الإعجاز العلمي في القرآن الكريم(حطيط)

اشارة

نام كتاب: الإعجاز العلمي في القرآن الكريم( حطيط)

نويسنده: حسن حطيط

موضوع: اعجاز علمى

تاريخ وفات مؤلف: معاصر

زبان: عربى 6

تعداد جلد: 1

ناشر: دار و مكتبة الهلال

مكان چاپ: بيروت

سال چاپ: 2005

نوبت چاپ: اوّل

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

ص: 6

إهداء

بسم اللّه الرحمن الرحيم وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَ إِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ سورة الأحقاف:15 إلى والديّ-رحمهما اللّه- مع حبي و امتناني و شكري و شوقي الكبير لهما...

ص: 7

ص: 8

مقدمة المؤلف

بسم اللّه الرحمن الرحيم هذا الكتاب الذي بين يدي القارئ الكريم مجموعة متنوعة من المقالات و المحاضرات التي خطّها القلم عبر السنين القريبة الماضية،ليعبّر عمّا كان يعتمر فيه من دهشة و ذهول عند وقوفه أمام شعاع من أشعّة النور المنبعثة من آية من آيات القرآن الكريم.

و لقد نشرت بعض المجلاّت المتخصّصة بعضا من هذه المقالات لكنها ظلّت بمجموعها تنتظر الظهور في كتاب يجمعها في محاورها الرئيسية في منظومة واحدة موحّدة لكي تؤدي هدفها المنشود في استقراء بعض من أسرار الإعجاز العلمي في القرآن أو بثّ عبق من عطره الأخّاذ المتألّق عبر الدهور و الأجيال و المتجدّد بتجدّد الأزمان و الآجال.و لقد كان لعملي في مجال الطبّ و تخصّصي في أمراض الأنسجة و الخلايا الأثر الكبير في التركيز على بعض المواضيع الجديدة في مجال الإعجاز العلمي في القرآن الكريم و الذي كثر الباحثون فيه و الدارسون و المتخصصون و المستكشفون خاصة في مجال العلوم الفلكية و الجيولوجية و المناخية و النباتية و الحيوانية و البشرية...

و لقد حاولت عبر هذه الإضاءات طرق أبواب جديدة قلّ أو ندر طارقوها من قبل كعوالم الوراثة و موت الخلايا المبرمج و الوقاية من السرطان و الحركة

ص: 9

الكونية للإنسان و غيرها من المواضيع التي ارتأيت توزيعها في محاور رئيسية أربعة تسبقها«افتتاحية-مدخل»تمهّد لها،و تتبعها«خاتمة»تكون لها نهاية.

و تتوزّع المحاور على الشكل التالي:

-افتتاحية/مدخل:جدلية العلاقة بين العلم و الإيمان«العلم و الإيمان...إلى أين؟».

-المحور الأول:إضاءات على الإعجاز العلمي في الخلق و التقويم.

-المحور الثاني:إضاءات على الإعجاز العلمي في الأمر و التقدير.

-المحور الثالث:إضاءات على الإعجاز العلمي في النهي و التحذير.

-المحور الرابع:إضاءات على الإعجاز العلمي في المقادير و الآجال.

-الخاتمة:إضاءات على الإعجاز العلمي في علاقة الإنسان بالكون.

و آخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين الدكتور حسن يوسف حطيط دبي-17 ربيع الأول-1425 ه.

ص: 10

افتتاحية/مدخل:

اشارة

جدليّة العلاقة بين العلم و الإيمان

-«العلم و الإيمان..إلى أين؟» «بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ فصّلت:53

ص: 11

ص: 12

العلم و الإيمان..إلى أين؟

خلق اللّه العليّ القدير الكون،و جعل فيه آيات باهرة و آثار دامغة،تدلّ على إبداعه و تفرّده و وحدانيته و رحمته و جبروته و عظمته و أبديته و أزليته،ثم جعل في الكون الواسع الرحب مخلوقات مادية و نباتية و حيوانية و بشرية و أخرى نجهلها و أخرى لم يصلنا ذكرها..و جعل فيها آيات و علامات و دلائل لتكون حجّة عليها و على غيرها في الخلق.

و لقد سأل اللّه تعالى الإنسان عبر أنبيائه و رسله و كتبه و وحيه أن يتأمل في السماوات و الأرض و ينظر في نفسه و جسمه و أعضائه،و يتعرّف على أسرار الكون و الخلق و الطبيعة و أسرار الحياة و الموت.و لقد وجد الإنسان في نفسه شعورا فطريا و ميلا للتعرّف و التقصي و الاستقراء و الاستنباط و التأمل و التفكّر،كما استفزّت الظواهر الطبيعية و الكونية و التغيّرات الخارجيّة و الداخلية الطارئة على جسمه و محيطه،كل هذه المشاعر و الميول لتجعل من هذا الكائن البشري باحثا دائما عن الحقيقة و أسرار الأشياء.و هكذا نشأت العلوم و ازدهرت و انقسمت و تفرّعت و تشعبت،و تفتحت أبواب عند كل باب،و أدّت المخارج إلى مداخل جديدة و انتقلت العلوم من محطة إلى محطات أخرى كثيرة لا يزال الإنسان يكتشف أسرارها و يسبر أغوارها.

و برز للإنسان سؤال كبير عند كل محطة و عند كل باب و عند كل

ص: 13

محاولة لاستكشاف أسرار الأشياء و هو السؤال عن السبب الأول أو العلّة الأصلية أو مسبّب الأسباب أو علّة العلل،و من هو المسيّر للإرادات أو الإرادة الأولى و الأخيرة و الأقوى و الأعظم.

صارت الظواهر و الأحداث و المخلوقات تتحدث عن أنفسها و عن كيفية حدوثها و تطورها و وظائفها و نتائجها،و صار الإنسان يقرأ الكون و يستشف منه التنظيم و الإبداع و الدقة و التناسق و التناغم و الترابط و التكامل و غيرها من القوانين و النظم و المعايير و الأسس التي بني عليها الكون و أنشئت الخلائق.و بعثت ظواهر التراتب و التسلسل و التضاد و التشابه و التزاوج و التناسل و الشيخوخة و الموت،أسئلة كانت مصادر للقلق و الحيرة و الخوف من جهة،و مباعث للدهشة و الانبهار و المتعة و النشوة من جهة أخرى.و لقد تطوّرت هذه المشاعر و الأحاسيس و الأفكار عبر الحضارات و الأجيال و القرون،و خاضت آلاما و حروبا و ضغوطا و انحرافات و ضياعا، حتى تمخّضت في القرون الأخيرة عن مسالك للنور و السعادة و البهجة و الراحة و النشوة حينما راحت الأسئلة تلتقي بأجوبتها الواحدة تلو الأخرى، بظلّ الأديان السماوية و التطوّر العلمي و التقني و العقلي و الفلسفي،و حينما اجتمع و تلاقى الإيمان الحقيقي بالعلم الحقيقي و اتّحدا ليفتحا الآفاق على مصراعيها و ينشرا النور و السعادة في العقول و القلوب على السواء!

العلم و الإيمان في الحضارات القديمة:

أسّست الحضارات القديمة و معتقداتها على ما كانت تستشفّه في انبهارها و خوفها و دهشتها أمام الظواهر الطبيعية كالبراكين و الصواعق

ص: 14

و العواصف و النيران و الرياح،و أسبغت على هذه الظواهر ستارا من القداسة و ألهتها،و قدّمت لها القرابين و الولاء و تعبّدت لها.كانت مشاعر الإيمان عند تلك الشعوب ساذجة حائرة مقتصرة على مشاعر الخوف و رجاء الخلاص من بطش تلك الظواهر أو من سيطرة الكواكب،أو من غضب بعض المخلوقات الغربية،و كانت تلك الشعوب تقدم أغلى ما عندها إرضاء لتلك النزعات البدائية.ثم قامت تلك الحضارات القديمة بتأليه أصنام بنتها هي لتسقط عليها حاجتها الفطرية لتقديس شيء عظيم يحميها مما تخافه و تتفاداه من أذى،مطلقة العنان لعواطفها الساذجة و مكنونات نفوسها الخائفة،كل ذلك من دون إدراك كامل لحقيقة الأشياء و من دون معرفة صحيحة بآثار الأفعال و نتائجها،ثم أخذت بعض الحضارات القديمة بتأليه بعض الأشخاص من الطغاة و الحكام و السحرة و المشعوذين و أسقطت عليهم كل هالات التقديس ليزدادوا طغيانا و عبثا و تسلطا على الشعوب و أفكارها و معتقداتها.

و تطوّر التقديس عند بعض الشعوب فقامت باختراع آلهة أسطورية خيالية متعدّدة ذات أسماء و وظائف و كيانات مختلفة،و ربطت أفعالها بما كانت تراه في السماء من نجوم و كواكب و أجرام و رياح و غمائم و أنوار، و صارت تحيك الحكايا و الأساطير حولها و تتبناها طقوسا و أعيادا و احتفالات و نذورا و قرابين في المواسم و الفصول و المحطات الزمانية و المكانية.

العلم و الإيمان في الأديان السماوية قبل الإسلام:

بعد ظهورها و انتشارها وقعت معظم الأديان السماوية قبل الإسلام في

ص: 15

شرك التضارب بين المؤسسات الدينية و المذاهب العلمية الباحثة عن حقيقة الأشياء،و اصطدم معظمها بإشكالية الصراع بين المصالح في تلك المؤسسات و المصالح العلمية و أساليبها المبنية على التجربة و الحسّ و المنطق و العقل.أسّس كل ذلك لظهور مفهوم خاطئ أدّى إلى بروز فصل بين الدين و الإيمان من جهة،و العلم و العقل من جهة أخرى.و صارت المؤسسات الدينية و خاصة في العصور الوسطى تحارب و تكفّر العلماء الباحثين عن أسرار الخلق و الطبيعة.و وصلت الأحوال بما سمّي بالعلماء «الزنادقة»أن أجبروا بطريقة أو بأخرى على الابتعاد عن الدين و فضائه الرحب،فعاشوا حالات التشكيك و الشك الدائم أمام السؤال الكبير الذي كان يواجههم:العلّة الأولى و الأخيرة؟؟و إزاء تلك الإشكالية ظهرت مجموعات من الباحثين العلميين نادت بعظمة الطبيعة و قدرتها الذاتية الخلاقة أو بقدرة الصدفة على تأسيس الكون عبر اجتماع احتمالات بعيدة و التقائها في نقطة ما تحوّل ما بعدها إلى حقائق أو بتأليه الإنسان و قدراته أو حتى بتأليه المادة و الطاقة المستمدة منها...

كل ذلك أدّى إلى تفاقم الصراع في العصور الوسطى،و إلى انفصام العرى بين الشعور الديني و المنطق العقلي في بداية النهضة الصناعية في بلاد الغرب،حيث بات من المستحيل ردم الهوّة الآن بين الجانبين.

و من الأسباب العميقة لذلك الشرخ القديم،وجود خلل واضح في القدرة على التآلف و التكامل و التناسق بين العقل و بين بعض المعتقدات المعروفة بالدوغما(أو المعتقدات المفروضة)التي ترفض المنطق في

ص: 16

أسسها،كمفاهيم بنوة الخالق و التثليث و ضعف الخالق أمام مخلوقاته و الأساطير التي حيكت حول الرسل و مفاهيم أخرى يستحيل على العقل أن يتقبلها و يستسيغها.

العلم و الإيمان في الإسلام:

جاء الإسلام حاملا مفاهيم إيمانية سامية و متكاملة جعلت من العلم و الإيمان بعدين موحدين يجتمعان في جبهة واحدة ضد الشرك و الكفر و الظلمات و الجهل،هي جبهة البحث عن الحقيقة.كما حضّ الإسلام على العلم و التعلّم و البحث و التأمل و السير في الأرض للنظر في آيات الخلق،و دعا إلى إيمان خالص ذي عقلانية و عقلية منطقية هادفة و واضحة المعالم.و ارتفع الإيمان الفطري في الإسلام و عبر التزاوج بين العلم و الإيمان إلى أعلى درجات اليقين و التصديق و الكمال.و استفاد الإنسان من التحفيز الدائم له للمعرفة و استقراء الآثار و الدلائل و البراهين و استنباط النتائج،عبر السير في الآفاق و النظر في نفسه و محيطه و التأمل في الكون،ليصل إلى نتيجة نهائية أكيدة و هي التزاوج و التآلف و التناغم بين الخطين الإيماني و العلمي في بوتقة متوازنة.

و هكذا،و بسبب كل ذلك ظهرت مدارس كثيرة و متعددة عمادها علماء متدينون و رجال دين عالمون على مدى التاريخ الإسلامي،و صار علماء الدين يبرعون في الطب و الفيزياء و الفلك و الزراعة و الرياضيات و الكيمياء،و صار رجال العلم التجريبي و الحسّي يبرعون في الفقه و الأصول و علم الأخلاق و الروحانيات و الإلهيات،على عكس ما كان يجري في أوروبا من تضارب و تطاحن و تنافس بين المؤسسات الدينية و المعاهد العلمية.

ص: 17

أما المساهم الأكبر و الأعظم في ترسيخ و توثيق عرى التزاوج بين العلم و الإيمان في الإسلام،فهو كتاب اللّه العزيز القرآن الكريم الذي حضّ بشكل لافت على العلم و المعرفة و التحقق و التأمل و سبر أغوار الكون و أسراره، كما أورد في طيّاته إشارات صريحة و أوصاف بديعة و دلائل دامغة أدّت فيما أدّت إلى ظهور العلم الذي صار يعرف بالإعجاز القرآني.

تنوعت الأبحاث و الدراسات في الإعجاز العلمي القرآني و تشعبت، و برزت بشكل خاص و باهر الدراسات الطبية و الفلكية حيث أسهمت بشكل واضح في فهم بعض الآيات على ضوء المكتشفات العلمية الحديثة.كما أدهشت و حيّرت عقول العامة و الخاصة في دقتها و براعتها و وصفها المعجز لأمور لم تكتشف إلا في عصرنا الحاضر،و بعد تطوّر المراصد الفلكية و المجاهر الإلكترونية و التقنيات المختصة.

و تطابقت هذه الإشارات و اللطائف البديعة مع المصطلحات العلمية و الأوصاف المستعملة حديثا في العلوم الفلكية و الطبية الحديثة.و كأنما كان الهدف من ذلك لفت أنظار الإنسان دوما إلى نفسه و محيطه الكوني ليتعرف على الأسرار البديعة و يكتشفها شيئا فشيئا،و طورا فطورا حتى يشعر بعظمة خالقه في كل حين و مهما طالت فيه الأيام.

سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت:53].

و لتوكيد ذلك نستعرض بعضا من الإعجازات العلمية المؤكدة و الصريحة التي لم تظهر بحقيقتها المدهشة إلاّ بعد مضي قرون من المعرفة

ص: 18

و البحث و التطوّر و النموّ في الوعي البشري و المنطق العقلي و التقنية العلمية، و التي من المؤكد ستظل تدلي بدلوها الإعجازي في القرون القادمة لأن القرآن الكريم معجزة خالدة و إعجازه باق أبد الدهور:

1-مراحل و أطوار خلق الجنين و مطابقة الوصف التفصيلي لما ورد في كتب علوم الأجنّة الحديثة،و مقاربة الكلمات القرآنية للمصطلحات الحديثة الواردة في الكتب الطبية المعاصرة(بعد ظهور التشريح و المجهر و التقنيات الجديدة):

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ(12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14)[المؤمنون:

12 و 13 و 14].

2-مسئولية الذكر(المني)عن تحديد جنس الجنين(و هذا ما ثبت في عصرنا الحالي بعد ظهور علم الوارثة و علم الخلايا و تطور المجهر الإلكتروني).

أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى(37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى(38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى (39)[القيامة:37-39]. وَ أَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى(45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (46)[النجم:45-46].

3-الطب الوقائي و أسسه و مفاهيمه المبنية على قواعد النهي عن مصادر العدوى و الإسراف في الأكل و الشراب و الابتعاد عن المواد أو الأشربة المضرّة و غير النافعة و عدم تحميل الجسم ما لا طاقة له عليه، و عدم الاقتراب من أسباب الأذى و انتقاله و نقله إلى الآخرين:

ص: 19

وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى [الإسراء:32] فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ [البقرة:222]. يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما [البقرة:219].

وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا [الأعراف:31]. إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ [البقرة:173]. لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاّ وُسْعَها [البقرة:

233]. وَ لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ [الأنعام:151].

4-مبادئ علم الوراثة و أسسه المتعلقة بالخلق و الحياة و الموت و تحديد الجنس و تقدير عملية التخلّق و النمو و الوظائف:

مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19)[عبس:19]. وَ أَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (46)[النجم:45-46]. وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً وَ كانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54)[الفرقان:54]. وَ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14)[نوح:14].

5-مبادئ نشأة الكون و نهايته و عالم المجرّات و الكواكب و وصف السماوات و ظواهرها الكونية و معالمها المخفية و المرئية كل ذلك بأساليب و مصطلحات لا يمكن أن يفهمها الإنسان إلا إذا كان ضليعا بمكتشفات العصر الحديث(و بعضها من سنوات قليلة):

خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها [لقمان:10]. أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما [الأنبياء:30]. وَ السَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَ إِنّا لَمُوسِعُونَ (47)[الذاريات:47]. يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء:104]. وَ السَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1)[البروج:1]. وَ السَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11)[الطارق:11]. وَ السَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7)[الذاريات:7]. وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى [الرعد:2]. وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16)[نوح:16].

ص: 20

خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها [لقمان:10]. أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما [الأنبياء:30]. وَ السَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَ إِنّا لَمُوسِعُونَ (47)[الذاريات:47]. يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء:104]. وَ السَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1)[البروج:1]. وَ السَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11)[الطارق:11]. وَ السَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7)[الذاريات:7]. وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى [الرعد:2]. وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16)[نوح:16].

6-مبادئ تكوّن الأرض و بيئتها و ظواهرها الطبيعية كالرياح و الجبال و البحار و المياه و التوازن البيئي بين المخلوقات الحية و غير الحية:

وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها(30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَ مَرْعاها (31)[النازعات:

30-31]. وَ أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَ أَنْهاراً وَ سُبُلاً [النحل:15]. وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ [الحجر:19]. وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الفرقان:2]. وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ [الأنعام:38]. وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنّاهُ فِي الْأَرْضِ [المؤمنون:18].

العلم و الإيمان..إلى أين؟

شهدت الفترة الأخيرة من عصرنا الحالي تطورا سريعا في شتى العلوم و المعارف،و نموا هائلا في الصناعات العملية و التكنولوجية،و ظهرت تقنيات علمية جديدة و متطورة لم تكن تخطر على بال العقل البشري،و أهم و أبرز ما حصل،التطور العظيم في المجالات التالية:

-علوم الاتصالات؛ -علوم الفضاء؛ -علوم الوراثة و الجينات و تطبيقاتها؛ -علوم التصنيع العسكري،أو ما يسمّى بالحرب الإلكترونية تحديدا.

و برزت في الوقت نفسه مشاكل عديدة جراء التلوث البيئي بسبب النمو

ص: 21

الصناعي الهائل،جراء الخلل المخيف في التوازن المناخي بسبب الإشعاعات الصناعية المتصاعدة و الأبخرة السامة.كما برزت أسئلة كبيرة و إشكالات صعبة من جراء التطبيقات القائمة و المتوقعة و المحتملة مستقبلا لبعض التقنيات الحديثة كتقنية الاستنساخ الحيواني و البشري أو كتقنيات الاتصالات المفتوحة و الخارقة لكل الحدود و الحواجز أو كالتقنيات الجديدة لما يسمّى بالحرب الإلكترونية أو حرب النجوم.

و في المدة الأخيرة،بدأت الحكومات الغربية و الشرقية تبدي قلقها من حصول بعض المؤسسات غير الحكومية أو بعض الدول الصغيرة غير المراقبة على تلك التقنيات و استعمالها في حقول،و على أسس غير أخلاقية،أو على الأقل لتحقيق مصالحها الخاصة.ثم أخذت تعلو أصوات المؤسسات الدينية المطالبة بعدم تعريض الجنس البشري،و خاصة الأجنة للهتك و العبث لتحقيق مآرب شركات الأبحاث العلمية و التكنولوجية.

و هكذا أخذت تطفو على السطح أسئلة ما زالت تبحث عن إجابات لها للحاضر و للمستقبل منها على سبيل المثال لا الحصر:

-من سيتمكن من مراقبة معاهد الأبحاث.و من سيقدر على منعها من المغامرة و التهور في تطبيق تقنياتها؟ -ما هي المعايير الأخلاقية في تطور العلم و ما هي حدود ذلك و ضوابطه؟ -من هو الذي سيخوّل أية سلطة كانت القدرة على المراقبة و المحاسبة لضبط الانحرافات في الأبحاث و التطبيقات؟

ص: 22

-ما هو المستقبل المحتمل و المتوقع لهكذا تطور،و إلى أين يمضي ركب الأبحاث و التجارب؟ -هل لهذه الأبحاث نهاية ما أو مرحلة نهائية،و ما الذي يضمن عدم حصول الكارثة قبل استكمالها؟ على كل حال و في نهاية النفق المخيف نجد أن التاريخ الإنساني بمراحله المتعددة كشف لنا أنه لا يمكن لحضارة ما مهما كانت عظيمة و قوية أن تستمر و تدوم معتمدة على قواها الحضارية و الثقافية و العلمية فقط، كما عرفنا أنه لا يمكن لمعرفة ما أن تتكشف و تبلغ مداها و أهدافها إلا إذا اقترنت بالخير و الضمير الحقيقي و السعي إلى الكمال و التكامل.فلا يمكن لحضارة أن تعيش فقط على فتات معارفها و تطور علومها كما لا يمكن لها أن تنمو فقط على أجوائها الروحانية الداخلية من دون سعي حثيث للمعرفة و العلم و سبر أغوار الحقيقة.

هكذا نرى أن العلم و الحقيقة المعرفية لن يحققا أهدافهما إلا إذا اقترنا بالحق الصادر عن علة العلل و مسبّب الأسباب،كما أنه لا يمكن أن يكون للعلم و التقدم العلمي ضابط و مراقب و محاسب غير الإيمان الحقيقي المبني على أسس القيم و الأخلاق و حب الخير و محبة الآخرين،و الضمير الحي و السعي إلى الكمال المطلق.و لا يمكن للمعايير البشرية الوضعية أن تتصدى لهكذا مسئولية لما ينقصها من رادع ملزم و ضمير كامل و أمر بالخير و المعروف و الجميل،و نهي عن المنكر و الشر و القبيح لما يشوبها من إخفاء لحقيقة الكون و سر خلقه و معرفة خالقه.و لهذا كله فالأمور جلية جلاء الشمس؛و الخلاصة أنه إذا ظلّت المادية غير الإيمانية و عقلية العلم من أجل العلم و المغامرات العلمية المتسمة بالفوضى متحكمة بالأمور البشرية

ص: 23

و بمستقبل عالمها المهدد،فإن النتيجة النهائية آتية لا محالة،و هي بلا شك الهلاك و الفناء و الدمار و الخراب و القضاء على الجنس البشري بعد تشويهه و العبث به.

و من هنا يجب على العلماء المتنورين و على المؤمنين العالمين في مجالات العلم و تقنياته الحديثة،و على كل مخلص و مؤمن بتخليص الإنسانية من أمراضها الفتاكة،أن يبرزوا آراءهم و يطرحوا أفكارهم و ينشروا معتقداتهم الحضارية،و يحثوا المجتمعات البشرية الواعية على الأخذ بعبر التاريخ و دروسه و استشعار المستقبل و التنبيه لأهواله المحتملة إذا لم يأخذ الإنسان بوصفة الخلاص من الجمود و العدم و الفناء و الدماء الحتمي:توحيد الإيمان و العلم في خط نوراني واع للتاريخ و للمستقبل مرتبط بالأصل و الفروع و بالميزان و بالقسط و بالحسبان و بالتقدير الذي أسس للخلق و قدره تقديرا.

ص: 24

المحور الأوّل: إضاءات على الإعجاز العلمي في الخلق و التقويم

اشارة

-الجينوم البشري...أو خريطة الجينات الوراثية للإنسان؛ -عالم التكوين البشري؛ -الجهاز اللمفاوي..خطوط دفاع استراتيجية.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ(12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ(13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14) [المؤمنون:12 و 13 و 14] بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4]

ص: 25

ص: 26

«الجينوم البشري...أو خريطة

الجينات الوراثية للإنسان»

مقدمة:

ظهرت في الثمانينات فكرة إعداد خريطة للجينات الوراثية للإنسان و ذلك لمعرفة صفات الإنسان المرضية و تمكينه من الوقاية منها.بدأ تنفيذ المشروع في أوائل التسعينات و حددت له 15 سنة للانتهاء من جمعه و استكماله.و يهدف إلى اكتشاف 80 إلى 100 ألف جين يعتقد أنها كل جينات الإنسان أو بصماته الوراثية.كما يهدف المشروع إلى اكتشاف كل الحلقات المتتابعة لمجموعات القواعد النيتروجينية(حوالي ال 3 بلايين زوج) التي تشكل شريطي الحمض النووي المعروف بال«د.ن.أ»و الذي يحدد بدوره الصفات الوراثية لكل كائن حي.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ:

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ(12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14)[المؤمنون:

الآيات 12،13،14).

أجمع علماء اللغة و التفسير على أن كلمة«سلالة»هي من سللت الشيء من الشيء أي استخرجته منه و هو خلاصته.و هذه الكلمة التي تعني استخراج الشيء من الشيء أو الخلاصة المستلة من الشيء و التي أتى ذكرها قبل ذكر كلمة«النطفة»،تدل فيما تدل على وجود مرحلة ما في الخلق تحدث قبل

ص: 27

مرحلة«جعل النطفة في القرار المكين»و بعد فعل«الخلق»مباشرة أو أثنائه (و لقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين)و يحصل فيها فعل الاستخراج(أو السل)لتكون فيها خلاصة الشيء(أو السلالة بعد سلها و استلاها).

شهد القرن الماضي تطورا بارزا و منقطع النظير في العلوم الطبيعة، و حصلت إنجازات و سجلت اختراعات عديدة في ميادين مختلفة،كان أهمها على الإطلاق الاكتشافات المذهلة في علوم الوارثة و بيولوجيا الخلايا و الكيمياء الجزئية.و لعل الدراسات و الأبحاث التي تناولت مواضيع الجينات الوراثية و الجينوم البشري و الحمض النووي المعروف بال«د.ن.أ»هي أكثر الاكتشافات الحديثة تماسا و تقاربا مع مفهوم الخلق و مراحله المذكورة أعلاه،في الآيات القرآنية الإعجازية من سورة المؤمنون،و خاصة الآية رقم 12 التي تصف مرحلة«السلالة».

لمحاولة تقصي هذه الاكتشافات و لمعرفة خصائصها و آثارها و نتائجها و لاستشراف آفاقها المستقبلية،علينا أن نفهم أولا الحلقات الأساسية لهذه الشبكة المتتابعة من العوامل المعقدة و المرتبطة ببعضها البعض،و التي أسهم اكتشافها التدريجي في بناء هذه المنظومة المذهلة من المشاريع العلمية و الإنجازات المكتملة و المتوقعة.أهم هذه الحلقات الأساسية و أعظمها دورا في تأليف الأسس العلمية للاكتشافات الجديدة خاصة في ميادين العلوم الوراثية هي التالية:

-ال«د.ن.أ.»أو الحمض النووي الديوكسي الريبوزي:يتألف من سلسلة حلزونية من شريطين ملتفين حول بعضهما البعض على شكل سلم ملفوف له درجات.تتكون جوانبه من جزئيات السكر و الفوسفات و تتألف درجاته من مجموعات من القواعد النيتروجينية المتتابعة و المختلفة، و الموزعة على شكل وحدات من أربع قواعد هي:الثيمين،الأدينين، الجوانين،السيتوزين.الغريب في الأمر هو أنه بينما تأكد أن التركيبة هي

ص: 28

واحدة في الإنسان و الكائنات الراقية،تأكد أيضا أن تتابع و اختلاف هذه القواعد هو الذي يحدد التعليمات الوراثية و الصفات الوراثية لكل كائن حي.أما المذهل في الموضوع فهو تقارب و تشابه كلمة«سلسلة»مع التعبير القرآني«سلالة»و التي هي أشد إيحاء بالخلق و النسب و الوراثة.

-الجينات أو حاملات الصفات الوراثية:الجين هو عبارة عن تتابع معين للقواعد النيتروجينية في السلسلة الحلزونية لل«د.ن.أ.»،و يلعب دورا أساسيا في إرسال التعليمات لتخليق البروتينات التي تكون الأنسجة و الأنزيمات العاملة على تسهيل وظائف الجسم و تفاعلاته.يعتقد حاليا أن عدد الجينات في الإنسان يتراوح ما بين 000,80 إلى 000,100،تشكل بمجموعها الجينوم البشري أو خريطة العوامل الوراثية.

-البروتينيات:تتكون الكائنات الحية من جزيئات كبيرة و معقدة و مكونة من سلاسل طويلة تسمى البروتينيات.تتكون هذه السلاسل من وحدات فرعية أولية تسمى الأحماض الأمينية و لها 20 نوعا مختلفا.

-ال«ر.ن.أ.»أو الحمض النووي الريبوزي الرسول:هو عبارة عن شريط مفرد يتكون في النواة كشريط مكمل للحمض النووي الديوكسي الريبوزي و يعمل كقالب لاستنساخ البروتينيات.و على هذا الأساس،تمكن العلماء منذ سنوات،من فصل نسخة مكملة من الحمض النووي الديوكسي الريبوزي لاستخدامها في تحديد الجين المقابل في خريطة الكروموسومات.

-الكروموسومات:هي عبارة عن وحدات ميكروسكوبية موجودة في نواة الخلية تتكون من البروتينيات و تتراص الجينات طوليا عليها.تحتوي خلية الإنسان على مجموعتين من الكروموسومات تتكون كل مجموعة من 23 كروموسوما يمكن التعرف عليها عن طريق اختلاف أحجامها.و طبقا لهذه الظاهرة،تشخص الأمراض الوراثية عبر ضبط و تحديد التغيرات الطفيفة في الكروموسومات و الجينات.

ص: 29

إذا و بعد استعراض حلقات هذه المنظومة الوراثية الدقيقة و المتراصة يمكن فهم أبعاد اكتشاف كل جينات الإنسان و جعلها محددة و محصاة و مدروسة بشكل كامل،و معرضة لأية أبحاث ممكنة في المستقبل.فالهدف الأهم من هذا المشروع هو فهم بيولوجية الإنسان و اكتشاف الوظائف المختلفة للجينات و التعرف على الجينات المختصة بالأمراض المختلفة، كالسرطان و داء السكري و أمراض الأوعية الدموية و الأمراض العصبية و العقلية.كما يهدف المشروع لمعرفة عوامل و أسباب التطور البيولوجي و العمليات الكيميائية و الوظائف الفسيولوجية المختلفة.

و هكذا و عند استكمال المشروع سيكون للإنسان القدرة على معرفة المرض و منعه قبل حصوله و علاج الخلل الوراثي قبل ظهور أعراضه.و لكن الأمر لن يكون النهاية فالأمراض و العوامل الوراثية تتحكم بها العوامل البيئية و الجين المسئول عن أي خلل أو مرض يبدأ نشاطه مع تعرض الإنسان لمثيرات معينة عادة ما تكون بيئية كالتعرض للإشعاعات و المبيدات و التدخين و التلوث،و قد يحدث التفاعل في مرحلة عمرية مبكرة أو متأخرة.

خلق اللّه الإنسان و علمه ما لم يعلم و كشف له الحجب شيئا فشيئا،حتى صار يكتشف أسرار الخلق و يسعى في فهمها و التبحر بعوالمها و آفاقها.و لم يقف الإنسان المكتشف لأسرار الأشياء موقف المتفرج المشاهد المتأمل؛بل راح يسعى في تفكيك الرموز و الحلقات و تتبع المراحل و الدرجات المتسلسلة في تفاعلات الأشياء و مكنوناتها،و صار يخطط لتفادي الحوادث و الاختلالات الطارئة فيرصدها و يحددها و يبحث عن علاجها.و ما الجينوم البشري و الدراسات المتعاقبة خلفه و قبله و المشاريع المخططة و المرصودة حوله و بعده إلا خطوة متقدمة على هذا الطريق الطويل المليء بالأسرار و الأسئلة.

ص: 30

عالم التكوين البشري

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ(12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14)[المؤمنون:

12 و 13 و 14].

يمر التكوين الجنيني للإنسان عبر ثلاث مراحل أوّلية أساس هي التالية:

1-مرحلة النطفة أو ما يقابلها علميا:مرحلة التلقيح Fertilization .

2-مرحلة العلقة أو ما يقابلها علميا:مرحلة الانغراز lmplantation .

3-مرحلة المضغة أو ما يقابلها علميا:مرحلة التشيّم Placentation .

1-مرحلة النطفة: Fertilization

وَ أَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى(45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (46)[النجم:45-46].

يساهم في تكوين النطفة في الجنس البشري،كلّ من الحيوان المنوي من جهة الذكر،و البويضة من جهة الأنثى.لكن الذكورة و الأنوثة يحددها الحيوان المنوي الذي إمّا أن يكون حاملا لعلامة الذكورة( y )أو يكون حاملا لعلامة الأنوثة( x )،أما البويضة فتحمل دائما علامة الأنوثة( x ).

يتكوّن الحيوان المنوي في الخصية،فيما تتكوّن البويضة في المبيض.

ص: 31

و كلا هذين المصدرين(الخصية و المبيض)يتكوّنان في مراحلهما الجنينيّة في المنطقة المسماة عند الجنين بالتناسلية،و تقع ما بين ما بين العمود الفقري و الأضلاع.و فيما تنزل الخصية تدريجيا لتصل إلى مستقرها في«كيس الصفن».ينزل المبيض و بشكل تدريجي أيضا ليستقر في حوض المرأة و يلتصق برحمها.و من هنا يتمثل لذوي الألباب الإعجاز القرآني العظيم الوارد في سورة الطارق،الآيات من 5 إلى 7 فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ(5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6)(ماء المني أو ماء البويضة) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ (العمود الفقري) وَ التَّرائِبِ (الأضلاع).يبلغ قطر البويضة 120-150 ميكرون،و يبلغ عددها في مبيض الطفلة المولودة حديثا،حوالي ال 300 مليون بويضة،يتناقص عددها بعد ذلك بشكل تنازلي حادّ،ليصل إلى ما بين 200-300 بويضة عند البلوغ،و لتخرج واحدة منها فقط،كل شهر و حتى سنّ اليأس.

أما الحيوان المنوي فيبلغ طوله حوالي 65 ميكرون و قطره حوالي ال 5 ميكرون،و يتألف من خمسة أجزاء رئيسة:الرأس،العنق،المنطقة الوسطى،المنطقة الأساس،المنطقة النهائية أو الذيل.يبلغ عدد الحيوانات المنوية في كل سنتمتر مكعب واحد من السائل المنوي البشري،حوالي ال 100 مليون،لكن ما يصل إلى البويضة لا يتعدّى ال 500 حيوان منوي، و ذلك بعد أن تموت الملايين منها في الطريق إليها،ثم تتحلل هذه الحيوانات المنوية ال 500 حول البويضة لتذيب جدارها السميك و تسمح لواحد منها فقط،بالدخول و الاتحاد معها،لتكوين النطفة،الأمشاج المذكورة في الآية رقم 2 من سورة الإنسان: إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2)[الإنسان:2].

ص: 32

2-مرحلة العلقة أو مرحلة الانغراز: lmplantation

تعلق النطفة الملقحة في جدار الرحم،بعد أن تمرّ بحقبتين من الانقسام النواتي:الحقبة التوتية( Morule )و الحقبة الجرثومية( Blastocyst ).

و تبدأ العملية الهرمونية التي يساهم فيها المبيض بشكل فعّال،بإفرازه هرمون الحمل(البروجسترون)،الذي ينمي الرحم و يزيد من تغذيته بالمواد المنشطة و بالدماء،كما يدفع كل أجهزة المرأة الأمّ،إلى الاستعداد للحمل و متطلباته.و هكذا تأخذ العلقة بالانغراز شيئا فشيئا بجدار الرحم السميك و تبدأ جذورها بالامتداد تحتها لتثبت أكثر و لتنطلق عملية النمو المعقدة، بشكل ثابت و مضمون.

3-مرحلة المضغة أو التشيّم: Placentation

تبلغ العلقة«مقدار ما يمضغ عادة»،و تبدأ مرحلة التشيّم،حيث تنطلق الطبقة الخارجية«للمضغة»بامتداداتها و جذورها،بقضم خلايا الرحم و التشعّب و الامتداد عبر فراغاتها،للاتصال بالأوعية الدموية الرحمية و استحصال الغذاء منها.و تبدأ في داخل المضغة عملية تكوين الأغشية و الأنسجة الجنينية و تقسيمها و توزيعها عبر عملية شديدة التعقيد و التشابك، ما زالت بعض تفاصيلها مجهولة الأسباب إلى الآن.و أهمّ الأنسجة العاملة على الإطلاق في هذه المرحلة هو النسيج الترفوبلاستي( Trophoblast )الذي يؤمن للجنين غذاءه من أنسجة الأمّ الرحمية و أوعيتها الدموية،و يسهّل عملية الامتداد و«الزحف»النسيجيّ للمضغة نحو الطبقات الرحمية المتعددة،كما يفرز الهرمونات و البروتينيات الأساسية لتسهيل هاتين العمليتين.و عبر هذا النسيج تبدأ المشيمة( Placenta )بالتبرعم و النمو و الامتداد لتكون صلة الوصل الأساس ما بين الأمّ و جنينها،و المفصل الهام في استمرارية حياة الجنين و تكامله.

ص: 33

بعد ستة أيام من مرحلة التلقيح(خلق النطفة)تبدأ مرحلة الانغراز في جدار الرحم(خلق العلقة)،و في اليوم الخامس عشر بعد التلقيح،تبدأ مرحلة التشيّم(خلق المضغة)،و في اليوم السابع عشر بالذات تنعقد «الجذور»الأولى لعظام العمود الفقري فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً ثم تظهر حولها و بشكل تسلسلي و تدريجي«البراعم»الأولى للأعضاء و الأجهزة العضوية فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً .

بعد اليوم السابع عشر بالتحديد-أي بعد ظهور خلايا عظام العمود الفقري-و بعد بلوغ المضغة«المخلوقة عظاما»حجما يساوي 5,1 مليمتر، تبدأ بالظهور سلسلة من التحولات التدريجيّة و المتتابعة يوما بعد يوم،حتى بلوغ الجنين حجما يساوي 30 مليمترا،بعد انفصال أصابع رجليه و يديه.

و نستطيع عرض هذا المسلسل«الخلقي»المنظّم و الحكيم،عبر ما استطاعت كشفه و اكتشافه علومنا الحديثة إلى الآن،على الشكل التالي:

-اليوم الثامن عشر:ظهور الجذور الأولى للأجهزة العصبيّة و السمعيّة؛ -اليوم الواحد و العشرون:يتضاعف حجم«المضغة»إلى 5,2 مليمتر؛ -اليوم الرابع و العشرون:ظهور الأوعية الدموية و الأعصاب الأولى؛ -اليوم السادس و العشرون:ظهور الأطراف العليا؛ -اليوم الثامن و العشرون:ظهور الرئتين و البنكرياس و الأطراف السفلى و الجهاز الأوّلي لحاسة البصر؛ -اليوم الثلاثون:يبلغ حجم الجنين 5,4 مليمتر،و يظهر جهاز حاسّة الشم؛

ص: 34

-اليوم الثاني و الثلاثون:ظهور الدماغ؛ -اليوم الثاني و الأربعون:ظهور اليدين؛ -اليوم الخامس و الأربعون:يبلغ حجم الجنين 17 مليمترا؛ -اليوم التاسع و الأربعون:ظهور«التجاويف»أو«الغرف»الأربع في القلب؛ -اليوم السادس و الخمسون:انفصال الأصابع في اليدين و الرجلين؛ -اليوم الستون:يبلغ حجم الجنين 30 مليمترا.

في الشهر الثاني تكتمل فصول هذا المسلسل التكويني و تجتمع كل العناصر العضوية و الأجهزة،و تبدأ بإطلاق و تسيير وظائفها شيئا فشيئا،عبر الأشهر السبعة المتبقية.و هكذا نرى أنّ النموّ الخلقي للجنين هو مجموعة نتائج النموّ التكويني لكل جهاز و عضو و وظيفة،عبر كل مرحلة من المراحل الأولى التي ذكرناها،و حتى اكتمال فصول هذا المسلسل المحكم التفاصيل،حينما تكتمل العملية الخلقية الجنينيّة،و تنتهي بابتداء مرحلة «الخلق الآخر»السويّ المتكامل الكامل: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ .

و تحار العقول و القلوب و تخشع عند ما يكتشف المرء أنّ التسلسل التكويني التدريجيّ الذي ورد في هذه الآية الإعجازية الكريمة،هو عينه الموجود حاليا في الجداول الزمنية للمراحل الجنينيّة الواردة في معظم مراحل العلم الجنينيّ الحديث:

جعل النطفة/التلقيح،خلق العلقة/الانغراز،خلق المضغة/التشيّم، خلق العظام/ظهور الفقرات الأولى،كسو العظم باللحم/ظهور العضلات

ص: 35

و الأعصاب و الأعضاء و الأجهزة،إنشاء الخلق الآخر/اكتمال العملية الخلقية و تكاملها.

و ما أروع و أعظم و أسمى الآيات الإعجازية التي وردت أيضا،و في نفس السياق،في سورة السجدة: اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ(7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ(8) ثُمَّ سَوّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (9) صدق اللّه العلي العظيم،[الآيات:7-8-9].

و إذا تأملنا مليّا بالآية رقم 9،لوجدنا فيها انطباقا و انسجاما و تناغما عجيبا مع الجدول الزمني الوارد سابقا،إذ نلحظ أن السمع سبق الأبصار في الآية،و الأبصار سبقت الأفئدة فيها،و هكذا أيضا نلحظ أن الجهاز الأولي للسمع تبدأ انطلاقته في اليوم الثامن عشر،بينما تبدأ انطلاقة الجهاز البصري في اليوم الثامن و العشرين،أي قبل اكتمال نمو القلب و الدماغ(إذا كانت الأفئدة تحتمل المعنيين).

و ما أجمل الكلمات التي أرسلها أمير المؤمنين علي عليه السّلام في إحدى خطبه،حينما قال مستوحيا الآيات الإعجازية السابقة:

«أيها المخلوق السويّ المنشأ،المرعيّ في ظلمات الأرحام، و مضاعفات الأستار،بدئت من سلالة من طين،و وضعت في قرار مكين إلى قدر معلوم،تمور في بطن أمّك جنينا لا تحير دعاء،و لا تسمع نداء،ثم أخرجك من مقرك إلى دار لم تشهدها،و لم تعرف سبل منافعها،فمن هداك لاجترار الغذاء من ثدي أمّك،و عرّفك عند الحاجة مواضع طلبك و إرادتك؟».

ص: 36

و في الختام،نستطيع القول أنّ المعجزة الإلهية«الحية»التي نقرأها كل يوم،و نعتبر بآياتها الإعجازية الرائعة،و هي القرآن الكريم،هي خير دليل على أنّ النبوة و الرسالة الخاتمة المحمدية أتحفت و رصعت و زوّدت بخير و أعظم و أرقى معجزة ربّانية على الإطلاق،حازها نبيّ أو مرسل قبلها،إذ أنّ العلوم التي حوتها و الروائع التي اكتنزتها،لم يستطع العلم الحديث اكتشافها إلا بعد اكتشاف الوسائل العلمية التقنية الراقية،كالمجهر البصري و الإلكتروني و غيرها من الآلات المعقدة،و بعد إجراء الدراسات و البحوث الطويلة التي امتدت و استمرت عبر السنين و القرون.

عجائب الخلق الأولى:الأغشية الثلاثة و المشيمة و الرضاعة

الظلمات الثلاث:

قال اللّه العزيز في كتابه الكريم في سورة الزمر[الآية رقم 6]:

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ فَأَنّى تُصْرَفُونَ .

أجمع المفسّرون في كتب التفسير القرآني على أن المقصود من تعبير الظلمات الثلاث هي ظلمة البطن و ظلمة الرحم و ظلمة المشيمة،و هذا المعنى الإجمالي صحيح و معتبر و مقارب للتشريخ العلمي المعروف و المتداول على أساس أنّ لجدار البطن ظلمة تليها ظلمة جدار الرحم الذي يحتوي بدوره على ظلمة أغشية المشيمة و جذورها المتشابكة و المحيطة بالجنين.و في المدة الأخيرة حدد بعض العلماء(و منهم الدكتور محمد علي

ص: 37

البار في كتابه«خلق الإنسان بين الطب و القرآن»)مفهوم«الظلمات الثلاث» بموضوع الأغشية الثلاثة المحيطة بالجنين:غشاء السلى أو الأمنيون ( Amnion )،و الغشاء المشيمي أو الكوروين( Chorion )،و الغشاء الساقط أو الدسيدوا( Decidua ).

و اللطيف في الأمر و الملفت للإعجاب و الإعجاز أنّ الآية الكريمة حدّدت و حصرت مكان«الظلمات الثلاث»في«بطون الأمهات»،و بالتحديد في مكان«الخلق»في«البطون»يخلقكم/في بطون أمهاتكم/في لمات ثلاث،و ذلك لا يكون إلا في الرحم حصرا و واقعا و تحديدا.و إذا عدنا إلى التشريح الجنيني الحديث،نجد أن هذه الأغشية الثلاث تحيط بالجنين منذ أوّل مراحل تكونه،و تبقى محيطة به إلى ما قبل خروجه إلى النور، أثناء الولادة.

تتميّز هذه الأغشية الثلاث بعدة خصائص هامّة و أساسية في نمو الجنين و انتقاله من مرحلة إلى أخرى،حتى اكتماله و ولادته،و من أهمّها:

أولا:حماية الجنين و وقايته من الصدمات المفاجئة و الحركات العنيفة و السقطات و الحوادث التي يمكن أن تتعرض لها الأمّ في فترة حملها؛ ثانيا:تغذية الجنين و تسهيل عملية انتقال الأوكسجين و المواد الغذائية إليه،و عملية نقل غاز ثاني أوكسيد الكربون من دمه إلى دم الأم؛ ثالثا:تسهيل عملية الولادة عبر تكوين«جيب المياه»(من غشاء السّلى)الذي يوسع عنق الرحم و يعقم الطريق للجنين و يمهّده له.

المشيمة( Placenta ):

تعتبر المشيمة أهم«عضو»في حياة الجنين،يساهم في تكوينه الجنين

ص: 38

نفسه عبر نسيج«التروفوبلاست»( Trophoblast )الذي يبدأ بالظهور في اليوم الخامس من حياته،و الأمّ نفسها عبر نسيج الغشاء المخاطي الذي يغطي الحجرة الرحمية التي تستقبل البويضة الملقحة.

تظهر المشيمة بحدودها و تأخذ شكلها المعهود في الشهر الثالث ثم تقوم بالنمو التدريجي شيئا فشيئا،و الامتداد حسب نمو الجنين إلى أن تبلغ حجما دائريا بقياس 20 سنتم و بثخانة 3 سنتيمترات و بوزن 500 غرام،عند اكتمال نمو الجنين و قرب ولادته.

تشكل المشيمة مجموعة جذور متفرعة و أوعية دموية متشابكة و معقدة التواصل و التقاطع فيما بينها بشكل يصعب وصفه و ملاحقته جزئيا من طرف إلى طرف،و كأنما هو مجموعة متاهات متقاطعة و متشابكة إلى أبعد حدود!.و في هذا التشابك و التقاطع الشديد التعقيد بين الأوعية و الجذور المشيمية تكمن أسرار الوظائف التي يتميز بها هذا العضو الأساسيّ لحياة الطفل و الذي يساعد في نموّه و تكامله،إلى أن تنتهي مهمته و حياته بولادة الطفل و خروجه إلى العالم«مستغنيا»عن رفيق دربه الرحميّ،«متخليا»عن خدماته! تتعدّد وظائف المشيمة و تتنوع و تزداد أهمية كلما مرّ الجنين من مرحلة إلى أخرى متقدمة،و أهمها على الإطلاق:

أولا:تشكيل حاجز فاصل بين الأمّ و جنينها يكون بنفس الوقت معبرا بينهما لنقل المواد و الرسائل؛ ثانيا:تأمين كل احتياجات الجنين الغذائية من مصادرها في دم الأمّ عبر عمليات النقل المتنوعة التي تجري في شبكات الأوعية المشيمية كالماء

ص: 39

و الغلوكوز و الدهون و البروتينيات و الفيتامينات و بعض الأدوية و المواد الهامة كالمضادات المناعية( IGA )؛ ثالثا:تسهيل الوظيفة التنفسية بنقل الأوكسجين من دم الأم إلى دم الجنين و أخذ ثاني أوكسيد الكربون من دم الجنين إلى دم الأمّ؛ رابعا:تولّي بعض المهمّات الباطنية عبر فرز الهرمونات أو نقلها أو المساهمة في إنتاجها.

و تتواصل هذه المهمات و تكتمل لتتوّج عند الولادة بظهور الإعجاز الخلقي الآخر المتمثل بالرضاعة عبر حليب الأمّ الذي تتجلّى فيه ذروة العظمة المكنونة في أسرار الخلق.

الإرضاع و حليب الأم(الرضاعة الطبيعية):

قبل الولادة،يتحضّر الجهاز الهضمي للجنين لتلقي غذاءه الذي سيهبه له الخالق الكريم بعد الولادة و مغادرة البيت الأول(الرحم)و رفيق العمر الأول(المشيمة).و يتعاظم هذا الكرم الإلهي عند ما يعطي الخالق هذا الغذاء الجديد،القدرة على التكيّف مع حاجات الطفل و ظروفه و قدراته،فإذا كان ضعيفا لسبب ما كخروجه إلى النور قبل وقته المحدّد،يتفاعل حليب الأم مع حاجة طفلها و يتكيّف لها بكل دقة و براعة.و تبرز العظمة الإلهية أكثر فأكثر عند ما تتكيّف الرضاعة الطبيعية مع حاجات الطفل في كل مرة من المرات،بل في كل مرحلة جزئية في كل«حصّة»من الحصص اليوميّة:

فبداية«الحصّة»تكون«مائية»أكثر و لا تحتوي على الكثير من الدهون لكي يشعر الوليد بالجوع و يمتصّ حليب أمّه بكمية أكبر،بينما تكون النهاية «زبديّة»أكثر مع كمية أكبر من الدهون لكي يشعر الوليد بالشبع و يترك عملية

ص: 40

الامتصاص،و يتميّز حليب الأمّ بميزات إعجازية أخرى،نورد منها على سبيل العرض،العوامل التالية:

أولا:إفراز«اللّبأ»أو«الصمغ»في الأيام الخمسة الأولى،و الذي يحتوي على كمية كبيرة من البروتينيات و الدهون و مضادات المناعة( lGA ) التي تتكفل بتحصين الوليد الجديد من آثار العوامل الخارجية الضارّة؛ ثانيا:التكيّف مع النمو التدريجي للطفل و أجهزته العصبية و الهضمية و التنفسية،فالمواد الغذائية لا تفرز إلاّ عبر قوانين مبرمجة بدقة شديدة لا تحيد عنها حتى لا يتضرر التسلسل المتصاعد في نمو بعض الأجهزة الفعّالة الحسّاسة،كالجهاز العصبي مثلا(نسبة إلى إفراز السكريّات الحليبيّة Lactose )؛ ثالثا:القدرة على«تدريب»و«تعليم»و«تهذيب»التغيّرات الكيميائية في الخلايا الحية،عند الوليد (Metabolism) و التي بها يؤمن الطاقة الضرورية للعمليات و النشاطات الحيوية،و كأنّ فيه«قوّة»واعية و«طاقة حية»تستطيع التقاط الإشارة تلو الأخرى و معالجتها شيئا فشيئا بكل صبر و حكمة و روية، حتى تأخذ العمليات الحيوية مجراها و تتولّد منها الطاقة بشكلها الطبيعي من دون زيادة أو نقصان،تثبيتا لأحد مضامين الآية الكريمة: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* قَدْ جَعَلَ اللّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً [الطلاق:3].و تعظيما للأسرار الإلهية المكنونة في آيات خلقه تعالى و سننه و شرائعه بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ صدق اللّه العظيم و الحمد له في كل حين.

ص: 41

ص: 42

الجهاز اللمفاوي

خطوط دفاع استراتيجية لحماية أجسامنا:

يتميز الجهاز اللمفاوي و وظائفه الأساسية التي تتصدرها المناعة بفروعها و أشكالها المتجددة،بانتظام و ترابط و تناغم بديع أضفى على محاولات اكتشاف أسراره رونقا خاصا و سحرا بديعا.و سنلاحظ من خلال دراستنا للعمليات و الردود المباشرة و غير المباشرة للوظائف و الخصائص الدقيقة و العجيبة و وظيفته الأساسية المناعة لهذا الجهاز كيف أنه نظم ضمن حلقات مرصوصة و موزونة بدقة متناهية و بإحكام فريد،جعل الكثير من العلماء يتفكرون و يتأملون و يعتبرون بعوالمه التي لم تكتشف بأكملها إلى الآن،و التي إن دلت على شيء فإنما تدل على عظمة و إبداع الخالق القدير.

وَ فِي خَلْقِكُمْ وَ ما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)[سورة الجاثية:4].

سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)[سورة فصلت:53].

يقوم الجهاز اللمفاوي بنقل السوائل و الخلايا من الأنسجة إلى خارجها (على عكس جهاز الدورة الدموية الذي يوصل السوائل إلى الأنسجة و ينقلها منها).و يتألف الجهاز من أوعية و أعضاء لمفاوية تقوم بأداء وظائفها المتعددة و أهمها المناعة بشكل مترابط و منتظم و منسق و عبر توزيع «استراتيجي»دقيق و عالي الكفاءة.

ص: 43

تتواجد الأوعية اللمفاوية Lymphatic Vessels في معظم أنسجة الجسم البشري و تفرغ سوائلها و خلاياها في الدم في منطقتين محددتين في الجسم هي:

الأولى:الوريد تحت الترقوي الأيمن Right Subclavian Vein حيث يصب«المبحري أو الأنبوب اللمفاوي» Lymphtic Duct الذي يتألف من تجمع الأوعية اللمفاوية الآتية في النصف الأيمن للصدر و الرأس و الرقبة مع الذراع الأيمن؛ الثانية:الوريد تحت الترقوي الأيسر Left Subclavian Vein حيث يصب«المبحري الصدري» Thoracic Duct الذي يتألف من تجمع الأوعية اللمفاوية الآتية من النصف الأيسر للصدر و المناطق المتبقية من الجسم.

أما الأعضاء اللمفاوية فهي تتألف من الأنسجة اللمفاوية التي تحتوي بدورها على الخلايا اللمفاوية LYMPHOCYTES و خلايا أخرى مجتمعة في شبكة دقيقة من الألياف الكولاجينية.و هي على التوالي:

1-اللوزتان: TONSILS و تتألف من ثلاث مجموعات:

الأولى:الحنكية PALATINE TONSILS؛ الثانية:البلعومية PHARYNGEAL TONSILS؛ الثالثة:اللسانية LINGUAL TONSILS .

2-العقد اللمفاوية أو الدرن LYMPH NODES :تتواجد في جسم أنحاء الجسم.و لكن تتجمع في ثلاث مناطق خاصة هي:

الأولى:العقد الأربية(في أصل الفخذ): INGUINAL NODES؛

ص: 44

الثانية:العقد الإبطية(في أصل الكتف): AXILLARY NODES؛ الثالثة:العقد العنقية(في الرقبة): CERVICAL NODES .

3-الطحال SPLEEN :يقع في الجانب الأعلى للنصف الأيسر من البطن و يتألف من نوعين من الأنسجة:

-اللب الأبيض WHITE PULP :الذي يحيط بالشرايين الداخلة إلى الطحال؛ -اللب الأحمر RED PULP :الذي يحيط بالأوردة؛ 4-الغدة الصعترية THYMUS :و هي غدة مثلثة الشكل و ذات فلقين تقع في المنطقة العليا للصدر و يتناقص حجمها شيئا فشيئا منذ الولادة، و حتى البلوغ.

و نلاحظ كيف أن هذه الأعضاء قد وزعت على أنحاء الجسم بشكل متناسق و استراتيجي لكي تقوم بعملها و وظائفها من دون أي خلل أو تأخير، خاصة حينما يتعلق الأمر بالوظيفة الأساسية:المناعة.

المناعة IMMUNITY :هي المقدرة على مقاومة الإضرار الناتجة عن المواد و العناصر الخارجية التي تدخل الجسم كالميكروبات و إفرازتها.

و تنقسم المناعة إلى نوعين متكاملين و متتابعين كل له خصائصه و نتائجه:

الأول:المقاومة العامة أو الرد الشامل NONSPECIFIC RESISTANCE .

الثاني:المناعة المتخصصة أو الرد الخاص: SPECIFIC IMMUNITY .

ص: 45

المناعة العامة أو الشاملة:تتميز بإصدار رد شامل و دائم و متشابه في كل مراحل تطوره و متنوع العناصر.و كأنما يبتغي من وراء ذلك إحاطة العناصر الغريبة من كل جانب و محاصرتها و القضاء عليها عبر عدة طرق و أساليب أكثر ما تشبه في بعضها الاستراتيجيات العسكرية للجيوش في مقاومة أعدائها.و من هذه الأساليب نذكر:

أ-العناصر الميكانيكية أو الحواجز الهندسية:كالجلد و الأغشية المخاطية و الدموع و اللعاب و البول.التي إما تستطيع منع الجراثيم من الدخول بشكل كامل عبر الحواجز الموضوعة أمامها،و إما تقوم بطردها و جرفها بشكل دائم عبر عمليات غسل و تنظيف و طرد من الأماكن الحساسة؛ ب-المواد أو العناصر الكيميائية:و هي عديدة و تتميز بقدرتها على القضاء مباشرة على الميكروبات و من دون سابق إنذار،و نذكر منها:

- LYSOZYME (الليزوزيم):و تتجمع في الدموع و اللعاب و في الإفرازات الشمعية الجلدية.

- INTERFERON (الإنترفرون):يقوم بقتل الفيروسات بطريقة عجيبة فيها من الإبداع ما يعجز عن وصفه الواصفون.إذ إن الفيروسات نفسها و بذاتها تقوم عند دخولها الجسم بالمساعدة و الإسهام المباشر في إفراز مادة الإنترفرون التي تقوم بدورها بقتلها و إعدامها.و يحار العقل كيف و من وضع هذه الخاصية العجيبة في جسم الإنسان؟و ما هي بالضبط رموزها و أسرارها؟ و كيف و من وضع هذه الخاصية العجيبة أيضا في جسم هذه الفيروسات المتناهية الصغر لتقوم بالمساعدة على القضاء على أجسامها عند اقترابها من المخلوق البشري.

ص: 46

وَ فِي خَلْقِكُمْ وَ ما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)[سورة الجاثية:4].

ج-الخلايا الآكلة أو القاتلة: PHAGOCYTIC CELLS :

و تتكون إما من خلايا كبيرة MACRO PHAGES تقوم بابتلاع البكتيريا و قتلها في داخلها بكل براعة و دقة.و إما من خلايا صغيرة NEUTROPHILS تتميز(و تختلف عن الأولى)بسرعتها الفائقة في مواجهة العناصر الضارة و سرعة تحركها نحو مصدر الغدد و مواقع هجومه.كما تتميز بعنصر كثير الغرابة،إذ تقوم بقتل نفسها بعد قتل البكتيريا لتساهم في حصر الأذى و محاصرة المنطقة المجتاحة ببقايا جثثها و منع الأعداء من النفاذ إلى مناطق أخرى(غير المنطقة المصابة)بطريقة«استشهادية»استحقت عبرها اسم «الخلايا الشهيدة».

د-الرد الالتهابي INFLAMATORY RESPONSE :

يبدأ بظهور مواد كيميائية محددة تقوم بجذب و جلب الخلايا الآكلة إلى المنطقة المجتاحة من قبل الميكروبات.و لهذه المواد«الجالبة»أو CHEMOTACTIC تتنوع مهامها و طرق عملها و أساليبها في مواجهة الميكروبات حسب أنواعها المتعددة و هي:

1-الهيستامين: HISTAMINE ؛ 2-الكينين: KININS ؛ 3-الكومبلمنت: COMPLEMENT ؛ 4-اللويكوترينز: LEUCOTRIENES .

و أشهر هذه المواد على الإطلاق هي الكومبلمنت و سلسلته المكونة من

ص: 47

البروتينيات التي تتواجد في الأحوال الطبيعية في الدم بشكل غير ناشط و فعال.و لكن حين تلتقي بالأجسام الغريبة تبدأ بالعمل و ينشط كل بروتيين في السلسلة البروتيين التالي حتى يتم القضاء على الميكروبات بشكل مباشر أو غير مباشر.و تصاحب هذه العملية المعقدة عمليات مساندة تقوم بتسهيل المهمة الأساسية،أي قتل الميكروبات و هي توسيع الأوعية الدموية و ازدياد نفاذ الخلايا القاتلة عبر جدران الأوعية،مما يسرع و يسهل وصول خلايا المناعة إلى المنطقة المصابة.

المناعة المتخصصة: SPECIFIC IMMUNITY .

يتميز هذا النوع من الرد بمقدرته على معرفة و تحليل و رصد و تذكر المواد المؤذية للجسم و كيانه الفيزيولوجي عبر عمليات معقدة و دقيقة جدا لم تكتشف جميع أسرارها إلى الآن،خاصة فيما يتعلق بسلاح«الذاكرة» الذي يتميز به هذا الرد و يستعمله في مواجهة العناصر الضارة إذا أعادت محاولاتها في الاعتداء على الجسم في المرات القادمة أو التالية لأول اعتداء.

و تنقسم المناعة المتخصصة إلى نوعين متكاملين يتميز كل منهما بطرق و أساليب و أسرار خاصة:

1-المناعة الخلطية HUMORAC IMMUNITY :

تعمل بإشراف و إدارة«مضادات الأجسام»أو ANTI-BODIES التي تفرزها الخلايا اللمفاوية التابعة للغدة(ب) B-LYMPHOID CELLS ،و يطلق عليها في معظم الأحيان اسم«بروتينيات الغلوبلين المناعية»أو IMMUNOGLOBULINS .تتوزع هذه البروتينيات المعقدة و الدقيقة و التي

ص: 48

تتكون من جذع ثابت و أطراف عليا متغيرة(على شكل الحرف اللاتيني- Y ) على جميع أنحاء الجسم بنسب مختلفة و بأنواع متعددة،اكتشف منها إلى الآن خمسة هي:ج.م.أ.ي.د.؛لكل منها مهمته الخاصة و دوره المتكامل مع أدوار و مهمات غيرها من الأنواع و من الميزات المشهورة لبعض الأنواع، و المكتشفة حتى الآن الخواص التي عرفت بها الأنواع التالية:

-النوع ج:يعبر المشيمة و يحقن الجنين لمواجهة العناصر الضارة.

-النوع أ:يظهر و يستطيع العمل في الإفرازات كاللعاب و الدموع و الأغشية المخاطية،و غيرها من الخطوط الدفاعية الأولى.كما و ينشط في حليب الأم و خاصة في الفترات الأولى للرضاعة ليساعد على تقوية و تنمية الجهاز المناعي للوليد الجديد.

-النوع م:يتميز بسرعة ظهوره على ساحة المعركة مع العناصر الضارة،و بكونه في معظم الأحيان النوع الأول و السلاح المستعمل في بدايات المواجهة مع العوامل الغريبة.

أ-المناعة الخليوية CELLULAR IMMUNITY :

تعمل بإشراف و إدارة الخلايا اللمفاوية من فئة«ت» T-lYMPHOID CEllS التي تتميز بفعالية خاصة بمواجهة الميكروبات التي تنمو و تتكاثر داخل خلايا الجسم،كالفيروس و بعض أنواع البكتيريا،حيث تقوم هذه الخلايا اللمفاوية المتخصصة بإفراز مواد قاتلة تقوم بتسميم الميكروبات CYTO TOXIC و إعدامها مباشرة.و في نفس الوقت،تقوم خلايا متخصصة أخرى- T MEMORY CELLS بجمع المعلومات و تخزينها في ذاكرة دقيقة يعجز العقل عن استيعاب الكثير من أسرارها و دقائقها.خاصة عند كيفية رصدها

ص: 49

و تحليلها و تخزينها لخصائص كل مادة ضارة،لتقوم بعدها بتحضير برامج متخصصة فائقة الدقة و متناهية الفعالية لمواجهة محتملة أخرى مع كل من هذه المواد المتنوعة و العناصر الضارة.كل حسب خصائصه و مميزاته و نقاط ضعفه و قوته.و كأنما كل شيء مهم صغيرا كان أم متناهيا في الصغر، و مهما كان دقيقا و متناهيا في الدقة،مخلوق و مقدر بإبداع لا يفوقه إبداع و بإعجاز لا يفوقه شيء و لا يبلغه وصف:

وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [سورة الفرقان:2].

إِنّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49)[سورة القمر:49].

ص: 50

المحور الثاني: إضاءات على الإعجاز العلمي في الأمر و التقدير

اشارة

-الحمل يقي من السرطان؛ -الرضاعة...آية من آيات الخالق؛ -القواعد الذهبية في الوقاية من الأمراض السرطانية.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ البقرة:233 بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ لقمان:14 بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ الأعراف:31 بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ القمر:49 بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً الفرقان:2

ص: 51

ص: 52

الحمل...يقي من السرطان

طالما تساءل الإنسان،منذ القدم،عن السر المكمون في عملية الحمل و الحكمة الدفينة في أطوارها المتعددة و مراحلها المختلفة، و المصحوبة بالتغيرات الجسدية و النفسية المتنوعة و الصعوبات و الإشكالات المحتملة و الآثار الناتجة عنها.

لقد ظل الإنسان يبحث عن الأسباب الكامنة وراء الكيفية التي تجري بها هذه العملية و الأشكال المتبعة في فسيولوجيتها المعقدة،حيث تتفاعل و تتداخل معظم أجهزة الجسم و وظائفه المتعددة،بأساليب بالغة الدقة و التناسق و الانسجام و أنماط متناهية الإبداع و الإعجاز،لتحقق الهدف المنشود و الأخير،أ لا و هو الولادة الطبيعية بالصورة السليمة و على الوجه الصحيح و في الطريق الأمثل.

و انسجاما مع البحث الدءوب من قبل الأوساط العلمية و الطبية لاكتشاف المعالم المتشابكة و الآثار المتعددة للحمل و مراحله و أطواره المختلفة،ظهرت في الآونة الأخيرة دراسات و أبحاث تناولت موضوع العلاقة بين الحمل و الوقاية من سرطان المبيض و سرطان الثدي و سرطان بطانة الرحم،و التي تمثل أهم أنواع السرطان الخاصة بالنساء و أعلاها نسبة فيها و أكثرها فتكا.و أظهرت النتائج معلومات دامغة و براهين ساطعة أثارت دهشة الباحثين في هذا المجال؛حيث تبين و بشكل قاطع أن الحمل

ص: 53

و لأسباب مختلفة و بطرق متنوعة،يقي من أخبث أنواع السرطان عند النساء، و يساهم بشكل فعال في تقليص خطر الإصابة بها.

الحمل و الوقاية من السرطان:

أجمعت الدراسات على أن أهم عوامل الوقاية من أخطر و أكثر أنواع السرطان عند النساء في العالم،و هي سرطان المبيض و سرطان الثدي و سرطان بطانة الرحم،تكمن في بلوغ الاكتمال الفيسيولوجي الطبيعي المتمثل في التفاعلات الهرمونية للحمل و التعرض لآثارها الخصبة و نتائجها الإيجابية المتعددة الأوجه و المتشابكة ببعضها البعض.و لقد ثبت مؤخرا أن أحد أهم هذه التفاعلات الطبيعية و أكثرها جلاء هو ازدياد نسبة و كمية إفرازات هرمون«البروجسترون»الذي يساعد و بشكل فعال في تقليص الإصابة بسرطان المبيض و الثدي و بطانة الرحم عبر أساليب و طرق مختلفة، أهمها«نقض»و«إلغاء»مفاعيل ازدياد و تراكم إفرازات هرمون«الإستروجين» الذي يلقي بظله المريب خلف معظم أنواع السرطان عند النساء و العديد من الأمراض و الإشكالات المتنوعة.

كما أظهرت الدراسات شروطا و ظروفا و سنن محتملة لاكتمال هذه العملية و بلوغ هدفها المنشود،أهمها على الإطلاق عدم تأخير الحمل إلى سن متأخرة و عدم التعرض خلال الحمل لمسببات السرطان عند النساء كالتدخين و الكحول و الإفراط الغذائي،و التي يمكن أن تؤدي إلى نتيجة عكسية مأساوية تصيب المرأة الحامل و جنينها على السواء.و في هذا الصدد برهنت الأبحاث و الإحصائيات الأخيرة أن المرأة الحامل التي تتعرض لتأثيرات التدخين و الكحول و الإفراط الغذائي(بالأطعمة المشبعة بالدهون)تعرض جنينها بالأخص الأنثى للإصابة مستقبلا بسرطان الثدي بشكل شبه مؤكد و محدد.

ص: 54

الحمل و الوقاية من سرطان المبيض:

يعتبر أكثر أنواع السرطان عند النساء خبثا و أقلها احتمالا للشفاء، و بالتالي أصعبها علاجا.و يكمن ذلك في عدم ظهور أعراض المرض إلا بعد تمكن الورم من السيطرة على المنطقة المصابة و«اجتياح»المناطق المحيطة،و من ثم«الزحف»السريع إلى مناطق أبعد فأبعد،حتى يستحيل التمكن من استئصاله و الإحاطة به للقضاء عليه.

يصيب هذا النوع من السرطان النساء في أعمار متقدمة،و على الأخص،النساء اللواتي تجاوزن سن اليأس و لم يولد لهن ولد أو لم يرضعن في حياتهن لمدة سنة أو أكثر.و لهذا يتكاثر هذا النوع بالتحديد و بشكل جلي في المجتمعات الغريبة حيث تزداد بشكل مطرد نسب العانسات أو الممتنعات عن الحمل الطبيعي(و التي ستزداد أعدادهن خاصة بعد ظهور بدعة الأرحام المستأجرة و ظاهرة أطفال الأنابيب و صرعة المستقبل الداهمة المعروفة بأطفال الاستنساخ)،أو اللواتي يتأخر زواجهن أو حملهن إلى أعمار متقدمة.

أما المذهب في هذه العلاقة المباشرة بين الحمل و الوقاية من سرطان المبيض فهو وجود ترابط تصاعدي إضافي حيث أن نسبة حدوث هذا الورم الخبيث تتدنى و تتقلص مع كل حمل إضافي يحدث بعد الحمل الأول.

فالنساء اللواتي يلدن ولدا واحدا تتناقص نسبة الإصابة بينهن 45%ثم تتدنى النسبة مع كل ولد إضافي بمقدار 15%.

الحمل و الوقاية من سرطان الثدي....علاقة مباشرة،و لكن بشروط!:

يعتبر سرطان الثدي،و على نطاق واسع،أكثر الأورام الخبيثة نسبة و تكاثرا و فتكا عند النساء بشكل عام.فهو صاحب المركز الأول في سلم

ص: 55

الأورام الخبيثة في أهم مناطق العالم و أكثرها تقدما،مثل الولايات المتحدة الأمريكية و شمال أوروبا.

تتميز العلاقة بين الحمل و سرطان الثدي بوجود مستويات و شروط عدة أهمها:

1-تدني الإصابة بالورم الخبيث،إذا كان الحمل في سن غير متأخرة (ما قبل سن الثلاثين)؛ 2-تتناقص نسبة الإصابة مع كل حمل جديد؛ 3-هبوط نسبة الإصابة إلى أدنى المستويات في مجموعات النساء اللواتي يحملن قبل سن الثلاثين و ينجبن عدة أولاد؛ 4-الحمل المبكر يكسب نسيج الثديين مناعة قوية ضد تشكل الأورام و يمنحه«نضجا»خلويا دائما يحفظه على مر السنين من الإصابة بالسرطان، بشرط أن لا يكون هنالك عوامل وراثية مصاحبة أو تغيرات جينية طارئة؛ 5-المرأة الحامل التي تسيء إلى حملها بتناول الكحول أو بالتدخين أو بالإفراط الغذائي(ذي الأطعمة المشبعة بالدهون)تزيد من احتمال إصابة جنينها الأنثى بسرطان الثدي في المستقبل؛ 6-يتميز الحمل الطبيعي بظهور إفراز متزايد لهرمون«الأسترول» الذي يتكون في الجنين و ينتقل إلى الحامل ليسبب فيما يسبب وقاية مذهلة من نشوء تغيرات سرطانية في خلايا نسيجها الثديي؛ 7-تحمي الرضاعة الطبيعية الثدي من خطر السرطان و خاصة إذا كانت المدة أكثر من ستة أشهر و حتى لو كان هناك عامل وراثي قوي في العائلة.

ص: 56

الحمل و الوقاية من سرطان بطانة الرحم:

يطلق في الغرب على هذا النوع من السرطان النسائي لقب«سرطان الراهبات»لتكاثره في مجموعة النسوة اللواتي يمتنعن عن الزواج لسبب أو لآخر،بالمقارنة مع سرطان عنق الرحم الذي يطلق عليه لقب«سرطان بائعات الهوى»لإصابته النساء«المتعددات الشركاء»،و اللواتي يتعرضن للالتهابات الفيروسية المتناقلة جنسيا.

يصيب هذا النوع من السرطان النساء المتقدمات في السن و اللواتي لم يتزوجن أو لم يلدن،أو تعرضن لعوامل إضافية أخرى كالسمنة المفرطة أو داء السكري أو تناول هرمون الإستروجين(من دون الهرمون«المعاكس»أو المضاد:البروجسترون).

الحمل...معجزة الخلق و منحة الخالق:

أجرى اللّه تعالى الأمور بأسبابها و أخضع الأشياء لقوانين و سنن و شرائع و مبادئ،و جعل حكمته و لطفه و رحمته فيها لتظهر في مكنوناتها و نتائجها و آثارها؛فيهتدي المهتدون و يعتبر أولو الألباب و العالمون.و كان الحمل، كغيره من الظواهر الخلقية الفطرية الأصيلة،أحد مصاديق هذه الحكمة الربانية المتناهية اللطف و الإعجاز و أحد براهين الرحمة الإلهية المستديمة، و التي تنطق بمكنوناتها و أسرارها كلما تقدم علم ما أو ظهر أثر ما أو استجد حدث ما.و لطالما تساءل الإنسان عن سر الحمل و ماهية أسبابه و الحكمة من زمنه المحدد و كيفيته المحددة و نمطيته المحددة،و لطالما فكر و تفكر في إيجاد بدائل محتملة و أساليب مغايرة تسهل له التوالد و التكاثر على ذوقه و كيف ما يحب و عند ما يحب بعيدا عما يعتقده هو من تعب و ألم و مشقة، متغافلا عما أودعه الخالق في كل شيء خلقه من منح و هبات و هدايا تتفتح

ص: 57

نعما دائمة لتخلص الإنسان من أخطار ظاهرة و باطنة و مصاعب معروفة و غير معروفة،حسب تقدم الإدراك الإنساني و تطور فهمه لأسرار الأشياء و الظواهر على مر العصور و الأزمنة.

ص: 58

الرضاعة..آية من آيات الخالق و هديته الكبرى

إلى الأم و رضيعها

تعتبر خصائص الرضاعة الطبيعية المتنوعة و ميزات حليب الأم العديدة واحدة من أهم معجزات الخلق على الإطلاق،و أعظمها تجليا عبر العصور،فبالرغم من التقدم المتسارع في العلوم الصناعية و الطبية،فإنه لم تظهر أية بدائل مماثلة أو حتى متقاربة في مستوى الجودة و النوعية،و في فرادة النتائج و الفعالية.

كثرت الدراسات النفسية و الطبية التي تناولت آثار الرضاعة الطبيعية على صحة المرأة المرضعة،النفسية منها و الجسدية،على عدة صعد و بعدة أشكال.

أما الدراسات النفسية فقد تناولت حالات الاسترخاء العصبي و الشعور بالنشوة و الهناء و السعادة و الراحة الجسدية العارمة التي تعيشها المرضعة خلال عملية الرضاعة.كما تناولت حالات التقارب المتبادل و الحنان الفياض و الترابط العضوي-النفسي بين الأم و وليدها الملتصق بكيانها النفسي و الجسدي بكل مشاعره و جوارحه.

من جهة أخرى،تناولت الدراسات الطبية بشكل خاص،دور الرضاعة

ص: 59

الطبيعية في التغيرات و التحولات الجسدية التي تعيشها المرضعة خلال فترة الرضاعة و بعدها،و خاصة فيما يتعلق بإفراز هرمون البرولاكتين الذي يعمل كعامل منع طبيعي عبر نزول البويضة و تأخير العادة الشهرية،ما يؤدي إلى إعطاء الأم راحة و استقرارا جسديا و تفرغا كاملا لمهمتها الموكولة بها.و قد تناولت بعض الأبحاث أيضا دور الرضاعة الطبيعية في إعادة الرحم و ملحقاته إلى حالته الأولى قبل الحمل،و دورها في المساهمة بشكل فعال في سحب الدهون التي يختزنها الجسم خلال فترة الحمل،و استعادة المرأة لرشاقتها و نشاطها الطبيعي.

أما أهم الدراسات الطبية على الإطلاق فهي التي تعرضت إلى موضوع العلاقة بين الرضاعة الطبيعية و تدني الإصابة بسرطان الثدي،حيث تبين أن كل سنة إرضاع تمضيها الأم مع رضيعها تقلل من نسبة إصابتها بسرطان الثدي بنحو 3,4%،هذا بالإضافة إلى زيادة 7%،و هي النسبة المتمثلة بمعدل تراجع التعرض لسرطان الثدي عند كل أم و لكل طفل تنجبه.

كما ثبت بالمقابل أن نسبة سرطان الثدي تزداد في الحالات التي تنجب فيها المرأة عددا أقل من الأطفال،و تقوم بإرضاعهم لفترات قصيرة.

و هكذا يتبين أن الأمهات يمكن أن يتجنبن الكثير من المشاكل الصحية و خاصة سرطان الثدي،إذا قمن بإطالة مدة الإرضاع،على عكس ما هو شائع حاليا من تقصير و تحديد لهذه المدة.

بسم اللّه الرحمن الرحيم: وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [البقرة:233].

وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14].

ص: 60

آثار الرضاعة الطبيعية على صحة الطفل الرضيع:

تقول إحدى الوثائق الصادرة عن منظمة الصحة العالمية:«ليس هناك شيء يماثل حليب ثدي الأم في توفير الغذاء الأفضل و الأنسب للطفل الرضيع،و إن حليب الأم فيه من الفوائد الإضافية التي تقوي الجهاز المناعي للرضيع ضد العديد من الأمراض التي يصاب بها الأطفال،و هو نظيف و آمن،و يكون في درجة حرارية مناسبة و غير مكلف،و كل الأمهات تقريبا لديهن ما هو أكثر من كاف لإرضاع أطفالهن».

أما مجلس الصحة العالمي التابع لمنظمة الصحة العالمية،فقد أقر مؤخرا قرارا يقضي برفع«الفترة النموذجية الدنيا»للرضاعة الطبيعية دون أي مصدر غذائي آخر من أربعة أشهر كما كان في السابق،إلى ستة أشهر على الأقل.

كما أكدت الدراسات الطبية الحديثة التي اعتمدت على الإحصائيات «المسحية»في الدول النامية على أن الأطفال الذين يتناولون الحليب الصناعي يتعرضون للأمراض و يصابون بالوفاة بفارق 15 ضعفا مقارنة بالأطفال الذين تغذوا على حليب أمهاتهم في أول عامين من حياتهم.

أما أهم آثار الرضاعة الطبيعية على صحة الطفل الرضيع،و التي لا يحصل عليها بشكل كامل و فعال عبر البدائل الحيوانية و الصناعية،فتتلخص بالمحاور العامة التالية:

-اكتساب القدرة على هضم الغذاء بسهولة،و بشكل يتناسب مع النمو و مع الاحتياجات المتغيرة؛ -اكتساب القدرة على امتصاص المعادن و الأحماض و غيرها من المواد الأساسية بشكل يتناسب مع حاجة الطفل و سرعة نموه؛

ص: 61

-اكتساب القدرة على مقاومة الفطريات و الباكتيريا و الفيروسات؛ -الوقاية من أمراض الحساسية كالربو و الأكزيما و أمراض أخرى كالسكري.

لقد ظهرت في المدة الأخيرة دراسات طبية جديدة كشفت عن وجود ميزات للرضاعة الطبيعية لم تكن معروفة من قبل،و أهمها:

-الرضاعة الطبيعية تساعد على نمو أنسجة المخ و الشبكية و تطورها بسبب وجود نوع من الأحماض الدهنية غير المشبعة؛ -الرضاعة الطبيعية تزيد معدل الذكاء و الكثير من الوظائف الحيوية؛ -الرضاعة الطبيعية تساعد على نمو العظام و الأسنان و كريات الدم الحمراء؛ -الرضاعة الطبيعية تساعد على منع انتقال مرض الإيدز من الأم إلى الطفل كما أنها تساعد على مقاومة العدوى إزاء الكثير من الأمراض الجرثومية؛ -الرضاعة الطبيعية تحمي الطفل من التعرض لمخاطر ارتفاع ضغط الدم.

و هكذا يتبين أن الرضاعة الطبيعية كانت و ستبقى هدية سماوية خالصة تتكشف معالمها و آثارها يوما بعد يوم،على صعيدي صحة الأم و صحة الطفل على السواء.

و ستظهر بالتأكيد علامات جديدة تواكب تطور العلوم و تقدمها عبر الزمن،ليتعرف الإنسان على عظمة و إعجاز الآية الباهرة من آيات الخالق.

ص: 62

كما ستتجلى جميع جوانب المهمة العظيمة التي أوكلت إلى الأم و تحملتها «حملا»و«وضعا»و«إرضاعا»بالرغم من الوهن و التعب و الآلام و المكاره؛ لتعطي جنينها و وليدها و رضيعها،بنعمة من اللّه جلّ و علا و ببركته،كل الحب و الرعاية و العطف و الحنان.

بسم اللّه الرحمن الرحيم: وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)[لقمان:14].

وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَ إِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الأحقاف:15].

ص: 63

ص: 64

القواعد الذهبية في الوقاية

من الأورام السرطانية

عرفت البشرية داء السرطان منذ قديم الزمان،فقد اكتشفت آثار لأورام سرطانية في بقايا الجثث البشرية و الحيوانية القديمة،و أشهرها:أثر ورم سرطاني خبيث في فك بقايا إنسان قديم،و ورم حميد في عظام إحدى جثث الديناصورات القديمة.كما وجدت شروحات مستفيضة عن الأورام و عوارضها و آثارها في بعض المخطوطات الإغريقية و الفرعونية.

أطلق الأطباء القدامى اسم السرطان أو Cancer (الاسم اللاتيني لكلمة سلطعون)لتشابه جذوره أو امتداداته مع قوائم حيوان السلطعون البحري الذي يتميّز بعناده في تحدّي الحواجز و اختراقها و الزحف الدائم في كل الاتجاهات.لقد شاع هذا الاسم و انتشر هذا الداء البغيض،و إن آثاره البغيضة أثارت منذ مراحل اكتشافه و معرفة خطورته،خوفا و رعبا لدى أوساط الخاصة و العامة،حتى تداخلت فيه مشاعر«اللعنة السماوية»أو «الغضب الإلهي»أو«انتقام القدر»لصعوبة المرض و صعوبة علاجه و استحالته في معظم الأحيان.

شغلت أنواع السرطان و آثاره و أسبابه و طرق علاجه الأوساط الطبية و العلمية منذ القديم،و أخذ هذا الداء حيزا كبيرا من اهتمام الباحثين و المكتشفين و العلماء على جميع الصعد العلمية(الطبية،الفيزيائية،

ص: 65

الكيميائية،البيولوجية)،و شهدت مراحل النهضة العلمية المتعددة تطورا بارزا في فهم هذا الداء و طرق تصنيفه و علاجه و تشخيصه،و ما زالت الأبحاث مستمرة إلى الآن في كل مجالات و طرق و أساليب الوصول إلى معرفة أوسع مدى عن هذا الداء و أسراره الكثيرة و علائقه المتعددة بالنمو الصناعي و التطور المديني،و انعكاسات التقدم التكنولوجي على حساب البيئة و الطبيعة.

و في السنوات الأخيرة ظهرت أبحاث مفصلة عن علاقة السرطان بالكثير من العوامل و المواد و الأساليب الصناعية و التكنولوجية الحديثة، حيث تبيّن أن الكثير من أنواع هذا الداء الخبيث تتكاثر و تنمو بسرعة هائلة في المجتمعات التي تتعرض لإشعاعات نووية،أو تستهلك مواد صناعية، أو تصاب بعوامل بيولوجية و كيميائية و فيزيائية ناتجة عن تقدم الصناعات بأنواعها المختلفة و ازدهارها،و إضرارها المستمر في كل جوانب الطبيعة و البيئة الطبيعية.كما تبيّن أن هنالك علاقة واضحة و مؤكدة بين أنواع السرطان المختلفة و بعض العادات السيئة المكتسبة حديثا و المنتشرة بمساعدة «حمّى الاستهلاك»التي أصابت جميع المجتمعات،كالتدخين بجميع أنواعه و الإفراط في تناول السكاكر و الحلويات و الدهون،و التعرّض الدائم لأشعة الشمس بداعي الاستجمام و التزيّن،و غيرها من العادات الخبيثة التي فرضتها الثقافات الاستهلاكية الخبيثة.

و في خضم المعمعة العلمية و الإعلامية الدائرة حول موضوع السرطان و طرق تشخيصه و علاجه و الوقاية منه،نستعرض القواعد الذهبية التي أجمع عليها الأطباء و الباحثون في الوقاية من هذا الداء بعد التعرّض لأسبابه المباشرة و غير المباشرة،و بعد التمكن من فهم بعض أسرار هذا الداء و طرق

ص: 66

عمله و انتشاره و امتداده من عضو إلى عضو،و من جهاز إلى جهاز في الجسم البشري.

القاعدة الأولى:عدم الإفراط أو التفريط في الغذاء

ارتبطت بعض أنواع السرطان بما يسمّى بالإفراط الغذائي أو Overnutrition و بالأخص عند ما تزداد كمية الدهون و السكريات في الغذاء، و عند ما تتناقص كمية الألياف فيه.فالإكثار من اللحوم و النشويات و البروتينيات و الإقلال من الخضار و الفاكهة الغنية بالألياف و الفيتامينات و المعادن،يساعدان على ظهور أنواع معينة من السرطان،و خاصة في الجهاز الهضمي.كما لوحظ أن أنواعا معينة من الخضار كالملفوف و القنبيط تقي من ظهور سرطان القولون أو الأمعاء الغليظة،و أن الغذاء الغني بالفيتامين«س»و«أ»يمنع من ظهور أنواع متعددة من السرطان،و خاصة سرطان المعدة.

و أظهرت بعض الأبحاث أن المجتمعات الفقيرة التي تتناول كميات قليلة من الغذاء الفقير بالمعادن و الفيتامينات،و خاصة معدني الزنك و السيلينيوم تتعرّض أكثر من غيرها لأنواع من السرطان،تشترك في ظهورها أيضا عوامل أخرى كضعف المناعة و كثرة الالتهابات الفيروسية و البكتريائية.

القاعدة الثانية:الإقلاع عن العادات الاستهلاكية السيئة

يدخل في هذا المضمار جميع العادات و التقاليد المستحدثة التي تكاثر الإدمان عليها بعد ظهور مراحل النمو الصناعي و التطور المديني،و أهمّ هذه العادات السيئة على الإطلاق،التدخين بجميع أنواعه،و تناول السكريات عند الأطفال و المراهقين،و التعرّض الزائد للشمس للاستجمام،و تناول الأطعمة المدخّنة.

ص: 67

-التدخين و مضاره:

ارتبط تدخين التبغ بالسرطان منذ بداية الانتشار المفاجئ لهذه العادة السيئة في عصر النهضة الصناعية الحديثة،بعد ما أحضر كريستوف كولومبس معه هذه النبتة من أرض أميركا المكتشفة حديثا.

و للتدخين أثر مباشر و مؤكد في ظهور سرطان الفم و البلعوم و المريء و الرئة و الحنجرة و البنكرياس و المثانة و الكلى،و تتعاون مواده السامة مع المواد السامة الأخرى كالمواد الكحولية أو الصناعية المساعدة في نمو بعض الأنواع الأخرى من السرطان.و أضرار التدخين لا تحصى و لا تعدّ،و هي لا تؤذي الشخص المستهلك فقط،بل الأشخاص المحيطين به كالزوجة و الأولاد و رفاق المسكن و العمل و وسائل النقل.و في مادة التبغ مواد سامة متعددة تساهم بشكل مباشر و فعال في نمو الخلايا السرطانية و انتشارها.

-تناول السكاكر و الحلوى عند الأطفال:

لمعرفة مدى الضرر و الأذى الذي تسبّبه هذه العادة السيئة،يكفي أن تتناول لوحا أو قطعة من الشوكولاتة أو حلوى الأطفال لتعرف مدى الخطورة التي تمثلها المواد الاستهلاكية،فمعظم هذه المواد المركبة و الصناعية المستعملة في صناعة هذه الأنواع البرّاقة و الجذابة لكل طفل و مراهق،تدخل في نطاق المواد الصناعية الحافظة أو الملونة أو المنكّهة التي تحمل في طياتها خطر التراكم في جسم الطفل و التسبب المباشر أو غير المباشر في ظهور السرطان بمختلف أنواعه،هذا عدا ما يمكن أن تسببه للطفل من أضرار أخرى في جهازه الهضمي و العصبي و التنفسي.

-التعرض الزائد لأشعة الشمس:

ثبت علميا أن التعرض الزائد لأشعة الشمس هو السبب المباشر و المطلق في ظهور السرطان الجلدي بأنواعه المختلفة و خاصة النوع القاتل منه الملانوما Melanoma .

ص: 68

-تناول الأطعمة المجففة أو المدخنة أو المقددة:

من الثابت علميا أن المواد الحافظة المستعملة في«تدخين»أو«تقديد»أو«تجفيف»الأسماك و غيرها من اللحوم و خاصة مواد النيترات و النيتريت Nitrites و Nitrates ،هي مواد مسببة للسرطان،و خاصة سرطان المعدة المنتشر في اليابان و الصين و دول شرق آسيا،حيث ينتشر تناول الأسماك المقددة أو المدخنة.

كما تنتشر في دول شرقي آسيا أنواع من سرطان الكبد تسببه الفطريات من نوع Aflatoxins التي«تستعمر»المخازن التي تخزّن فيها الحبوب كالفستق الذي يستعمل في صناعة الخبز اليومي.و الجدير بالذكر أن الأطعمة المدخنة أو المقددة أو المجففة هي من الأطعمة المعرضة بسهولة للإصابة بالتلوث البيئي بيولوجيا كان أم كيميائيا.

-تناول المشروبات الكحولية:

أكدت الأبحاث الطبية الحديثة أن للسرطان و خاصة سرطان الكبد و المريء و المعدة علاقة مع تناول المشروبات الكحولية،إما بطريقة مباشرة و إما بطريقة غير مباشرة،عبر ظهور ما يسمّى بالتليّف الكبدي أو Cirrhosis الذي يساعد هو أيضا في ظهور الأورام الخبيثة.كما تشترك المواد الكحولية مع عوامل أخرى كالتدخين و الفيروسات في تسريع عملية نمو الخلايا السرطانية،و تحطيم الجهاز المناعي المتصدي لها.و الجدير بالذكر أن المواد الحافظة المستعملة في صنع المواد الكحولية المختلفة هي أيضا مواد مساعدة على ظهور مواد مدمرة للجهاز المناعي الحامي لخلايا الجسم و أنسجته من أي تأثير خارجي أو داخلي ذي طبيعة سلبية.

-العادات الاجتماعية و التقاليد الموروثة السيئة:

و من هذه التقاليد عادة بعض الشعوب-كالشعوب الآسيوية في إيران و الصين مثلا-في تناول

ص: 69

الشاي أو الحساء أو غيرها من الأطعمة و هي ساخنة جدا من غير تبريدها أو تخفيف حرارتها الأمر الذي يسبب ظهور سرطان الفم و المريء المنتشر بشكل خاص و مثير للاهتمام في شمالي إيران و الصين.و من التقاليد الموروثة في الباكستان و الهند تناول و مضغ قطعة من«العلكة»مكونة من عدة عناصر يدخل فيها التبغ و البهارات و الليمون،و الإبقاء عليها ممضوغة و معلوكة طيلة النهار من دون توقف،ما يسبب في ظهور أنواع خاصة من السرطان في الفم و الغشاء الداخلي لجوف الفم أو سقفه.هذه العادة السيئة و المنتشرة خاصة في مجموعات العمّال،أثارت اهتمام الأوساط الطبية لدرس العلاقة بين البهارات و الكحول من جهة،و السرطان من جهة أخرى، كما أثارت موضوع العلاقة بين ازدياد نسبة سرطان المعدة في المجتمعات التي يكثر فيها تناول البهار الحار كالهند و الباكستان.

القاعدة الثالثة:الابتعاد عن المناطق الملوثة إشعاعيا و تفادي الأطعمة المعرّضة

للإشعاعات النووية

برهنت الدراسات العلمية أن الإشعاعات النووية هي من أهمّ الأسباب المباشرة في ظهور سرطان الدم المعروف ب«اللوكيميا»و سرطان الغدد اللمفاوية المعروف ب«الليمفوما».و أكدت هذه العلاقة المباشرة ظهور أعداد هائلة من المصابين بهذه الأنواع من السرطان بعد انفجاري هيروشيما و ناغازاكي في اليابان،و بعد حادث«شيرنوبيل»في بلاد ما كان يعرف بالاتحاد السوفياتي.كما أثبتت الدراسات ظهور حالات معينة من سرطان الغدة الدرقية بعد تعرضها للأشعة السينية،و ظهور حالات أخرى بعد تناول الأشخاص المصابين أطعمة ملوثة إشعاعيا،إما بسبب قربها من مناطق تجارب نووية أو مفاعل صناعية،و إما بسبب معالجتها نوويا بطريقة خاطئة

ص: 70

(لحفظها و تعليبها).و تظهر حاليا في الوسائل الإعلامية تصريحات رسمية و غير رسمية عن تزايد مخيف في أعداد المصابين بسرطان الدم في العراق بعد حرب الخليج الثانية مع الإيحاءات و الاتهامات بأن هنالك أسلحة ذات طبيعة نووية قد استعملت هناك في تلك الفترة.

القاعدة الرابعة:الاهتمام بالعامل الوراثي و الأخذ بالنصيحة و الوراثة

صار من الواضح الآن أن هنالك عاملا وراثيا ثابتا في ظهور أنواع عديدة من السرطان و أهمها سرطان الثدي،فعلى سبيل المثال إذا أصيبت امرأة بسرطان الثدي(و خاصة إذا كانت شابة أو في عمر مبكر)فعلى بناتها و بنات إخوتها و أخواتها أن يأخذن جانب الحيطة و الحذر و يداومن على الوسائل التشخيصية المبكرة كالفحص الإشعاعي أو النسيجي و استئصال أي ورم مشكوك في أمره.و تكثر حاليا حالات السرطان«العائلي»حيث يشترك عدة أفراد من العائلة في النوع نفسه و الفصيلة ذاتها كبعض أنواع سرطان الدماغ و الغدد اللمفاوية و الثدي و غيرها...

القاعدة الخامسة:تحاشي الالتهابات الفيروسية و مواجهتها

ازدادت الأبحاث الطبية المتخصصة في الآونة الأخيرة و التي تحاول ربط أنواع معينة من السرطان بأنواع معينة من الالتهابات الفيروسية و خاصة المزمنة منها.فقد ثبت حاليا أن هنالك علاقة مباشرة بين بعض أنواع التهابات فيروس الثألول البشري Human Papilloma Virus ،و سرطان عنق الرحم و غيره من أنواع السرطان في الأعضاء التناسلية،و بين فيروس «إبستاين بار » Epstein Barr و بعض أنواع سرطان الغدد اللمفاوية و أنواع من سرطان المنطقة الخلفية للأنف و الحنجرة.

ص: 71

القاعدة السادسة:تحاشي الاضطرابات الهرمونية و معالجتها

لاحظت بعض الدراسات العلمية الحديثة ارتباطا مباشرا و غير مباشر بين الاضطرابات الهرمونية التي تحصل خاصة عند النساء اللواتي يتأخر عندهن سن الزواج أو اللواتي لم يقدّر لهن الحياة الزوجية،بما فيها من تكامل هرموني عبر مراحل الزواج من حمل و رضاعة و غيرها من الوظائف الطبيعية التي تشغّل الأجهزة الهرمونية المعقدة و المترابطة في جسم المرأة، و أهم هذه الهرمونات هو هرمون«الإستروجين»الذي ارتبط اسمه بالكثير من الاضطرابات الهرمونية المصاحبة أو المسببة لبعض أنواع السرطان عند المرأة،و خاصة عند ما يكون هنالك إفراط أو تفريط في«تحريكه»و توظيفه في ظروف غير طبيعية و في نواح غير طبيعية.

و هكذا نرى و نستشف بعد استعراض هذه القواعد الست،أن داء السرطان المخيف يدخل و يتداخل مع الأمراض و العاهات المرضية الأخرى ضمن ما يمكن أن يوصف ب«الضرر»الناتج عن أسباب و مسببات معروفة في معظمها،و مترابطة فيما بينها و مرتبطة بالخلل أو الجهل أو الإفساد المقصود أو غير المقصود الذي يتميز به الإنسان في نطاقه الخاص و العام.فالإنسان بكل غروره و صلفه و جهله و تعنته هو الذي أصرّ على إيذاء نفسه و الإضرار بها و بالآخرين،عبر استخدام المسببات المباشرة و غير المباشرة لهذا الداء بكل أنواعه،و هو الذي استهتر بالعامل الوراثي و أهمله و تراخى و كسل في معالجته و منع انتقال الداء من جيل إلى جيل،و هو الذي أفسد«الطبيعة» و البيئة الطبيعية بصناعاته«الملغومة»و مواده الحافظة و الملونة،و المستغلة لمتعة قريبة الأجل فيها من الإضرار التي يمكن أن تقرّب أجله،و هو الذي كان عليه أن يلتفت و يلتزم و يتعظ و يسير على خطى التعاليم السامية التي

ص: 72

أوصت بها الأديان السماوية في الحفاظ على النفس و الحفاظ على الطبيعة و احترام الخلق و المخلوقات،و الابتعاد عمّا يهلكها أو يضرّها أو يعيبها أو يشوّه صفحة وجودها الداخلية أو الخارجية.و ما أعظم الإسلام حينما يؤكد و يحث و يصر على تطبيق تعاليم الوقاية الصحية و تعاليم الحفاظ على البيئة الطبيعية و مبادئ الحفظ و الابتعاد عما يضر و الالتزام بالخير و الطيبات، و عدم الإفراط أو التفريط،و إلزام الناس بالنظافة و الطهارة و الأغسال،و الأمر بعدم الإسراف في الأكل و الشرب،و الحثّ على الحمية و مراعاة البدن و النفس،و الحث على الزواج و الحمل و الرضاعة،و الابتعاد عن الضرر و الإضرار بالناس و الحيوان و النبات.

بسم اللّه الرحمن الرحيم: وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا [الأعراف:31].

ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النّاسِ [الروم:41].

«إن في صحة البدن فرح الملائكة و مرضاة الرب و تثبيت السنّة».

«لا خير في الحياة إلا مع الصحة».

«من أخلاق الأنبياء التنظيف».

«الطهر نصف الإيمان».

«المعدة بيت الداء و الحمية رأس كل دواء و أعط كل بدن ما عوّدته».

«الذي أنزل الداء أنزل الشفاء».

«كل و أنت تشتهي و أمسك و أنت تشتهي».

«برّد الطعام فإن الحار لا بركة فيه».

«تخللوا على أثر الطعام و تمضمضوا فإنها مصحة الناب و النواجذ».

ص: 73

«كثرة الأكل شؤم».

«من قل أكله قلّ حسابه».

«تخلّلوا فإنه من النظافة،و النظافة من الإيمان،و الإيمان مع صاحبه في الجنّة».

«من تعوّد كثرة الطعام و الشراب قسا قلبه».

و في طب الإمام الرضا عليه السّلام ورد خطاب منه عليه السّلام إلى المأمون يصف له الداء و الدواء،و صحة البدن و الوقاية من الأمراض بطريقة لا مثيل لها، و بإعجاز فريد و بطريقة خلابة عجيبة،نقتطف منه المبادئ و التعاليم التالية:

«الجسد بمنزلة الأرض الطيبة متى تعودت بالعمارة و السقي من حيث لا يزداد في الماء فتغرق،و لا ينقص منه فتعطش،دامت عمارتها و كثر ريعها و زكا زرعها،و إن تغوفل عنها فسدت و لم ينبت فيها العشب.فالجسد بهذه المنزلة، و بالتدبير في الأغذية و الأشربة يصلح و يصح و تزكو العافية فيه.

فانظر ما يوافقك و يوافق معدتك و يقوي عليه بدنك و يستمرئه من الطعام فقدره لنفسك و اجعله غذاءك..

و اعلم أن كل واحدة من هذه الطبائع تحب ما يشاكلها،فاغتذ ما يشاكل جسدك.و من أخذ من الطعام زيادة لم يغذه و من أخذ بقدر لا زيادة عليه و لا نقص في غذائه نفعه..

كل البارد في الصيف و الحار في الشتاء و المعتدل في الفصلين على قدر قوتك و شهوتك،و ابدأ في أول الطعام بأخف الأغذية التي يغتذي بها بدنك بقدر عادتك و بحسب طاقتك و نشاطك و زمانك..و ليكن ذلك بقدر لا يزيد و لا ينقص،و ارفع يديك من الطعام و أنت تشتهيه».

ص: 74

المحور الثالث: إضاءات على الإعجاز العلمي في النهي و التحذير

اشارة

-حياة الإنسان المهددة بين مطرقة الإسراف و سندان الإفساد.

-آفة المخدرات؛ -آفة الكحول؛ -الانحرافات الخلقية في المجتمعات الغربية.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ يونس:23 بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَ لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ الأنعام:151 بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَ أَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَ لا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ الرحمن:9 بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ الروم:41

ص: 75

ص: 76

حياة الإنسان المهددة...بين مطرقة الإسراف

الاستهلاكي و سندان الإفساد البيئي

بسم اللّه الرحمن الرحيم: يا أَيُّهَا النّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ [يونس:23].

برزت في عصرنا الحاضر إشكالية المخاطر الحالية و المستقبلية التي تحيط بحياة الإنسان من جميع جوانبها الاجتماعية و الصحية و البيئية،و تبين أن الكثير من هذه المخاطر الداهمة تزداد وضوحا و بروزا في المجتمعات و الجماعات التي تتعرض لآثار الإفساد أو التلوث البيئي من جهة،أو لظهور أنماط و عادات اجتماعية و غذائية و استهلاكية سيئة،اتخذت الإسراف و الإفراط و البغي سمات دائمة.

الإسراف أو الإفراط و البغي في العادات و الأنماط الفردية و الجماعية:

تتكاثر يوما بعد يوم العادات و الأنماط الاستهلاكية و الغذائية و الاجتماعية السيئة التي يتعرض لها الفرد و يدمن عليها دون إدراك أضرارها المتعددة عليه و على محيطه،و دون معرفة مخاطرها القاتلة على المدى القريب و المدى البعيد.و تأخذ هذه العادات و الأنماط السيئة في معظم الأحيان طابعا جماعيا تفرض به نفسها على المجتمعات و تحجب عن العيان آثارها الخبيثة القاتلة إلى أن يفوت الأوان.

ص: 77

تتنوع العوامل الخطرة و الأنماط السيئة و المؤثرات السلبية المرتبطة بشكل مباشر أو غير مباشر بهذه الأمراض القاتلة،كما تتعدد و تختلف كيفية ظهورها و نوعية آثارها من حالة إلى أخرى،و يصعب حصر نتائجها على الصعد و الميادين كافة.

ظواهر الإسراف و العادات الاستهلاكية و الأنماط الغذائية و الاجتماعية السيئة:

تشمل كل العادات و الأنماط المضرة بصحة الإنسان و المؤدية إلى الإصابة بأمراض خطيرة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة،عبر الإدمان عليها أو الإسراف و الإفراط فيها،و أهمها:

*الإفراط الغذائي و الاستهلاكي و السلوكي:

يشمل الإكثار من تناول الأطعمة الغنية بالدهون و البروتينيات و النشويات،و بالمقابل الإقلال من تناول الأطعمة الغنية بالألياف و الفيتامينات و المعادن(كأحد أهم الأسباب الرئيسة لسرطان الجهاز الهضمي،و ارتفاع نسبة الدهون في الدم و البدانة المفرطة و غيرها من الإشكالات الخطيرة).

كما يشمل ظواهر الإفراط في تناول السكاكر و الحلويات(و خاصة عند الأطفال)و الأطعمة المجففة و المدخنة و المقددة(كأحد أسباب سرطان المعدة)،و بعض العادات الاجتماعية التقليدية و الموروثة السيئة كتناول المشروبات الساخنة جدا(كأحد أسباب سرطان المريء)أو كمضغ بعض المركبات الكيميائية المخلوطة(كأحد أسباب التقرحات المزمنة و سرطان الفم)،أو كظاهرة الإفراط في التعرض لأشعة الشمس لأسباب ترفيهية و تجميلية(كسبب رئيسي في ظهور سرطان الجلد).

*التدخين بأنواعه المختلفة:

الدخان هو خليط مركب من أكثر من 4

ص: 78

آلاف مادة كيميائية،صنّف أكثر من 50 منها على أنّها مسببة للسرطان، و تمكث هذه المواد الضارة في الهواء و تسبب ما يسمى بالدخان الثانوي الذي يعتبر أهم ملوثات الهواء في الأماكن المغلقة،و الذي هو مسئول، على سبيل المثال لا الحصر،عن 3000 حالة وفاة سنويا في الولايات المتحدة الأميركية نتيجة الإصابة بسرطان الرئة فقط.

كما أكدت الدراسات العلمية أنه بالإضافة إلى علاقة التدخين المباشرة بأمراض و اضطرابات خطيرة كأمراض القلب و الصدر و الأوعية الدموية و الإجهاض المفاجئ،ثبتت علاقة التدخين بأنواع مختلفة و متنوعة من السرطان الخبيث كسرطان الفم و الحنجرة و البلعوم و المريء و الرئة و البنكرياس و المثانة و الكلى و عنق الرحم و غيرها.

*المشروبات الكحولية بأنواعها:

ثبتت علاقة المشروبات الكحولية بأنواعها المختلفة بظهور أمراض متعددة و آفات عصبية و نفسية و اجتماعية خطيرة،هذا بالإضافة إلى أنواع كثيرة من السرطان كسرطان الكبد و المريء و المعدة و الأمعاء الغليظة و المستقيم و الفم و الحنجرة و البلعوم.كما لا يسعنا إلا أن نذكر دور الكحول في ظهور إشكالات خطيرة يصعب التعامل معها كالنزف الهضمي و الإجهاض المفاجئ و هشاشة العظام و الكسور و العجز الجنسي.

*آفة المخدرات بأنواعها:

تتكاثر المخدرات بأنواعها المختلفة في عصرنا الحاضر،بسرعة هائلة،و تجتاح بآفاتها و أخطارها المتعددة الدول الفقيرة و الغنية على السواء.

تتنوع المواد المخدرة من دولة إلى دولة و تختلف من طبقة اجتماعية إلى أخرى،فمنها ما هو مصنع و مستحضر من مركبات كيميائية،و منها ما

ص: 79

هو طبيعي و مستخرج من النباتات و الأشجار،و منها ما يجمع بين النوعين.

كما تتنوع آثار المخدرات و تتوزع على مجالات و صعد عديدة،منها ما هو صحي بدني أو عقلي أو نفسي،و منها ما هو اجتماعي أو تربوي أو اقتصادي.

تنقسم المخدرات إلى مجموعات عدة تتألف بدورها من أنواع مختلفة،يتغير شكل الإدمان عليها من حالة إلى أخرى.نذكر منها:عقاقير الهلوسة(كعقار الأل-أس-دي)،و المنومات(كالفينوباربيتال)،و مثبطات الجهاز العصبي(كالأفيون و الهيرويين)،و المنشطات(كالكوكائين و القات و الأمفيتامينات)،و المهدئات(كالفاليوم)،و الحشيش،و المستنشقات التي تعتبر حاليا،أهم أنواع المخدرات على الإطلاق،و أكثرها تفتكا بالإنسان لما تسببه من اضطرابات خطيرة و أضرار بالغة في الجهاز العصبي و القلب و الكبد و الكلى،هذا بالإضافة إلى حالات الغيبوبة و الموت المفاجئ.لقد بلغ الإنسان،في هذا المجال حدا لا يصدق و لا يوصف من البغي و الإفراط و الانهيار،إذ صار يتعاطى،في حال عدم وجود مبتغاه،استنشاق مواد غريبة كالبنزين و مزيل طلاء الأظافر،وسائل وقود القداحات،و مخفف الطلاء و روث البقر و لاصق الغراء و عوادم اشكمانات السيارات.

*الانحرافات و العادات الجنسية السيئة:

ترتبط الانحرافات الجنسية بشكل عام و العلاقات الجنسية المتعددة خارج الزواج و الممارسات الجنسية المحرمة باضطرابات اجتماعية و نفسية و عصبية و جسدية سيئة الأبعاد و النتائج.و أهم هذه الاضطرابات على الإطلاق هي الأمراض الجرثومية و ما يترتب عليها من أعراض و إشكالات،و خاصة ما ينتج عن بعضها من تغيرات سرطانية في الخلايا و نشوء أورام خبيثة،كالتي تصاحب التهابات بسم اللّه الرحمن الرحيم سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ صدق اللّه العظيم العلم و الإيمان...إلى أين؟ سؤال قديم يتجدد كل عصر و مع كل جيل بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ الجنين و مراحله المتعاقبة و المترابطة:عالم من الأسرار و الظواهر العجيبة عالم التكوين البشري...عالم متكامل مترابط الأطوار و الأسرار صورة«العلقة»و هي عالقة أو منغرزة في جدار الرحم،في مرحلة «العلقة»أو الانغراز-صورة مقطعية بالمجهر الألكتروني مرحلة«المضغة»و تشبيه للجنين البشري في هذه المرحلة ب«مضغة» لاحظ تشابه الشكل و الحجم و تطابق الأبعاد مرحلة«العلقة»و تشبيه للجنين البشري في هذه المرحلة ب«العلقة»لاحظ تشابه الشكل و الحجم و تطابق الأبعاد علاقة الأم بوليدها علاقة تشوبها النعم الإلهية و الأسرار الربانية عملية الحمل و الولادة سرّ من أسرار الخلق و نظام متكامل من العلائق المباشرة و غير المباشرة بين الأم و وليدها الخلايا«الآكلة»او القاتلة للجراثيم في معركة مع أحد الأجسام الغريبة مصنع للخلايا اللمفاوية الجديدة في احدى العقد اللمفاوية معركة حامية الوطيس بين خلايا المناعة و أجسام غريبة تستعمل فيها أساليب هجومية و دفاعية آثار الرضاعة الطبيعية على الطفل المولود لا تحصى و لا تعدّ و لا يمكن الحصول عليها عبر البدائل الأخرى الحمل و الرضاعة نعمتان مجهولتان أمرهما القرآن الكريم و قضاهما و قدرهما لمن أراد أن يتمهما الرضاعة آية من آيات الخالق و نعمة للأم و لوليدها على السواء

ص: 80

فيروس الثألول البشري في عنق الرحم و الشرج و المهبل.هذا بالإضافة إلى ما يعرف الآن و ما يكتشف حاليا من إشكالات خطرة على حياة الإنسان تنتج عن داء نقص المناعة المكتسبة و فيروس الإيدز الذي يفتك،بشكل خاص،بجماعات المنحرفين و الشاذين جنسيا.

*ظاهرة الخمول البدني:

تعتبر ظاهرة الخمول البدني مع ما تشمله من مظاهر مختلفة كانعدام الرياضة و حياة«القعدة»و الجلوس ساعات طويلة أمام التلفاز و الحاسوب و وراء المكتب،و الاستعمال الدائم للسيارات و الحافلات و قلة الحركة و النشاط البدني،أهم أسباب الأمراض المعروفة حاليا بأمراض العصر الفتاكة،كالسكري و البدانة المفرطة و أمراض القلب و الأوعية الدموية.

و بينت الإحصاءات أن ستا من كل عشر وفيات ناتجة عن السكري، و أمراض القلب و الشرايين،و الأورام الخبيثة،ترتبط بانعدام الرياضة،خاصة في الدول المتقدمة و الغنية.كما أصبح من الواضح حاليا أن أهم تحد تواجهه البشرية جمعاء،لتسببه بأكثر الأمراض نسبا في الوفيات في عصرنا الحاضر،هو نمط الحياة الجلوسية المفرطة مع ما يصاحبها من بدانة و خمول و انعدام النشاط و الحركة.

*ظاهرة الاكتئاب المفرط:

تصف منظمة الصحة العالمية الاكتئاب بأنه اضطراب عقلي يصيب حوالي 340 مليون شخص في العالم،تشمل أعراض الاكتئاب فقدان الاهتمام بالأشياء و الإحساس بعدم الأهمية و بعدم السعادة و ضعف المزاج و عدم القدرة على التركيز و إحساس عام بالخمول.

يعد الاكتئاب من الأمراض القاتلة حيث إن 15%من المصابين ينتهي بهم الأمر إلى الانتحار،كما أن الإحصائيات أظهرت أن 50%من

ص: 81

المنتحرين يمرون بفترة من الاكتئاب في وقت من الأوقات،هذا عدا وجود علاقة مباشرة بين الاكتئاب و ازدياد نسب الوفيات نتيجة الإصابة بأمراض أخرى كالسرطان و أمراض القلب و الشرايين.

لهذا كله،يعتقد أن الاكتئاب سيشكل السبب الرئيس للإعاقة في العالم،و من أهم الأعباء التي ستواجهها البشرية عند حلول سنة 2020 م.

في المقابل،نجد أن الإنسان نسي نفسه و تناسى ماضيه و حاضره و مستقبله،بعد ما نسي معالم الحياة المثلى و أساليب العيش الكريم و أنماط العلاقات المتوازنة التي حددها له خالقه الكريم،جل و علا،و ضبطها ضمن موازين و أسس و منظومات واضحة منسقة مترابطة،لا إفراط فيها و لا تفريط،و لا طغيان فيها و لا نقصان،مبنية على العدل و القسط و التوازن:

بسم اللّه الرحمن الرحيم: وَ وَضَعَ الْمِيزانَ(7) أَلاّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَ أَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَ لا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9)[الرحمن:7 و 8 و 9].

وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31].

وَ لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ [الأنعام:151].

يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَ اعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) [المؤمنون:51].

وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ(5) إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ(6) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7) [المؤمنون:5 و 6 و 7].

وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلاً (32)[الإسراء:32].

ص: 82

وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195].

اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللّهِ أَلا بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)[الرعد:28].

*ظاهرة الإفساد البيئي:

يعاني عالمنا الحاضر،في عصرنا الحالي،و بشكل متزايد من وجود هواء ملوث بجميع أنواع الإشعاعات النووية و الغازات المنبعثة السامة و الملوثات الكيميائية و الصناعية و العضوية،هذا عدا نشوء ظاهرتي «الاحتباس الحراري»و«تآكل طبقة الأوزون»الشديدتي الخطورة على الحياة بجميع أشكالها على كرتنا الأرضية.

و قد أفادت الدراسات الحديثة أن هواء المدن الملوث يزيد من مخاطر الإصابة بالسرطان،هذا بالإضافة إلى أمراض القلب و الرئتين،كما برهنت الدراسات عن وجود علاقة مباشرة بين التعرض المتزايد للهواء الملوث بجسيمات دقيقة شديدة الصغر صادرة عن الانبعاثات الصناعية و وقود الحافلات و المبيدات الزراعية،و غيرها من الملوثات،و زيادات ملحوظة في نسب وفيات السرطان خاصة في حالة سرطان الرئة.

و في الوقت نفسه،ثبت للباحثين المختصين و بعد تتبع و دراسة آثار التجارب النووية على الإنسان و الحيوان أن الإشعاعات المؤينة تخترق الأنسجة و الخلايا و تشوه محتويات نواتها من الكروموزومات و الأحماض الأمينية لتتسبب في ظهور أورام خبيثة و متنوعة.

كما أظهرت دراسات أخرى نتائج متشابهة بعد تتبع و إحصاء و إحصاء و دراسة الآثار الناتجة عن استهلاك أطعمة ملوثة إشعاعيا أو معالجة نوويا بطريقة خاطئة بهدف حفظها و تعليبها.

ص: 83

كما يجب أن لا ننسى،أخيرا،الآثار المدمرة و القاتلة للأسلحة النووية التي استخدمت قديما و حديثا في حروب عالمية و إقليمية و تسببت في ازدياد هائل في نسب وفيات السرطان.

و في هذا المجال،أقر خبراء من منظمة الصحة العالمية،منذ مدة قريبة، أن التلوث البيئي يؤدي إلى مقتل 3 ملايين طفل سنويا دون سن الخامسة في الدول النامية و الفقيرة،خصوصا في قارة آسيا.و كان من أبرز المخاطر البيئية التي يتعرض لها هؤلاء الأطفال قيام بعض الدول برمي نفاياتها السامة في السهول و الأنهار حيث يستحم و يشرب الأطفال في الأرياف،و انبعاثات الرصاص في المدن و الأماكن القريبة من مكبات النفايات،و التلوث الجوي الناتج عن الاستخدام الكثيف للطاقة و التوسع الصناعي.

في نهاية المطاف،لا يسعنا إلا أن نؤكد على أن الإنسان هو الذي أوقع نفسه في هذا المأزق المريع،و هو الذي ألقى بنفسه و جعلها بين مطرقة هذا الوحش الذي ركبه من إسرافه الفردي و بغيه النمطي و إفراطه الاستهلاكي و خسرانه النفسي،و بين سندان الرمضاء الموحشة التي جعلها مرتعا له بعد إفساده بيئته،و تدميره العبثي للنعم التي اؤتمن عليها،و نسيانه مهمة إعمار الكون التي كلف به و جعل على أساسها خليفة الخالق على الأرض.لذلك كله،لا سبيل للإنسان في هذا الليل المظلم و لا خلاص له من هذه الكارثة المحتمة إلا بالرجوع إلى خالقه و العودة إلى التمسك بالأمانة التي قبلها في مهمته و تحمل المسئولية في إعادة إعمار ما خربت يداه،حتى لا يفوت الأوان.

بسم اللّه الرحمن الرحيم: ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)[الروم:41].

ص: 84

آفة المخدّرات

اشارة

لا زال الغرب بكافة أجهزته و مقوّماته الاجتماعية و الاقتصادية و الأمنية يعاني من الآثار التي أنتجتها و لا تزال تنتجها أزمات التجارة و التعاطي بالمخدّرات و الإدمان على تناولها،بين أجياله الشابّة على الأخص.

و قد تفجرت تلك الأزمات،بشكل علني و فاضح،و على جميع الصعد الاجتماعية و الصحية و الاقتصادية و الأمنية،في أواخر الخمسينات،عند ما أخذت تروّج للتعاطي ب«ثقافة»المخدّرات بعض من أشهر الفرق الموسيقية ك«البيتلز»و«الرولينغ ستونز»و«الهو»و«الكوين»و الكثير من الشخصيات البارزة في الأوساط الثقافية من ممثلين و كتّاب و شعراء و رسامين و موسيقيين،على أساس أنها مواد تساعد على تنمية و تفجير الطاقات الفنية و الأدبية المختزنة،و ضمن مبدأ الانطلاق عبر عوالم و أجواء سحرية و خيالية مخفية على باقي البشر!! و انتشرت تلك الآفة بشكل أوسع و أسرع بين الأجيال الغربية الشابّة، و بين الأجيال الصاعدة من الشعوب التي استعمرها الغرب بنماذجه الثقافية (كجنوب أميركا و جنوب آسيا و أستراليا)،دون التمييز بين طبقاتها الاجتماعية أو بين مقوّماتها العلمية و الثقافية،إذ أنها انتشرت و بشكل متساو في معظم الأحيان،بين المجتمعات الجامعية و المثقفة و بين الجماعات الشاذّة و الخارجة عن القانون.و أصبح من«العيب»و«المكروه»و«المشئوم»

ص: 85

في الستينات و السبعينات،و خاصة في فرنسا و إسبانيا و إنكلترا،أن لا يشارك شاب زملاءه(خاصة إن كانوا ضمن مجموعات سياسية«حرة»و ليبرالية)في الندوات التي كانت تفتتح و تختتم بتعاطي المخدرات«المنعشة للفكر و الخيال و المشاعر»كال LSD و الكوكايين و الأمفتامين و غيرها.

1-آثار الإدمان على المخدرات على الصعيد الاقتصادي:

ارتبطت أزمة التجارة و التعاطي بالمخدّرات منذ البداية بأزمة البطالة بشكل مباشر،حيث كان هذا العامل الاقتصادي من أهمّ الدوافع الأساسية إلى التعاطي و الاتّجار بالمخدّرات.و كانت هذه الأخيرة و ما زالت من أهمّ العوامل المؤدية إلى البطالة،و أصبح من المستحيل على الأجهزة الاقتصادية الغربية الفصل بين هذه الأزمة و تلك من دون أن تصطدم بالعلائق و الوشائج التي تجمع ما بينها،فعصابات المخدّرات بكل فروعها و أقسامها من الاستيراد إلى التهريب إلى التوزيع إلى التصدير،تعتمد اعتمادا كاملا على جماعات العاطلين عن العمل.أما تعاطي المخدرات فيؤدي بدوره و بشكل تدريجي إلى فقدان الوظائف و أماكن العمل،و إلى تدني نسبة اليد العاملة و مستواها و خاصة الشابة منها.و تدور حول هذه النتيجة عوامل و مؤثرات أخرى تساعد في تعميق الأزمة اقتصاديا و بأشكال مختلفة،كالحوادث التي تصيب المدمنين على المخدرات في أماكن عملهم و على الطرقات،أو كفقدانهم لطاقاتهم الجسدية و الفكرية بشكل مبكر،أو كتكاثر حالات الوفيات المفاجئة بينهم.

2-آثار الإدمان على المخدّرات على الصعيد الاجتماعي:

إن الأمراض الاجتماعية الناتجة عن تعاطي المواد المخدّرة صعبة الحصر و الاستجلاء،و تتوزع على جميع الأوجه و الأصعدة:على الصعيد

ص: 86

الفردي و بناء الذات و الشخصية،و على الصعيد العام و الأخلاق العامة،على صعيد العلاقات العائلية و الأسرية و الزوجية و الاجتماعية الخاصة،إلى آخره...و تجرّ هذه الآفة الطبقات المدمنة و خاصة الشابة منها إلى ويلات أخرى يصعب حصرها اجتماعيا،كالدعارة التي تقوم بها الشابات،و من جميع الطبقات الاجتماعية،لجمع الأموال اللازمة لشراء«الوجبات اليومية»،و السرقة التي يقوم بها الأفراد أو الجماعات من فتيان في مقتبل أعمارهم،و كحالات التفكك العائلي(من طلاق و ترك للواجبات و خاصة التحصيل العلمي،و الهرب من المنزل)التي تصيب الشرائح الاجتماعية التي يقع أحد أفرادها في شرك المخدّرات.

3-آثار الإدمان على المخدّرات على الصعيد الصحي:

تعتبر الإحصائيات الطبية أنّ الإدمان على المخدّرات هو أول و أهمّ و أعظم أسباب الوفاة على الإطلاق في مدينة نيويورك الأميركية،و خاصة بين المجموعات التي تتراوح أعمارها بين ال 25 و سن ال 33.و تجتمع آراء هذه الإحصائيات على المبدأ القائل بأنّ جميع أنواع هذه المواد السامّة هي «قاتلة»بكل معنى الكلمة،و إن كان بعضها أسرع في هدفه من الآخر! و كثرت الدراسات الطبية على هذه المواد بأنواعها و ميزاتها و نتائجها، و تركزت خاصة على بحث خصائص المواد المخدّرة الثلاث المشهورة عالميا:الكوكايين و الهيرويين و الماريجوانا،و سنحاول بشكل موجز استعراض هذه الخصائص للتدليل على عمق و خطر و شراسة هذه الآفة على المجتمع بكل خصائصه:

1-الكوكايين:

و هي المخدّر الأكثر شهرة و انتشارا بين الشباب من ذوي الطبقات المتدنية اقتصاديا في الغرب،و منه اشتقّ مؤخرا مخدّر

ص: 87

«الكراك»الذي ينتشر بين أوساط الزنوج الأميركيين و بشكل«وبائي»قاتل.

و تشمل آثار هذه المادة السامة على الجسم الإنساني:الارتفاع المفاجئ لضغط الدم،سرعة خفقان القلب،تعطيل انتظام الدورة الدموية،و احتمال إصابة القلب بالذبحة أو التضخم.و للمادة أيضا آثار و خيمة على الجهاز التنفسي،إذ أنها تعرض الرئتين للفشل المفاجئ،و بسبب ذلك حظيت مؤخرا بتسمية«أتوستراد نحو السماء»في الأوساط الطبية،بعد أن كانت تعتبر الأخف و الأقل ضررا،بين المواد المخدّرة في الستينات.

2-الهرويين:

و هي أخطر المواد المخدّرة،يتعرض متعاطيها للإدمان الدائم،حيث تؤدي إلى حالات من الهلوسة و النشوة الدائمة ممزوجة بنعاس و رقاد ثقيل يصعب إيقاظ المدمن منه.و قد ارتبط اسم هذه المادة السامة بحالات الموت المفاجئ،التي تحدث عبر طرق ثلاث:السكتة القلبية،أو التلف الرئوي،أو الفشل التنفسي الحاد.و من نتائجها المباشرة أيضا، الالتهابات الجرثومية:الجلدية و القلبية و الكبدية و الصدرية و العظمية و إصابة الكليتين بالفشل و التلف،بالإضافة إلى آثار مهلكة على العضلات و الأعصاب و الشرايين.

3-الماريجوانا:

و قد انتشرت بين الأوساط الثقافية الغربية في الستينات و أوساط الفرق الموسيقية الشابّة،و الرسامين و النحاتين و الممثلين.

تتميّز عن غيرها من المواد المخدّرة بأن لها آثار عميقة و دقيقة بنفس الوقت على أجهزة الجسم«الأساسية»مما أخّر اكتشاف آثارها،و دفع البعض إلى الاعتقاد بأنها غير ضارّة.و أهمّ هذه الآثار فقدان المناعة المكتسبة الذي يعرّض الإنسان إلى الكثير من الالتهابات و الخلل الوراثي في الكروموزومات الذي يؤدي إلى عاهات و تشوّهات جسدية في أجنّة الشابات المدمنات،كما

ص: 88

أنها تؤدي إلى ازدياد كبير في احتمالات حدوث انفصام الشخصية.و الجدير بالذكر أن إحدى الإحصائيات الغربية الأميركية المتداولة قدّرت أنّ 70%من الشباب ما بين الثامنة عشرة و الخامسة و العشرين تعاطوا هذه المادة أو أدمنوا عليها في المدارس أو الجامعات،و أنّ الذين لم يقلّدوهم بذلك اعتبروا خارجين عن المألوف! أخيرا،حري بنا أن نلفت النظر إلى أنّ الشرع الإسلامي بأحكامه الإلهية الصارمة و الحاسمة في موضوع الاتجار و التعاطي بالمخدّرات،ساعد بشكل أساس على عدم تفشّي هذه الآفة في معظم مجتمعاتنا الإسلامية، و على الرغم من عدم التزام معظم الحكومات و الأنظمة بالتشريعات المقدّسة.و من الملاحظ في المدة الأخيرة أنه كلما اقتربت دولة من التشريع الإسلامي كلما ابتعدت عنها هذه الآفة،و قلّ تأثيرها و تناقصت آثارها.

ص: 89

ص: 90

آفة الكحول

اشارة

تعاني المجتمعات الغربية بشكل عام،من الأزمات الاقتصادية و الاجتماعية و الصحية التي تسببها بشكل مباشر أو غير مباشر،آفة تناول الكحول و استهلاكها.و رغم ازدياد الحملات التوجيهية الداعية إلى التخفيف من تناول و استهلاك المشروبات الروحية،فإن تناولها يزداد يوما بعد يوم و يتفشى في جميع طبقات المجتمع دون تمييز بين الأعمار و المستويات الاجتماعية و الطبقية.أما الذي يقلق السلطات و المراجع الصحية و الاجتماعية،حاليا،فهو استهلاك المراهقين و حتى بعض الأطفال لكميات شديدة الضرر و الأذى بالنمو و الصحة و التربية و الوعي الاجتماعي بشكل عام.و تشير الإحصائيات المتداولة في السنين الأخيرة إلى أنه حوالي ال 90% من الأشخاص(رجالا و نساء)الذين تتجاوز أعمارهم ال 18 سنة يقومون بتناول الكحول بشكل مستمر و اعتيادي في المجتمعات الغربية،و كأن ذلك عادة اجتماعية طبيعية و أمر واقع لا محالة فيه،حتى أنه بات من الغريب و المستغرب و من الشذوذ أيضا أن يبادر الشخص إلى الامتناع عن ذلك لغير سبب صحي و يخالف بذلك القاعدة العامة السائدة.

و على سبيل المثال و للدلالة على المدى الذي بلغه تفشي هذه الآفة في المجتمعات الغربية المتحضرة،تقدر بعض الإحصائيات الأمريكية أنه هناك،الآن،حوالي العشرة ملايين مصاب بداء الكحولية المزمن،في

ص: 91

الولايات المتحدة فقط،و أكثر من سبعة ملايين يتناولون الكحول بشكل يؤدي إلى ضرر أكيد بالصحة و بالعلاقات الاجتماعية..

نظريات حول أسباب الإدمان:

تتحدث بعض النظريات السيكولوجية عن بعض الأسباب المتعلقة بأمور نفسية بحتة كمحاولة الهرب من الواقع المؤلم المليء بالمشاكل و المصاعب اليومية،أو محاولة الابتعاد عن الروتين الدائم و التخلص من الضغط النفسي،و البحث عن حالات الارتخاء و الراحة و النشوة التي يظن المدمنون أنهم بالغوها عبر تناولهم هذه السموم،أو مما نشهده حاليا،عند المراهقين من اعتقادات باطلة،تجعلهم متوهمين بأن تناول الكحول هو انطلاقة تحررهم من قيود العائلة و المجتمع و بدء تبلور قدراتهم على جميع الأصعدة! و تتحدث بعض النظريات الطبية عن عوامل وراثية و بيئية تساعد على دفع الإنسان إلى حالة الإدمان على الكحول عبر خلل وراثي في الجينات أو عبر خلل بيئي في العائلة و المحيط الاجتماعي.لكن تلك النظريات بقيت من دون تحديد مكان الخلل في الجينات المصابة مثلا،من دون تحديد أسباب الخلل و كيفية نشوئه.

نتائج الإدمان على المجتمعات الغربية:

1-نتائجه على اقتصاد الدول:

يعود تناول الكحول و الإدمان عليها على اقتصاد المجتمعات الغربية بأزمات عديدة،بشكل مباشر و غير مباشر.و نستطيع إيجاز هذه الأزمات المتعددة الأوجه و المدلولات بالأمور التالية:

ص: 92

أ-التغيب المتقطع أو المستمر عن العمل،و خاصة بعد انتهاء العطلة الأسبوعية أو الأعياد السنوية؛ ب-فقدان التركيز و الوعي و المراقبة و هبوط مستوى الإنتاج الفكري و المادي بشكل مستمر و تصاعدي عند المدمنين،و بشكل متقطع و متزايد عند الذين يتناولون الكحول و لم يدمنوا عليه بعد،مما يؤدي إلى الكثير من حالات الطرد من العمل و البطالة؛ ج-ازدياد حالات الحوادث داخل العمل و خارجه بسبب عدم التركيز و حالة التخدير التي يعيشها المدمن و تمنعه من مراقبة أعماله و أقواله و تحركاته، مما يؤدي إلى ازدياد الدعاوى و الشكاوى و طلبات التعويض و غيرها؛ د-حوادث السير و هي أهم هذه الأزمات و أكثرها تأثيرا على جميع الأصعدة الاقتصادية المتعلقة بالسياحة و الأشغال العامة و النقل و الأجهزة الصحية و القضائية و الأمنية و الإعلامية.و الملفت للنظر أن هذه الأزمات رغم كل الحملات التربوية و الإعلامية لمحاولة تفادي تناول الكحول قبل قيادة السيارات و الحافلات أو عندها،لم تتراجع بل تزداد تضخما يوما بعد يوم،و لا تخلو الوسائل الإعلامية عند نهاية كل عطلة أسبوع من الحديث عن ذلك و نتائجه على الأرض.و الجدير بالذكر أن تناول الكحول(و ليس فقط الإدمان عليها)هو السبب المباشر لحوالي ال 70%من حوادث السير المستمرة في المجتمعات الغربية(في بعض الدول كإسبانيا مثلا تصل النسبة إلى حوالي ال 90%من حوادث السير).

2-آثاره على العلاقات و العوامل الاجتماعية:

تناول الكحول و الإدمان عليها من أهم الأسباب المذكورة في كل

ص: 93

لوائح الأمراض الاجتماعية على جميع أصنافها.فآفة الكحول،في المجتمعات الغربية،هي من أكثر العوامل الهدامة و أكبرها على صعيد العلاقات العائلية و الزوجية،و من أعتى السموم فتكا على صعيد العوامل النفسية و أمراضها و انحرافاتها و شذوذها.و على سبيل المثال يعرف في الغرب أن الكحول هي السبب الأول لحالات الخلل و التفكك العائلي،من مشاكل بين الأب و أولاده أو بين الولد و أبويه أو بين الرجل و زوجته أو بين الأولاد ببعضهم البعض.و يعرف أيضا أن الكحول هي الدافع المباشر لمعظم حالات اليأس و الانهيار النفسي و المعنوي و ما يسببه ذلك من محاولات انتحار أو هروب من البيت أو العمل أو الواقع،أو انحرافات نفسية مرضية كانفصام الشخصية و الشذوذ و الضياع.

و من أكثر آثار الكحول أهمية و أعظمها واقعا على المجتمعات الغربية بشكل عام هي مساهمتها المباشرة و غير المباشرة في تفشي الأمراض الاجتماعية الأكثر ضررا بالقيم و الأخلاق و التربية و المجتمع بشكل كامل، كالسرقة و القتل و الاغتصاب و الدعارة و غيرها.

3-آثاره على الصحة:

قبل البدء بالحديث عن هذا القسم،لا بد لنا أن نذكر أن الكحول مادة سامة في المفهوم الطبي،و تناولها و الإدمان عليها يعرضان الجسم الإنساني لحالات تسمم تتراوح ما بين الحالات الحادة و الحالات المزمنة.

و على هذا الأساس يمكننا أن نقسم الآثار و العوارض و الإصابات بين القسمين التاليين:

أ-حالات التسمم الحاد:و تؤدي إلى حد انهيار تام و كامل في وظائف الجهاز العصبي المركزي،كما تؤدي إلى خلل و تلف في المعدة

ص: 94

و الكبد(من التهابات متعددة و قروح مختلفة).و هذه الحالات الحادة بالذات هي السبب المباشر لأكثر من 70%من حوادث السير في المجتمعات الغربية بالإضافة إلى أنها عبر إصابتها الجهاز العصبي المركزي بشكل شامل،يمكن أن تؤدي إلى الموت المفاجئ عبر وقف الحركة التنفسية و انقطاعها.

ب-حالات التسمم المزمن:و تؤدي إلى خلل بطيء في جميع أنسجة الجسم و أعضائه،و بالأخص في الكبد و المعدة و القلب.و تؤدي إصابة الكبد إلى تلفه شيئا فشيئا و تليفه و تعرضه حينئذ لاحتمالات نشوء أورام خبيثة، علما بأن تليف الكبد أو ال CIRRHOSIS هو السبب التاسع للوفاة في الولايات المتحدة مثلا،و هذا يعني أن الكبد لا ينتظر حتى تنشأ الأورام الخبيثة ليقضي على صاحبه و ينهى حياته.و يمكن أن تؤدي إصابة المعدة و تلفها إلى الموت مباشرة عبر نزيف حاد ناشئ عن التهاب أو قرحة فيها.

أما القلب فيصاب بحالة من التضخم تؤدي عبر الأيام إلى الإضرار بوظائفه و إيقافها في النهاية.و على سبيل الذكر و التنبيه تكثر هذه الأيام نصيحة طبية مزيفة مفادها أن تناول كميات قليلة من الكحول تزيد من مادة ال HDL الدهنية التي تحمي القلب و الأوعية الدموية من الإصابة بالنشفان و التكلس، و هذا صحيح!لكن الحقيقة المقابلة لها تفيد أن هذه الكميات بالتحديد تؤدي عبر إيذائها الكبد إلى نقصان هذه المادة و إلى ازدياد حالة الإصابة بالنشفان و التكلس كنتيجة لذلك،هذا بالإضافة إلى أن هذه الكميات تساعد في ارتفاع الضغط الدموي و تساهم عبر ذلك بالمزيد من الضرر و الأذى للقلب و الأوعية الدموية.

و من العوارض الأخرى نذكر نقصان و افتقاد الفيتامين 1B في المدمنين المزمنين،مما يؤدي إلى خلل الأعصاب.و هناك ازدياد احتمال الإصابة

ص: 95

بالتهاب البنكرياس و تلف العضلات المزمن.و النتائج الأكثر ضررا و إيذاء، نراها عند تناول المرأة الحامل للكحول و عندها تزداد احتمالات التخلف في النمو و التخلف العقلي في المواليد.

أما علاقة الكحول بالسرطان فهي أكثر و أكبر من أن تذكر و أن تعرّف لأنها علاقة مباشرة و بشكل خاص،خاصة مع سرطان الشفة و الفم و المريء و البلعوم و الرئة و الأمعاء الغليظة و البنكرياس و الكبد و المرارة.

و في الختام نذكر ما قاله أحد العلماء يوما ما حول موضوع تناول الكحول و الإدمان عليها،و مفاده أنه إذا كان التسمم الحاد بالكحول يؤدي إلى فقدان الباخرة لقبطانها فإن التسمم المزمن يغرقها.

نظرة الإسلام حول الموضوع:

أمّن الإسلام بتحريمه تناول الكحول،كثيره و قليله،تحصين المجتمع بجميع طبقاته من الأمراض الناتجة عن هذه الآفة،و اقتلع،بجعله رجسا، كل الأوهام و الاعتبارات المختلفة حول ذلك،من جذورها.و بذلك قام الإسلام عبر قوانينه الإلهية الحاسمة الحازمة بعزل العاصين لذلك النهي، و أقام الحدود عليهم ليمنع تفشي هذه الآفة و يزيل عدواها الاجتماعية،من دون شروط أو اعتبارات،و من دون تلكؤ في إصدار الأحكام الشرعية.

ص: 96

الانحرافات الخلقية في المجتمعات الغربية

اشارة

تتعدد الانحرافات الخلقية و تتنوّع متخذة أشكالا و وجوها مختلفة في المجتمعات الغربية و في غيرها من المجتمعات التي قلّدت ثقافاتها و عاداتها و معتقداتها تقليدا أعمى.و قد أصبحت هذه الانحرافات بجميع أشكالها علنية أو معلنة،بشكل فردي و جماعي،و صارت تتمحور حول حركات و مجموعات ثقافية و اجتماعية،في معظمها فاعلة اجتماعيا و حاضرة سياسيا بشكل باتت معظم الأحزاب الغربية تأخذ قوتها الانتخابية بعين الاعتبار(كما حصل مؤخرا في حملة الرئيس بيل كلينتون الانتخابية في الولايات المتحدة).و سنعالج في هذا البحث بعضا من وجوه الآثار الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية و السياسية و الصحية لهذه الانحرافات على المجتمعات الغربية،و غيرها من المجتمعات المستعمرة ثقافيا(كمجتمعات دول شرقي آسيا و شرقي أوروبا و أميركا الجنوبية).

أولا:آثار الانحرافات و الشذوذ على الصعيد الصحّي:

تنعكس هذه الانحرافات و الأفعال الشاذّة على هذه المجتمعات بشكل متفاقم و مأساوي جدا،كانت حصيلتها الأخيرة ظهور مرض«الإيدز»أو «نقص المناعة المكتسب»الذي اختار مجموعة لتكون هدفه الأول و الأسهل.

و قد أصيبت هذه المجموعات بنكسة عميقة و كبيرة عند ما اكتشفت

ص: 97

هشاشة حالتها المزرية و ازدياد نمو معدلات الوفاة فيها بشكل تصاعدي بارز.و أخذت تكثر الدراسات العلمية الوقائية التي ركزت على سبل الوقاية و دفع الأخطار في المجموعات الشاذة من دون نتيجة فعالة إلى الآن سوى النصح بتجنب و تفادي الأفعال الشاذة دفعا لأخطار العدوى و الانتقال الوبائي.

و تنقسم الأمراض في المجموعات الشاذة إلى نوعين:الأول جرثومي بحت،و الثاني نفسي متنوع و مختلط تشترك عوارضه و تختلط مع عوارض القسم الأول و تتطور أحيانا لتتسبّب بأمراض عضوية حادة و مزمنة في الجهازين العصبي و التنفسي خاصة.و تتشعب الأمراض الجرثومية إلى أنواع عديدة و مختلفة و تنقسم إلى أربع مجموعات كبيرة هي:

أولا:الفيروسات:كفيروس الإيدز HIV ،و ال HERPES ،و ال HPV و ال CMV .

ثانيا:البكتيريا:كال TREPONEMA (باكتيريا السفلس)، و ال NEISSERIA و ال MYCOPLASMA و ال CHLAMYDIA .

ثالثا:الطفيليات:كال TRICHOMONA و ال GIARDIA .

رابعا:الفطريات:كال CANDIDA .

أما الأمراض النفسية فتتصاعد و تتدرج من حال الكآبة و الاكتئاب النفسي إلى أحوال الانفصام الشخصي و الهوس و الميل إلى تعاطي مواد الإدمان و الميل إلى الانتحار،و تتسبب أيضا بخلل عصبي هام يمكن أن يؤدي إلى ضعف و وهن في جميع الأجهزة الحيوية.و يؤدي نقص المناعة و وهنها في الأشخاص المنتسبين إلى المجموعات الشاذة،إلى أورام خبيثة

ص: 98

في الجهاز أو النسيج اللمفاوي LYMPHOMA (كما لوحظ مؤخرا في مجموعات المنحرفين المصابين بمرض الإيدز حيث إنهم أصيبوا بأورام خبيثة جدا في الدماغ)و في الأنسجة الجلدية-في الأطراف السفلى- KAPOSY,S SARCOMA .

ثانيا:على الصعيدين الثقافي و الاجتماعي:

تنتشر الانحرافات الخلقية و العادات الشاذة في أوساط النخبة الثقافية و الفنية في الغرب.و يتغنى المنحرفون بوجود«رواد»لهم في أوساط الشعراء الكبار في أوروبا(كلوركا،رامبو،فيرلين،و أوسكار وايلد)و في أوساط الممثلين المشهورين(كروك هيدسون الذي توفي مؤخرا بسبب إصابته بالإيدز،و ايرول فلين)،و في أعضاء الحركات الموسيقية و الأدبية و الفنية بشكل عام.و كثيرا ما يلجأ المنحرفون إلى«روّادهم»و«عرّابيهم»في الأوساط العامة البارزة لكي ينظّموا معهم حملات دعم و تأييد و مطالبة بالحقوق و المساعدة(كالحملات التي أقيمت لجمع تبرعات لمرضى الإيدز) و تسبب هذه الأمور حالات من الإحراج و الاضطراب للحكومات و الأوساط التربوية و الكنسية،فالأطفال و المراهقون يستدرجون إلى الانحراف و الشذوذ عبر محاولة«الولاء و التقليد»و«المحاكاة»لهؤلاء المشهورين و المحبوبين لديهم،و كثيرا ما تتأثر الحركات الطلابية و الشبابية الداعية إلى التمرد و التغلب على التقاليد و العادات و الأطر العائلية و الاجتماعية،بهذه الانحرافات،معتقدة أنها بذلك تسعى لتحقيق أهدافها الثورية و«مقلدة» بعض أعلام الشعر و الفكر و الفن الغربي المعاصرين.

و تتنوع الآثار على الصعيد الاجتماعي،فمن الخلل و الاضطراب في الأطر العائلية إلى حالات التشرذم و التسكع و التسول و البطالة السلبية(حينما

ص: 99

يرفض الشاذون مجالات العمل،و يهيمون و ينتظمون ضمن مجموعات ضالة مضادة للمجتمع).و ينعكس ذلك سلبا على الأمن الاجتماعي فتزداد معدلات الجريمة و الأخص المنظمة منها،و تزداد أرقام معدلات الانتحار و التشرد و الإدمان.

ثالثا:على الصعيدين الاقتصادي و السياسي

تتأثر المؤشرات الاقتصادية بكل ما يزيد من معدلات البطالة و التشرد و التغيب عن أماكن العمل بسبب المرض أو غيره،و بنقص النشاط الجسدي و العقلي في مراكز العمل،و كل هذه من العوامل التي أشرنا إليها سابقا تتفاقم عبر السنين،و تزداد خطرا و شراسة(و خاصة بعد ظهور مرض الإيدز) في المجموعات المنحرفة و الشاذة.و قد بدأت الحكومات تأخذ بعين الاعتبار التخلص أو التخفيف من أعباء هذه الآثار لما تجلبه من ويلات على الصعيدين العام و الخاص على الخزينة الحكومية و الميزانية العامة(و خاصة ميزانية الشئون الاجتماعية و الصحة و الضمان الصحي و العمل و شئون العاطلين عنه).و لأجل ذلك،بدأت تقوم بحملات وقائية و إرشادية صحية و اجتماعية صارت تختلف معاييرها من دولة إلى دولة،و من حزب حاكم إلى حزب حاكم آخر،بظل المعتقدات و المبادئ الأخلاقية فيها(يسارية كانت أم يمينية)و العلاقة مع الكنيسة(سلبية كانت أم إيجابية).

و لكن،و بالوقت نفسه،بدأت هذه الحكومات و عبر أحزابها الحاكمة بالتأثر و الاهتمام بالقوة الانتخابية لهذه المجموعات،و أخذت تهتم أكثر فأكثر بمطالبها،و صارت تسعى لإرضائها بإدراج«حقوقها»في برامجها الانتخابية، و بضمّ«مرشحيها»إلى لوائحها،مما أحدث خللا و تضاربا في الأهداف الصحية و الاجتماعية من جهة،و المصالح السياسية من جهة أخرى.

ص: 100

و هكذا نرى كيف أن المعايير التي يعتمدها الغرب في مواجهة مشاكله الداخلية و الخارجية،تؤدي به في كثير من الأحيان و على المدى البعيد إلى مواجهة مشاكل جديدة أعمق و أعظم بكثير من سابقاتها،التي اعتقد بأنه قادر على التغلب عليها.فمعايير المصلحة السياسية الآنية و الجدوى الاقتصادية الذاتية و اتباع الهوى و الدوافع الخاصة و حبّ الاستعمار و التسلط و التحكم و التزام مبدأ«الغاية تبرر الوسيلة»،و عدم التزام أي مبدأ أخلاقي و معنوي و روحي سام،كل ذلك أدى إلى تحطيم الأسس الاجتماعية الهشّة التي يحاول الغرب دائما أمام الآخرين إظهار صورة لها مغايرة للواقع و الحقيقة.

أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللّهِ وَ رِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَ اللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ (109)[التوبة:109].

ص: 101

ص: 102

المحور الرابع: إضاءات على الإعجاز العلمي في المقادير و الآجال

اشارة

-الوراثة و أسرارها؛ -موت الخلايا المبرمج أو الأجل المسمى.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ الرعد:8 قَدْ جَعَلَ اللّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً الطلاق:3 يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ(6) اَلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوّاكَ فَعَدَلَكَ(7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8) الانفطار 6،7،8 ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلاّ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى الأحقاف:3

ص: 103

ص: 104

الوارثة و أسرارها

تضج المحافل و الأوساط العلمية و الإعلامية-في الوقت الحاضر- بالحديث عن الاستكشاف و الاكتشافات العلميّة الحديثة في عالم الوراثة.

فقد فاجأنا العلم الحديث بمبادئ و نظريات و أسس جديدة لما يمكن أن يمهّد لقنبلة وراثية أو جينيّة هائلة،ستغيّر الكثير من حقائق العلم الحديث و معالمه،و ستؤدي إلى الكثير من النتائج و الانعكاسات الكبيرة و الحاسمة على جميع الصعد العلمية و الاجتماعية و الاقتصادية.و من أهم هذه النظريات الجديدة،الاستنساخ و نظرية الخارطة أو المخزون الجيني.و بدأت المحافل السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية الاهتمام بشكل جدّي بنتائج و انعكاسات الاكتشافات الجديدة،و بدأت تتعاطى معها على أساس أنها واحدة من معالم المستقبل القريب،و أنها إحدى أسلحة الدولة الحديثة و المتقدمة على صعيد التطوّر العلمي و الاجتماعي و الاقتصادي.و بدأ يحتدم النقاش حول إيجابيّات و سلبيّات هذه الأسلحة،و المحاذير الأخلاقية في تطبيقها،و المخاوف من أخطار اجتماعية و بيئية و سياسية آتية،إن طبّقت هذه النظريات الجديدة بشكل غير مدروس و مقنّن.و صارت كل الأوساط المهتمّة بالأمر تستقرئ الكوارث القادمة التي يمكن أن تهزّ المجتمعات البشرية بسبب سوء استخدام تلك النظريات،كالتفرقة العنصرية و الإنجاب تحت الطلب،و إنشاء«نماذج»عضوية أو جسميّة بشرية مشوّهة،أو لأغراض تجارية أو عسكرية أو سياسية خبيثة.

ص: 105

و سنحاول قدر الإمكان الدخول شيئا فشيئا إلى عالم الوراثة و أسراره المتعددة،لنفهم ما يحصل و ما يمكن أن يحصل في مجالات الاكتشاف العلمي و تطبيقاته و مبادئه و نظرياته المختلفة و المتشابكة،علّنا نفكّ بعض الرموز المعقدة و نسهّل الوصول إلى فهم مبسط لأسرار الوراثة و مبادئها المعقدة.

الخلايا و الكروموسومات و الجينات:

لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)[التين:4].

خلق اللّه الإنسان في أحسن تقويم،و جعل في بدنه عدة أجهزة متراصة متشابكة مترابطة،منها،الجهاز العصبي و التنفسي و الهضمي و الغددي و اللمفاوي و العضلي و العظمي.و هي بدورها تتألف من عدة أعضاء أساسية و أعضاء أصغر جانبيّة،و زوائد و حواجز و سواند و فواصل و صلات وصل.تشكّل هذه الأعضاء مجموعة أنسجة متراصة و متماسكة، لها أدوار وظيفية متعددة و متخصصة،منها ما هو متعلق بالعضو نفسه و وظيفته،و منها ما هو متعلق بحماية العضو و مساندته و الدفاع عن وظائفه.

تتألف هذه الأنسجة من بلايين الخلايا بأنواع متعددة و مختلفة و متنوعة،حسب الوظيفة الخاصة و العامة،و حسب المراحل المتعددة التي تمرّ بها،و حسب الظروف العادية أو الطارئة المحيطة بها.و هذه الخلايا مقدرة تقديرا بارعا،إذ أنها تختلف بعضها عن بعض في التركيب و الوظيفة، و تعيش و تموت،ثم يتمّ تعويضها حسب الحاجات و الظروف و الأحوال.

وَ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ [الرعد:8] قَدْ جَعَلَ اللّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً [الطلاق:3].

ص: 106

تعمل الخلايا بنظام بديع فيه من الإعجاز و الإبداع و البراعة ما يحيّر عقول ذوي الألباب،إذ تتألف كل خلية من قسمين رئيسيين،هما:النواة، أو مركز المعلومات و الإدارة،و اللبّ،أو السيتوبلازم،و تسبح فيه مجموعة من الأنظمة و الأجهزة الدقيقة الشديدة الإتقان،منها الميتوكوندريات،و هي مصانع الطاقة،و معقد غولجي،و هو مركز التجميع،و الأجسام الحالة (لايسوسومات )و هي وحدات التنظيف،و الشبكة الأندوبلازمية أو مراكز تصنيع البروتينيات.

توجد في النواة معظم الأسرار الوراثية التي دأب العلماء و الباحثون على محاولة استكشافها و كشف بواطنها و علائقها و ميزاتها.و ما زالت الأبحاث و الدراسات إلى الآن،تطرق باب هذه النواة بجميع الوسائل المتاحة لاستجلاء أجهزتها و محتوياتها و نظمها المعقدة و المركبة تركيبا بديعا،فيها من الإتقان ما يعجز اللسان عن وصف ما اكتشف منها إلى الآن في عصرنا الحاضر،و هو القليل القليل مما يراهن على اكتشافه العلماء من آفاق،في العصور القادمة.

تكمن أهمية النواة في أنها-بالإضافة إلى كونها مركز إدارة أعمال الخلية، و أنها المسيطرة على كل أعمال الخلية و فعالياتها-تحتوي على النسخة الأصلية أو«الشيفرة»السرية للمعلومات الحيوية المتوارثة من الآباء و الأجداد.

تتركب النواة من خيوط طويلة و دقيقة و معقدة تسمّى «الكروموسومات»،تتركب بدورها من أحماض نووية تنتظم و تتشكل عبر تشكيلات و جزئيات و وحدات تتكرر بشكل منتظم و هندسي بديع،يؤدي إلى نشوء مجمّعات من الوحدات المتكررة و المتسلسلة و المرتبطة هندسيا بعضها ببعض،تدعى الجينات،التي بدورها تعتبر الوحدة السرية الخاصة بتحديد الصفات و المزايا الوراثية،و نقلها.

ص: 107

كل خلية من خلايا الجسم البشري تحتوي على عدد محدّد من الكروموسومات هو ستة و أربعون أو ثلاثة و عشرون زوجا،إلاّ الخلايا التناسلية(الحيامن و البويضات)،فهي تحتوي على النصف أي على ثلاثة و عشرين فردا فقط.

تنتظم الكروموسومات داخل النواة على شكل أزواج متقابلة و متماثلة،يأتي فرد من هذه الأزواج من جهة الأب و يأتي الفرد الآخر من جهة الأم،و يوجد في كل خلية زوج خاص متميز من الكروموسومات المتخصصة،يعرف بكروموسوم الجنس،و هو المسئول عن تحديد الجنس.هذا الزوج المتميّز و الفريد يحتوي عند الأنثى على فردين متشابهين مثيلين هما«س س»(أو باللاتينية xx ).أما في الذكر فيختلف الفردان ليصبحا«س ص»(أو باللاتينية yx ).و هكذا نلحظ أن جنس الوليد يحدّده نوع الحيمن المخصب للبويضة،فهو إما يكون«س»و يخصب بويضة(بالضرورة س)فيأتي الوليد أنثى(س س)،و إما يكون ذكرا(ص)، و يخصب بويضة(بالضرورة س)،و يأتي الوليد ذكرا(س ص)،لأنه كما سبق و ذكرنا،كل بويضة تحتوي على نصف المجموعة الكروموسومية،أي على الكروموسوم«س»،بالإضافة إلى الاثنين و العشرين كروموسوما جسميا،بينما تكون الحيامن على نوعين،إما«س»،أو«ص»،بالإضافة إلى الاثنين و العشرين كروموسوما جسميا.

و من هنا يبرز الإعجاز القرآني العظيم الذي علق عليه الكثير من العلماء و الأطباء المسلمين و غير المسلمين،في الآية السابعة و الثلاثين و ما بعدها من سورة القيامة،و التي وردت فيها إشارة لطيفة في مسئولية الذكر في تحديد جنس الوليد.

ص: 108

أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى(37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى(38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى (39)[القيامة:37،38،39].

فالإعجاز يكمن في عبارتين،مني يمني،المتعلقة على أكثر الأحوال و التفاسير بالذكورة،فجعل منه،المشيرة بشكل واضح إلى مسئولية الذكر في تحديد النسل ذكرا أم أنثى.

يتميّز كل كروموسوم عن آخر بواسطة الحجم أو الشكل،و اعتمدت بعض التقنيات الحديثة في علم الخلايا الوراثي،على هذه الميزة لتحاول كشف هذا الاختلاف الخاص و التغيرات الدقيقة و الواضحة من كروموسوم إلى آخر،و لتقدر على رصد كل تغيير ثابت مرتبط بتشوه خلقي معين أو مرض معين أو أورام سرطانية محددة.و هنا يكمن السر الجديد الذي اعتمد العلماء المعاصرون في كشفه عن نظرية الهوية أو الخريطة أو المخزون الجيني،بحيث أنهم عبر تشخيص التغيّرات الحاصلة في الوحدات المتكررة أو المكونة من أربعة عناصر من البروتينيات:

1-الأدينين A)Adenine( ؛ 2-السيتوزين C)Cytosine( ؛ 3-الغوانين G)Guanine( ؛ 4-التايمين T)Thymine( .

يستطيعون تحديد أمراض معينة و التعرّف إلى الأشخاص المعرّضين لها في المستقبل،و من ثم مقاومتها أو الوقاية منها.

ص: 109

القوانين و المبادئ و النظم الوراثية:

وضع المولى العزيز في الكون و في المخلوقات قوانين و مبادئ و نظم شديدة الدقة،و متناهية الكمال،جعلها آيات باهرة و هادية لجميع أبناء البشر،و في جميع الآفاق المحيطة بهم،و في جميع الأشياء الكائنة معهم، و في بواطن أنفسهم.و قد أمر الخالق تعالى الإنسان بالرؤية و المشاهدة و التأمّل و التبصّر و الاعتبار أمام كل شيء في هذا الكون،و حثّه على السّير في الآفاق و الأعماق و البواطن،مستهديا مستنيرا متقصّيا عن كل صغيرة و كبيرة في الأشياء و قوانينها و نظمها الدقيقة المذهلة،و وعده بأن يكشف له كل الحقائق و الأسرار الدفينة إذا سار في هذا الطريق و سعى له، سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ ،و أعانه على تحقيق بعض الاكتشافات التي فتحت له آفاقا جديدة في مجال العلم و البحث و المعرفة.و من هذه القوانين و المبادئ و النظم الكونية الدقيقة،تعرّف الإنسان إلى بعض من قوانين الوراثة الباهرة،التي أعانته على تطبيق بعض النظريات في مجالات عدة.

و لدقة هذه المبادئ المتناهية التعقيد و صعوبتها و ترابطها،نكتفي بعرضها و استعراضها بطريقة مختصرة على الشكل التالي:

قانون تكاثر الخلايا:بعد مرحلة التلقيح،تجري سلسلة متعاقبة من الانقسامات تدعى بالانقسامات الخيطية،تستلم عبرها كلتا الخليتين الناتجتين،العدد الكروموسومي نفسه للخليّة الأصلية.و يتألف الانقسام الخيطي من أربع مراحل أو أطوار،هي:الطور التمهيدي،و الطور المتوسط،و طور الانفصال،و الطور النهائي.

أمّا الانقسام الاختزالي،فإنه يتضمن انقسامين متتاليين يتمّ فيهما اختزال العدد الزوجي الوراثي إلى عدد فردي وراثي عبر أطوار متتابعة تعاني خلالها النواة من تغيّرات مستمرة:

ص: 110

-الطور التمهيدي،و فيه عدة أطوار ثانوية،الطور القلادي،الطور التزاوجي،الطور الضامّ،الطور الانفراجي،الطور التشتتي؛ -الطور المتوسط؛ -الطور الانفصالي؛ -الطور النهائي.

قانون تصنيع البروتيين،أو مصادر الطاقة،الذي يمرّ بعدة مراحل هي:

-استنساخ المعلومات الوراثية بواسطة الحامض النووي الرسول(ر ن أ)أو( R.N.A )؛ -انتقال الرسول إلى الرايبوزومات أو مراكز التجميع لترجمة المعلومات المستنسخة؛ -إنجاز ترتيب سلسلة الأحماض الأمينية؛ -تشكيل الهيكل الأساس للبروتيين.

قانون تخزين المعلومات الوراثية:

تخزن كل معلومة وراثية على شكل ثلاث درجات متسلسلة من درجات السلم الحلزوني للحامض النووي(د.ن.أ أو D.N.A )،و يطلق عليها اسم«الشفرة الوراثية».و عند ما تحتاج الخلية إلى إنتاج مادة معينة يطلق الحامض النووي بداخل النواة مجموعة من التعليمات،و كأن في داخل النواة مجمّعا صناعيا متكاملا مبرمجا بشكل تلقائي عالي الدقة،و بمنتهى الذكاء و الإعجاز،و يحار المرء و يعجز لسانه و عقله و فكره عند ما يحاول فكّ

ص: 111

رموز هذا المعمل التكنولوجي الضخم الذي وضعه الخالق القدير في أصغر شيء في الوجود لا يمكن رؤيته إلا عبر مجهر إلكتروني عظيم ذي مقدرة تكبيرية عظيمة.

قانون وراثة الصفات:و فيه ثلاثة مبادئ و نظم مختلفة:

1-وراثة الصفات المتغلبة،عند ما نرث جينات أقوى من غيرها، تنتقل بقوة من جيل إلى جيل،ناقلة الصفات أو الأمراض؛ 2-وراثة الصفات المتنحّية،عند ما نرث جينات«عاطلة»أي ليس لها تأثير في الجسم،فهي مشوّهة لكنها تنتقل«متخفية»من جيل إلى آخر حتى تجتمع بشركاء لها من الزوج الآخر،فتسبب الخلل أو المرض في الوليد المشترك؛ 3-وراثة الصفات المرتبطة بالجنس،عند ما ينتقل الجين المشوه عبر الإناث ليصيب الذكور كمرض نزيف الدم الوراثي،فالمرأة تنقل المرض إلى أولادها الذكور ليصابوا به من دون أن تعاني هي منه(إلا في الحالات النادرة).

التطبيقات العلمية الحديثة في عالم الوراثة:

اكتشف الإنسان بعضا من أسرار هذا العلم الواسع الدفين في أصغر الأشياء على الإطلاق،و أخذ يطبق ما يكتشفه في مجالات الطب الحديث كالمناعة و أمراض الدم و الأمراض النسائية و التوليد و البحث التشخيصي للسرطان و غيرها.

و من أبرز الأبواب و المواضيع التي دخلها الإنسان في العصر الحديث معتمدا على بعض قوانين و مبادئ و أنظمة هي: صحة الوليد مرتبطة بشكل كامل بشروط محددة و أسبابا عديدة أهمها نعمة الرضاعة الطبيعية الحمل يقي من الكثير من الأمراض و أهمها أشرّ أنواع السرطان فتكا في النساء «الوجبات اليومية»للمتعاطين بالمخدرات تؤدي بهم إلى سبل الانحراف و السرقة و التفكك الاجتماعي و النفسي «المخدرات»سم قاتل و سلاح فتاك و إعلان بالانتحار البطيء الكحول آفة تحوّل الإنسان إلى مريض نفسي و عضوي و اجتماعي في آن واحد الانحرافات الجنسية مسئولة عن تفشي الأمراض الجرثومية الخطيرة كالأيدز تتنوع الأمراض الفيروسية و تتعدد في المجتمعات المصابة بالانحرافات الجنسية و الخلقية خليتان تتعرضان لأوامر داخلية بالموت خلايا تتعرض لأوامر داخلية بالانتحار المبرمج خلايا مصابة بعدوى فيروس تتعرض للانتحار لمنع تفاقم المرض نموذج لبعض الخلايا السرطانية السريعة الانتشار و التي تواجه من قبل الجسم بظاهرة الموت المبرمج خلية مصابة بفيروس قاتل يعبث بنواتها و يسبب لها الموت خلايا مصابة بتأثيرات سرطانية تحاول ضبط انتشارها عبر الموت المبرمج التطبيقات العلمية الحديثة في علم الوراثة تحمل في طياتها خطرا داهما يمكن أن يؤدي إلى جنس بشري مهندس وراثيا ال«د.ن.أ»سر من أسرار عوالم الانسان الدقيقة و حامل لرموز و معلومات حيوية نواة الخلية تحتوي على عوالم وراثية عظمية الأسرار كشف العلم بعضها و البعض الآخر طي الاستكشاف و التحليل ال«د.ن.أ»أو الحمض النووي الديوكسي الريبوزي سلسلة مذهلة فيها من الأسرار ما يذهل و يحير العقول التناغم و الترابط و التناسق عوامل مهمة في تشكيل و عمل الحمض النووي ال«د.ن.أ»الحمض النووي حامل الشفرات الوراثية

ص: 112

-المعالجة الكيميائية للجينات أو الهندسة الوراثية،حيث تمكن العلماء من نقل قطع من مواد وراثية معينة،إلى عناصر بكتيرية و زرعها و تحقيق مضاعفتها و تكاثرها،لصنع و إنتاج بروتينيات معينة كالهرمونات و المضادات الحيوية و اللقاحات؛ -علم تحسين الأنواع،حيث تمكن العلماء من زراعة نبات كامل من خلية خضرية واحدة بعد زراعتها في وسط غذائي اصطناعي ملائم؛ -التلقيح الاصطناعي أو أطفال الأنابيب،حيث تمكن العلماء من تخصيب بويضة الأم في أنبوبة اختبار،و من ثم زراعة بويضة الأم المخصّبة في رحمها،لتنمو بعدها و تصبح جنينا؛ -الاستنساخ،حيث تمكن الباحثون من إنتاج نماذج و عينات من الأجناس الحيوانية عبر استنساخ جينات وراثية لفصيلة حيوانية معينة و محددة بهدف إنتاج فصائل متكاملة و متشابهة تفي بالأغراض الاستهلاكية(ككثرة الشحوم و اللحوم و غزارة الحليب في الحيوان المستنسخ)؛ -الخارطة الجينية،حيث تمكن الباحثون من رصد التغيّرات الحاصلة في الجينات الوراثية و المرتبطة ببعض الأمراض و العاهات،إذ تمكنوا من تأليف خارطة جينية،فيها كل الدلائل و البينات و الإشارات لجميع الأمراض،كالسرطان و التشوّهات الخلقية و أمراض الغدد و غيرها،و ذلك بهدف الوقاية المبكرة و المعالجة الفعالة و إصلاح الخلل قبل انطلاق المرض و تفاقمه.

ص: 113

المحاذير الأخلاقية و الاجتماعية و المخاطر المحتملة لسوء استخدام و استغلال

هذه التطبيقات:

عهد الخالق القدير إلى الإنسان الأمانة،و حثّه على الاستزادة من المعرفة و التبحّر في دراسة الأشياء التي وضع فيها آياته الباهرة و دلائل إعجازه،و أمره بالتعرّف إلى نفسه و إلى ما يحيط به من موجودات و كائنات ليستشفّ منها النظم الخلاقة البديعة،و القوانين و الأسباب الظاهرة و الخفية، و المبادئ و الأسس التي وضعت و جبلت و عملت عليها الأشياء،بهدف الوصول إلى اليقين و السعادة و الكمال.كل ذلك مع تذكيره دوما بالأمانة و الوفاء و حفظ العهد و مسئوليته في ذلك،و الحفاظ على الموجودات و الكائنات و احترام وجودها و عدم العبث بقوانينها و نظمها.فحينما يبدأ الإنسان بعد اكتشافه سرا عظيما أو كنزا دفينا،بالتفريط به و العبث بموجوداته و استغلاله في أمور غير محسوبة،أو ذات نوايا سيئة،حتما ستنقلب القوانين عليه،و تحل عليه اللعنة،و يخسر كل شيء.فكما حصل للإنسان بعد اكتشافه السرّ النووي و استخدامه في تدمير الآخرين و سوء استغلاله في الصناعات و التكنولوجيا،و تسبّبه بكوارث كثيرة مميتة،حدثت و ما زالت تحدث بسبب الإشعاعات النووية،يمكن للإنسان أن يواجه كوارث أعظم و أعمّ،إذا أساء استغلال القوانين الوراثية،و أخذ عن جهل أو عن سوء نية في استغلالها،في صنع أسلحة جرثومية فتاكة،أو في إنتاج «جيوش»من جنس بشري«مهندس»وراثيا على أساس عنصري خبيث،أو في إنشاء موجودات أو كائنات مشوّهة لمجرد اللعب و العبث و إثراء الخيال، كدمج المخلوقات بعضها ببعض،أو اقتطاع أجزاء منها أو تجميعها في كائنات مشوّهة و غير طبيعية.

ص: 114

و من المعروف أيضا،و من الثابت تاريخيا،أن هنالك علماء سوء و أنظمة سوء و شركات سوء،يمكن أن تبدأ(و من الممكن أن تكون قد بدأت فعلا)في استغلال هذه القوانين البديعة،و الأسرار المبهرة،و الآيات الرائعة في تحقيق أهدافها الخبيثة،عسكرية كانت أم سياسية،استهلاكية أم اقتصادية،و الكارثة القادمة،إذا حصل فعلا الاستغلال الخبيث،لن تكون جانبية أو ثانوية،و نتائج الإفساد لن تكون مرحلية،بل ستعمّ الطامّة الجميع لأن الضرر و التدمير و الفتك سيشمل الكلّ،و لن توفر نتائجه أحدا.

يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ(6) اَلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوّاكَ فَعَدَلَكَ(7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ(8) [الانفطار:6،7،8].

قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ(17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ(18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ(19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ(20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ(21) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ(22) كَلاّ لَمّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23)[عبس:من 17 إلى 23].

ص: 115

ص: 116

موت الخلايا المبرمج أو الأجل المسمى

مقدمة:

شهدت الأوساط العلمية مؤخرا اهتماما متزايدا باكتشاف علمي بارز طغى على معظم المؤتمرات العلمية المتخصصة خاصة في علوم الخلايا و البيولوجيا الجزيئية و الأورام و الباتولوجيا و الأجنة و غيرها من العلوم الدقيقة.و قد لاقت الأبحاث المقدمة حول الموضوع رواجا متزايدا لما طرحته من نظريات و شروح و مفاهيم مفترضة تتناول أمورا شديدة الأهمية، كتشخيص و علاج الأورام أو سبر أغوار العوالم الفسيولوجية لمراحل تشكل الجنين و أسباب الشيخوخة و عمل أجهزة المناعة و الغدد و الهرمونات و غيرها من العوامل الأساسية في حياة الإنسان.

تعريف:

انطلاقا من المبدأ العلمي المشهور القائل بأن لكل خلية وقتا محددا لحياتها و وقتا محددا لمماتها،فإن المعروف علميا و حتى وقتنا الحالي أن الخلايا تموت بعد تعرضها لعاملين محددين:

أولا:تلقي ضربات خارجية أو عوامل ضارة تقتل الخلية؛ ثانيا:تلقي أوامر داخلية بالموت أو بالانتحار المبرمج.

ص: 117

تواجه الخلية الموت في هاتين الحالتين بشكل مختلف تماما و بطريقة مغايرة جدا،ففي الحالة الأولى تمر الخلية بتغيرات تتضخم فيها شيئا فشيئا حتى تنفجر و يتسبب انفجارها بجر خلايا المناعة الآكلة إلى مكان تواجدها و القضاء عليها و على بقاياها.

أما في الحالة الثانية و هي الأكثر غرابة و دقة و إعجازا،يصغر حجم الخلية بشكل بارز و تتراكم مكونات نواتها على بعضها البعض،ثم تظهر فيها شقوق تتحول إلى أجسام صغيرة ميتة مبعثرة لا تشد إليها خلايا المناعة لتتولى القضاء عليها كما في الحالة الأولى بل تقوم هي بإماتة نفسها أو بما يصفه الباحثون بالانتحار المبرمج للخلايا.

أسباب موت الخلايا المبرمج:

تحدث ظاهرة الموت الخلوي المبرمج في كثير من الحالات و الأوضاع الحساسة التي يحتاج فيها الجسم إلى تغيرات كبيرة و حاسمة في النمو العضوي أو في عمل الأنسجة و عمليات الأجهزة الدقيقة،إما لإحداث تسريع أو تكثيف في عملها و إما لإحداث تراجع أو ضمور فيها حسب ما تستدعيه الظروف و الأوضاع.

تتجلى ظاهرة الموت الخلوي المبرمج بكل مظاهرها المتعددة في مشاهد متنوعة و مختلفة،تتعدد فيها الأسباب من حالة إلى حالة و من ظرف إلى ظرف حتى تتحقق الأهداف الكامنة من ورائها،و أكثر ما يبرز فيه عمل الظاهرة و أسبابها و أهدافها هو في الأمور و الظروف التالية:

-إزالة الأنسجة و الخلايا الزائدة في أطراف و أعضاء الجنين لإعطائها الشكل النهائي المعروف،كاندثار الأنسجة و الخلايا الزائدة بين أصابع

ص: 118

اليدين و الرجلين عند الجنين قبل ظهور شكلها المعروف و أعدادها الخماسية النهائية؛ -إزالة الأنسجة التابعة لغشاء بطانة الرحم الداخلية عند وصول المرأة البالغة إلى مرحلة الطمث من الدورة الشهرية؛ -إزالة الحواجز الناشئة عن وجود خلايا زائدة بين الخلايا العصبية في الدماغ لتسهيل عمليات الاتصال فيما بينها؛ -تحفيز ضمور الغدد الثديية عند الأم المرضع بعد بلوغ مرحلة الفطام و الحاجة لعودة الأنسجة لحالتها الأولى و حجمها الطبيعي؛ -ظاهرة الموت المبرمج أو الانتحار الخلوي الذي يصيب أحيانا الخلايا السرطانية في بعض حالات الأورام؛ -إصدار الأوامر الداخلية بالانتحار أو الموت المبرمج لخلايا المناعة بعد تأدية مهماتها الوظيفية أو لمنع بعضها البعض من مهاجمة أجهزة و أنسجة الجسم الداخلية؛ -الإسهام في ضبط عمليات تسريع تكاثر الخلايا في الأنسجة حسب الظروف و الحاجيات و حسب تطلبات الجسم،خاصة في المناطق الخاضعة لسيطرة الهرمونات؛ -ظاهرة انتحار الخلايا المصابة ببعض أنواع التلوث الفيروسي و ذلك للحد من انتشار المرض؛ -موت الخلايا المصابة بآثار رفض الأنسجة المزروعة و ذلك لمنع التلف الناتج عن انتشارها؛

ص: 119

-موت بعض أنواع الخلايا المصابة بتأثيرات مرضية معينة كالتأثيرات السرطانية و ذلك بعد تعرضها لبعض الإشعاعات أو الأدوية الخاصة أو بعض درجات الحرارة؛ -موت الخلايا المصابة بأعطال أو أضرار في أحماضها النووية لتفادي حصول تشوهات خلقية و تكاثر سرطاني.

السؤال الكبير:

الحري بنا و بعد وصف هذه الظاهرة ببعض من جوانبها و أشكالها و مهماتها و أهدافها المعروفة و المكتشفة حتى الآن أن نسأل و بشكل بديهي عن المسئول الأول عن وضع هذه البرامج العجيبة داخل كل خلية لتصدر لها الأمر بالموت أو الانتحار عند حصول أي طارئ و حسب الظروف الملائمة التي تقتضي ذلك.

من الذي أبدع خلق هذه البرامج و وضع الخطط المناسبة لها و لمحيطها،و المهمات الملائمة للظروف و الأحوال،و الأهداف المعقدة الشديدة التعقيد بجميع أشكالها المتعددة و المختلفة؟ من الذي وضع هذه البرامج الدقيقة و المتنوعة في كل خلية على صغر حجمها المتناهي في الصغر،و عظم عددها المتناهي في الكبر،و على تنوع مشاربها و اختلاف وظائفها و تعدد طرق توزيعها و تكاثرها و انتشارها؟ من هو المهندس الأعظم الذي صمم و صنع و نظم و نسق هذه البرامج لتكون في كل خلية،و جعل لها وقتا معلوما و هدفا معلوما و ظرفا معلوما و سببا معلوما و أجلا مسمى تماما كما هو الأجل المسمى الذي وضعه الخالق البديع لكل شيء خلقه،صغيرا كان في الكون كالإنسان،عظيما كان في الكون كالسماوات و الأرض و ما بينهما؟

ص: 120

قال اللّه العزيز القدير في كتابه الكريم:

أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلاّ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ [الروم:8].

ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلاّ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى وَ الَّذِينَ كَفَرُوا عَمّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ [الأحقاف:3].

اَللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ [الرعد:2].

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفّى مِنْ قَبْلُ وَ لِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67)[غافر:67].

و هكذا تتجلى العظمة الإلهية بكل أبعادها المتناهية في الإبداع و الدقة و الإعجاز و الجمال في أصغر الأشياء حجما و دورا و وظيفة،كما هي متجلية في أعظم المخلوقات اتساعا و قوة و علوا،و بنفس النوعية في الهدف و الصورة و الصيرورة،و بنفس الشكل في البهاء و الإتقان و القدرة.

و كأنما الخالق العظيم المتعال يريد من مخلوقه السفلي الضعيف،هذا الإنسان الذي كرمه بالعقل و بالتعقل أن ينتبه لحكمته تعالى في الخلق، و يتأمل في طريقته في الخلق،و يتفكر في إبداعه المعجز،و يعقل الأهداف الكامنة وراء ذلك،و يوقن به،و يشهد له بالربوبية كما تشهد له جميع الأشياء و كل سلسلة المخلوقات بذلك،من أسفلها إلى أعلاها،و من أولها إلى آخرها،و من أصغرها إلى أكبرها.

ص: 121

ص: 122

الخاتمة:

اشارة

إضاءات على الإعجاز العلمي

في علاقة الإنسان بالكون

-الحركة الكونية للإنسان..في الحج؛ -النظر و التفكر في المشهد الكوني.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ النور:41 بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَ الْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ آل عمران:18 بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ آل عمران:190

ص: 123

ص: 124

الحركة الكونية للإنسان..في الحج

لو تسنى للإنسان يوما ما أن ينفذ من أقطار السماوات و الأرض و يصل إلى مكان يستطيع منه مراقبة الكون المتسع بانتظام و رصد حركته العجيبة في أصغر مكوناته حجما و في أكبرها مساحة؛لذهل عقله لشدة التناسق و دقة التناغم،و انفرط لبه لعظمة الإبداع و الترابط و الإعجاز.

فالكون كل الكون بكل أجزائه و مكوناته و أطيافه يتحرك في أفلاك دائرية بالاتجاه نفسه من يسار ليمين أو عكس عقارب الساعة بانتظام موزون و بسرعة غير مضطربة تفاجئ المتأملين في حركة الإلكترونات حول النواة، و تدهش الباحثين في حركة المجرات حول بعضها البعض و في الاتجاه نفسه.و لو تسنى للإنسان في موسم الحج أن يرصد حركة الطائفين حول الكعبة المشرفة و يستشرف السماوات من حول الأرض ليرقب حركة الشمس و القمر و حركة الكواكب و النجوم و حركة المنظومات و المجرات لوقع بصره على أعظم مشهد كوني و أجمل سر تكويني مكتشف إلى الآن.

يطوف الحاج حول الكعبة المشرفة في أشواطه السبعة و عكس عقارب الساعة بكل جوارحه و أعضائه و حواسه و مشاعره و بكل خلاياه و جزيئياته و ذراته و مكنوناته.و لو تسنى لهذا الحاج أن يستشعر ما يجري من حوله و من فوقه و من تحته على الأرض التي يطوف فيها و في السماوات التي تحيط به لأدرك سرا من أسرار عبادته المتناغمة و المترابطة مع حركة الكون

ص: 125

كله من أصغر مكوناته إلى أعظم مجراته.ففي أصغر الأشياء حجما و أدقها إنشاء تدور الإلكترونات حول نواة الذرة في سبع مدارات و عكس عقارب الساعة،و تدور الأرض بكل ما فيها من يابسة و بحار و جبال و طبقات و غلاف جوي حول نفسها و حول الشمس في حركة دائرية و عكس عقارب الساعة.

و لو تمكن الحاج في أشواط طوافه السبعة و عكس عقارب الساعة من إدراك ما يجري من حوله في السماء الدنيا لوجد أن القمر أيضا يدور حول الأرض و حول نفسه و حول الشمس بأطواره السبعة و بالاتجاه نفسه،كما تدور الكواكب السيارة حول نفسها و حول الشمس و بالاتجاه ذاته،و تدور الشمس حول نفسها و بنفس الاتجاه أيضا،و كذلك نجوم المجرة و كذلك المجرة نفسها و كذلك المجرات كلها....و لاكتشف أخيرا أن الكون من حوله يدور معه و يطوف و يسبح في أفلاك دائرية و بالاتجاه نفسه من يسار إلى يمين و في نفس الوقت بأقصى تناغم و انسجام و أجمل ترابط و ائتلاف.

لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَ لاَ اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)[يس:40].

الإعجاز العلمي للطواف:

الطواف حركة دائرية متوازنة و مرتبطة بمحور وسطي بالغ الأهمية يشد الطائف حوله بقوة جاذبة هادئة متزنة،و يفرض عليه مشاعر الهيبة و الاحترام ممزوجة بمشاعر الرجاء و الطمأنينة.فالطائف حول الكعبة المشرفة يشعر في أعماق نفسه بالانشداد القوي لما هو على يساره من مكان مشرف عامر بالقداسة و الآيات البينات،و يستشعر الهيبة و الخشوع و السلام و ينغمر في جو من الطمأنينة الخالصة تنسيه كل آلامه و همومه و أحزانه.

ص: 126

و هكذا بالإضافة إلى كل ما يعرف إلى الآن عن المؤثرات الدينية و التاريخية و البيئية و الاجتماعية و العلمية البالغة الأهمية للمكان(كتوسط مكة المكرمة لليابسة على الكرة الأرضية،و وقوعها على خط الطول الحقيقي أو الأساس الذي يقسم العالم إلى قسمين متماثلين)التي تضفي عليه و على الطائفين فيه هالات عظيمة من الأمن و الأمان و السلام و السعادة الروحية و الاستقرار،تأتي ظاهرة الحركة الدائرية للكون الحديثة الاكتشاف لتعطي بعدا واسعا آخر لهذه العبادة المتناغمة مع الأفلاك،يجعلها على مستوى من الإعجاز العلمي تحار فيه العقول و الألباب و تفتح أمام الإنسان المتعبد آفاقا لا حدود لها من السعادة و اليقين.

لم يعرف الإنسان قبل هذا الاكتشاف نشاطا عباديا كالطواف،يمنحه إمكانية التآلف و الانسجام المطلق مع حركة الكون و يعطيه القدرة على محاكاة ما عرف حتى الآن من السنن الكونية و أعظمها جمالا و سحرا و إعجازا.و لذلك و رغم ضآلة حجم الإنسان و صغر أبعاده الدنيوية أمام أبعاد الكون المديدة و أحجامه اللامتناهية ينتقل هذا المخلوق البشري الضعيف بواسطة هذه العبادة العظيمة إلى أرفع مستويات المعرفة الكونية فيتناغم مع كل أجزاء هذا الكون الرحب ليشهد على أن خالقه و خالق كل هذا الكون من أصغر أجزائه إلى أكبرها......هو ذاته تعالى واحد أحد صمد.

الإعجاز العلمي للعدد سبعة:

يتكرر ذكر العدد سبعة في معظم المراحل الأساسية من عبادة الحج، كأشواط الطواف السبع و أشواط السعي السبع و الحصيات السبع في المرات السبع من رمي الجمار،كما يتكرر العدد نفسه في الكثير من المفاهيم العبادية و الآيات القرآنية و السماوات السبع و الأرضين السبع و المثاني السبع

ص: 127

و المسبحات السبع و مواضع السجود السبع.و المعجز في الأمر أن العدد نفسه يتواجد و يتكرر في كثير من مفاصل الحياة و الخلق و العالم و الكون بشكل عام و من أصغر مستوى في الخلق إلى أعلى مستويات الوجود.

فالمدارات التي تستعملها الإلكترونات للدوران حول نواة الذرة سبعة، و ألوان الضوء الأبيض سبعة و إشعاعات الضوء غير المرئي سبعة.و أنواع الموجات الكونية الكهرومغناطيسية سبعة و أيام الأسبوع سبعة.أما الكرة الأرضية فإنها تكون من سبع طبقات و سبع قارات و سبع محيطات و فيها سبع معادن رئيسية و لغلافها الجوي الخارجي سبع طبقات و يمر القمر في سبع مراحل أو أطوار و للنجوم سبعة أنواع.

و هكذا يقف الإنسان بمؤلفاته الجسمية السبعة(الذرة،الجزيء، الجين،الكروموسوم،الخلية،النسيج،العضو)و بأطواره الجنينية السبعة (السلالة،النطفة،العلقة،المضغة،خلق العظام،كسو اللحم،الخلق الآخر)و بمراحله أو أحواله السبعة(الجنين،الطفل،الشاب،الكهل، الشيخ،الميت،المبعوث)ليتأمل في خلقه و في خلق الكون من حوله، فيكتشف الأسرار و السنن و القوانين و الأنماط التي لا تدل إلا على حقيقة مطلقة واحدة هي وحدانية الخالق و إبداعه المعجز في كل الصعد و على كل المستويات.

الإعجاز العلمي لمكة و الكعبة المشرفة:

تقع مكة المكرمة،كما أثبت العلماء الجيولوجيون و الجغرافيون المسلمون المعاصرون،في وسط اليابسة على سطح الكرة الأرضية كما تقع على خط الطول الأساسي أو الحقيقي الذي يقسم العالم إلى قسمين متماثلين.و تتميز أيضا بحرارتها الأرضية العالية و صخورها البركانية القادرة

ص: 128

على امتصاص الصدمات و الزلازل.كما تتواجد فيها آيات و ظواهر و ميزات مختلفة و فريدة يصعب حصرها و يصعب فهم دلالاتها الكاملة لإعجازها الكامن في أبعادها المتعددة.و على سبيل المثال لا الحصر نذكر هنا الموقع المتميز و الفريد للكعبة المشرفة حيث تقع الأركان الأربعة في الاتجاهات الأصلية تماما و بدقة فائقة(الركن الشمالي في الشمال،و الركن الجنوبي في الجنوب،و الركن الشرقي في الشرق حيث تسطع الشمس على الحجر الأسود،و الركن الغربي في الغرب)،و حركة الطيور حولها و عدم اعتلائها لها،و مقام إبراهيم عليه السّلام الذي انغرزت فيه قدماه في صخر أصم شديد القسوة،و الخصائص الشفائية و البيولوجية العجيبة لبئر زمزم الفريدة و المستديمة منذ القدم و رغم مرور آلاف السنين.و أخيرا و ليس بآخر ظاهرة الحجر الأسود و طبيعته النيزكية الفريدة.

و هكذا تجتمع هذه الظواهر الإعجازية،ما نعرفه منها و ما لا نعرفه، و ما نراه فيها و ما لا نراه،لتلتقي جميعا مع حركة الإنسان العبادية في الحج و مع حركة الكون التوحيدية،و تشهد مع بعضها البعض و في كل بعد من أبعادها المتعددة المهام و الوظائف،و في نفس الوقت و بكل تناغم و تآلف و ترابط،على أن خالقها و خالق ما حولها و ما قبلها و ما بعدها هو الذي جعلها على هذا النمط من الإعجاز و الجمال و الفرادة لتسبح كل الأشياء من حولها بحمده تعالى و تشكر له.

ص: 129

ص: 130

النظر و التفكر في المشهد الكوني...

جسر العبور إلى الحقيقة

خلق اللّه-جل و علا-الإنسان و جعله عاقلا ناطقا مدركا و منحه القدرة على تحسس الأشياء و مراقبتها و تدبر تفاعلاتها و أسبابها و علائقها،مستجيبا لنداء داخلي فطري دائم.كما منحه المقدرة على السيطرة-بإذنه تعالى-على بعض مكنونات الأشياء و محاكاة بعض سننها و قوانينها و العمل على استغلال مكتشفاته في هذا المجال،شيئا فشيئا،في تطوير نظم حياته و تحسين ظروف عيشه و السعي دوما لتحقيق الأحسن و الأفضل و الأكمل و الأمثل.

نظر الإنسان إلى الكون منذ بدء الخليقة و تأمل بالنجوم و الكواكب التي سحرته و أثارت فيه الكثير من الأسئلة،و شاهد الظواهر الكونية التي أذهلته كالرياح و الشهب و الرعد و البرق و الأمطار.كما راقب الحوادث و الأهوال التي أخافته و أرعبته كالزلازل و البراكين و الأعاصير،و أخذ يبحث عن الأجوبة لأسئلته المضطربة و راح يرصد الأشياء و يدقق فيها و في تفاعلاتها و يفحص و يمحص و يتدبر و يستخلص النتائج و الدلائل و البراهين و صار يجرب و يعيد التجربة و يكررها و يستدل بها ليصل إلى ما يزيل قلقه و اضطرابه و خوفه و جهله،معتمدا على ما جبل عليه من تطلع لمعرفة الحقيقة و البحث عن نفسه و عن آثار خلقه في كل شيء حوله.

ص: 131

الدعوة إلى التأمل في الخلق و الحث على النظر و التفكر في مكونات و ظواهر

المشهد الكوني:

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ [يونس:101].و قال عز من قائل: أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما خَلَقَ اللّهُ مِنْ شَيْءٍ [الأعراف:185].

أمر اللّه جل و علا الإنسان بشكل صريح و مباشر بالسير في الأرض و النظر في الخلق و التفكر و التأمل و التدبر و التثبت و التمحيص و التدقيق في الفحص و الرصد و المراقبة،كل ذلك في سبيل استخلاص العبر و استنباط النتائج و استخراج الدلائل و محاولة الإجابة عن الأسئلة و اكتشاف القوانين و السنن و الأسرار المحيطة بالخلق و المخلوقات و الحياة و الموت و أبعاد و مكنونات الكون.قال اللّه عز و جل: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [العنكبوت:20].و قال في سورة الغاشية: أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ(17) وَ إِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ(18) وَ إِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ(19) وَ إِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)[الغاشية:17-20].

لقد وردت في سورة الواقعة عدة آيات متتابعات بدأت بعبارة أَ فَرَأَيْتُمْ و حثت بشكل قوي و حاسم و بكلمات حملت فيما حملت معاني التذكير و التنبيه و التحدي و الأمر بالتفكر و تحليل و تقدير العوامل و الظروف و الظواهر الحياتية و الطبيعية و الكونية المحيطة بالإنسان،للوصول تباعا إلى استنباط النتائج و القوانين و التثبت من حقيقتها و القبول بها بعد تدبرها،و من ثم بلوغ درجة التسليم و الرضى مع ما يستتبع ذلك من الشكر و التنزيه و التسبيح:

ص: 132

أَ فَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ(58) أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ(59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ(60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَ نُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ(61) وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ(62) أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ(63) أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ(64) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ(65) إِنّا لَمُغْرَمُونَ(66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ(67) أَ فَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ(68) أَ أَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ(69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ(70) أَ فَرَأَيْتُمُ النّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَ أَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ(72) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَ مَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)[الواقعة:58-74].

أما في سورة آل عمران فقد ورد ذكر أولي الألباب الذين بلغوا أعلى درجات الإيمان و مقامات العبادة و الذكر و التسليم عبر التفكر في الآيات المحسوسة في نظم خلق السموات و الأرض و حركة اختلاف الليل و النهار ليصلوا بعدها إلى فهم الغاية من الخلق و اكتشاف عظمة الخالق و إدراك الحقائق المتعلقة بالحياة و الإيمان و الرسالات و الموت و الآخرة:

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النّارِ(191) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَ ما لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ(192) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ كَفِّرْ عَنّا سَيِّئاتِنا وَ تَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ(193) رَبَّنا وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَ لا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194)[آل عمران:190-194].

معالم المشهد الكوني...محطات للعابرين على جسر الحقيقة:

يزخر المشهد الكوني منذ بدء الخليقة بمظاهر و معالم و مضامين

ص: 133

متعددة الأبعاد و الأوزان و الوظائف،و من شتى الأنواع و السبل و الفعاليات و على مختلف الصعد و النسب و الجوانب.و حفل الكون باتساعه المستمر و تمدده الهائل في جميع أبعاده المعروفة و المجهولة بخصائص و روابط و مراحل و دورات متتابعة و منتظمة و متداخلة و متناسقة ضمن حركة عجيبة لا تحد و لا تحدد،مضبوطة على إيقاع بديع فريد فهي في نفس الوقت عظيمة السرعة و عظيمة الثبات و شديدة القوة و شديدة التوازن و هائلة الطاقة و هائلة التقدير،لا حدود لمساراتها و لا تحديد لكنهها و لا راصد لأبعادها.

و للعابرين على جسر الحقيقة محطات لا متناهية للنظر و التأمل و التفكر و التعقل في حدود ما أدركه الحس و العقل من البعدين المرئي و المعقول لأبعاد الكون المحتملة أو المتوقعة أو المتصورة دون الأبعاد الأخرى غير المدركة أو المجهولة.فالأرض التي يحيا عليها الإنسان و يتحرك و يتفكر و يسعى لمراقبة ما حوله من عوالم و أسرار،جزء متناهي الصغر من مجموعة تعج بالكواكب و الكويكبات و الأقمار عرفت بالمجموعة الشمسية التي تشكيل بدورها جزءا بسيطا من المجرة التي تحتوي على أكثر من أربعمائة ألف مليون نجم مشابه أو مماثل لكوكب الشمس في المجموعة الشمسية،مع ما يتبع ذلك من كواكب و كويكبات و أقمار.و هذه المجرة جزء متناهي الصغر من عنقود مجري محلي يشكل بدوره جزءا بسيطا من العناقيد المجرية العظمى البالغة الكبر و السرعة و الاتساع و التباعد و التي تسبح و تدور و تطوف حول محاورها في جزء بسيط من السماء الدنيا! لقد وردت في الكثير من آيات القرآن الكريم إشارات لطيفة و بديعة و صريحة حول بعض من هذه المظاهر و المعالم و السنن الكونية،بطريقة تنبيهية و تذكيرية و تحفيزية لمشاعر الإنسان و أحاسيسه و أفكاره،و لتدفعه

ص: 134

لسلوك طريق التفكر و التدبر و التعقل و التأمل بكل أبعاد و آثار و آفاق هذا الكون الرحيب،جاعلة من ذلك الأمر عبادة خاصة و عالية الشأن لذوي الإيمان المطلق من أولي الألباب:

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ [آل عمران:190].

و لهذه المحطات التي تأسر لب الواقف على جسر العبور إلى الحقيقة و التي استطاع الإنسان حتى يومنا هذا سبر بعض من أغوارها المرئية أو المحسوسة أو المعقولة،مظاهر و مشاهد زاهية زاهرة باهرة تشد الأبصار و العقول و القلوب و الأنفس و الأرواح إلى عوالم لا متناهية و لا حدود لها من الجمال و البهاء و الروعة.

المحطة الأولى:الوحدة المتجانسة و التماثل الشمولي:

قال اللّه جل و علا في سورة الملك،في الآيتين 3 و 4: اَلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَ هُوَ حَسِيرٌ (4).

يتميز الكون بوحدة متكاملة متجانسة و بتوحد خصائصه المترابطة كما يتمتع بصفات متماثلة و شاملة،فالمجرات تنتشر بصورة متجانسة من دون تجمعات في أماكن محددة دون غيرها،و هي متناسقة في حركاتها و متماثلة في خواصها و تنطبق عليها نفس السنن و القوانين و المبادئ الشاملة التي يخضع لها الكون،و هي تشهد بذلك بكل أجزائها الموحدة و بكلها المتجانس المتماثل على وجود خالق واحد و رب واحد و مدبر واحد.

ص: 135

المحطة الثانية:الاتقان بجمال و التقدير بإحصاء:

قال عز من قائل: صُنْعَ اللّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل:88].

و قال اللّه جل و علا في سورة السجدة،الآية 7: اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ،و في سورة الفرقان،الآية 2: وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ، و في سورة الجن،الآية 28: وَ أَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً .

كل شيء في الكون مخلوق بإتقان و مصبوغ بجمالية لا حد لها من شدة الدقة و الإبداع و كل شيء في الكون أيضا مقدر بتقدير محكم و محصى لا حد له من شدة الإحكام و الإحصاء.

برزت مظاهر هذا الإبداع المحكم أو الإحكام المبدع في الكثير من الدراسات الفلكية و الأبحاث الجيولوجية و المناخية المعاصرة و التي لم تستكمل بعد و لم تغطي إلا القليل القليل من ظواهر الكون المعروفة حتى الآن،فالتبادل بين الظلمة و النور على سبيل المثال أو ما يعرف بالمصطلح القرآني ب«آيتي الليل و النهار»فيه من الإتقان و التقدير و الإحصاء ما يذهل العقول،فهو«جهاز تحكم»شديد الدقة يضبط درجات الحرارة و الرطوبة و كميات الضوء الضرورية و حركات الأمواج و السحب و الرياح و نزول المطر و تكون التربة و الصخور و تخزين الثروات الأرضية و غيرها من العمليات الحياتية الأساسية و الكثير الكثير من الأمور المجهولة إلى الآن.

المحطة الثالثة:الحركة النمطية في الكون:

لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَ لاَ اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:39].

كل شيء في الكون يتحرك و الكون كله بدوره يتحرك بجميع أجزائه

ص: 136

و مكوناته و أشكاله و مقوماته من أصغرها حجما إلى أكبرها مساحة و من أرقها دقة إلى أعظمها أثرا،و من أقلها أهمية إلى أكثرها فعالية.و كل ما في الكون«يسبح»في أفلاك دائرية و في مستويات و مدارات و«طرائق» و«طبقات»متماثلة و بنفس النمطية المتكررة في سلسلة الأجزاء الكونية من أصغر المكونات إلى أكبرها لتشهد على صنع خالق واحد أحد و تسبح لوحدانية الخالق.

هكذا و في نفس اللحظة التي ترصد فيها المراصد الفلكية العظيمة دوران الكواكب السيارة حول الشمس و حول نفسها من يسار إلى يمين (عكس عقارب الساعة)و دوران الشمس حول نفسها و حول مركز مجرة «درب التبانة»من يسار إلى يمين أيضا،و دوران نجوم المجرة و المجرة نفسها و بالاتجاه ذاته و كذلك دوران المجرات حول بعضها البعض،تكشف أدق التقنيات المجهرية الذرية عن دوران الإلكترونات حول نفسها و حول نواة الذرة من يسار إلى يمين عكس عقارب الساعة.

المحطة الرابعة:نسبية الزمن و زوجية الطاقة و المادة:

قال اللّه عز و جل: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:4].و قال في سورة الحج في الآية 47: وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ لَنْ يُخْلِفَ اللّهُ وَعْدَهُ وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ .

أشار القرآن إلى اختلاف الزمن في الحالات المختلفة،و هكذا هو، فهو في الأرض غيره في الكواكب الأخرى و غيره في النجوم و هكذا دواليك،و هو واحد من أزمنة أخرى مختلفة منتشرة في الكون و مرتبطة بظروف أمكنتها و كتلتها و محيطها الخارجي و سرعة حركتها.

ص: 137

إن مادة الكون ليست ميتة بل تكمن فيها طاقة يمكن أن تكون هائلة إذا تهيأت لها الظروف و الأسباب.و هذا الاقتران أو الزوجية أو الطبيعة الثنائية نجده أيضا في الذرة حيث تدور إلكترونات ذات شحنة سالبة حول نواة فيها بروتونات ذات شحنة موجبة.و هكذا في غير ذلك من الأسس و الأشياء و المضامين و الظواهر في الخلق و المخلوقات.

وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات:49].

المحطة الخامسة:الخلق بالحق و الأجل المسمى:

قال اللّه جل و علا في سورة الأحقاف في الآية 3: ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلاّ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى .و قال في سورة الروم في الآية 8:

أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلاّ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى و في سورة الزمر في الآية 5: خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَ يُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفّارُ .

بعد ازدهار و توسع مدى الأبحاث و الدراسات الفيزيائية و الفلكية حول مبدأي«بداية الكون»و«نهاية الكون»المترابطين بنظرية«الانفجار الكوني» الذائعة الصيت في الأوساط العلمية و بعد تأكيد الدراسات الرياضية و الفيزيائية و الفلكية لظاهرة توسع الكون و تباعد المجرات عن مجرتنا و عن بعضها البعض،تبين للباحثين و للساعين لكشف الحقائق الكونية أن القوانين التي تحكم الكون بكل أجزائه و حركته و قواه و كتلته المرئية و غير المرئية تدير كل ذلك ب«الحق»و«أجل مسمى».فالكون مصمم بتصميم مسبق من غير صدفة،و بتنظيم منسق من غير فوضى و بإحكام و انسجام من غير تنافر، و القوانين التي تحكمه شديدة الدقة لا زيغ فيها و لا عبثية و لا تضارب و لا

ص: 138

اختلاف.و قد برهنت الحسابات الفلكية و الفيزيائية أن الانفجار الكوني الذي أسس لبداية الكون قدر له و صمم بشكل ما و بطريقة ما جعلته و قضت عليه أن لا يكون مخربا أو مدمرا أو مشتتا أو مبعثرا للمواد و الطاقات و الإشعاعات بل جعلته و قضت عيه أن يكون منظما و مهندسا و مبرمجا و جامعا و متآلفا ليقدر على تأليف المجرات و أجزائها.و لقد صرح في هذا المجال أحد أبرز الباحثين في موضوع الانفجار الكوني العالم البريطاني المعروف«بول ديفز»قائلا:«لقد دلت الحسابات أن سرعة توسع الكون تسير في مجال حرج للغاية،فلو توسع الكون بشكل أبطأ بقليل جدا عن السرعة الحالية لتوجه إلى الانهيار الداخلي بسبب قوة الجاذبية،و لو كانت هذه السرعة أكثر بقليل عن السرعة الحالية لتناثرت مادة الكون و تشتت الكون،و لو كانت سرعة الانفجار تختلف عن السرعة الحالية بمقدار جزء من مليار مليار جزء لكان هذا كافيا للإخلال بالتوازن الضروري،لذا فالانفجار الكبير ليس انفجارا اعتياديا،بل عملية محسوبة جيدا من جميع الأوجه و عملية منظمة جدا».

و لأن الكون يتوسع باستمرار و بسرعة كبيرة،لأن مادة الكون انتشرت في كل اتجاه بعد حدوث الانفجار الكوني الهائل،فإن الكون سيواجه الفناء أو النهاية عند حلول«الأجل المسمى»عند ما ستتباطأ سرعة التوسع بفعل قوة الجاذبية فتنكمش و تتقلص أجزاء الكون و أجسامه و مجراته و تعود لتتركز،كما كانت،في النقطة المركزية الكونية الأولى،أو عند ما يستنفذ الكون و قوده عبر عمليات الإشعاع،و تتحول النجوم و المجرات إلى قبور عظيمة و ثقوب هائلة.

خلق الكون لكي يعرف و يكتشف و يستكشف و لكي يعرف أيضا من

ص: 139

خلاله و من خلال تقصي تكويناته و تركيباته و تشكيلاته إبداع خالقه و جلاله و جماله،حتى تتحقق في النهاية شروط الوصول إلى جسر الحقيقة و تنعقد في قلب و عقل العارف المستكشف مسببات الإيمان و ومضات الإقرار و مشاعر التسليم و اليقين.و لكي يقف الإنسان الباحث عن المعرفة على محطات هذا الجسر و يبدأ بعملية بحثه و تقصيه و استشرافه و استنباطه،عليه أن يعرف نفسه أولا و يتسلق درجات السلم المعرفي معتمدا على فطرته و تفكره و تعقله و متأملا بالآفاق حوله،سابرا أغوار كل مجهول أمامه مستقرئا كل سر من الأسرار حوله و مستشرفا أنوار شمس الحقيقة المحتجبة خلف الغيوم فوقه.

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [العنكبوت:20].

ص: 140

المراجع

-القرآن الكريم.

-تفسير ابن كثير.

-تفسير الجلالين.

-تفسير الميزان.

-أسرار الكون في القرآن،الدكتور داود سلمان السعدي،دار الحرف العربي.

-أسرار خلق الإنسان العجائب في الصلب و الترائب،الدكتور داود سلمان السعدي،دار الحرف العربي.

-القرار المكين،الدكتور مأمون شقفة،مطبعة دبي.

-الآداب الطبية في الإسلام،جعفر مرتضى العاملي،منشورات جامعة المدرسين.

-الطب في القرآن،د.محمد جميل الحبّال و د. وميض رمزي العمري،دار النفائس.

-العلوم في القرآن،د.محمد جميل الحبّال و د.مقداد مرعي الجواري،دار النفائس.

-من علم الطب القرآني،د.عدنان الشريف،دار العلم للملايين.

-من علم النفس القرآني،د.عدنان الشريف،دار العلم للملايين.

-من علوم الأرض القرآنية،د.عدنان الشريف،دار العلم للملايين.

-من علم الفلك القرآني،د.عدنان الشريف،دار العلم للملايين.

-الرسالة الذهبية،د.محمد علي البار،دار المناهل.

ص: 141

- OBSTETRICAL AND GYNAECOLOGICAL PATHOLOGY,Fox and Wells.

Forth Edition.Chrchill Livingstone.

-Pathologic Basis of Disease,Robbins,Saunders.

-OXFORD Textboock of Pathology,McGee,OXFORD.

-ACKERMAN'S Surgical Pathology,Rosai,Mosby.

-Essential Pathology,Rubin and Farber,Lippincott.

-Pathology of Human Neoplasms,Azar,Raven Press.

-Diagnostic Surgical Pathology,Sternberg,Raven Press.

ص: 142

الفهرس

إهداء 7 مقدمة المؤلف 9 افتتاحية/مدخل:جدليّة العلاقة بين العلم و الإيمان 11 العلم و الإيمان..إلى أين؟13 المحور الأوّل:إضاءات على الإعجاز العلمي في الخلق و التقويم 25 «الجينوم البشري...أو خريطة الجينات الوراثية للإنسان»27 عالم التكوين البشري 31 الجهاز اللمفاوي 43 المحور الثاني:إضاءات على الإعجاز العلمي في الأمر و التقدير 51 الحمل...يقي من السرطان 53 الرضاعة..آية من آيات الخالق و هديته الكبرى إلى الأم و رضيعها 59 القواعد الذهبية في الوقاية من الأورام السرطانية 65

ص: 143

المحور الثالث:إضاءات على الإعجاز العلمي في النهي و التحذير 75 حياة الإنسان المهددة...بين مطرقة الإسراف الاستهلاكي و سندان الإفساد البيئي 77 آفة المخدّرات 85 آفة الكحول 91 الانحرافات الخلقية في المجتمعات الغربية 97 المحور الرابع:إضاءات على الإعجاز العلمي في المقادير و الآجال 103 الوراثة و أسرارها 105 موت الخلايا المبرمج أو الأجل المسمى 117 الخاتمة:إضاءات على الإعجاز العلمي في علاقة الإنسان بالكون 123 الحركة الكونية للإنسان..في الحج 125 النظر و التفكر في المشهد الكوني...جسر العبور إلى الحقيقة 131 المراجع 141 الفهرس 143

ص: 144

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.