نام كتاب: الأعجاز العلمي في القرآن( للسامي)
نويسنده: سامى احمد الموصلى
موضوع: اعجاز علمى
تاريخ وفات مؤلف: معاصر
زبان: عربى
تعداد جلد: 1
ناشر: دارالنفائس
مكان چاپ: بيروت
سال چاپ: 1422 / 2001
نوبت چاپ: اوّل
ص: 1
ص: 2
ص: 3
ص: 4
حينما فكّرت بتأليف هذا الكتاب كان في ذهني تساؤل كبير يقول:لو أن محمدا صلّى اللّه عليه و سلّم أرسل هذا اليوم في هذا العصر،كيف كان سيتحدّث للبشرية المعاصرة؟ و بأي أسلوب و بأيّة مضامين و بأيّة معجزة؟و بصياغة أخرى للتساؤل:لو أن القرآن الكريم أنزل هذا اليوم في هذا العصر،كيف سيكون تحدّيه كمعجزة لهذا العصر؟ و كيف سيتحدث للخلق كلهم بما يجعلهم يسلّمون له تسليما بإعجازه المتناسب مع تطوّر البشرية علميّا اليوم؟ إن هذا السؤال يبدو كبيرا في أول وهلة،و لكن إذا ما تعمّقنا برسالة الإسلام،قرآنا و سنة،و كونها مرسلة إلى البشرية جمعاء حتى يوم القيامة،و بأن الإعجاز و المعجزة المطلوبة منها موجودة و متمثلة في الفهم العلمي للقرآن،على ضوء جميع المكتشفات و النظريات و القوانين العلمية المعاصرة،بل إن هذه المعجزة العلمية ما زالت مفتوحة على المستقبل لكي تحتوي كل المستجدّات العلمية على مستوى جميع العلوم،و في كافة أنواع اختصاصاتها الكونية و الذرية و البايولوجية...الخ.إذا ما تعمّقنا بهذا الفهم للقرآن فسنجد أن الجواب واضح و يسير،بل و قد أشار إليه القرآن نفسه حينما أكّد على أنه سيظهر صدقه و حقيقته في المستقبل بقوله:
سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت53/]أي إن القرآن حق بما سيبرهن عليه الزمن،و هذا ما حصل،و يحصل اليوم و سيحصل غدا، حينما نجد أن القرآن قد أكّد الحقائق العلمية التي ستظهر بعد نزوله بآلاف السنين، بحيث إذا قرأ العالم المعاصر،المتسلّح بأحدث نظريات العلوم و قوانينها و اكتشافاتها،القرآن يجده قد أشار إليها إشارات واضحة،و بعضها في التفصيل و البيان بحيث لا يمكن صرفها إلى غير هذه المفاهيم الجديدة المكتشفة.إذن، فالقرآن و معجزته العلمية التي يتحدّى بها العالم المعاصر تشير إلى أن القرآن كأنّه يتنزّل اليوم مواكبا لطبيعة العصر،بل و متجاوزا لإمكانياته الحالية و المستقبلية في هذا
ص: 5
الجانب.فعظمة المعجزة القرآنية هذه التي تحدّثت لعرب الجاهلية فأعجزتهم تقف اليوم للتحدث للعقول الألكترونية،و لعلوم الفضاء و الفلك و الفيزياء النووية و الكونية و للهندسة الوراثية و الحيوية،بل و لكل العلوم و النظريات و القوانين بلغة تعجزهم بنفس قوة الإعجاز البلاغي للعرب الفصحاء شعراء و خطباء.إن عظمة الرسالة الإسلامية تكمن في أن المعجزة التي جاء بها الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم هي نفس كتابه الذي تضمّن شريعته و عقيدته،و كتابه هو معجزته،و ما دام الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم هو خاتم الأنبياء و الرسل،و ما دام قد أرسل إلى الخلق كافة،من وجدوا في عصره و من سيوجدون حتى القيامة،إذن يجب أن تكون له معجزة دائمة بدوام الرسالة لتدلّ كل عصر على نبوّته و صدق رسالته،فإذا كان المؤمنون السابقون قد آمنوا بالنّبي حينما رأوه و رأوا معجزاته،فكيف سيؤمن به اللاحقون حتى يوم القيامة إذا لم تكن هناك معجزة حقيقية قائمة تتحدّى كل أحد أن يأتي بمثلها؟من هنا كان القرآن معجزة دائمة تتحدّى كل عصر و كل زمن و كل جيل،و بما يتقنه و يتفنّن به ذلك العصر و ذلك الجيل،و اليوم،و عصرنا عصر علوم و ثقافة و اكتشافات خارقة،لم يصل إليها جيل سابق بتاريخ البشرية كله،يقف الإعجاز العلمي للقرآن متحدّيا كل ذلك بما أشار إليه و تحدث عنه من ظواهر علمية سبقت عصره الذي أنزل فيه أوّلا بكثير،و من هنا نرى إسلام كثير من علماء الفلك و الفضاء و الفيزياء و الكيمياء و علوم الحياة..الخ،حينما يطّلعون على آيات القرآن التي تخص علومهم،بل و تتجاوزها إلى مستقبل أرحب، حتى قام أحدهم بدراسة جميع الكتب المقدسة،على ضوء آخر اكتشافات العلوم و أحدث القوانين العلمية،فسقطت جميعها،لتحريفها عبر الزمن،و بقي القرآن شامخا صادقا و دليلا و حجة على هؤلاء العلماء و غيرهم ممن يبحثون في أسرار الكون و الطبيعة و الإنسان.
لقد قال اللّه تعالى في كتابه العزيز: إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر9/]، و نحن نجد اليوم صدق هذه الآية بلا نقاش أو جدال،فلم يزد في القرآن أو ينقص منه حرف واحد بعد ألف و أربعمائة سنة على نزوله،و رغم أنه لم يجمع في حياة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، بل جمع بعد وفاته،و مع ذلك فقد حفظه اللّه حفظا ليبقى حجّة و دليلا و هاديا على ساحة الزمن كله،أ لا يكفي أن تكون هذه الآية نفسها دليل صدقه و إعجازه؟لقد قال هذا القول قبل ألف و أربعمائة سنة،و ها هو اليوم،كما هو منذ ذلك الزمن حتى الآن،رغم المحاولات العديدة لتحريفه و الزيادة و النقصان فيه.لقد قال تعالى في قرآنه وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ [النمل93/]،و ها نحن اليوم
ص: 6
نرى آيات اللّه في حقائق و أسرار الكون و الحياة مما لم يره من سبقنا،بل و لم يخطر ببالهم أن يصل العلم البشري إلى هذا المستوى المتقدّم كثيرا جدا مقارنة بما كان عليه علم البشر سابقا!أ فلا يصدق القرآن اليوم كصدقه في الأمس،فيكون معجزة هذا العصر كما كان معجزة العصر العربي الأول في زمن الرسالة؟أ لم تعرف فعلا آيات اللّه اليوم بما لم يعرفه السابقون؟أ ليس هذا بدليل على أن القرآن كأنما يتنزّل اليوم على عصرنا بلغة علمنا،و يتحدث إلينا بالبيّنة و البرهان،كما كان يتحدث للسابقين؟إذن فلو أرسل الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم اليوم فستكون معجزته هي القرآن نفسه كما نجده اليوم،و كما نفهمه مصداقا لقول القرآن نفسه من أننا سنرى آيات اللّه فنعرفها و نعرف صدقه بها إعجازا من اللّه و حجة على الخلق أجمعين.
فما أعظمه من كتاب،و ما أعظمها من معجزة لم يكن مثلها لنبي أو رسول غير خاتم الأنبياء و المرسلين،و هكذا يحق لأحد الكتّاب و المؤلفين أن يقول:«إن الكتاب الذي يحق له أن يحكم العالم لا بد أن يتّصف بأنه ليس بحاجة إلى تعديل أو إضافة لأن أحكامه يقينية،بمعنى أن كلّ علاقة يعقدها بينه و بين الحياة لا بدّ أن تكون علاقة تخضع كل تجارب الناس،و كل علاقاتهم بالحياة للفوز المبين المعقود على نواصي كلماته».
لكلّ ذلك فمهما بالغ المبالغون في وصف القرآن فإنهم لن يبلغوا حقه في وصفه،أ ليس هو كلام اللّه،و اللّه ليس كمثله شيء،فكيف يجب أن يكون و هو صفة من صفات اللّه في كلامه؟أ لم يصفه الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و سلّم وصفا ما بعده مجال لمبالغ في قول،و لا لمتحدّث في خطاب حينما قال(كتاب اللّه تبارك و تعالى فيه نبأ ما قبلكم و خبر ما بعدكم و حكم ما بينكم،هو الفصل ليس بالهزل،من تركه من جبار قصمه اللّه،و من ابتغى الهدى في غيره أضلّه اللّه،هو حبل اللّه المتين و نوره المبين و الذكر الحكيم و هو الصراط المستقيم،و هو الذي لا تزيغ فيه الأهواء و لا تلتبس فيه الألسنة و لا تتشعب معه الآراء،و لا يشبع منه العلماء و لا يملّه الأتقياء،و لا يخلق على كثرة الرّد،و لا تنقضي عجائبه،و هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا إِنّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً [الجن1/]من علم علمه سبق،و من قال به صدق،و من حكم به عدل،و من عمل به أجر،و من دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم).
فمهما حاولنا،بقصور عقلنا البشري،أن نصل إلى نهاية إعجازه في كل باب من أبواب الإعجاز العديدة فسنبقى في حدود قول اللّه تعالى وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً [الإسراء85/].فإذا كنّا عن فهم حقيقة العالم و الطبيعة و الكون و الحياة
ص: 7
و الوجود عاجزين،و هم من مادة الحياة و الوجود نفسها التي نحن منها مخلوقون، فكيف سنستطيع أن نفهم صفة من صفات اللّه تعالى حق فهمها و هي كلامه و كتابه، و هما ليسا من مادة هذا الوجود و لا من طبيعة مادة الحياة و الكون الذين قتلناهم بحثا و تعمّقا،و استعملنا كل المختبرات و التلسكوبات و الميكروسكوبات،و صعدنا إلى أعماق الفضاء بأجهزتنا فضعنا في مداه الواسع اللانهائي،و تعمقنا في مفردات الذرة و جسيماتها الأولية حتى عجزت وسائلنا،على عظمتها،أن تقودنا إلى الحقيقة،في حين أن القرآن،و بلغة و حروف البشر العادية نفسها،يصف لنا نهاية هذه النظريات الكونية و الذرّية،و يصف لنا الحقيقة واضحة بيّنة.إن خالق الكون هو الذي يتحدّث عن كونه،فهو الذي يعرف ما خلق و من خلق أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك14/]فإذا تحدّث فحديثه الصدق و الحق و العدل،و بذا يكون القرآن قد أجاب على كل الأسئلة التي طرحها العقل البشري على نفسه منذ أعماق الحضارة الإنسانية و الفلسفة اليونانية حتى آخر التساؤلات التي يقف العلم المعاصر على عظمته مبهوتا بها.لقد تساءل الإنسان(بكيف)عن كثير من مفردات الطبيعة و ظواهرها،و أجاب القرآن عنها جوابا نهائيا لا لبس فيه و لا ضياع،و التقى العلم المعاصر في إجابته مع ما قاله القرآن منذ ألف و أربعمائة سنة لقاء مباشرا.كما تساءل الإنسان عن ماهيّة الأشياء و حقيقتها،و ما هو الوهم،و ما هو الصدق فيها،بعيدا عن هلوسات العقل و خرافاته،فأجاب القرآن عنها منذ ألف و أربعمائة سنة،و إذا بالعلم يلتقي مع آخر اكتشافاته،و بعد جهد كلّف الإنسان كثيرا من حياته و ماله و صحته مع ما قاله القرآن.
و كذلك بحث الإنسان عن نفس الإنسان و أعماقها و مشاعرها،و ألّف كتبا و وضع علوما لكل ذلك،و مع أنه ما زال خاطئا و عاد خاسرا حيث تبخّرت حقائق النفس المفترضة لديه لم يجده البحث شيئا،و لو عاد للقرآن لوجد الجواب الشافي عن كل أسئلته و تساؤلاته التي جعلته يضيع حياته و عمره سدى في هذا المجال،في حين أن حكمة اللّه من خلقه كانت وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات56/]،فلو عبده بما علّمه لأعطاه اللّه علم ما لم يعلم،فهو قد كلّفه بالعبادة و أعطاه علمها،فلو أدّى ما كلّف به لأعطاه اللّه حقيقة كل شيء من خلال هذه العبادة،و لعلم أن علم اللّه أكبر من خلق اللّه،و لا يحيط بعلمه شيء و هو يحيط بكل شيء،و هكذا نرجع إلى ما قاله اللّه تعالى واصفا علمه بكلامه و كلامه بعلمه وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللّهِ [لقمان27/].فليكفّ الإنسان عن أن يكون أكثر شيء جدلا،و يسلّم أمره إلى اللّه فسيجد ربه بانتظاره حيث
ص: 8
يعطيه علما من علمه حتى يبطل مفعول السؤال في نفسه،فلا يسأل بعد أن علم،و لا يتجاهل بعد أن أسلم،و يرى حقيقة ما قاله أحد الباحثين في القرآن:«في العالم كله كتاب واحد قدّم للناس جميعا حقائق العلم قبل أن تثبت في معارك العلاقات بين الوعي البشري و بين مادة الكون،ذلكم هو القرآن»،و عند ذلك سيعجب كما عجب عقلاء العالم«إن عقلاء العالم ليعجبون كيف يكون في عالم الناس القرآن و لا يجعلونه قبلتهم جميعا لفهم الحياة و تفسيرها و معرفة الحقيقة و العمل بها».
إن هدف هذا الكتاب هو الجواب على هذه الأسئلة من خلال المحاولات التي تمّت في مؤلفات العلماء لتحقيق هذا الجواب،فهل استطاعوا الجواب حقّا،ففهموا القرآن كمعجزة علمية معاصرة و كما يجب أن تكون حجة اللّه على خلقه في هذا العصر؟و كأنما الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم أرسل هذا اليوم به،و كأنما القرآن ينزل الآن بيننا و لا زال بكرا لم تتعمّق به العلوم كما يجب،رغم كل محاولات القدماء و مبالغاتهم العقلية و اللغوية التي وقفوا عندها،و قد جاء عصر المختبرات العلمية الفضائية و النووية لكي يقول كلمته في هذا المجال،فهل وصل إلى الجواب الحق!و إلى الفهم الحق لكلام اللّه و قرآنه الذي بيّنه اللّه بيانا واضحا مفصّلا لكل شيء،و فيه علم كل شيء؟.
ص: 9
ص: 10
ضرورة المعجزة بين مفهوم
شمولية الرسالة و خاتم النبيين
حينما نراجع بعض خصائص نبوّة سيدنا محمد صلّى اللّه عليه و سلّم الذي أظهره اللّه على الدين كلّه و أكّد اللّه سبحانه و تعالى في قرآنه الحكيم أنه أكمل له الدين اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [المائدة3/]،نجد أن هناك تفرّدا و تميزا لهذه النبوة لم يكن مثلها لأحد من الأنبياء السابقين على كثرتهم،هذا التفرد و التميز يظهران من خلال خصوصيتين اثنتين أكدهما اللّه سبحانه و تعالى في قرآنه المجيد،و تحدّث عنهما الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم في عدة أحاديث.أما الخصوصية الأولى فهي في كونه صلّى اللّه عليه و سلّم أرسل إلى الناس كافة وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ [سبأ28/]،و يقول الرسول الكريم في حديثه (1)(أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي،نصرت بالرعب مسيرة شهر،و جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا،فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلّ،و أحلّت لي الغنائم و لم تحل لنبيّ قبلي،و بعثت إلى الناس كافة،و أعطيت الشفاعة)،و معنى هذه الخصوصية أن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم،دون غيره من الأنبياء،أرسل إلى الخلق كلهم،سواء كانوا إنسا أو جنّا،و سواء كانوا عربا أم عجما،في حين كان الرسول حين يرسل قبله يرسل إلى قومه فقط.و الخصوصية الثانية من خصائص نبوته هي كونه خاتم النبيين، فلا نبوّة و لا نبي،بعده،قال تعالى ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب40/]،و يقول الرسول الكريم في حديثه (2)(مثلي و مثل الأنبياء كمثل رجل بنى دارا فأكملها و أحسنها إلا موضع لبنة،فكان كل من دخلها فنظر إليها قال ما أحسنها إلا موضع هذه اللبنة،فأنا موضع هذه اللبنة،ختم بي الأنبياء)،و يقول في حديث آخر (3)(أنه سيكون من أمتي كذابون ثلاثون كلّهم يزعم
ص: 11
أنه نبي،و أنا خاتم النبيين،لا نبي بعدي).
إذن،فمن معاني شمولية الرسالة الإسلامية للخلق كلهم منذ بعث الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم حتى قيام الساعة أن تكون هذه الرسالة هي خاتمة الرسالات،و بالتالي يجب أن تكون كاملة لا تحتاج إلى نبي آخر يرسل ليستدرك على رسولنا الكريم ما فاته،كما هي حال جميع الرسل السابقين الذين كان النبي اللاحق يستدرك على النبي السابق فينسخ من شريعته ما ينسخ بأمر اللّه،كما أنّ من معاني خاتم النبيين أن يكون مرسلا و داعيا جميع الخلق،حتى بعد وفاته،إلى طريق اللّه،و أن يكون دليل صدق نبوّته قائم على الأجيال اللاحقة حتى قيام الساعة،و لا يكون هذا إلا بأن تكون له معجزة قائمة دائمة تبرهن على صدقه و صدق رسالته إلى هذه الأجيال،و تتحدى،كمعجزة، كل العصور و الأزمان حتى قيام الساعة.
لقد دعا الرسول الكريم في حياته جميع الخلق الذين عاصروه في حياته إلى الإيمان باللّه،و آمن به من آمن من الإنس و الجن كما هو مذكور في القرآن وَ إِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ [الأحقاف29/].فقد أدى الأمانة كما أمره اللّه بها،و توفي الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم و ارتد من العرب من ارتدّ،ثم بعد حروب الردة رجع إلى الإسلام من رجع،و كانت معجزة الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم هي القرآن،و كانت تتحدّى العالم كله إنسا و جنا منذ نزولها و ستبقى حتى قيام الساعة،تقوم بعملية التحدي لأن يؤتى بمثلها،و هكذا فإن الرسول الكريم بصفته خاتم الأنبياء،جاء بمعجزة قائمة دائمة مستمرة في تحدّيها،و لا تنتهي عجائبها حتى يرث اللّه الأرض و من عليها.
إذن،فالقرآن العظيم هو المعجزة الدائمة للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم،و هو الذي عليه أن يتعامل مع مختلف الأجيال الإنسانية و مختلف الحضارات اللاحقة لعصر النبوّة و مختلف المستجدات التي تحصل للإنسان و الكائنات عموما،و مهما توصّل الإنسان في أبحاثه و علومه و اكتشافاته فعلى القرآن أن يبقى معجزا في كل هذه الأحوال و الأماكن و الموضوعات،فكيف يكون ذلك الإعجاز و القرآن كلمات معدودة لمعاني فسّرها المفسرون القدامى و أشبعوها بحثا؟كيف يكون ذلك الإعجاز و قد ذهبت الفصاحة و البلاغة مع أهلها في ذلك الزمان،و ذهب التحدي القائم عليها،و الذي كان أساس الإعجاز في نزول القرآن أوّلا عليهم؟كيف سيكون الإعجاز و هو دليل صدق نبوة النبي،و دليل كون القرآن من اللّه معا إذا كان العصر،مثل عصرنا،عصر معرفة و علوم و تكنولوجيا و اكتشافات في الفضاء و الذرة و الحياة؟أ ليست المعجزة و كل معجزات
ص: 12
الأنبياء السابقين كانت كذلك،عليها أن تتحدى كل عصر بما يتقنه ذلك العصر و يتفنن فيه و يحس بعظمته و كبريائه من خلاله؟أ لم يتحدّ موسى عليه السلام سحرة فرعون بعصاه لأن العصر كان عصر سحر و سحرة؟أ لم يتحدّ عيسى عليه السلام طب اليونان و أطباء عصره حينما جاءهم بشفاء و إحياء لم يكن و لن يكون مثله أبدا؟ و أخيرا،أ لم يتحدّ نبينا عليه الصلاة و السلام شعراء و خطباء قريش و العرب جميعا حينما جاء ببلاغة القرآن بنفس لغتهم،و نفس حروفها و كلماتها و لكن بإعجاز جعل أشعر الشعراء و أخطب الخطباء إذا سمعه بهت و أعلن عجزه و آمن بأنه من عند اللّه! لقد أدى القرآن العظيم وظيفته خير أداء في تعجيز كل العرب الذين حضروه و عاصروه عن أن يأتوا بسورة من مثله،و هم أهل اللغة و الفصاحة و البلاغة التي لم يلحقهم بها أحدا! و على القرآن وظيفة أخرى الآن لكي لا يتم الحديث عن أن المعجزة انتهت بانتهاء عصر من خاطبتهم بلغتها،و تحدّتهم آنذاك و أصبحت الآن خبرا يروى كباقي معجزات الأنبياء مع أقوامهم،هذه الوظيفة تأتيه من كونه جاء معجزا لكل من الإنس و الجن،و لكل زمان و مكان،لأنه لا نبي بعد خاتم الأنبياء،و لا معجزة و لا وحي و لا رسالة،و عليه هو،باعتباره معجزة خاتم الأنبياء الذي أرسل للخلق كافة،أن يقوم بهذه المهمة و أن يكون حجّة اللّه البالغة على العالمين في كل عصر و حين و حتى قيام الساعة! لقد مضت أجيال و أجيال،و جاءت و تجيء أجيال أخر تطالب بحجتها و برسولها و معجزتها وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاّ خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر24/]و إلا فما ذنبهم أن يكونوا متأخرين عن عصر الرسل و ختمت النبوة قبلهم؟أ يعذب اللّه الناس يوم القيامة قبل قيام الحجة عليهم؟حاشا للّه.
من كل ما تقدم،نجد أن القرآن هو المعجزة الخالدة التي تبقى عاملة عملها كما نزلت في حياة الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و سلّم،و بنفس القوّة المتحدّية لكل عصر،و يفخر بما يقول أحد الباحثين (1):«إذا قدر أن يبحث العلم الأديان عن طريق بحث ظاهرة النبوّة،فسيجد أن العقبة في سبيله هي أن معجزاتها قد مرّت و انقضت،فهو لا يجد سبيلا إلى بحث شيء منها إلا معجزة واحدة لرسول واحد على دين واحد،إلا القرآن معجزة الإسلام على يد محمد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ...لقد ذهبت المعجزات كلها0.
ص: 13
و بقي،و تغيرت الكتب و حرّفت و لم يتغير هو و لم يتحرّف،فلو قدر للإنسانية أن تفحص الأديان بعقلية علمية لما وجدت غير الإسلام دينا يثبت للفحص العلمي،إذ ليس غير الإسلام دينا بقيت معجزته إلى اليوم و تبقى إلى ما شاء اللّه،لتكون موضوع بحث و امتحان له يهتدي البشر بفحصها إلى اللّه،و لعلموا عن طريقها أن الإسلام هو دين اللّه فاطر الفطرة و خالق الناس».إذن،فالقرآن هو معجزة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم،و هو بنفس الوقت كتاب رسالته ذاتها«لقد جعل كتابه عين معجزته،و معجزته عين كتابه ليكون حفظ الدين و حفظ معجزته أمرا واحدا سواء،و لتدوم حجة اللّه على الناس».
على أنه يجب أن يتضح إعجاز القرآن لكل إنسان لتلزمه حجة اللّه إن هو أبى الإسلام،لذا فإن معجزة القرآن ليست من تلك الناحية التي يتوقف تقديرها و التسليم بها على معرفة لغة لا يتيسر معرفتها لكل أحد،و تلك الناحية الإعجازية هي الناحية العلمية في القرآن...أي أن الحقيقة العلمية التي لم تعرفها البشرية إلا في القرن التاسع عشر أو العشرين مثلا،و التي ذكرها القرآن لا بد أن تقوم عند كل ذي عقل دليلا محسوسا على أن خالق الحقيقة هو منزّل القرآن...
إن موقف القرآن،كمعجزة اليوم لعصرنا،هو نفس موقفه كمعجزة في عصر النبي صلّى اللّه عليه و سلّم،و لا يتوقف كمعجزة إلا إذا استطاع العصر أن يتجاوزه فيما جاء به من صور الإعجاز العديدة،عند ذلك تتوقف حجة اللّه على العالمين،فإما أن يرسل رسولا آخر،و هو قد قال إنه ليس هناك رسول بعد خاتم النبيين،أو يرسل معجزة تتحدّى من لا يؤمن بها،و هو ما لم يحصل.إذن،فالقرآن كان و ما زال و سيبقى حجة اللّه على العالمين،و لكن علينا نحن أن نعرف مواضع و مواقع إعجازه لعصرنا لكي تستمر الرسالة و كأنها جاءت اليوم.لننظر إلى منطق علماء الإسلام السابقين في طريقه فهمهم لنبوة النبي و معجزة القرآن،و كيف كانت تعمل عندهم،و نقارنها بمنطق علماء اليوم في نظرتهم و فهمهم لنبوّة النبي و معجزة القرآن؟ يقول الباقلاني في إعجاز القرآن إن نبوّة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم معجزتها القرآن (1):«الذي يوجب الاهتمام التام بمعرفة إعجاز القرآن أن نبوّة نبينا عليه الصلاة و السلام بنيت على هذه المعجزة»،و يصف هذه المعجزة بقوله«فأما دلالة القرآن فهي عن معجزة عامة عمّت الثقلين،و بقيت بقاء العصرين،و لزوم الحجة بها في أول وقت ورودها إلى يوم القيامة على حد واحد».و لكن هل يمكن إدراك الإعجاز بسهولة حتى و إن1.
ص: 14
كان إعجازا لغويا فقط كما كانوا يظهرون؟يقول الباقلاني (1):«يجب أن تعلم أن من حكم المعجزات إذا ظهرت على الأنبياء أن يدّعوا فيها أنها من دلالاتهم و آياتهم، لأنه لا يصح بعثة النبي من غير أن يؤتى دلالة و يؤيّد بآية،لأن النبي لا يتميز من الكاذب بصورته و لا بقول نفسه و لا بشيء آخر سوى البرهان الذي يظهر عليه، فيستدل به على صدقه،فإذا ذكر لهم أن هذه آيتي و كانوا عاجزين عنها صحّ له به ما ادّعاه،و لو كانوا غير عاجزين عنها لم يصح أن يكون برهانا له،و ليس يكون معجزا إلا بأن يتحداهم إلى أن يأتوا بمثله،فإذا تحدّاهم و بان عجزهم صار ذلك معجزا، و إنما احتيج من باب القرآن إلى التحدي لأن من الناس من لا يعرف كونه معجزا، فإنما يعرف إعجازه بطريق،لأن الكلام المعجز لا يتميز من غيره بحروفه و صوته، و إنما يحتاج إلى علم و طريق يتوصل به إلى معرفة كونه معجزا،فإن كان لا يعرف بعضهم إعجازه فيجب أن يعرف حتى يمكنه أن يستدل به».
إذن،فالسابقون كانوا يحتاجون لمعرفة الإعجاز إلى دراسة و علم،رغم أن الإعجاز كان عندهم لغويا أكثر منه علميا و نظريات علمية،فكيف الحال عندنا في الإعجاز العلمي؟ مما تقدم،نرى أن الأقدمين لم يكونوا يعرفون الإعجاز بداهة بعد أن مضى عصر النبوة و بدأت الأبحاث في علوم القرآن تنتشر،و دخل كثير من غير العرب في الإسلام،و هم لهم ثقافات و علوم ليست للعرب،كما أنّ الفصاحة و البلاغة دخلها ضعف كثير،من هنا كان يجب أن تقوم المؤلفات الكبيرة لمعرفة إعجاز القرآن، فالذي لا يعرف إعجاز القرآن لا يصدّق أنه من اللّه،و قد يعتبره كتابا من الكتب لأنه مؤلّف من حروف و كلمات و موضوع بين دفتي ورقة،أما من يعرف إعجازه فإن إيمانه يتكامل مع القرآن على أنه كلام اللّه و معجزة رسول اللّه،و أنّ فيه اليقين الحق الذي لا يقين غيره،و من هنا أيضا تعددت أوجه إعجاز القرآن حتى عند القدماء أنفسهم الذين كان التحدي الأول لهم بلغته و بلاغته و معانيه،و لكن من أعجب العجب في هذا القرآن العظيم،الذي جاء من ربّ العالمين لهداية الناس أجمعين، أنه يدلّل على صدقه بنفسه في كل عصر و حين،و يقول إنه سيفعل ذلك حتى يذعن له كل عقل سليم،و كل عالم و حكيم،بل و يزيد على ذلك بأن يعطي و عودا مستقبلية لما يحققه من إعجاز عبر كل زمن و عصر،بما يحمله ذلك العصر و الزمن من8.
ص: 15
اختصاص و تقدم في مجاله الذي يبدع فيه و يفخر،يقول ابن تيمية (1):«لما كان محمد صلّى اللّه عليه و سلّم رسولا إلى جميع الثقلين جنّهم و إنسهم،عربهم و عجمهم،و هو خاتم الأنبياء لا نبي بعده،كان من نعمة اللّه على عباده،و من تمام حجته على خلقه،أن تكون آيات نبوّته و براهين رسالته معلومة لكل الخلق الذين بعث إليهم،و قد يكون عند هؤلاء من الآيات و البراهين على نبوته ما ليس عند هؤلاء،و كان يظهر لكل قوم من الآيات النفسية و الأفقية ما يبين به أن القرآن حق،كما قال تعالى قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ(52) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت52/،53].أخبر سبحانه أنه سيري العباد الآيات في أنفسهم و في الآفاق حتى يتبين لهم أن القرآن حق،فإن الضمير عائد إليه،إذ هو الذي تقدم ذكره كما قال قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ [فصلت52/].و رغم أن التحدي الذي جاء به القرآن أن نزل إلى حدود أن طلب منهم أن يأتوا بسورة من مثله،و قد تكون السورة ثلاث آيات فقط، مثل إِنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر1/]،و رغم أنه كانت دواعي العرب و غيرهم على المعارضة تامة،رغم كل هذا فقد انتفت المعارضة،و علم عجز جميع الأمم عن معارضته،و هذا برهان آخر يعلم به صدق هذا الخبر الذي هو بنفس الوقت آية لنبوة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم».
أما تعدد وجوه إعجازه عند الأقدمين فيظهر بأشكال مختلفة و متعدّدة و متنوعة، و كل شكل له وجه إعجازي قائم بنفسه،و لكي لا نطيل نشير إلى هذه إشارة عابرة و إلا فكتب الإعجاز كثيرة،من ذلك ما ذكره ابن تيمية من أن (2)«كونه معجزا يعلم بأدلّة متعدّدة،و الإعجاز فيه من وجوه متعدّدة،فتنوّعت دلائل إعجازه،و تنوّعت وجوه إعجازه،و كل وجه من الوجوه،فهو دليل إعجازه و هذه جمل لبسطها تفصيل طويل،و لهذا قال تعالى: وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللّهِ وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ(50) أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَ ذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت50/،51]فهو كاف في الدّعوة و البيان و هو كاف في الحجج و البرهان».
إذن،فمجرد إنزال القرآن على الرسول هو معجزة،لأن ما في القرآن من مضامين2.
ص: 16
تكفي للرد على كل الحجج و الاعتراضات،كما أنها تكفي لتدلّ و توضح و تبرهن على حقيقة الدعوة و أنها من اللّه،و تعطي لكل عصر دليلا يناسبه،و تتحدث لكل قوم باللغة التي يفهمونها علما و فقها و حجة و بيانا.
و إذا ما جئنا إلى البحوث المعاصرة و العلماء المحدثين نجد أن قوّة الدليل لديهم في الإعجاز القرآني،و بما يناسب العصر الحاضر،هي بنفس القوّة التي كانت لدى القدماء السابقين من العلماء،و رغم اختلاف طبيعة دليل كل منهم،يقول شعراوي (1):«أما الإسلام فلأنه دين خاتم و شامل للبشرية كلها،فلا يمكن أن تكون معجزته حسّية تنتهي كسابقاتها،فخص اللّه رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم بمعجزة تماثل قدر رسالته علو زمان و علو مكان،بحيث أن أي إنسان يؤمن على مرّ الزمن بمحمد يستطيع أن يقول أنا أؤمن بمحمد و هذه معجزته،و تابع عيسى لا يستطيع أن يقولها لأن التاريخ هو الذي حدثنا عن معجزة عيسى».
و لما كان طابع العصر،الذي نعيش فيه اليوم،هو طابع البحوث و الاكتشافات العلمية المتعددة في كافة جوانب الكون و الحياة،و لما كان كبرياء العالم و قوته اليوم يقوم أساسا على مقدار التقدم الذي توصلت إليه البشرية في هذا الجانب،كان على القرآن،باعتباره معجزة لكل زمان و مكان،أن يظهر إعجازه في هذا الجانب ليكشف للعالم تقدّمه و سبقه في الإشارة و التوضيح إلى الحقائق العلمية التي توصّل إليها العلم اليوم،بعد أن كان هو قد ذكرها قبل أربعة عشر قرنا،و من هذا كان ما يسمى بالإعجاز العلمي للقرآن كلغة معاصرة يتحدث بها القرآن إلى الإنسانية جمعاء،ليدلل على صدقه و صدق نبوّة رسولنا الكريم من خلاله،و ليتحدث للإنسانية اليوم بلغتها ليقيم الحجّة عليها بنفس قوة الحجة التي أقامها على العرب أيام نزوله الأولى،يقول الدكتور محمد حسن هيتو (2):
«فإننا حين نتكلّم عن إعجاز القرآن لا نريد بذلك إقناع العرب فحسب،و إنما نريد إقناع العالم بأسره،من عربي و غيره،فإن هذا القرآن أنزل للبشر جميعا و تحدّى به البشر جميعا في كل زمان و مكان،و لذلك يجب علينا أن نخاطب البشر بما تستوعبه عقولهم،و أن الجوانب العلمية اليوم من أهمّ ما يستهوي عقول الناس في الشرق و الغرب،فإذا ما رأوا ما يدل على الإعجاز في كتاب اللّه في جانب العلوم التي يتقنونها،هان عليهم الإيمان و التسليم.إذن فالذي دفع العلماء و المفكرين المسلمين للبحث و التحقيق في جوانب الإعجاز العلمي في القرآن هو الواقع الذي يعيش فيه8.
ص: 17
الناس،و الذي صارت فيه العلوم أساس الحياة و الحضارة الإنسانية».
إن همّ البشرية اليوم هو همّ علمي،فقد انكشف الغطاء للعقل الإنساني في هذا العصر ما لم يتكشف له منه في أيّ عصر مضى من تاريخ الإنسانية،و إحساس الإنسان بموقعه المتميز في الكون و الحياة جاءه اليوم من خلال الاكتشافات العلمية،و توظيف النظرية العلمية في الصناعات و التكنولوجيا،التي استطاع من خلالها أن يصل إلى القمر فيمشي عليه متبخترا،كما استطاع أن يسبر أعماق الذرة و الكون و المجرات و السدم مستخدما لحسابه السنين الضوئية،كما استطاع أن يسبر أعماق الذرة ليصل إلى أخطر قانون علمي اكتشف حتى الآن و هو تحول الطاقة إلى مادة،و المادة إلى طاقة، و في علوم الحياة بحث أسرار الخلية الحية حتى تعرّف على اللغة الكيميائية في أعماق الخلية،و بدأ يدرس الهندسة الحيوية و الوراثية و يتحكم في صفات الجنس البشري.
لقد أصبح العالم كمادة في يد العالم المعاصر كالعجينة في يد الخباز يدوّرها و يمطّها كما يشاء،هكذا العالم الذي تتلاعب به قوانين الكتلة و الطاقة و السرعة حتى حطمته و كشفت مجهولاته التي كانت في السابق تحكمها الأساطير و الخرافات و المعقولات الساذجة و الفجّة،بل إن الإنسان أخذ يتحدّث عن تاريخ العالم و الكون بداية و نهاية،و يحسب دوران الفلك و الفضاء و انتهاءه إلى أمده أو عمره الكيمياوي و الفيزياوي،و قد غابت المستحيلات العقلية التي كانت تحجم الفكر عند حدود ضيقة،و هكذا طار الإنسان في الفضاء يلاحق النجوم و الكواكب و المجرات،و يطلق الأقمار الصناعية و المركبات الفضائية إلى أعماق الكون علّه أن يجد حافّة الكون ليبحث وراءه عمّا يكون هناك،و تعمّق في الذرة تحليلا حتى بلغ اللامنظور،و تبخّرت تسميات المادة التي تحوّلت إلى طاقة شعاعية فحسب،مما قضى على مفهوم المادة و الجسمية بالمعاني القديمة ليدخل بدلها مفهوم الضوء و الطاقة.
إذن،حتى اللغة العلمية و مصطلحاتها اليوم أصبحت تختلف اختلافا كبيرا جدا، بل و متناقضا مع مفردات اللغة القديمة و مفاهيمها،فكيف استطاع القرآن،في هذا العصر الذي كل ما فيه علم في علم،أن يفرض إعجازه علميا على هذا العصر ذي اللغة المختلفة كليا؟بل و كيف يمكن للقرآن أن يدخل مجال هذه العلوم ليتجاوزها و هو أصلا كتاب هداية و اعتبار و ليس كتاب علم و اختبار،كما أجمع عليه السلف و الخلف؟يقول عبد اللّه خلاف عن ذلك في كتابه«علم أصول الفقه» (1):«القرآن9.
ص: 18
أنزله اللّه على رسوله ليكون حجة له و دستورا للناس،ليس من مقاصده الأصلية أن يقرّر نظريات علميّة في خلق السموات و الأرض و خلق الإنسان و حركات الكواكب و غيرها من الكائنات،و لكنه في مقام الاستدلال على وجود اللّه و وحدانيته و تذكير الناس بآلائه و نعمه،و نحو هذا في الأغراض،جاء بآيات نفهم منها سننا كونية و نواميس طبيعية كشف العلم الحديث،في كل عصر،براهينها،و دل على أن الآيات التي لفتت إليها من عند اللّه،لأن الناس ما كان لهم بها من علم و ما وصلوا إلى حقائقها،و إنما كان استدلالهم بظواهرها،فلما كشف البحث العلمي سنّة كونية، و ظهر أنّ آية في القرآن أشارت إلى هذه السنة قام برهان جديد على أن القرآن من عند اللّه،و إلى هذا الوجه من وجوه الإعجاز أرشد اللّه سبحانه بقوله في سورة فصلت: قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ(52) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت52/،53]».
و هنا إعجاز آخر لم يطرأ على البال.فإذا كان القرآن هو كتاب هداية و اعتبار قد أشار في مضامينه عرضا إلى سنن الكون،فجاءت كل اكتشافات العالم المعاصر تؤيدها و تدعمها،فكيف لو اتجه حقا لأن يكون كتاب علم و اختبار؟لا شك أنه سيكون أكبر من أن يسعه العقل البشري،و لأعطى اليقين و الحقيقة في كل شيء مباشرة دونما حاجة إلى توسطات التجارب و وسائل الاحتمالات و الإحصاءات،و سيكون هو مقياس الحقائق ذاتها لأنه أعرف بها منها بنفسها،لما ذا؟لأن قائل القرآن هو خالق الأكوان مجال العلم و المعرفة.يقول شعراوي (1):«إن القرآن كلام اللّه،و الكون خلق اللّه، و حقائق الكون الموجودة فيه و التي خلقها اللّه لا بد أن تنسجم مع كلام اللّه فلا يكون هناك تضارب،فإن حصل ما ظاهره التضارب فإما إنك فهمت حقيقة قرآنية و هي ليست حقيقة قرآنية،و ليس هذا المراد من الحقيقة القرآنية،و إما أنك أتيت بشيء ليس حقيقة علمية و قلت هو حقيقة علمية،و لكن إذا تأكدنا أن هذه حقيقة قرآنية-و هذا هو الفرق- و هذه حقيقة علمية،فلا بد أن يلتقيا لأن قائل القرآن هو خالق الكون».
بل إن بعض المفسرين و الباحثين يوحّدون في المعنى بين الكون المنظور، و هو الوجود،و الكون المقروء،و هو القرآن،و يعتبرون أن الكون المنظور هو أدق تفسير للكون المقروء و ليس العكس،يقول د.محسن عبد الحميد،متحدثا عن4.
ص: 19
مدرسة الأفغاني و محمد عبده و رشيد رضا في التفسير العلمي،أنه يجب (1)«الانطلاق من المبدأ القائل كلما ازددنا معرفة بما في الوجود من الأسرار و القوانين ازددنا علما بما في كتاب اللّه،ذلك لأن الكون المنظور أعظم و أدق تفسير للكون المقروء،فلا بد إذن من الاستفادة من العلوم المتنوّعة،و الثقافات الإنسانية المتعددة الحديثة في تفسير القرآن الكريم في داخل الضوابط الأصولية المعروفة بين علماء الإسلام التي تضبط الاتجاه لحركة تفسير القرآن في كل عصر».
و لكن أ ليس في البحث عن الحقائق العلمية في القرآن،أو تفسير القرآن تفسيرا علميا معاصرا ما يقود إلى ربط العقيدة بمفاهيم العلوم و حقائقها،التي قد تتغير مع الزمن و مع الاكتشافات الجديدة،مما يجعل القول في القرآن خاطئا علميا على التفسير القديم مما يضطرّنا لأن نغير التفسير مع كل حقيقة جديدة للعلوم؟و بذلك نكون كمن قال في القرآن برأيه،و هو أخطر التفاسير و أسوؤها؟لا شك أن هذه المقولة حقيقية عبّر بها بعض الكتاب و المؤلفين،كالعقاد و بنت الشاطئ و أمين الخولي،عن ملاحظاتهم على محاولات التفسير القسرية التي تمت في بعض الأقطار العربية،و بعد أن يؤكد العقاد في كتابه عن الفلسفة القرآنية من أن العلوم الإنسانية (2)«تتجدد مع الزمن على سنّة التقدّم فلا تزال بين نقص يتم و غامض يتّضح و موزّع يتجمّع،و خطأ يقترب من الصواب،و تخمين يترقّى إلى يقين،و لا يندر في القواعد العليمية أن تتقوّض بعد رسوخ أو تتزعزع بعد ثبوت،و يستأنف الباحثون تجاربهم فيها بعد أن حسبوها من الحقائق المفروغ منها عدّة قرون،فلا يطلب من العقيدة أن تطابق مسائل العلم كلما ظهرت مسألة منها لجيل من أجيال البشر،و لا يطلب من معتقديها أن يستخرجوا من كتبهم تفصيلات تلك العلوم...الخ»،لذا يستنتج العقاد من ذلك (3)«كلا لا حاجة بالقرآن لمثل هذا الادعاء لأنه كتاب عقيدة يخاطب الضمير،و خير ما يطلب من كتاب العقيدة في مجال العلم أن يحث على التفكير،و لا يتضمن حكما من الأحكام يشل حركة العقل في تفكيره أو يحول بينه و بين الاستزادة من العلوم ما استطاع و حيثما استطاع».
و لكن ألا يقود هذا إلى تعجيز القرآن أمام العلم،أو على الأقل إثبات اختلافه معه و هو من أخطر قضايا الاختلاف بين الدين و العلم،يعود العقاد قائلا (4):«فالقرآن0.
ص: 20
الكريم يطابق العلوم،أو يوافق العلوم الطبيعية بهذا المعنى الذي تستقيم به العقيدة و لا تتعرّض للنقائض و الأظانين كلما تبدلت القواعد العلميّة،أو تتابعت الكشوف بجديد ينقض القديم أو يقين يبطل التخمين،و فضيلة الإسلام الكبرى أنه يفتح للمسلمين أبواب المعرفة و يحثهم على ولوجها و التقدم فيها،و قبول كل مستحدث من العلوم على تقدم الزمن،و تجدد أدوات الكشف و وسائل التعليم،و ليست فضيلته الكبرى أن يقعدهم عن الطلب و ينهاهم عن التوسع في البحث و النظر لأنهم يعتقدون أنهم حاصلون على جميع العلوم».لا شك أن تخوّف العقاد،و من معه،من التفسير العلمي كان بسبب التفسيرات العلمية التي ظهرت في زمنهم،و التي كانت فعلا منحرفة جدا و غير مستندة على أساس علمي منهجي،حتى أن الشيخ طنطاوي جوهري كان يؤمن بأن القرآن لا يفسّر إلا بالعلم الحديث،فكتب تفسيره و مزج فيه الآيات القرآنية بالعجائب الكونية،و يؤكد أن القرآن سر العلوم.
لقد لخص الدكتور عفت محمد الشرقاوي،في كتابه«الفكر الديني في مواجهة العصر»،حجج الذين يعارضون التفسير العلمي بالنقاط التالية (1):
1)إن الفهم الدقيق للألفاظ يحتم علينا فهمها في حدود الاستعمال الذي نزلت فيه،و هذا يحول بيننا و بين التوسع في جعلها تدل على معان لم تعرف بها وقت نزول القرآن.
2)يجب أن نقف بعبارات القرآن عند ما فهمه العرب الخلّص،و لا نتجاوز ما ألفوه في علومهم و أدركوه من معارفهم،لأننا نعتقد أن البلاغة هي مراعاة مقتضى الحال.
3)إن مهمة القرآن دينية اعتقادية و ليست علمية.
4)ينبغي أن لا نقحم النظريات العلمية على القرآن الكريم،أو نعتبر أن القرآن الكريم مطالب بموافقتها كلما تغيرت من زمن إلى زمن،و من تفكير إلى تفكير.
5)إن إدخال التفسيرات العلميّة على الإشارات القرآنية،و بالصورة التي جرى عليها بعض الكتاب و العلماء،لا بد أن يفضي،عما قريب أو بعيد،إلى الصراع بين الدين و العلم.
6)التفسير العلمي يحمل أصحابه على تأويل القرآن تأويلا متكلفا يتنافى مع الإعجاز و لا يسيغه الذوق السليم.5.
ص: 21
7)التفسير العلمي بدعة حمقاء و دفاع فاسد عن إعجاز القرآن من كل وجه.
لا شك أن هذه الملاحظات و الحجج قد أثّرت على مسيرة التفسير العلمي للقرآن،فبعد أن ذهب الانبهار الأول في العلوم عبثا،كانت تؤخذ بلا مناقشة و لا دراسة بحيث أن تكون نظرية علمية افتراضية،و أن تكون قاعدة أو قانونا علميا حقيقيا،أصبح اليوم للتفسير العلمي،بل و الإعجاز العلمي،مدرسة متشعبة متعمّقة منهجية وضعت لنفسها الضوابط و الشروط لهذا التفسير قبل ممارسته،بل و إنها رجعت إلى بعض الآراء الواردة عن القدامى من علماء و فقهاء لكي تبني رأيها على أرضية ثابتة من القناعة،و لكي تبقي للقرآن دوره الإعجازي المستمر حتى في هذا العصر،فما دام هو صالحا لكل زمان و مكان فيجب إذا أن يقول كلمته في كل جديد من العلوم و المعارف الحقيقية،لكي يستدل من ذلك على أنّه كلام اللّه،و أنه معجزة رسول اللّه،و إلى جميع العالمين في كل وقت و حين.
ص: 22
الإعجاز العلمي من كتب الإعجاز
حتى التفسير العصري
لو حاولنا أن نرجع في التاريخ إلى الوراء إلى زمن النبوّة و ما بعدها،للتعرف على كيفية تصور القرآن عندهم لوجدنا ما يعيننا على التأصيل الفكري للإعجاز العلمي للقرآن،و أنه كانت هناك بدايات لتفسير القرآن علميّا و ضمن مفردات كل عصر،و ما وصل إليه من تطور هذه العلوم آنذاك،ففي الحديث النبوي عن علي بن أبي طالب،كرم اللّه وجهه،ورد هذا الحديث (1)قال:(أما إني قد سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول:ألا إنها ستكون فتنة،فقلت:ما المخرج منها يا رسول اللّه؟قال:كتاب اللّه،فيه نبأ ما قبلكم و خبر ما بعدكم و حكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل،من تركه من جبار قصمه اللّه،و من ابتغى الهدى في غيره أضلّه اللّه، و هو حبل اللّه المتين،و هو الذكر الحكيم،و هو الصراط المستقيم،هو الذي لا تزيغ به الأهواء،و لا تلتبس به الألسنة،و لا يشبع منه العلماء،و لا يخلق على كثرة الرّدّ،و لا تنقضي عجائبه،هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا إِنّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ [الجن1/،2]من قال به صدق،و من عمل به أجر،و من حكم به عدل،و من دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم...)...لعل هذا أقدم أثر لحديث النبي صلّى اللّه عليه و سلّم عن القرآن، فهو لا يشبع منه العلماء و لا تنقضي عجائبه...و يروى أيضا عن علي بن أبي طالب في وصفه للقرآن أنه قال (2):«القرآن ظاهره أنيق و باطنه عميق،لا تفنى عجائبه و لا تنقضي غرائبه و لا تكشف الظلمات إلا به،و هو آمر زاجر و صامت ناطق و حجّة اللّه على خلقه،أنزله اللّه نورا لا تطفأ مصابيحه،و سراجا لا يخبو توقّده،و بحرا لا يدرك قعره، جعله اللّه ريّا للعلماء و ربيعا لقلوب الفقهاء و محاجّ لطرق الصلحاء و دواء ليس بعده داء،و هو كتاب اللّه بين أظهركم،ناطق لا يعيا لسانه،و بيت لا تهدم أركانه و عزّ لا تهدم أعوانه».
ص: 23
و لقد كان هذا التصوّر سائدا عند الصحابة و التابعين،لذا فإن الإمام الغزالي ينقل في إحياء علوم الدين عن بعض العلماء (1)«أن القرآن يحوي سبعة و سبعين ألف علم،و مائتي علم،إذ كل كلمة علم»،ثم يروي عن ابن مسعود رضي اللّه عنه أنه قال:
«من أراد علم الأولين و الآخرين فليتدبّر القرآن»،ثم يقول بعد ذلك:«و بالجملة، فالعلوم كلها داخلة في أفعال اللّه عزّ و جل و صفاته،و في القرآن شرح ذاته و أفعاله و صفاته،و هذه العلوم لا نهاية لها،و في القرآن إشارة إلى مجامعها.ثم يزيد في ذلك فيقول:بل كل ما أشكل فهمه على النظّار و اختلفت فيه الخلائق في النظريات و المعقولات في القرآن إليه رمز و دلالات عليه يختص أهل الفهم بدركها،فتفكر في القرآن و التمس غرائبه لتصادف فيه مجامع علم الأولين و الآخرين».
أما السيوطي (2)فيعتبر احتواءه على علوم و معارف لم يجمعها كتاب من الكتب، و لا أحاط بعلمها أحد في كلمات قليلة،و أحرف معدودة،أول وجه من وجوه إعجاز القرآن،و يروي أحاديث و آثار كثيرة في هذا الصدد،منها ما رواه البيهقي عن الحسن قال:أنزل اللّه مائة كتاب و أربعة كتب أودع علومها أربعة منها التوراة و الإنجيل و الزبور و الفرقان،ثم أودع علوم الثلاثة في الفرقان.و يروى عن ابن مجاهد أنه قال:
ما شيء في العالم إلا و هو في كتاب اللّه عز و جل.و يروى عن ابن أبي الفضل المرسي قوله:جمع القرآن علوم الأولين و الآخرين بحيث لم يحط بها علما إلا واهبها و المتكلم بها،ثم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم خلا ما استأثر به سبحانه،ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة و أعلامهم،مثل الخلفاء الأربعة و ابن مسعود و ابن عباس، حتى قال لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب اللّه.ثم يستعرض السيوطي جميع العلوم النابعة من القرآن،فيجمع كل العلوم الموجودة في عصره و يصل إلى القول (3):«و قد احتوى على علوم أخر من علوم الأوائل،مثل الطب و الجدل و الهيئة و الهندسة و الجبر و المقابلة و النجامة و غير ذلك»،و ينقل عن الراغب قوله«إن اللّه تعالى كما جعل نبوءة النبيين بنبينا و مولانا محمد صلّى اللّه عليه و سلّم مختتمة،و شرائعهم بشرعته من وجه منتسخة و من وجه متمّمة مكملة جعل كتابه المنزل عليه متضمنا لثمرة كتبه التي أولها (4)أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة5/]و قوله9.
ص: 24
يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً* فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ [البينة2/،3]،و جعل من معجزة هذا الكتاب أنه مع قلة الحجم متضمن للمعنى الجم بحيث تقصر الألباب البشرية عن إحصائه و الآلات الدنيوية عن استيفائه،كما نبّه عليه بقوله وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللّهِ [لقمان27/]».و أخيرا يروي السيوطي قول القاضي أبي بكر بن العربي في قانون التأويل:علوم القرآن خمسون علما،و أربعمائة علم،و سبعة آلاف علم،و سبعون ألف علم،على عدد كلم القرآن مضروبة في أربعة،إذ لكل كلمة ظهر و بطن و حد و مطلع،و هذا مطلق دون اعتبار تركيب و ما بينهما من روابط،و هذا مما لا يحصى و لا يعلمه إلا اللّه.و يروي السيوطي حديثا عن أبي هريرة أنه قال:فال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:(إن اللّه لو أغفل شيئا لأغفل الذرة و الخردلة و البعوضة).
و ممن تابع مفردات التفسير العلمي الدكتور محسن عبد الحميد،حيث يرجع بداياته إلى الإمام الغزالي (1)في كتاب جواهر القرآن،الذي دعا فيه إلى أن هذه العلوم المعروفة ليست أوائلها(أصولها)بخارجة عن القرآن،لأن جميعها مغترفة من بحار معرفة اللّه تعالى.فالعلماء بهذه العلوم هم الذين يعرفون الأسرار و السنن الكامنة وراء الآيات الكونية في القرآن الكريم،و التي تمثل بحار أفعال اللّه تعالى في الوجود.و يرى الدكتور عبد الحميد أن الغزالي لا يعتقد بوجود هذه العلوم جميعها بتفاصيلها في القرآن،و إنما كان يعتقد أن موازينها و مفاتيحها هي الموجودة فيه، و لعل أكثر من تعامل بمفردات العلوم من تفاسير القرآن هو الفخر الرازي في تفسيره الكبير الذي آمن بمقولة الغزالي و أكثر من استخدامها في تفسيره.
إلا أن الدكتور عبد الحميد،في دراسته عن تفسير الرازي،يقول عنه (2)«إنه لم يذكر أن في القرآن كل العلوم و المعارف الإنسانية بالفعل،بل إنه مشى على أساس أن القرآن يجلب نظرنا إلى القوانين المتنوعة المنشورة في الكون،و لن نستطيع أن نفهمه حق الفهم إن لم نطّلع على العلوم و المعارف،إذ أن في ضوئها نفهم كثيرا من أسرار القرآن»...إذن فالقدامى من العلماء و الباحثين،و من الصحابة و التابعين كانوا يعتقدون أن كل العلوم في القرآن،سواء عرفوا هذه العلوم التي كانت في عصرهم أو لم يعرفوها،و أن فيه علم الأولين و الآخرين،و لمعرفتنا بحدود علومهم في ذلك الزمان و اختلاط بعضها ببعض فإننا لا نستغرب منهم ذلك،فأين كتاب اللّه من كتبه.
ص: 25
البشر؟و أين علم اللّه من علم البشر؟فالأساس الذي اعتمدوه في أحاديثهم عن القرآن،و ما استخرجوه و استنبطوه منه يعود إلى هذا اليقين و الإيمان بصدقه قبل البرهنة عليه،و ذلك لأنه من اللّه و من علم اللّه و من كلام اللّه،فخالق الكون و الخلق أدرى بما خلق أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك14/]و لعل خير ما يستشهدون به على جميع ما يذكروه من علوم القرآن أنه هو نفسه قال: وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللّهِ [لقمان27/].فمن يؤمن بالقرآن يؤمن بهذه الآية،و من يؤمن بهذه الآية فليبالغ ما شاء،فلن يصل إلى حدود علم اللّه،لأن علم اللّه مطلق و جميع المبالغات المفهومة و غير المفهومة هي نسبية لعقل الإنسان المحدود،و لا شك أن المعترضين و المحتجين على تفسير القرآن علميا هم ناس مؤمنون أيضا و لا يختلفون عن أن علم اللّه هو فوق البشر،و أن كلام اللّه المعبر عن علمه في القرآن هو أبعد من أن يحيط به عقل،إلا أن الاختلاف بينهم و بين المؤيدين للتفسير العلمي يكمن حول المناسبة و الالتقاء الحقيقي بين كل آية و كل علم،فهل هذه الآية قصد منها كذا،و تدل على كذا حقيقة علمية،أم أنها لا تدل على ذلك!و هل القرآن فيه ما يشير إلى أبواب و مبادئ العلوم في كذا آية،أم أن هذه الآية تفسيرها أسباب النزول و المعاني المحددة و المشخصة فيها،كما فسّرها الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم أو بعض الصحابة و التابعين؟هنا مكمن الخلاف،و هذه مسألة قادت إلى سؤال كبير طرحه العقاد على نفسه فيقول (1)«هل معنى ذلك أن الكتب المقدسة لا تفهم إلا كما فهمها المخاطبون بها لأول مرة؟ أو معناه أنها تفهم في كل عصر حسب النظريات العلمية التي انتهى إليها أبناؤه؟ و رغم أن العقاد من المعارضين للتفسير العلمي للقرآن إلا أنه حينما يجابه هذا السؤال يقول بأنه لا محل للخلاف في أن الإنسان العصري مطالب بفهم كتبه المقدسة،و فهم ما توجبه على ضميره من الفرائض و الشعائر و الواجبات،و الفهم المطلوب من المكلف المخاطب يقتضي أن المسلم مأمور في القرآن بالتفكير و التأمل و التدبّر و الاستقلال بذلك عن الآباء و الأجداد،و أخبار الزمن القديم و أئمة الدين،و ليس الخطاب مقصورا على العرب الأميين،و لا هو مقصور على أبناء القرن العشرين،و لكنه عام مطلق لكل عصر و كل زمان،إذ ليس من المعقول أن يفكر الإنسان على نسق واحد في جميع العصور.و مع هذا فالعقاد يؤكد أن التفكير7.
ص: 26
العصري شيء و إقرار النظريات العلمية المتجددة شيء آخر».
و نفس السؤال يطرحه الأستاذ محمد الصادق عرجون في كتابه«نحو منهج لتفسير القرآن»،مع العلم أنه يعارض معارضة شديدة لما وقع من تفسيرات علمية للقرآن، يقول (1):«إذا كان أسلافنا من أعلام العلماء و حكماء الإسلام قد خاضوا بحار العلوم و لجج المعارف،و اقتحموا حصون الأفكار في أزمانهم،و لم يتركوا منها مشرعا إلا و ردوه،و اتخذوا من كافة معارفهم و أفكارهم معينا لفهم كتاب اللّه فهما يقوم على حقائق العلم الصحيح لتبين هدايته و إقامة محبته،فما موقفنا نحن من عصرنا و معارفه و وسائله و أفكاره و مذاهبه؟هل نقف من آيات اللّه عند مبلغ ما وصل إليه أسلافنا في أعصرهم،و هو نهاية احترام العقول في بيئاتهم و أزمانهم و مجتمعهم؟أو نتقدم في شجاعة كما تقدموا إلى البحث بوسائل عصرنا،و نغوص في بحار معارفه بعقولنا التي ربّاها القرآن الحكيم و حديثه و براعة أسلوبه و لطف مدخله و دقة تصويره،و رائع تناوله لقضايا الحياة و الكون مع عنايته بتثبيت قواعد الإيمان في قلوب دارسيه من المؤمنين».
و رغم معارضته للتفسيرات العلمية التي وقعت للقرآن،نراه يجيب بضرورة ذلك و لكن بشروط هي أن لا نخضع القرآن لنظريات علمية لا تزال في مهبّ التجارب، و قد تعصف بها فتصبح من قبل الأساطير،كما فعل بعض المتحمسين و بعض المخدوعين ببريق العلم التجريبي،و أن نحذر أشد الحذر من الشطحات القرمطية التي تقصد إلى تحريف آيات اللّه عن مواضعها،و يخلص إلى القول (2)«و النظر في تفسير الآيات الكونية يجب أن يقصد أولا إلى تبيين هداية القرآن تبيينا علميا،لا على أساس أن نجعل النظريات العلمية التجريبية هي تفسير الآيات القرآنية و معانيها التي قصدها القرآن الكريم،و لكن على أساس أن القرآن الكريم لا يصادم علما ثبت بالبرهان القطعي ثبوتا لا يحتمل الارتياب و الشكوك،و الراسخون في العلم من المؤمنين تزيدهم النظريات العلمية في حقائق الكون و خواطر الطبيعة إيمانا بجلال اللّه و عظمة الخلاق العليم»...
إن جميع المعارضين لتفسير القرآن علميا،تنصب ملاحظاتهم على ممارسات بعض المفسرين و انحرافاتهم فيها،و لم أجد من يعترض مبدئيا أو فكريا أو يعطي قانونا عاما يبرّر به سبب رفضه للاستفادة من العلوم و المعارف الحديثة في تفسير القرآن.فالدكتورة عائشة عبد الرحمن،حينما تتحدث عن سلبيات التفسير العلمي،3.
ص: 27
تضع أمامها تفسيرات مصطفى محمود المبتسرة و التي لا تصمد كثيرا أمام النقد، حتى كتب أكثر من واحد كتابا كاملا في الرد عليه،منهم الدكتور عبد المتعال الجبري في كتاب«شطحات مصطفى محمود في تفسيراته العصرية للقرآن الكريم»، أما كتاب الدكتورة عائشة«القرآن و التفسير العصري»فهي تؤكد فيه أننا نتورط،من هذا المنهج في التفسير،إلى المزلق الخطر يتسلل إلى عقول أبناء هذا الزمان و ضمائرهم،فيرسخ فيها أن القرآن إذا لم يقدم لهم علوم الطب و التشريح و الرياضيات و الفلك و أسرار البيولوجيا و الإلكترون و الذرة ليس صالحا لزماننا،و لا جديرا بأن تسيغه عقليتنا العلمية و يقبله منطقنا العصري.و هكذا تصل إلى القول بأن مثل هؤلاء الذين يلحون على التفسير العصري للقرآن يغرون أبناءنا بأن يرفضوا القرآن كما فهمه الصحابة في عصر البعث و مدرسة النبوة،ليفهموه في تفسير عصر من بدع هذا الزمان.
أما الدكتور عبد المتعال فإنه يفترض على المفسر،قبل أن يدخل في مجال التفسير،ضوابط عدة منها دراسة العلوم الكونية و الاجتماعية،لأنها كما يقول تزيدنا يقينا بنسب القرآن إلى عالم الغيب و الشهادة الحكيم العليم،و يعتقد أن حقائق العلوم المنوعة التي سبق القرآن بتبيانها و لم تكن موجودة عند نزول القرآن،تزيدنا يقينا بأن القرآن من عند اللّه،إذ هي تؤكد لنا علم اللّه بالغيبيات و هيمنته على المخلوقات أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك14/] إِنّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [القمر49/] و هي برأيه ظلال من المعرفة تساعدنا على تصور عظمة اللّه في كتابه المسطور،و أنه على النحو الذي تجد عظمته في كتابه المنشور كتاب الوجود،فنقف أمامه سبحانه خاشعين مسلمين مؤمنين قانتين.
و يستنتج الدكتور من ذلك ضابطا أو شرطا للتعامل معها من خلال قوله (1)«و أبحاثنا العلمية-معشر البشر-ينعكس عليها قصور مداركنا و قدراتنا،و من ثم فهي أقل من أن نفهم في ضوئها كتاب اللّه،و إنما الصواب و المنطقي أن نفهمها في ضوء كتاب اللّه،فإن الكامل هو الذي يحكم على الناقص»،إلا أن الكاتب،و رغم كون كتابه محصورا بشطحات مصطفى محمود في تفسيراته العصرية،يطرح حكما قاسيا حينما يؤكد على (2)«إن الإلحاح على صوغ المفاهيم الإسلامية و نصوص الشريعة2.
ص: 28
في قوالب النظريات العلمية المعاصرة،له خطره على الإسلام ذاته في المدى البعيد لحركة الحرب ضد الإسلام»،و يضرب مثلا على ذلك العلاقة التي قامت بين المسيحية و العلم حينما حاولت أن تدخل شروح الإنجيل كدراسات في الطبيعة و الفلك و الرياضة و الطب و شتى العلوم،و درست هذه بقوانينها على أنها وحي مقدس،فلما سقطت هذه العلوم بالتطور سقطت المسيحية معها،و كذلك الحال مع الديانة الزرادشتية عند ما وضع علماء الدين و مدارسهم،التي كانت تهيمن على الثقافة،ما ليس من الدين من علوم الفلك و الطبيعة و غيرها،فلما جاءت الفلسفات اليونانية و السوريانية سقطت الديانة الزرادشتية مع علومها،و كذلك بعض الأديان الأخرى.ثم يطرح الكاتب سؤالا خطرا أكثر (1)«هل تشجيع المستعمر لهذا النمط من التفاسير أولا...ثم انسياق المخلصين في هذا التيار دون سوء قصد ثانيا،يسلمنا إلى المأساة التي تحطمت المسيحية على صخرتها؟إنها محاولات-لا شك-خير منها عدمها و أولى ألا تسمى تفسيرا للقرآن،و مع ذلك فلن تنال من الإسلام شيئا إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر9/]»،و كم سبقت في كيده محاولات فباءت بالفشل:
كناطح صخرة يوما ليوهنها*لم يضرها و أوهى قرنه الوعل إذن،فالمسألة أخطر من أن نمرّ عليها مرور الكرام،حيث دخل الاستعمار فيها بشكل غير مباشر،و لو عدنا قليلا إلى قصة تفسير القرآن عبر التاريخ،و ما دخل عليها من انحرافات سنجد أن هذا الانحراف في التفسير العلمي-إذا صح الادعاء به-يكون ليس جديدا على محاولات تفسير القرآن بأشكال و أساليب مختلفة،فما ذكره الشيخ خالد عبد الرحمن العك في كتابه«أصول التفسير و قواعده»عن الاتجاهات المنحرفة في التفسير عبر التاريخ قوله (2)«إن مما لا شك فيه أن إخضاع تفسير القرآن الكريم لميول شخصية،و مذاهب ذات مفاهيم مغالية،فتح على المسلمين باب شرّ خطير،و لج منه أعداء الإسلام للدّس فيه و تشويه صورته و إفساد عقائده،كما أنه دلف منه أصحاب البدع إلى ترويج بدعهم متسترين بآيات اللّه تعالى، كما مني التفسير بأصحاب الميول المختلفة و النزعات المنحرفة حين وضعوا أقوالا في التفسير نسبوها إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أو إلى بعض أصحابه زورا و بهتانا...».8.
ص: 29
إذن،فالانحرافات التي دخلت على تفسيرات القرآن كثيرة و متنوعة،و لكن كل هذا ما كان ليضر القرآن شيئا،فأخطاء التفسير لا تقدح في القرآن،و إنما بالمفسرين أنفسهم،فهم الذين أخطئوا،قصدا أو بلا قصد.و يرجع الشيخ خالد العك عوامل هذا الانحراف إلى ثلاثة عوامل:أولها:فساد نوايا المفسرين لتحقيق غايات نكرة أو مشبوهة،و ثانيها:أن يعتقد المفسر معنى من المعاني ثم يريد أن يحمل ألفاظ القرآن الكريم على ذلك المعنى الذي يميل إليه و يعتقده،و ثالثها:أن يفسر القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده بكلامه ممن كان من الناطقين بلغة العرب،و ذلك بدون نظر إلى غاية المتكلم بالقرآن و هو اللّه تعالى،و إلى المنزّل عليه،و هو رسول اللّه،و المخاطب به و هم الناس جميعا.و يظهر انحراف التفسير في العامل الأول بسوء النية،و الثاني في حمل الألفاظ القرآنية على المعنى الذي يميل إليه،و يعتقده من غير نظر إلى ما تحمله الألفاظ من المعاني الواضحة و من الدلالة و البيان،و العامل الثالث إثبات المعنى الذي يراه المفسر،من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلم بالقرآن،و هو اللّه تعالى و المخاطب به و سياق الكلام.
إن صور الخطأ في العامل الثاني يظهر من خلال كون المعنى الذي يريده المفسر صوابا،غير أن لفظ القرآن لا يدل عليه و لا يراد منه،كتفاسير بعض الصوفية و الوعاظ الذين يفسرون القرآن بمعان صحيحة في ذاتها لكنها غير مرادة في النص و إن كان المعنى الظاهر لا ينافيها،و قد تظهر صورة الخطأ بأن يكون المعنى الذي يريده المفسر صحيحا لكن ظاهر النص لا يحتمله،كتفاسير بعض الصوفية الذين يفسرون القرآن بمعان إشارية صحيحة في حد ذاتها،و لكنهم يقولون إن المعاني الظاهرية للآية غير مرادة،و هو أقرب ما يكون إلى تفسير الباطنية،و قد تظهر صور الانحراف بأن يكون المعنى الذي يريده المفسر خطأ،و هو مع هذا يحمل عليه لفظ القرآن مع أنه لا يدل عليه و لا يراد منه.و قد تظهر هذه الصور بأن يكون المعنى الذي يريد المفسر نفيه أو إثباته خطأ بيّنا،و هو مع هذا يسلب لفظ القرآن ما يدل عليه و يراد به و يحمله على ذلك الخطأ تعمدا،و هذه الصورة تنطبق على أهل البدع و المذاهب الباطلة من الغلاة و المتعصبين.
أما صور الانحراف،التي تظهر في العامل الثالث،فتظهر من خلال أن يكون اللفظ محتملا للمعنى الذي ذكره المفسّر لغة،و لكنه غير مراد،و ذلك كاللفظ الذي يطلق في اللغة على معنيين أو أكثر و المراد منهما واحد بعينه حسب السياق،فيأتي المفسّر فيحمله على معنى آخر من معانيه غير المعنى المراد.أو قد يظهر بأن يكون
ص: 30
اللفظ موضوعا لمعنى بعينه و لكنه غير مراد في الآية،و إنما المراد معنى آخر غير ما وضع له اللفظ بقرينة السياق مثلا،فيخطئ المفسّر في تعيين المراد لأنه اكتفى بظاهر اللغة فيفسر اللفظ على معناه الوضعي.
إذن،هذه هي الاحتمالات و الانحرافات التي كشف عنها تاريخ تفسير القرآن في الماضي،و يمكن من خلالها معرفة كثير من الأخطاء التي وقع بها المفسرون في السابق لعدم تقيدهم بشروط التفسير الموضوعة له،و لأن السبب الأساسي الذي كان يحرّكهم هو البدع الباطلة التي دعتهم إلى تحريف الكلم عن مواضعه،و فسروا كلام اللّه تعالى و سنة رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم بغير ما أريد به،و تأولوه على غير تأويله.
فأصحاب المنهج الفلسفي الكلامي خاضوا في تفسير الآيات المتشابهات و تأويل الصفات على مقتضى العقل فقط،و أرادوا من الآيات أن تكون أدلة شاهدة على أفكارهم،فأخذوا في تأويلها بشتى الوجوه حتى يطابقوها على ما يريدون،و إذا ما وجدوا آيات تقف ضد أفكارهم أخذوا في تأويلها لتطابق أصولهم.و أما أصحاب المنهج الصوفي فقد استخدموا المنهج الإشاري الرمزي لآيات القرآن،لاعتقادهم أن كل آية في القرآن تخفي وراءها معنى باطنا مقصودا لا يكشفه اللّه إلا للخاصة منهم، و أن المعرفة الحقة اليقينية لا تدرك إلا بالتأويل الباطني العميق و المجاهدة النفسية في حالات الكشف العليا،و أن الوقوف على ظواهر النصوص القرآنية حجاب يمنع من الوصول إلى معرفة حقائق الأمور،و أن علم الظواهر يدخله الظن و الشك، و الكشف الباطن يرفع الظن و يزيل الشك.و أما أصحاب الغلو و المتعصبين فقد دأبوا على حمل الآيات القرآنية بشكل متكلّف لتأييد آرائهم و تثبيت أفكارهم،فالخوارج و الجبرية و المعتزلة...هم أصحاب هذا المنهج،و من هنا أيضا يمكن وصف تدخل السياسة في تفسير القرآن حينما أخذ بعض المفسرين يشير إلى طوائف الحرورية و الخوارج،بل و حرب علي و معاوية و غيرها على أن لها إشارات دالة في القرآن الكريم،و قد كان للشيعة تفاسير خاصة أيضا في هذا المجال.
و إذا عرفنا أن كل هذه الانحرافات قد دخلت في التفاسير عبر التاريخ،رغم ادعاء كل فئة إلى أنها هي الصواب و غيرها الخطأ،حتى عادت حركة التفسير من جديد إلى الوراء لتنقية تفاسير القرآن من الأغاليط،فاتجه بعض المتأخرين إلى الوقوف عند حدود تفسير الرسول و الصحابة و التابعين له وقوفا حادا،و مع هذا فقد كان للإسرائيليات نصيب كبير في بعض هذه التفاسير لم يستطع أن يتخلص منها كليا..
لقد كانت الصورة الكئيبة،التي عاشتها الأمة الإسلامية حتى القرن التاسع عشر،
ص: 31
صورة تعكس وقف النشاط الفكري و العلمي و سيادة الخرافات،و اصطبغت العقلية الإسلامية بصيغة القعود و التواكل و انتشار الجهل،و لما كان الدافع الأساسي لحركة هذه الأمة و انبعاثها هو القرآن الكريم فكان يجب أن يقع اللوم على المفسّرين،الذين أقعدوا القرآن بتفاسيرهم و خرافاتهم على أن يقوم بفاعليته الأساسية في بعث الأمة، و أن يبقى منارا قائدا لها في كل زمن و حين،و لهذا نرى أن بدايات حركة النهضة العربية انطلقت من إعادة النظر إلى القرآن و إعطائه دوره في بعث الأمة،و ذلك من خلال فهمه الفهم الصحيح،و تجاوز كل التفسيرات المشوّهة التي طرحت كل شيء في أقوالها إلا القرآن،و قد تجمد القرآن في كتبهم في أحسن أحواله بدراسات لغوية و لفظية و بلاغية و نحوية و معان جامدة تسودها الإسرائيليات و الخرافات الباطنية، حتى غطت بغبارها على روح القرآن الحقيقية التي كانت أساس بعث أمة أميّة قادت العالم في أنصع و أنضج حضارة في تاريخ العالم،من هنا كانت دعوة جمال الدين الأفغاني إلى النهضة و اليقظة بإعادة النظر في تفسيراتنا للقرآن.يقول الدكتور محسن عبد الحميد و هو يبحث المدرسة الحديثة في تفسير القرآن (1):«هاجم الأفغاني بشدة المناهج التفسيرية التي أقحمت علوما و مصطلحات غريبة عقلية و لغوية و نقلية في تفسير الآيات،فحجبت حقائقه عن الناس،و صنعت من تفسير آياته أحاجي معقدة لا يستطيع إلا العالم الخبير أن يقترب منها،و تحوّلت كتب التفسير إلى ميادين تعبيرية بالغة الصعوبة يستعرض فيها العالم قوته كلها لإغلاق العبارات،فحرم المسلم من تذوق القرآن و فهم آياته و الانفعال بروحه.و دعا الأفغاني إلى فهم القرآن و السنة النبوية الصحيحة و أعمال السلف الصالح،أما ما تراكم عليه و تجمّع حواليه من آراء الرجال و استنباطاتهم و نظراتهم فينبغي ألا نعوّل عليها و حيا،و إنما نعوّل عليها رأيا، و لا نحملها على أكفنا مع القرآن في الدعوة إليه و إرشاد الأمم إلى تعاليمه...و كان يدعو إلى منهج في التفسير يقلع ما رسخ في عقول العوام و معظم الخواص من فهم بعض العقائد الدينية و النصوص الشرعية على غير أوجهها،مثل حمل نصوص القضاء و القدر على معنى يوجب عليهم ألا يتحرّكوا إلى طلب مجد أو تخلص من ذل».
و هكذا نرى أن الدكتور محسن عبد الحميد يعتقد أن الأفغاني و محمد عبده، و رشيد رضا أعادوا للقرآن صورته الحقيقية بعد نزع كل الخرافات و التأويلات0.
ص: 32
و التفسيرات اللغوية و اللفظية،و كل ما حجب حقيقة القرآن و روحه عن المسلمين، و كان تفسيرهم المشترك«المنار»هو خير التفاسير التي قدمت لبداية التفسيرات الحديثة للقرآن (1):«إن ما يؤاخذ صاحب المنار المفسرين عليه هو إخضاعهم النصوص القرآنية الواضحة للمصطلحات العلمية و الفلسفية و الأصولية الحادثة،دون أن ينطلقوا من ضوابط صحيحة في التفسير اتفق عليها المحققون من علماء القرآن و فقهاء الأمة،في تحديدهم مفاهيم الألفاظ و استنباطهم الأحكام من مدلولات التراكيب،و بناء الأفكار الإسلامية على اتجاهات متينة متفقة مع تلكم الضوابط».
لقد رد تفسير المنار على المفسرين بالرأي و على الصوفية و على الباطنية و أهل البدع،ثم قام بتنقية التفاسير من الإسرائيليات الكثيرة و الأخبار الواهية التي أفسدت، على كثير من المسلمين،حقائق الدين و قوانين الحياة،فكوّنت عندهم عقلية خرافية تصدق كل خبر دون تمحيص أو تدقيق مما يصطدم أساسا مع الإسلام الذي دعا إلى التفكير و النظر.على أن الملاحظ على هذا المنهج التفسيري العقلي،و نتيجة لموقعه بين ضغط الخرافة من جهة و ضغط الفتنة بالعلم من جهة أخرى،مما جعله يميل إلى جعل مألوف السنن الكونية هي القاعدة الكلية لسنة اللّه،فردّوا الكثير من الخوارق إلى مألوف سنة اللّه دون الخارق منها،و إلى تأويل بعضها بحيث يلائم المعقول،و إلى الحذر و الاحتراس الشديد من الغيبيات،و هو ما ذكره سيد قطب في ملاحظاته عليه.إن هذا المنهج العقلي في التفسير هو الذي قاد لأن ينص،فيما ينص عليه من ضوابط،على (2)«المبدأ القائل كلما ازددنا معرفة بما في الوجود من الأسرار و القوانين ازددنا علما بما في كتاب اللّه،ذلك لأن الكون المنظور أعظم و أدق تفسيرا للكون المقروء،فلا بد إذن من الاستفادة من العلوم المتنوعة و الثقافات الإنسانية المتعددة الحديثة في تفسير القرآن في داخل الضوابط الأصولية المعروفة بين علماء الإسلام،التي تضبط الاتجاه لحركة تفسير القرآن في كل عصر،و قد تكون هذه هي النافذة التي بدأ منها دخول التفسير العلمي إلى القرآن بالمفهوم المعاصر، خاصة و أنه تاريخيا بدأ فيما يبدو بعدها بقليل،و إن كان لم يلتزم في بداياته بالضوابط الأصولية الخاصة بالتفسير فانحرف إلى ما انحرف إليه».
لا شك أن التطرف في التفسير العلمي هو الذي جعله ينحرف عن مساره كتفسير، إضافة إلى عدم تقيده بالضوابط المعمول بها للتفاسير،و قد لخص الشيخ خالد العك1.
ص: 33
انحراف تفسير الشيخ طنطاوي جوهري بالصور التالية (1):
1)يفسّر الآيات القرآنية تفسيرا لفظيا مختصرا،ثم سرعان ما ينطلق لذكر أبحاث علمية مستفيضة يسميها«لطائف أو جواهر»،و تلك الأبحاث المستفيضة بطبيعة الحال أفكار علماء الشرق و الغرب في عصره،و هو بهذا جعل تفسيره يخرج عن موضوعه الأساس ألا«و هو إظهار معاني القرآن بالطريقة الشرعية»حتى قال بعض نقاده«فيه من كل شيء سوى التفسير».
2)إيداعه في تفسيره صور النباتات و الحيوانات و المناظر الطبيعية و تجارب العلوم،و هذا ما لا يعهده المسلمون في تفسير القرآن العزيز.
3)اعتماده في تفسير كثير من الحقائق الدينية التي جاء بها القرآن نقية صافية،على ما جاء عن أفلاطون في نظريته،و هذا ما لا يجوز شرعا لأن القرآن بحقائقه الثابتة الناصعة بغنى عن أوهام الفلسفة الأفلاطونية.
4)ركونه إلى تفسيرات الباطنية الباطلة في رسائل إخوان الصفا،فهو حين ينقلها يبدي رضاه عنها و تصديقه بها مع أنها تخالف الثابت من نصوص الكتاب و السنة.
5)استخراجه علوما مزعومة بواسطة حساب الجمل الذي لا يوصل إلى حقيقة ثابتة،و هذه طريقة أخذت عن اليهود،كما أنه يعتمد أوهام تحضير الأرواح التي يقول بها الخرّاصون.
هذه هي مجمل الأمور التي جعلت تفسيره يخرج عن منهج علمائنا الثقات الأثبات في تفسير القرآن الكريم.
أما مدّعي التجديد،كما يسميهم خالد العك،فيذكر ثلاثة منهم،هم مصطفى محمود في«تفسيراته العصرية للقرآن الكريم»،و الشيخ أبو زيد الدمنهوري في «الهداية و العرفان في تفسير القرآن»،و الأستاذ عبد الودود يوسف في تفسيره«تفسير المؤمنين»،و يذكر أن انحرافات مصطفى محمود نشأت من النقاط التالية (2):
1)تصويره أن القرآن الكريم إذا لم يقدّم للناس علوم الطب و التشريح و الرياضيات و الفلك و أسرار البيولوجيا و الإلكترون و الذرة،فليس صالحا لزماننا و لا جديرا بأن تسيغه عقليتنا العلمية و يقبله منطقنا العصري.
2)تفلّته من قيود الآداب الإسلامية في التعبير في التفسير،فوقع في أسر الانفعال و الرغبة في التعبير المتحرر من الألفاظ الرصينة الهادفة لأسمى5.
ص: 34
المعاني التي تليق أن يؤتى بها في تفسير كلام اللّه تعالى،حيث لم يهذّب عباراته بالتأدب في حق اللّه تعالى و حق كلامه الكريم،كما لم يهذب ألفاظه مع علماء الإسلام فقدح بهم على لسان المتصوفة النظريين.
3)تمثله في كتابته بصورة المتلهّف الظمآن إلى آفاق روحية مندفعة اندفاع من أتخمه الشبع المادي حتى أحس بثقل أغلاله،فانطلق وراء سراب للخلاص،غير عابئ بأي شيء،فوقع في شطحات الصوفية النظرية،كما وقع في تأويلات الباطنية.
4)و في ضجيج العصرنة(الطنانة الرنانة)،يقدم تفسيره العصري في صورة «العجائب و الغرائب»التي تبهر بصر العامة فلا تعد ترى الرؤية الصحيحة التي تميز الحق من الباطل،و لا تقدر أن تفصل بين منطق التفكير العلمي الصحيح و جرأة الادعاء.
هذه هي مجمل الأسباب التي جعلت رجل العصر و العلم ينحرف في تفسيراته العصرية للقرآن الكريم.
أما الشيخ أبو زيد الدمنهوري فقد أحدث ضجّة كبرى في أوساط علماء الأزهر، حيث أنكروا عليه منهجه المنحرف في تفسيره،و انتهى الأمر بمصادرة الكتاب و الحكم على صاحبه بالزيغ و الضلال.
أما«تفسير المؤمنين»،لعبد الودود يوسف،فيكفي أن البوطي قال عنه«أعتقد أن جميع العلماء يتفقون على أن هذا التفسير يحوي بين دفّتيه أخطاء كثيرة جدا جدا، حتى لو تجاوزنا الأخطاء الشكلية التي تكون في العبارة بسبب الركّة أو عدم جلاء المعنى،لأن الكاتب ربما لم يستطع أن يوضح فكرته.لو تجاوزنا هذا....فإن هناك أخطاء أخرى في الصميم،يعني في الأحكام في تفسير جوهر الآيات،و هذه الأخطاء،كما و كيفا،مهمة جدا».
من كل ما تقدم،نرى أن الأخطاء و الانحرافات،التي وقعت في بعض التفسيرات العلمية و المعاصرة،لم تقم على أساس مبدئي أو تأصيلي،و إنما قامت و وقعت بسبب عدم التزام الضوابط العامة لأي تفسير،و كل تفسير لا يلتزم بالضوابط العامة الموضوعة من قبل علماء الإسلام لكل تفسير،فإنه سينحرف عن مسيرته سواء كان تفسيرا علميا أو صوفيا أو باطنيا أو كلاميا،لذا فإن جميع الملاحظات الواردة على النماذج المذكورة،في جانب التفسير العلمي و العصري،لا تختص بتفسير دون تفسير،فهي ملاحظات منهجية يخطئ بها كل من يتجاوزها و يقوم بالتفسير،لذا فلن
ص: 35
تكون حجة أو دليلا حاكما لإهمال و ترك التفسير العلمي للقرآن،بل و الإعجاز العلمي الجديد له.إن الأخطاء في التفاسير موجودة،كما ذكرنا سابقا،فلا يعني هذا أن نترك كل التفاسير لهذه الحجة،و نحن نرى أن الدكتور محسن عبد الحميد،بعد استعراضه للتفاسير عبر التاريخ،يقول عن هذا الاتجاه العلمي (1):«الذي أعتقده أن من الضروري أن نستفيد من تطور العلوم و المعارف في فهم كثير من الآيات الكونية في القرآن الكريم،و الخطأ في التفسير حينئذ لا يكون خطأ فيه،إذ من المسلمات عند العقلاء أنه ليس كل ما يذكره المفسرون،في تفاسيرهم في تفسير القرآن صحيح».
على أن الحجة الأقوى،التي يذكرها المعترضون على مثل هذا التفسير،تتلخص، كما رأينا،عند العقاد و عند محمد الصادق عرجون و غيرهم كثير،هو الخوف من تسمية الحقيقة القرآنية الحقيقة العلمية،ثم يمضي زمن فنكتشف علميا أن هذه الحقيقة ليست علمية،و بالتالي ينتج أن نخطّئ القرآن أو نغير تفسيره عند كل مستجد من الحقائق العلمية،خاصة و أن العلوم تتطور و بشكل سريع يجعلها قد تنقلب من النقيض إلى نقيضه أحيانا،و بذلك نكون قد نزعنا عن القرآن يقينه المطلق المشخص،و سلّمنا أمره إلى التجارب العلمية الاحتمالية أو النظريات العلمية الافتراضية.و هنا يذكر الأستاد عبد الوهاب خلاف نصا واضحا لا لبس فيه،يدافع فيه عن هذا السلوك و الرأي فيقول (2):«و بعض الباحثين لا يرتضون الاتجاه إلى تفسير آيات القرآن بما يقرره العلم من نظريات و نواميس،و حجّتهم أن آيات القرآن لها مدلولات ثابتة مستقرة لا تتبدّل،و النظريات العلمية قد تتغير و تتبدل،و قد يكشف البحث الجديد خطأ نظرية قديمة،و لكن لا أرى هذا الرأي،لأن تفسير آية قرآنية بما كشفه العلم من سنن كونية ما هو إلا فهم للآية بوجه من وجوه الدلالة على ضوء العلم،و ليس معنى هذا أن الآية لا تفهم إلا بهذا الوجه من الوجوه،فإذا ظهر خطأ النظرية ظهر خطأ فهم الآية على ذلك لا خطأ الآية نفسها،كما يفهم حكم من آية و يتبيّن خطأ فهمه بظهور دليل على هذا الخطأ».
و إذا كان هذا الجواب لا يكفي لأنه يترك فكرة التغيّر على العلم قائمة و بالتالي يتغير التفسير معها،فإننا نجد تتمة الجواب الأوفى عند شعراوي الذي يقول،في كتابه«هذا هو الإسلام»،و في حديثه عن علاقة الحقيقة العلمية و القرآن،و تأكيده أن الحقيقة العلمية يجب أن تلتقي مع القرآن لأن القرآن كلام اللّه و حقائق الكون خلق0.
ص: 36
اللّه،فلا بد أن ينسجما يقول (1):«إن الناس لا يفطنون إلى أهمية تحديد ما هو العلم؟ لا يقال علم إلا إذا كانت قضية و أنت تجزم بها و هي واقعة و عليها دليل،بغير ذلك لا يكون علما،و العلم من أجل اكتشاف حقائق الكون مفهوم أن يبدأ بالملاحظة ثم التجربة ثم النظرية ثم الحقيقة العلمية،فلا يقال حقيقة علمية إلا في نهاية المطاف بأن تسلم،و كل الجزئيات تنطبق على هذه الحقيقة و لا تشذ عنها حقيقة،فإذا جئت لتخضع القرآن لملاحظة علمية نقول لك هذا غلط،لأنه من الجائز ألا تنجح الملاحظة بالتجربة،و إذا جئت لتخضع القرآن لتجربة علمية نقول أيضا هذا غلط، لأنه من الجائز ألا تنفع التجربة،و إذا أردت أن تخضع القرآن لنظرية نقول هذا غلط أيضا،لأن النظرية يمكن أن تخطئ،لكن إذا وصلت إلى حقيقة علمية نقول لك:إن لم يكن في القرآن ما يؤيدها فليس فيه قطعا ما يعارضها،لكن نحن نقول أيضا إن العلم لا يعرف الكلمة الأخيرة باستمرار،ما يسمى بالحقائق العلمية اليوم يخضع للتغيير و التبديل غدا،هنا لا تكون حقيقة».و يضيف شعراوي أيضا:«إذن،فالذين يمنعون أن القرآن قد يلتقي ببعض الحقائق العلمية نقول لهم لا،لكن حققوا أولا أنها حقيقة علمية،فإذا وصلت مسألة إلى مرتبة الحقيقة العلمية فالقرآن لا يعارضها، بل يمكن أن يؤيدها».
إذن،فالخطأ ليس خطأ الحقيقة العلمية و إنما خطأنا نحن في طريقة قراءتنا لها في القرآن.يجب إذن أن نضع ضوابط لطريقة فهمنا و تفسيرنا للقرآن على ضوء العلم بهذه الدقة لكي لا تشتبه علينا الأمور،لأن أكثر الملاحظات الواردة على التفسير العلمي جاءت من أسلوب التعامل بين الحقيقة العلمية و القرآن،و على هذا الأسلوب،سليما أو خاطئا،كانت الأحكام تطلق على التفسير العلمي للقرآن رضا و قبولا،أو رفضا و احتجاجا،على أن من الملاحظات التي ذكرت على هذا التفسير أيضا أنها قد تطغى تلك المباحث عن المقصود الأول في القرآن،و هو الهداية و الإعجاز،و هو ما وصف به تفسير طنطاوي أن فيه كل شيء إلا التفسير،لأن إسراف المفسّر من هذا يجعل التفسير ليس بتفسير،حيث يكون أشبه بكتب العلوم و الفنون منه بكتب التفسير.لقد ذكر الأستاذ محمد عبد العظيم الزرقاني في كتابه «مناهل العرفان في علوم القرآن»أن من آثار امتزاج العلوم الكونية بالتفسير ما يلي (2):0.
ص: 37
1)مسايرة أفكار الناس و معارفهم،و تفسير القرآن لهم تفسيرا يشبع حاجاتهم من الثقافة الكونية.
2)إدراك وجوه جديدة للإعجاز في القرآن من ناحية ما يحويه أو يرمز إليه من علوم الكون و الاجتماع.
3)دفع مزاعم القائلين بأن هناك عداوة بين العلم و الدين.
4)استمالة غير المسلمين إلى الإسلام من هذا الطريق العلمي الذي يخضعون له دون سواه في هذه الأيام.
5)الحث على الانتفاع بقوى الكون و مواهبه.
6)امتلاء النفس إيمانا بعظمة اللّه و قدرته،حينما يقف الإنسان في تفسير كلام اللّه على خواصّ الأشياء و دقائق المخلوقات حسب ما تصوّرها علوم الكون.
كما أن لامتزاج العلوم الكونية و الآدمية بالتفسير آثارا أخرى مشتركة بينهما فيما يأتي:
أ)زيادة الثقة بالقرآن و عروبته و معارفه و إعجازه.
ب)الإيمان بأنه كتاب غني بكل ما يحتاجه إليه البشر من ألوان السعادة.
ج)الإيمان بأنه كتاب الساعة و دستور الناس إلى يوم القيامة،يصلح لكل زمان و مكان،و لا يستغني عن كنوزه و ذخائره إنسان.
إن أكثر الملاحظات و التفسيرات الخاطئة المستشهد بها لدى المعترضين تقوم على كيفية و أسلوب تعامل القرآن مع الحقيقة كما ذكرنا،و أحيانا نجد أن المؤيدين و المعارضين في التفسير على ذات الآية القرآنية و ذات الحقيقة العلمية،و لكن أسلوب أحدهما يقود إلى بينة للمعارضين و أسلوب الآخر يقود إلى بيّنة للمؤيدين، فالاختلاف إذن ينصب على طريقة تعامل و تعبير كل منهما عن هدفه،و إذا ما اتفقنا على أسلوب موحّد فإن كثيرا من ضجيج و براهين المحتجين و المعترضين على التفسير العلمي تسقط و لا تصلح للاحتجاج بها،لذا فإن الدكتور محسن عبد الحميد يضرب مثلا على المظهرين اللذين يجب أن يتخذهما التفسير العلمي في نظره، فيقول (1):
«أولهما:تسخير الحقائق العلمية في كشف مدلول الآية القرآنية،فاحتمال الخطأ هنا غير قائم،على سبيل المثال قوله تعالى قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى(49) قالَ رَبُّنَا الَّذِي6.
ص: 38
أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه49/،50]،فإذا جئنا فسخّرنا علم الحياة كلها في تفسير هذه الآية و بيان عظمة الخلق الإلهي و دقته كان حسنا و مفيدا جدا،لأننا سنبين هنا سر الإعجاز في هذه الآية الكريمة.فنحن هنا نتحدث فقط عن تفاصيل خلق الكائنات و سبل الهداية المتنوعة الدقيقة و العجيبة التي زوّد اللّه بها تعالى تلك الكائنات،و لم ندّع أن القرآن فيه تفاصيل علم الكائنات،لأنه من المعلوم أن تلك التفاصيل متروكة للعقل يكتشف فيها قوانين الحياة الدقيقة المتنوعة عبر الزمان و المكان.
و ثانيهما:تفسير آية قرآنية بحقيقة علمية أو نظرية علمية محدّدة المعالم،ففي قوله تعالى أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها [الرعد41/]لا يمكن أن نقطع بأن الآية تدلّ دلالة قطعية على كروية الأرض،أو هي المعنى المقصود في الآية،لعدم قيام الدليل القطعي على ذلك لا من منطوق الآية و لا مفهومها،و لكن نستطيع أن نقول إنه من الاحتمال أن تكون كروية الأرض ضمن معنى الآية الكريمة،و كذلك قوله تعالى أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَ فَلا يُؤْمِنُونَ [الأنبياء30/].
فالنظريات العلمية في نشأة الكون تذهب إلى أن النجوم و الكواكب كانت،في مبدأ نشوئها،كتلة سديمية كبيرة جدا تكونت منها تلك النجوم و الكواكب بفعل قوانين طبيعية فيزيائية معينة،فإذا جاء المفسّر فادّعى أن المقصود بمعنى الآية تلك النظريات أخطأ في مدّعاه،و إذا قال ليس بعيدا أن يكون ذلك المعنى هو المراد كان الاحتمال في صدق مدّعاه قائما،و حينئذ لم يفعل شيئا إلا أنه استأنس بتلك النظريات في إلقاء الضوء على معنى الآية،فإذا أخطأ في التفسير،لبطلان تلك النظريات في يوم من الأيام،كان الخطأ خطأ التفسير و ليس بطلانا لمعنى القرآن الكريم في آية من آياته».
إن جميع هذه المحاولات التوفيقية،بين مؤيدي التفسير العلمي و معارضيه، استدعت أن يوضع للتفسير العلمي ضوابط محددة للمفسرين حتى لا يقع أحد في التقول على اللّه بغير علم،فمن تقيد بها عصمته من الخطأ و الخطل.
و مجمل هذه الشروط التي وضعها العلماء هي (1):
1)مراعاة شروط التفسير العامة لكل تفسير و المقرة من قبل الأصوليين.4.
ص: 39
2)أن يكون التفسير للآيات الكونية مطابقا لمعنى النظم القرآني.
3)ألا يخرج حد التفسير إلى عرض النظريات العلمية المتضاربة.
4)أن يتثبت المفسر من النظريات العلمية التي يفسر بها الإشارات القرآنية الكونية.
5)ألا يحمل الآيات القرآنية على النظرية العلمية حملا،فإن كانت النظرية مطابقة للمعنى فبها و نعمت،و إلا...فلا.
6)أن يجعل مضمون الآيات القرآنية الكونية أصلا للمعنى الذي يدور حوله الإيضاح و التفسير.
7)أن يلتزم بالمعاني اللغوية في اللغة العربية للآيات التي يريد إيضاح إشاراتها العلمية،لأن القرآن عربي.
8)ألا يخالف مضمونا شرعيا في تفسيره.
9)أن يكون تفسيره مطابقا للمفسّر من غير نقص لما يحتاج إليه من إيضاح المعنى،و لا زيادة لا تليق بالغرض و لا تناسب المقام.
10)أن يكون مراعيا للتأليف بين الآيات و تناسبها و مؤاخاتها،فيربط بينها لتكون وحدة موضوعية متكاملة.
و يبقى السؤال مطروحا عن مدى الحاجة و الضرورة التي تجعلنا نطرق تفسير القرآن علميا في هذا العصر،أ لا يكفي في دعاية البشر إلى الهداية المضامين و الأفكار التي فهمها العرب و المسلمون من القرآن في القديم؟ و لما ذا ندخل هذا الباب الذي كثر فيه الخطأ حتى خشينا على القرآن أن يزداد تفسيرا باطنيا جديدا؟ ثم هل من القرآن نفسه ما يدعونا إلى طرق هذا الباب و يأمرنا به لكي نكون مأمورين شرعا به؟و لو افترضنا أننا لم نطرق هذا الباب فهل نكون بهذا قد حجّمنا القرآن و قيّدناه بعصر دون عصره؟و قللنا من صلاحيته لكل زمان و مكان؟و إذا كان القرآن طالبنا بالتدبّر و التفكّر،أ لا يكفي سلاح العقل و ما قدّمه المتكلمون و الفلاسفة المسلمون لاستيعاب عملية التدبّر و التفكر القرآني؟و لا نحتاج إلى تجارب العلماء و بحث المختبرات التي تخرج كل يوم علينا بنظريات علمية جديدة و قوانين عن الكون و الطبيعة و الحياة،تنقض فيها ما سبق من نظريات و قوانين كانت تسميها هي نفسها علمية فتجاوزتها إلى غيرها،و لم تتوقف الحياة على شكل دون شكل من هذه النظريات و القوانين؟ و أخيرا،هل نستطيع مثلا أن نستغني عن التفسير العلمي للقرآن و الإعجاز
ص: 40
العلمي في هذا العصر،الذي لا يعرف إلا لغة العلم و الحضارة و الطاقة و المادة و النسبية،و لغة الرقم الحسابي في الكمبيوترات تتحكم في كل مفردات حياته؟ و للجواب على هذه الأسئلة جميعا كان علينا استعراض أفكار و آراء و مضامين الذين يؤيدون التفسير العلمي،و ما يعنيه في العصر الحاضر أمام تصادم الحضارات و الأفكار و صراعها بين الشرق و الغرب،و بين المادية و الروحية،و بين معسكرات الإلحاد و معسكر الإيمان و أسلحة العلم و مختبراته و بحوثه،التي تخدم أغراض كل معسكر و كل اتجاه.فهل نستطيع أن نقف على الحياد أو نرفض التعامل مع العلم المعاصر و صراع التلسكوبات و الأقمار الصناعية تزدحم في الفضاء،و صراع الميكروسكوبات مع الخلية الحية و مع مفردات الذرة و جسيماتها حتى ضاق العالم من التسميات الجديدة للاكتشافات داخل كل منها،فاستخدموا الكمبيوترات المتقدّمة لخزن المعلومات عنها بدل الكتب و الأوراق التي لا تتسع لها؟هل نستطيع أن ندّعي أن ديننا و قرآننا صالح لكل زمان و مكان و نحن جالسين على التّلّ لا نبدي رأيا،و ليس لنا رأي في كل هذا لأن قرآننا نزل في غير هذا العصر و لقوم أميين فسّروه عند معطياتهم اللفظية و البلاغية،و استخرجوا منه الأحكام التي يريدون و عمّموها،فنحن نطبقها كما هي و نفهم القرآن كما فهموه؟ألا نكذّب نحن القرآن نفسه حينما نضعه هذا الموضع،و هو الذي دعا بأكثر من سبعمائة آية للتفكر و التدبّر علميّا بالكون و خلقه و خالقه،و يتوجه بالخطاب،في خمسين موضعا،للذين يعقلون،و مائة موضع للذين يعلمون، و ثلاثين موضعا للذين يتفكرون و يتفقهون؟ألا نكون مناقضين للقرآن نفسه و هو الذي يخاطبنا مباشرة بالجواب على كيف لفهم حقيقة الخلق أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ(17) وَ إِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ(18) وَ إِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ(19) وَ إِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ...الخ[الغاشية17/-20]و إذا كان القرآن هو دليل و معجزة سيدنا محمد صلّى اللّه عليه و سلّم،و أنه نبي من عند اللّه،فكيف سنحاجج أبناء هذا العصر،علماء و مثقفين و عوام،بأن رسولنا مرسل إلى الخلق كلهم حتى قيام الساعة،و لا نبي بعده لأنه خاتم النبيين،إذا لم يكن هذا الدليل و هذه المعجزة قائمة بعملها الإعجازي لكل العصور و أبنائها المخاطبين بهذا النداء؟و لو كانت هذه المعجزة معجزة لأبناء العصر الذي أنزلت عليهم فآمنوا بها في وقتها،فما الذي يجعل أبناء عصرنا و العصور اللاحقة لا معجزة لديهم سوى الأخبار التاريخية عن هذه المعجزة،فما الفرق بينها و بين معجزات باقي الأنبياء الذين مضوا مع معجزاتهم
ص: 41
و ليس لهم دليل اليوم على صدق نبوتهم بمعجزاتهم غير أخبار يرويها التاريخ؟ «إن الإيمان بالنبوّة يقتضي وجود المعجزة،و التصديق الجازم بخوارق العادات يحتاج إلى برهان،فمعجزة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم هي القرآن،و لا تزال هذه المعجزة تتحدى منذ أكثر من أربعة عشر قرنا و إلى الآن،أما معجزة الأنبياء السابقين فإنها غير مدركة و لا محسوسة لنا في الوقت الحاضر» (1).إذن،فإن المعجزة هي دليل صدق الأنبياء على دعواهم،و لقد كان القرآن و لا يزال هو المعجزة المثبتة لنبوة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم،و في ذلك يقول وحيد الدين خان... (2):«عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال:(ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر،و إنما كان الذي أوتيته و حيا أوحاه اللّه إلى،فأرجو أني أكثرهم تابعا ليوم القيامة).إن هذا الحديث النبوي يعين جوانب بحثنا الصحيحة،فهو يقول إن أهم و سائلنا لمعرفة النبي هو الكتاب الذي جاء به مدّعيا أنه من عند اللّه،و القرآن هو رسالة الرسول بين ظهرانينا،كما أنه يبرهن على صدقه،فما الخصائص التي تبرهن على أن القرآن من عند اللّه؟» و مما يذكره وحيد الدين خان في الإعجاز هو إعجاز القرآن بالتحدي الدائم على أن يأتوا بمثله و نبوءات القرآن الغيبية،و من ثم الإعجاز العلمي فيه و يقول عنه (3):
«إنه رغم نزول القرآن قبل قرون كثيرة من عصر العلوم الحديثة لم يتمكن أحد من إثبات أية أخطاء علمية فيه،و لو أنه كان كلاما بشريا لكان هذا ضربا من المستحيل»، و يضيف في موضع آخر (4):«فالقرآن الكريم هو المعجزة الدالة على صدق نبوة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم و ما عدا القرآن من خوارق العادات التي ظهرت بين يديه فلا تعد من معجزاته لأنها لم تنقل بالتواتر،فضلا عن كون المعجزة بالنسبة إلى آخر الأنبياء لا بد أن تظل قائمة بالتحدي و تلك الخوارق لم تعد قائمة،يمكن أن توجد لدى غير المسلمين قناعات بصدق نبوة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم».
إذن،فعلى القرآن أن يقول كلمته الإعجازية اليوم لكل العالم،و أن يتحدّاهم و كأنه نازل اليوم من عند اللّه،و أن يبقى متحدّيا إلى يوم القيامة لكل عصر بطابعه الذي يتميز به،و عصرنا عصر علم و ثقافة،فهل نجابه العالم بإعجاز بلاغي و لفظي و هو فيه من العلوم و المعارف ما لا يحيط به قلم و لا يحصيه رقم...؟و إذا ما تكاسلنا عن أن نعطيه دوره فإن العملية لا تبقى في حدود الاختيار لأن معنى هذا تكذيب6.
ص: 42
القرآن الذي قال إنه يتحدى العالم كله أن يأتوا بمثله أو بسورة من مثله،و نكذب الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم الذي قال:أرسلت إلى الناس كافّة،فكيف يصدّقه العالم اليوم دون معجزة؟فأي كفر بعد هذا؟و ما نفعل بإيماننا إذا كنا نكذب قرآننا و نبينا،و ما الذي يبقى في الإيمان بعد؟إذن،فالإعجاز العلمي في القرآن هو معجزة اللّه و رسوله إلى عصرنا،فكيف يجب أن نتعامل به؟
ص: 43
ص: 44
لقد كانت بعض التجارب الفاشلة،التي ذكرناها سابقا و التي وقع بها المفسرون للقرآن تفسيرا علميا،قد دفعت بعض العلماء و الفقهاء لأن يقف موقف المعارض للتفسير العلمي،و ذلك كان لا بسبب عدم قبول القرآن للتفسير العلمي و إنما لأن الذين فسّروه آنذاك لم يلتزموا بالضوابط المحددة،سواء للتفسير بشكل عام و للتفسير العلمي بشكل خاص،و لذلك وقعوا في أخطاء كثيرة في مقابلة الآية القرآنية للحقيقة العلمية،و لأن حماستهم الزائدة دفعتهم،بمناسبة و غير مناسبة،لحمل آيات القرآن على المكتشفات و القوانين العلمية الحديثة مما جعلها تخرج بالآيات القرآنية عن معانيها اللغوية و مدلولاتها الشرعية،و تنحرف بها عن الغاية و الهدف الساميين اللذين جاءت من أجلهما،و مما جعلها أيضا تقع في كثير من المتناقضات حتى وصف أحد الكتاب عملهم بأنه (1)«أشبه بالعبث منه بالدفاع عن القرآن أو إظهار إعجازه،بل ربما أوقع القرآن في تناقض خطير بسبب تأييده لنظريتين متناقضتين بدون ضابط أو قانون من لغة أو شرع».و بعد أن حددنا شروط التفسير العلمي و ضوابطه،فلنأخذ نموذجا جيدا من التفسيرات العلمية التي التزمت بالضوابط المحددة لمثل هذا التفسير،بل و وضع هذا النموذج تحت عنوان(المعجزة القرآنية)للدلالة على مدى الثقة التي يوليها لهذا الجانب من التفسير للقرآن.
يبدأ الدكتور محمد حسن هيتو كتابه المعجزة القرآنية(الإعجاز العلمي و الغيبي) بمقدمة يبني عليها الكتاب و منهج الكتاب،و هي عن علاقة النبوة بالمعجزة و علاقة شمولية الرسالة بختم النبوة فيقول (2):«إن نبينا عليه الصلاة و السلام هو النبي الخاتم للنبوة،و رسالته هي الخاتمة للرسالات،و أنها باقية إلى يوم القيامة،و عامة لكل الأمم في كل زمان و مكان،و لذلك كان لا بد للمعجزة من البقاء ليعاينها كل من آمن أو دعي إلى الإيمان إلى يوم القيامة».و بعد أن يذكر أن هناك أنواعا متعددة من
ص: 45
الإعجاز،كالإعجاز الغيبي و الإعجاز اللغوي و الإعجاز العلمي،و بعد أن يشخص طابع العصر و سيادة المعارف العلمية و بناء فلاسفة الإلحاد إلحادهم على هذه الاكتشافات،من خلال ادعائهم أنهم عرفوا السبب و المسبب و العلة و المعلول عن طريق العلم اليقين،فلم يعودوا بحاجة اليوم إلى عزو هذه الظواهر،التي كنا نراها، إلى قدرة اللّه،و بالتالي وقع التناقض بين الكنيسة و العلم و الدين المسيحي و العلم، لأن الكنيسة بدينها،كما تعرضه،يتعارض مع العلم المعاصر.ثم ظهر الهجوم على جميع الأديان،و منها الإسلام،عن طريق ضعاف الإيمان في ديار الإسلام،و بسبب ضعف المسلمين و غفلتهم و سيطرة أعدائهم عليهم،بعد كل هذا يقول المؤلف:
«و هنا ظهرت المعجزة القرآنية كالمارد الجبار الذي لا يقف في وجهه شيء إلا حطّمه،لتهتز الأبراج الوهمية التي بناها فلاسفة الإلحاد بالتمويه و التدليس على غفلة من دعاة الدين الحق و بعد عنهم،و لتقول للناس جميعا،من مؤمن و ملحد:مهلا أيها الناس،فإن هذا الذي وصلتم إليه لن يكون سببا للجحود و الإلحاد،و إنما هو من أعظم دعائم الإيمان و الإذعان...فتنبه كثير من علماء المسلمين إلى آيات الإعجاز العلمي في القرآن».
إذن،فالإعجاز العلمي كان دعوة للإيمان ضد الإلحاد في بدء ظهوره،و زاد إيمان المؤمن إيمانا و صار يعاين المعجزة القرآنية،كما عاينها العرب الأوائل تماما و لكن بلغة العلم لا بأساليب البلاغة و البيان،لأن غاية هذه المعجزة هو الدلالة على أن القرآن كلام اللّه لا من كلام البشر مما يصدق نبوة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و رسالة الإسلام.و لا يدري المؤلف إلى أي مدى سيصل الإنسان في المستقبل من حيث العلوم و المكتشفات،و لكنه يؤكد أنه (1)«على يقين بأنه كلما تقدمت به العلوم سيضع يده على معجزة جديدة في كتاب اللّه،كان في غفلة تامة عنها،ليعيش الإنسان،في كل زمان و مكان،مع المعجزة القرآنية آية بينة لا لبس فيها و لا غموض»،و هو يرى،في هذا الإعجاز،لكل إنسان و في كل زمان و مكان معنى قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم(ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر،و إنما كان الذي أوتيته و حيا أوحاه اللّه إلي،فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة).
لقد أكد المؤلف،منذ البداية،على سلامة منطلقه الفكري لهذا العمل،من خلال ربطه بين شمولية الرسالة و ختم النبوة و ضرورة وجود المعجزة المصدّقة لهما،0.
ص: 46
و استمرارية هذه المعجزة عبر كل زمان و مكان،و إلا فإن الرسالة ليست شاملة لكل الناس حتى يوم القيامة،و أن النبوة يجب أن تستمر ما دام هناك أجيال ليس للّه عليهم حجة بدون رسول أو نبي ذي معجزة قاهرة لما تعارفوا عليه،و كانت سلامة منطلقه الفكري أيضا حينما اعتبر التحدّي المعرفي المعاصر الذي أسس الملحدون دعوتهم عليه لصرف النظر عن الإيمان و الدين،يجب أن يجابه بمعجزة تناسب هذا العصر من معرفة و علوم و مكتشفات،حيث أن القرآن كتاب هداية و إرشاد،و ليس كتاب علم،و لكن بإعجازه جاء لكل العلوم و المعارف بنفس لغاتها و من خلالها،ليصل إلى الإيمان و الدين الحق.و قبل أن يمارس المؤلف تفسيراته العلمية أو ظواهر الإعجاز العلمي القرآني حدّد منهجه الصحيح لذلك العمل فوصفه بأنه منهج (1)«دون غلو تحمل به آيات القرآن ما لا تحمله من المعاني و الاحتمالات،أو تفريط تعرض به عن كثير من الحقائق الكونية و العملية التي لا يجوز الإعراض عنها لجمود التفكير أو قصور في العلم و المعرفة».
إذن،فالمؤلف بدأ بمقدمة سليمة،علميا و شرعيا،و استخدم منهجا لا تفريط فيه و لا إفراط،لا يخلو من الحماسة للعلوم و لا تقصير عن الحقيقة العلمية أن تلحق بالحقيقة القرآنية،و كل هذا من شروط و ضوابط التفسير العلمي المطلوب.بعد ذلك ينتقل المؤلف للحديث عن الملاءمة و المناسبة بين الإعجاز العلمي و طابع المثقفين، عربا و أجانب،المخاطبين بهذا الموضوع (2)«كما نجد المثقفين أكثر تمايلا و طربا عند ما نعرض عليهم وجها من وجوه الإعجاز العلمي في القرآن الكريم،لا سيما إذا كان هذا الوجه قطعي الدلالة،بيّنا ظاهرا لا يحتاج إلى الاستنباط و الاستنتاج،و ذلك لأن هذا الوجه ملائم للثقافة التي يحملها أبناء العصر الحاضر،و التي أصبحت قاسما مشتركا بينهم جميعا،و إذا كان هذا شأن مجتمعنا العربي،فمن باب أولى أن يكون هذا شأن غيره من المجتمعات».
بل إن المؤلف يجد أنه لما كان القرآن نفسه يحث الناس على النظر في ملكوت السماوات و الأرض و مجال الكون و النفس،و يضرب للناس الأمثال ليلفت نظرهم إلى عظمة الخالق من خلال عظمة المخلوق،لذا فإنه يرى واجبا علينا أن نبحث كل علم يكشف عن سر من أسرار القرآن و يثبت إعجازه،كما أنه يصل إلى التأكيد على اعتقاده بأن (3)«هذا الوجه من وجوه الإعجاز هو أبلغ هذه الوجوه،إذ يستطيع9.
ص: 47
الإنسان،في كل عصر من العصور،أن يجد بغيته في كتاب اللّه من الإيمان بأن هذا الكلام ليس من كلام البشر و إنما هو من كلام اللّه،فكلما تقدمت العلوم الإنسانية كشفت لنا عن سر جديد لم نكن قد اطلعنا عليه من قبل،و هذا وحده كاف ليدل على أن القرآن ليس من صنع البشر،إذ يستحيل على البشر،و لو كانوا على قلب رجل واحد،و بتفكير رجل واحد،أن يوجدوا مثل هذا الكتاب الذي لم تتخلف آية واحدة من آياته على توالي الأيام و كدّ السنين و الأعوام».
إن المؤلف يدرك حقيقة أن القرآن لم ينزل على أنه كتاب جيولوجيا أو فلك أو غيرهما من العلوم،و إنما هو كتاب هداية و إرشاد للبشرية الحائرة و دستور أو نظام حياة للإنسانية (1)«يجب علينا أن لا ننسى الوظيفة الأساسية التي جاء من أجلها،ألا و هي هداية البشر و رسم المنهاج القويم،فلا يجوز لنا بعد أن ننحرف عن الوظيفة الأساسية لكتاب اللّه،و تحميل الآيات ما لا تطيق من المعاني العلمية التي لم تسق الآية من أجلها و لا نزلت لبيانها،و إنما هي من أوهام القارئ،و ربما انقلبت إلى ضرب من التأويل الباطني الباطل،كما لا يجوز لنا،في نفس الوقت،أن نجمد على معارفنا القديمة الضيقة و تفسيراتنا الجزئية المحدودة المبنية على تلك المعلومات القديمة.....مما يؤدي في النتيجة إلى فهم القرآن فهما غير سليم في ضوء المعارف الحديثة،و في الآيات التي لها مساس بالعلوم».
لذا،يعرض المؤلف الفئات الثلاث التي انقسم عليها الناس في هذا المجال،فئة المحافظين المعارضين للتفسير العلمي،و فئة مبالغة في هذا التفسير العلمي حتى تفسر الآيات على قبول المفاهيم العلمية،و فئة وسطى بين هذا الإفراط و ذاك التفريط،و هو يرد على الفئة الأولى المعارضة للعلوم بقوله (2):«إننا،نحن المسلمين، مدعوون في كل زمان و مكان و بنص الشرع إلى الاستفادة من كل حقيقة علمية،لأن ديننا،دين العلم و المعرفة،لم و لن يتعارض في يوم من الأيام مع حقائق العلم في الكون و الحياة»،و يعتبر موقفها تفريطا في حق القرآن و إعراضا عن الفهم الحقيقي للآيات المتعلقة بالكون و الحياة،و قد تقود لإيجاد فجوة بين الدين و العلم مما قد يؤدي إلى ما لا تحمد عقابه،كما حدث للكنيسة.
كما يرد على الفئة الثانية،في غلوها و مبالغاتها،بأنها تحمل آيات القرآن- بمناسبة و غير مناسبة-على المكتشفات أو القوانين العلمية الحديثة،مما جعلها2.
ص: 48
تخرج بالآيات القرآنية عن معانيها اللغوية و مدلولاتها الشرعية،و هي التي وصفها بالبعث كما قدمنا.أما الفئة الثالثة،فئة التوسط بين جانبي الإفراط و التفريط،فهي لم تتجمد جمود الفئة الأولى،و لم تتهور تهور الفئة الثانية،و هذه الفئة قامت بما يلي:
1)أخذت الآيات التي لها مساس بالعلوم و فهمتها بناء على ضوء المعارف الحديثة اليقينية لا الظنية،و في نطاق قوانين الشرع العامة و قواعد اللغة الثابتة،فرأت فيها كل ما يدل كل ذي عقل على أن هذا القرآن ليس من عند البشر و إنما من عند اللّه.
2)وقفت عند ظاهرة النص القرآني إذا كانت دلالته قطعية،و إن كان يتعارض مع بعض النظريات العلمية الرائجة،جازمة بأن الخطأ في النظرية العلمية،و أن على أصحابها أن يبحثوا عن وجه الصواب في موضوعها مستندة على أن العلم لا يتناقض مع الدين،أو القرآن مع القوانين اليقينية الثابتة.
هكذا،يعرض الدكتور محمد حسن هيتو منهجه في الإعجاز القرآني في كتابه «المعجزة القرآنية»،متسلّحا بكل الضوابط التي وضعها العلماء،فكان كتابه خير نموذج للتفسير العلمي للقرآن،حيث فسّر فيه اثني و عشرين آية قرآنية بضوء مفردات العلم الحديث،كما أنه رد على مفهوم الإعجاز العددي في القرآن،كما ورد عن رشاد خليفة،و ربطه بالتفسير الباطني اليهودي،فهو يرفض أن يضع في القرآن ما ليس فيه بحجة التفسير العلمي،كما فعل رشاد خليفة.إن كتاب«المعجزة القرآنية» هو خير نموذج للتفسير العلمي للقرآن،مبدأ و منهجا و تطبيقا،و بمقدار ما نقرأ فيه من علوم و معارف نجد فيه وظيفة القرآن في الدعوة و الإرشاد و الهداية متحققة،فلا نضيع وسط معلومات عن أنظمة الخلق و المخلوقات و ننسى رب الخلق و رب المخلوقات و أنظمتها و قوانينها.
و إذا ما أخذنا نموذجا تطبيقيا لمنهج الدكتور محمد حسن هيتو،فإننا سنرى مقدار وضوح الإعجاز العلمي في الآيات القرآنية التي يختارها منه.ففي تفسيره العلمي للآية الثامنة عشرة،و التي وضعها تحت عنوان وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات49/]و شعار(علماء الكون و الحياة في قانون الزوجية اليقيني) يقول:«لقد تكرر ذكر الأزواج في القرآن الكريم من أوله إلى آخره مرات كثيرة،و في جوانب متعددة من جوانب الحياة،بل نصت بعض الآيات على أن كل شيء خلق في هذا الكون خلق على قانون الزوجية،فقال تعالى وَ تَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج5/]،و قال تعالى
ص: 49
وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [الرعد3/]،و قال أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ [الشعراء7/]،و قال جل و علا وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات49/]،و قال وَ أَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى [النجم45/]،و قال وَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَ الْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ [الزخرف12/]،ثم قال تعالى: سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ مِمّا لا يَعْلَمُونَ [يس36/]،إلى آيات كثيرة في القرآن الكريم،تتكلم عن الأزواج و عن خلقها،و أن هذه الأزواج موجودة في جميع معالم الكون و الحياة وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ .
إذن،فالزوجية لا بد أن تكون موجودة في كل شيء يمكن للإنسان أن يضع يده عليه،و ليست مقصورة على ما يكون من الذكر و الأنثى في النبات و الحيوان،أو على ما يمكن أن يتصف بالذكورة و الأنوثة و لو مجازا،لأن الصيغة التي وردت من أبلغ صيغ العموم و أكملها وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ .
و حينما يستعرض الدكتور هيتو رأي علماء السلف و أقوالهم في الزوجين يقول بأن فهمهم لهذه الآية كان ضمن طاقاتهم و إمكانياتهم و معارفهم،فيما وضعوا عليه أيديهم من معالم الكون و الحياة،حيث فسرها الطبري،عن مجاهد،بأنها بمعنى الكفر و الإيمان و الشقاوة و السعادة و الهدى و الضلالة و الليل و النهار و السماء و الأرض و الإنس و الجن،و روي عن الحسن البصري أنه قال في هذه الآية:الزوجان هما الشمس و القمر،و روي عن ابن زيد أنه قال فيهما هما الذكر و الأنثى...ثم قال الطبري:و أولى الأقوال في ذلك قول مجاهد،و هو أن اللّه تبارك و تعالى خلق لكل ما خلق من خلقه ثانيا له مخالفا في معناه،فكل واحد منهما زوج للآخر و لذلك قيل زوجين،و إنما نبّه جل ثناؤه خلقه على قدرته على خلق ما يشاء خلقه من شيء،و أنه ليس كالأشياء التي شأنها فعل نوع واحد دون خلافه،إذ كل ما صنعته فعل نوع واحد دون ما عداه،كالنار التي شأنها التسخين و لا تصلح للتبريد،و كالثلج الذي شأنه التبريد و لا يصلح للتسخين،فلا يجوز أن يوصف بالكمال و إنما كمال المدح للقادر على فعل كل ما يشاء من الأشياء المختلفة و المتفقة....
و لو أننا تتبعنا كتب المفسرين على اختلاف مناهجهم،من السلف و الخلف إلى عصر النهضة العلمية،لوجدناها متفقة تقريبا على هذا الذي قاله الإمام الطبري رحمه اللّه تعالى،مع توسّع بعضهم في تعداد الأنواع التي لها ضد أو نقيض أو ندّ،أو شبيه، و اختصار بعضهم الآخر و التقائه بذكر الذكر و الأنثى،و هذا هو الذي كانوا يشاهدونه
ص: 50
أو يعلمونه رضي اللّه عنهم.و لكن هل هذا الذي ذكروه هو كل ما نستفيده من هذه الآيات التي تتحدث عن خلق الزوجين؟الجواب و بكل تأكيد:لا،و هذا الذي يشير إليه تعالى في سورة يس سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ مِمّا لا يَعْلَمُونَ [يس36/].
إذن،فليس الأمر في خلق الزوجين مقصورا على ما كان معروفا للناس في القديم،و إنما هناك أشياء أخرى خلقها اللّه زوجين زوجين مما لم يعرفه الإنسان القديم،و كشفت عنه العلوم الحديثة،بوسائلها العلمية الدقيقة المذهلة المعاصرة، التي أعطت الإنسان من القدرة على الإدراك أضعاف ما كان يملكه الإنسان القديم آلاف المرات،من المجاهر الألكترونية و المقاييس الدقيقة الحساسية،و سفن الفضاء و القوانين العلمية.فلقد توصل العلماء في العصر الحديث إلى إدراك الكثير و الكثير من خلق الأزواج مما كان مجهولا في الماضي،و مما نفهم به معنى جديدا في قوله تعالى وَ مِمّا لا يَعْلَمُونَ بل لنفهم ما هذه الآية و ما في معناها أنها يستحيل أن تكون من قول البشر،و إنما هي من قول خالق الأرض و السماء و عالم السّرّ و العلن، إذ أخبرت عن الزوجية في أشياء لم يكن أهل العصر الأول يعرفونها،و إنما هي من معارف هذا العصر،كما أخبرت الآيات التي معناها بأن الزوجية في كل شيء يمكن للإنسان أن يضع يده عليه،فإن أدرك الزوجية به فبها و نعمت،و إلا فسيدركها الجيل و الأجيال القادمة بما يمكن أن يتوصلوا إليه من معارف و وسائل،و لذلك فإنه يجب عليه أن يتابع البحث عنها.
بعد هذا التقديم،يقوم الدكتور هيتو بعقد فصول الزوجية في كل شيء كما كشفتها العلوم المعاصرة،فيعقد فصلا حول الزوجية في الإلكترون أو الكون و الكون النقيض،و فصل حول الزوجية في الخلية الجنسية،و فصل حول الزوجية في الكروموسومات،و فصل حول الزوجية في الكروموسومات في الخلية الجنسية، و فصل حول الزوجية في الجينات وراء الزوجية في الكروموسومات،و فصل حول الزوجية في تكوين الجينة نفسها وراء سر مجيئها أزواجا،و فصل حول الزوجية في تركيب أشرطة الجينة وراء سر الزوجية،و هو بهذا يجعل اكتشافات العلم في جميع هذه المفردات العلمية تتحدث عن الزوجية مصداقا لقول اللّه سبحانه و تعالى في الآيات المذكورة سابقا،بل يصل إلى حد أن العلم بعد هذه الاكتشافات للزوجية في كل شيء،بدأ يبني كل افتراضاته،حتى النظرية،على هذا الأساس،و من ثم يأتي العلم بتجاربه مؤكدا لهذه الافتراضات و مصدقا.
ص: 51
إن الإنسان،أو أي كائن حي آخر،يتكون من أعضاء،و هذه الأعضاء تتكون من أنسجة،و الأنسجة تتكون من خلايا،و الخلايا تتكون من جزئيات،و الجزئيات تتكون من ذرات،و الذرات تتكون من جسيمات،و هذه الجسميات تعتبر أصغر وحدة من وحدات المادة.
فجسيمات الذرة الأولية هي:البروتون و النيوترون و الإلكترون،أو بمعنى الموجب و المتعادل و السالب،و لقد كنا نسمع من أساتذتنا أن اللّه خلق من كل شيء زوجين،حتى الذرة خلقها اللّه من زوجين هما النواة و الإلكترون الذي يدور حولها، أو هما السالب و الموجب فيهما،إلا أن هذه المعارف أصبحت بديهية و بدائية، و ليست هي مما أريد الكلام عنه،و إنما هو أمر وراء الذرة،إنه أمر تكوين جسيماتها، في أصل خلقه الأول،لنضع أيدينا على سر جديد من أسرار الإعجاز الإلهي في خلقه و آياته.
في عام 1928 خرج العالم الرياضي الشاب بول ديراك،الإنجليزي،خرج على الملأ بنبإ غريب مضمونه معادلة رياضية أصلية تتناول طبيعة الكون.تنبأت هذه المعادلة بأن خلق الإلكترون لن يتأتى إلا عن طريق خلق الزوجين،و هو ما يعرف، بالأوساط العلمية الفيزيائية،بهذا المعنى أيضا( Procreation )،أي خلق الأزواج أو الزوجين.و لم يكن المراد بهذا أن الخلق يكون عن طريق إعطاء إلكترونين أو بروتونين أو نيوترونين،و إنما كان بمعنى خلق الإلكترون و الإلكترون النقيض،علما أن هذه النقائض المادية لا يمكن أن يجتمع بعضها لا في الزمان و لا في المكان.
فبمجرد خلق الزوجين في عالمنا لا بد أن يهلك أحدها الآخر و يفنيه حين التقائه إياه،هذه هي المعادلة التي أتى بها بول ديراك،و التي تحمل هذا النبأ الغريب،مما جعل الناس لا يلقون لها بالا،إذ لم تكن عقولهم تهيأت لهذا بعد.و لكن هل تحقق ما تنبأ به ديراك؟لقد كان العلماء في الماضي يطلقون إلى الجو أجهزة علمية داخل بالونات لتسجيل سر الأشعة الكونية التي تأتي من السماء،و في عام 1923 استقبل أحد العلماء الأمريكيين،المهتمين بدراسة الأشعة الكونية،و هو كارل أندرسون، استقبل مسارات هذه الأشعة على ألواح حساسة،و هذه المسارات بمثابة البصمات عند الإنسان،تحدد للعلماء صفات تلك الأشعة و طبيعتها و شحنتها و شخصيتها.لقد لفت نظره من بين المسارات الكثيرة المسجلة مسيرة غريبة،ففي لحظة واحدة خاطفة ظهر على لوحه الحساس ولادة جسمين من نقطة واحدة،انطلق أحدهما إلى
ص: 52
جهة اليمين و انطلق الآخر إلى جهة اليسار،مما جعل أندرسون حائرا في هذا المشهد،إذ أن المسارين لألكترونين يقينا،و لكن ما هو السبب الذي جعلهما يبتعدان و يفترقان أحدهما عن الآخر و كأن أحدهما عدو لقرينه؟لم يتمكن أندرسون من معرفة السبب،و ذلك لأنه لم يكن قد اطلع،وقت مشاهدته لهذه الظاهرة،على معادلة ديراك الرياضية التي أشرنا إليها،و التي كان قد نشرها قبل ثلاث سنوات في إحدى المجلات العلمية البريطانية،إذ لو كان قد اطلع عليها لما تحيّر تلك الحيرة فيما رأى و شاهد.و جاء بعد أندرسون الأمريكي عالمان بريطانيان عرفا ما توصل إليه أندرسون عمليا بألواحه الحساسة،كما عرفا المعادلة التي أشار إليها ديراك قبله نظريا،و بجمعهما،بين نتيجة أندرسون العملية و معادلة ديراك الرياضية النظرية،أدركا السر العظيم في مسار الإلكترونين،و أشارا إلى أن معادلة ديراك التي تنبأت بخلق الزوجين صحيحة تماما،على ما أثبته أندرسون بألواحه.
لقد كان ذلك اليوم الذي توصل فيه العلماء إلى تسجيل بداية خلق أصغر و أبسط زوجين في العالم،كان يوما مشهودا في تاريخ العلم.و من أجل هذا الاكتشاف المثير الذي توصل إليه ديراك،من خلال معادلته العلمية الرياضية،حصل على جائزة نوبل في العام التالي لتحقق ما تنبأت به معادلته،و هو بالنسبة لنا نحن المسلمين يعتبر يوما مشهودا،إذ أثبت فيه العلم الحديث،في أدق مباحثه و أبدع اكتشافاته،ما أخبر به القرآن الذي سبقت آياته معادلة ديراك بأربعة عشر قرنا،إذ قال تعالى وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات49/]،و قال سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ مِمّا لا يَعْلَمُونَ [يس36/].
نعم،...إنه ليوم مشهود لنا نحن المسلمين،إذ ثبت للعالم أجمع أن هذا القرآن لم يكن من صنع البشر،و إنما هو الآية القاطعة الناطقة بأنه من صنع خالق الكون و الإنسان و الحياة،و العالم بكل صغيرة و كبيرة مما خلق على أبدع نظام و أتم تقدير، و هل هذا كل ما في الأمر بالنسبة للأزواج؟..الجواب،لا.لم يقف الأمر عند هذا الحد الذي ذكرناه،و ذلك لأنه وضع أيدينا على سر جديد و هو أن هذا الكون،في أرضه و سمائه و جزئياته و ذراته،ليس في الحقيقة إلا طاقة اتخذت صورة المادة بجسيماتها و ذراتها،و أن هذه الجسيمات حينما تجسدت تجسّدت على شكل زوجين و لم تتشكل مفردة.فمولد أو خلق الزوجين اللذين ظهرا على لوح أندرسون لم يظهرا من عدم،بل كان من وراء تخليقهما طاقة،أو ومضة ضوئية،و هذه الومضة تنطلق على هيئة موجة،و تجري في الكون بسرعة الضوء،186 ألف ميل في الثانية،
ص: 53
و الواقع أن هذا الكون-على قدر ما نعرفه الآن-له مظهران،فهو أحيانا ندركه أو يظهر لنا على شكل موجة،و هذه الموجة لا زمان لها و لا مكان،أي في المقاييس الرياضية الحسية،و أحيانا أخرى قد تتخلى الموجة أو الطاقة عن صفتها الطليقة المتحررة،و تتجسّد على هيئة مادة كجسيمات ذرية،و هي في هذه الحالة تأتي على قانون اللّه الأزلي في الخلق زوجين زوجين..و في المفاعلات النووية الجبارة يعيش العلماء مع خلق الأزواج ليل نهار،و فيها يسجلون تجسيد الطاقات أو الموجات على هيئة جسيمات كثيرة و على الألواح الحساسة،أو في غرف الغيوم التي توضح بداية خلق الأزواج،يسجل العلماء مولد الإلكترون و نقيضه أو البروتون و نقيضه أو النيوترون و نقيضه،ثم إن هناك جسيمات ذرية أخرى كثيرة،و هي غير الجسيمات الأساسية الأولية الثلاثة،التي ذكرناها،فما من جسيم منها يتجسّد-صغر شأنه أو كبر-إلا و يظهر معه في نفس اللحظة نقيضه،ثم إنه في كل حالة من هذه الحالات يظهر الزوجان و يتخلقان أمام أعين العلماء،لكن الشيء المثير هو أن النقيض لا يمكن أن يعيش في مكان واحد مع نقيضه.
فإذا تقابل إلكترون مع إلكترون نقيض،فلا بد أن يزولا و يتخلّيا عن تجسّدهما المادي و يعودا إلى سيرتهما الأولى،أي إلى موجات متحررة.و الشيء الذي يعتبر أكثر إثارة و دهشة أن لكل شيء في هذا الكون نقيضا ما عدا شيئا واحدا ألا و هو الطاقة أو الموجة المتحررة أو النور،فلا نقيض له،و إنما تظهر النقائض فقط عند ما تتجسّد هذه الموجة أو هذا النور أو تلك الطاقة،و يؤدي إلى خلق الزوجين.لما ذا و كيف؟لا أحد يدري.
فطبيعة الكون تضع أمامنا حقائق الوجود بصورة مثيرة،فبداية الخلق أزواج، و الأزواج جسيمات أو هي تجسيد لطاقة أو ومضة أو نور،خذ منها ما تشاء،فلا أحد يستطيع هنا أن يؤكد أمرا أو يحدّد شيئا،كما يقول الدكتور عبد الحسن صالح في بحثه عن الأزواج،و كلما تعمّقنا في طبائع الأشياء،و ظننا أنا قد وصلنا فيها إلى قرار أشاحت الحقيقة بوجهها و تجلّت لنا أكثر إثارة و وضعتنا في مآزق فكرية جديدة...إن الذي نعرفه حقا أن المادة تجسيد لطاقة أو قوّة،و هذه الطاقة وراء حدود العقل و الخيال،و أن هذه الطاقة المتجسّدة تتجسّد أمام أعيننا أزواجا أزواجا،و لكن ما ذا يعني هذا...؟إنه يعني،و بكل ثقة،ما أخبر اللّه عنه قبل قرون طويلة مما يدلّ على عظمته و علمه و قدرته،و مما يدلّنا دلالة قاطعة على أن هذا القرآن كلامه و وحيه،إنه يعني قوله تعالى: وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات49/]،كما
ص: 54
يعني قوله سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ مِمّا لا يَعْلَمُونَ [يس36/].و لكن هل هذا كل ما في الأمر؟....و هل اقتصرت المكتشفات العلمية على اكتشاف الزوجين في الجسيمات الذريّة من الإلكترون و نقيضه أو البروتون و نقيضه أو النيوترون و نقيضه،أم أنهم وضعوا أيديهم على أمور أخرى ربما كانت أكثر إثارة و دهشة في هذا الكون....؟ لا شك أن ما ذكرناه لم يكن كل ما في الأمر مما يتعلّق بالآية،فقد قال تعالى وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ .إذن،فلا بد أن تكون هناك أمور أخرى عرفها الإنسان المعاصر مما لم يكن يعلمه الناس قديما،و فيه الإثارة و الدهشة مما يذهل عقل الإنسان،و مما يدل دلالة قاطعة على إعجاز القرآن.
لقد سيطرت فكرة الخلق أزواجا،بعد معادلة ديراك و ألواح أندرسون و تجارب العلماء في المعامل الذريّة الضخمة،لقد سيطرت فكرة الخلق أزواجا على عقول العلماء،و صار من البديهية اليقينية عندهم أنه من تمام انتظام الكون و تعادله و توازنه أن يكون الخلق في كل شيء على طريقة الأزواج،و كأنهم اتخذوا من قوله تعالى وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ،كأنهم اتخذوا من هذه الآية دستورا لمباحثهم العلمية،فكل شيء في هذا الكون يجب أن يكون على نظام الزوجية، فخلق الإلكترون لا بد أن يصحبه خلق الإلكترون النقيض،أو البوزيترون،كما بيناه في الفقرة السابقة،و خلق النيوترون لا بد أن يصاحبه خلق النيوترون النقيض....
هكذا...
و لكن صفات الإلكترون تخالف و تناقض تماما صفات البوزيترون أو الإلكترون النقيض،فإذا دار الإلكترون حول نفسه من اليمين إلى اليسار دار الإلكترون النقيض من اليسار إلى اليمين،و إذا حمل الإلكترون شحنة كهربائية سالبة حمل البوزيترون شحنة موجبة،و إذا كان المجال المغناطيسي للألكترون يتّجه إلى الأعلى،كان المجال لنقيضه يتجه إلى الأسفل،من أجل هذا كان من المستحيل أن يجتمعا،فإذا ما قدّر اجتماعهما كان لا بد أن يفني أحدهما الآخر،و هذا الصراع العنيف الذي يؤدي إلى الفناء يشهده العلماء في معاملهم و في طبقات الجو العليا و في الفضاء الخارجي،إذ كثيرا ما تتجسّد الطاقة،و عند ذلك تظهر الجسيمات الذرية أزواجا،فأما الذي في عالمنا فيبقى،و أما الذي جاء نقيضا لجسيمات عالمنا فلا بد أن يتخلّى عن تجسّده و يفنى،و يعود ومضة سائحة في هذا الكون الرهيب.
ص: 55
و بهذه الحقائق اليقينية،التي وضع العلماء أيديهم عليها و آمنوا بها،أصبحوا يتساءلون:ما دام الأمر كذلك،فهل يمكن أن يكون هناك ذرة و ذرة نقيض لها،أو مادة و مادة نقيض لها،أو كون و كون نقيض له،إذ لا بد لكل شيء أن يكون زوجين...؟...
و بمواصلة البحث توصل العلماء إلى تخليق ذرة هيدروجين نقيضة،إلا أن تخليقها لم يدم لأكثر من لحظة واحدة خاطفة،إذ جاء كل ما فيها معاكسا لذرة الهيدروجين المعروفة،و لا يمكن أن تعيش إلا في عالم آخر غير عالمنا،و هذا الأمر مستحيل في عالمنا،إذ لا بد لها أن تصطدم في لحظة خاطفة،بجزئي من جزئيات الهواء،أو أي شيء فيه نقيضها لتحطمه و يحطمها،و تعود إلى طاقة سابحة في هذا الكون.بعد هذه التجربة و هذا الاكتشاف تطورت معارف العلماء و أصبحوا يوقنون أن فكرة خلق الأزواج ليست قاصرة على الجسيمات الذرية،بل تعدّتها إلى أنه لكل ذرة في هذا الكون ذرة نقيضة لها،و هذا يعني أن خلق الأزواج لا بد أن يمتدّ إلى جزئيات الخلية،بل إلى الكون بأسره من الأرض و النجوم و الكواكب و المجرات،إذ لا بد لها أن تكون أزواجا ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ [الملك3/].
و هذا يعني أيضا أن بناء الكون النقيض في ذراته لا بد أن يكون معكوسا أو نقيضا لبناء عالمنا الذرّي،بما فيه من شموس و أقمار و كواكب،و نحن لا يمكننا أن ندرك هذا،و لا يمكننا أن نفرّق مثلا بين النجم و نقيضه لأننا نراهما بواسطة الضوء الواصل إلينا منهما،و قد ذكرنا أن النور لا نقيض له،و إنما يظهر الزوج أو الجسم و نقيضه عند تجسّد النور أو الطاقة،و لكننا يمكننا أن ندرك النجم و نقيضه مثلا عند ما يقترب أحدهما من الآخر و يتلاحمان،و يبدأ كل منهما بإفناء الآخر و تحويله إلى موجات ضوئية لا قبل للعقل بتصورها،بل لا قبل للخيال بذلك،و ذلك،كما يقول العلماء، لو تقابل مثلا إنسان من عالمنا مع إنسان من العالم النقيض سيتحولان في لحظة خاطفة إلى طاقة ناتجة عن انفجار كوني جبار لا يقل عن الطاقة المتحررة من تفجير مائة ألف قنبلة من القنابل الهيدروجينية،فكيف لو تقابل نجمان أو مجرتان...إنه لا يمكن للعقل أن يتصوّر ما ذا سيحدث.
و من أجل هذا كان هذا التباعد الهائل في الفضاء بين المجرّات و عوالم هذا الكون الرهيب الرحيب،فالمسافة بين المجرات لا تقاس بالأميال و لا بملايين الأميال و إنما بملايين السنين الضوئية.إن الذي دفع العلماء إلى هذا التفكير المثير في خلق الكون و الكون النقيض إنما هو الواقع الذي رأوه في تجسيد الإلكترون
ص: 56
و الإلكترون النقيض،و ما قاموا به من تخليق ذرة الهيدروجين النقيضة،و ما إلى ذلك مما ذكرنا،مع ما أصبح يقينا عندهم من الوحدة في الخلق على كل المستويات، و التي تستلزم وجود المادة و المادة النقيضة،أو بعبارة أخرى أوضح في موضوعنا ألا و هي أنها تستلزم وجود الخلق أزواجا.
لقد عكف العالم السويدي الشهير(أوسكار كلاين)سنوات طويلة على دراسة هذا الموضوع و خرج برأي يقول:«إن المادة و المادة النقيضة لا بد أن تكونا قد ظهرتا في وقت واحد،و لا بد أن تتساويا تماما،بمعنى أن نصف الأجرام السماوية قد جاء و ظهر من مادة عادية و نصفها الآخر قد خلق من مادة نقيضة»..و ذهب عالم البلازما النووية«هانز ألفين»إلى أبعد من هذا،فنشر بحثا بعنوان«نقيض المادة و الكون»شرح فيه فكرة ظهور الكون و الكون النقيض و كيف ظهرا،ثم بوعد بينهما و عزلا حتى أمكن أن يعيشا إلى اليوم المعلوم».
و لا يسعنا،نحن الناظرين إلى هذه النتائج العلمية التي لا تحتاج إلى تعليق،إلا أن نردد قوله تعالى سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ مِمّا لا يَعْلَمُونَ [يس36/]،كما أننا لنتمايل طربا و نهتز نشوة عند ما نعرف أن العالم الحديث،بعلومه و معارفه و في أدق مباحثه و نظرياته،قد اتخذ من آيات القرآن دستورا له يبني عليه حضارته و تطلعاته و طموحاته،و يردد كما يردد كل مؤمن وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات49/].
أيها القارئ الكريم:قل لي بربك...من الذي علّم ذلك الأمّي في شعاب مكة و أوديتها،من الذي علمه أسرار الكون و الحياة و الذرة و الخلية مما لم يكن الإنسان يعلمه لا بعقله الظاهر و لا بعقله الباطن،و مما لم يصل إليه و لا حام حوله...؟ لا شك أنه اللّه،الذي خلق فسوى و الذي قدر فهدى،و إني لعلى يقين بأنه ما من منصف يقع نظره على هذه الآية و هذه النتائج العلمية المذهلة إلا و يجد نفسه مضطرا لأن يحني رأسه تواضعا للحقيقة،و تعظيما للخالق و اعترافا بأن هذا الكتاب المعجز ليس من قول البشر.
بعد أن ينتهي الدكتور هيتو من البرهنة،في علم الذرة و الفضاء و الفلك،على وجود الزوجية في كل تركيباتها،و وجودها المادي،يعود للبرهنة على الزوجية في علم الحياة،و سنحاول اختصار ما قاله في هذا الصدد،حيث يدلل على الإعجاز القرآني في حديثه عن الزوجية من خلال الخلية الحية،و من خلال الزوجية في الخلية الجنسية،و من ثم في الكروموسومات،و من ثم في الجينات،و من ثم في
ص: 57
أشرطة الجينة الداخلية نفسها حتى يصل إلى أن كل الوجود،سواء كان ذرة مادية أو خلية حية أو كونا كاملا أو جسما كاملا،إنما يقوم على أساس الزوجية في كل بنيانه.
ففي حديثه عن الزوجية في الخلية الجنسية كنموذج للخلية الحية عموما،يجد الدكتور هيتو أن العلم الحديث قد توصل ليس إلى الزوجية في وجود الكائن الحي من خلال نطفة الذكر و بويضة الأنثى،كما هو معلوم في الظاهر فقط،و إنما وصل العلم إلى أن في كل نطفة للذكر زوجين أيضا،ففيها نطفة ذكرية و أنثوية بنفس الوقت،فنطفة الرجل فيها الذكر و الأنثى،و حينما تلقح البويضة لدى المرأة فإن كانت الملقّحة صفات ذكرية جاء الولد الذكر منها،و إن كانت الملقحة صفات أنثوية كانت الأنثى منها،و يؤكد هذا بالآية القرآنية أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً(36) أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى(37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى(38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى [القيامة36/-39]، أي فجعل من نطفة الرجل الذكر و الأنثى،و تفسره الآية الأخرى وَ أَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى(45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى [النجم45/،46].فالآية صريحة في أن الذكر و الأنثى من نطفة الرجل و منيه،و أن هذا المني يحمل الذكور إلى جانب الإناث أزواجا أزواجا.
أما الزوجية في الكروموسومات فيتحدث عنها العلم،كما يذكر الدكتور هيتو،من خلال عدد هذه الكروموسومات التي جميعها زوجيا،فهي في خلية الإنسان في نواتها ستة و أربعين كروموسوما،و في البقر ستون كروموسوما،و هكذا نجد أن نوع الكائن الحي يختلف باختلاف عدد الكروموسومات فيه.و لما كانت هذه الكروموسومات دائمة الانقسام بسبب انقسام الخلية لتعويض الجسم عن الخلايا التي تموت باستمرار،و التي تقدر بالملايين،فإن انقسامها نفسه يحمل نفس الزوجية في الكروموسومات الأصلية،و أي تغير في عدد الكروموسومات يعني تغير جنس الحيوان،و حينما تنقسم هذه الكروموسومات إلى أزواجها فإن كل زوج يعطي منها زوجا آخر شبيها له مائة بالمائة استعدادا للانقسام و التكاثر،فيصير في الخلية ستة و أربعون زوجا،ليعود العدد بعد الانقسام إلى ثلاثة و عشرين زوجا،و لتستمر مسيرة الحياة و يستمر الحفاظ على الأنواع سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ مِمّا لا يَعْلَمُونَ [يس36/].و لكن هل هذا هو كل ما في الأمر من أسرار الأزواج؟كلا،فحتى حينما تنقسم الخلية الجنسية إلى ثلاثة و عشرين زوجا،لتكون بعد التلقيح مع بويضة المرأة المنقسمة أيضا إلى ثلاثة و عشرين زوجا، ليعود العدد إلى ستة و أربعين زوجا لتكوين الإنسان ذاته،فالخلية الجنسية في
ص: 58
انقسامها إلى نصف العدد الزوجي في كل من النطفة و البويضة إنما هي أعظم دليل على الزوجية حتى في عملية التلقيح الجنسية.و يقول الدكتور هيتو:«و لكن أين سر الأزواج في هذا؟ألسنا نتكلم عن الأزواج؟بلى..إننا نتكلم عن الأزواج،و السر هنا يكمن في أن الحيوان المنوي الذي يحمل،كما ذكرنا،نصف عدد الأزواج التي كانت تحملها الخلية الجنسية من الكروموسومات،إن هذا الحيوان عند ما يلقح البويضة في رحم المرأة،و تتكون الخلية الأولى،نجد أن كل كروموسوم من الكروموسومات الثلاثة و العشرين تندفع في هذه الخلية الجديدة و كأنها تبحث عن شيء مفقود،و إذا بكل واحد منها يبحث عن زوجه و قرينه الذي انفصل عنه في الخلية الأساسية،فإذا ما التقيا تلاصقا،كما يتم التلاصق بين كل زوجين في حياتنا الظاهرة،و كأن أحدهما يدلي للآخر بأسراره و يطلعه على باطنه و يتبادل معه المعلومات السرية التي لا يعلمها إلا خالقه،و التي سيتكوّن منها المولود الجديد».
على أن الزوجية في العلم لم تقف عند حدود الزوجية في عدد الكروموسومات، بل إن العلم،بعد بحث دقيق عميق في هذه الكروموسومات،و بعد استخدام العلم مجاهر كبيرة للنظر إليها،وجدها تتكون من جينات صغيرة متراصّة يبلغ عددها على الكروموسوم الواحد عشرات الآلاف،و هي تقوم بمهمة حفظ السجلات الوراثية للإنسان.فبناء على هذه الجينات تتحدد صفات الإنسان و لونه و شكله و صوته و طبيعته و طوله و لون شعره و لون عينيه و كل ما يتعلق بأوصاف الإنسان،و بسبب هذه الجينات أيضا تنتقل الصفات الوراثية من الجد إلى الآباء،و من الآباء إلى الأبناء، و اكتشف العلم أن هذه الجينات تتكوّن،هي أيضا،من أزواج و لم تأت فرادى،و لهذا كان الشبه بين الولد و أبيه،و الأب وجده من جهة،و بين والدته وجدته من جهة أخرى،و حيثما تفوّقت جينة أحدهما على الآخر ظهر التعبير في شبه الولد بأحدهما.
إذن،حتى في هذه الجينات وجدت الزوجية،فلو افترضنا جدلا أن الخلية تحتوي على أربعين ألفا من الجينات،فمعنى هذا أن عشرين ألفا منها جاءت من الأب، و العشرين ألف الأخرى جاءت من الأم،فهي تحمل عشرين ألف زوج من الجينات المشتركة التي تحمل صفات الأم و الأب معا.
و لكن هل تقف الزوجية عند هذا الحد لمعرفتنا بالجينات؟لا.فالعلم بدأ يبحث في سر هذه الجينة و كيفية حفظها للصفات البشرية،بل و كيفية التأثير عليها،فما ذا وجد؟وجد العلم أن الجينة الواحدة قد حملت سرا من الأسرار التي أدى اكتشافها إلى إثبات إعجاز القرآن و إظهار عظمة الخالق،إذ ثبت أنها تتكون من الأزواج أيضا،
ص: 59
و ذلك أن كل جينة من هذه الجينات تعتبر معلومة مستقلة تعمل لتوريث الكائن الحي صفة محددة،و بعد التعمق في تكوينها وجد أن هذه الجينة تتكون من شريط قد يفرد و قد يطوى،فإذا أريد من الشريط أن يقوم بمهمته و ينفذ خطته الوراثية المرسومة له انفرد و استقام،و هو لدقته لا يكاد يرى،إذ أن عرضه لا يزيد عن جزءين اثنين من مليون جزء من المليمتر،فإذا ما انتهى من عمله طوى نفسه و عاد إلى ما كان عليه على الكروموسوم كحبّة،أو عقدة صغيرة،لكن هذه الجينة لم تتكون من شريط واحد و إنما تبين،بالفحص و التدقيق،أنها على هيئة شريطين اثنين يلتفّ أحدهما على الآخر و يحتضنه كالضفائر المجدولة،و حتى هذه الضفائر كثيرا ما تأتي أزواجا على شكل زوجين اثنين،و يلتف كل زوجين منها بالزوجين الآخرين،على أنه قد تتكرر هذه العملية مرة ثالثة في زوج ثالث...و هكذا نرى أن هذا الأمر قد فاق التصوّر،و تجاوز حدود الخيال،و كأن كل شيء في هذا الكون يقول سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ مِمّا لا يَعْلَمُونَ [يس36/].
إن هذه الشرائط التي تتكون منها الجينة،و التي جاءت على شكل شريطين مجدولين،هي التي سجلت عليها الملايين و الملايين من الصفات السرية للكائن الحي،و كأنها كلمة السر فيه،و هي التي حيّرت المفكرين و العباقرة و علماء الحياة، فما هو سر هذه الشرائط التي سجلت عليها ملايين الصفات،و التي جاءت أزواجا، و ما هي حقيقتها،و هل هي أيضا احتوت على سر آخر من الأزواج في تركيبها جاء وراء ظهورها أزواجا؟..الجواب نعم،و بكل تأكيد طبقا لقانون اللّه الأزلي وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات49/]...و هنا يصل العلم إلى خاتمة المطاف الذي ما بعده مطاف ألا و هو الزوجية في سر التركيب الأساسي لأشرطة الجين الزوجية،و هو التركيب الأولي لوجودها الحيوي.
لقد تابع العلماء جهودهم في البحث عن حقيقة الجينة و مكوناتها إلى أن جاء العالمان(جيمس واتسون)،المتخصص في علم البيولوجيا،و(فرنسيس كريك)، المتخصص في علم الفيزياء الكيميائية،و تمكّنا عام 1952 من اكتشاف حقيقة الأشرطة التي تتكوّن منها الجينة التي جاءت على شكل أزواج على شكل ضفائر مجدولة أو سلالم حلزونية ذات درجات متتابعة بعضها فوق بعض،و التي تحتوي على أسرار الحياة بالنسبة للكائن الحي،و بهذا الكشف وضعا أيديهما على أعظم سر من الأسرار التي تحمل صفات هذا الكائن الحي العجيب الغريب المعجز المذهل، و استحقا بناء على ذلك جائزة نوبل.
ص: 60
لقد أثبت هذان العالمان أن هذه الأشرطة التي تحفظ أسرار الحياة و الصفات الخاصة للكائن الحي،أنها تتكون من عناصر الأرض،و ذلك لأن الإنسان خلق منها، فأثبت أن هذه الأشرطة تتكون من أربعة قواعد نتروجينية و هي:«أدنين،و جوانين و سايتوزين و ثايمين»،و لقد ذهل العلماء حينما رأوا أن هذه المركبات قد جاءت في كل كائن حي أزواجا،فالأدنين دائما يتزاوج مع الثائمين،و الجوانين دائما يتزاوج مع السايتوزين،و لا يمكن أبدا أن يتزاوج الأدنين مع الجوانين،و لا الجوانين مع الثائمين،و لا السايتوزين مع الأدنين،و لا الأدنين مع السايتوزين،كما لا يمكن أبدا أن تختل هذه الأزواج في أي كائن من الكائنات الحية و إلا كانت الكارثة الوراثية.
و لم يقف الأمر عند هذا الحد،بل تعداه إلى أن كل واحدة من هذه القواعد، الأربعة تتصل بسكر خاص اسمه(ريبوز)،و هذا السكر يتصل بجزئي من الفوسفات ليكوّن معه زوجا و لا يبتعد عنه و لا ينفصل منه،و بعد ذلك تتكرر هذه الأزواج في جزيئاتها الوراثية ملايين المرات،و كل واحد منها يعرف مكانه من الخلية،كما يعرف زوجه و طبيعته و نوعه فيقترب منه و يرتبط به..و إذا ما عرفنا أن الخلية الواحدة من جسم الإنسان تحتوي على ثمانية بلايين من هذه القواعد الأربعة،و كلما ولدت خلية جديدة أخذت معها هذا العدد من البلايين إلا في الخلية الجنسية،إذ أن الحيوان المنوي يحمل نصف هذا العدد ليلتقي مع البويضة التي تحمل نصف العدد أيضا لتتكون الخلية الأولى،التي تحمل البلايين الثمانية،و بعد ذلك تبدأ الأزواج من هذه القواعد الأربعة بإصدار أوامرها لتتكوّن الجينة.إذا ما عرفنا هذا أدركنا سر الزوجية الذي تحدّث عنه القرآن في كل شيء.و هكذا يصل الدكتور هيتو في نهاية فصل الزوجية في كل شيء هذا إلى القول«و لا يسعنا،في نهاية المطاف في عالم الأزواج في الكون و الحياة،و الذي رأينا فيه من خلال مكتشفاتنا و علومنا الحديثة ما يدل دلالة قاطعة على إعجاز القرآن في مضمار الأخبار عن أسرار الخلق في أعمق أعماقه،مما كان من المستحيل معرفته على أهل العصر الذي نزل فيه القرآن،و مما لم يعرفه الإنسان إلا في العصر الحديث،مما طوّره من الوسائل البصرية و توصل إليه من وسائل الكشف و المعرفة،لا يسعنا إلا أن نردد قوله تعالى سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ مِمّا لا يَعْلَمُونَ »[يس36/].
أما النموذج الثاني الذي نأخذه في إطار التفسير العلمي للقرآن،فهو نموذج يختلف عن النموذج الأول،فهو لا يعتبر نفسه أنه يفسر القرآن علميا،و لكنه يشير إلى ما أسماه التوافقية بين آيات القرآن و حقائق العلوم المكتشفة حديثا،كما أنه،حين
ص: 61
يشير إلى آيات القرآن،يستخدم كلمة دقيقة رقيقة في التعبير إلى إشارتها للعلوم و حقائقه،يستخدم كلمة(لمسة،و لمس)و يقول (1)«بإمكانية التقاء الحقيقة العلمية بعد صدق نظرياتها و افتراضاتها و تجاربها مع حقيقة القرآن الكريم،لأن القرآن الكريم هو كتاب الكون المفتوح».إنه لا يساوي بين النظرية العلمية و الحقيقة القرآنية،لأن النظرية قد تصدق و تكذب و قد تكذب نفسها غدا،فإذا ما سئل ما النقاط التي اقترب فيها العلم بنظرياته و حقائقه من الحقيقة القرآنية؟،كان الجواب (2)«لا نقاط اقتراب بين حقيقة القرآن و نظريات العلم،لكن هناك اقتراب و لقاء و توافقية بين حقيقة القرآن و الحقيقة العلمية».هذا النموذج أقدم تأليفا و تاريخا من النموذج الأول حيث يعود إلى عام 1983،أما المعجزة القرآنية فقد صدر عام 1989،إنه كتاب«الإنسان في الكون بين العلم و القرآن»للدكتور عبد العليم عبد الرحمن خضر...إن هذا الكتاب،و على الرغم من كثرة المواضيع العلمية التي طرقها و شرحها و ناقشها و أشار إلى التوافقية و اللقاء و اللمس بينها و بين آيات القرآن،لكنه يبقى كتاب هداية و إرشاد للإيمان في هدفه الأول و الأساس،حتى يصل المؤلف في خلاصته إلى الدعوة إلى قيام علم إيماني جديد و شامل يبنى على الأسس و الحقائق التي أودعها اللّه في القانون الإلهي العام الأعظم للكون و الإنسان،و يصف هذا العلم بأنه«هو منقذ البشرية من ورطتها،و هو الذي يجدد صلة الإنسان بالسماء»،كما يصفه بأنه (3)«منهج تجريبي عملي يكشف للإنسان عن نظم الطبيعة و خواصها و أسرار النفس الإنسانية،إنه لا يتحكم بأسلوبه الموضوعي في عقائد الناس و لكنه يدعم إيمانهم باللّه و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر».و سنحاول أن نستعرض المنهج و الأحكام التي قررها هذا الكتاب،و الأسلوب المستخدم لتعامل القرآن مع العلم فيه.يقول في مقدمة كتابه إنه سيقدم فيه«الدلائل الملموسة على شمول القرآن و صدقه و دقته في معالجة الموضوعات التي تخص الإنسان و الكون»،و يبرهن على ذلك من خلال عرضه للعلوم المختلفة،ثم إشارته و برهنته على سبق القرآن للمس هذه المفاهيم.
إن المؤلف يستعرض الأفكار و النظريات و القوانين العلمية أولا،ثم يستعرض ما توافق منها مع القرآن أو لمسها القرآن لمسا أو التقى معها التقاء،و قد منهج الكتاب4.
ص: 62
على أساس منهجية العلوم نفسها و أقسامها،فمثلا:بعد أن يبحث التطور البيولوجي للكائنات الحية و يصل إلى بحث أطوار تكون الجنين،كما يقول العلم و كما يذكره القرآن،يقول:«و العلم يتوافق مع القرآن في ذلك توافقية تامة رائعة»،و أحيانا يستخدم الحديث النبوي بنفس المعنى،و في فصل آخر بعد أن يبحث الكون و نظرياته المختلفة يقول (1):«و وجدت أنه كتاب اللّه المنظور الذي لا يتعارض ما فيه من آيات في الآفاق مع كتاب اللّه المقروء(القرآن الكريم)،و اكتشفت كيف مسّ القرآن الكريم توازن الكون الأعظم مسّا رقيقا في إشارات كونية غاية في الدقة و الشمول و الصدق»،و لأن هدفه،كما قلنا،إيماني إرشادي،فبعد أن يقرر الحقيقة القرآنية و توافقها مع الحقيقة العلمية نراه يقول (2):«و توصلت إلى التوافقية بين القرآن و الفيزياء الكونية في تحديد خواص الدخان الكوني الأول،و وجدت خطوات البحث تقودني منطقيا إلى اللّه خالق كل شيء و إليه المصير»،بل نراه يعقد فصلا كاملا لبحث(المفاهيم النهائية التي يمكن الخروج من الحقائق القرآنية و ما يخدمها من الآراء العلمية)..
إنه،إذن،يأخذ حقائق العلم التي تخدم حقائق القرآن،ليبرهن بعد ذلك على وحدانية اللّه في هذا الكتاب المعجز،إنه كتاب نموذج للتعبير عن العلاقة الأساسية للعلم بالدين الإسلامي من خلال القرآن،فهو،إذن،على الطريق السوي الذي حدد شروطه التفسير العلمي للقرآن و ضوابطه لا خارجا عنها،رغم أنه يستوعب كل مفردات العلوم،نظريات و قوانين و حقائق،و لكنه لا يفتأ أن يعود لارتباطها بالقرآن الكريم و هدايته و إرشاده و إعجازه.
فبعد أن يبحث الكون،نظريات و حقائق في ضوء الفيزياء الكونية يقرر أن توازن الكون من آيات اللّه في الآفاق،فيصل إلى«أن هذا الكون المعجز ببنائه المذهل،في اتساعه الرائع،في حركته و اتزانه،هذا الاتزان الدقيق،لو اختل قيد شعرة،منذ البدء، في أية جزيئة من جزئيات قوانينه،لا نفرط عقد هذا الكون و انهار كل ما فيه و من فيه».و بعد أن يستشهد بالآيات القرآنية المعبرة عن هذه الحقيقة،بعد كل هذا نراه يقول (3):«لقد جاء العلم،و جاء العلماء بألف ألف دليل على صدق ما ورد في القرآن الكريم،جاء بألف ألف دليل على وحدة الكون و السماء و الأرض و الذرة1.
ص: 63
و المجرة في قوانين وجودها و حركاتها،و من هذه الوحدة درج الناس و العلماء إلى وحدة الكون»..و إنه هنا لأشبه بالفخر الرازي في كتاب«أسرار التنزيل و أنوار التأويل»حينما تحدث عن معلومات عصره من مبدأ تكون السماوات و الأرض، و معنى الرتق،و معنى الفتق وصولا إلى الاستدلال بصفات السماوات و أحوالها على أن لهما مدبّرا و صانعا،فهو على خطى سليمة من الضوابط التفسيرية التي وضعها القدماء لتفسير القرآن،إضافة إلى التزامه بالضوابط التي وضعها المعاصرون للتفسير العلمي.
إن المؤلف يعتقد أن كل تقدّم بشري مقبل سيكون تقدما في عقل الإنسان و ملكاته الإبداعية،و لذا فهو يرى أن (1)«من إعجاز القرآن الكريم إشارته إلى نشأة علوم حديثة لم يعرفها السابقون،و إنما لفت أنظارهم إليها،كما وجه أبصارهم إلى دراسة الكون،و تأمل ظواهره و الإحاطة بآيات اللّه فيه،و قد حملت آيات القرآن بذور هذا التقدم العلمي و أرشدت إليه و فكّت مغاليقه و تركت للعقل البشري بعد ذلك استعمال رسالته حتى يتحقق من صواب نظريته أو خطئها»،إنه يعتقد بأن اللّه دعانا إلى الاستزادة من العلم في قوله تعالى رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه114/]،لأنه سبحانه و تعالى يعلم أن علمنا لم ينته بما جاءت به الرسالات من معارف و توجيهات و إلا ما دعانا لهذه الاستزادة..
و إذا كان العلم الإنساني يقوم على الجواب على كلمة كيف،فإن القرآن الكريم يدعونا دعوة واضحة،لا لبس فيها،إلى البحث في الجواب عن هذه الكيفية حيث يقول أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ(17) وَ إِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ(18) وَ إِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ(19) وَ إِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [الغاشية17/-20]،فالجواب على هذه الكيفية هو مجال كل العلوم المعروفة لدينا اليوم و تبحثها كل العلوم بحثا دقيقا، و لكن لما ذا دعانا القرآن لذلك؟هل لكي نعرف العلوم و نقف عند قوانينها جامدين و نصفها وصفا لا يتجاوز البحث عما وراءها و من جعلها و من سبّبها و وضعها؟يقول المؤلف جوابا على ذلك (2)«و المتأمل في القرآن الكريم يلاحظ أن القرآن الكريم يعرض الحقائق العلمية في صور مختلفة تنبئ بالحكمة و الموعظة الحسنة لكي تحقق الهدف الذي ذكرت من أجله،و هو هداية الناس إلى بارئهم في خشوع و إكبار لصفة خالق الأكوان ذي الجلال و الإكرام».1.
ص: 64
إن المؤلف يبين علاقة الحقائق العلمية و الآيات القرآنية باعتبارها علاقة توافقية، أو عدم تعارض الواحدة مع الأخرى من خلال القرآن نفسه،فهو دعا و يدعو إلى العلم في كل آياته المتعلقة به،ففيه أكثر من سبعمائة و خمسين آية،و هي أكثر من آيات الأحكام ذاتها،تعرض لمسائل علمية بعضها عام و بعضها مفصل،و أعطى القرآن لذوي العلم موقعا متميزا في الدنيا و الدين،و في معرفة اللّه،و مدحهم مدحا كبيرا حينما قال بأنهم هم الذين سيعرفون أن ما أنزل على محمد صلّى اللّه عليه و سلّم هو الحق وَ يَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَ يَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [سبأ6/]،فالعلم ليس خصما للإيمان،كما يقول بعض الملحدين،بل هو دليل إليه.
و يصل المؤلف إلى التأكيد على أن العلوم الطبيعية و الفيزياء الكونية هي علوم إسلامية لأنها علوم قرآنية في موضوعها و في طريقتها،و يستشهد بآيات كثيرة مما جاء من ذكر العلم في القرآن،و يشير أيضا إلى الدعوة لمعرفة طبيعة الشمس و القمر في القرآن،كما قرر القرآن حقائق علمية كثيرة تتعلق بالكون و الكائنات،بل إن القرآن دعا،كما يقول المؤلف،إلى البحث العلمي و طلب العلم،لأن المنهج العلمي كان وراء المعرفة الدقيقة للحقيقة الكونية،و من ثم كانت هيمنة العلم على كثير من مظاهر حياتنا،و لما كان اللّه قد جعل الإنسان خليفة في الأرض لذا طالبه بأن يكون عالما و عليما بسنن الكون التي ستقوده إلى أن يكون قادرا و أمينا على هذه الخلافة، و لعل دعوة القرآن للمخاطبين بما يعقلون خمسين مرة،و بما يعلمون مائة مرة،و بما يتفكرون و يتفقهون ثلاثين مرة في القرآن دليل واضح على هذا الاهتمام الاستثنائي للقرآن بالعلم.كل هذا كان هو الأساس الذي بنيت عليه«حقيقة عدم تعارض القرآن مع العلم على الإطلاق»،و لهذا فالمؤلف يؤكد أنه«ما تقدم العلم خطوة إلا و كشف عن ناحية من نواحي الإعجاز العلمي فيه،و أضاف برهانا جديدا يؤكد أن القرآن كتاب اللّه الذي لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت42/].
هكذا،إذن،يبين المؤلف قناعاته ليدلل على الرابطة الوثيقة و الأكيدة التي تحمل آيات القرآن إلى الحقائق العلمية،و مع هذا فنراه قلّما يستخدم كلمة إعجاز علمي إلا باستشهاداته عن الآخرين،و أحيانا كعبارة عرضية،و إنما أكثر ما يؤكد على كلمة التوافقية بين القرآن و الحقيقة العلمية،اللهم إلا إذا فهمنا هذه التوافقية عنده هي بمعنى الإعجاز العلمي الذي نستخدمه نحن.فحينما يعقد فصلا خاصا عن هذه
ص: 65
التوافقية و تحت عنوانها و يؤكد فيها (1)«إنني أشعر كلما قرأت القرآن الكريم-بعد أربعة عشر قرنا من نزوله-أنه يتنزل اليوم،فلم أجد فيه ما يناقض(حقيقة)أثبتها العلم الحديث،اللهمّ إلا إذا كانت هذه(الحقيقة)نفسها لا تزال أبعد ما تكون عن الحقيقة،أما الحقائق الثابتة،فإني أرى صداها في القرآن الكريم»،و هذا ما يوجب عليه أن ينطق بكلمة معجزة علمية إلا أنه لا يفعل ذلك إلا من خلال استشهاده بنص لمؤلف اسم كتابه«معجزة القرآن»لنعمت صدقي،فيقول (2):«و في القرآن آيات أخرى اكتشفت معانيها على مر السنين،أو ما زالت تنتظر ما يجلي معانيها،و بذلك أثبت العلم الحديث أن القرآن معجزة كل العصور الغابرة و القادمة،و العالم الذي يتضح له ذلك يقتنع بأن القرآن لم ينزل لتنفيذ تعاليمه في زمن محدود بوقت نزوله، بل إنه الكتاب الذي يجب أن يظل(سائر المفعول)إلى آخر الزمان،و تعاليمه مناسبة لكل عصر،لأن علومه توافق كل عصر،و ما ذلك إلا لأنه من عند اللّه الذي خلق الإنسان و الذي يعلم أحواله و تطورها في كل زمان،فأنزل ما يتضمن هدايته و مساعدته على الخلافة في الأرض جيلا بعد جيل،و زمانا بعد زمان».
كما أن المؤلف حتى حينما يستخدم كلمة معجزة،و هي قليلة جدا،فهو يضعها في مقابل التوافقية حيث يقول (3)«فإذا اكتشف الإنسان بالعلم شيئا من تلك الحقائق الكونية في ذلك أيضا شيء من معجزات القرآن و معجزات الرسول الأمين محمد عليه الصلاة و السلام،و تحقيق ذلك على أيدي علماء الجغرافية الفلكية المعاصرين ليس فيه،إلا أنهم جاءوا ببعض ما جاء به القرآن قبل أربعة عشر قرنا.التوافقية-في هذه النقطة-موجودة قائمة».
إن التفسير الذي يمكن أن يقبل من المؤلف على ذلك ليس لعدم قناعته الأكيدة بأن الآية و الحقيقة تتعامدان تعامدا مؤكدا،و لا شك أو ظن قد يخطر في البال من التخوف أن تتغير الحقيقة العلمية فنكون قد أخطأنا بفهم الآية،و هذا يؤكده النفس الإيماني العميق الذي يتكلم به المؤلف في كافة مفرداته و تفاصيله.إن هذا الاستعمال لكلمة التوافقية جاء كبيرا دقيقا و علميا في مفهوم الكاتب للتعبير عن هذا الاتصال بين الآية و الحقيقة العلمية،ذلك لأن القرآن،حين ذكر الحقائق الكونية،لم يستخدم أسلوب البشر في هذا الإثبات،بل استخدم أسلوب الإشارة و الرمز و المجاز و الاستعارة،و بعبارات توحي أو تومض بهذه الحقيقة،فأسلوبه أدق في التشخيص7.
ص: 66
من استعمال عبارة المعجزة باستخدام التوافق،يقول في هذا (1)«إن القرآن الكريم قد عرض كثيرا من الحقائق الكونية،و لكنه عند ما يعرض أي قضية من قضايا الكون العلمية لا يعرضها بأساليب البشر كاستعمال المقدمات-الدلائل،المعادلات- استنباط النتائج و إنما يقدمها بالإشارة أو الرمز أو المجاز أو الاستعارة أو بالعبارات التي تومض في العقل بنور روحي باهر»،و هذا يعود إلى طبيعة الأسلوب القرآني نفسه،و إلى أن هذه الحقائق سوف لا تدرك كاملة في عصرها و إنما ستأتي عصور لاحقة تتطور العلوم و المفاهيم خلالها فيستطيع الإنسان فهمها كما أراد اللّه لها،و إلا فما معنى أن ينزّل اللّه قوانين و حقائق لا يستوعبها أهل عصرها،و تكون عليه أشبه بالظلمات الغامضة،فاتجه الأسلوب القرآني إلى الرمز و التشبيه و غيرها من الأساليب،و ربطها بالحكمة و الإرشاد و الهداية لكي تؤدي غرضين في وقت واحد، غرض يستفيد منه القدماء الذين نزلت الآية في وقتهم و ما بعدهم بقليل،و غرض يستفيد منه اللاحقون بعد تقدم العلوم و انكشاف الغطاء عن الحقائق الكونية الجديدة.فعظمة القرآن هنا تظهر في مخاطبته لجهتين بنفس الأسلوب و المفردات، و لكن كل منهم يفهم معاني أعمق من الآخر،و لكن الهداية واحدة للاثنين و الإرشاد متساوي عند الطرفين،و في ذلك يقول المؤلف (2)«إن اللّه سبحانه و تعالى ينزل آيات،قد لا يدركها أو يفهم حقيقتها و أسرارها في وقت نزولها كل المعاصرين لها، لأن العلم بقوانين الكون كان محدود الآفاق آنذاك،و لكن اللّه سبحانه و تعالى يعلم أن المستقبل سوف يأتي بفرص مناسبة لتوسيع مدلول الآيات الكريمة بما يخدم الإنسان و يرسخ حركته في الكون و الحياة،و يحقق الخلافة في الأرض لبني الإنسان، قال تعالى سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت/ 53]،و لا شك أن هذه معجزة ما بعدها معجزة..».
ينتهي المؤلف بالدعوة إلى منهج إيماني علمي معتمدا على أن (3)«المنهج الإيماني للدراسات الجغرافية في القرآن و السنّة لا يجد غرابة و لا عجبا أن يأتي القرآن،و هو المعجزة الكبرى،بتلك الموافقات و المطابقات لكل ما وصلت إليه العلوم الحديثة من نتائج،و وصل إليها العلماء بعد مئات السنين من الدراسة و البحث و التأمل،لأن العلم و الدين في الإسلام شيء واحد،فالعلم يصل بك إلى الدين، و الدين يصل بك إلى العلم،و المنهج الإيماني قبل كل شيء يؤكد بطريقة علمية أن7.
ص: 67
اللّه هو خالق الكون،و هو المهيمن على قوانين الحركة فيه بإرادته،و هو في كل ذلك رحمن رحيم،و تجب عبادته و العمل بشريعته،و أنه سبحانه و تعالى نظم هذا الكون على أسس و قوانين و سنن غاية في الحكمة و الشمولية و الدقة،يقول سبحانه و تعالى وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الفرقان2/]».
و لو أخذنا مثلا تطبيقيا لمنهج الدكتور عبد العليم عبد الرحمن خضر،في التوافقية بين آيات القرآن و مفردات العلم و اكتشافاته،لوجدنا مصداقا واقعيا لهذا النهج الدقيق،و سنحاول أن نقتطع فقرات من فصول مختلفة من كتابه لإيضاح و جهة النظر هذه.
ففي الفصل السادس،و الذي عنوانه(السنن الكونية و قوانين الفطرة بين البحث العلمي و القرآن)يبدأ فيه بفقرة تحت عنوان(كيف يسير الكون)يقول فيه الدكتور:
نبّه القرآن الكريم إلى أن الكون كله يسوده نظام محكم وفق سنن إلهية يسير الكون بمقتضاها،و قوانين لا تفاوت فيها و لا نقص،فيقول سبحانه عز من قائل:
اَلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ(3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَ هُوَ حَسِيرٌ [الملك3/،4]،و قد خلق اللّه كل شيء في هذا الكون بقدر،أي بتقدير كمي و زماني وفق ماهية سابقة، و إن شئت قلت حدّده و أعطاه أو صافه حسب قوانين الفطرة و سنن الكون الشاملة، و جعل له رتبة وجودية معينة.فمثلا وضع الخالق الأعظم كل موارد الثروة الاقتصادية في الأرض حسب سنن كونية تحقق التوازن في الأرض،قال تعالى وَ قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها [فصلت10/]،أي إن من سنن اللّه في الكون أن يكون كل شيء فيه برتبة واحدة،فمعنى قضى و قدّر:حكم و رتّب،و معنى القضاء و القدر حكم اللّه تعالى في شيء ما أن يسير على سنة ما و لأجل ما،و الآيات الكريمة تدلّ على وجود سنن إلهية دقيقة،و على أساسها تم تقدير المخلوقات تقديرا كميّا خاضعا للقياس و النظام الدقيق،و تتضح تلك المفاهيم في قوله تعالى وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الفرقان2/].و من تلك التقديرات الإلهية التي تفلسف سنن الكون و قوانين الفطرة تحديد مسار الشمس و حركتها و فلك القمر و مناطق منازله،يتضح ذلك في قوله تعالى وَ الشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(38) وَ الْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس38/،39]،و نحن بذلك نرجع بقوانين الكون و الفطرة إلى أبسط قواعد الدين الفطري الذي هو الإسلام و الذي من أصوله:أن لهذا الكون الباهر البديع غير المتنافر صانعا حكيما لا تدركه الأبصار،خلق كل شيء
ص: 68
فقدّره تقديرا،و قد رأينا أن منهج القرآن،في تناول الظواهر الكونية،هو الإشارة المجملة إلى بعض الظواهر،و ما أشبهها،ثم جاء العلم الحديث فكشف كثيرا من الأسرار التي أجمل القرآن الحديث عنها،و جميعها يدلّ على دقة السنن الإلهية التي وصفها اللّه لتسيير هذه الظواهر في الكون و الحياة.
و من ذلك مثلا قوله تعالى وَ اللّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ [فاطر9/]،و منها نفهم أن الخالق الأعظم قد وضع لنزول المطر قوانين خاصة و جعل للرياح فيها دورا خاصا،بحمل السحب و إثارة الشحنات الكهربائية المختلفة فتلاقحها ببعض،أو بذرات الغبار ليتكثف بخار الماء و لكنه لا ينزل إلا حسب القانون الإلهي الخاص بتوزيع المطر على الأرض،فتذهب السحب إلى البلد الميت (مناطق الجفاف)فيسقط المطر و تزدهر الحياة،و قد وضع الخالق الأعظم للكائنات نظاما خاصا في المعيشة يسمى نظام المعيشة التعاونية لتسهيل أسباب الحياة،قال تعالى وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ [الأنعام38/].
و جاءت السنن الكونية في تصنيف الكائنات الحية،حسب أنماط حياتها في منتهى الدقة،في ذلك يقول القرآن مشيرا إلى قانون شامل مؤداه أن كل المخلوقات الحية خلقت أساسا من الماء وَ اللّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [النور45/].و قد وضع الخالق الأعظم قانونا ينطبق على كوكبنا الأرضي يختص بتوزيع الضياء و الظلام و علاقتهما بالحياة البشرية،و دور كل من الشمس و القمر في ذلك،قال تعالى: فالِقُ الْإِصْباحِ وَ جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [الأنعام96/].و من أمثلة السنن الكونية العظيمة،التي توصل إليها العلم أخيرا،قانون استقرار الأرض و توازنها،و ما تبع ذلك من قوانين الفطرة التي يخضع لها نظام الأرض لتكون صالحة للحياة،و لكن أكثر الناس لا يعلمون ما في الأرض من سنن كونية عظيمة،يقول سبحانه و تعالى: أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَ جَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَ جَعَلَ لَها رَواسِيَ وَ جَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَ إِلهٌ مَعَ اللّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [النمل61/].و تشير الآية الكريمة إلى الاستقرار العام الذي تتسم به القشرة الأرضية حاليا،لأنها،قبل نشأة الحياة عليها،لم تكن مستقرة في عصورها الأولى قبل أن تبرد،و إذا كان استقرار الأرض لا يتصف بالشمولية المطلقة،على اعتبار وجود مناطق نشطة بالزلازل و البراكين بشكل متقطع،فإنما ذلك لإحداث التوازن للأرض من جهة،و من جهة أخرى لتنبيه البشر إلى قدرة اللّه سبحانه و تعالى و أخذه
ص: 69
بناصية الأرض و كل من عليها،شأنها في ذلك شأن جميع أجرام الكون.
كما تشير الآية الكريمة إلى قانون من قوانين الفطرة التي تشملها سنن اللّه الكونية، و هو قانون التوتر السطحي الذي يخضع له الماء،سواء العذب منه أو المالح،بحيث لا يختلط أحدهما بالآخر عند لقاء الأنهار بالبحار و المحيطات،و تتلخص تلك الظاهرة في عدم الاختلاط الفوري لمياه البحر المالحة بالمياه العذبة للأنهار الكبيرة...كما نجد قانون الفطرة الخاص بتولد الرعد و البرق في السماء،يخضع الظاهرة لما يسمى بالكهربائية الكونية التي تتولد من احتكاك السحاب،يقول سبحانه جلّ من قائل عليما هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ [الرعد12/]،و يقول سبحانه و تعالى: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ [النور43/]،إنها سنن اللّه الكونية التي أودعها في هذا الكون الكبير ليسير كل شيء فيه وفق تخطيط مسبق و إرادة إلهية عليا منظمة،و انسجام كامل في كل الموجودات.فكل شيء في هذا الكون الفسيح من الذرة و المجرات العملاقة يسير وفق هندسة إلهية و تقدير محكم و نظام دقيق.فالذرة المتناهية في الصغر عالم هائل فيه هندسة و حركة و قوانين و طاقة،و كل شيء فيها يسير وفق تقدير مطلق الدقة».
و بعد أن ينتهي الدكتور عبد العليم من حديثه عن كيفية سير الكون و الدقة و التوازن الذي يحكمه،يأتي في فصل آخر بعنوان(النسبية في قوانين الحركة الكونية بين المفهوم العلمي و منهج القرآن)،و في فقرة(قوانين الديناميكا الحرارية و نهاية الكون)ليقول فيها«إن هذا الكون كانت له بداية هي الدخان ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ [فصلت11/]،و لم يكن أزليا و لن يكون بصورته هذه أبديا،فلا بد أن سيكون له يوم تكون فيه النهاية،لأن قوانين الديناميكا الحرارية و الطاقة المتاحة يؤكدان أن الحرارة تنتقل دائما من وجود حراري إلى وجود غير حراري،و باستمرار هذا العملية لا بد أن يأتي وقت تتساوى فيه حرارة جميع الموجودات فتنتهي كل العمليات الكيميائية و الطبيعية،و بانتهائها تنتهي الحياة تلقائيا على أرضنا و ما يشبهها من كواكب الأكوان البعيدة.و هذا الكون العظيم المعجزة في بنائه،المذهل في اتساعه،الرائع في حركته و اتزانه،هذا الاتزان الدقيق الذي لو اختل شعرة،في أمر من أموره،لا نفرط عقد هذا الكون و انهار كل ما فيه و من فيه،و لمّا كان هذا الكون منذ ملايين السنين يسير على نفس السنن فإن الذي يصونه مما قد يتعرّض له من كوارث هو اللّه،هو اللّه
ص: 70
الذي لو رفع عنا حمايته برهة من زمن لهلكنا و هلك كل من معنا،هو اللّه الذي جعل أرضنا في هذا الموقع الممتاز الذي يقدر بعده بحوالي 93 مليون ميل من الشمس، و لو كان قد جعلها ضعف بعدها الحالي من الشمس لنقصت كمية الحرارة التي تصلنا إلى ربع كميتها الحالية،أي إن الحياة كانت تقتصر على شريط ضيق فقط حول خط الاستواء الذي تصير درجة حرارة المناطق المحيطة به حوالي 12 م فقط طول العام،و تهلك الحياة فوق باقي أجزاء الكوكب...هذا طبعا إذا لم نأخذ في الاعتبار مسائل أخرى.
إن مجرد ابتعاد الأرض عن الشمس بحوالي 186 مليون ميل فقط أمر يجعل الأرض تقطع دورتها حول الشمس في وقت أطول مما يترتب عليه طول فترة الشتاء إلى ما يزيد عن زمن يساوي السنة التي نعرفها الآن،و هي ظروف يستحيل معها بقاء صور الحياة فوق الكوكب،و هو اللّه الذي جعل أرضنا في هذا الموقع الممتاز الذي لو كان أقل من ذلك،النصف مثلا[(5،46)مليون ميل]،لصارت سرعة الأرض أعظم و حرارتها أشد،حتى تتبخر المياه في نخاع جميع الكائنات فوقها،و لاندلعت الحرائق في كل شبر منها،و لأصبحت مثل الكوكب عطارد تماما،و هو اللّه الذي جعل أرضنا في مثل هذا الحجم المثالي،و لو كان قد أراد لأرضنا غير ذلك-حسب مشيئته تعالى-كأن تكون في مثل 1/4 حجمها الحالي لما أمكن أن تحتفظ بغلافها الجوي الذي لولاه لانعدمت الحياة بسبب غياب عنصر الأوكسجين،و تنعدم النباتات لانعدام المياه،و ينعدم ظهور الشفق قبل الغروب و بعد الغروب،و يهجم الظلام على ضوء النهار فجأة،كما يطلع النهار و يتبدد الظلام فجأة،و يصبح الفرق في درجة حرارة سطح الأرض ليلا و نهارا فرقا كبيرا قد يبلغ مئات الدرجات، و تصبح الأرض معرضة لمزيد من الأشعة الكونية القاتلة لكل شيء في طريقها، و يصبح انتقال الصوت من مكان لآخر صعبا،و تنعدم السحب،و تختفي الأمطار، و تجف الأنهار،و تسودّ صفحة السماء بعد زرقة،و تظهر النجوم نهارا كظهورها ليلا، و كل ذلك يذكرنا بهول يوم القيامة حيث يقول سبحانه و تعالى كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ(26) وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ(27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرحمن26/-28]،و لا يملك التعبير البشري أن يصور الموقف،و لا يملك أن يزيد شيئا على النص القرآني الذي يسكب في الجوانح السكون الخاشع و الجلال الغامر و الصمت الرهيب، الصمت الذي يرسم مشهد الفناء الخاوي،و سكون الموت بلا حركة في جنبات الكون الذي كان حافلا بالحركة و الحياة،كل شيء سيتغير يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ [إبراهيم48/]،و نحن لا ندري كيف سيتم هذا و لا طبيعة الأرض الجديدة و طبيعة السماوات،و لا مكانها و لكن النص يلقي الظلال،ظلال القدرة التي تبدل الأرض و تبدل السماوات،و تبعث الارتجاج و الهلع في الأرض كما يقول سبحانه يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ وَ كانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً [المزمل14/]،القدرة التي تجعل السماء تنفطر و الكواكب تنتثر و البحار تفجر و القبور تبعثر،القدرة التي تجعل الجبال تسير و الأرض تميد وَ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَ تَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً [الكهف47/]. وَ إِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ [التكوير3/].كل ذلك آيات على قدرة الخالق جل و علا،فتبارك اللّه أحسن الخالقين...و إليه ترجعون».
ص: 71
إن مجرد ابتعاد الأرض عن الشمس بحوالي 186 مليون ميل فقط أمر يجعل الأرض تقطع دورتها حول الشمس في وقت أطول مما يترتب عليه طول فترة الشتاء إلى ما يزيد عن زمن يساوي السنة التي نعرفها الآن،و هي ظروف يستحيل معها بقاء صور الحياة فوق الكوكب،و هو اللّه الذي جعل أرضنا في هذا الموقع الممتاز الذي لو كان أقل من ذلك،النصف مثلا[(5،46)مليون ميل]،لصارت سرعة الأرض أعظم و حرارتها أشد،حتى تتبخر المياه في نخاع جميع الكائنات فوقها،و لاندلعت الحرائق في كل شبر منها،و لأصبحت مثل الكوكب عطارد تماما،و هو اللّه الذي جعل أرضنا في مثل هذا الحجم المثالي،و لو كان قد أراد لأرضنا غير ذلك-حسب مشيئته تعالى-كأن تكون في مثل 1/4 حجمها الحالي لما أمكن أن تحتفظ بغلافها الجوي الذي لولاه لانعدمت الحياة بسبب غياب عنصر الأوكسجين،و تنعدم النباتات لانعدام المياه،و ينعدم ظهور الشفق قبل الغروب و بعد الغروب،و يهجم الظلام على ضوء النهار فجأة،كما يطلع النهار و يتبدد الظلام فجأة،و يصبح الفرق في درجة حرارة سطح الأرض ليلا و نهارا فرقا كبيرا قد يبلغ مئات الدرجات، و تصبح الأرض معرضة لمزيد من الأشعة الكونية القاتلة لكل شيء في طريقها، و يصبح انتقال الصوت من مكان لآخر صعبا،و تنعدم السحب،و تختفي الأمطار، و تجف الأنهار،و تسودّ صفحة السماء بعد زرقة،و تظهر النجوم نهارا كظهورها ليلا، و كل ذلك يذكرنا بهول يوم القيامة حيث يقول سبحانه و تعالى كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ(26) وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ(27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرحمن26/-28]،و لا يملك التعبير البشري أن يصور الموقف،و لا يملك أن يزيد شيئا على النص القرآني الذي يسكب في الجوانح السكون الخاشع و الجلال الغامر و الصمت الرهيب، الصمت الذي يرسم مشهد الفناء الخاوي،و سكون الموت بلا حركة في جنبات الكون الذي كان حافلا بالحركة و الحياة،كل شيء سيتغير يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ [إبراهيم48/]،و نحن لا ندري كيف سيتم هذا و لا طبيعة الأرض الجديدة و طبيعة السماوات،و لا مكانها و لكن النص يلقي الظلال،ظلال القدرة التي تبدل الأرض و تبدل السماوات،و تبعث الارتجاج و الهلع في الأرض كما يقول سبحانه يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ وَ كانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً [المزمل14/]،القدرة التي تجعل السماء تنفطر و الكواكب تنتثر و البحار تفجر و القبور تبعثر،القدرة التي تجعل الجبال تسير و الأرض تميد وَ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَ تَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً [الكهف47/]. وَ إِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ [التكوير3/].كل ذلك آيات على قدرة الخالق جل و علا،فتبارك اللّه أحسن الخالقين...و إليه ترجعون».
و في فقرة ثانية من نفس الفصل،و تحت عنوان(هل تشتعل البحار)؟يقول الدكتور عبد العليم مفسرا آية وَ إِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ [التكوير6/]«إن تفجير البحار يحتمل أن يكون هو امتلاؤها و غمرها لليابسة و طغيانها على الأنهار،كما يحتمل أن يكون هو تفجير مائها إلى عنصريه الأوكسجين و الهيدروجين،فتتحول مياهها إلى هذين الغازين كما كانت قبل أن يأذن اللّه بتجميعهما،و تكوين البحار منهما،كذلك يحتمل أن يكون هو تفجير ذرات هذين الغازين،كما يقع في تفجير القنابل الذرية و الهيدروجينية اليوم،و قد أمكن اليوم فصل ذرة الأوكسجين عن ذرتي الهيدروجين التي يتكون من ثلاثتها الماء،و علوم البحار توصلت الآن إلى أنه يقع في أعماق المحيطات السحيقة هيدروجين طليق يتكون من ذرات ثقيلة،و من الممكن تحطيم إحدى هذه الذرات بفعل ضغط كهربي من صاعقة مثلا،أو بفعل حرارة هائلة تندلع بصورة مفاجأة من باطن الأرض الملتهب عبر شق يحدثه انكسار في صخور القاع النارية،و من المعروف أن ذرة الهيدروجين تشتمل على نواة تتكون من بروتون واحد (لا يوجد هنا نيوترونات)،و يدور حولها إلكترون،و يقع هذا المدار في مستوى الطاقة الأولى أو في السماء الأولى الأقرب إلى النواة،و الوزن الذري للهيدروجين 008،1 و العدد الذري 01،و حين يبدأ اشتعال الهيدروجين الموجود في الماء عند قيعان المحيطات،من جراء زلزال كبير أو بركان عظيم،تنطلق منه كميات هائلة من الطاقة الإشعاعية،و لن تكون من النوع الذي نراه في موقد أو في كوم من ما أشارت إليه الآية الكريمة التي سبقت عصر العلم بألف و أربعمائة سنة،و التي تقول وَ إِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ [التكوير6/].
و بذلك يثبت العلم أن ما جاء بالآية الشريفة هي الحقائق التي وصل إليها العلماء فقط عند ما حان أمر اللّه بالسماح للإنسان أن يكشف شيئا من ستار المجهول تحقيقا
ص: 72
لوعده سبحانه و تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ [فصلت53/]،و بعض المفسرين يرى في معنى قوله تعالى: وَ إِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ أي غاض ماؤها،و ملئت بالنار بدل الماء،و لا غرابة،فباطن الأرض شديد الحرارة جدا بدليل البراكين التي تخرج منه، و ليس ببعيد عند ما تأتي النهاية أن تتشقق الأرض و يغيض الماء لتبخره في الجو بردا، و يمتلئ البحر بالنار التي تخرج من باطن الأرض».
أما النموذج الثالث لتفسير القرآن تفسيرا علميا فإنه مع تصورات الأقدمين،التي ذكرناها،من أن القرآن فيه كل علم و كل معرفة حتى عدّوا العلوم بسبعين ألف علم و أكثر،و ما ذكره ابن مسعود أن فيه علم الأولين و الآخرين،و ما ذكره الغزالي عن أن تحت كل كلمة من كلمات القرآن علم،لأن القرآن يتحدث عن صفات اللّه و أفعاله، و الكون هو من خلق اللّه و أفعاله،و ما ذكره ابن مجاهد أنه ما من شيء في العالم إلا و هو في كتاب اللّه،و ما قاله ابن أبي الفضل المرسي من أن القرآن جمع علوم الأولين و الآخرين،بل و يستشهد السيوطي لأبي البكر بن عربي من أن القرآن فيه علوم على عدد كلمات القرآن مضروبة في أربعة،لأن لكل كلمة ظهر و بطن و حد و مطلع،عدا ترتيبها و الروابط بينها،و هذا مما لا يحصى و لا يعلمه إلا اللّه،بل و يعتبر بعض القدماء أن حدود علم اللّه لا نهاية لها،مستشهدين بقوله تعالى في القرآن وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللّهِ [لقمان27/] قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَ لَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً [الكهف109/]و آخر من قال به،بهذا المعنى،الفخر الرازي الذي قال (1):«ما من حرف و لا حركة في القرآن إلا و فيه فائدة،ثم إن العقول البشرية تدرك بعضها و لا تصل أكثرها و ما أوتي البشر من العلم إلا قليلا».
يلتقي هذا النموذج الثالث مع جميع هذه الأوصاف للقرآن و يحاول البرهنة عليها بكتاب كامل اسمه(القرآن تفسير الكون و الحياة)للأستاذ محمد العفيفي،أي أن هذا الكتاب يحقق و يؤمن بأن القرآن فيه تفسير كل شيء،و فيه الحقيقة المطلقة،و فيه الثبات الحقيقي في الحياة،و هو التطابق بين كلمات القرآن و بين تغيرات الحياة و مكتشفات العلم،و يعتبر أن القرآن يقول الفصل في كل شيء لأن فيه علم كل شيء،و يؤكد على أن في العالم كتابا واحدا قدم للناس جميعا حقائق العلم قبل أن تثبت في معارك العلاقات بين الوعي البشري و بين مادة الكون،و يقول بأن القرآن،2.
ص: 73
بصفته كلام اللّه تعالى،هو اليقين الوحيد في عالمنا الذي تختلف مادته و لا تتفق بغير قدرة اللّه،و يرى بأن الحق هو ظهير الكلمة،فإن عبدنا الحق صدقت كلماتنا،و إن أخضعنا كلماتنا لكلمات اللّه فزنا بالعلم كله،بل إنه يصر على أن القرآن،حقا،هو تفسير الحياة،و لا يمكن أن يكون للحياة تفسير غير القرآن،و يقصد بالحياة الكون و الوجود كله،و يشير بتعبير آخر إلى أن القرآن هو التفسير لليقين الوحيد المطلق لكل شيء في الحياة في شمولها و تفصيلها،و أن سائر علوم الحياة و سائر بحوثنا في صحيح المادة إنما هو أمر سبقنا القرآن إلى بيانه،و دعانا إلى معرفته،و أن علماء العالم لو اجتمعوا كلهم على الآيات القرآنية الكونية لاكتشفوا سبق القرآن للوعي البشري إلى اكتشاف كل الحقائق،ثم يفسر قوله بأن العلم الذي أنزله اللّه تعالى على رسوله في القرآن هو علم الصلة بين كل شيء و كل شيء من طريق تفصيل الحياة بالخلق و تفصيل القرآن بالأمر.
و هكذا ينتهي إلى القول بأن صلة الوعي البشري بالحياة كلها احتمالات و تغيرات و مفاجآت و انقطاع عن العلم الحقيقي،و لو لا القرآن،الذي أعان الوعي البشري على اكتشاف العلوم،لبقي الإنسان في حيرة من أمره.ثم يختم تصوراته بأن الإيمان هو أعلى درجات العلم،و أنه لا علم البتة إلا و هو الإيمان،لأن عمل الإنسان إذا انقطع إلى نفسه فهو احتمالات في احتمالات في حين أن اليقين و الثبات لا يكونا إلا بارتباط هذا العمل بالحقيقة،و الحقيقة هي في كلام اللّه (1)«إن العمل الإنساني متحقق حقه في البقاء إن كان عملا إنسانيا صالحا،و اللّه هو الذي يحقه،فبقاؤه إنما يتم بإحقاق اللّه له»،و يقول:لا وجود و لا عمل-للإنسان-بغير خلق اللّه للإنسان و لمادة الحياة،ثم يعمل الإنسان عملا احتماليا لا يتحقق إلا بالحق،و الحق هو اللّه، و الحق يهدي إلى الحق،أي أن التزام الحق في العمل يحقق احتماليته،فيجعلها متحققة بالحق أو باطلة بإبطال الحق لها،فالاحتمال في حدود عمل الإنسان و اليقين هو خلق اللّه وَ اللّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ [الصافات96/]،و يصل إلى إثبات أن القيمة الحقيقية هي عبادة كل شيء للّه،و أن القرآن هو التفسير الحقيقي لكل أحوال الحياة لأن القرآن مفصل تفصيلا مطلقا بينما الحياة مختلفة.
إذن،فهذا النموذج في التفسير للقرآن يعطي كل كلمات المبالغة عن القرآن حقيقتها في القرن العشرين،بعد أن أعطاها القدماء حقيقتها حينما جعلوا كل العلوم تصب و تنبع7.
ص: 74
من القرآن مهما كانت بعيدة،و لكن الملاحظة الذكية الأولى التي يبدأ بها المؤلف كتابه، و هو يحتاط لتعليمات كلماته كي لا يساء فهمها،هي تأكيده في أول عبارة من كتابه على توضيح ضروري جدا لفهم أفكاره فهما سليما حيث يقول (1)«من حقيقة القرآن أن فيه تفصيل كل شيء...و أول ما يتعثر فيه الوعي البشري،و هو يحاول فهم أن القرآن فيه تفصيل كل شيء،أن يظن أن القرآن فيه تفصيل مادة الحياة بذاتها...حتى لقد ظن بعض الناس أن القرآن فيه ذكر أجزاء المادة،أو تفصيلات المعادلات الرياضية أو الكيميائية،إلى غير ذلك من تفصيلات الوقائع المادية ذاتها...و ليس في ذلك شيء من الصواب،و أن القرآن لهو أعظم و أعلى قدرا من أن يكون ضمن محتويات الحياة المادية.إن القرآن كلام اللّه،فهو،كما سنرى،فوق الحياة و ليس ضمن محتوياتها، القرآن فيه تفصيل كل شيء،حيث هو مهيمن على تفصيلات المادة بتفصيلات الحقيقة المحيطة بسائر علاقات الأشياء بعضها ببعض،فالخلق،أي أجزاء الأحياء و الأشياء في رحاب الكون،لا بد له من علاقة بالخلق،و الإنسان،و هو يبحث في حقائق الكتل المادية،لا بد له من حساب في علاقته هو نفسه بهذه الكتل المادية، الإنسان و مرائيه و مشاهداته بحاجة إلى علاقة ثالثة،إلى ضلع ثالث،يكمل مثلث الإنسان و الأشياء بضلعهما الثالث و هو الأخلاق أو مراقبة المجتمع الإنساني له»، علما أن الأخلاق عنده ليست بالمعنى المباشر المعروف و إنما هو يبنيها على أساس نوع السلوك الإنساني تجاه علاقة الإنسان بالأشياء بعد إدراكها له بشكل معين، فيقول (2)«إذا كانت المادة تتحول إلى طاقة،و الطاقة تتحوّل إلى مادة،و كما هي حقيقة حياتنا التي نحياها،فإن سائر المنتجات المادية تتحول إلى أخلاق،أي إلى لحظة التصرّف في المنتجات،و قد يكون التصرّف أمينا صادقا يعطي كل ذي حق حقه،و قد يحدث عكس ذلك تماما،و على ذلك،فالعالم كله بحاجة إلى هذا الاكتشاف الضخم في كلمات القرآن لأنها تحقق ذلك كله،و تعطي كل مرحلة منه حقها الواضح الذي يربط بين المادة و الأخلاق ربطا عضويا لا شك فيه،كما حدد القرآن لكل كلمة من كلماته قيمة يقينية هي أعز من حقائق العلم التطبيقية نفسها».
فكيف بنى هذا المؤلف منهجه في الكتاب؟و ما هي الأسس التي اعتمد عليها في إثبات هذه الفروض التي طرحها فيه؟و من ثم حكمه على الإعجاز العلمي للقرآن، و ما هي المساحة التي أعطاها له؟0.
ص: 75
يبدأ المؤلف تحديد منهجه في الكتاب في الفصل الأول،الذي أعطاه عنوان (و تفصيل كل شيء)،منطلقا من أن حقيقة القرآن أن فيه تفصيل كل شيء،لا بمعنى تفصيلات المادة و جزئياتها و معادلاتها و كيميائيتها و إنما بمعنى أن كلام اللّه الشامل المهيمن على تفصيلات المادة بتفصيلات الحقيقة المحيطة بسائر علاقات الأشياء بعضها ببعض،أي أن الحقائق الفكرية الشاملة في القرآن تحكم الوقائع المادية الكثيرة في الحياة،و الحقيقة القرآن ثابتة لا تتغير،في حين أن وقائع الحياة المادية تحكمها التغيرات و التضاد و الاتصال،لذا فإن الحقيقة القرآنية هي فوق الوقائع المادية و تحكم حركتها و تغيرها و تضادها بمقولتها الفكرية،و لهذا فهي فوق الحياة، و تهيمن على تفاصيلها،و لو كانت ضمن الحياة لشملتها صفة الحياة التي هي التغير -كما هو الحال مع كلام البشر-الذي يتغير مع الحياة ليلا حق ظواهرها و لأنه منها و ضمنها،و يدلّ على هذا أن الحقيقة المطلقة الثابتة التي لا تتغير هي كلمات القرآن وحده،في حين جميع حقائق البشر المكتشفة هي نسبية و احتمالية و قد تتغير مع كل جديد و علم جديد.
إن كلمة«و تفصيل كل شيء»القرآنية يفهمها المؤلف فهما شاملا،فهي بمعنى أن الحياة لمّا كانت مفصّلة في مفرداتها تفصيلا دقيقا و في كل مفرداتها،لذا فإن كلمات القرآن المعبرة عن هذه التفصيلات المتكاثرة بتفصيل يطابقها مطابقة الحقيقة للواقع، و يعتبر أن التفصيل القرآني هو معجزة لكلمات القرآن و آياته جميعا،و أي كلمة قرآنية وردت مرة واحدة فيجب أن يكون واقعها المادي واحدا أيضا،و إذا وردت أكثر من مرة كان واقعها معها يتناسب و يتناظر مع العلاقة بين الكلمة و علاقاتها في الجملة الكلامية،و تشابك علاقات الواقعة أو المعنى المادي المشيرة إليه في واقع الحياة و تشابكاتها.
و لذا يصف الكاتب هذا التفصيل المعجزة بقوله بأنه (1)«تفصيل مطلق شامل، يتّصل بكلمات القرآن جميعا،كما يتصل بمواضع الخضوع لها في وقائع الحياة، سواء كانت وقائع فكرية أو عملية في المجتمع الإنساني،أو في رحاب الكون المادي نفسه»..
إن كلمة«تفصيل»وردت في القرآن مرتين،كما يقول المؤلف،وردت في سورة الأعراف في قوله تعالى وَ لَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ6.
ص: 76
يُؤْمِنُونَ [الأعراف52/]،و وردت في سورة الإسراء بقوله تعالى وَ يَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَ كانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً(11) وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ وَ كُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً [الإسراء11/،12]،و يقول المؤلف معلقا (1):«سنحاول أن نربط بين التفصيلين:تفصيل القرآن،و هيمنة تفصيله على تفصيل كل شيء،من ظواهر العلاقات بين الوعي البشري و بين المسيرة الكونية،بليلها و نهارها و ما يتبع ذلك من عدد السنين و الحساب،أي أبعاد التاريخ و سائر معادلات الرياضة و العلم و الأخلاق».و أول شيء نواجهه في عصرنا،عصر العقول الألكترونية،إن التفصيل فيه يقوم على تفصيل مقادير معينة أو إحصاءات محدّدة لتقييم الاحتياجات وفق خطة مقررة أو خطة للمستقبل القريب أو البعيد،و لكن هذه الخطة أو تلك-كما يقول- لا يمكن أن تكون يقينية في حكمها لوقائع الحياة،حيث التغيرات المجهولة تواجه التخطيط بما لم يكن بالحسبان«أما القرآن فهو مفصّل الكلمات تفصيلا مطلقا يحكم أحوال الحياة كلها جملة و تفصيلا،حكما مطلقا مهما تختلف أحوال الحياة»،و هو يقصد بالتفصيل المطلق لكلمات القرآن«أن كل كلمة من كلمات القرآن،و هي تتعدد مواقعها في آياتها،فهي مفصلة تفصيلا مطلقا،إذ هي ثابتة في بنائها القولي،ثابتة في حقيقتها المرتبطة بها وحدها».
و هو يرى (2)«إن لكل موقع قرآني،بكل كلمة قرآنية،حقيقة خاصة به في موقع الكلمة منه حقيقة لا تتكرر إطلاقا،في أي موقع آخر جاءت به الكلمة نفسها،على أن التطابق القرآني بين كلماته و واقعها المادي لا يأتي وصفا عدديا و موقعيا فحسب، و لكنها في القرآن حكما و أحكاما،و في الحياة كلها خضوعا لحكم كتاب اللّه و تفصيلا لأحوال الحياة،و هي تهتدي بنور كلمات اللّه»أي أن القرآن يحكم الحياة بكلماته و لا يصفها فقط.
إن الحياة تتكاثر تكاثرا كميا لتلبية حاجاتها،كما فطرها اللّه،و أن اختلاف الأعمال و اختلاف الأشياء علامات للوعي البشري حتى يدرك عظمة خالقه الذي جعل من المختلفات متفقات على غير قدره من المختلفات أن تكون على العكس منها تماما متفقات،و لو كانت كلمات القرآن ككلمات البشر لاحتاجت في وصفها لهذه الاختلافات أن تتنوّع و تختلف و تتعدد،و بذلك تفقد صفة الثبات و اليقين،أما كلمات2.
ص: 77
القرآن فتفصيلها يعني ثباتها،و كل ثبات هو يقين،أي وصول إلى حل ثابت و نهائي لكل معضلة.فالقرآن ثابت الكلمات مثبّت لسائر الأحوال المختلفة في الحياة بكلماته الثابتة،و هي ثابتة لأنها لا تتكرر،و هي لا تتكرر لأنها مفصّلة تفصيلا مطلقا (1)«فمهما تتغير الحياة و مهما يكتشف الناس من العلوم،فالقرآن يحكم حكما ماديا أخلاقيا-ما- على كل شيء بهذا التفصيل المعجز الذي حققه اللّه لكلماته،و هو تصنيف مطلق الدّقة و الإصابة»،و يصف المؤلف هذا الثبات بقوله (2):«و الثبات الصحيح في الحياة هو التطابق بين كلمات القرآن،و بين تغيرات الحياة و مكتشفات العلم»،فليس عجيبا بعد ذلك أن يكون القرآن سابقا بما كشف عنه من العلم قبل اكتشافنا للكثير منه،و قبل ما نعلم في المستقبل،فندرك أن القرآن سابق بالحق أبدا،و يعتقد المؤلف أن«هذه هي معجزة التكوين الفذ المعجز لعلاقات الكلمات القرآنية فيما بينها و أحكام هذه الكلمات القرآنية في حكمها للوقائع التي تكوّن الحياة في جملتها و تفصيلها»، و يفترض المؤلف،دلالة على إعجاز القرآن،أنه لو حاول أي مؤلف لكتاب أن يؤلف كتابا فيه إحصاء لعدد الكلمات التي يتكون منها فلا بد أن تكون كل كلمة ترد فيه إما مرة واحدة أو أكثر،و لن يجري أحد إحصاء مثل هذا لأن العلم الذي فيه علم احتمالي و يحتمل الخطأ،و حتى و لو كانت فيه حقائق العلوم المعروفة فإنها قد تتطور و تتغير، و بالتالي فإن أي إحصاء أو تبويب من هذا النوع إنما هو شيء لا يجرؤ عليه أحد،لأنّ المقصود من هذا الإحصاء هو التعبير عن مقولات فكرية عملية حقيقية لكل مادة لغوية يعبر عنها لفظ من الألفاظ،و في علاقاتها مع غيرها،ثم إنها تدل على واقع الحياة المقابل لهذه المقولة،أما السبب فلأن مثل هذا الكتاب سيكون جزءا من الحياة هي حقيقتها،أما الألفاظ و المقولات التي لا تجد رصيدها في الواقع فهي من الأوهام، لأن أي كلمة حقيقية تعني التطابق بين أي شيء في الحياة و أي شيء آخر على نحو يتيح شيئا صحيحا ينفع الحياة و الأحياء،و هكذا يصل المؤلف إلى القول:«إن الناس جميعا لا يمكنهم أن يؤلّفوا كتابا من أي نوع تنطبق عليه هذه الشروط القاسية أو كل الشروط المستحيلة»،و يبرّر ذلك بقوله:«لأن صلة و عينا بالحياة كلها،صلة احتمالات و تغيرات و مفاجآت و انقطاع عن العلم الحقيقي».
و هكذا يصل المؤلف إلى القول بأنه (3)«في العالم كله كتاب واحد،قدم للناس جميعا حقائق العلم،قبل أن تثبت في معارك العلاقات بين الوعي البشري و بين مادة0.
ص: 78
الكون،ذلكم هو القرآن»،و لذا (1)«فإن عقلاء العالم كله ليعجبون كيف يكون في عالم الناس(القرآن)و لا يجعلونه قبلتهم جميعا لفهم الحياة و تفسيرها،و معرفة الحقيقة و العمل بها».
إن الكتاب الذي يحق له أن يحكم العالم،لا بد أن يتّصف بأنه ليس بحاجة إلى تعديل أو إضافة لأن أحكامه يقينية،بمعنى أن كل علاقة يعقدها بينه و بين الحياة،لا بد أن تكون علاقة تخضع كل تجارب الناس،و كل علاقاتهم بالحياة للفوز المبين المعقود على نواصي كلماته،فما بالنا إذا ثبت،بالدليل القاطع،مع ذلك كله أن كلمات القرآن حقائق ثابتة لها وقائعها في الحياة كلها فيما يتعلق بالنصوص التي تدور حول الحياة الدنيا،إذ حقائق الحياة هي وسائل إيضاح لكلمات القرآن،و ما وسائل الإيضاح هذه إلاّ...إن كلمات القرآن تحكم الحياة الحقيقية،و لا تحكم ظروفا محددة لدرس من الدروس،أو عبرة من العبر التي تنتهي بلحظة إلقائها.إن الحياة متصلة و مفصلة،و كلام اللّه متصل و مفصل،و هو يهيمن باتصاله و تفصيله على اتصال الحياة و تفصيلها.كلمات القرآن،كما سنتبين حقيقتها المعجزة في هذا الشأن بعون اللّه،تنفرد بمعجزة عظمى لا نظير لها في أي ألفاظ في أي كلام،و صدق اللّه العظيم وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ [النمل93/].
و يشبّه المؤلف عمله بعمل الفيلسوف البريطاني برتراند رسل حينما حاول أن يصنع لغة رياضية خاصة تعتمد الرقم و العدد لتحكم وقائع الحياة حكما عدديا،ثم حكما وصفيا أخلاقيا جدليا عمليا،و لكنه فشل بذلك،لأن مدار بحثه كان لغة البشر و فكر البشر و علم البشر،و لو بحث هذا بالقرآن لوجده،كما فعل المؤلف نفسه بهذه الكلمات مع الاختلاف الظاهر بالشكل،و ينتهي هذا الفصل بالتعميم التالي الذي يسميه المؤلف الحقيقة الكبرى (2)«إن كلمات القرآن أكثر واقعية-و أعز حقيقة-من مصطلحات الحقائق العلمية الثابتة،و لا نقول الفروض أو النظريات.إن الكلمة القرآنية(آية)،و معناها العلاقة و الدلالة،قد وحّدت في مدلولها بين الآية القرآنية و بين الآلة المحسّة في الوقائع المادية في الحياة،على أساس أن مدلول كلمة الآية هو الوسيط بين علاقات الأشياء بحقائقها النسبية و الحقيقة الكلية المطلقة»،بل إن هذا التطابق بين الكلمة القرآنية و الحياة يعتبره المؤلف آية بنفسها من اللّه«و كل من الكلمة القرآنية و واقعها في الحياة بينها علاقة حكم للقرآن،و خضوع في واقع الحياة9.
ص: 79
يبينان معا،إن هذه العلاقة نفسها آية من آيات اللّه»،«فالعلم كله،كما يقول المؤلف، بحاجة إلى هذا الاكتشاف الضخم في كلمات القرآن،لأنها تحقق ذلك كله،و تعطي لكل مرحلة منه حقها الواضح الذي يربط بين المادة و الأخلاق ربطا عضويا،كما حدد القرآن لكل كلمة من كلماته قيمة يقينية،هي أعز من حقائق العلم التطبيقية نفسها».
بهذا المنهج،يبدأ المؤلف تطبيق تفسيره للقرآن باعتباره هو نفسه تفسيرا للكون و الحياة،و يعتبر أن هذه الدراسة،في مفردات القرآن و كلماته،قد حاولها العلماء القدماء حين أحصوا كلمات القرآن،و أحصوا حروفه و لكنهم لم يعمدوا إلى التدبر العميق في العلاقات الواقعية التي هي متحققة بين كل كلمة من كلمات القرآن و بين أسس الحقيقة على إطلاقها و نهاياتها من أفكار الناس و أعمالهم...أما الضرورة التي تستدعي أن تكون الحاجة إلى كلمات غير بشرية للتعبير عن الحقيقة،فيرجعها المؤلف إلى أن الإنسان نفسه واقع في الحياة التي تخضع للتغيير و التضاد و الحركة، فهو ليس فوق متناقضاتها لكي يستطيع أن يحكم عليها من خلال وعي بشري خاضع لها أساسا،و يربط المؤلف هذه الضرورة للكلام غير البشري بالحاجة الأساسية التي وقع العلم المعاصر بها،و هو يبحث عن لغة فكرية علمية سديدة،و يستشهد بآراء بعض المفكرين على ذلك،و هو يعتبر أن القرآن هو المعجزة الباهرة التي تحل هذه المعضلة حلا لا يمكن أن يتم من أي طريق آخر.
إن العالم مملوء بالكلمات المبهمة و الأخطاء اللفظية حتى تحولت الفلسفة إلى ضرب من الأدب،فتحول العالم إلى لغة الرياضيات كحل لهذه الإشكالات و المبهمات و سوء الفهم،و لكن لغة الرياضيات تعد و تحسب و لا تشخّص و تصف، و لا تحقق وجودا لغويا حيا متصلا بتغيرات الحياة و تضادها و اتصالها،فهي تعجز عن التعبير عن ذلك.إن تكاثر الحياة و مفرداتها و اختلافاتها تستدعي لغة أو كلمات تناسبها بعددها لكي تصفها،و هكذا كلما تكثرت حاجات الحياة تكثرت اللغة أو الكلمات الدالة عليها،و لما كانت تغيرات الحياة لا نهائية و غير محدودة و لا يمكن الوصول إلى كلمات غير محدودة و لا نهائية،لذا وجب أن يكون هناك من يجمع كل تناقضات الحياة و يعلو عليها،و لا يجعلها مقابلة لألفاظ أو كلمات اللغة،و إنما أيضا حاكما عليها بالحقيقة،تلك اللغة و الكلمات هي لغة القرآن و كلماته غير البشرية،لذا نرى المؤلف يؤكد على أن (1)«الحق هو ظهير للكلمة،فإن عبدنا الحقّ6.
ص: 80
صدقت كلماتنا،و إن أخضعنا كلماتنا لكلمات اللّه فزنا بالعلم كله و بالنجاة من الشك و الريب و بحسن المسيرة في الحياة إلى مصيرنا الذي حتّمه الحق سبحانه»،و يقول (1)«إن سائر قوانين المادة،و قوانين علاقاتنا البشرية بها مذخور هاهنا،فالكلمة القرآنية ليست كلمة تقال كأي كلمة و لكنها حشد للحياة،خاضعة لكلمات اللّه خضوع عبادة للّه»،إن اللّه هو الذي يمنحنا مصادر الأفكار و مواردها،فكلماتنا ما لم تخضع له،إذ نتفكر في آياته،فهي باطلة،و ليس في وسعنا إذن أن نتكلم فنصدق.و يخلص المؤلف إلى القول (2):«إن الحياة كلها لم تعرف كتابا واحدا عدا القرآن قد كشف الحقيقة الشاملة للحياة ليكون هو،في إحكام كلماته و في تفصيلاتها،قد أحاطها بالحياة،و حكمها حكما شاملا للمادة و الأخلاق جميعا».
على أن للمؤلف رأيا لا يمكن تجاهله في إيضاحنا لفهمه للقرآن و تفسيره،فهو، بناء على نظريته في الكلمة القرآنية المعجزة،و تطبيقا لعنوان كتابه«القرآن تفسير الكون و الحياة»يجد،ضمن مفردات تحليله لكلمة تفسير و تأويل الواردة في القرآن، أن القرآن لا يمكن أن يفسّره أحد مهما بلغ من العلم،و حتى الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم إنما بيّن القرآن بيانا و طبّقه عمليا و لم يفسّر القرآن أو يؤوله رغم أنه مؤيد من اللّه بأنه وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى(3) إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى [النجم3/،4]،فكيف يشرح هذه الفكرة بمصطلحاته و صياغاته اللغوية الخاصة؟.يعقد المؤلف فصلا تحت عنوان(أ فلا يتدبرون القرآن)يبدأ بسؤال(كيف نفسّر حياتنا في القرآن)ليصل إلى أن العلاقة لمّا كانت بين الإنسان،و شأنه الخضوع لكتاب اللّه،و بين القرآن،و شأنه حكم كل شيء بكلمات اللّه،لذا فمن أراد أن يفهم الحياة أو يفسّرها فلن يتحقق له شيء من ذلك إلا بالقرآن،فهذا محتاج إلى ربط أنفسنا بالقرآن كلّما تدبرنا القرآن،ثم ليستنتج (3)«بأن القرآن حقا هو تفسير الحياة،و لا يمكن أن يكون للحياة تفسير غير القرآن، و المقصود بالحياة الكون و الحياة معا بل و الوجود حاضره و غائبه».
إنه ينعي على التعبير العملي للحياة عجزه عن متابعة متغيراتها و مفاجآتها في كل لحظة (4)«إذا كانت الحياة الإنسانية كلها تبحث عن لغة للتعبير فلا تجد لأن متغيرات الحياة تفاجئنا كل لحظة بما لم يكن في الحسبان.إن القرآن هو التفسير، التفسير الوحيد اليقين المطلق لكل شيء للحياة في شمولها و تفصيلها».7.
ص: 81
و هكذا حينما يستشهد بقول القرآن وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً [الفرقان33/]نراه يعلق على كلمة تَفْسِيراً «بأنها جاءت مرة واحدة دالة على أن كلام اللّه هو الذي يفسّر كل ما عداه تفسيرا،هو الحق فليس بعد الحق إلا الضلال،فمهما يحاول الناس أن يصيبوا الحق في تفسيرهم أمرا من أمور الحياة، فربما تيسّر لهم شيء من صواب الرأي أو القول،و لكنهم لن يعلموا يقينا أنهم أصابوا أحسن الحديث و أحسن العمل،كمن يسافر من بلد إلى آخر،فلعلّه يختار مكانا من البلد وصل إليه و غيره أحسن منه و هو لا يدري من ذلك شيئا،بل هو لا يدري وجه الإصابة فيما أصاب،و اليقين لا مصدر له إلا اللّه وحده لا شريك له»، و يستشهد بحديث الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم(من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ)،و يشرحه بقوله (1):«إن الأصل في القرآن أنه هو اليقين،فلا يكافئه في القول فيه إلا اليقين، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم هو المؤيد باليقين،فكان كلامه عن القرآن و عمله به هي الصدور الكامل عن الوحي،و كان ما عدا ذلك من القول بالرأي باطلا لأنه إن صادف وجه الحق،و الحق بكل شيء محيط،فليس يغني ذلك من اليقين بالحق و وضوحه في وعي القائلين بالرأي،حيث لا يغنيهم أن يصلوا إلى الحق اتفاقا لا يقينا ظاهرا في الاعتقاد الذي يبين العمل و يحققه تحقيقا كاملا في الضمير،فضلا عن سائر الجوارح،حيث هذا الظهور في الفهم هو طريق التواصي بالحق و التواصي بالصبر».
إن المؤلف يرى أن الآية السابقة تدل دلالة واضحة على أن القرآن هو الذي يفسّر و ليس هو الذي يفسّر،و يبني رأيه على أنه ليس من شأننا،نحن البشر العاديين،بعد ذلك أن نقول إن أحدا من الناس قد فسّر القرآن،فإذا القرآن مفسّر و ليس مفسّرا كما بيّن لنا القرآن،و كما حقق لنا التفصيل المطلق لكلمات اللّه تعالى،و قد استثني مقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم من هذا الحكم حيث هو المبلّغ،و هو المؤدي للأمانة،فهو المبيّن للبيان القرآني،و بيان البيان هو التبليغ و ليس التفسير.أما كلمة التأويل و التي يعتبرها المؤلف أدق تعبيرا عن القرآن من كلمة التفسير،فهو أيضا شيء لا يقدر عليه أحد إلا اللّه،و يكون التسليم بالنص القرآني،حسب وروده،هو البديل الوحيد للإنسان لكي يتلقى العلم الإلهي«فالتأويل هو عدم القدرة البشرية على التأويل،و معرفة الناس ذلك هو وضوح خضوعهم للحق سبحانه،و هذا هو التسليم بحدود الإنسان و إقامة حدود اللّه في النفس و الضمير و الفكر،و المعادل العملي لهذه الحقيقة هي تلمذة5.
ص: 82
المؤمنين للقرآن تلمذة كاملة شاملة متصلة،فالمؤمن لا يدخل على القرآن برأيه و إنما يدخل عليه متأدّبا طالبا متتلمذا عالما بعجزه عن التأويل،و هذا هو أقوى أسباب العلم»،و أخيرا يصل إلى التعميم التالي لكل ما تقدم فيقول (1):«فلسنا إذن من يفسّر القرآن أو يؤوله،و إن كان للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم شرف بيانه،كما هو ظاهر في آياته البيّنات، و تأويله في حدود العمل به،إذ العمل نوع من أنواع التأويل،و مقام الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم منه هو مقام الأسوة الحسنة،و مقامنا نحن مقام التلقّي و الأخذ عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم مع الوعي بأن تأويل القرآن على أساس شامل متصل بأمور الغيب جميعا إنما هو من أمر اللّه وحده،و لا سبيل لنا إلى ذلك إلا بالإيمان».
و مع أنه يعود ليستثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم من ذلك على أساس أنه قد يكون أن اللّه سبحانه قد أطلعه على تأويل من تآويل الغيب و لم يأمر ببيانه ليلة أسري به و عرج به إلى السماوات العلى،إلاّ أنّه يؤكد على أن ظاهر التأويل يدلّنا على أن تأويل الرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم للقرآن كان بالنسبة العملية و القولية أي تحقيق القرآن بالعبادات أنه يبني موقفه على قوله تعالى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ(17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ(18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ [القيامة17/-19]فيقول بأن اللّه وحده هو الذي بيّن كلامه و الرّسول الأعظم صلوات اللّه عليه قد بلّغ الرسالة،و أدّى الأمانة بيانا للبيان لا بيانا لشيء محتاج لبيان، و إننا لنقرأ في سورة الطلاق قوله تعالى رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللّهِ مُبَيِّناتٍ [الطلاق/ 11]،كما نجد في سورة البقرة (2)وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَ ما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ [البقرة99/]،أما دور الرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم في بيان القرآن للناس،كما يقول المؤلّف،فيكون في طريقين:
«أحدهما:متصل ببيان بيان القرآن ذاته،و ذلك من قوله تعالى،كما نجده في سورة النّحل وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل44/]،فكون القرآن هو الذكر،فهو بيان واضح يحتاجه التذكّر الإنساني ليعقد بينه و بين كل شيء العلاقة الصحيحة التي يتمّ بها الوعي بكل شيء،و الفعل المضارع يَتَفَكَّرُونَ يبيّن لنا الحالة الآنية بين الإنسان و موضوعات تفكّره و تذكّره.
و ثانيهما:هو بيان حقائق الحياة الخارجية،كما يبيّنها البيان القرآني،و كما يبلّغ ذلك كلّه الرسول صلوات اللّه عليه،فذلك ما نجده في الآية الرابعة و الستّين من2.
ص: 83
سورة النحل أيضا وَ ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النحل64/].فالذي اختلفوا فيه هو أساليب تفكّرهم، و أساليب فهمهم لحقائق الأشياء،حيث بيّن لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أن الحقّ جلّ و علا هو وحده ربّ كل شيء،و هذا بيان قرآني ظاهر،فعمل الرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم هو بيان البيان».
و هكذا يصل المؤلّف إلى ختام هذا القول بالتأكيد الواضح على أن كلمة التفسير في إطلاقها على القرآن على أساس أن يكون الناس هم الذين يفسّرون القرآن شيء غير صحيح،أما من استطاع أن يتدبّر القرآن فليفعل على أن لا يدّعي أنّه يفسر كلاما محتاجا لتفسير،و إنما على أساس أن القرآن هو المفسّر للحياة و الأحياء،و أن من يتدبّر القرآن من النّاس فهو إنما يفسّر الناس القرآن و هم منه بهذا المكان.
إذن،فالمؤلّف يطرح كلمة التدبّر بدل التفسير و التأويل،و يعتبر أن مقام رسول اللّه عليه الصّلاة و السّلام هو قمة التدبّر و مقام الكافة هو التدبّر،كما يناقش المؤلف ابن تيمية في قوله بأن السنّة شارحة للقرآن،و يناقش الأحاديث النبوية مثل(ألا إني أوتيت القرآن و مثله معه)،و يعتبر التطبيق العملي للقرآن هو معناها،و يعتقد أن القرآن هو الذي يهيمن على السنّة و يفسّرها و ليس العكس،كما هو مشهور عند المفسّرين و الأصوليين،كما يرد على معنى الحديث(اللهم فقّهه في الدين و علّمه التأويل)في حق ابن عباس،فيورد اختلاف الرواة على كلمة التأويل حيث وردت مرّة،و وردت بدلها الحكمة مرة أخرى ليصل إلى القول:«إن كلمة تأويل في حديثه صلّى اللّه عليه و سلّم تعني كلمة ما يؤول إليه أمر الحياة و الأحياء جميعا،إذ يحقّ اللّه تعالى الحقّ بكلماته»،و يعتقد أن المقصود بقوله تعالى هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ تَأْوِيلَهُ [الأعراف53/]هو حالنا في الدنيا، حيث نحن بانتظار دائب لما سبق به القرآن من أنباء الغيب،فتأويله متحقق في الدنيا على توالي اكتشافات العلوم،و في قمّة هذه الاكتشافات يوم يأتي تأويله،أي يأتي يوم القيامة،أما كلمة التأويل في الآية الأخرى وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ [آل عمران/ 7]،أما الراسخون في العلم فعلمهم هو تسليمهم بالجهد الإنساني،و بذلك يصبح الإيمان هو أعلى درجات العلم غير المباشر،أي العلم المتصل بالإيمان بالحق.
فهاهنا يتحقق العلم بعدم العلم البشري،و يتحقّق الإيمان بالعلم الإلهي وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ [آل عمران7/]و قولهم آمَنّا بِهِ هو اتصالهم بعلم اللّه،فهم بالعبادة الخالصة لربّهم سبحانه بين عبادتين:عبادة بالفكر،فهم الراسخون في العلم، و عبادة بالعمل،فهم في تطبيق متواصل للعلم الذي لا يحصل بالاكتساب و إنما يحصل بالاقتراب وَ اسْجُدْ وَ اقْتَرِبْ [العلق19/]،و حينما يسأل هل بالإمكان الاستفادة
ص: 84
من العلوم،كالطب و الفلك و علوم الذرّة و الرياضيّات و غيرها،كوسائل لتدبّرنا للقرآن؟يجيب أن الاحتياط الواجب اتخاذه هنا هو أن يكون المنطلق من كون هذه العلوم هي في مكان خضوعها للقرآن و خضوع كل شيء لأحكام القرآن«إننا مثلا حين نصنع الصواريخ،و حين نصعد للقمر ننظر للإنجاز في ذاته و المنجزات في ذاتها،و لا ندرك أن القرآن وصّل كل شيء بكل شيء فالأخلاق التي تحدّد لنا قيمة المنجزات و طريق عملنا بها إنما هي في القرآن.إن القرآن يحكم القوانين الأساسية لحركة الفصل و الوصل في أعمق أعماق النفس و الحياة،القرآن يحكم حركة الحياة التي نجهل مصيرنا في غاياتها البعيدة»و المؤلّف يستغفر اللّه العظيم حينما يقال له إن العلم البشري من جهة،و القرآن من جهة يكمل بعضهم بعضا و يجيب (1):«القرآن في الحكم لأنه كلام اللّه فهو(الآمر)و حياتنا في الخضوع لأنّها من خلق اللّه فهي في (الخلق)،يقول اللّه تعالى أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ تَبارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [الأعراف54/]، فحقيقة ذلك أن أي ابتداع في العلوم إنما هو الخضوع القهري لكلام اللّه،فإن عرف الناس حسن الأداء للمنتجات فهم متصلون فكرا و عملا بالحياة،فهذا الاتصال هو الحق و اللّه يحقّ الحقّ بكلماته».
و لعلّ من أخطر ما جاء به هو قوله بأن القرآن هو الذي يحدّد اللغة و ليست اللغة هي التي تحدّد القرآن،في تعليقه على تفسير ابن تيمية لكلمة الصمد،و التي قال بأن معناها اللغوي(غير الأجوف)و يقول (2):«أستغفر اللّه العظيم،إن اللّه تعالى ليس كمثله شيء و الأشياء منها الأجوف و منها المصمد،و هذه العثرة الكبرى من عثرات الكرام قد أدّى إليها الاعتماد على اللغة،و القرآن هو الذي يحدّد اللغة،و ليست اللغة هي التي تحدّد القرآن،أ لم نتدبر معا من قبل قوله تعالى وَ كَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا [الرعد37/]،فالقرآن،إذن،كلماته هي أحكامه،و الكلمة من كلمات اللغة إذا كانت قد جاءت في القرآن فهي بموقعها من القرآن،و بصيغتها القرآنية إنما هي حكم يزيدنا بيانا كلما ازددنا توسعا في التدبّر،و نحن في التدبّر خاضعون بلغتنا و حياتنا كلها لهذه الأحكام القرآنية».5.
ص: 85
حينما نتحدّث عن معجزة الإسراء و المعراج في إطار المعجزات العلمية الخارقة لجميع العصور،ما جاء منها و ما لم يجيء،فإنما لكي ندلّل بهذه المعجزة على استمرارية إعجاز نبوة خاتم النبيين من خلال القرآن الكريم،و إذا كانت أكثر المعجزات العلمية المذكورة في القرآن قد أصبحت الآن معلومة لدى الكثير من العلماء في الفيزياء و الكيمياء و الفلك و البيولوجيا...إلخ،و قد أصبح الإيمان من خلالها بالقرآن،و بصدق نبوة النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم واضحة و ساطعة،إلاّ أن القيمة الأكبر في المعجزة القرآنية في الجانب العلمي بقيت،و ستبقى أبد الدهر،مما يستحيل تفسيره مهما تقدّمت العلوم و تطورت،و مهما اكتشف من حقائق الكون و الإنسان.إن العلم تحدّث عن ثلاثة أغطية للجنين،أو ثلاثة حجابات في بطن أمّه،و اكتشفها حديثا، و كان القرآن قد سبقه في الحديث عن الظلمات الثلاث،كما أن العلم تحدّث عن وحدة الكون،أي أن السماء و الأرض كانتا واحدة و انفجرت و لا زالت تتمدّد في عملية الانفجار،و كان القرآن قد قال أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما [الأنبياء30/]،و كثير من المعجزات العلمية المكتشفة حديثا،و التي سبق القرآن فيها العلوم كلّها فأشار إليها،إلاّ أن معجزة الإسراء و المعراج تبقى حتى اليوم قائمة تذكّر بإعجاز خارق لا يتكرّر،و لا يستطيع أحد أن يدخله في مفردات الفيزياء و الكيمياء و الكون،أي إنه باق على إعجازه كما كان حينما أرسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إلى قريش، فهو كما كان معجزا لهم لا زال معجزا لنا حتى الآن مع كل التقدم العلمي على كافة المستويات.
لقد اكتشف العلم الحديث الكون و أبعاده،و اكتشف الحياة و نشأتها عن الماء، و اكتشف كيفية حدوث الحمل و الجنين في الأم،كما اكتشف الذرة بمفرداتها و الخلية الحية بأسرارها و الطبيعة و جيولوجيا الأرض،كما اكتشف حركة الكواكب و المجرّدات و الفضاء...إلخ،و استطاع أن يصل إلى مفردات علمية سبقه القرآن بها منذ أربعة عشر قرنا،و لكنّه،بكل الأحوال،اكتشف هذا الآن و أصبح الإعجاز لا
ص: 86
ينصب إلاّ على أن القرآن له السبق التاريخي في هذا،و أنّه جاء عن طريق رجل أمّي لا يقرأ و لا يكتب،في حين هو يفحم علماء القرن.
إذن،ما دمنا قد فهمنا في القرن العشرين أسرار الحياة و الكون و الذّرّة،فلنا إعجازنا نحن أيضا بقدرتنا على هذا التطور و التقدّم،و بذلك أصبحت كثير من المعجزات العلمية -لا كلّها-في القرآن مسلّما بها في العلوم،فكيف أستطيع أن أدعو إلى الإسلام و القرآن بعد أن انكشفت معالم الحياة و الكون أمام الإنسان الجديد،فاستطاع أن يفهم الكثير، و حتى إذا ما قلت له إن هذا الإعجاز العلمي يدل على أن القرآن ليس من كلام البشر،فهو لا بد أن يكون من عند اللّه تعالى،و إذا ما صدّق المستمع هذا القول فإنه سيبقى يطالب بدليل إعجازي مستقبلي مستحيل حتى على نظرياته العلمية و اكتشافاته الجديدة أن تصل إليه،و هنا يأتي إعجاز الإسراء و المعراج كدليل لاستحالة كل ما جاء به على قدرة البشر مهما توصّلوا إلى تقدم و تقنية.
و الإسراء و المعراج ليس آية تقرأ في القرآن ثم نحاول أن نبني عليها افتراضاتنا العلمية،أي إنّها ليست خبرا و إنما حدثا واقعيا وقع للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم و عاشه بكيانه المادي الطبيعي،فهو يتجاوز الإخبار بالحقائق العلمية المحتملة إلى الحوادث الواقعية المعاشة من قبل الرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم في رحلته المباركة،فإذا ما قال القرآن الكريم وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء30/]أو قال أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما [الأنبياء30/]فهذا يمكن طرحه كفرضية علمية،و البرهنة عليه من خلال المختبرات و المجاهر و التلسكوبات و نظريات الفيزياء الذرية و الكونية،و لكن حينما يقول القرآن الكريم إن محمّدا صلّى اللّه عليه و سلّم انتقل عبر(دابة)من مكة إلى القدس،و من القدس عبر المعراج إلى السماوات العلى،فهذا لا يبقى تحت التجربة العلمية لأنه يتجاوز كل الفرضية العلمية المعروفة حتى اليوم إلى ما هو أبعد من خيال أي عالم أو أديب،فكيف يتحقّق ماديا و طبيعيا؟بل إنه قد يتناقض مع مفردات العلوم الحديثة متجاوزا لها إلى أبعد مما يتصور الخيال.فإذا كانت العلوم الحديثة لا تستطيع أن تنقل الإنسان إلى القمر إلاّ عبر التكنلوجيا المعقدة و أجهزة التنفس الصناعية،فكيف بها إذا واجهت تحدّي اختراق السماوات العلى كلها في ليلة واحدة؟و إذا ما رفض الإنسان أن يصدّق بمعجزة الإسراء و المعراج فسوف يجابه بمئات المعجزات العلمية التي تحقّقت اليوم قد أشار لها القرآن و حدّدها قبل ألف و أربعمائة سنة؟فالذي يصدّق بمئات المعجزات العلمية،و التي ليس ثمة تجربة علمية سبقتها للدلالة عليها، و إنما هي آية من كلمات فقط جاء بها الرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم و هو أمّي لا يقرأ و لا يكتب،هذا
ص: 87
الذي يصدّق بهذه المعجزات العلمية كلها،المكتشفة حتى الآن لا بدّ له أن يسلّم بأن القرآن هو من عند اللّه و ليس كلام البشر،و بالتالي فالذي يصدّق في مئات النماذج العلمية،لما ذا أنكر عليه هذه المعجزة التي لم يصل علمي حتى الآن إليها؟فلا بد أن أصدّق.و إذا ما سلّم بأن اللّه تعالى هو الذي تكلم بالقرآن-و هذا ما لا بد له منه- إذن فلا بد أن يصدّق أن الذي جاء به هو رسول من اللّه تعالى إلى البشرية،على السياق المعروف في بعث الرسل أجمعين،و هكذا تكون القيمة الإيمانية للإنسان المعاصر،حينما يسلّم غيبا بما لم يثبت له علما،فيحوز درجة المؤمنين الأوائل الذين آمنوا بالقرآن فصاحة و بلاغة إعجازية،و لم يستطيعوا أن يصلوا إلى كل معاني القرآن العلمية،فأسلموا و آمنوا و لم يطلبوا من البرهان أكثر مما جاءهم و تحمّلته عقولهم.
إذن،معجزة الإسراء و المعراج،بهذه الصورة الموصوفة بها،تبقى دليلا أكيدا على إعجاز القرآن و على استمرارية دعوة النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم من خلال القرآن و شموليتها لكل الخلق،و تؤكّد أن خاتم النبيين لم يترك العالم دون معجزة حتى و هو قد فارق الحياة،بل ترك لهم معجزة ناطقة تتكلّم بكل اللغات الإنسانية،و بوجوه متعدّدة تناسب كل عصر من العصور حتى قيام الساعة،و لغتها اليوم و وجهها هي العلوم و التّقدّم العلمي،فلو أرسل الرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم اليوم إلى العالم لن تتغيّر مفردات كلماته، و لن يتغيّر القرآن الذي جاء به فهو قد جاء للناس كافة بشيرا و نذيرا و شاهدا على الجميع،و قد جاء قرآنه ليبقى الكتاب الذي فيه تبيان كل شيء،لأنه تعالى لم يفرّط في الكتاب بشيء،و يدلّل كل يوم على صدقه و إعجازه،و قد أكّد،بأكثر من آية،أنّه يتحدّث لكل إنسان في كل عصر على مدى الزمان كله و يعطيه دليله و حجّته سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت53/]و قد تبيّن لنا اليوم أنّه الحق الأوحد في كل جانب و في كل مكان و زمان.على أن من ميزة هذه المعجزة أنّها جاءت كحادثة للرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم مما تعتبر به تعظيما له و تقديرا و تبجيلا،فلو كانت آية خبرية لكانت كالآيات الأخر التي تكتسب قيمتها من كونها في القرآن و ليس للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم فيها إلاّ ما له في غيرها من آيات القرآن،أما هذه المعجزة فهي قد حدثت له شخصيا و فرديا،و لما كانت هي أعظم المعجزات القرآنية علميا،كما نفهمها اليوم،فالرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم يكون له من هذه العظمة الإعجازية الحظ الأوفر و الموقع المتقدم.
و هكذا نرى أن اللّه سبحانه و تعالى،حتى في آيات الإعجاز العلمي التي بهرت العقول و الألباب،جعل لرسوله الكريم أفضلية كبيرة على جميع المعجزات الواردة
ص: 88
في القرآن الكريم،و هذا ما جعل الشيخ أحمد محيي الدين العجوز يقول في كتابه «معالم القرآن في عوالم الأكوان»ما يلي.. (1)«فأراد سبحانه أن يكون لنبيّه محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم الأسبقية في كل تقدّم و انطلاق،فمهما تقدّم الناس في علومهم،و مهما ترقّوا في فنونهم،و مهما توصّلوا إليه في أعمالهم من وسائل النقل و الأسفار،و مهما ابتكروا من صنعة لاجتياز الأبعاد و ارتقاء المعالي،فإنّه خصّ نبيّه محمّدا صلّى اللّه عليه و سلّم بأعظم من ذلك،برحلة أرضية أسرع،و رحلة سماوية أبلغ،فلا يكون لغيره تفوّق في الانطلاق، و لا تميّز في الارتقاء».
إن معجزة الإسراء و المعراج حدثت قبل أربعة عشر قرنا،فما هي القيم المعنوية و الاعتبارية فيها؟و كيف فهمت هذه المعجزة آنذاك؟و كيف كانت المعاني التعظيمية للرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم من قبل ربّه سبحانه و تعالى تفهم من قبل أولئك البشر الذين كانت استحالتها المطلقة تساوي الإيمان المطلق بها،و التسليم بصدقها من قبل المؤمنين حقا حتى قيل إن الصدّيق أبا بكر سمّي صدّيقا لأنه أوّل من صدّق بها رغم استحالتها المطلقة في الذهن البشري الاعتيادي،و لكن إيمانه كان أقوى من مفردات الاستحالة الطبيعية التي طرحتها هذه المعجزة عليه،و بغضّ النظر عن معقوليتها من عدم معقوليتها،بل و عدم القدرة على البرهنة على إمكانها حتى كمعجزة؟أما مضمون تفسيره لتصديقه فهي،كما جاءت الرواية التاريخية،من أن (2)«رجالا من المشركين سعوا إليه فقالوا:هل لك إلى صاحبك يزعم أنّه أسري به إلى بيت المقدس؟قال:و قد قال ذلك؟قالوا:نعم،قال:لئن قال ذلك لقد صدق،قالوا:
أ تصدّقه أنه ذهب إلى بيت المقدس و جاء قبل أن يصبح؟قال:نعم إني لاصدّقه فيما هو أبعد من ذلك،أصدّقه في خبر السماء في غدوة و روحة»،على أن البعض من ضعاف الإيمان من المسلمين ارتدّوا بعد حديث الإسراء لقلّة إيمانهم،و عدم قدرة عقولهم على مجرّد التصديق بالانتقال من مكّة إلى القدس و العودة في ليلة واحدة، فكيف بخبر السماوات السبع و ما فوقهن؟.فما هو الإسراء و المعراج؟و ما هي الآيات و الأحاديث الدالة عليه؟و كيف فسّرها و فهمها الأقدمون قبلنا؟ يقول القاضي عياض،في باب كرامة الإسراء،في كتابه الشفا في أحوال المصطفى (3)«و من خصائصه صلّى اللّه عليه و سلّم قصة الإسراء و ما انطوت عليه من درجات الرفعة،3.
ص: 89
مما نبه عليه الكتاب العزيز و شرحته صحاح الأخبار،قال اللّه تعالى سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ.. [الإسراء1/]الآية،و قال تعالى وَ النَّجْمِ إِذا هَوى [النجم1/]إلى قوله لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى [النجم18/]فلا خلاف بين المسلمين في صحة الإسراء به صلّى اللّه عليه و سلّم،إذ هو نصّ القرآن،و جاءت بتفصيله و شرح عجائبه و خواص نبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم فيه أحاديث كثيرة منتشرة».
و ملخص حديث الإسراء و المعراج،كما أورده ابن قيّم الجوزية في كتابه«زاد المعاد في هدي خير العباد»،و الذي أخذه عن أدق الأحاديث،يقول (1):«ثم أسري برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بجسده على الصحيح من المسجد الحرام إلى بيت المقدس راكبا على البراق،صحبه جبريل عليهما الصّلاة و السلام،فنزل هناك و صلّى بالأنبياء إماما و ربط البراق بحلقة باب المسجد...ثم عرج به تلك الليلة من البيت المقدس إلى السماء الدنيا،فاستفتح له جبريل ففتح له فرأى هناك آدم أبا البشر فسلّم عليه فردّ عليه السّلام و رحّب به و أقرّ بنبوته،و أراه اللّه أرواح السعداء عن يمينه و أرواح الأشقياء عن يساره،ثم عرج به إلى السماء الثانية فاستفتح له فرأى يحيى بن زكريا و عيسى ابن مريم فلقيهما و سلّم عليهما فردّا عليه و رحّبا به و أقرّا بنبوته،ثم عرج به إلى السماء الثالثة فرأى يوسف فسلّم عليه و رحّب به و أقرّ بنبوته،ثم عرج به إلى السماء الرابعة فرأى فيها إدريس فسلّم عليه و رحّب به و أقرّ بنبوته،ثم عرج به إلى السماء الخامسة فرأى فيها هارون بن عمران فسلّم عليه و رحّب به و أقر بنبوّته،ثم عرج به إلى السماء السادسة فلقي فيها موسى بن عمران فسلّم عليه و رحّب به و أقرّ بنبوته،فلما جاوزه بكى موسى فقيل له:ما يبكيك؟فقال:أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنّة من أمّته أكثر مما يدخلها من أمّتي،ثم عرج به إلى السماء السابعة فلقي فيها إبراهيم فسلّم عليه و رحّب به و أقرّ بنبوته،ثم رفع إلى سدرة المنتهى،ثم رفع له البيت المعمور،ثم عرج به إلى الجبار جلّ جلاله،فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى،فأوحى إلى عبده ما أوحى،و فرض عليه خمسين صلاة،فرجع حتى مرّ على موسى فقال له:بم أمرت؟قال:بخمسين صلاة،قال:إن أمّتك لا تطيق ذلك،ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك،فالتفت إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك،فأشار أن نعم إن شئت.فعلا به جبريل حتى أتى به الجبار تبارك و تعالى و هو في مكانه-و هذا لفظ البخاري في بعض الطرق-فوضع عنه عشرا،ثم أنزل حتى مرّ5.
ص: 90
بموسى فأخبره فقال:ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف،فلم يزل يتردّد بين موسى و بين اللّه عزّ و جلّ حتى جعلها خمسا،فأمره موسى بالرجوع و سؤال التخفيف،فقال:
قد استحييت من ربي و لكن أرضى و أسلّم،فلما بعد نادى مناد:قد أمضيت فريضتي و خففت عن عبادي»،و لا شك أن هناك تفاصيل كثيرة في الأحاديث الأخرى لا حاجة لنا لروايتها هنا،لننتقل إلى التفسيرات.
أ-التفسير العقلي:
لقد تحدّد نقاش الأقدمين من المفسرين و العلماء في معجزة الإسراء و المعراج على نقطتين أساسيتين و ما يتفرّع عنهما،و هما:هل كان الإسراء و المعراج بالروح و الجسد،أم كان بالروح فقط؟و يخرج من هاتين النقطتين أن الإسراء و المعراج إذا كان بالروح أو بالمنام فلا إشكال فيه،أما إذا كان يقظة و بالروح و الجسد،فكيف يمكن تفسير السرعة التي استخدمها الرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم في انتقاله من مكة إلى بيت المقدس ثم إلى السماوات العلى؟فالسرعة المعروفة لديهم كانت لا تتجاوز سرعة الحصان و الجمل،و هم يقطعون المسافة بين مكة و بيت المقدس بأربعين يوما، فكيف يستطيع الرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم أن ينتقل بساعات ما يستغرقونه هم بقطعه شهورا أو أياما؟أما لو عرفوا سعة الكون و حدوده البعيدة التي تقاس الآن بالسنين الضوئية لكان إنكارهم أشدّ،لاستحالة هذا الانتقال بأي واسطة معروفة.إذن،كان على الذين يقولون إن الإسراء و المعراج قد تمّ بالروح و الجسد و يقظة لا في المنام،أن يبرهنوا أولا على إمكانية وجود سرعة خارقة في الكون تتجاوز مفهومهم عن السرعة،ثم يبرهنوا،بعد ذلك،على وقوع الإسراء و المعراج حقيقة في جسد النبي و روحه عبر هذه الإمكانية النظرية؟.أما أن الإسراء و المعراج كان بالروح و الجسد،فقد ذكر المفسّرون أنّه كان كذلك بدليل قوله تعالى أَسْرى بِعَبْدِهِ ،فمسمى العبد هو للجسد و الروح و ليس للروح،كما أنّه لا حاجة لأن يقول اللّه تعالى في بدء سورة الإسراء سُبْحانَ الَّذِي فالتسبيح إنما يكون للأمور العظيمة فقط،و لو كان بالروح لما كان معجزة للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم،كما استدلّوا على بذلك بقوله ما زاغَ الْبَصَرُ وَ ما طَغى [النجم17/]و البصر من آلات الجسد لا الروح،كذلك أن الحديث النبوي يروي أن الإسراء كان عبر ركوب دابة البراق،و لو كان بالروح لما احتاج إلى دابة للانتقال، و استدلوا أيضا على أنه لو كان بالروح،و مناما،لما احتاج أحد إلى تكذيبه،فالأحلام
ص: 91
لا تحتاج وسائط مادية خارقة،و لو كان بالروح لما قالت له أم هاني:لا تحدّث به قومك فيكذبونك،و لما ارتدّ بعض ضعاف الإيمان لأنهم علموا أنّه يقول بأنه انتقل بجسده و روحه،و لما سمّي الصدّيق صدّيقا للحديث المذكور سابقا.
إذن،فالأساس العقلاني و اللغوي و الاعتباري و مجريات الأحداث،بعد إخبار الرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم لهم و إنكارهم عليه،كان كل هذا مقنعا حقا لكي يجمع جمهور علماء المسلمين على أن الإسراء و المعراج كان بالروح و الجسد حقيقة و يقظة لا مناما،أما مسألة السرعة الخارقة غير المعروفة لدى القدماء فكانت هذه من أكبر القضايا التي كان عليهم أن يبرهنوا عليها عقليا،و من باب الإمكانية المطلقة،لكي يمكن فهم حقيقة معجزة الإسراء و المعراج ضمن محدودية مفاهيمهم و أفكارهم آنذاك!و لعل أكثر الذين أولوا هذه المعجزة اهتماما بتفسيرها هو شيخ المفسرين الفخر الرازي في تفسيره الكبير.
و قد طرح الفخر الرازي المسألة معتمدا على منطق الجواز العقلي و الإمكانية المتاحة،يقول:«الحركة الواقعة في السرعة إلى هذا الحد ممكنة في نفسها و اللّه قادر على جميع الممكنات،و ذلك يدل على أن حصول الحركة في هذا الحد من السرعة غير ممتنع»،و يبدأ بالبرهنة على إمكانية وجود هذه السرعة من خلال عدة براهين، بعضها يتعلّق بمفاهيم قديمة لعلم الفلك،و بعضها يتعلّق بالمنطق العقلي و الكلامي، و نلخص بعض هذه البراهين العقلية كما يلي (1):
1)يرى أنه كما يستبعد في العقل صعود الجسم الكثيف من مركز العالم إلى ما فوق العرش،كذلك يجب أن يستبعد نزول الجسم اللطيف الروحاني من فوق العرش إلى مركز العالم،فإن كان القول بمعراج محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم في الليلة الواحدة ممتنعا في العقول،كان القول بنزول جبريل عليه الصلاة و السلام من العرش إلى مكة في اللحظة الواحدة ممتنعا.
2)إن أرباب الملل و النحل يسلّمون بوجود إبليس،و يسلّمون بأنّه هو الذي يتولى إلقاء الوسوسة في قلوب بني آدم،و يسلمون بأنه يمكنه الانتقال من المشرق إلى المغرب لأجل إلقاء الوساوس في قلوب بني آدم،فلمّا جوّزوا مثل هذه الحركة السريعة في حق إبليس فلأن يسلّموا جواز مثلها في حق أكابر الأنبياء كان أولى.
3)يستشهد الرازي بأن الرياح كانت تسير بسليمان شهرا إلى المواضع البعيدة،كما0.
ص: 92
ورد في القرآن،و يستنتج أن الحسّ يدل على أن الرياح تنتقل عند شدة هبوبها من مكان إلى مكان في غاية البعد في اللحظة الواحدة،إذن فالحركة السريعة ممكنة بذاتها.
4)إن القرآن يدل على أن من عنده علم من الكتاب أحضر عرش بلقيس من أقصى اليمن إلى أقصى الشام في مقدار لمح البصر بدليل قوله تعالى قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ [النمل40/]و إذا كان ممكنا في حق بعض الناس علمنا أنّه في نفسه ممكن الوجود.
5)إن من الناس من يقول:الحيوان إنما يبصر المبصرات لأجل أن الشعاع يخرج من عينيه و يتصل بالمبصر،ثم إنّا إذا فتحنا العين و نظرنا إلى رجل رأيناه،فعلى قول هؤلاء انتقل شعاع العين من أبصارنا إلى رجل في تلك اللحظة اللطيفة،و ذلك يدل على أن الحركة الواقعة على هذا الحد من السرعة من الممكنات لا من الممتنعات،فثبت،بهذه البراهين،أن حصول الحركة المنتهية في السرعة إلى هذا الحد أمر ممكن الوجود في نفسه.و هكذا يستنتج الرازي أن هذه الحركة لما كانت ممكنة في نفسها وجب أن لا يكون حصولها في جسد محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم ممتنعا، و الذي يدل عليه في رأيه«أن الأجسام متماثلة في تمام ماهيّاتها»،فلما صح حصول مثل هذه الحركة في حق بعض الأجسام وجب إمكان حصولها في سائر الأجسام،و ذلك يوجب القطع بأن حصول مثل هذه الحركة في جسد محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم أمر ممكن الوجود(في نفسه)،و يضيف لهذا«ثبت بالدليل أن خالق العالم قادر على جميع الممكنات،و ثبت أن حصول الحركة البالغة في السرعة إلى هذا الحد في جسد محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم ممكن،فوجب كونه تعالى قادرا عليه،و حينئذ يلزم من مجموع المقدمات أن القول بثبوت هذا المعراج أمر ممكن الوجود في نفسه..
أقصى ما في الباب أنه يبقى التعجّب إلاّ أن هذا التعجّب غير مخصوص بهذا المقام،بل هو حاصل في جميع المعجزات».
و من أعجب التفسيرات التي ذكرها الآلوسي في تفسيره عن مسألة المعراج،و ضمن إطار مذهب القدامى نفسه،ما ذكره و هو لا يؤمن به حيث يقول (1):«و من العجائب ما سمعته عن الطائفة الكشفية،و العهدة على الراوي،أن للروح جسدين:جسد من عالم الغيب لطيف لا دخل للعناصر فيه،و جسد من عالم الشهادة كثيف مركّب من العناصر،1.
ص: 93
و النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم حين عرج به ألقى كل عنصر من عناصر الجسد العنصري في كرته،فما وصل إلى فلك القمر حتى ألقى جميع العناصر،و لم يبق معه إلاّ الجسد اللطيف فرقى به حيث شاء اللّه تعالى،ثم لما رجع عليه الصّلاة و السّلام رجع إليه ما ألقاه و اجتمع فيه ما تفرّق منه،و لعمري إنه حديث خرافة لا مستند له شرعا و لا عقلا»،على أنّه بعد أن يعجز عن التفسير الحقيقي لهذه المعجزة،و بعد أن يحدّد المسافات التي قطعها الرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم في إسرائه و معراجه يعود إلى رأي لطيف ليخرج به من هذا المأزق و للاعتراف بالعجز فيقول:«و قال بعضهم أمر المعراج أجلّ من أن يكيّف،و ما ذا عسى يقال سوى إن المحب القادر الذي لا يعجزه شيء دعا حبيبه الذي خلقه من نوره إلى زيارته، و أرسل إليه من أرسل من خواص ملائكته،فكان جبريل هو الآخذ بركابه و ميكائيل هو الآخذ بزمام دابته إلى أن وصل إلى ما وصل إليه،ثم تولّى أمره سبحانه بما شاء حتى حصل،فأي مسافة تطول على ذلك الحبيب الرّبّاني،و أي جسم يمتنع عن الخرق لذلك الجسد النوراني،و من تأمّل في العين و إحساسها بالقريب و البعيد،و لو كان فاقدها،و ذكر له حالها لأنكر ذلك إنكارا ما عليه من مزيد،و كذا في غير ذلك من آثار قدرة اللّه تعالى الظاهرة في الأنفس و الآفاق و الواقع على جلالة قدرها الاتفاق،لم يسعه إلاّ تسليم ما نطقت به الآيات و صحت به الروايات».
هكذا فسّر القدامى بعقولهم و منطقهم مسألة الإسراء و المعراج،فكيف فسّرها الصوفية بروحانياتهم؟.
ب-التفسير الصوفي:
لقد كان تركيز الصوفية،في تفسيرهم للإسراء و المعراج،على الجانب التقديري الاعتباري للرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم أكثر من الجانب التفسيري العقلي أو العلمي خاصة،و أن الاتجاه الصوفي،كما هو معروف،له اتجاه للإغراق في الروحانيات و الأنوار الكشفية و ما شاكل ذلك،و مع هذا فقد كان عندهم من المعاني العميقة و النكات الدقيقة ما كان يعجز عنه أكابر الفلاسفة و المتكلمين و حتى علماء التفسير،لهذا نرى ابن عربي،كما ينقل عنه الشعراني،يقول عن الإسراء و المعراج (1):«ما نقل الحق تعالى محمّدا صلّى اللّه عليه و سلّم من مكان إلى مكان إلاّ ليريه ما خصّ تعالى به ذلك المكان من الآيات و العجائب الدالّة على قدرته تعالى،من حيث وصف خاص لا يعلم من اللّه تعالى إلاّ بتلك الآية،كأنه تعالى يقول ما أسريت بعبدي إلاّ لرؤية الآيات لا إليّ،ي.
ص: 94
لأنه لا يحويني مكان،و نسبة الأمكنة إلى نسبة واحدة،و كيف أسري بعبدي إليّ و أنا معه حيث كان»،بل إن الصوفية يدلّلون على أن الإسراء بالجسد و الروح من خلال قولهم«إنه لما كان الاستواء على العرش تمدّحا للّه عزّ و جلّ،جعل اللّه لنبيّه صلّى اللّه عليه و سلّم كذلك نسبة على طريق التمدّح عليه،حيث كان العرش أعلى مقام ينتهي إليه من أسري به من الرّسل عليهم الصلاة و السّلام،و هذا يدل على أن الإسراء كان بجسمه صلّى اللّه عليه و سلّم،و لو كان الإسراء رؤيا لما كان الإسراء و لا الوصول إلى هذا المقام تمدّحا و لا وقع من الأعراب في حقّه إنكار على ذلك،لأن الرؤيا يصل الإنسان فيها إلى مرتبة رؤية اللّه تعالى،و هي أشرف الحالات،و مع ذلك فليس لها ذلك الموقع في النفوس.إن كل إنسان بل كل حيوان له قوة الرؤيا،قال:و إنما قال صلّى اللّه عليه و سلّم،على سبيل التمدّح:حتى ظهرت لمستوى سمعت فيه صريف الأقلام.و أتي بحرف الغاية الذي هو حتى إشارة لما قلناه من أن منتهى السير بالقدم المحسوس العرش.و اللّه تعالى أعلم».
و لما أراد الصوفية تفسير المعراج جاءوا بقول لطيف على لسان ابن عربي حينما قال (1):«و من كان مؤمنا لا ينكر المعراج و لكن وقوع السير المذكور في مقدار ذلك الزمن اليسير يشكل عند العقل بحسب الظاهر،و أمّا عند التحقيق فلا إشكال،أ لا ترى أن في الوجود الإنساني شيئا لطيفا،أعني القلب،يسير من المشرق إلى المغرب بل في جميع العوالم في آن واحد،و هو بديهي لا ينكره من له أدنى تمييز حتى البله و الصبيان،أ فلا يجوز أن تحصل تلك اللطافة لوجود النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم بقدرة اللّه تعالى،فوقع ما وقع منه في الزمن اليسير».
هكذا فسّر القدماء،علماء و مفسّرون و متكلّمة و متصوفة،معجزة الإسراء و المعراج،و نرى اختلاف منطقهم عن منطق المعجزة العلمي القائم على منطق العلم الحديث الذي يتحدّث عن الطاقة و السرعة و الكتلة و نظرية النسبية،فكيف نظر علماء العصر الحديث لهذه المعجزة!؟.
لا شك أن محاولة تفسير معجزة الإسراء و المعراج في إطار العلوم الحديثة و القوانين الفيزيائية و الكيمياوية،و في إطار علوم الفضاء و الفلك،هي محاولة قديمة
ص: 95
ترجع إلى عام 1935 م،أي قبل أن تطرح نظريات الإعجاز العلمي،و قبل أن يلتقي العلم بالقرآن هذا اللقاء الواسع الشامل،و هذا يعني أن هذه المعجزة كانت بمقدار ما هي مثيرة للدهشة و التعجّب بمظاهر الإعجاز العديدة فيها،كانت بنفس المقدار تشغل انتباه العلماء و المفسّرين المعاصرين،و تقف أمامهم كتحدّ علمي لقدرات الطاقة الإنسانية العلمية في العالم كله،و إذا ما تذكرنا أن بداية القرن العشرين كانت دعوات النهضة و التحرّر و رفض الخرافات و الأفكار القدرية اليائسة التي كانت سائدة في تفاسير القرآن القديمة،و التي تريد من الإنسان أن يؤمن بكل ما قيل و يقال له ما دام واردا كحاشية على نص القرآن الكريم،مما طمس المعالم الحقيقية للهداية القرآنية وسط غبار التراكم في اللامعقولات القديمة،إذا ما تذكّرنا كل هذا فلن نعجب أن تكون محاولة تفسير معجزة الإسراء و المعراج،على ضوء العلوم الحديثة و قوانينها المعاصرة،من المحاولات السبّاقة لطرح فكرة التفسير العلمي للقرآن حتى قبل أن يظهر هذا التفسير بالمساحة الكافية المقنعة آنذاك.لقد كان عام 1935 م هو عام صدور كتاب محمّد حسين هيكل عن«حياة محمّد»،الذي حاول فيه أن يكون قريبا جدا من العقلية العلمية السائدة آنذاك في أوروبا،حتى أن كتابه هذا كان من أدق الكتب و أعمقها و أبعدها عن الغرابة و التغريب التي كانت محشوة بها كتب السيرة النبوية دون تمحيص علمي أو تاريخي،لذا فقد كان كتابه هذا من أوائل الكتب التي حاولت أن تقدم حياة الرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم على ضوء العلوم الاجتماعية و التاريخ و علم النفس،و ما يسمى آنذاك علم الأرواح و التنويم المغناطيسي و الباراسيكولوجي...إلخ،إضافة إلى بعض العلوم التطبيقية.فكيف فسّر هيكل معجزة الإسراء و المعراج التي وصف تفسيره لها بأنّه أول من فعل ذلك،و مدحه عليه المقدم للكتاب محمّد مصطفى المراغي؟ إن المنهج الذي أشار إليه محمّد مصطفى المراغي في محاولة تفسير القرآن على ضوء العلم الحديث لهو جدير بالذكر حيث قال (1):«يقول بعض علماء الكلام إن الاطلاع على علم تشريح الأفلاك و علم تشريح الإنسان يدلّ أوضح دلالة على شمول العلم الإلهي لدقائق الوجود،و أنا أقرّر أيضا أن العلم و الكشف عن سنن الوجود و عجائبه سيكون نصير الدين،و سيقرب إلى العقل الإنساني طريق فهم ما كان غامضا مبهما،و ما كان فوق طاقة العقل و إدراكه من قبل،مصداقا لقوله تعالى7.
ص: 96
سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت53/]،و الكهرباء،و ما نشأ عنها من المخترعات،قرّبت إلى العقل فهم إمكان تحوّل المادة إلى قوة،و تحوّل القوة إلى مادة،و علم استحضار الأرواح فسّر للناس شيئا كثيرا مما كانوا فيه يختلفون،و أعان على فهم تجرّد الروح و إمكان انفصالها،و فهم ما تستطيعه من السرعة في طيّ الأبعاد،و قد انتفع الدكتور هيكل بشيء من هذا في تقريب قصة الإسراء،فأتى بشيء طريف».
إنّه فعلا شيء طريف،و لكنه ليس من العلم في شيء في ضوء ما توصلنا إليه اليوم.يقول هيكل واصفا محاولته تلك:«و لصاحب هذا الرأي،أكثر من غيره،أن يسأل عن حكمة الإسراء و المعراج ما هي؟و هنا موضع الرأي الذي نريد أن نبديه و لا ندري أسبقنا إليه أم لم نسبق؟».و هكذا يبدأ هيكل فصلا خاصا بعنوان«الإسراء و وحدة الوجود»جاء فيه ما يلي (1)«ففي الإسراء و المعراج في حياة محمّد الروحية معنى سام غاية السمو،معنى أكبر من هذا الذي يصوّرون،و الذي قد يشوب بعضه من خيال المتكلمة الخصب حظ غير قليل.فهذا الروح القوي قد اجتمعت فيه،في ساعة الإسراء و المعراج،وحدة هذا الوجود بالغة غاية كمالها،لم يقف أمام ذهن محمّد و روحه،في تلك الساعة،حجاب من الزمان أو المكان أو غيرهما من الحجب،التي تجعل حكمنا نحن في الحياة نسبيا محدودا بحدود قوانا المحسّة و المدبّرة و العاقلة،تداعت في هذه الساعة كل الحدود أمام بصيرة محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم، و اجتمع الكون كله في روحه فوعاه منذ أزله إلى أبده،و صوّره في تطوّر وحدته إلى الكمال عن طريق الخير و الفضل و الجمال و الحق في مغالبتها و تغلّبها على الشر و النقص و القبح و الباطل بفضل من اللّه و مغفرة،و ليس يستطيع هذا السموّ إلاّ قوة فوق ما تعرف الطبائع الإنسانية،فإذا جاء بعد ذلك ممّن اتّبعوا محمّدا من عجز عن متابعته في سموّ فكرته و قوة إحاطته بوحدة الكون في كماله،و في جهاده لبلوغ هذا الكمال،فلا عجب في ذلك و لا عيب فيه،و الممتازون من الناس و الموهوبون منهم درجات،و بلوغنا الحقيقة معرّض دائما لهذه الحدود التي تعجز قوانا عن تخطّيها..
و إذا كان القياس مع الفارق أن نذكر،لمناسبة ما نحن الآن بصدده،قصة أولئك المكفوفين الذين أرادوا أن يعرّفوا الفيل ما هو،فقال أحدهم:إنه حبل طويل،لأنه صادف ذنبه،و قال الآخر:إنه غليظ كالشجرة،لأنه صادف رجله،و قال ثالث:إنه1.
ص: 97
مدبّب كالرمح،لأنه صادف سنّه،و قال رابع:إنه مستدير ملتو كثير الحركة،لأنه صادف خرطومه،فإن هذا المثل،مقرونا إلى الصورة التي تتكون لدى المبصر من الفيل لأول ما يراه،يسمح لنا بالموازنة بين إدراك محمّد كنه وحدة الكون و الوجود و تصويره في الإسراء و المعراج،حيث يتصل بأول الزّمن من قبل آدم إلى آخره يوم البعث،و حيث تنعدم نهائية المكان،إذ يطل بعين البصيرة من لدن سدرة المنتهى إلى هذا المكان يصبح أمامه سديما،و بين ما يستطيع الكثيرون إدراكه من حكمة هذا الإسراء و المعراج،إذ يقفون عند تفاصيل ليست من وحدة الكون و حياته إلاّ كذرات الجسم،بل كالذرات العالقة به من غير أن يتأثّر بها نظامه.أين الواحدة من هذه الذرّات من حياة هذا الجسم و من نبض قلبه و إشراق روحه و ضياء ذهنه و امتلائه بالحياة التي لا تعرف حدا،لأنّها تتصل من الوجود بكل حياة الوجود؟و الإسراء بالروح هو في معناه كالإسراء و المعراج بالروح جميعا سموّا و جمالا و جلالا،فهو تصوير قويّ للوحدة الرّوحية من أزل الوجود إلى أبده،فهذا التعريج على جبل سيناء،حيث كلّم اللّه موسى تكليما،و على بيت لحم،حيث ولد عيسى،و هذا الاجتماع الروحي ضمّت الصّلاة فيه محمّدا و عيسى و موسى و إبراهيم مظهر قوي لوحدة الحياة الدينية على أنّها من قوام وحدة الكون في موره الدائم إلى الكمال».
و بعد هذا الوصف اللطيف و المعاني الإنسانية و الروحية،ينتقل الدكتور هيكل للعلم كما يفهمه،فيقول (1):«و العلم في عصرنا يقرّ هذا الإسراء بالرّوح،و يقرّ المعراج بالروح،فحيث تتقابل القوى السليمة يشعّ ضياء الحقيقة،كما أن تقابل قوى الكون في صورة معينة قد طوع(لماركوني)،إذ سلّط تيارا كهربائيا خاصا من سفينته التي كانت راسية بالبندقية،أن يضيء بقوة الأثير مدينة سدني في أستراليا.و في عصرنا هذا يقرّ العلم نظريات قراءة الأفكار و معرفة ما تنطوي عليه،كما يقرّ انتقال الأصوات على الأثير بالراديو و انتقال الصور و المكتوبات كذلك،مما كان يعتبر فيما مضى بعض أفانين الخيال.و ما تزال القوى الكمينة في الكون تتكشّف لعلمنا كل يوم عن جديد،فإذا بلغ روح من القوّة و من السلطان ما بلغت نفس محمّد،فأسرى به اللّه ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بارك حوله ليريه من آياته، كان ذلك مما يقرّ العلم،و كانت حكمة ذلك هذه المعاني القوية السامية في جمالها و جلالها،و التي تصوّر الوحدة الروحية،و وحدة الكون في نفس محمّد تصويرا1.
ص: 98
صريحا يستطيع الإنسان أن يصل إلى إدراكه إذا هو حاول السموّ بنفسه عن أوهام العاجلة في الحياة،و حاول الوصول إلى كنه الحقيقة ليعرف مكانه و مكان العالم كله منها».
هكذا يفسّر هيكل الإسراء و المعراج بالروح في إطار علومه و علوم عصره،أما إذا قيل له إن الإسراء كان بالجسد و الروح فلا يجيب إلاّ بالعبارات الغامضة نفسها فيقول (1):«و أحسبك لو سألت الذين يقولون بالإسراء بالروح في هذا،لما رأوا فيه عجبا بعد الذي عرف العلم في وقتنا الحاضر من إمكان التنويم المغناطيسي للتحدّث عن أشياء واقعة في جهات نائية،فما بالك بروح يجمع وحدة الحياة الروحية في الكون كله،و يستطيع بما حباه اللّه من قوّة أن يتصل بسرّ الحياة من أزل الكون إلى أبده».و هكذا نخرج من هذه المحاولة المسمّاة«علمية»بأيدي فارغة، و الأسهل تفسير الإسراء و المعراج بالرّوح عن طريق المتصوّفة المسلمين،من الأنفس،و لكني أرى أن محاولات تفسير الإسراء و المعراج بالجسد،التي ذكرها الفخر الرازي في تفسيره،أكثر قوة و إقناعا،بل و علميّة،ممّا ذكره الدكتور هيكل في محاولته،علما أنّ علم الأرواح و التنويم المغناطيسي،بعد هذا الزمن اليسير من عمرهما،كشف الزيف و الكذب عنهما و عن مصداقيتهما.
على أن هذه المفاهيم و المعاني لم تقف عند هذه الحدود الساذجة،بل كل يوم تأتينا تحليلات جديدة و معان جديدة و محاولات تفسير علمية أو شبه علمية، و سنقتصر على ثلاثة نماذج ممن حاول أن يفهم معجزة الإسراء و المعراج في إطار المفاهيم و المعاني التي يمكن استنتاجها منها.
النموذج الأول،هو السيد سميح عاطف الزين في كتابه«خاتم النبيين محمّد»، و الذي يعتبر أن معجزة الإسراء و المعراج (2)«جاءت لتكون ثاني حدثين اثنين في تاريخ الأنبياء و المرسلين الذين يحملون رسالات السماء إلى الأرض،حيث تم الاتصال المباشر من الخالق سبحانه و تعالى مع اثنين من هذه النخبة المختارة،حيث كان الاتصال الأول عند ما كلّم اللّه تعالى نبيه موسى عليه السّلام على جبل الطور في سيناء،و هذا هو الاتصال الثاني عند ما أسرى اللّه سبحانه و تعالى بمحمّد صلّى اللّه عليه و سلّم حتى بلغ سدرة المنتهى ليكون على قاب قوسين أو أدنى،و ليرى و يسمع و يتحدّث في عروجه بما لم يره و لم يسمع به أو يتحدث عنه غيره من الخلق أجمعين».و بعد أن7.
ص: 99
يؤكد سميح الزين على أن الإسراء و المعراج كان بالروح و الجسد،و لا مجال لتأويل النص القرآني الصريح بما ينافيه،أو بما هو خرافة،بعد كل هذا يفسّر قناعته تلك بقوله (1):«إن القدرة الإلهية قد أثبتت لبني الإنسان،في أكثر من زمان و في حياة الناس العاديين،أن في حياة النبيين و المرسلين لا شأن للقوانين و النّظم التي يعرفها أبناء البشر،لأنّها تقول للشيء(كن فيكون)،و هذه الإرادة المطلقة التي خلقت هذا الكون العظيم،بما فيه من عوالم و آفاق،هي نفسها و وحدها التي نفّذت الإسراء و المعراج،و لا يمكن للعقل البشري أن يستغرب وقوع هذا الحدث العظيم عند ما يتذكّر بأن الإرادة الإلهية قد أعطت للنبي سليمان عليه السّلام ملكا لم يعط لأحد من قبله و لا من بعده،فقد سخّرت له الرياح ذلولا يمتطيها على بساط فتحمله حيث أراد في جوانب الكرة الأرضية،و قد جعلت له الجن خدما و عبيدا يأتمرون بمشيئته».
و بعد أن يقارن الزين بين هذه المعجزة و معجزات الأنبياء سليمان و موسى و عيسى و إبراهيم و نوح،يعود إلى الاستنتاج (2)«فما العروج بالشكل الذي سمعت إلاّ للدلالة على إمكان الخروج من نطاق هذه الكرة الأرضية،التي تسبح في الفضاء الذي يضمّ الملايين من أمثالها من الكواكب و الشموس و المجرّات الهائلة التي تكبرها بملايين ملايين المرات،و ما هو أيضا إلاّ إشارة إلى قدرة اللّه الخارقة لإيقاظ الغافلين،و لجعلهم يتفكّرون في خلق السموات و الأرض و في أنفسهم،يحيون عليها بتعاقب الليل و النهار،إن هي إلاّ آية صغرى من آيات اللّه العظمى،و ما هو أخيرا إلاّ بمثابة إعجاز و إلفات نظر العالمين-سائر العالمين-بالأمس و اليوم و في المستقبل، إلى أنه إذا تطورت وسائل السفر و الانتقال فإن الناس سيجترحون العجائب،لأن الإسراء و المعراج تم بواسطة نقل إلهية اخترقت جاذبية الأرض و طبقات الأثير، و طوت المسافات فانعدمت أمامها المسافات،و طوت الزمن فانعدم أمامها الزمن، الذي لا دليل عليه إلاّ تعاقب الليل و النهار و طلوع القمر هلالا في يوم سميناه أول الشهر،و اختفاؤه في يوم سمّيناه آخر الشهر،و لا دليل عليه إلاّ تقسيم فترات بياض النهار إلى ساعات تتحدّد بطلوع الشمس و مغيبها.هذا و قد حققت معجزة اللّه العظيم لنبيه الكريم في رحلة عظيمة كانت بالأمس القريب غريبة عجيبة،و صارت اليوم- و بعد غزو القمر مرارا و تكرارا-أقرب إلى الذهن و المعقول،و إن كانت تجد ذاتها و واقعها مدهشة مذهلة كأكثر معجزات الأنبياء و الرسل في عالم التقدير و الاعتبار.9.
ص: 100
و إذا كان للعقل الإنساني أن يفهم بعض مدلولات المعراج فإنه،بالإضافة إلى اطمئنان نفس محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم و أنس قلبه للبرهان على الخروج من نطاق هذا الكوكب الأرضي الذي يسبح في الفضاء،ليعرف الذين ينكرون البعث بأنهم غير باقين في هذه الأرض بعد انحلال أجسامهم،و أنّهم لا شك مبعوثون،جسدا و روحا و نفسا،في مكان ما من عوالم اللّه تعالى التي لا يعلمها إلاّ هو سبحانه،و لكي يتفكّروا في خلق السماوات و الأرض و ما يحيط بهنّ.فهذه الدلالات تعبّر عن الإسراء،أي الانتقال من مكان إلى مكان،بواسطة لا يعرفها البشر،و عن المعراج بنفس الواسطة التي تتحلّل من قوانين الجاذبية و الأبعاد و الأعماق و المسافات،و ما إليها من القوانين التي تحكم تصرفات بني البشر،و التي لا شأن لها عند إرادة اللّه السنية التي تقول للشيء كن فيكون.
و إذا كانت الإرادة الإلهية قد تجلّت و جعلت من الإسراء و المعراج وسيلة كشف لإحدى وسائل المواصلات التي تفرض على الإنسان الإذعان لها و الرضوخ لحكمها فإنها،و هي إرادة اللّه،قد جعلتها فتنة للناس لتثبت في الروع أن الإنسان، مهما بلغ من العلم و المعرفة،عاجز عن الوصول إلى علم اللّه،و لكنه مدعو في كل وقت للتوجّه نحو هذا العلم،و إلاّ فقد ميزته التي خصّه اللّه تعالى بها عن سائر المخلوقات قليلا-عاجلا أو آجلا-،للبحث عن الوصول لبعض تلك العوالم ليصل إلى معرفة عظيم صنع اللّه و قدرته،على أنه و إن قدّر للإنسان أن يفقه سرّ معجزة الإسراء و المعراج أو لم يقدر،و غالب الظن أن هذا السّر ما زال في جوانب كثيرة منه مغلقا على بني البشر،فإنّها تظلّ الحدث العظيم الذي لا يمكن إنكاره و لا التنكّر له ما دام القرآن الكريم قد أثبته و أكّده بقوله تعالى وَ النَّجْمِ إِذا هَوى(1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَ ما غَوى (2)...[النجم1/،2]،و من هنا لم تكن حادثة الإسراء و المعراج المعجزة التي أريد منها قهر الناس على الاعتقاد بصدق نبوة محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم كما كان يحدث للأنبياء السابقين،و إلاّ لكانت تلك الحادثة قد حصلت في الظروف الحالكة الصعبة التي كان يعيشها النبيّ و المسلمون معه،و لا سيما المستضعفون منهم،بل كانت من أجل التكريم لشخص النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و الإيناس له،و من غير أن تعطّل المنهج العقلي الذي اشترعه القرآن».
هكذا فهم السيد سميح عاطف الزين واقعة و معجزة الإسراء و المعراج،و هو يضعنا على أبواب التعامل مع مفردات و مكتشفات العلوم و لكن من بعيد،و لا يدخل إلى التفاصيل الدقيقة للقضايا العلمية.
ص: 101
أما التفسير الأكثر قبولا منه،و الذي يلمس الجوانب العلمية أكثر،إضافة إلى الجوانب العقلية و المنطقية،هو ما طرحه الشيخ محمّد متولي شعراوي،و سنحاول تلخيص رأيه بشكل دقيق،مع مقتطفات من نصوص أقواله و كلماته العميقة.و قبل أن يبدأ شعراوي في تفسيره لآية الإسراء،يعرض لموقع هذا الحدث و أثره في الدعوة الإسلامية،لكي يزنه بميزان الحدث التاريخي،فهو يؤكد«أن حدث الإسراء و المعراج يعتبر حدثا ضخما من أحداث الدعوة الإسلامية،سبقته البعثة و جاءت بعده الهجرة».إذن فهو يزنه بميزان البعثة و الهجرة،و بعد أن يتحدّث عن أهمية كون هذه المعجزة كانت«نتيجة لجفوة الأرض لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،و نتيجة لفقد النصير، و نتيجة لفقد الحامي،فاللّه سبحانه و تعالى شاء أن يجعل لرسول اللّه هذه الرحلة العلوية حتى يثبت له تكريمه،و حتى يثبت له أن في اللّه عوضا عن كل فاقد،و أن الملكوت سيحتفي به حفاوة،و يمسح عنه كل عناء هذه المتاعب،و سيعطيه شحنة قوية لتكون أداته في منطلقه الجديد بإذن اللّه».
بعد ذلك يبدأ شعراوي بتفسير آية الإسراء بتفسير كلمة سُبْحانَ و يقول (1):إن معنى سبحان اللّه أن اللّه منزّه في ذاته و في صفاته و في أفعاله،فإذا صدر فعل قال اللّه إنه صدر منّي،فيجب أن أنزهه أنا عن قوانين البشرية،و ألا أخضع فعل اللّه إلى قانون فعلي،و لذلك استهل السورة بقوله سُبْحانَ حتى يكون أول ما يقرع الإنسان لهذا الحدث العجيب الغريب،الذي تقف فيه العقول سُبْحانَ أي تنزيه،فإذا قال اللّه سُبْحانَ أي تنزيه لفعلي عن أفعالكم،معنى ذلك أن قانون اللّه في الفعل ليس كقانوننا في الفعل،ثم بعد ذلك أَسْرى به،فاللّه هو الذي أسرى و محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم هو الذي أسري به،لما ذا لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا أي الإسراء كان لعلة دافعة هي ليريه الآيات،و لما ذا يريه الآيات لأنه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ .و هكذا،يستنتج شعراوي أن اللّه سمع الإيذاء الذي أوذي به رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم،و قد رأى اللّه ما تعرّض له من الجفاء و الاستهزاء،و من السخرية و من الإهانة،كل ذلك برؤية و مسمع من اللّه،فحين رأى اللّه ذلك و سمع أراد أن يريه الآيات،فأسرى به.
ثم يأتي شعراوي إلى ما أسماه قانون الفاعل،حيث يقول بأن اللّه بقانونه أسرى بعبده إليه،فلا يصحّ أن نؤاخذ محمّدا صلّى اللّه عليه و سلّم بفعل فعله اللّه به،لأن محمّدا لم يقل أنا سريت،لكي نقول له كيف سريت بهذه السرعة و نحن نضرب أكباد الإبل شهرا5.
ص: 102
و تفعلها أنت بليلة.إذن فالاعتراض على الرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم خطأ،فليس هو الفاعل،و إنما هو اللّه،و فعل اللّه يكون حسب قوة اللّه،و قوة اللّه تلغي قانون فعل و قوة البشر المحدودة.و هكذا بنى شعراوي سرعة الإسراء بقوة اللّه على القول (1)«المسافة تتناسب مع القوة تناسبا عكسيا،فكلما زادت القوة قلّت المسافة»،و القوة التي فعلت هي قوة اللّه تعالى،لذا نجد النتيجة(لا زمن).
إذن،كلما كانت قوة الفاعل،إذا كان بشريا-سيارة طائرة أو صاروخ-فإن المسافة تتناسب عكسيا مع هذه القوة،و تختصر الزمن حسب قوة الناقل،فأما إذا كانت هذه القوة خارقة،و هي قوة اللّه،إذن فإن المسافات تلغى و يلغى معها الزمن اللازم لقطعها.هكذا يفسّر شعراوي قدرة اللّه في الإسراء بتعاملها مع الزمن،كما أنه يستنتج،من اعتراض الكافرين على إمكانية الإسراء،أنّه كان حقيقة و بالجسد لا بالمنام بقوله«فالكافرون بتعنّتهم أمام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم خدمونا خدمة كبيرة الآن،لأننا نقول لو كانت رؤيا منامية لما ناقش فيها أحد،لأن أي واحد يقص عليك رؤيا، فقانون المرائي فوق قانون المادة اليقظة،فما دام قد ناقشوا فيها و وقفوا فيها هذه الوقفة فهم قد فهموا أنّها يقظة و بالجسم و الروح».
و إذا كان الغالب على تحليل شعراوي الجانب الروحي،و يعتمد على تحليل مفردات اللغة القرآنية و ما يمكن أن تعنيه في منتهى الاحتمال للمعنى،إلاّ أن الإسراء و المعراج بقي غامضا خاصة في جانب السرعة و المسافة أو الزمن و المكان،و لما كان القرآن العشرون قد وصل إلى مفاهيم جديدة جدا و غير مطروقة لدى القدماء و المحدثين،فلنحاول أن نأخذ آخر مفردات العلم المعاصر حول هذه المفاهيم، لنرى إمكانية تفسير معجزة الإسراء و المعراج على ضوء النظرية النسبية لأنشتاين، و خاصة في مجال السرعة و الزمن و المادة،فكيف تفهم هذه الرحلة الإلهية على ضوء هذه المفردات العلمية؟ و حينما نصل إلى الحديث عن أكبر سرعة معروفة في العلم الحديث،لكي نقيس بها سرعة حركة انتقال الرّسول الكريم صلّى اللّه عليه و سلّم على أحدث الاكتشافات العلمية المعاصرة،فإننا نجد أن سرعة الضوء،البالغة ثلاثمائة ألف كيلومتر في الثانية،هي المقياس المستخدم و المكتشف في فضاء السرعة،أما ما توصل الإنسان إلى تحقيقه الآن من سرعة في سفن الفضاء الحالية فإنّها لا تزيد على أربعين ألف كيلومتر في7.
ص: 103
الساعة،فأين هذه السرعة من السرعة التي انطلق بها جبريل عليه السّلام،و معه محمّد عليه الصّلاة و السلام فوق السفينة الكونية العظمى ليلة الإسراء و المعراج؟ هكذا يبدأ الدكتور عبد العليم عبد الرّحمن خضر في كتابه«الإنسان في الكون بين القرآن و العلم»في الحديث عن معجزة الإسراء و المعراج،على ضوء النظرية النسبية لأنشتاين،و سنستعرض آخر ما توصّل إليه،علما أنه يعتمد عدّة مصادر حديثة علمية،و يستشهد بأقوال علماء مسلمين و أجانب في هذا الإطار.
و حينما ينطلق الدكتور عبد العليم من مفردة أن الناس عادة (1)«حينما يتحدّثون عن معجزة الإسراء و المعراج يتحدّثون عن جانبها الذي يتعلّق بقطع المسافات و طي الزمان و العروج من سماء إلى سماء في لحظات لا تعادل بالأيام و الشهور،و إنما بالساعات و الدقائق»،ليصل إلى القول«إذن،فالرحلة رحلة كونية تفوق كل المقاييس التي عرفها أو سيعرفها البشر»فكيف فسّر،على ضوء العلم الحديث،هذه المعطيات؟ يبدأ الدكتور من مفردة أن البراق كان يسير بسرعة البرق-و قد يكون سمّي براقا لهذه الخاصية-فيرى أن البرق ضوء،و سرعة الضوء 1080 مليون كيلومتر في الساعة،فهل كانت سرعة البراق تساوي سرعة الضوء فقط؟و هل تكفي عدة ساعات للسفر إلى سدرة المنتهى ثم العودة إلى الأرض؟.و بعد أن يورد الدكتور تفسير قوله تعالى فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ(16) وَ اللَّيْلِ وَ ما وَسَقَ(17) وَ الْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ(18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19)[الانشقاق16/-19]بمعنى«لتركبن يا محمّد سماء بعد سماء»،كما فسّرها الطبري و ابن كثير،يقول (2):«و كان ركوب السماء بعد السماء ليلة الإسراء و المعراج، و لا بد أن الطبق الذي ركبه الرسول الكريم و معه جبريل كان أسرع من الضوء نفسه، نظرا لضخامة الكون الذي تمثّله السموات،سماء بعد سماء،تتمثّل بتلك الضخامة في قوله تعالى تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج4/].و هكذا يعود الدكتور إلى القول (3):«إن آية الإسراء لم تذكر أن الرسول الكريم محمدا،عليه الصّلاة و السّلام،كان محمولا على شيء،إنّه كان يسبح في الفضاء بقدرة اللّه تعالى التي لا حدود لها،بعد أن أصبح حقيقة كونية في غير حالتها الأرضية الناقصة.فإن كان قد قيل إنه ركب البراق،فقد يكون المقصود البرق أو أيّة6.
ص: 104
قوة كهربية،و لا يمكن في حالة إسراء اللّه بعبده أن تجري أحكام الحواس و لا أحكام المادة».
و بعد أن يستشهد الدكتور بوجهة نظر الدكتور عبد الحليم محمود في كتابه دلائل النبوة،و رفضه لمفهوم السلالم للعروج إلى السماء،مستندا إلى أن العلم الحديث أثبت«أن المادة الصلبة مجرّد كهارب في رتبة اهتزاز معينة»،و أن الذين يريدون أن يفسّروا الإسراء و المعراج بالتصوّر المادي بالمطيّة للإسراء و السلالم للمعراج بسبب جهلهم هذه الحقيقة التي لو عرفوها«لما خدعتهم حقيقة المادة الصلبة التي تشبّثوا بها في الإسراء على البراق و المعراج على السلالم،و لأمكنهم أن يتصوّروا إمكان الإسراء بلا مطية و الصعود إلى السماء بلا سلالم».
بعد هذا،يعود الدكتور عبد العليم ليناقش مسألة الزمن التي أنكر المشركون حدوث الإسراء بناء عليها،فيقول«إننا إذا تخلّصنا من هذه الأرض المادية و احتللنا مكانا مستقلا لا يربطنا بجاذبيتها و لا بقوانينها،فسوف لا نشعر بالزمن الذي تعوّدنا عليه و لا يصبح للعمر لدينا أي معنى،لأننا لن نعرف سوى اللازمن،أي الخلود،لا ماضي،لا مستقبل،و لكن الحاضر وحده هو الذي نعيش فيه»،و يستنتج الدكتور بأن رحلة الإسراء و المعراج في واقعها إنما هي«رحلة كونية إلهية لا يمكن حسابها زمنا أو بعدا أو وسيلة بحسابات البشر،إنها رحلة فضائية كاملة تخطّت أبعاد الزمان و المكان من مكّة إلى بيت المقدس،و تمّت الرحلة إلى السماوات العلى و بقايا دفء فراش الرّسول موجودة».و بعد أن يقارن الدكتور بين رحلة الإنسان إلى القمر و غزوه للفضاء بسفن فضائية تحمل أجهزة إلكترونية للدراسات العلمية عن المريخ و الزهرة و المشتري،و مسألة الإسراء و المعراج،يصل إلى أن كل هذه الاكتشافات لا تفسّر روعة السرعة التي تمّت بها رحلة الإسراء و المعراج،لذا نراه يعتقد«أن السفينة الإلهية،التي حملت محمّدا عليه الصلاة و السّلام و جبريل،قد اخترقت دوائر بلايين المجرات حتى تصل إلى السماوات العلى و سدرة المنتهى».
و للدلالة على استحالة تفسير هذه الرحلة الكونية الإلهية يتعرّض الدكتور لشرح مساحة الكون الكبير كما اكتشفه علم الفضاء و الفلك حديثا،و الذي حتى الضوء بسرعته الخرافية يحتاج إلى ملايين السنين الضوئية لكي يقطعه،فكيف قطعه الرّسول الكريم في ساعات معدودة؟ إن الإعجاز الحقيقي للإسراء و المعراج يظهر في العلم الحديث حينما نعرف مساحة الكون اللانهائية كما اكتشفها العلم الحديث.فإذا كان الكفار قد اعترضوا
ص: 105
على الإسراء،و هو مسيرة ساعة في الطيارة الآن،فكيف سيكون إنكارهم لو عرفوا أبعاد السنين الضوئية لمساحة الكون الممتد عبر مجراته و سدمه و نجومه؟لذا فإن الدكتور يشرح هذا الحجم الرهيب للسماوات بقوله«و يكفي دلالة على حجم السماوات الرهيب أن نقول إن العلماء،خلال نصف القرن الأخير،ابتكروا مناظير كبيرة كشفت آلافا من المجموعات الكونية،تتكوّن كل مجموعة من آلاف السدم، كل سديم يضم عشرات الملايين من النجوم و الأجرام السماوية»،و يرى علماء الفضاء أن نصف هذه السدم التي تسبح في الكون إنما هي أعضاء في مجموعات تشبه الكرة يبلغ قطرها مليونين من السنين الضوئية،فإذا كان الضوء يسافر خلال ساعة مسافة قدرها 1080 مليون كيلومتر ،فكم تكون المسافة التي يقطعها في اليوم و الشهر ثم السنة الواحدة؟ثم كم هو رهيب حجم مجموعة السدم التي يبلغ قطرها مليوني سنة ضوئية؟إن هذه المجموعة واحدة من بلايين السدم التي تنتشر في أرجاء الكون الفسيح،و من هذه المجموعات مجموعة تسمى(كوما)تبعد عن سديمنا بحوالي 400 مليون سنة ضوئية،و هي مجموعة ضخمة من السدم في مركزها،و هي تسبح جميعا في صورة تشبه الكرة و يقول الفلكيون (1)،إن سدما جديدة دائمة التكوّن قرب المركز،أو إن شئت قل إن الكون في تمدد مستمر و اتساع دائم،و هناك حشود كروية تظهر في المناظير ككرات ضخمة هائلة تشبه المجرات و لكنها أضخم منها حجما،و اكتشف عدد أقربها إلينا اثنتان هما سحابتا ماجلان الصغرى،قطرها يخترقه الضوء بسرعة 1080 مليون كيلومتر في الساعة لمدة خمس و عشرين ألف سنة ضوئية،و الكبرى يخترقه الضوء(أي سفينة تسير بسرعة الضوء)في مدة اثنين و ثلاثين ألف سنة ضوئية...و إذا كانت هذه صفحة من مساحة الكون المكتشف حتى الآن و هو يتسع في كل لحظة و يتمدد و يخلق مجرات جديدة،لذا فإن الدكتور يعتقد «أن الأحسن احتمالا لتصور سرعة السفينة الإلهية،التي قامت بتلك الرحلة الكونية الرهيبة خلال جزء من الليل،هو تسخير قانون النسبية لحمل و إطلاق و عودة المركبة الفضائية الإلهية البراق»،أي أنه لما كان قد ثبت من نتائج قانون النسبية الرياضية ما معناه أنّه لو أتيحت لكائن أو جسم ما سرعة أكبر من سرعة الضوء لانمحت أمامه المسافات،مهما عظمت،و يقطعها في زمن لا يذكر.
و بعد أن يشرح الدكتور مفهوم أنشتاين للزمن،الذي يعتبره ليس حقيقة قائمة0.
ص: 106
بذاتها و إنما هو من خواص المادة،و أن المستقبل قد يتصل بالحاضر،و قد يلحق بالماضي،لأنه في كل لحظة نحن نقتطع من المستقبل و نضمه إلى الماضي،فلا ينقص هذا و لا يزيد هذا،لأن كلا منهما لا نهائي،و أن المستقبل يلتف على شكل دائرة،و بذا يدخل في الماضي،إذ أن الدائرة علامة أبدية.و بناء على هذه النظرية تكون الظواهر التي تمر بنا بسرعة الضوء هي تلك التي اعتدنا أن نسميها إشعاعا،أما الأحداث المجسّمة التي تسير ببطء شديد فقد اعتدنا أن نسميها مادة،أو بحسب تعبير أنشتاين إن المادة هي عقل أو فراغ أو فضاء نقصت سرعته عن السرعة الطبيعية للضوء و هي 300 ألف كيلومتر في الثانية،و لو أن هذه المادة عادت تتذبذب بسرعة الضوء لاختلفت و لم تعد تدركها حواسنا.
و هكذا نرى أنه في نظرية النسبية أن الأشياء تبدو لراصد يسير بسرعة الضوء، إذا كانت تسير معه تبدو مادة صلبة،أن الأشياء التي تمر به بسرعة الضوء فتكون شعاعا إذا كان هو واقفا.
من خلال جميع هذه المفاهيم و المعلومات العلمية نرى أن رحلة«كهذه أخذ فيها جبريل(و هو من نور)بيد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و عرج به إلى السماء الدنيا،ثم الثانية ثم الثالثة فالرابعة فالخامسة فالسادسة ثم السابعة ثم إلى سدرة المنتهى،رحلة كهذه قطع فيها جبريل و صحبه بلايين البلايين من السنين الضوئية في بضع ساعات من الليل،حسب مقاييسنا الأرضية،لا بدّ أن تكون السرعة و الوسيلة غير ما يعرف البشر،و معنى ذلك أن الرسول الكريم عليه الصّلاة و السّلام،و معه ملك الوحي جبريل عليه السّلام،قد عرج بهما في زمن لا يذكر بسرعة أعظم من سرعة الضوء، و التي لم يتوصّل إليها البشر بعد،بل لا يستطيعون مجرد التفكير في كنهها رغم أن العلم و العلماء عرفوا أنّها موجودة فحسب».إذن،فعلم البشر مهما تقدم فلن يصل إلى سر السرعة الرهيبة التي انطلقت بها سفينة الفضاء الإلهية.إنها رحلة المعراج حيث تجاوز الرّسول الكريم صلّى اللّه عليه و سلّم الكون كله،و كان عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى.
هكذا يصل الدكتور عبد العليم إلى أن كل العلوم المعاصرة تعجز عن تفسير الإسراء و المعراج،و لعل آخر ما يكتشفه الدكتور من هذه الرحلة هو«إنه لمن المذهل حقا أن يذكر القرآن الكريم أسفار الفضاء كلها على أنّها تتم في مسارات منحنية و ليست في خطوط مباشرة مستقيمة،يتضح ذلك في جميع آيات(العروج)
ص: 107
التي ذكرها اللّه سبحانه و تعالى في القرآن الكريم،نجد دائما أن اللّه سبحانه قد عبّر في كتابه الكريم عن السبح في الفضاء أو الارتفاع في السماء بكلمة معراج أو عرج، و في ذلك كشف هام».
إذن،فالإسراء و المعراج سيبقى المعجزة الخالدة التي تتحدّى علم العلماء و اكتشاف المكتشفين،لأنها منتهى الاحتمال العقلي و النظري،و ستبقى تتحدث للعالم بمعطياتها الخارقة حتى تقوم الساعة،كما ستبقى«آيتان من آيات اللّه في الآفاق،و إشارة إلى قدرته المطلقة و انفراده وحده سبحانه بالخلق،و لمس لجوانب الحقيقة العلمية التي تؤكّد ركوب الإنسان طبقا بعد طبق،أو أطباقا متعددة المراحل، و على البشر جميعا أن يعلموا أن كل ما وصل إليه الإنسان من وسائل الركوب، ابتداء من الناقة إلى الطبق،من صنع اللّه تعالى،يتمثّل في قوله تعالى وَ خَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ ،فإذا كانت الفلك تسبح في البحار فإن الأطباق و الطائرات تسبح في الهواء،و فوق المادة الكونية التي تتخلل الأجرام السماوية،و بالقياس يمكن القول إن الفلك«السفن»و مثلها الطائرات و سفن الفضاء،إنّها فلك هوائية تسبح في الهواء و الفضاء سبحا هادئا كأنّها تطفو على صفحة الماء».
و هكذا تبقى المعجزة الخاصة الفردية للرّسول الكريم صلّى اللّه عليه و سلّم،تتحدّث لهذا العصر المغرور بمعلوماته،و تكنولوجيته و فرضياته العلمية بمنطق الخارقية التي لا تصل إلى حافاتها أي قدرة إنسانية مهما وصلت في التقدم العلمي،و مهما تطوّرت وسائل مواصلاتها و انتقالها،و هذا يعني أن عصرنا له معجزته أيضا،و له إعجازه،و أن خاتم النبيين لم يمض و يدع العالم عند حدود معجزاته في زمنه،بل لا زال يتحدث إليهم داعيا إلى اللّه بمعجزاته،و سيبقى ما دام لا نبيّ بعده،دليل الخلق إلى اللّه حتى قيام الساعة.
ص: 108
1-الشفا في أحوال المصطفى:القاضي عياض الأندلسي،ط 1986،دار الفيحاء، الأردن.
2-مختصر تفسير ابن كثير:محمد علي الصابوني،ط 1،مكتبة جدة.
3-الدر المنثور في التفسير بالمأثور:السيوطي،ط 1983،دار الفكر،بيروت.
4-الإيمان و العلم الحديث:محمد حسين الأديب،ط 1955،النجف.
5-إعجاز القرآن:الباقلاني،ط 1986،مؤسسة الكتب الثقافية،بيروت.
6-تفسير ابن تيمية-التفسير الكبير:ابن تيمية،ط 1988،دار الكتب العلمية، بيروت.
7-القرآن معجزة و منهج:محمد متولي شعراوي،ط 1984،دار الندوة،بيروت.
8-المعجزة القرآنية:د.محمد حسن هيتو،1989،مؤسسة الرسالة،بيروت.
9-علم أصول الفقه:عبد اللّه خلاف،ط 8،دار القلم.
10-هذا هو الإسلام:محمد متولي شعراوي،ط 1987،الدار المصرية للنشر،مصر.
11-تطور تفسير القرآن:د.محسن عبد الحميد،ط 1408،بغداد.
12-الفلسفة القرآنية:عباس محمود العقاد،المكتبة العصرية،بيروت.
13-الفكر الديني في مواجهة العصر:د.محمد عفت الشرقاوي،ط 1979،دار العودة،بيروت.
14-التاج الجامع للأصول:منصور علي ناصف،ط 1962،دار إحياء التراث العربي.
15-تفسير مفردات القرآن:سميح عاطف الزين،ط 1984،دار الكتاب اللبناني، بيروت.
16-أصول التفسير و قواعده:خالد عبد الرحمن العك،ط 1986،دار النفائس، بيروت.
ص: 109
17-معترك الأقران في إعجاز القرآن،السيوطي،ط 1988،دار الكتب العلمية، بيروت.
18-نحو منهج لتفسير القرآن:محمد الصادق عرجون،ط 1977،الدار السعودية للنشر و التوزيع،جدة.
19-شطحات مصطفى محمود في تفسيراته العصرية للقرآن الكريم:د.عبد المتعال الجيري،ط دار الاعتصام.
20-الإنسان في الكون بين القرآن و العلم:د.عبد العليم عبد الرحمن خضر، ط 1983،عالم المعرفة،السعودية.
21-القرآن تفسير الكون و الحياة:محمد العفيفي،ط 1986،ذات السّلاسل، الكويت.
22-معالم القرآن في عوالم الأكوان:أحمد محيي الدين العجوز،ط 1987،دار الندوة الجديدة،بيروت.
23-محمد رسول اللّه:محمد رشيد رضا،ط 1975،بيروت.
24-زاد المعاد في هدي خير العباد:ابن قيم الجوزية،ط 1986،مؤسسة الرسالة، بيروت.
25-تفسير الفخر الرازي:ط 1985،دار الفكر،بيروت.
26-حياة محمد،محمد حسين هيكل،ط مصر.
27-جواهر البحار:النهباني،ط 1960،مصطفى البابي الحلبي مصر.
28-خاتم النبيين محمد:سميح عاطف الزين،ط 1986،دار الكتاب اللبناني، بيروت.
29-تفسير روح المعاني:الآلوسي،ط 1987،دار الفكر،بيروت.
30-مناهل العرفان في علوم القرآن:محمد عبد العظيم الزرقاني،ط 1،دار الكتب اللبناني،بيروت.
31-الأصول الفكرية للثقافة الإسلامية:د.محمود الخالدي،ط 1984،دار الفكر للنشر و التوزيع،عمان.
ص: 110
الموضوع الصفحة المقدمة 5 المقدمة الفكرية:ضرورة المعجزة بين مفهوم شمولية الرسالة و خاتم النبيين 11 البعد التاريخي:
الإعجاز العلمي من كتب الإعجاز حتى التفسير العصري 23 التطبيق العملي:من نظرية المنهج إلى التطبيقات العملية 45 الإعجاز العلمي في الإسراء و المعراج 86 1-معجزة الإسراء و المعراج و تفسيرها لدى القدامى أ-التفسير العقلي 91 ب-التفسير الصوفي 94 2-معجزة الإسراء و المعراج و التفسير العلمي الحديث 95 المصادر و المراجع 109
ص: 111