي،و لا ندري كم ستحتاج من الوقت حتى تبلغ مرحلة العدم،صحيح أن الطاقة النووية تعطي القدرة للشمس،و بما أنها معين هائل فإنها تؤخر حدوث الكارثة،و لكن تبقى الحقيقة المؤلمة و هي أن الشمس ستصل إلى نقطة ختام، حتى و لو بعد ملايين السنين) (1).
(إن ضوء الشمس في ازدياد بشكل بطيء،و سيستمر الازدياد دون توقف في المستقبل،إلى أن ينتهي(الهيدروجين)الموجود في مركزها،و عند ما تأخذ عملية نشوئها وقعا سريعا،و سيحدث ذلك بعد خمسة مليارات من السنين،و هذا يفسّر على أنه بمرور الزمن فإن الشمس تزداد حجما و سرعة إضاءة ثم تنتفخ عند جوانبها،و تأخذ في البرودة إلى أن تصبح عملاقة حمراء،و عندها سيكون في مقدور طبقتها الجوية الرقيقة الهائلة،أن تبتلع كوكب عطارد ثم الزهرة،و من الممكن الأرض،و لكن عند نمو احمرارها،فإن بروزها يقارب وصوله إلى الأرض،و عندها سوف لن يكون في إمكان الشمس التهام أكثر من شعبة صخرية ملتهبة،و بعد ذلك يأتي زمن اختفاء الشمس من المشهد المعلوم،حيث تنكمش و تصير غير مستقرّة،و في النهاية لا يبقى منها إلا أطلالها،حيث تنكمش مادتها حول مركزها،و تتحوّل بعد كل ذلك إلى قطعة قزمة بيضاء،و تكون نجمة الشمس عندها قد ماتت) (2).
ص: 240
و يعتقد العلماء(أنه مع مرور الزمن ستحرق الشمس وقودها بسرعة أكبر،بسبب الانكماش المستمر للنجوم من فئتها و تعاظم حرارتها الداخلية،و بالتالي تسريع التفاعلات النووية،لذلك لا يقدّر لها العيش أكثر من خمسة مليارات سنة أخرى، فعند ما تتعاظم الإشعاعات تسخن الشمس لدرجة تبدأ معها مياه البحار بالغليان،و يقدر أن الشمس في طورها الأخير ستمر بحالة العملاق الأحمر،و لكن عندها قد تكون الحياة قد زالت عن الأرض منذ زمن طويل،عند ما ينفذ الوقود نهائيا تعود الشمس و تنكمش على نفسها بشكل نجم صغير جدا«قزم أبيض»،بعد ذلك تموت نهائيا بانطفاء كامل) (1).
و أجواء الموت التي ستخيم على(المجموعة الشمسية حتى فيما بعد كوكبنا الأرضي،و موت الشمس ذاتها،هي بلا شك أحداث بالغة الدرامية بالمقاييس الإنسانية،أما على الصعيد الكوني فلا ترتدي تلك الأحداث أية أهمية خاصة،ليس فقط لأن الشمس نجم من آلاف ملايين النجوم في المجرة،و وجوده أو موته لن ينقص أو يزيد في محتويات تلك الحجرة في المجرة،بل لأن موت الشمس ذاتها على الرغم من كل شيء،هو موت هادئ،و هو أشبه بالشمعة المحترقة إلى جانب التفجيرات النووية،و ذلك بالمقارنة مع موت النجوم الأخرى...و إذا تابعنا حياة نجم من هذا الصنف نجد أنه يحرق وقوده النووي المركزي،و يستنفذه بسرعة خلال عدة ملايين من السنين فقط،و يتحول من ثم إلى عملاق أحمر،و بدلا من أن يتبع بعد ذلك مسلكا متدرجا في تحوله إلى قزم أبيض لا يعاني خلاله من أي اضطراب إلا فيما ندر،نجده يحرر طاقة ثقالية هائلة عبر انهياره الهادف لبدء دورات جديدة من الاحتراق النووي، الذي ينتهي بتكوين الفحم في باطنه...و عند ما يسود الفحم في نواة النجم تتقلص الطبقات الداخلية للنجم بعد ذلك،بينما تتمدد طبقاته الخارجية متحولة إلى غلاف جوي رقيق و دافعة بتيارات من المادة عبر الفضاء،يصبح النجم مرة أخرى عملاقا أحمر،و لكنه يبقى حتى تلك المرحلة قادرا على تجديد نفسه و الدخول في دورات جديدة من تفاعلات الاندماج النووي لتصنيع عناصر متدرجة في الثقل،عبر أطوار1.
ص: 241
متتابعة من النبض و الانهيار،حتى تتحول النواة برمتها إلى الحديد،و إذ ذاك تتوقف كل نشاطات النجم،و لا يبقى من خيار أمام النواة بعد ذلك إلا التبرد و الانهيار) (1).
رأينا أسبقية القرآن الكريم في تدوين و تقرير موت الشمس،لكن من المدهش حقا أن يأتي العلماء الفلكيون،و خاصة الغربيون منهم الذين لا يؤمنون بهذا القرآن العظيم، يقرروا نفس النتيجة لا من حيث موت الشمس فحسب،بل في الكيفية التي ستئول إليها الشمس عند الموت.
لقد قال الفلكيون كما سبق:إن الشمس في نهايتها ستتحول إلى عملاق أحمر،و لم يكتفوا بهذا بل زادوا على ذلك بأن قالوا:ستعود الشمس و تنكمش على نفسها بشكل نجم صغير جدا،و بعد ذلك تموت نهائيا بانطفاء كامل...
و هذا هو المعنى الدقيق للتكوير، إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ لأن تكوير الشمس يعني انكماشها على نفسها و انطفاء لهيبها،فلا إله إلا اللّه ما أعظم هذا القرآن و ما أدق بيانه، حقائق علمية يتوصل إليها العلماء بعد أبحاث مضنية و سهر ليالي،نجد القرآن المعجز عبّر عنها بكلمة واحدة.
ص: 242
تمهيد.
المبحث الأول:كروية الأرض.
المبحث الثاني:دوران الأرض.
المبحث الثالث:جاذبية الأرض.
المبحث الرابع:الغلاف الجوي و منافذه للأرض.
ص: 243
ص: 244
الأرض هي الكوكب الثالث من مجموعتنا الشمسية،و فوق رحبها أوجدنا اللّه سبحانه و تعالى إلى حين معلوم،و منها خلقنا سبحانه و فيها يعيدنا و منها يخرجنا يوم القيامة تارة أخرى،إلى دار الحساب و موطن الثواب و العقاب،و لقد بثّ الحق سبحانه في الأرض دلائل و آيات تنبّه الإنسان إن هو ضلّ عن طريق الحق،و تنكّب مسلك الإيمان،على وحدانية اللّه و إفراده في الخلق و الأمر،و في هذا المعنى يقول اللّه سبحانه و تعالى: وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (1).
و عطاء هذه الآيات مستمر لا ينقطع،و هذا العطاء يرفد العقل البشري في كل زمان حسب طاقته في استيعاب الحقائق التي تكشفت للإنسان،فأصبح بمقدوره أن يهضمها و يتفاعل معها،و بالتالي ينتقل إدراكه لهذه الحقائق من عالم الذهن النظري التجريدي، إلى إشراقات اليقين الذي استقر في قلبه و شاهده في الواقع.
و هذه الآيات التي ذكرتها الآية الكريمة آنفا و التي تغذي عقل المؤمن و قلبه باليقين، سيتحدث إن شاء اللّه عن طرف منها،قد أماط اللثام عنه العلم الحديث،و أشار إليه كتاب اللّه المعجز،و سيتمحور هذا البحث للحديث عن كروية الأرض،تلك المسألة التي دار حولها نقاش طويل عبر الأزمنة و الأحقاب،حتى توصل العلماء إلى اليقين الجازم بكرويتها،إلا أن القرآن الكريم حسم القضية منذ نزوله على قلب الحبيب صلى اللّه عليه و سلم و أشار إلى كرويتها،كما سيتطرق للحديث عن دوران الكرة الأرضية و كيف أن الحق أشار في القرآن الكريم أن الأرض تدور،ثم توصلت دراسات العلماء لهذه الحقيقة، و كذلك سيركّز على قضية الجاذبية الأرضية،هذا القانون الرباني الذي يلف العالم بأسره من كبيره إلى صغيره،نجد أن الحق تبارك و تعالى أثبته في صفحات قرآنه المجيد ثم جاء العلماء فكشفوا عنه و قرروه،ثم يعرج للحديث عن الغلاف الجوي للكرة الأرضية و إشارات القرآن لمسألة المنافذ في الغلاف الجوي،هذه المسألة التي أصبح لها أهمية كبيرة في وقتنا الحاضر.
ص: 245
كروية الأرض
يقول اللّه تعالى: خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَ يُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفّارُ (1).
و يقول جل جلاله: وَ هُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَ أَنْهاراً وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (2).
و يقول سبحانه: وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (3).
إن من نافلة القول أن يشار هاهنا،إلى أن القرآن الكريم بلغ من الإعجاز في شتى وجوهه درجة لا يمكن أن يصل إليها طوق أحد من الخلق أبدا،و تتجلى هذه الحقيقة في شتّى أصعدة الحياة و كذلك هنا،فلو أن القرآن الكريم إبان نزوله صرح تصريحا قاطعا بكروية الأرض فقال:(و الأرض كوّرناها)لأحدث ذلك نزاعا و شقاقا شديدين في المجتمع المسلم الوليد آنذاك،لأن مدارك الناس و قدراتهم العقلية لا يمكن أن تستوعب مسألة كهذه،لأنهم ينظرون فيرون الأرض أمامهم ممدودة مبسوطة ساكنة لا تتحرك، فكيف لهم أن يذعنوا لهذا الخبر و يعتقدوا بكروية الأرض،بل لربما أدى ذلك لارتداد بعضهم عن الهدى و الإيمان،فلذلك كان من الحكمة الربانية،و الإعجاز البياني المتألق أن يشير الحق إلى كروية الأرض إشارة،و يضمّن النصوص القرآنية قضية تكوير الأرض من ناحية المعنى و ليس صراحة و قطعا،فإذا ما تقدم العلم و اتضحت غوامض الكون،و تبين للناس كروية الأرض من خلال الأقمار الصناعية و غيرها،عندها نجد في
ص: 246
معاني النصوص القرآنية ما يدل على هذه الحقيقة العلمية،فنحن تحققنا من كروية الأرض بسبب التقنية العلمية المستجدة،و هم فهموا المعنى العام للآيات القرآنية، و بوقوفنا على فهم المفسرين للنصوص الكريمة،يظهر لنا أنهم أدركوا كروية الأرض من حيث المعنى.
ففي«أنوار التنزيل»:(خلق السموات و الأرض بالحق يكور الليل على النهار و يكور النهار على الليل،يغشى كل واحد منهما الآخر،كأنه يلفه عليه لف اللباس باللابس، أو يغيبه به كما يغيب الملفوف باللفافة،أو يجعله كارا عليه كرورا متتابعا تتابع أكوار العمامة) (1).
و عند القرطبي:(يكور الليل على النهار و يكور النهار على الليل،أي يلقى هذا على هذا،و هذا على هذا،و هذا على معنى التكوير في اللغة،و هو طرح الشيء بعضه على بعض،يقال:كور المتاع أي بعضه على بعض،و منه كور العمامة،و قد روي عن ابن عباس هذا في معنى الآية قال:ما نقص من الليل دخل في النهار و ما نقص من النهار دخل في الليل،و هو معنى قوله تعالى: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ (2)و قيل:تكوير الليل على النهار،تغشيته إياه حتى يذهب ضوؤه و يغشي النهار على الليل فيذهب ظلمته) (3).
و في تفسير«الجواهر الحسان»:(أي يعيد من هذا على هذا،و منه كور العمامة التي يلتوي بعضها على بعض،فكان الذي يطول من النهار أو الليل يصير منه على الآخر جزء فيستره،و كأن الآخر الذي يقصر يلج في الذي يطول فيستتر فيه) (4).
و في«أضواء البيان»:(و التّكوير هو التدوير و منه قيل:كار العمامة و كورها،و لهذا يقال للأفلاك كروية الشكل،لأن أصل الكرة،كورة تحركت الواو و انفتح ما قبلها فقلبت ألفا،و قال: اَلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (5)و هذا إنما يكون فيما يستدير من أشكال الأجسام دون3.
ص: 247
المضلعات من المثلث أو المربع أو غيرهما،فإنه يتفاوت لأن زواياه مخالفة لقوائمه، و الجسم المستدير متشابه الجوانب و النواحي،ليس بعضه مخالفا لبعض...و لا خلاف بين العلماء أن السماء على مثال الكرة،و أنها تدور بجميع ما فيها من الكواكب كدورة الكرة على قطبين ثابتين غير متحركين،أحدهما في الشمال،و الآخر في ناحية الجنوب،و يدل على ذلك أن الكواكب جميعها تدور من المشرق تقع قليلا على ترتيب واحد في حركتها و مقادير أجزائها،إلى أن تتوسط السماء،ثم تنحدر على ذلك الترتيب،فكأنها ثابتة في كرة تديرها جميعها دورا واحدا،و هذا محل القصد بالذات، و كذلك أجمعوا على أن الأرض بجميع حركاتها من البر و البحر مثل الكرة،و فكرة الأرض مثبتة في وسط كرة السماء،كالنقطة في الدائرة،يدل على ذلك أن جرم كل كوكب يرى في جميع نواحي السماء،على قدر واحد،فيدل ذلك على بعد ما بين السماء و الأرض من جميع الجهات بقدر واحد،فاضطرار أن تكون الأرض وسط السماء) (1).
و أما قوله تعالى: وَ هُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَ أَنْهاراً ،فيقول ابن كثير:
(أي جعلها متسعة ممتدة في الطول و العرض) (2).
و نفس المعنى في تفسير«الوجيز»:(و هو الذي مد الأرض،بسطها و وسعها،و جعل فيها رواسي أوتدها بالجبال...) (3).
و صاحب تفسير«روح المعاني»يدلل على كروية الأرض،و يزيل الإشكال الذي قد يخطر بالبال حول كونها كروية و كونها ممدودة فيقول:(و أنت تعلم أن أرباب التعليم يكتفون بالكرية الحسية في السطح الظاهر،فلا يتجه عليهم السؤال عن المغمور،و لا يليق بهم الجواب بالرجوع إلى البساطة و الحق الذي لا ينكره إلا جاهل أو متجاهل أن ما ظهر منها كرى حسا،و لذلك كرية الفلك تختلف أوقات الصلاة في البلاد،فقد2.
ص: 248
يكون الزوال ببلد و لا يكون ببلد آخر،و هكذا الطلوع و الغروب و غير ذلك،و كرية ما عدا ما ذكر لا يعلمها إلا اللّه تعالى،نعم إنها لعظم جرمها الظاهر يشاهد كل قطعة و قطر منها كأنه مسطح،و هكذا كل دائرة عظيمة،و بذلك يعلم أنه لا تنافي بين المد و كونها كروية) (1).
و في تفسير«إرشاد العقل السليم»:(أي في تعاقبهما في وجه الأرض،و كون كل منهما خلفة للآخر بحسب طلوع الشمس و غروبها التابعين لحركات السموات و سكون الأرض،أو في تفاوتهما بازدياد كل منهما بانتقاص الآخر و انتقاصه بازدياده،باختلاف حال الشمس بالنسبة إلينا قربا و بعدا بحسب الأزمنة أو في اختلافهما و تفاوتهما بحسب الأمكنة،أما في الطول و القصر فإن البلاد القريبة من القطب الشماليّ أيامها الصيفية أطول و لياليها الصيفية أقصر من أيام البلاد البعيدة منه و لياليها،و أما في أنفسها فإن كروية الأرض تقتضي أن يكون بعض الأماكن ليلا و في مقابله نهارا،و في بعضها صباحا و في بعضها ظهرا أو عصرا أو غير ذلك) (2).
و نجد الأمر ذاته في تفسير«التحرير و التنوير»مع زيادة تأكيد يقول:(و الليل اسم لعرض الظلمة و السواد الذي يعمّ مقدار نصف من كرة الأرض الذي يكون غير مقابل للشمس،فإذا حجب قرص الشمس عن مقدار نصف الكرة الأرضية بسبب التقابل الكروي،تقلّص شعاع الشمس عن ذلك المقدار من الكرة الأرضية،فأخذ النور في الضعف و عادت إليه الظلمة الأصلية التي ما أزالها إلاّ شعاع الشمس،و يكون تقلص النور مدرجا من وقت مغيب قرص الشمس عن مقابلة الأفق ابتداء من وقت الغروب، ثم وقت الشفق الأحمر ثم الشفق الأبيض إلى أن يحلك السواد في وقت العشاء حين بعد قرص الشمس عن الأفق الذي ابتدأ منه المغيب،و كلّما اقترب قرص الشمس من الأفق الآخر أكسبه ضياء من شعاعها ابتداء من وقت الفجر إلى الإسفار إلى الشروق إلى الضحى،حيث يتم نور أشعة الشمس المتجهة إلى نصف الكرة تدريجا،و ذلك الضياء هو المسمى بالنهار و هو النور التام المنتظم على سطح الكرة الأرضية،و إن كان قد يستنير سطح الكرة بالقمر في معظم لياليه استنارة غير تامة و بضوء بعض النجوم استنارة2.
ص: 249
ضعيفة لا تكاد تعتبر،فهذا هو المراد باختلاف الليل و النهار أي تعاقبهما و خلف أحدهما الآخر) (1).
و أما قوله تعالى: وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها فقد بسطنا الحديث عن هذه الآية في مراحل خلق الكون سابقا،و لكن نأخذ تفسيرا واحدا لها: وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (أي بسطها،و العرب تقول:دحوت الشيء أدحوه دحوا،إذا بسطته،و يقال لعش النعامة أدحيّ،لأنه مبسوط على وجه الأرض) (2).
و يمكن لنا أن نأخذ بعض المفردات الواردة في هذه الآيات القرآنية،لنرى أبعادها اللغوية و التي تساعدنا على الإلمام بالمعنى المراد،و نأخذ معنى:كور،و مدّ،و دحى.
ففي«مختار الصحاح»:(كار العمامة على رأسه أي لاثها،و كل دور كور،و الكور بالضم الرحل بأداته و الجمع أكوار و كيران...و تكوير المتاع،جمعه و شده،و تكوير العمامة،كورها و تكوير الليل على النهار تغشيته إياه،و قيل:زيادته في هذا من ذاك) (3).
و في«لسان العرب»:(الكور،لوث العمامة،يعني إدارتها على الرأس،و قد كورتها تكويرا،و كل دارة من العمامة كور و كل دور كور،و تكوير العمامة،كورها و كار العمامة على الرأس يكورها كورا،لاثها عليه و أدارها) (4).
و في«المغرب في ترتيب المعرب»:(و كار العمامة و كورها،أدارها على رأسه، و هذه العمامة عشرة أكوار و عشرون كورا) (5).
و أما المد،فمعناه البسط:(مد الأرض يمدها مدا،بسطها و سواها،و في التنزيل العزيز: وَ إِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (6).3.
ص: 250
و أما الدحو،فيعني كذلك البسط:(دحا الأرض يدحوها،بسطها...و الأدحوّة:
مبيض النعام في الرمل،و مدحى النعام،موضع بيضها) (1).
و أما الطحو:(فالطحو كالدحو،و هو بسط الشيء و الذهاب به،قال تعالى:
وَ الْأَرْضِ وَ ما طَحاها (2) ) (3).
و في«لسان العرب»:(طحاه طحوا و طحوا،بسطه،و طحى الشيء يطحيه طحيا، بسطه أيضا و الطحو كالدحو و هو البسط،و الطاحي المنبسط) (4).
و في«معجم البلدان»:(طحا بالفتح و الكسر،الطحو و الدحو بمعنى و هو البسط و فيه لغتان طحا يطحو و يطحى،و منه قوله تعالى: وَ الْأَرْضِ وَ ما طَحاها (5).
هذا عرض موجز للنصوص القرآنية،و لآراء المفسرين،و ما ورد في المعاجم حول الكلمات القرآنية التي تشير إلى كروية الأرض،و لنا أن نتساءل الآن لما ذا استخدم الحق سبحانه و تعالى كلمة يكوّر،و لم يقل يبسط الليل و النهار ما دامت الأرض منبسطة ظاهريا،أو يغير الليل و النهار،أو أي لفظ آخر؟و الجواب هو(إنك لو جئت بشيء و لففته حول كرة فتقول:أنك كورت هذا الشيء و حيث إن الغلاف الجوي للأرض يحيط بالأرض،و حيث إن ضوء النهار ينشأ بالتشتت على ذرات و جسيمات هذا الغلاف،فإن النهار و الليل متكوران على الأرض،و بهذا فإن الآية الكريمة تشير إلى كروية الأرض بدليل كروية غلافها الجوي بنهاره و ليله،و كذلك تشير إلى عملية التبادل بين النهار و الليل نتيجة دوران الأرض حول نفسها،و أن النهار و الليل موجدان في نفس الوقت حول الكرة الأرضية،فنصف الأرض المواجه للشمس يكون نهارا و النصف الآخر يكون ليلا،و لن يسبق أحدهما الآخر،فعند ما تدور الأرض حول نفسها يصبح النهار ليلا و يصبح الليل نهارا) (6)،و هكذا يتعاقبان كما في قوله تعالى: لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَ لاَ اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (7).0.
ص: 251
و يمكن لنا أن نستخلص من معطيات الآيات القرآنية ما يلي:
1-الآيات القرآنية تضمنت معنى كروية الأرض،و لكن عن طريق الإشارة و المعنى دون التصريح.
2-الكلمات التي يدور بحثنا حولها و هي«كوّر،و دحى،و طحى،و مدّ»تدل على كروية الأرض من خلال المد و الانبساط،لأن الإنسان أينما كان يرى الأرض أمامه مبسوطة و ممدودة،في أي قارة من القارات،و في أي دولة من الدول نرى الأرض ممدودة،و لا يمكن أن يحدث هذا إلا إذا كان شكل الأرض كرويا،إذ لو كانت الأرض على شكل مضلع أو مثلث أو مسدس أو غيرها من الأشكال لوصل الإنسان يقينا إلى حدود و حافة للأرض،و بما أننا لا نصل إلى حافة للأرض،فالوضع الأكيد للأرض الذي نراه مبسوطا أمامنا هو الشكل الكروي،و في هذا دليل قاطع على كروية الأرض من خلال الكلمات القرآنية.
إذن من هنا يفسّر الإشكال عند البعض حول هذه الحقيقة العلمية القرآنية الرائعة، التي سبقت العلم في إثبات كروية الأرض،هذا الإشكال الذي لربما يطوف في ساحة الإدراك الذهني لدى واحد منا فيتساءل قائلا:إذا كان القرآن الكريم قد أثبت كروية الأرض بصريح قوله تعالى:(و يكوّر)ثم جاء العلم فكشف عن هذه الحقيقة و أثبتها، إذن،ما معنى قوله تعالى: وَ هُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ (1)و قوله سبحانه: وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها (2)؟أ لا يدل قوله تعالى: وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها على انبساط الأرض و هو في نفس الوقت يدل على كروية الأرض؟.
و عند ما يقرأ الإنسان المؤمن الآية الكريمة: وَ أَذِّنْ فِي النّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (3)،يدهش عند كلمة عميق!.
(إن كلمة عميق هذه تشهد بعظمة القرآن الكريم و هي من الإعجاز العلمي فيه فلو كانت الأرض مستوية مسطحة لقال القرآن:«يأتين من كل فج بعيد»تفيد المسافة بين شيئين على مستوى واحد...و لكن الأرض كروية فالقادمون إلى مكة المكرمة يأتون7.
ص: 252
من بقاع عميقة بالنسبة لها،و ذلك بحسب انحناء الأرض الكروي لذا جاءت مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (1).
سبق و أن أشرنا أن كروية الأرض أصبحت من الحقائق العلمية القطعية،و التي لا يمكن أن يستريب بها أحد من الناس أبدا،ذلك لأنها قد صورت عبر الأقمار الصناعية و شاهدها الناس و رأوها رأي عين،و لكن لا حرج إن أوردنا بعضا من أبحاث العلماء التي تحتوي على طائفة من الأدلة العلمية التي تثبت كروية الأرض.
ففي«موسوعة الكون و الفضاء و الأرض»:(اعتقد الأقدمون بأن الأرض مسطحة، رغم أن كثيرا من الشعوب القديمة عرفت كرويتها،و حاولت إثباتها بأدلة علمية مثل شعوب بلاد ما بين النهرين،ثم اليونان و بعدهم العرب،لكن كروية الأرض لم تثبت بالشكل العلمي القاطع إلا بعد القرن الخامس عشر الميلادي...فقد أصبحت كرويتها أكيدة و لا مجال للشك فيها،إذ يكفي أن رواد الفضاء رأوها بأم أعينهم و زودونا بالصور و المعلومات الثابتة عن هذه الناحية،إذا شكل الأرض كروي مفلطح عند القطبين مع انتفاخ عند خط الاستواء،و ذلك نتيجة لقياس قطري و محيطي الأرض) (2).
(و في يوم 22 ديسمبر 1968،أظهرت شاشات الإذاعات المرئية صورا تركت أثارا عميقة في نفوس المشاهدين،حيث كانت سفينة الفضاء(أبولو 8)في طريقها نحو القمر،و آلات تصويرها موجهة نحو الأرض،لقد ظهر كوكبنا الأرضي على جميع شاشات الأجهزة العاملة،كما يبدو من بعيد تبعا لكبر حجمه،و كما شاهده الناس بمظهره الجديد،دائرة مضيئة مرتسمة في نهاية الظلمة كان يبدو كالنجم،و قد وصلت فيما بعد الصور التي التقطت بواسطة الأجهزة و الآلات،و التي عملت على إبراز الحقيقة المظهرية ذات الوضوح العظيم،و بذلك أمكن تحويل الدائرة الأرضية، و ظروف هيكلها السماوي إلى حقيقة نابضة،بعد ما عاشت تغلفها التأكيدات العائدة لآلاف السنين) (3).
ص: 253
(ثم أخذت الأدلة و البراهين،التي تثبت كروية الأرض تتعدد و منها:
أولا:إننا عند ما نكون في مرفإ،فإننا أول ما نشاهده من السفن القادمة من عباب البحر نحو ذلك المرفأ أعلاها،و مع تزايد اقترابها منا نرى القسم الأوسط منها،ثم نراها بكاملها،و عند إقلاع البواخر من ذلك المرفأ فإن أول ما يغيب عن عيوننا بعد ابتعادها الأقسام السفلى منها،ثم وسطها و عند ابتعادها كثيرا يختفي أعلاها.
ثانيا:رؤية ظل الأرض على شكل دائرة،على صفحة البدر صيف الكسوف (1).
ثالثا:اختفاء بعض كوكبات السماء كلما اتجهنا جنوبا أو شمالا على سطح الأرض،و ظهور كوكبات جديدة لم نكن نراها بسبب تحدب سطح الأرض.
رابعا:استدارة الأفق من حولنا عند ما نكون في عرض البحر،أو في صحراء أو في بادية مترامية الأطراف.
خامسا:اختلاف التوقيت الزمني بين بلدان العالم الذي يكشفه لنا المذياع أو الاتصال الهاتفي و كيف أنه عند ما يكون الوقت لدينا نهارا،يكون في نفس اللحظة في دولة أخرى ليلا،و لو كانت الأرض منبسطة لغمرت كلها بالنور دفعة واحدة عند شروق الشمس فعمّها النور،و لغمرت كلها بالظلمة دفعة واحدة بعد غياب الشمس فعمّها الليل.
سادسا:و أنه إذا قدر لنا أن نرتفع في الجو حتى علو 30 ألف كلم،لاستطعنا أن نرى الأرض عندها دفعة واحدة،بشكلها الكروي،علما بأن بلوغ هذا الارتفاع لا تحققه لنا إلا المركبات الفضائية التي يمتطيها رواد الفضاء اليوم) (2).
و لا أرى حاجة في إيراد المزيد من الأدلة العلمية على كروية الأرضية،لأن العلماء و الذين قد اخترقوا أجواء السماء بسفنهم الفضائية،قد صوروا الأرض و اتضحت كرويتها لكل ذي لب.
تلك هي الحقيقة التي أثبتها العلم،و كشفتها سفن الفضاء و قررها كتاب اللّه قبل أكثر من أربعة عشر قرنا،فهل بعد هذه الحقائق العلمية الساطعة يقال بأن القرآن من تأليف
ص: 254
محمد صلى اللّه عليه و سلم؟!هل كان صلى اللّه عليه و سلم يمتلك أقمارا صناعية أو أجهزة تصوير ضخمة ليرى كروية الأرض،ثم يعرضها على الناس أو يثبتها في القرآن الكريم؟،إنه كلام السماء و وحي السماء الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه.
صورة تظهر كروية الأرض كما صوّرتها رحلة أبولو 17،في عام 1972، و تظهر فيها شبه الجزيرة العربية و قارة افريقيا.
ص: 255
حركة الأرض و دورانها
قال تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَ لَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (1).و قال سبحانه: وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (2).
و قال جل جلاله: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ(15) اَلْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) (3).
و قال سبحانه و تعالى: وَ تَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (4).
و قال تعالى: خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَ يُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى (5).
تشير هذه الآيات القرآنية إلى أن الكون و ما رصّع في سماءه من نجوم،و ما بثّ في آفاقه الواسعة و القاصية من مجرات و شموس و كواكب...كلها تتحرك و تسبح في ملكوت اللّه،لا كما ظن القدامى أن الأرض جامدة لا حراك يعتريها فقوله تعالى:
يُسَبِّحُونَ صريح الدلالة على حركة و دوران النجوم و الكواكب في أفلاكها و سبلها المنظمة الدقيقة،لأن السبح هو المرّ السريع في الماء أو الهواء،ثم إنه استعير لمر النجوم في الفلك نحو: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ و التنوين في كُلِّ كما هو معلوم عند علماء اللغة هو تنوين عوض عن كلمة،و التقدير:كل جسم أو جرم في فلك السماء
ص: 256
يسبح و يتحرك حركة دائبة مستمرة،و نظرة في تفاسير العلماء حول هذه الآيات لنرى الاستنباطات أو الفهم الذي استلهموه منها.
يقول الإمام الرازي:(إذا كان كُلِّ بمعنى كل واحد منهم،و المذكور الشمس و القمر فكيف قال: يُسَبِّحُونَ ؟نقول الجواب عنه من وجوه أحدها:ما بينا أن قوله:
كُلِّ للعموم،فكأنه أخبر عن كل كوكب في السماء سيار،ثانيها:أن لفظ: كُلِّ يجوز أن يوحد نظرا إلى كونه لفظا موحدا غير مثنى و لا مجموع،و يجوز أن يجمع لكون معناه جمعا،و أما التثنية فلا يدل عليها اللفظ و لا المعنى،ثالثها:لمّا قال: وَ لاَ اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ و المراد ما في الليل من الكواكب قال: يُسَبِّحُونَ ،و المسألة الثالثة:
الفلك ما ذا؟نقول:الجسم المستدير أو السطح المستدير أو الدائرة،لأن أهل اللغة اتفقوا على أن فلكة المغزل سميت فلكة لاستدارتها...و لكل كوكب فلك لاختلاف سيرها بالسرعة و البطء و الممر،فإن بعضها يمر في دائرة و بعضها في دائرة أخرى،حتى في بعض الأوقات يمر بعضها ببعض و لا يكسفه و في بعض الأوقات يكسفه،فلكل كوكب فلك،ثم إن أهل الهيئة قالوا:كل فلك هو جسم كرة،و ذلك غير لازم،بل اللازم أن نقول:لكل فلك هو كرة أو صفحة أو دائرة يفعلها الكوكب بحركته،و هذا هو المفهوم من قوله تعالى: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ و الظاهر أن حركة الكواكب على هذا الوجه،و أرباب الهيئة أنكروا ذلك و قالوا:لا تجوز الحركة على هذا الوجه،لأن الكوكب له جرم فإذا شق السماء و تحرك فإما أن يكون موضع دورانه ينشق و يلتئم، كالماء تحركه السمكة أو لا ينشق و لا يلتئم،بل هناك خلاء يدور الكوكب فيه،لكن الخلاء محال و السماء لا تقبل الشق و الالتئام) (1).
و في«روح المعاني»:(جعل اللّه تعالى السموات ساكنة،و خلق فيها سبحانه نجوما، و جعل لها في عالم سيرها و سباحتها في هذه السموات حركات مقدرة لا تزيد و لا تنقص،و جعلها عاقلة سامعة مطيعة،و أوحى في كل سماء أمرها،ثم أنه عز و جلّ لما جعل السباحة للنجوم في هذه السموات حدثت لسيرها طرق لكل كوكب طريق،و هو قوله تعالى: وَ السَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (2)فسميت تلك الطرق أفلاكا،فالأفلاك تحدث بحدوث سير الكواكب،و هي سريعة السير في جرم السماء الذي هو مساحتها،فتخرق الهواء7.
ص: 257
المماس لها فيحدث لسيرها أصوات و نغمات مطربة لكون سيرها على وزن معلوم، فتلك نغمات الأفلاك الحادثة من قطع الكواكب المسافات السماويّة،فهي تجري في هذه الطرق بعادة مستمرة،قد علم بالرصد مقادير و دخول بعضها على بعض في السير، و جعل سيرها للناظرين بين بطء و سرعة،و جعل سبحانه لها تقدما و تأخرا في أماكن معلومة من السماء،تعينها أجرام الكواكب لإضاءتها) (1).
و في تفسير«التحرير و التنوير»:(و قد جمعت الآية استدلالا و امتنانا،فهي دليل على عظم قدرة الخالق،و هي أيضا تذكير بنعمه،فإن في اختلاف الليل و النهار آيات جمّة لما يدل عليه حصول الظلمة من دقة نظام دوران الأرض حول الشمس،و من دقة نظام خلق الشمس،و لما يتوقف عليه وجود النهار من تغير دوران الأرض و من فوائد نور الشمس...) (2).
و يقول سيد قطب رحمه اللّه:(و الخنس الجوار الكنس،هي الكواكب التي تخنس أي ترجع في دورتها الفلكية و تجري و تختفي،و التعبير يخلع عليها حياة رشيقة كحياة الظباء،و هي تجري و تختبئ في كناسها و ترجع من ناحية أخرى،فهناك حياة تنبض من خلال التعبير الرشيق الأنيق عن هذه الكواكب،و هناك إيماء شعوري بالجمال في حركتها،في اختفائها و في ظهورها،في تواريها و في سفورها،في جريانها و في عودتها) (3).
و أما قوله تعالى: وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ (حال من ضمير الجبال في تحسبها،أو في جامدة أي تراها رأي العين ساكنة،و الحال أنّها تمرّ مرّ السّحاب التي تسيرها الرّياح سيرا حثيثا،و ذلك أنّ الأجرام العظام إذا تحركت نحو سمت لا تكاد تتبين حركتها) (4).
(أي و ترى الجبال رأي العين ساكنة،و الحال أنها تمر في الجو مرّ السحاب التي4.
ص: 258
تسيرها الرياح سيرا حثيثا،و ذلك أن الأجرام المجتمعة المتكاثرة العدد على وجه الالتصاق،إذا تحركت نحو سمت لا تكاد تبين حركتها) (1).
و يعلّق الإمام الرازي على آية الظل في سورة الفرقان فيقول:(و هو أنه سبحانه و تعالى لما خلق الأرض و السماء و خلق الكواكب و الشمس و القمر وقع الظل على الأرض،ثم إنه سبحانه خلق الشمس دليلا عليه،و ذلك لأن بحسب حركات الأضواء تتحرّك الأظلال فإنهما متعاقبان متلازمان لا واسطة بينهما،فبمقدار ما يزداد أحدهما ينقص الآخر،و كما أن المهتدي يهتدي بالهادي و الدليل و يلازمه،فكذا الأظلال كأنها مهتدية و ملازمة للأضواء فلهذا جعل الشمس دليلا عليها،و أما قوله تعالى: ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً فأما أن يكون المراد منه انتهاء الأظلال يسيرا يسيرا إلى غاية نقصاناتها،فسمى إزالة الأظلال قبضا لها،أو يكون المراد من قبضها يسيرا قبضها عند قيام الساعة و ذلك بقبض أسبابها و هي الأجرام التي تلقي الأظلال،فهذا هو التأويل المخلص) (2).
و في«بدائع التفسير»:(أخبر تعالى أنه بسط الظل و مدّه،و أنه جعله متحركا تبعا لحركة الشمس و لو شاء لجعله ساكنا لا يتحرك،إما بسكون المظهر له و الدليل عليه، و إما بسبب آخر،ثم أخبر أنه قبضه بعد بسطه قبضا يسيرا...و في الآية وجه آخر و هو أنه سبحانه و تعالى مدّ الظل حين بنى السماء كالقبة المضروبة،و دحى الأرض تحتها، فألقت القبة ظلها عليها،فلو شاء سبحانه لجعله ساكنا مستقرا في تلك الحال،ثم خلق الشمس و نصبها دليلا على ذلك الظل) (3).
هذه الآيات توضح أن جميع الكواكب سيارة متحركة،و من ضمن هذه الكواكب كوكبنا الأرض،و هو بالتالي متحرك سابح في الفضاء مع إخوانه الكواكب في3.
ص: 259
المجموعة الشمسية التي هي جزء من مجرتنا درب التبانة،و هذا الذي وقف عليه المفسرون من دوران الأرض و حركتها،إنما هو نابع عن فهم معاني النصوص القرآنية و دلالاتها اللغوية،و لنا أن نستخلص من معطيات الآيات ما يلي:
أولا:تشير الآيات القرآنية إلى حركة الأرض و دورانها،لأن تعاقب الليل و النهار من أبرز الأدلة على دوران الأرض حول نفسها.
ثانيا:وصف الحق الجبال بأنها تمر مر السحاب،و هذا لا يكون إلا إذا كان شأن الأرض كذلك لأن الجبال تبع للأرض،فهذا دليل على سرعة الأرض الهائلة في دورانها.
و هذه الآية الكريمة: وَ تَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ (1)تكاد تكون صريحة في دلالتها على حركة الأرض حول الشمس،و ليس من المستغرب أن يغيب هذا المعنى العلمي على أصحاب العلم و الفضل من المفسرين القدامى،لأنهم ما عاشوا عصر الثورة العلمية و التقنية العجيبة التي نعيشها اليوم، فراحوا يخضعون دلالات هذه الآية العلمية و عطاءاتها الإعجازية لعوالم القيامة و مشاهد النكبة و الهلع التي ستخيم على الكون،فجعلوا هذه الآية من نصيب يوم القيامة و أهوالها و أحداثها الجسام،التي ستنسف خلالها الجبال و تتوارى عن عالم المشاهدة بل و الحياة.
و المتأمل في هذه الآية الكريمة يرى أن خطاب اللّه لرسوله و لكل تال لكتاب اللّه، يستثير بواعث التفكير و التأمل في كينونتنا،و يخلق في ساحة العقل و مواطن الإدراك البشري،دوافع التمحيص لكشف أسرار هذه الآية،أ لا ترى في نهاية الآية كيف أنه يسترعي انتباهنا و يحفّز ملكاتنا العقلية إلى التدقيق و التأمل في صنعه المتقن المحكم في خلقه،و كأنّ اللّه سبحانه و تعالى يقول لنا:انظروا إلى الجبال من حولكم و أمعنوا في تصميمها الدقيق فستظنون أنها جاثمة جامدة لا تتحرك،إلا أن الحقيقة غير ذلك،فهي تمرّ مرّ السحاب،و هذا من بديع صنع اللّه و إتقانه في ربط قوانين الحياة و نواميس الكون بعضها مع بعض،ليتكامل تنسيق الكون،و يتألق جماله البديع فالجبال التي يظنها الإنسان ثابتة هي في الواقع متحركة،لأنها محمولة و راسية على الأرض،و الأرض تتحرك و تدور حول الشمس كذلكم الجبال و كل ما حوته الأرض يتحرك معها بحكم الجاذبية.8.
ص: 260
و أما قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَ لَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً ،ففي هاتين الآيتين برهان قوي على دوران الأرض حول نفسها ذلك لأن(الأرض لو كانت غير متحركة لسكن الظل و لم يتغير طولا أو قصرا،و هذا الدوران رحمة من عند اللّه و لولاه لظلت الشمس مسلطة على نصف الأرض،بينما يظل النصف الآخر ليلا دائما مما يؤدي إلى هلاك البشر من شدة الحر أو البرد،كما تشير الآية إلى دور ضوء الشمس كمؤشر للظل نظرا لاختلاف نفاذية الضوء خلال الأوساط المادية المختلفة،و لاختلاف الموقع الظاهري للشمس خلال النهار،بسبب دوران الأرض حول نفسها بمعدل يؤدي إلى نسخ الظل تدريجيا،بمقدار متناسب مع مرور الزمن و ليس دفعة واحدة،و هذا هو المقصود بقوله تعالى: قَبْضاً يَسِيراً و بهذا يتّضح كيفية مد الظل و ارتباطه بدوران الأرض،و لو شاء اللّه لجعل الظل ساكنا بإيقاف دوران الأرض حول نفسها أو بجعلها تدور حول محورها بنفس معدل دورانها حول الشمس،أي يجعل اليوم يساوي سنة أرضية،و هذه أمور لا يقدر عليها إلا اللّه سبحانه و تعالى) (1).
أفاضت كتب الفلك و كتب و موسوعات الجغرافيا،الحديث عن دوران الأرض حول نفسها و حول الشمس،و أسهبوا عما تنتجه هذه الدورات من تعاقب الليل و النهار و الفصول الأربعة و غير ذلك،و سنقف عند بعض ما قاله العلماء المختصون في هذا الشأن.
(الفصول الأربعة سخّرت من حركة الأرض أمام الشمس مع ميل المحور لمنفعة الإنسان حتى يتمكن من القيام بمهمة الخلافة في الأرض،فالأرض تقطع أثناء دورتها حول الشمس مرة كل سنة«365 يوما»مسافة 9600 مليون ك.م،و هذه الحركة هي السبب في حدوث ظاهرة الفصول الأربعة و يلاحظ أن هذا المدار بيضوي الشكل و بذلك يتغير متوسط بعد الأرض عن الشمس البالغ 6,146 مليون ك.م بمقدار 000,991,4 ك.م على مدار السنة،و معنى هذا تغير في زاوية سقوط الأشعة الشمسية على مناطق الأرض بعدا مختلفا منها على مدار السنة،حين سلكوها هذا المدار البيضوي الشكل حول الشمس،و هذا هو سبب حدوث الفصول الأربعة) (2).
ص: 261
و هناك نوعان من الحركات للأرض(حركة ظاهرية و حركة حقيقية،الحركة الحقيقية هي مدار الأجرام في أفلاكها في دورات موقوتة منتظمة،و الحركة الظاهرية ما نشاهده من حركات نسبية بين الأجرام على القبة السماوية بالنسبة لبعضها البعض،و الدورة اليومية المحورية،حيث تدور الأرض حول محورها دورة واحدة خلال فترة زمنية قدرها 23 ساعة و 56 دقيقة،و 4 ثوان أمام النجم البعيد و ينتج عن هذه الدورة ما يسمى باليوم النجمي،بينما تتم الأرض دورتها حول الشمس خلال 24 ساعة،و هو ما يسمى باليوم الشمسي،و من أهم نتائج الدورة المحورية لكوكب الأرض تعاقب الليل و النهار،و أما الدورة الانتقالية،فتدور الأرض حول الشمس بمدار إهليلجي،تحتل الشمس إحدى بؤرتيه بسرعة مدارية قدرها 79,29 كم/ث،و يميل محور الأرض على مستوى دورانها حول الشمس بزاوية ثابتة مقدارها 4-23،و تتم الأرض دورتها خلال فترة زمنية قدّرها العلماء 365 يوما و 6 ساعات و 9 دقائق و 45,9 ثانية،و ينتج عن هذه الدورة تعاقب الفصول الأربعة،حيث يبقى محورها متجها نحو النجم القطبي خلال تلك الدورة) (1).
و في كتاب«العالم الذي نقطنه»:(الأرض وحدها هي التي تتم دورة كاملة على ذاتها بيوم واحد فتكشف عن القبة السماوية قليلا فقليلا،و تمر أمام الشمس التي تنيرنا و من ثم تعيدنا إلى الليل و عند ما تغمر الشمس السماء بنيرانها طيلة النهار،فإنها تحجب عنا رؤية النجوم التي تكمل مع ذلك دورتها) (2).
و في«موسوعة الجيولوجيا»تعرف الأرض بأنها دائمة الحركة:(الأرض هي عبارة عن كوكب دائم الحركة،فلو استطعنا أن نعود مليون سنة إلى الوراء أو أكثر،لوجدنا أن سطح الأرض مختلف تماما عما هو عليه اليوم،و لوجدنا أنه كان للقارات أشكال مختلفة أو أنها تقع في مواقع مختلفة عما هي عليه الآن) (3).
و يقول مجموعة من البحاث في علم(الجيولوجيا):(يولد دوران الأرض على7.
ص: 262
محورها قوة مركزية طاردة هي عند خط الاستواء أقوى منها في أي مكان آخر،فيسبب ذلك انتفاخا بسيطا عند خط الاستواء،و تسطح عند القطبين و هذا ما يجعل قطر الأرض عند خط الاستواء أطول مما هو عليه بين القطبين) (1).
و تجدر الإشارة إلى أن كلا من«كوبرنيكوس» (2)،و«جوهانس كيبلر» (3)،و«جاليليو جاليلي» (4)كان لهم الفضل في التحقق من دوران الأرض بشكل علمي.
سبحان الذي خلق فسوّى و قدر فهدى،إنها آيات اللّه الناطقة بالحقائق العلمية الناصعة،فكروية الأرض و دورانها و حركتها،حقائق قرآنية أثبتها القرآن قبل دهر سحيق مضى،و في هذا الزمان كشف عنها الإنسان الضعيف،فقررها«كيبلر»في قانونه الأول الذي يتحدث فيه عن دوران الكواكب و الأرض حول الشمس،و«نيوتن»في حديثه عن قانون الجاذبية،و من بعدهما أثبتوا ذلك كذلك،قوانينهم هذه كلها ما هي إلا توضيح و تفسير لبعض الآيات القرآنية.
ص: 263
جاذبية الأرض
قال تعالى: أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً (1).
و قال تعالى: اَللّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَ السَّماءَ بِناءً (2).
و قال تعالى: أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً(25) أَحْياءً وَ أَمْواتاً(26) وَ جَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَ أَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً(27) (3).
يبرز اللّه سبحانه تعالى في هذه الآيات طرفا من الآلاء و النعم التي قد أرفدها علينا و نعمنا بها،و من بين هذه النعم التي يشير إليها القرآن الكريم نعمة الجاذبية،الجاذبية الأرضية التي من شأنها أن تقر الأشياء على الأرض،و يكون هذا الاستقرار مناسبا و منسجما مع حجم هذه الأجسام التي تقلها الأرض،و بذلك تتحقق الحياة عليها، و تثبت توابعها و تكون ملازمة لها دائما في دورانها حول نفسها و حول أمّها الشمس.
فقانون الجاذبية قانون عام شامل يعمل في الكون كله،حيث إن الكائنات كلها تتجاذب و إن لم نر نحن القوة الرابطة بين المتجاذبين،إلا أننا تعرفنا عليها من نتيجة أثر الجسم الكبير في الصغير،و رأينا فيما مضى كيف أن الشمس تجذب منظومتها كلها، و الأرض كذلك تجذب كل من عليها بما في ذلك القمر،و الغلاف الجوي خاضع لقانون الجاذبية و لو لا الجاذبية لفرّ و لتلاشت الأحياء،و هكذا فإن هذا القانون عام و شامل،و سيحدثنا عنه العلماء و عن هذه القضايا التي أومأنا إليها،غير أن هذا القانون
ص: 264
الذي اكتشفه«نيوتن» (1)و أماط اللثام عنه،قد قرره الحق تبارك و تعالى في كثير من آيات القرآن المجيد،و لسوف نقف الآن عند ما قاله المفسرون و اللغويون حول هذه النصوص القرآنية.
يقول ابن كثير:(يقول تعالى: أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً أي قارة ساكنة ثابتة لا تميد و لا تتحرك بأهلها و لا ترجف بهم،فإنها لو كانت كذلك لما طاب عليها العيش و الحياة،بل جعلها من فضله و رحمته مهادا بساطا ثابتة لا تتزلزل و لا تتحرك) (2).
و عند الطبري يقول رحمه اللّه:(اللّه الذي له الألوهية خالصة أيها الناس،الّذي جعل لكم الأرض التي أنتم على ظهرها سكان قرارا تستقرون عليها،و تسكنون فوقها،و السّماء بناء،بناها فرفعها فوقكم بغير عمد ترونها لمصالحكم،و قوام دنياكم إلى بلوغ آجالكم) (3).
و في«التفسير الكبير»يقول الرازي:(كونها قرارا و ذلك لوجوه،الأول:أنه دحاها و سواها للاستقرار،الثاني:أنه تعالى جعلها متوسطة في الصلابة و الرخاوة،فليست في الصلابة كالحجر الذي يتألم الإنسان بالاضطجاع عليه،و ليست في الرخاوة كالماء الذي يغوص فيه،الثالث:أنه تعالى جعلها كثيفة غبراء ليستقر عليها النور،و لو كانت لطيفة لما استقر النور عليها،و لو لم يستقر النور عليها لصارت من شدة بردها بحيث تموت الحيوانات،الرابع:أنه سبحانه جعل الشمس بسبب ميل مدارها عن مدار منطقة الكل،بحيث تبعد تارة و تقرب أخرى من سمت الرأس،و لو لا ذلك لما اختلفت الفصول،و لما حصلت المنافع) (4).4.
ص: 265
و في«روح المعاني»:(أي جعلها بحيث يستقر عليها الإنسان و الدواب،بإبداء بعضها من الماء و دحوها و تسويتها حسبما يدور عليه منافعهم،فقرارا بمعنى مستقرا لا بمعنى قارة غير مضطربة) (1).
و أما قوله تعالى: أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً ،(فالكفات اسم جنس أو اسم آلة،لما يكفت أي يضم و يجمع،من كفت الشيء إذا ضمه و جمعه كالضمام و الجماع لما يضم و يجمع) (2).
(و إنما معنى الكلام،أ لم نجعل الأرض كفات أحيائكم و أمواتكم،تكفت أحياءكم في المساكن و المنازل،فتضمهم فيها و تجمعهم،و أمواتكم في بطونها في القبور، فيدفنون فيها،و جائز أن يكون عني بقوله: كِفاتاً أَحْياءً وَ أَمْواتاً تكفت أذاهم في حال حياتهم،و جيفهم بعد مماتهم) (3).
و لو رجعنا إلى معنى: قَراراً في اللغة لوجدناها تعطينا معنى الثبات و الاستقرار، يقول ابن منظور:(قرارا،بطون الأرض قرارها،لأن الماء يستقر فيها،و يقال:
القرار،مستقر الماء في الروضة و قراره و مستقرّه،تناهى و ثبت) (4).
و نجد في«مفردات ألفاظ القرآن»:(قرّ في مكانه يقرّ قرارا،إذا ثبت ثبوتا جامدا، و أصله من القرّ...قال تعالى: أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً (5).
و أما معنى: أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً ،(فالكفات،الموضع الذي يضمّ فيه الشيء و يقبض،و الكفت،القبض و الجمع) (6).
(أي تجمع الناس أحياءهم و أمواتهم،و قيل:معناه تضم الأحياء التي هي الإنسان و الحيوانات و النبات،و الأموات التي هي الجمادات من الأرض و الماء و غير ذلك) (7).4.
ص: 266
إذن،يتضح من معطيات ما سبق أن قَراراً و كِفاتاً كلمتان تدلان على الضمّ و الجمع و هذا هو المعنى العلمي الدقيق للجاذبية،إذ الجاذبية من شأنها أن تضم و تجمع إليها ما أحاط بها من أجسام...
فأيّ تعبير أدق من تعبير القرآن الكريم،و هو يصف حال الكرة الأرضية و هي تسير في فلكها الذي رسم لها من قبل الخالق العظيم،و في آن واحد تضم المخلوقات التي أوجدها اللّه سبحانه و تعالى عليها ضمّا قد حشي بالرحمة و الحنان و العطف،و كأنها أمّ رءوم بأبنائها،فلا تؤذيهم حال دورانها حول نفسها و الشمس،و لا تقذف بهم في دوّامة التيه و الفوضى،بل إنها تقلّهم بين حناياها و تكفتهم بذراعيها بعامل الجاذبية الذي أشار اللّه إليه بقوله: قَراراً و كِفاتاً .
فما أرحمك يا خالقنا و ما أعظم لطفك و حنانك بنا،فالأرض تدور و تجري بسرعة كبيرة و نحن نعيش بين تضاعيفها و ننعم بأرزاقها و ظلالها الوارف،و لا يصيبنا أيّ أذىً و لا نشعر بأيّ خوف أو قلق،فسبحان الذي خلق كلّ شيء بقدر،ثم إن قوة الجاذبية لا تقتصر على كوكب الأرض و ما حوى،بل إنها تلف الأجرام و حتى المجرات السماوية بأسرها،ذلك أن الجزر النجمية الضخمة العظيمة في الكون،مهما كانت متباعدة إلا أنها متماسكة فيما بينها بسبب قوة الجاذبية التي تربط أجرامها ببعض، و تمنعها من التفكك و التناثر،كما مرّ فيما مضى،و كيف أن قوة الجاذبية على عظمها لا يمكن أن ترى أبدا،و لقد أشار ربنا سبحانه و تعالى إلى الجاذبية الكونية،و أن السماء مبنية بناء دقيقا و متماسكا على أعمدة غير مرئية،و لنتأمل في هذا قول اللّه تعالى: خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَ أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (1)،كما أن الحق عز و جلّ أمرنا أن نجيل النظر في السماء،لنرى كيف بنيت و كيف رفعت،و في هذا يقول ربنا جل جلاله: أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَ زَيَّنّاها وَ ما لَها مِنْ فُرُوجٍ (2)و قوله سبحانه: وَ إِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (3)،و قوله سبحانه: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَ يُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (4).5.
ص: 267
هذه الآيات تشير بكل وضوح إلى أن هناك أعمدة منتشرة في السماء،و أن السماء بنيت عليها إلا أن هذه الأعمدة لا ترى،و هذه الأعمدة هي قوة الجاذبية التي لا تخضع للرؤية كما سنرى بعد قليل من أقوال العلماء.
يقول القرطبي:(لها عمد و لكنا لا نراه،قال ابن عباس:لها عمد على جبل قاف و يمكن أن يقال على هذا القول:العمد قدرته التي يمسك بها السموات و الأرض و هي غير مرثية لنا) (1).
و في«التفسير الشامل»:(خلق السموات العلى على غاية ما يكون عليه الاتساع و الامتداد و الفخامة،و على أكمل ما يكون عليه الاتساق و التوازن و الانتظام،خلائق كبيرة و كثيرة،و أجرام هائلة مبثوثة في أجواء الفضاء،يضمها نظام دقيق و منضبط لا يعرف الخلل أو العشوائية أو الفوضى تلك هي السموات الشامخات الكبريات،قد رفع اللّه بناءها،و جعلها منسجمة رفيعة لا تستند إلى ما يمسكهن من الأعمدة المنظورة، و لكن اللّه قدر لها من النظام الكوني الوثيق ما يكفل لها تمام الدوران و الحركة و الاستمرار) (2).
حقيقة الجاذبية التي قررها القرآن،و أنزل الآيات التي تتحدث عنها على قلب النبي صلى اللّه عليه و سلم كشف عنها روّاد العلم بعد عصور طويلة فحدثونا عنها،و يرجع الفضل في اكتشاف قانون الجاذبية إلى(إسحاق نيوتن)،و الذي يعرف الجاذبية فيقول:(إن جميع الأجسام و الأجرام في هذا الكون تجذب بعضها البعض،بقوة يتوقف مقدارها على كمية الكتلتين المتجاذبتين،و على بعد المسافة بينهما و تزداد القوة،أي تتناسب طرديا مع مقدار حاصل ضرب الكتلتين،و تقل،أي تتناسب عكسيا مع مربع المسافة بينهما، و يمكن أن نقول ببساطة:إن القوة تزداد مع مقدار الكتلتين و تقل كلما بعد المسافة بينهما،و القانون أو الناموس الحاكم في حالة التفاحة و الأرض هو:
ص: 268
قوة الجاذبية الأرضية ثابت x كتلة الأرض x كتلة التفاحة\مربع المسافة و الثابت هو:ثابت الجذب الكوني،و أما المسافة،فهي المسافة بين مركز أو وسط التفاحة و مركز الأرض،و يسري القانون على جميع الكائنات و الأشياء فوق الأرض، بل على جميع الأجرام الكونية فهناك قوة جذب بين الشمس و التسعة كواكب السيارة التي تدور حولها بما في ذلك كوكب الأرض و الكواكب تجذب بعضها البعض، و الأرض و القمر يتجاذبان) (1).
و في موسوعة«بهجة المعرفة»:(الجاذبية هي التجاذب بين جسمين،و تتوقف قوتها على كتلتي الجسمين و على المسافة بينهما،تتوقف إذن قوة مجال الجاذبية الأرضية على كتلة الأرض،الجاذبية سبب جميع عوامل التعرية الرئيسية تقريبا،فالمطر المتساقط تحت تأثير الجاذبية و كذلك التيارات و الأنهار) (2).
و الجاذبية العامة(قانون كوني موجود في طبيعة الأشياء كلها،و يعمل في صمت في الأرض و السماء،و لقد كان«لنيوتن»الفضل في اكتشاف قانون الجاذبية و لقد قال «نيوتن»نفسه:إنه لأمر غير مفهوم أن نجد مادة لا حياة فيها و لا إحساس،و هي تشد، أي تجذب مادة أخرى دون أي رباط بينها و تعمل الجاذبية في كل الأشياء كبيرها و صغيرها،فالكل يتجاذب و إن لم يظهر إلاّ أثر الكبير في الصغير،فالشمس تجذب الأرض،و الأرض تجذب القمر،بل و تجذب كل شيء قريب منها بقوة نشعر بها جميعا و أنت نفسك سجين الجاذبية،لأنك لا تستطيع أن ترتفع عن الأرض لأنها تجذبك إليها و أنت أيضا تجذب الأرض لك،و لكن شتان ما بين كتلتك و كتلة الأرض،و رغم هذا الجذب فإنك تستطيع التحرك على الأرض نظرا لضئلة قوة الجذب بينك و بين الأرض...و الطائر عند ما يموت يقع على الأرض،و رفع الحجر عن الأرض يتطلب مجهودا و الصعود على الجبل أشق من النزول منه بسبب الجاذبية،و من فضل اللّه علينا أن الجاذبية الأرضية قد احتفظت لنا بغلاف جوي يحيط بأرضنا و لو لا هذه الجاذبية لهرب الهواء و انعدمت الحياة على كوكبنا) (3).1.
ص: 269
إذا يمكن القول:إن جاذبية الأرض هي التي(تقدم لنا نقط الاستهداء فيما نقوم به من أعمال المساحة و الهندسة،فإذا ربطنا جسما ثقيل الوزن بسلك ليّن تحمله نقطة ثابتة،نجد أن ليونة السلك تدفع به في اتجاه الخط الذي يتبعه الجسم مدفوعا إليه نحو الأرض بقوة الجاذبية،و هو ما يستعمله البنّاءون للتأكد من استقامة البناء،و يسمى الفادم،كما أنه يجسد خطوط جاذبية الأرض،و هذه الجاذبية التي تدفع الأجسام للسقوط نحو سطح الأرض،ليست قوة خاصة بل هي حالة خاصة من حالات الجاذبية العامة،و الجاذبية التي يمارسها جسمان تخضع لمبدأ الجاذبية المعروف و هو:أن الأجسام تتجاذب بالنسبة إلى مقدار مادة كل منها،و بمقدار معاكس لمربع أبعادها، و لما كان كوكب الأرض كروي الشكل تقريبا،و هو خاضع لقانون الجاذبية،و تفوق مواده مواد الأجسام المحيطة به،فإن الجسم الذي يخضع لجاذبية الأرض يندفع نحو سطحها باتجاه مركزها الوسطي،و هو ما يمكن مشاهدته في كل حين تأكيدا لصحة مبدأ الجاذبية المذكورة آنفا المسيطر على تحركات الفضاء) (1).
رأينا كيف أن قانون الجاذبية يشمل الكون بأسره،و يعمل بخفاء و لطف لتعود منافعه على الخلائق كلها،فسبحان الذي بحكمته رتب قوانين الحياة على هذا النسق،و يسرها كلها للإنسان و سجلها آيات معجزة في قرآنه ببيان واضح قبل أن يكتشفها العلماء،ليظل الإنسان شاكرا و معترفا بفضل ذي الجلال و الإنعام.
ص: 270
الغلاف الجوي و منافذه للأرض
قال تعالى: وَ جَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَ هُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (1).
و قال سبحانه و تعالى: وَ لَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ(14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ(15) (2).
في الآية الأولى وصف الحق تبارك و تعالى السماء بأنها بمثابة السقف للأرض، و تتجلّى قمة البلاغة القرآنية،و الإعجاز العلمي عند ما زاد هذا الوصف للسقف بأنه محفوظ،و هذا هو شأن الغلاف الجوي للأرض( atmosphere )فلقد جعله اللّه سقفا محيطا و حاميا للأرض من كل أسباب الهلاك و الخراب كما سيأتي،و في الآية الثانية إعجاز علمي رائع،حيث أوضح ربنا أن للسماء أبوابا و منافذ يمكن أن ينفذ من خلالها البشر،و الطريق إليها ليس مستقيما إنما فيه انحناءات و تعرجات للخروج من إطار الأرض و جاذبيتها،و هناك تختل موازين الرؤيا البصرية...و لنبدأ مع المفسرين لنرى فهمهم لهاتين الآيتين.
ففي«أنوار التنزيل»: (وَ جَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً عن الوقوع بقدرته أو الفساد و الإخلال إلى الوقت المعلوم بمشيئته،أو استراق السمع بالشهب، وَ هُمْ عَنْ آياتِها عن أحوالها الدالة على وجود الصانع و وحدته و كمال قدرته و تناهي حكمته،التي يحس ببعضها و يبحث عن بعضها في علمي الطبيعة و الهيئة مُعْرِضُونَ غير متفكرين) (3).
ص: 271
و عند القرطبي:(قوله تعالى: وَ جَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً أي محفوظا من أن يقع و يسقط على الأرض) (1).
و عند الطبري:(أي،سقفا مرفوعا،و موجا مكفوفا) (2).
و يقول الرازي:(فيها مسألتان،المسألة الأولى:سمى السماء سقفا لأنها للأرض كالسقف للبيت،المسألة الثانية:في المحفوظ قولان،أحدهما،أن محفوظ من الوقوع و السقوط الذين يجري مثلهما على سائر السقوف) (3).
و أما بالنسبة للآية الثانية،ففي«إرشاد العقل السليم»: وَ لَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أي على هؤلاء المقترحين المعاندين باباً مِنَ السَّماءِ أي بابا ما،لا بابا من أبوابها المعهودة كما قيل،و يسرنا لهم الرّقيّ و الصعود إليه فَظَلُّوا فِيهِ في ذلك الباب يَعْرُجُونَ بآلة أو بغيرها،و يرون ما فيها من العجائب عيانا كما يفيده الظلول،أو فظل الملائكة الذين اقترحوا إتيانهم يعرجون في ذلك الباب و هم يرونه عيانا مستوضحين طول نهارهم لَقالُوا لفرط عنادهم و غلوّهم في المكابرة و تفاديهم عن قبول الحق إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا أي سدّت من الإحساس من السكر، بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ قد سحرنا محمد صلى اللّه عليه و سلم كما قالوه عند ظهور سائر الآيات الباهرة) (4).
و في«بحر العلوم»: (وَ لَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ أي فصاروا يصعدون فيه و ينزلون،يعني:الملائكة،و يراهم المشركون،و هم أهل مكة لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا يقول:أخذت و غشيت أبصارنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ أي،و لقالوا:
سحرنا فلا نبصر،و سُكِّرَتْ بالتشديد أي،غشّيت،و منه يقال:سكّر النهر إذا سدّ، و منه يقال:سكر الشراب و هو الغطاء على العقل،و من قرأ سُكِّرَتْ بالتخفيف يعنى، سحرت يعني،إنهم لا يعتبرون به كما لم يعتبروا بانشقاق القمر حين رأوه معاينة) (5).2.
ص: 272
يمكن لنا أن نستخلص من معطيات ما سلف ما يلي:
أولا:أن اللّه سبحانه و تعالى جعل للكرة الأرضية سقفا يحيط بها،و يكون سببا في حمايتها من كل سوء،و حافظا لها من كل مكروه.
ثانيا:أن هذا الغلاف الجوي للأرض قد جعل اللّه فيه أبوابا و منافذ يتسنى للإنسان أن يعبرها و يخرج من محيط الأرض،و لقد أكد الحق تبارك و تعالى وجود أبواب للسماء في العديد من الآيات القرآنية من ذلك قوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَ لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (1)و قوله: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (2).
ثالثا:منافذ الغلاف الجوي للأرض،الطريق إليها ليست مستقيمة إنما هي طرق مستوعرة متعرجة.
و لقد وصف ربنا سبحانه السماء بأنها ذات طرق،قال تعالى: وَ السَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (3)أي إن في السماء طرقا كثيرة،(و لكل طريق أبواب عدة،و لم ينفذ علماء الفلك من الغلاف الجوي الأرضي و يسبروا شيئا من أقطار السموات و الأرض،إلا من خلال الأبواب و الطرائق الموجودة في الغلاف الجوي للأرض و الفضاء الخارجي،فكل مركبة فضائية يجب أن تنطلق في زاوية معينة و في مسار معين كي تستطيع النفاذ من نطاق جاذبية الأرض إلى الفضاء الخارجي،و هناك آلاف الأدمغة الألكترونية التي تصحح سير المركبة كلما ضلت عن مسارها،كما أن على المركبات الفضائية خلال عودتها إلى الأرض من الفضاء الخارجي،الدخول و السلوك من فتحات و طرائق معينة في الغلاف الجوي الأرضي و إلا بقيت في الفضاء الخارجي أو احترقت قبل وصولها إلى الأرض) (4).2.
ص: 273
لقد قرر ربنا تبارك و تعالى أنه أحاط الأرض بسقف يحفظها من كل سوء،و هذه الحقيقة القرآنية أثبتها العلم الحديث و قرر أن للأرض غلافا جويا يحيط بها،و له من المنافع و الفوائد الشيء الكثير.
ففي موسوعة«عالم المعرفة»:(الغلاف الجوي:هو مزيج من الغازات،و يتألف بالدرجة الأولى من(النيتروجين)78%و(الأوكسجين)21%و كمية قليلة من (الأرغون)،و بعض(ثاني أكسيد الكربون)،و قد يحتوي أيضا على بعض من بخار الماء،أما الهواء الجاف فلا يحتوي على بخار مياه،كما يحتوي الغلاف الجوي على ثلاث طبقات أساسية.
الطبقة السفلى:و هي(التروبوسفير troposphere ).
و الطبقة الوسطى:و هي(الستراتوسفير stratosphere )و تتراوح سماكة طبقة (التروبوسفير)ما بين 18,8 كلم و الغيوم تطفو فيها،و كثير من الطائرات تطير في أسفل(الستراتوسفير)فوق الغيوم.
أما الطبقة الثالثة الموجودة فوق(الستراتوسفير)فتدعى الغلاف(الأيّوني)،و هي مهمة للناس لأنها تعكس الموجات اللاسلكية إلى الأرض ما يسمح للموجات بالدوران حول سطح الأرض المقوس) (1).
و حتى يتجسّد الإعجاز في قوله تعالى: سَقْفاً مَحْفُوظاً نورد بعض فوائد الغلاف الجوي للأرض لنرى كيف جعله الحق سبحانه حافظا لها.
(هذا الغلاف الجوي يعدّل و يلطف مستويات الحرارة القصوى من ساخنة أو باردة، فيعمل كسقف دفيئة،و يقلل من تغيرات مستوى الحرارة بين الليل و النهار،أو بين الصيف و الشتاء،عند النهار تسخن الشمس سطح الأرض و تنقل هذه الحرارة إلى الجو،حيث تخزن و تقي من البرد الشديد عند ما تغيب الشمس،و بالعكس يقي الغلاف الجوي عند النهار من الحرارة الشديدة بامتصاصه قسما من أشعة الشمس،و يقي الجو سطح الأرض من قصف النيازك،إذ يقدر أن الأرض تتلقى كل يوم ما يقارب المائة
ص: 274
رسم يوضح طبقات الغلاف الغازي للأرض
ص: 275
ألف مليون نيزك من مختلف الأحجام،إنما لا تدرك سطحها لأنها تحترق في الجو بسبب الحرارة التي يولدها احتكاك النيزك بالغلاف الجوي) (1).
كذلك لو قدّر اللّه سبحانه و تعالى انعدام الغلاف الجوي للأرض لانعدمت(الحياة على سطحها ليس فقط لعدم وجود الأكسجين اللازم للتنفس،و لكن لسقوط النيازك بكميات هائلة،و بكتل كبيرة تهشم رءوس الأحياء،و تنهي بذلك على جميع صور الحياة على سطح الكرة الأرضية،هذا بخلاف امتصاص الجو العلوي للأشعة الضارة بل القاتلة للأحياء،مثل الأشعة فوق البنفسجية( ultraviolet rays )و الذي نود أن ننوه إليه أنه بدون الغلاف الجوي لا ينتقل الصوت من مكان إلى آخر و يكون بذلك قد فقدت الأحياء التي منحها اللّه حاسة السمع) (2).
كما تتغير الغازات في الغلاف الغازي للكرة الأرضية(مع ازدياد الارتفاع في ذلك الغلاف حيث تأخذ الغازات الثقيلة بالاضمحلال شيئا فشيئا لتحلّ محلها غازات خفيفة،فبدءا من سطح الأرض و حتى ارتفاع 110 كيلومترات تكون السيادة لجزئيات (الآزوت)،أي(النيتروجين)و لجزئيات(الأوكسجين)،و بعد ارتفاع 110 كيلومترات، و حتى ارتفاع 160 كيلومترا تسود جزئيات(الأوزون)،(الأوكسجين الثقيل و الأوكسجين)،و بين ارتفاع 960 كيلومتر،و حتى ارتفاع 2400 كيلومتر تسود ذرات(الهليوم)،و بين ارتفاع 2400 كيلومتر،و حتى ارتفاع 9600 كيلومتر تسود جزئيات(الهيدروجين)،و بين ارتفاع 9600 كيلومتر،و حتى ارتفاع 65000 كيلومتر تسود جزئيات شديدة التخلخل و الخفة،و يتصل أعلى هذه الطبقة مع الفضاء الخارجي المسمى فضاء ما بين الكواكب حيث تسود غازات شديدة التخلخل،لدرجة تقرب من الفراغ) (3).
و على هذا فإننا نشعر بالاختناق التدريجي(كلما ارتفعنا عن سطح البحر إلى عنان السماء و ذلك بسبب نقص الضغط الجوي و نقص(الأوكسجين)،و لقد ثبت فعلا أن الإنسان يمكن أن يختنق عند ما يرتفع إلى 10 كيلومترات،إذا لم يكن محاطا بغرفة أو9.
ص: 276
حلة مكيفة الضغط و الهواء،كما أن الدم يندفع من مسام أجسامنا لو خف الضغط عليها،و لهذا يستخدم رواد الفضاء بدلة مكيفة الضغط و أنبوبة(أكسجين)للتنفس) (1).
و تغيرات الغلاف الجوي هذه،و الشعور بالاختناق كلما ارتفعنا إلى السماء،بسبب نقص الضغط الجوي و نقص(الأوكسجين)،حقيقة صرح بها كتاب اللّه تعالى قبل أكثر من أربعة عشر قرنا،يقول مولانا عز و جلّ: فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (2).
و نحن نلحظ تشبيه القرآن الدقيق للذي يصعد في السماء،كيف يكون صدره ضيقا حرجا بسبب هذا الصعود.
كما أن الحق قد أشار إلى ترقي الإنسان في طبقات السماء فقال اللّه سبحانه تعالى:
فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ(16) وَ اللَّيْلِ وَ ما وَسَقَ(17) وَ الْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ(18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ(19) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(20) وَ إِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ(21) (3) .
حقا،لقد ركب الإنسان طبقا عن طبق...
(ففي 21 يوليو عام 1969 تمت رحلة سفينة الفضاء(أبوللو 11)الأمريكية و التي حملت الرواد«نيل أرمسترنج»و«ألدرين»و«كولنينر»إلى القمر حيث هبط«آرمسترنج» و«ألدرين»على سطح القمر لأول مرة في تاريخ البشرية بواسطة المركبة القمرية،بينما ظل«كولنينر»ينتظرهما في مركبة أخرى تدعى(كولومبيا)كانت تدور حول القمر،حتى التحمت بهما المركبة القمرية بعد أداء مهمتها على سطح القمر و عادوا جميعا سالمين إلى الأرض،و قد ركبوا فعلا طبقا عن طبق.
و لقد تتابعت رحلات(أبوللو 12)،14،15،16،17،و انتهت في عام 1972، أ ليس هذا أيضا طبقا عن طبق في سبيل الوصول إلى القمر) (4).
و لقد أشار القرآن الكريم إلى غزو الفضاء،و أن الثقلين الإنس و الجن إن ترقّوا في0.
ص: 277
مدارج العلم و اخترعوا الوسائل التقنية المتطورة،فإنهم سينفذون من أقطار السموات و الأرض و سيغزون الفضاء و يركبون أطباقا...و لقد عبر القرآن الكريم عن هذه الوسائل التقنية بقوله: بِسُلْطانٍ أي العلم،و لقد استطاع الإنسان في عصرنا أن يصنع المركبات الفضائية التي توصله إلى القمر،و لن يتوقف الأمر عند هذا الحد-أي القمر -بل سيتعداه إلى المريخ و غيره.
قال تعالى يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاّ بِسُلْطانٍ (1).
رأينا منافع الغلاف الغازي الذي يعتبر درعا متينا،و سياجا قد حصّن الأرض من العناصر الأجنبية التي لو لا وجود هذا الغلاف،لأحرقت الأرض و لأضرمت نيرانا كثيرة بين جنباتها و انتهت عليها الحياة،كما رأينا الدور الفعّال لهذا الغلاف،في المحافظة على موقع الأرض بالنسبة للشمس مقارنة مع الكواكب الأخرى،و هذا يساعد في إيصال حرارة الشمس إلى الأرض بدرجة معتدلة تنسجم و تتوافق مع الكائنات الحية كالإنسان و الحيوان و النبات فسبحان من قال: وَ جَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَ هُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (2).
نعم سبحان من أحاط الكرة الأرضية بهذا الغلاف الغازي،و كأنه سقف فوقنا ليحفظنا من العوامل المدمرة كالشهب و النيازك.
و كذلك فقد أشار القرآن الكريم إلى منافذ هذا الغلاف الغازي،فقال تعالى: وَ لَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ(14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ(15) (3).
و الإعجاز القرآني في قوله تعالى: باباً و روّاد الفضاء كما مرّ معنا عند ما تقلع مركباتهم الفضائية في السماء،فإنها تحلّق ضمن خطوط مرسومة لها قبل إقلاعها و عند وصولها إلى الغلاف الغازي،فإنه ليس بمقدورها الخروج منه إلا عبر هذه الأبواب، و التي اصطلح على تسميتها علماء الفلك بمنافذ الغلاف الجوي.
ص: 278
مكوك فضائي ينطلق ليخترق منافذ الغلاف الجوي للأرض و ذلك بفضل التطور العلمي و التكنولوجي،و صدق اللّه العظيم: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاّ بِسُلْطانٍ (1).3.
ص: 279
ص: 280
تمهيد.
المبحث الأول:القمر منير.
المبحث الثاني:انشقاق القمر.
المبحث الثالث:منازل القمر.
المبحث الرابع:و جمع الشمس و القمر.
ص: 281
ص: 282
للقمر مكانة سامية في قلوب الناس منذ أحقاب سحيقة مضت من الزمن،و ذلك لاعتباره أقرب الأجرام السماوية إلى الأرض،و لما ينطوي على سرّ الروعة و البهاء عند ما يرسل أشعته الفضية إلى الأرض،فتنفلق ظلمات الليل بضيائه المنير الذي يضفي على الأرض رونقا متألقا من النور الهادئ الأخّاذ،و لذلكم فإن طائفة كبيرة من البشر قديما اعتبرت القمر إلها يلجأ إليه عند نزول الكوارث و الأزمات،و بذلك صبئوا فكانوا من الوثنين الذين أتى القرآن ليحررهم من معتقداتهم التي ارتبطت بالأجرام و بالشمس و القمر،حيث يقول: وَ مِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَ النَّهارُ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لا لِلْقَمَرِ وَ اسْجُدُوا لِلّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ (1).
و لقد اضمحلت تلك الوثنيات التي يترنّم بها الشعراء،و يشبه بها المحب حبيبه بوجه القمر و جماله،و ذابت عند ما وطئ رواد الفضاء القمر بأقدامهم و سفنهم الفضائية، و صوّروه لنا و إذا به صخور جرداء،و فوهات مخيفة،و تضاريس داكنة سوداء،و بهذا يكون قد خف سحر القمر و جماله البرّاق،و سطعت معالم التقنية البشرية الحديثة، لتسطّر التحوّل التاريخي في دنيا البشر،و تمكنها من النزول على سطح القمر.
و سوف يتناول في هذا الفصل الحديث عن السبق القرآني يوم أثبت أن القمر جسم بارد يكتسب نوره من الشمس،و ليس متوهجا مثلها،كما أن القرآن قرر أن القمر كان مشتعلا في فترة من الفترات ثم انطفأ،و سنتحدث عن معجزة عظيمة خلدها القرآن الكريم في صفحاته،ألا و هي معجزة انشقاق القمر،التي وقعت للنبي صلى اللّه عليه و سلم و يأتي العلم اليوم ليؤكد انشقاق القمر،و نتحدث عن قرار القرآن بإمكانية غزو الفضاء،و الصعود في طبقاته،كما سنتطرق للحديث عن الإعجاز القرآني في السنة الشمسية و القمرية، و نذيّلها بالحديث عن منازل القمر،و يختم الفصل بالحديث عن نهاية القمر و عن الصورة الدقيقة التي وضعها القرآن الكريم لنهايته،و التي أكدها العلماء بشكل دقيق.
ص: 283
القمر منير
قال تعالى: وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (1).
و قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً (2).
و قال تعالى: وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً (3).
قبل أن نشرع في الحديث عن أوجه الإعجاز القرآني في هذه الآيات،نسوق بعض المعلومات العامة و الظروف الفيزيائية للقمر،لتكون الصورة واضحة و دقيقة في بحثنا، و هذه بعض الخواص و المعلومات عن القمر و التي أفادنا بها العلماء.
(كتلة القمر 81,3:1 من كتلة الأرض.
حجم القمر 50:1 من حجم الأرض.
نصف قطره 100:27 من نصف قطر الأرض.
المجال المغناطيسي 10:1 مليون من مجال الأرض.
طول اليوم 27,3 يوم أرضي.
و ليس للقمر غلاف هوائي بسبب قربه من الأرض،مع ضعف جاذبيته و الارتفاع الكبير في درجات الحرارة عليه أثناء النهار،و لا يزيد قدر الغازات التي قد تتراكم منسابة من باطنه في أي وقت عن جزء من المليون من كتلة جو الأرض،كذلك لا يوجد على القمر ماء سائل و لا ثلوج،و لم يجد رواد الفضاء الذين هبطوا على القمر أثرا لمياه جوفية تحت سطحه،و لكن الصخور التي جلبوها لتحليلها على الأرض ثبت احتوائها
ص: 284
القمر على شكل بدر و ذلك بفعل أشعة الشمس التي تنير سطحه على الماء في تركيبها الكيميائي،و كان رواد الفضاء على سفن أوبللو الأمريكية قد جلبوا 2000 عينة كتلتها 382 كجم) (1).
بعد هذه المعلومات العامة الموجزة عن القمر،نبدأ في الحديث عن الإعجاز القرآني في الآيات التي صدرنا بها هذا المبحث،حيث تدل هذه الآيات دلالات علمية مدهشة،أخبر عنها القرآن الكريم فكان سبّاقا في ميدان إثبات الحقائق العلمية التي عرفها الناس حديثا.7.
ص: 285
أما عن الآيتين الأولى و الثانية،فهما تخبرانا أن للشمس صفتين سِراجاً ، و ضِياءً ،و قد حللنا هاتين الصفتين عند حديثنا عن الشمس،و عرفنا أن الشمس نجم ينتج بتفاعلاته النووية و احتراقه الداخلي حرارة قوية شديدة و ضوءا،و تلك هي صفة السراج،فالضوء الذي تصدره الشمس يكون مشحونا بالحرارة على خلاف صفة الإنارة،فالنور من صفات القمر،و الإنارة هي ما يستنير به المكان بدون حرارة،إذا فالقمر ليس مضيئا بذاته،و لكنه يعكس الضوء الذي يستقبله من الشمس.
و هذا المعنى أكده العلماء و المفسرون،يقول الإمام ابن كثير رحمه اللّه:(يخبر اللّه تعالى عما خلق من الآيات الدالة على كمال قدرته و عظيم سلطانه،و أنه جعل الشعاع الصادر عن جرم الشمس ضياء و جعل شعاع القمر نورا،هذا فن و هذا فن آخر،ففاوت بينهما لئلا يشتبها،و جعل سلطان الشمس بالنهار و سلطان القمر بالليل) (1).
أما الإمام الرازي فيقول:(النور اسم لأصل هذه الكيفية،و أما الضوء فهو اسم لهذه الكيفية إذا كانت كاملة تامة قوية،و الدليل عليه أنه تعالى سمى الكيفية القائمة بالشمس ضِياءً و الكيفية القائمة بالقمر نُوراً و لا شك أن الكيفية القائمة بالشمس أقوى و أكمل من الكيفية القائمة بالقمر) (2).
و أما الآية الثالثة فهي تخبرنا أن اللّه سبحانه و تعالى قد محا آية الليل،التي هي القمر بعد أن كانت ملتهبة،محاها و طمسها،و ترك آية النهار مبصرة مضيئة التي هي الشمس.
يقول الفخر الرازي: فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً أن يكون المراد و جعلنا نيّري الليل و النهار آيتين،يريد الشمس و القمر، فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ و هي القمر و المراد من محو القمر الكلف الذي يظهر في وجهه...و معنى المحو في اللغة إذهاب الأثر،تقول:محوته أمحوه و انمحى و امتحى إذا ذهب أثره... وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً و معنى كونها مبصرة،أي مضيئة و ذلك لأن الإضاءة سبب لحصول الإبصار، فأطلق سبحانه اسم الإبصار على الإضاءة إطلاقا لاسم السبب على المسبب) (3).5.
ص: 286
(و الليل في نفسه آية،و فيه آيات،و أظهر آياته هو القمر،فيقال في القمر:آية الليل، و النهار في نفسه آية،و فيه آيات،و أظهر آياته هي الشمس،فيقال في الشمس:آية النهار...ثم إن المراد من لفظ الآية في الموضعين واحد:
1-فإما أن يراد بها نفس الليل و النهار،و الإضافة في آية الليل و آية النهار للتبيين كإضافة العدد للمعدود،أو يراد بها الشمس و القمر فيكون وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ على تقدير مضاف في الأول تقديره هكذا،و جعلنا نيري الليل و النهار ذوي آيتين.
2-و إما على تقديرنا المتقدم فإن لفظ آيَتَيْنِ صادق على الليل و النهار،و لفظ آية الليل و آية النهار صادق على الشمس و القمر،و عليه يكون تقدير الآية هكذا:و جعلنا الليل و النهار آيتين فمحونا قمر الليل،و جعلنا شمس النهار مبصرة،و هو تقدير صحيح لا معارض له من جهة اللفظ و لا من جهة المعنى،و سالم من دعوى تقدير محذوف، و مفيد لكثرة المعنى بأربع آيات،بالليل و قمره،و النهار و شمسه،فالتقدير به أولى، و لذلك فسرنا الآية عليه) (1).
و أما الجعل فهو(إيجاد ما به يكون الشيء على صفة لم يكن عليها،و المضاف محذوف،تقديره جعل الشمس ذات ضياء،و القمر ذا نور،و الضياء أبلغ في كشف الظلمات من النور،و فيه صفة زائدة على النور) (2).
و في تفسير«غرائب القرآن»:(و المضاف محذوف،و التقدير:و جعلنا نيّري الليل و النهار آيتين فمحونا آية الليل التي هي القمر،حيث لم يخلق له شعاع كشعاع الشمس، فترى به الأشياء رؤية غير بينة،و جعلنا الشمس ذات شعاع يبصر في ضوئها كل شيء) (3).
هذه بعض أقوال المفسرين القدامى رحمهم اللّه تعالى،و التي فرقوا كما رأينا بين ضوء الشمس الذي يحوي الحرارة و النور،و بين نور القمر الذي هو انعكاس عن ضوء4.
ص: 287
الشمس و شعاعها،و هذا ما قاله العلماء المعاصرون،و منهم الشيخ عبد المجيد الزنداني (1)إذ يقول:(القمر كان مشتعلا ثم انطفأ،قال تعالى: وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً فآية الليل القمر،و آية النهار الشمس، و محونا آية الليل أي طمسناها و أزلنا ضوءها،و المحو:الطمس،و لا يكون إلا بعد الإنارة،فمن هنا عرفنا أن القمر كان مشتعلا ثم محي ضوؤه و الله أعلم،و هذا السر لم يعرف إلا قريبا بعد أن تيسّرت الآلات للباحثين،و هذا يشهد أن محمدا صلى اللّه عليه و سلم قد جاءه الوحي بهذا من عند اللّه) (2).
إذن نستطيع أن نستخلص من معطيات الآيات القرآنية ما يلي:
أولا:أن القمر جسم منير يكتسب نوره من الشمس،و لا يوجد فيه إضاءة ذاتية.
ثانيا:القمر كان جسما مشتعلا ثم انطفأ.
هذا ما أثبته العلم،فقد أصبح اليوم من المسلّم به أن القمر كان كتلة نارية ملتهبة ثم انطفأ بعد ذلك و خمد لهيبه.
(القمر جسم مظلم أساسا،و ضوؤه انعكاس لضوء الشمس،و يتغير الجزء المضيء من القمر من يوم لآخر في الحجم و الشكل،فأول ما نراه يكون خطا رفيعا منحنيا مستنيرا،ثم يزداد حجمه شيئا فشيئا،حتى يصبح دائرة تامة،ثم يأخذ في التناقص حتى يصبح خطا في أول ظهوره،و يطلق على هذه الأشكال أوجه القمر) (3).
و نجد نفس المعنى في كتاب«المحيط الكوني و أسراره»:(و كما هو معروف فالقمر جسم معتم مظلم بذاته،يأخذ نوره من الشمس كما تأخذه الكواكب الأخرى و يعكسه
ص: 288
علينا،كما تفعل المرآة المعلقة في الفضاء،كما أن الأرض نفسها تأخذ نورها من الشمس و تعكسه على القمر،فيبدو جميلا متألقا ببهائه و لمعانه) (1).
و في كتاب«القمر»:(و يعتقد كثير من العلماء في الوقت الحالي،أن قمرنا نشأ بنفس الطريقة التي نشأت بها المجموعة الشمسية،أي إن القمر انفصل على هيئة لسان ناري أيضا في العصور الأولى للكرة الأرضية عند ما كانت في حالة شبه سائلة) (2).
و يستنتج الفلكيون هذه الحقيقة(من العمر المديد لصخور النجود القمرية،أن السطوح الوعرة و المرتفعة على القمر،تكونت بعد زمن قصير من ولادته،و ربما كان القمر عندها كتلة منصهرة،الأمر الذي يسمح للمادة الكثيفة الغنية بالحديد بالغوص إلى داخل القمر،في حين تطفو المادة الأقل كثافة على السطح،و لدى بلوغ هذه المادة الصخرية الأخيرة السطح،فقد تبردت و انعقدت مكونة بذلك القشرة القمرية،و تلا ذلك قصف النجود القمرية بأجرام صلبة من الفضاء،و نشأ عن ذلك العديد من الفوهات البركانية التي نراها منتشرة هناك،و فيما كان القمر يتبرد،كانت قشرته تزداد ثخانة و نظرا لهبوط المادة الأكثف إلى باطن القمر عند ما كان في حالة منصهرة،فإن الحمم البركانية المندفعة من الأعماق،كانت أكثف من الصخور السطحية التي انغمرت بها) (3).
إن هذه الحقائق العلمية الحديثة تتفق تماما مع النصوص القرآنية الكريمة،و التي استعرضناها في صدر المبحث،فالقرآن قد قرر منذ نزوله على النبي صلى اللّه عليه و سلم أن القمر جسم منير،و لا يوجد فيه إضاءة ذاتية،كما قرر أن القمر كان مشتعلا يوما ما ثم خمد نوره و انطفأ،و مع مرور الأيام و تطور أدوات البحث العلمي الحديثة،ثبت للعلماء مصداقية هذه الحقائق القرآنية المعجزة،فسبحان اللّه العليم الخبير.
ص: 289
صورة تظهر القمر و فيه بعض الفوهات و الوديان السحيقة.
ص: 290
انشقاق القمر
قال تعالى: اِقْتَرَبَتِ السّاعَةُ وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ (1).
و قال سبحانه: وَ الْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ(18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ(19) (2).
انشقاق القمر معجزة من أعظم المعجزات الحسية التي خلّدها القرآن الكريم و ثبتت في الصحاح و هي مكرمة إلهية لرسوله صلى اللّه عليه و سلم،و لم ينشقّ القمر لأحد من قبله من أنبياء اللّه و مرسليه،و قد رآها الناس رأي العين،و شاهدوا انفلاق القمر إلى فلقتين في كبد السماء،و سألوا أهل البوادي و القوافل الرّحالة عن ذلك فما أنكر منهم أحد،إلا من ركب رأسه،و آثر الجحود السافر على دلائل الحق و براهين الهدى.
روى الطبري بسنده في تفسيره،عن أبي عبد الرحمن السلمي قال:(نزلنا المدائن فكنّا منها على فرسخ،فجاءت الجمعة،فحضر أبيّ،و حضرت معه،فخطبنا حذيفة فقال ألا إن اللّه يقول: اِقْتَرَبَتِ السّاعَةُ وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ ألا و إن الساعة قد اقتربت،ألا و إن القمر قد انشق،ألا و إن الدنيا قد أذنت بفراق و إن اليوم مضمار و غدا السباق...) (3).
و في تفسير الإمام القرطبي:(...و قال قوم:لم يقع انشقاق القمر بعد و هو منتظر، أي اقترب قيام الساعة و انشقاق القمر،و أن الساعة إذا قامت انشقت السماء بما فيها من القمر و غيره،و كذا قال القشيري،و ذكر الماورديّ:أن هذا قول الجمهور،و قال:لأنه إذا انشق ما بقي أحد إلا رآه،لأنه آية و الناس في الآيات سواء) (4).
ص: 291
و في تفسير«البحر المحيط»:(و الأمّة مجمعة على خلاف من زعم أن قوله: وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ معناه:أنه ينشق يوم القيامة،و يرده من الآية قوله: وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَ يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ(1) فلا يناسب هذا الكلام أن يأتي إلا بعد ظهور ما سألوه معينا من انشقاق القمر،و قيل:سألوا آية في الجملة فأراهم هذه الآية السماوية،و هي من أعظم الآيات،و ذلك التأثير في العالم العلوي) (2).
و يقول الحافظ ابن كثير: (وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ قد كان هذا في زمان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كما ورد ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة...و هذا أمر متفق عليه بين العلماء أن انشقاق القمر قد وقع في زمان النبي صلى اللّه عليه و سلم و أنه كان إحدى معجزاته الباهرات) (2).
و كما ذكر ابن كثير بأن الأحاديث في هذه المعجزة ثابتة و كثيرة،و منها ما ورد في صحيح البخاري من حديث ابن عبد اللّه رضي اللّه عنه قال:(انشق القمر و نحن مع النبي صلى اللّه عليه و سلم، بمنى فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم:«اشهدوا»،و ذهبت فرقة نحو الجبل) (3).
اختلف المفسرون كما رأينا إزاء هذه القضية إلى فريقين،فريق يرى بأن معجزة انشقاق القمر قد وقعت في عهد النبي صلى اللّه عليه و سلم و آمن من آمن يومذاك،و كفر من كفر.
و فريق يرى الأمر على العكس من هذا تماما،حيث إن انشقاق القمر لم يقع بعد، و سوف ينشق القمر قبل قيام الساعة،و كما نقل القرطبي في تفسيره عن الماوردي أن هذا قول الجمهور،لأنه إذا انشق ما بقي أحد إلا رآه،لأنه آية و الناس في الآيات سواء.
و لحسن الحظ،و لكي تتأكد هذه المعجزة القرآنية،فإن علماء الفلك هم كذلك قد ذهبوا من المسألة مذهبين،و اختلفوا إلى رأيين،فمنهم من يرى أن القمر قد انشق يوما من الأيام،و هذا الرأي هو رأي العلماء الأمريكان الذين هبطوا على سطح القمر، و منهم من يرى أن القمر سينشق في المستقبل،و هذا رأي معظم الفلكيين.1.
ص: 292
أما بالنسبة لمن رأى أن القمر قد انشق يوما ما،و هم علماء الفضاء الأمريكان،فإني أنقل رأيهم و أثبته هنا عن الأستاذ الدكتور زغلول النجار (1)و الذي ألقى محاضرة حول الإعجاز العلمي في القرآن الكريم،و تطرق إلى قضية انشقاق القمر،و أكد أن القمر قد انشق و دلل على ذلك من خلال سؤال طرح على علماء الفلك في ناسا الأمريكية و هو:
ما ذا استفدتم من رحلتكم إلى القمر و التي قد كلفتكم أكثر من مائة مليون دولار،و لو أنكم قدمتم هذه الأموال كمساعدة إنسانية إلى الفقراء أما كان هذا بأفضل؟.
و كان الجواب:إن أعظم شيء اكتشفناه خلال رحلتنا إلى القمر،أننا قمنا بتثبيت المراجف على سطح القمر لرصد الزلازل التي تحدث فيه،و للكشف عن بنيته،و بنتيجة ما قدمته تلك المراجف من معلومات،تبين لنا أن القمر يحوي حزاما حجريا متحركا على عرضه،مما يدل بوضوح على أن القمر قد انقسم إلى قسمين يوما ما ثم التحم.
و لقد كتب الدكتور زغلول مقالا في جريدة«البيان»الإماراتية بعنوان«انشقاق القمر» و كان مما قال فيه:(لقد دوّن كل من التاريخ الهندي و الصيني القديم حادثة انشقاق القمر،و أرخوا بها،و في محاضرة لي بكلية الطب(جامعة كارديف)في مقاطعة(ويلز) غربي بريطانيا،منذ عدة سنوات مضت وجّه إلي أحد الحضور من المسلمين سؤالا عن الآيات في مطلع سورة القمر،و هل تمثل ومضة من ومضات الإعجاز العلمي في كتاب الله؟،فأجبت بأن هذه الواقعة تمثل إحدى المعجزات الحسية التي وقعت تأييدا لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في مواجهة كفار و مشركي قريش،و إنكارهم لنبوته صلى اللّه عليه و سلم،و أن المعجزات خوارق للسنن،و على ذلك فإن السنن الدنيوية لا يمكن لها تفسير كيفية حدوث المعجزة،و لو لا ورودها في كتاب اللّه،و في سيرة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما كان علينا نحن مسلمي اليوم أن نؤمن بها،و لكننا نقر بها،و نؤمن بوقوعها لورودها في كتاب اللّه بالنص الإلهي الذي يقول فيه
ص: 293
ربنا: (اقْتَرَبَتِ السّاعَةُ وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ(1) وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَ يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ(2) وَ كَذَّبُوا وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَ كُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ(3) وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ(4) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ(5) (1)و بعد انتهاء حديثي،وقف رجل بريطاني من الحضور و استأذن في أن يضيف شيئا إلى إجابتي فأذنت له،ثم بدأ بتعريف نفسه على أن اسمه داود موسى بيدكول،و أنه مسلم،و يرأس الحزب الإسلامي البريطاني،ثم أضاف أن هذه الآيات في مطلع سورة القمر كانت هي السبب في إسلامه في أواخر السبعينات من القرن العشرين،لأنه ببحث مستفيض في الأديان أهداه أحد المسلمين ترجمة لمعاني القرآن الكريم،و أنه عند فتح هذه الترجمة لأول مرة فوجئ بسورة القمر،فقرأ الآيات في مطلعها،و لم يكد يصدق أن القمر قد انشق ثم التحم فأغلق الترجمة و انصرف عنها،ثم شاء اللّه سبحانه و تعالى أن يشاهد على شاشة التلفاز البريطاني(. C.B.B )برنامجا عن رحلات الفضاء،استضاف فيه المذيع البريطاني جيمس بيرك (James Burke) ثلاثة من علماء الفضاء الأمريكيين،و ذلك في سنة 1978،و في أثناء الحوار كان المذيع ينتقد الإسراف على رحلات الفضاء بإنفاق بلايين الدولارات، و الأرض يتضور فيها ملايين البشر من الجوع،و المرض،و الجهل،و التخلف،و كان جواب العلماء أنه بفضل هذه الرحلات تم تطوير عدد من التقنيات الهامة التي تطبق في مجالات التشخيص و العلاج الطبي،و الصناعة،و الزراعة و غيرها،و في أثناء هذا الحوار جاء ذكر أول رحلة إنزال رجل على سطح القمر،و قد تكلفت أكثر من مائة مليار دولار،و جلس المذيع يتابع عتابه على هذا الإسراف،فرد العلماء بأن هذه الرحلة قد أثبتت لهم حقيقة لو أنفقوا أضعاف هذا المبلغ لإقناع الناس بها ما صدقهم أحد،فسأل المذيع:ما هي هذه الحقيقة؟فأجابوا:أن هذا القمر قد سبق له أن انشق ثم التحم، و أن آثار محسوسة تؤيد ذلك الحدث قد وجدت على سطح القمر و امتدت إلى داخله، فقال السيد بيدكول:حينما سمعت ذلك قفزت من الكرسي الذي كنت أجلس عليه أمام التلفاز،و قلت:معجزة تحدث لمحمد قبل ألف و أربعمائة سنة و يرويها القرآن بهذا التفصيل العجيب،يسخّر اللّه من يثبتها للمسلمين في عصر العلوم و التقنية الذي نعيشه، و ينفق هذا المبلغ الكبير،لا بد و أن يكون هذا الدين حقا،و عدت إلى ترجمة معاني5.
ص: 294
القرآن الكريم أقرأها بشغف شديد،و كانت آيات سورة القمر هي السبب المباشر لقبولي الإسلام دينا) (1).
و أما بالنسبة للفريق الثاني و الذي يرى بأن القمر سينشق في المستقبل،فهم كثر بل إن معظم من كتب من الفلكيين حول القمر تحدث عن انقسام القمر و انشقاقه في المستقبل، و سأسوق هنا ما ورد في«موسوعة المعارف الكونية»حول هذا الموضوع:(كان القمر قريبا من الأرض عقب الانفصال منذ بلايين السنين،و أخذ يبتعد عنها تدريجيا للدوران حولها في مدار ظلّ يتسع تدريجيا لزيادة السرعة المدارية للقمر،تعويضا عن الإبطاء الحادث في سرعة الدوران المغزلي للأرض بتأثير ظاهرة المد و الجزر و هذا التعويض لا بد أن يحدث تلقائيا للحفاظ على كمية تحرك مجموعة الأرض و القمر معا،كنظام مغلق مرتبط ببعضه البعض،و لقد ثبت علميا و عمليا أن الأرض تبطئ بمقدار 002،0 من الثانية في زمن اليوم الواحد كل مائة سنة،لذلك يسرع القمر في مداره فيزداد الطرد المركزي،لدرجة أن القمر يرتد عنّا حاليا بمعدل مسافة 4 سم سنويا،و هذا الارتداد رغم ضآلته بالنسبة لنصف مدار قطر القمر حول الأرض حوالي«384000 كم»فإن الإزاحات الضئيلة الناتجة عنه تراكمت عبر ملايين السنين حتى وضعت القمر في مداره الحالي،و يعتقد العلماء أن هذه الظاهرة و عوامل أخرى تؤثر على سرعة دوران الأرض حول نفسها،مما يؤثر بدوره على اختلال توازن القمر في مداره في المستقبل،لأن زيادة سرعته حول نفسه أو حول الأرض ستؤدي حتما إلى انشقاق القمر تماما،كما يتفتت الشيء عند ما يتسارع دائرا في خلاط كهربائي،أو عند ما تختل الجاذبية على نصفيه و عندئذ سيرى الناس القمر منشقا) (2).
و هكذا فإن ما توصل إليه العلماء من دراسات و أبحاث،تدل بمجملها دلالة واضحة على أن القمر قد انشق أو بالتأكيد سينشق،و في هذا تأكيد على عظمة هذا القرآن و على سبقه في إثبات الحقائق العلمية و الكونية.
و أما بالنسبة للشق الثاني من هذا المبحث،و هو قوله سبحانه و تعالى: وَ الْقَمَرِ إِذَا4.
ص: 295
اِتَّسَقَ(18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ(19) ،فإن الواقع فسّر هذه الآية الكريمة و ركب الإنسان حقا طبقا عن طبق عند ما نزل على سطح القمر،و اخترق طبقات السماء المتعددة.
(ففي 20 تموز سنة 1969 نزل الرائدان الأمريكيان«نيل أرمسترنغ»و«أدوين ألدرين» على سطح القمر،كأول إنسانين يطئان جرما خارجا عن الأرض،و تلت هذه الرحلة التاريخية الناجحة ست رحلات من طراز«أوبللو»أنزلت روادا على سطح القمر...
و كان تاريخ نزول«أرمسترنغ»و«ألدرين»في 20 تموز 1969،و قد بقي الرائدان على سطح القمر مدة 22 ساعة و 40 دقيقة وضعا خلالها أجهزة علمية متنوعة،كمقياس الزلازل لقياس الهزات القمرية،و قياس البراكين و غيرها إضافة إلى بعض الرموز التذكارية كعلم أمريكا و غيره...و قد بدأت الرحلة في 16 تموز 1969 و استمرت 195 ساعة و 20 دقيقة،و أنهت أعمالها في 24 تموز) (1).
مما سبق يتّضح لنا أن المفسرين رحمهم اللّه تعالى،و علماء الفلك كذلك قد اختلفوا في وقت وقوع حادثة انشقاق القمر،فمنهم من ذهب إلى أن القمر قد انشق زمن النبي صلى اللّه عليه و سلم،و منهم من رأى بأن القمر من دلائل الساعة و أن انشقاقه سيتزامن مع الأحداث التي تواكب قيام الساعة،كما أن علماء الفلك قد اختلفوا بين مؤكد على أن القمر قد انشق،و بين مؤكد على أنه سينشق في المستقبل و تبقى الآية القرآنية معجزة فوق هذا و ذاك،و أنها أثبتت أن القمر قد انشق،لتكون سباقة إلى إثبات هذه الحقيقة العلمية التي توصل إليها باحثو اليوم.
كما أنّ الناحية العلمية في قوله تعالى: وَ الْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ(18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) قد اتضحت و أصبحت جليّة للعالم كله،فلقد اخترق الإنسان عدة طباق و وصل إلى القمر،و ما كان أحد يتصور يوم نزول القرآن و لا يصدق بأن الإنسان سيصعد إلى السماء،و لا حتى قبل مائتي سنة،إلا أن القرآن قد أشار إلى إمكانية غزو الفضاء إن ترقّى الإنسان في مدارج العلم،و ملك زمام العلم و سلطانه،قال تعالى: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاّ بِسُلْطانٍ (2).
ص: 296
صورة توضح رائد فضاء يسير على سطح القمر
ص: 297
منازل القمر
قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً وَ قَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ (1).
و قال تعالى: وَ الْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (2).
يشير قوله تعالى: قَدَّرْناهُ مَنازِلَ إلى تنقلات القمر في منازله التي ينزلها في كل يوم من الشهر،و في الآية إشارة إعجازية رائعة و هي أن القمر خلال تنقله في منازله،إنما هو في واقع الحال يدور حول الكرة الأرضية،و من من الناس قبل التقنية الحديثة كان يعلم أن القمر يدور حول الأرض،كما أن في الآية تقرير واضح إلى أن هذه المنازل إنما جعلها الحق عز و جلّ لتقويم حساب الأيام و السنين.
يقول الحافظ ابن كثير:(و قدر القمر منازل،فأول ما يبدو صغيرا ثم يتزايد نوره و جرمه حتى يستوسق و يكمل إبداره،ثم يشرع في النقص حتى يرجع إلى حالته الأولى في تمام شهر...و قوله سبحانه و تعالى: وَ قَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ فبالشمس تعرف الأيام،و بسير القمر تعرف الشهور و الأعوام) (3).
و يصف القرطبي رحمه اللّه منازل القمر هذه فيقول:
(قَدَّرْناهُ مَنازِلَ ففي هذا جوابان،أحدهما قدرناه ذا منازل،و التقدير الآخر قدّرنا له منازل...و المنازل«ثمانية و عشرون منزلا»ينزل القمر كل ليلة منها بمنزل،و هي:
الشرطان البطين،الثريا،الدبران،الهقعة،الذراع،النشرة،الطرف،الجبهة، الخراتان،الصرفة،العواء السماك الفغر،الزبانيان،الإكليل،القلب،الشولة، النسائم،البلدة،سعد الذابح،سعد بلع،المفرغ المؤخر،بطن الحوت.
ص: 298
فإذا صار القمر في آخرها عاد إلى أولها،فيقطع الفلك في ثمان و عشرين ليلة،ثم يستتر ثم يطلع هلالا،فيعود في قطع الفلك على المنازل،و هي منقسمة على البروج لكل برج منزلان و ثلث فللحمل الشرطان و البطين و ثلث الثريا،و للثور ثلثا الثريا و الدبران و ثلثا الهقعة،ثم كذلك إلى سائرها (1).
و أما العرجون: حَتّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ فهو(عود العذق الذي عليه الشماريخ، و هو فعلون من الانفراج و هو الانعطاف،أي سار في منازله،فإذا كان في آخرها دقّ و استقوس و ضاق حتى صار كالعرجون القديم،و«العرجون»الذي يبقى من الكباسة في النخلة إذا قطعت و«القديم»البالي) (2).
و في تفسير«الكشاف»: عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ و هو عود العذق ما بين شماريخه إلى منبته من النخلة...و القديم المحلول،إذ قدم و دق و انحنى و اصفرّ فشبه به من ثلاث أوجه) (3).
بعد هذا التطواف الموجز عن منازل القمر في كتب المفسرين،نأتي إلى حديث علماء الفلك عن منازل القمر و تحركاته،و لا شك أن علماء الفلك قد أسهبوا في الحديث عن منازل القمر،و عن أوجهه إلا أننا سنقتصر على دراسة واحدة لمنازل القمر.
ففي كتاب«القمر»:(يتخذ القمر خلال دورته الشهرية،أي الانتقالية حول الأرض مواقع محددة بالنسبة لها و للشمس،و له في كل من تلك المواقع مظهر خاص راجع إلى مقدار المساحة التي يغمرها النور من وجهه،و الشكل الذي يتخذه ذلك الجزء المغمور بالنور،و تدعى تلك المظاهر باسم«منازل القمر»أو«وجوهه»علما بأن شروق القمر، يتأخر كل يوم عن اليوم السابق بمقدار 50 دقيقة وسطيا و أول تلك الوجوه:
اولا:الهلال هو أول منزل من منازل القمر،إذ يكون القمر يومها قد ابتعد قليلا عن نقطة
ص: 299
الصعود،و هو في طريقه إلى سماء نصف الكرة الشمالي،فيرى يومها في الأفق الغربي،بعد غروب الشمس بقليل و قرب المكان الذي تغرب فيه الشمس،و قد أنارت الشمس أقصى الطرف الأيسر من السطح المعتم المتجه نحونا،و لا يتمكن من رؤية ذلك الهلال النحيل إلا أصحاب البصر الحاد،و خلال فترة قصيرة،إذ لا يلبث أن يغيب بعدها تحت الأفق،و يزداد عرض ذلك الهلال يوما بعد يوم حتى إذا ما انقضت مدة 6 أيام و 16 ساعة و 11 دقيقة على بداية الشهر القمري،فإن القمر يدخل منزلا جديدا،إذ يتخذ شكلا مغايرا للشكل السابق حيث يقال إنه في التربيع الأول.
التربيع الثاني:
في اليوم السابع من الشهر القمري، يلاحظ القمر بعد غروب الشمس بقليل، في وسط السماء و قد غمر النور نصفه الأيسر،و عندها يقال:إنه في التربيع الأول،إذ يكون قد أمضى ربع دورته الانتقالية الشهرية حول الأرض،و ذاك هو المنزل الثاني من منازل القمر.
الأحدب الأول:
و في اليوم الثامن من الشهر القمري و ما بعده،يزداد القسم المنار من سطح القمر،كما يرى بعد غروب الشمس و هو أقرب إلى الأفق الشرقي،حيث يصبح القسم الأكبر منه منارا،و ذلك بعد مضي 11 يوما على بدء الشهر القمري،و يكون صورة القمر في شكل هلال تحدبه نحو يمينه،أي باتجاه الشرق و يدعى القمر عندها الأحدب الأول،و هو ثالث منزل من منازل القمر،أي وجوهه.
البدر:
و في ليلة النصف من الشهر القمري يكون القمر قد بلغ نقطة النزول،و قد غمر النور كامل وجهه،و يتفق إشراقه من الأفق الشرقي مع غياب الشمس في الأفق الغربي،
ص: 300
و يقال يومها:إن القمر في حالة تقابل مع الشمس،إذ يكون هو و الشمس و بينهما الأرض على استقامة واحدة،و يدعى القمر عندها بدرا،و ذاك هو رابع منزل من المنازل التي يبلغها القمر بعد مضي 14 يوما على بداية الشهر القمري.
الأحدب الثاني:
و يأخذ القمر يوما بعد يوم بالتأخّر في الشروق بمقدار 50 دقيقة وسطيا،كما يأخذ النور بالانحسار عن الجزء الأيسر منه،حتى إذا ما انقضت أربعة أيام على الحالة التي كان القمر فيها بدرا،رسم الخط الفاصل بين القسم المنار منه و القسم المظلم،خطا منحنيا تحدبه نحو الطرف الأيسر منه و يدعى القمر عندها الأحدب الثاني،و هو المنزل الخامس من منازل القمر،كما يلاحظ أنه بدءا من اليوم السادس عشر من الشهر القمري،يأخذ القمر بالاقتراب من الأفق الجنوبي،يوما بعد يوم إذ يكون قد انتقل إلى سماء نصف الكرة الجنوبي.
التربيع الثاني:
و عند ما يمضي من الشهر القمري 22 يوما،نجد أن النور لم يعد يغطي إلا النصف الأيمن فقط من سطح القمر،و ذلك هو المنزل السادس من منازل القمر الذي يدعى التربيع الثاني،و يلاحظ أن شروقه يومها يتأخر حوالي 5 ساعات تقريبا بعد غروب الشمس،كما يرى نهارا و هو يتحرك شيئا فشيئا باتجاه الأفق الغربي،حيث يقترب منه ظهيرة ذلك اليوم.
الهلال الثاني:
و في الأيام الثلاثة التي تلي التربيع الثاني،يلاحظ أن النور لم يعد يغطي إلا قسما صغيرا من طرفه الأيمن،متخذا شكل هلال يرى في النهار،و يكون تحدبه مساء عند اقترابه من الأفق الغربي نحو يمين القمر،و ذاك هو المنزل السابع من منازل القمر.
المحاق:
و في آخر يوم من الشهر القمري،يكون القمر قد بلغ نقطة الصعود،و أصبح بين الأرض و الشمس على استقامة واحدة،و قد غمر الظلام كامل وجهه المتجه نحونا، و يكون قد غاب تحت الأفق مع مغيب الشمس،فلا يرى،و يقال لحالته تلك:«حالة الاقتران»أما منزله و هو المنزل الثامن فيدعى المحاق،إذ يقال للقمر يومها:إنه محاق، لأنه محق لا تمكن رؤيته.
ص: 301
القمر الرمادي:
في بداية الشهر القمري،حين يكون الهلال نحيلا،نجده و قد احتضن القسم المظلم الباقي من القمر و الذي يبدو لأعيننا على شكل دائرة سوداء،و لو نظرنا لتلك الدائرة بالمرقب،لرأينا غشاء خفيفا من نور رمادي اللون يغطيها،و ما مصدر ذلك النور إلا الأرض التي تعكس نورها نحوه،مما يجعل ذلك القسم المظلم من القمر يرى بالعين المجردة.
بداية الشهر القمري و أول وجوه منازل القمر:
يبدأ اليوم عند المسلمين من بعد غروب شمس اليوم السابق،بينما يبدأ اليوم عند بقية الشعوب في منتصف الليلة التي تلي نهار اليوم السابق،و هذا مما جعل أول وجه من وجوه القمر لدى المسلمين الهلال،بينما تعتبر بقية شعوب العالم وجه القمر المسمى محاقا،أول وجوهه أي منازله) (1).
و نحن المسلمين نستخدم في دولنا الإسلامية التقويم الهجري،و السنة القمرية التي ترتكز أساسا على رصد الأهلة الاثني عشر شهرا،أي 354 يوما،بينما السنة الميلادية أو الشمسية ترتكز على زمن دورة الأرض حول الشمس و التي تقدر 365،يوما أرضيا و ربع،و هنا إعجاز قرآني عجيب،إذ أن كل 300 سنة ميلادية يعادلها 309 سنة قمرية، و هذا تحقيق للمعجزة القرآنية في قوله تعالى: وَ لَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَ ازْدَادُوا تِسْعاً (2).
(و لبثوا في كهفهم،و لبث الفتية في كهفهم أحياء نائمين،فمنذ أن أنامهم اللّه إلى أن أيقظهم ثلاثمائة سنة و تسعا،و ذكر بعض المفسرين أن المدة ثلاثمائة سنة شمسية، و ثلاثمائة و تسع قمرية) (3).
(تبلغ السنة الشمسية،و هي التي تسمى الانقلابية،لأنها عبارة عن مدة تنقضي بين مرورين متتاليين للشمس بنقطة اعتدال واحد 217،242،365 يوما شمسيا،ينتج بمرورها الصيف و الخريف و الشتاء و الربيع،و السنة القمرية تتكون من4.
ص: 302
067،367،345 يوما،و هي المدة بين كسوفين متواليين مقسومة على عدد حركات القمر الدائرية،فالفرق بين السنة الشمسية و السنة القمرية أي الهجرية 10،149،875 يوما،و بذلك يكون في كل 33 سنة فرق قدره 917،879،358 يوما،أي ما يقرب من السنة،و عليه تزيد كل مائة سنة ثلاث سنوات،و تكون 300 سنة شمسية يقابلها 309 سنة قمرية و لقد تم أيضا حساب الشهر القمري حديثا فوجد أنه 53059،29 و تكون السنة القمرية مساوية 53059،29 X 12 36،345 يوما.و بهذا فإن 300 سنة شمسية تقابل 309 سنة قمرية(هجرية)و هذه العلاقة الرياضية واضحة في الآية السابقة التي تبين أيضا نسبية الزمن،سواء قسمناه بالتقويم الشمسي أو القمري) (1).
و من المعلوم أن العرب يستعملون السنة القمرية لحساب شهورهم و سنواتهم،و لكن أصحاب الكهف و أهل زمانهم كانوا يستخدمون السنة الشمسية،فلقد لبث أهل الكهف 300 سنة شمسية لأنهم يستخدمون التقويم الشمسي في زمانهم، وَ ازْدَادُوا تِسْعاً حسب استعمال العرب و المسلمون للسنة القمرية.
يتجلّى الإعجاز القرآني في القمر هاهنا،أن اللّه عز و جل قد جعل للقمر منازل ينزلها في كل شهر،و هذا دليل قطعي على دورانه حول الأرض،و هذا ما اكتشفه العلم و أثبته، و التعبير القرآني المعجز دقيق: مَنازِلَ إذ فيه دلالة قطعية على دوران القمر حول الكرة الأرضية،تلك الحقيقة التي لم يكن أحد يعرفها إبان نزول القرآن و بعده بقرون.
كما أن الإعجاز القرآني الحسابي الدقيق يتضح في السنة الشمسية و القمرية،فكل 300 سنة شمسية تساوي 309 سنة قمرية،فسبحان اللّه العظيم.
ص: 303
و جمع الشمس و القمر
قال تعالى: وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ (1).
تتحدث هذه الآية الكريمة عن حدث من الأحداث التي ستتزامن مع قيام الساعة، و تتساور مع خراب الكون و دماره،فالشمس و القمر-كما تنص الآية القرآنية-سوف يجتمعان،و هذه الصورة القرآنية أسهب علماء الفلك بالحديث عنها،من أن الشمس سيكبر حجمها و تجتمع مع القمر،و لا شك أنهم لا يعرفون الآية القرآنية و لم يقرءوها، بحكم توغّلهم في العلوم المادية التطبيقية و بعدهم عن القرآن،كما أنهم تحدثوا عن دوران القمر حول الأرض،و أنه خلال دورانه يبتعد شيئا فشيئا عن الأرض،و لو بنسبة قليلة إلا أن هذا الابتعاد سيوقعه في جاذبية الشمس و يجتمع معها يوما ما،و قبل أن نصغي لهذه النتائج العلمية الفلكية،نسوق بعض أقوال المفسرين في الآية الكريمة.
يقول الإمام الرازي:(قوله: وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ فيه مسائل:المسألة الأولى،ذكروا في كيفية الجمع وجوها أحدها:أنه تعالى قال: لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ (2)فإذا جاء وقت القيامة أدرك كل واحد منهما صاحبه و اجتمعا،و ثانيها:جمعا في ذهاب الضوء،فهو كما يقال مثلا:الشافعي يجمع ما بين كذا و كذا في حكم كذا، و ثالثها:يجمعان أسودين مكورين كأنهما ثوران عقيران في النار،و قيل:يجمعان ثم يقذفان في البحر،فهناك نار اللّه الكبرى) (3).
ص: 304
و في تفسير«غاية البيان»:(و جمع الشمس و القمر،يخسف القمر و يذهب ضوؤه، و يصطدم بالشمس لضعف ما كان بينهما من تماسك،فتكون نهاية العالم) (1).
و في تفسير«بحر العلوم»:(و يقال:جمع الشمس و القمر،يعني،سوى بينهما في ذهاب نورهما،و إنما قال:و جمع الشمس و القمر،و لم يقل و جمعت،لأن المؤنث و المذكر إذا اجتمعا،فالغلبة للمذكر) (2).
و قال الإمام القرطبي:(أي جمع بينهما في ذهاب ضوئهما،فلا ضوء للشمس كما لا ضوء للقمر بعد خسوفه...و قال ابن عباس و ابن مسعود:جمع بينهما،أي قرن بينهما في طلوعهما من المغرب أسودين مكوّرين مظلمين مقرنين كأنهما ثوران عقيران، و قال عطاء:يجمع بينهما يوم القيامة ثم يقذفان في البحر،فيكونان نار اللّه الكبرى، و قال علي و ابن عباس:يجعلان في نور الحجب،و قد يجمعان في نار جهنم،لأنهما قد عبدا من دون اللّه و لا تكون النار عذابا لهما لأنهما جماد،و إنما يفعل ذلك بهما زيادة في تبكيت الكافرين و حسرتهم،و قيل:يجمع الشمس و القمر فلا يكون ثمّ تعاقب ليل و لا نهار) (3).
هذا هو النبأ القرآني حول مصير القمر الذي سيجتمع مع الشمس،و هذه هي معطيات النصوص القرآنية الكونية،و لقد توصل علماء الفلك إلى هذه الحقيقة بعد بحث و دراسة مضنيين.
ففي كتاب«النهاية»و الذي يتحدث عن نهاية الكون و الأفلاك،يشير إلى أن كوكب الشمس سيصبح عملاقا أحمر و يلتقم بعض كواكبه بما فيهم القمر:(...و ستبدو الأرض لمن ينظر إليها من خارجها محجوبة بغطاء مثلما يبدو لنا الزهرة الآن،و يسود منظر السحاب حمرة شديدة حتى تؤدي الحرارة إلى غليان المحيطات تماما،و تتبخر السحب و الجو إلى الفضاء،و يصبح الكوكب العاري بلا وسيلة دفاع في وجه العملاق الأحمر الذي يملأ كل سماء وقت النهار،و لا يوجد أي أمل بالنسبة لعطارد و الزهرة،
ص: 305
فهذان الكوكبان سيتم التهامهما داخل الشمس المتضخمة،و إذا ظلت الأرض تقبع في الخارج،فإنها ستصبح ملفوحة و قفراء،بلا حياة) (1).
(و هذا الأمر حاصل،عند ما تتضخم الشمس لتبتلع الكواكب الثلاثة الأولى،عطارد و الزهرة و الأرض و معها القمر،فهاهنا يجتمع الشمس و القمر،حين تصير الشمس عملاقا أحمر قبل تكويرها إلى قزم أبيض،و هذا ما سيحصل لمستقبل النظام الشمسي) (2).
و نجد نفس الحقيقة في«المعارف الكونية»:(فالشمس سوف تنتفخ عند شيخوختها لتصبح عملاقا أحمر،أكبر ملايين المرات من الحجم الذي هي عليه الآن،و بذلك سوف يتحول لونها من الأصفر إلى الأحمر،أي تقل درجة حرارتها السطحية 6000 إلى 3000 لاتساع مساحة سطحها المنتفخ لتبلع عندئذ الكوكبين القريبين عطارد و الزهرة و تلتهمهما التهاما،و يتحولان بذلك إلى دخان في باطن العملاق،و تستمر الشمس العملاقة الحمراء في الانتفاخ فتبتلع قمر الأرض،ثم يصل سطحها بلونه الوردي إلى السحاب فوق رءوسنا،فيخطف أبصارنا لشدة الالتماع و البرق،و عندئذ تشتعل البحار و المحيطات على سطح الكرة الأرضية،لتحلّل مائها في هذه الحرارة المرتفعة إلى أيدروجين يشتعل و أكسجين يساعد على الاشتعال) (3).
و في لقاء مع الدكتور زغلول النجار،سألته عن هذه القضية فأجابني نفس الحقائق العلمية التي أثبتناها هنا،إلا أنه زاد و أشار إلى لطيفة هامة حول جمع الشمس و القمر فقال:إن القمر خلال دورانه حول الأرض يبتعد عن مساره كل فترة زمنية شيئا من الثانية،و بمرور السنوات و الأحقاب سوف ينفلت من جاذبية الأرض ليقع في جاذبية الشمس و عندها يجمع مع الشمس،و هذا مصداق لقوله تعالى: وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ .
سبحان اللّه العظيم هذا الذي توصل إليه العلماء من حقائق كونية،و أثبتوا أن القمر سيجمع مع الشمس،إلا أن كتاب اللّه قد سبقهم إلى تقرير هذه الحقيقة العلمية العظيمة، مما يحتم على الناس أجمع أن يعلنوا الخضوع و الولاء لهذا الكتاب العظيم.
ص: 306
تمهيد.
المبحث الأول:أنواع الرياح بين القرآن و العلم.
المبحث الثاني:تكوين السحب و أنواعها بين القرآن و العلم.
المبحث الثالث:البرق و البرد بين القرآن و العلم.
ص: 307
ص: 308
الرياح هو هواء متحرك،و فيه الحياة فوق هذه البسيطة،و لم يستأثره أحد دون الآخر،و ما ملّكها اللّه سبحانه و تعالى و وكل بها أحدا من الناس،بل زمام أمورها و تصاريف حركاتها و شئونها بيد الخالق الرحيم جل جلاله.
قال تعالى: وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ وَ السَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (1).
و قال سبحانه: وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ما أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (2).
و للرياح وظائف كثيرة،سخرها الحق سبحانه و تعالى خدمة لمخلوقاته،فالرياح تنقل الطاقة من المناطق المدارية إلى المناطق القطبية الشحيحة بالطاقة،كما أن لها دورا فعالا في تكاثف بخار الماء و تكوين السحب و الغيوم...
كما أنها تنقل بعض عناصر الجو من أمكنتها إلى مناطق أخرى،و تنقل الأوبئة و التلوث الجوي من مكانها إلى مكان آخر،و تنقل الضباب المتنقل و الصقيع،و غير ذلك من الظواهر الطبيعية التي يعرفها دارسو المناخ و الغلاف الجوي.
و سيعرض موجز لأهم أنواع الرياح و أشكالها،و ذلك من منظور القرآن و العلم،ثم يوقف بعد ذلك على وجوه الرحمة و العظمة في هذا المخلوق العجيب،لأن الرياح إما أن تكون رياح خير و بشرى،أو ريح دمار و عذاب،كما سيركز على السحب و أنواعها و طرق تشكلها،و يشار إلى وصف القرآن لهذا التشكل،ثم يثبت ما وصل إليه العلماء
ص: 309
بأحدث الأجهزة التقنية إلى ذلك،كما سيعرج للحديث عن البرق و الرعد بين العلم و القرآن،و أهم ما توصل إليه علماء المناخ بشأن البرد و ارتباطه بالشحنات الكهربائية، و دلالة ذلك من كتاب اللّه تعالى،ليتضح أن كثيرا من حقائق العلم التي أصبحت اليوم قطعية ثابتة،قد أشار بل صرح بها كتاب اللّه تعالى إبان نزوله على قلب الحبيب صلى اللّه عليه و سلم، و الله سبحانه الموفق.
ص: 310
أنواع الرياح بين القرآن و العلم
بادئ ذي بدء يشار إلى أن الرياح وردت في كتاب اللّه تعالى بمعنى الخير و البشرى، و ذلك عند ما تجمع(رياح)و إذا أفردت(ريح)فإنها تدل على الخراب و الدمار و الهلاك،و قد عرفها صاحب«مفردات ألفاظ القرآن»فقال:(الريح معروف،فهو فيما قيل:الهواء المحرك،و عامة المواضيع التي ذكر اللّه تعالى فيها إرسال الريح بلفظ الواحد فعبارة عن العذاب،و كل موضع ذكر فيه بلفظ الجمع فهو عبارة عن الرحمة، أمثلة لذلك:
فمن الريح قوله تعالى في شأن عاد: إِنّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (1).
و في الحديث عن غزوة الأحزاب قال تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها (2).
و شبه الحق أعمال الكفرة بالرماد التي تشتد به الريح فقال: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ (3).
و كذلك قوله تعالى: كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ (4).
و أورد أمثلة بصيغة الجمع«الرياح»التي يدل على رحمته،من ذلك قوله تعالى:
وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ (5) .
و قوله سبحانه: وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَ لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ (6).
ص: 311
و قوله تعالى: وَ هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ (1).
و قوله تعالى: اَللّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً (2).
فالأظهر فيه الرحمة،و قرئ بلفظ الجمع) (3).
و يعلّل القرطبي و يعلق على هذه القضية بكلام نفيس رائع فيقول:(فمن وحّد مع الريح فلأنه اسم للجنس و يدل على القليل و الكثير،و من جمع فلاختلاف الجهات التي تهب منها الرياح،و من جمع مع الرحمة و وحد مع العذاب فإنه فعل ذلك اعتبارا بالأغلب في القرآن نحو:الرياح مبشرات،و الريح العقيم،فجاءت في القرآن مجموعة مع الرحمة،مفردة مع العذاب إلا في يونس وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ (4).
و روي أن الرسول صلى اللّه عليه و سلم كان يقول إذا هبت الريح:«اللهم اجعلها رياحا و لا تجعلها ريحا» (5)و ذلك لأن ريح العذاب شديدة ملتئمة الأجزاء كأنها جسم واحد،و ريح الرحمة لينة متقطعة فلذلك هي رياح،فأفردت مع الفلك في يونس،لأن ريح إجراء السفن إنما هي ريح واحدة متصلة ثم وصفت بالطيب بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ فزال الاشتراك بينها و بين ريح العذاب) (6).
و إنها دقة عالية في التعليل لدى القرطبي رحمه اللّه،فالريح هي التي تحمل الدمار و الخراب و الشر و لشدة قوتها و اتصال أجزائها لا يشعر بها الناس،حتى إذا ما وصلت إليهم و نسفت قواعدهم و دمرت منازلهم،تراهم قد أصيبوا بالهلع و الذعر و ربما الزوال،أما الرياح فهي النسيم العليل الحافل بالخير و البركة و الهدوء و المطر و الراحة النفسية و الطمأنينة القلبية،فتبارك اللّه الذي جعل للهواء جناحين جناح رحمة و الآخر عذاب.1.
ص: 312
بعد هذا الإيضاح و التعريفين الهامين،نأتي للحديث عن أنواع الرياح بين العلم و القرآن،و سنتعرض الآن للقسم الأول من الرياح التي بسط الحديث عنها ربنا في كتابه العزيز،و هي المختصة بالرحمة و الخير،الرياح.
أولا:اللواقح:
قال تعالى: وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَ ما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (1).
تعلق هذه الآية الكريمة إنزال الماء من السماء بتلقيح الرياح للسحب،و تزويد السحب بقطرات الماء،و هذه حقيقة مشاهدة أثبتها علماء المناخ و أفاضوا الحديث عنها،و لكن لنجول في تفاسير العلماء و المعاجم حتى نرى كيف فهموا هذه الآية.
يقول القرطبي:(معنى لواقح،حوامل لأنها تحمل الماء و التراب و السحاب و الخير و النفع...و جعل الريح لاقحا لأنها تحمل السحاب،أي تقله و تصرفه ثم تمر به فتستدرّه أي تنزله) (2).
و قال الزمخشري عن اللواقح:(فيه قولان:أحدهما أن الريح لاقح،إذا جاءت بخير من إنشاء سحاب ماطر كما قيل للتي لا تأتي بخير ريح عقيم،و الثاني:أن اللواقح بمعنى الملاقح) (3).
و قال الطبري:(اختلف أهل العربية في وجه وصف الرياح باللقح،و إنما هي ملقحة لا لاقحة و ذلك أنها تلقح السحاب و الشجر،و إنما توصف باللقح الملقوحة لا الملقح،كما يقال:ناقة لاقح،كان بعض نحويي البصرة يقول:قيل:الرياح لواقح، فجعلها على لاقح،كأن الرياح لقحت،لأن فيها خيرا فقد لقحت بخير،قال:و قال بعضهم:الرياح تلقح السحاب،فهذا يدلّ على ذلك المعنى لأنها إذا أنشأته و فيها خير وصل ذلك إليه،و كان بعض نحويي الكوفة يقول:في ذلك معنيان أحدهما أن يجعل الريح هي التي تلقح بمرورها على التراب و الماء فيكون فيها اللقاح،فيقال:ريح لاقح،كما يقال:ناقة لاقح...و الصواب من القول في ذلك عندي:أن الرياح لواقح2.
ص: 313
كما وصفها به جلّ ثناؤه من صفتها،و إن كانت قد تلقح السحاب و الأشجار،فهي لاقحة ملقحة،و لقحها:حملها الماء،و إلقاحها السحاب و الشجر عملها فيه،و ذلك كما قال عبد اللّه بن مسعود) (1).
و ذهب طائفة من المفسرين إلى أن المقصود باللواقح هو تلقيح الرياح للشجر، و منهم من قرن تلقيح الشجر و تلقيح الرياح للسحب،و على رأسهم ابن كثير إذ يقول:
(أي تلقح السحاب فتدر ماء و تلقح الشجر فتفتح عن أوراقها و أكمامها،و ذكرها بصيغة الجمع ليكون منها الإنتاج بخلاف الريح العقيم فإنه أفردها و وصفها بالعقيم و هو عدم الإنتاج) (2).
و معنى لواقح في اللغة:(اللقح اسم ما أخذ من الفحال ليدس في الآخر،و جاءنا زمن اللقاح أي التلقيح،و قد لقحت النخيل،و يقال للنخلة الواحدة:لقحت بالتخفيف و استلقحت النخلة،أي آن لها أن تلقح،و ألقحت الريح السحابة و الشجرة و نحو ذلك في كل شيء يحمل،و اللواقح من الرياح التي تحمل الندى ثم تمجه في السحاب فإذا اجتمع في السحاب صار مطرا،و قيل:إنما هي ملاقح،فأما قولهم:لواقح فعلى حذف الزائد،قال اللّه سبحانه: وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ ) (3).
يمكن لنا أن نستخلص من معطيات الآية القرآنية ما يلي:
أولا:أن اللّه سبحانه و تعالى أرسل الرياح و سخرها لمنافع العباد،و صورة المنفعة في هذه الآية أنها تعمل على التلقيح«لواقح».
ثانيا:و التلقيح يكون للأشجار و السحب معا،إلا أن الآية هنا تتحدث عن تلقيح الرياح للسحب فقط.
و لقد حمل هذه الآية عدد من المفسرين القدامى و المعاصرين،و صرفوا وجه الإعجاز فيها على أن المقصود باللواقح تلقيح الزرع و الشجر،و الذي يتمعن في قوله تعالى: وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ يجد أنها تستوعب كلا المعنيين،لكن ما ينبغي أن نغفل الجزء الثاني من الآية،و هو قوله تعالى: فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ فلو أن ما1.
ص: 314
ذهبوا إليه من أن الرياح تلقح الأشجار فقط،لاستلزم المعنى و اقتضى السياق القرآني أن ينبني عليه إخراج الزرع و الثمار بدل إنزال الماء،أما و أن القرآن قد رتب و أعقب إرسال الرياح اللواقح إنزال الماء من السماء ليسقيه الناس،فقد تحتّم أن يكون المقصود باللواقح تلقيح الرياح للسحب لإنزال المطر،و يتضح الربط هذا من الفاء، التي ربطت بين السبب و المسبب،و أقامت العلاقة المتينة بين العلة و المعلول ليكون المعنى فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً و هذا هو وجه الإعجاز القرآني في هذا الصدد و هذا ما أثبته علماء المناخ.
جاء في موسوعة«المعارف الكونية»:(لقد اكتشف العلماء حديثا أن الرياح علاوة على حملها لبخار الماء،فإنها تحمل معها أنوية التكثف على اختلاف أنواعها،من جسميات صغيرة تنتشر في الهواء بكميات و فيرة أشبه ما تكون بالذرات،أو حطام المواد الذي نراه يسبح في حزمة من أشعة الشمس،قوامه جسيمات من التربة و أتربة المصانع و دخان الأفران...و بطبيعة الحال يزداد تلوث الهواء بمثل هذه الجسيمات داخل المدن و يقل في الأرياف،و هذه الجسيمات تعمل على تماسك أو تجمع جزيئات الماء العالقة في الهواء مع بعضها البعض لتكون نقط الماء أو بلورات الثلج،و لهذا تدعى نوى التكاثف( Condensation nuclei )و بهذا فإن قوله تعالى: وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ يشير إلى فضل اللّه تعالى على عباده بجعل الرياح تقوم بهذه الوظيفة) (1).
و هذه الحقيقة وردت في كتب علماء المناخ،و من هذه الكتب كتاب«الغلاف و الطقس و المناخ»و مما جاء فيه:(تكوين أو تشكيل السحب يعتمد على حالة عدم استقرار الغلاف الجوي،و الحركة الراسية كما إنه متحكم بواسطة العمليات على المقياس الصغير و هذه سوف يتم شرحها...
نواة التكاثف( Condensation nuclei ):إنه من الأهمية بمكان ملاحظة أن التكاثف يحدث بصعوبة قصوى في الهواء الصافي،و الخالي نسبيا من الغبار الذري المتساقط، هذا فضلا عن أن الرطوبة يجب أن تجد السطح المناسب الذي يمكن أن تتكاثف عليه، و إذا تدنت درجة حرارة الهواء الصافي إلى أقل من نقطة الندى( point Condensation )
ص: 315
تصبح مشبعة بإفراط،و هذه النوايات يمكن أن تكون ذرات غبار أو دخان أو ملح أو أكسيد الكبريتات،فتدخل هذه الذرات الغلاف الجوي عن طريق اندفاع فقّاعات الهواء ذرات الملح،و ذرات التربة الناعمة،و ناتج الاحتراق الكيميائي،فترتفع بواسطة الرياح و تعتبر كلا منها مصدرا هاما للنويات متساويا في المعدل،و في المراحل المبكرة تنمو القطيرات الصغيرة بسرعة كبيرة بالمقارنة بالقطيرات الكبيرة،كما أن بزيادة حجم القطيرات يزداد معدل نموها بواسطة تناقص التكاثف،و يستمر هذا التدرج في عمليات التكاثف لتشكيل قطرات المطر،و ينمو التساقط في معظم السحب) (1).
ثانيا:المبشرات:
قال تعالى: وَ هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (2).
تصف هذه الآية الكريمة الرياح بأنها بشرى و رحمة،لأنها تحمل السحاب المثقل بالماء،و الذي يساق بتدبير الحكيم العليم إلى الأرض الميتة لتحيا بعد ذلك،و تزهو بالخضار و تثقل الأشجار بالثمار و ينعم الإنسان بفضل اللّه و رحمته.
قال القرطبي:( حَتّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً السحاب يذكّر و يؤنّث...و المعنى حملت الريح سحابا ثقالا بالماء،أي أثقلت بحمله... فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ أي بالبلد،و قيل:
أنزلنا بالسحاب آلة لإنزال الماء) (3).
و رياح المبشرات هذه،تحمل البشرى بالخير و البركة للخلائق ساكني الأرض،و لها وظائف أخرى سخّرها اللّه سبحانه و تعالى لمصلحة عباده،و من تلك الوظائف ما ذكره4.
ص: 316
الحق سبحانه و تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَ لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (1).
و لسيد قطب رحمه اللّه،تعليق جميل على هذه الآية الكريمة نثبته هنا يقول:(تبشر بالمطر،و هم يعرفون الريح الممطرة بالخبرة و التجربة،فيستبشرون بها وَ لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ بآثار هذه البشرى من الخصب و النماء وَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ سواء بدفع الرياح لها،أو بتكوين الأنهار من الأمطار فتجري السفن فيها،و هي تجري مع هذا بأمر اللّه و وفق سنته التي فطر عليها الكون،و حسب تقديره سبحانه،فقد أودع كل شيء خاصيته و وظيفته و جعل من شأن هذا أن تحف الفلك على سطح الماء فتسير،و أن تدفعها الرياح فتجري مع التيار أو ضد التيار و كل شيء عنده بمقدار) (2).
و هذا ما كشفه علماء الطبيعة في الآونة الأخيرة(من خاصية دفع الماء للأجسام إلى أعلى مما يجعلها تطفو جميعا،أو قد يطفو جزء منها و يغمر باقيها حسب قانون الطفو الفيزيائي (3)المعروف،و الذي تنسب أبحاثه الأولى إلى عالم الطبيعة المشهور المدعو «أرخميدس» (4)و قد سميت تلك الظاهرة الكونية ظاهرة دفع الماء الأجسام إلى الأعلى،الواصفة لبعض خصائص الماء باسمه فقيل غفلة و تجاهلا:دافعة «أرخميدس»،و أجريت لها حسابات و تطبيقات عملية،و إنما هي في الواقع سنة من سنن اللّه الباري سبحانه،سخر بها البحار و الأنهار و ما فيها من الماء،للناس لتجري الفلك و المراكب البحرية بأمره جل ثناؤه...و إنما كان«لأرخميدس»الفضل حقا في أنه أول من كشف عن هذا القانون العام،و أماط اللثام عن هذه الحقيقة الكونية القائمة منذ القديم) (5).7.
ص: 317
من هذا العرض السريع و من هذه الزاوية،اتضح معنى الاستبشار بالرياح،و كيف أنها حفلت بالبشرى للناس و بالأمطار و الخواص الأخرى التي ذكرناها.
ثالثا:الذاريات:
قال تعالى: وَ الذّارِياتِ ذَرْواً(1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً(2) فَالْجارِياتِ يُسْراً(3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً(4) (1).
لقد أقسم اللّه سبحانه و تعالى بوصف عمل الرياح الذارية،و له جل جلاله أن يقسم بما شاء من خلقه و ليس لنا أن نقسم إلا بالله أو صفاته.
يقول الزمخشري:( وَ الذّارِياتِ هي الرياح لأنها تذر التراب و غيره،كما قال اللّه سبحانه و تعالى: تَذْرُوهُ الرِّياحُ (2).
و يقول صاحب«الظلال»:( وَ الذّارِياتِ من عملها حمل حبوب اللقاح النباتية من أعضاء التذكير في الأزهار الأسدية أو المآبر،إلى أعضاء التأنيث في مواقعها المتنوعة،و هي المدقة أو المتاع الحاوي على البيوض،و بالتالي تقوم الرياح بعمل التأبير لإخصاب أزهار النباتات،و إنجاز تكون البذور) (3).
و في«لسان العرب»:(ذرت الريح التراب و غيره تذروه و تذريه ذروا و ذريا و أذرته أطارته و سفته و أذهبته) (4).
يتّضح مما أسلفنا من أقوال العلماء أن عمل الرياح«الذاريات»متنوع،فللذاريات وظيفة في حمل التراب و الرمال و غيرهما من مكان لآخر،و حمل غبار الطلع من أعضاء التذكير الزهرية لتلقيح البويضة و ذلك في عملية التأبير المعروفة علميا،و ذلك إعجاز علمي حوته كلمة الذاريات لأنها تدل على هذه الوظائف التي سخرها اللّه لخدمة الناس.
و في الصحارى يظهر أثر الرياح الذارية في(تشكيل سطح الأرض كعامل إرساب بالصحارى الحارة الجافة،و ذلك لتكوين الكثبان الرملية التي هي عبارة عن تلال رملية4.
ص: 318
حبيباتها مستديرة يتراوح الارتفاع فيها بين بضعة أقدام إلى عشرات الأمتار...و من فوائدها أنها تنقل هذه البذور من أماكن إنتاجها إلى مناطق أخرى بعيدة عن الوطن الأم، مما يوسع انتشارها و ينوّع الغطاء النباتي في المنطقة الزراعية،فإن الرياح التي تذر ذلك الهشيم تنتقل إلى مسافات بعيدة،و هي تحمل معها تلك الثمار أو البذور،فإذا هدأت سرعتها و عجزت عن الاستمرار في الإمساك بحمولتها النباتية،وقعت تلك البذور في تربة جديدة،فإذا ما استقرت فيها و استوفت حاجتها من الماء و المساحة و الضوء و غير ذلك من العوامل اللازمة للإنتاج،فإنها تنمو دون تنافس و تنوع الغطاء النباتي في الأرض الجديدة،و لهذا أهميته المعتبرة عند الأخصائي الزراعي) (1).
كما أنها تحمل(بعض النباتات أو أجزاء منها من مكان إلى آخر،حاملة البذور تنثرها أينما ذهبت و مثل هذه النباتات يقال لها:( tumble weeds )و من هذه النباتات،كف مريم و هو نبات صحراوي يحمل أفرعا تحمل الثمار،و في الجو الجاف تنحني الأفرع نحو الداخل و يتكور النبات كالكرة،التي تحملها الرياح إلى مسافات بعيدة،و إذا ما وصلت الكرة إلى منطقة رطبة تستقيم الأفرع و في نفس الوقت تتفتح الثمار و تنتشر البذور) (2).
و إلى هذا المعنى أشار الحق سبحانه و تعالى في سورة الكهف: وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ (3).
لقد قرر القرآن الكريم أن الرياح من أبرز مهماتها أنها تلقح السحب،و تثير الغيوم لتنزل الأمطار و تنهمر المياه،و لم يكن أحد من الناس يعرف هذه الحقيقة قبل عصرنا هذا،عصر الكشوفات العلمية و ما ذكره المفسرون من تلقيح الرياح للسحب،ليس بسبب تقنية علمية اعتمدوا عليها،إنما هو استمداد من كلام اللّه المعجز،الذي آمنوا بما جاء فيه،و الذي تتجدد حقائقه على مرّ الأيام و كرّ العصور،و الذي يسجل الحقائق العلمية،ثم يكتشفها الناس لتكون لهم آية و معجزة.
ص: 319
تكوين السحب و أنواعها بين القرآن و العلم
قال تعالى: وَ هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ (1).
و قال سبحانه: اَللّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَ يَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (2).
تعرض هاتان الآيتان الكريمتان التسلسل الواضح في عملية تكوين السحاب و إثارته،ثم تصاعده عن طريق الهواء المتحرك اَلرِّياحِ إلى السماء،ثم نشره في جو المعمورة،حسب تقدير العليم الخبير جل جلاله و من ثم توزيعه على خلقه ليستبشروا بنعمته تعالى و رحمته،كما أنها تشير إلى نوع من أنواع السحب،ألا و هو السحب البساطية، و بنظرة في تفاسير العلماء يزداد الأمر وضوحا و جلاء.
يقول الإمام الرازي:(بين دلائل الرياح على التفصيل الأول في إرسالها قدرة و حكمة،أما القدرة فظاهرة،فإن الهواء اللطيف الذي يشقه الودق يصير بحيث يقلع الشجر،و هو ليس بذاته كذلك فهو بفعل فاعل مختار،و أما الحكمة ففي نفس الهبوب فيما يفضي إليه من إثارة السحب،ثم ذكر أنواع السحب فمنه ما يكون متصلا و منه ما يكون منقطعا،ثم المطر يخرج منه و الماء في الهواء أعجب علامة للقدرة،و ما يفضي إليه من إنبات الزرع و إدرار الضرع حكمة بالغة،ثم إنه لا يعم بل يختص به قوم دون قوم و هو علامة المشيئة) (3).
و في تفسير«بحر العلوم»:(قال اللّه عز و جل: اَللّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً يعني
ص: 320
تدفعه و تهيجه،يقال:ثار الغبار إذا ارتفع: فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ يعني كيف يشاء اللّه عز و جلّ إن شاء بسطه مسيرة يوم أو أكثر وَ يَجْعَلُهُ كِسَفاً يعني قطعا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ يعني المطر يخرج من خلاله،من وسط السحاب فَإِذا أَصابَ بِهِ يعني بالمطر مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ يعني يفرحون بنزول المطر) (1).
و يعلق على الآية ابن كثير فيقول:(يبين تعالى كيف يخلق السحاب الذي ينزل منه الماء،فقال تعالى: اَللّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً إما من البحر كما ذكره غير واحد،أو مما يشاء اللّه عز و جلّ: فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ أي يمدّه فيكثره و ينميه، و يجعل من القليل كثير،ينشئ سحابة ترى في رأي العين مثل الترس،ثم يبسطها حتى تملأ أرجاء الأفق،و تارة يأتي السحاب من نحو البحر ثقالا مملوءة) (2).
و نحتاج للوقوف على وجه الإعجاز أن نحلل بعض المفردات الواردة هنا:تثير، سحب،ودق،أما معنى تثير،ففي«لسان العرب»:(ثار الدخان و الغبار و غيرهما يثور ثورا و ثؤورا و ثورانا،ظهر و سطع،و ثار القطا من مجثمه،و ثار الجراد ثورا و انثار، ظهر) (3).
و أما معنى السحب،ففي كتاب«العين»:(السحب،جرك الشيء،كسحب المرأة ذيلها و كسحب الريح التراب،و سمي السحاب لانسحابه في الهواء) (4).
و في«لسان العرب»:(جرك الشيء على وجه الأرض،كالثوب و غيره،سحبه يسحبه سحبا فانسحب،جرّه فانجر،و المرأة تسحب ذيلها،و الريح تسحب التراب، و السحابة:الغيم،السحابة التي يكون عنها المطر سميت بذلك لانسحابها في الهواء) (5).
و أما الودق،فمعناها:(الودق:المطر،ودق،كوعد،قطر و إليه ودوقا و ودقا،دنا منه و أمكنه و به استأنس،و بطنه اتسع أو استطلق،و السماء أمطرت،كأودقت) (6).0.
ص: 321
و يتسنّى لنا الآن أن نستخلص من معطيات ما سبق،أن الإثارة معناها الإظهار، و ليس كما ظن المفسرون جزاهم اللّه خيرا و رحمهم الله،أن الإثارة هي تقليب الرياح و تحريكها،لا بل إن المقصود بالإثارة هنا الإظهار كما رأينا في المعاجم،ذلك لأن الرياح تحمل بخار الماء و نوى التكاثف لتكوين السحاب،ثم بعد ذلك تتم إثارته أي إظهاره ليكون مرئيا للعيان،ثم تحريكه و توزيعه بحكمة العليم الحكيم جل جلاله،و هذه حقيقة كشف عنها العلماء.
ففي موسوعة«المعارف الكونية»:(الإثارة هي تحريك السحاب،و العلم أوضح لنا أن الرياح تحمل بخار الماء و نوى التكاثف لكي يتكوّن السحاب و تتم إثارته و يظهر للأعين،و بعد ذلك يتم تحويله و تحريكه بتوجيه إلهي،و بهذا يجب علينا أن نستبعد حركة السحاب ضمن معاني الإثارة،فالآية هنا رتبت السوق على الإثارة و ليس العكس،و لهذا فإن الإثارة هي بالتأكيد إظهار و تكوين السحب أولا،و ذلك بالتكثيف، فكلنا يعرف الآن أن السحاب بخار كان كامنا في الهواء غير المشبع أو في الهواء فوق المشبع الخالي من نوى التكاثف،ثم ظهر بالتكثيف بفعل الرياح سواء كان ذلك بحملها البخار إلى المناطق الباردة العلوية،أو بحملها نوى التكاثف،و بذلك يتضح لنا المعنى العلمي للآية الكريمة المراد من إثارة الرياح للسحاب،أي أثر الرياح في تكوين السحاب و إظهاره و ليس نقله كما اعتقد المفسرون) (1).
و في كتاب«الطقس»:(يتكوّن بخار الماء في الجو عن طريق تبخّر مياه المحيطات و البحيرات و الأنهار،و تقوم النباتات بعد امتصاص جذورها لسوائل التربة،بإطلاق كميات كبيرة من بخار الماء من خلال أوراقها،و تدعى العملية«بالنقع»و يجري تبخر المياه بشكل رئيسي من الأجزاء الأكثر دفئا من المحيطات،و من الغابات الاستوائية، ثم تنتقل بعد ذلك باتجاه علوي حيث تحملها الرياح حتى تنفذ إلى كافة أجواء الغلاف السفلي...و عند ما يتكثف الماء في الجو فإنه يبدو أولا بشكل سحب،إذا كان في طبقة هوائية عالية،و بشكل ضباب إذا كان قريبا من الأرض،و تتألف السحب من
ص: 322
قطرات مائية بالغة في الصغر،بحيث يمكنها العوم في الهواء و الانجراف بواسطة تياراته،و لن يكون في وسع بخار الماء التكثف و التحول إلى قطيرات مرئية،إذا كان يحتويه هواء غاية في الصفاء و النقاء،إلا أن الهواء لا يخلو في الواقع من جزيئات الغبار و الدخان و الملح الناجم عن رذاذ مياه البحر،بحيث يقدر محتوى الأنش المكعب منه بالآلاف من هذه الجزيئات،التي تقوم بدورها بإحاطة نفسها بقطيرات من الماء تدعى هذه القطيرات«بنوى التكاثف») (1).
و لقد ذكر علماء المناخ العديد من أنواع السحب،و بسطوا الحديث عن طبائعها و أشكالها و لسوف نقتصر هنا على نوعين،البساطي( etirement )و الركامي ( cumulonimbus )،و لكن بعد أن نعرض لأهم أنواعها كما ذكر ذلك العلماء.
(يمكن تصنيف السحب من حيث النشأة إلى أربع فئات و هي:
1-الارتفاع التدريجي للهواء فوق مساحات واسعة مع الارتباط بنظام الضغط المنخفض.
2-الحمل الحراري،بحيث تنتقل الحرارة من طبقة إلى الطبقة المجاورة على المقياس الركامي المحلي.
3-الارتفاع بواسطة الاضطرابات الجوية الميكانيكية(قوة الحمل الحراري).
4-الصعود فوق الحواجز الجبلية) (2).
و لقد صنف(مجموعة من العلماء المختصين السحب إلى نوعين:
أولا:السحب البساطية( etirement ).
ثانيا:السحب الركامية( cumulonimbus ) (3).
ص: 323
و ليشرع بالنوع الأول:
قال تعالى: اَللّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَ يَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (1).
وقفنا قبل قليل مع هذه الآية الكريمة من جهة تكوين السحب،و عرفنا أن معنى أثار أي أظهر و ليس حرّك،و هذا المعنى يوافق تماما حال إثارة الرياح للسحب و إظهارها، كما أن الآية تشير إلى نوع من أنواع السحب و هو السحب البساطي،كذلك أشرنا إليه، و عرفنا رأي المفسرين حول هذه الآية،و تأكيدا على هذا النوع من السحب،نورد بعض دراسات العلماء و الباحثين حوله.
السحب البساطية أو الطبقية:(و هي كما يفهم من اسمها تظهر بشكل طبقات تحجب السماء بأكملها،و لا توجد لها حدود واضحة،و يمكن تشبيهها بالضباب المرتفع، و هي من السحب المنخفضة،و قد تصل قاعدتها في بعض الأحيان إلى سطح الأرض فتظهر بشكل ضباب،و قد يحدث أن تتكون من الضباب نفسه عند ما يرتفع بتأثير حرارة الشمس أو الرياح أو كليهما،و هي من السحب التي قد يصاحبها هطول خفيف من الرذاذ أو حبيبات الثلج،و يكون الهطول عادة متصلا أو متقطعا...و منها ما يكون رقيقا شفافا لا يحجب الشمس،و منها ما يكون سميكا معتما،و النوع السميك منها يصاحبه في المعتاد هطول من المطر أو الثلج أو خليط منهما) (2).
و في كتاب«السحب»ذكر أن السحب تنقسم إلى أربعة عشر نوعا،حسب الشكل الذي تبدو به في السماء،و جعل السحب البساطية في المرتبة السادسة:(السحب المنبسطة:و هي سحب منتشرة أفقيا بشكل طبقة أو صحيفة،نجدها ممثلة في سحب الركام المتوسط،و الركام الطبقي) (3).
قال تعالى: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ
ص: 324
خِلالِهِ وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (1) .
تمثّل هذه الآية الكريمة إعجازا علميا رائعا في علم المناخ و الرياح،و تكوين السحب الركامية،فهي تتحدّث عن مراحل تكون السحب الركامية،و التي تبدأ بدفع الرياح للسحاب رويدا رويدا،ثم تأتي المرحلة الثانية و التي تتمثل بتأليف و جمع قطع السحاب،ثم تصبح هذه القطع مركومة فوق بعضها البعض،و عملية الركم هذه تنتج نزول المطر،و بسبب التراكم التصاعدي تنشأ جبال سيارة في السماء من البرد،و نويات البرد هذه محصورة في السحب الركامية،و لم نقرأ في السحب البساطية أنها تحتوي البرد أو البرق و الرعد،ثم إن الآية تخبر أن هذا البرد له برق،و البرق هو نتيجة حتمية للبرد و غير هذه الحقائق و الأسرار تحتويها هذه الآية،و سوف نرى أن العلم وصل بشكل دقيق إلى ما أوضحتها الآية القرآنية،بعد ما تطور علم الأرصاد الجوية، و استعمل العلماء أجهزة الاستشعار عن بعد و الرادارات و الأقمار الصناعية و غيرها، و لكن نقف عند تفسير الآية مع علماء التفسير،و شرح مفرداتها مع اللغويين.
يقول ابن كثير:(يذكر تعالى أنه بقدرته يسوق السحاب أول ما ينشئها و هي ضعيفة، و هو الإزجاء ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ أي يجمعه بعد تفرقه ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً أي متراكما،أي يركب بعضه بعضا فَتَرَى الْوَدْقَ أي المطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ أي من خلله... وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ معناه أن في السماء جبال برد ينزل اللّه منها البرد...
فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ يحتمل أن يكون المراد بقوله: فَيُصِيبُ بِهِ أي بما ينزل من السماء من نوعي المطر و البرد،فيكون قوله: فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ رحمة لهم وَ يَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ أي يؤخر عنهم الغيث،و يحتمل أن يكون المراد بقوله سبحانه: فَيُصِيبُ بِهِ أي بالبرد نقمة على من يشاء،لما فيه من نثر ثمارهم و إتلاف زروعهم و أشجارهم و يصرفه عمن يشاء أي رحمة بهم،و قوله: يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ أي يكاد ضوء برقه من شدته يخطف الأبصار إذا اتبعته و تراءته) (2).
و في تفسير«روح المعاني»:( أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ يُزْجِي سَحاباً الإزجاء سوق الشيء برفق7.
ص: 325
و سهولة و قيل:سوق الثقيل برفق و غلب على ما ذكر بعض الأجلة في سوق شيء يسير أو غير معتد به،و منه البضاعة المزجاة أي المسوقة شيئا بعد شيء على قلة و ضعف، و قيل:أي التي تزجى أي تدفع للرغبة عنها، ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ بأن يوصل سحابة بسحابة،و قال غير واحد:السحاب واحد كالعماء و المراد يؤلف بين أجزائه و قطعه، و هذا لأن بَينَه لا تضاف لغير متعدد،و بهذا التأويل يحصل التعدد... ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً أي متراكما بعضه فوق بعض فَتَرَى الْوَدْقَ أي المطر شديدا كان أو ضعيفا إثر تراكمه و تكاثفه، يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ أي من فتوقه و مخارجه التي حدثت بالتراكم و الانعصار،و هو جمع خلل كجبال و جبل... وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ أي من السحاب،فإن كل ما علاك سماء،و كأن العدول عنه إلى السماء للإيماء إلى أن للسمو مدخلا فيما ينزل،بناء على المشهور في سبب تكون البرد،و جوز أن يراد بها جهة العلو و للإيماء المذكور ذكرت مع التنزيل مِنْ جِبالٍ أي من قطع عظام تشبه الجبال في العظم على التشبيه البليغ...لأن اللّه تعالى خلق في السماء جبالا من برد كما خلق في الأرض جبالا من حجر،و ليس في العقل ما ينفيه من قاطع فيجوز إبقاء الآية على ظاهرها كما قيل... فَيُصِيبُ بِهِ أي بما ينزل من البرد مَنْ يَشاءُ أي يصيبه فيناله ما يناله من ضرر في ماله و نفسه وَ يَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ أن يصرفه عنه فينجو من غائلته،و رجوع الضميرين إلى البرد هو الظاهر... يَكادُ سَنا بَرْقِهِ أي ضوء برق السحاب الموصوف بما مر من الإزجاء و التأليف و غيرهما،و إضافة البرق إليه قبل الإخبار بوجوده فيه، للإيذان بظهور أمره و استغنائه على التصريح به و رجوع الضمير إلى البرد أي برق البرد الذي يكون معه ليس بشيء،و تقدم الكلام في حقيقة البرق فتذكر، سَنا ممدودا سَنا بَرْقِهِ بضم الباء و فتح الراء جمع برقة بضم الباء و هي المقدار من البرق كالغرفة و اللقمة...و هو هنا كناية عن قوة الضوء، يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ أي يخطفها من فرط الإضاءة و سرعة ورودها،و في إطلاق الأبصار مزيد تهويل لأمره و بيان لشدة تأثيره فيها،كأنه يكاد يذهب بها و لو عند الإغماض،و هذا من أقوى الدلائل على كمال القدرة،لأنه توليد للضد من الضد) (1).
و هناك بعض المفردات الواردة في الآية الكريمة،ستأخذ معانيها من المعاجم، مثل:يزجي،و يؤلف و سنا،و ركام،أما معنى يزجي،ففي«لسان العرب»:(التزجية،0.
ص: 326
دفع الشيء كما تزجي البقرة ولدها أي تسوقه،و يقال:أزجيت الشيء إزجاء،أي دافعت بقليله،و يقال:أزجيت أيامي زجيتها أي دافعتها بقوت قليل...و الريح تزجي السحاب أي تسوقه سوقا رفيقا) (1).
و أما معنى يؤلف،ففي«مفردات ألفاظ القرآن»:(الإلف،اجتماع مع التئام، و المؤلّف،ما جمع من أجزاء مختلفة) (2).
و معنى الركام:(ركم الركم،جمعك شيئا فوق شيء حتى تجعله ركاما مركوما، كركام الرمل و السحاب و نحو ذلك،من الشيء المرتكم بعضه على بعض،ركم الشيء يركمه إذا جمعه و ألقى بعضه على بعض،و هو مركوم بعضه على بعض...و في التنزيل العزيز ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً يعني السحاب) (3).
و أما معنى سنا:(سنا،سنت النار تسنو سناء،علا ضوؤها،السنا مقصور ضوء النار و البرق و قد أسنى البرق،إذا دخل سناه عليك بيتك،أو وقع على الأرض،أو طار في السحاب) (4).
هذا معنى الآية كما ورد في كتب المفسرين،و معاجم اللغويين،و هذا هو الوصف العلمي للسحب و خصائصها و نتائجها،و لقد أوضح القرآن الكريم هذه الحقائق في آية سورة النور هذه،و لدى عرضنا للآية و تمعننا فيها بشكل دقيق،سنلحظ هذه القراءة العلمية في الآية الكريمة،و هي تتحدث عن تكوين السحب،و عملية تراكمه،ثم كيف يخرج المطر منه و ينزل البرد على من يرسله من عباده و يصرفه عمن يشاء من عباده سبحانه و تعالى،و إنه حقا لوصف قرآني عجيب و دقيق للسحب الركامية التي أشير إليها آنفا،و بنظرة دقيقة في الآية الكريمة تتّحد معطياتها كما يلي:
أولا:تقرر الآية الكريمة أن أوّل مرحلة من مراحل تكوين السحاب الركامي،إنما تكون بدفع الهواء للسحاب بشكل هادئ، أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ يُزْجِي سَحاباً أي يسوق السحاب إلى حيث يشاء فالإزجاء هو السوق كما قرر ذلك علماء اللغة و التفسير.7.
ص: 327
ثانيا:بعد سوقه و تجميع أجزائه ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ أي يجمعه،فالتأليف هو الجمع، و تلك هي المرحلة الثانية من تكوين السحابة الركامية،فالحق عز و جل يجمع بين السحب المتوزعة لتكون سحابة واحدة،و ثُمَّ للترتيب مع التراخي،أي تحتاج عملية تأليف السحب و جمعها إلى شيء من الوقت،و الإشارة العجيبة هنا في التأليف،و هل يكون التأليف إلا بين المتنافرين،فكذلك يكون التأليف في السحابة بين الشحنات الكهربائية السالبة و الموجبة.
ثالثا:ثم تأني عملية ركم السحاب بعضه على بعض، ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً أي متجمعا، يركب بعضه فوق بعض،و تلك هي المرحلة الثالثة في تكوين السحاب الركامي بالنمو الرأسي كما أثبت العلم.
رابعا:كما أن الآية تشير إلى نزول المطر عند تكامل الركم، فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ الودق،المطر مِنْ خِلالِهِ بمعنى من فتوقه و مخارجه،و هذا الذي أشارت إليه أبحاث الأرصاد من مراحل نزول المطر في السحاب الركامي بعد تمام مرحلة الركم، أي بعد أن يضعف الرفع في السحاب،أو ينعدم فينزل المطر على الفور،فيخرج المطر من مناطق الخلل في جسم السحابة.
خامسا:ثم إن الآية تتحدّث عن نشوء جبال من البرد في السماء،جراء هذا الركام الهائل من السحاب، وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ ،و قد يصل حجم حبات البرد إلى حجم البرتقالة و بذلك يكون المعنى،و ينزل من السماء بردا أي من جبال لا بد و أن يكون فيها شيء من برد،و الجبال هي السحب الركامية التي في شكل الجبال.
سادسا: يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ ففي الآية إشارة علمية واضحة إلى أن البرد يولد البرق،و هذا ما أثبته العلم،حيث يقوم البرد بتوزيع الشحنات الكهربائية في جسم السحابة أثناء صعوده و هبوطه،ثم يقوم بالتوصيل بين الشحنات الكهربائية المختلفة، فيحدث تفريغا كهربيا هائلا و لهذا نسب اللّه البرق إلى البرد.
تحدّث علماء المناخ عن السحاب الركامي بشكل مستفيض،خاصة و أن الأجهزة الحديثة سهلت عليهم الكثير من العقبات،كما أنها وفّرت لهم كمّا هائلا من المعلومات التي كانت في عالم المجهول بالنسبة لهم،و لسوف نستعرض بعضا مما قدمه العلماء
ص: 328
من خلال تجاربهم و أبحاثهم في الحديث عن السحاب الركامي،لنرى أن ما وصلوا إليه هو ذاته الذي حدثتنا عنه آية النور المعجزة.
(جرت العادة على تقسيم أنواع الغيوم إلى أربعة أنواع رئيسية،كل منها يقسم إلى عدة أقسام فرعية،و تشمل الأصناف التالية:
1-الغيوم العالية:و تتكون من بلورات جليدية،و يتراوح ارتفاع قاعدتها ما بين أكثر من 6 كم في المناطق المدارية،إلى أكثر من 3 كم في العروض العليا.
2-الغيوم المتوسطة:و يتراوح ارتفاع قاعدتها ما بين 3,5 كم في العروض المدارية إلى حوالي 2 كم في العروض العليا.
3-الغيوم المنخفضة:و يتراوح ارتفاع قاعدتها من سطح الأرض إلى حوالي 2 كم في العروض المختلفة.
4-الغيوم التراكمية:و تشمل غيوم ذات امتداد عمودي،مثل الغيوم التراكمية الصغيرة الحجم التي تظهر أثناء الطقس المعتدل،أو الغيوم السمحاقية التي يتجاوز امتدادها العمودي في المناطق المدارية 13 كم،و يصاحب هذه الغيوم العواصف الرعدية و الأمطار الغزيرة) (1).
و نجد في موسوعة المعارف الكونية الحديث عن السحب الركامية،و مما جاء فيها:
(و منها السحب الركامية العادية في الطقس الصباحي،و السحب الركامية الضخمة الماطرة،و يتشكل هذان النوعان في الطبقة السفلى في الجو على ارتفاع حوالي 1 كم، و قمّتها في الطبقة العليا بحدود 5-8 كم...و أما مقدارها الأفقي فيتراوح من 1-10 كم للنوع الأول،و بضع عشرات الكيلومترات للنوع الثاني و يلعب الانتقال الرأسي إلى أعلى للكتل الهوائية بسرعة 10 متر/ثانية،دورا ضخما في تكوينها و خلافا للسحب البساطية،فإن فترة انتقالها محدودة و تقاس بالساعات أو بعشرات الدقائق،و السحب الركامية الضخمة الماطرة التي تتميز أبعادها الكبيرة و ارتفاعها الزائد
ص: 329
كالجبال...تسبب هطولات قوية و بردا لمدة قصيرة تقدّر بعشرات الدقائق لكنها غزيرة...و السحاب الركامي الضخم الممطر يشبه الجبال،و قد يجود بالبرد في العواصف الصيفية...و هطولات البرد محلية لدرجة أنها قد تصيب حقلا و تترك حقلا مجاورا،و تسبب أضرارا جسيمة للمزروعات و المباني و الكائنات الحية،حيث يصل قطرها أحيانا إلى قطر البرتقالة أو الرمان) (1).
كما أن العلماء تحدّثوا عن تشكل البرد،و أوضحوا أن البرد إنما يتم تكوينه داخل السحب الركامية،و هذا ما صرحت به الآية الكريمة،ففي كتاب«أسرار الأرصاد الجوية»نجد هذا المعنى بكل جلاء:(يتكون المطر داخل الغيوم،و تتحول قطرات الماء إلى جليد إذا انخفضت درجة حرارة الغيمة إلى أقل من الصفر،و يمكن أن يؤدي ذلك إلى تساقط البرد،و ينشأ البرد عادة في الغيوم الكبيرة التي تشبه زهرة القنبيط(غيوم الركام)حيث تحدث داخل الغيمة تيارات عمودية قوية،فتتجمد قطرات الماء و تبدأ بالسقوط،لكن التيار الصاعد يرفعها ثم تهبط قليلا و تصعد،مما يؤدي إلى تضخمها و تحولها إلى جليد،و هكذا فإن لقطعة البرد نواة صغيرة مؤلفة من عدة طبقات،و عند ما يغلب وزنها قوة التيارات الصاعدة،يتساقط البرد على الأرض،و كل كتلة من الجليد نسميها حبة برد،يتفاوت حجمها،منها الكبير و الصغير،و بلغ وزن بعض حبات البرد 300 غرام،و هي قادرة على تحطيم النوافذ و إتلاف المحاصيل) (2).
و أكد العلماء أن السحب الركامي فقط يحتوي على البرق و الرعد،و هذا ما قررته الآية الكريمة المعجزة،جاء في كتاب«العواصف و الأعاصير»:(العاصفة الرعدية هي ظاهرة جوية كهربائية،و هي من التفريغات الكهربائية الفجائية التي تظاهرها ومضة ضوئية(البرق)و صوت حاد(الرعد)و تتمثل غيوم العواصف الرعدية،بغيوم الركام المزني فقط،لما تتّصف به من نمو رأسي كبير،و فعالية كهربائية شديدة،فهي إن دلت فإنها تدل على حالة اضطراب عنيفة في الجو،و عدم استقرار شديد في أعماق كبيرة من0.
ص: 330
الجو،و توفّر رطوبة عالية،و لذا لا بد لتشكّل غيوم العواصف الرعدية من وجود قوة رفع شديدة للهواء الرطب) (1).
من الذي أخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بهذه المراحل المتعددة في تكوين السحب،و في هذا الوصف الدقيق من تراكم السحب،و نزول المطر من خلالها،و كيف تتخذ شكلا جبليا الذي ينزل منه البرد،ثم تفرز برقا يكاد أن يذهب بالأبصار...إن وسائل علم الأرصاد الجوي لم تكن موجودة في البيئة الرملية القاحلة التي بعث فيها محمد صلى اللّه عليه و سلم،إنه وحي السماء،أنزله الذي يعلم السر و أخفى.
صورة تظهر السحاب الركامي (2)
ص: 331
صورة يتضح فيها السحاب البساطي و الذي يحمل الأمطار (1). .
ص: 332
البرق و البرد بين القرآن و العلم
قال سبحانه و تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ(12) وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَ الْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَ يُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَ هُمْ يُجادِلُونَ فِي اللّهِ وَ هُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ(13) (1).
تبرز الآية الكريمة مظهرا من مظاهر قدرة اللّه سبحانه و تعالى،و هذا مظهر يتمثّل في آية من آيات الله،إنه البرق.
(و البرق:الذي هو لمعان السحاب) (2)،و هو ذو جناحين،جناح فاض بالبشرى و الحبور،لأنه يبشّر بهطول المطر و درّ الغيث من السماء لتنتشر الرحمة على العباد، و جناح يحمل الإنذار،و يدخل الهلع و القلق على النفوس،فترتعد الفرائص،و تصفرّ الوجوه و تنزوي القوى.
البرق الشديد و الصواعق قد تكون سببا في إحداث الضرر
ص: 333
فالله سبحان تعالى يرينا البرق الذي يحمل هذين المعنيين-الخوف و الطمع-لتلهج ألسنتنا بذكر اللّه و تسبيحه و تحميده،لأن الكون كله يسبح اللّه من ملائكة و رعد و برق و شجر و حجر،لكننا نحن معاشر البشر لا ندرك كنه هذا التسبيح حقيقة،و يرسل العزيز الجبار الصواعق فيصيب بها من يشاء من عباده و يعذب بها من يريد،ليعلم الذين غفلوا عن اللّه أن اللّه شديد المحال،شديد البطش و القوة يحكم ما يريد و يفعل ما يشاء.
و لقد أشار الحق سبحانه و تعالى إلى أن البرق و الصواعق التي يرسلها تسبب الهلاك و الموت.
قال تعالى: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (1).
فالصواعق قاتله،و مهلكة للممتلكات و مزهقة للأرواح،و مدمرة لقواعد البشر المعمرية و العملية و البرية و البحرية...زد على ذلك فإن الشحنات الكهربائية التي تصدر عن البرق،تؤدّي إلى العمى قال تعالى في ذلك: يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ .
إن هذه الحقائق التي ذكرها القرآن الكريم عن الصواعق و البرق و الرعد،معجزة كشف العلم عنها يوم توفّرت له أجهزة البحث المتطورة...و الآية الكريمة أخذت معنا مبحثا كاملا،و كنا قد استعرضنا آراء المفسرين و اللغويين فيها،إلا أننا نورد هنا قولا واحدا فيما يتعلق بالبرد و البرق في هذه الآية الكريمة،يقول ابن كثير:( وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ معناه أن في السماء جبال برد ينزل اللّه منها البرد... يَشاءُ يحتمل أن يكون المراد بقوله:
فَيُصِيبُ بِهِ أي بما ينزل من السماء من نوعي المطر و البرد،فيكون قوله: فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ رحمة لهم وَ يَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ أي يؤخر عنهم الغيث،و يحتمل أن يكون المراد بقوله سبحانه: فَيُصِيبُ بِهِ أي بالبرد نقمة على من يشاء،لما فيه من نثر ثمارهم و إتلاف زروعهم و أشجارهم و يصرفه عمن يشاء أي رحمة بهم،و قوله سبحانه: يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ أي يكاد ضوء برقه من شدته يخطف الأبصار إذا اتبعته و تراءته) (2).4.
ص: 334
و لنأخذ مفردتين من الآية و نرى معناهما اللغوي،برق،و رعد.
أما البرق،فهو:(البرق،واحد بروق السحاب،و البرق الذي يلمع في الغيم، و جمعه بروق و برقت السماء تبرق برقا،و أبرقت جاءت ببرق،و البرقة،المقدار من البرق و قرئ:يكاد سنا برقه فهذا لا محالة جمع برقة،و مرت بنا الليلة سحابة براقة و بارقة،أي سحابة ذات برق) (1).
و أما الرعد،فمعناه:(الصوت الذي يسمع من السحاب،و أرعد القوم و أبرقوا، أصابهم رعد و برق،و رعدت السماء ترعد و ترعد رعدا و رعودا و أرعدت،صوتت للإمطار) (2).
و من الممكن أن نستخلص بعض المعطيات من الآية القرآنية،ثم سنرى أن ما حددته الآية من حقائق علمية،جاء العلم ليثبته و يكتشفه في عصرنا.
أولا:تحدد الآية الكريمة وجود البرد في السحب الركامية على وجه الخصوص.
ثانيا:أثبتت الآية أن للبرد برقا،و أن البرد هو الذي يسبب حصول البرق،و ذلك في قوله سبحان و تعالى: يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ ،فالضمير في بَرْقِهِ يعود إلى أقرب مذكور،ألا و هو البرد،و العجب أن جلّ المفسرين رضى اللّه عنهم،أرجعوا الضمير إلى السحاب،و ليس إلى أقرب مذكور«البرد».
ثالثا:أشارت الآية الكريمة إلى أن لمعان البرق يؤدي إلى العمى، يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ و هذا ما أكّده العلماء على ما سنرى.
تحدّث العلماء و بإسهاب شديد عن البرد و البرق،و أوضحوا أن السحب الركامية هي وحدها التي يكون فيها البرد،و الذي بسببه يحصل البرق،ففي«موسوعة المعارف الكونية»:(لقد ثبت علميا أن جميع السحب مشحونة كهربائيا،و تبلغ الشحنات أقصاها في السحب الركامية العاصفية...و تبعد الواحدة عن الأخرى من 1 إلى 10 كم، و الصاعقة مؤلفة من بروق متعددة،تم تصويرها بآن واحد تشكل معظمها بين السحب و سطح الأرض،و لكن يوجد منها ما يتشكل بين السحب نفسها و تسمى هذه بالبروق
ص: 335
الخطية و التي يصل فيها طول الخط الواحد بضعة كيلومترات ،و قد تتمحض العاصفة عن عدة آلاف عملية من عمليات التفريغ الكهربي(البرق)و قد يصل طول الشرارة الواحدة 1,5 كم،عند ما يتم التفريغ بين السحابة و الأرض(صاعقة)،أما طولها عند ما يحدث التفريغ بين السحب فهو يزيد عن ذلك كثيرا،و عند ما تكون الصاعقة قريبة منا لا يصعب تمييز تفرغ الشرارات و تعددها في كل اتجاه،و قد تستغرق الواحدة منها زهاء ثانية كاملة قبل أن يتلاشى وميضها،و قد يتعذر علينا رؤية الشرارة نفسها حيث تضيء السحب و السماء فجأة بنور ساطع يطلق عليه أحيانا اسم صحائف البرق) (1).
و نفس الحقائق في كتاب«أسرار الأرصاد الجوية»:(العواصف ظواهر عنيفة من حالات الطقس مصحوبة بالبروق و الصواعق و سقوط البرد و الأمطار الغزيرة،تنشأ العواصف داخل الكتل السحب الضخمة من نوع الركام،التي يصل ارتفاعها من 10- 16 كم،و تبلغ حرارة قمة الغيمة-50 درجة في أوربا،و-72 درجة في خط الاستواء،تحدث داخل الغيمة حركات صعود و هبوط و تتشكل عندها قطرات البرد، و إن عدم التوازن داخل الغيمة يعود إلى الشحن الكهربائية الموجبة و السالبة،تكون قمة الغيمة مشحونة إيجابيا،و قاعدتها مشحونة سلبيا كمدخرة،و أحيانا يكون شحن الغيمة معكوسا،و عند ما يحدث خلل في التوازن على السطح الخارجي للغيمة،أي بين القاعدة المشحونة سلبيا و الأرض المشحونة إيجابيا،أو بين قاعدة الغيمة السالبة و الأرض الموجبة،و اعتبارا من اللحظة التي يحصل فيها تصادم مباشر بين منطقتين سالبة و موجبة يحدث التفريغ الكهربائي و ينطلق البرق) (2).
و عند ما يتحدث العلماء عن نشأة الشحنات الكهربائية في الغيوم الرعدية،فإنهم يجعلونها تعتمد على مفهومين أساسيين،أولهما:(إن قطرات الماء فوق المبردة أثناء تجمدها،تأخذ بالتجمد باتجاه الداخل بدءا من سطحها،و هذا يؤدي إلى إبقاء داخلها (لبها)أدفأ من سطحها،و يكون داخلها الأدفأ مشحونا بشحنة سالبة،شوارد OH ،في حين يكون سطحها الأبرد موجب الشحنة بسبب هجرة شوارد الهيدروجين H +مع انخفاض تدرج الحرارة.4.
ص: 336
ثانيهما:أنه عند ما تتفتت حبات البرد الهشّة أثناء عملية التجمد،فإن شظايا الجليد الصغيرة الحاملة لشحنات موجبة،تنطلق مندفعة إلى أعلى حجيرة الحملان مع التيارات الصاعدة،و هذا ما يفسر كون الجزء الأعلى من الغيمة الرعدية،الذي درجة حرارته دون-20 درجة ذو شحنة إيجابية،و بالمثل فإن كريات البرد الأثقل المشحونة سلبيا تسقط باتجاه قاعدة الغيمة لتكسبها شحنتها الكهربائية السالبة و هناك عملية أخرى يمكن بفعلها أن تتولد الشحنات الكهربائية في الغيمة الرعدية،تقوم على ما ينتج من التصادم الحاصل بين بلورات الجليد الباردة،و كريات البرد الهش الأحرّ،إذ ينجم عن التراكم الجاري لقطرات الماء فوق المبرد على كريات البرد،نشوء سطوح غير منتظمة تتسخن نتيجة انطلاق الحرارة الكامنة في قطرات الماء عند تجمدها،و يتولد من جراء صدمات بلورات الجليد الباردة لهذه السطوح غير المنتظمة تولد شحنات سالبة تكتسبها تلك السطوح،بينما تكتسب البلورات الجليدية الأبرد شحنة موجبة،و مرة أخرى تأخذ تأثيرات ظاهرة الفعل الجاذبي الثقالي دورها في توزع الشحنات الكهربائية في داخل الغيمة) (1).
و نفس المعنى في كتاب«الأرصاد الجوية»:(تتكون العاصفة الرعدية بصفة عامة من برق و رعد و رياح قوية مصحوبة بأمطار غزيرة و برد و كرات من الثلج،و تحدث السحب الركام المزني السوداء الضخمة،و تستمد العاصفة الرعدية الجزء الأكبر من طاقتها من الحرارة الكامنة الناتجة من تكثف بخار الماء في الغلاف الجوي،و العوامل المساعدة لتكوينها هي:
1-وجود كميات من بخار الماء في الغلاف الجوي.
2-تكثف بخار الماء و انطلاق الحرارة الكامنة منه.
3-حالة عدم استقرار في الغلاف الجوي.
4-وجود تيارات صاعدة قوية) (2).1.
ص: 337
هذه بعض أقوال علماء المناخ،و لا داعي لسرد المزيد مما توصل إليه العلماء في هذا المجال من نتائج حول السحب الركامية،و ما تتضمن من برد و برق و رعد،و لكن لنتساءل هل كان في عهد محمد صلى اللّه عليه و سلم أجهزة الاستشعار عن بعد حتى قرر هذه الحقائق، أم هل كان لديه مكوك فضائي و أقمار اصطناعية ليرسل تلامذته إلى الفضاء كي يصور له هذه الحقائق عن السحب و ما حوت؟
إن هذا التوافق المدهش بين ما سجلته الآية الكريمة حول السحب الركامية و خصائصها،و بين ما وصل إليه العلم ليدل دلالة قاطعة على صدق نبوة محمد صلى اللّه عليه و سلم من جهة،و على أن ما جاء به هو من عند اللّه تعالى،أ فلا ينبغي على رواد العلوم و المعارف أن يحنوا رءوسهم إجلالا لهذه المعجزات القرآنية العظيمة.
إنها ومضات سريعة تعرفنا من خلالها على الرياح و أنواعها و الريح و عواقبها، و السحب و أشكالها و على البرق و الرعد و الصواعق،فكل هذه من جنود اللّه العظيم، لينبه بها عباده ليتقوه و يخافوه.
صورة تظهر الصواعق و البرق و الرعد (1)
ص: 338
تمهيد.
المبحث الأول:تكوين الجبال.
المبحث الثاني:الجبال تحافظ على توازن الأرض.
المبحث الثالث:الرواسي الشامخات و الماء الفرات.
المبحث الرابع:حركة الجبال و تعدد صخورها.
ص: 339
ص: 340
الجبال كلمة تدل على الشموخ و الكبرياء،و وصف يخيب من حاول الاتصاف به إلا الجبال،فهي التي تنزوي أمامها رقاب الجبابرة،و تنقطع لديها الأعناق المشرئبة التي تحاول أن تطيل شموخها،و في ذلك يخاطب الحق تبارك و تعالى أولئك الذين يمشون في الأرض متبخترين متكبرين قائلا: وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَ لَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (1).
و مع تلك العظمة التي اتصفت بها الجبال فإن الحق ساقها في معرض المدح و الثناء، و معرض ضرب الأمثال في العبودية و الخشوع لسلطان القرآن و أنوار البيان،قال تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (2).
إلا أن الجبال لم تغترّ بعظمتها،و لم تتباه بمظاهر الرفعة و الإباء التي أودعها اللّه فيها،فلما عرض الحق جل جلاله الأمانة عليها،تسرّب إليها الرعب و داخلها الخوف،لشدّة تحمل الأمانة و المسئولية و التكاليف السماوية،فآثرت أن تنقاد للحق طواعية دون اختيار أو عزم،لأنها أدركت بصدق ثقل الأمانة،و هو موقف الحساب و موطن الجزاء يوم الدين،قال اللّه سبحانه و تعالى: إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (3).
إذن،جدير بالباحثين أن يحركوا الطاقة العقلية و العلمية في دراسة هذه الآية الدالة على بديع صنع الله،و تألق مخلوقاته،ليصلوا إلى مقام التفكر الذي أمروا به،و من ثمّ إلى مقام الخشوع و الولاء المطلق للخالق العظيم سبحانه و تعالى.
ص: 341
و سوف يتناول في هذا المبحث بعونه تعالى،الحديث عن تكوين الجبال و كيفية نشأتها،و ما توصل إليه الباحثون في ذلك و ما قد قرره كتاب اللّه عز و جل،و من ثم يتحدث عن أبرز و أهم فوائد الجبال ألا و هي محافظتها على توازن الكرة الأرضية،و كيف أن الحق تبارك و تعالى جعلها سببا في تثبيت الأرض و اتزانها،ثم ينتقل لتحلل العلاقة الوثيقة بين الجبال الشامخات الشاهقات و بين الماء العذب الفرات،و السر في أن القرآن يقرن بينهما،في حين إذا ذكر الجبال دون وصف الشامخات لا يأتي بهذا الربط، و يختم الحديث عن الجبال بالإشارة إلى حركتها و تعدد صخورها و ألوانها،بين القرآن و العلم.
ص: 342
تكوين الجبال
قال تعالى: وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها وَ أَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ (1).
و قال سبحانه: وَ أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ (2).
و قال جل ثناؤه: وَ هُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَ أَنْهاراً (3).
تتحدّث هذه الآيات عن نشأة الجبال و تكوينها،فبعد أن مدّ اللّه سبحانه و تعالى الأرض و بسطها جعلت تميد،فألقى فيها رواسي شامخات ليثبتها من حركتها المضطربة،ليتسنّى للمخلوقات التي أودعها اللّه فيها العيش الهادئ الهانئ.
و الإعجاز العلمي في قوله تعالى: وَ الْقِيَ و الإلقاء كما نعلم يكون من أسفل إلى أعلى،كما في قوله تعالى: وَ إِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ(3) وَ أَلْقَتْ ما فِيها وَ تَخَلَّتْ(4) (4)،و من الأعلى إلى الأسفل،و من النوعين كانت نشأة الجبال،و في نظرة لما قاله المفسرون تزداد الصورة بيانا و وضوحا.
يقول الطبري:(و جعل في الأرض جبالا ثابتة،و الرواسي،جمع راسية و هي الثابتة،يقال:منه أرسيت الوتد في الأرض،إذا أثبته) (5).
و في«روح المعاني»:(و جعل فيها رواسي،أي جبالا ثوابت،من الرسو،و هو ثبات الأجسام الثقيلة،و لم يذكر الموصوف لإغناء غلبة الوصف بها عن ذلك...و أما الارتفاع فله سبب بالذات و سبب بالعرض،أما الأول:فكما إذا نقلت الريح الفاعلة
ص: 343
للزلزلة طائفة من الأرض و جعلتها تلا من التلال،و أما الثاني:فأن يكون الطين بعد تحجره مختلف الأجزاء في الرخاوة و الصلابة،و تتفق مياه قوية الجري أو رياح عظيمة الهبوب،فتحفر الأجزاء الرخوة و تبقى الصلبة ثم لا تزال السيول و الرياح تؤثر في تلك الحفر إلى أن تغور غورا شديدا،و يبقى ما تنحرف عنه شاهقا،و الأشبه أن هذه المعمورة قد كانت في سالف الدهر مغمورة في البحار،فحصل هناك الطين اللزج الكثير ثم حصل بعد الانكشاف و تكونت الجبال) (1).
و يقول الرازي:(و الاستدلال بأحوال الجبال و إليه الإشارة بقوله سبحانه: وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ من فوقها ثابتة باقية في أحيازها،غير منتقلة عن أماكنها،يقال:رسا هذا الوتد و أرسيته و المراد ما ذكرنا) (2).
و في تفسير«السراج المنير»:(و ألقينا فيها رواسي،أي جبالا ثوابت كانت سببا لثباتها، و خالفت عادة المراسي في أنها من فوق،و المراسي التي تعالجونها أنتم من تحت) (3).
رسم بياني لامتداد القارات و الجبال في النطاق الأرضي إضعاف الأجزاء البارزة منها على السطح4.
ص: 344
و نجد المعنى ذاته في المعاجم لو بحثنا عن الرواسي،ففي لسان العرب:(رسا الشيء يرسو رسوا و أرسى ثبت،و أرساه هو،و رسا الجبل يرسو إذا ثبت أصله في الأرض،و جبال راسيات و الرواسي من الجبال الثوابت الرواسخ...راسية و رست قدمه ثبتت في الحرب،و رست السفينة ترسو رسوا بلغ أسفلها القعر و انتهى إلى قرار الماء فثبتت و بقيت لا تسير) (1).
و في«المصباح المنير»:(رسا الشيء يرسو رسوا و رسوا،ثبت فهو راس،و جبال راسية و راسيات و رواس،و أرسيته بالألف للتعدية،و رست أقدامهم في الحرب، و رسوت بين القوم أصلحت،و ألقت السحابة مراسيها،دامت) (2).
يتسنّى لنا الآن و قد عرضت طائفة من أقوال المفسرين و أصحاب المعاجم،أن يستخلص من معطيات النصوص القرآنية ما يلي:
أولا:عبّر القرآن الكريم عن عملية نشأة و تكوين الجبال بالفعل«ألقى»،و الإلقاء يكون من أعلى إلى أسفل،كقوله تعالى: وَ أَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَ لا يُفْلِحُ السّاحِرُ حَيْثُ أَتى (3)،و كقوله سبحانه: وَ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلّى مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (4).
و كذلك يكون الإلقاء من أسفل إلى أعلى كقوله تعالى: وَ إِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ(3) وَ أَلْقَتْ ما فِيها وَ تَخَلَّتْ(4) (5)،و تعتبر هاتان الطريقتان من أبرز الطرق التي تتم من خلالها تشكيل الجبال،و هذا ما سنتعرف عليه بعد قليل.
ثانيا:يستخدم القرآن الكريم أحيانا لفظ(رواسي)عوضا عن(جبال)،و في ذلك تصريح واضح بأن الجبال هي بمثابة الرواسي للأرض،و التي تثبتها و تقرها.
سيساق طائفة من أقوال و دراسات علماء الجيولوجيا،و التي سنرى من خلال عرضها أن نشأة و تكوين الجبال إنما تتم بفعل الإلقاء من الأعلى إلى الأسفل،كتكوين
ص: 345
الجبال الرسوبية،و التي تتكوّن بفعل التعرية بسبب الرياح أو ماء الأنهار و غيرها،أو كتكوين الجبال البركانية،و التي تتكون بسبب النشاط البركاني الذي يقذف و يلقي من داخله إلى الأعلى الحمم و الفوهات و التي تتحول بعد ملايين السنين إلى جبال.
بركان نشط يقذف الحمم من داخله،و يلقي بالأحجار و الصهارة و التي تكوّن الجبال البركانية
و سنرى أن هذا هو الذي أثبته العلم في القرن العشرين،بعد اعتقاد ساد القرون الماضية أن الجبال هي ما نرى فوق البسيطة لا غير،فكشف العلم عن نشأة الجبال و أطوار تكونها،و قد قرر ذلك كتاب ربنا منذ أربعة عشر قرنا،و إليك ما توصل إليه الجيولوجيون في ذلك:
ص: 346
-بالنسبة لتكوين الجبال الرسوبية،أي الإلقاء من أعلى إلى أسفل،فيقول الدكتور محمد جمال الدين الفندي:(إن المياه تجري إلى المنخفضات التي تسمى بالبحار الجيولوجيا و تغمرها،و هذه تكون عادة بحارا ضحلة متّسعة ممتدة في وسط القارات أو أعلى حوافها و تصير قيعانها بمرور الزمن الجيولوجي مأوى لأثقال عظيمة جدا من الرسوبيات،تأتي بها عوامل التعرية من مناطق الارتفاع كالجبال و الهضاب،و كلما عظمت تلك الأحمال هبطت تحت وطأتها قيعان البحار،و تظل هذه الرسوبيات تتراكم هكذا حتى تكون جذور الجبال مستقبلة نتيجة للضغط الشديد،فتلتوي و تنثني و ترتفع رويدا رويدا طافية فوق مواد المنطقة،التي تحمل القشرة و تفصلها عن باطن الأرض،و أخيرا تطل من سطح الماء،و ينحسر الماء عنها إلى أماكن أخرى مكونا بحارا جيولوجية جديدة،و تلك هي الثورات الجيولوجية أو حركات بناء الجبال) (1).
و يصف العالم الجيولوجي ليون موريه (2)تكوين الجبال بكلا الطريقتين المذكورتين فيقول:(من السلاسل الجبلية،سلاسل المقعرات الأرضية،و التي تنجم عن انضغاط حفر الترسب الكبرى بفعل حركات تماسية،و التي دعيناها المقعرات الأرضية،و التي تراكمت فيها خلال حقب طويلة ثخانات كبيرة من روسوبات بحرية عميقة،و يكون توافق المظاهر البحرية العميقة مع المناطق الملتوية هو قاعدة عامة،بحيث أمكن القول:أن السلاسل الجبلية تتشكل دوما فوق موقع المقعرات الأرضية،كما يمكننا اعتبار طيات القاع كرد فعل للحركات التماسية التي تبقى لوحدها في الأصل،ففي حين الانضغاط الأقصى على مقعر أرض ما،فإن مشارف المنطقة تتحدب بتأثير الجهد9.
ص: 347
و تعطي معقدا من طيات قاع،يؤدي كما تؤدي موجة قاع بحرية إلى نهوض قارة برمتها، و تأتي اندفاعات بركانية تؤدي إلى نشوء الجبال) (1).
كذلك فإن(الأحواض البحرية تتكون بسبب انخفاض بسيط على سطح الأرض نتيجة الحركات الأرضية،ثم يمتلئ هذا المنخفض بالمياه و تعيش فيه الكائنات البحرية،و تترسب فيه المواد الرسوبية إلى أن يمتلئ بالرسوبيات،و أخيرا تضغط جوانبه مسببة تكوّن الثنيات و الجبال،و عليه يجب عدم الاستغراب إذا ما تسلّقنا قمة جبل ما، و لاحظنا وجود القواقع البحرية المتحجرة،أو آثار الأسماك المطبوعة على صخور الجبل،لأن تلك الجبال كانت في يوم ما رسوبيات مترسبة في قيعان البحار) (2).
و قد أسهب العلماء في ذكر أنواع الجبال و طرق تكوينها،من ذلك ما ورد في كتاب «أساسيات علم الجيولوجيا»إذ نجد فيه:(و هناك ثلاثة أنواع أساسية من الجبال:
1-جبال جيوسنكلينية:و يطلق عليها أحيانا اسم أحزمة الطيات،لكثرة وجود الطيات في داخلها و هي تتكون نتيجة لرفع و طيّ الرسوبيات المتراكمة في الأحواض البحرية،و تعرف الحركات الأرضية التي تتحكم في تكوين مثل هذه الجبال باسم:
الحركات الأرضية البانية للجبال.
2-جبال بركانية:و التي تكون سلاسل جبلية مغمورة في قيعان المحيطات،على طول الحدود البناءة و تتكون هذه الجبال من الانبثاقات البازلتية،و التي تكوّن قيعان المحيطات أثناء عملية انتشار قاع البحار.
3-جبال تصدّعية:و توجد في وسط ألواح قارية ثابتة،و أحيانا تتكون الرسوبيات التي تؤدي إلى تكوين مثل هذه الجبال في أحواض ترسيبية) (3).:-
ص: 348
و في الكتاب القيم«الأرض مقدمة للجيولوجيا الطبيعية»:(لقد حدثت عمليات نشوء الجبال في التاريخ الجيولوجي الحديث بعدة مواقع حول العالم،و تشمل هذه الأحزمة الجبلية الحديثة الكورديلير الأمريكية،و التي تمتد على طول الحافة الغربية للأمريكيتين...و معظم هذه الأحزمة الجبلية قد تكونت خلال المائة مليون سنة الماضية،و قد ابتدأ بعضها في التكون،بما في ذلك الهيمالايا في مدة لا تزيد عن 40 مليون سنة مضت...و تتألف أحزمة بناء الجبال عادة من مرتفعات متوازية من الصخور الرسوبية و البركانية المطوية و المتصدّعة،التي تكون بعض أجزائها قد تحولت تحولا شديدا،و اقتحمت بأجسام نارية حديثة نوعا،و في معظم الحالات تكون الصخور الرسوبية قد تراكمت في بحار عميقة و قد زاد سمكها عن 15000 متر،و كذلك من صخور أقل سمكا تراكمت في بحار ضحلة،و علاوة على ذلك فلا بد أن تكون هذه الصخور المشكّلة أكبر عمرا في معظمها من حادثة بناء الجبال التي تضمنتها،مما يشير بالضرورة إلى فترة غير قصيرة من التراكم الهادئ المتبوع بحادثة مفاجأة من الطي و التصدّع) (1).
هذا طرف من الحديث عن نشأة الجبال الرسوبية و الجبال و البركانية...و رأينا كيف أن الجبال الرسوبية تتكون مما تلقيه الأنهار و الرياح بعد عملية الحت و التعرية في اليابسة،و ثوران البراكين في قاعات البحار و المحيطات،لتكوّن بعد ذلك الجبال، أ ليس هذا إلقاء؟،و دليلا على عظمة القرآن الكريم و هو يثبت هذه الحقيقة الجيولوجية الرائعة، وَ أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ ،و ما الجبال البركانية إلا أجسام ضخمة مؤلفة من صخور،و فتات بركاني قذفتها فوهات البراكين بشدّة،ثم تساقطت على أطرافها و تراكمت فكانت الجبال،أ ليس هذا كذلك إلقاء؟،ألقاه اللّه من البحار و البراكين لتتكون الجبال،فسبحان من أشار إلى هذه الحقيقة الرائعة و سجلها في كتابه لتكون سابقة في مضمار إثبات الحقائق العلمية،فقال تقدست أسماؤه: وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها وَ أَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ .
ص: 349
الجبال تحافظ على توازن الأرض
قال تعالى: أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً(6) وَ الْجِبالَ أَوْتاداً(7) (1).
و قال تعالى: وَ جَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ (2).
و قال تعالى: وَ الْجِبالَ أَرْساها (3).
تسجّل هذه الآيات قاعدة جيولوجية في القرآن الكريم،و هذه القاعدة هي:وتديّة الجبال،فالحق سبحانه و تعالى في معرض الامتنان على عباده،و في سياق الرحمة التي غمرهم بها يذكّرهم بأنه هو الذي جعل الجبال أوتادا،و وزعها بدقة و حكمة فائقة، مما يساعد على توازن الأرض،بحيث لا تميد و لا تضطرب،فكما أن الأوتاد تثبت الخيمة و تعمل على استقرارها،فكذلك الجبال جعلها اللّه للأرض كالأوتاد للخيمة.
يقول الإمام القرطبي رحمه اللّه:( أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ أي لئلا تميد عند الكوفيين،و كراهية أن تميد على قول البصريين،و الميد:الاضطراب يمينا و شمالا،ماد الشيء يميد ميدا إذا تحرك،و مادت الأغصان تمايلت و ماد الرجل تبختر،قال وهب بن منبه:لما خلق اللّه الأرض فجعلت تميد و تمور،فقالت الملائكة:إن هذه غير مقرّة أحدا على ظهرها فأصبحت و قد أرسيت بالجبال،و لم تدر الملائكة مما خلقت الجبال) (4).
و في«روح المعاني»:( وَ الْجِبالَ أَوْتاداً أي كالأوتاد،ففيه تشبيه بليغ أيضا،و المراد أرسينا الأرض بالجبال كما يرسي البيت بالأوتاد) (5).
ص: 350
و عند ابن كثير( وَ الْجِبالَ أَوْتاداً أي جعل لها أوتادا أرساها بها و ثبتها و قررها،حتى سكنت و لم تضطرب بمن عليها) (1).
و في«التفسير البياني»:(و الجبال أرساها،الإرساء،التثبت و الترسيخ،و قالوا:
ألقت السفينة مراسيها إذا استقرت،على أن المادة يكثر مجيئها في الجبال،لوضوح الثبات و الرسوخ فيها،و القرآن يستغني أحيانا بالرواسي عن الجبال،فيشهد هذا بأن صفة الرسو تبدو أوضح ما تبدو في الجبال) (2).
و في«البحر المحيط»:( وَ الْجِبالَ أَوْتاداً أي ثبتنا الأرض بالجبال،كما ثبت البيت بالأوتاد) (3).
و في الحديث الذي رواه الترمذي و غيره،عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال:«لما خلق اللّه الأرض جعلت تميد فخلق الجبال فعاد بها عليها فاستقرت،فعجبت الملائكة من شدة الجبال قالوا:يا رب هل من خلقك شيء أشد من الجبال قال:نعم، الحديد،قالوا:يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الحديد،قال:نعم،النار،فقالوا:
يا رب فهل من شيء أشد من النار،قال:نعم،الماء قالوا:يا رب فهل من شيء أشد من الماء،قال:نعم،الريح،فقالوا:يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الريح،قال:
نعم،ابن آدم تصدق بصدقة بيمينه يخفيها من شماله» (4).
و معنى الوتد في اللغة:(الوتد بالكسر و الوتد،ما رز في الحائط أو الأرض من الخشب،و الجمع أوتاد،قال اللّه تعالى: وَ الْجِبالَ أَوْتاداً ...و وتدته أنا أتده وتدا وتدة و وتدته،أثبته) (5).3.
ص: 351
و في القاموس المحيط:(الوتد بالفتح و بالتحريك و ككتف،ما رز في الأرض أو الحائط من خشب و أوتاد الأرض جبالها،و من البلاد رؤساؤها) (1).
يتبيّن لنا من خلال هذا العرض،و من معطيات الآيات القرآنية و ما قاله المفسرون و أصحاب المعاجم،أن اللّه سبحانه و تعالى خلق الجبال و جعلها بمثابة الوتد الذي يشد الخيمة،و الجبال هي بدورها تقوم على تثبيت الأرض كي لا تميد و تضطرب،و هذه الحقيقة الجيولوجية تحدث عنها علماء الجيولوجيا تحت مسمى(وتدية الجبال).
ففي كتاب«من الآيات العلمية»:(أثبتت الدراسات أن كل قارة بها جبالها التي تتميز بها،و أن هناك سلسلة من الجبال موزّعة على سطح الأرض توزعا دقيقا محكما،و أن ارتفاع الجبال يتناسب و مكانه من الكرة الأرضية،و نوع الصخور المكونة له،و طبيعة الأرض من حوله،و أنه بما توجد بعض الجبال التي لا يزيد ارتفاعها على ألف متر، فهناك مثلا(جبل إفرست)في سلسلة جبال الهمالايا الذي يقرب ارتفاعها من تسعة آلاف متر،و وجد كذلك أن الجبال الثقيلة دائما أسفلها مواد هشة و ضعيفة،و أن تحت المياه توجد المواد الثقيلة الوزن،و ذلك حتى تتوزّع الأوزان في المناطق المختلفة للكرة الأرضية،و وجد العلماء أن هذا التوزيع يتمشّى مع مرونة القشرة الأرضية و درجة حرارتها،ثم كانت الحقيقة العلمية القاطعة التي وصل إليها العلماء و التي تقرر:أن توزيع الجبال على الكرة الأرضية إنما قصد به حفظها من أن تميد إلى الشمس أو تحيد عنها،و أنها فعلا السبب الأول و الرئيسي لحفظ توازن الأرض،فكأن الجبال هي أوتاد للأرض تحفظها في مكانها و تحفظ عليها حركتها) (2).
و في كتاب«أساسيات علم الأرض»:(إن التوزيعات في كثافات القشرة الأرضية على أجزاء مختلفة منها يحرز وضعا متوازنا بين أجزاء القشرة الأرضية في المناطق المختلفة و هو ما يطلق عليه مصطلح اتزان القشرة الأرضية lsostasy .
إن الاتزان النظري لكتل القشرة الأرضية الشاهقة الارتفاع لكلا الجبال و القارات
ص: 352
التي تكون طافية على قاعدة صخرية عالية الكثافة و تخضع لضغط عظيم و في وضع تجاوز حالة المرونة تكون فيها الأجزاء المرتفعة من سطح القشرة الأرضية في حالة توازن مع صخر الطبقة السفلية الكثيفة،و لكن يجب أن ندرك أن الأحداث الجيولوجية من وقت لآخر تفسر لنا نظام الاتزان في القشرة الأرضية...) (1).
و يقول الشيخ عبد المجيد الزنداني:(لقد تأكد الباحثون عام 1956،أن تحت كل جبل عرقا لهذا الجبل و امتداد له قد غرس في الطبقة العجينية أو اللزجة التي تحت طبقة الصخور،و قد جعل اللّه هذا الامتداد تحت كل جبل ماسكا للقارات من أن تطوف أثناء دوران الأرض،فهذه الأوتاد المغروسة في الطبقة اللزجة التي تحت القارات تثبّت القارات كما يثبت الوتد الخيمة إذا غرس بين التراب،و لكن هذا السرّ الذي لم يتأكد منه الباحثون إلا عام 1956،كما ذكر ذلك الدكتور فاروق الباز المختص في علم الجيولوجيا و الفضاء،و مدير معهد سميس سونيان لعلوم الأرض و الفضاء،إن هذا السر قد ذكره القرآن قبل ألف و أربع مائة عام،فقال تعالى: وَ الْجِبالَ أَوْتاداً أي جعلها اللّه أوتادا في هذه الأرض) (2).
حقيقة وتديّة الجبال تحدث عنها القرآن الكريم في العديد من الآيات المباركة،ثم يأتي العلماء ليكتشفوا أن اللّه سبحانه و تعالى جعل الجبال مغروسة في طبقات الأرض ليتسنّى للعباد أن يعيشوا على ظهرها،إنه السبق القرآني في إثبات الحقائق العلمية، فسبحان من ثبّت لنا الأرض بالجبال لننعم بوافر السعادة،و نتفيأ ظلال الرحمة الربانية، إنه إعجاز القرآن الرائع،و صدق ربّ العزة القائل: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ (3).
ص: 353
صورة رقم:(24)،توضح وتدية الجبال،و دورها في تثبيت و حفظ توازن الأرض.
ص: 354
صورة رقم:(25)،سبحان من جعل هذه الراسيات أوتادا للأرض(1).
ص: 355
الرواسي الشامخات و الماء الفرات
قال اللّه تعالى: وَ جَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَ أَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (1).
في هذه الآية الكريمة معجزة قرآنية كبيرة،و إشارة علمية جيولوجية فريدة،فالآية تشير إلى علاقة متينة بين الجبال الشامخات و الماء الفرات،و الذي يتأمل قوله تعالى:
شامِخاتٍ يدرك روعة الإعجاز في بيان القرآن هذا،فالله سبحانه و تعالى يلفت انتباهنا إلى حقيقة علمية مرئية في عالم الشهادة،فكلما كانت الجبال ذات شموخ و ارتفاع و علو كان نصيب الماء فيها أغزر،و استأهلت لتكون محطة لواردات الثلوج المتراكمة،و ذاك الماء الذي ينساب من قممها و سفوحها يكون عذبا فراتا سائغا للشاربين...
و بجولة في تفاسير العلماء،نرى دقة هذا الارتباط الوثيق بين شموخ الجبال و غزارة المياه.
يقول ابن كثير: وَ جَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ يعني الجبال أرسى بها الأرض لئلا تميد و تضطرب وَ أَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً أي عذبا زلالا من السحاب،أو مما أنبعه من عيون الأرض) (2).
و عند القرطبي:( رَواسِيَ شامِخاتٍ يعني الجبال،و الرواسي الثوابت،و الشامخات الطوال،و منه يقال:شمخ بأنفه إذا رفعه كبرا،قال:
وَ أَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً أي و جعلنا لكم سقيا،و الفرات،الماء العذب يشرب و يسقي منه الزرع،أي خلقنا الجبال و أنزلنا الماء الفرات) (3).
ص: 356
و في«روح المعاني»:( شامِخاتٍ مرتفعات،و منه شمخ بأنفه،و وصف جمع المذكر بجمع المؤنث في غير العقلاء مطرد،كأشهر معلومات و تنكيرها للتفخيم،أو للإشعار بأن في الأرض جبالا لم تعرف و لم يوقف عليها،فأرض اللّه تعالى واسعة و فيها ما لم يعلمه إلا اللّه عز و جل،و قيل:للإشعار بأن في الجبال ما لم يعرف و هو الجبال السماوية،و هو مما يوافق أهل الفلسفة الجديدة إذ قالوا بوجود جبال كثيرة في القمر، و ظنّوا وجودها في غيره،و تعقب بأنه تفسير بما لم يعرف وَ أَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً أي عذبا، و ذلك بأن خلقناه في أصولها،و أجريناه لكم منها في أنهار،و أنبعناه في منابع تستمد مما استودعناه فيها،و قد يفسر بما هو أعم من ذلك،و الماء المنزل من السماء) (1).
و في تفسير«أنوار التنزيل»:( وَ جَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ جبالا ثوابت طوالا و التنكير للتفخيم،أو الإشعار بأن فيها ما لم يعرف و لم ير،و قوله تعالى: وَ أَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً بخلق الأنهار و المنابع فيها) (2).
و يقول الإمام الرازي:(من الاستدلال بأحوال الجبال،أن بسببها تتولد الأنهار على وجه الأرض و ذلك أن الحجر جسم صلب،فإذا تصاعدت الأبخرة من قعر الأرض و وصلت إلى الجبل احتبست هناك فلا تزال تتكامل،فيحصل تحت الجبل مياه عظيمة، ثم إنها لكثرتها و قوتها تثقب و تخرج و تسيل على وجه الأرض،فمنفعة الجبال في تولد الأنهار هو من هذا الوجه،و لهذا السبب ففي أكثر الأمر أينما ذكر اللّه الجبال قرن بها ذكر الأنهار مثل ما في هذه الآية) (3).
إن الإنسان ليصاب بالدهشة عند ما يقرأ تفسير هؤلاء العلماء رضي اللّه عنهم،و هم يتحدثون عن هذه الحقائق العلمية الجيولوجية منذ قرون مضت،و لم يكن في عصرهم و لا حتى بعدهم بقرون الآليات و المعدات التقنية المتطورة،التي من شأنها أن تكشف عن أسرار المياه و ارتباطها بالجبال الشامخات،و لكنهم يستلهمون هذه المعطيات العلمية من وحي القرآن العظيم،الذي حوى علم الأولين و علم الآخرين.2.
ص: 357
إذن،ندرك من معطيات النص القرآني أن الجبال كلما كانت شامخة عالية،كان الماء أوفر من جهة،و من جهة أخرى كان عذبا فراتا،و ليس ملحا أجاجا،فما ذا قال العلم في هذا؟.
إن هذا التصور القرآني الدقيق،و هذه الإشارة العلمية الربانية،قد كشف عنها العلم،و أثبتها علماء الجيولوجيا...
(فهذه الآية القرآنية معجزة تربط بين ارتفاع الجبال و تكون الجليد الذي يكلل هاماتها،لانخفاض حرارتها تحت الصفر،فالبرودة تكثف بخار الماء الموجود بالجو على قمم هذه الجبال،إذا زاد ارتفاعها عند حد خاص يتوقف على موقعها قدره 2,1، 7,2،5,5 كم،بالنسبة لجبال النرويج و الألب و الكليمنجارو على الترتيب،لأن هذه الارتفاعات هي الحد الأدنى لتكوّن الثلج الدائم لانخفاض حرارتها بالدرجة اللازمة لتكثيف البخار من الهواء الرطب المحيط بها في هذه المناطق على الترتيب،و هذا الماء يتجمّد على هيئة ثلج يغطي القمم و السفوح الشامخة الباردة،و ينصهر هذا الثلج تحت ضغط الجليد العلوي المتراكم فوقه باستمرار،فيسيل الماء العذب على سفوح هذه الجبال بتأثير الجاذبية إلى أسفل،و لن تنفذ هذه الثلوج على قمم الجبال باستمرار ذوبان أطرافها السفلى،لأنها كما تسيل باستمرار تتجدد أيضا باستمرار عملية التكثف لبخار الماء من الجو المحيط بهذه القمم،و لو لا هذه الظاهرة العجيبة لجفت الأنهار إذا انقضت فصول الأمطار عند منابعها،و تنكير الماء في هذه الآية يفيد العموم،بحيث يشمل كلا من ماء الأمطار و الماء المنحدر من جليد شوامخ الجبال التي تعمل كالإسفنج،لتجميع و ترشيح الماء العذب النقي من بخار الجو المحيط) (1).
و في«دائرة المعارف الثقافية»نجد حول هذه الحقيقة ما يلي:(عند ما تدفع الرياح كتلة هوائية حارة مشبعة ببخار الماء،و تصادف في طريقها منطقة جبلية،تصطدم الكتلة الهوائية بالجبال فتوقف مسيرتها،لكن الريح تستمر في دفعها،مما يجبرها على الارتفاع،و كلما ارتفعت هذه الكتلة انخفضت درجات الحرارة المحيطة،مما يؤدي
ص: 358
قمم الجبال التي تغطيها الثلوج هي من نعم اللّه لتخزين المياه على سطح الأرض.
إلى تكثف قسم كبير من رطوبتها،و تشكيل تراكم غيمي يكلل القمة في النهاية على شكل ضباب) (1).
(...إن الارتفاعات العالية،تؤدي إلى انخفاض درجة حرارة هذه القمم،التي تستطيع بذلك تكثيف بخار الماء في الهواء الرطب المحيط بها،و هذا الماء المتكثف يتجمد على هيئة ثلج،يغطي هذه القمم الشامخة و ينصهر هذا الثلج تحت ضغط الطبقات الثلجية المتراكمة فوقه،و يتحول إلى ماء عذب يسيل على سفوح الجبال منحدرا بتأثير الجاذبية إلى أسفل) (2).4.
ص: 359
إن هذه الحقائق العلمية التي سلفت،جمعها كتاب اللّه بجملة واحدة: وَ جَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَ أَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً ،و ليس من المستغرب أن يكشفها العلم الحديث لأنها تنزيل من لدن العليم الخبير،ثم إن هذه الآيات تلفت انتباهنا إلى أن نسبر أغوار الكون،و نكشف عن أسراره و خفاياه لينعم الإنسان بها،فكم هي آلاء اللّه و نعمه الوافرة كثيرة علينا،فالجبال الشاهقات منابع لسيلان الأنهار العذبة النقية،و جمال الحياة و زهوتها بهذه الأنهار التي تملأ الوديان و السهول و شق التربة القاحلة فتحيلها إلى جنة خضراء زاهية...إنه جمال الكون و بهاؤه المنعكس عن جلال اللّه و جماله...
أما ينبغي أن نطأطئ الرأس إجلالا لإعجاز القرآن في هذه الآيات الباهرات، و اعترافا بنعم اللّه و آلائه التي أرفدها علينا و أغدقنا بها.
صورة رقم:(27)،مشهد رائع يوضح الماء الفرات المنساب من قمم الجبال على سفوحها فسبحان اللّه العظيم (1).
ص: 360
صورة رقم:(28)،مشهد آخر يبين الثلوج التي تكلل هامات الجبال،و ترشح الماء ليكون عذبا فراتا، و صدق اللّه العظيم إذ يقول: وَ جَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَ أَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً ،هذا خلق اللّه (1). D
ص: 361
حركة الجبال و تعدّد صخورها
قال تعالى: وَ تَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (1).
و قال سبحانه: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَ مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَ غَرابِيبُ سُودٌ(27) وَ مِنَ النّاسِ وَ الدَّوَابِّ وَ الْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ(28) (2).
تشير الآية الكريمة الأولى إلى أن للجبال حركة سريعة،و هي ليست ثابتة جامدة كما يتخيّل أو يظن،و هذه حقيقة قرآنية سجلها كتاب اللّه تعالى،ثم كشف عنها علماء الجيولوجيا بعد قرون،كما تشير الآية الثانية إلى تعدد صخور الجبال و تعدد ألوانها كذلك،و في الآية إشارة إلى إمكانية تغير ألوان الصخور مع الزمن،و لنبدأ في بحث هاتين الآيتين من كتب التفاسير.
يقول ابن كثير:( وَ تَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ أي تراها كأنها ثابتة باقية على ما كانت عليه،و هي تمر مر السحاب أي تزول عن أماكنها) (3).
و في«تفسير بحر العلوم»:(أي تحسبها واقفة مكانها و يقال:مستقرة وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ حتى تقع على الأرض فتستوي،أي في أعين الناظرين كأنها واقفة) (4).
و في«إرشاد العقل السليم»:( وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ حال من ضمير الجبال في تحسبها،أو في جامدة،أي تراها رأي العين ساكنة،و الحال أنّها تمرّ مرّ السّحاب التي
ص: 362
تسيرها الرّياح سيرا حثيثا،و ذلك أنّ الأجرام العظام إذا تحركت نحو سمت لا تكاد تتبين حركتها،و قد أدمج في هذا التشبيه تشبيه حال الجبال بحال السّحاب في تخلخل الأجزاء و انتفاشها) (1).
و أما الآية الثانية،فيقول القرطبي:(و الجدد،جمع جدة،و هي الطرائق المختلفة الألوان،و حمر مختلف ألونها،و غرابيب سود،الغربيب الشديد السواد ففي الكلام تقديم و تأخير و المعنى،و من الجبال سود غرابيب،و العرب تقول للشديد السواد الذي لونه كلون الغراب،أسود غربيب) (2).
و في«أنوار التنزيل»:( وَ مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ أي ذو جدد أي خطط و طرائق، يقال:جدة الحمار للخطة السوداء على ظهره،و قرئ جُدَدٌ بالضم جمع جديدة، بمعنى الجدة جُدَدٌ بفتحتين و هو الطريق الواضح، بِيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها بالشدة و الضعف، وَ غَرابِيبُ سُودٌ عطف على بِيضٌ أو على جُدَدٌ كأنه قيل:
و من الجبال ذو جدد مختلفة اللون،و منها،أي من الجبال، وَ غَرابِيبُ متحدة اللون، و هو تأكيد مضمر يفسره ما بعده،فإن الغربيب تأكيد للأسود و من حق التأكيد أن يتبع المؤكد) (3).
و معنى جدد في اللغة،ففي«مفردات ألفاظ القرآن»:(جدد،جمع جدة،أي طريق ظاهرة،من قولهم:طريق مجدود،أي مسلوك مقطوع،و منه جادة الطريق) (4).
و أما غرابيب فمعناها:(جمع غربيب،و هو المشبه للغراب في السواد،كقولك:
أسود كحلك الغراب) (5).
و لعل من المفيد أن نشير إلى أن عددا ليس بالقليل ممن تناول تفسير الآية الأولى، أخضعها إلى عوالم الآخرة و مشاهد النكبة و الخراب التي ستسيطر على الكون إبان قيام5.
ص: 363
الساعة،و اعتبر مرور الجبال كالسحاب كناية على نسفها و زوالها،و كان منطلق هذا التفسير وقوع الآية في سياق نصوص قرآنية تتحدث عن مشاهد يوم القيامة.
و الحق في هذه القضية،أن الآية تتحدث عن مرور الجبال و حركتها في الدنيا و ليس في أهوال الآخرة،و لسبب بسيط ألا و هو أن اللّه عز و جل قال: وَ تَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً... و الرؤيا هنا رؤيا بصرية،و الحسبان أبدا لا يكون في الآخرة،إذ إن الآخرة كلها يقين و كلها حق و كلها وقائع مرئية،لا تخضع إلا لليقينيات،أما الحسبان و الشك و الظن،فهي حالات تعتري الناس في الدنيا،و لا مكان لها يوم الدين،و بناء على هذا فالآية تشير إلى أن الإنسان إذا نظر إلى الجبال،حسبها جامدة لكنها في واقع الأمر ليست كذلك،إنما هي متحركة حركة سريعة،و هذه الحقيقة كانت غامضة لمن سلف من الناس،و لكن مع التقدم العلمي و الثورة التقنية التي نعيشها اليوم،تأكد للعلماء أن الجبال تتحرك حركة سريعة،ذلك أن الجبال جزء أساسي من الأرض،و لقد ثبت لنا أن الأرض تدور دورانا سريعا،و عليه فإن الجبال مسرعة بسرعة الأرض،و هناك أدلة أخرى على حركة الجبال نقف مع العلماء ليحدثونا عنها.
(لقد شبه الحق الجبال بالسحاب المتحرك تشبيها بليغا،نعرف سره من الحقائق التالية:
1-حركة الأرض:السحاب كما هو معروف لا يتحرك بذاته،و لكنه يتحرك محمولا على الرياح،و إرسال الرياح يتم بحركتها لتهب من مكان لآخر فتساعد على تكوين و إظهار السحب،ثم تحريك هذا السحاب محمولا على الرياح،و بهذا فالسحاب متحرك راكب الرياح،و بالمثل فالجبال تجري لأنها تمتطي كوكب الأرض المنطلق في الفضاء أي بحركة غير ذاتية،و لهذا فالجبال تمر مرّ السحاب،فما أروع التشبيه و ما أعمق الإشارة إلى حركة الأرض و هي تحمل معها الجبال،بينما الناس كانوا يحسبون حتى أن كليهما ساكن و جامد.
2-إزاحة القارات:لقد ثبت علميا أن القشرة الأرضية تتحرك باستمرار حركة بطيئة،و نستطيع أن نتخيل القارات بجبالها و كأننا معها ركاب مسافرون على ظهر ألواح قارية ضخمة،لطبقة أرضية تدعى(الليثوسفير)بسمك متوسط قدره 60 ميلا تحت أقدامنا،و هذه الألواح تنزلق ببطء،طافية على طبقة الرداء البلاستيكية المنصهرة
ص: 364
تقريبا،و التي تدعى(الأثينوسفير)،كما أن الجبال قد تصل بجذورها إلى هذه الطبقة لتطفو كما تفعل القشرة،فالقارات بجبالها الطافية فوق الرداء تشبه السفن العملاقة الطافية فوق البحار في رسوها بل و في حركتها...و على هذا فالجبال مع قاراتها تمر طافية على ألواح(الليثوسفير)مرورا بطيئا،لا تستطيع إدراكه فتحسبها جامدة و هي تمر مر السحاب) (1).
و لقد كشف علم الجيولوجيا حديثا عن الحقيقة العلمية(التي تؤكد التغير المستمر لما يبدو لنا ثابتا و خالدا كالصخور و الجبال،و هذا التغير قد يحدث تدريجيا عبر ملايين السنين،و قد يحدث فجائيا عند حدوث الكوارث الطبيعية كما حدث في زلزال (ألاسكا)عام 1964،الذي هزّ جبلا عاليا هزا عنيفا لدرجة أن جزءا كبيرا من قمة الجبل تحطم...إن كل ظواهر التعرية تتم بتقدير إلهي ينظم كل شيء في ترتيب متقن محكم،فالجبال ليست ساكنة أو دائمة و لكنها تمرّ مرّ السحاب،فهي تتشكل و تزول تدريجيا عبر ملايين السنين،أو تزول بصورة مفاجأة كما في حالة الكوارث الطبيعية) (2).
و أما قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَ مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَ غَرابِيبُ سُودٌ(27) وَ مِنَ النّاسِ وَ الدَّوَابِّ وَ الْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ(28) (3).
فإن هذه الآية تخلق مثيرا في كيان العلماء لتنبههم إلى حقيقة جيولوجية،قد أشار إليها كتاب الله،و هذه الحقيقة تتمثل في اختلاف و تنوع صخور الجبال و ألوانها،و إنما يعود اختلاف ألوانها إلى اختلاف تركيبها و تكوينها،و لكن منشأها واحد و هو الأرض، و عليه فإن هذا الاختلاف و التنوع وراءه أصل واحد،و في هذا تأكيد على وحدانية الخالق سبحانه و تعالى.8.
ص: 365
و لقد قسم العلماء الصخور إلى(ثلاثة أنواع رئيسية:
1-صخور نارية: (lgneous) ،و هذه الصخور هي صهير السائل الساخن(الماجما) المنبعث من تحت سطح الأرض و هي عدة أنواع:
أ-الصخور الجرانيتية.
ب-الصخور الأنديسيتية.
ت-الصخور البازلتية.
د-الصخور الفلزبركانية.
و هذه الصخور المتبردة من الصهير الذي تقترب الأيونات من بعضها و تفقد حرية الحركة،و عند ما يصل التبريد حدا كافيا تحد قوة الترابط الكيميائي من حركة الذرات و تجبرها على الانتظام في بنية بلورية...ثم تتصلب تباعا،و تختلف ألوان هذه الصخور فمنها الأخضر و الأبيض و الأحمر هذه من ألوان الجرانيت و يكون البازلت أسودا أو رماديا قاتما) (1).
(2-الصخور الرسوبية: (Sedimentary) ،و قد تجمعت هذه الصخور في الأحقاب المنصرمة في البحار و هي عدة أنواع:
أ-الصخور الرسوبية الحتاتية.
ب-الصخور الرسوبية الكيميائية.
ت-الصخور الرسوبية العضوية.
إن للصخور الرسوبية أهمية خاصة في استنباط تاريخ الأرض،فهي تتكون عند سطح الأرض في طبقات،و كل طبقة تسجل طبيعة البيئة التي ترسبت فيها وقت ترسبها،و هذه التراكمات التي تسمى طبقات تمثل الخاصية الوحيدة المميزة للصخور الرسوبية) (2).
(3-صخور متحولة: (Metamorphic) ،و هذه الصخور في أصلها كانت رسوبية أو نارية بشتى أنواعها ثم تحولت بعد ذلك بسبب الضغط الشديد و الحرارة القوية في أعماق الأرض إلى صخور متنوعة،و أثناء عمليات التحول الشديد يمكن أن يكون انتقال الأيونات كافيا ليسبب فصل المعادن عن بعضها...3.
ص: 366
و يتحول صخر(الجرانيت)إلى صخر(النايس)،و يتحول الحجر الطيني إلى (اردواز)و عمليات التحول تسبب كثيرا من التغيرات في الصخور بما في ذلك الزيادة في كثافة الصخور و نمو البلورات الكبيرة و تغير اتجاه الحبيبات المعدنية،الذي ينشأ عنه مظهر محزم يسمى بالتورّق،و استبدال المعادن المتكونة في درجة حرارة منخفضة بأخرى متكونة في درجات حرارة مرتفعة) (1).
و هكذا فإن الحق سبحانه و تعالى يسجل في كتابه المجيد الحقائق العلمية المتوالية، فلقد قرر أن الجبال ليست ثابتة و لا جامدة،إنما تمر مرّ السحاب،و يأتي علماء الجيولوجيا ليكتشفوا هذا القانون الرباني في حركة الجبال،ثم إن هذه الحقائق العلمية،عن الصخور و تشكلها و تلونها و تباينها جمعتها آية قرآنية: وَ مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَ غَرابِيبُ سُودٌ ،و في الآية إشارة إلى ضرورة البحث في علوم الجيولوجيا و الفيزياء و الكيمياء،التي تتشابك هذه العلوم مع بعضها لتصل إلى الكشف عن أسرار و حقائق الكون،الذي أرسى الحق تبارك و تعالى قواعدها بين دفّتي كتابه العظيم.
ص: 367
ص: 368
تمهيد.
المبحث الأول:ظلمات البحار و تنوع الأمواج.
المبحث الثاني:مرج البحرين يلتقيان.
المبحث الثالث:و البحر المسجور.
المبحث الرابع:اهتزاز الأرض بماء السماء.
ص: 369
ص: 370
الماء آية من آيات اللّه البديعة،و شارة ناطقة على عظمة الخالق،في بث روح الحياة في الكائنات كلها،و الحياة هي سر من أسرار اللّه في الكون،و بين الماء و الحياة تلازم وثيق،فلا حياة بدون ماء و لقد جعل العليم الخبير جل جلاله الماء سببا لاستمرار الحياة و بقائها،فمقوّمات الحياة و عناصر تكوينها المختلفة،لا يكتب لها البقاء و لا يمكن أن تستنشق روح الحياة إلا بالماء،فمن الماء الدافق خلق الإنسان و تكوّن،و من الماء مع التراب تزهو دنيا النباتات،و تتكاثر بقية المخلوقات و تسعد بنعمة الماء الزلال،قال تعالى: أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَ فَلا يُؤْمِنُونَ (1).
و لقد جعل الحق عز و جل للماء دورة متكاملة لاستمرار الحياة،بدءا من حرارة الشمس فبخار الماء فتكوين السحب ثم إمطار الماء من السماء،لتتفجر البراعم الخضراء الحية من أكمامها،و ترتوي الأنعام،و ينعم الإنسان،و تزهو الدنيا،قال تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النّاسَ وَ ما أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ وَ السَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (2).
و لقد ورد في القرآن الكريم الحديث عن الماء العذب و الماء الأجاج المالح،و أخذ الحديث عن البحار شوطا و مساحة ليست بالقليلة في كتاب اللّه تعالى،و ذلك للأهمية الآنفة،و لسوف يتناول في هذا الفصل قضايا بحرية عرضها الحق عرضا غاية في البيان الإعجاز،من ذلك الحديث عن مرج البحار و التقائها دون امتزاج أو بغي،و ما فيها من دلالات علمية و قرآنية،و كذلك الحديث عن ظلمات البحار المتنوعة،و ما حوت من
ص: 371
عجائب كثيرة كوجود أمواج داخلية تم الكشف عنها في زماننا،و قد ذكرها ربنا في كتابه المجيد بكل وضوح،ثم نعرج للحديث عن قسم القرآن بالبحر المسجور،و الذي تعرف عليه إنسان عصرنا و اكتشف وجود الحمم و البراكين الثائرة الملتهبة في قيعان البحار، ثم نعرض قضية اهتزاز التربة بماء السماء و ما رافق هذه العملية من إعجازات ربانية.
ص: 372
ظلمات البحار و تنوع الأمواج
قال تعالى: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (1).
تشير هذه الآية الكريمة إلى حقيقة علمية رائعة في علم البحار،فهي تحدثنا عن بعض مزايا البحر العجيب،و تكشف لنا طرفا من مشاهده المدهشة،ألا و هو وجود أمواج داخلية للبحر،و ظلمات متعددة فيه،و قبل سوق الحقائق العلمية التي تفسر هذه الآية و تؤكد حقائقها الثابتة،نستعرض بعض أقوال أهل العلم من المفسرين لنقف عند رؤيتهم العلمية لهذه الآية،و لنرى ذلك من خلال كلامهم عن معاني المصطلحات القرآنية من الناحية اللغوية.
ففي تفسير«فتح البيان»:(في بحر لجي،معظم الماء،و الجمع لجج،و هو الذي لا يدرك عمقه،ثم وصف سبحانه و تعالى هذا البحر بصفة أخرى فقال: يَغْشاهُ أي يعلو هذا البحر مَوْجٌ فيستره و يغطيه بالكلية،و الموج:ما ارتفع من الماء،ثم وصف هذا الموج بقوله: مِنْ فَوْقِهِ أي من فوق هذا الموج مَوْجٌ ثان متراكم فيه إشارة إلى كثرة الأمواج و تراكم بعضها فوق بعض،ثم وصف الموج الثاني فقال:
مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ فيجتمع حينئذ جوف البحر و أمواجه و السحاب المرتفع فوقه) (2).
و يقول القرطبي رحمه اللّه:( فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ قيل:هو منسوب اللجة،و هو الذي لا يدرك قعره و اللجة معظم الماء،و الجمع لجج،و اللج البحر إذا تلاطمت أمواجه...
يَغْشاهُ مَوْجٌ أي يعلو ذلك البحر اللجي: مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ أي من فوق الموج موج،و من فوق هذا الموج الثاني،سحاب سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ و المراد
ص: 373
بهذه الظلمات ظلمة السحاب و ظلمة الموج و ظلمة الليل و ظلمة البحر،فلا يبصر من كان في هذه الظلمات شيئا و لا كوكبا...
إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ أي الناظر لَمْ يَكَدْ يَراها أي من شدة الظلمات) (1).
و في تفسير«بحر العلوم»:( أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يعني:مثل الكافر كمثل رجل يكون في بحر عميق في الليل،كثير الماء يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ يعني يكون في ظلمة البحر،و ظلمة الليل،و ظلمة السحاب،فكذلك الكافر في ظلمة الكفر،و ظلمة الجهل و ظلمة الجور و الظلم،و يقال: يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ يعني المعاصي،و من فوقه العداوة و الحسد و البغضاء،و مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ يعني الخذلان من اللّه تعالى.
ثم قال: ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ كما قال للمؤمن: نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ فيكون للكافر ظلمة على ظلمة،قوله ظلمة،و عمله ظلمة،و اعتقاده ظلمة،و مدخله ظلمة، و مخرجه ظلمة و مصيره إلى الظلمة،و هو النار،و يقال:شبه قلب الكافر بالبحر العميق،و شبه أعضاءه بالأمواج الثلاث،طبع اللّه على قلوبهم و سمعهم و أبصارهم، فهذه الظلمات الثلاث تمنعه عن الحق،ثم قال:( إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها يعني لم يكن أقرب إليه من نفسه،فإذا أبرز يده لم يكد يراها من شدة الظلمة،و مع ذلك لم ير نفسه) (2).
و عند الطبري:(و مثل أعمال هؤلاء الكفار في أنها عملت على خطأ و فساد و ضلالة و حيرة من عمالها فيها و على غير هدى،مثل ظلمات في بحر لجّيّ،و نسب البحر إلى اللّجة،وصفا له بأنه عميق كثير الماء،و لجة البحر معظمه،يغشاه موج يقول:يغشى البحر موج،من فوقه موج يقول:من فوق الموج موج آخر يغشاه،من فوقه سحاب يقول:من فوق الموج الثاني الذي يغشى الموج الأوّل سحاب،فجعل الظلمات مثلا لأعمالهم،و البحر اللجي مثلا لقلب الكافر،يقول:عمل بنية قلب قد غمره الجهل و تغشّته الضلال و الحيرة كما يغشى هذا البحر اللّجيّ موج من فوقه موج من فوقه سحاب،فكذلك قلب هذا الكافر الذي مثل عمله مثل هذه الظلمات،يغشاه الجهل2.
ص: 374
باللّه بأن اللّه ختم عليه فلا يعقل عن اللّه،و على سمعه فلا يسمع مواعظ اللّه،و جعل على بصره غشاوة فلا يبصر به حجج الله،فتلك ظلمات بعضها فوق بعض) (1).
و لو فتشنا عن معنى لُجِّيٍّ في المعاجم،فسنجد:(لجة البحر حيث لا يدرك قعره، و لج الوادي جانبه،و لج البحر عرضه،و لج البحر الماء الكثير الذي لا يرى طرفاه...و لجة الأمر،معظمه،و لجة الماء بالضم معظمه،و خص بعضهم به معظم البحر،و كذلك لجة الظلام،و جمعه لج و لجج و لجاج) (2).
و في«العين»:(و لجة البحر حيث لا ترى أرض و لا جبل،و لجج القوم،دخلوا في لجة،و بحر لجي أي واسع اللجة) (3).
سبحان اللّه،ما هذا الوصف الدقيق لأمواج البحار و طبائعها،و الذي يتأمل الآية الكريمة،و يدقق بأقوال المفسرين ثم يربط ذلك في الزمن الذي نزلت فيه هذه الآية، و بالعصر الذي قال فيه المفسرون هذا الكلام،يقف مشدوها مستغربا من ذلك،لأنهم يتحدثون عن حقائق العلم التي وصل إليها إنسان القرن العشرين،و ما يدريهم هم بهذه الأمواج السطحية و الداخلية و الظلمات الدامسة في أعماق البحر،هل سبروا أغوار البحار و رأوها،هل التقطوا صورا فضائية و شاهدوها؟نعم إنهم شاهدوها بمنظار العقيدة و اليقين،و رأوها من خلال مرآة القرآن المعجز الكريم.
بوسعنا الآن أن نستنبط من الآية الكريمة ثلاث حقائق و هي:
1-هناك أمواج داخلية في أعماق البحر تحت الأمواج السطحية.
2-و هذه الأمواج غير موجودة في أيّ بحر،و إنما يجب أن يكون عميقا. لُجِّيٍّ .
3-المناخ الذي يحيط في تلك المنطقة ملبد بالسحب و الغيوم.
تلك هي التصورات القرآنية حول قضيتنا هذه،و قبل أن نثبت الحقائق العلمية التي وصل إليها البحاث،نشير إلى لفتة لطيفة في هذا الصدد،و هي قوله تعالى: أَوْ كَظُلُماتٍ ففي الآية إعجاز لأنها تتحدث عن ظلمات في أعماق البحر،و لقد تكررت مرتين لتوكيد هذه الظلمات،و لم يقل الحق:ظلام،إنما قال: كظُلُماتٍ و هذه6.
ص: 375
الظلمات بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ فما هو المقصود من هذه الظلمات،لقد كشف العلم عن السر الكامن من وراء هذه الكلمة و إليك بيانه.
(طيف النور،لو طبقت المنشور سينعكس إلى سبعة ألوان،و وجد العلماء أنه إذا وصل إلى عشرة أمتار سيختفي اللون الأحمر قبل تحوله إلى ظلمة،فيصبح لون الدم بعد عشرة أمتار أسودا،فإذا وصل إلى ثلاثين مترا،يبدأ ظلام آخر حيث يختفي اللون البرتقالي و يتحول إلى ظلمة ثانية،فإذا وصل إلى خمسين مترا،يبدأ ظلام جديد ثالث فيختفي اللون الأصفر،فيصبح ظلام اللون الأحمر فوق ظلام اللون البرتقالي و فوق ظلام اللون الأصفر،ظلمات متراكمة،ثم إذا ما وصل إلى مسافة 100 مترا يختفي اللون الأخضر،و إلى عمق خمس مائة متر،تختفي الألوان كلها إلا الأسود،فيبقى مميزا و كأنه ظل يتحرك أمام الرائي هناك،و على عمق 1000 متر تنعدم الرؤيا تماما، أ ليست هذه ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها لشدة الظلام أو الظلمات المطبقة) (1).
و حول هذه الحقيقة يتحدث كبار علماء البحار في كتاب كتبه ثلاثون عالما من العلماء المتخصصين في الملاحة البحرية،و جمع أبحاثهم ريتشارد فيتر (2)و عنون هذا الكتاب ب«علم المحيطات»و في تأكيد هذه الحقيقة و توضيحها،يقول الكابتن جاك كوستو (3)في مبحث من مباحث هذا الكتاب:(عند ما يخترق ضوء النهار البحر فإن اللونين الدافئين الأحمر و البرتقالي يزولان بسرعة و على عمق 50 مترا لا يبقى غير الألوان الخضراء و الزرقاء و الأرجوانية من ألوان الطيف،و مع ذلك إذا أدخلنا الضوء
ص: 376
صناعيا تحت الماء،فإن الأصقاع و حيوانات البحر العميقة سرعان ما تدب فيها الحياة بصبغة زاهية لم يكن في الحسبان أن تكشف عن نفسها،و على عمق ثلاثمائة متر يشع ضوء أحادي بلون كاف نستطيع به أن نرى أشكال الصخور أو حركة الأسماك،و على عمق ألف متر و حتى في أفضل الظروف و أنسبها،فالليل أبدى للعين البشرية،فالرؤية تكون أحيانا سيئة في مصبات الخلجان و الموانئ أو المدن،و لكن الماء يكون صافيا بصفة عامة أو شديد الصفاء في المحيط المفتوح أو العمق الأخضر،و عند ما يبدو الماء صافيا كالبلور فإن الرؤية لا تزيد عادة على ثلاثين مترا للغواصين شأنها في ذلك شأن ضباب مدينة مثل لندن) (1).
سبحان اللّه،من أخبر محمدا صلى اللّه عليه و سلم بهذه الظلمات في البحر؟.
إن الذي أخبره عن الظلمات البحرية هو الذي أنبأه عن الأمواج الداخلية،و عن العلاقة بين السحب الجوية و الأمواج.
قال تعالى: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ الآية تتحدث عن وجود أمواج داخلية في أعماق البحر،و أخرى سطحية من فوقها سحاب، فما ذا قال العلم في ذلك؟.
في كتاب«علم المحيطات»عقد فصل بعنوان«الأمواج»و تحدث عن الأمواج بنوعيهما الخارجية و الداخلية،أما عن الأمواج الداخلية فقال:(لقد تكلمنا لحد الآن عن الأمواج التي تقع في المنطقة الواقعة بين سطح الماء و الهواء،و لكن يمكن للأمواج أن تمتد بين أي سائلين مختلفي الكثافة،فمثلا بين الزئبق و الهواء،و بين النفط و الماء، و بين طبقات ماء المحيط ذات درجات الكثافة المختلفة،و كلما كان الاختلاف كبيرا في الكثافة بين السائلين،كلما انتقلت الأمواج بصورة أسرع،فمثلا لكون الزئبق كثيف جدا بالمقارنة مع الهواء فإن الأمواج فوق الزئبق ستنتقل بسرعة كبيرة،و من جهة أخرى فالماء أكثف من الزيت بكثير لذلك سوف تتحرك الأمواج بين السائلين بصورة بطيئة،و عند تواجد طبقتين من ماء المحيط ذات درجات كثافة مختلفة قليلا،يمكن أن تتكون الأمواج بين هاتين الطبقتين و تدعى هذه الأمواج الداخلية (internal wave) و تنتشر ببطء متناه) (2).3.
ص: 377
(و لقد تحدث العلماء عن صنف من الأمواج الداخلية و يدعى أمواج التسونامي (tsunami) و هي نوع من الأمواج التي تسير بسرعة هائلة تبلغ 600 قدم في الثانية، و تحدث في الطبقات العميقة من المحيطات نتيجة الزلازل و البراكين و أحيانا الانفجارات الذرية،و هذه الأمواج قليلة الحدوث،إلا أنها خطيرة جدا،و ينشأ عنها خسائر فادحة،علاوة على أنه لا يمكن التنبؤ بها) (1).
و في كتاب«الماء و الحياة بين العلم و القرآن»:(و نحن نعلم بأن هناك أمواجا على سطح البحر تعرفها جميعا،و هي صغيرة الحجم بالنسبة لما كشفه العلم سنة ألف و تسعمائة بواسطة علماء(إسكندينافة)و هي الأمواج الداخلية في أعماق البحر المحيط،و دعم ذلك ما قامت به الأقمار الصناعية من استشعار عن بعد،و تصوير لهذا النوع الجديد من الأمواج سنة ألف و تسعمائة و ثلاث و سبعين و الذي ما عرفه إنسان قبل التاريخ و لا بعده إلا منذ سبع سنوات فقط،و طول هذه الأمواج السحيقة العملاقة يبلغ عشرة كيلومترات،و سمكها آلاف الأمتار...و المسافة بين الموجة السحيقة و الأخرى المجاورة لها في الأعماق تبلغ 3-4 ك.م،و هذا نوع كبير جدا إذا قورن بالأمواج السطحية التي توجد فوق سطح المحيط،و التي ما كنا نعرف غيرها من أنواع الأمواج إلا أخيرا،و هذا النوع السحيق يسود في البحار المظلمة،مثل المحيط الهادي و الأطلنطي،فالمحيط الهادي سحيق الغور و أعمق مناطق العالم تقع فيه،و هو أخدود (المارياناز)الذي يصل عمقه إلى 36056 قدما،و هذه المناطق المظلمة هي التي يستحيل وصول ضوء الشمس إليها،لعمقها الشديد،و تراكم طبقات المياه الكثيفة، و قيام الطبقة السطحية من المحيط بإعكاس ضوء الشمس...و لذلك فقد صمم الخالق الأعظم أنواع الأسماك هناك بلا عيون،لأنها لا تستخدمها في الرؤية،و تعيش هذه الأسماك هناك بسمعها و لكن لا تبصر،و هذا الظلام لا يكون كما رأينا في كل بحار الدنيا،و إنما البحار العميقة فقط،و الغريب أن محمدا صلى اللّه عليه و سلم قال بذلك رغم أن ما يحيط بالجزيرة العربية من الشرق هو الخليج العربي و هو ليس بحرا لجيا،و البحر الأحمر من الغرب،و هو بحر داخلي قليل العمق،و بحر العرب من الجنوب و هو الآخر ليس بحرا لجيا...
إنه لإعجاز حقا أن يخبرنا القرآن منذ ألف و أربعمائة عام بتلك الظاهرة،فالظلمات7.
ص: 378
التي ذكرها القرآن لا توجد في البحار المحيطة بمهبط رأس الرسول صلى اللّه عليه و سلم و موطنه،فمن كشف لمحمد هذه الأسرار؟و من كشف له عن ظلمات السحب في هذه المناطق التي يتميز مناخها بالاضطرابات و الأعاصير و تراكم السحب السوداء في سماءها؟إنه اللّه سبحانه و تعالى الذي أخبره عن طريق الوحي بكل ذلك و جعله سهل الفهم على حسب مدارك ابن الصحراء،و ابن عصر الفضاء على حد سواء) (1).
لقد أثبت القرآن الكريم أن هناك أمواجا داخلية غير الأمواج السطحية،و هذه الأمواج تتواجد في المحيطات العميقة اللجية،و التي تتلبد سماؤها بالغيوم،أما البحار التي قعرها قريب و سماؤها صافية،فلا يوجد فيها أمواج داخلية،و هذا ما أكده العلم و قرره،فالأمواج الداخلية تتواجد في المحيط الهادي و الأطلنطي...فهل ملك محمد صلى اللّه عليه و سلم الأقمار الصناعية لتصوير هذه الأمواج أم أنه وحي السماء.
ص: 379
مرج البحرين يلتقيان
قال تعالى:« مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ(19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ(20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ(21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ(22) » (1).
و قال تعالى: أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَ جَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَ جَعَلَ لَها رَواسِيَ وَ جَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَ إِلهٌ مَعَ اللّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (2).
و قال تعالى: وَ هُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَ جَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَ حِجْراً مَحْجُوراً (3).
في هذه الآيات إعجاز علمي رائع في عالم البحار،حيث إنها تتحدث عن بحرين يختلطان لكن دون امتزاج،بسبب وجود برزخ بينهما،و قبل أن نثبت الحقائق العلمية التي تفسر هذه الآيات،نورد أقوال المفسرين لنرى كيف فهموا هذه الآيات القرآنية التي تتضمن بعض الظواهر الكونية،و لنقف عند التحليل اللغوي لبعض المصطلحات القرآنية هنا.
قال الطبري رحمة اللّه:(و اللّه الذي خلط البحرين،فأمرج أحدهما في الآخر،و أفاضه فيه،و أصل المرج الخلط،ثم يقال للتخلية:مرج،لأن الرجل إذا خلى الشيء حتى اختلط بغيره،فكأنه قد مرجه...و إنما قيل للمرج مرج من ذلك،لأنه يكون فيه أخلاط من الدوابّ،و يقال:مرجت دابتك:أي خليتها تذهب حيث شاءت) (4).
ص: 380
و قال الزمخشري:(مرج البحرين،أرسل البحر المالح و البحر العذب،متجاورين متلاقيين لا فصل بين الماءين في مرأى العين، بَيْنَهُما بَرْزَخٌ حاجز من قدرة اللّه تعالى لا يَبْغِيانِ لا يتجاوزان حدّيهما و لا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة) (1).
و عند الرازي:( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أي خلاهما و أرسلهما يقال:مرجت الدابة إذا خليتها ترعى و أصل المرج الإرسال و الخلط،سمى الماءين الكبيرين الواسعين بحرين،قال ابن عباس:مرج البحرين أي أرسلهما في مجاريهما كما ترسل الخيل في المرج و هما يلتقيان،و قوله: هذا عَذْبٌ فُراتٌ و المقصود من الفرات البليغ في العذوبة حتى يصير إلى الحلاوة،و الأجاج نقيضه،و أنه سبحانه بقدرته يفصل بينهما و يمنعهما التمازج، و جعل من عظيم اقتداره برزخا حائلا من قدرته،و هاهنا سؤالات:
السؤال الأول:ما معنى قوله: وَ حِجْراً مَحْجُوراً ؟الجواب:هي الكلمة التي يقولها المتعوذ و قد فسرناها،و هي هاهنا واقعة على سبيل المجاز،كأن كل واحد من البحرين يتعوذ من صاحبه و يقول له حجرا محجورا،كما قال: لا يَبْغِيانِ أي لا يبغي أحدهما على صاحبه بالممازجة،فانتفاء البغي ثمة كالتعوذ،و هاهنا جعل كل واحد منهما في صورة الباغي على صاحبه،فهو يتعوذ منه و هي من أحسن الاستعارات) (2).
و في«أنوار التنزيل»:(خلاهما متجاورين متلاصقين بحيث لا يتمازجان،من مرج دابته إذا خلاها، هذا عَذْبٌ فُراتٌ قامع للعطش،من فرط عذوبته وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ بليغ الملوحة و قرئ مِلْحٌ على فعل،و لعل أصله مالح فخفف كبرد في بارد، وَ جَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَ حِجْراً مَحْجُوراً حاجزا من قدرته، وَ حِجْراً مَحْجُوراً و تنافرا بليغا،كأن كلا منهما يقول للآخر ما يقوله المتعوذ للمتعوذ عنه،و قيل:حدا محدودا،و ذلك كدجلة تدخل البحر فتشقه فتجري في خلاله فراسخ لا يتغير طعمها و قيل:المراد بالبحر العذب،النهر العظيم مثل النيل و بالبحر الملح البحر الكبير،و بالبرزخ ما يحول بينهما من الأرض فتكون القدرة في الفصل و اختلاف الصفة،مع أن مقتضى طبيعة أجزاء كل عنصر أن تضامت و تلاصقت و تشابهت في الكيفية) (3).4.
ص: 381
و نفس المعنى في«تفسير القرآن»:( وَ هُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أي خلط البحرين، و قيل:أرسل البحرين،و قوله: هذا عَذْبٌ فُراتٌ العذب،يسمى كل ماء عذب فراتا، و يسمى كل ماء ملح بحرا،و أُجاجٌ أي شديد الملوحة،و قيل:مرّ،و قوله: وَ جَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً اليبس بين البحرين و البرزخ هو الحاجز،و قوله: وَ حِجْراً مَحْجُوراً أي مانعا ممنوعا) (1).
و نحلل بعض المصطلحات القرآنية الواردة هنا مثل:مرج،و أجاج،و برزخ من المعاجم:
ففي«لسان العرب»:(مرج،مرج الدين و الأمر اختلط و اضطرب،و منه الهرج و المرج،و يقال إنما يسكن المرج لأجل الهرج،ازدواجا للكلام...و المرج الخلط و مرج اللّه البحرين العذب و الملح:خلطهما حتى التقيا) (2).
و معنى الأجاج،من الأجة(و الأجة الاختلاط و شدة الحر،و قد ائتج النهار و تأج و تأجج،و ماء أجاج،ملح مر) (3).
و في«مختار الصحاح»:(الأجيج تلهب النار،و قد أجت تؤج أجيجا،و أججها غيرها فتأججت و ائتجت،و ماء أجاج أي ملح مر) (4).
و أما البرزخ فهو:(البرزخ ما بين كل شيئين،و في الصحاح،الحاجز بين الشيئين، و البرزخ ما بين الدنيا و الآخرة قبل الحشر من وقت الموت إلى البعث،فمن مات فقد دخل البرزخ...و البرزخ ما بين كل شيئين،و منه قيل للميت:هو في برزخ لأنه بين الدنيا و الآخرة...و البرازخ جمع برزخ،و قوله تعالى: بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ يعني حاجزا من قدرة اللّه سبحانه و تعالى،و قيل:أي حاجز خفي) (5).
يتّضح لنا من هذا العرض أن المقصود من قوله تعالى: مَرَجَ أي خلط،و بَرْزَخ أي حاجزا،و لزيادة الإيضاح نقول:إن كلمة البحر إذا أطلقت في لغة العرب،تنصرف إلى البحر المعهود ذي الماء الكثيف المالح،أما إن خصصت بقيد،كقولنا:«بحر3.
ص: 382
عذب»فينصرف المعنى إلى المخصص و إلى المقيد،فالبحر العذب أي النهر،و هذا ما رأيناه في بعض التفاسير،و بوسعنا الآن بعد هذه الإشارات أن نحلل الآيات القرآنية، ثم نثبت الحقائق العلمية على ضوء ذلك.
تتحدّث الآية الأولى عن بحرين يلتقيان و يختلطان،إلا أن هذا الاختلاط كان سلميا،لا ظلم فيه و لا بغي و لا تعدّي على حقوق أحد،فلم يبغ أحدهما على الآخر بوجود البرزخ،الحاجز بينهما و المعنى نفسه تتحدث عنه الآية الثانية،فهي تشير إلى وجود حاجز بين البحرين،إن هذه الحقيقة العلمية اعتقد بها المسلمون قديما،كما رأينا من عرض أقوال المفسرين لكنهم لم يروها في عالم الشهادة،فاعتقادهم بها كان نابعا من يقينهم الجازم الذي لا يخامره أدنى ريب،أن هذا الكلام هو كلام الخالق العظيم،و بالتالي فحقائقه كلها صادقة و واقعة،فالرجل كان ينظر في البحر،أو يركبه فلا يرى حواجز و لا فواصل فيه،إلى أن جاء العلم الحديث و كشف عن هذه الحقيقة الكونية و المعجزة القرآنية،و أثبت أن هناك حواجز حقيقية بين البحار.
(نشرت بعثة(السير جون أمري)مع بعثة الجامعة المصرية بخفر السواحل لدراسة أعماق البحر الأحمر و المحيط الهندي في جنوب عدن،و بعض الملاحظات التي تسترعي النظر و مما جاء أن البعثة وجدت المياه في خليج العقبة تختلف في خواصها و تركيبها الطبيعية و الكيميائية عن المياه في البحر الأحمر،و حققت البعثة بواسطة قياس الأعماق،وجود حاجز مغمور عند مجمع البحرين يبلغ ارتفاعه أكثر من ألف متر و تبعد قمته نحو 300 متر عن سطح البحر.
و تماثل هذه النتيجة ما وصلت إليه السفينة(مباحث)في رحلتها الأولى في المحيط الهندي و البحر الأحمر،إذ حققت وجود حاجز مغمور بين البحرين،و أثبتت المشاهد بالتحليل الكيميائي،أن مياه المحيط الهندي تختلف في خواصها الطبيعية و(الكيميائية) عن مياه البحر الأحمر،و يعلل علماء البحار الاختلاف في خواص الماء في المحيط الهندي و البحر الأحمر،و في خواصه في خليج العقبة و البحر الأحمر بوجود الحاجز المغمور عند ملتقى كل بحرين) (1).
ص: 383
هذا عن التقاء البحرين،لكن ما معنى قوله تعالى: وَ هُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَ جَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَ حِجْراً مَحْجُوراً .
هذه الآية تتحدث عن التقاء نهر و بحر هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ و هما مختلطان لكن في نفس الوقت يوجد بينهما فاصل،برزخ.
إن هذا المفهوم القرآني،فسّره العلم الحديث و أكد حقائقه الثابتة...
فقد أثبتت الدراسات أن البحر الأبيض المتوسط في لقائه مع المحيط الأطلسي عند مضيق جبل طارق بينهما برزخ،و من خلال التحليل الكيميائي لمياه كل منهما و جدوا أن البحر الأبيض المتوسط بالمقارنة مع المحيط الأطلسي حار و يختلف في ملوحته، فالبحر المتوسط أكثر ملوحة من الأطلسي و أكثر حرارة،و يختلف كل منهما في الكائنات الحية.
(أما بالنسبة لالتقاء الأنهار مع البحار و اختلاطهما مع وجود البرزخ فقد أصبحت هذه الحقيقة من القضايا الثابتة علميا و يعبر عنها بالاصطلاح العلمي ب ظاهرة التوتر السطحي (Surface Tension) ،و ملخصها ما يلي:أن كلا من الماء العذب و الملح،نظرا لاختلاف كثافتهما لا يتحد مع الآخر و لا يختلط به،و إنما تنزع جزئيات الماء في كل منهما إلى الانكماش و التجاذب محدثة توترا في سطح كل منهما الأمر الذي يكوّن أغلفة شفافة فاصلة بين الكتلتين لا يمكن رؤيتها و بذلك لا تبغي إحداهما على الأخرى بالاختلاط...و في الخليج العربي تندفع الأنهار الجوفية العذبة قرب البحرين و قطر، في مياه الخليج المالحة دون أن يختلط أحدهما بالآخر،و عند ملتقى نهر(الكنج و الجامونا)و في مدينة( الله آباد)يتّحد ماء النهرين مع بقاء غشاء التمدد السطحي،فاصلا بينهما طوال مسيرتهما و عند لقاء نهر النيل بمياه البحر المتوسط المالح،يندفع خط من الماء الحلو و يشق طريقه وسط مياه البحر المالحة دون أن يختلط بها،و في باكستان الشرقية يسير نهران من(تشاتغام)إلى مدينة(أركان)في(بورما)و يمكن مشاهدة النهرين في نهر واحد،يفصل بينهما شريط من الماء الملحي يسير كل من الماء العذب و الملح في جانب دون اختلاط أو ذوبان،و عند حدوث المد البحري بفعل جاذبية القمر ليلا، يرتفع مستوى الماء البحري عند الشواطئ و بالتالي عند أفواه الأنهار التي تصب في
ص: 384
البحار،و تندفع مياه البحر المالحة متوغلة في عمق مصب النهر العذب لمسافات كبيرة فوق ماء النهر،و يبقى الملح ملحا و العذب عذبا) (1).
و في كتاب«علم البحار»عقد فصل بعنوان(أنهار عظيمة في البحر)و تحدث عن وجود العديد من الأنهار في البحار و الخلجان و المحيطات،و مما جاء فيه:(توجد أعظم أنهار الدنيا في البحر،و يبدو نهر(الميسيسيبي)،أو حتى نهر(النيل)،أو نهر (الأمازون)بجانبها و كأنه غدير،و يبدو غريبا أن تستطيع تيارات من المياه أن تتحرك لمثل هذا البعد خلال مياه أخرى دون أن تختلط بها،و في بعض الأحيان تتميز ضفتاه بوضوح يشبه تقريبا وضوحها لو كان المجرى على الأرض،و قد توقفت مرة باخرة خفر السواحل الأمريكية المسماة(تمبا)على حافة أحد هذه الأنهار البحرية الغريبة،لقياس درجة حرارة الماء و كانت درجة الحرارة عند مقدم الباخرة 56 درجة،و عند مؤخرتها 34 درجة فقط،و قد يختلف أيضا تيار الماء المتحرك في لونه عن ماء البحر المحيط به، و في بعض الأحيان يكون سطحه هائجا،أو قد يغطيه الضباب،و أعظم الأنهار البحرية هذه هو تيار الخليج،فهو ينساب خارجا من خليج(المكسيك بين كوبا و فلوريدا)، و هناك يتحرك بسرعة خمسة كيلومترات في الساعة،أو بسرعة مشي الإنسان العادية، و عرضه 145 كيلومترا ،و عمقه في بعض الأماكن من 800 متر،و يمر بليون طن من الماء تقريبا على طول ساحل(فلوريدا)كل دقيقة...و يحمل تيار الخليج عند انسيابه من البحار الحارة ماء دافئا،و يحتفظ بجزء كبير من دفئه و هو يعبر المحيط(الأطلسي)، و توجد أنهار عظيمة في المحيط(الهادي)أيضا) (2).
لكن في نهاية الآية نجد إشارة أخرى هي قوله تعالى: وَ حِجْراً مَحْجُوراً و هذه الإشارة تعتبر زيادة عن الآيتين السابقتين،فما معنى وَ حِجْراً مَحْجُوراً ؟.
الحجر لغة:(المنع،و أصل الحجر في اللغة،ما حجرت عليه أي منعته من أن يوصل إليه،و كل ما منعته منه) (3).3.
ص: 385
فالحجر المحجور:هو المكان الذي يمنع الدخول إليه و الخروج منه،و هذا المعنى القرآني أثبته العلم الحديث في أبحاثه و دراساته البحرية.
(و ذلك يتم عند التقاء النهر العذب بالبحر المالح فتتشكل منطقة ثالثة ليست بحرا و لا نهرا تسمى(منطقة المصب)فيتضح للرائي النهر و يتميز عن البحر،لكن منطقة المصب تختلف عن البحر و النهر من ناحية الكثافة و الملوحة و حتى في الكائنات الحية،و هنا تظهر ومضة الإعجاز القرآني في قوله سبحانه و تعالى: وَ حِجْراً مَحْجُوراً فمما ثبت أن الكائنات الحية التي تعيش في منطقة النهر لو دخلت في منطقة المصب لماتت،و كذلك فإن الكائنات الحية التي تعيش في منطقة البحر لو دخلت منطقة المصب تموت، و الكائنات الحية التي في منطقة المصب لو دخلت منطقة النهر أو البحر تموت أ ليس حجرا محجورا،لا إله إلا اللّه و سبحان الخالق العظيم،ما أدرى محمدا بهذه المعلومات البحرية و هذه الخصائص العلمية،إنه الحق) (1).
و في كتاب«علم المحيطات»:(الفرق بين البحار و المصبات يرجع إلى مسألة الحجم،و يحدّد الدوران في بحر ما،فيما إذا كان معدل التبخر يزيد على معدل الماء العذب الذي يدخل البحر،فإذا كان التبخر أكبر،فإن المياه السطحية ستصبح أكثر ملوحة باستمرار و تغطس،و تجدد مياه القاع،أما إذا كان الماء العذب الداخل أكبر فإن مياه السطح تميل إلى أن تبقى على السطح،و تميل مياه القاع إلى أن تكون راكدة و عديمة الحياة،و بصورة خاصة إذا كان البحر مفصولا عن المحيط بواسطة عتبة ضحلة،و توجد المصبات عادة في الأماكن التي يمتزج فيها الماء العذب مع الماء المالح،و هي المناطق التي تكون أكثر عرضة لتأثيرات التلوث) (2).
من الذي أخبر محمدا صلى اللّه عليه و سلم بهذه القوانين البحرية و بهذه التفاصيل العلمية؟و هو النبي الأمي الذي لم يركب البحر قط،بل كان يعيش بين بحار من الرمال و الجبال الجرداء...إن الذي أنبأه بذلك هو العليم الخبير،الذي أذن لإنسان عصرنا أن يكشف
ص: 386
عن بعض وجوه إعجاز القرآن الكريم ليتحقق قول اللّه تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ .
صورة رقم:(30)،تظهر مكان التقاء نهر الميسيسيبي بالبحر(دلتا المسيسبي)
ص: 387
و البحر المسجور
قال تعالى: وَ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (1).
هذا قسم اللّه سبحانه و تعالى بالبحر،و قد وصف هذا البحر بأنه مسجور،و القسم كما هو معلوم يؤتى به للتوكيد،و كلام اللّه لا يحتاج لتوكيد،و من أصدق من اللّه قيلا، لكن لينبه الغافلين و يرشد الطائعين،و يقيم الحجة على الكافرين.
و هذا التوكيد على أن البحر مسجور،سيق في معرض الحديث عن دلائل قدرة اللّه و عظمته و تهديد الكافرين المعرضين عن دين اللّه و شرعه،فهو حديث عن بحر مسجر في الدنيا،غير الحديث المعهود عن قيام الساعة و نهاية الحياة و دمار الكون و تسجير البحار و ذلك في قوله تعالى: وَ إِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (2)فهذه الآية تتحدث عن نهاية الكون و تسجير البحار،و إذا،كما هو معروف ظرف لما يستقبل من الزمن،أي في المستقبل إبان خراب الكون ستسجر البحار و تتحول كلها إلى كتل نارية.
و ما يهمنا هنا،هو قسم اللّه عز و جل بوجود بحر مسجور في الأرض التي تقلنا،و هذا البحر بل و البحار بان تسجيرها في زمن العلم،لكن قبل التعرض للحقائق العلمية في ذلك،سنتعرف على معنى المسجور لغة من خلال تحليل العلماء لهذه الكلمة في تفاسيرهم و كتب اللغة.
يقول الإمام الطبري:(اختلف أهل التأويل في معنى البحر المسجور،فقال بعضهم:الموقد،و تأوّل ذلك و البحر الموقد المحمي،ذكر من قال ذلك عن سعيد بن المسيب،قال:قال عليّ رضي اللّه عنه لرجل من اليهود:أين جهنم؟فقال:البحر،فقال:ما أراه إلا صادقا،و البحر المسجور و إذا البحار سجرت مخففة...و عن مجاهد،
ص: 388
وَ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ قال:الموقد) (1).
و في«إرشاد العقل السليم»:( وَ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ أي المملوء و هو البحر المحيط أو الموقد) (2).
و يقول الزمخشري: وَ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (أي المملوء،و قيل الموقد) (3).
و عند القرطبي:( وَ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ قال مجاهد:الموقد المحمي بمنزلة التنور المسجور...و قال عبد اللّه بن عمرو:لا يتوضأ بماء البحر لأنه طبق جهنم) (4).
و في«مفردات ألفاظ القرآن»:(السجر،تهييج النار،يقال:سجرت التنور،و منه وَ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ) (5).
و في«لسان العرب»:(سجره ملأه،سجرت النهر ملأته،و قوله تعالى: وَ إِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ لا وجه له إلا أن تكون ملئت نارا،و قوله تعالى: وَ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ جاء في التفسير أن البحر يسجر فيكون نار جهنم،سجر يسجر و انسجر امتلأ،و كان علي بن أبي طالب عليه السّلام يقول:المسجور بالنار أي مملوء،قال المسجور في كلام العرب المملوء و قد سكرت الإناء و سجرته إذا ملأته) (6).
إذن يتضح لنا من هذا الكلام،أن المقصود بالمسجور هو الموقد أو المهيج بالنار، و قسم اللّه سبحانه و تعالى هذا فيه دلالة صريحة على وجود بحار مسجرة بالنيران،إذ أن المقصود بالبحر المسجور هنا هو من بحار الدنيا و ليس الآخرة،و قد شاء اللّه سبحانه و تعالى أن تتجلّى هذه الحقيقة القرآنية في عصر العلم،و يصل علماء البحار إلى التأكد الجازم من وجود براكين ملتهبة بالنار في القيعان.4.
ص: 389
يقول الدكتور جمال الدين الفندي في كتابه«طبيعيات البحر و ظواهره»:(أثبتت الدراسات أن في قشرة قاع المحيط يوجد بعض الثغرات أو الشقوق العميقة،نتيجة التصدع بتقلصات القشرة لإحداث التوازن و اختلافات الحرارة،و ما يتبع هذه الاختلافات من تمدّد بالتسخين و تقلص بالبرودة،و على طول مثل هذه الأماكن المتمددة الضعيفة،تندفع الحمم البركانية المنصهرة من باطن الأرض من خلال قشرة القاع ثم تنبثق متدفقة في البحر،إلا أنها تلقى مقاومة بسبب ثقل مياه البحار،و برغم ذلك فإن براكين البحر أيضا تقذف حممها إلى أعلى،كما تبني فوهاتها المخروطية صاعدة نحو السطح بتوالي تراكم الحمم المنصهرة،و قد تسبب الانفجارات البركانية نسف الجزر أو اختفائها،و من أمثلة ذلك ما حدث في عام 1883 عند ما انفجرت جزيرة(كاراكاتوا)من مجموعة جزر الهند الشرقية برمتها،و بعد يومين من تعاقب الانفجارات البركانية أصبحت هذه الجزيرة التي كانت تعلو سطح البحر بنحو 1400 قدم،مجرد شعبة منخفضة عن سطح الماء بنحو 1000 قدم،و لم يبق ظاهرا منها إلا جزء من حافة قمتها الأصلية) (1).
و عقد فصلا جورج جامو في كتابه«كوكب اسمه الأرض»تحت عنوان:جهنم تحت أقدامنا،و تحدث فيه عن تسجير قاع البحر،و النار و البراكين النشطة فيه،يقول في مطلعه:(ازدياد الحرارة مع العمق:إن سحب الدخان الأسود المتصاعد من فوهات البراكين الثائرة،و الحمم الملتهبة المتدفقة على جوانبها،و عيون المياه الساخنة،كل هذا دعا الأقدمين إلى الاعتقاد بوجود نار متقدة ليست بعيدة تحت أقدامنا أعدت للخاطئين...) (2).
و في«موسوعة الظواهر الطبيعية»:(و لانفجار البراكين في قيعان المحيطات و البحار أثر نشوء الأمواج العالية و السريعة،التي تحطم و تكتسح ما تصادفه في طريقها...أما البراكين أو جبال النار فهي المنافذ التي تقذف منها المواد الأرضية الباطنية المنصهرة، عند ما يشتد ضعفها) (3).
ص: 390
لقد قرر كتاب اللّه تعالى أن قاع البحار مسجرة بالنار،و لم يكن يعلم قبل و مع نزول القرآن الكريم هذه الحقيقة العظمى،حتى بداية القرن العشرين حيث تبين للعلماء أن قاع البحار مسجرة و مضطرمة بالنيران،غير أن الحق قرّر هذه الحقيقة البحرية بقوله:
وَ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ،فمن الذي أخبر محمدا صلى اللّه عليه و سلم بأن البحر قاعه ملتهب و متفجر بالبراكين التي تقذف الحمم النارية،و رسول اللّه لم يركب البحر قط،و لم يكن في عصره غواصات بحرية تصور تلك المشاهد العجيبة في قاع البحر؟إنه الحق.
رسم يوضح البراكين تحت البحار
ص: 391
اهتزاز الأرض بنزول ماء السماء
قال تعالى: وَ تَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (1).
و قال سبحانه و تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2).
في هاتين الآيتين حقائق علمية و عطاءات جيولوجيا مدهشة،فالقرآن يصف سطح الأرض بأنه هامد و خاشع،ثم إنه يعقب على ذلك بحيث إذا نزل ماء السماء،حدث في الأرض اهتزاز مما يؤدي إلى زيادة في الأرض.
هذه الصورة القرآنية هي صورة وصفية لأدق الحقائق العلمية،التي وفّق إنسان عصرنا للكشف عنها و التعرف على مراحلها بدقة،و حري بنا أن نقف عند ما قاله المفسرون و أصحاب اللغة في هاتين الآيتين الكريمتين.
يقول الإمام الطبري:(و ترى الأرض يا محمد يابسة دارسة الآثار من النبات و الزرع،و أصل الهمود الدروس و الدثور،و يقال منه:همدت الأرض تهمد همودا) (3).
و عند الرازي:( وَ تَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً و همودها يبسها و خلوها من النبات و الخضرة فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ و الاهتزاز الحركة على سرور فلا يكاد يقال اهتز فلان لكيت و كيت إلا إذا كان الأمر من المحاسن و المنافع فقوله: اِهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ أي تحركت بالنبات و انتفخت،أما قوله: وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ فهو
ص: 392
مجاز،لأن الأرض ينبت منها و اللّه تعالى هو المنبت لذلك،لكنه يضاف إليها توسعا، و معنى مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ من كل نوع من أنواع النبات من زرع و غرس،و البهجة حسن الشيء و نضارته،و البهيج بمعنى المبهج) (1).
و قال الإمام القرطبي:(الاهتزاز:شدّة الحركة،يقال:هززت الشيء فاهتز،أي حركته فتحرك و هزّ الحادي الإبل هزيزا فاهتزت هي إذا تحركت في سيرها بحدائه، و اهتز الكوكب في انقضاضه و كوكب هازّ،فالأرض تهتز بالنبات لأن النبات لا يخرج منها حتى يزيل بعضها من بعض إزالة خفية فسماه اهتزازا مجازا...و الاهتزاز في النبات أظهر منه في الأرض، وَ رَبَتْ أي ارتفعت و زادت و قيل:انتفخت و المعنى واحد،و أصله الزيادة،ربا الشيء يربو ربوّا أي زاد،و منه الربا و الرّبوة) (2).
و يقول سيد قطب رحمه اللّه في تفسيره«الظلال»:(الهمود درجة بين الحياة و الموت، و هكذا تكون الأرض قبل الماء،و هو العنصر الأصيل في الحياة و الأحياء،فإذا نزل عليها الماء اهتزت و ربت،و هي حركة عجيبة سجّلها القرآن قبل أن تسجّلها الملاحظة العلمية بمئات الأعوام،فالتربة الجافة حين ينزل عليها الماء تتحرك حركة اهتزاز،و هي تشرب الماء فتنتفخ و تربو ثم تفتح بالحياة عن النبات من كل زوج بهيج،و هل أبهج من الحياة و هي تتفتح بعد الكمون،و تنتفض بعد الهمود) (3).
و أما الآية الثانية و التي ذكرت خاشِعَةً دون هامِدَةً فيقول الإمام الرازي:
(الخشوع التذلل و التصاغر،و استعير هذا اللفظ لحال الأرض حال خلوها عن المطر و النبات فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ أي تحركت بالنبات،و ربت،انتفخت لأن النبت إذا قرب أن يظهر ارتفعت له الأرض و انتفخت،ثم تصدعت عن النبات،ثم قال: إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى يعني أن القادر على إحياء الأرض بعد موتها هو القادر على إحياء هذه الأجساد بعد موتها) (4).7.
ص: 393
و في تفسير«النكت و العيون»:( وَ مِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً خاشعة،أي ذليلة بالجدب لأنها مهجورة) (1).
و بالعودة إلى معاجم اللغة نتبين معنى كل من«خاشعة،و هامدة،و اهتزت،و ربت»، أما معنى خاشعة،ففي لسان العرب:(الخاشعة المتغبرة المتهشمة و أراد المتهشمة النبات،و بلدة خاشعة أي مغبرة لا منزل بها،و إذا يبست الأرض و لم تمطر قيل قد خشعت قال تعالى: وَ تَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ و العرب تقول:رأينا أرض بني فلان خاشعة) (2).
و أما هامدة،ففي«مفردات ألفاظ القرآن»:(أرض هامدة:لا نبات فيها،و نبات هامد:يابس،قال تعالى: وَ تَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً (3).
و في كتاب«العين»:(الهمود الموت كما همدت ثمود،و رماد هامد إذا تغير و تلبد، و ثمرة هامدة إذا اسودت و عفنت،و أرض هامدة مقشعرة لا نبات فيها إلا يبيس متحطم، و الهامد من الشجر اليابس) (4).
و معنى اهتزت أي(تحركت،و اهتز النبات:إذا تحرك لنضارته قال تعالى: فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ ) (5).
و معنى ربت(ربا:إذا زاد و علا،قال تعالى: فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ أي زادت زيادة المتربي) (6).
هذا هو التحليل اللغوي لمفردات الآية الكريمة،و تلك هي معانيها في كتب المفسرين،و لنا أن أن نستخلص بعض النتائج من معطيات هذه النصوص القرآنية،بعد ما سلف من توضيح العلماء.0.
ص: 394
أولا:عند ما تكون الأرض هامدة لا حراك فيها،فإذا أنزل اللّه عليها الماء أحدثت أولا اهتزازا.
ثانيا:المرحلة الثانية بعد الاهتزاز تربو،أي تزداد.
ثالثا:المرحلة الثالثة بعد الزيادة تنتج الزروع و الثمار،و تكثر المحاصيل و يزداد الإنتاج.
و يشار إلى قضية هامة و هي:أن هناك فرقا دقيقا بين الأرض الهامدة و الأرض الخاشعة،فالأرض الهامدة هي اليابسة القاحلة التي لا حياة فيها،بسبب ما أصابها من جدب و قحط و انعدام الماء،و هذا بخلاف الأرض الخاشعة التي يوجد فيها النباتات و الزروع،إلا أن العطش و قلة الماء و ندرة الأمطار جعلتها مصفرة الأوراق،ذابلة الأغصان،بأمسّ الحاجة إلى قطرات الماء،و هذا المشهد هو مشهد الخشوع و الانكسار في الأرض،و يستلهم هذا المعنى من معطيات ما مرّ من المعاجم.
ما هو الاكتشاف العلمي الدقيق في هذا الصدد،لمعرفة ذلك سنثبت هنا لقطة من محاضرة الشيخ عبد المجيد الزنداني حول هذه الآية،ناقلا لنا الاكتشافات العلمية الدقيقة لتفسير و توضيح معاني هذه الآية الكريمة.
يقول:في عام 1827 اكتشف العلماء أن حبيبات الطين تهتز،و تركيب حبيبات الطين ما يلي:
الحبيبة:هي أصغر جزء من الطين بعد أن تفتته إلى أجزاء صغيرة،فالطين مكون من هذه الحبيبات فهي صغيرة جدا لا ترى بالعين،قطرها:ثلاثة من ألف من المليمتر،هذه الحبيبة الطينة تتركب من صحائف معدنية بعضها فوق بعض،و إذا نزل المطر شحن الأرض بشحنات كهربائية،هذه الشحنات الكهربائية تختلف بسبب تركيب المعادن الموجودة في الحبيبات،فيحدث نوع من التنافر بين هذه الحبيبات فتهتز الحبيبات،ما سبب الاهتزاز؟يقول:الشحنات الكهربائية و دخول الماء من عدة جهات يحدث اهتزازا،و هذا الاهتزاز بعده ينشأ دخول الماء بين الصحائف،أي يسمح هذا الاهتزاز بدخول الماء بين الصحائف و إذا دخل الماء بين الصحائف تنمو هذه الحبيبة و تربو، و الربا كما أشرنا هي الزيادة،أي تربو بالماء الذي دخل بين الصحائف،و بعد أن تربو تحاط بغلاف من الماء،فتعتبر كل حبيبة من الحبيبات مخزنا للماء تمد النبات طوال
ص: 395
شهرين أو ثلاثة أشهر،و إلا من أين يجد النبات مددا لو لا تحول حبيبات التربة إلى مخازن ماء تمد النبات بالحياة،و بالتالي يستمرّ النبات في النمو،ثم بعد ذلك قال:
ثلاث خطوات نستنتجها من هذا:
1-اهتزاز.
2-زيادة،تربو الحبيبات.
3-ثم إنبات للنبات.
و إلى هذا تشير الآية القرآنية وَ تَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ .
من أخبر محمدا صلى اللّه عليه و سلم بهذا،إذن،الذين يكتبون تاريخ العلم عليهم أن يقولوا:
اهتزازات ذكرها اللّه في قرآنه نزل بها الوحي على قلب محمد صلى اللّه عليه و سلم) (1).
و أما عن ميكانيكية انتفاخ التربة،فإن عملية الانتفاخ تتم بسبب(وجود الشحنات السالبة فوق سطح المعدن الطيني،و التي هي السبب الرئيسي في جذب الأيونات الموجبة القابلة للتبدل الموجودة في ماء التربة،و ذلك لمعادلة الشحنة السالبة الموزعة على سطوح حبيبات التربة.
إن وجود الطبقة المزدوجة من الأيونات الموجبة و السالبة،يؤثر على بعض خواص التربة منها خاصية الانتفاخية،حيث إن(الأيونات)الحرة إذا ما تعرضت للماء فإنها ستؤدي إلى نمو الطبقة(الأيونية)المزدوجة بشكل كبير،و هذا النمو سيدفعها إلى التحرك بعيدا عن سطح المعدن الطيني و بالتالي يؤدي إلى تباعد الجزيئات عن بعضها البعض،و بذلك يزداد حجم التربة و يحصل الانتفاخ و يتم إنبات النبات) (2).1.
ص: 396
إن هذا السبق القرآني في تصنيف التربة الطينية و نباتاتها،إلى أرض خاشعة و أرض هامدة،ثم الوصف الدقيق لعملية اهتزاز التربة و انتفاخها بسبب ماء السماء،لا يمكن أن يعرفه إنسان مضى عصره منذ أكثر من أربعة عشر قرنا،و لا بد لمن يكتشف هذه الحقائق اليوم،و يتعرّف على أسرارها أن يعلن الإيمان بالله تعالى و التصديق بنبوة محمد صلى اللّه عليه و سلم.
ص: 397
و أخيرا فهذا ما قد ألهمنيه ربي سبحانه و تعالى،من الدراسة في قضايا الإعجاز العلمي في القرآن الكريم،و التي تربط صفحات الكون المفتوح بصفحات القرآن المقروء،و هذا الربط يسهم في إبراز آيات العظمة الإلهية و دلائل الوحدانية، لينطق كل جزء من هذا العالم المدهش،بروعة الإبداع و تألّق الصنعة.
و القرآن دعانا إلى التدبر و التمعن و التفكير في العالم حولنا،لنشاهد يد القدرة التي خلقت الخلق في نظام رتيب،و دقة بالغة،و ألا نكون من الغافلين عن هذه الآيات،قال تعالى: وَ كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَ هُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (1).
لقد رأينا كثيرا من الحقائق العلمية،التي تكشّفت للعلماء في عصرنا،قد سبقهم القرآن لإثباتها و تقرير واقعها،لكن الذي قدمه العلماء هو الكشف عما هو موجود، و مع الأسف فإن الذي يكشف أسرار هذا الكون،و ينقّب عن غوامضه و خفاياه هم غير المسلمين،فبعد أن برع أسلافنا في العلوم الكونية و الطبيعية،و خلّفوا لنا ثروة هائلة من المخطوطات،قام الغرب بترجمتها و الاستفادة منها فأصبحت منارة لبداية طريق النهضة و الثورة العلمية،في حين نجد أن المسلمين أعرضوا عن تراثهم التجريبي هذا؟.
لقد قدّم علماؤنا جزاهم اللّه خيرا كمّا هائلا من الأحكام التشريعية و العلمية، و استنبطوا الأحكام الفقهية الكثيرة من آيات الأحكام في كتاب اللّه و سنة المصطفى صلى اللّه عليه و سلم فتركوا لنا آلاف المجلدات و عمروا المكتبة الإسلامية و أثروها بخدمتهم للقرآن الكريم و للسنة المطهرة.
لكن لنتساءل إذا كان الفقهاء قد استنبطوا من آيات الأحكام تشريعا ينظم حياة الفرد المسلم و الأمة المسلمة،فلما ذا لا يقوم غير الفقهاء من العلماء،و يتشرفوا بخدمة
ص: 398
القرآن الكريم باستنباط الإعجاز العلمي المستور وراء كل آية علمية أو كونية في القرآن الكريم،و كما هو معلوم أن الآيات الكونية تفوق آيات الأحكام بكثير.
إن كلمة الحج على سبيل المثال،ورد ذكرها في القرآن تسع مرات،فكان نتيجة ذلك أن سطّر حولها مئات المجلدات و الموسوعات الفقهية،فكيف إذا درسنا البحر و الأرض و الشمس و النجوم و الإنسان و النبات...و التي ذكرها القرآن الكريم عشرات المرات فما ذا تكون النتيجة؟إن كثيرا من أبنائنا الذين برعوا في العلوم الكونية،تراهم منبهرين بما عند غيرنا من حضارة،و متى يعود أمثال هؤلاء إلى رشدهم،و يعكفوا على كتاب ربهم ليخدموه بما قد نالوا من معارف كونية فيسخر الفيزيائي قوانينه لدراسة الآيات الفيزيائية في القرآن،و يدرس الفلكي مواقع و أنواع النجوم و الكواكب بما يستلهمه من إشارات القرآن و معطياته،و يقف الطبيب بعلمه على الوصف القرآني لخلق الإنسان و يشاهد عالم الزراعة و النبات العرض القرآني لعالم النبات في صفحاته...
و قد بدت و لله الحمد بوادر هذا الاتجاه في عصرنا الحديث،فرأينا بعض المجامع العلمية تتجه إلى خدمة هذا الأمر،حيث وجدنا في مصر و السعودية و غيرهما من البلاد،من يبذل جهودا مشكورة لإظهار الإعجاز العلمي في الكتاب و السنة،و لكن الأمر يحتاج إلى مزيد من البحث و التنقيب في هذا المجال الرائع الأخّاذ.
و لقد احتوت هذه الرسالة عشرة فصول،الثلاثة الأولى منها كانت دراسة تاريخية للإعجاز في القرآن الكريم،و السبعة الأخرى للتطبيقات المعاصرة،أما الفصل الأول فقد تحدثت فيه عن مفهوم المعجزة و حدّها كما وضعه العلماء،و عن الفارق بين معجزات الأنبياء و معجزات نبينا محمد صلى اللّه عليه و سلم،كما تحدثت عن تحدي القرآن الكريم للعرب أن يأتوا مثله،و مراحل هذا التحدي،و إيضاح عجزهم عن ذلك و اعترافهم هم و العالم بعظمة القرآن العظيم،و في الفصل الثاني تعرضت للحديث عن منشأ إعجاز القرآن،و كيف أن القول بالصرفة كان الباعث الأول لظهور هذا المصطلح،و سقت ردود العلماء لمن قال بالصرفة،ثم استعرضت وجوه القرآن الكريم مبينا اختلاف العلماء في تعدد هذه الوجوه،و في الفصل الثالث ركزت على الإعجاز العلمي في القرآن،و عرضت أبرز من تناوله من العلماء القدامى و المعاصرين،و بينت أنهم سلكوا في قضية الإعجاز العلمي ثلاثة مسالك،مسلك يدعو للعمل على إظهار الإعجاز العلمي في القرآن الكريم،إلا أنه وقع في مطبات كثيرة و شطط غير محمود،عند ما أخضع الآيات القرآنية للنظريات المعاصرة مما صح منها و مما لم يثبت،و بذلك يكون
ص: 399
قد تجاوز الحد و تعسف و غالى في منهجه هذا،و آخرون تبنوا قضية الإعجاز و لكن بتحفظ و حذر،فلم يأخذوا من قضايا العلم إلا ما ارتقى إلى مستوى الحقيقة العلمية القطعية،دون الفرضيات أو النظريات،و هؤلاء قد أصابوا في منهجهم و عملهم هذا، و فريق ثالث ضرب بقضية الإعجاز العلمي عرض الحائط و اعتبرها نوعا من أنواع السذاجة و تضييع الأوقات،و هؤلاء قد جانبوا الصواب بمنهجهم هذا لأنهم أنكروا ما هو موجود بل ذاخر به كتاب اللّه تعالى،و ختم الفصل بالترجيح بين هذه المسالك.
و جاء الفصل الرابع بمدخل عرض فيه أهمية الإعجاز العلمي و الدعوة إليه في عصرنا،و أن الإسلام هو دين توج رسالته بالعلم،كما تحدث هذا الفصل عن التطبيقات المعاصرة لقضايا الإعجاز و بالشروط و الضوابط التي وضعها علماء التفسير لذلك،فكان فيه الحديث عن الجانب الفلكي في كتاب اللّه تعالى من حيث مولد الكون و منشئه،و تمدد الكون و توسعه،و نهاية الكون و فناؤه،و كل ذلك بين القرآن و العلم، و أما الفصل الخامس فقد تعرض للحديث عن الإعجاز القرآني في الشمس من حيث تحركاتها و انتقالاتها،و توهجها و لهيبها،و إشارة القرآن إلى تعدد الشموس و الأقمار، ثم الحديث عن موت الشمس و نهايتها بين القرآن و العلم،و أما الفصل السادس فقد تحدث عن الإعجاز القرآني في الأرض،و ذلك من جهة كرويتها،و دورانها، و جاذبيها،و غلافها الجوي،و نقصانها و تآكلها ثم موتها،و في الفصل السابع تعرضت للحديث عن الإعجاز القرآني في القمر،و أظهرت سبق القرآن في إثباته لإنارة القمر و كيف يستمد نوره من الشمس،و لا نور ذاتي له،ثم تحدثت عن انشقاقه و منازله جمعه في آخر عهده مع الشمس ثم موته.
و كان الحديث في الفصل الثامن عن إعجاز القرآن في الرياح،و أشرت إلى أنواع الرياح بين القرآن و العلم،و إلى تكوين السحب و أنواعها بين القرآن و العلم،ثم تعرضت للحديث عن لفتات إعجازية في البرد و البرق،و في الفصل التاسع تحدثت عن الجبال و طرق تكوينها،و كيف أن الخالق جل جلاله جعلها سببا لتثبيت الأرض و قرارها،ثم أوضحت السر القرآني في ربطه بين الجبال الشامخات و الماء الفرات،و ختمت الفصل بالحديث عن حركة الجبال و تعدد صخوره،و جاء الفصل العاشر و الأخير للحديث عن البحار و ما أودع اللّه سبحانه فيها من عجائب و أسرار،كتلك الظلمات المتعاقبة و الأمواج المتنوعة سواء داخل البحر أو على سطحه،و كيف سجل الحق جل جلاله حقيقة التقاء البحار دون امتزاج بسبب الحاجز المائي بينها،ثم تعرضت للحديث عن البحر
ص: 400
المسجور و ما كشف عنه العلماء في هذا الصدد،و ختم الفصل بالإشارة إلى حقيقة اهتزاز الأرض بماء السماء و سبب ذلك بين القرآن و العلم.
علما أن هذا العمل قد دعّم بصور علمية شارحة،فالآيات التي نتحدث عن إعجاز القرآن فيها نعرض لها من الصور العلمية ما ينسجم و يتوافق معها،كذلك من الجداول و الإحصائيات العلمية ما يوضح جانب الإعجاز العلمي فيها قدر الإمكان،بالإضافة إلى اللقاءات و المقابلات الشخصية مع بعض العلماء البارزين في هذا المجال.
و في هذه الرسالة جمعت تلك الفصول و عمدت فيها لإبراز ثلاثة وصايا أو جوانب:
الجانب الأول:أن في القرآن أنباء و حقائق علمية ستبقى متجددة مساورة للركب الحضاري و العلم الإنساني مدى الدهر،فإعجازاته مستمرة مع كل جيل،فما رأينا نحن الآن من حقائق علمية كشف عنها العلماء و وجدنا أن القرآن ذكرها قد غابت عن أسلافنا،و إن هناك حقائق لم تظهر بعد تعتبر بالنسبة لنا في تلافيف الغيب المستقبلي و التي ستكون مشاهدة و مرئية للأجيال القادمة من أبنائنا.
الجانب الثاني:بناء على هذا،فإن البحث في هذا الموضوع مفتوح بل هو خصب، لذلك أهيب بذوي الاختصاص،و أولي الأمر من قادة المسلمين بتهيئة الجوّ المناسب، و تسخير أدوات البحث العلمي للبحّاث و الدارسين في جوانب الإعجاز العلمي في القرآن،و توفير الإمكانات البحثية في سبيل تحقيق ذلك الهدف.
الجانب الثالث:فإن ما قدمته في رسالتي المتواضعة هذه،إن خدم المكتبة الإسلامية في شيء و انتفع بها الناس من المسلمين و غيرهم،فذلك رجائي و أملي في دنياي و آخرتي،و إن تكن الأخرى فمعذرتي إلى خالقي و مولاي جل جلاله،فإنا قد كوّنا على الخطأ و الضعف و عزائي في ذلك عفو من اللّه جل جلاله و رحمة و رضوان تشملني يوم الدين.
و آخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين،و الصلاة و السلام على المبعوث بالمعجزات الباهرات رحمة للعالمين و آله و صحبه و التابعين.
ص: 401
ص: 402
فهرس الآيات.
فهرس الأحاديث.
فهرس المصادر و المراجع.
فهرس الموضوعات.
ص: 403
ص: 404
الآية السورة رقم الآية رقم الصفحة
1- وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا \البقرة\23،24\22،24،47
2- هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ \البقرة\29\120،121
3- إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ \البقرة\164\224،275
4- وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللّهُ \البقرة\170\104
5- يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ \البقرة\189\89
6- إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ \آل عمران\45،\48،9
7- وَ رَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي \آل عمران\49\5،6
8- كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ \آل عمران\117\225
9- وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ \آل عمران\191\73،105
10- أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ \النساء\82\16،58
11- يا أَيُّهَا النّاسُ قَدْ جاءَكُمُ \النساء\174\-
12- إِذْ قالَ اللّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ \المائدة\110\10
13- وَ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ \الأنعام\35\5
14- ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ \الأنعام\38\87،95
15- وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ \الأنعام\38\74،88
16- وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلاّ فِي \الأنعام\59\78
17- فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ \الأنعام\125\199
18- إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا \الأعراف\40\197
19- إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ \الأعراف\54\100
ص: 405
الآية السورة رقم الآية رقم الصفحة 20- وَ هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ \الأعراف\57\225،229 233
21- وَ إِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً \الأعراف\65،70\7
22- فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ \الأعراف\133\6
23- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا \الأنفال\24\98،111
24- وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا \الأنفال\31\17
25- هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً \يونس\5\71،154، 158،204، 215
26- قُلْ لَوْ شاءَ اللّهُ ما تَلَوْتُهُ \يونس\16\17
27- وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ \يونس\22\226
28- وَ ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ \يونس\37\16
29- أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ \يونس\38\21،22،23
30- قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ \يونس\101\93،113
31- أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ \هود\13\19،23،47
32- وَ كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ \يوسف\105\296
33- وَ هُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ \الرعد\3\84،175، 180،252
34- هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ \الرعد\12،13\245
35- وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ \الرعد\38\5
36- الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ \إبراهيم\1\67،98، 111
37- مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ \إبراهيم\18\225
38- وَ سَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ \إبراهيم\33\148
ص: 406
الآية السورة رقم الآية رقم الصفحة 39- وَ قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ \الحجر\6\25
40- وَ لَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً \الحجر\14،15\196،201
41- وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها وَ أَلْقَيْنا \الحجر\19\180
42- وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ \الحجر\22\82،83، 225،226
43- فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ \الحجر\29\71
44- وَ أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ \النحل\15\252
45- وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً \النحل\89\74،87، 95،98
46- وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ \النحل\101،102\17
47- قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ \النحل\102\18
48- وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ \النحل\103\18
49- إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي \الإسراء\9\98،111
50- وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ \الإسراء\12\204،206
51- وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ \الإسراء\36\104
52- وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً \الإسراء\37\251
53- قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ \الإسراء\88\19،47، 51،52،52
54- وَ لَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ \الكهف\25\218
55- وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ \الكهف\45\231
56- وَ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ \الكهف\47\142
57- ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ \الكهف\51\113
58- فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ \مريم\27،32\10
59- وَ ما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى \طه\17،22\8
ص: 407
الآية السورة رقم الآية رقم الصفحة
60- وَ أَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ \طه\69\253
61- وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ \طه\105\142
62- أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ \الأنبياء\30\79،114، 125
63- وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ \الأنبياء\30\275
64- وَ جَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ \الأنبياء\31\259
65- وَ جَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً \الأنبياء\32\196،201
66- وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ \الأنبياء\33\183
67- يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ \الأنبياء\104\140،142
68- وَ تَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً \الحج\5\292
69- وَ أَذِّنْ فِي النّاسِ بِالْحَجِّ \الحج\27\180
70- أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ سَخَّرَ لَكُمْ \الحج\65\193
71- فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً \المؤمنون\14\100
72- لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ \النور\29\57
73- أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ \النور\40\99،276، 279
74- أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ يُزْجِي \النور\43\99،237، 245
75- وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا \الفرقان\4،5\25
76- وَ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ \الفرقان\5\18،28
77- أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ \الفرقان\45،46\183،186
78- وَ هُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ \الفرقان\53\81،282
79- تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ \الفرقان\61\154،158
80- وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ \الشعراء\80\70
ص: 408
الآية السورة رقم الآية رقم الصفحة
81- قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ \الشعراء\153،156\8
82- وَ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمّا \النمل\10\253
83- وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ \النمل\16،19\9
84- أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ \النمل\61\190،191، 282
85- وَ تَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها \النمل\88\142،183، 186،269
86- فَلَمّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ \القصص\29،32\7
87- أَ وَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ \العنكبوت\19\113
88- قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ \العنكبوت\20\113
89- وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ \الروم\25\142
90- وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ \الروم\27\140
91- وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ \الروم\46\225،229
92- اَللّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ \الروم\48\83،225، 233،236
93- خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ \لقمان\10\192
94- وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ \لقمان\29\148
95- فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً \الأحزاب\9\225
96- إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ \الأحزاب\72\251
97- وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها \سبأ\12\9
98- يُولِجُ اللَّيْلَ فِي \فاطر\13\176
99- أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ أَنْزَلَ \فاطر\27،28\269،271
100- أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما \فاطر\37\25
101- وَ الشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ \يس\38\85،148
ص: 409
الآية السورة رقم الآية رقم الصفحة
102- وَ الْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ \يس\39\215
103- وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ \يس\40\79،179
104- لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي \يس\40\152،167، 220
105- خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ \الزمر\5\175،183
106- قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ \الزمر\9\104
107- اَللّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ \الزمر\23\48،58
108- قُلْ أَ فَغَيْرَ اللّهِ تَأْمُرُونِّي \الزمر\61\50
109- اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ \غافر\64\190
110- لَخَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ \غافر\75\72
111- حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ \فصلت\1،5\27
112- قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ \فصلت\9،11\117،119
113- ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ \فصلت\11\79،116
114- وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا \فصلت\26\48
115- وَ مِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَ النَّهارُ \فصلت\37\146،159، 160،203
116- وَ مِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى \فصلت\39\292
117- سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي \فصلت\53\ب،95، 167،261
118- وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ \الجاثية\5\224
119- وَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ \الجاثية\13\93
120- فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ \محمد\19\105
121- أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ \ق\6\95،27، 192
ص: 410
الآية السورة رقم الآية رقم الصفحة
122- وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها وَ أَلْقَيْنا \ق\7\252
123- وَ الذّارِياتِ ذَرْواً \الذاريات\1،4\230
124- وَ السَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ \الذاريات\7\184،197
125- وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ \الذاريات\20\174
126- وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ \الذاريات\21\72
127- وَ السَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَ إِنّا \الذاريات\47\83،127، 128
128- وَ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ \الطور\6\289
129- اِقْتَرَبَتِ السّاعَةُ وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ \القمر\1\13،79، 209،211
130- فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ \القمر\11\197
131- وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ \القمر\17\62
132- إِنّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً \القمر\19\225
133- اَلشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ بِحُسْبانٍ \الرحمن\5\71
134- وَ السَّماءَ رَفَعَها وَ وَضَعَ \الرحمن\7\152،153
135- مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ \الرحمن\19،20\81
136- مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ \الرحمن\19،22\282
137- كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ \الرحمن\26\168
138- يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ \الرحمن\33\200،201، 213
139- فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ \الرحمن\37\144،168
140- إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا \الواقعة\4،5\141
141- لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا \الحديد\25\106
142- يَرْفَعِ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ \المجادلة\11\104
ص: 411
الآية السورة رقم الآية رقم الصفحة
143- لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ \الحشر\21\251
144- هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ \الجمعة\2\87
145- اَللّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ \الطلاق\12\79
146- اَلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ \الملك\3\176
147- وَ قالُوا لَوْ كُنّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ \الملك\10\105
148- أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ \الملك\14\109
148- وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ \الحاقة\14\141
149- وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ \الحاقة\41،56\18
150- يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ \المعارج\8\169
151- وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً \نوح\16\154،158، 204
152- لَنْ نُعْجِزَ اللّهَ فِي الْأَرْضِ \الجن\12\3
153- إِنْ هذا إِلاّ قَوْلُ الْبَشَرِ \المدثر\25\29
154- بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ \القيامة\4\110
155- وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ \القيامة\9\168،220، 222
156- فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ \المرسلات\8\141
157- أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً \المرسلات\25،27\190،191
158- وَ جَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ \المرسلات\27\264،266، 268
159- أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً \النبأ\6،7\259
160- وَ جَعَلْنا سِراجاً وَهّاجاً \النبأ\13\154
161- أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ \النازعات\27،30\119
162- وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها \النازعات\30\175،178
ص: 412
الآية السورة رقم الآية رقم الصفحة
163- وَ الْجِبالَ أَرْساها \النازعات\32\259
164- إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ \التكوير\1\141،168، 169،172
165- وَ إِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ \التكوير\6\77،289، 290
166- فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ \التكوير\15،16\183
167- وَ إِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ \الانفطار\3
168- يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ \الانفطار\6،8\71
169- إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ \الانشقاق\1\77
170- وَ إِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ \الانشقاق\3،4\252،253
171- فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ \الانشقاق\16،21\200
172- وَ الْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ \الانشقاق\18،19\209،213
173- وَ إِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ \الغاشية\18\192
174- وَ الْأَرْضِ وَ ما طَحاها \الشمس\6\179
175- اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ \العلق\1\87،104
176- يَوْمَ يَكُونُ النّاسُ كَالْفَراشِ \القارعة\4،5\141
177- وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ \الفيل\3\79
178- تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ \الفيل\4\79
ص: 413
الحديث رقم الصفحة
1-اللهم اجعلها رياحا و لا تجعلها ريحا 226
2-اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع\104
3-أشعر كلمة قالتها العرب\33
4-أن النبي صلى اللّه عليه و سلم كان يقوم يوم الجمعة\13
5-انشق القمر و نحن مع النبي صلى اللّه عليه و سلم\14،210
6-إنها ستكون فتنة فقلت:ما المخرج\75،95
7-رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و حانت الصلاة\10
8-سمعت صوت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ضعيفا\12
9-عطش الناس يوم الحدبية\11
10-فانطلق أنيس حتى أتى مكة\34
11-قلت لأنس:كم كنتم قال:11
12-كان المسجد مسقوفا على جذوع من نخل\13
13-كنا مع النبي صلى اللّه عليه و سلم ثلاثين و مائة\11
ص: 414
أولا:القرآن الكريم ثانيا:الكتب الآتية 1-الآحاد و المثاني،أحمد بن عمرو بن الضحاك الشيباني،الرياض،دار الراية، تحقيق،باسم فيصل الجوابرة الطبعة الأولى،1411 ه.
2-آفاق فلكية،فوزية محمد الرويح،الكويت،جامعة الكويت،الطبعة الأولى، 1997.
3-أبجد العلوم في بيان أحوال العلوم،صديق بن حسن القنوجي،بيروت،دار الكتب العلمية تحقيق،عبد الجبار زكار،1978.
4-الإتقان في علوم القرآن،جلال الدين السيوطي،بيروت،عالم الكتاب،د.ت.
5-الأجرام السماوية،غيدو روجيري،ترجمة،عبد اللطيف أبو عرقوب، طرابلس،الدار الجماهيرية،الطبعة الأولى،1984.
6-أجمل تاريخ للكون،جويل دوروني و آخرون،ترجمة،موسى خوري،بيروت، دار الكتاب العربي،1996.
7-أحاديث حول اللامرئي،جان أودوز و آخرون،ترجمة،نور الدين عبيد،الطبعة الأولى،2000 دمشق،مكتبة الأهلي.
8-احتمالات نهاية الكون،إعداد قسم التأليف و الترجمة في دار الرشيد،دمشق- بيروت،دار الرشيد،1408 ه1988/.
9-إحياء علوم الدين،الإمام أبي حامد محمد بن محمد بن الغزالي الطوسي، بيروت،دار الفكر 1995.
10-إرشاد العقل السليم تفسير القرآن الكريم،محمد بن مصطفى العمادي أبو السعود،بيروت دار إحياء التراث العربي،د.ت.
11-الأرصاد الجوية،محمد أحمد النطاح،ليبيا،الدار الجماهيرية،الطبعة الأولى، 1990.
ص: 415
12-الأرصاد الجوية،محمد الهوني و إبراهيم سويدان،ليبيا،نشر القوات البحرية، 1979.
13-الأرض،إبراهيم حلمي غوري،بيروت،دار الشرق العربي،د.ت.
14-الأرض في رحاب الكون،يمنى زهار،بيروت،دار الآفاق،الطبعة الأولى، 1409 ه 1988.
15-الأرض و أسرارها،جورجيت بارتلمي،ترجمة،ميشيل خوري،دمشق، منشورات وزارة الثقافة،1991.
16-الأرض،مقدمة للجيولوجيا الطبيعية،تاربون لوتجنز،ترجمة،عمر سليمان حمودة و آخرون مطبعة مالطا،مالطا،1984.
17-الأرض الهامدة و الأرض الخاشعة،أحمد الدليمي،الموصل،مطبعة الزهراء، 1421 ه2000/.
18-الأساس في التفسير،سعيد حوى،القاهرة،دار السلام،الطبعة الثانية،1989.
19-أساسيات علم الأرض،الجيولجيا الفيزيائية،محمد بن عبد الغني عثمان مشرف.
20-أساسيات علم الجيولوجيا،محمد حسن و آخرون،عمان،مركز الكتب الأردني،1990.
21-الاستمطار،محمد فياض و أحمد خليل،الكويت،دار سعادة الصباح الطبعة الأولى،1999.
22-أسرار الأرصاد الجوية الموسوعة العلمية المبسطة،ترجمة،عيسى طنوس، بيروت،دار الحقائق الطبعة الأولى،1987.
23-الإسلام و قوانين الوجود،محمد جمال الدين الفندي،القاهرة،الهيئة المصرية العامة للكتب،1982.
24-الإسلام يتحدى،وحيد الدين خان،القاهرة،دار البحوث العلمية،ترجمة، ظفر الإسلام خان،الطبعة الثانية،1393 ه1973/.
25-إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز،بديع الزمان سعيد النورسي،بيروت،دار المحراب للطباعة،تحقيق،إحسان قاسم الصالحي د.ت.
26-أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن،محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي،بيروت،عالم الكتاب،د.ت.
ص: 416
27-الأطلس الفلكي،عصام الميداني،دمشق،دار دمشق،1996.
28-الإعجاز العلمي في الإسلام،محمد كامل عبد الصمد،القاهرة،الدار المصرية اللبنانية،الطبعة الأولى،1415 ه1994/.
29-الإعجاز العلمي في القرآن الكريم،سليمان الطراونة،عمان،دار الفرقان، الطبعة الأولى 1421 ه2000/.
30-الإعجاز في دراسات السابقين،عبد الكريم الخطيب،بيروت،دار المعرفة، الطبعة الثانية 1395 ه1975/.
31-إعجاز القرآن،محمد بن الطيب الباقلاني،بيروت،دار إحياء العلوم،تعليق،محمد سكر،الطبعة الثالثة،1415 ه1994/ م.
32-إعجاز القرآن و البلاغة النبوية،لمصطفى صادق الرافعي،بيروت،دار الكتاب العربي،د.ت.
33-أعلام الحضارة،سمير شيخاني،بيروت،مؤسسة عز الدين،1401 ه1981/.
34-الأعلام،قاموس تراجم لأشهر الرجال و النساء من العرب و المستعربين و المستشرقين،خير الدين الزركلي،بيروت،دار العلم للملايين،الطبعة السادسة،1984.
35-أعماق الكون،سعد شعبان،القاهرة،دار الكتاب العربي،د.ت.
36-الله و الكون،محمد جمال الدين الفندي،القاهرة،الهيئة المصرية العامة للكتب،الطبعة الثانية 1987.
37-الإنسان بين العلم و الدين،شوقي أبو خليل،بيروت-دمشق،دار الفكر، الطبعة الرابعة 1420 ه1999/.
38-الانفجار الكبير،أميد شمشك،ترجمة،أورخان محمد علي،عمّان،دار البشير،الطبعة الأولى 1419 ه1998/.
39-أنوار التنزيل،عبد الله بن عمر البيضاوي،تحقيق،عبد القادر عرفات،بيروت، دار الفكر 1416 ه1996/.
40-الأوائل،علي جمعة الخويلد،بيروت،الدار العربية للعلوم،الطبعة الأولى، 1418 ه1998/.
41-البحار و ما فيها،روبرت كاون،ترجمة عبد الحافظ حلمي القاهرة،مؤسسة سجل العرب 1974.
ص: 417
42-بحر العلوم،نصر بن محمد السمرقندي،تحقيق،محمود مطرجي،بيروت،دار الفكر العربي 1997.
43-البحر المحيط،محمد بن علي ابن حيان الأندلسي،القاهرة،دار الفكر العربي، الطبعة الثانية 1983.
44-بحوث منهجية في علوم القرآن،موسى إبراهيم،عمّان،دار عمار،الطبعة الثانية،1416 ه 1996.
45-بدائع التفسير،ابن قيم الجوزية،تحقيق،يسرى السيد أحمد،الرياض،دار ابن الجوزي،الطبعة الأولى،1414 ه1993/.
46-بداية الكون،جون فايفر،ترجمة،محمد الشحات،القاهرة،مؤسسة سجل العرب،1975.
47-البداية و النهاية،إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي أبو الفداء،بيروت،مكتبة المعارف،د.ت.
48-البرهان في علوم القرآن،محمد بن عبد الله الزركشي،بيروت،دار المعرفة، تحقيق،محمد إبراهيم،1391 ه.
49-البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن،كمال الدين عبد الواحد الزملكاني،بغداد، مطبعة العاني،تحقيق،أحمد مطلوب و خديجة الحديثي،الطبعة الأولى، 1394 ه1974/.
50-بلوغ سنن الرشد في المجرة،تمثي فرس،ترجمة،هنري مطر،عمّان،مركز الكتب الأردني 1990.
51-بهجة المعرفة،موسوعة علمية مصورة،الأرض،ليبيا،الشركة العامة للنشر، 1983.
52-البيان في علوم القرآن،محمد علي الحسن،بيروت،دار الفكر العربي،الطبعة الأولى،1998.
53-تاج العروس من جواهر القاموس،محب الدين السيد محمد مرتضى الحسيني الزبيدي،بيروت دار الفكر،تحقيق،علي شيري 1414 ه.
54-تأويل مختلف الحديث،عبد الله بن مسلم بن قتيبة،بيروت،المكتب الإسلامي،تحقيق،محمد الأصفر،الطبعة الأولى،1989.
55-تبصير الرحمن و تيسير المنان،علي بن أحمد المهائي،بيروت،عالم الكتب 1983.
ص: 418
56-التحرير و التنوير،محمد الطاهر ابن عاشور،بيروت،مؤسسة التاريخ،الطبعة الأولى،1420 ه2000/ م.
57-التسهيل لعلوم التنزيل،محمد بن أحمد الغرناطي،بيروت،دار الأرقم،د.ت.
58-التصوير الفني في القرآن الكريم،لسيد قطب،القاهرة،دار الشروق،1997.
59-تفسير البشائر،علي الشربجي،دمشق،دار البشائر،الطبعة الأولى،1418 ه.
60-تفسير بن باديس،عبد الحميد بن باديس،بيروت،دار الفكر،الطبعة الثالثة، 1399 ه 1979.م.
61-تفسير ابن عباس،إعداد،عبد العزيز بن عبد الله الحميدي،مكة المكرمة،مركز البحث العلمي،د.ت.
62-التفسير البياني للقرآن،عائشة بنت الشاطئ،القاهرة،دار المعارف،الطبعة الثانية،1388 ه1968/.
63-تفسير جزء عمّ،محمد عبده،بيروت،دار الهلال،1985.
64-تفسير الجلالين،محمد بن أحمد بن محمد المحلي و جلال الدين السيوطي، القاهرة،دار الحديث،الطبعة الأولى،د.ت.
65-تفسير روح البيان،إسماعيل حقي البروسوي،بيروت،دار الفكر،د.ت.
66-تفسير السراج المنير،للخطيب الشربيني،بيروت،دار المعرفة،الطبعة الثانية، د.ت.
67-التفسير الشامل،أمير عبد العزيز،القاهرة،دار السلام،الطبعة الأولى، 1420 ه2000/.م.
68-تفسير الشعراوي،القاهرة،أخبار اليوم،د.ت.
69-التفسير العلمي للقرآن،أحمد عمر أبو حجر،دمشق،دار قتيبة،الطبعة الأولى، 1411 ه 1991 م.
70-تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان،نظام الدين الحسن بن محمد القمي النيسابوري تحقيق،زكريا عميرات،بيروت،دار الكتب العلمية،1416 ه/ 1996.
71-تفسير غريب القرآن،عبد الله بن مسلم بن قتيبة،بيروت،دار الهلال،1991.
72-تفسير القرآن،لأبي مظفر السمعاني،تحقيق،ياسر بن إبراهيم و غنيم بن عباس غنيم الرياض دار الوطن،الطبعة الأولى،1418 ه1997/ م.
ص: 419
73-تفسير القرآن،عز الدين بن عبد السلام الدمشقي،بيروت،دار ابن حزم،الطبعة الأولى 1416 ه1996/.
74-تفسير القرآن،منصور بن محمد السمعاني،تحقيق،ياسر إبراهيم و غنيم عباس الرياض،دار الوطن،1997.
75-تفسير القرآن العظيم،إسماعيل بن عمر بن كثير،بيروت،دار الفكر،1401 ه.
76-تفسير القرآن الكريم،محمد علي الدرة،دمشق،دار الحكمة،1982.
77-تفسير القرآن الكريم،محمود شلتوت،القاهرة،دار الشروق،الطبعة السادسة، 1394 ه 1974 م.
78-تفسير القرآن الكريم إعرابه و بيانه،محمد طه الدرة،دمشق،دار الحكمة، 1982.
79-التفسير الكاشف،محمد جواد مغنية،بيروت،دار العلم للملايين،الطبعة الرابعة،1990.
80-التفسير الكبير،محمد فخر الدين الرازي،بيروت،دار الفكر،1993.
81-تفسير مجاهد،مجاهد بن جبر المخزومي،تحقيق،عبد الرحمن السورتي، بيروت،المنشورات العلمية،د.ت.
82-تفسير المراغي،أحمد مصطفى مراغي،بيروت،دار الكتب العلمية،الطبعة الأولى،1418 ه،1998.
83-تفسير مفردات ألفاظ القرآن الكريم،سميح عاطف الزين،بيروت،دار الكتاب العربي،الطبعة الثالثة،1414 ه،1994.
84-تفسير المنار،محمد رشيد رضا،بيروت،دار الفكر،الطبعة الثالثة،د.ت.
85-التفسير المنير،وهبة الزحيلي،بيروت،دار الفكر المعاصر،الطبعة الأولى 1411 ه1991/.
86-تفسير النكت و العيون،علي بن محمد الماوردي،بيروت،دار الكتب العلمية، د.ت.
87-التفسير الواضح المسير،محمد علي الصابوني،بيروت،مؤسسة الريان،الطبعة الأولى،1422 ه2001/ م.
88-التفسير الواضح،محمد محمود حجازي،القاهرة،مطبعة الاستقلال،الطبعة السادسة 1969.
ص: 420
89-التفسير الوسيط،وهبة الزحيلي،بيروت،دار الفكر المعاصر،2000
90-التفسير و المفسرون،محمد حسن الذهبي،القاهرة،دار الكتب الحديثة، الطبعة الأولى،1381 ه1961/.
91-تنوير الأذهان من تفسير روح البيان،اختصار محمد علي الصابوني،القاهرة، دار الصابوني،الطبعة الأولى،1988.
92-التوقيف على مهمات التعاريف،محمد عبد الرءوف المناوي،دمشق- بيروت،دار الفكر المعاصر،تحقيق،محمد رضوان الداية الطبعة الأولى، 1410 ه.
93-الثقب الأسود،محمد رضوان المصري،دمشق،دار المعارف للطباعة، الطبعة الأولى،1986.
94-الثقوب السوداء و الأكوان الطفلة،سيتفن هوكنغ ،ترجمة،حاتم النجدي، دمشق،دار المعارف للطباعة،الطبعة الأولى،1998.
95-الثقوب الكونية السوداء،فائز فوق العادة،دمشق،دار المعرفة،الطبعة الأولى،1409 ه 1988 م.
96-ثلاث رسائل في الإعجاز،الرسالة الشافية،للجرجاني،تحقيق،محمد خلف الله و محمد سلام القاهرة،دار المعارف،الطبعة الثانية 1387 ه1968/ م.
97-جامع البيان عن تأويل آي القرآن،محمد بن جرير بن يزيد الطبري،بيروت، دار الفكر 1405 ه.
98-الجامع لأحكام القرآن،محمد بن فرح القرطبي،تحقيق،أحمد عبد العليم البردوني،القاهرة،دار الشعب،الطبعة الثانية،1372 ه.
99-الجغرافية الحيوية،حسن أبو سمور،عمان،دار صفاء،الطبعة الأولى، 1420 ه1999/ م.
100-الجغرافية الفلكية،أمين طربوش،دمشق،دار الفكر،الطبعة الأولى، 1406 ه1986/ م.
101-الجغرافية المناخية و النباتية،عبد العزيز شرف،الإسكندرية،دار الجامعات المصرية،الطبعة الحادية عشر،1985 م.
102-الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح،أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، الرياض،دار العاصمة الطبعة الأولى،1414 ه،تحقيق علي حسن ناصر و آخرون.
ص: 421
103-الجواهر الحسان،عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي،بيروت، مؤسسة الأعلمي،د.ت.
104-جواهر القرآن،الإمام أبي حامد محمد بن محمد بن الغزالي الطوسي، بيروت،دار إحياء علوم الدين،تحقيق،محمد رشيد رضا القباني،الطبعة الثانية،1406 ه1996/ م.
105-الجواهر في تفسير القرآن الكريم،طنطاوي جوهري،بيروت،دار إحياء التراث العربي،الطبعة الرابعة،1412 ه1991/.
106-الجو و تقلباته،علي حسن موسى،دمشق،دار الفكر،1988.
107-الجيولوجيا للجميع،عادل حاتم جوزي،بغداد،دار الرشيد،1980.
108-الجيولوجيا و الكائنات الحية،دولت عبد الرحيم إبراهيم،القاهرة،الهيئة المصرية العامة للكتب،1995.
109-حاشية الشهاب على البيضاوي،لشهاب الدين أحمد بن عمر الخفاجي، تحقيق،عبد الرزاق المهدي،بيروت،دار الكتب العلمية،الطبعة الأولى، 1317 ه1997/.
110-حاشية الصاوي،على الجلالين،تحقيق،علي الصباغ،بيروت،دار الجيل، د.ت.
111-حاشية محي الدين شيخ زاده على تفسير الإمام البيضاوي،تحقيق،محمد شاهين،بيروت،دار الكتب العلمية،الطبعة الأولى 1419 ه1999/ م.
112-الحرارة و الديناميكا الحرارية،مارك وزنماسكي و ريتشارد ديثمان،ترجمة، محسن سالم رضوان،القاهرة،دار ماكجروصيل الطبعة الأولى،1982 م.
113-الحيوان،عمر بن بحر بن محبوب الجاحظ،بيروت،دار الهلال،تحقيق، يحيى الشامي،الطبعة الثالثة،1997.
114-خلق الكون،محمد باسل الطائي،بيروت،دار النفائس،الطبعة الأولى، 1418 ه1998/ م.
115-دائرة المعارف الثقافية،الأرض،بيروت،المركز الثقافي الحديث،الطبعة الأولى،2000.
116-دائرة معارف القرن الواحد و العشرين،القوى الفيزيائية،بيروت،دار الكتاب اللبناني،د.ت.
117-دراسات في علوم القرآن الكريم،فهد الرومي،الرياض،مكتبة التوبة،الطبعة السابعة،1419 ه1998/ م.
ص: 422
118-الدر المصون،محمد السمين،بيروت،دار الكتب العلمية،الطبعة الأولى، 1994 م.
119-الدر المنثور،عبد الرحمن بن جلال الدين السيوطي،بيروت،دار الفكر، 1993.
120-الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة،أحمد بن علي ابن حجر العسقلاني، بيروت،دار الكتب العلمية،تحقيق،عبد الوارث محمد علي،الطبعة الأولى،1418 ه 1997 م.
121-الدقائق الثلاث الأولى من عمر الكون،ستيفن ونبرغ،ترجمة،وائل الأتاسي،دمشق منشورات وزارة الثقافة 1986.
122-دلائل الإعجاز في علم المعاني،للإمام البلاغي عبد القاهر الجرجاني، بيروت-صيدا،المكتبة العصرية،تحقيق،ياسين الأيوبي،الطبعة الأولى،1421 ه2000/ م.
123-دليل فيليب للنجوم و الكواكب،باتريك مور،ترجمة،عبد القوي عياد الرياض،النشر العلمي و المطابع،الطبعة الأولى،1421 ه2000/ م.
124-الديناميكا الحرارية،فرانسيس و ستون سيرس،ترجمة،رضا جاد جرجس و طاهر مجيد الشريتي،البصرة،طبع كلية التربية جامعة البصرة،د.ت.
125-الديناميكا الحرارية،أبوت فان هيس،ترجمة،أحمد فؤاد باشا و سعيد بسيوني الجزائري القاهرة،الدار الدولية للنشر،الطبعة الرابعة،1998.
126-رحلة في الكون و الحياة،أحمد محمد عوف،القاهرة،الهيئة المصرية العامة للكتاب،1996 م.
127-روح المعاني و السبع المثاني،محمد الألوسي أبو الفضل،بيروت،دار إحياء التراث العربي،د.ت.
128-زاد المسير في علم التفسير،عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي،بيروت، المكتب الإسلامي،الطبعة الثالثة،1404 ه.
129-الزلزال الكوني الأعظم،عبد العليم عبد الرحمن خضر،جدة،الدار السعودية،الطبعة الأولى 1413 ه1993/.
130-السحب،علي حسن موسى،دمشق،دار الفكر،1988.
131-سر الفصاحة،عبد الله بن سنان الخفاجي الحلبي،بيروت،دار الكتب العلمية،الطبعة الأولى 1403 ه1982/ م.
ص: 423
132-السماء في الليل،عبد القادر عابد و علي عبندة،عمان،دار الفرقان،الطبعة الأولى 1405 ه1985/.
133-سنن البيهقي الكبرى،أحمد بن الحسين بن علي بن موسى البيهقي،مكة المكرمة،دار الباز تحقيق،محمد عبد القادر عطا،1414 ه1994/.
134-سنن الترمذي،محمد بن عيس الترمذي السلمي،بيروت،دار إحياء التراث العربي،تحقيق أحمد شاكر و آخرون،د.ت.
135-سنن الدارمي،عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي،بيروت،دار الكتاب العربي،الطبعة الأولى 1407 ه.
136-سير أعلام النبلاء،محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي،بيروت،مؤسسة الرسالة،تحقيق،شعيب الأرناءوط و محمد نعيم.
137-السيرة الحلبية،علي بن برهان الدين الحلبي،بيروت،دار المعرفة، 1400 ه.
138-السيرة النبوية،عبد الملك بن هشام الحميري،بيروت،دار الجيل،تحقيق، طه سعد،الطبعة الأولى،1411 ه.
139-شذرات الذهب في أخبار من ذهب،عبد الحي ابن العماد الحنبلي الدمشقي، بيروت،دار الكتب العلمية،د.ت.
140-شرح المواقف،لعلي بن محمد الجرجاني،القاهرة،منشورات الشريف الرضي،الطبعة الثانية 1373 ه.
141-الشفا بتعريف حقوق المصطفى،للقاضي أبي الفضل عياض بن موسى اليحصبي،بيروت،دار الكتاب العربي،تحقيق،علي محمد البجاوي، د.ت.
142-الشمس،إبراهيم غوري،بيروت،دار الشرق العربي،د.ت.
143-الشموس المتفجرة،إسحاق عظيموف،ترجمة السيد عطا،القاهرة،الهيئة المصرية العامة للكتاب،1994 م.
144-صانعوا التاريخ،سمير شيخاني،بيروت،مؤسسة عز الدين،1416 ه/ 1996.
145-صحيح البخاري،محمد بن إسماعيل البخاري،بيروت،دار اليمامة، تحقيق،مصطفى البغا الطبعة الثالثة،1987/1407.
146-صحيح ابن حبان،محمد بن حبان بن أحمد التميمي البستي،بيروت،مؤسسة الرسالة،تحقيق شعيب الأرناءوط،الطبعة الثانية،1414 ه1993/.
ص: 424
147-صحيح ابن خزيمة،محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري،بيروت، المكتب الإسلامي تحقيق،محمد مصطفى الأعظمي،1390 ه.
148-صحيح مسلم،مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري،بيروت،دار إحياء التراث العربي،تحقيق،محمد فؤاد عبد الباقي،د.ت.
149-صفوة التفاسير،للصابوني،بيروت،دار إحياء التراث،الطبعة الأولى، 1995.
150-ضحى الإسلام،أحمد أمين،القاهرة،النهضة المصرية،الطبعة السابعة، 1961.
151-طبائع الاستبداد و مصارع الاستعباد،عبد الرحمن الكواكبي،بيروت،دار النفائس،الطبعة الأولى،1984.
152-طبقات الشافعية،لأبي بكر أحمد بن محمد بن عمر،بيروت،عالم الكتاب تحقيق،الحافظ عبد العليم خان،الطبعة الأولى،1407 ه.
153-طبقات الفقهاء،إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي،بيروت،دار القلم، تحقيق،خليل الميس،د.ت.
154-الطبيعة الجوية،محمد جمال الدين الفندي،الكويت،مكتبة الفلاح الطبعة الثانية،1977.
155-طبيعيات البحر و ظواهره،محمد جمال الدين الفندي.
156-طرائف علم الفلك،فيكتور كوماروف،ترجمة عبد الله حبة،موسكو،دار مير،1985.
157-الطقس و المناخ،محمد عياد مقيلي،ليبيا،نشر الجامعة المفتوحة،1992.
158-الطقس،فورس إيك،ترجمة،نبيلة منسى،بيروت،معهد الإنماء العربي،1981.
159-العالم الذي نقطنه،رينيه غوير،ترجمة،خليل الفريجات،دمشق،منشورات وزارة الثقافة 1981.
160-عالم المعرفة،الكون،كارل ساغان،ترجمة،نافع أيوب لبس،الكويت، المجلس الوطني للثقافة،1414 ه1993/ م.
161-عالم المعرفة،النهاية،فرانك كلوز،ترجمة،مصطفى إبراهيم فهمي، الكويت،المجلس الوطني للثقافة و الفنون،1415 ه1994/ م.
ص: 425
162-العبر في خبر من غبر،محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي،الكويت، مطبعة حكومة الكويت،تحقيق،صلاح الدين المنجمد،الطبعة الثانية،1948.
163-عقائد الثلاث و السبعين فرقة،لأبي محمد اليمني،المدينة المنورة،مكتبة العلوم و الحكم،تحقيق محمد الغامدي،الطبعة الثانية 1422 ه2001/ م.
164-علم البحار،هاشم أحمد محمد،نشر هلا بوك شوب،د.ت.
165-علم البحار و المحيطات،ميلاد سعيد الرماح،ليبيا،نشر القوات البحرية، 1979.
166-علم الفلك،عبد السلام غيث،عمان،جامعة اليرموك،1992.
167-علم الفلك،هاشم أحمد،بيروت،هلابون،د.ت.
168-علم الفلك العام،مرفت السيد عوض و مصطفى كمال محمود،القاهرة،دار الفكر العربي الطبعة الأولى،1420 ه2000/ م.
169-علم الفلك و فلسفة النسق الكوني،فائز فوق العادة،الكويت،مؤسسة الكويت للتقدم العلمي الطبعة الأولى،1992.
170-علم الفلك و الكون،عواد الزحلف،عمان،دار المناهج،الطبعة الأولى، 1418 ه1998/ م.
171-علم المحيطات،ريتشارد فيتر،ترجمة،ميشيل تكلا،القاهرة،مطبوعات كتابي،د.ت.
172-علم المحيطات،كيث ستو،ترجمة،تلفات عناد أحمد،البصرة،نشر جامعة البصرة،1986.
173-علوم الأرض و البيئة،فتحي أبو ناصر،عمان،دار اليازوري،الطبعة الأولى، 1418 ه 1999 م.
174-العلوم الجوية و تطبيقاتها،محمد أحمد الشهاوي،القاهرة،دار الفكر العربي، الطبعة الأولى 1420 ه2000/ م.
175-العلوم في القرآن،محمد جميل الحبال و مقداد الجواري،بيروت،دار النفائس،الطبعة الأولى 1418 ه1998/ م.
176-العواصف و الأعاصير،علي حسن موسى،دمشق،دار الفكر،1989.
177-غاية البيان في تفسير القرآن،حسن علوان و آخرون،الدوحة،مطابع قطر الوطنية،د.ت.
178-الغلاف و الطقس و المناخ،بيري شوري،ترجمة،عبد القادر علي،طبع الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية،القاهرة،1993.
ص: 426
179-الفائق في غريب الحديث،محمود بن عمر الزمخشري،بيروت،دار المعرفة، تحقيق،علي البجاوي،و محمد إبراهيم،الطبعة الثانية،د.ت.
180-فتح الباري شرح صحيح البخاري،أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، القاهرة،دار الريان تعليق،محمد فؤاد عبد الباقي،الطبعة الثانية،1988.
181-فتح البيان في مقاصد القرآن،صديق بن حسن القنوجي،صيدا،المكتبة العصرية 1992.
182-فتح الرحمن في تفسير القرآن،عبد المنعم تعليب،القاهرة،دار السلام، الطبعة الأولى 1416 ه1995/ م.
183-فتح القدير،محمد بن علي الشوكاني،بيروت،دار إحياء التراث العربي،د.ت.
184-الفتوحات الإلهية،سليمان بن عمر العجيلي،بيروت،دار الفكر،1415 ه/ 1994.
185-الفرق بين الفرق،عبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي،بيروت،دار المعرفة،تحقيق،محمد محي الدين عبد الحميد،د.ت.
186-فسيولوجيا النبات،روبرت ديفلين و فرانسيس ويزام،ترجمة،محمد شرقاوي و آخرون،القاهرة المجموعة العربية للنشر،1985.
187-فسيولوجيا النبات،علي الهلال،الرياض،النشر العلمي و المطابع،1420 ه.
188-الفصل في الملل و الأهواء و النحل،علي بن أحمد بن حزم الظاهري،بيروت، دار المعرفة الطبعة الثانية،1395 ه1975/ م.
189-الفضاء و الشهب،محمد فتحي عوض الله،القاهرة،الهيئة المصرية العامة للكتب،1973 م.
190-فضل العلم و العلماء،لابن قيم الجوزية،جمع و ترتيب صالح الشامي، بيروت،المكتب الإسلامي،الطبعة الأولى،1422 ه2001/ م.
191-فكرة إعجاز القرآن،نعيم الحمصي،بيروت،مؤسسة الرسالة،الطبعة الثانية، 1400 ه 1980 م.
192-الفهرست،محمد بن إسحاق أبو الفرج النديم،بيروت،دار المعرفة،1398 ه 1978/ م.
193-الفوائد المشوق إلى علوم القرآن،محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي ابن القيم،بيروت،دار الكتب العلمية،الطبعة الأولى،1415 ه1994/ م.
194-في ظلال القرآن،سيد قطب،القاهرة،دار الشروق،الطبعة الخامسة و العشرون،1417 ه 1996.
ص: 427
195-قالوا في الإسلام و القرآن و الرسول،حسين سليم،بيروت،دار رشاد برسن، 2002.
196-القاموس المحيط،محمد بن يعقوب الفيروزآبادي،بيروت،دار الفكر، 1995.
197-قبس من نور القرآن،محمد علي الصابوني،بيروت،مؤسسة الريان،الطبعة الرابعة،1419 ه1998/ م.
198-القرآن الكريم أضواء على الشرق و الغرب،محمد قبيسي،بيروت،مؤسسة الرحاب الحديثة الطبعة الأولى،1996.
199-قصة الكون عجب و بهاء،كليفورد سيماك،ترجمة،عبد القوي عياد،القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب،1975.
200-قصة نشوء الكون،مخلص الريس و علي موسى،دمشق،دار دمشق،الطبعة الأولى،1990.
201-القمر،إبراهيم،حلمي غوري،بيروت،دار الشرق العربي،د.ت.
202-القمر،محمد علي المغربي،القاهرة،دار المعارف،الطبعة الثانية،1966.
203-قواعد الجيومورفولوجيا العامة،جودت حسنين جودت الإسكندرية،دار المعرفة الجامعية 1996.
204-كتاب التوحيد،عبد المجيد الزنداني،دمشق،دار الخير،الطبعة الأولى، 1411 ه1990/ م.
205-كتاب العين،الخليل بن أحمد الفراهيدي،تحقيق،مهدي المخزومي و إبراهيم السامرائي بيروت،دار الهلال،د.ت.
206-الكشاف،محمود بن عمر الزمخشري،بيروت،دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى 1417 ه1997/ م.
207-كوكب اسمه الأرض،جورج جامو،ترجمة،الدكتورة هذارة،القاهرة، مؤسسة سجل العرب،1974.
208-كوكب الأرض،حسن أبو العينين،الإسكندرية،مؤسسة الثقافة الجامعية، الطبعة الحادية عشر،1996.
209-كوكب الأرض،إعداد و نشر،مؤسسة الكويت للتقدم العلمي،الكويت، الطبعة الثانية 1987.
210-الكون،هوبرت ريفرز،ترجمة درويش الحلوجي،القاهرة،دار المستقبل العربي،الطبعة الأولى 1996 م.
ص: 428
211-الكون البحث عن لحظة الميلاد،هوبرت ريفز،ترجمة،درويش الحلّوجي، القاهرة،المستقبل العربي،الطبعة الأولى،1996.
212-الكون ذلك المجهول،جلال عبد الفتاح،القاهرة،الهيئة المصرية العامة للكتاب،1994.
213-الكون و أحجار الفضاء،محمد فتحي عوض،دمشق،دار الوثبة،الطبعة الثانية،1983.
214-الكون و الإعجاز العلمي في القرآن،منصور حسب النبي،القاهرة،دار الفكر العربي،الطبعة الثانية،1991.
215-الكون و الطاقة،إعداد المكتب العالمي للبحوث،بيروت،المكتب العالمي 1410 ه1989/.
216-كيف نتعامل مع القرآن العظيم،د.يوسف القرضاوي،القاهرة،دار الشروق، الطبعة الأولى 1419 ه1999/ م.
217-لباب التأويل في معاني التنزيل،علاء الدين علي بن محمد الخازن،بغداد مكتبة المثنى،د.ت.
218-لباب النقول في أسباب النزول،عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد السيوطي، بيروت،دار إحياء العلوم،د.ت.
219-اللباب في علوم الكتاب،عمر بن علي الدمشقي،تحقيق،علي معوض و آخرون،بيروت دار الكتب العلمية،الطبعة الأولى،1419 ه1998/.
220-لسان العرب،محمد بن مكرم بن منظور،بيروت،دار صادر،الطبعة الأولى، د.ت.
221-لفتات علمية من القرآن،يعقوب يوسف،الرياض،الدار السعودية للنشر و التوزيع،الطبعة الثانية،1997.
222-لوامع الأنوار البهية،محمد السفاريني الحنبلي،بيروت،المكتب الإسلامي، الطبعة الثالثة 1411 ه1991/.
223-ما هي الجيولوجيا، وليم ماثيوز،ترجمة مختار رسمي ناشد،القاهرة،الهيئة المصرية العامة للكتب،1995.
224-الماء و الحياة بين العلم و القرآن،عبد العليم عبد الرحمن خضر،جدة،الدار السعودية،الطبعة الأولى،1985.
225-مباحث في إعجاز القرآن،مصطفى مسلم،جدة،دار المنارة،الطبعة الأولى، 1408 ه 1988
ص: 429
226-مباحث في علوم القرآن،صبحي الصالح،بيروت،دار العلم للملايين،الطبعة العشرون 1997.
227-مباحث في علوم القرآن،مناع القطان،الرياض،مكتبة المعارف الطبعة الأولى،1413 ه 1992 م.
228-مبادئ الطاقة الشمسية و تطبيقاتها،سهيل فاضل و إلياس الكبة،بيروت،دار الحداثة،الطبعة الثالثة،1987.
229-مبادئ المناخ الطبيعي،إبراهيم العرود،عمان،دار الشروق،الطبعة الأولى، 1997.
230-المجرات و الكوازرات،وليام كاوفمان،ترجمة،عبد الكريم السامرائي، بغداد،دار الشئون الثقافية العامة،الطبعة الأولى،1989.
231-مجلة العربي،الكويت،العدد 313 ديسمبر،1984.
232-مجمع البيان في تفسير القرآن،الفضل بن الحسن الطبرسي،تحقيق هاشم المحلاتي،طهران المكتبة العلمية،د.ت.
233-المجموعة الشمسية و احتمالات الحياة عليها،زين العابدين متولي،القاهرة، مركز جامعة القاهرة،الطبعة الأولى،1418 ه1997/.
234-المجموعة الشمسية و مجال الجاذبية الكونية،الأمين محمد كعورة،القاهرة، المكتب المصري الحديث،د.ت.
235-محاسن التأويل،محمد القاسمي،بيروت،دار الفكر،الطبعة الأولى، 1978.
236-المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز،عبد الحق بن عطية،تحقيق،عبد الله الأنصاري و عبد العال إبراهيم،الدوحة،مطابع قطر الطبعة الأولى، 1409 ه1988/.
237-المحيرات الفلكية،عبد الرحيم بدر،الكويت،مؤسسة الكويت للتقدم العلمي،الطبعة الأولى 1984.
238-المحيط الكوني و أسراره،نجيب زبيب،بيروت،دار الأمير،الطبعة الأولى، 1415 ه1994/.
239-المحيط الكوني و أسراره،نجيب زبيب،ص 67،و انظر:في أعماق الفضاء، عبد الحميد سماحة بيروت،دار الشروق،الطبعة الثالثة 1401 ه1980/.
240-مختار الصحاح،محمد بن أبي بكر الرازي،بيروت،مكتبة لبنان ناشرون، تحقيق،محمود خاطر،1415 ه1995/.
ص: 430
241-مدارك التنزيل و حقائق التأويل،عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي، بيروت،دار النفائس د.ت.
242-مدخل إلى علم المناخ،ضاري العجمي و محمود صفر،الكويت،مكتبة الكويت،الطبعة الأولى،1408 ه1987/.
243-مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد،محمد بن عمر نووي الجاوي،تحقيق، محمد أمين الضناوي،بيروت،دار الكتب العلمية،الطبعة الأولى،1417 ه/ 1997.
244-المستشرقون،نجيب العقيقي،القاهرة،دار المعارف،الطبعة الرابعة د.ت، 102/2.
245-مسند أبي يعلى،أحمد بن علي أبو يعلى الموصلي،تحقيق،حسن سليم أسد، دمشق،دار المأمون للتراث،الطبعة الأولى،1404 ه1984/.
246-مسند أحمد،أحمد بن حنبل الشيباني،القاهرة،مؤسسة قرطبة،د.ت.
247-مسند الشافعي،محمد بن إدريس الشافعي،بيروت،دار الكتب العلمية، د.ت.
248-مسند عبد بن الحميد،عبد بن حميد بن نصر الكسي،القاهرة،مكتبة السنة، تحقيق،صبحي السامرائي و محمود الصعيدي،الطبعة الأولى،1408 ه/ 1988.
249-مشاهير القرن العشرين،محمد بوذينة،تونس،مطبعة تونس،الطبعة الأولى، 1994.
250-مشهد الرياح و تصريفها،عبد الكريم العثمان،الرياض،الدار العالمية للكتاب الإسلامي الطبعة الأولى،1418 ه1997/.
251-المصباح المنير،أحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي،بيروت،المكتبة العلمية،د.ت.
252-المعارف الكونية،إعداد،نخبة من العلماء،القاهرة،دار الفكر العربي، 1418 ه1998/.
253-معالم التنزيل،حسين بن مسعود البغوي،تحقيق،خالد العك،بيروت،دار المعرفة،الطبعة الثانية،1407 ه1987/.
254-معاني القرآن،لأبي إسحاق إبراهيم بن الري الزجاج،تحقيق،عبد الجليل شلبي،بيروت عالم الكتب،الطبعة الأولى،1408 ه1988/.
ص: 431
255-معاني القرآن،يحيى بن زياد الفراء،بيروت،عالم الكتب،الطبعة الثالثة، 1403 ه.
256-معاني القرآن الكريم،لأبي جعفر النحاس،تحقيق،محمد علي الصابوني، مكة المكرمة،نشر جامعة أم القرى،الطبعة الأولى،1409 ه.
257-المعجزة الخالدة،حسن ضياء الدين عتر،بيروت،دار ابن حزم،الطبعة الثانية،1409 ه 1989.
258-المعجزة القرآنية،محمد حسن هيتو،بيروت،مؤسسة الرسالة،الطبعة الأولى،1409 ه 1989.
259-المعجزة الكبرى،محمد أبو زهرة،القاهرة،دار الفكر العربي،د.ت.
260-معجم أعلام المورد،منير بعلبكي،بيروت،دار العلم للملايين،الطبعة الأولى،1992.
261-معجم الأدباء،ياقوت بن عبد الله الرومي البغدادي،بيروت،دار صادر، د.ت.
262-المعجم الجامع لغريب مفردات القرآن،عبد العزيز السيروان،بيروت،دار العلم للملايين،الطبعة الأولى،1986.
263-معجم الفرق الإسلامية،شريف يحيى الأمين،بيروت،دار الأضواء،الطبعة الأولى،1406 ه1986/.
264-المعجم الكبير،سليمان بن أحمد أبو القاسم الطبراني،تحقيق،حمدي السلفي،الموصل،مكتبة العلوم و الحكم،الطبعة الثانية،1404 ه1983/.
265-معجم مقاييس اللغة،لأبي الحسين أحمد بن فارس،بيروت،دار الجيل، تحقيق،عبد السلام هارون،د.ت.
266-معرض الإبريز من الكلام الوجيز عن القرآن العزيز،عبد الكريم الأسعد، الرياض،دار المعراج،الطبعة الأولى،1419 ه1998/.
267-المغرب في ترتيب المعرب،ناصر الدين بن علي المطرز،تحقيق،محمد فاخوري و عبد المجيد مختار،حلب،مكتبة أسامة بن زيد،الطبعة الأولى، 1979.
268-مفردات ألفاظ القرآن،للراغب الأصفهاني،تحقيق،صفوان داودي، دمشق،دار القلم الطبعة الثانية،1418 ه1997/.
269-مفكرون من عصرنا،سامي خشبة،القاهرة،المكتبة الأكاديمية،الطبعة الأولى،1422 ه 2001.
ص: 432
270-مقالات الإسلاميين و اختلاف المصلين،أبو الحسن الأشعري،صيدا- بيروت،المكتبة العصرية،تحقيق،محي الدين عبد الحميد،د.ت.
271-المقدمة،عبد الرحمن بن محمد بن خلدون،بيروت-صيدا،المكتبة العصرية،تحقيق،درويش جويدي،1422 ه.
272-مقدمة في علم الفلك،توماس آرني،ترجمة،د.أحمد الحصري،دمشق،دار طلاس،الطبعة الأولى،1998.
273-المكان و الزمان في العالم الكوني الحديث،ب.د.ديفيس،ترجمة،أدهم السمان،دمشق مؤسسة الرسالة،الطبعة الأولى،1409 ه1988/.
274-الملل و النحل،محمد بن عبد الكريم الشهرستاني،بيروت،دار المعرفة، تحقيق،محمد كيلاني 1404 ه.
275-من الآيات العلمية،عبد الرزاق نوفل،القاهرة،مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الأولى،1966.
276-من الذرة إلى المجرة،حمادة العائدي،عمان،دار الفكر،الطبعة الأولى، 1415 ه1994/.
277-من الذرة إلى المجرة،محمد صالح المحب،بيروت،دار الفكر اللبناني، د.ت.
278-من دلائل الإعجاز العلمي في القرآن و السنة،موسى الخطيب،القاهرة، مؤسسة الخليج العربي،الطبعة الأولى،1415 ه1994/.
279-مناهل العرفان في علوم القرآن،محمد عبد العظيم الزرقاني،بيروت،دار الفكر،تحقيق،مكتب البحوث و الدراسات،الطبعة الأولى 1996.
280-المنظومة الشمسية،سمير عازار،بيروت،دار النهار،1991.
281-المنظومة الشمسية،عبد الأمير المرتضى المؤمن،دبي،الإمارات العربية المتحدة،الطبعة الأولى 1997.
282-المنظومة الشمسية،علي موسى و مخلص الريس،دمشق،دار دمشق،الطبعة الأولى،1403 ه1983/.
283-من علم الفلك القرآني،عدنان الشريف،بيروت،دار العلم للملايين،الطبعة الثالثة،1997.
284-المنهج الإيماني للدراسات الكونية،عبد العليم عبد الرحمن خضر،جدة، الدار السعودية،الطبعة الثالثة،1407 ه1987/.
ص: 433
285-الموافقات في أصول الشريعة،إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشاطبي،بيروت دار المعرفة،الطبعة الرابعة،1420 ه1999/ م.
286-موجز في تاريخ الزمان،ستيفن هوكنغ،ترجمة،مصطفى فهمي،القاهرة، مكتبة الأسرة 2001.
287-مورفولوجيا النباتات الزهرية،مصطفى الحديدي،الرياض،دار المريخ، 1414 ه،1994 م.
288-موسوعة الظواهر الطبيعية،خليل بدوي،عمان،دار عالم الثقافة،الطبعة الأولى،2000.
289-موسوعة عالم المعرفة،بيروت،دار نوبليس،الطبعة الأولى 1996.
290-موسوعة غينيس في علم الفلك،باتريك موور،ترجمة،مركز التعريب و البرمجة،بيروت،الدار العربية للعلوم،الطبعة الأولى،1415 ه1994/ م.
291-الموسوعة الفلكية،خليل بدوي،عمّان،عالم الثقافة،الطبعة الأولى، 1999.
292-الموسوعة الكاملة الكون،بيروت نوبيلس،الطبعة الأولى،1997.
293-موسوعة الكون و الفضاء و الأرض،موريس شربل و رشيد فرحات،بيروت، دار الفكر العربي،الطبعة الأولى،1999.
294-موسوعة الكويت العلمية للكيمياء،الكويت،مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، الطبعة الأولى 1986.
295-موطأ مالك،مالك بن أنس الأصبحي،القاهرة،دار إحياء التراث العربي، تحقيق،محمد فؤاد عبد الباقي،د.ت.
296-الميكروكمبيوتر و علم الفلك،محمد رشاد الدين مصطفى،بيروت،دار الراتب،د.ت.
297-النبوات،أحمد بن عبد الحليم بن تيمية،القاهرة،المطبعة السلفية،د.ت.
298-النجم الغريب مولد الشمس و موتها،جون غريبين،ترجمة،فائز فوق العادة، دمشق،دار الشيخ،الطبعة الأولى،1988.
299-نحن و الكون،عبد الوهاب سليمان،الكويت،مؤسسة الكويت التقدم العلمي، الطبعة الأولى 1996.
300-نشأة الكون،السموات السبع،محمد جمال الدين الفندي،القاهرة،الهيئة المصرية العامة للكتاب،1973.
ص: 434
301-هذا خلق الله،الدكتور عبد الحليم كامل،القاهرة،المكتبة الأكاديمية، الطبعة الأولى،1994.
302-هل من كائنات عاقلة خارج الأرض،نزار دندش،بيروت،دار المؤلف، الطبعة الأولى 1420 ه2000/.
303-هل نحن وحدنا في هذا الكون،محمد عبده يماني المنامة،بيت القرآن،الطبعة الأولى،1417 ه1996/.
304-الوجيز في تفسير الكتاب العزيز،علي بن أحمد الواحدي،تحقيق،صفوان داودي،دمشق دار القلم،الطبعة الأولى،1415 ه.
305-الوجيز في الجيولوجيا،ليون موريه،ترجمة،يوسف خوري و عبد الرحمن حميدة،دمشق،دار طلاس،الطبعة الأولى،1987.
306-الوسيط في تفسير القرآن المجيد،علي بن أحمد الواحدي النيسابوري، تحقيق،علي معوض و آخرون،بيروت،دار الكتب العلمية،الطبعة الأولى، 1415 ه1994/ م.
ثالثا:مواقع الإنترنت.
1-http://www.albayan.co.ae/albayan/2002/11/30/mnw/11.htm .
2-http://antwrp.gsfc.nasa.gov/apod/ap010609 .
3-http://antwrp.gsfc.nasa.gov/apod/ap990419.html .
4-http://antwrp.gsfc.nasa.gov/apod/ap010423.html .
5-http://antwrp.gsfc.nasa.gov/apod/ap010204.html .
6-http://antwrp.gsfc.nasa.gov/apod/ap001118.html .
7-http://antwrp.gsfc.nasa.gov/apod/ap960520.html .
8-http://antwrp.gsfc.nasa.gov/apod/ap030310.html .
9-http://antwrp.gsfc.nasa.gov/apod/ap950724.html .
10-http://antwrp.gsfc.nasa.gov/apod/ap010508.html .
11-http://antwrp.gsfc.nasa.gov/apod/ap950628.html .
12-http://antwrp.gsfc.nasa.gov/apod/ap010508.html .
13-http://www.doubledeckerpress.com/NEWPAGE9.HTM .
14-http://www.doubledeckerpress.com/Hawaii.htm .
15-http://www.nineplanets.org/overview.html .
16-http://planetscapes.com/solar/eng/homepage.htm .
17-http://planetscapes.com/solar/cap/ds/milkyway.htm .
18-http://www.peakwary.com/encyclopedia/peaks/photos/gasherbrum.htm.
19-http://www.schoolarabia.net/kemya/general-chemistry/glossary/chem-1/chem.htm .
20-http://zizooo.ws/z.php?name Gallery
do showpic
pid 329
orderby dateD .
21-hHh://www.zizooo.ws/z.php?name Gallery and
do showpic
pid 2035 order by dateD .
22-http://zizooo.ws/z.php?name Gallery
do showpic
pid 4074
orderby dateD .
23- http://zizooo.ws/z.php?name Gallery
do showpic
pid 4113
orderby dateD .
24- http://zizooo.ws/z.php?name Gallery
do showpic
pid 323
orderby dateD .
25-http://zizooo.ws/z.php?name Gallery
do showpic
pid 4077
orderby dateD.
ص: 435
ص: 436
الموضوع\الصفحة
الإهداء\5
مقدمة\7
مقدمة\10
مقدمة\11
المقدمة\13
خطّة البحث\17
الفصل الأوّل:مفهوم المعجزة\21
تمهيد\23
المبحث الأول:تعريف المعجزة\25
المعجزة اصطلاحا\26
المبحث الثاني:الفرق بين معجزة النبي و معجزات الأنبياء السابقين عليهم السّلام\29
أولا:معجزات الأنبياء عليهم السّلام\29
ثانيا:معجزات نبينا محمد صلى اللّه عليه و سلم\34
المعجزات الحسية\34
1-نبع الماء\35
2-تكثير الطعام\36
3-حنين الجذع\37
4-انشقاق القمر\38
المبحث الثالث:مراحل التحدي بالقرآن الكريم\42
المرحلة الأولى\45
المرحلة الثانية\46
ص: 437
المرحلة الثالثة\48
القدر المعجز عند المعتزلة\51
المبحث الرابع:عجز المشركين و اعترافهم بعظمة القرآن\53
1-اعتراف بلغاء المشركين بإعجاز القرآن\55
أولا-عتبة بن ربيعة\55
ثانيا-الوليد بن المغيرة\57
ثالثا-النضر بن الحارث\58
أذى النضر للرسول صلى اللّه عليه و سلم\58
2-اعتراف فصحاء العرب المؤمنين بإعجاز القرآن\60
أولا-عمر الخطاب رضي اللّه عنه\60
ثانيا-الطفيل بن عمرو الدوسي\62
ثالثا-لبيد بن ربيعة\63
رابعا-أنيس أخو أبي ذر الغفاري\64
الفصل الثاني:نشأة مصطلح إعجاز القرآن\69
تمهيد\71
المبحث الأول:الصّرفة و القائلون بها\73
الصّرفة لغة\73
الصرفة اصطلاحا\74
القائلون بالصرفة\75
1-النظام\75
2-الشريف المرتضى من الشيعة\78
3-ابن حزم الأندلسي الفقيه الظاهري\79
4-ابن سنان الخفاجي\80
المبحث الثاني:نقد مذهب الصرفة\83
أولا:الرد على النظّام و من حذى حذوه\83
ثانيا:الرد على المرتضى و من شايعه\88
ص: 438
المبحث الثالث:أوجه إعجاز القرآن\92
هل من جهة أسلوبه و دقة عبارته و كلامه؟\92
أم أن الإعجاز جاء من جهة ألفاظه؟\92
أم أن الإعجاز جاء من جهة المعاني التي تضمنها القرآن الكريم؟\92
أولا-وجوه إعجاز القرآن كما حددها الإمام الباقلاني\94
ثانيا-القاضي عياض و وجوه إعجاز القرآن\99
الرأي المختار في تحديد أوجه إعجاز القرآن\102
الفصل الثالث:الإعجاز العلمي بين المؤيدين و المعارضين\105
تمهيد\107
المبحث الأول:أبرز المؤيّدين من العلماء القدامى\109
أولا-الإمام أبو حامد الغزالي\109
ثانيا-فخر الدين الرازي\112
ثالثا-الإمام الزركشي\114
رابعا-الإمام السيوطي\116
المبحث الثاني:أبرز المؤيدين من العلماء المعاصرين\118
أولا-الإمام محمد عبده\118
ثانيا-عبد الرحمن الكواكبي\120
القسم الثاني:المثبتون من العلماء المعاصرين باعتدال أولا-وحيد الدين خان\123
ثانيا-الدكتور محمد جمال الدين الفندي\125
ثالثا-الشيخ أحمد مصطفى المراغي\127
المبحث الثالث:أبرز المعارضين من العلماء القدامى و المعاصرين\130
أولا-المعارضون من العلماء القدامى\130
الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الغرناطي الشاطبي\130
ثانيا-المعارضون من العلماء المعاصرين\132
1-الشيخ محمود شلتوت\132
2-سيد قطب\134
ص: 439
3-محمد عبد العظيم الزرقاني\137
4-محمد رشيد رضا\139
المبحث الرابع:أدلة الفريقين\141
أولا-من أدلة المؤيدين للتفسير العلمي\141
ثانيا-من أدلة المعارضين للتفسير العلمي\142
الترجيح\143
الفصل الرابع:الإعجاز القرآني في علم الفلك\151
تمهيد\153
المبحث الأول:بين الإسلام و العلم\155
أولا-الإسلام دين العلم\155
ثانيا-الإعجاز العلمي سبيل من سبل الدعوة\158
ثالثا-ضوابط التفسير العلمي للقرآن\161
المبحث الثاني:مولد الكون و نشأته بين القرآن و العلم\166
مراحل الخلق أولا-مرحلة الرتق و الفتق\167
ثانيا-مرحلة خلق السموات و الأرض\171
ثالثا-مرحلة دحو الأرض\173
الحقائق العلمية\177
الإعجاز\181
المبحث الثالث:تمدد الكون و توسعه\184
الحقائق العلمية\186
الإعجاز\190
المبحث الرابع:نهاية الكون بين القرآن و العلم\193
الإعجاز\201
الفصل الخامس:الإعجاز القرآني في الشمس\207
تمهيد\209
ص: 440
المبحث الأول:تحركات الشمس و انتقالاتها\210
تحركات الشمس و انتقالاتها\211
الحقائق العلمية\214
حركات الشمس\214
الإعجاز\216
المبحث الثاني:الشمس متوهجة ملتهبة\219
الحقائق العلمية\221
الإعجاز\225
المبحث الثالث:تعدد الشموس و الأقمار\226
الحقائق العلميّة\228
الإعجاز\235
المبحث الرابع:موت الشمس و نهايتها بين القرآن و العلم\237
الحقائق العلمية\240
الإعجاز\242
الفصل السادس:الإعجاز القرآني في الأرض\243
تمهيد\245
المبحث الأول:كروية الأرض\246
الحقائق العلمية\253
الإعجاز\254
المبحث الثاني:حركة الأرض و دورانها\256
الحقائق العلمية\261
الإعجاز\263
المبحث الثالث:جاذبية الأرض\264
الحقائق العلمية\268
الإعجاز\270
المبحث الرابع:الغلاف الجوي و منافذه للأرض\271
الحقائق العلمية\274
ص: 441
الإعجاز\278
الفصل السابع:الإعجاز القرآني في القمر\281
تمهيد\283
المبحث الأول:القمر منير\284
الحقائق العلمية\288
الإعجاز\289
المبحث الثاني:انشقاق القمر\291
الحقائق العلمية\293
الإعجاز\296
المبحث الثالث:منازل القمر\298
الحقائق العلمية\299
الإعجاز\303
المبحث الرابع:و جمع الشمس و القمر\304
الحقائق العلمية\305
الإعجاز\306
الفصل الثامن:الإعجاز القرآني في الرياح\307
تمهيد\309
المبحث الأول:أنواع الرياح بين القرآن و العلم\311
الحقائق العلمية\315
الإعجاز\319
المبحث الثاني:تكوين السحب و أنواعها بين القرآن و العلم\320
الحقائق العلمية\322
أنواع السحب من حيث النشأة\323
الحقائق العلمية\328
أنواع الغيوم\329
الإعجاز\331
ص: 442
المبحث الثالث:البرق و البرد بين القرآن و العلم\333
الحقائق العلمية\335
الإعجاز\338
الفصل التاسع:الإعجاز القرآني في الجبال\339
تمهيد\341
المبحث الأول:تكوين الجبال\343
الحقائق العلمية\345
الإعجاز\349
المبحث الثاني:الجبال تحافظ على توازن الأرض\350
الحقائق العلمية\352
الإعجاز\353
المبحث الثالث:الرواسي الشامخات و الماء الفرات\356
الحقائق العلمية\358
الإعجاز\360
المبحث الرابع:حركة الجبال و تعدّد صخورها\362
الحقائق العلمية\364
الإعجاز\367
الفصل العاشر:الإعجاز القرآني في البحار\369
تمهيد\371
المبحث الأول:ظلمات البحار و تنوع الأمواج\373
الحقائق العلمية\376
الإعجاز\379
المبحث الثاني:مرج البحرين يلتقيان\380
الحقائق العلمية\383
الإعجاز\386
المبحث الثالث:و البحر المسجور\388
ص: 443
الحقائق العلمية\390
الإعجاز\391
المبحث الرابع:اهتزاز الأرض بنزول ماء السماء\392
الحقائق العلمية\395
الإعجاز\397
الخاتمة\398
الفهارس فهرس الآيات\405
فهرس الأحاديث\414
قائمة المصادر و المراجع\415
الفهرس\437
ص: 444