نام كتاب: الإعجاز العلمي في القرآن( للجميلي)
نويسنده: السيد الجميلى
موضوع: اعجاز علمى
تاريخ وفات مؤلف: معاصر
زبان: عربى
تعداد جلد: 1
ناشر: دار و مكتبة الهلال / دار الوسام
مكان چاپ: بيروت
سال چاپ: 2000
نوبت چاپ: بى نا
ص: 1
ص: 2
ص: 3
ص: 4
إلى روح الرجل الكبير في تواضعه و سماحته و حلمه..غفر اللّه ذنبه، و خفف حسابه،و تغمده بغفرانه،و مهد له في أعلى جناته...أكرم اللّه مرجعه،و رحم مصرعه،و برّد مضجعه..جعل اللّه فرطاته مغفورة، و حسناته مشكورة...نوّر اللّه برهانه،و خلع عليه رضوانه،و فسح له جنانه و جعل ما نقله إليه خيرا مما نقله عنه،و أفاض عليه الرحمة السابغة عليه،و لقنه الحجة البالغة بين يديه.كان تقيا ورعا مخبتا خاشعا و التقوى أقوى مجن و أوقى ظهير.
إلى المرحوم الأستاذ الدكتور الحسين هاشم وكيل الأزهر السابق.
ص: 5
ص: 6
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
ص: 7
أمرنا اللّه سبحانه و تعالى أن نتدبر مخلوقاته،و نتأمل دقيق و متقن صنعه،فإذا كان القرآن كتاب اللّه المقروء،فإن الكون هو كتاب اللّه المنظور.
و المسلم مأمور بأن يتدبر آيات اللّه الكريمة،و أن يعمل عقله و فكره و وجدانه في فقه معانيها،و فهم مدلولاتها حتى تطمئن جوارحه،و تستقر خواطره إلى أن القرآن تنزيل رب العالمين حجة على العقل الإنساني و على أهل الأرض قاطبة من بني البشر أجمعين.
العلم حجة على أهله لأنه مناط التكليف.
و لأن العلم جعل العقل البشري لا يقبل القضية إلا إذا كانت مشفوعة بالبرهان، و لا يرجح راجحا على مرجوح إلا بدليل،ثم هو يستطيع التفرقة بين الأدلة من قطعي إلى ظني،إلى متردد بين هذا و ذاك و في كل هذه الأحوال له أن يقف على ما يثق فيه،و يطمئن إليه،حسب مقدرته من التقييم،و رصيده من التجريب و الممارسة، فهناك من يأخذ بالظنة،و يقول عليها،و هناك من يطلب الدليل القطعي الذي يعطيه واقعا لا يرقى إليه حدس أو ريبة.
و مجالات الحدس يكثر أعمالها في المبهمات التي لم يقطعها و لم يفصل فيها أمر قاطع، و المظنون أن تخضع لترجيحات العقل و الفهم.
و لا أحد ينكر أن الإيمان عن علم و بصيرة و يقين هو أرقى و أشرف درجات
ص: 8
الإيمان لأنه بذلك يكون قد حقق ما قد أريد منه و أنيط به.قال تعالى: وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ (1).
و خطاب القرآن ليس مقصورا على العرب الأميين،و لا هو بمقصور على أبناء القرن العشرين،و لكنه عام مطلق لكل عصر،و لكل مكان فليس من المعقول، و ليس من المقصور أن يظل تفكير الإنسان ثابتا على نسق واحد في جميع العصور.
و لكن التفكير العصري شيء و إقرار النظريات العلمية المتجددة شيء آخر،و نحن مطالبون بأن نفهم القرآن الكريم في عصرنا كما كان يفهمه العرب الذين حضروا الدعوة المحمدية،لو أنهم عرفوا ما عرفناه،و تعلموا ما تعلمناه نحن (2).
و نحن اليوم نستفيد من الاكتشافات العلمية،و المستحدثات الحضارية التي أربت على كل تصور،و بلغ العلم مراحل خطيرة من التفوق و النفاذ إلى ما لم يخطر قبل ذلك على قلب بشر،و لم يتوقف عند حد إنما لا يزال المتوقع و المأمول أن المستقبل فيه الأكثر و الأكثر من المغريات.
و لا أحد ينكر إفادتنا من آراء المفكرين،و العلماء النظريين و التجريبيين إفادات و إدراكات نافعة في التأمل و النظر دون الإيمان بصحة كل خبر،و صدق كل نظرية، و صواب كل رأي.
و مطلوب منا في آن واحد أن نؤمن بآيات اللّه المنزلة،لقوله تعالى: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها 3كذلك فالأمر بتدبر آياته الكونية واجبول
ص: 9
بل فريضة لقوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ، اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ،وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ،رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النّارِ (1).
و القرآن الكريم حافل بالإشارات العلمية الكونية و كل منها يدعو الفطرة الموحدة لمزيد من التوحيد،و الخشوع و الخشية و الإخبات للحق سبحانه و تعالى،و أكثر الناس إدراكا لها المتخصصون في الكونيات و علوم الطبيعة.
و يأتي عظيم مدلول الآيات الكريمة أنها تتناول الجانب العلمي الفيزيائي على لسان نبي أمي لم يكن يقرأ،أو يكتب،كما لم يكن يختلف قبلها إلى معلم أو مدرس...أمر غريب محير حقا أن تأتي هذه الإعجازات العلمية على قلب رجل كان راعيا للغنم في نشأته الأولى،ثم استغل بالتجارة صبيا،و أكثر هذه الإعجازات لم يصل العلم إلى بعضها إلا مؤخرا.قال تعالى: وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَرْتابَ الْمُبْطِلُونَ (2).
و قد تنوعت مذاهب العلماء و مصنفاتهم في التفسير فمنهم من جنح إلى التفسير بالمأثور كما فعل الإمام محمد بن جرير الطبري في«جامع البيان»،و الإمام السيوطي في تفسيره«الدر المنثور في التفسير بالمأثور».
و بعض العلماء جنح إلى التفسير بالرأي مثل الإمام الفخر الرازي في تفسيره).
ص: 10
الكبير المسمى«مفاتيح الغيب»و الألوسي في كتابه القيم«روح المعاني»و البيضاوي في«أنوار التنزيل»لكن الإمام الزمخشري في«الكشاف»جنح إلى التفسير البلاغي و قد اختار أبو حيان التفسير النحوي«البحر المحيط».بل الإمام القرطبي اختار الجانب الفقهي في تفسيره الشهير«الجامع لأحكام القرآن».
و كان أمرا محتوما أن يظهر أخيرا التفسير العلمي مختارا لأنواع شتى من الاشارات العلمية للحقائق الكونية.و محاولة التوفيق بين الإشارات القرآنية و الحقائق العلمية فتحت بابا للاجتهاد و البحث لم يكن مطروقا من قبل.و قد لاقى التفسير العلمي قبولا من بعض العلماء الذين أرادوا أن يتسع رصيدا للأدلة التي تيسر ولوج الإيمان إلى قلوب الناس،و أيدوا ذلك بقوة ليتسنى للإسلام التمشي مع التطور العلمي المعاصر الذي بلغ شأوا بعيدا في هذا العصر الذي أصبح الناس فيه مضمونين في الأسباب.لكن تيارا آخر ظهر معارضا للتفسير العلمي،و هذا التيار معذور لإشفاقه و حيطته و حذره أن يختلط الفهم أو يكون ذلك داعيا لفتح باب شديد الخطورة غير مأمون المغبة و العاقبة،فإن ربط التفسير القرآني بتلك النظريات أو الحقائق المتغيرة غير الثابتة يضر إضرارا بليغا و يسبب فتنة شرسة لا مزيد عليها.
و قد قدم الشيخ طنطاوي جوهري تفسير«الجواهر الحسان»في التفسير العلمي (1)،كذلك الأستاذ حنفي أحمد في كتاب«التفسير العلمي للآيات الكونية» و الدكتور عبد اللّه شحاتة في كتابه«تفسير الآيات الكونية»و الدكتور محمد أحمد الضمراوي في كتابه«الإسلام في عصر العلم»و الذي قدم له الأستاذ الدكتور أحمد عبد السلام الكرداني.
و قد ثبت أن الفريقين-المؤيد و المعارض للتفسير العلمي-كلا منهما قد أغرق (2)في مذهب و بالغ في رأيه.ة.
ص: 11
فالذين جنحوا للتفسير العلمي،قيل لهم إن الكشوف العلمية تتغير من جيل إلى جيل لأن العلم ينقض اليوم ما أبرمه بالأمس،و غدا ينقض ما أبرمه اليوم (1)، لكن القرآن الكريم ثابت لا يتغير،لأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، تنزيل من عزيز حميد.
و من الفساد المشين أن تربط متغيرا بثابت لا يتغير،و من الخطأ أن تربط آيات القرآن الكريم بمفاهيم تختلف فيها و جهات النظر اختلافا شديدا.
كذلك فالذي لا شك فيه أن التيار الآخر الذي أنكر الإشارات العلمية قد أخطأ الرأي و التقدير لأنه يتجاهل جانبا بالغ الأهمية من الإشارات العلمية التي أشار إليها القرآن الكريم و هي دعوة للتدبر في ملك اللّه سبحانه و تعالى و ملكوته (2).
قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ (3).
و آيات اللّه الكونية تهيب بالغافلين أن يتدبروها،و يعملوا فيها عقولهم،و أفهامهم، إلا أن كثيرا منهم يصدفون عنها:قال تعالى: وَ كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَ هُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (4)).
ص: 12
و القرآن يكرم العلماء العاملين و قد أناط بهم فهم آياته و معرفة حقيقة المراد منها.
قال تعالى: وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ وَ ما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (1).
و الدارس للقرآن الكريم يأخذ و ينهل منه على قدر قدرته على الاستيعاب،و درجة يقينه و إيمانه،و حسب ثقافته العلمية و معارفة العديدة،و دقة استنباطه و عمق دربته و اتساع مداركه.
قال تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (2)و كثير من الآيات الكريمة أوردها الحق سبحانه و تعالى عن خلق الإنسان و حياته و أطواره المختلفة و قد تناولناها في تفصيل و بسط علمي دقيق في كتابنا:«الإعجاز الطبي في القرآن» (3)و هي قضايا غاية في الأهمية جديرة بالتدبر و التأمل خليقة بالبحث و الدراسة،و من المحتوم أن يقف عليها كل دارس و باحث و مريد التعمق في فهم كتاب اللّه فهما علميا نافعا كما أمر سبحانه و تعالى.
و صفوة القول و مجمل الموضوع أن نأخذ بالتفسير العلمي للقرآن على حذر شديد، و في حيطة بالغة و احتراس و حذق و فطنة،فلا تحمّل الألفاظ فوق ما تطيق،و لا يجب الصرف عن الظاهر إلا لضرورة تقتضي ذلك،أو في حالة استحالة المعنى الظاهر.
و من الخطر،و من غير المقبول أن يوصد جانب العلوم الكونية المأهول في القرآن الكريم و هو من أمتع ما فيه إذ يتسع المقام به لمخاطبة الأفهام الواعية المدركة المجربة.
و حسب العلماء تكريما أن خوطبوا في القرآن الكريم بأنهم يخشون اللّه بأسلوب القصر في قوله تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ (4)و جاءت هذه الآية بعد قوله تعالى:).
ص: 13
أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها،وَ مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها،وَ غَرابِيبُ سُودٌ، وَ مِنَ النّاسِ وَ الدَّوَابِّ وَ الْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ (1) .
أسأل اللّه أن يهدينا سواء السبيل،و أن يجعل عملنا هذا خالصا لوجهه الكريم إنه خير مأمول و أكرم مسئول.
القاهرة في ديسمبر سنة 1986 م.
السيد الجميلي).
ص: 14
قال تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ، فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَ أَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَ حِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (1).
يقول المفسرون:المعنى:ثم عمد سبحانه و تعالى إلى السماء،و هي دخان،فقصد إلى تسويتها و هي بهيئة الدخان،قال الإمام ابن كثير:
المراد بالدخان بخار الماء المتصاعد منه حين خلقت الأرض (2).
و قوله تعالى: فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً،قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ أي استجيبا لأمرى طائعتين أو مكرهتين(قالتا)أي السماء و الأرض أتينا طائعين أي مذعنين للأمر (3).
قال ابن عباس رضي اللّه عنهما:قال اللّه تعالى للسماء:أطلق شمسك و قمرك و نجومك،و قال للأرض:شققي أنهارك و أخرجي شجرك و ثمارك طائعتين أو كارهتين،قالتا أتينا أمرك طائعين (4).
ص: 15
و في قوله تعالى: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ أي صنعهم و أحكمهم (1).
يقول الفخر الرازي:قضاء الشيء إنما هو إتمامه و الفراغ منه،و الضمير في قوله فَقَضاهُنَّ و يجوز أن يكون ضميرا مبهما مفسرا بسبع سماوات و الفرق بين النصبين أن أحدهما على الحال،و الثاني على التمييز (2).
و في قوله تعالى: وَ أَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها أي جعل في كل سماء ملائكة (3).
يقول الأستاذ محمد اسماعيل إبراهيم:
«يقول العلم إن المقصود بكلمة الدخان في الآية الكريمة و هو السحب الكونية،أو المجرات التي نشأت فيها السماء و الأرض،و السموات السبع التي ورد ذكرها في كثير من الآيات هي على أرجح الأقوال الكواكب السبع السيارة المعروفة،و أن اليومين المذكورين في الآية هما في رأي علماء الجيولوجيا الزمنين اللذين استغرق كل منهما ملايين السنين لتكوين هذه السموات،و أحد هذين الزمنين انقضى وقت أن كانت الأرض مرتوقة أي متصلة بالسديم،و الآخر بعد أن انفتقت الأرض أي انفصلت عن السديم» (4).ي.
ص: 16
نشأت الأرض و السماء أول أمرهما ملتصقتين معا داخل السديم الذي يكتنفهما،ثم يحدث الكثير من الانفجارات الذاتية داخل جسم السديم نتيجة غاز الهيدروجين Hydrogen ions فكان محتوما أن تنفصل السماء عن الأرض نتيجة هذه السلسلة المتصلة من الانفجارات غير المتوقفة و التي أنيط بها تكوين كل مجرات و أجرام السماء.
قال تعالى في كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه:
أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما أي كانتا شيئا واحدا متصلا ببعضه،و من ذلك القول:هو يرتق الفتق أي يسده (1).
قال بعض المفسرين:يقال كانتا مصمتتين،ففتقنا السماء بالمطر، و الأرض بالنبات (2).
و من سنن الحق سبحانه و تعالى في خلقه و مصنوعاته أن يكون أثر
ص: 17
القدرة واحدا في كل أنواع المخلوقات و هذ أعظم دليل و أدق برهان على وحدانية الخالق.
و لقد بيّن اللّه سبحانه و تعالى بهذه الآية أن العالم المادي غير الحي في السموات و الأراضين قد خلق بنظام واحد،رتق ثم فتق،و أن العالم المادي أيضا مخلوق بسنة واحدة،و هي أن جعل الماء سببا في خلق كل الأحياء،لقوله تعالى: وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ في بقية الآية و بعد هذه مباشرة (1).
قال تعالى: وَ السَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ، وَ الْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ (2).
و الرجع هو المطر،و قد أقسم سبحانه و تعالى بالمطر الذي ينزل من السماء و يتكرر على الأرض ذات الصدع و الشقوق التي تنشق بالمطر عن النبات،أن القرآن فصل بين الحق الأبلج و بين الباطل الزاهق المرصوص، و أن هذا التنزيل ليس فيه شائبة من مرية أو لهو أو لعب.و هنا لطيف معنى دقيق أشار إليه القرآن الكريم ألا و هو إرجاع السماء للأرض ما يصعد من البحار و المحيطات الأرضية من بخار الماء vapour water الذي تتكون منه السحب المتكاثفة التي تستحيل بعد ذلك إلى أمطار غزيرة على بقع متناثرة على سطح الكرة الأرضية.عِ
ص: 18
قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ،وَ كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (1)يقول الشيخ الصابوني:أي خلقها في مقدار ستة أيام من أيام الدنيا،و فيه الحث على التأني في الأمور فإن الإله القادر على خلق الكائنات بلمح البصر خلقها في ستة أيام (2).
و في الآية الشريفة دليل على أن العرش و الماء كانا مخلوقين قبل السموات و الأرض (3).
و لقد خلق الحق سبحانه و تعالى السموات و الأرض و ما فيهما في ستة أيام حيث لم يكن قبل ذلك إلا الماء و من فوقه عرش اللّه سبحانه و تعالى:
قال ابن عباس رضي اللّه عنهما:أن السماء هي كل ما أظلك و علاك.
و السماء تشمل و تعني كل طبقات الغلاف الجوي القريب و البعيد كما أن كلمة(العرش)بمعنى سرير الملك.
و لكن أيام اللّه سبحانه و تعالى لا يعلم مداها إلا هو وحده،و قد أثبت
ص: 19
العلماء الجيولوجيون أن الأرض كانت جزءا من الشمس ثم انفصلت عنها بعوامل خارجية طارئة عليها،ثم ابتعدت شيئا فشيئا و ارتمت بعيدا في الفضاء كرة ملتهبة،تحتوي في أحشائها مواد منصهرة و يحيط بغلافها غازات كثيرة كثيفة و أبخرة تشع حرارة مرتفعة في الفضاء حتى تبرد رويدا رويدا (1).
و قد استغرقت عملية تبريد الأرض هذه ملايين السنين التي وردت في القرآن الكريم سِتَّةِ أَيّامٍ و بعد تمام برودة الأرض أو القشرة الأرضية تكاثرت فوقها غازات كثيفة و أبخرة عظيمة نجم عنها أسراف من السحب المتراكمة التي ظللت الأرض بجو قاتم تخلله البرق و الرعد و انهمر عليها المطر فتكونت من جراء ذلك البحار و الأنهار و المحيطات (2).ي.
ص: 20
خلق اللّه سبحانه و تعالى الأرض ذلولا للإنسان يحيا فيها مرزوقا بالمأكل و المشرب،و البيئة و المناخ الملائمين لحياته و نشاطاته،ثم توجهت قدرته إلى السماء فعمد إليها إذ جعلها سبع سماوات.
قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ،وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (1).
قال الحائدون عن الصواب-بحسن نية طبعا-أريد بالسماوات السبع مدارات الكواكب السيارة التابعة للمنظومة الشمسية التي تدور حول الشمس.
و قد وهم هذا الرأي الإمام محمد عبده رضي اللّه عنه-رغبة منه في التفهيم-و رأى البعض أنها ربما أريد بها طبقات الأرض (2).
و لكن للعقل أن يذهب في تأويلها أي مذهب كيفما شاء بشرط ألا يتعارض في أي منها مع نص شرعي واضح،كذلك عليه أن يجعل هذا التصور مجرد رأي ظني راجح لا يصل إلى درجة من درجات اليقين إلا إذا اتصل بعنصر الثبات.و قد وردت في المعاني العلمية و الإشارات الكونية لهذه الآية آراء غير شديدة ضربنا عنها صفحا و لم نشأ مجرد سردها أو مناقشتها لأنها غير جديرة بذلك.
ص: 21
قيل إن القمر قد اقتطع من الأرض عند ما كانت الأرض مائعة،و لو صح قول هؤلاء الزاعمين كان عمر القمر هو نفس عمر القشرة الأرضية عند ما بدأت تبرد و تتجمد،و الأرض أثقل من القمر 82 مرة.و قد بلغ بعد القمر عن أرض مسافة 000,240 ميلا،و لكن قطر الأرض يبلغ نحوا من 8000 ميلا.
و قطر القمر يزيد قليلا عن ربع قطر الأرض.
و يوجد بالقمر فوهات و براكين و وهاد و جبال مختلفة الأشكال و الهيئات،و عليه قمم مرتفعة شاهقة.لكن العلماء انتهوا إلى أن القمر خلو من الماء كما لا يوجد عليه هواء،و هو بلقع و خراب يباب.
و ترى الأرض قمرا عند سطح القمر،و يدور القمر حول الأرض، و الأرض تدور حول نفسها و حول الشمس و كذلك القمر يدور حول نفسه و حول الأرض في آن واحد.
قال تعالى: وَ الشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها،ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَ الْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (1).
و معنى الآية عند جمهور المفسرين:و القمر جعلناه منازل كالشمس،
ص: 22
و هو يزيد و ينقص حتى يصبح كالعذق المقوس أو السباطة اليابسة التي يحول عليها الحول أو العام فأصبحت جافت و صارت مقوسة (1).
و قد انتهت بحوث الفلكيين إلى أن القمر أول الشهر يكون(المحاق) لانمحاق نوره و لاختفائه،ثم بعد سبعة أيام يصير إلى(التربيع الأول)ثم يصير(بدرا)وسط الشهر ثم يتحول إلى(التربيع الثاني)بعد الأسبوع الثالث،ثم يكون في المحاق آخر الشهر،و هكذا دواليك.
و لا يمكن للشمس أن تحتل مكان أحد المنظومات السيارة،و ليس في مقدور أحدها أن يحتل محل الآخر إنما لكل واحد من هذه المسيّرات فلك خاص به و مدار يسير عليه فلا يخرج على دائرته.
قال تعالى: لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَ لاَ اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ،وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (2).
كذلك يستنبط من الآية الشريفة أن كلا من الشمس و القمر لا يجتمعان معا بحال،لأن كلا منهما يجري في مداره الذي يوازي مدار الآخر،و لا يمكن بل يستحيل تماما أن يلتقي كلاهما.
و لا يفوت الليل النهار،فيذهب قبل مجيئة،و قوله تعالى: وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ).
ص: 23
يقصد الشمس و القمر و النجوم يجرون و يسبحون (1).
و تقدير القمر منازل إنما كان تقديرا من اللّه سبحانه و تعالى ليعلم الناس عدد السنين و الحساب،هذا فضلا عن نفع الشمس بالدفء و النور و الضياء،و نور القمر الذي يهدي السراة (2).
قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً وَ قَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ ما خَلَقَ اللّهُ ذلِكَ إِلاّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يقصد جعله ينزل كل ليلة منزلا من النجوم،و هي ثمانية و عشرون منزلا كل شهر،و تسمى هذه المنازل البروج (3).
و من هذه الآية أميط اللثام،و برح الخفاء عن حقيقة ثابتة قديمة مقطوع بصحتها و سلامتها ألا و هي أن الشمس نجم تنبعث منه الحرارة و الضوء كما هو شأن سائر النجوم (4).س.
ص: 24
إن المؤمنين قد قضى لهم بالنصر على أعدائهم لأن اللّه يدافع عن الذين آمنوا،و هو ولي المؤمنين و لكن الذين كفروا وليهم الشيطان و قمين بمن كان اللّه سبحانه و تعالى مدافعا عنه أن ينتصر و يفلج اللّه حجته،و يبير أعداءه،و يمحق ذكرهم و يفرقهم أيدي سبأ (1)فلما انتصر المسلمون على المشركين و ضيقوا الخناق عليهم،ضاقت الأرض على الكفار بما رحبت.
قال تعالى: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَ اللّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَ هُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (2).
و قد رأى بعض العلماء المفسرين أن إنقاص الأرض من أطرافها يقصد به موت الصالحين و العلماء و العباد (3).قيل أيضا بالفتوح على المسلمين.
و بقدر ظفر المسلمين يكون النقص في متاع الكافرين و مما في أيديهم (4).
و إذا كان هذا ما انتهى إليه المفسرون من بيان معاني الآية الشريفة،
ص: 25
بيد أن العلماء الجيولوجيين الدارسين للعصور السحيقة قد وقفوا على قضية فلكية غاية في الأهمية،يتسع لها معنى الآية الكريمة أيضا،و هي أن هؤلاء العلماء قد ثبت لهم أن الكرة الأرضية قد تفلطحت عند القطبين و انبعجت عند خط الاستواء بسبب سرعة دورانها حول نفسها (1).
و قد حدث أن كميات كبيرة من الغازات و العناصر التي تحيط وسط الكرة الأرضية قد انطلقت بقوة الطرد المركزية إلى الخارج بعيدا حول خط الاستواء مما ساعد على انبعاج الكرة الأرضية عند خط الاستواء، و نقص طرفيها عند القطبيين،الشمالي و الجنوبي.
و إذا كان هذا الرأي هو ما اطمأن إليه الفلكيون و استقرت عليه آراؤهم،فليس عندنا ما يرده أو يرفض كونه أحد المعاني التي يجب أخذها في الاعتبار (2)في تأويل الآية الشريفة.س.
ص: 26
لقد لوحظ أن مياه الأنهار إذا انسابت و اختلطت بمياه البحار لا تمتزج بها لأن ثمة حاجزا يمنع طغيان كل منهما على الأخرى،و قيل إنهما على رغم التماس بين سطحيهما يباعد بينهما حاجز من قدرة اللّه عز و جل، قال تعالى:
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ، بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (1) .
و مرج البحرين أي خلاّهما،تقول مرجت دابتي إذا خليتها، و أمرجت الدابة إذا رعيتها (2).
و قد ثبت أن عدم اختلاط مياه الأنهار،و مياه البحار نعمة من نعم الحق سبحانه و تعالى حيث يحتفظ ماء النهر بعذوبته،و كذلك يحتفظ ماء البحر بملوحته،و أيضا فإن أحياء كل منهما لا تختلط بأحياء الآخر.
و المشاهد أن مستوى ماء النهر عادة أعلى من مستوى ماء البحر و قد لوحظ هذا عند التقاء فرعي نهر النيل عند دمياط و عند رشيد بالبحر
ص: 27
الأبيض المتوسط،حيث تندفع مياه النهر العذبة بقوة شديدة إلى مياه البحر الملحة و كل منهما يحتفظ بمذاقها و بأحيائها.
قال تعالى: وَ هُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ،وَ جَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَ حِجْراً مَحْجُوراً (1)فبأي نعمة من نعم ربكما تجحدان؟يا معشر الإنس و الجن.).
ص: 28
قال تعالى: وَ مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَ غَرابِيبُ سُودٌ (1).
قال أبو عبيدة رضي اللّه عنه:الغربيب الشديد السواد؛ففي الكلام تقديم و تأخير،و المعنى:و من الجبال سود غرابيب و العرب تقول للشديد السواد الذي لونه كلون الغراب:أسود غربيب.
و المتدبر للمعاني اللطيفة في الآية الشريفة يرى توازن الألوان في نعوت أنواع الجبال المختلفة و دقة تدرجها فتبدأ بالبيض و تنتهي بالسود، و يتوسط هذه و تلك حمر متدرجة الألوان.
ص: 29
حتى عهد قريب لم يكن أحد يصدق أن الأرض كروية...!و لكن الذي ثبت بالأدلة القطعية غير المطعون فيها أو المقدوح في صوابها أن الأرض كرة و لكن البسطاء و سواد الناس لا يزالون ممتارين في هذه الحقيقة التي سبق إليها القرآن الكريم فنوّه عنها و أشار إليها في قوله تعالى:.
خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ،وَ يُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى (1) .
و معنى الآية الشريفة:أي يغشى الليل على النهار،و يغشى النهار على الليل،و كأنه يلف عليه لف اللباس على اللابس (2).و المنقول عن قتادة أن تكوير الليل على النهار تغشيته إياه حتى يذهب ضوؤه،و يغشى النهار على الليل فيذهب ظلمته (3).و قال أبو عبيدة:و أصل التكوير اللف و الجمع و منه كوّر العمامة (4).
ص: 30
قال تعالى: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً،وَ جَعَلَ فِيها سِراجاً وَ قَمَراً مُنِيراً (1).
و البروج هي منازل الكواكب السيارة،و قد سميت بالبروج لأنها تشبه القصور العالية.
قبل إن البروج هي تلك المنظومات التي تدور حول الشمس و تعتبر البروج منازل الشمس أثناء دورانها طوال العام.و كل ثلاثة بروج (2)أو منازل تمثل فصلا من فصول السنة و عدد هذه الفصول أربعة الربيع، و الصيف،و الخريف و الشتاء،و قد أفاد القرآن الكريم في إشارة لطيفة إلى الطاقة الحرارية المبعوثة من الشمس من جراء الطاقة الناجمة عن التفاعلات الذرية في داخلها.
لكن أشعة القمر معكوسة من الشمس عند سطحه و ليس هو مصدرها.
ص: 31
إنها أكبر نجم في المجموعة السيارة،و تتكون من نار و من نور أيضا أما الكواكب فإن نورها من الشمس يرتد عنها انعكاسا (1).و الكواكب السيارة حول الشمس محكومة بقانوني الجاذبية المركزية من ناحية،و قوة الطرد المركزية من ناحية أخرى.
و حتى يستقيم أمر هذه المنظومات السيارة فإن القوتين لا بد أن تكون كل منهما مساوية للأخرى تماما،أي قوة جذب الشمس مساوية لقوة الطرد و الإبعاد عنها.
و نجم الشمس الضخم هذا دائم النشاط دائب الحركة فإنها تجري لمستقر لها لا يعلمه إلا اللّه سبحانه و تعالى القادر على كل شيء،قال تعالى: وَ الشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2).
يقول ابن قتيبة-رحمه اللّه-عن الشمس:أنها تجري إلى أي موضع تنتهي إليه فلا تجاوزه ثم ترجع (3).
و قد ثبت للعلماء الجيولوجيين أن المذنبات و الأجرام السائرة حول
ص: 32
الشمس يتخذ كل منها لنفسه شكلا ثابتا مميزا له يدور في مدار بيضاوي الشكل.
و تجري هذه المجموعة المنظومة بسرعة تبلغ نحو 700 كيلومترا في الثانية الواحدة،و لم يصل الباحثون إلى هذه الحقيقة العلمية إلا مؤخرا.
قال الإمام ابن كثير-رضي اللّه عنه-في تفسير هذه الآية:في قوله تعالى لِمُسْتَقَرٍّ لَها قولان:أحدهما أن المراد مستقرها المكاني و هو تحت العرش مما يلي الأرض لحديث النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«يا أبا ذر أ تدري أين تغرب الشمس»قلت:اللّه و رسوله أعلم،قال:فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش...»الحديث (1).و الثاني:أن المراد بالمستقر هو منتهى سيرها يوم القيامة حيث يبطل سيرها،و تسكن حركتها،و تكور و ينتهي هذا العالم إلى غايته (2).
و المستفاد من الآية الكريمة أن التكوير و هو لف الشيء على الشيء، و هذا التكوير يدل دليلا قويا على كروية الأرض و على دورانها حول نفسها.
و قد ذكر الدكتور أحمد زكي أن الأرض كروية الشكل تقريبا،و أن قطر هذه الكرة يتناقض تدريجيا كلما ذهبنا به من عند خط الاستواء إلى أي من قطبي الأرض،قطبها الشمالي،أو قطبها الجنوبي أي أن الأرضق.
ص: 33
تتفرطح كلما اتجهنا نحو أي من القطبين شمالا أو جنوبا (1).
و الأرض تدور حول نفسها و حول محورها مرة واحدة في اليوم الواحد،فيتعاقب عليها النهار نورا و الليل ظلاما في الأربع و عشرين ساعة.».
ص: 34
قال تعالى في كتابه الكريم: وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (1)يقصد الأرض بسطها ثم مدّها و مهدها و بسطها لسكني المخلوقات و هذا بالطبع لا يتعارض مع كروية الأرض،و قد قال الإمام الفخر الرازي في التفسير الكبير:«كانت الأرض أولا كالكرة المجتمعة ثم إن اللّه سبحانه و تعالى مدها و بسطها و ليس معنى(دحاها)مجرد البسط بل المراد أنه بسطها بسطا مهيئا لنبات الأقوات» (2)و قال صاحب القاموس المحيط:دحا اللّه الأرض يدحوها و يدحاها دحوا بسطها و ادحوى أبسط،و دحيت الشيء أدحاه دحيا بسطته» (3).
و فسر ابن منظور دحاها بمعنى بسطها (4).و معنى الدحية كما فسرها صاحب القاموس هي بيضة النعام و هي مستديرة الشكل،و الذي يجدر ذكره أن هذه الأرض المبسوطة إزاءنا بمجرد النظر إنما هي مستديرة كالبيضة سبحان اللّه.
ص: 35
كثير من الإعجازات القرآنية الغيبة التي لم يعرفها الأقدمون الذي سمعوا القرآن و صدقوه و آمنوا به،فوّضوا تأويلها و تفسيرها و فهم معانيها إلى اللّه سبحانه و تعالى،بيد أنهم أفرغوا مجهودهم،و بذلوا قصارى جهودهم في فهم معانيها،و استطاعوا تأويل بعض منها بظنون مرجوحة لا تقدر على الارتقاء إلى أدنى درجات اليقين،لأن اليقين متطلب جزما و قطعا من غير نكير.
من هذه الغيبيات ما أخبر عنه القرآن الكريم من وسائل المواصلات الحديثة في قوله تعالى:
وَ آيَةٌ لَهُمْ أَنّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، وَ خَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (1) و المقصود من الآية الشريفة هو ما يركبون في البر مما يشابه الفلك المشحون مثل السيارات الناقلة الكبيرة العملاقة التي تحمل الكثرة الكثيرة من الناس و أمتعتهم.
ص: 36
ظن بعض الباحثين أن الآيات القرآنية التي قال فيها القدماء رأيا تفسيريا لا يجب إعادة النظر فيها من الجانب العلمي.
و هذا الظن فيه فساد كبير،و شر مستطير،إذ أنه يحرمنا من متعة التأمل و التدبر في القرآن الكريم،فضلا عن أنه يفسح المجال أمام فتنة العلم المعاصر و التطور السريع الذي انتهت إليه البشرية،بدلا من اكتشاف العلاقة بينها و بين الاشارات القرآنية العلمية اللطيفة التي تقرب الناس من الجادة المستقيمة.
و هذه الآية الكريمة أشارت إشارة بعيدة إلى المستقبل البعيد الذي كان في عصر تنزيل القرآن عصرا بعيد اللحوق به قال تعالى: وَ إِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (1)و معنى الآية ان يوما سيأتي تتعطل فيه العشار و يستغنى عنها بالطائرات و القطارات و السيارات و المستحدثات العصرية و غيرها من وسائل المواصلات.
ص: 37
قال تعالى: وَ الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً، فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً، وَ النّاشِراتِ نَشْراً، فَالْفارِقاتِ فَرْقاً، فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً، عُذْراً أَوْ نُذْراً، إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (1).
في الآيات الخمس الأولى اختلف المفسرون اختلافا كبيرا في تأويلها، فبعض العلماء حملها جميعا على الرياح،و آخرون حملوها جميعا على الملائكة،و لكن ابن جرير الطبري لم يبد رأيا في ذلك،لكن ابن جزي قال:الأظهر في المرسلات و العاصفات أنها الرياح و الأظهر في الناشرات و الفارقات أنها الملائكة.قال المفسرون كما ذكر الفخر الرازي:
أقسم الحق سبحانه و تعالى بخمسة أشياء،تنبيها على جلالة قدر المقسم به،و تعظيما لشأن المقسم عليه.
راجع التفسير الكبير للفخر الرازي(265/30)و هنا وصف دقيق للطائرات الحربية الخاطفة بسرعة البرق و هى تروح و تجيء تعصف بقنابلها المدمرة كالحميم و تترك الناس عصفا ماكولا.
ص: 38
أفادت هذه الآيات الشريفة كل أنواع الطائرات المعاصرة التي تستعملها البلاد المتحاربة لتعصف بخصومها،و إن كانت هذه الطائرات و المتفجرات المهلكة المقذوفة من الطائرات إن كانت غير معروفة وقت نزول القرآن الكريم،بيد أنه لا يوجد دليل يمنع من حمل هذه الآيات على تلك المعاني العلمية أو يعارض هذا الرأي.
و نحن نرى أن يوضع في الاعتبار هذا التفسير العلمي ليس على سبيل القطع،و إنما على سبيل الترجيح و غلبة الظن.
يقول الدكتور صلاح الدين خطاب (1)في تفسير هذه الآيات:و هذا وصف علمي دقيق للطائرات الحربية الحديثة بمختلف حركاتها،و بجميع أفعالها،فهي تعصف بقنابلها كالحميم،و تترك الناس كالعصف المأكول و في أثناء قيامها بذلك تنشر المنشورات و تلقيها على الجنود و على غيرهم في ميادين الحرب و على الأهالي و السكان المدنيين للإخبار بما تريده الدولة المحاربة،و تفرق بصولتها الجبارة بين الكتائب و الفصائل و التجمعات فرقا حيث أنه لا يستقر تحتها و لا يثبت أي جمع بل بمجرد رؤيتها يتفرق الناس،و يختفون في الكهوف و الملاجئ و المخابئ.
قال تعالى: قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ (2).
و العذاب من تحت الأرجل مقصود به الألغام،و الغواصات المنصوبة).
ص: 39
في الأرض و في البحر فيمر عليها المقصود إهلاكه فتدمره تدميرا.
«بتصرف من السابق».
ثم يردف الدكتور صلاح خطاب:
و من أعجب ما تنبأ به القرآن الكريم قول الحق سبحانه: حَتّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَ ازَّيَّنَتْ،وَ ظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ (1).
هذه الآية تدل دلالة قاطعة على القنابل الذرية (2).و القنابل الذرية تحمل كل معاني الهدم و التخريب و الدمار.8.
ص: 40
تنبأ القرآن الكريم بالمسرة،و جهاز الإرسال المسمى الراديو،و الهاتف المسمى التلغراف و التلفاز المسمى التليفزيون.هذه المنجزات العلمية الخطيرة الأثر العظيمة القدر غير المجهولة الأثر في حياة الإنسان إنما أصبحت جزءا أساسيا من نشاطه و حركته في الحياة.
قال تعالى: وَ يَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (1).
ص: 41
لما اكتشفت الذرة في النصف الأول من القرن العشرين،و قد زعم العلماء أول اكتشافها أنها أصغر أجزاء المادة التي لا تنشق عن جزئيات أصغر منها فهي أصغر شيء في الوجود من الموجودات.
لكن القرآن الكريم بيّن أن ثمة أصغر من الذرة،و أن هذه الذرة بدورها من الممكن أن تتجزأ إلى أجزاء أصغر منها.
قال تعالى: لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ، وَ لا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرُ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (1).
و قال أيضا: وَ ما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ (2).
و قد ثبت هذا علميا عند ما اكتشف الباحثون أن الذرات atoms تتكون من دقائق أصغر منها هي البروتونات protons و الالكترونات electrons و النيوترونات neutrons و البروتونات موجبة الشحنة الكهربية positive و لكن الالكترونات سالبة الشحنة الكهربية negative بينما النيوترونات متعادلة الشحنة neutral. و هذا يدل على حتمية التوازن بين طبائع الموجودات إذ لا بد للموجب أن يقابل سالبا،و حتما للسالب أن
ص: 42
يواجهه موجب،و بين هذا و ذاك يوجد المتعادل المتزن الشحنة المستقر التكوين غير المجذوب و غير الجاذب لغيره.قال تعالى: وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (1)أي متزن بتقدير اللّه سبحانه و تعالى.
و قد ثبت علميا أن ذرات اليورانيوم uranium و كذلك ذرات الراديوم radium تتحلل و تتجزأ إلى أدنى منها ذاتيا ثم تنطلق منها شحنات و إشعاعات كهربية على ثلاثة أنواع (2).لكل منها خواص و نعوت مختلفة عن الأخرى و قد قامت دراسات كثيفة على هذه الإشعاعات.s.
ص: 43
أشار القرآن الكريم إلى حالة الإنسان عند صعوده في الهواء إذ يضيق صدره حتى يصبح في مأزق حرج،لقلة الضغط الجوي و ندرة الأوكسجين و عدم ثبات درجة الحرارة في الطبقات العليا من الجو و انعدام الوزن إذا ما أغرق و أمعن الإنسان في دخول أجواء بعيدة المدى.
قال تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ،وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً،كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ (1).
و الحرج هو الذي بلغ من الضيق ما لم يجد معه منفذا أو متسعا إلا أن يصّعّد في السماء و ليس يقدر على ذلك (2).هذه الحقائق العلمية المنتهي إليها يدركها من له أدنى درية و ممارسة،هذا هو الحق و هذه عروته فعليكم بها.
ص: 44
السنة الشمسية التي يسمونها بالسنة الانقلابية،عبارة عن مدة تنقضى بين مرورين متتاليين للشمس بنقطة اعتدال واحد و مقدارها 242217,365 يوما شمسيا،و بمرورها يحدث الصيف و الخريف و الشتاء و الربيع.
أما السنة القمرية فتتكون من 367067,354 يوما،و هي المدة بين كسوفين متواليين مقسومة على عدد الحركات القمرية الدائرية.
و الفرق بين السنة الشمسية و القمرية 875149،10 يوما و بذلك يكون في كل 33 سنة فرق قدره 87917,358 يوما،أو نحو سنة تقريبا، و على ذلك فإن كل مائة سنة تزيد ثلاث سنوات،و تكون الثلاث مائة سنة شمسية يقابلها 309 سنوات قمرية.
و هذه الحقيقة الكونية الثابتة التي اطمأن إليها العلم الحديث و استقر عليها سبق إليها القرآن الكريم في سرده لقصة أهل الكهف في قوله تعالى:
وَ لَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَ ازْدَادُوا تِسْعاً .ثم قال:سنين.أي ليست شهورا و لا أياما،و لم
ص: 45
يخرج مخرج ثلاثمائة درهم.و روى ابن فضيل عن الأجلح عن الضحاك قال:نزلت و لبثوا في كهفهم ثلاثمائة.فقالوا:أيام أو أشهر أو سنين؟ فنزلت سِنِينَ وَ ازْدَادُوا تِسْعاً (1).
ثم قال تعالى: قُلِ اللّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا .5.
ص: 46
أثبتت التجارب الحديثة أن الرياح من أهم وسائل تلقيح النبات، حيث يحمل الهواء حبوب اللقاح من النبات المذكر إلى المؤنث ليتم الإخصاب و هذه العملية ضرورية بل محتومة في كثير من النباتات المعروفة.قال تعالى: وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَ ما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (1).
قال أبو عبيدة:«لواقح»هي ملاقح مفردها ملقحة (2).قال تعالى أيضا: وَ هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (3).
يقول أبو حيان:و معنى بين يدي رحمته،أي أمام نعمة و هو المطر الذي هو من أجل النعم و أحسنها أثرا على الإنسان (4).
ص: 47
الذي يتأمل تتابع الليل و النهار و ملاحقة أحدهما للآخر يرى قدرة اللّه سبحانه و تعالى سافرة جلية،و هذه القدرة سخرت هذا الكون،و هذه الطبيعة لمصلحة الإنسان فكانت رحمة اللّه سابغة موصولة بقدرته سبحانه و تعالى العزيز الرحيم،و لو لا رحمته جل شأنه المقرونة بهذه العظمة لاستحالت حياة الإنسان إلى سلسلة موصولة من الصعاب و المشقات،لأن رحمة اللّه تروض للإنسان كثيرا من مصاعب و متاعب الطبيعة.
قال تعالى: قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَ فَلا تَسْمَعُونَ، قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَ فَلا تُبْصِرُونَ، وَ مِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (1).
يقول الإمام الفخر الرازي في تفسير هذه الآية:
نبه اللّه تعالى بهذه الآية على أن الليل و النهار نعمتان يتعاقبان على الزمان،لأن المرء في الدنيا مضطر إلى أن يتعب لتحصيل ما يحتاج إليه،و لا يتم له ذلك لو لا ضوء النهار و لو لا الراحة و السكون بالليل،فلا بد منهما في الدنيا،و أما في الجنة فلا نصب و لا تعب فلا حاجة بهم إلى الليل،
ص: 48
فلذلك يدوم لهم الضياء و اللذات (1).
لقد خلق اللّه سبحانه و تعالى الكون و أبدع نظامه و أتقن تكوينه فالليل و النهار و الشمس و القمر و الرياح و الهواء و البخار و غيرها نعم متكاملة مصدرها رحمة اللّه و فضله سبحانه بعباده،و لو اختل شروق الشمس أو القمر لتأثر نظام الكون و اضطربت الحياة،فنعمة الخلق متكاملة (2).
قال تعالى: ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ (3)أي ما ترى في خلق الرحمن من اضطراب أو اختلال و اختلاف (4).
و أصل التفاوت من(الفوت)و هو أن يفوت شيء شيئا،فيقع الخلل و يحدث الاضطراب (5)،و هذا هو قول ثعلب في تفسير القرطبي (6).
يقول الإمام الألوسي في تفسيره:أي ما ترى شيئا من تفاوت أي اختلاف و عدم تناسب كما قال قتادة و غيره من الفوت فإن كلا من المتفاوتين يفوت منه بعض ما في الآخر،و فسر بعضهم التفاوت بتجاوز الشيء الحد الذي يجب له زيادة أو نقصا و هو المعنى بالاختلاف (7).
و لا أحد يستطيع أن يتصور نهارا سرمديا بلا ليل،كذلك فلا يمكن تصور ليلا سرمدا من غير نهار ننتهي إلى أن اللّه سبحانه و تعالى:).
ص: 49
وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (1) .
و قال أيضا: وَ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (2).
و تدبر الآيات الشريفة يجلى لنا آيات اللّه سبحانه و تعالى و نعمه حين يجعل له من مخلوقاته المسخرات سبيلا إلى راحته و سكونه فيجعل له الليل سكنا و راحة و هدوء،كذلك يجعل النهار له للحركة و السعي و العمل و النشاط.
فإذا رأى الإنسان الليل مقبلا و النهار مدبرا،و الفتيان (3)يتعاقبان في تواتر و توافق و انسجام،فقد حق عليه أن يذعن للّه سبحانه و تعالى ضارعا و شاكرا أنعمه.
لقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أعرف الناس بفضل اللّه سبحانه و تعالى على خلقه،و كان عليه الصلاة و السلام أشكر الناس و أعبدهم و أتقاهم و أحشاهم جميعا.كان عليه الصلاة و السلام يقول إذا أصبح:«أصبحنا و أصبح الملك للّه،رضيت باللّه ربّا و بالإسلام دينا و بمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم نبيا و رسولا» (4).و في المساء كان يقول عليه الصلاة و السلام:«أمسينا و أمسى الملك للّه،و الحمد للّه لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له،له الملك،و له الحمد،و هو على كل شيء قدير،رب أسألك خيرا ما في هذه الليلة.
ص: 50
و خير ما بعدها و أعوذ بك من شر هذه الليلة و شر ما بعدها،رب أعوذ بك من الكسل و سوء الكبر،رب أعوذ بك من عذاب في النار و عذاب في القبر» (1).
من ثم نرى كتاب اللّه الكريم،و سنة رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم تستحث المسلم على ذكر ربه و شكره على ما أنعم من آلاء مشكورة بل لا ينهض بمقامها شكر.
إن قيومية القدرة الإلهية في كل مقومات الحياة،بل و في كل جزئيات الكون تستنهض الإنسان لاستدامة الشكر لخالقه و استدامة العبودية التي تتناسب مع هذه العطاءات و المنح و المنن،مما يقوي اليقين،و يقوي الصلة بين العبد و بارئه.).
ص: 51
قال تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (1).
يقول الإمام القرطبي:بيّن تعالى كمال قدرته،فكما يحيي الأرض بإخراج النبات بعد همودها كذلك يحييكم بالبعث (2).
لقد خلق الحق سبحانه و تعالى آدم من تراب،كذلك خلق الموجودات من العدم المطلق،و في كل جزئيات الزمن يخلق حيّا من ميت،و يخلق ميتا من حي فسبحان الذي كملت ذاته و تعالت صفاته و هيمنت قدرته و اتسع ملكه،و امتد إلى غير انتهاء ملكوته.
من ذلك إخراج البيض من الدجاج،و الدجاج من البيض كذلك إخراج الإنسان من النطفة و النطفة من الإنسان و المؤمن من الكافر، و الكافر من المؤمن (3).
ثم يقول تعالى: وَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها (4).
ص: 52
أي بالماء و الزرع و الحياة،و كما يحيي اللّه سبحانه و تعالى الأرض بعد موتها فإنه يبعث المقبورين الموتى من قبورهم،بعد جمع ما تفرق من أشلائهم،و هذا أمر يسير.
قال تعالى: وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ،وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ،وَ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1).
و معنى الآية الشريفة أنه سبحانه و تعالى هو الذي يبدأ الخلق غير الموجود قبل ذلك،حيث لم يكن ثمّ،ثم بعد ذلك يفنيه،ثم يعيده كما بدأه و ذلك أيسر و أهون عليه حسب ما استقر في أفهام البشر من أن إعادة الأمر أسهل و أيسر من ابتدائه لأن هذه المسألة من البدهيات المقطوع بها.
قال أبو عبيدة رضي اللّه عنه و هو أهون عليه أي و هو هيّن عليه كما يقال اللّه أكبر أي كبير (2).
و نقل القرطبي عن تفسير أبي صالح«و هو أهون عليه»محمولة على المخلوق،لأنه يقال له يوم القيامة:كن فيكون.و أول خلقه نطفة ثم علقة ثم مضغة (3).
و إذا كان العلم الحديث بابتكاره للتليفزيون و الفيديو television and video أصبح يعطينا تقريبا أكثر للقضية،فنعتقد أن هذه الأشياء قد).
ص: 53
قرّبت مجال الفهم و الاقناع بل أصبحت حجة على أهل العصر بل أهل العصور المقبلة و أهل الأرض قاطبة.
إن استرجاع صور الناس الذين ماتوا في التلفاز يدفعني أن أسائل نفسي مرة بعد مرة،و حينا بعد حين،إذا كان الإنسان بما أوتي من علم قليل أصبح يسترجع صور الموتى يتكلمون و كأنهم أحياء فكيف بالجاحدين و المنكرين البعث و قدرة اللّه سبحانه و تعالى غير محدودة (1)؟.ك.
ص: 54
تختلف الأيام في حساب البشر،عن الأيام في حساب اللّه سبحانه و تعالى...و قد تحدث القرآن الكريم في كثير من آياته المحكمة عن خلق اللّه سبحانه و تعالى للسماوات و الأرض و ما بينهما في ستة أيام،و قد سبقت كلمة«اليوم»بعدة معان،منها(النهار)لقوله تعالى في إهلاك قوم عاد بالريح:
سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَ ثَمانِيَةَ أَيّامٍ حُسُوماً (1) .
و كذلك قوله في كفارة اليمين فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ ذلِكَ كَفّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ (2).
و قد تأتي بمعنى طور من أطوار الخلق و التكوين و التدبير مثل قوله تعالى: وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ (3).و قوله تعالى:
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ (4) ثم يقول الحق جل شأنه في وصف أهوال القيامة (5):
ص: 55
تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَراهُ قَرِيباً (1) .
و لكن بعض الجاهلين يتوهمون تعارضا بين هذه الآية و بين آية سورة السجدة في قوله تعالى: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ و لكن الذي يدفع هذا القول المرصوص أن القيامة مواقف مختلفة و أحوال متباينة،قال المفسرون:فيها خمسون موطنا كل موطن ألف سنة،و هذه المدة الطويلة تخف على المؤمن فلا يكاد يشعر بها بل تكون أخف عليه من الصلاة المكتوبة (2).
و قد يبلغ اليوم لحظة عابرة،كما قد يكون طورا من الأطوار الممتدة عشرات الآلاف من السنين أو أكثر.
و من الجامدين على تأويل اليوم بأربع و عشرين ساعة فقط تصدر آراء مقدوح في صحتها لا يقوم على صحتها دليل واحد.
و يبلغ اليوم عند خط الاستواء Equatorial linE أربعا و عشرين ساعة نصفها نهار و نصفها ليل،لكنه عند القطب الشمالي،و القطب الجنوبي يعادل سنة كاملة ستة أشهر نهار و ستة أشهر ليل.
ثبت أيضا بالدليل العلمي أن اليوم على سطح القمر يساوي تسعة و عشرين يوما من أيام الأرض،و على ذلك فإن الأيام تختلف من كوكب إلى كوكب،فتباركت قدرة الصانع.لى
ص: 56
يتكون الفضاء الكوني من ألوف المجرات،و تتكون كل مجرة من ملايين النجوم،و هذه النجوم يتخللها غاز الأيدروجين hydrogen gas 2h الذي ينضغط و تتكاثف جزئياته مع بعضها البعض فينجم عن ذلك طاقة كبيرة و حرارة هائلة.
و تبلغ المسافات في الفضاء الكوني البعيد حدود الخيال المترامي الأطراف،و أقرب هذه المجموعات إلينا هي تلك التي تكون طريق التبانة التي لا يصلنا ضوؤها قبل بضع سنين.بل هناك نجوم أخرى تبعد عنا آلاف الألوف من السنين الضوئية.
قيل إن طريق التبانة فيه حشد كبير من النجوم و خليط كثيف من الغازات،و يصل قطر هذا الطريق ستين ألف سنة ضوئية (1).
كما تتعدد المجرات من هذا الفضاء البعيد الفسيح المأهول.
و تختلف أبعاد النجوم عنا اختلافا كبيرا،و قد ثبت أن أقرب نجم إلينا يبعد عن الشمس بمقدار أربع سنوات ضوئية،أي أن الضوء يقطع المسافة من الشمس إلى أقرب نجم من الأرض في أربع سنوات،و هذه
ص: 57
المسافة بينهما تقدر بستة و عشرين مليون مليون ميلا.
و ليس لدرجة لمعان النجم قيمة في شدة قربه أو شدة بعده عن كوكبنا الأرضي،فقد يكون النجم الشديد البعد لا معا،أو ان يكون القريب خافتا،كما أن التماع النجم وقف على حجمه فإن النجم الكبير الحجم قليل اللمعان،و لكن الأصغر كثير الالتماع.و ألمع النجوم بعد الشمس،هو الشعري اليمانية،و لمناسبة طلوعه مع الشمس أول العام لذلك كان هذا معروفا عند المصريين القدماء فاحتفلوا بذلك لأنهم كانوا متفائلين بذلك لتوافقه مع فيضان النيل و ازدياد الخير و عمومه.
قال تعالى في كتابه الكريم: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ، وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (1)قال ابن قتيبة:أراد نجوم القرآن الكريم إذ انزل،لكن أبا عبيدة قال:أراد مساقط النجوم في المغرب (2).
في قوله تعالى فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وردت اللام لتأكيد الكلام و تقويته،أما زيادة لا فإنها كثيرة الورود في كلام العرب لقول الشاعر.
تذكرت ليلى فاعترتني صبابة و كاد نياط القلب لا ينقطع أي كاد ينقطع (3).
و قال بعض المفسرين إن لا هنا زائدة،و تقديره أقسم بمواقع).
ص: 58
النجوم (1).
و قال آخرون ليست لا زائدة لا معنى لها،بل يؤتى بها في أول القسم إذا كان مقسما به على منفي كقول عائشة رضي اللّه عنها:«لا و اللّه ما مست يد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يد امرأة قط»و هكذا هاهنا تقدير الكلام فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (2).
و أقرب المجرات لمجرتنا تبعد بنحو 700 ألف سنة ضوئية و قد ثبت أن طريق التبانة يحتوي على أكثر من مليون مجموعة من الكواكب السيارة، و ما أقل ما نعرف و ما أكثر ما لا نعرف!! إن الكون الفسيح المأهول يهيب بالمخلوقات العاقلة المدركة كل لحظة من الزمان أن توحد الخالق جل شأنه لأنه القادر الحكيم جل شأنه.
و عند ما يقسم الحق تبارك و تعالى بالنجوم أو بمواقع النجوم فإن ذلك دليل على عظمة هذه المواقع و خطورة قيمتها،فلنتدبر ذلك جيدا.
و لو لا المناظير و الأدوات الحديثة لتعذر ارتياد هذا الفضاء البعيد المترامي المجهول و ما يكتنفه من غموض،تلك المهامة و المعامى المثيرة.ا.
ص: 59
قال تعالى: وَ السَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَ إِنّا لَمُوسِعُونَ (1)هذه السموات تتسع باستمرار فليست جامدة و لا ثابتة حيث انجلى ذلك واضحا للعلم الحديث الذي تحقق منها بأساليبه المتطورة و لا تزال البحوث و الدراسات مهتمة بمزيد من الأدلة و البراهين على ذلك.
و من الأدلة المسوقة لبيان اتساع الكون و الفضاء الجوي،و أن هذا الوجود الكوني في اتساع مستمر دائم أنه لو تصورنا طائرة خيالية تسير بسرعة 000,186 ميلا في الثانية الواحدة،و أن هذه الطائرة الخيالية تطوف حول الكون بنا الآن،فإن هذه الرحلة سوف تستغرق (000,000,000,1)ألف مليون سنة،و لما كان هذا الكون غير متجمد بل يتسع باستمرار فإن هذه المسافات الكونية (2)ستتضاعف بعد 000,000,300,1 سنة.
يقول الأستاذ وحيد الدين خان (3):
عند ما تكون السماء صافية نستطيع أن نرى بالعين المجردة خمسة آلاف
ص: 60
من النجوم،و لكن هذا العدد يتضاعف إلى أكثر من 000,000,2 من النجوم حين نستعمل تلسكوبا عاديا normal telescope. و أقوى تلسكوب في العالم هو الموجود في مرصد(ماؤنت بالومار)في الولايات المتحدة الأمريكية،و يستطيع مشاهدة بلايين النجوم.
ثم يقول أيضا:
إن الفضاء الكوني فسيح جدا متحرك فيه كواكب لا حصر لها، بسرعة خارقة،بعضها يواصل رحلته وحده،و منها أزواج تسير مثنى مثنى،و منها ما يتحرك في مجموعات،و لو أنك لاحظت ضوء الشمس الذي يدخل غرفتك من الشباك،سترى فيه ذرات و جزئيات كثيرة من الغبار تسير و تتحرك في الهواء.
و لو أنك تصورت و تخيّلت هذا الكون البعيد المدى،المترامي الأطراف قياسا على شهد ذرات الغبار في شعاع الشمس،لقربت إلى الذهن الصورة مع الفارق الكبير بين الواقع في الأولى و بين الواقع في الثانية إذ أن مجاميع ذرات الغبار و الأتربة تروح و تجيء هنا و هناك مضطربة المسار يصطدم بعضها بالبعض بيد أن مجموعات المجرات و الكواكب في الفضاء الكوني لا يمكن أن يصطدم بعضها بالبعض الآخر لأنها مقهورة مسيّرة غير مختارة،و لو أنها عشوائية السير أو الدوران لاصطدم أحدها بغيره و حدث الخلل و الانهيار في النظام الكوني،إنما كان قيام العناية الإلهية برعاية هذه المنظومات وراء رتابتها و انتظامها و دقة أدائها لدورها.
و قد ثبت أيضا أن الكون يتسع بالتسلسل الدائم،و أن النجوم و الأجرام و الأجسام الفلكية الكونية تتباعد بسرعة رهيبة عن بعضها
ص: 61
البعض.
و يعزو بعد العلماء وجود هذا الكون نتيجة انفجار قد حدث منذ 000,000,000,000,5 سنة.
و هذا القول و إن كان صادرا من الباحثين أو الدارسين لعلوم الفلك و الجيولوجيا و الدراسات الكونية بيد أننا يجب أن نحمله على الظن،و من الاسراف غير المقبول بل غير المعقول أن نجعلها من المسلمات المقطوع بها فهذا هو الشطط و الإسراف بعينه،لأننا نرى أن هذه الفترة الزمنية مهما حشد لدعمها من حجج و براهين لا يمكن أن تخرج عن نطاق الغيب المظنون الذي يقوى بالترجيح و غلبة الاعتقاد و ليس بالقطع الصادر عن اليقين.
يقدر الفلكيون أن هذا الوجود يتكون من خمسمائة مليون مجموعة نجمية مضروبا هذا العدد في 000,000,000,000,000,5 من الملايين،و في كل مجموعة منها مائة مليار من النجوم،قد يزيد أو يقل عن هذا العدد بقليل أو كثير،و أرضنا هذه تبعد عن هذه النجوم(عن مركزها) بمقدار ثلاثين ألف سنة ضوئية.
و هذه المجموعات النجمية الكونية تتسع من كل اتجاه و من كل جانب،فلا يتوقف امتدادها أمر يتقاعس برهة من الزمان،و قد شبهها الفلكيون بالبلون المصنوع من المطاط المرن الذي يتسع في كل اتجاه إذا ما شددته.
ص: 62
و قد رصد كوبرنيكس copernicus المولود سنة 1473 م.و المتوفي سنة 1543 م.رصد السماء و انتهى إلى أن الشمس موضوعة في مركز النظام الشمس.
و قد قال كوبرنيكس أن النجوم تبعد عن الأرض بعدا كبيرا هائلا و قد صوّر هذا بمثال لطيف و هو لو أن ألفا من الناس على شتى أنحاء الكرة الأرضية قد صوّبوا أذرعهم إلى نجم منها في الوقت الواحد، لتوازت هذه الأذرع جميعا،و لما ضلع أو مال بعضها على بعض،و السبب في ذلك هو شدة بعد النجم،فكأنها تشير جميعا إلى بعد لا نهاية بعده.
ص: 63
لما كانت الكرة الأرضية تدور في الفضاء،و لما كنا نحن قائمون عليها فالصحيح أن نقول إننا معلّقون من أرجلنا،ملقون على رءوسنا.
و زيادة في الإيضاح فلو تصورنا الأرض و هي كروية الشكل و معلقة في الفضاء و أهلها على سطحها في مختلف أرجائها فمعنى ذلك أن وضع الناس في متباين الأمكنة سيكون غريبا بالنسبة للبعض الآخر و معنى هذا أن سكان الولايات المتحدة الأمريكية مثلا سيكونون تحت سكان أهالي الهند،و سكان الهند سيكونون تحت أقدام سكان أمريكا.
و إذا سأل سائل:لما ذا لا نتأثر نحن سكان الأرض بدورانها؟؟!! و الجواب أن الأرض تدور بسرعة تقرب من ألف ميل في الساعة الواحدة و ما نحن على سطحها إلا مثل حصاة موضوعة على محيط عجلة تدور بسرعة مذهلة،توشك أن تقذف بها في الفضاء،لكن الأرض لا تقذفنا بعيدا عنها بل تجذبنا إليها بقوة الجاذبية الأرضية.
خلق اللّه سبحانه و تعالى الأرض بل جميع المخلوقات بنظام متقن دقيق لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه،لأنه صنع الذي أتقن كل شيء صنعه فجل شأنه و تعالت قدرته.
و الأرض بتكوينها الجيولوجي و الفيزيائي و الطبوغرافي تناسب حياة المخلوقات عليها،و لو أن عنصر كل أبعاضها أو أجزائها على حده
ص: 64
اختلف عما هو عليه بالزيادة أو بالنقصان كثيرا أو نزرا يسيرا لاضطرب النظام و التناسق بل لاستحالت الحياة على هذا الكوكب.
لو كانت الكرة الأرضية مثلا في حجم القمر أي لو أصبح قطرها الحالي ربع قطرها تماما كانت جاذبيتها تصبح سدس جاذبيتها الحالية،من ثم يصعب عليها بل يستحيل أن تمسك الماء و الهواء من حولها،فإن ذلك سيقتضي ابتعاد الهواء عن مجالها إلى الفضاء الكوني البعيد،ثم انسكاب مياه البحار و المحيطات بعيدا عن مجاريها الحالية.
ثم إن هذا التغيير سيصحبه ازدياد البرودة ليلا حتى يتجمد كل ما فيها،و ازدياد الحرارة نهارا حتى يحترق كل ما عليها.
و على النقيض من هذا لو أن قطر الأرض كان ضعف قطرها الحالي لتضاعفت جاذبيتها الحالية،و حينئذ ينكمش غلافها الجوي (1)و سيترتب على ذلك أن يزيد تحمل كل بوصة مربعة من خمسة عشر رطلا إلى ثلاثين رطلا من الضغط الجوي،و هو ضغط له تأثيره البالغ السوء على الحياة.
و لو أن الأرض تضاعف حجمها فصار مثل حجم الشمس مثلا لبلغت قوة جاذبيتها أكثر مما هي عليه الآن 150 مائة و خمسين مرة، و لاقترب غلافها الهوائي حتى يصبح على بعد أربعة أميال فقط،بدلا من خمسمائة ميل،و لاقتضى ذلك ارتفاع الضغط الجوي إلى معدل طن واحد على كل بوصة مربعة،و هذا يعني أن الرطل الحالي يصبح وقتئذ يزن خمسمائة رطل،كما أن حجم الإنسان يهبط إلى حجم أصغر و أصغر بلك.
ص: 65
يصل إلى حجم فأر كبير (1)،و هذا ما يستحيل معه وجود المسخ في الإنسان الذي يقتضي وجوده حجما معينا و تكوينا لازما في الجسم،فإذا نقص حجم الأرض أو زاد عما هو عليه الآن لكان شديد الاستحالة أن يتناسب مع الحياة عليها،كذا فإن ازدياد حجم الأرض عما هو عليه الآن يؤدي إلى نفس النتيجة حتى لا يمكن ممارسة وظائف الحياة عليها.و هذا يعني أن الأرض بوصفها الحالي أنسب ما تكون لحياة الإنسان و الكائنات الحية الأخرى.
و يجب أن يعرف أن الأرض و هي تدور في الفضاء إنما يتم ذلك بانحراف قدره زاوية مقدارها 33 درجة و هذا هو السبب في حدوث المواسم الأربعة،و هذا يترتب عليه صلاحية أكثر مناطق الأرض للسكنى و الزراعة و حياة الإنسان و الكائنات الحية الأخرى من دواب و ماشية و طيور و غيرها (2).
فلو انعدمت هذه الزاوية لغمر الظلام القطبين طوال السنة،و لسار بخار البحار شمالا و جنوبا،و لما بقي على الأرض غير جبال الثلج و فيافي الصحراوات،و مهامه البيد،و معامي القفار،و هكذا تنجم متغيرات تجعل الحياة على كوكب الأرض مستحيلة تماما.
قال الجيولوجيون:لو أن قشرة الأرض كانت أكثر سمكا مما هي عليه الآن بمقدار عشرة أقدام لاختفي الأوكسجين و هو بدوره عصب الحياة،من غيره و في غيابه لا يمكن أن تقوم للحياة قائمة.ف.
ص: 66
و لو كان الغلاف الهوائي للأرض ألطف مما هو عليه الآن لاخترقت النيازك و الشهب كل يوم غلاف الأرض،و لأصبح المجال الأرضي دريئة للأجرام الضالة أو المقذوفة من الفضاء الكوني البعيد.
و سيكون ذلك سببا مباشرا لأن ترى الأرض مضيئة في الليل (1).
قال تعالى في كتابه الكريم: وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (2).
يقول الشيخ الصابوني:أي أنبتنا في الأرض من الزروع و الثمار من كل شيء موزون بميزان الحكمة بدقة و إحكام و تقدير (3).و الذي لا مدية فيه أن كل دقيقة من دقائق هذا الكون قد وضعت في دقة بالغة في موضع لا يمكن أن تتخطاه أو تتعداه إلى غيره،بل لو حدث ذلك لحدث الخلل و الاضطراب.).
ص: 67
أشار القرآن الكريم إلى أن ثمة أحياء في الكواكب الأخرى يسبحون بحمد اللّه،و يستغفرونه،و قد ورد هذا في أكثر من موضع.
و قد اهتم الدارسون من الفلكيين بهذه المسألة و محّصوها و محضوها إذ شغلتهم ردحا طويلا من الزمان،ثم استقرت آراؤهم آخر الأمر على أن الحياة على الكواكب الأخرى غير الأرض غير مستبعدة لوجود جميع مقوماتها.قال تعالى: وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (1).
و معنى الآية أن له سبحانه و تعالى من في السموات و الأرض من مخلوقاته و كلهم قانتون أي مقرون له بالعبودية (2).و يقول أيضا: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللّهُ،وَ ما يَشْعُرُونَ أَيّانَ يُبْعَثُونَ (3).
و يقول عز من قائل: وَ لِلّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَ الْمَلائِكَةُ (4).
يقول الفخر الرازي:أما قوله تعالى وَ ما يَشْعُرُونَ أَيّانَ يُبْعَثُونَ
ص: 68
فهو صفة لأهل السموات و الأرض،نفي أن يكون لهم علم بالغيب (1).
و لعل القرآن الكريم كان أول الكتب السماوية التي تعرضت للإشارة إلى وجود الأحياء على المنظومات السيارة الأخرى غير كوكب الأرض و قد أثبت العالم الروسي الكبير«البروفيسور ليابونوف»بعد دراسة خمسة و أربعين عاما (2)أن هناك سفينة كوكبية آتية من كوكب آخر قد ارتطمت بالأرض و تفتتت و تهمشت،و كان هذا تعليقا منه على حادث انفجار هائل نتيجة سقوط شهاب سماوي جبار في سيبيريا في 30 يونيو سنة 1908 م و اختلف في حقيقة أمره.
و بعد فترة قصيرة نسبيا و بالتحديد في مارس سنة 1959 صدر كتاب في روسيا يقطع بأن هذا الحادث كان ناجما عن سفينة قادمة من كوكب الزهرة،و أن موتى هذا الحادث كان بأعراض مرض غامض ينطبق على من يموت بالإشعاع الذري، atomic radiation و أن الحديد المتبقى لا يشبه حديد الأرض،و لا حديد النيازك إطلاقا.
و في ربيع سنة 1956 (3)وجد في(كنكت)بالولايات المتحدة الأمريكية كرة معدنية غريبة يبلغ قطرها مترا،بداخلها اسطوانة تدور بسرعة كبيرة،و تم نقل هذه الكرة الغريبة الغامضة في الحال إلى المعامل لتحليلها.
و نزلت نتيجة التحليل على علماء الطبيعة و الكيمياء كالصاعقة،فقدف.
ص: 69
استولى عليهم الذعر،و احتوشهم الفرق و الفزع و الذهول فقد ثبت أن الكرة تتكون من الكوبالت في حالته الطبيعية الخالصة،و هذا المعدن في هذه الحالة غير موجود على الإطلاق على وجه الكرة الأرضية،و لا تفسير و لا تعليل لهذه الظاهرة إلا أن هذه الكرة و هذه الاسطوانة سقطت من كوكب آخر.
و أخيرا استقر في ضمير العلماء و الفلكيين أن هناك ألوف بل ملايين الكواكب مسكونة بمخلوقات عاقلة فاهمة مدركة،و قد لاحظ الفلكي الياباني المشهور«تسوينو ساهيكي»أن هناك دلائل قاطعة على وجود مخلوقات على درجة عالية من الذكاء في الكواكب الأخرى (1).
و قد صرح الأميرال بلمر فاهرناي المشرف على توجيه الطائرات و القذائف الموجهة بأمريكا في حديث له في 17 من يناير سنة 1957 م.
بأنه شاهد أجساما طائرة مجهولة يبدو أنها موجهة بفعل كائنات مخلوقة عاقلة مفكرة جاءت تخترق طبقات الغلاف الجوي للأرض،و هذه الأجسام تطير بسرعة مذهلة.
و حكى أحد الطيارين الأمريكيين أن جسما غريبا قد اعترض طائرته و هي في منتصف الطريق بين نيويورك و سان جون،و قد حاول الطيار أن يتفادى هذا الجسم الغريب بأعجوبة،و تم له ذلك و كان قد أصيب برعبا.
ص: 70
و و هل و فزع لأن كارثة محققة كانت على وشك الوقوع له و لطاقم طائرته (1).
ثم أعلنت العقول الالكترونية بعد ذلك أن هذه الأطباق الطائرة حقيقة و أنها آتية من كواكب أخرى و هي مدفوعة بمخلوقات عاقلة مفكرة بل إن بها مخلوقات (2).
إذا اختلف العلماء في روسيا و أمريكا على تفاصيل رحلات الفضاء، فإن هؤلاء العلماء جميعا قد اتفقوا على حدث غريب وقع يوم 26 نوفمبر سنة 1958 م أي بعد أن أطلقت روسيا أول قمر صناعي في التاريخ في أكتوبر سنة 1958 م.فقد سجلت المراصد الفلكية الأمريكية و الأوروبية ظهور جسم غريب مجهول في الفضاء،و هذا الجسم يصدر أصواتا إنسانية غير مفهومة.
ثم سجلت هذه المراصد إشارات قادمة من الفضاء الخارجي و أن هذه الأصوات قد أصبحت أمرا مألوفا،لكن جميعها تتشابك و تتضافر في إعطاء مدلول قوي و هو أن هناك عقولا كبيرة في أماكن مجهولة من الكون ترصد حركاتنا و ما نحن إلا دريئة لتجاربها.
نعود مرة أخرى إلى قوله تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ (3).ة.
ص: 71
و قد اتفقت آراء العلماء على أن المريخ و الزهرة هما أكثر الكواكب ملاءمة و مواءمة و مناسبة للحياة،و هذا أمر مجمع عليه من غير نكير.
و كان تعديل العلماء على وجود الحياة في إحدى هذين الكوكبين لظهور كل مقدمات الحياة و مخايل و أمارات و قرائن تقوّي غلبة الظن بذلك.
يقول الجيولوجيون إن ذرة الكربون و مشتقاتها هي أصل الحياة لأنها مركبات متعددة ذوات حلقات و سلاسل طويلة معقدة Complex chains لا تنتهي و هي تذوب في غير الماء من سوائل بسهولة.
لا غنى أيضا عن النيتروجين في بناء الخلايا الحية للجسد البشري،أو الكائن الحي.
و السليكونات أيضا Silicons مركبات غير منتهية تتحمل درجات الحرارة العالية.
هذه السليكونات موجودة على هذه الكواكب و هي من القرائن القوية التي تدعم الرأي القائل بوجود الحيوان على هذه الكواكب.
ص: 72
تدور الجبال بسرعة فائقة غير مرئية،و لكن الناظر إليها يراها راسخة ثابتة مستقرة على غير الواقع.
فالجبال بتكوينها و طبيعتها و ثقلها تشكل ضرورة حتمية لحفظ اتزان الأرض،و لولاها لاضطربت الكرة الأرضية و فقدت توازنها،و هي تدور مع الأرض لأنها تشكل جزءا هاما غير مهمل متصل بالأرض اتصالا وثيقا،و من غير المعقول،أن تدور الأرض و لا تدور معها الجبال الراسخات،و الأعلام (1)الرواسي،لأن معنى ذلك أن تنهار و تندك هذه الجبال،و هذا على غير الحقيقة فإنها تدور مع الأرض بنفس سرعتها، و لكن الدهماء و البسطاء من سواد الناس إذا حدثتهم بذلك أنكروا عن غير علم و فهم.
قال تعالى: وَ تَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً،وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ (2).
ص: 73
و قال أيضا: وَ أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ (1).
و قال: وَ جَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ (2).
و قال عز من قائل: أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً، وَ الْجِبالَ أَوْتاداً؟ (3).
يقول ابن كثير رضي اللّه عنه: أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً أي ممهدة للخلائق ذلولا لهم،قارة ساكنة ثابتة.
وَ الْجِبالَ أَوْتاداً أي جعلها لها أوتادا أرساها بها و ثبتها،و قررها حتى سكنت و لم تضطرب بمن عليها (4).
و في غاية الدقة العلمية و البيانية يبين الحق سبحانه و تعالى أنواع الجبال، و تركيب هذه الأنواع في قوله تعالى:
وَ مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها،وَ غَرابِيبُ سُودٌ (5) .
يقول الإمام الفخر الرازي رضي اللّه عنه:
و الجدد:جمع جادة،و جدة و هي الخطة أو الطريقة،فإن قيل:الواو في وَ مِنَ الْجِبالِ ما تقديرها؟نقول هي تحتمل وجهين:أحدهما أن تكون للاستئناف،ثانيهما:أن تكون للعطف تقديرها و خلق من الجبال،قال الزمخشري:أراد ذو جدد.).
ص: 74
و اللطيفة الثالثة:ذكر الجبال،و لم يذكر الأرض كما قال في موضع آخر وَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ مع أن هذا الدليل مثل ذلك،و في الجبال و اختلافها دليل القدرة و الارادة لأن كون الجبال في بعض نواحي الأرض دون بعضها دليل القدرة و الاختيار (1).ن.
ص: 75
قال الشاعر:
و في كل شيء له آية تدلّ على أنه الواحد
مثل قول الشاعر لبيد و هي كلمة حق غير مسبوق فيها:
ألا كل شيء ما خلا اللّه باطل و كل نعيم لا محالة زائل
في كل موجود مخلوق و في كل كائن يرزق برهان و دليل على عظمة الخالق سبحانه و تعالى و قيوميته و في هذا العبرة و الموعظة لأولى الألباب و لأولى النهي الذي يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
و بالنسبة لخلق الإنسان و أطوار حياته في بطن أمه،ثم أطوار حياته خارج بطن أمه فقد ناقشناها في دراسة علمية دقيقة في كتابنا الشهير المتواضع:«الاعجاز الطبي في القرآن»فليرجع إليها من أراد التوسع في مباحث خلق الإنسان و تكوينه الفطري و كل الدوافع النفسية، و المحركات الحسية و تقييمها في ميزان الدراسات العلمية الإسلامية.
قال تعالى: ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ، وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (1).
و قال عز من قائل:
ص: 76
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ (1) .
و إذا كان هذا موقف الجبل إذا نزّل عليه القرآن،فالأحرى بالإنسان المخلوق العاقل الذي كرّمه اللّه سبحانه و تعالى و أولاه عنايته و رعايته و خوّله كثيرا من آلائه و نعمه حرى به و قمين به أن يكون أكثر خشية و خشوعا للّه سبحانه و تعالى و قد نزل القرآن الكريم إليه يخاطب عقله و فكره و وجدانه.
قال تعالى أيضا: وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ (2).)/
ص: 77
تحتوي المملكة الحيوان على عجائب و غرائب جديرة بالبحث و الاعتبار إذ أنها تشمل أكثر من مليوني فصيلة كما يقدرها العلماء البيولوجيون biologists و لم يهتد العلم إلا إلى الندر اليسير منها و لا يزال البحث موصولا لاستكشاف المزيد منها.
قال تعالى: وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (1).
يقول الإمام الفخر الرازي:«قال القاضي:أنه تعالى لما قدم ذكر الكفار و بيّن أنهم يرجعون إلى اللّه و يحشرون،بيّن أيضا بعده بقوله وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ في أنهم يحشرون،و المقصود بيان أن الحشر و البعث كما هو حاصل في حق الناس فهو أيضا حاصل في حق البهائم» (2).
ص: 78
قال تعالى: وَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَ جَنّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوانٌ وَ غَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَ نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (1).في الأرض بقاع مختلفة متلاصقة قريب بعضها من بعض لكل منها نفس ظروف الأخرى من الماء و الهواء و التربة و الغذاء و لكن فيها الفاضل و المفضول،و الأفضل.
و في هذه البساتين،و المروج الخضراء،و الجنّات الفيحاء ممدودة الظلال و الأفياء من شجر العنب،بل و أنواع الزروع و الحبوب و النخيل و الرطب تسقى جميعها بماء واحد،و لكن بعضها حلو و بعضها مر.
يقول الحق تبارك و تعالى عز من قائل:
وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ، فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَ مِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَ جَنّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمّانَ مُشْتَبِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَ يَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (2) .
ص: 79
قال الإمام الطبري:أي أخرجنا بالماء ما ينبت كل شيء،و ينمو عليه و يصلح به (1).
و المملكة النباتية تساهم بنصيب وفير في تجميل الطبيعة،و لا أحد يدرك قيمة هذه المشاهد الجمالية و روعة جمالها و جمال روعتها إلا بعد أن ينظر إلى القفار المهجورة،و المهامة القاحلة التي تفتقد الخضرة و الماء و الحياة.
و بقدر استمتاع الإنسان بمشاهد النبات الجميلة الخلابة تكون مسئوليته في إقامة الحجة عليه،فهي متعة له و شهادة عليه،إن نزول الماء من السماء،و إخراج النبات من الأرض الميتة لا تدع حجة بعدها و لا برهان لمنكري البعث من الجاحدين المرجفين.
و اختلاف النباتات و الثمار على الرغم من تشابه ظروفها جميعا خير دليل على قدرة الخالق المبدع المصور،إن هذه المشاهد لا تدع مجالا للتردد أو التقاعس عن الإيمان و التسليم بقدرته سبحانه و تعالى و قيوميته.
إن هذه الآيات البينات و البراهين الناطقة و الأدلة القوية تتضافر جميعا لتدحض افتراء الجاحدين،و تدفع افتراء الباطل اللجوج الممتري فيه، المطعون فيه.
ليس هذا فحسب،لكن لا يجب إغفال دور النبات الحيوي في توازن الغازات في الطبيعة،فإن له دورا كبيرا في ثبات معدل الأوكسجين في الكون فلولاه لنقص معدل الأوكسجين و كانت النتيجة الهلاك المحقق).
ص: 80
لكل الكائنات المخلوقة التي تعتمد على الأوكسجين في عمليات الأيصن و المتيابوليزم. oxygen is necessary for metabolic processes.
كلنا نعرف أننا نأخذ الأوكسجين من الهواء الجوي،و نطرد من أجسامنا ثاني أوكسيد الكربون،و يقوم النبات بإعطاء الأوكسجين و يأخذ هو ثاني أوكسيد الكربون،من ثم يحدث التوازن الغازي للأكسجين و ثاني أوكسيد الكربون بواسطة النباتات.
و لا تزال الدراسات و البحوث العلمية تجرى على قدم و ساق،و هي مصروفة إلى المزيد من الاكتشافات العلمية و الطبية من النبات.
و من أهم العمليات البيوكيميائية المثيرة الغرابة عملية النتح تلك التي لا يجب أن يستهان بها فربما تنتج شجرة واحدة ما يقرب من خمسمائة لتر من الماء في اليوم الواحد،و يزداد معدل النتح بازدياد حرارة الجو و درجة الجفاف،و اشتداد الرياح.
و ليست عملية النتح مقصورة على صعود العصارة الذائبة في الماء إلى النبات فحسب بل تقوم بتلطيف الأنسجة الداخلية،و تنظم حرارتها.
و كل نبات من النباتات موسوم بصفات خاصة به يتلاءم بها مع بيئته التي ينمو فيها،لذلك نجد لكل نبات توزيعا جغرافيا خاصا به،حيث يكثر في الأماكن التي تناسب نموه و حياته.فالروابي لها أنواع خاصة بها من النباتات،و السهول و الوديان لها أنواع أخرى،أما الصحراء و المفاوز، و الفيافي فإن لها فصائل معينة تقاوم الجفاف و تصبر عليه.
و تسمى النباتات الصحراوية بالنباتات الزيروفيتية xerophyte plants.
ص: 81
فهي تمتاز بصفات شكلية و تحويرات تستطيع بها مقاومة الجفاف و هي أقدر على تحمل الحرارة العالية،و مقاومة الرياح أيضا.كما لوحظ أن هذه النباتات تتميز بالخشونة و كثرة الأشواك مع تشابك الأغصان فيظلل بعضها بعضا حيث يتكون منها شكل كروي يحجب الشمس عنها ما أمكن ذلك فتكون أزراره الداخلية في حرز و مناعة بل مصونة عن الرياح الشديدة فلا تتأثر بها (1).
كما تمتاز بشرة أوراق هذه النباتات الصحراوية بثخانة جدارها تغطيه مادة جافة و شمعية.
في بعض هذه النباتات توجد طبقات و برية كثيفة تغطي سوقها و أوراقها فتمنع أشعة الشمس فتذوب عن النبات الحرارة.
و في بعض الأحيان يغطى النبات بقشور من مواد النتح،كما في نبات الطقطيق.
و تقوم بعض النباتات بغرز زيوت طيارة تنتشر في الجو المحيط به فتحول دون وصول حرارة الشمس إلى بنية النبات و هذه تتمثل في نباتي الشيح و العيتران.
كما أن بعضا من هذه النباتات الصحراوية تقاوم الجفاف و ارتفاع درجة الحرارة في هذه الأجواء الصحراوية الشديدة الغيظ الرمضاء بتضييق الثغور في أوراقها و تقليلها حتى تقل كمية النتح إلى أقل و أدنى حد مستطاع،بل قد يصل الحال إلى إفراز مادة شمعية توقف عملية النتحف.
ص: 82
تماما و يظل النبات ساكنا مستقرا حتى يأتي المطر.
من خصائص هذه النباتات أيضا أنها تمتاز بجذور كبيرة الحجم نسبيا، كما تتفرع هذه الجذور و تتعب و تمتد إلى مساحات بعيدة بحثا عن الماء حتى تتسع مساحتها و هذا من قبيل اختزان الماء و احتوائه لأوقات الشدة و عند غياب المطر.
و المعروف أن التين الشوكي و نبات الصبّار يختزنان كميات كبيرة من الماء يختزنها التين الشوكي في سوقه الهوائية و يختزنها الصبار في أوراقه.
و لما كان النبات ساكنا غير متحرك كالإنسان فإنه يتعرض كالإنسان لقائلة العدوان عليه و النيل منه من الحيوانات الشرسة،فكان الإنسان مهيئا لردع العدوان عليه إما بالتغلب عليه أو بالفرار منه،و ما لم يمكن للنبات أن يفر من عدوه الجائر كان لا بد أن يحتوي في ذات تكوينه فهذه النباتات تحتوي على أشواك حادة منتشرة في سوقها و أوراقها و ثمارها كما في نبات الخشير.
و من هذه النباتات ما تكون أطرافها حادة كالشوكة حتى إذا ما ابتلعها الحيوان كانت كالحربة مزقت أمعاءه.
سبحانك ربنا وسعت كل شيء رحمة و علما.
ص: 83
قال تعالى: وَ أَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى (1).
و قال أيضا: أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (2).
و قال أيضا: وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ (3).
و قال: وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (4).
و لما كانت إرادة اللّه سبحانه و تعالى غير المنتهية أو المحددة،قد قضت بحتمية الزوجية كأساس لبناء هذا التكوين الحيوي في هذه المملكة الكونية،فلا بد أن يهيئ لها كل مقتضيات هذه الزوجية من ظروف و أسباب محتومة.
قال تعالى: إِنّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (5)و النبات حريص حرص الإنسان على استبقاء نوعه،و استمرار جنسه و المحافظة على نوعه،فلما كانت الثمار هي الوعاء الرئيسي الذي يحتفظ بالبذور،و التي تكتنفها زوائد،و هذه الزوائد تساعد على انتشار هذه البذور من مكانها إلى أي
ص: 84
مكان آخر.و قد لوحظ أن النباتات الصحراوية أشد حرصا على تكاثرها و استبقاء نوعها لذلك حرصت على أن تكون بذورها صغيرة ملساء حتى يسهل نقلها بواسطة الهواء.
بل إن بعض هذه النباتات الصحراوية تمتاز بذورها بوجود شعيرات صغيرة عليها لتخفف وزنها و بعضها يشبه الأجنحة ليسهل طيرانها في الهواء.
ثمّ أيضا أنواع من البذور تتميز بألوان جذابة،و مذاق جميل لتستدرج الإنسان و تغرية بنقلها.
و الذي يلاحظ أنواع النباتات المختلفة و ما يكتنف كل واحدة منها من تحويرات Metamorphism طبيعية لتلائم الطبيعة و البيئة الناشئة فيها يرى العجب العجاب.
كثير من نباتات الماء يوجد في بذورها زوائد تساعدها على العوم في الماء،كما أن بها جدرا سميكة لتحفظها من التعفن لكونها مغمورة بالماء باستمرار.
و قد بلغت أعمار كثير من النباتات ردحا طويلا من الزمان و جماع القول أن من النبات ما يعمر أياما،و البعض يعمر شهورا و سنين، و البعض يعمر مئات السنين،و ثمة ندرة تعمر بضعة ألوف من السنين و اللّه سبحانه و تعالى أعلم.و قد وجد البروفيسور روبرتسون robertson حفرية نباتية عزاها إلى 115 مليون سنة،و قد عوّل عليها في تقدير عمر الكون، لكني لا أستطيع أن أقطع بصحة هذا التقدير إذ أن تفصيله لم يتوفر لدي و لم أجد من القرائن المؤيدة لرأيه ما يدعم رأيا أو يدحضه لكن المنتهى إليه
ص: 85
أن بعضا من النباتات قد يتجاوز عمرها بضعة آلاف من السنين.
هناك أنواع من النباتات تعيش في الماء،و هي متمورة لتلائم هذه الطبيعة،فليس لها مجموع جذري،و ليس لها-أن وجدت-أي دور فعّال في امتصاص الماء.
و كل أجزاء هذه النباتات المطمورة مؤهلة بل قادرة على امتصاص الماء.فسبحان الخالق البارئ المصور.
و تسمى النباتات آكلة الحشرات،و هذه النباتات تعيش في تربة فقيرة في المواد العضوية لا يكفيها ثروتها من المواد المعدنية المغذية،فهي لذلك مزودة بشباك تقتفي بها الحشرات و الهوام بواسطة هذه الشراك المتمثلة في زوائد شوكية على سطح النبات العلوي،فإذا وقعت حشرة على هذا النبات سرعان ما يطبق عليه مصراعا الورقة ثم يضغطان هذه الحشرة التي سرعان ما يتحلل جسمها بأنزيمات تحليلية analytic enzymes التي تذيب محتويات الحشرة العضوية organic substances توطئة و تمهيدا لامتصاصها بواسطة النبات.
لكن نبات الدروسيرا تغطي أوراقه زوائد تنتهي عند أطرافها بغدد
ص: 86
تفرز مادة حمضية لزجة تقتفي الحشرات التي تقترب من ورقة هذا النبات و تحتويها الزوائد و تحاصرها ثم يفرز النبات الإنزيمات الهاضمة التي تتولى تحليل هذه الحشرة و يقوم النبات بامتصاص محتواها.ثم يتفرج الزوائد بعد ذلك تمهيدا لاقتناص حشرة أخرى و ثالثة و هكذا.
ص: 87
سرّ جمال هذه المعمورة
من السمات المميزة لكوكب الأرض عن باقي أفراد المنظومة الشمسية و غيرها من المنظومات السيارة أن المملكة الحيوانية،و المملكة النباتية متضافرتان معا تكونان عصب العمران في هذا الكوكب الأرضي، كذلك فإنهما منوط بهما سر هذا الجمال الساحر،و الطبيعة الخلابة التي تسبي العيون،و تأخذ بالألباب.
و قد قسم العلماء البيولوجيون biologists الحيوانات إلى أكثر من مليون نوعا مختلفا منها.و علماء النبات إلى ما يربو عن ثلاثمائة ألف نوعا،و لا تزال البحوث و الدراسات كل يوم ترتاد مجاهل الكون،و معامي الطبيعة فتسفر عن اكتشاف المزيد و المزيد من هذه الأنواع و هذه الفصائل،و لا يزال في ضمير الغيب الخطير و الجلل من المحجبات غير المنظورة التي لا يعرف مداها إلا اللّه سبحانه و تعالى جل شأنه و تعالت قدرته.
هذه الأعداد الرهيبة التي تعمر أرجاء المعمورة،و كافة أقطارها من الحيوانات و النباتات المختلفة،كل منها تختلف عن الأخرى في وجوه شتى غير محصورة،و من غير المعقول أن تفسح لها مجالا لبسط القول فيها أو تفصيله لأن هذا منوط بالدارسين المتخصصين في علم البيولوجيا biology و علم النبات botany.
و الذي نكتفي به هنا هو التنويه عن هذه الأنواع،و بيان نواحي
ص: 88
الإعجاز فيما بينها من تباين.
و وجوه الاختلاف و التباين variations بين كل منها جدير بالتأمل و التفكر و الاعتبار،و هو تباين من ناحية الشكل shape و من ناحية الحجم volume و الوظيفة function و طول العمر age peroid و في التكاثر multiplication.
و قد ذكر الدكتور أحمد زكي في هذا الشأن أن الحوت الأزرق،هو أكبر أحياء الماء يبلغ طوله نحو مائة قدم،و وزنه مائة طن تقريبا،و نذكر الفيل،و هو أكبر الحيوانات الثديية the biggustone of mammals على وجه الأرض قاطبة (1).
و من النباتات الضخمة الحجم شجرة الجبارة redwoods و هي صنف من الأشجار يعلو في الهواء إلى نحو 300 قدم،و بعضها يعيش آلاف السنين من ثلاثة إلى أربعة آلاف سنة و كلما تدنى السلم الحيواني نجد أعدادا غفيرة لا حصر لها من الحشرات و الطفيليات و الحيوانات الأولية (2).
و كلما تدنّى السلم النباتي كذلك ألفينا أعدادا غفيرة أيضا لا حصر لها من النباتات غير المعروفة حتى الآن،و لا يزال الباحثون جاهدين في سبر أغوارها لتجلية ما يكتنفها من غموض و إبهام،و هي جميعها ذوات أشكال و ألوان و تراكيب عجيبة منها النافع و الضار،و السام و غير ذلك.ف.
ص: 89
و الشيء الذي يجب لفت الأنظار إليه أن هذه الأحياء الحيوانية و النباتية هي في المجال المنظور من الطبيعة،بيد أن هناك أحياء أكثر إثارة،و أعظم إغراء في المجال غير المنظور بالعين المجردة.
و قد أماط اللثام لنا المجهر الضوئي العادي light microscope عن كثير من الدقائق غير المرئية،و جاء بعده المجهر الإلكتروني electron microscope فوجدنا عبره ملايين الدقائق و الفصائل و الجماعات المثيرة الدهشة،فكانت هذه المجاهر فتحا جديدا للعلم الإنساني و التطور البشري المعاصر،و قد وضعت حدا فاصلا بين مجاهل الماضي و مهامه و معامي الظنون و بين حضارة و علم و يقين الحاضر،و لا يزال هناك الأمل مرجوا في المستقبل القريب أن يحيط اللثام عن الغريب و المثير في عالم اللامرئيات غير المنظورة لتنفسح أمامنا و تتكشف عوامل و عوالم مجهولة ما أحوجنا إلى ولوج عالمها و ارتياد مجاهلها.
و من الشاق بل من المتعذر حصر هذه المخلوقات الغفيرة في أعداد ثابتة محصورة،إنما كل هذه الأرقام المنتهى إليها هي مجرد إحصائيات تقريبية راجحة.
الذي يذهب إلى حديقة الحيوان مثلا او إلى المتاحف العلمية في الكليات العلمية مثلا scientific museums. يرى و يشاهد الغريب و الشائق من روائع مخلوقات اللّه سبحانه و تعالى.
و قد قسّم العلماء الحيوانات إلى رتب classes و الرتب إلى فصائل و هلم جرّا،مثال ذلك تقسيم آكلات اللحوم إلى فصائل families مثل فصيلة القطط cats و فصيلة الكلاب dogs و فصيلة عجول البحر Seals و غيرها.
ص: 90
و قد لوحظ أن الكلاب على سبيل المثال تجمع بين أفرادها النوع Species، ثم يقل التشابه تدريجيا بين الأجناس genuses، و بالترقي إلى الفصيلة family نجد ازدياد التباعد و القلة في الشبه بين هذه الفصائل.
هذه المخلوقات جميعا معزوة إلى أصل خلقي واحد،و لكن التباين فيما بينها و الاختلاف مرجعه إلى غايات دقيقة.فاللواحم معروفة بأنها آكلات اللحم،و الفقاريات تحتوي على فقارات بظهورها،كذلك فالرخويات تمتاز بلين جسمها خلا العظام؟.
و ليكن معروفا أن وحدة الخلق creature unite تجمع بين الألوف بل ملايين الأحياء.
و رغم وجود.كثير من الخلاف بين كل هاتيك الأنواع إلا أنه لا يتطرق إلى أصول وظائف الحياة الفسيولوجية physiological functionsp .
و خير دليل على هذا فإن الجهاز التنفسي respiratory system .يتمثل في الإنسان في الرئتين و الشعب الهوائية أساسا،و لكن الأسماك و هي تقضي حياتها في الماء كان لا بد أن يتطور جهازها التنفسي ليلائم و ليناسب طبيعة حياتها،و لا يمكن للسمك أن يستغني عن الأوكسجين الذي يعتبر عصب الحياة بالنسبة له كما هو للإنسان،و لكن عليه أن يستخلص عنصر الأوكسجين المذاب في الماء،فلا تتناسب رئتا الإنسان مع ذلك،و لا يمكن أن يكون للسمك رئتين تماثلان رئتي الإنسان بل استعيضت و استبدلت الرئتان في الإنسان بالخياشيم للأسماك حتى تتناسب الأخيرة مع طبيعة استخلاص غاز الأوكسجين من الماء،و هكذا لا بد أن ندرك أن الاختلاف بين هذه المخلوقات معزو و راجع إلى حكم علمية
ص: 91
و حقائق فطرية لا يجب أن يتجاهلها الإنسان أو يشيح عنها بحال لأنها جميعا تنم عن قدرة الخالق سبحانه و تعالى و قدرة خلقه و إعجازه غير المحدودة.
التنفس موجود في الإنسان و الحيوان و لكن بتغير حسب الظروف التي يعيش فيها كل كائن according to circumstances .و لا يمكن أن يقوم بهذا الإبداع و هذه الدقة في الخلق غير القوة الإلهية القادرة المهيمنة، سبحانه و تعالى خالق كل شيء.إنها لعبرة للمعتبرين،و يقين للمتقين.
في البحار و المحيطات من العجائب و الغرائب ما يثير الدهشة و الغرابة و قد قرر هذه الحقيقة الصادقة القرآن الكريم في قوله تعالى: وَ هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَ تَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (1).
و في هذه الآيات البينات دلالة قوية رصينة لا مزيد عليها على أن البحر من المسخرات التي أنعم اللّه بها على بني البشر،و ما يستخرج منه من السمك و هو اللحم الطري من أعظم ما ينتفع به الإنسان.
و قد أثبتت الحقائق غير الممترى فيها أن البحار و المحيطات تشغل 75%أي ثلاثة أرباع سطح الأرض،كما تختلف صفات الماء من مكان لآخر،و من بقعة لأخرى.ن.
ص: 92
يقول بعض العلماء:إن يباري الزمان في دوامة،و يطاول الخلود في بقائه،تمر مئات و ألوف بل ملايين السنين و الأحوال،و تدول الدول، و تحول الأحوال و تصير الأودية جبالا،و تنقلب الجبال و ديانا،و تتغير أكثر مكونات الطبيعة و تصير إلى غيرها و لكن البحار و المحيطات تظل كما هي في جريانها لا تتغير و لا تتحول عن مجاريها إلا في أضيق الحدود بنسب ضئيلة مهملة ساقطة من حساب الزمان.
بعد اكتشاف التصوير الفوتوغرافي تحت سطح الماء انجلت كثير من المشاهد المجهولة غير المعروفة قبل ذلك (1)،فكان هذا التصوير فتحا جديدا،و لا تزال البحوث و الدراسات العلمية النافعة قائمة على قدم و ساق لفك كثير من طلاسم الحياة و الأحياء النباتية و الحيوانية في أعماق سحيقة في البحار و المحيطات،فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء.
و يحتوي عالم البحار على ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر،و إذا كانت نقطة الماء الموضوعة على شريحة زجاجية إذا وضعتها تحت المجهر الالكتروني electronic microscope رأيت فيها من الأحياء الدقيقة غير المرئية ما لا حصر له من المخلوقات،فلا جرم أن البحار فيها ما فيها من الحيتان و المائيات الحيوانية أعداد لا حصر لها، و لكل منها تكوين و طبيعة و غرائز خاصة،تختلف من كل أحد فيها عن الآخر اختلافا شديدا،لكنها في جملتها متحورة لكي تلائم حياة الماء.
و كما على وجه الأرض يتسلط القوي على الضعيف،و يطيح العملاقك.
ص: 93
بالقزم،كذلك يحدث في أحشاء البحار و المحيطات حيث يلتهم القوي الضعيف،و يتغذى الكبير على الصغير و في هذا تتمثل الحياة في أدق معانيها.
من الحيتان نوع يسمى الكاشلوت يطوق المحيط طولا و عرضا، كالأسد في الغابة ليث العرين،و هو حوت ضخم الحجم ذو أنياب حادة قوية،حتى أن المراكب لو وقعت بين فكيه لقيت هند الأحامس، و تهشمت أجزاؤها و ما فيها و من فيها.
ص: 94
قال تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ (1).
قال الإمام محمود شكري الألوسي في تفسيره:اللؤلؤ صغار الدر، و المرجان كباره (2)،و عن ابن مسعود رضي اللّه عنه أن المرجان هو الحرز الأحمر.
و حيوان اللؤلؤ من عجائب أحياء البحار،و هو يصول و يجول في أعماق البحار،و أحشاء المحيطات حيث ينتهي إلى أعماق بعيدة،و اللؤلؤ يوجد داخل صدفة جيرية لتحافظ عليه من المخاطر البيئية و تتكون من ثقوب صغيرة ضيقة أشبه بشبكة الصياد كالمصفاة حتى تحول بين الحصى و الرمال فلا تصل إليه،فإذا ما حاول جسم غريب اقتحام اللؤلؤ في صدفته سارع بإفراز مادة لزجة يغطيها بها،ثم تتجمد مكونة لؤلؤة.
أما المرجان فهو من الأحياء ذات الأهمية العلمية،فهو يعيش على أعماق مختلفة في البحار بين خمسة أمتار و ثلاثمائة متر.و توجد فتحة فمه إلى أعلى،و مؤخرة جسمه يثبتها عادة بصخرة أو أعشاب البحر.و فتحة الفم عنده مزودة بزوائد قوية يمكنه بها اقتناص فريسته،فإذا لمست هذه
ص: 95
الزوائد أصابها الشلل،و التصقت بها من فورها،ثم تنكمش الزوائد شيئا فشيئا ثم تعرج على الفم حتى تجد الفريسة أنها أصبحت مطبقا عليها بواسطة الفم.
و من دلائل قدرة اللّه سبحانه و تعالى أن حيوان المرجان يتكاثر بطريقة التذرر،و لذلك تتكون شجرة المرجان من ساق سميكة،تدق شيئا فشيئا نحو الفروع حتى تبلغ منتهى دقتها عند الفروع،و هي ذات ألوان مختلفة، ترى في البحار صفراء برتقالية،أو حمراء قرنفلية،أو زرقاء زمردية،أو غبراء باهتة (1).
و المرجان الأحمر هو المحور الصلب المتبقي بعد فناء الأجزاء الحية من الحيوان،و تكون الهياكل الحجرية مستعمرات هائلة big colonies و قد كان مظنونا أن هذه المستعمرات إن هي إلا قمم البراكين المغمورة تحت الماء.
و أكثر ما تكون هذه المستعمرات في المحيطين الهندي و الهادي،حيث يرتفع عن الماء و تتسع حتى يبلغ من اتساعها أن تستعمر و تأهل بالسكان، و قد تبقى تحت سطح الماء تهدد الملاحة البحرية (2).1.
ص: 96
قال تعالى: وَ إِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (1).
معنى الآية:أي و إذا أزيلت الجبال عن أماكنها من الرجفة الحاصلة على أن التسيير مجاز عن ذلك،و في سيرت بعد رفعها في الجو كما قال تعالى: وَ تَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً،وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ و هذا إنما يكون بعد النفخة الثانية (2).
و يقول الإمام الزمخشري:و إذا الجبال سيرت:أي زالت عن وجه الأرض و أبعدت،أو سيرت في الجو تسيير السحاب كقوله وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ (3).
و يقول الحق سبحانه و تعالى أيضا: وَ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَ تَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً (4).
و قال أيضا: يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً وَ تَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (5).
يقول الفخر الرازي:مور السماء هو خروجها عن مكانها تتردد،
ص: 97
و تتموج (1).
يقول الخازن:الحكمة مور السماء و سير الجبال،الإنذار و الإعلام بأن لا رجوع و لا عود إلى الدنيا،لأن الأرض و السماء و ما بينهما من الجبال و البحار و غير ذلك إنما خلقت لعمارة الدنيا و انتفاع بني آدم بذلك،فلما لم يبق لهم عود إليها أزالها اللّه تعالى،و ذلك لخراب الدنيا و عمارة الآخرة (2).
إنه منظر عنيف رهيب يشيب لهوله الولدان.
تأمل قوله تعالى: وَ سُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (3).
يقول الطبري:صارت الجبال بعد نسفها هباء منبثا لعين الناظر، كالسراب الذي يظنه من يراه ماء،و هو في الحقيقة هباء (4).
قال الألوسي:و سيّرت الجبال:أي في الجو على هيئتها بعد تفتتها، و بعد قلعها من مقارها كما يعرب عنه قوله تعالى: وَ تَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ (5).
و لكن ثمة آيات أربع كريمة تصور مدى الهلع و الفزع يوم القيامة الذيف.
ص: 98
من جرائه ترجف الأرض،و تنهار الجبال،و تندك الأعلام،فتصبح هباء منبثا.و هذه الأحداث تكون يوم القيامة الكبرى.
قال تعالى: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ وَ كانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (1).
و الكثيب المهيل هو الرمل السائل.قال ابن كثير في تفسيره:«أي تصير الجبال ككثبان الرمل بعد ما كانت حجارة صماء،ثم إنها تنسف نسفا فلا يبقى منها شيء إلا ذهب حيث تصير الأرض و تصبح قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا أي واديا،و لا أمتا أي رابية،أي لا شيء ينخفض،و لا شيء يرتفع،ثم قال تعالى مخاطبا لكفار قريش و المراد سائر الناس إِنّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ » (2).
يقول الزمخشري رضي اللّه عنه:الرجفة:الزلزلة الشديدة،و الكثيب الرمل المجتمع من كثب الشيء إذا جمعه،كأنه فعيل بمعنى مفعول في أصله،و منه الكثبة من اللبن (3).
هذه الجبال الرواسي،و الأعلام الراسخة سينسفها اللّه سبحانه و تعالى يوم القيامة نسفا فتتطاير في الهواء هنا و هناك فليس لها يومئذ وزن و لا ثبات،و لا تقوم لها قائمة..
ص: 99
قال تعالى: وَ إِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (1).
قال الإمام الألوسي:جعلت كالحب الذي ينسف بالمنسف و نحوه، و بست الجبال بسّا،و كانت الجبال كثيبا مهيلا (2).
قال أبو حيان في البحر المحيط:فرقتها الرياح و ذلك بعد التسيير، و قيل ذلك جعلها هباء،و قيل نسفت أخذت من مقارها بسرعة من انتسفت الشيء إذا اختطفته.
و قرأ عمرو بن ميمون طمست و فرجت بتشديد الميم و الراء و لكن صاحب الكشاف ذكر أن الأفعال الثلاثة قرئت بالتشديد (3).
بل إن المشركين سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عن الجبال،فأمر أن يخبرهم بأنها على قوتها و ركانتها إلا أنها ستنسف ستنسف يوم القيامة نسفا.
قل تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ،فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَ لا أَمْتاً (4).
و القاع من الأرض:المستوى الذي يعلوه الماء.
و الصفصف:المستوى،يريد لا نبت فيها،و الأمت:النّبك (5).
و القارئ للآيات السالفة الذكر يرى أن أحوال الجبال يوم القيامة.
ص: 100
ستختلف من بعضها إلى بعضها،فهناك تسيير لبعض الجبال،و هناك ظاهرة نسف للبعض الآخر (1)فهل يا ترى التسير و النسف ظاهرة واحدة،أم أن هاتين ظاهرتان مختلفتان؟؟!! الواقع الذي عليه أغلب الآراء أن التسيير الذي تطيعه الجبال فتسير سيرا حقيقيا غير النسف التي تبس فيه الجبال بسّا؛فتكون هباء منبثا.
و اتحادهما يقتضي حمل أحدهما على المجاز،بينما يظل الآخر محمول على الحقيقة،و المجاز يقتضي قرينة لتدل عليه في نفس الكلام.و لكن الآيات المذكورة في النسف مفقود فيها القرينة.
إذن فالتسيير و النسف على حقيقتهما،و هما ظاهرتان تنزلان بالجبال، إما على التعاقب فيسير الجبل ثم ينسف،و أما على التقسيم:فيسير بعض الجبال و ينسف البعض الآخر،و لا ثالث لهذين الاحتمالين (2).
لكن الاحتمال الأول تمنع منه آية سورة النبأ: وَ سُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً إذ الجبال بعد أن انتهى بها التسيير إلى أن تفنى و تكون سرابا لا يمكن أن يلحق بها نسف،و قد انعدمت بالفعل،فلم يبقى إلا الاحتمال الثاني،و يتعين أن يكون الفناء عن طريق التسيير خاصا ببعض الجبال، و الفناء عن طريق النسف خاصا بالبعض الآخر،و هذا يقتضي أن تكون الجبال صنفين:أحدهما يقبل بفطرته التي فطره اللّه عليها أن ينسف بعدف.
ص: 101
أن يصير بالرجفة كثيبا مهيلا،و الآخر يقبل بفطرته أن يسير حتى يصير سرابا.
و لا بد في هذا الصنف من التغيير حتى يمهد للتسيير كما مهد للنسف في الأول بالانهيار،إذ كل من الصنفين في حالته الدنيوية راس راسخ، لا بد و أن تكوينه منذ البداية محكوم عليه بالنسف و التسيير،و هذا لا يمكن أن يستعصى على القدرة المنشئة له.
و الذي يتأمل آيتي المعارج و القارعة،يرى الدليل و البرهان على صدق و صحة هذا الاستنباط (1).
قال تعالى في سورة المعارج: وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (2)و العهن هو الصوف (3).
قال الأستاذ الغمراوي:العهن هو الصوف المصبوغ،فالآية الكريمة يقول إن الجبال يوم القارعة تكون كالصوف المصبوغ المنفوش،فإن لكل من هذه الكلمات الثلاث دلالتها،فالصوف من التماسك ما ليس في الرمل الذي يكون في الكثيب المهيل،و الذي لا شك فيه أن الجبال التي تصيرا.
ص: 102
بالرجفة كثيبا مهيلا غير الجبال التي تصير كالصوف في تكوينها و طبيعتها،و فيما تصير إليه يوم الرجفة،و إذا كان انهيال الأولى يهيؤها للنسف،فتفكك الثانية حتى تكون كالصوف يهيؤها للسير بالتسيير الذي تصير به سرابا (1).
في قوله تعالى وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ مقصود بها الجبال الملونة،لا مطلق الجبال،و هذا يحل لنا الإشكال الناجم عن المعنى المتبادر إلى الذهن من فهم الجبال على إطلاقها في هذا النص و غيره من نصوص الآيات السابقة.
و الجبال يوم القيامة بين يدي الساعة ينتهي أمرها إلى الزوال،و لكن ليست جميعا في زوالها تكون على وتيرة واحدة أو بطريق واحدة فبعضها يصير كثيبا مهيلا،و البعض يصير كالعهن،و الآخر يكون كالعهن المنفوش (2).ف.
ص: 103
في قوله تعالى: أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها بأن الحق سبحانه و تعالى جعل كل كوكب من الكواكب من الكون بمثابة لبنة من بناء سقف أو قبة أو جدران تحيط بك،ثم شد هذه الكواكب بعضها إلى بعض بتأثير الجاذبية الأرضية أو ما يماثلها من الجاذبيات الأخرى،كما تربط أجزاء البناء الواحد بما يوضع بينهما مما تتماسك به.
و هذا التفسير العلمي الدقيق نال قبولا و استحسانا من جماهير المتخصصين في العلوم الكونية و الفلكيات (1).
و لم يكن رأي الشيخ محمد عبده هذا مجرد ظنون،أو محض تخييلات و لكنها حقائق علمية (2)وصل إليها الإمام محمد عبده باطلاعه على
ص: 104
المستحدثات العلمية و توفره على هذا الجانب الحيوي من العلوم الفلكية و لا سيما اليقينية التي قطع العلم بحقيقتها.
و في قوله سبحانه و تعالى: أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها استفهام تقريع و توبيخ،و المقصود منه،و المراد به أن يقول:هل أنتم يا معشر المشركين أشق و أصعب خلقا،أم خلق السماء العظيمة البديعة؟؟ (1).
و قد نبههم على أمر يعلم بالمشاهدة،و ذلك لأن خلق الإنسان على صغره و ضعفه،إذا أضيف إلى خلق السماء على عظمها و عظم أحوالها يسير،و إذا كان كذلك فإعادتهم سهلة فكيف ينكرون ذلك؟كقوله عالى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ (2).
و قال تعالى أيضا: أَ وَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَ هُوَ الْخَلاّقُ الْعَلِيمُ (3).
عود إلى رأي الإمام محمد عبده رحمه اللّه عنه عن الجاذبية العامة و أثرها في بناء السماء مما نبه اللّه عليه و أشار إليه في آيات التنزيل،إذ أن كلا منها يدل على جانب من مميزاتها للّه فيه آية تهدي إليه سبحانه و تعالى (4).ف.
ص: 105
و قد أوضح جل شأنه الفرق بين الجاذبية السماوية العامة،و بين الجاذبية الأرضية،و لا يمكن أن يصل إلى لطائف الإشارات،و دقائق المعاني إلا أرباب الفصاحة و البيان.و الذي يتأمل قوله تعالى: خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها (1).
ففي قوله تعالى بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها في خلق السماء و رفعها لطيفة علمية دقيقة إذ أنه لو قال(بغير عمد)فحسب،لكان هذا نفيا مطلقا للعمد،مرئية و غير مرئية،و النفي المطلق يخالف الواقع الذي علم اللّه أنه سيهدي إليه خلقه و عباده بعد حين،فكان من الإعجاز الدقيق أن يقيد اللّه نفي العمد في الخلق و الرفع بقوله(ترونها)و الضمير المنصوب في (ترونها)يرجع أولا إلى أقرب مذكور و هو(عمد)فيكون المعنى(بغير عمد مرئية)أو(بعمد غير مرئية)أي بعمد من فطرتها و تكوينها أ لا ترى للنظر (2).
لكن الضمير إذا أعيد إلى السماء كان المعنى أن السماء ترونها مخلوقة مرفوعة بغير عمد،و تكون العمد هي ما يعهده الناس في أبنية الأرض، كما أن نفيها بهذا المعنى عن السماء المرفوعة أيضا أمر عجيب لا يقدر عليه إلا اللّه،و كلا الوجهين مفهوم من التعبير القرآني،و إن كان الأولى في اللغة هو الوجه الأول الذي يحوي الإعجاز العلمي،إذن فالوجهانر.
ص: 106
كلاهما مرادان بالتعبير الكريم إذ لا مانع من أحدهما (1)،و الإمام الزمخشري (2)فهم المعنيين على التخيير،و إن أعطى الأولوية للمعنى المستفاد من جعل(ترونها)صفة للعمد،أي بغير عمد مرئية،يعني أن عمدها لا ترى و هي إمساكها بقدرته.و لكن الفخر الرازي فرضي فقط بالرأي الثاني فقال:إنه رفع السماء بغير عمد ترونها أي لها عمد في الحقيقة إلا أن تلك العمد«هي قدرة اللّه تعالى و حفظه و تدبيره و إبقاؤه إياها في الحيز الحالي،و أنهم-يقصد الناس-لا يرون ذلك التدبير و لا يعرفون كيفية ذلك الإمساك (3).
و إذا رجعنا إلى رأي إمام المفسرين المعاصرين الشيخ محمد عبده في تفسير قوله تعالى: أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (4).
قال الشيخ محمد عبده:البناء ضم الأجزاء المتفرقة بعضها إلى بعض مع ربطها بما يمسكها حتى يتكون منها بنية واحدة،و هكذا صنع اللّه بالكواكب،و صنع كلا منها على نسبة من الآخر مع ما يمسك كلا في مداره،حتى كان منها عالم واحد في النظر،و سمي باسم واحد هو السماء التي تعلونا،فقوله«صنع كلا منها على نسبة من الآخر»إشارة إلى تقدير نسب المسافات ثم الكتل،و كنّى عن الحركة و الجاذبية بقوله:«مع ما يمسك كلا في مداره»لكنه صرح بها في تفسير قوله تعالى:).
ص: 107
وَ السَّماءِ وَ ما بَناها (1) إذ يقول:«و أنت إنما تتصور عند سماعك لفظ السماء، هذا الكون الذي فوقك،فيه الشمس و القمر و سائر الكواكب تجري في مجاريها و تتحرك في مداراتها.هذا هو السماء و قد بناه اللّه أي رفعه و جعل كل كوكب من الكواكب منه بمنزلة لبنة من بناء سقف أو قبة أو جدران تحيط به،و تشد هذه الكواكب بعضها إلى بعض برباط الجاذبية العامة كما تربط أجزاء البناء الواحد بما يوضع بينهما مما تتماسك به»أ ه.).
ص: 108