نام كتاب: الآثار و التاريخ
نويسنده: خالد فائق العبيدى
موضوع: اعجاز غيبى
تاريخ وفات مؤلف: معاصر
زبان: عربى
تعداد جلد: 1
ناشر: دارالكتب العلمية
ص: 1
ص: 2
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
أهدي هذا الجهد المتواضع إلى روح من أرسله اللّه رحمة للعالمين، إلى خير معلم و أشرف رسول، إلى روح سيد الأولين و الآخرين رسول اللّه المصطفى سيدنا محمد صلّى اللّه عليه و سلم، و إلى أرواح إخوانه من الرسل و الأنبياء أجمعين، و الى أرواح آله الطيبين الطاهرين و صحابته المجاهدين و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين... و إلى أرواح شهداء الأمة على مر العصور الذين رووا بدمائهم الزكية الأرض لتكون كلمة اللّه هي العليا... و إلى أمتي و وطني و أهلي.
إلى من هي نفحة من رحمة اللّه تعالى التي حملتني من وهن و أعانتني من ضعف، و إلى الوالد الذي كان لي السند في كل الشدائد، عسى اللّه أن يجعل هذا العمل صدقة جارية لهما و أن يغفر لي تقصيري في حقهما... و إلى كنز الحياة الدنيا الزوجة العزيزة التي كانت لي نعم العون بعد طول عناء... و إلى أولادي الأحباء عسى اللّه أن يجعلهم من أهل الصلاح و الخير.
راجيا من اللّه أن يتقبله عنده و أن يجعله كله خيرا و يكون ذا فائدة جمّة للناس أجمعين..
ص: 3
ص: 4
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
الحمد للّه رب العالمين و الصلاة و السلام على أفضل و أشرف رسله و أنبيائه سيدنا محمد صلّى اللّه عليه و سلم، و على آله و صحبه أجمعين، و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، و بعد.
لن آتي بجديد إذا ما قلت إن السبق العلمي و الإعجاز العلمي و العددي في القرآن الكريم و السنة المطهرة هو أوسع من أن يكون مجرد إشارات في آيات مباركات تعطي حقائق علمية ظهرت في عصر التكنولوجيا الحاضر، و كأن اللّه تعالى يتحدى الخلق كما تحدى أهل اللغة في عصر الرسالة الأول أن يأتوا بسورة من مثله.
و رغم أن آيات الإعجاز تصل من حيث العدد إلى حوالي خمس القرآن (أكثر من ألف آية)، إلا أن عملية تعداد آيات الإعجاز بمعناه الشمولي لهو من العسر بمكان لأنه لا تكاد آية قرآنية واحدة تخلو منه.
هناك كتب كثيرة تحدثت بوجه العموم، كما و أن بعضها تخصصي أخذ جانبا واحدا من جوانب العلم كالطب و الهندسة الوراثية و الأحلام و الجيولوجيا و الفلك و الرياضيات و غيرها فضلا عن المؤتمرات و المجلات و المطبوعات و الصحف و الحلقات المرئية و المسموعة و البحوث و المقالات العديدة التي أجريت و كتبت في مختلف أنحاء العالم. و كان جراء كل هذه البركات إسلام عدد كبير من علماء الغرب من كافة الاختصاصات، كان 30 منهم فقط في مؤتمر الإعجاز العلمي العالمي الخامس الذي عقد في قاعة غورباتشوف بموسكو عام 1993 م، ليشكل صفعة كبيرة توجه لأعداء اللّه مصداقا لقول اللّه تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ، بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ، عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)، (التوبة: 33). و قوله صلّى اللّه عليه و سلم في الحديث الذي يرويه لنا سيدنا علي رضي اللّه عنه: (ألا إنّها ستكون فتنة فقلت ما المخرج منها يا رسول اللّه قال كتاب اللّه فيه نبأ ما كان قبلكم و خبر ما بعدكم و حكم ما بينكم و هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبّار قصمه اللّه و من ابتغى الهدى في غيره أضلّه
ص: 5
اللّه و هو حبل اللّه المتين و نوره المبين و هو الذّكر الحكيم و هو الصّراط المستقيم هو الّذي لا تزيغ به الأهواء و لا تلتبس به الألسنة و لا تتشعب منه الآراء و لا يشبع منه العلماء و لا يملّه الأتقياء و لا يخلق على كثرة الرّدّ و لا تنقضي عجائبه و هو الّذي لم تنته الجنّ إذ سمعته حتّى قالوا «إنّا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرّشد فآمنّا به» من علّم علمه سبق و من قال به صدق و من عمل به أجر و من حكم به عدل و من دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم)(1)...
يقول الدكتور موريس بوكاي: (لقد أثارت هذه الجوانب العلمية التي يختصر بها الإسلام دهشتي العميقة في البداية... لم أكن أعتقد قط بإمكان اكتشاف عدد كبير إلى هذا الحد من الدعاوى الخاصة بموضوعات شديدة التنوع، و مطابقة تماما للمعارف العلمية الحديثة في نص كتاب منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا... في البداية لم يكن لي إيمان بالإسلام، و قد طرقت دراسة هذه النصوص بروح متحررة من كل حكم مسبق و بموضوعية تامة، و إذا كان هناك تأثير ما قد مورس فهو بالتأكيد تأثير التعاليم التي تلقيتها في شبابي، حين لم تكن الغالبية تتحدث عن المسلمين و إنما المحمديين لتأكيد الإشارة إلى أنه دين أسسه رجل، فهو دين عديم القيمة تماما إزاء اللّه. و ككثيرين كان يمكن أن أظل محتفظا بتلك الأفكار الخاطئة عن الإسلام، و هي على درجة من الانتشار بحيث إنني أدهش دائما حين ألتقي خارج المتخصصين بمحدثين مستنيرين في هذه النقاط. أعترف بأنني كنت جاهلا قبل أن تعطى لي عن الإسلام صورة تختلف عن تلك التي تلقيناها في الغرب)(2).
لقد حاولت جاهدا في هذا المسلسل أن أذكر جزءا يسيرا من صور الإعجاز العديدة مركزا على الحالات التي ظهرت مؤخرا في العقدين المنصرمين لأن ما تم إنجازه في هذا الصدد كبير بل و كبير جدا.4.
ص: 6
و لا يعني هذا بأي حال من الأحوال أن ما سيذكر في المسلسل هو كل ما موجود من سبق قرآني لعلوم العصر الراهن، لأن القول بهذا هو عدم الإدراك لمفهوم الإعجاز القرآني الذي لا تنقضي عجائبه و لا يشبع منه العلماء. و لكن لنا أن نقول بأنه قبسات أو ومضات من نور هذا الكتاب الذي شرفت هذه الأمة به، لذلك ارتأيت تسمية هذه السلسلة بهذا الاسم (ومضات إعجازية من القرآن و السنة النبوية)، و هي تشمل ومضة هنا و أخرى هناك من علم القرآن الواسع في علوم عصرنا الراهن المليء بالمكتشفات و الحقائق المذهلة، و كأن اللّه تعالى قد أذن لنا بأن نصل لهذه المكتشفات ليقول للبشرية إن ما وصلتم إليه بإذني قد أنزلته عليكم بكتابي فآمنوا به مصداقا لقوله تعالى سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ، عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (53)، (فصلت: 53).
لم أقصد من كتابة هذا المسلسل التدخل في اختصاصات ليست لي، و إنما أردت منه توجيه عناية القارئ الكريم إلى تطابق كون اللّه المنظور و كونه المقروء (القرآن الكريم) من جهة، و كذلك ليتعرف القارئ الكريم على عظمة علوم القرآن و سبقه المذهل و تطرقه للعلوم المختلفة على شكل أمثال و إشارات و قصص. و كان كل ذلك اعتمادا على بحوث و دراسات قام بها باحثون و اختصاصيون عديدون كل في مجال عمله و تخصصه جزاهم اللّه تعالى كل الخير عن دينه و كتابه و سنة حبيبه صلّى اللّه عليه و سلم.
تم اختيار حقول علمية مختلفة كالآثار و التاريخ، المادة و الطاقة، علوم الفلك، علوم الأرض، البحار و المياه، السحب و الرياح، النبات، الحشرات و الحيوانات، علوم الطب، الهندسة الوراثية و الاستنساخ و علم الأجنة، الصيدلة و الأمراض، علم النفس، الأحلام و الباراسايكولوجي، الاقتصاد و الاجتماع، و أيضا السبق القرآني و النبوي في ما سيكون من أمر آخر الزمان و أهوال القيامة... و كل ذلك مكتوب بشكل علمي رصين و أسلوب ميسر و مشوق معزز بصور فوتوغرافية و خرائط، و لكنه يظل غيضا من فيض و نقطة في بحر محيط ليس له نهاية من إعجاز هذا القرآن الذي لا تنقضي عجائبه حتى قيام الساعة.
يأتي هذا المسلسل بعد كتابي (المنظار الهندسي في القرآن الكريم - 850 صفحة)
ص: 7
طبع و نشر دار المسيرة في عمان و المتخصص بالسبق الهندسي بكل اختصاصاته و العددي و الرقمي في القرآن الكريم، ثم كتاب (القرآن منهل العلوم - 330 صفحة) طبع الجامعة الإسلامية ببغداد و المتخصص بتأصيل الإعجاز و شروطه و فقهه، فضلا عن كتب أخرى تم الاتفاق على طبعها من قبل الإخوة في دار الكتب العلمية ببيروت مع هذا المسلسل فجزاهم اللّه ألف خير و من أخيهم، العبد الفقير إلى اللّه تعالى، المؤلف ألف شكر...
كذلك بعد الحلقات المرئية المسلسلة (آيات و حوار - 30 حلقة -) التي سجلتها مع الإخوة الأستاذ الدكتور أنيس الراوي و الأستاذ رعد الخزرجي و الشيخ الدكتور أحمد عبد الغفور السامرائي و الشيخ الدكتور محمد صالح السامرائي لمحطة راديو و تلفزيون العرب ( ART ) - قناة الأوائل و قناة اقرأ الفضائيتين. و قد لاقت صدى و نجاحا طيبا في جميع الدول العربية و الأجنبية التي عرضت فيها إذ أعيد عرضها لعدة مرات و ترجمت بعض حلقاته إلى لغات أجنبية و الحمد للّه رب العالمين. و كذلك حلقات (العلم في القرآن - 30 حلقة -) مع الأستاذ الدكتور أنيس الراوي لحساب قناة العراق الفضائية، و حلقات (سر الحديد - 30 حلقة -) لحساب شركة كوديا للإنتاج الفني.
أسأل اللّه تعالى أن يكون عملي كله خير و أن يكون خالصا لوجهه الكريم... و آخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف خلقه و صفوة أنبيائه سيدنا محمد النبي الأمين صلّى اللّه عليه و سلم و آله الطيبين الطاهرين و صحابته المجاهدين و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
المؤلف بغداد - العراق 1424 ه/ 2003 م
ص: 8
قد يقول البعض إن الخوض في قصص تتعلق بأقوام سبقوا من أقوام الأنبياء و غيرهم تطرقت إليها الكتب السماوية السابقة، فما وجه الإعجاز القرآني في هذا الموضوع. فنقول و باللّه التوفيق:
1 - إن القرآن الكريم فصل في هذه القصص بشكل لم يسبق إليه أي كتاب سبق، و أوضحت السنة المطهرة ما كان غامضا في شرح الآيات. بل إن هناك حالات و دقائق لأمور لم تشر إليها الكتب السابقة و أشار إليها القرآن الكريم و فصلها، و هو الكتاب الذي لم و لن يحرف لأنه في حفظ الباري عز و جل.
2 - هناك تناقضات واضحة و منافية للعقل و المنطق و لمنزلة الأنبياء الكرام عليهم السلام وردت، بل و حتى سوء أدب مع بعضهم في النسخ التي وصلتنا من هذه الكتب، و هذا أكبر دليل على تحريف هذه الكتب من قبل أقوام لم يفهموا حقيقة التوحيد الذي أرسل به جميع الأنبياء عليهم السلام، فأتبعوا الدين لأهوائهم و شهواتهم، فحرفوا قصص الأنبياء بما لا يليق بهم أو بالمرسل تبارك و تعالى. و إنك لا تجد تشابها بين قصة و أخرى، و بين كتاب و آخر. بينما في الكتاب العزيز أثبتت التنقيبات الآثارية و الرقم التاريخية دقة المعلومة القرآنية كما سنرى في هذا الكتاب و في هذه السلسلة عموما.
ص: 9
ص: 10
ذكرت قصة سيدنا نوح عليه السلام في التوراة و الإنجيل و القرآن. و لقد فصل القرآن الكريم هذه القصة في سورة خاصة اسمها سورة نوح(1) ، و كذلك في آيات مباركات عديدات أخرى - ذكر كلمة نوح في الكتاب العزيز في 33 آية - بدءا من بعثته عليه السلام إلى قومه و تكذيبهم إياه، و من ثم استمراره و صبره الطويل عليهم طيلة عمره الذي وصل إلى 950 عاما كما صرح القرآن الكريم:
وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَ هُمْ ظالِمُونَ (14)، (العنكبوت: 14). و قد أثبت علميا أن الإنسان الأول كان أطول قامة و أطول عمرا من إنساننا الحالي لأسباب يطول شرحها.
و قد حاول عليه السلام طيلة هذه الفترة الطويلة أن يقنع قومه - و كانوا من أهل العراق القديم - أن اللّه تعالى هو خالقهم و هو الأولى بالعبادة، و لكنهم صدوه و حاربوه و استهزءوا به و بأصحابه، فحذرهم من عاقبة أمرهم هذا:
قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ (32) (هود: 32). و استمر صابرا عليهم حتى أوحي إليه أنه لا أمل من قومه:
وَ أُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) (هود: 36). فدعا عليه السلام ربه أن ينصره على هؤلاء القوم الكافرين:
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَ قالُوا مَجْنُونٌ وَ ازْدُجِرَ (9) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) (القمر).. قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَ اتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ
ص: 11
وَ وَلَدُهُ إِلاّ خَساراً (21) (نوح: 21).. وَ قالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيّاراً (26) (نوح: 26).
فأمره اللّه تعالى بصناعة السفينة، و كلما مر عليه نفر من قومه استهزءوا به، و لكنه توعدهم بأنهم سيندمون على هذا الأمر أي ندم:
وَ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَ وَحْيِنا وَ لا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَ يَصْنَعُ الْفُلْكَ وَ كُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنّا فَإِنّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38) (هود). و أوحى له اللّه تعالى أن الماء سيغمر المكان و أن عليه أن يحمل أهله - إلا امرأته و ابنه - و أصحابه و من كل المخلوقات زوجين اثنين، فإذا استقر عليها حمد اللّه و شكره على فضله بنجاتهم من غضبه على القوم الكافرين:
فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَ وَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَ فارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ إِلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَ لا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَ مَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي نَجّانا مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ (28) (المؤمنون).
و حصل الطوفان الهائل الذي غطى منطقة ما بين النهرين بأسرها و غرق القوم و هم يستنجدون بعد أن أيقنوا بصدق ما جاءهم به نوح عليه السلام و لكن بعد فوات الأوان. و قد أثبتت البحوث الآثارية و الجيولوجية في المنطقة و التي قامت بها عدة فرق علمية استكشافية من مختلف دول العالم من أن الغرين و الطمى في المنطقة يدلل من غير أي شك على حصول طوفان عظيم في الحقبة السومرية من تأريخ العراق القديم.
و بعد انتهاء الأمر جاء أمر اللّه تعالى بتوقف تدفق الماء من السماء و من الأرض، فاستوت السفينة على جبل الجودي و هبط منها سيدنا نوح عليه السلام و من معه لتبدأ البشرية رحلة جديدة و بنفس القانون الإلهي الذي لا يتغير، هذا ما نص عليه القرآن الكريم:
وَ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي وَ غِيضَ الْماءُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظّالِمِينَ (44) (هود: 44)... قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنّا وَ بَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَ عَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48) (هود: 48).
ص: 12
وَ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي وَ غِيضَ الْماءُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظّالِمِينَ (44) (هود: 44)... قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنّا وَ بَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَ عَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48) (هود: 48).
هذه التفاصيل ذكرت بعضها في الكتب السماوية الأخرى و لكن ليس بهذا الأسلوب الرائع و هذه الدقة، فمثلا ذكر العهد القديم أن السفينة استقرت على جبل آرارات الواقع شرق الأناضول و الذي يقطنه أغلبية من الأرمن من سكان تركيا الحالية، بينما صرح القرآن الكريم أن الجبل هو الجودي و الذي يقع في جنوب شرق الأناضول و كما سنوضح بالخرائط و الصور. هنا يبرز سؤالين مهمين:
1. أيهما أدق؟.
2. هل هناك اختلاف و الكتابين من عند اللّه تعالى؟.
قامت عدة فرق بحثية علمية من مختلف الجنسيات العالمية تدين الديانة النصرانية بتتبع هذه المسألة حتى حصل الاكتشاف الذي حيرهم. إذ اكتشفوا أن سفينة نوح عليه السلام وجدت لها آثار فوق جبل في تركيا و لكنه ليس جبل آرارات بل إنه جبل آخر اسمه جبل (الجودي)، فتحيروا و زادت حيرتهم و غضبهم معا عند ما علموا أن القرآن قد صرّح بهذا قبل مئات السنين، بل و أكد القرآن الكريم على أن السفينة بقيت و ستبقى كآية و دليل على صدق القرآن الكريم و على قدرة اللّه تعالى في تعذيب الأقوام المكذبة و الجاحدة، فهل من معتبر؟.
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَ قالُوا مَجْنُونٌ وَ ازْدُجِرَ (9) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَ فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَ حَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَ دُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14) وَ لَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) (القمر: 9-15).
فسأل سائل منهم قال (ما هذا القرآن؟)، فأجابه أحد القسيسين أنه كتاب اكتتبه رجل ادعى النبوة في جزيرة العرب أخذ كلامه من الإنجيل، فزاد عجب الرجل، إذ كيف يأخذه من الإنجيل و ما موجود في الإنجيل فيما يتعلق بهذه المسألة لا يطابق الواقع الذي توصلوا إليه بالبحث المضني، بينما كان القرآن دقيقا في تحديد الواقعة و المكان. كيف
ص: 13
يمكن لرجل من أهل الصحراء أن يعلم كل هذا إذن؟.
فكان هذا الرد البسيط من هذا الرجل أبلغ رد على من لا يعرف حقيقة التوحيد و عظمة الرسول صلّى اللّه عليه و سلم و يدعي أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قد اختط القرآن بيده - حاشاه - ناسخا من أحبار اليهود و قساوسة و رهابنة النصارى. إنه وحي اللّه تعالى و علمه الأزلي بالأشياء، إنه كتاب اللّه المعجز الذي لا يعتريه التحريف لأنه في عهدة منزله سبحانه، أنظر إلى رد القرآن على أمثال هؤلاء المساكين:
أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) (النساء: 82)..
وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) (النحل: 103)..
وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَرْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) (العنكبوت: 48).
الخرائط و المخططات المبينة أدناه توضح المنطقة التي رست فيها سفينة نوح عليه السلام - جبل الجودي - و الواقعة بين العراق و تركيا، و الفرق بينها و بين منطقة آرارات التي ذكرت في العهد القديم و الواقعة شرق الأناضول قرب أرمينيا و غرب إيران، و المنظر مأخوذ من ثلاث ارتفاعات وصولا للبعد الذي يحدد المنطقة جغرافيا بالضبط.
أما الصور التي تليها توضح الفريق البحثي الذي اكتشف المنطقة و حددها بالضبط.
ص: 14
ارتفاع 3500 كم عن سطح الأرض ارتفاع 1500 كم عن سطح الأرض جبل آرارات منطقة المثلث العراقي - الإيراني - التركي التي تحوي جبل الجودي جبل آرارات و جبل الجودي
ص: 15
منطقة جبل الجودي جنوب شرق تركيا قرب الحدود مع العراق (المنطقة المحددة بالدائرة - ارتفاع 1000 كم عن سطح الأرض) منطقة جبل آرارات شرق الأناضول (منطقة إكدير قرب الحدود مع إيران و أرمينيا) كما حددتها موسوعة إنكارتا 2003 م (ارتفاع 150 كم)
ص: 16
لاحظ شكل السفينة على التراب من وسط إلى أسفل الصورة رجال من الفريق البحثي يقفون أمام إحدى الصخور التي كانت مرسى للسفينة بجنوب تركيا
ص: 17
أشكال توضح آثار السفينة مع الفريق الآثاري الغربي الذي اكتشف موقع السفينة على جبل الجودي في تركيا و كما صرح القرآن الكريم.
و أما لما ذا هذا الاختلاف بين القرآن و الإنجيل و هما من عند اللّه تعالى؟، فهذا هو السبب الرئيسي لتعهد اللّه تعالى بحفظ القرآن الكريم من أن يعتريه ما اعترى الكتب
ص: 18
السابقة من تدخل البشر و تحريفهم لها، فهذه هي طبيعة البشر و ديدنهم في تحوير القوانين حتى السماوية منها وفق أهواءهم و شهواتهم رغم تحذير الأنبياء عليهم السلام لهم من مغبة ذلك، فالأنبياء عليهم السلام يبلغون رسالات ربهم للناس، و لكن الناس هم الذين يحرفون كلام اللّه و تعاليمه و يزيدون و ينقصون في كتبه المنزلة عليهم حسب أهواءهم، و هذا بالضبط ما حصل للتوراة و الإنجيل. و قد صرح القرآن الكريم بهذه الحقيقة موبخا أصحابها و متوعدا إياهم بالويل و الثبور:
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبُونَ (79)، (البقرة: 79).
أما القرآن الكريم فلا يمكن أن يتبدل و يحرف رغم كل محاولات اليهود القديمة و الحديثة بذلك، كيف لا و قد تعهد بحفظه الرحمن الرحيم الذي أنزله على رسوله:
إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) (الحجر: 9).
ص: 19
لعل في قصة قوم لوط التي ذكرت في القرآن الكريم(1)المستفاد من قصص القرآن، د. عبد الكريم زيدان، ج/ 1، ص 231.(2) في سور عدة ما يدفع إلى العجب، و قد يشك الإنسان لوهلة مما ورد في هذه القصة من آيات و أحاديث و هي مذكورة في كتب التفاسير و كتب قصص الأنبياء. و ما يهمنا هنا هو ما حصل من عقاب إلهي لقوم هذه القرية و هي قرية سدوم في منطقة تسمى عمق السديم بأرض الأردن قرب البحر الميت و الذي يسمى ببحر لوط أيضا بسبب ما فعلوه من أعمال قبيحة خبيثة تأباها النفس البشرية، و قد حذرهم منها سيدنا لوط عليه السلام إلا أنهم لم يأبهوا بتحذيره بل و تحدوه أن يأتيهم بالعذاب الذي يعدهم به، بل و هددوه بالقتل رجما بالحجارة إن هو لم يكف عن دعوته. عند ذلك دعا لوط ربه أن ينجيه و أهله مما يعملون فأنجاه اللّه و أهله إلا امرأته كانت من الغابرين فهلكت مع قومها الذين أهلكهم اللّه بالصيحة كما قال تعالى فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) (الحجر)(2). فقد أرسل اللّه تعالى الملائكة بهيئة بشر و قالوا له أن العذاب سيأتي على قومه في الصباح فحمل سيدنا جبريل عليه السلام الأرض و هم نائمون (أي أرض سدوم) و قلبها جاعلا عاليها سافلها بينما أهل لوط أمروا بالخروج من المدينة و عدم الالتفات إذا سمعوا الصيحة، إلا أن امرأته التفتت فأصابها ما أصاب قومها جزاء لها بعدم طاعتها لنبي اللّه لوط عليه السلام. فيا ترى هل يعقل أن تقتطع جزء من الأرض و تقلب على عكسها كما جاء في القصة؟.
هذا ما أثبتته الأبحاث الآثارية و الجيولوجية فعلا، فقد أثبتت أن طبقات الأرض
ص: 20
للمنطقة حول مدينة سدوم مرتبة بشكل معين معاكس للطبقات التي تحويها المنطقة المحيطة بقرية سدوم و بتسلسل معاكس تماما، كما و أن امرأة لوط التي حنطت أثناء التفاتها لا يزال تمثالها شاخصا واقفا لحد الآن يتحدى المعاندين و المكابرين. و قد قام فريق بحثي أمريكي مؤخرا بدراسة المنطقة جيولوجيا، و تبين له أن طبقات الأرض معكوسة تماما في تلك المنطقة الواقعة قرب البحر الميت في الأردن، و كذلك وجدت امرأة سيدنا لوط عليه السلام و هي واقفة محنطة على شكل حجر بهيئته البشرية، و ذلك عند ما استدارت لتنظر ما ذا حدث لقومها عند ما أخذتهم الصيحة مشرقين عند خروج لوط بأهله كما أمر، و هذا كله مصور بفيلم علمي عرض على شاشات التلفاز في العالم كله، و هو مصداق لقوله تعالى:
قالُوا يا لُوطُ إِنّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَ لَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) (هود: 81).
و قد ذكر القرآن الكريم هذه القصة مرارا مذكرا قريش الذين عاندوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بأن لهم في هذه القصة و تمثال امرأة لوط العبر الكافية بأنهم قد ينالوا نفس العقاب إذا ما عاندوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و هذا التحدي نفسه لا يزال قائما على صحة القرآن و صدق حقيقة و فلسفة وجود الإنسان حتى قيام الساعة.
إذن، فالإعجاز القرآني في مجال الجيولوجيا واضح بيّن هنا فضلا عن الجانب الآثاري و التأريخي، و هو قوله تعالى:... عالِيَها سافِلَها... (هود: 82، و الحجر: 74)، و التي تبين أن طبقات الأرض في المنطقة قد عكست أي جعلت بتدرج معاكس لما حولها(1).م.
ص: 21
الفصل الثالث جثة فرعون مصر(1)
ثم تأتي قصة فرعون المعروفة و تحديه لسيدنا موسى عليه السلام حتى أغرقه اللّه في البحر الأحمر بعد أن جيش جيشا لاحق به سيدنا موسى عليه السلام و من آمن معه لكي ينالوا منهم و عند ما وصل القوم إلى البحر الأحمر و الجيش وراءهم ظنوا أنهم هالكون إلا أن سيدنا موسى دعا اللّه أن ينجيهم، ففتح اللّه البحر لهم نصفين من الماء كل نصف كالجبل الكبير و عبر موسى عليه السلام و من معه في ممر يابس غير مبلل أو رطب: وَ لَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَ لا تَخْشى (77)، (سورة طه: 77)، فحاول فرعون و من معه اللحاق بهم حتى اذا عبر قوم موسى كلهم أطبق البحر على جيش فرعون و غرقوا كلهم و طافت جثة فرعون على البحر ثم أخذت و حنطت و هذا ما ذكره القرآن الكريم فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (92)، (يونس: 92). و قد كان هذا الفرعون المقصود بالآية مجهولا حتى اكتشف مؤخرا أن الفرعون المحنط في متاحف القاهرة في أنفه حبات رمل عند ما أخذت و فحصت وجد أنها من حبات رمل البحر الأحمر و هو البحر الذي عبر به موسى مع قومه من مصر إلى الشام.
ص: 22
صورة لتابوت الفرعون مع صورة بالأشعة السينية لها.
ص: 23
جثة فرعون موسى التي تركها اللّه تعالى آية لكل معتبر فقد كشفت مجلة باري ماتش الفرنسية الصادرة مؤخرا أن فريقا طبيا فرنسيا يتكون من 112 طبيبا أعلنوا أن فرعون مصر في زمن موسى عليه السلام مات غرقا كما أخبر
ص: 24
بذلك القرآن الكريم قبل أكثر من 1400 سنة.. أعلنت ذلك الدكتورة كريستسن نيلكوت رئيسة الفريق الطبي الفرنسي، و أضافت أن الفحوص التي أجريت على جثة فرعون المعروضة الآن في المتحف المصري أثبتت وجود حبيبات رملية بحرية و صحراوية على جسده و شعره و وجود فطريات على جلده سببت تآكلا تم علاجه بالأشعة ليبقى بدنه في ذمة الخلود كما أخبر اللّه تعالى عنه.
و قوله تعالى: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً . قال ابن عباس و غير واحد: شك بعض بني إسرائيل في موت فرعون، حتى قال بعضهم: إنّه لا يموت، فأمر اللّه البحر فرفعه على مرتفع، قيل: على وجه الماء، و قيل: على نجوة من الأرض، و عليه درعه التي يعرفونها من ملابسه ليتحققوا بذلك هلاكه و يعلموا قدرة اللّه عليه، و لهذا قال: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ أي مصاحبا درعك المعروفة بك لِتَكُونَ أي أنت آية لِمَنْ خَلْفَكَ أي من بني إسرائيل، دليلا على قدرة اللّه الذى أهلكه. و لهذا قرأ بعض السلف: لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ، و يحتمل أن يكون المراد ننجيك مصاحبا لتكون درعك علامة لمن وراءك من بني إسرائيل على معرفتك و أنك هلكت، و اللّه أعلم، و قد كان هلاكه و جنوده في يوم عاشوراء، كما قال الإمام البخاري في صحيحه: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قدم النبي صلّى اللّه عليه و سلم المدينة و اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: (ما هذا اليوم الذي تصومونه؟)، فقالوا: هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون، قال النبي صلّى اللّه عليه و سلم: (أنتم أحق بموسى منهم فصوموا). و أصل الحديث في الصحيحين و غيرهما، و اللّه أعلم(1).
و جدير بالذكر أن فرعون الذي لاحق بقواته موسى عليه السلام و اتباعه حتى ساحل البحر الأحمر فانفلق البحر ليمر من خلاله المؤمنون ثم انطبق مغرقا فرعون و أتباعه يدعى (منفتاخ بن رمسيس الثاني) الذي اكتشفت جثته في حفريات الأقصر عام).
ص: 25
1900 من قبل علماء الآثار في قبر لم يكن مهيئا لمثله أبدا، و فسر العلماء ذلك أن المصريين لم يهيئوا له قبر لأنهم لم يكونوا يتوقعون موته نتيجة لادعائه الألوهية و تصديقهم له بالمقابل. و جاءت كشوف الفريق الطبي مؤخرا بناء على طلب علمي فرنسي لإجراء العناية اللازمة بالأشعة و الأجهزة المتطورة لتلافي بعض الضرر الحاصل على جثة فرعون من جراء هذا الزمن الطويل الذي يزيد على أربعة آلاف سنة منذ حادث الغرق، و كل ذلك مصداق للقرآن الكريم الذي ذكر أن جثة فرعون ستبقى في ذمة الخلود بعيدا عن التلف، كآية من آيات اللّه تعالى في خلقه.
ص: 26
ذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه السورة فقال: (حدثني شيخ من أهل مصر قدم علينا منذ بضع و أربعين سنة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "بعثت قريش النضر بن الحارث، و عقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة، فقالوا لهم: سلوهم عن محمد، وصفوا لهم صفته، و أخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، و عندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء... فخرجا حتى أتيا المدينة فسألوا أحبار يهود عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و وصفوا لهم أمره و بعض قوله، و قالا: إنكم أهل التوراة، و قد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا. قال: فقالوا لهم: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن. فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، و إلا فرجل متقول تروا فيه رأيكم: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول. ما كان من أمرهم؟ فإنهم كان لهم حديث عجيب. و سلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض و مغاربها. ما كان نبؤه؟، و سلوه عن الروح ما هو؟، فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه، و إن لم يخبركم فإنه رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم... فأقبل النضر و عقبة حتى قدما على قريش، فقالا: يا معشر قريش، قد جئناكم بفصل ما بينكم و بين محمد. قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور... فأخبروهم بها. فجاءوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فقالوا: يا محمد أخبرنا... فسألوه عما أمروهم به. فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: (أخبركم غدا عما سألتم عنه)، - و لم يستثن - فانصرفوا عنه. و مكث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم خمس عشرة ليلة لا يحدث اللّه له في ذلك وحيا، و لا يأتيه جبريل عليه السلام، حتى أرجف أهل مكة؛ و قالوا: وعدنا محمد غدا، و اليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء عما سألناه عنه. و حتى أحزن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم مكث الوحي عنه؛ و شق عليه ما يتكلم به أهل مكة. ثم جاءه جبريل عليه السلام من اللّه عز و جل بسورة أصحاب الكهف، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، و خبر ما سألوه عنه من أمر الفتية، و الرجل الطواف، و قول اللّه عز و جل (و يسألونك عن الروح...) الآية.
ص: 27
هذه رواية... و قد وردت عن ابن عباس - رضي اللّه عنهما - رواية أخرى في سبب نزول آية الروح خاصة، ذكرها العوفي. و ذلك أن اليهود قالوا للنبي صلّى اللّه عليه و سلم: أخبرنا عن الروح، و كيف تعذب الروح التي في الجسد و إنما الروح من اللّه؟ و لم يكن نزل عليه شيء، فلم يحر إليهم شيئا، فأتاه جبريل عليه السلام بالوحي الكريم من قوله تعالى:
وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً (85)، (الإسراء: 85).. إلى آخر الرواية.
في قصة أصحاب الكهف ما يبعث على العجب كما وصفهم اللّه تعالى: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَ الرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9)، (الكهف: 9). فهم كما هو معروف فتية ذكرهم القرآن جاعلا من عددهم محل جدل كبير اختلف فيه كثيرا حتى أثبت مؤخرا تطابقه مع ما جاء في القرآن الكريم.
مدخل باب الكهف
ص: 28
أما مكانهم فظل مجهولا حتى اكتشف مؤخرا، حيث تقول الآيات الكريمات في سورة الكهف أنهم مجموعة من الشباب هربوا من قومهم لما رأوهم على الباطل و دخلوا كهفا يعبدون اللّه تعالى فيه و معهم كلبهم، فأنامهم اللّه ثلاثمائة و تسع سنين ثم بعثهم اللّه من نومهم ليجعلهم لأهل زمانهم آية على قدرة اللّه على البعث بعد الموت، و بنوا عليهم مسجدا ليجعلوه آية للناس.
و قد اختلف في عددهم و مدة لبثهم في الكهف، فلما عجز المفسرون عن ذلك قالوا أن اللّه أعلم بهم و بمدتهم و عددهم و مكانهم، حيث قال اللّه تعالى عن قصة هؤلاء الشبيبة: وَ تَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَ هُمْ رُقُودٌ وَ نُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَ ذاتَ الشِّمالِ وَ كَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَ لَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18) وَ كَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَ لْيَتَلَطَّفْ وَ لا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَ لَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20) وَ كَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَ أَنَّ السّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَ يَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَ يَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاّ مِراءً ظاهِراً وَ لا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22) ، (الكهف).
و قد ظل الجدال قائما بين المفسرين حول عددهم و مكانهم و صدق اللّه القائل ... ما يَعْلَمُهُمْ إِلاّ قَلِيلٌ... ، فقد توصل فريق بحثي آثاري في الأردن عام 1963 م إلى اكتشاف الكهف الخاص لأصحاب الرقيم في مدينة الرقيم الأردنية التي تبعد 7 كم عن عمان الحالية (فيلادلفيا قديما)، و كذلك المسجد الذي بني عليهم و وجد فيه ثمانية قبور
ص: 29
مع صورة تمثل شكل كلب على جدران الكهف(1) ، و إذا ما لاحظت الآية الكريمة فإنها تذكر... سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَ يَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ.. ، أي أن كلامهم غير مبني على أسس علمية أو يقين ثابت، لكنه عند ما ذكر... وَ يَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ... ، فالواو هنا واو الابتداء و عند العرب الأرقام بعد الرقم 7 تضاف الواو لها فتسمى واو الثمانية كما في قوله تعالى من سورة الحاقة: سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَ ثَمانِيَةَ أَيّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7). ثم اتبع القرآن الكريم سرد القصة بقوله تعالى:... قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاّ قَلِيلٌ... ، قال سيدنا ابن عباس رضي اللّه عنه (أنا من هؤلاء القليل).
يقول السيوطي في الإتقان (ج 2 /ص 389): (أصحاب الكهف تمليخا و هو رئيسهم و القائل فابعثوا أحدكم بورقكم و القائل فأووا إلى الكهف و القائل ربكم أعلم بما لبثتم، و تكسلمينا و هو القائل كم لبثتم، و مرطوش و براشق و أيونس و أريسطانس و شلططيوس)... و يقول رحمه اللّه تعالى أيضا في مكان آخر (ج 2 /ص 470): (و المنقول إما عن المعصوم صلّى اللّه عليه و سلم أو غيره، و منه ما يمكن معرفة الصحيح منه من غيره، و منه ما لا يمكن ذلك. و هذا القسم الذي لا يمكن معرفة صحيحه من ضعيفه عامته مما لا فائدة فيه و لا حاجة بنا إلى معرفته و ذلك كاختلافهم في لون كلب أصحاب الكهف و اسمه و في البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة و في قدر سفينة نوح و خشبها و في اسم الغلام الذي قتله الخضر و نحوه)... و في التبيان في تفسير غريب القرآن نقرأ (ج 1 /ص 271): (الرقيم لوح كتب فيه خبر أصحاب الكهف و نصب على باب الكهف، و يقال إنه اسم الوادي الذي فيه الكهف).ا.
ص: 30
شكل يوضح بعض قبور أهل الكهف و الرقيم الذي قصة لنا القرآن الكريم اكتشف في الأردن لقد حصل اكتشاف الكهف عام 1963 م، و هو غيب لم يعرف إلا بعد أكثر من 1400 عام من نزول القرآن الكريم. و من اللطائف أن صاحب كتاب خوارق الإبداع (شقيقه قره كله) ذكر أن أفلاطون شاهد السجن الرهيب الذي كان (رئيس) الطاغية
ص: 31
يسجن أعداءه عند ما زار (سيراكوسا)، و قد اكتشف ذلك عيانا بيانا و كما أسلفنا.
و في قصة أصحاب الكهف أيضا سبق قرآني من نوع آخر، و هو السبق العددي المتعلق بفرق السنين الشمسية عن القمرية، فقوله تعالى بعد ما حدد مدة النوم ب 300 عام .. وَ ازْدَادُوا تِسْعاً.. ، يبين لأهل الحساب و الفلك بما لا يدع مجالا للشك الفرق الزمني بين التقويمين، فالسنة القمرية تقل عن الشمسية بحوالي 11 يوما، و عند حساب مدة 300 عام تجد أن الفرق بين التقويمين لهذه المدة هو بالضبط 9 سنوات، فسبحان اللّه الذي أحصى كل شيء عددا، و ما أعظم شأن هذا الكتاب الذي لا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلا أحصاها و عدّها عدّا.
ص: 32
أكد القرآن الكريم على حقائق تاريخية لم تكن معروفة في زمن الرسالة بل اكتشفت في وقت متأخر مثل:
أ - إن أهل مصر كانوا يسمون حاكمهم فرعون عند ما يكون مصريا و يسمونه ملكا عند ما يكون من غير مصر، كما كان في زمن سيدنا يوسف عليه السّلام حيث كان حاكم مصر هكسوسيا.
ب - أن الزوج في مصر القديمة كان يسمى سيد و أن الوزير كان يسمى العزيز و هذا واضح في سورة يوسف و أيدته الأبحاث الحديثة.
ج - أن عادا و ثمود ليستا أساطير بل أنهما مذكورتان في تاريخ بطليموس.
د - في قصة ملكة سبأ (بلقيس) مع النبي سليمان عليه السلام التي أوردها القرآن الكريم جاءت القصة لتشمل تفاصيل لم ترد في الكتب السماوية السابقة كقصة تفقد سيدنا سليمان للجيش العرمرم الذي كان يملكه من الحيوان و الجن فضلا عن جنود الإنس، و منها قصة الهدهد و قصة الصافنات الجياد و غيرها: وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَ قالَ يا أَيُّهَا النّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَ حُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ وَ الطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَ قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصّالِحِينَ (19) وَ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20)، (النمل)...
إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصّافِناتُ الْجِيادُ (21)، (ص: 31).
ص: 33
و قد أثبت فريق بحثي عالمي مكون من عالم الآثار ويندول فيليبس و من بعده اخته ميدلين فيليبس مع فريق بحثي متخصص من جامعة كليغاري الكندية من إثبات تفاصيل القصة و تطابق التحريات الآثارية مع مجريات عديدة منها.
أ - انتصار الروم على الفرس بعد أن هزموا أمامهم و حدد لذلك بضع سنين و تحقق النصر مثل ما ذكر في القرآن في سورة الروم بالتحديد بقوله تعالى: الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللّهِ لا يُخْلِفُ اللّهُ وَعْدَهُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) ، (الروم)... نقرأ بعض ما قاله أهل التفسير رحمهم اللّه تعالى في هذه الآية المباركة:
1. في إعجاز القرآن (ج 1 /ص 48) ما نصه: (فأما الفصل الذي بدأنا بذكره من الإخبار عن الغيوب و الصدق و الإصابة في ذلك كله فهو كقوله تعالى قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللّهُ أَجْراً حَسَناً وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16) (الفتح: 16)، فأغزاهم أبو بكر و عمر رضى اللّه عنهما إلى قتال العرب و الفرس و الروم. و كقوله تعالى الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)، و راهن أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه في ذلك و صدق اللّه وعده. و كقوله في قصة أهل بدر وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَ يُرِيدُ اللّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَ يَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7) (الأنفال: 7).. و كقوله تعالى سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)، (القمر: 45).. و كقوله تعالى لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27)، (الفتح: 27)... و كقوله تعالى وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55) (النور: 55)، و صدق اللّه تعالى وعده في ذلك كله.. و قال في قصة المخلفين عنه في غزوته فَإِنْ رَجَعَكَ اللّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83)، (التوبة: 83)، فحق ذلك كله و صدق و لم يخرج من المنافقين الذين خوطبوا بذلك معه أحد).
ص: 34
1. في إعجاز القرآن (ج 1 /ص 48) ما نصه: (فأما الفصل الذي بدأنا بذكره من الإخبار عن الغيوب و الصدق و الإصابة في ذلك كله فهو كقوله تعالى قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللّهُ أَجْراً حَسَناً وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16) (الفتح: 16)، فأغزاهم أبو بكر و عمر رضى اللّه عنهما إلى قتال العرب و الفرس و الروم. و كقوله تعالى الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)، و راهن أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه في ذلك و صدق اللّه وعده. و كقوله في قصة أهل بدر وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَ يُرِيدُ اللّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَ يَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7) (الأنفال: 7).. و كقوله تعالى سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)، (القمر: 45).. و كقوله تعالى لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27)، (الفتح: 27)... و كقوله تعالى وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55) (النور: 55)، و صدق اللّه تعالى وعده في ذلك كله.. و قال في قصة المخلفين عنه في غزوته فَإِنْ رَجَعَكَ اللّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83)، (التوبة: 83)، فحق ذلك كله و صدق و لم يخرج من المنافقين الذين خوطبوا بذلك معه أحد).
2. في مناهل العرفان (ج 2 /ص 268) ما نصه: (و أما غيب المستقبل فنمثل له بأمثلة عشرة، المثال الأول إخبار القرآن عن الروم بأنهم سينتصرون في بضع سنين من إعلان هذا النبأ الذي يقول اللّه فيه الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللّهِ لا يُخْلِفُ اللّهُ وَعْدَهُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6)، (الروم).. و بيان ذلك أن دولة الرومان و هي مسيحية كانت قد انهزمت أمام دولة الفرس و هي وثنية في حروب طاحنة بينهما سنة 614 م فاغتم المسلمون بسبب أنها هزيمة لدولة متدينة أمام دولة وثنية و فرح المشركون و قالوا للمسلمين في شماتة العدو إن الروم يشهدون أنهم أهل كتاب و قد غلبهم المجوس و أنتم تزعمون أنكم ستغلبون بالكتاب الذي أنزل عليكم فسنغلبكم كما غلبت فارس الروم فنزلت الآيات الكريمة يبشر اللّه فيها المسلمين بأن هزيمة الروم هذه سيعقبها انتصار في بضع سنين أي في مدة تتراوح بين ثلاثة سنوات و تسع و لم يك مظنونا وقت هذه البشارة أن الروم تنتصر على الفرس في مثل هذه المدة الوجيزة بل كانت المقدمات و الأسباب تأبى ذلك عليها لأن الحروب الطاحنة أنهكتها حتى غزيت في عقر
ص: 35
دارها كما يدل عليه النص الكريم في أدنى الأرض و لأن دولة الفرس كانت قوية منيعة و زادها الظفر الأخير قوة و منعة حتى إنه بسبب استحالة أن ينتصر الروم عادة أو تقوم لهم قائمة راهن بعض المشركين أبا بكر على تحقق هذه النبوءة و لكن اللّه تعالى أنجز وعده و تحققت نبوءة القرآن سنة 622 م الموافقة للسنة الثانية من الهجرة المحمدية و مما هو جدير بالذكر أن هذه الآية نفسها حملت نبوءة أخرى و هي البشارة بأن المسلمين سيفرحون بنصر عزيز في هذه الوقت الذي ينتصر فيه الروم و يومئذ يفرح المؤمنون بنصر اللّه و لقد صدق اللّه وعده في هذه كما صدقه في تلك و كان ظفر المسلمين في غزوة بدر الكبرى واقعا في الظرف الذي صدر فيه الرومان).
و في هذه الآية المباركة إعجاز من نوع آخر، و هو جيولوجي و طبوغرافي، إذ أن منطقة الأحداث التي وقعت فيها المعركة و هو قريبة من البحر الميت تعتبر أخفض منطقة في العالم عن مستوى سطح البحر كما اكتشف حديثا الأمر الذي أخبر عنه القرآن الكريم بقوله تعالى فِي أَدْنَى الْأَرْضِ.. ، أي أخفضها، فسبحان اللّه.
ب - منذ سنة 300 م إلى أن دخل الإسلام في اليمن - أي بعد هذا التأريخ بما يزيد على الثلاثة قرون و نصف - عرفت الدولة في هذا العهد بالدولة الحميرية الثانية، و في هذا العهد توالت عليها الاضطرابات و الحوادث، و تتابعت الانقلابات و الحروب الأهلية التي جعلتها عرضة للأجانب كالرومان الذين دخلوا عدن، و بمعونتهم دخل الأحباش لأول مرة إلى البلاد عام 340 م، مستغلين التنافس بين قبيلتي همدان و حمير، و استمر احتلالهم حتى عام 378 م، ثم نالت اليمن استقلالها. لكن سد مأرب بدأ بالتصدع حتى وقع السيل العظيم الذي دمر المنطقة بأسرها و شرد أهلها عام 450 م أو 451 م، و هذه الحادثة ذكرها القرآن العظيم في سورة سبأ بقوله تعالى:
فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَ بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَ أَثْلٍ وَ شَيْ ءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16)، (سبأ: 16).
و في سنة 523 م قاد ذو نواس اليهودي حملة على النصارى من أهل نجران، و حاول صرفهم عن النصرانية قسرا، و لما أبوا شق لهم الأخدود العظيم و أضرم النيران فيه و ألقاهم
ص: 36
فيها ظلما و عدوانا، و هذه القصة فصلها القرآن الكريم في سورة خاصة لأهميتها و هي سورة البروج بقوله تعالى: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) اَلنّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَ هُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَ ما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) اَلَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (9).
و إثر ذلك نقم الرومان على ملك اليمن اليهودي و ساعدوا الأحباش على غزوها ثانية فكان لهم ذلك بقيادة أرياط عام 525 م، و استمر حكمه عليها حتى اغتاله أحد قواده أبرهة بن الأشرم عام 549 م، و حكم بدله اليمن بعد أن استرضى ملك الحبشة، و هذا الأشرم نفسه الذي أراد هدم الكعبة لصرف العرب عن قدسيتها، فجيش الجيوش و على رأسها فيل عظيم و سار بالجيش حتى وصل مشارفها، فسلط اللّه تعالى عليه الطير الأبابيل التي قضت عليه و على جيشه الباغي، و هذا العام سمي عام الفيل و هو العام الذي ولد فيه المصطفى صلّى اللّه عليه و سلم. هذه الحادثة ثبتها القرآن الكريم بسورة خاصة لأهميتها أيضا هي سورة الفيل بقوله تعالى(1):
أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَ لَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5).
و هكذا يثبت القرآن الكريم هذه الأحداث التاريخية المتفاوتة و الممتدة من مبعث سيدنا عيسى عليه السلام و حتى الولادة المباركة لسيدنا محمد صلّى اللّه عليه و سلم.
ج - إن الرسول صلّى اللّه عليه و سلم سيدخل مكة منتصرا، و أن اللّه سيظهر دينه كله في آفاق الأرض، و أن الدين سيكتمل و ينتشر(2)... و هذا ما نجده مشخصا بجلاء في الآية المباركة وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُع.
ص: 37
اَلْفاسِقُونَ (55)، (النور: 55)... أي أن اللّه تعالى وعد بأمر لا يخلف و هو أنه يمكن الأمة لتستخلف الأرض و ما فيها من أمم و قرى و ينقلهم من الخوف و الذل إلى الأمن و العز بالنصر، و لكن لمن؟ للذي يطبق شروط النصر و إقامة الدين بكل حيثياته التي ذكرنا، ثم قال و من كفر أي لم يطبق ذلك فإن النتيجة ستكون الهزيمة لكل فاسق أدار ظهره لأوامر ربه. و قوله تعالى كما استخلف الذين من قبلهم مستمرة إلى يوم القيامة فلا يظنن أحد أن الآية تقتصر على من سبقنا من الأمم حسب، بل أن الأمر يتعدى إلى كونه قانونا آخر يتعلق بالأجيال المتلاحقة من هذه الأمة. و كأن اللّه تعالى يقول لنا قد تعهدت لكم بالنصر و تركت لكم مفتاح ذلك، فإن طبقتم الشرع جاءكم النصر و لو بتغيير النواميس الكونية، و إن أبيتم ذلك فلا تلومن إلا أنفسكم.
لندخل في تفاصيل تفسير هذا القانون القرآني المهم في هذه الآية الكريمة التي تحمل البشارات لهذه الأمة:
المثال الخامس تنبأ القرآن بأن المستقبل السعيد ينتظر المسلمين في وقت لم تكن عوامل هذا المستقبل السعيد مواتية ثم إذا تأويل هذا النبأ يأتي على نحو ما أخبر القرآن في أقصر ما يكون من الزمان أجل إننا لنقرأ في سورة الصافات المكية وَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173)، و في سورة غافر المكية أيضا إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51)، و كذلك نقرأ في سورة النور المدينة وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً ، على حين أن سجلات التاريخ لا تزال تحفظ بين طياتها ما يشيب الوليد من ألوان الاضطهاد و الأذى الذي أصاب الرسول صلّى اللّه عليه و سلم و أتباعه في مكة و المدينة على عهد نزول هذه الوعود المؤكدة الكريمة حتى لقد كان أكبر أماني المسلمين بعد هجرتهم و تنفسهم الصعداء قليلا أن يسلم لهم دينهم و يعيشوا آمنين في مهاجرهم كما يدل على ذلك ما صححه الحاكم عن أبي بن كعب قال لما قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و أصحابه المدينة و آوتهم الأنصار
ص: 38
رمتهم العرب عن قوس واحدة و كانوا لا يبيتون إلا بالسلاح و لا يصبحون إلا فيه فقالوا أ ترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا اللّه فنزلت الآية و كذلك روى ابن أبي حاتم. و قال البراء نزلت هذه الآية و نحن في خوف شديد أي قوله تعالى وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ.. ، هكذا كان حال الصحابة أيام أن وعدهم اللّه ما وعد و ما أعجل تحقق هذا الوعد الإلهي رغم هذه الحال المنافية في العادة لما وعد فدالت الدولة لهم و استخلفهم في أقطار الأرض و أورثهم ملك كسرى و قيصر و مكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم و أبدلهم من بعد خوفهم أمنا، يا لها نبوءة تأبى عادة أن يتحدث بها إلا من يملك تحقيقها و من يخرق إن شاء عادات الكون و نواميسه من أجلها إِنْ تَنْصُرُوا اللّهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7)، وَ لَيَنْصُرَنَّ اللّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ .
قوله تعالى.. كَمَا اسْتَخْلَفَ.. ، نعت لمصدر محذوف أي استخلافا كما استخلف قوله تعالى يعبدونني في موضع الحال من ضمير الفاعل في.. لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ.. ، أو من الضمير في ليبدلنهم لا يشركون يجوز أن يكون حالا بدلا من الحال الأولى و أن يكون حالا من الفاعل في يعبدونني أي يعبدونني موحدين.
وعد اللّه الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات خطاب للرسول صلّى اللّه عليه و سلم و للأمة أوله و لمن معه و من للبيان... لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ... ، أي ليجعلنهم خلفاء متصرفين في الأرض تصرف الملوك في مماليكهم و هو جواب قسم مضمر تقديره وعدهم اللّه و أقسم ليستخلفنّهم أو الوعد في تحقيقه منزل منزلة القسم كما استخلف الذين من قبلهم يعني بني إسرائيل استخلفهم في مصر و الشام ببعد الجبابرة و قرأ أبو بكر بضم التاء و كسر اللام و إذا ابتدأ ضم الألف و الباقون بفتحهما و إذا ابتدءوا كسروا الألف و ليمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم و هو الإسلام بالتقوية و التثبيت... وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ.. ،
ص: 39
العداد و قرأ ابن كثير و أبو بكر بالتخفيف.. أَمْناً.. .. و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و أصحابه مكثوا بمكة عشر سنين خائفين ثم هاجروا إلى المدينة و كانوا يصبحون في السلاح و يمسون فيه حتى أنجز اللّه وعده فأظهرهم على العرب كلهم و فتح لهم بلاد الشرق و الغرب، و فيه دليل على صحة النبوة للإخبار عن الغيب على ما هو به و خلافة الخلفاء الراشدين إذ لم يجتمع الوعود و الوعود عليه لغيرهم بالإجماع، و قيل الخوف من العذاب و الأمن منه في الآخرة، يعبدونني حال من الذين لتقيد الوعد بالثبات على التوحيد أو استئناف ببيان المقتضي للاستخلاف و الأمن، لا يشركون بي شيئا حال من الواو أي يعبدونني غير مشركين من كفر و من ارتد أو كفر هذه النعمة بعد ذلك بعد الوعد أو حصول الخلافة فأولئك هم الفاسقون الكاملون في فسقهم حيث ارتدوا بعد وضوح حصول هذه الآيات، أو كفروا تلك النعمة العظيمة. وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ.. ، في سائر ما أمركم به و لا يبعد عطف ذلك على.. أَطِيعُوا اللّهَ.. ، فإن الفاصل وعد على المأمور به فيكون تكرير الأمر بطاعة الرسول صلّى اللّه عليه و سلم لتأكيد و تعليق الرحمة بها أو بالمندرجة هي فيه بقوله لعلكم ترحمون كما علق به الهدى.
... لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ... ، و قوله... كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ... ، يعني بني إسرائيل و إذ أهلك اللّه الجبابرة بمصر و أورثهم أرضهم و ديارهم فقال و أورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض و مغاربها، و هكذا كان الصحابة مستضعفين خائفين ثم إنّ اللّه تعالى أمنهم و مكنهم و ملكهم فصح أن الآية عامة لأمة محمد صلّى اللّه عليه و سلم غير مخصوصة، إذ التخصيص لا يكون إلا بخبر ممن يجب له التسليم و من الأصل المعلوم التمسك بالعموم. و جاء في معنى تبديل خوفهم بالأمن أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لما قال أصحابه أما يأتي علينا يوم نأمن فيه و نضع السلاح فقال عليه السلام (لا تلبثون إلا قليلا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليس عليه حديدة)، و قال صلّى اللّه عليه و سلم (و اللّه ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا اللّه
ص: 40
و الذئب على غنمه و لكنكم تستعجلون)، أخرجه مسلم في صحيحه، فكان كما أخبر صلّى اللّه عليه و سلم فالآية معجزة النبوة لأنها إخبار عما سيكون.. فكان قوله تعالى... لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ... ، فيه قولان أحدهما يعني أرض مكة لأن المهاجرين سألوا اللّه تعالى ذلك فوعدوا كما و عدت بنو إسرائيل، قال معناه النقاش، الثاني بلاد العرب و العجم قال ابن العربي و هو الصحيح، لأن أرض مكة محرمة على المهاجرين كما قال النبي صلّى اللّه عليه و سلم، لكن البائس سعيد بن خولة يرثي له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أن مات بمكة و قال في الصحيح أيضا (يمكث المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا) و اللام في ليستخلفنهم جواب قسم مضمر لأن الوعد قول مجازها، قال اللّه للذين آمنوا و عملوا الصالحات و اللّه ليستخلفنهم في الأرض فيجعلهم ملوكا و سكانها كما استخلف الذين من قبلهم يعني بني إسرائيل أهل الجبابرة بمصر و الشأم و أورثهم أرضهم و ديارهم.. و قراءة العامة كما استخلف بفتح التاء و اللام لقوله وعد و قوله ليستخلفنهم، و قرأ عيسى بن عمرو و أبو بكر و المفضل عن عاصم استخلف بضم التاء و كسر اللام على الفعل المجهول.. وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ.. ، و هو الإسلام كما قال تعالى.. وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً.. .. و روى سليم بن عامر عن المقداد ابن الأسود قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يقول (ما على ظهر الأرض بيت حجر و لا مدر إلا أدخله اللّه كلمة الإسلام بعز عزيز أو ذل ذليل أما بعزهم فيجعلهم من أهلها و أما بذلهم فيدينون بها)، ذكره الماوردي حجة لمن قال إن المراد بالأرض بلاد العرب و العجم و هو القول الثاني على ما تقدم آنفا و ليبدلنهم.. قرأ ابن محيصن و ابن كثير و يعقوب و أبو بكر بالتخفيف من أبدل و هي قراءة الحسن و اختيار أبي حاتم الباقون بالتشديد من بدل و هي اختيار أبي عبيد لأنها أكثر ما في القرآن الكريم.
يقول تعالى مخبرا عما حتمه و قضاه لعباده الصالحين من السعادة في الدنيا و الآخرة و وراثة الأرض في الدنيا و الآخرة كقوله تعالى إِنَّ الْأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ، و قال إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ
ص: 41
اَلدُّنْيا وَ يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51)، و قال وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ.. ، و أخبر تعالى أن هذا مسطور في الكتب الشرعية و القدرية و هو كائن لا محالة و لهذا قال تعالى و لقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر. قال الأعمش سألت سعيد بن جبير عن قوله تعالى وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ.. ، فقال الزبور التوراة و الإنجيل و القرآن، و قال مجاهد الزبور الكتاب، و قال ابن عباس و الشعبي و الحسن و قتادة و غير واحد الزبور الذي أنزل على داود و الذكر التوراة، و عن ابن عباس الزبور القرآن، و قال سعيد بن جبير الذكر الذي في السماء، و قال مجاهد الزبور الكتب بعد الذكر و الذكر أم الكتاب عند اللّه، و اختار ذلك ابن جرير رحمه اللّه، و كذا قال زيد بن أسلم هو الكتاب الأول، و قال الثوري هو اللوح المحفوظ، و قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم الزبور الكتب التي أنزلت على الأنبياء و الذكر أم الكتاب الذي يكتب فيه الأشياء قبل ذلك، و قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أخبر اللّه سبحانه و تعالى في التوراة و الزبور و سابق علمه قبل أن تكون السماوات و الأرض أن يورث أمة محمد صلّى اللّه عليه و سلم الأرض و يدخلهم الجنة و هم الصالحون، و قال مجاهد عن ابن عباس أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ ، قال أرض الجنة و كذا قال أبو العالية و مجاهد و سعيد بن جبير و الشعبي و قتادة و السدي و أبو صالح و الربيع بن أنس و الثوري، و قال أبو الدرداء نحن الصالحون، و قال السدي هم المؤمنون و قوله إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106)، أي إن في هذا القرآن الذي أنزلناه على عبدنا محمد صلّى اللّه عليه و سلم لبلاغا لنفعه و كفاية لقوم عابدين و هم الذين عبدوا اللّه بما شرعه و أحبه و رضيه و آثروا طاعة اللّه على طاعة الشيطان و شهوات أنفسهم.. و قوله وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107)، يخبر تعالى أن اللّه جعل محمدا صلّى اللّه عليه و سلم رحمة للعالمين أي أرسله رحمة لهم كلهم فمن قبل هذه الرحمة و شكر هذه النعمة سعد في الدنيا و الآخرة و من ردها و جحدها خسر الدنيا و الآخرة كما قال تعالى أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللّهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَ بِئْسَ الْقَرارُ (29)، و قال تعالى في صفة القرآن قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَ شِفاءٌ وَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَ هُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ ، و قال مسلم في صحيحه 2599 عن أبي هريرة قال قيل يا رسول اللّه ادع على المشركين قال صلّى اللّه عليه و سلم (إني لم أبعث لعانا و إنما بعثت رحمة)، انفرد بإخراجه مسلم، و في الحديث الآخر (إنما أنا رحمة مهداة)، رواه عبد اللّه بن أبي عرابة و غيره عن وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا، و كذا قال البخاري، قال الحافظ ابن عساكر و قد رواه مالك بن سعير بن الخمس عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا ثم ساقه من طريق أبي بكر ابن المقرئ و أبي أحمد الحاكم كلاهما عن بكر بن محمد بن إبراهيم الصوفي.. و عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم (إن اللّه بعثني رحمة مهداة بعثت برفع قوم و خفض آخرين). قال أبو القاسم الطبراني عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال قال أبو جهل حين قدم مكة منصرفه عن خمره يا معشر قريش إن محمدا نزل يثرب و أرسل طلائعه و إنما يريد أن يصيب منكم شيئا فاحذروا أن تمروا طريقه و تقاربوه فإنه كالأسد الضاري إنه حنق عليكم لأنكم نفيتموه نفي القردان عن المناسم و اللّه إن له لسحرة ما رأيته قط و لا أحدا من أصحابه إلا رأيت معهم الشياطين و إنكم قد عرفتم عداوة ابني قيلة يعني الأوس و الخزرج فهو عدو استعان بعدو، فقال له مطعم بن عدي يا أبا الحكم و اللّه ما رأيت أحدا أصدق لسانا و لا أصدق موعدا من أخيكم الذي طردتم و إذ فعلتم الذي فعلتم فكونوا أكف الناس عنه، قال أبو سفيان بن الحارث كونوا أشد ما كنتم عليه إن ابني قيلة إن ظفروا بكم لم يرقبوا فيكم إلاّ و لا ذمة و إن أطعتموني ألجأتموهم خير كنانة أو تخرجوا محمدا من بين ظهرانيهم فيكون وحيدا مطرودا و أما ابنا قيلة، فو اللّه ما هما و أهل دهلك في المذلة إلا سواء و أكفيكم حدهم و قال سأمنح جانبا مني غليظا على ما كان من قرب و بعد رجال الخزرجية أهل ذل إذا ما كان هزل بعد جد، فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فقال (و الذي نفسي بيده لأقتلنهم و لأصلبنهم و لأهدينهم و هم كارهون إني رحمة بعثني اللّه و لا يتوفاني حتى يظهر اللّه دينه لي خمسة أسماء أنا محمد و أحمد و أنا الماحي الذي
ص: 42
يقول تعالى مخبرا عما حتمه و قضاه لعباده الصالحين من السعادة في الدنيا و الآخرة و وراثة الأرض في الدنيا و الآخرة كقوله تعالى إِنَّ الْأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ، و قال إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ
ص: 43
يمحو اللّه بي الكفر و أنا الحاشر الذي يحشر الناس على قومي و أنا العاقب). قال أحمد بن صالح أرجو أن يكون الحديث صحيحا، و قال الإمام أحمد عن عمر بن أبي قرة الكندي قال كان حذيفة بالمدائن فكان يذكر أشياء قالها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فجاء حذيفة إلى سلمان فقال سلمان يا حذيفة إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم خطب فقال (أيما رجل سببته في غضبي أو لعنته لعنة فإنما أنا رجل من ولد آدم أغضب كما تغضبون و إنما بعثني اللّه رحمة للعالمين فاجعلها صلاة عليه يوم القيامة)، و رواه أبو داود 4659 عن أحمد بن يونس عن زائدة فإن قيل فأي رحمة حصلت لمن كفر به فالجواب ما رواه أبو جعفر بن جرير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107)، قال من آمن باللّه و اليوم الآخر كتب له الرحمة في الدنيا و الآخرة، و من لم يؤمن باللّه و رسوله عوفي مما أصاب الأمم من الخسف و القذف. و هكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث المسعودي عن أبي سعد و هو سعيد بن المرزبان البقال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فذكره بنحوه و اللّه أعلم. و قد رواه أبو القاسم الطبراني عن عبدان بن أحمد عن عيسى بن يونس الرملي عن أيوب بن سويد عن المسعودي عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107)، قال من تبعه كان له رحمة في الدنيا و الآخرة و من لم يتبعه عوفي مما كان يبتلى به سائر الأمم من الخسف و المسخ و القذف.
إن هذه الآية العظيمة لوحدها تنبأ عن الأحداث بعد بعثة النبي صلّى اللّه عليه و سلم إلى قيام الساعة، إذ أن اللّه جازى بني إسرائيل عند ما كانوا مؤمنين على إيمانهم و صبرهم بأن أعطاهم أرض فلسطين و أورثهم إياها و عند ما كفروا أرسل عليهم من يسومهم سوء العذاب و انتزع منهم شرف حمل الرسالة و أعطاها لبني إسماعيل، جد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و هم العرب فوعدهم اللّه في هذه الآية أن يستخلفهم الأرض فيملكوها من مشارقها إلى مغاربها ما أن تمسكوا بدين اللّه و كتابه و سنة رسوله صلّى اللّه عليه و سلم، و هذا ما حصل فعلا ففي سنين قليلة ملك المسلمون العالم القديم كله من شرقه إلى غربه و العالم القديم هو القارات الرئيسية الثلاث «أوربا و آسيا و إفريقيا»، ثم بعد ذلك عند ما ترك المسلمون كتاب اللّه وراء
ص: 44
ظهورهم نزع عنهم هذا الشرف و تمكن الأعداء منهم فاحتلوا أرضهم و أذلوهم و سلبوا ديارهم و شرفهم. إذن، ما من حل لكل ما نمر به إلا بالعودة إلى اللّه لأن الوعد في الآية الكريمة مستمر غير منقطع لقوله تعالى.. يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً.. أي ما أن قاموا بهذا العمل و أخلصوا به فإن الوعد سيتحقق و هل من وعد أصدق من وعد اللّه؟، فهل نحن عائدون إلى اللّه لنحظى بنصره و إنجاز وعده؟، أم إننا استحببنا العمى على الهدى و عبدنا أهواءنا و ملذاتنا و شهواتنا و تركنا اللّه و كتابه و سنة رسوله وراء ظهورنا و بذلك فقد أخلينا بالشرط الذي أشترطه اللّه علينا فكيف نرجو منه سبحانه أن يفي بوعده لنا و نحن من أخلف العهد معه؟.
و يعضد هذا الوعد ما جاء في آيات عديدة أخرى تأتي في نفس السياق، منها قول اللّه تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ يَأْبَى اللّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)، (التوبة).. و يقول أيضا هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً (28)، (الفتح: 28)... و يؤكدها سبحانه ثالثة هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)، (الصف: 9).. و كلمة (ليظهره) اللام سببية، أي ما جاء الإسلام إلا ليظهر و يغلب، و كلمة يظهره أي يجعله ظاهرا فوق الآخرين. أما كلمة الدين فتعني اصطلاحا القانون، أي ليجعل دين و قانون الإسلام ظاهرا على كل القوانين الأخرى، و الدليل من الكتاب قوله تعالى على لسان يوسف عليه السلام... ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ... ، (يوسف: من الآية 76)، فالدين هنا يعني قانون الملك.
و يؤكد هذا الوعد قوله تعالى وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ (105)، (الأنبياء: 105).. وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173) ، الصافات.
ص: 45
كما و نجد ذلك واضحا في أحاديث و مواقف كثيرة للنبي صلّى اللّه عليه و سلم منها ما كان إبان حفر الخندق و ما كانت عليه الحالة النفسية للصحابة الأجلاء، و كيف وعدهم النّبي صلّى اللّه عليه و سلم بملك كسرى و قيصر، و قد حصل لاحقا... و في الحديث نجد تأكيدا و تفصيلا لهذا القانون المهم، إذ ينقل الإمام أحمد في مسنده (مسند الكوفيين 17680) عن النّعمان بن بشير قال كنّا قعودا في المسجد مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و كان بشير رجلا يكفّ حديثه فجاء أبو ثعلبة الخشنيّ فقال يا بشير بن سعد أتحفظ حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في الأمراء فقال حذيفة أنا أحفظ خطبته فجلس أبو ثعلبة فقال حذيفة قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم (تكون النّبوّة فيكم ما شاء اللّه أن تكون ثمّ يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثمّ تكون خلافة على منهاج النّبوّة فتكون ما شاء اللّه أن تكون ثمّ يرفعها إذا شاء اللّه أن يرفعها ثمّ تكون ملكا عاضّا فيكون ما شاء اللّه أن يكون ثمّ يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثمّ تكون ملكا جبريّة فتكون ما شاء اللّه أن تكون ثمّ يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثمّ تكون خلافة على منهاج النّبوّة)، ثمّ سكت... و قد حصلت جميع تلك المراحل باستثناء الأخيرة، فالنبوة، ثم خلافة على منهجها في عهد الخلفاء الراشدين، ثم ملكا عاضا أي كالثمرة التي عضت فهي ناقصة كما حصل في عهد الخلافة الأموية و العباسية و العثمانية فهي كانت ترمز للدولة الإسلامية التي تطبق الشرع لكن بخلل جوهري و هو الخلافة الوراثية التي يرفضها الشرع الحنيف الآمر بمبدإ الشورى، ثم جاء الملك الجبري و هو ما تبع سقوط الدولة العثمانية من نظام ملكي و جمهوري دكتاتوري جبري قمعي في الدول الإسلامية و هو ما شهدناه و نشهده اليوم، فلم يبق إذن سوى العودة إلى الخلافة على منهج النبوة و هو الذي سيكون بإذنه تعالى.
أخرج الطبراني و أبو نعيم في الحلية و كذا في كنز العمال (77/1) و الحاكم عن أبي ثعلبة الخشني قال: قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم من غزاة له، فدخل المسجد فصلى فيه ركعتين و كان يعجبه إذا قدم من سفر أن يدخل المسجد فيصلي فيه ركعتين يثنّي بفاطمة ثم أزواجه. فقدم من سفره مرة فأتى فاطمة رضي اللّه عنها، فبدأ بها قبل أزواجه، فاستقبلته على باب البيت فجعلت تقبل وجهه و عينيه و تبكي، فقال لها رسول اللّه
ص: 46
صلّى اللّه عليه و سلم: (ما يبكيك؟)، قالت أراك يا رسول اللّه، قد شحب لونك، و اخلولقت ثيابك، فقال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم (يا فاطمة لا تبك فإن اللّه بعث أباك بالحق بأمر لا يبقي على ظهر الأرض بيت وبر و لا مدر و لا شعر إلا أدخله اللّه به عزا أو ذلا حتى يبلغ حيث يبلغ الليل).. و كذا ما ذكرناه في موضع سابق من حديث المقداد بن الأسود في قوله صلّى اللّه عليه و سلم (ما على ظهر الأرض بيت حجر و لا مدر إلا أدخله اللّه كلمة الإسلام بعز عزيز أو ذل ذليل أما بعزهم فيجعلهم من أهلها و أما بذلهم فيدينون بها).
و يعضده الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسند الشاميين عن تميم الداري (16344) قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يقول (ليبلغنّ هذا الأمر ما بلغ اللّيل و النّهار و لا يترك اللّه بيت مدر و لا وبر إلاّ أدخله اللّه هذا الدّين بعزّ عزيز أو بذلّ ذليل عزّا يعزّ اللّه به الإسلام و ذلاّ يذلّ اللّه به الكفر)، و كان تميم الدّاريّ يقول قد عرفت ذلك في أهل بيتي لقد أصاب من أسلم منهم الخير و الشّرف و العزّ و لقد أصاب من كان منهم كافرا الذّلّ و الصّغار و الجزية...
د - تحدى القرآن الكريم و منذ بداية الدعوة أن يكون لأبي لهب أمل في الهداية، بل أعطاه استحقاقه مع زوجته و هو الخلود في النار. و قد كانا يستطيعان إثبات عكس ذلك و لو من باب الجدال و التحدي فقط، و ليثبتا للناس بطلان هذا الادعاء، و لكن أي شيء من هذا القبيل لم يحدث و صدق اللّه و رسوله: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَ ما كَسَبَ (2) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) وَ امْرَأَتُهُ حَمّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)، (المسد).
الدكتور ملير، هذا القس الذي أراد قراءة القرآن كي يؤلف كتابا يستهزئ به، فإذا به لا يصدق ما يقرأ فتعلق قلبه بهذا الكتاب، فأعلن إسلامه، و ألف كتبا عن عظمة هذا الكتاب و هذا الدين و نشرها عبر الشبكة العالمية الإنترنت. كانت من بين الأمور التي جلبت انتباهه هذا الموضوع الذي يقول عنه: (عجبت لأمر أبي لهب هذا و غباءه، كان بإمكانه أن ينسف الإسلام في مهده، فيعلن إسلامه و لو كذبا ليبين للناس كذب محمد -
ص: 47
حاشاه صلّى اللّه عليه و سلم - و لكنه لم يفعل رغم أن الآية نزلت في بداية الدعوة الإسلامية و مات هو بعد موت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم).
إلى اللقاء مع الكتاب القادم و السلام عليكم و رحمة اللّه تعالى و بركاته.
ص: 48
الملحق (1): قصة نوح عليه السّلام الملحق (2): قصة لوط عليه السّلام الملحق (3): قصة موسى عليه السّلام
ص: 49
ص: 50
*الملحق (1) قصة نوح عليه السلام(1)
هو: نوح بن لامك بن متوشلخ بن خنوخ، و هو إدريس، بن يرد بن مهلائيل بن قينن ابن أنوش بن شيث بن آدم أبي البشر عليه السلام، كان مولده بعد وفاة آدم بمائة سنة و ست و عشرين سنة، فيما ذكره ابن جرير و غيره، و على تاريخ أهل الكتاب المتقدم يكون بين مولد نوح و موت آدم مائة و ست و أربعون سنة، و كان بينهما عشرة قرون، كما قال الحافظ أبو حاتم بن حبان في صحيحه حدثنا محمد بن عمر بن يوسف، حدثنا محمد بن عبد الملك بن زنجويه، حدثنا أبو توبة، حدثنا معاوية بن سلام، عن أخيه زيد بن سلام، سمعت أبا سلام سمعت أبا أمامة، أن رجلا قال: يا رسول اللّه، أ نبي كان آدم؟ قال: (نعم مكلم)، قال: فكم كان بينه و بين نوح؟ قال: (عشرة قرون).
قلت: و هذا على شرط مسلم و لم يخرجه.
و في صحيح البخاري عن ابن عباس قال: كان بين آدم و نوح عشرة قرون كلهم على الإسلام. فإن كان المراد بالقرن مائة سنة كما هو المتبادر عند كثير من الناس فبينهما ألف سنة لا محالة، لكن لا ينفي أن يكون أكثر، باعتبار ما قيد به ابن عباس بالإسلام، إذ قد يكون بينهما قرون أخرى متأخرة لم يكونوا على الإسلام، لكن حديث أبي أمامة يدل على الحصر في عشرة قرون، و زادنا ابن عباس: أنهم كلهم كانوا على الإسلام، و هذا يرد قول من زعم من أهل التواريخ و غيرهم من أهل الكتاب أن قابيل و بنيه عبدوا النار، و اللّه أعلم.
و إن كان المراد بالقرن الجيل من الناس كما في قوله تعالى: وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَ كَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17)، (الإسراء: 17)،
ص: 51
و قوله: ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42)، و قال تعالى: وَ قُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً ، و قال: وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ ، و كقوله عليه السلام: (خير القرون قرني) الحديث. فقد كان الجيل قبل نوح يعمرون الدهور الطويلة. فعلى هذا يكون بين آدم و نوح ألوف من السنين، و اللّه أعلم.
و بالجملة: فنوح عليه السّلام إنما بعثه اللّه تعالى لما عبدت الأصنام و الطواغيت، و شرع الناس في الضلالة و الكفر، فبعثه اللّه رحمة للعباد، فكان أول رسول بعث إلى أهل الأرض كما يقول له أهل الموقف يوم القيامة، و كان قومه يقال لهم: بنو راسب، فيما ذكره ابن جبير و غيره.
و اختلفوا في مقدار سنه يوم بعث، فقيل: كان ابن خمسين سنة، و قيل: ابن ثلاثمائة و خمسين سنة، و قيل: ابن أربعمائة و ثمانين سنة، حكاها ابن جرير، و عزا الثالثة منها إلى ابن عباس.
و قد ذكر اللّه قصته، و ما كان من قومه، و ما أنزل بمن كفر به من العذاب بالطوفان، و كيف أنجاه و أصحاب السفينة، في غير ما موضع من كتابه العزيز، ففي الأعراف و يونس و هود و الأنبياء و المؤمنون و الشعراء و العنكبوت و الصافات و اقتربت و أنزل فيه سورة كاملة، فقال في سورة الأعراف: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ أَنْصَحُ لَكُمْ وَ أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (62) أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَ لِتَتَّقُوا وَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَ الَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَ أَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64).
و قال تعالى في سورة يونس: وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَ تَذْكِيرِي بِآياتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَ شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ
ص: 52
أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَ لا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَى اللّهِ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَ جَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَ أَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73).
و قال تعالى في سورة هود: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاّ بَشَراً مِثْلَنا وَ ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَ ما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27) قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ آتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَ نُلْزِمُكُمُوها وَ أَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28) وَ يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاّ عَلَى اللّهِ وَ ما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) وَ يا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (30) وَ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللّهِ وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَ لا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَ لا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْراً اللّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظّالِمِينَ (31) قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ (32) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللّهُ إِنْ شاءَ وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَ لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَ أَنَا بَرِيءٌ مِمّا تُجْرِمُونَ (35) وَ أُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَ وَحْيِنا وَ لا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَ يَصْنَعُ الْفُلْكَ وَ كُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنّا فَإِنّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39) حَتّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَ فارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ إِلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَ مَنْ آمَنَ وَ ما آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَلِيلٌ (40) وَ قالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللّهِ مَجْراها وَ مُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَ هِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَ نادى نُوحٌ ابْنَهُ وَ كانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَ لا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاّ مَنْ رَحِمَ وَ حالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي وَ غِيضَ الْماءُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظّالِمِينَ (44) وَ نادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَ إِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَ أَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَ إِلاّ تَغْفِرْ لِي وَ تَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنّا وَ بَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَ عَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49).
ص: 53
و قال تعالى في سورة هود: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاّ بَشَراً مِثْلَنا وَ ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَ ما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27) قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ آتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَ نُلْزِمُكُمُوها وَ أَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28) وَ يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاّ عَلَى اللّهِ وَ ما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) وَ يا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (30) وَ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللّهِ وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَ لا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَ لا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْراً اللّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظّالِمِينَ (31) قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ (32) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللّهُ إِنْ شاءَ وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَ لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَ أَنَا بَرِيءٌ مِمّا تُجْرِمُونَ (35) وَ أُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَ وَحْيِنا وَ لا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَ يَصْنَعُ الْفُلْكَ وَ كُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنّا فَإِنّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39) حَتّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَ فارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ إِلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَ مَنْ آمَنَ وَ ما آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَلِيلٌ (40) وَ قالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللّهِ مَجْراها وَ مُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَ هِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَ نادى نُوحٌ ابْنَهُ وَ كانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَ لا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاّ مَنْ رَحِمَ وَ حالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي وَ غِيضَ الْماءُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظّالِمِينَ (44) وَ نادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَ إِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَ أَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَ إِلاّ تَغْفِرْ لِي وَ تَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنّا وَ بَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَ عَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49).
و أما مضمون ما جرى له مع قومه، مأخوذا من الكتاب و السنة و الآثار، فقد قدمنا عن ابن عباس أنه كان بين آدم و نوح عشرة قرون كلهم على الإسلام رواه البخارى.
و ذكرنا أن المراد بالقرن الجيل، أو المدة، على ما سلف. ثم بعد تلك القرون الصالحة حدثت أمور اقتضت أن آل الحال بأهل ذلك الزمان إلى عبادة الأصنام، و كان سبب ذلك ما رواه البخاري من حديث ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس عند تفسير قوله تعالى: وَ قالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَ لا تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لا سُواعاً وَ لا يَغُوثَ وَ يَعُوقَ وَ نَسْراً (23). قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التى كانوا يجلسون فيها أنصابا، و سموها بأسمائهم ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك و نسخ العلم عبدت.
قال ابن عباس: و صارت هذه الأوثان التى كانت في قوم نوح في العرب بعد، و هكذا قال عكرمة و الضحاك و قتادة و محمد بن إسحاق.
و قال ابن جرير في تفسيره: حدثنا ابن حميد، حدثنا مهران، عن سفيان، عن
ص: 54
موسى، عن محمد بن قيس، قال: كانوا قوما صالحين بين آدم و نوح، و كان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا، قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم، فلما ماتوا و جاء آخرون دب إليهم إبليس، فقال:
إنما كانوا يعبدونهم، و بهم يسقون المطر فعبدوهم. و روى ابن أبي حاتم، عن عروة بن الزبير، أنه قال: ود و يغوث و يعوق و سواع و نسر أولاد آدم، و كان ود أكبرهم و أبرهم به.
و قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن منصور، حدثنا الحسن بن موسى، حدثنا يعقوب، عن أبي المطهر، قال: ذكروا عند أبي جعفر، و هو الباقر، و هو قائم يصلى بزيد ابن المهلب، قال: فلما انفتل من صلاته، قال: ذكرتم يزيد بن المهلب، أما إنه قتل في أول أرض عبد فيها غير اللّه. قال: ذكر ودا رجلا صالحا و كان محببا في قومه، فلما مات عكفوا حول قبره في أرض بابل، و جزعوا عليه، فلما رأى إبليس جزعهم عليه تشبه في صورة إنسان، ثم قال: إني أرى جزعكم على هذا الرجل، فهل لكم أن أصور لكم مثله فيكون في ناديكم فتذكرونه؟ قالوا: نعم، فصور لهم مثله، قال: و وضعوه في ناديهم و جعلوا يذكرونه، فلما رأى ما بهم من ذكره، قال: هل لكم أن أجعل في منزل كل واحد منكم تمثالا مثله ليكون له في بيته فتذكرونه؟ قالوا: نعم، قال: فمثل لكل أهل بيت تمثالا مثله، فأقبلوا فجعلوا يذكرونه به، قال: و أدرك أبناؤهم، فجعلوا يرون ما يصنعون به، قال: و تناسلوا و درس أثر ذكرهم إياه، حتى اتخذوه إلها يعبدونه من دون اللّه أولاد أولادهم، فكان أول ما عبد غير اللّه ودا، الصنم الذى سموه ودا.
و مقتضى هذا السياق: أن كل صنم من هذه عبده طائفة من الناس، و قد ذكر أنه لما تطاولت العهود و الأزمان جعلوا تلك الصور تماثيل مجسدة، ليكون أثبت لهم، ثم عبدت بعد ذلك من دون اللّه عزّ و جلّ، و لهم في عبادتها مسالك كثيرة جدا.
و قد ثبت في الصحيحين عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: أنه لما ذكرت عنده أم سلمة و أم حبيبة تلك الكنيسة التي رأينها بأرض الحبشة، يقال لها: مارية، فذكرتا من حسنها و تصاوير فيها، قال: (أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا، ثم صوروا فيه تلك الصورة، أولئك شرار الخلق عند اللّه عز و جل).
ص: 55
أن الفساد لما انتشر في الأرض و عم البلاء بعبادة الأصنام فيها، بعث اللّه عبده و رسوله نوحا عليه السلام، يدعو إلى عبادة اللّه وحده لا شريك له، و ينهى عن عبادة ما سواه، فكان أول رسول بعثه اللّه إلى أهل الأرض، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي حيان، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم في حديث الشفاعة، قال: (فيأتون آدم فيقولون: يا آدم، أنت أبو البشر، خلقك اللّه بيده، و نفخ فيك من روحه، و أمر الملائكة فسجدوا لك، و أسكنك الجنة، أ لا تشفع لنا إلى ربك، أ لا ترى ما نحن فيه و ما بلغنا؟ فيقول: ربي قد غضب غضبا شديدا لم يغضب قبله مثله، و لا يغضب بعده مثله، و نهاني عن الشجرة فعصيت، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيرى، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحا فيقولون: يا نوح، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، و سماك اللّه عبدا شكورا، أ لا ترى إلى ما نحن فيه، أ لا ترى إلى ما بلغنا، أ لا تشفع لنا إلى ربك عز و جل؟ فيقول: ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، و لا يغضب بعده مثله، نفسي نفسي)، و ذكر تمام الحديث بطوله كما أورده البخاري في قصة نوح.
فلما بعث اللّه نوحا عليه السلام دعاهم إلى إفراد العبادة للّه وحده لا شريك له، و أن لا يعبدوا معه صنما و لا تمثالا و لا طاغوتا، و أن يعترفوا بوحدانيته، و أنه لا إله غيره و لا رب سواه، كما أمر اللّه تعالى من بعده من الرسل الذين هم كلهم من ذريته، كما قال تعالى:
وَ جَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77)، و قال فيه و في إبراهيم: وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَ الْكِتابَ أي كل نبي من بعد نوح فمن ذريته، و كذلك إبراهيم قال اللّه تعالى: وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَ اجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ ، و قال تعالى: وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَ جَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45).
و قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)، و لهذا قال نوح لقومه: اُعْبُدُوا اللّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)، و قال: أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26)، و قال: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ (65)، و قال تعالى في سورة نوح: قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَ اتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَ نَهاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاّ فِراراً (6) وَ إِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَ اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَ أَصَرُّوا وَ اسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنّاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلّهِ وَقاراً (13) وَ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14).. فذكر أنه دعاهم إلى اللّه بأنواع الدعوة في الليل و النهار و السر و الإجهار، بالترغيب تارة و الترهيب أخرى، و كل هذا فلم ينجح فيهم، بل استمر أكثرهم على الضلالة و الطغيان و عبادة الأصنام و الأوثان، و نصبوا له العداوة في كل وقت و أوان، و تنقصوه، و تنقصوا من آمن به، و توعدوهم بالرجم و الاخراج و نالوا منهم و بالغوا في أمرهم: قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ ، أي السادة الكبراء منهم، إِنّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61)، أي لست كما تزعمون من إني ضال، بل على الهدى المستقيم، رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ، أي الذى يقول للشيء كن فيكون، أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ أَنْصَحُ لَكُمْ وَ أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (62)، و هذا شأن الرسول أن يكون بليغا أي فصيحا ناصحا أعلم الناس باللّه عز و جل، و قالوا له فيما قالوا: ما نَراكَ إِلاّ بَشَراً مِثْلَنا وَ ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَ ما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27)، تعجبوا أن يكون بشرا رسولا و تنقصوا بمن اتبعه و رأوهم أراذلهم.
ص: 56
و قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)، و لهذا قال نوح لقومه: اُعْبُدُوا اللّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)، و قال: أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26)، و قال: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ (65)، و قال تعالى في سورة نوح: قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَ اتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَ نَهاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاّ فِراراً (6) وَ إِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَ اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَ أَصَرُّوا وَ اسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنّاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلّهِ وَقاراً (13) وَ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14).. فذكر أنه دعاهم إلى اللّه بأنواع الدعوة في الليل و النهار و السر و الإجهار، بالترغيب تارة و الترهيب أخرى، و كل هذا فلم ينجح فيهم، بل استمر أكثرهم على الضلالة و الطغيان و عبادة الأصنام و الأوثان، و نصبوا له العداوة في كل وقت و أوان، و تنقصوه، و تنقصوا من آمن به، و توعدوهم بالرجم و الاخراج و نالوا منهم و بالغوا في أمرهم: قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ ، أي السادة الكبراء منهم، إِنّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61)، أي لست كما تزعمون من إني ضال، بل على الهدى المستقيم، رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ، أي الذى يقول للشيء كن فيكون، أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ أَنْصَحُ لَكُمْ وَ أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (62)، و هذا شأن الرسول أن يكون بليغا أي فصيحا ناصحا أعلم الناس باللّه عز و جل، و قالوا له فيما قالوا: ما نَراكَ إِلاّ بَشَراً مِثْلَنا وَ ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَ ما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27)، تعجبوا أن يكون بشرا رسولا و تنقصوا بمن اتبعه و رأوهم أراذلهم.
و قد قيل: أنهم كانوا من أقياد الناس و هم ضعفاؤهم، كما قال هرقل، و هم أتباع الرسل، و ما ذاك إلا لأنه لا مانع لهم من اتباع الحق، و قولهم: بادِيَ الرَّأْيِ ، أي بمجرد ما دعوتهم استجابوا لك من غير نظر و لا روية، و هذا الذى رموهم به هو عين ما
ص: 57
يمدحون بسببه، رضى اللّه عنهم، فإن الحق الظاهر لا يحتاج إلى روية و لا فكر و لا نظر، بل يجب اتباعه و الانقياد له متى ظهر، و لهذا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم مادحا للصديق: (ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت له كبوة، غير أبي بكر فإنه لم يتلعثم)، و لهذا كانت بيعته يوم السقيفة أيضا سريعة من غير نظر و لا روية، لأن أفضليته على من عداه ظاهرة جلية عند الصحابة، رضى اللّه عنهم، و لهذا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لما أراد أن يكتب الكتاب الذى أراد أن ينص فيه على خلافته، فتركه و قال: (يأبى اللّه و المؤمنون إلا أبا بكر (رضى اللّه عنه).
و قول كفرة قوم نوح له و لمن آمن به: وَ ما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ ، أي لم يظهر لكم أمر بعد اتصافكم بالإيمان و لا مزية علينا فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاّ بَشَراً مِثْلَنا وَ ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَ ما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27)، (هود: 27)، قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ آتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَ نُلْزِمُكُمُوها وَ أَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28)، و هذا تلطف في الخطاب معهم، و ترفق بهم في الدعوة إلى الحق، كما قال تعالى: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44).
و قال تعالى: اُدْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، و هذا منه يقول لهم: أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ آتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ أي النبوة و الرسالة، فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ ، أي فلم تفهموها و لم تهتدوا إليها، أَ نُلْزِمُكُمُوها أي أ نغصبكم بها و نجبركم عليها وَ أَنْتُمْ لَها كارِهُونَ ، أي ليس لى فيكم حيلة و الحالة هذه وَ يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاّ عَلَى اللّهِ أي لست أريد منكم أجرة على إبلاغي إياكم ما ينفعكم في دنياكم و أخراكم إن أطلب ذلك إلا من اللّه الذى ثوابه خير لي و ابقى مما تعطونني أنتم، و قوله: وَ ما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29)، كأنهم طلبوا منه أن يبعد هؤلاء عنه، و وعدوه أن يجتمعوا به إذا هو فعل ذلك، فأبى عليهم ذلك، و قال: إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ أي فأخاف إن طردتهم أن يشكوني إلى اللّه عز و جل، و لهذا قال:
ص: 58
و قال تعالى: اُدْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، و هذا منه يقول لهم: أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ آتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ أي النبوة و الرسالة، فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ ، أي فلم تفهموها و لم تهتدوا إليها، أَ نُلْزِمُكُمُوها أي أ نغصبكم بها و نجبركم عليها وَ أَنْتُمْ لَها كارِهُونَ ، أي ليس لى فيكم حيلة و الحالة هذه وَ يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاّ عَلَى اللّهِ أي لست أريد منكم أجرة على إبلاغي إياكم ما ينفعكم في دنياكم و أخراكم إن أطلب ذلك إلا من اللّه الذى ثوابه خير لي و ابقى مما تعطونني أنتم، و قوله: وَ ما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29)، كأنهم طلبوا منه أن يبعد هؤلاء عنه، و وعدوه أن يجتمعوا به إذا هو فعل ذلك، فأبى عليهم ذلك، و قال: إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ أي فأخاف إن طردتهم أن يشكوني إلى اللّه عز و جل، و لهذا قال:
وَ يا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (30) و لهذا لما سأل كفار قريش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: أن يطرد عنه ضعفاء المؤمنين كعمار و صهيب و بلال و خباب و أشباههم نهاه اللّه عن ذلك، كما بيناه في سورتى الأنعام و الكهف: وَ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللّهِ وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَ لا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ ، أي بل أنا عبد رسول لا أعلم من علم اللّه إلا ما أعلمني به، و لا أقدر إلا على ما أقدرني عليه، و لا أملك لنفسي نفعا و لا ضرا إلا ما شاء اللّه وَ لا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ يعني من أتباعه لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْراً اللّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظّالِمِينَ (31)، أي لا أشهد عليهم بأنهم لا خير لهم عند اللّه يوم القيامة، اللّه أعلم بهم، و سيجازيهم على ما في نفوسهم، إن خيرا فخير و إن شرا فشر، كما قالوا في الموضع الآخر: قالُوا أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ اتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قالَ وَ ما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَ ما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلاّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (115).
و قد تطاول الزمان و المجادلة بينه و بينهم، كما قال تعالى: فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَ هُمْ ظالِمُونَ (14)، أي و مع هذه المدة الطويلة فما آمن به إلا القليل منهم و كان كل ما انقرض جيل وصوا من بعدهم بعدم الإيمان به و محاربته و مخالفته، و كان الوالد إذا بلغ ولده و عقل عنه كلامه وصاه فيما بينه و بينه أن لا يؤمن بنوح أبدا ما عاش، و دائما ما بقى، و كانت سجاياهم تأبى الإيمان و اتباع الحق، و لهذا قال: وَ لا يَلِدُوا إِلاّ فاجِراً كَفّاراً (27)، و لهذا قالوا: قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ (32) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللّهُ إِنْ شاءَ وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33)، أي إنما يقدر على ذلك اللّه عز و جل، فإنه الذى لا يعجزه شىء، و لا يكترثه أمر، بل هو الذى يقول للشيء كن فيكون وَ لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)، أي من يرد اللّه فتنته فلن يملك أحد هدايته، هو الذى يهدي من
ص: 59
يشاء، و يضل من يشاء، و هو الفعال لما يريد، و هو العزيز الحكيم العليم بمن يستحق الهداية و من يستحق الغواية، و له الحكمة البالغة و الحجة الدامغة وَ أُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاّ مَنْ قَدْ آمَنَ ، تسلية له عما كان منهم إليه فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ ، و هذه تعزية لنوح عليه السلام في قومه أنه لن يؤمن منهم إلا من قد آمن، أي لا يسوءنك ما جرى، فإن النصر قريب و النبأ عجيب وَ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَ وَحْيِنا وَ لا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)، و ذلك أن نوحا عليه السلام لما يئس من صلاحهم و فلاحهم و رأى أنهم لا خير فيهم، و توصلوا إلى أذيته و مخالفته و تكذيبه بكل طريق من فعال و مقال، دعا عليهم دعوة غضب، فلبى اللّه دعوته، و أجاب طلبته.
قال اللّه تعالى: وَ لَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَ نَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)، و قال تعالى: وَ نُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)، و قال تعالى: قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ فَتْحاً وَ نَجِّنِي وَ مَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118)، و قال تعالى: فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10)، و قال تعالى: قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26)، و قال تعالى: مِمّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ أَنْصاراً (25) وَ قالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَ لا يَلِدُوا إِلاّ فاجِراً كَفّاراً (27)، فاجتمع عليهم خطاياهم من كفرهم و فجورهم و دعوة نبيهم عليهم، فعند ذلك أمره اللّه تعالى أن يصنع الفلك، و هي السفينة العظيمة التي لم يكن لها نظير قبلها، و لا يكون بعدها مثلها، و قدم اللّه تعالى إليه أنه إذا جاء أمره، و حل بهم بأسه الذى لا يرد عن القوم المجرمين أنه لا يعاوده فيهم و لا يراجعه، فإنه لعله قد تدركه رقة على قومه عند معاينة العذاب النازل بهم، فإنه ليس الخبر كالمعاينة، و لهذا قال: وَ لا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَ يَصْنَعُ الْفُلْكَ وَ كُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ.. ، (هود). أي يستهزءون به استبعادا
ص: 60
لوقوع ما توعدهم به، قال: إِنْ تَسْخَرُوا مِنّا فَإِنّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38)، أي نحن الذين نسخر منكم، و نتعجب منكم، في استمراركم على كفركم و عنادكم، الذى يقتضى وقوع العذاب بكم، و حلوله عليكم فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39)، و قد كانت سجاياهم الكفر الغليظ و العناد البالغ في الدنيا.
و هكذا في الآخرة فإنهم يجحدون أيضا أن يكون جاءهم رسول، كما قال البخاري:
حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: (يجيء نوح عليه السلام و أمته، فيقول اللّه عزّ و جلّ: هل بلغت؟ فيقول: نعم أي رب، فيقول لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: لا، ما جاءنا من نبي، فيقول لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد و أمته فتشهد أنه قد بلغ). و هو قوله: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ، و الوسط العدل.
فهذه الأمة تشهد على شهادة نبيها الصادق المصدوق بأن اللّه قد بعث نوحا بالحق، و أنزل عليه الحق، و أمره به، و أنه بلغه إلى أمته على أكمل الوجوه و أتمها، و لم يدع شيئا مما ينفعهم في دينهم إلا و قد أمرهم به، و لا شيئا مما قد يضرهم، إلا و قد نهاهم عنه و حذرهم منه، و هكذا شأن جميع الرسل، حتى أنه حذر قومه المسيح الدجال، و إن كان لا يتوقع خروجه في زمانهم حذرا عليهم و شفقة و رحمة بهم. كما قال البخاري: حدثنا عبدان، حدثنا عبد اللّه، عن يونس، عن الزهرى، قال سالم: قال ابن عمر: قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في الناس فأثنى على اللّه بما هو أهله، ثم ذكر الدجال، فقال:
(إني لأنذركموه، و ما من نبي إلا و قد أنذره قومه، لقد أنذره نوح قومه، و لكني أقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لقومه: تعلمون أنه أعور و أن اللّه ليس بأعور).
و هذا الحديث في الصحيحين أيضا من حديث شيبان بن عبد الرحمن، عن يحيى ابن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال: (أ لا أحدثكم عن الدجال حديثا ما حدث به نبي قومه إنه أعور، و إنه يجيء معه بمثال
ص: 61
الجنة و النار، و التي يقول عليها الجنة هي النار، و إني أنذركم كما أنذر به نوح قومه)، لفظ البخاري.
و قد قال بعض علماء السلف: لما استجاب اللّه له أمره أن يغرس شجرا ليعمل منه السفينة، فغرسه و انتظره مائة سنة، ثم نجره في مائة أخرى، و قيل: في أربعين سنة، فاللّه أعلم. قال محمد بن إسحاق عن الثوري: و كان من خشب الساج، و قيل: من الصنوبر، و هو نص التوراة. قال الثوري: و أمره أن يجعل طولها ثمانين ذراعا، و عرضها خمسين ذراعا، و أن يطلي ظاهرها و باطنها بالقار، و أن يجعل لها جؤجؤا أزور يشق الماء، و قال قتادة: كان طولها ثلاثمائة ذراع في عرض خمسين ذراعا، و هذا الذي في التوراة على ما رأيته.
و قال الحسن البصري: ستمائة في عرض ثلاثمائة ذراع. و عن ابن عباس: ألف و مائتا ذراع في عرض ستمائة ذراع، و قيل: كان طولها ألفي ذراع و عرضها مائة ذراع، قالوا كلهم: و كان ارتفاعها ثلاثين ذراعا، و كانت ثلاث طبقات، كل واحدة عشر أذرع، فالسفلى للدواب و الوحوش، و الوسطى للناس، و العليا للطيور، و كان بابها في عرضها، و لها غطاء من فوقها مطبق عليها، قال اللّه تعالى في سورة المؤمنون: قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَ وَحْيِنا... ، أي بأمرنا لك، و بمرأى منا لصنعتك لها، و مشاهدتنا لذلك لنرشدك إلى الصواب في صنعتها فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَ فارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ إِلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَ لا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)، فتقدم إليه بأمره العظيم العالي، أنه إذا جاء أمره و حل بأسه أن يحمل في هذه السفينة من كل زوجين اثنين من الحيوانات، و سائر ما فيه روح، و من المأكولات و غيرها لبقاء نسلها، و أن يحمل معه أهله، أي أهل بيته إِلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ ، أي إلا من كان كافرا فإنه قد نفذت فيه الدعوة التي لا ترد و وجب عليه حلول البأس الذي لا يرد، و أمر أنه لا يراجعه فيهم إذا حل بهم ما يعاينه من العذاب العظيم الذي قد حتمه عليهم الفعال لما يريد، كما قدمنا بيانه من قبل.
ص: 62
و المراد بالتنور عند الجمهور: وجه الأرض، أي نبعت الأرض من سائر أرجائها حتى نبعت التنانير التي هي محال النار. و عن ابن عباس: التنور عين في الهند، و عن الشعبي بالكوفة، و عن قتادة بالجزيرة. و قال علي بن أبي طالب: المراد بالتنور: فلق الصبح، و تنوير الفجر، أي إشراقه و ضياؤه. أي عند ذلك فاحمل فيها من كل زوجين اثنين. و هذا قول غريب.
و قوله تعالى: حَتّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَ فارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ إِلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَ مَنْ آمَنَ وَ ما آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَلِيلٌ (40)، هذا أمر بأن عند حلول النقمة بهم أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين، و في كتاب أهل الكتاب أنه أمر أن يحمل من كل ما يؤكل سبعة أزواج، و مما لا يؤكل زوجين ذكرا و أنثى، و هذا مغاير لمفهوم قوله تعالى في كتابنا الحق: اِثْنَيْنِ ، إن جعلنا ذلك مفعولا به، و أما إن جعلناه توكيدا لزوجين و المفعول به محذوف فلا ينافي، و اللّه أعلم.
و ذكر بعضهم و يروى عن ابن عباس: أن أول ما دخل من الطيور الدرة، و آخر ما دخل من الحيوانات الحمار، و دخل إبليس متعلقا بذنب الحمار. و قال ابن أبي حاتم:
حدثنا أبي، حدثنا عبد اللّه بن صالح، حدثني الليث، حدثني هشام بن سعد، عن زيد ابن أسلم، عن أبيه، أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: (لما حمل نوح في السفينة من كل زوجين اثنين، قال أصحابه: و كيف نطمئن، أو كيف تطمئن المواشى و معنا الأسد، فسلط اللّه عليه الحمى، فكانت أول حمى نزلت في الأرض، ثم شكوا الفأرة، فقالوا: الفويسقة تفسد علينا طعامنا و متاعنا، فأوحى اللّه إلى الأسد فعطس، فخرجت الهرة منه، فتخبأت الفأرة منها)، هذا مرسل. و قوله: وَ أَهْلَكَ إِلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ، أي من استجيبت فيهم الدعوة النافذة ممن كفر، فكان منهم ابنه يام الذى غرق، كما سيأتي بيانه، وَ مَنْ آمَنَ أي و احمل فيها من آمن بك من أمتك، قال اللّه تعالى: وَ ما آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَلِيلٌ ، هذا مع طول المدة و المقام بين أظهرهم، و دعوتهم الأكيدة ليلا و نهارا بضروب المقال و فنون التلطفات و التهديد و الوعيد تارة و الترغيب و الوعد أخرى.
ص: 63
و قد اختلف العلماء في عدة من كان معه في السفينة: فعن ابن عباس: كانوا ثمانين نفسا معهم نساؤهم. و عن كعب الأحبار كانوا اثنين و سبعين نفسا، و قيل: كانوا عشرة، و قيل: إنما كانوا نوحا و بنيه الثلاثة، و كنائنه الأربع بامرأة يام الذى انخزل و انعزل و تسلل عن طريق النجاة، فما عدل إذ عدل، و هذا القول فيه مخالفة لظاهر الآية، بل هى نص في أنه قد ركب معه غير أهله طائفة ممن آمن به، كما قال: وَ نَجِّنِي وَ مَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118)، و قيل: كانوا سبعة، و أما امرأة نوح و هي أم أولاده كلهم، و هم: حام، و سام، و يافث، و يام، و تسميه أهل الكتاب كنعان و هو الذي قد غرق و عابر، و قد ماتت قبل الطوفان، قيل: إنها غرقت مع من غرق، و كانت ممن سبق عليه القول لكفرها، و عند أهل الكتاب: أنها كانت في السفينة، فيحتمل أنها كفرت بعد ذلك، أو أنها أنظرت ليوم القيامة، و الظاهر الأول لقوله: لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيّاراً (26).
قال اللّه تعالى في سورة المؤمنون: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَ مَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي نَجّانا مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ (28) وَ قُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَ أَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29)، أمره أن يحمد ربه على ما سخر له من هذه السفينة، فنجاه بها، و فتح بينه و بين قومه، و أقر عينه ممن خالفه و كذبه، كما قال تعالى: وَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَ الْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَ تَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَ ما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَ إِنّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14)، و هكذا يؤمر بالدعاء في ابتداء الأمور أن يكون على الخير و البركة، و أن تكون عاقبتها محمودة، كما قال تعالى لرسوله صلّى اللّه عليه و سلم حين هاجر: وَ قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَ أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَ اجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80)، و قد امتثل نوح عليه السلام هذه الوصية: وَ قالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللّهِ مَجْراها وَ مُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)، أي على اسم اللّه ابتداء سيرها و انتهاؤه إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ، أي و ذو عقاب أليم مع كونه غفورا رحيما، لا يرد بأسه عن القوم المجرمين، كما أحل بأهل الأرض الذين كفروا به و عبدوا غيره.
ص: 64
قال اللّه تعالى: وَ هِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ ، و ذلك أن اللّه تعالى أرسل من السماء مطرا لم تعهده الأرض قبله، و لا تمطره بعده، كان كأفواه القرب، و أمر الأرض فنبعت من جميع فجاجها و سائر أرجائها، كما قال تعالى في سورة القمر:
فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَ فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَ حَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَ دُسُرٍ (13)، و الدسر السائر تَجْرِي بِأَعْيُنِنا ، أي بحفظنا و كلاءتنا، و حراستنا، و مشاهدتنا لها، جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ .
و قد ذكر ابن جرير و غيره: أن الطوفان كان في ثالث عشر من شهر آب في حساب القبط، و قال تعالى: إِنّا لَمّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11)، أي السفينة لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12)، قال جماعة من المفسرين: ارتفع الماء على أعلى جبل بالأرض خمسة عشر ذراعا، و هو الذي عند أهل الكتاب. و قيل: ثمانين ذراعا، و عم جميع الأرض طولها و العرض، سهلها و حزنها و جبالها و قفارها و رمالها، و لم يبق على وجه الأرض ممن كان بها من الأحياء عين تطرف، و لا صغير و لا كبير.
قال الإمام مالك عن زيد بن أسلم: كان أهل ذلك الزمان قد ملئوا السهل و الجبل، و قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لم تكن بقعة في الأرض إلا و لها مالك و حائز، رواهما ابن أبي حاتم. وَ نادى نُوحٌ ابْنَهُ وَ كانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَ لا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاّ مَنْ رَحِمَ وَ حالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)، و هذا الابن هو: يام أخو سام و حام و يافث، و قيل: اسمه كنعان، و كان كافرا عمل عملا غير صالح، فخالف أباه في دينه و مذهبه فهلك مع من هلك، هذا و قد نجا مع أبيه الأجانب في النسب، لما كانوا موافقين في الدين و المذهب وَ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي وَ غِيضَ الْماءُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظّالِمِينَ (44)، أي لما فرغ من أهل الأرض و لم يبق منها أحد ممن عبد غير اللّه عزّ و جلّ، أمر اللّه الأرض
ص: 65
أن تبلع ماءها، و أمر السماء أن تقلع أي تمسك عن المطر وَ غِيضَ الْماءُ ، أي نقص عما كان وَ قُضِيَ الْأَمْرُ ، أي وقع بهم الذي كان قد سبق في علمه و قدره من إحلاله بهم ما حل بهم وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظّالِمِينَ ، أي نودي عليهم بلسان القدرة، بعدا لهم من الرحمة و المغفرة، كما قال تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَ الَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَ أَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64).
و قال تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَ جَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَ أَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)، و قال تعالى: وَ نَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77)، و قال تعالى: فَأَنْجَيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (120) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)، و قال تعالى: فَأَنْجَيْناهُ وَ أَصْحابَ السَّفِينَةِ وَ جَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15)، و قال تعالى:
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66)، و قال: وَ لَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ (16) وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)، و قال تعالى: مِمّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ أَنْصاراً (25) وَ قالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَ لا يَلِدُوا إِلاّ فاجِراً كَفّاراً (27)، و قد استجاب اللّه تعالى، و له الحمد و المنة، دعوته فلم يبق منهم عين تطرف.
و قد روى الإمامان أبو جعفر بن جرير و أبو محمد بن أبي حاتم في تفسيريهما من طريق يعقوب بن محمد الزهرى، عن قائد، مولى عبد اللّه بن أبي رافع، أن إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة أخبره أن عائشة أم المؤمنين أخبرته، أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال:
(فلو رحم اللّه من قوم نوح أحدا لرحم أم الصبي). قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: (مكث نوح عليه السلام في قومه ألف سنة، يعني إلا خمسين عاما، و غرس مائة سنة الشجر فعظمت و ذهبت كل مذهب، ثم قطعها، ثم جعلها سفينة، و يمرون عليه و يسخرون منه، و يقولون: تعمل سفينة في البر، كيف تجري؟ قال: سوف تعلمون، فلما فرغ
ص: 66
و نبع الماء و صار في السكك، خشيت أم الصبي عليه و كانت تحبه حبا شديدا، خرجت به إلى الجبل حتى بلغت ثلثه، فلما بلغها الماء خرجت به حتى استوت على الجبل، فلما بلغ الماء رقبتها رفعته بيديها، فغرقا، فلو رحم اللّه منهم أحدا لرحم أم الصبى).
و هذا حديث غريب، و قد روى عن كعب الأحبار و مجاهد و غير واحد شبيه لهذه القصة، و أحرى بهذا الحديث أن يكونا موقوفا متلقى عن مثل كعب الأحبار، و اللّه أعلم.
و المقصود: أن اللّه لم يبق من الكافرين ديارا، فكيف يزعم بعض المفسرين أن عوج ابن عنق، و يقال: ابن عناق، كان موجودا من قبل نوح إلى زمان موسى، و يقولون: كان كافرا متمردا جبارا عنيدا، و يقولون: كان لغير رشدة، بل ولدته أمه عنق بنت آدم من زنا، و إنه كان يأخذ من طوله السمك من قرار البحار و يشويه في عين الشمس، و إنه كان يقول لنوح و هو في السفينة: ما هذه القصيعة التي لك؟ و يستهزئ به، و يذكرون: أنه كان طوله ثلاثة آلاف ذراع و ثلاث مائة و ثلاثة و ثلاثين ذراعا و ثلثا، إلى غير ذلك من الهذيانات التى لو لا أنها مسطرة في كثير من كتب التفاسير و غيرها من التواريخ و أيام الناس لما تعرضنا لحكايتها لسقاطتها و ركاكتها، ثم إنها مخالفة للمعقول و المنقول.
أما المعقول: فكيف يسوغ فيه أن يهلك اللّه ولد نوح لكفره، و أبوه نبي الأمة و زعيم أهل الإيمان، و لا يهلك عوج بن عنق، و يقال: عناق، و هو أظلم و أطغى على ما ذكروا، و كيف لا يرحم اللّه منهم أحدا، و لا أم الصبي، و لا الصبي، و يترك هذا الدعي الجبار العنيد الفاجر الشديد الكافر الشيطان المريد على ما ذكروا.
و أما المنقول: فقد قال اللّه تعالى: ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66)، و قال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيّاراً (26)، ثم هذا الطول الذى ذكروه مخالف لما في الصحيحين عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم أنه قال: (إن اللّه خلق آدم و طوله ستون ذراعا، ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن).
فهذا نص الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، أنه لم يزل الخلق ينقص حتى الآن، أي لم يزل الناس في نقصان في طولهم من آدم إلى يوم أخبره بذلك، و هلم جرا إلى يوم القيامة.
و هذا يقتضي أنه لم يوجد من ذرية آدم من كان أطول منه، فكيف يترك هذا
ص: 67
و يذهل عنه و يصار إلى أقوال الكذبة الكفرة من أهل الكتاب الذين بدلوا كتب اللّه المنزلة و حرفوها و أولوها و وضعوها على غير مواضعها، فما ظنك بما هم يستقلون بنقله، أو يؤتمنون عليه، و ما أظن أن هذا الخبر عن عوج بن عناق إلا اختلاقا من بعض زنادقتهم و فجارهم الذين كانوا أعداء الأنبياء، و اللّه أعلم.
ثم ذكر اللّه تعالى مناشدة نوح ربه في ولده و سؤاله له عن غرقه على وجه الاستعلام و الاستكشاف، و وجه السؤال أنك وعدتني بنجاة أهلي معي و هو منهم و قد غرق، فأجيب: بأنه ليس من أهلك، أي الذين و عدت بنجاتهم، أي أما قلنا لك: وَ أَهْلَكَ إِلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ ، فكان هذا ممن سبق عليه القول منهم بأن سيغرق بكفره، و لهذا ساقته الأقدار إلى أن انحاز عن حوزة أهل الإيمان، فغرق مع حزبه أهل الكفر و الطغيان، ثم قال تعالى: قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنّا وَ بَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَ عَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48)، هذا أمر لنوح عليه السلام لما نضب الماء عن وجه الأرض و أمكن السعى فيها و الاستقرار عليها أن يهبط من السفينة التى كانت قد استقرت بعد سيرها العظيم على ظهر جبل الجودى، و هو جبل بأرض الجزيرة مشهور، و قد قدمنا ذكره عند خلق الجبال بِسَلامٍ مِنّا وَ بَرَكاتٍ ، أي اهبط سالما مباركا عليك، و على أمم ممن سيولد بعد، أي من أولادك، فإن اللّه لم يجعل لأحد ممن كان معه من المؤمنين نسلا و لا عقبا سوى نوح عليه السلام، قال تعالى:
وَ جَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77)، فكل من على وجه الأرض اليوم من سائر أجناس بني آدم ينسبون إلى أولاد نوح الثلاثة و هم: (سام، و حام، و يافث).
ص: 68
*الملحق (2) قصة لوط عليه السلام(1)
كان مما وقع في حياة إبراهيم الخليل من الأمور العظيمة قصة قوم لوط عليه السلام، و ما حل بهم من النقمة الغميمة، و ذلك أن لوطا بن هاران بن تارح، و هو آزر كما جاء في القرآن، و لوط ابن أخي إبراهيم الخليل، فإبراهيم و هاران و ناحور أخوة، كما قدمنا، و يقال: إن هاران هذا هو الذي بنى حران، و هذا ضعيف لمخالفته ما بأيدي أهل الكتاب، و اللّه أعلم، و كان لوط قد نزح عن محلة عمه الخليل عليهما السلام بأمره له، و أذنه فنزل بمدينة سدوم من أرض غور زغر، و كان أم تلك المحلة، و لها أرض و معتملات و قرى مضافة إليها، و لها أهل من أفجر الناس و أكفرهم و أسوأهم طوية و أرداهم سريرة و سيرة، يقطعون السبيل، و يأتون في ناديهم المنكر، و لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون، ابتدعوا فاحشة لم يسبقهم إليها أحد من بني آدم، و هي إتيان الذكران من العالمين، و ترك ما خلق اللّه من النسوان لعباده الصالحين، فدعاهم لوط إلى عبادة اللّه تعالى وحده لا شريك له، و نهاهم عن تعاطي هذه المحرمات و الفواحش المنكرات و الأفاعيل المستقبحات، فتمادوا على ضلالهم و طغيانهم و استمروا على فجورهم و كفرانهم، فأحل اللّه بهم من البأس الذى لا يرد ما لم يكن في خلدهم و حسبانهم، و جعلهم مثلة في العالمين، و عبرة يتعظ بها الألباء من العالمين، و لهذا ذكر اللّه تعالى قصتهم في غير ما موضع من كتابه المبين فقال تعالى في سورة الأعراف: وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَ ما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْناهُ وَ أَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
ص: 69
اَلْمُجْرِمِينَ (84).
و قال تعالى في سورة هود: وَ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَ أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) قالَتْ يا وَيْلَتى أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ وَ هذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عَجِيبٌ (72) قالُوا أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَ جاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوّاهٌ مُنِيبٌ (75) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَ إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَ لَمّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَ قالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَ جاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَ مِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللّهَ وَ لا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَ لَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (79) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قالُوا يا لُوطُ إِنّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَ لَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَ أَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَ ما هِيَ مِنَ الظّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83).
و قال تعالى في سورة الحجر: وَ نَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قالَ أَ بَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55) قالَ وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضّالُّونَ (56) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاّ آلَ لُوطٍ إِنّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60) فَلَمّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَ أَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَ إِنّا لَصادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَ اتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَ امْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَ قَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَ جاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَ اتَّقُوا اللّهَ وَ لا تُخْزُونِ (69) قالُوا أَ وَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَ إِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77).
ص: 70
و قال تعالى في سورة الحجر: وَ نَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قالَ أَ بَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55) قالَ وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضّالُّونَ (56) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاّ آلَ لُوطٍ إِنّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60) فَلَمّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَ أَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَ إِنّا لَصادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَ اتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَ امْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَ قَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَ جاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَ اتَّقُوا اللّهَ وَ لا تُخْزُونِ (69) قالُوا أَ وَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَ إِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77).
و قال تعالى في سورة الشعراء: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَ لا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللّهَ وَ أَطِيعُونِ (163) وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164) أَ تَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) وَ تَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَ أَهْلِي مِمّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلاّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) ، و قال تعالى في سورة النمل: وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْناهُ وَ أَهْلَهُ إِلاّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (57) وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58).
و قال تعالى في سورة العنكبوت: وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28) أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَ تَقْطَعُونَ السَّبِيلَ
ص: 71
وَ تَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ (29) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَ لَمّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَ أَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32) وَ لَمّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَ قالُوا لا تَخَفْ وَ لا تَحْزَنْ إِنّا مُنَجُّوكَ وَ أَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33) إِنّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَ لَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35).
و قال تعالى في سورة الصافات: وَ إِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلاّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَ بِاللَّيْلِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (138)... و قال تعالى في الذاريات، بعد قصة ضيف إبراهيم و بشارتهم إياه بغلام عليم: قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قالُوا إِنّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَ تَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37).. و قال في سورة القمر:
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَ لَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَ لَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَ نُذُرِ (37) وَ لَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذابِي وَ نُذُرِ (39) وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40).
و قد تكلم المفسرون عن هذه القصص في أماكنها من تفاسيرهم، و قد ذكر اللّه لوطا و قومه في موضع آخر من القرآن جاء ذكره مع قوم نوح و عاد و ثمود، و المقصود الآن إيراد ما كان من أمرهم، و ما أحل اللّه بهم، مجموعا من الآيات و الآثار، و باللّه المستعان.
ص: 72
و ذلك: أن لوطا عليه السّلام لما دعاهم إلى عبادة اللّه وحده لا شريك له، و نهاهم عن تعاطي ما ذكر اللّه عنهم من الفواحش، فلم يستجيبوا له، و لم يؤمنوا به، حتى و لا رجل واحد منهم، و لم يتركوا ما عنه نهوا، بل استمروا على حالهم و لم يرتدعوا عن غيهم و ضلالهم، و هموا بإخراج رسولهم من بين ظهرانيهم، و ما كان حاصل جوابهم عن خطابهم إذ كانوا لا يعقلون إِلاّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فجعلوا غابة المدح ذما يقتضي الإخراج، و ما حملهم على مقالتهم هذه إلا العناد و اللجاج، فطهره اللّه و أهله، إلا امرأته، و أخرجهم منها أحسن إخراج، و تركهم في محلتهم خالدين، لكن بعد ما صيرها عليهم بحيرة منتنة ذات أمواج، لكنها عليهم في الحقيقة: نار تأجج و حر يتوهج و ماؤها ملح أجاج، و ما كان هذا جوابهم إلا لما نهاهم عن الطامة العظمى و الفاحشة الكبرى التى لم يسبقهم إليها أحد من أهل الدنيا، و لهذا صاروا مثلة فيها و عبرة لمن عليها، و كانوا مع ذلك يقطعون الطريق و يخونون الرفيق و يأتون في ناديهم، و هو مجتمعهم و محل حديثهم و سمرهم، المنكر من الأقوال و الأفعال على اختلاف أصنافه، حتى قيل: إنهم كانوا يتضارطون في مجالسهم و لا يستحيون من مجالسهم، و ربما وقع منهم الفعلة العظيمة في المحافل، و لا يستنكفون و لا يرعوون لوعظ واعظ و لا نصيحة من عاقل، و كانوا في ذلك و غيره كالأنعام بل أضل سبيلا، و لم يقلعوا عما كانوا عليه في الحاضر، و لا ندموا على ما سلف من الماضي، و لا راموا في المستقبل تحويلا، فأخذهم اللّه أخذا و بيلا، و قالوا له فيما قالوا: «ائتنا بعذاب اللّه إن كنت من الصادقين» فطلبوا منه وقوع ما حذرهم عنه من العذاب الأليم و حلول البأس العظيم، فعند ذلك دعا عليهم نبيهم الكريم، فسأل من رب العالمين و إله المرسلين أن ينصره على القوم المفسدين، فغار اللّه لغيرته، و غضب لغضبته، و استجاب لدعوته، و أجابه إلى طلبته، و بعث رسله الكرام و ملائكته العظام، فمروا على الخليل إبراهيم، و بشروه بالغلام العليم، و أخبروه بما جاءوا له من الأمر الجسيم و الخطب العميم: * قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قالُوا إِنّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34)، (الذاريات).. و قال: وَ لَمّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَ أَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32)، (العنكبوت).
ص: 73
و قد تكلم المفسرون عن هذه القصص في أماكنها من تفاسيرهم، و قد ذكر اللّه لوطا و قومه في موضع آخر من القرآن جاء ذكره مع قوم نوح و عاد و ثمود، و المقصود الآن إيراد ما كان من أمرهم، و ما أحل اللّه بهم، مجموعا من الآيات و الآثار، و باللّه المستعان.
ص: 74
مدافعته الليلة عنهم، كما كان يصنع بهم في غيرهم، و كانوا قد اشترطوا عليه أن لا يضيف أحدا، و لكن رأى من لا يمكن المحيد عنه. و ذكر قتادة أنهم وردوا عليه و هو في أرض له يعمل فيها، فتضيفوا فاستحيى منهم و انطلق أمامهم و جعل يعرض لهم في الكلام لعلهم ينصرفون عن هذه القرية و ينزلوا في غيرها، فقال لهم فيما قال: يا هؤلاء، ما أعلم على وجه الأرض أهل بلد أخبث من هؤلاء، ثم مشى قليلا ثم أعاد ذلك عليهم حتى كرره أربع مرات، قال: و كانوا قد أمروا أن لا يهلكوهم حتى يشهد عليهم نبيهم بذلك.
و قال السدي: خرجت الملائكة من عند إبراهيم نحو قوم لوط فأتوها نصف النهار فلما بلغوا نهر سدوم لقوا ابنة لوط تستقي من الماء لأهلها، و كانت له ابنتان: اسم الكبرى ريثا، و الصغرى ذعرتا، فقالوا لها: يا جارية، هل من منزل؟ فقالت لهم:
مكانكم لا تدخلوا حتى آتيكم، فرقت عليهم من قومها فأتت أباها، فقالت: يا أبتاه، أرادك فتيان على باب المدينة ما رأيت وجوه قوم قط هي أحسن منهم لا يأخذهم قومك فيفضحوهم، و قد كان قومه نهوه أن يضيف رجلا، فجاء بهم فلم يعلم أحدا إلا أهل البيت، فخرجت امرأته فأخبرت قومها، فقالت: إن في بيت لوط رجالا ما رأيت مثل وجوههم قط، فجاءه قومه يهرعون إليه، و قوله: وَ مِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ ، أي هذا مع ما سلف لهم من الذنوب العظيمة الكبيرة الكثيرة قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ يرشدهم إلى غشيان نسائهم، و هن بناته شرعا لأن النبي للأمة بمنزلة الوالد، كما ورد في الحديث، و كما قال تعالى: اَلنَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ ، و في قول بعض الصحابة و السلف: و هو أب لهم، و هذا كقوله تعالى في سورة الشعراء: أَ تَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) وَ تَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166)، و هذا هو الذي نص عليه مجاهد و سعيد بن جبير و الربيع بن أنس و قتادة و السدي و محمد بن إسحاق و هو الصواب. و القول الآخر خطأ مأخوذ من أهل الكتاب، و قد تصحف عليهم كما أخطئوا في قولهم: إن الملائكة كانوا اثنين، و إنهم تعشوا عنده، و قد خبط أهل الكتاب في هذه القصة تخبيطا عظيما.
ص: 75
و قوله: فَاتَّقُوا اللّهَ وَ لا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَ لَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ نهى لهم عن تعاطي ما لا يليق من الفاحشة و شهادة عليهم بأنه ليس فيهم رجل له مسكة و لا فيه خير، بل الجميع سفهاء فجرة أقوياء كفرة أغبياء، و كان هذا من جملة ما أراد الملائكة أن يسمعوا منه من قبل أن يسألوه عنه، فقال قومه، عليهم لعنة اللّه الحميد المجيد، مجيبين لنبيهم فيما أمرهم به من الأمر السديد: لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ يقولون، عليهم لعائن اللّه: لقد علمت يا لوط إنه لا أرب لنا في نسائنا، و إنك لتعلم مرادنا و غرضنا، واجهوا بهذا الكلام القبيح رسولهم الكريم و لم يخافوا سطوة العظيم ذي العذاب الأليم، و لهذا قال عليه السّلام: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ ود أن لو كان له بهم قوة، أو له منعة و عشيرة ينصرونه عليهم ليحل بهم ما يستحقونه من العذاب على هذا الخطاب.
و قد قال الزهري: عن سعيد بن المسيب و أبي سلمة، عن أبي هريرة مرفوعا: نحن أحق بالشك من إبراهيم، و يرحم اللّه لوطا لقد كان يأوى إلى ركن شديد، و لو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعى. و رواه أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة. و قال محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال:
(رحمة اللّه على لوط لقد كان يأوى إلى ركن شديد، يعني اللّه عز و جل، فما بعث اللّه بعده من نبي إلا في ثروة من قومه).
و قال تعالى: وَ جاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَ اتَّقُوا اللّهَ وَ لا تُخْزُونِ (69) قالُوا أَ وَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71)، فأمرهم بقربان نسائهم، و حذرهم الاستمرار على طريقتهم، و سيئاتهم هذا و هم في ذلك لا ينتهون و لا يرعوون، بل كلما نصح لهم يبالغون في تحصيل هؤلاء الضيوف و يحرضون، و لم يعلموا ما حكم به القدر مما هم إليه صائرون، و صبيحة ليلتهم إليه منقلبون، و لهذا قال تعالى مقسما بحياة نبيه محمد صلوات اللّه و سلامه عليه: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)، و قال تعالى في سورة القمر:
ص: 76
وَ لَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَ لَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَ نُذُرِ (37) وَ لَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38)، ذكر المفسرون و غيرهم: أن نبي اللّه لوطا عليه السّلام جعل يمانع قومه الدخول، و يدافعهم و الباب مغلق، و هم يرومون فتحه و ولوجه، و هو يعظهم و ينهاهم من وراء الباب، و كل ما لهم في اللجاج و العاج، فلما ضاق الأمر و عسر الحال قال: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ لأحللت بكم النكال، قالت الملائكة: يا لُوطُ إِنّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ
و ذكروا أن جبريل عليه السّلام خرج عليهم فضرب وجوههم خفقة بطرف جناحه، فطمست أعينهم حتى قيل: إنها غارت بالكلية و لم يبق لها محل و لا عين و لا أثر، فرجعوا يتحسسون مع الحيطان و يتوعدون رسول الرحمن و يقولون: إذا كان الغد كان لنا و له شأن.
قال اللّه تعالى: وَ لَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَ نُذُرِ (37) وَ لَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فذلك أن الملائكة تقدمت إلى لوط عليهم السلام آمرين له بأن يسري هو و أهله من آخر الليل وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ يعني عند سماع صوت العذاب إذا حل بقومه، و أمروه أن يكون سيره في آخرهم كالساقة لهم، و قوله: إِلاَّ امْرَأَتَكَ على قراءة النصب يحتمل أن يكون مستثنى من قوله: فأسر بأهلك، كأنه يقول: إلا امرأتك فلا تسر بها، و يحتمل أن يكون مستثنى من قوله: وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ أي فإنها ستلتفت فيصيبها ما أصابهم، و يقوى هذا الاحتمال قراءة الرفع، و لكن الأول أظهر في المعنى، و اللّه أعلم.
قال السهيلي: و اسم امرأة لوط: والهة، و اسم امرأة نوح، والغة، و قالوا له مبشرين بهلاك هؤلاء البغاة العتاة الملعونين النظراء و الأشباه الذين جعلهم اللّه سلفا لكل خائن مريب: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَ لَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ، فلما خرج لوط عليه السلام بأهله و هم ابنتاه و لم يتبعه منهم رجل واحد، و يقال: إن امرأته خرجت معه، فاللّه أعلم، فلما خلصوا من بلادهم و طلعت الشمس فكان عند شروقها جاءهم من أمر اللّه ما لا
ص: 77
يرد، و من البأس الشديد ما لا يمكن أن يصد. و عند أهل الكتاب: أن الملائكة أمروه أن يصعد إلى رأس الجبل الذى هناك فاستبعده و سأل منهم أن يذهب إلى قرية قريبة منهم فقالوا: اذهب فإنا ننتظرك حتى تصير إليها و تستقر فيها، ثم نحل بهم العذاب. فذكروا أنه ذهب إلى قرية: صغر التى يقول الناس: غور زغر، فلما اشرقت الشمس نزل بهم العذاب.
قال اللّه تعالى: فَلَمّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَ أَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَ ما هِيَ مِنَ الظّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) قالوا: اقتلعهن جبريل بطرف جناحه من قرارهن و كن سبع مدن بمن فيهن من الأمم، فقالوا: إنهم كانوا أربع مائة نسمة، و قيل: أربعة آلاف نسمة، و ما معهم من الحيوانات، و ما يتبع تلك المدن من الأراضي و الأماكن و المعتملات، فرفع الجميع حتى بلغ بهن عنان السماء حتى سمعت الملائكة أصوات ديكتهم و نباح كلابهم، ثم قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها، قال مجاهد:
فكان أول ما سقط منها شرفاتها وَ أَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ، و السجيل: فارسي معرب، و هو: الشديد الصلب القوي مَنْضُودٍ ، أي يتبع بعضها بعضا في نزولها عليهم من السماء مُسَوَّمَةً ، أي معلمة مكتوب على كل حجر اسم صاحبه الذى يهبط عليه فيدمغه، كما قال: مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ للمسرفين، و كما قال تعالى: وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173)، و قال تعالى: وَ الْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53) فَغَشّاها ما غَشّى (54)، يعني قلبها فأهوى بها منكسة عاليها سافلها، و غشاها بمطر من حجارة من سجيل متتابعة مرقومة على كل حجر اسم صاحبه الذى سقط عليه من الحاضرين منهم في بلدهم، و الغائبين عنها من المسافرين، و النازحين و الشاذين منها، و يقال: إن امرأة لوط مكثت مع قومها، و يقال: إنها خرجت مع زوجها و بنتيها، و لكنها لما سمعت الصيحة و سقوط البلدة و التفتت إلى قومها و خالفت أمر ربها قديما و حديثا، و قالت: وا قوماه فسقط عليها حجر فدمغها، و ألحقها بقومها إذ كانت على دينهم و كانت عينا لهم على من يكون عند لوط من الضيفان، كما قال تعالى: ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللّهِ شَيْئاً وَ قِيلَ ادْخُلاَ النّارَ مَعَ الدّاخِلِينَ (10)، أي خانتاهما في الدين فلم يتابعاهما فيه، و ليس المراد:
ص: 78
فكان أول ما سقط منها شرفاتها وَ أَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ، و السجيل: فارسي معرب، و هو: الشديد الصلب القوي مَنْضُودٍ ، أي يتبع بعضها بعضا في نزولها عليهم من السماء مُسَوَّمَةً ، أي معلمة مكتوب على كل حجر اسم صاحبه الذى يهبط عليه فيدمغه، كما قال: مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ للمسرفين، و كما قال تعالى: وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173)، و قال تعالى: وَ الْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53) فَغَشّاها ما غَشّى (54)، يعني قلبها فأهوى بها منكسة عاليها سافلها، و غشاها بمطر من حجارة من سجيل متتابعة مرقومة على كل حجر اسم صاحبه الذى سقط عليه من الحاضرين منهم في بلدهم، و الغائبين عنها من المسافرين، و النازحين و الشاذين منها، و يقال: إن امرأة لوط مكثت مع قومها، و يقال: إنها خرجت مع زوجها و بنتيها، و لكنها لما سمعت الصيحة و سقوط البلدة و التفتت إلى قومها و خالفت أمر ربها قديما و حديثا، و قالت: وا قوماه فسقط عليها حجر فدمغها، و ألحقها بقومها إذ كانت على دينهم و كانت عينا لهم على من يكون عند لوط من الضيفان، كما قال تعالى: ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللّهِ شَيْئاً وَ قِيلَ ادْخُلاَ النّارَ مَعَ الدّاخِلِينَ (10)، أي خانتاهما في الدين فلم يتابعاهما فيه، و ليس المراد:
أنهما كانتا على فاحشة حاشا و كلا و لما فإن اللّه لا يقدر على نبي أن تبغى امرأته كما قال ابن عباس و غيره من أئمة السلف و الخلف: ما بغت امرأة نبي قط، و من قال خلاف هذا فقد أخطأ خطأ كبيرا.
قال اللّه تعالى في قصة الإفك لما أنزل براءة أم المؤمنين عائشة بنت الصديق زوج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا فعاتب اللّه المؤمنين و أنب و زجر و وعظ و حذر و قال فيما قال تعالى في سورة النور: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَ تَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ تَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَ هُوَ عِنْدَ اللّهِ عَظِيمٌ (15) وَ لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) أي سبحانك أن تكون زوجة نبيك بهذه المثابة، و قوله هاهنا: وَ ما هِيَ مِنَ الظّالِمِينَ بِبَعِيدٍ أي و ما هذه العقوبة ببعيدة ممن أشبههم في فعلهم، و لهذا ذهب من ذهب من العلماء إلى أن اللائط يرجم سواء كان محصنا أو لا، نص عليه الشافعي و أحمد بن حنبل و طائفة كثيرة من الأئمة، و احتجوا أيضا بما رواه الإمام أحمد، و أهل السنن من حديث عمرو بن أبي عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل و المفعول به).
و ذهب أبو حنيفة إلى أن اللائط يلقى من شاهق جبل، و يتبع بالحجارة كما فعل بقوم لوط، لقوله تعالى: وَ ما هِيَ مِنَ الظّالِمِينَ بِبَعِيدٍ و جعل اللّه مكان تلك البلاد بحيرة منتنة لا ينتفع بمائها، و لا بما حولها من الأراضي المتاخمة لفنائها لرداءتها و دناءتها، فصارت عبرة و مثلة و عظة و آية على قدرة اللّه تعالى و عظمته و عزته في انتقامه ممن خالف أمره و كذب رسله و اتبع هواه و عصى مولاه، و دليلا على رحمته بعبادة المؤمنين في انجائه إياهم من المهلكات، و إخراجه إياهم من النور إلى الظلمات، كما قال تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)، و قال تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَ إِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) أي من نظر بعين الفراسة و التوسم فيهم، كيف غير اللّه تلك البلاد و أهلها و كيف جعلها بعد ما كانت آهلة عامرة هالكة غامرة؟ كما روى الترمذي و غيره مرفوعا: (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللّه) ثم قرأ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ .
ص: 79
و ذهب أبو حنيفة إلى أن اللائط يلقى من شاهق جبل، و يتبع بالحجارة كما فعل بقوم لوط، لقوله تعالى: وَ ما هِيَ مِنَ الظّالِمِينَ بِبَعِيدٍ و جعل اللّه مكان تلك البلاد بحيرة منتنة لا ينتفع بمائها، و لا بما حولها من الأراضي المتاخمة لفنائها لرداءتها و دناءتها، فصارت عبرة و مثلة و عظة و آية على قدرة اللّه تعالى و عظمته و عزته في انتقامه ممن خالف أمره و كذب رسله و اتبع هواه و عصى مولاه، و دليلا على رحمته بعبادة المؤمنين في انجائه إياهم من المهلكات، و إخراجه إياهم من النور إلى الظلمات، كما قال تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)، و قال تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَ إِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) أي من نظر بعين الفراسة و التوسم فيهم، كيف غير اللّه تلك البلاد و أهلها و كيف جعلها بعد ما كانت آهلة عامرة هالكة غامرة؟ كما روى الترمذي و غيره مرفوعا: (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللّه) ثم قرأ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ .
و قوله: وَ إِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ أي لبطريق مهيع مسلوك إلى الآن، كما قال:
وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَ بِاللَّيْلِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (138)، و قال تعالى:
وَ لَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)، و قال تعالى: فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَ تَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37) أي تركناها عبرة و عظة لمن خاف عذاب الآخرة و خشي الرحمن بالغيب و خاف مقام ربه و نهى النفس عن الهوى فانزجر عن محارم اللّه و ترك معاصيه و خاف أن يشابه قوم لوط (و من تشبه بقوم فهو منهم) و إن لم يكن من كل وجه، فمن بعض الوجوه، كما قال بعضهم: فإن لم تكونوا قوم لوط بعينهم، فما قوم لوط منكم ببعيد، فالعاقل اللبيب الخائف من ربه الفاهم يمتثل ما أمره اللّه به عز و جل، و يقبل ما أرشده إليه رسول اللّه من إتيان ما خلق له من الزوجات الحلال، و الجواري من السراري ذوات الجمال، و إياه أن يتبع كل شيطان مريد، فيحق عليه الوعيد، و يدخل في قوله تعالى: وَ ما هِيَ مِنَ الظّالِمِينَ بِبَعِيدٍ .
ص: 80
* الملحق (3) قصة موسى الكليم عليه السلام(1)
و هو موسى بن عمران بن قاهث بن عازر بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، قال تعالى في سورة مريم: وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَ كانَ رَسُولاً نَبِيًّا (51) وَ نادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَ قَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52) وَ وَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53)، و قد ذكره اللّه تعالى في مواضع كثيرة متفرقة من القرآن، و ذكر قصته في مواضع متعددة مبسوطة مطولة و غير مطولة، و قد تكلم عن ذلك كله في مواضعه كل أهل التفسير، و سنورد سيرته هاهنا من ابتدائها إلى آخرها من الكتاب و السنة، و ما ورد في الآثار المنقولة من الإسرائيليات التي ذكرها السلف و غيرهم إن شاء اللّه، و به الثقة و عليه التكلان.
قال اللّه تعالى في سورة القصص: طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَ فِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَ يَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (6).. يذكر تعالى ملخص القصة ثم يبسطها بعد هذا، فذكر أنه يتلو على نبيه خبر موسى و فرعون بالحق، أي بالصدق الذى كأن سامعه مشاهد للأمر معاين له إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً أي تجبر و عتا و طغى و بغى، و آثر الحياة الدنيا، و أعرض عن طاعة الرب الأعلى وَ جَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً أي قسم رعيته إلى أقسام و فرق، و أنواع يستضعف طائفة منهم، و هم شعب بني
ص: 81
إسرائيل الذين هم من سلالة نبي اللّه يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل اللّه، و كانوا إذ ذاك خيار أهل الأرض، و قد سلط عليهم هذا الملك الظالم الغاشم الكافر الفاجر يستعبدهم و يستخدمهم في أخس الصنائع و الحرف و أرداها و أدناها و مع هذا: يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَ يَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ و كان الحامل له على هذا الصنيع القبيح أن بني إسرائيل كانوا يتدارسون فيما بينهم ما يأثرونه عن إبراهيم عليه السلام من أنه سيخرج من ذريته غلام يكون هلاك ملك مصر على يديه و ذلك، و اللّه أعلم، حين كان جرى على سارة امرأة الخليل من ملك مصر من إرادته إياها على السوء، و عصمة اللّه لها، و كانت هذه البشارة مشهورة في بني إسرائيل، فتحدث بها القبط فيما بينهم، و وصلت إلى فرعون فذكرها له بعض أمرائه و أساورته و هم يسمرون عنده، فأمر عند ذلك بقتل أبناء بني إسرائيل حذرا من وجوه هذا الغلام، و لن يغني حذر من قدر.
و ذكر السدي عن أبي صالح و أبي مالك، عن ابن عباس و عن مرة، عن ابن مسعود و عن أناس من الصحابة: أن فرعون رأى في منامه كأن نارا قد أقبلت من نحو بيت المقدس، فأحرقت دور مصر و جميع القبط و لم تضر بني إسرائيل، فلما استيقظ هاله ذلك، فجمع الكهنة و الحزأة و السحرة، و سألهم عن ذلك؟ فقالوا: هذا غلام يولد من هؤلاء يكون سبب هلاك أهل مصر على يديه، فلهذا أمر بقتل الغلمان و ترك النسوان، و لهذا قال اللّه تعالى: وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ و هم بنو إسرائيل وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ أي الذين يؤول ملك مصر و بلادها إليهم وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ أي سنجعل الضعيف قويا، و المقهور قادرا، و الذليل عزيزا، و قد جرى هذا كله لبني إسرائيل، كما قال تعالى في سورة الأعراف (137): وَ أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَ دَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَ قَوْمُهُ وَ ما كانُوا يَعْرِشُونَ (137)، الآية، و قال تعالى في الدخان: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنّاتٍ وَ عُيُونٍ (25) وَ زُرُوعٍ وَ مَقامٍ كَرِيمٍ (26) وَ نَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَ أَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28). و سيأتى تفصيل ذلك في موضعه إن شاء اللّه.
ص: 82
و ذكر السدي عن أبي صالح و أبي مالك، عن ابن عباس و عن مرة، عن ابن مسعود و عن أناس من الصحابة: أن فرعون رأى في منامه كأن نارا قد أقبلت من نحو بيت المقدس، فأحرقت دور مصر و جميع القبط و لم تضر بني إسرائيل، فلما استيقظ هاله ذلك، فجمع الكهنة و الحزأة و السحرة، و سألهم عن ذلك؟ فقالوا: هذا غلام يولد من هؤلاء يكون سبب هلاك أهل مصر على يديه، فلهذا أمر بقتل الغلمان و ترك النسوان، و لهذا قال اللّه تعالى: وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ و هم بنو إسرائيل وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ أي الذين يؤول ملك مصر و بلادها إليهم وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ أي سنجعل الضعيف قويا، و المقهور قادرا، و الذليل عزيزا، و قد جرى هذا كله لبني إسرائيل، كما قال تعالى في سورة الأعراف (137): وَ أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَ دَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَ قَوْمُهُ وَ ما كانُوا يَعْرِشُونَ (137)، الآية، و قال تعالى في الدخان: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنّاتٍ وَ عُيُونٍ (25) وَ زُرُوعٍ وَ مَقامٍ كَرِيمٍ (26) وَ نَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَ أَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28). و سيأتى تفصيل ذلك في موضعه إن شاء اللّه.
و المقصود: أن فرعون احترز كل الاحتراز أن لا يوجد موسى، حتى جعل رجالا و قوابل يدورون على الحبالى، و يعلمون ميقات وضعهن، فلا تلد امرأة ذكرا إلا ذبحه أولئك الذباحون من ساعته. و عند أهل الكتاب: أنه إنما كان يأمر بقتل الغلمان لتضعف شوكة بني إسرائيل، فلا يقاومونهم إذا غالبوهم أو قاتلوهم، و هذا فيه نظر، بل هو باطل، و إنما هذا في الأمر بقتل الولدان بعد بعثة موسى، كما قال تعالى: فَلَمّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَ اسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ ، و لهذا قالت بنو إسرائيل لموسى: أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا فالصحيح: أن فرعون إنما أمر بقتل الغلمان أولا حذرا من وجود موسى، هذا و القدر يقول: يا أيها ذا الملك الجبار المغرور بكثرة جنوده، و سلطة بأسه و اتساع سلطانه، قد حكم العظيم الذى لا يغالب و لا يمانع و لا يخالف أقداره، أن هذا المولود الذى تحترز منه و قد قتلت بسببه من النفوس ما لا يعد و لا يحصى، لا يكون مرباه إلا في دارك و على فراشك، و لا يغذى إلا بطعامك و شرابك في منزلك، و أنت الذى تتبناه و تربيه، و تتعداه و لا تطلع على سر معناه، ثم يكون هلاكك في دنياك و أخراك على يديه، لمخالفتك ما جاءك به من الحق المبين، و تكذيبك ما أوحى إليه لتعلم أنت و سائر الخلق أن رب السماوات و الأرض هو الفعال لما يريد، و أنه هو القوى الشديد ذو البأس العظيم و الحول و القوة و المشيئة التى لا مرد لها.
و قد ذكر غير واحد من المفسرين: أن القبط شكوا إلى فرعون قلة بني إسرائيل بسبب قتل ولدانهم الذكور، و خشى أن تتفانى الكبار مع قتل الصغار، فيصيرون هم الذين يلون ما كان بنو إسرائيل يعالجون، فأمر فرعون بقتل الأبناء عاما و أن يتركوا عاما، فذكروا أن هارون عليه السّلام ولد في عام المسامحة عن قتل الأبناء، و أن موسى عليه السلام ولد في عام قتلهم، فضاقت أمه به ذرعا و احترزت من أول ما حبلت، و لم يكن يظهر عليها مخاييل الحبل، فلما وضعت ألهمت أن اتخذت له تابوتا فربطته في
ص: 83
حبل، و كانت دارها متاخمة للنيل، فكانت ترضعه فإذا خشيت من أحد وضعته في ذلك التابوت فأرسلته في البحر و أمسكت طرف الحبل عندها، فإذا ذهبوا استرجعته إليها به، قال اللّه تعالى: وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَ لا تَخافِي وَ لا تَحْزَنِي إِنّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8) وَ قالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (9)، (القصص). هذا الوحى وحى إلهام و إرشاد كما قال تعالى في سورة النحل: وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَ مِنَ الشَّجَرِ وَ مِمّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)، الآية، و ليس هو بوحي نبوة كما زعمه ابن حزم و غير واحد من المتكلمين، بل الصحيح الأول كما حكاه أبو الحسن الأشعري عن أهل السنة و الجماعة.
قال السهيلي: و اسم أم موسى أيارخا: و قيل: أياذخت. و المقصود: أنها أرشدت إلى هذا الذي ذكرناه و ألقى في خلدها و روعها أن لا تخافي و لا تحزني، فإنه إن ذهب فإن اللّه سيرده إليك، و إن اللّه سيجعله نبيا مرسلا يعلي كلمته في الدنيا و الآخرة، فكانت تصنع ما أمرت به، فأرسلته ذات يوم و ذهلت أن تربط طرف الحبل عندها، فذهب مع النيل فمر على دار فرعون فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ ، قال اللّه تعالى:
لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً قال بعضهم: هذه لام العاقبة، و هو ظاهر إن كان متعلقا بقوله: فَالْتَقَطَهُ و أما إن جعل متعلقا بمضمون الكلام، و هو أن آل فرعون قيّضوا لالتقاطه ليكون لهم عدوا و حزنا، صارت اللام معللة كغيرها، و اللّه أعلم، و يقوي هذا التقدير الثاني قوله: إِنَّ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ و هو الوزير السوء وَ جُنُودَهُما
المتابعين لهما كانُوا خاطِئِينَ أي كانوا على خلاف الصواب، فاستحقوا هذه العقوبة و الحسرة.
ص: 84
و ذكر المفسرون: أن الجواري التقطنه من البحر في تابوت مغلق عليه، فلم يتجاسرون على فتحه حتى وضعنه بين يدي امرأة فرعون: آسية بنت مزاحم بن عبيد بن الريان بن الوليد الذى كان فرعون مصر في زمن يوسف، و قيل: إنها كانت من بني إسرائيل من سبط موسى، و قيل: بل كانت عمته، حكاه السهيلي، فاللّه أعلم.
و سيأتى مدحها و الثناء عليها في قصة مريم بنت عمران، و أنهما يكونان يوم القيامة من أزواج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في الجنة. فلما فتحت الباب و كشفت الحجاب رأت وجهه يتلألأ بتلك الأنوار النبوية و الجلالة الموسوية، فلما رأته و وقع نظرها عليه أحبته حبا شديدا جدا، فلما جاء فرعون قال: ما هذا؟ و أمر بذبحه، فاستوهبته منه و دفعت عنه و قالت: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ فقال لها فرعون: أما لك فنعم، و أما لى فلا، أي لا حاجة لى به و البلاء موكل بالمنطق، و قولها: عَسى أَنْ يَنْفَعَنا و قد أنالها اللّه ما رجت من النفع، أما في الدنيا: فهداها اللّه به، و أما في الآخرة: فأسكنها جنته بسببه أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً و ذلك أنهما تبنياه، لأنه لم يكن يولد لهما ولد، قال اللّه تعالى:
وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ أي لا يدرون ما ذا يريد اللّه بهم أن قيضهم لالتقاطه من النقمة العظيمة بفرعون و جنوده وَ أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَ قالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (11) * وَ حَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَ هُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13)، (القصص).
قال ابن عباس و مجاهد و عكرمة و سعيد بن جبير و أبو عبيدة و الحسن و قتادة و الضحاك و غيرهم: وَ أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً أي من كل شىء من أمور الدنيا إلا من موسى إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ أي لتظهر أمره و تسأل عنه جهرة لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها أي صبرناها و ثبتناها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ و قالت لأخته و هى ابنتها الكبيرة: قُصِّيهِ أي اتبعى أثره و اطلبي له خبره فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ
ص: 85
قال مجاهد: عن بعد. و قال قتادة: جعلت تنظر إليه و كأنها لا تريده، و لهذا قال:
وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ و ذلك لأن موسى عليه السّلام لما استقر بدار فرعون أرادوا أن يغذوه برضاعة، فلم يقبل ثديا و لا أخذ طعاما، فحاروا في أمره و اجتهدوا على تغذيته بكل ممكن، فلم يفعل، كما قال تعالى: وَ حَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فأرسلوه مع القوابل و النساء إلى السوق لعلهم يجدون من يوافق رضاعته، فبينما هم وقوف به و الناس عكوف عليه إذ بصرت به أخته، فلم تظهر إنها تعرفه بل قالت: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَ هُمْ لَهُ ناصِحُونَ قال ابن عباس: لما قالت ذلك قالوا لها: ما يدريك بنصحهم و شفقتهم عليه؟ فقالت: رغبة في صهر الملك و رجاء منفعته، فأطلقوها و ذهبوا معها إلى منزلهم، فأخذته أمه فلما أرضعته التقم ثديها، و أخذ يمتصه و يرتضعه، ففرحوا بذلك فرحا شديدا و ذهب البشير إلى آسية يعلمها بذلك، فاستدعتها إلى منزلها و عرضت عليها أن تكون عندها، و أن تحسن إليها فأبت عليها، و قالت: إن لى بعلا و أولادا و لست أقدر على هذا إلا أن ترسليه معى فأرسلته معها، و رتبت لها رواتب و أجرت عليها النفقات و الكسائي و الهبات، فرجعت به تحوزه إلى رحلها و قد جمع اللّه شمله بشملها.
قال اللّه تعالى: فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ أي كما وعدناها برده و رسالته فهذا رده، و هو دليل على صدق البشارة برسالته وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ و قد امتن اللّه على موسى بهذا ليلة كلمه، فقال له فيما قال: وَ لَقَدْ مَنَنّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَ عَدُوٌّ لَهُ وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي و ذلك أنه كان لا يراه أحد إلا أحبه وَ لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي
إذ قال قتادة و غير واحد من السلف: أي تطعم و ترفه و تغذى بأطيب المآكل و تلبس أحسن الملابس بمرأى مني، و ذلك كله بحفظى و كلاءتي لك فيما صنعت بك لك، و قدرته من الأمور التي لا يقدر عليها غيري إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ وَ قَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَ فَتَنّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40) و سنورد حديث الفتون في موضعه بعد هذا إن شاء اللّه تعالى، و به الثقة و عليه التكلان.
ص: 86
إذ قال قتادة و غير واحد من السلف: أي تطعم و ترفه و تغذى بأطيب المآكل و تلبس أحسن الملابس بمرأى مني، و ذلك كله بحفظى و كلاءتي لك فيما صنعت بك لك، و قدرته من الأمور التي لا يقدر عليها غيري إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ وَ قَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَ فَتَنّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40) و سنورد حديث الفتون في موضعه بعد هذا إن شاء اللّه تعالى، و به الثقة و عليه التكلان.
وَ لَمّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَ هذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17)، (القصص).
لما ذكر تعالى أنه أنعم على أمه برده لها و إحسانه بذلك و امتنانه عليها شرع في ذكر أنه لما بلغ أشده و استوى، و هو احتكام الخلق و الخلق و هو سن الأربعين في قول الأكثرين، آتاه اللّه حكما و علما، و هو النبوة و الرسالة التى كان بشر بها أمه حين قال:
إِنّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ثم شرع في ذكر سبب خروجه من بلاد مصر و ذهابه إلى أرض مدين و إقامته هنالك حتى كمل الأجل، و انقضى الأمد، و كان ما كان من كلام اللّه له، و إكرامه بما أكرمه به، كما سيأتي، قال تعالى: وَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها قال ابن عباس و سعيد بن جبير و عكرمة و قتادة و السدي:
و ذلك نصف النهار، و عن ابن عباس: بين العشاءين فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ أي يتضاربان و يتهاوشان هذا مِنْ شِيعَتِهِ أي إسرائيلي وَ هذا مِنْ عَدُوِّهِ أي قبطي، قاله ابن عباس و قتادة و السدي و محمد بن إسحاق فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ و ذلك أن موسى عليه السّلام كانت له بديار مصر صولة، بسبب نسبته إلى تبني فرعون له، و تربيته في بيته، و كانت بنو إسرائيل قد عزوا و صارت لهم وجاهة، و ارتفعت رءوسهم بسبب أنهم أرضعوه و هم أخواله، أي من الرضاعة، فلما استغاث ذلك الإسرائيلى موسى عليه السّلام على ذلك القبطي أقبل إليه
ص: 87
موسى فَوَكَزَهُ قال مجاهد: أي طعنه بجمع كفه، و قال قتادة: بعصا كانت معه فَقَضى عَلَيْهِ أي فمات منها، و قد كان ذلك القبطي كافرا مشركا باللّه العظيم، و لم يرد موسى قتله بالكلية، و إنما أراد زجره و ردعه، و مع هذا قال موسى - كما في تتمة القصة في سورة القصص -: وَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَ هذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ.. أي من العز و الجاه قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاّ أَنْ تَكُونَ جَبّاراً فِي الْأَرْضِ وَ ما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَ جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ (21).
يخبر تعالى أن موسى أصبح بمدينة مصر خائِفاً أي من فرعون و ملئه أن يعلموا أن هذا القتيل الذى رفع إليه أمره إنما قتله موسى في نصرة رجل من بني إسرائيل، فتقوى ظنونهم أن موسى منهم، و يترتب على ذلك أمر عظيم، فصار يسير في المدينة في صبيحة ذلك اليوم خائِفاً يَتَرَقَّبُ أي يلتفت، فبينما هو كذلك إذا ذلك الرجل الإسرائيلي الذى استنصره بالأمس يَسْتَصْرِخُهُ أي يصرخ به و يستغيثه على آخر قد قاتله فعنفه موسى و لامه على كثرة شره و مخاصمته، قال له: إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ثم أراد أن يبطش بذلك القبطي الذى هو عدو لموسى و للإسرائيلي فيردعه عنه و يخلصه منه، فلما عزم على ذلك و أقبل على القبطي قالَ يا مُوسى أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاّ أَنْ تَكُونَ جَبّاراً فِي الْأَرْضِ وَ ما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ قال بعضهم: إنما قال هذا الكلام الإسرائيلي الذى اطلع على ما كان صنع موسى بالأمس، و كأنه لما رأى موسى مقبلا إلى القبطي اعتقد أنه جاء إليه لما عنفه قبل ذلك بقوله: إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ فقال ما قال لموسى، و أظهر الأمر الذى كان وقع بالأمس، فذهب القبطي فاستعدى موسى إلى فرعون، و هذا الذى لم يذكر كثير من الناس سواه، و يحتمل أن قائل هذا هو القبطي، و أنه لما رآه مقبلا إليه خافه، و رأى من سجيته انتصارا جديدا للإسرائيلي، فقال ما قال من باب الظن و الفراسة: إن هذا لعله قاتل ذاك القتيل بالأمس، أو لعله فهم من كلام الإسرائيلي حين استصرخه عليه ما دله على هذا، و اللّه أعلم.
ص: 88
يخبر تعالى أن موسى أصبح بمدينة مصر خائِفاً أي من فرعون و ملئه أن يعلموا أن هذا القتيل الذى رفع إليه أمره إنما قتله موسى في نصرة رجل من بني إسرائيل، فتقوى ظنونهم أن موسى منهم، و يترتب على ذلك أمر عظيم، فصار يسير في المدينة في صبيحة ذلك اليوم خائِفاً يَتَرَقَّبُ أي يلتفت، فبينما هو كذلك إذا ذلك الرجل الإسرائيلي الذى استنصره بالأمس يَسْتَصْرِخُهُ أي يصرخ به و يستغيثه على آخر قد قاتله فعنفه موسى و لامه على كثرة شره و مخاصمته، قال له: إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ثم أراد أن يبطش بذلك القبطي الذى هو عدو لموسى و للإسرائيلي فيردعه عنه و يخلصه منه، فلما عزم على ذلك و أقبل على القبطي قالَ يا مُوسى أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاّ أَنْ تَكُونَ جَبّاراً فِي الْأَرْضِ وَ ما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ قال بعضهم: إنما قال هذا الكلام الإسرائيلي الذى اطلع على ما كان صنع موسى بالأمس، و كأنه لما رأى موسى مقبلا إلى القبطي اعتقد أنه جاء إليه لما عنفه قبل ذلك بقوله: إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ فقال ما قال لموسى، و أظهر الأمر الذى كان وقع بالأمس، فذهب القبطي فاستعدى موسى إلى فرعون، و هذا الذى لم يذكر كثير من الناس سواه، و يحتمل أن قائل هذا هو القبطي، و أنه لما رآه مقبلا إليه خافه، و رأى من سجيته انتصارا جديدا للإسرائيلي، فقال ما قال من باب الظن و الفراسة: إن هذا لعله قاتل ذاك القتيل بالأمس، أو لعله فهم من كلام الإسرائيلي حين استصرخه عليه ما دله على هذا، و اللّه أعلم.
و المقصود: أن فرعون بلغه أن موسى هو قاتل ذلك المقتول بالأمس، فأرسل في طلبه، و سبقهم رجل ناصح عن طريق أقرب وَ جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ ساعيا إليه مشفقا عليه، فقال: يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ أي من هذه البلدة إِنِّي لَكَ مِنَ النّاصِحِينَ أي فيما أقوله لك، قال اللّه تعالى: فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ أي فخرج من مدينة مصر من فوره على وجهه، لا يهتدي إلى طريق، و لا يعرفه قائلا:... رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ (21) وَ لَمّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22) وَ لَمّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النّاسِ يَسْقُونَ وَ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَ أَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)، (القصص).
يخبر تعالى عن خروج عبده و رسوله و كليمه من مصر خائِفاً يَتَرَقَّبُ أي يتلفت، خشية أن يدركه أحد من قوم فرعون، و هو لا يدري أين يتوجه، و لا إلى أين يذهب، و ذلك لأنه لم يخرج من مصر قبلها وَ لَمّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ أي اتجه له طريق يذهب فيه قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ أي عسى أن تكون هذه
ص: 89
الطريق موصلة إلى المقصود، و كذا وقع، فقد أوصلته إلى مقصود و أي مقصود وَ لَمّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ و كانت بئرا يستقون منها، و مدين هي المدينة التى أهلك اللّه فيها أصحاب الأيكة، و هم قوم شعيب عليه السّلام، و قد كان هلاكهم قبل زمن موسى عليه السّلام في أحد قولي العلماء و لما ورد الماء المذكور وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النّاسِ يَسْقُونَ وَ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ أي تكفكفان غنمهما أن تختلط بغنم الناس. و عند أهل الكتاب: أنهن كن سبع بنات، و هذا أيضا من الغلط، و كأنه كن سبعا، و لكن إنما كان تسقي اثنتان منهن، و هذا الجمع ممكن إن كان ذاك محفوظا، و إلا فالظاهر أنه لم يكن له سوى بنتان قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَ أَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ أي لا نقدر على ورود الماء إلا بعد صدور الرعاء، لضعفنا، و سبب مباشرتنا هذه الرعية ضعف أبينا و كبره، قال اللّه تعالى: فَسَقى لَهُما .
قال المفسرون: و ذلك أن الرعاء كانوا إذا فرغوا من وردهم وضعوا على فم البئر صخرة عظيمة، فتجيء هاتان المرأتان فيشرعان غنمهما في فضل أغنام الناس، فلما كان ذلك اليوم جاء موسى فرفع تلك الصخرة وحده، ثم استقى لهما و سقى غنمهما، ثم رد الحجر كما كان، قال أمير المؤمنين عمر: و كان لا يرفعه إلا عشرة، و إنما استقى ذنوبا واحدا فكفاهما، ثم تولى إلى الظل، قالوا: و كان ظل شجرة من السمر، روى ابن جرير عن ابن مسعود أنه رآها خضراء ترف فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ قال ابن عباس: سار من مصر إلى مدين لم يأكل إلا البقل و ورق الشجر، و كان حافيا، فسقطت نعلا قدميه من الحفاء، و جلس في الظل، و هو صفوة اللّه من خلقه، و إن بطنه للاصق بظهره من الجوع، و إن خضرة البقل لترى من داخل جوفه، و أنه لمحتاج إلى شق تمرة، قال عطاء بن السائب لما فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ أسمع المرأة فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمّا جاءَهُ وَ قَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ (25) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَ ما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللّهُ مِنَ الصّالِحِينَ (27) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَ اللّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (28) ، (القصص).. لما جلس موسى عليه السّلام في الظل و فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ سمعته المرأتان فيما قيل، فذهبتا إلى أبيهما، فيقال: إنه استنكر سرعة رجوعهما فأخبرتاه ما كان من أمر موسى عليه السّلام، فأمر إحداهما أن تذهب إليه فتدعوه، فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ أي مشي الحرائر قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا صرحت له بهذا لئلا يوهم كلامها ريبة، و هذا من تمام حيائها و صيانتها، فَلَمّا جاءَهُ وَ قَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ ، و أخبره خبره، و ما كان من أمره في خروجه من بلاد مصر فرارا من فرعونها قالَ له ذلك الشيخ: لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ أي خرجت من سلطانهم، فلست في دولتهم.
ص: 90
قال المفسرون: و ذلك أن الرعاء كانوا إذا فرغوا من وردهم وضعوا على فم البئر صخرة عظيمة، فتجيء هاتان المرأتان فيشرعان غنمهما في فضل أغنام الناس، فلما كان ذلك اليوم جاء موسى فرفع تلك الصخرة وحده، ثم استقى لهما و سقى غنمهما، ثم رد الحجر كما كان، قال أمير المؤمنين عمر: و كان لا يرفعه إلا عشرة، و إنما استقى ذنوبا واحدا فكفاهما، ثم تولى إلى الظل، قالوا: و كان ظل شجرة من السمر، روى ابن جرير عن ابن مسعود أنه رآها خضراء ترف فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ قال ابن عباس: سار من مصر إلى مدين لم يأكل إلا البقل و ورق الشجر، و كان حافيا، فسقطت نعلا قدميه من الحفاء، و جلس في الظل، و هو صفوة اللّه من خلقه، و إن بطنه للاصق بظهره من الجوع، و إن خضرة البقل لترى من داخل جوفه، و أنه لمحتاج إلى شق تمرة، قال عطاء بن السائب لما فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ أسمع المرأة فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمّا جاءَهُ وَ قَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ (25) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَ ما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللّهُ مِنَ الصّالِحِينَ (27) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَ اللّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (28) ، (القصص).. لما جلس موسى عليه السّلام في الظل و فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ سمعته المرأتان فيما قيل، فذهبتا إلى أبيهما، فيقال: إنه استنكر سرعة رجوعهما فأخبرتاه ما كان من أمر موسى عليه السّلام، فأمر إحداهما أن تذهب إليه فتدعوه، فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ أي مشي الحرائر قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا صرحت له بهذا لئلا يوهم كلامها ريبة، و هذا من تمام حيائها و صيانتها، فَلَمّا جاءَهُ وَ قَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ ، و أخبره خبره، و ما كان من أمره في خروجه من بلاد مصر فرارا من فرعونها قالَ له ذلك الشيخ: لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ أي خرجت من سلطانهم، فلست في دولتهم.
و قد اختلفوا في هذا الشيخ من هو؟ فقيل: هو شعيب عليه السّلام، و هذا هو المشهور عند كثيرين و ممن نص عليه الحسن البصري و مالك بن أنس، و جاء مصرحا به في حديث، و لكن في إسناده نظر، و صرح طائفة بأن شعيبا عليه السّلام عاش عمرا طويلا بعد هلاك قومه، حتى أدركه موسى عليه السّلام و تزوج بابنته. و روى ابن أبي حاتم و غيره عن الحسن البصرى: أن صاحب موسى عليه السّلام هذا اسمه شعيب، و كان سيد الماء، و لكن ليس بالنبي صاحب مدين. و قيل: إنه ابن أخي شعيب، و قيل: ابن عمه، و قيل: رجل مؤمن من قوم شعيب، و قيل: رجل اسمه يثرون، هكذا هو في كتب أهل الكتاب: يثرون كاهن مدين، أي كبيرها و عالمها. قال ابن عباس و أبو عبيدة بن عبد اللّه: اسمه يثرون: زاد أبو عبيدة: و هو ابن أخى شعيب. زاد ابن عباس: صاحب مدين.
و المقصود: أنه لما أضافه، و أكرم مثواه، و قص عليه ما كان من أمره، بشره بأنه قد نجا، فعند ذلك قالت إحدى البنتين لأبيها: يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ أي لرعي غنمك، ثم
ص: 91
مدحته بأنه قوى أمين. قال عمر و ابن عباس و شريح القاضى و أبو مالك و قتادة و محمد بن إسحاق و غير واحد: لما قالت ذلك قال لها أبوها: و ما علمك بهذا؟ فقالت: إنه رفع صخرة لا يطيق رفعها إلا عشرة، و أنه لما جئت معه تقدمت أمامه، فقال: كوني من ورائي، فإذا اختلف الطريق فاقذفي لى بحصاة أعلم بها كيف الطريق.
قال ابن مسعود: أفرس الناس ثلاثة: صاحب يوسف حين قال لامرأته أَكْرِمِي مَثْواهُ و صاحبة موسى حين قالت: يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ، و أبو بكر حين استخلف عمر بن الخطاب. قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَ ما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللّهُ مِنَ الصّالِحِينَ استدل بهذا جماعة من أصحاب أبي حنيفة رحمه اللّه، على صحة ما إذا باعه أحد هذين العبدين أو الثوبين و نحو ذلك أنه يصح، لقوله: إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ و في هذا نظر، لأن هذه مراوضة لا معاقدة، و اللّه أعلم.
و استدل أصحاب أحمد على صحة الإيجار بالطعمة و الكسوة كما جرت به العادة، و استأنسوا بالحديث الذى رواه ابن ماجة في سننه مترجما في كتابه، باب استئجار الأجير، على طعام بطنه: حدثنا محمد بن الصفي الحمصي. حدثنا بقية بن الوليد، عن مسلمة بن علي، عن سعيد بن أبي أيوب، عن الحارث بن يزيد، عن علي بن رباح، قال: سمعت عتبة بن الندر، يقول: كنا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فقرأ: طسم حتى إذا بلغ قصة موسى قال: (إن موسى عليه السّلام آجر نفسه ثماني سنين، أو عشرة، على عفة فرجه و طعام بطنه). و هذا من هذا الوجه لا يصح لأن مسلمة بن على الحسني الدمشقي البلاطي ضعيف عند الأئمة لا يحتج بتفرده. و لكن قد روي من وجه آخر فقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا يحيى بن عبد اللّه بن بكر، حدثني ابن لهيعة و حدثنا أبو زرعة، حدثنا صفوان، حدثنا الوليد، حدثنا عبد اللّه بن لهيعة، عن الحارث بن يزيد الحضرمى، عن علي بن رباح اللخمي، قال: سمعت عتبة بن الندر
ص: 92
السلمي، صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يحدث، أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: (إن موسى عليه السّلام آجر نفسه لعفة فرجه و طعمة بطنه). ثم قال تعالى: قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَ اللّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (28) يقول: إن موسى قال لصهره: الأمر على ما قلت، فأيهما قضيت فلا عدوان علي، و اللّه على مقالتنا سامع و مشاهد، و وكيل على و عليك، و مع هذا فلم يقض موسى إلا أكمل الأجلين و أتمهما، و هو العشر سنين، كوامل تامة.
قال البخاري: حدثنا محمد بن عبد الرحيم، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا مروان ابن شجاع، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، قال: سألني يهودي من أهل الحيرة، أي الأجلين قضى موسى؟ فقلت: لا أدري، حتى أقدم على حبر العرب فأسأله، فقدمت فسألت ابن عباس، فقال: قضى أكثرهما و أطيبهما، إن رسول اللّه إذا قال فعل. تفرد به البخاري من هذا الوجه. و قد رواه النسائى في حديث الفتون، كما سيأتي، من طريق القاسم بن أبي أيوب، عن سعيد بن جبير. و قد رواه ابن جرير عن أحمد بن محمد الطوسي. و ابن أبي حاتم عن أبيه كلاهما عن الحميدي، عن سفيان بن عيينة، حدثني إبراهيم بن يحيى بن أبي يعقوب، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة عن ابن عباس، أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: (سألت جبريل أي الأجلين قضى موسى؟ قال:
أتمهما و أكملهما). و إبراهيم هذا غير معروف إلا بهذا الحديث. و قد رواه البزار عن أحمد بن أبان القرشي، عن سفيان بن عيينة، عن إبراهيم بن أعين، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم فذكره.
و قد رواه سنيد عن حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد مرسلا: (أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم سأل عن ذلك جبريل، فسأل جبريل إسرافيل، فسأل إسرافيل الرب عز و جل، فقال:
أبرهما و أوفاهما). و بنحوه رواه ابن أبي حاتم من حديث يوسف بن سرح مرسلا، و رواه ابن جرير من طريق محمد بن كعب: أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم سئل أي الأجلين قضى موسى؟ قال: (أوفاهما و أتمهما). و قد رواه البزار و ابن أبي حاتم من حديث عويد بن أبي عمران الجونى، و هو ضعيف، عن أبيه، عن عبد اللّه بن الصامت، عن أبي ذر أن
ص: 93
رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم سئل أي الأجلين قضى موسى؟ قال: (أوفاهما و أبرهما). قال: و إن سئلت أي المرأتين تزوج؟ فقل: الصغرى منهما. و قد رواه البزار و ابن أبي حاتم من طريق عبد اللّه بن لهيعة، عن الحارث بن يزيد الحضرمي، عن على بن رباح، عن عتبة بن النذر أن رسول اللّه قال: (إن موسى آجر نفسه بعفة فرجه و طعام بطنه، فلما و في الأجل)، قيل: يا رسول اللّه، أي الأجلين؟ قال: (أبرهما و أوفاهما)، فلما أراد فراق شعيب سأل امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به، فأعطاها ما ولدت من غنمه من قالب لون من ولد ذلك العام، و كانت غنمه سودا حسانا، فانطلق موسى عليه السلام إلى عصا قسمها من طرفها، ثم وضعها في أدنى الحوض، ثم أوردها فسقاها، و وقف موسى عليه السّلام بإزاء الحوض، فلم يصدر منها شاة إلا ضرب جنبها شاة شاة، قال: فأتأمت، و آنثت، و وضعت كلها قوالب ألوان، إلا شاة أو شاتين ليس فيها فشوش، و لا ضبوب، و لا عزوز، و لا ثعول، و لا كموش تفوت الكف)، قال النبي صلّى اللّه عليه و سلم: (لو اقتحمتم الشام وجدتم بقايا تلك الغنم). و هى السامرية.
قال ابن لهيعة: الفشوش: واسعة السخب، و الضبوب: طويلة الضرع تجره، و العزوز:
ضيقة السخب، و الثعول: الصغيرة الضرع كالحلمتين، و الكموش: التي لا يحكم الكف على ضرعها لصغره. و في صحة رفع هذا الحديث نظر، و قد يكون موقوفا.
كما قال ابن جرير: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا معاذ بن هشام، حدثنا أبي، عن قتادة، حدثنا أنس بن مالك، قال: (لما دعا نبي اللّه موسى عليه السّلام صاحبه إلى الأجل الذى كان بينهما، قال له صاحبه: كل شاة ولدت على لونها فلك ولدها، فعمد فوضع خيالا على الماء، فلما رأت الخيال فزعت، فجالت جولة، فولدن كلهن بلقا، إلا شاة واحدة، فذهب بأولادهن ذلك العام). و هذا إسناد رجاله ثقات و اللّه أعلم. و قد تقدم عن نقل أهل الكتاب عن يعقوب عليه السّلام حين فارق خاله لابان أنه أطلق له ما يولد من غنمه بلقا، ففعل نحو ما ذكر عن موسى عليه السّلام، فاللّه أعلم.
و تسير بنا سورة القصص لتكمل القصص: * فَلَمّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَ سارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30) وَ أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلّى مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَ لا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اُسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَ اضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32).. تقدم أن موسى قضى أتم الأجلين و أكملهما، و قد يؤخذ هذا من قوله: فَلَمّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ و عن مجاهد: أنه أكمل عشرا و عشرا بعدها، و قوله: وَ سارَ بِأَهْلِهِ أي من عند صهره ذاهبا، فيما ذكره غير واحد من المفسرين و غيرهم: أنه اشتاق إلى أهله، فقصد زيارتهم ببلاد مصر في صورة مختف، فلما سار بأهله و معه ولدان منهم و غنم قد استفادها مدة مقامه، قالوا: و اتفق ذلك في ليلة مظلمة باردة، و تاهوا في طريقهم، فلم يهتدوا إلى السلوك في الدرب المألوف، و جعل يوري زناده فلا يوري شيئا، و اشتد الظلام و البرد، فبينما هو كذلك إذ أبصر عن بعد نارا تأجج في جانب الطور، و هو الجبل الغربي منه عن يمينه قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً ، و كأنه، و اللّه أعلم، رآها دونهم، لأن هذه النار هى نور في الحقيقة، و لا يصلح رؤيتها لكل أحد لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أي لعلي أستعلم من عندها عن الطريق أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فدل على أنهم كانوا قد تاهوا عن الطريق في ليلة باردة و مظلمة، لقوله في الآية الأخرى: وَ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النّارِ هُدىً (10)، فدل على وجود الظلام، و كونهم تاهوا عن الطريق، و جمع الكل في سورة النمل في قوله: إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7)، و قد أتاهم منها بخبر و أي خبر، و وجد عندها هدى و أي هدى،
ص: 94
و تسير بنا سورة القصص لتكمل القصص: * فَلَمّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَ سارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30) وَ أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلّى مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَ لا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اُسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَ اضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32).. تقدم أن موسى قضى أتم الأجلين و أكملهما، و قد يؤخذ هذا من قوله: فَلَمّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ و عن مجاهد: أنه أكمل عشرا و عشرا بعدها، و قوله: وَ سارَ بِأَهْلِهِ أي من عند صهره ذاهبا، فيما ذكره غير واحد من المفسرين و غيرهم: أنه اشتاق إلى أهله، فقصد زيارتهم ببلاد مصر في صورة مختف، فلما سار بأهله و معه ولدان منهم و غنم قد استفادها مدة مقامه، قالوا: و اتفق ذلك في ليلة مظلمة باردة، و تاهوا في طريقهم، فلم يهتدوا إلى السلوك في الدرب المألوف، و جعل يوري زناده فلا يوري شيئا، و اشتد الظلام و البرد، فبينما هو كذلك إذ أبصر عن بعد نارا تأجج في جانب الطور، و هو الجبل الغربي منه عن يمينه قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً ، و كأنه، و اللّه أعلم، رآها دونهم، لأن هذه النار هى نور في الحقيقة، و لا يصلح رؤيتها لكل أحد لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أي لعلي أستعلم من عندها عن الطريق أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فدل على أنهم كانوا قد تاهوا عن الطريق في ليلة باردة و مظلمة، لقوله في الآية الأخرى: وَ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النّارِ هُدىً (10)، فدل على وجود الظلام، و كونهم تاهوا عن الطريق، و جمع الكل في سورة النمل في قوله: إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7)، و قد أتاهم منها بخبر و أي خبر، و وجد عندها هدى و أي هدى،
ص: 95
و اقتبس منها نورا و أي نور.
قال اللّه تعالى: فَلَمّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ، و قال في النمل: فَلَمّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النّارِ وَ مَنْ حَوْلَها وَ سُبْحانَ اللّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8) أي سبحان اللّه الذى يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)، و قال في سورة طه: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وَ أَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13) إِنَّنِي أَنَا اللّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَ اتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16)... قال غير واحد من المفسرين من السلف و الخلف: لما قصد موسى إلى تلك النار التى رآها فانتهى إليها، وجدها تأجج في شجرة خضراء من العوسج، و كل ما لتلك النار في اضطرام، و كل ما لخضرة تلك الشجرة في ازدياد، فوقف متعجبا، و كانت تلك الشجرة في لحف جبل غربي منه عن يمينه، كما قال تعالى:
وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَ ما كُنْتَ مِنَ الشّاهِدِينَ (44) و كان موسى في واد اسمه طوى، فكان موسى مستقبل القبلة و تلك الشجرة عن يمينه من ناحية الغرب، فناداه ربه بالواد المقدس طوى، فأمر أولا بخلع نعليه تعظيما و تكريما و توقيرا لتلك البقعة المباركة، و لا سيما في تلك الليلة المباركة.
و عند أهل الكتاب: أنه وضع يده على وجهه من شدة ذلك النور، مهابة له و خوفا على بصره، ثم خاطبه تعالى كما يشاء قائلا له: إِنِّي أَنَا اللّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ، إِنَّنِي أَنَا اللّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي أي أنا رب العالمين الذى لا إله إلا هو، الذي لا تصلح العبادة و إقامة الصلاة إلا له، ثم أخبره أن هذه الدنيا ليست بدار قرار، و إنما الدار الباقية يوم القيامة، التي لا بدّ من كونها و وجودها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى أي من خير و شر، و حضه و حثه على العمل لها، و مجانبة من لا يؤمن بها ممن عصى مولاه و اتبع هواه، ثم قال له مخاطبا و مؤانسا و مبينا
ص: 96
له أنه القادر على كل شيء الذى يقول للشيء كن فيكون: وَ ما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) أي أما هذه عصاك التى تعرفها منذ صحبتها؟ قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَ أَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَ لِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) أي بل هذه عصاي التى أعرفها و أتحققها قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) و هذا خارق عظيم و برهان قاطع على أن الذى يكلمه يقول للشيء كن فيكون، و أنه الفعال بالاختيار.
و عند أهل الكتاب: أنه سأل برهانا على صدقه عند من يكذبه من أهل مصر، فقال له الرب عز و جل: ما هذه التى في يدك؟ قال: عصاي، قال: ألقها إلى الأرض فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى فهرب موسى من قدامها، فأمره الرب عز و جل أن يبسط يده و يأخذها بذنبها، فلما استمكن منها ارتدت عصا في يده، و قد قال اللّه تعالى في الآية الأخرى: وَ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلّى مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّبْ أي قد صارت حية عظيمة لها ضخامة هائلة و أنياب تصك، و هي مع ذلك في سرعة حركة الجان، و هو ضرب من الحيات، يقال: الجان و الجنان، و هو لطيف و لكن سريع الاضطراب و الحركة جدا، فهذه جمعت الضخامة و السرعة الشديدة، فلما عاينها موسى عليه السلام وَلّى مُدْبِراً أي هاربا منها، لأن طبيعته البشرية تقتضى ذلك وَ لَمْ يُعَقِّبْ أي و لم يلتفت فناداه ربه، قائلا له: يا مُوسى أَقْبِلْ وَ لا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ فلما رجع أمره اللّه تعالى أن يمسكها قالَ خُذْها وَ لا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21) فيقال: إنه هابها شديدا فوضع يده في كم مدرعته، ثم وضع يده في وسط فمها. و عند أهل الكتاب: أمسك بذنبها، فلما استمكن منها إذا هي قد عادت كما كانت عصا ذات شعبتين، فسبحان القدير العظيم رب المشرقين و المغربين، ثم أمره تعالى بإدخال يده في جيبه ثم أمره بنزعها، فإذا هى تتلألأ كالقمر بياضا من غير سوء، أي من غير برص و لا بهق، و لهذا قال: اُسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَ اضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ قيل: معناه إذا خفت فضع يدك على فؤادك يسكن جأشك، و هذا و إن كان خاصا به، إلا أن بركة الإيمان به حق بأن ينفع من استعمل
ص: 97
ذلك على وجه الاقتداء بالأنبياء.
و قال في سورة النمل: وَ أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَ قَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12) أي هاتان الآيتان، و هما العصا و اليد، و هما البرهانان المشار إليهما في قوله: فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ و مع ذلك سبع آيات أخر، فذلك تسع آيات بينات و هى المذكورة في آخر سورة سبحان، حيث يقول تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (101) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاّ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ بَصائِرَ وَ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102)، و هي المبسوطة في سورة الأعراف في قوله: وَ لَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَ نَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَ مَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللّهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131) وَ قالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَ الْجَرادَ وَ الْقُمَّلَ وَ الضَّفادِعَ وَ الدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133)، كما سيأتي الكلام على ذلك في موضعه، و هذه التسع آيات غير العشر الكلمات، فإن التسع من كلمات اللّه القدرية، و العشر من كلماته الشرعية، و إنما نبهنا على هذا لأنه قد اشتبه أمرها على بعض الرواة، فظن أن هذه هي هذه.
و المقصود: أن اللّه سبحانه لما أمر موسى عليه السّلام بالذهاب إلى فرعون قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَ أَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَ نَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَ مَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (35)، (القصص). يقول تعالى مخبرا عن عبده و رسوله و كليمه موسى عليه السّلام، في جوابه
ص: 98
لربه عز و جل، حين أمره بالذهاب إلى عدوه الذى خرج من ديار مصر فرارا من سطوته و ظلمه، حين كان من أمره ما كان في قتل ذلك القبطي، و لهذا قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَ أَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ أي اجعله معى معينا و ردءا و وزيرا يساعدني و يعينني على أداء رسالتك إليهم، فإنه أفصح مني لسانا، و أبلغ بيانا، قال اللّه تعالى مجيبا له إلى سؤاله: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَ نَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً أي برهانا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما أي فلا ينالون منكما مكروها بسبب قيامكما، بآياتنا، و قيل: ببركة آياتنا أَنْتُما وَ مَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ .
و قال في سورة طه: اِذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25)، قيل: إنه أصابه في لسانه لثغة، بسبب تلك الجمرة التى وضعها على لسانه التى كان فرعون أراد اختبار عقله، حين أخذ بلحيته و هو صغير فهم بقتله، فخافت عليه آسية و قالت: إنه طفل، فاختبره بوضع تمرة و جمرة بين يديه، فهم بأخذ التمرة فصرف الملك يده إلى الجمرة، فأخذها فوضعها على لسانه، فأصابه لثغة بسببها، فسأل زوال بعضها بمقدار ما يفهمون قوله، و لم يسأل زوالها بالكلية.
قال الحسن البصري: و الرسل إنما يسألون بحسب الحاجة، و لهذا بقيت في لسانه بقية، و لهذا قال فرعون قبحه اللّه فيما زعم إنه يعيب به الكليم: وَ لا يَكادُ يُبِينُ أي يفصح عن مراده، و يعبر عما في ضميره و فؤاده، ثم قال موسى عليه السلام: وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35) قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (36)، (طه). أي قد أجبناك إلى جميع ما سألت، و أعطيناك الذى طلبت، و هذا من وجاهته عند ربه عز و جل حين شفع أن يوحي اللّه إلى أخيه فأوحى إليه، و هذا جاه عظيم، قال اللّه تعالى: وَ كانَ عِنْدَ اللّهِ وَجِيهاً ، و قال تعالى: وَ وَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53)، و قد سمعت أم المؤمنين عائشة رجلا يقول لأناس و هم
ص: 99
سائرون طريق الحج: أي أخ أمن على أخيه؟ فسكت القوم، فقالت عائشة: لمن حول هودجها هو موسى بن عمران، حين شفع في أخيه هارون. فأوحى إليه قال اللّه تعالى:
وَ وَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53).
قال تعالى في سورة الشعراء: وَ إِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَ لا يَتَّقُونَ (11) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَ يَضِيقُ صَدْرِي وَ لا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَ لَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قالَ كَلاّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) قالَ أَ لَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَ لَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَ أَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19)... تقدير الكلام: فأتياه، فقالا له ذلك، و بلغاه ما أرسلا به من دعوته إلى عبادة اللّه تعالى وحده لا شريك له، و أن يفك أسارى بني إسرائيل من قبضته و قهره و سطوته، و تركهم يعبدون ربهم حيث شاءوا، و يتفرغون لتوحيده و دعائه و التضرع لديه، فتكبر فرعون في نفسه، و عتا و طغى، و نظر إلى موسى بعين الازدراء و التنقص، قائلا له: أَ لَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَ لَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ أي أما أنت الذى ربيناه في منزلنا، و أحسنا إليه و أنعمنا عليه مدة من الدهر، و هذا يدل على أن فرعون الذى بعث إليه هو الذي فر منه، خلافا لما عند أهل الكتاب من أن فرعون الذى فر منه مات في مدة مقامه بمدين، و أن الذى بعث إليه فرعون آخر.
و قوله: وَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَ أَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ أي و قتلت الرجل القبطي، و فررت منا، و جحدت نعمتنا قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضّالِّينَ (20) أي قبل أن يوحى إلى و ينزل على فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) ثم قال مجيبا لفرعون عما امتن به من التربية و الإحسان إليه: وَ تِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22) أي و هذه النعمة التى ذكرت من أنك أحسنت إلى و أنا رجل واحد من بني إسرائيل، تقابل ما استخدمت هذا الشعب العظيم بكماله و استعبدتهم في أعمالك، و خدمك، و أشغالك قالَ فِرْعَوْنُ وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَ لا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ ما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28).
ص: 100
و قوله: وَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَ أَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ أي و قتلت الرجل القبطي، و فررت منا، و جحدت نعمتنا قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضّالِّينَ (20) أي قبل أن يوحى إلى و ينزل على فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) ثم قال مجيبا لفرعون عما امتن به من التربية و الإحسان إليه: وَ تِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22) أي و هذه النعمة التى ذكرت من أنك أحسنت إلى و أنا رجل واحد من بني إسرائيل، تقابل ما استخدمت هذا الشعب العظيم بكماله و استعبدتهم في أعمالك، و خدمك، و أشغالك قالَ فِرْعَوْنُ وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَ لا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ ما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28).
يذكر تعالى ما كان بين فرعون و موسى من المقاولة، و المحاجة، و المناظرة، و ما أقامه الكليم على فرعون اللئيم من الحجة العقلية المعنوية ثم الحسية، و ذلك أن فرعون، قبحه اللّه، أظهر جحد الصانع تبارك و تعالى، و زعم أنه الإله: فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24) و قال: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي
و هو في هذه المقالة معاند، يعلم أنه عبد مربوب، و أن اللّه هو الخالق البارئ المصور الإله الحق، كما قال تعالى: وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) و لهذا قال لموسى عليه السلام على سبيل الإنكار لرسالته و الاظهار أنه ما ثم رب أرسله: وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ لأنهما قالا له: إِنّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ فكأنه يقول لهما: و من رب العالمين الذى تزعمان أنه أرسلكما و ابتعثكما؟ فأجابه موسى قائلا: رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) يعني رب العالمين، خالق هذه السماوات و الأرض المشاهدة، و ما بينهما من المخلوقات المتجددة، من السحاب و الرياح، و المطر و النبات، و الحيوانات التي يسلم كل موقن أنها لم تحدث بأنفسها، و لا بد لها من موجد و محدث و خالق، و هو اللّه الذى لا إله إلا هو رب العالمين قالَ أي فرعون، لِمَنْ حَوْلَهُ من أمرائه، و مرازبته، و وزرائه على سبيل التهكم و التنقص لما قرره موسى عليه السلام: أَ لا تَسْتَمِعُونَ
يعني كلامه هذا. قالَ موسى مخاطبا له و لهم: قالَ رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) أي هو الذي خلقكم و الذين من قبلكم من الآباء و الأجداد، و القرون السالفة في الآباد، فإن كل أحد يعلم أنه لم يخلق نفسه و لا أبوه و لا أمه، و لم يحدث من غير محدث، و إنما أوجده و خلقه رب العالمين، و هذان المقامان هما المذكوران في قوله تعالى:
سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ و مع هذا كله لم يستفق فرعون من رقدته، و لا نزع عن ضلالته، بل استمر على طغيانه و عناده و كفرانه
ص: 101
قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ ما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) أي هو المسخر لهذه الكواكب الزاهرة المسير للأفلاك الدائرة، خالق الظلام و الضياء، و رب الأرض و السماء، رب الأولين و الآخرين، خالق الشمس و القمر و الكواكب السائرة، و الثوابت الحائرة، خالق الليل بظلامه، و النهار بضيائه، و الكل تحت قهره و تسخيره و تسييره سائرون، و في فلك يسبحون يتعاقبون في سائر الأوقات و يدورون، فهو تعالى الخالق المالك المتصرف في خلقه بما يشاء، فلما قامت الحجج على فرعون و انقطعت شبهه، و لم يبق له قول سوى العناد، عدل إلى استعمال سلطانه و جاهه و سطوته قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْ ءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ (31) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنّاظِرِينَ (33)، و هذان هما البرهانان اللذان أيده اللّه بهما، و هما العصا و اليد، و ذلك مقام أظهر فيه الخارق العظيم، الذى بهر به العقول و الأبصار، حين ألقى عصاه فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ أي عظيم الشكل بديع في الضخامة و الهول و المنظر العظيم الفظيع الباهر، حتى قيل: إن فرعون لما شاهد ذلك و عاينه أخذه رهب شديد و خوف عظيم بحيث إنه حصل له إسهال عظيم أكثر من أربعين مرة في يوم، و كان قبل ذلك لا يتبرز في كل أربعين يوما إلا مرة واحدة، فانعكس عليه الحال، و هكذا لما أدخل موسى عليه السلام يده في جيبه و استخرجها أخرجها و هي كفلقة القمر تتلألأ نورا بهر الأبصار، فإذا أعادها إلى جيبه رجعت إلى صفتها الأولى، و مع هذا كله لم ينتفع فرعون، لعنه اللّه، بشيء من ذلك بل استمر على ما هو عليه، و أظهر أن هذا كله سحر، و أراد معارضته بالسحرة، فأرسل يجمعهم من سائر مملكته و من في رعيته و تحت قهره و دولته، كما سيأتي بسطه و بيانه في موضعه من إظهار اللّه الحق المبين و الحجة الباهرة القاطعة على فرعون و ملائه و أهل دولته و ملته، و للّه الحمد و المنة.
و قال تعالى في سورة طه: إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ وَ قَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَ فَتَنّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40) وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اِذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ بِآياتِي وَ لا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) اِذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَ أَرى (46)، يقول تعالى مخاطبا لموسى فيما كلمه به ليلة أوحى إليه و أنعم بالنبوة عليه و كلمه منه إليه: قد كنت مشاهدا لك و أنت في دار فرعون، و أنت تحت كنفي و حفظي و لطفي، ثم أخرجتك من أرض مصر إلى أرض مدين بمشيئتى و قدرتي و تدبيري، فلبثت فيها سنين ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ أي مني لذلك فوافق ذلك تقديري و تسييري وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي أي اصطفيتك لنفسي برسالتي و بكلامي اِذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ بِآياتِي وَ لا تَنِيا فِي ذِكْرِي يعني و لا تفترا في ذكري، إذ قدمتما عليه، و وفدتما إليه، فإن ذلك عون لكما على مخاطبته و مجاوبته، و إهداء النصيحة إليه، و إقامة الحجة عليه، و قد جاء في بعض الأحاديث: (يقول اللّه تعالى: إن عبدي كل عبدي الذى يذكرني و هو ملاق قرنه). و قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَ اذْكُرُوا اللّهَ كَثِيراً الآية، ثم قال تعالى: اِذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى و هذا من حلمه تعالى و كرمه و رأفته و رحمته بخلقه، مع علمه بكفر فرعون و عتوه و تجبره، و هو إذ ذاك أردى خلقه، و قد بعث إليه صفوته من خلقه في ذلك الزمان، و مع هذا يقول لهما و يأمرهما أن يدعواه إليه بالتي هي أحسن برفق و لين، و يعاملاه معاملة من يرجو أن يتذكر أو يخشى، كما قال لرسوله: اُدْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)، و قال تعالى: * وَ لا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ الآية.
ص: 102
و قال تعالى في سورة طه: إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ وَ قَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَ فَتَنّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40) وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اِذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ بِآياتِي وَ لا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) اِذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَ أَرى (46)، يقول تعالى مخاطبا لموسى فيما كلمه به ليلة أوحى إليه و أنعم بالنبوة عليه و كلمه منه إليه: قد كنت مشاهدا لك و أنت في دار فرعون، و أنت تحت كنفي و حفظي و لطفي، ثم أخرجتك من أرض مصر إلى أرض مدين بمشيئتى و قدرتي و تدبيري، فلبثت فيها سنين ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ أي مني لذلك فوافق ذلك تقديري و تسييري وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي أي اصطفيتك لنفسي برسالتي و بكلامي اِذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ بِآياتِي وَ لا تَنِيا فِي ذِكْرِي يعني و لا تفترا في ذكري، إذ قدمتما عليه، و وفدتما إليه، فإن ذلك عون لكما على مخاطبته و مجاوبته، و إهداء النصيحة إليه، و إقامة الحجة عليه، و قد جاء في بعض الأحاديث: (يقول اللّه تعالى: إن عبدي كل عبدي الذى يذكرني و هو ملاق قرنه). و قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَ اذْكُرُوا اللّهَ كَثِيراً الآية، ثم قال تعالى: اِذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى و هذا من حلمه تعالى و كرمه و رأفته و رحمته بخلقه، مع علمه بكفر فرعون و عتوه و تجبره، و هو إذ ذاك أردى خلقه، و قد بعث إليه صفوته من خلقه في ذلك الزمان، و مع هذا يقول لهما و يأمرهما أن يدعواه إليه بالتي هي أحسن برفق و لين، و يعاملاه معاملة من يرجو أن يتذكر أو يخشى، كما قال لرسوله: اُدْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)، و قال تعالى: * وَ لا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ الآية.
قال الحسن البصري: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً أعذرا إليه قولا له: إن لك ربا و لك معادا، و إن بين يديك جنة و نارا. و قال وهب بن منبه: قولا له: إني إلى العفو و المغفرة أقرب مني إلى الغضب و العقوبة. قال يزيد الرقاشي عند هذه الآية: يا من يتحبب إلى من يعاديه، فكيف بمن يتولاه و يناديه قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى و ذلك أن فرعون كان جبارا عنيدا و شيطانا مريدا له سلطان في بلاد مصر طويل عريض، و جاه و جنود و عساكر و سطوة، فهاباه من حيث البشرية، و خافا أن يسطو عليهما في بادئ الأمر، فثبتهما تعالى و هو العلي الأعلى، فقال: قال لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَ أَرى ، كما قال في الآية الأخرى: إِنّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ ، فَأْتِياهُ فَقُولا إِنّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَ السَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) إِنّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَ تَوَلّى (48)، يذكر تعالى أنه أمرهما أن يذهبا إلى فرعون، فيدعواه إلى اللّه تعالى، أن يعبده وحده لا شريك له، و أن يرسل معهم بني إسرائيل، و يطلقهم من أسره و قهره، و لا يعذبهم قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ و هو البرهان العظيم في العصى و اليد وَ السَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى تقيد مفيد بليغ عظيم، ثم تهدداه و توعداه على التكذيب فقالا:
ص: 103
قال الحسن البصري: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً أعذرا إليه قولا له: إن لك ربا و لك معادا، و إن بين يديك جنة و نارا. و قال وهب بن منبه: قولا له: إني إلى العفو و المغفرة أقرب مني إلى الغضب و العقوبة. قال يزيد الرقاشي عند هذه الآية: يا من يتحبب إلى من يعاديه، فكيف بمن يتولاه و يناديه قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى و ذلك أن فرعون كان جبارا عنيدا و شيطانا مريدا له سلطان في بلاد مصر طويل عريض، و جاه و جنود و عساكر و سطوة، فهاباه من حيث البشرية، و خافا أن يسطو عليهما في بادئ الأمر، فثبتهما تعالى و هو العلي الأعلى، فقال: قال لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَ أَرى ، كما قال في الآية الأخرى: إِنّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ ، فَأْتِياهُ فَقُولا إِنّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَ السَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) إِنّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَ تَوَلّى (48)، يذكر تعالى أنه أمرهما أن يذهبا إلى فرعون، فيدعواه إلى اللّه تعالى، أن يعبده وحده لا شريك له، و أن يرسل معهم بني إسرائيل، و يطلقهم من أسره و قهره، و لا يعذبهم قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ و هو البرهان العظيم في العصى و اليد وَ السَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى تقيد مفيد بليغ عظيم، ثم تهدداه و توعداه على التكذيب فقالا:
إِنّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَ تَوَلّى أي كذب بالحق بقلبه و تولى عن العمل بقالبه.
و قد ذكر السدي: و غيره أنه لما قدم من بلاد مدين دخل على أمه و أخيه هارون و هما يتعشيان من طعام فيه الطفشيل، و هو اللفت، فأكل معهما ثم قال: يا هارون، إن اللّه أمرني و أمرك أن ندعو فرعون إلى عبادته فقم معي، فقاما يقصدان باب فرعون، فإذا هو مغلق، فقال موسى للبوابين و الحجبة: أعلموه أن رسول اللّه بالباب فجعلوا يسخرون منه و يستهزءون به.
و قد زعم بعضهم أنه لم يؤذن لهما عليه إلا بعد حين طويل. و قال محمد بن إسحاق: أذن لهما بعد سنتين، لأنه لم يك أحد يتجاسر على الاستئذان لهما، فاللّه أعلم. و يقال: إن موسى تقدم إلى الباب فطرقه بعصاه، فانزعج فرعون و أمر بإحضارهما فوقفا بين يديه فدعواه إلى اللّه عز و جل كما أمرهما.
و عند أهل الكتاب: أن اللّه قال لموسى عليه السلام: إن هارون اللاوي، يعني من نسل لاوي بن يعقوب، سيخرج و يتلقاك، و أمره أن يأخذ معه مشايخ بني إسرائيل إلى
ص: 104
فرعون، و أمره أن يظهر ما أتاه من الآيات، و قال له: إني سأقسي قلبه فلا يرسل الشعب، و أكثر آياتي و أعاجيبي بأرض مصر، و أوحى اللّه إلى هارون أن يخرج إلى أخيه يتلقاه بالبرية عند جبل حوريب، فلما تلقاه أخبره موسى بما أمره به ربه، فلما دخلا مصر جمعا شيوخ بني إسرائيل، و ذهبا إلى فرعون، فلما بلغاه رسالة اللّه، قال: من هو اللّه، لا أعرفه؟ و لا أرسل بني إسرائيل، و قال اللّه مخبرا عن فرعون: قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَ لا يَنْسى (52) اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَ سَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتّى (53) كُلُوا وَ ارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (54) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَ فِيها نُعِيدُكُمْ وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55)، (طه).
يقول تعالى مخبرا عن فرعون إنه أنكر إثبات الصانع تعالى قائلا: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى أي هو الذي خلق الخلق و قدر لهم أعمالا و أرزاقا و آجالا، و كتب ذلك عنده في كتابه اللوح المحفوظ، ثم هدى كل مخلوق إلى ما قدره له، فطابق عمله فيهم على الوجه الذى قدره، و علمه لكمال علمه و قدرته و قدره، و هذه الآية كقوله تعالى في سورة الأعلى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوّى (2) وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3)، أي قدر قدرا و هدى الخلائق إليه قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى يقول فرعون لموسى: فإذا كان ربك هو الخالق المقدر الهادي الخلائق لما قدره، و هو بهذه المثابة من أنه لا يستحق العبادة سواه، فلم عبد الأولون غيره و أشركوا به من الكواكب و الأنداد ما قد علمت، فهلا اهتدى إلى ما ذكرته القرون الأولى؟ قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَ لا يَنْسى أي هم و إن عبدوا غيره فليس ذلك بحجة لك، و لا يدل على خلاف ما أقول، لأنهم جهلة مثلك كل شيء فعلوه مسطر عليهم في الزبر من صغير و كبير، و سيجزيهم على ذلك ربي عز و جل، و لا يظلم أحدا مثقال ذرة، لأن جميع أفعال العباد مكتوبة عنده في كتاب لا يضل عنه
ص: 105
شيء و لا ينسى ربي شيئا، ثم ذكر له عظمة الرب و قدرته على خلق الأشياء و جعله الأرض مهادا، و السماء سقفا محفوظا، و تسخيره السحاب و الأمطار لرزق العباد و دوابهم و أنعامهم، كما قال: كُلُوا وَ ارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى أي لذوي العقول الصحيحة المستقيمة و الفطر القويمة غير السقيمة، فهو تعالى الخالق الرزاق، و كما قال تعالى: يا أَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَ السَّماءَ بِناءً وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلّهِ أَنْداداً وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)، (البقرة). و لما ذكر إحياء الأرض بالمطر و اهتزازها بإخراج نباتها فيه، نبه به على المعاد فقال: مِنْها أي من الأرض خَلَقْناكُمْ وَ فِيها نُعِيدُكُمْ وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى
كما قال تعالى: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ .
و قال تعالى: وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)، ثم قال تعالى: وَ لَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَ أَبى (56) قالَ أَ جِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَ بَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَ لا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَ أَنْ يُحْشَرَ النّاسُ ضُحًى (59). يخبر تعالى عن شقاء فرعون، و كثرة جهله، و قلة عقله، في تكذيبه بآيات اللّه، و استكباره عن اتباعها و قوله لموسى: إن هذا الذى جئت به سحر، و نحن نعارضك بمثله، ثم طلب من موسى أن يواعده إلى وقت معلوم، و مكان معلوم، و كان هذا من أكبر مقاصد موسى عليه السلام، أن يظهر آيات اللّه و حججه و براهينه جهرة بحضرة الناس، و لهذا قال: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ و كان يوم عيد من أعيادهم و مجتمع لهم وَ أَنْ يُحْشَرَ النّاسُ ضُحًى أي من أول النهار في وقت اشتداد ضياء الشمس، فيكون الحق أظهر و أجلى، و لم يطلب أن يكون ذلك ليلا في ظلام كيما يروج عليهم محالا و باطلا، بل طلب أن يكون نهارا جهرة، لأنه على بصيرة من ربه، و يقين أن اللّه سيظهر كلمته و دينه، و إن رغمت أنوف القبط.
ص: 106
قال اللّه تعالى: فَتَوَلّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (60) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَ قَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَ أَسَرُّوا النَّجْوى (62) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَ يَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَ قَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (64)، (طه). يخبر تعالى عن فرعون أنه ذهب فجمع من كان ببلاده من السحرة، و كانت بلاد مصر في ذلك الزمان مملوءة سحرة فضلاء في فنهم غاية، فجمعوا له من كل بلد و من كل مكان، فاجتمع منهم خلق كثير و جم غفير، فقيل: كانوا ثمانين ألفا، قاله محمد بن كعب. و قيل: سبعين ألفا، قاله القاسم بن أبي بردة. و قال السدي: بضعة و ثلاثين ألفا. و عن أبي أمامة: تسعة عشر ألفا. و قال محمد بن إسحاق:
خمسة عشر ألفا. و قال كعب الأحبار: كانوا اثني عشر ألفا. و روي ابن أبي حاتم عن ابن عباس: كانوا سبعين رجلا، و روي عنه أيضا: أنهم كانوا أربعين غلاما من بني إسرائيل، أمرهم فرعون أن يذهبوا إلى العرفاء فيتعلموا السحر، و لهذا قالوا: وَ ما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ، و في هذا نظر.
و حضر فرعون و أمراؤه و أهل دولته و أهل بلده عن بكرة أبيهم، و ذلك أن فرعون نادى فيهم أن يحضروا هذا الموقف العظيم، فخرجوا و هم يقولون: لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40) و تقدم موسى عليه السلام إلى السحرة فوعظهم و زجرهم عن تعاطي السحر الباطل الذى فيه معارضة لآيات اللّه و حججه، فقال: وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَ قَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَ أَسَرُّوا النَّجْوى (62) قيل: معناه أنهم اختلفوا فيما بينهم، فقائل يقول: هذا كلام نبي و ليس بساحر، و قائل منهم يقول: بل هو ساحر، فاللّه أعلم، و أسروا التناجي بهذا و غيره: قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما
يقولون: إن هذا و أخاه هارون ساحران عليمان مطبقان متقنان لهذه الصناعة، و مرادهما أن يجتمع الناس عليهما و يصولا على الملك و حاشيته و يستأصلاكم عن آخركم و يستأمرا عليكم
ص: 107
بهذه الصناعة فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَ قَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (64) و إنما قالوا الكلام الأول ليتدبروا و يتواصوا و يأتوا بجميع ما عندهم من المكيدة و المكر و الخديعة، و السحر و البهتان، و هيهات كذبت و اللّه الظنون، و أخطأت الآراء أني يعارض البهتان و السحر و الهذيان، خوارق العادات التى أجراها الديان على يدي عبده الكليم و رسوله الكريم المؤيد بالبرهان الذى يبهر الأبصار و تحار فيه العقول و الأذهان، و قولهم:
فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ أي جميع ما عندكم ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا أي جملة واحدة، ثم حضوا بعضهم بعضا على التقدم في هذا المقام، لأن فرعون كان قد وعدهم و مناهم و ما يعدهم الشيطان إلا غرورا قالُوا يا مُوسى إِمّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَ عِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَ أَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَ لا يُفْلِحُ السّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69)، (طه).
لما اصطفّ السحرة و وقف موسى و هارون عليهما السلام تجاههم قالوا له: إما أن تلقي قبلنا، و إما أن نلقي قبلك قالَ بَلْ أَلْقُوا أنتم و كانوا قد عمدوا إلى حبال و عصي، فأودعوها الزئبق، و غيره من الآلات، التى تضطرب بسببها تلك الحبال و العصى، اضطرابا يخيل للرائى أنها تسعى باختيارها، و إنما تتحرك بسبب ذلك، فعند ذلك سحروا أعين الناس، و استرهبوهم و ألقوا حبالهم و عصيهم، و هم يقولون: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ قال اللّه تعالى: فَلَمّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النّاسِ وَ اسْتَرْهَبُوهُمْ وَ جاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)، و قال تعالى: فَإِذا حِبالُهُمْ وَ عِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) أي خاف على الناس أن يفتتنوا بسحرهم، و محا لهم قبل أن يلقي ما في يده، فإنه لا يضع شيئا قبل أن يؤمر فأوحى اللّه إليه في الساعة الراهنة قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَ أَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَ لا يُفْلِحُ السّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69) فعند ذلك ألقى موسى عصاه، و قال: فَلَمّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَ يُحِقُّ اللّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)، و قال تعالى: وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَ بَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَ انْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119) وَ أُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ (122)، (الأعراف)، و ذلك أن موسى عليه السلام لما ألقاها صارت حية عظيمة ذات قوائم، فيما ذكره غير واحد من علماء السلف، و عنق عظيم، و شكل هائل مزعج، بحيث أن الناس انحازوا منها و هربوا سراعا و تأخروا عن مكانها، و أقبلت هي على ما ألقوه من الحبال و العصي فجعلت تلقفه واحدا واحدا في أسرع ما يكون من الحركة، و الناس ينظرون إليها و يتعجبون منها، و أما السحرة فإنهم رأوا ما هالهم و حيرهم في أمرهم، و اطلعوا على أمر لم يكن في خلدهم و لا بالهم، و لا يدخل تحت صناعاتهم و أشغالهم، فعند ذلك و هنالك تحققوا بما عندهم من العلم أن هذا ليس بسحر، و لا شعوذة، و لا محال، و لا خيال، و لا زور، و لا بهتان، و لا ضلال، بل حق لا يقدر عليه إلا الحق الذى ابتعث هذا المؤيد به بالحق، و كشف اللّه عن قلوبهم غشاوة الغفلة، و أنارها بما خلق فيها من الهدى، و أزاح عنها القسوة، و أنابوا إلى ربهم و خروا له ساجدين، و قالوا جهرة للحاضرين و لم يخشوا عقوبة و لا بلوى: آمَنّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ (122)، كما قال تعالى في سورة طه: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنّا بِرَبِّ هارُونَ وَ مُوسى (70) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَ لَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَ أَبْقى (71) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنّا آمَنّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَ ما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَ اللّهُ خَيْرٌ وَ أَبْقى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَ لا يَحْيى (74) وَ مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) جَنّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكّى (76).
ص: 108
لما اصطفّ السحرة و وقف موسى و هارون عليهما السلام تجاههم قالوا له: إما أن تلقي قبلنا، و إما أن نلقي قبلك قالَ بَلْ أَلْقُوا أنتم و كانوا قد عمدوا إلى حبال و عصي، فأودعوها الزئبق، و غيره من الآلات، التى تضطرب بسببها تلك الحبال و العصى، اضطرابا يخيل للرائى أنها تسعى باختيارها، و إنما تتحرك بسبب ذلك، فعند ذلك سحروا أعين الناس، و استرهبوهم و ألقوا حبالهم و عصيهم، و هم يقولون: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ قال اللّه تعالى: فَلَمّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النّاسِ وَ اسْتَرْهَبُوهُمْ وَ جاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)، و قال تعالى: فَإِذا حِبالُهُمْ وَ عِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) أي خاف على الناس أن يفتتنوا بسحرهم، و محا لهم قبل أن يلقي ما في يده، فإنه لا يضع شيئا قبل أن يؤمر فأوحى اللّه إليه في الساعة الراهنة قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَ أَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَ لا يُفْلِحُ السّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69) فعند ذلك ألقى موسى عصاه، و قال: فَلَمّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَ يُحِقُّ اللّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)، و قال تعالى: وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَ بَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَ انْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119) وَ أُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ (122)، (الأعراف)، و ذلك أن موسى عليه السلام لما ألقاها صارت حية عظيمة ذات قوائم، فيما ذكره غير واحد من علماء السلف، و عنق عظيم، و شكل هائل مزعج، بحيث أن الناس انحازوا منها و هربوا سراعا و تأخروا عن مكانها، و أقبلت هي على ما ألقوه من الحبال و العصي فجعلت تلقفه واحدا واحدا في أسرع ما يكون من الحركة، و الناس ينظرون إليها و يتعجبون منها، و أما السحرة فإنهم رأوا ما هالهم و حيرهم في أمرهم، و اطلعوا على أمر لم يكن في خلدهم و لا بالهم، و لا يدخل تحت صناعاتهم و أشغالهم، فعند ذلك و هنالك تحققوا بما عندهم من العلم أن هذا ليس بسحر، و لا شعوذة، و لا محال، و لا خيال، و لا زور، و لا بهتان، و لا ضلال، بل حق لا يقدر عليه إلا الحق الذى ابتعث هذا المؤيد به بالحق، و كشف اللّه عن قلوبهم غشاوة الغفلة، و أنارها بما خلق فيها من الهدى، و أزاح عنها القسوة، و أنابوا إلى ربهم و خروا له ساجدين، و قالوا جهرة للحاضرين و لم يخشوا عقوبة و لا بلوى: آمَنّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ (122)، كما قال تعالى في سورة طه: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنّا بِرَبِّ هارُونَ وَ مُوسى (70) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَ لَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَ أَبْقى (71) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنّا آمَنّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَ ما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَ اللّهُ خَيْرٌ وَ أَبْقى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَ لا يَحْيى (74) وَ مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) جَنّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكّى (76).
ص: 109
قال سعيد بن جبير و عكرمة و القاسم بن أبي بردة و الأوزاعي و غيرهم: لما سجد السحرة رأوا منازلهم و قصورهم في الجنة تهيأ لهم، و تزخرف لقدومهم، و لهذا لم يلتفتوا إلى تهويل فرعون و تهديده و وعيده. و ذلك لأن فرعون لما رأى هؤلاء السحرة قد أسلموا، و أشهروا إسلامهم ذكروا موسى و هارون في الناس على هذه الصفة الجميلة، أفزعه ذلك و رأى أمرا أبهره و أعمى بصيرته و بصره، و كان فيه كيد و مكر و خداع و صنعة بليغة في الصد عن سبيل اللّه، فقال مخاطبا للسحرة بحضرة الناس: آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ أي هلا شاورتموني فيما صنعتم من الأمر الفظيع بحضرة رعيتي، ثم تهدد و توعد و أبرق و ارعد و كذب فأبعد قائلا: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ، و قال في الآية الأخرى: إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) و هذا الذى قاله من البهتان يعلم كل فرد عاقل ما فيه من الكفر و الكذب و الهذيان، بل لا يروج مثله على الصبيان، فإن الناس كلهم من أهل دولته و غيرهم يعلمون أن موسى لم يره هؤلاء يوما من الدهر، فكيف يكون كبيرهم الذي علمهم السحر؟ ثم هو لم يجمعهم و لا علم باجتماعهم، حتى كان فرعون هو الذي استدعاهم و اجتباهم من كل فج عميق، و واد سحيق، و من حواضر بلاد مصر، و الأطراف و من المدن و الأرياف.
قال اللّه تعالى في سورة الأعراف: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَ قالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ (106) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107) وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنّاظِرِينَ (108) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ (110) قالُوا أَرْجِهْ وَ أَخاهُ وَ أَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَ جاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) قالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قالُوا يا مُوسى إِمّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115)قالَ أَلْقُوا فَلَمّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النّاسِ وَ اسْتَرْهَبُوهُمْ وَ جاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَ بَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَ انْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119) وَ أُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ (122) قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قالُوا إِنّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) وَ ما تَنْقِمُ مِنّا إِلاّ أَنْ آمَنّا بِآياتِ رَبِّنا لَمّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَ تَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126).
ص: 110
قال اللّه تعالى في سورة الأعراف: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَ قالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ (106) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107) وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنّاظِرِينَ (108) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ (110) قالُوا أَرْجِهْ وَ أَخاهُ وَ أَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَ جاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) قالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قالُوا يا مُوسى إِمّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115)قالَ أَلْقُوا فَلَمّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النّاسِ وَ اسْتَرْهَبُوهُمْ وَ جاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَ بَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَ انْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119) وَ أُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ (122) قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قالُوا إِنّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) وَ ما تَنْقِمُ مِنّا إِلاّ أَنْ آمَنّا بِآياتِ رَبِّنا لَمّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَ تَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126).
و قال تعالى في سورة يونس: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَ هارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75) فَلَمّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قالَ مُوسى أَ تَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمّا جاءَكُمْ أَ سِحْرٌ هذا وَ لا يُفْلِحُ السّاحِرُونَ (77) قالُوا أَ جِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَ تَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَ ما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78) وَ قالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَ يُحِقُّ اللّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82).
و قال تعالى في سورة الشعراء: قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْ ءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ (31) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنّاظِرِينَ (33) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ (35) قالُوا أَرْجِهْ وَ أَخاهُ وَ ابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَ قِيلَ لِلنّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40) فَلَمّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَ إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَ عِصِيَّهُمْ وَ قالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) قالُوا آمَنّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ (48) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قالُوا لا ضَيْرَ إِنّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51).
ص: 111
و قال تعالى في سورة الشعراء: قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْ ءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ (31) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنّاظِرِينَ (33) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ (35) قالُوا أَرْجِهْ وَ أَخاهُ وَ ابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَ قِيلَ لِلنّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40) فَلَمّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَ إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَ عِصِيَّهُمْ وَ قالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) قالُوا آمَنّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ (48) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قالُوا لا ضَيْرَ إِنّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51).
و المقصود: أن فرعون كذب و افترى، و كفر غاية الكفر في قوله: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ و أتى ببهتان يعلمه العالمون، بل العالمون في قوله: إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ، و قوله: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ يعني يقطع اليد اليمنى و الرجل اليسرى، و عكسه وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ أي ليجعلهم مثلة و نكالا، لئلا يقتدي بهم أحد من رعيته، و أهل ملته، و لهذا قال: وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ أي على جذوع النخل، لأنها أعلى و أشهر وَ لَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَ أَبْقى يعني في الدنيا قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ أي لن نطيعك و نترك ما وقر في قلوبنا من البينات و الدلائل القاطعات وَ الَّذِي فَطَرَنا قيل: معطوف: و قيل: قسم فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ أي فافعل ما قدرت عليه إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا أي إنما حكمك علينا في هذه الحياة الدنيا، فإذا انتقلنا منها إلى الدار الآخرة، صرنا إلى حكم الذى أسلمنا له و اتبعنا رسله إِنّا آمَنّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَ ما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَ اللّهُ خَيْرٌ وَ أَبْقى (73) أي و ثوابه خير مما وعدتنا به من التقريب و الترغيب وَ أَبْقى
أي و أدوم من هذه الدار الفانية، و في الآية الأخرى: قالُوا لا ضَيْرَ إِنّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أي ما اجترمناه من المآثم و المحارم أَنْ كُنّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ أي من القبط بموسى و هارون عليهما السلام، و قالوا له أيضا: وَ ما تَنْقِمُ مِنّا إِلاّ أَنْ آمَنّا بِآياتِ رَبِّنا لَمّا جاءَتْنا أي ليس لنا عندك ذنب إلا إيماننا بما جاءنا به رسولنا، و اتباعنا آيات ربنا لما جاءتنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً أي ثبتنا على ما ابتلينا به من عقوبة هذا الجبار العنيد و السلطان الشديد، بل الشيطان المريد وَ تَوَفَّنا مُسْلِمِينَ و قالوا أيضا يعظونه و يخوفونه بأس ربه العظيم: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَ لا يَحْيى (74) يقولون له: فإياك أن تكون منهم، فكان منهم وَ مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) أي المنازل العالية جَنّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكّى (76) فاحرص أن تكون منهم، فحالت بينه و بين ذلك الأقدار التى لا تغالب و لا تمانع، و حكم العلي العظيم بأن فرعون، لعنه اللّه، من أهل الجحيم، ليباشر العذاب الأليم، يصب من فوق رأسه الحميم، و يقال له على وجه التقريع و التوبيخ و هو المقبوح المنبوح و الذميم اللئيم: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49).
ص: 112
أي و أدوم من هذه الدار الفانية، و في الآية الأخرى: قالُوا لا ضَيْرَ إِنّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أي ما اجترمناه من المآثم و المحارم أَنْ كُنّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ أي من القبط بموسى و هارون عليهما السلام، و قالوا له أيضا: وَ ما تَنْقِمُ مِنّا إِلاّ أَنْ آمَنّا بِآياتِ رَبِّنا لَمّا جاءَتْنا أي ليس لنا عندك ذنب إلا إيماننا بما جاءنا به رسولنا، و اتباعنا آيات ربنا لما جاءتنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً أي ثبتنا على ما ابتلينا به من عقوبة هذا الجبار العنيد و السلطان الشديد، بل الشيطان المريد وَ تَوَفَّنا مُسْلِمِينَ و قالوا أيضا يعظونه و يخوفونه بأس ربه العظيم: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَ لا يَحْيى (74) يقولون له: فإياك أن تكون منهم، فكان منهم وَ مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) أي المنازل العالية جَنّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكّى (76) فاحرص أن تكون منهم، فحالت بينه و بين ذلك الأقدار التى لا تغالب و لا تمانع، و حكم العلي العظيم بأن فرعون، لعنه اللّه، من أهل الجحيم، ليباشر العذاب الأليم، يصب من فوق رأسه الحميم، و يقال له على وجه التقريع و التوبيخ و هو المقبوح المنبوح و الذميم اللئيم: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49).
و الظاهر من هذه السياقات أن فرعون، لعنه اللّه، صلبهم و عذبهم رضي اللّه عنهم.
قال عبد اللّه بن عباس و عبيد بن عمير: كانوا من أول النهار سحرة، فصاروا من آخره شهداء بررة. و يؤيد هذا قولهم: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَ تَوَفَّنا مُسْلِمِينَ .
و لما وقع ما وقع من الأمر العظيم، و هو الغلب الذى غلبته القبط في ذلك الموقف الهائل، و أسلم السحرة الذين استنصروا ربهم، لم يزدهم ذلك إلا كفرا و عنادا و بعدا عن الحق، قال اللّه تعالى بعد قصص ما تقدم في سورة الأعراف: وَ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَ تَذَرُ مُوسى وَ قَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَ نَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَ إِنّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَ اصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129).
ص: 113
و لما وقع ما وقع من الأمر العظيم، و هو الغلب الذى غلبته القبط في ذلك الموقف الهائل، و أسلم السحرة الذين استنصروا ربهم، لم يزدهم ذلك إلا كفرا و عنادا و بعدا عن الحق، قال اللّه تعالى بعد قصص ما تقدم في سورة الأعراف: وَ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَ تَذَرُ مُوسى وَ قَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَ نَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَ إِنّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَ اصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129).
يخبر تعالى عن الملأ من قوم فرعون، و هم الأمراء و الكبراء، أنهم حرضوا ملكهم فرعون على أذية نبي اللّه موسى عليه السلام، و مقابلته بدل التصديق بما جاء به بالكفر و الرد و الأذى، قالوا: أَ تَذَرُ مُوسى وَ قَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ يعنون، قبحهم اللّه، أن دعوته إلى عبادة اللّه وحده لا شريك له، و النهى عن عبادة ما سواه، فساد بالنسبة إلى اعتقاد القبط، لعنهم اللّه، و قرأ بعضهم: (و يذرك و إلهتك) أي و عبادتك، و يحتمل شيئين أحدهما: و يذر دينك، و تقويه القراءة الأخرى، و الثاني: و يذر أن يعبدك، فإنه كان يزعم أنه إله، لعنه اللّه قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَ نَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ أي لئلا يكثر مقاتلتهم وَ إِنّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ أي غالبون قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَ اصْبِرُوا أي إذا هموا هم بأذيتكم و الفتك بكم، فاستعينوا أنتم بربكم، و اصبروا على بليتكم إِنَّ الْأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ أي فكونوا أنتم المتقين لتكون لكم العاقبة، كما قال في الآية الأخرى من سورة يونس: وَ قالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقالُوا عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظّالِمِينَ (85) وَ نَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (86)، و قولهم: قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا أي قد كانت الأبناء تقتل قبل مجيئك، و بعد مجيئك إلينا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ .
و قال اللّه تعالى في سورة حم المؤمن: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ قارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذّابٌ (24) و كان فرعون الملك، و هامان الوزير، و كان قارون إسرائيليا من قوم موسى، إلا أنه كان على دين فرعون و ملئه، و كان ذا مال جزيل جدا، كما ستأتي قصته فيما بعد إن شاء اللّه تعالى فَلَمّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَ اسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَ ما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلالٍ (25) و هذا القتل للغلمان من بعد بعثة موسى إنما كان على وجه الإهانة و الإذلال و التقليل لملأ بني إسرائيل، لئلا يكون لهم شوكة يمتنعون بها، و يصولون على القبط بسببها، و كانت القبط منهم يحذرون، فلم ينفعهم ذلك، و لم يرد عنهم قدر الذى يقول للشيء كن فيكون وَ قالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَ لْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26) و لهذا يقول الناس على سبيل التهكم: صار فرعون مذكرا، و هذا منه فإن فرعون في زعمه يخاف على الناس أن يضلهم موسى عليه السلام وَ قالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27) أي عذت باللّه و لجأت إليه بجنابه من أن يسطو فرعون و غيره عليّ بسوء، و قوله: مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ أي جبار عنيد، لا يرعوي و لا ينتهي، و لا يخاف عذاب اللّه و عقابه، لأنه لا يعتقد معادا و لا جزاء، و لهذا قال في سورة غافر: وَ قالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27) وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللّهُ وَ قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَ إِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّابٌ (28) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاّ ما أَرى وَ ما أَهْدِيكُمْ إِلاّ سَبِيلَ الرَّشادِ (29)، و هذا الرجل هو ابن عم فرعون، و كان يكتم إيمانه من قومه خوفا منهم على نفسه، و زعم بعض الناس أنه كان إسرائيليا، و هو بعيد و مخالف لسياق الكلام لفظا و معنى، و اللّه أعلم.
ص: 114
و قال اللّه تعالى في سورة حم المؤمن: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ قارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذّابٌ (24) و كان فرعون الملك، و هامان الوزير، و كان قارون إسرائيليا من قوم موسى، إلا أنه كان على دين فرعون و ملئه، و كان ذا مال جزيل جدا، كما ستأتي قصته فيما بعد إن شاء اللّه تعالى فَلَمّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَ اسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَ ما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلالٍ (25) و هذا القتل للغلمان من بعد بعثة موسى إنما كان على وجه الإهانة و الإذلال و التقليل لملأ بني إسرائيل، لئلا يكون لهم شوكة يمتنعون بها، و يصولون على القبط بسببها، و كانت القبط منهم يحذرون، فلم ينفعهم ذلك، و لم يرد عنهم قدر الذى يقول للشيء كن فيكون وَ قالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَ لْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26) و لهذا يقول الناس على سبيل التهكم: صار فرعون مذكرا، و هذا منه فإن فرعون في زعمه يخاف على الناس أن يضلهم موسى عليه السلام وَ قالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27) أي عذت باللّه و لجأت إليه بجنابه من أن يسطو فرعون و غيره عليّ بسوء، و قوله: مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ أي جبار عنيد، لا يرعوي و لا ينتهي، و لا يخاف عذاب اللّه و عقابه، لأنه لا يعتقد معادا و لا جزاء، و لهذا قال في سورة غافر: وَ قالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27) وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللّهُ وَ قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَ إِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّابٌ (28) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاّ ما أَرى وَ ما أَهْدِيكُمْ إِلاّ سَبِيلَ الرَّشادِ (29)، و هذا الرجل هو ابن عم فرعون، و كان يكتم إيمانه من قومه خوفا منهم على نفسه، و زعم بعض الناس أنه كان إسرائيليا، و هو بعيد و مخالف لسياق الكلام لفظا و معنى، و اللّه أعلم.
قال ابن جريج: قال ابن عباس: لم يؤمن من القبط بموسى إلا هذا، و الذى جاء من أقصى المدينة، و امرأة فرعون. رواه ابن أبي حاتم. قال الدارقطني: لا يعرف من اسمه شمعان بالشين المعجمة إلا مؤمن آل فرعون، حكاه السهيلي. و في تاريخ الطبراني:
أن اسمه خير. فاللّه أعلم.
و المقصود: أن هذا الرجل كان يكتم إيمانه فلما هم فرعون، لعنه اللّه، بقتل موسى
ص: 115
عليه السلام، و عزم على ذلك و شاور ملأه فيه، خاف هذا المؤمن على موسى، فتلطف في رد فرعون بكلام جمع فيه الترغيب و الترهيب، فقال على وجه المشورة و الرأي. و قد ثبت في الحديث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أنه قال: (أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر). و هذا من أعلى مراتب هذا المقام، فإن فرعون لا أشد جورا منه، و هذا الكلام لا أعدل منه، لأن فيه عصمة نبي، و يحتمل أنه كاشفهم بإظهار إيمانه، و صرح لهم بما كان يكتمه، و الأول أظهر، و اللّه أعلم. قال: أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللّهُ أي من أجل أنه قال ربي اللّه، فمثل هذا لا يقابل بهذا بل بالإكرام و الاحترام و الموادعة و ترك الانتقام، يعني لأنه: وَ قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ أي بالخوارق التي دلت على صدقة فيما جاء به عمن أرسله، فهذا إن وادعتموه كنتم في سلامة لأنه: وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ و لا يضركم ذلك وَ إِنْ يَكُ صادِقاً و قد تعرضتم له يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ أي و أنتم تشققون أن ينالكم أيسر جزاء مما يتوعدكم به، فكيف بكم إن حل جميعه عليكم.
و هذا الكلام في هذا المقام من أعلى مقامات التلطف و الاحتراز و العقل التام، و قوله:
يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ يحذرهم أن يسلبوا هذا الملك العزيز، فإنه ما تعرضت الدول للدين إلا سلبوا ملكهم، و ذلوا بعد عزهم، و كذا وقع لآل فرعون، ما زالوا في شك و ريب و مخالفة و معاندة لما جاءهم موسى به، حتى أخرجهم اللّه مما كانوا فيه من الملك و الأملاك و الدور و القصور و النعمة و الحبور، ثم حولوا إلى البحر مهانين، و نقلت أرواحهم بعد العلو و الرفعة إلى أسفل السافلين، و لهذا قال هذا الرجل المؤمن المصدق البار الراشد التابع للحق الناصح لقومه الكامل العقل: يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ أي عالين على الناس حاكمين عليهم فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللّهِ إِنْ جاءَنا أي لو كنتم أضعاف ما أنتم فيه من العدد و العدة و القوة و الشدة لما نفعنا ذلك، و لا رد عنا بأس مالك الممالك قالَ فِرْعَوْنُ أي في جواب هذا كله ما أُرِيكُمْ إِلاّ ما أَرى أي ما أقول لكم إلا ما عندي وَ ما أَهْدِيكُمْ إِلاّ سَبِيلَ
ص: 116
اَلرَّشادِ و كذب في كل من هذين القولين، و هاتين المقدمتين، فإنه قد كان يتحقق في باطنه و في نفسه أن هذا الذي جاء به موسى من عند اللّه لا محالة، و إنما كان يظهر خلافه بغيا و عدوانا و عتوا و كفرانا.
قال اللّه تعالى في سورة الإسراء إخبارا عن سيدنا موسى عليه السلام: قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاّ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ بَصائِرَ وَ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103) وَ قُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104).. و قال تعالى في سورة النمل: فَلَمّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)، و أما قوله:
وَ ما أَهْدِيكُمْ إِلاّ سَبِيلَ الرَّشادِ فقد كذب أيضا فإنه لم يكن على رشاد من الأمر، بل كان على سفه و ضلال و خبل و خيال، فكان أولا ممن يعبد الأصنام و الأمثال، ثم دعا قومه الجهلة الضلال إلى أن اتبعوه و طاوعوه و صدقوه فيما زعم من الكفر المحال في دعواه أنه رب تعالى اللّه ذو الجلال، قال اللّه تعالى في سورة الزخرف: وَ نادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَ هذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَ فَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَ لا يَكادُ يُبِينُ (52) فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54) فَلَمّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَ مَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56)، و قال تعالى: فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (24) فَكَذَّبَ وَ عَصى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22) فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24) فَأَخَذَهُ اللّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَ الْأُولى (25) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26)، (النازعات).. و قال تعالى وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ (96) إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَ ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النّارَ وَ بِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَ أُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)، (هود).
ص: 117
وَ ما أَهْدِيكُمْ إِلاّ سَبِيلَ الرَّشادِ فقد كذب أيضا فإنه لم يكن على رشاد من الأمر، بل كان على سفه و ضلال و خبل و خيال، فكان أولا ممن يعبد الأصنام و الأمثال، ثم دعا قومه الجهلة الضلال إلى أن اتبعوه و طاوعوه و صدقوه فيما زعم من الكفر المحال في دعواه أنه رب تعالى اللّه ذو الجلال، قال اللّه تعالى في سورة الزخرف: وَ نادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَ هذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَ فَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَ لا يَكادُ يُبِينُ (52) فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54) فَلَمّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَ مَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56)، و قال تعالى: فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (24) فَكَذَّبَ وَ عَصى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22) فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24) فَأَخَذَهُ اللّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَ الْأُولى (25) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26)، (النازعات).. و قال تعالى وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ (96) إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَ ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النّارَ وَ بِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَ أُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)، (هود).
و المقصود بيان كذب فرعون في قوله الذي جاء في سورة غافر: يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاّ ما أَرى وَ ما أَهْدِيكُمْ إِلاّ سَبِيلَ الرَّشادِ (29) وَ قالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ وَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَ مَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (31) وَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ عاصِمٍ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) وَ لَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمّا جاءَكُمْ بِهِ حَتّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34) اَلَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللّهِ وَ عِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبّارٍ (35).. يحذرهم ولي اللّه إن كذبوا برسول اللّه موسى، أن يحل بهم ما حل بالأمم من قبلهم من النقمات و المثلات، مما تواتر عندهم و عند غيرهم ما حل بقوم نوح و عاد و ثمود و من بعدهم، إلى زمانهم ذلك، مما أقام به الحجج على أهل الأرض قاطبة في صدق ما جاءت به الأنبياء، لما أنزل من النقمة بمكذبيهم من الأعداء، و ما أنجى اللّه من اتبعهم من الأولياء، و خوفهم يوم القيامة و هو يوم التناد، أي حين ينادي الناس بعضهم بعضا حين يولون إن قدروا على ذلك، و لا إلى ذلك سبيل يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلاّ لا وَزَرَ (11) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12)، (القيامة). و قال تعالى يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاّ بِسُلْطانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَ نُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36)، (الرحمن). و قرأ بعضهم:
(يوم التنادّ) بتشديد الدال، أي يوم الفرار، و يحتمل أن يكون يوم القيامة، و يحتمل أن يكون يوم يحل اللّه بهم البأس فيودون الفرار، و لات حين مناص فَلَمّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَ ارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَ مَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13)، (الأنبياء)، ثم أخبرهم عن نبوة يوسف في بلاد مصر، و ما كان منه من الإحسان إلى الخلق في دنياهم و أخراهم، و هذا من سلالته و ذريته، و يدعو الناس إلى توحيد اللّه و عبادته، و أن لا يشركوا به أحدا من بريته، و أخبر عن أهل الديار المصرية في ذلك الزمان، أي من سجيتهم التكذيب بالحق و مخالفة الرسل، و لهذا قال:... فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمّا جاءَكُمْ بِهِ حَتّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً... أي و كذبتم في هذا، و لهذا قال:... كَذلِكَ يُضِلُّ اللّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34) اَلَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ... أي يردون حجج اللّه و براهينه و دلائل توحيده، بلا حجة و لا دليل عندهم من اللّه، فإن هذا أمر يمقته اللّه غاية المقت، أي يبغض من تلبس به من الناس و من اتصف به من الخلق... كَذلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبّارٍ (35)، قرئ بالإضافة و بالنعت و كلاهما متلازم، أي هكذا إذا خالفت القلوب الحق، و لا تخالفه إلا بلا برهان، فإن اللّه يطبع عليها: أي يختم عليها وَ قالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَ كَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَ صُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَ ما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاّ فِي تَبابٍ (37)، (غافر). كذب فرعون موسى عليه السلام في دعواه أن اللّه أرسله، و زعم فرعون لقومه ما كذبه و افتراه، في قوله لهم ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ ، و قال هاهنا: لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ أي طرقها و مسالكها فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى و يحتمل هذا معنيين:
ص: 118
(يوم التنادّ) بتشديد الدال، أي يوم الفرار، و يحتمل أن يكون يوم القيامة، و يحتمل أن يكون يوم يحل اللّه بهم البأس فيودون الفرار، و لات حين مناص فَلَمّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَ ارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَ مَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13)، (الأنبياء)، ثم أخبرهم عن نبوة يوسف في بلاد مصر، و ما كان منه من الإحسان إلى الخلق في دنياهم و أخراهم، و هذا من سلالته و ذريته، و يدعو الناس إلى توحيد اللّه و عبادته، و أن لا يشركوا به أحدا من بريته، و أخبر عن أهل الديار المصرية في ذلك الزمان، أي من سجيتهم التكذيب بالحق و مخالفة الرسل، و لهذا قال:... فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمّا جاءَكُمْ بِهِ حَتّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً... أي و كذبتم في هذا، و لهذا قال:... كَذلِكَ يُضِلُّ اللّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34) اَلَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ... أي يردون حجج اللّه و براهينه و دلائل توحيده، بلا حجة و لا دليل عندهم من اللّه، فإن هذا أمر يمقته اللّه غاية المقت، أي يبغض من تلبس به من الناس و من اتصف به من الخلق... كَذلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبّارٍ (35)، قرئ بالإضافة و بالنعت و كلاهما متلازم، أي هكذا إذا خالفت القلوب الحق، و لا تخالفه إلا بلا برهان، فإن اللّه يطبع عليها: أي يختم عليها وَ قالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَ كَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَ صُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَ ما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاّ فِي تَبابٍ (37)، (غافر). كذب فرعون موسى عليه السلام في دعواه أن اللّه أرسله، و زعم فرعون لقومه ما كذبه و افتراه، في قوله لهم ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ ، و قال هاهنا: لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ أي طرقها و مسالكها فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى و يحتمل هذا معنيين:
أحدهما: وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً في قوله: إن للعالم ربا غيرى. و الثاني: في دعواه أن اللّه أرسله. و الأول أشبه بظاهر حال فرعون، فإنه كان ينكر ظاهر إثبات الصانع، و الثاني أقرب إلى اللفظ، حيث قال: فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى أي فأسأله هل أرسله أم
ص: 119
لا؟ وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً أي في دعواه ذلك، و إنما كان مقصود فرعون أن يصد الناس عن تصديق موسى عليه السلام، و إن يحثهم على تكذيبه، قال اللّه تعالى: وَ كَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَ صُدَّ عَنِ السَّبِيلِ و قرئ: وَ صُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَ ما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاّ فِي تَبابٍ قال ابن عباس و مجاهد يقول: إلا في خسار، أي باطل لا يحصل له شيء من مقصوده الذي رامه، فإنه لا سبيل للبشر أن يتوصلوا بقواهم إلى نيل السماء أبدا، أعني السماء الدنيا، فكيف بما بعدها من السماوات العلى، و ما فوق ذلك من الارتفاع الذى لا يعلمه إلا اللّه عز و جل، و ذكر غير واحد من المفسرين: أن هذا الصرح و هو القصر الذى بناه وزيره هامان له لم ير بناء أعلى منه، و إن كان مبنيّا من الآجر المشوى بالنار، و لهذا قال: فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً .
و عند أهل الكتاب: أن بني إسرائيل كانوا يسخرون في ضرب اللبن، و كان مما حملوا من التكاليف الفرعونية أنهم لا يساعدون على شيء مما يحتاجون إليه فيه، بل كانوا هم الذين يجمعون ترابه و تبنه و ماءه، و يطلب منهم كل يوم قسط معين، إن لم يفعلوه و إلا ضربوا و أهينوا غاية الإهانة و أوذوا غاية الأذية، و لهذا قالوا لموسى: أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) فوعدهم بأن العاقبة لهم على القبط، و كذلك وقع و هذا من دلائل النبوة، و لنرجع إلى نصيحة المؤمن و موعظته و احتجاجه، قال اللّه تعالى في سورة غافر: وَ قالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَ إِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاّ مِثْلَها وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (40)، يدعوهم رضي اللّه عنه، إلى طريق الرشاد و الحق، و هى متابعة نبي اللّه موسى و تصديقه فيما جاء به من ربه، ثم زهدهم في الدنيا الدنية الفانية المنقضية لا محالة، و رغبهم في طلب الثواب عند اللّه الذى لا يضيع عمل عامل لديه، القدير الذى ملكوت كل شيء بيديه، الذى يعطي على القليل كثيرا، و من عدله
ص: 120
لا يجازي على السيئة إلا مثلها، و أخبرهم أن الآخرة هى دار القرار التى من وافاها مؤمنا قد عمل الصالحات، فلهم الجنات العاليات، و الغرف الآمنات، و الخيرات الكثيرة الفائقات، و الأرزاق الدائمة التى لا تبيد، و الخير الذى كل ما لهم منه في مزيد.
ثم شرع في إبطال ما هم عليه و تخويفهم مما يصيرون إليه فقال تبارك و تعالى:
* وَ يا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَ تَدْعُونَنِي إِلَى النّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللّهِ وَ أُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَ أَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفّارِ (42) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَ لا فِي الْآخِرَةِ وَ أَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللّهِ وَ أَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (44) فَوَقاهُ اللّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَ حاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (45) اَلنّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا وَ يَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46)، (غافر). كان يدعوهم إلى عبادة رب السماوات و الأرض الذى يقول للشيء كن فيكون، و هم يدعونه إلى عبادة فرعون الجاهل الضال الملعون، و لهذا قال لهم على سبيل الإنكار: * وَ يا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَ تَدْعُونَنِي إِلَى النّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللّهِ وَ أُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَ أَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفّارِ (42) ثم بين لهم بطلان ما هم عليه من عبادة ما سوى اللّه من الأنداد و الأوثان، و أنها لا تملك من نفع و لا إضرار، فقال: لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَ لا فِي الْآخِرَةِ وَ أَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللّهِ وَ أَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النّارِ (43) أي لا تملك تصرفا و لا حكما في هذه الدار، فكيف تملكه يوم القرار، و أما اللّه عز و جل فإنه الخالق الرازق للأبرار و الفجار، و هو الذى أحيا العباد و يميتهم و يبعثهم، فيدخل طائعهم الجنة، و عاصيهم إلى النار.
ثم توعدهم إن هم استمروا على العناد بقوله: فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (44)، قال اللّه: فَوَقاهُ اللّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا أي بإنكاره سلم مما أصابهم من العقوبة على كفرهم باللّه، و مكرهم في
ص: 121
صدهم عن سبيل اللّه، مما أظهروا للعامة من الخيالات و المحالات، التى ألبسوا بها على عوامهم و طغامهم، و لهذا قال: وَ حاقَ أي أحاط بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (45) اَلنّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا أي تعرض أرواحهم في برزخهم صباحا و مساء على النار وَ يَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ و قد تكلمنا على دلالة هذه الآية على عذاب القبر في التفسير، و للّه الحمد.
و المقصود: أن اللّه تعالى لم يهلكهم إلا بعد إقامة الحجج عليهم، و إرسال الرسول إليهم، و إزاحة الشبه عنهم، و أخذ الحجة عليهم منهم، فبالترهيب تارة، و الترغيب أخرى، كما قال تعالى في سورة الأعراف: وَ لَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَ نَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَ مَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللّهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131) وَ قالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَ الْجَرادَ وَ الْقُمَّلَ وَ الضَّفادِعَ وَ الدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133).
يخبر تعالى أنه ابتلى آل فرعون، و هم قومه من القبط، بالسنين، و هي أعوام الجدب التى لا يستغل فيها زرع، و لا ينتفع بضرع، و قوله: وَ نَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ
و هي قلة الثمار من الأشجار لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ أي فلم ينتفعوا و لم يرعووا، بل تمردوا و استمروا على كفرهم و عنادهم فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ و الخصب و نحوه قالُوا لَنا هذِهِ أي هذا الذي نستحقه، و هذا الذي يليق بنا وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَ مَنْ مَعَهُ أي يقولون: هذا بشؤمهم أصابنا هذا، و لا يقولون في الأول: أنه ببركتهم و حسن مجاورتهم، و لكن قلوبهم منكرة مستكبرة نافرة، عن الحق إذا جاء الشر أسندوه إليه، و إن رأوا خيرا ادعوه لأنفسهم، قال اللّه تعالى: أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللّهِ أي اللّه يجزيهم على هذا أوفر الجزاء وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131) وَ قالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ أي مهما جئتنا به من الآيات، و هي الخوارق للعادات، فلسنا نؤمن بك، و لا نتبعك و لا نطيعك، و لو جئتنا بكل آية، و هكذا أخبر اللّه عنهم في قوله: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَ لَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97)، قال اللّه تعالى:
ص: 122
و هي قلة الثمار من الأشجار لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ أي فلم ينتفعوا و لم يرعووا، بل تمردوا و استمروا على كفرهم و عنادهم فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ و الخصب و نحوه قالُوا لَنا هذِهِ أي هذا الذي نستحقه، و هذا الذي يليق بنا وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَ مَنْ مَعَهُ أي يقولون: هذا بشؤمهم أصابنا هذا، و لا يقولون في الأول: أنه ببركتهم و حسن مجاورتهم، و لكن قلوبهم منكرة مستكبرة نافرة، عن الحق إذا جاء الشر أسندوه إليه، و إن رأوا خيرا ادعوه لأنفسهم، قال اللّه تعالى: أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللّهِ أي اللّه يجزيهم على هذا أوفر الجزاء وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131) وَ قالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ أي مهما جئتنا به من الآيات، و هي الخوارق للعادات، فلسنا نؤمن بك، و لا نتبعك و لا نطيعك، و لو جئتنا بكل آية، و هكذا أخبر اللّه عنهم في قوله: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَ لَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97)، قال اللّه تعالى:
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَ الْجَرادَ وَ الْقُمَّلَ وَ الضَّفادِعَ وَ الدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133).
أما الطوفان: فعن ابن عباس: هو كثرة الأمطار المتلفة للزروع و الثمار، و به قال سعيد ابن جبير و قتادة و السدي و الضحاك. و عن ابن عباس و عطاء: هو كثرة الموت. و قال مجاهد: الطوفان الماء، و الطاعون على كل حال. و عن ابن عباس: أمر طاف بهم.
و قد روى ابن جرير و ابن مردويه من طريق يحيى بن يمان، عن المنهال بن خليفة، عن الحجاج، عن الحكم بن مينا، عن عائشة، عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم: (الطوفان الموت)، و هو غريب. و أما الجراد فمعروف. و قد روى أبو داود عن أبي عثمان، عن سلمان الفارسي:
قال سئل رسول اللّه عن الجراد؟ فقال: (أكثر جنود اللّه لا آكله و لا أحرمه). و ترك النبي صلّى اللّه عليه و سلم أكله إنما هو على وجه التقذر له، كما ترك أكل الضب و تنزه عن أكل البصل و الثوم و الكراث، لما ثبت في الصحيحين عن عبد اللّه بن أبي أوفى، قال: غزونا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم سبع غزوات نأكل الجراد. و قد تكلم على ما ورد فيه من الأحاديث و الآثار في كتب الفقه و الحديث و التفسير. و المقصود: أنه استاق خضراءهم، فلم يترك لهم زرعا و لا ثمارا و لا سبدا و لا لبدا، و أما القمل: فعن ابن عباس: هو السوس الذى يخرج من الحنطة. و عنه: أنه الجراد الصغار الذى لا أجنحة له. و به قال مجاهد و عكرمة و قتادة.
و قال سعيد بن جبير و الحسن: هو دواب سود صغار. و قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هي البراغيث. و حكى ابن جرير عن أهل العربية: أنها الحمنان، و هو صغار القردان، فرق القمقامة، فدخل معهم البيوت و الفرش فلم يقر لهم قرار، و لم يمكنهم معه الغمض و لا العيش. و فسره عطاء بن السائب بهذا القمل المعروف. و قرأها الحسن البصري كذلك بالتخفيف. و أما الضفادع: فمعروفة، لبستهم حتى كانت تسقط في أطعمتهم
ص: 123
و أوانيهم، حتى إن أحدهم إذا فتح فمه لطعام أو شراب سقطت في فيه ضفدعة من تلك الضفادع. و أما الدم: فكان قد مزج ماؤهم كله به، فلا يستقون من النيل شيئا إلا وجدوه دما عبيطا، و لا من نهر و لا بئر و لا شىء إلا كان دما في الساعة الراهنة. هذا كله لم ينل بني إسرائيل من ذلك شيء بالكلية، و هذا من تمام المعجزة الباهرة و الحجة القاطعة، أن هذا كله يحصل لهم من فعل موسى عليه السلام، فينالهم عن آخرهم و لا يحصل هذا لأحد من بني إسرائيل و في هذا أدل دليل.
قال محمد بن إسحاق: فرجع عدو اللّه فرعون حين آمنت السحرة مغلوبا مفلولا، ثم أبى إلا الإقامة على الكفر، و التمادي في الشر، و تابع اللّه عليه بالآيات فأخذه بالسنين، فأرسل عليه الطوفان، ثم الجراد، ثم القمل، ثم الضفادع، ثم الدم، آيات مفصلات، فأرسل الطوفان و هو الماء، ففاض على وجه الأرض، ثم ركد لا يقدرون على أن يخرجوا، و لا أن يعملوا شيئا حتى جهدوا جوعا، فلما بلغهم ذلك: قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَ لَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134) فدعا موسى ربه فكشفه عنهم، فلما لم يفوا له بشيء فأرسل اللّه عليهم الجراد، فأكل الشجر، فيما بلغنى، حتى إن كان ليأكل مسامير الأبواب من الحديد حتى تقع دورهم و مساكنهم، فقالوا مثل ما قالوا، فدعا ربه، فكشف عنهم، فلم يفوا له بشيء مما قالوا، فأرسل اللّه عليهم القمل، فذكر لى أن موسى عليه السلام أمر أن يمشي إلى كثيب حتى يضربه بعصاه، فمشى إلى كثيب أهيل عظيم فضربه بها، فانثال عليهم قملا حتى غلب على البيوت و الأطعمة و منعهم النوم و القرار، فلما جهدهم قالوا له مثل ما قالوا له، فدعا ربه، فكشف عنهم، فلما لم يفوا له بشيء مما قالوا، أرسل اللّه عليهم الضفادع، فملأت البيوت و الأطعمة و الآنية، فلم يكشف أحد ثوبا و لا طعاما، إلا وجد فيه الضفادع قد غلبت عليه، فلما جهدهم ذلك، قالوا له مثل ما قالوا، فدعا ربه، فكشف عنهم، فلم يفوا بشيء مما قالوا، فأرسل اللّه عليهم الدم، فصارت مياه آل فرعون دما لا يستقون من بئر و لا نهر يغترفون من إناء إلا عاد دما عبيطا. و قال زيد بن أسلم: المراد بالدم: الرعاف. رواه ابن أبي حاتم. قال اللّه تعالى في الأعراف: وَ لَمّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَ لَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134) فَلَمّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ (136).
ص: 124
قال محمد بن إسحاق: فرجع عدو اللّه فرعون حين آمنت السحرة مغلوبا مفلولا، ثم أبى إلا الإقامة على الكفر، و التمادي في الشر، و تابع اللّه عليه بالآيات فأخذه بالسنين، فأرسل عليه الطوفان، ثم الجراد، ثم القمل، ثم الضفادع، ثم الدم، آيات مفصلات، فأرسل الطوفان و هو الماء، ففاض على وجه الأرض، ثم ركد لا يقدرون على أن يخرجوا، و لا أن يعملوا شيئا حتى جهدوا جوعا، فلما بلغهم ذلك: قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَ لَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134) فدعا موسى ربه فكشفه عنهم، فلما لم يفوا له بشيء فأرسل اللّه عليهم الجراد، فأكل الشجر، فيما بلغنى، حتى إن كان ليأكل مسامير الأبواب من الحديد حتى تقع دورهم و مساكنهم، فقالوا مثل ما قالوا، فدعا ربه، فكشف عنهم، فلم يفوا له بشيء مما قالوا، فأرسل اللّه عليهم القمل، فذكر لى أن موسى عليه السلام أمر أن يمشي إلى كثيب حتى يضربه بعصاه، فمشى إلى كثيب أهيل عظيم فضربه بها، فانثال عليهم قملا حتى غلب على البيوت و الأطعمة و منعهم النوم و القرار، فلما جهدهم قالوا له مثل ما قالوا له، فدعا ربه، فكشف عنهم، فلما لم يفوا له بشيء مما قالوا، أرسل اللّه عليهم الضفادع، فملأت البيوت و الأطعمة و الآنية، فلم يكشف أحد ثوبا و لا طعاما، إلا وجد فيه الضفادع قد غلبت عليه، فلما جهدهم ذلك، قالوا له مثل ما قالوا، فدعا ربه، فكشف عنهم، فلم يفوا بشيء مما قالوا، فأرسل اللّه عليهم الدم، فصارت مياه آل فرعون دما لا يستقون من بئر و لا نهر يغترفون من إناء إلا عاد دما عبيطا. و قال زيد بن أسلم: المراد بالدم: الرعاف. رواه ابن أبي حاتم. قال اللّه تعالى في الأعراف: وَ لَمّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَ لَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134) فَلَمّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ (136).
يخبر تعالى عن كفرهم و عتوهم و استمرارهم على الضلال و الجهل و الاستكبار عن اتباع آيات اللّه، و تصديق رسوله مع ما أيد به من الآيات العظيمة الباهرة، و الحجج البليغة القاهرة، التى أراهم اللّه إياها عيانا، و جعلها عليهم دليلا و برهانا، و كلما شاهدوا آية و عاينوها و جهدهم و أضنكهم، حلفوا و عاهدوا موسى لئن كشف عنهم هذه ليؤمنن به، و ليرسلن معه من هو من حزبه، فكلما رفعت عنهم تلك الآية، عادوا إلى شر مما كانوا عليه، و أعرضوا عما جاءهم به من الحق و لم يلتفتوا إليه، فيرسل اللّه عليهم آية أخرى، هي أشد مما كانت قبلها و أقوى، فيقولون فيكذبون و يعدون و لا يفون: لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَ لَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ فيكشف عنهم ذلك العذاب الوبيل، ثم يعودون إلى جهلهم العريض الطويل، هذا و العظيم الحليم القدير ينظرهم، و لا يعجل عليهم، و يؤخرهم و يتقدم بالوعيد إليهم، ثم أخذهم بعد إقامة الحجة عليهم و الإنذار إليهم أخذ عزيز مقتدر، فجعلهم عبرة و نكالا و سلفا لمن أشبههم من الكافرين، و مثلا لمن اتعظ بهم من عباده المؤمنين.
كما قال تبارك و تعالى و هو أصدق القائلين في سورة الزخرف: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (46) فَلَمّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (47) وَ ما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَ قالُوا يا أَيُّهَا السّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَ نادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَ هذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَ فَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَ لا يَكادُ يُبِينُ (52) فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ
ص: 125
مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54) فَلَمّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَ مَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56).
يذكر تعالى إرساله عبده الكليم الكريم، إلى فرعون الخسيس اللئيم، و أنه تعالى أيد رسوله بآيات بينات واضحات، تستحق أن تقابل بالتعظيم و التصديق، و أن يرتدعوا عما هم فيه من الكفر، و يرجعوا إلى الحق و الصراط المستقيم، فإذا هم منها يضحكون، و بها يستهزءون، و عن سبيل اللّه يصدون، و عن الحق ينصرفون، فأرسل اللّه عليهم الآيات تترى يتبع بعضها بعضا، و كل آية أكبر من التي تتلوها، لأن التوكيد أبلغ مما قبله وَ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَ قالُوا يا أَيُّهَا السّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49) لم يكن لفظ الساحر في زمنهم نقصا و لا عيبا، لأن علماءهم في ذلك الوقت هم السحرة، و لهذا خاطبوه به في حال احتياجهم إليه و ضراعتهم لديه، قال اللّه تعالى: فَلَمّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) ثم أخبر تعالى عن تبجح فرعون بملكه و عظمة بلده و حسنها و تخرق الأنهار فيها، و هي الخلجانات التى يكسرونها أمام زيادة النيل، ثم تبجح بنفسه و حليته و أخذ ينتقص رسول اللّه موسى عليه السلام و يزدريه بكونه وَ لا يَكادُ يُبِينُ يعني كلامه بسبب ما كان في لسانه من بقية تلك اللثغة التي هي شرف له و كمال و جمال، و لم تكن مانعة له أن كلمه اللّه تعالى و أوحى إليه، و أنزل بعد ذلك التوراة عليه، و تنقصه فرعون، لعنه اللّه، بكونه لا أساور في بدنه و لا زينة عليه، و إنما ذلك من حلية النساء لا يليق بشهامة الرجال، فكيف بالرسل الذين هم أكمل عقلا، و أتم معرفة، و أعلى همة، و أزهد في الدنيا، و أعلم بما أعد اللّه لأوليائه في الأخرى، و قوله: أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ لا يحتاج الأمر إلى ذلك إن كان المراد أن تعظمه الملائكة، فالملائكة يعظمون و يتواضعون لمن هو دون موسى عليه السلام بكثير، كما جاء في الحديث: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يصنع). فكيف يكون تواضعهم و تعظيمهم لموسى الكليم عليه الصلاة و التسليم و التكريم، و إن كان المراد شهادتهم له بالرسالة، فقد أيد من المعجزات بما يدل قطعا لذوى الألباب، و لمن قصد إلى الحق و الصواب، و يعمى عما جاء به من البينات
ص: 126
و الحجج الواضحات، من نظر إلى القشور و ترك لب اللباب، و طبع على قلبه رب الأرباب، و ختم عليه بما فيه من الشك و الارتياب، كما هو حال فرعون القبطي العمي الكذاب، قال اللّه تعالى: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ أي استخف عقولهم و درجهم من حال إلى حال إلى أن صدقوه في دعواه الربوبية، لعنه اللّه، و قبحهم إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54) فَلَمّا آسَفُونا أي أغضبونا اِنْتَقَمْنا مِنْهُمْ أي بالغرق و الإهانة و سلب العز، و التبدل بالذل، و بالعذاب بعد النعمة، و الهوان بعد الرفاهية، و النار بعد طيب العيش، عياذا باللّه العظيم، و سلطانه القديم من ذلك فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً أي لمن اتبعهم في الصفات وَ مَثَلاً أي لمن اتعظ بهم و خاف من وبيل مصرعهم، ممن بلغه جلية خبرهم، و ما كان من أمرهم.
كما قال اللّه تعالى في سورة القصص: فَلَمّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَ ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَ قالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظّالِمُونَ (37) وَ قالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38) وَ اسْتَكْبَرَ هُوَ وَ جُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْناهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظّالِمِينَ (40) وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النّارِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41) وَ أَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)، (القصص). يخبر تعالى أنهم لما استكبروا عن اتباع الحق، و ادعى ملكهم الباطل، و وافقوه عليه، و أطاعوه فيه، اشتد غضب الرب القدير العزيز الذى لا يغالب و لا يمانع عليهم، فانتقم منهم أشد الانتقام، و أغرقه هو و جنوده في صبيحة واحدة، فلم يفلت منهم أحد، و لم يبق منهم ديار، بل كان قد غرق، فدخل النار، و أتبعوا في هذه الدار لعنة بين العالمين، و يوم القيامة بئس الرفد المرفود، و يوم القيامة هم من المقبوحين.
ص: 127
لما تمادى قبط مصر على كفرهم و عتوهم و عنادهم متابعة لملكهم فرعون، و مخالفة لنبي اللّه و رسوله و كليمه موسى بن عمران عليه السلام، و أقام اللّه على أهل مصر الحجج العظيمة القاهرة، و أراهم من خوارق العادات ما بهر الأبصار و حير العقول، و هم مع ذلك لا يرعوون و لا ينتهون و لا ينزعون و لا يرجعون و لم يؤمن منهم إلا القليل، قيل:
ثلاثة و هم امرأة فرعون، و لا علم لأهل الكتاب بخبرها، و مؤمن آل فرعون الذى تقدم حكاية موعظته و مشورته و حجته عليهم، و الرجل الناصح الذى جاء يسعى من أقصى المدينة، فقال: يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النّاصِحِينَ (20) قاله ابن عباس فيما رواه ابن أبي حاتم عنه. و مراده: غير السحرة فإنهم كانوا من القبط، و قيل: بل آمن طائفة من القبط من قوم فرعون و السحرة كلهم، و جميع شعب بني إسرائيل، و يدل على هذا قوله تعالى: فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) فالضمير في قوله: إِلاّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عائد على فرعون، لأن السياق يدل عليه، و قيل: على موسى لقربه، و الأول أظهر، كما هو مقرر في التفسير، و إيمانهم كان خفية لمخافتهم من فرعون و سطوته و جبروته و سلطته، و من ملئهم أن ينموا عليهم إليه فيفتنهم عن دينهم.
قال اللّه تعالى مخبرا عن فرعون و كفى باللّه شهيدا: وَ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ أي جبار عنيد مستعل بغير الحق وَ إِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ أي في جميع أموره و شئونه و أحواله، و لكنه جرثومة قد حان انجعافها، و ثمرة خبيثة قد آن قطافها، و مهجة ملعونة قد حتم إتلافها، و عند ذلك قال موسى: يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقالُوا عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظّالِمِينَ (85) وَ نَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (86) يأمرهم بالتوكل على اللّه، و الاستعانة به، و الالتجاء إليه، فأتمروا بذلك، فجعل اللّه لهم مما كانوا فيه فرجا
ص: 128
و مخرجا وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَ أَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَ اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) أوحى اللّه تعالى إلى موسى و أخيه هارون، عليهما السلام، أن يتخذوا لقومهما بيوتا متميزة فيما بينهم عن بيوت القبط، ليكونوا على أهبة في الرحيل إذا أمروا به ليعرف بعضهم بيوت بعض، و قوله: وَ اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قيل: مساجد، و قيل: معناه كثرة الصلاة فيها، قاله مجاهد و أبو مالك و إبراهيم النخعي و الربيع و الضحاك و زيد بن أسلم و ابنه عبد الرحمن و غيرهم. و معناه على هذا: الاستعانة على ما هم فيه من الضر و الشدة و الضيق بكثرة الصلاة، كما قال تعالى: وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم إذا حزبه أمر صلى. و قيل:
معناه أنهم لم يكونوا حينئذ يقدرون على إظهار عبادتهم في مجتمعاتهم و معابدهم، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم، عوضا عما فاتهم من إظهار شعار الدين الحق، في ذلك الزمان الذى اقتضى حالهم اخفاءه، خوفا من فرعون و ملئه، و المعنى الأول أقوى، لقوله: وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ و إن كان لا ينافي الثاني أيضا و اللّه أعلم، و قال سعيد بن جبير:
وَ اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً أي: متقابلة وَ قالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَ مَلَأَهُ زِينَةً وَ أَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَ اشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَ لا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89) هذه دعوة عظيمة دعا بها كليم اللّه موسى على عدو اللّه فرعون، غضبا للّه عليه، لتكبره عن اتباع الحق، و صده عن سبيل اللّه، و معاندته و عتوه و تمرده و استمراره على الباطل، و مكابرته الحق الواضح الجلي الحسي و المعنوي و البرهان القطعي، فقال: رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَ مَلَأَهُ
يعني قومه من القبط، و من كان على ملته، و دان بدينه: زِينَةً وَ أَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ أي و هذا يغتر به من يعظم أمر الدنيا فيحسب الجاهل أنهم على شيء، لكون هذه الأموال، و هذه الزينة من اللباس، و المراكب الحسنة الهنية، و الدور الأنيقة، و القصور المبنية، و المآكل الشهية، و المناظر البهية، و الملك العزيز
ص: 129
و التمكين، و الجاه العريض في الدنيا لا الدين رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ قال ابن عباس و مجاهد: أي أهلكها. و قال أبو العالية و الربيع بن أنس و الضحاك: اجعلها حجارة منقوشة كهيئة ما كانت. و قال قتادة: بلغنا أن زروعهم صارت حجارة. و قال محمد بن كعب: جعل سكرهم حجارة، و قال أيضا: صارت أموالهم كلها حجارة. ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز، فقال عمر بن عبد العزيز لغلام له: قم ائتني بكيس، فجاءه بكيس، فإذا فيه حمص و بيض قد حول حجارة، رواه ابن أبي حاتم.
و قوله: وَ اشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ قال ابن عباس: أي اطبع عليها. و هذه دعوة غضب للّه تعالى و لدينه و لبراهينه، فاستجاب اللّه تعالى لها و حققها و تقبلها كما استجاب لنوح في قومه حيث قال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَ لا يَلِدُوا إِلاّ فاجِراً كَفّاراً (27)، و لهذا قال تعالى مخاطبا لموسى حين دعا على فرعون و ملئه و أمن أخوه هارون على دعائه فنزل ذلك منزلة الداعى أيضا: قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَ لا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89) قال المفسرون و غيرهم من أهل الكتاب: استأذن بنو إسرائيل فرعون في الخروج إلى عيد لهم، فأذن لهم، و هو كاره، و لكنهم تجهزوا للخروج و تأهبوا له، و إنما كان في نفس الأمر مكيدة بفرعون و جنوده ليتخلصوا منهم و يخرجوا عنهم، و أمرهم اللّه تعالى، فيما ذكره أهل الكتاب، أن يستعيروا حليا منهم فأعاروهم شيئا كثيرا، فخرجوا بليل، فساروا مستمرين ذاهبين من فورهم طالبين بلاد الشام، فلما علم بذهابهم فرعون حنق عليهم كل الحنق، و اشتد غضبه عليهم، و شرع في استحثاث جيشه و جمع جنوده ليلحقهم و يمحقهم.
قال اللّه تعالى في سورة الشعراء: * وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَ إِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَ إِنّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنّاتٍ وَ عُيُونٍ (57) وَ كُنُوزٍ وَ مَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَ أَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنّا لَمُدْرَكُونَ (61) قالَ كَلاّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَ أَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَ أَنْجَيْنا مُوسى وَ مَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68).. قال علماء التفسير: لما ركب فرعون في جنوده طالبا بني إسرائيل يقفو أثرهم، كان في جيش كثيف عرمرم حتى قيل: كان في خيوله مائة ألف فحل أدهم و كانت عدة جنوده تزيد على ألف ألف و ستمائة ألف، فاللّه أعلم، و قيل: إن بني إسرائيل كانوا نحوا من ستمائة ألف مقاتل غير الذرية، و كان بين خروجهم من مصر صحبة موسى عليه السلام، و دخولهم إليها صحبة أبيهم إسرائيل أربعمائة سنة و ستا و عشرين سنة شمسية.
ص: 130
قال اللّه تعالى في سورة الشعراء: * وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَ إِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَ إِنّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنّاتٍ وَ عُيُونٍ (57) وَ كُنُوزٍ وَ مَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَ أَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنّا لَمُدْرَكُونَ (61) قالَ كَلاّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَ أَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَ أَنْجَيْنا مُوسى وَ مَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68).. قال علماء التفسير: لما ركب فرعون في جنوده طالبا بني إسرائيل يقفو أثرهم، كان في جيش كثيف عرمرم حتى قيل: كان في خيوله مائة ألف فحل أدهم و كانت عدة جنوده تزيد على ألف ألف و ستمائة ألف، فاللّه أعلم، و قيل: إن بني إسرائيل كانوا نحوا من ستمائة ألف مقاتل غير الذرية، و كان بين خروجهم من مصر صحبة موسى عليه السلام، و دخولهم إليها صحبة أبيهم إسرائيل أربعمائة سنة و ستا و عشرين سنة شمسية.
و المقصود: أن فرعون لحقهم بالجنود فأدركهم عند شروق الشمس، و تراءى الجمعان و لم يبق ثم ريب و لا لبس و عاين كل من الفريقين صاحبه و تحققه و رآه، و لم يبق إلا المقاتلة و المجادلة و المحاماة، فعندها قال أصحاب موسى و هم خائفون: إِنّا لَمُدْرَكُونَ و ذلك لأنهم اضطروا في طريقهم إلى البحر، فليس لهم طريق و لا محيد إلا سلوكه و خوضه، و هذا ما لا يستطيعه أحد و لا يقدر عليه، و الجبال عن يسرتهم و عن أيمانهم، و هي شاهقة منيفة، و فرعون قد غالقهم و واجههم، و عاينوه في جنوده و جيوشه و عدده و عداده، و هم منه في غاية الخوف و الذعر، لما قاسوا في سلطانه من الإهانة و المنكر، فشكوا إلى نبي اللّه ما هم فيه مما قد شاهدوه و عاينوه، فقال لهم الرسول الصادق المصدق: كَلاّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ ، و كان في الساقة فتقدم إلى المقدمة، فنظر إلى البحر و هو يتلاطم بأمواجه، و يتزايد زبد أجاجه، و هو يقول: هاهنا أمرت، و معه أخوه هارون و يوشع بن نون، و هو يومئذ من سادات بني إسرائيل و علمائهم و عبادهم الكبار، و قد أوحى اللّه إليه و جعله نبيا بعد موسى و هارون عليهما السلام، كما سنذكره فيما بعد إن شاء اللّه، و معهم أيضا مؤمن آل فرعون، و هم وقوف و بنو إسرائيل بكمالهم عليهم عكوف، و يقال: إن مؤمن آل فرعون جعل يقتحم بفرسه مرارا في البحر هل يمكن سلوكه فلا يمكن، و يقول لموسى عليه السلام: يا نبي اللّه، أ هاهنا أمرت؟ فيقول: نعم، فلما
ص: 131
تفاقم الأمر، و ضاق الحال، و اشتد الأمر، و اقترب فرعون و جنوده في جدهم و حدهم و حديدهم و غضبهم و حنقهم، و زاغت الأبصار و بلغت القلوب الحناجر، فعند ذلك أوحى الحليم العظيم القدير رب العرش الكريم إلى موسى الكليم: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فلما ضربه، يقال: إنه قال له: انفلق بإذن اللّه، و يقال: إنه كناه بأبي خلد، فاللّه أعلم، قال اللّه تعالى: فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ و يقال: إنه انفلق اثنتي عشرة طريقا، لكل سبط طريق يسيرون فيه، حتى قيل: إنه صار أيضا شبابيك ليرى بعضهم بعضا، و في هذا نظر، لأن الماء جرم شفاف إذا كان من ورائه ضياء حكاه. و هكذا كان ماء البحر قائما مثل الجبال مكفوفا بالقدرة العظيمة الصادرة من الذي يقول للشيء كن فيكون، و أمر اللّه ريح الدبور فلقحت حال البحر، فأذهبته حتى صار يابسا لا يعلق في سنابك الخيول و الدواب.
قال اللّه تعالى في سورة طه: وَ لَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَ لا تَخْشى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَ ما هَدى (79)... و المقصود: أنه لما آل أمر البحر إلى هذه الحال بإذن الرب العظيم الشديد المحال، أمر موسى عليه السلام أن يجوزه ببني إسرائيل، فانحدروا فيه مسرعين مستبشرين مبادرين، و قد شاهدوا من الأمر العظيم ما يحير الناظرين، و يهدي قلوب المؤمنين، فلما جاوزوه و جاوزه و خرج آخرهم منه و انفصلوا عنه، كان ذلك عند قدوم أول جيش فرعون إليه و وفودهم عليه، فأراد موسى عليه السلام أن يضرب البحر بعصاه ليرجع كما كان عليه، لئلا يكون لفرعون و جنوده وصول إليه، و لا سبيل عليه، فأمره القدير ذو الجلال أن يترك البحر على هذه الحال، كما قال و هو الصادق في المقال * وَ لَقَدْ فَتَنّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَ جاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَ أَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) وَ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَ اتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنّاتٍ وَ عُيُونٍ (25) وَ زُرُوعٍ وَ مَقامٍ كَرِيمٍ (26) وَ نَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَ أَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ وَ ما كانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَ لَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَ لَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) وَ آتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33)، (الدخان).. فقوله تعالى:
ص: 132
قال اللّه تعالى في سورة طه: وَ لَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَ لا تَخْشى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَ ما هَدى (79)... و المقصود: أنه لما آل أمر البحر إلى هذه الحال بإذن الرب العظيم الشديد المحال، أمر موسى عليه السلام أن يجوزه ببني إسرائيل، فانحدروا فيه مسرعين مستبشرين مبادرين، و قد شاهدوا من الأمر العظيم ما يحير الناظرين، و يهدي قلوب المؤمنين، فلما جاوزوه و جاوزه و خرج آخرهم منه و انفصلوا عنه، كان ذلك عند قدوم أول جيش فرعون إليه و وفودهم عليه، فأراد موسى عليه السلام أن يضرب البحر بعصاه ليرجع كما كان عليه، لئلا يكون لفرعون و جنوده وصول إليه، و لا سبيل عليه، فأمره القدير ذو الجلال أن يترك البحر على هذه الحال، كما قال و هو الصادق في المقال * وَ لَقَدْ فَتَنّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَ جاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَ أَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) وَ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَ اتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنّاتٍ وَ عُيُونٍ (25) وَ زُرُوعٍ وَ مَقامٍ كَرِيمٍ (26) وَ نَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَ أَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ وَ ما كانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَ لَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَ لَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) وَ آتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33)، (الدخان).. فقوله تعالى:
وَ اتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً أي ساكنا على هيئته لا تغيره عن هذه الصفة، قاله عبد اللّه بن عباس و مجاهد و عكرمة و الربيع و الضحاك و قتادة و كعب الأحبار و سماك بن حرب و عبد الرحمن بن زيد بن أسلم و غيرهم. فلما تركه على هيئته و حالته، و انتهى فرعون فرأى ما رأى، و عاين ما عاين، هاله هذا المنظر العظيم، و تحقق ما كان يتحققه قبل ذلك، من أن هذا من فعل رب العرش الكريم، فأحجم و لم يتقدم و ندم في نفسه على خروجه في طلبهم و الحالة هذه حيث لا ينفعه الندم، لكنه أظهر لجنوده تجلدا و عاملهم معاملة العدا، و حملته النفس الكافرة، و السجية الفاجرة على أن قال لمن استخفهم فأطاعوه و على باطله تابعوه: انظروا كيف انحسر البحر لى لأدرك عبيدي الآبقين من يدي الخارجين عن طاعتي و بلدي و جعل يوري في نفسه أن يذهب خلفهم و يرجو أن ينجو و هيهات، و يقدم تارة و يحجم تارات، فذكروا أن جبريل عليه السلام تبدى في صورة فارس راكب على رمكة حائل، فمر بين يدي فحل فرعون، لعنه اللّه، فحمحم إليها، و أقبل عليها، و أسرع جبريل بين يديه، فاقتحم البحر و استبق الجواد، و قد أجاد فبادر مسرعا، هذا و فرعون لا يملك من نفسه ضرا و لا نفعا، فلما رأته الجنود قد سلك البحر اقتحموا وراءه مسرعين، فحصلوا في البحر أجمعين أكتعين أبصعين، حتى هم أولهم بالخروج منه فعند ذلك أمر اللّه تعالى كليمه فيما أوحاه إليه أن يضرب البحر بعصاه، فضربه فارتد عليهم البحر كما كان، فلم ينج منهم إنسان.
قال اللّه تعالى: وَ أَنْجَيْنا مُوسى وَ مَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) أي في إنجائه
ص: 133
أولياءه، فلم يغرق منهم أحد، و إغراقه أعداءه، فلم يخلص منهم أحد آية عظيمة و برهان قاطع على قدرته تعالى العظيمة و صدق رسوله فيما جاء به عن ربه من الشريعة الكريمة و المناهج المستقيمة، و قال تعالى: * وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَ جُنُودُهُ بَغْياً وَ عَدْواً حَتّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (92)، (يونس). يخبر تعالى عن كيفية غرق فرعون زعيم كفرة القبط، و أنه لما جعلت الأمواج تخفضه تارة، و ترفعه أخرى، و بنو إسرائيل ينظرون إليه، و إلى جنوده، ما ذا أحل اللّه به و بهم، من البأس العظيم و الخطب الجسيم، ليكون أقر لأعين بني إسرائيل، و أشفى لنفوسهم، فلما عاين فرعون الهلكة و أحيط به و باشر سكرات الموت، أناب حينئذ و تاب، و آمن حين لا ينفع نفسا إيمانها، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَ لَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97)، و قال تعالى: فَلَمّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنّا بِاللّهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنا بِما كُنّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85)، و هكذا دعا موسى على فرعون و ملئه، أن يطمس على أموالهم، و يشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم أي حين لا ينفعهم ذلك، و يكون حسرة عليهم، و قد قال تعالى لهما أي لموسى و هارون حين دعوا بهذا: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فهذا من إجابة اللّه تعالى دعوة كليمه و أخيه هارون عليهما السلام. و من ذلك الحديث الذى رواه الإمام أحمد: حدثنا سليمان ابن حرب، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: (لما قال فرعون: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ قال لي جبريل: لو رأيتني و قد أخذت من حال البحر فدسسته في فيه مخافة أن تناله الرحمة). و رواه الترمذي و ابن جرير و ابن أبي حاتم
ص: 134
عند هذه الآية من حديث حماد بن سلمة. و قال الترمذى: حديث حسن.
و قال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة، عن عدي بن ثابت و عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: (قال لي جبريل: لو رأيتني و أنا آخذ من حال البحر فأدسه في فم فرعون مخافة أن يناله الرحمة). و رواه الترمذي و ابن جرير من حديث شعبة، و قال الترمذي: حسن غريب صحيح. و أشار ابن جرير في رواية إلى وقفه. و قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن عمر بن عبد اللّه بن يعلى الثقفي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما أغرق اللّه فرعون أشار بإصبعه و رفع صوته آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ قال: فخاف جبريل أن تسبق رحمة اللّه فيه غضبه، فجعل يأخذ الحال بجناحيه فيضرب به وجهه فيرمسه. و رواه ابن جرير من حديث أبي خالد به. و قد رواه ابن جرير من طريق كثير بن زاذان و ليس بمعروف. و عن أبي حازم عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: (قال لى جبريل: يا محمد، لو رأيتني و أنا أعظه و أدس من الحال في فيه مخافة أن تدركه رحمة اللّه فيغفر له). يعني فرعون. و قد أرسله غير واحد من السلف كإبراهيم التيمي و قتادة و ميمون بن مهران، و يقال: إن الضحاك بن قيس خطب به الناس. و في بعض الروايات: (إن جبريل قال: ما بغضت أحدا بغضى لفرعون حين قال: أنا ربكم الأعلى، و لقد جعلت أدس في فيه الطين حين قال ما قال).
و قوله تعالى: آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) استفهام إنكار، و نص على عدم قبوله تعالى منه ذلك، لأنه و اللّه أعلم، لو رد إلى الدنيا كما كان لعاد إلى ما كان عليه، كما أخبر تعالى عن الكفار إذا عاينوا النار و شاهدوها أنهم يقولون:
يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَ لا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَ نَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)، قال اللّه: بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (28)، و قوله:
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً . قال ابن عباس و غير واحد: شك
ص: 135
بعض بني إسرائيل في موت فرعون، حتى قال بعضهم: إنه لا يموت، فأمر اللّه البحر فرفعه على مرتفع، قيل: على وجه الماء، و قيل: على نجوة من الأرض، و عليه درعه التي يعرفونها من ملابسه ليتحققوا بذلك هلاكه و يعلموا قدرة اللّه عليه، و لهذا قال:
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ أي مصاحبا درعك المعروفة بك لِتَكُونَ أي أنت آية لِمَنْ خَلْفَكَ أي من بني إسرائيل، دليلا على قدرة اللّه الذى أهلكه. و لهذا قرأ بعض السلف: لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ، و يحتمل أن يكون المراد ننجيك مصاحبا لتكون درعك علامة لمن وراءك من بني إسرائيل على معرفتك و أنك هلكت، و اللّه أعلم، و قد كان هلاكه و جنوده في يوم عاشوراء، كما قال الإمام البخاري في صحيحه: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قدم النبي صلّى اللّه عليه و سلم المدينة و اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ما هذا اليوم الذى تصومونه؟ فقالوا: هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون، قال النبي صلّى اللّه عليه و سلم: (أنتم أحق بموسى منهم فصوموا). و أصل الحديث في الصحيحين و غيرهما، و اللّه أعلم.
قال اللّه تعالى في سورة الأعراف: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ (136) وَ أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَ دَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَ قَوْمُهُ وَ ما كانُوا يَعْرِشُونَ (137) وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَ باطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139) قالَ أَ غَيْرَ اللّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَ هُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140) وَ إِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141).. يذكر تعالى ما كان من أمر فرعون و جنوده في غرقهم، و كيف سلبهم عزهم و مالهم و أنفسهم، و أورث بني إسرائيل جميع
ص: 136
أموالهم و أملاكهم، كما قال: كَذلِكَ وَ أَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59)، و قال: وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5)، و قال هاهنا وَ أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَ دَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَ قَوْمُهُ وَ ما كانُوا يَعْرِشُونَ (137) أي أهلك ذلك جميعه، و سلبهم عزهم العزيز العريض في الدنيا، و هلك الملك و حاشيته و أمراؤه و جنوده، و لم يبق ببلد مصر سوى العامة و الرعايا. فذكر ابن عبد الحكم في تاريخ مصر: أنه في ذلك الزمان تسلط نساء مصر على رجالها بسبب أن نساء الأمراء و الكبراء تزوجن بمن دونهن من العامة، فكانت لهن السطوة عليهم، و استمرت هذه سنّة نساء مصر إلى يومك هذا.
و عند أهل الكتاب: أن بني إسرائيل لما أمروا بالخروج من مصر جعل اللّه ذلك الشهر أول سنتهم، و أمروا أن يذبح كل أهل بيت حملا من الغنم، فإن كانوا لا يحتاجون إلى حمل فليشترك الجار و جاره فيه، فإذا ذبحوه فلينضحوا من دمه على أعتاب أبوابهم ليكون علامة لهم على بيوتهم، و لا يأكلونه مطبوخا و لكن مشويا برأسه و أكارعه و بطنه و لا يبقوا منه شيئا، و لا يكسروا له عظما، و لا يخرجوا منه شيئا إلى خارج بيوتهم، و ليكن خبزهم فطيرا سبعة أيام ابتداؤها من الرابع عشر من الشهر الأول من سنتهم، و كان ذلك في فصل الربيع، فإذا أكلوا فلتكن أوساطهم مشدودة، و خفافهم في أرجلهم، و عصيهم في أيديهم، و ليأكلوا بسرعة قياما و مهما فضل عن عشائهم، فما بقى إلى الغد فليحرقوه بالنار، و شرع لهم هذا عيدا لأعقابهم ما دامت التوراة معمولا بها، فإذا نسخت بطل شرعها و قد وقع.
قالوا: و قتل اللّه عز و جل في تلك الليلة أبكار القبط، و أبكار دوابهم، ليشتغلوا عنهم و خرج بنو إسرائيل حين انتصف النهار، و أهل مصر في مناحة عظيمة على أبكار أولادهم، و أبكار أموالهم، ليس من بيت إلا و فيه عويل و حين جاء الوحي إلى موسى خرجوا مسرعين، فحملوا العجين قبل اختماره و حملوا الأزواد في الأردية و ألقوها على عواتقهم، و كانوا قد استعاروا من أهل مصر حليا كثيرا، فخرجوا و هم ستمائة ألف رجل
ص: 137
سوى الذراري بما معهم من الأنعام، و كانت مدة مقامهم بمصر أربعمائة سنة و ثلاثين سنة، هذا نص كتابهم، و هذه السنة عندهم تسمى سنة الفسخ، و هذا العيد عيد الفسخ، و لهم عيد الفطير، و عيد الحمل، و هو أول السنة، و هذه الأعياد الثلاثة آكد أعيادهم منصوص عليها في كتابهم.
و لما خرجوا من مصر أخرجوا معهم تابوت يوسف عليه السلام، و خرجوا على طريق بحر سوف، و كانوا في النهار يسيرون و السحاب بين أيديهم يسير أمامهم فيه عمود نور، و بالليل أمامهم عمود نار، فانتهى بهم الطريق إلى ساحل البحر، فنزلوا هنالك و أدركهم فرعون و جنوده من المصريين و هم هناك حلول على شاطئ اليم، فقلق كثير من بني إسرائيل حتى قال قائلهم كان بقاؤنا بمصر أحب إلينا من الموت بهذه البرية، و قال موسى عليه السلام لمن قال هذه المقالة: لا تخشوا فإن فرعون و جنوده لا يرجعون إلى بلدهم بعد هذا، قالوا: و أمر اللّه موسى عليه السلام أن يضرب البحر بعصاه، و أن يقسمه ليدخل بنو إسرائيل في البحر و اليبس، و صار الماء من هاهنا و هاهنا كالجبلين، و صار وسطه يبسا، لأن اللّه سلط عليه ريح الجنوب و السموم فجاز بنو إسرائيل البحر و اتبعهم فرعون و جنوده، فلما توسطوه أمر اللّه موسى فضرب البحر بعصاه فرجع الماء كما كان عليهم، لكن عند أهل الكتاب: أن هذا كان في الليل، و أن البحر ارتطم عليهم عند الصبح، و هذا من غلطهم، و عدم فهمهم في تعريبهم، و اللّه أعلم، قالوا: و لما أغرق اللّه فرعون و جنوده حينئذ سبح موسى و بنو إسرائيل بهذا التسبيح للرب، و قالوا: (نسبح الرب البهي الذى قهر الجنود و نبذ فرسانها في البحر المنيع المحمود)، و هو تسبيح طويل، قالوا: و أخذت مريم النبية أخت هارون دفا بيدها، و خرج النساء في أثرها كلهن بدفوف و طبول، و جعلت مريم ترتل لهن و تقول: سبحان الرب القهار الذى قهر الخيول و ركبانها إلقاء في البحر. هكذا رأيته في كتابهم، و لعل هذا هو من الذى حمل محمد بن كعب القرظي على زعمه، أن مريم بنت عمران أم عيسى هى أخت هارون و موسى مع قوله: يا أُخْتَ هارُونَ . و قد بينا غلطه في ذلك و أن هذا لا يمكن أن يقال و لم يتابعه أحد عليه، بل كل واحد خالفه فيه، و لو قدر أن
ص: 138
هذا محفوظ فهذه مريم بنت عمران أخت موسى و هارون عليهما السلام، و أم عيسى عليها السلام، وافقتها في الاسم و اسم الأب و اسم الأخ، لأنهم كما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم للمغيرة بن شعبة لما سأله أهل نجران عن قوله: يا أخت هارون، فلم يدر ما يقول لهم حتى سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم عن ذلك، فقال: (أما علمت أنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم). رواه مسلم. و قولهم: النبية كما يقال للمرأة من بيت الملك ملكة، و من بيت الإمرة أميرة، و إن لم تكن مباشرة شيئا من ذلك، فكذا هذه استعارة لها، لا أنها نبية حقيقة يوحى إليها، و ضربها بالدف في مثل هذا اليوم الذى هو أعظم الأعياد عندهم، دليل على أنه قد كان شرع من قبلنا ضرب الدف في العيد، و هذا مشروع لنا أيضا في حق النساء، لحديث الجاريتين اللتين كانتا عند عائشة تضربان بالدف في أيام منى، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم مضطجع مولى ظهره إليهم و وجهه إلى الحائط، فلما دخل أبو بكر زجرهن، و قال: أ بمزمور الشيطان في بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم؟ فقال: (دعهن يا أبا بكر، فإن لكل قوم عيدا و هذا عيدنا). و هكذا يشرع عندنا في الأعراس، و لقدوم الغياب، كما هو مقرر في موضعه، و اللّه أعلم.
و ذكروا أنهم لما جاوزوا البحر و ذهبوا قاصدين إلى بلاد الشام مكثوا ثلاثة أيام لا يجدون ماء، فتكلم من تكلم منهم بسبب ذلك، فوجدوا ماء زعاقا أجاجا لم يستطيعوا شربه، فأمر اللّه موسى فأخذ خشبة فوضعها فيه فحلا و ساغ شربه، و علمه الرب هنالك فرائض و سننا و وصاه وصايا كثيرة. و قد قال اللّه تعالى في كتابه العزيز المهيمن على ما عداه من الكتب: وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَ باطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139) قالوا هذا الجهل و الضلال، و قد عاينوا من آيات اللّه و قدرته ما دلهم على صدق ما جاءهم به رسول ذي الجلال و الإكرام، و ذلك أنهم مروا على قوم يعبدون أصناما، قيل: كانت على صور البقر، فكأنهم سألوهم لم يعبدونها، فزعموا لهم أنها تنفعهم و تضرهم و يسترزقون بها عند الضرورات، فكأن بعض الجهال منهم صدقوهم في ذلك، فسألوا نبيهم الكليم الكريم العظيم أن يجعل لهم آلهة
ص: 139
كما لأولئك آلهة، فقال لهم مبينا لهم أنهم لا يعقلون، و لا يهتدون: إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَ باطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ، ثم ذكرهم نعمة اللّه عليهم في تفضيله إياهم على عالمي زمانهم بالعلم و الشرع، و الرسول الذي بين أظهرهم و ما أحسن به إليهم، و ما امتن به عليهم، من إنجائهم من قبضة فرعون الجبار العنيد، و إهلاكه إياه و هم ينظرون، و توريثه إياهم ما كان فرعون و ملؤه يجمعونه من الأموال و السعادة، و ما كانوا يعرشون، و بين لهم أنه لا تصلح العبادة إلا للّه وحده لا شريك له، لأنه الخالق الرازق القهار، و ليس كل بني إسرائيل سأل هذا السؤال بل هذا الضمير عائد على الجنس في قوله:
وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ أي قال بعضهم، كما في قوله: وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَ عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48) فالذين زعموا هذا بعض الناس لا كلهم.
و قد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهرى، عن سنان بن أبي سنان الديلي، عن أبي واقد الليثي، قال: خرجنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قبل حنين، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول اللّه، اجعل لنا ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط، و كان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة و يعكفون حولها، فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلم: (اللّه أكبر هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، إنكم تركبون سنن الذين من قبلكم). و رواه النسائي عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق به. و رواه الترمذى عن سعيد بن عبد الرحمن المخزومي، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري به. ثم قال: حسن صحيح. و قد روى ابن جرير من حديث محمد بن إسحاق و معمر و عقيل، عن الزهري، عن سنان بن أبي سنان، عن أبي واقد الليثي، أنهم خرجوا من مكة مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم إلى خيبر، قال: و كان للكفار سدرة يعكفون عندها، و يعلقون بها أسلحتهم يقال لها:
ذات أنواط، قال: فمررنا بسدرة خضراء عظيمة، قال فقلنا يا رسول اللّه، اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط. قال صلّى اللّه عليه و سلم (قلتم: و الذى نفسي بيده، كما قال قوم موسى
ص: 140
لموسى: اِجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَ باطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139).
و المقصود: أن موسى عليه السلام لما انفصل من بلاد مصر و واجه بلاد بيت المقدس، وجد فيها قوما من الجبارين من الحيثانيين و الفزاريين و الكنعانيين و غيرهم، فأمرهم موسى عليه السلام بالدخول عليهم و مقاتلتهم و إجلائهم إياهم عن بيت المقدس، فإن اللّه كتبه لهم، و وعدهم إياه على لسان إبراهيم الخليل، أو موسى الكليم الجليل، فأبوا و نكلوا عن الجهاد، فسلط اللّه عليهم الخوف و ألقاهم في التيه يسيرون و يحلون و يرتحلون و يذهبون و يجيئون في مدة من السنين طويلة هي من العدد أربعون، كما قال اللّه تعالى في سورة المائدة: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَ لا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبّارِينَ وَ إِنّا لَنْ نَدْخُلَها حَتّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنّا داخِلُونَ (22) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَ عَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قالُوا يا مُوسى إِنّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ (24) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاّ نَفْسِي وَ أَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26).. يذكرهم نبي اللّه نعمة اللّه عليهم، و إحسانه عليهم بالنعم الدينية و الدنيوية، و يأمرهم بالجهاد في سبيل اللّه، و مقاتلة أعدائه، فقال: يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَ لا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ أي تنكصوا على أعقابكم، و تنكلوا على قتال أعدائكم فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ أي فتخسروا بعد الربح، و تنقصوا بعد الكمال قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبّارِينَ أي عتاة كفرة متمردين وَ إِنّا لَنْ نَدْخُلَها حَتّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنّا داخِلُونَ خافوا من هؤلاء الجبارين، و قد عاينوا هلاك فرعون، و هو أجبر من هؤلاء
ص: 141
و أشد بأسا و أكثر جمعا و أعظم جندا، و هذا يدل على أنهم ملومون في هذه المقالة و مذمومون على هذه الحالة من الذلة عن مصاولة الأعداء و مقاومة المردة الأشقياء.
و قد ذكر كثير من المفسرين هاهنا آثارا فيها مجازفات كثيرة باطلة يدل العقل و النقل على خلافها من أنهم كانوا أشكالا هائلة ضخاما جدا، حتى أنهم ذكروا أن رسل بني إسرائيل لما قدموا عليهم تلقاهم رجل من رسل الجبارين فجعل يأخذهم واحدا واحدا و يلفهم في أكمامه و حجزة سراويله، و هم اثنا عشر رجلا، فجاء بهم فنثرهم بين يدي ملك الجبارين، فقال: ما هؤلاء؟ و لم يعرف أنهم من بني آدم حتى عرفوه، و كل هذه هذيانات و خرافات لا حقيقة لها، و أن الملك بعث معهم عنبا كل عنبة تكفي الرجل، و شيئا من ثمارهم ليعلموا ضخامة أشكالهم، و هذا ليس بصحيح و ذكروا هاهنا أن عوج ابن عنق خرج من عند الجبارين إلى بني إسرائيل ليهلكهم، و كان طوله ثلاثة آلاف ذراع و ثلاثمائة ذراع و ثلاثة و ثلاثين ذراعا و ثلث ذراع، هكذا ذكره البغوى و غيره و ليس بصحيح كما قدمنا بيانه عند قوله صلّى اللّه عليه و سلم: (إن اللّه خلق آدم طوله ستون ذراعا، ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن). قالوا: فعمد عوج إلى قمة جبل، فاقتلعها ثم أخذها بيديه ليلقيها على جيش موسى، فجاء طائر فنقر تلك الصخرة فخرقها فصارت طوقا في عنق عوج بن عنق، ثم عمد موسى إليه فوثب في الهواء عشرة أذرع، و طوله عشرة أذرع و بيده عصاه، و طولها عشرة أذرع، فوصل إلى كعب قدمه فقتله، يروى هذا عن عوف البكالي، و نقله ابن جرير عن ابن عباس و في إسناده إليه نظر. ثم هو مع هذا كله من الإسرائيليات، و كل هذه من وضع جهال بني إسرائيل، فإن الأخبار الكاذبة قد كثرت عندهم و لا تمييز لهم بين صحتها و باطلها، ثم لو كان هذا صحيحا لكان بنو إسرائيل معذورين في النكول عن قتالهم، و قد ذمهم اللّه على نكولهم، و عاقبهم بالتيه على ترك جهادهم، و مخالفتهم رسولهم، و قد أشار عليهم رجلان صالحان منهم بالإقدام، و نهياهم عن الإحجام، و يقال: إنهما يوشع بن نون و كالب بن يوقنا، قاله ابن عباس و مجاهد و عكرمة و عطية و السدي و الربيع بن أنس و غير واحد. قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أي يخافون اللّه و قرأ بعضهم: (يخافون) أي يهابون أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا
ص: 142
أي بالإسلام و الإيمان و الطاعة و الشجاعة اُدْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَ عَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي إذا توكلتم على اللّه و استعنتم به و لجأتم إليه نصركم على عدوكم، و أيدكم عليهم، و أظفركم بهم قالُوا يا مُوسى إِنّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ فصمم ملؤهم على النكول عن الجهاد، و وقع أمر عظيم، و وهن كبير، فيقال: إن يوشع و كالب لما سمعا هذا الكلام شقا ثيابهما، و إن موسى و هارون سجدا إعظاما لهذا الكلام و غضبا للّه عز و جل، و شفقة عليهم من وبيل هذه المقالة قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاّ نَفْسِي وَ أَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ قال ابن عباس: اقض بيني و بينهم قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ عوقبوا على نكولهم بالتيهان في الأرض، يسيروا إلى غير مقصد ليلا و نهارا و صباحا و مساء، و يقال: إنه لم يخرج أحد من التيه ممن دخله، بل ماتوا كلهم في مدة أربعين سنة، و لم يبق إلا ذراريهم سوى يوشع و كالب عليهما السلام، لكن أصحاب محمد صلّى اللّه عليه و سلم يوم بدر لم يقولوا له كما قال قوم موسى لموسى، بل لما استشارهم في الذهاب إلى النفير تكلم الصديق فأحسن و غيره من المهاجرين، ثم جعل يقول: (أشيروا عليّ). حتى قال سعد بن معاذ:
كأنك تعرض بنا يا رسول اللّه، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، و ما نكره أن يلقى بنا عدونا غدا إنا لصبر في الحرب صدق في اللقاء، لعل اللّه يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة اللّه.
فسر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بقول سعد و بسطه ذلك.
و قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن مخارق بن عبد اللّه الأحمسى، عن طارق، هو ابن شهاب، أن المقداد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يوم بدر: يا رسول اللّه، إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ و لكن اذهب أنت و ربك فقاتلا، إنا معكما مقاتلون. و هذا إسناد جيد من هذا الوجه، و له طرق أخرى. قال أحمد: حدثنا أسود بن عامر، حدثنا إسرائيل،
ص: 143
عن مخارق، عن طارق بن شهاب، قال: قال عبد اللّه بن مسعود: لقد شهدت من المقداد مشهدا، لأن أكون أنا صاحبه أحب إلىّ مما عدل به، أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و هو يدعو على المشركين، قال: و اللّه يا رسول اللّه، لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ و لكنا نقاتل عن يمينك، و عن يسارك و من بين يديك، و من خلفك، فرأيت وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يشرق لذلك، و سر بذلك. رواه البخاري في التفسير و المغازي من طرق عن مخارق به.
و قال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا علي بن الحسن بن علي، حدثنا أبو حاتم الرازى، حدثنا محمد بن عبد اللّه الأنصاري، حدثنا حميد، عن أنس، أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لما سار إلى بدر استشار المسلمين، فأشار عليه عمر، ثم استشارهم فقالت الأنصار:
يا معشر الأنصار، إياكم يريد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، قالوا: إذا لا نقول له كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ و الذي بعثك بالحق إن ضربت أكبادها إلى برك العماد لاتبعناك. رواه الإمام أحمد عن عبيدة بن حميد، عن حميد الطويل، عن أنس به. و رواه النسائي عن محمد بن المثنى، عن خالد بن الحارث، عن حميد، عن أنس به نحوه. و أخرجه ابن حبان في صحيحه عن أبي يعلى، عن عبد الأعلى بن حماد، عن معتمر، عن حميد، عن أنس به نحوه.
قال اللّه تعالى: * وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَ قالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَ لَمّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَ لكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ
ص: 144
جَعَلَهُ دَكًّا وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النّاسِ بِرِسالاتِي وَ بِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَ كُنْ مِنَ الشّاكِرِينَ (144) وَ كَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ ءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ (146) وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ لِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (147)، (الأعراف). قال جماعة من السلف، منهم ابن عباس و مسروق و مجاهد: الثلاثون ليلة هي شهر ذي القعدة بكماله، و أتمت أربعين ليلة بعشر ذي الحجة، فعلى هذا يكون كلام اللّه له يوم عيد النحر، و في مثله أكمل اللّه عز و جل لمحمد صلّى اللّه عليه و سلم دينه و أقام حجته و براهينه.
و المقصود: أن موسى عليه السلام لما استكمل الميقات و كان فيه صائما، يقال: إنه لم يستطعم الطعام، فلما كمل الشهر أخذ لحا شجرة فمضغة ليطيب ريح فمه، فأمر اللّه أن يمسك عشرا أخرى، فصارت أربعين ليلة. و لهذا ثبت في الحديث: (أن خلوف فم الصائم أطيب عند اللّه من ريح المسك). فلما عزم على الذهاب استخلف على شعب بني إسرائيل أخاه هارون المحبب المبجل الجليل، و هو ابن أمه و أبيه، و وزيره في الدعوة إلى مصطفيه، فوصاه و أمره، و ليس في هذا لعلو منزلته في نبوته منافاة، قال اللّه تعالى: وَ لَمّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا أي في الوقت الذى أمر بالمجيء فيه وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ أي كلمه اللّه من وراء حجاب إلا أنه أسمعه الخطاب فناداه و ناجاه و قربه و أدناه، و هذا مقام رفيع و معقل منيع و منصب شريف و منزل منيف، فصلوات اللّه عليه تترى و سلامه عليه في الدنيا و الأخرى، و لما أعطي هذه المنزلة العلية، و المرتبة السنية، و سمع الخطاب سأل رفع الحجاب، فقال للعظيم الذى لا تدركه الأبصار القوى البرهان: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي ثم بين تعالى أنه لا يستطيع أن يثبت عند تجليه تبارك و تعالى، لأن الجبل الذي هو أقوى و أكبر ذاتا و أشد ثباتا من الإنسان لا يثبت عند التجلي من الرحمن، و لهذا قال: وَ لكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي .
و في الكتب المتقدمة أن اللّه تعالى قال له: يا موسى، إنه لا يراني حي إلا مات،
ص: 145
و لا يابس إلا تدهده. و في الصحيحين عن أبي موسى، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أنه قال:
(حجابه النور - و في رواية: النار - لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه). و قال ابن عباس في قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ : ذاك نوره الذى هو نوره إذا تجلى لشيء لا يقوم له شيء، و لهذا قال تعالى: فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ قال مجاهد: وَ لكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي
فإنه أكبر منك و أشد خلقا، فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ، فنظر إلى الجبل لا يتمالك، و أقبل الجبل فدك على أوله، و رأى موسى ما يصنع الجبل، فخر صعقا. و قد ذكرنا في التفسير ما رواه الإمام أحمد و الترمذي و صححه ابن جرير و الحاكم من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت، زاد ابن جرير و ليث، عن أنس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قرأ: فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا و قال صلّى اللّه عليه و سلم: (هكذا، بإصبعه، و وضع النبي صلّى اللّه عليه و سلم الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر، فساخ الجبل). لفظ ابن جرير. و قال السدي عن عكرمة و عن ابن عباس: ما تجلى، يعني من العظمة، إلا قدر الخنصر، فجعل الجبل دكّا قال:
ترابا وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً أي مغشيا عليه، و قال قتادة: ميتا، و الصحيح الأول، لقوله: فَلَمّا أَفاقَ فإن الإفاقة إنما تكون عن غشى، قال: سُبْحانَكَ تنزيه و تعظيم و إجلال أن يراه بعظمته أحد تُبْتُ إِلَيْكَ أي فلست أسأل بعد هذا الرؤية وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ أنه لا يراك حي إلا مات، و لا يابس إلا تدهده. و قد ثبت في الصحيحين من طريق عمرو بن يحيى بن عمارة بن أبي حسن المازني الأنصارى، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: (لا تخيروني من بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي؟ أو جوزي بصعقة الطور؟) لفظ البخاري. و في أوله: قصة اليهودي الذى لطم وجهه الأنصاري، حين قال: لا و الذي اصطفى موسى على البشر، فقال رسول اللّه: (لا تخيروني من بين الأنبياء). و في
ص: 146
الصحيحين من طريق الزهري عن أبي سلمة و عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم بنحوه، و فيه: (لا تخيروني على موسى)، و ذكر تمامه. و هذا من باب الهضم و التواضع أو نهى عن التفضيل بين الأنبياء على وجه الغضب و العصبية، أو ليس هذا إليكم، بل اللّه هو الذى رفع بعضهم فوق بعض درجات، و ليس ينال هذا بمجرد الرأي بل بالتوقيف. و من قال: إن هذا قاله قبل أن يعلم أنه أفضل، ثم نسخ باطلاعه على أفضليته عليهم كلهم، ففي قوله نظر لأن هذا من رواية أبي سعيد و أبي هريرة، و ما هاجر أبو هريرة إلا عام حنين متأخرا، فيبعد أنه لم يعلم بهذا إلا بعد هذا، و اللّه أعلم، و لا شك أنه صلوات اللّه و سلامه عليه، أفضل البشر بل الخليقة، قال اللّه تعالى:
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ و ما كملوا إلا بشرف نبيهم، و ثبت بالتواتر عنه صلوات اللّه و سلامه عليه، أنه قال: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، و لا فخر)، ثم ذكر اختصاصه بالمقام المحمود الذى يغبطه به الأولون و الآخرون، الذى تحيد عنه الأنبياء و المرسلون، حتى أولو العزم الأكملون: نوح و إبراهيم و موسى و عيسى ابن مريم. و قوله صلّى اللّه عليه و سلم: (فأكون أول من يفيق، فأجد موسى باطشا بقائمة العرش، أي آخذا بها، فلا أدري أفاق قبلى. جوزى بصعقة الطور؟). دليل على أن هذا الصعق الذى يحصل للخلائق في عرصات القيامة حين يتجلى الرب لفصل القضاء بين عباده، فيصعقون من شدة الهيبة و العظمة و الجلال، فيكون أولهم إفاقة محمد خاتم الأنبياء، و مصطفى رب الأرض و السماء على سائر الأنبياء، فيجد موسى باطشا بقائمة العرش، قال الصادق المصدوق: (لا أدري أصعق فأفاق قبلي؟) أي كانت صعقته خفيفة، لأنه قد ناله بهذا السبب في الدنيا صعق، (أو جوزي بصعقة الطور؟) يعني فلم يصعق بالكلية، و هذا شرف كبير لموسى عليه السلام من هذه الحيثية، و لا يلزم تفضيله بها مطلقا من كل وجه، و لهذا نبه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم على شرفه و فضيلته بهذه الصفة، لأن المسلم لما ضرب وجه اليهودي حين قال: لا و الذى اصطفى موسى على البشر، قد يحصل في نفوس المشاهدين لذلك هضم بجناب موسى عليه السلام، فبين النبي صلّى اللّه عليه و سلم فضيلته و شرفه، و قوله تعالى: قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النّاسِ بِرِسالاتِي وَ بِكَلامِي أي في ذلك
ص: 147
الزمان، لا ما قبله لأن إبراهيم الخليل أفضل منه، كما تقدم بيان ذلك في قصة إبراهيم، و لا ما بعده لأن محمدا صلّى اللّه عليه و سلم أفضل منهما، كما ظهر شرفه ليلة الإسراء على جميع المرسلين و الأنبياء، و كما ثبت أنه قال: (سأقوم مقاما يرغب إلى الخلق حتى إبراهيم).
و قوله تعالى: فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَ كُنْ مِنَ الشّاكِرِينَ أي فخذ ما أعطيتك من الرسالة و الكلام، و لا تسأل زيادة عليه، و كن من الشاكرين على ذلك قال اللّه تعالى:
وَ كَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ ءٍ و كانت الألواح من جوهر نفيس ففي الصحيح: أن اللّه كتب له التوراة بيده، و فيها مواعظ عن الآثام و تفصيل لكل ما يحتاجون إليه من الحلال و الحرام فَخُذْها بِقُوَّةٍ أي بعزم و نية صادقة قوية وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها أي يضعوها على أحسن وجوهها و أجمل محاملها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ أي سترون عاقبة الخارجين عن طاعتي المخالفين لأمري المكذبين لرسلي سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ عن فهمها و تدبرها، و تعقل معناها الذى أريد منها، و دل عليه مقتضاها: اَلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها أي و لو شاهدوا مهما شاهدوا من الخوارق و المعجزات لا ينقادون لاتباعها وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً أي لا يسلكوه و لا يتبعوه وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي صرفناهم عن ذلك لتكذيبهم بآياتنا، و تغافلهم عنها و إعراضهم عن التصديق بها، و التفكر في معناها، و ترك العمل بمقتضاها وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ لِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ .
قال اللّه تعالى في سورة الأعراف: وَ اتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَ لَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَ لا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَ كانُوا ظالِمِينَ (148) وَ لَمّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَ رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَ يَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149) وَ لَمّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَ عَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَ أَلْقَى الْأَلْواحَ وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَ لا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ (150) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِأَخِي وَ أَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ ذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَ الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَ آمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَ لَمّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَ فِي نُسْخَتِها هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154).. و قال تعالى في سورة طه: * وَ ما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَ عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) قالَ فَإِنّا قَدْ فَتَنّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَ أَضَلَّهُمُ السّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَ لَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَ فَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَ لكِنّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَ إِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) أَ فَلا يَرَوْنَ أَلاّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَ لا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً (89) وَ لَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَ إِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَ أَطِيعُوا أَمْرِي (90) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاّ تَتَّبِعَنِ أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَ كَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَ إِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَ انْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) إِنَّما إِلهُكُمُ اللّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً (98).
ص: 148
قال اللّه تعالى في سورة الأعراف: وَ اتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَ لَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَ لا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَ كانُوا ظالِمِينَ (148) وَ لَمّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَ رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَ يَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149) وَ لَمّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَ عَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَ أَلْقَى الْأَلْواحَ وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَ لا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ (150) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِأَخِي وَ أَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ ذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَ الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَ آمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَ لَمّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَ فِي نُسْخَتِها هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154).. و قال تعالى في سورة طه: * وَ ما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَ عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) قالَ فَإِنّا قَدْ فَتَنّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَ أَضَلَّهُمُ السّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَ لَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَ فَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَ لكِنّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَ إِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) أَ فَلا يَرَوْنَ أَلاّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَ لا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً (89) وَ لَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَ إِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَ أَطِيعُوا أَمْرِي (90) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاّ تَتَّبِعَنِ أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَ كَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَ إِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَ انْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) إِنَّما إِلهُكُمُ اللّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً (98).
ص: 149
يذكر تعالى ما كان من أمر بني إسرائيل حين ذهب موسى عليه السلام إلى ميقات ربه، فمكث على الطور يناجيه ربه، و يسأله موسى عليه السلام عن أشياء كثيرة، و هو تعالى يجيبه عنها، فعمد رجل منهم يقال له: هارون السامري، فأخذ ما كان استعاره من الحلي فصاغ منه عجلا، و ألقى فيه قبضة من التراب كان أخذها من أثر فرس جبريل حين رآه يوم أغرق اللّه فرعون على يديه، فلما ألقاها فيه خار كما يخور العجل الحقيقي، و يقال: إنه استحال عِجْلاً جَسَداً أي لحما و دما حيا يخور، قاله قتادة و غيره. و قيل: بل كانت الريح إذا دخلت من دبره خرجت من فمه فيخور كما تخور البقرة، فيرقصون حوله و يفرحون فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَ إِلهُ مُوسى فَنَسِيَ أي فنسي موسى ربه عندنا و ذهب يتطلبه، و هو هاهنا تعالى اللّه عما يقولون علوا كبيرا، و تقدست أسماؤه و صفاته و تضاعفت آلاؤه و عداته، قال اللّه تعالى مبينا بطلان ما ذهبوا إليه و ما عولوا عليه من إلهية هذا الذى قصاراه أن يكون حيوانا بهيما أو شيطانا رجيما: أَ فَلا يَرَوْنَ أَلاّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَ لا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً ، و قال: أَ لَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَ لا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَ كانُوا ظالِمِينَ فذكر أن هذا الحيوان لا يتكلم، و لا يرد جوابا، و لا يملك ضرا و لا نفعا، و لا يهدي إلى رشد، اتخذوه و هم ظالمون لأنفسهم عالمون في أنفسهم بطلان ما هم عليه من الجهل و الضلال وَ لَمّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ أي ندموا على ما صنعوا وَ رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَ يَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ و لما رجع موسى عليه السلام إليهم، و رأى ما هم عليه من عبادة العجل، و معه الألواح المتضمنة التوراة ألقاها، فيقال: إنه كسرها، و هكذا هو عند أهل الكتاب و إن اللّه أبدله غيرها، و ليس في اللفظ القرآني ما يدل على ذلك، إلا أنه ألقاها حين عاين ما عاين.
و عند أهل الكتاب: أنهما كانا لوحين، و ظاهر القرآن أنها ألواح متعددة، و لم يتأثر بمجرد الخبر من اللّه تعالى عن عبادة العجل، فأمره بمعاينة ذلك، و لهذا جاء في الحديث الذى رواه الإمام أحمد و ابن حبان عن ابن عباس، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم:
ص: 150
(ليس الخبر كالمعاينة)، ثم أقبل عليهم فعنفهم و وبخهم و هجنهم في صنيعهم هذا القبيح، فاعتذروا إليه بما ليس بصحيح قالوا إنا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السّامِرِيُّ تحرجوا من تملك حلي آل فرعون، و هم أهل حرب، و قد أمرهم اللّه بأخذه و أباحه لهم، و لم يتحرجوا بجهلهم، و قلة علمهم و عقلهم من عبادة العجل الجسد الذى له خوار، مع الواحد الأحد الفرد الصمد القهار، ثم أقبل على أخيه هارون عليهما السلام، قائلا له: يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاّ تَتَّبِعَنِ
أي هلا لما رأيت ما صنعوا اتبعتني فأعلمتني بما فعلوا؟ فقال: إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي تركتهم و جئتني و أنت قد استخلفتني فيهم قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِأَخِي وَ أَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ (151) و قد كان هارون عليه السلام نهاهم عن هذا الصنيع الفظيع أشد النهى و زجرهم عنه أتم الزجر.
قال اللّه تعالى: وَ لَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ أي إنما قدر اللّه أمر هذا العجل، و جعله يخور فتنة و اختبارا لكم وَ إِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ أي لا هذا فَاتَّبِعُونِي أي فيما أقول لكم وَ أَطِيعُوا أَمْرِي (90) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91) يشهد اللّه لهارون عليه السلام وَ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً أنه نهاهم و زجرهم عن ذلك، فلم يطيعوه و لم يتبعوه، ثم أقبل موسى على السامري قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) أي ما حملك على ما صنعت قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ أي رأيت جبرائيل و هو راكب فرسا فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ أي من أثر فرس جبريل، و قد ذكر بعضهم: أنه رآه و كلما وطئت بحوافرها على موضع اخضرّ و أعشب، فأخذ من أثر حافرها، فلما ألقاه في هذا العجل المصنوع من الذهب كان من أمره ما كان و لهذا قال: قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَ كَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ و هذا دعاء عليه بأن لا يمس أحدا معاقبة له على مسه ما لم يكن له مسه هذا
ص: 151
معاقبة له في الدنيا، ثم توعده في الأخرى، فقال: وَ إِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ
و قرئ: لن نخلفه وَ انْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً قال: فعمد موسى عليه السلام إلى هذا العجل فحرقه بالنار، كما قاله قتادة و غيره. و قيل: بالمبارد، كما قاله على و ابن عباس و غيرهما. و هو نص أهل الكتاب، ثم ذراه في البحر و أمر بني إسرائيل فشربوا، فمن كان من عابديه علق على شفاههم من ذلك الرماد منه ما يدل عليه، و قيل: بل اصفرت ألوانهم، ثم قال تعالى إخبارا عن موسى أنه قال لهم: إِنَّما إِلهُكُمُ اللّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً (98).
و قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ ذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) و هكذا وقع و قد قال بعض السلف: وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ مسجلة لكل صاحب بدعة إلى يوم القيامة، ثم أخبر تعالى عن حلمه و رحمته بخلقه و إحسانه على عبيده في قبوله توبة من تاب إليه بتوبته عليه فقال: وَ الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَ آمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) لكن لم يقبل اللّه توبة عابدي العجل، إلا بالقتل، كما قال تعالى: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ (54) فيقال: إنهم أصبحوا يوما و قد أخذ من لم يعبد العجل في أيديهم السيوف، و ألقى اللّه عليهم ضبابا حتى لا يعرف القريب قريبه، و لا النسيب نسيبه، ثم مالوا على عابديه، فقتلوهم و حصدوهم، فيقال:
إنهم قتلوا في صبيحة واحدة سبعين ألفا، ثم قال تعالى: وَ لَمّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَ فِي نُسْخَتِها هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) استدل بعضهم بقوله: وَ فِي نُسْخَتِها على إنها تكسرت، و في هذا الاستدلال نظر، و ليس في اللفظ ما يدل على أنها تكسرت، و اللّه أعلم.
ص: 152
و قد ذكر ابن عباس في حديث الفتون كما سيأتي أن عبادتهم العجل كانت على أثر خروجهم من البحر، و ما هو ببعيد، لأنهم حين خرجوا قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ .
و هكذا عند أهل الكتاب فإن عبادتهم العجل كانت قبل مجيئهم بلاد بيت المقدس، و ذلك أنهم لما أمروا بقتل من عبد العجل قتلوا في أول يوم ثلاثة آلاف، ثم ذهب موسى يستغفر لهم فغفر لهم، بشرط أن يدخلوا الأرض المقدسة وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيّايَ أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنّا إِنْ هِيَ إِلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَ تَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155) * وَ اكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ إِنّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156) اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)، (الأعراف).
ذكر السدي و ابن عباس و غيرهما: أن هؤلاء السبعين كانوا علماء بني إسرائيل، و معهم موسى و هارون و يوشع و ناداب و أبيهو ذهبوا مع موسى عليه السلام، ليعتذروا عن بني إسرائيل في عبادة من عبد منهم العجل، و كانوا قد أمروا أن يتطيبوا و يتطهروا و يغتسلوا، فلما ذهبوا معه و اقتربوا من الجبل و عليه الغمام و عمود النور ساطع و صعد موسى الجبل، فذكر بنو إسرائيل أنهم سمعوا كلام اللّه، و هذا قد وافقهم عليه طائفة من المفسرين و حملوا عليه، قوله تعالى: وَ قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (75) و ليس هذا بلازم لقوله تعالى: فَأَجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلامَ اللّهِ أي مبلغا و هكذا هؤلاء سمعوه مبلغا عن موسى عليه السلام،
ص: 153
و زعموا أيضا أن السبعين رأوا اللّه، و هذا غلط منهم، لأنهم لما سألوا الرؤية أخذتهم الرجفة، كما قال تعالى: وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) و قال هاهنا: فَلَمّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيّايَ الآية.
قال محمد بن إسحاق: اختار موسى من بني إسرائيل سبعين رجلا، الخير فالخير، و قال: انطلقوا إلى اللّه فتوبوا إليه مما صنعتم، و سلوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، صوموا و تطهروا و طهروا ثيابكم، فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقته له ربه، و كان لا يأتيه إلا بإذن منه و علم، فطلب منه السبعون أن يسمعوا كلام اللّه، فقال: أفعل فلما دنا موسى من الجبل، وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله و دنا موسى، فدخل في الغمام، و قال للقوم: ادنوا، و كان موسى إذا كلمه اللّه وقع على جبهته نور ساطع، لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه، فضرب دونه بالحجاب، و دنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا فسمعوه و هو يكلم موسى يأمره و ينهاه: افعل و لا تفعل.
فلما فرغ اللّه من أمره و انكشف عن موسى الغمام أقبل إليهم قالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً ، فأخذتهم الرجفة، و هي الصاعقة، فالتقت أرواحهم فماتوا جميعا فقام موسى يناشد ربه و يدعوه و يرغب إليه و يقول: رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيّايَ أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنّا أي لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء الذين عبدوا العجل منا، فإنا برآء مما عملوا، و قال ابن عباس و مجاهد و قتادة و ابن جريج: إنما أخذتهم الرجفة، لأنهم لم ينهوا قومهم عن عبادة العجل، و قوله: إِنْ هِيَ إِلاّ فِتْنَتُكَ أي اختبارك و ابتلاؤك و امتحانك، قاله ابن عباس و سعيد بن جبير و أبو العالية و الربيع بن أنس و غير واحد من علماء السلف و الخلف، يعني أنت الذي قدرت هذا و خلقت ما كان من أمر العجل، اختبارا تختبرهم به كما قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ أي اختبرتم، و لهذا قال: تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَ تَهْدِي مَنْ تَشاءُ أي من شئت أضللته باختبارك إياه، و من شئت هديته، لك الحكم و المشيئة، و لا مانع و لا راد لما حكمت و قضيت أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155) * وَ اكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ إِنّا هُدْنا إِلَيْكَ أي تبنا إليك و رجعنا و أنبنا، قاله ابن عباس و مجاهد و سعيد بن جبير و أبو العالية و إبراهيم التيمي و الضحاك و السدي و قتادة و غير واحد و هو كذلك في اللغة قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ أي أنا أعذب من شئت بما أشاء من الأمور التي أخلقها و أقدرها وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ كما ثبت في الصحيحين عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أنه قال: (إن اللّه لما فرغ من خلق السماوات و الأرض، كتب كتابا فهو موضوع عنده فوق العرش، إن رحمتي تغلب غضبي). فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ أي فسأوحيها حتما لمن يتصف بهذه الصفات اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الآية، و هذا فيه تنويه بذكر محمد صلّى اللّه عليه و سلم و أمته من اللّه لموسى عليه السلام في جملة ما ناجاه به و أعلمه و أطلعه عليه، و قد تكلمنا على هذه الآية و ما بعدها في التفسير بما فيه كفاية و مقنع، و للّه الحمد و المنة.
ص: 154
فلما فرغ اللّه من أمره و انكشف عن موسى الغمام أقبل إليهم قالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً ، فأخذتهم الرجفة، و هي الصاعقة، فالتقت أرواحهم فماتوا جميعا فقام موسى يناشد ربه و يدعوه و يرغب إليه و يقول: رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيّايَ أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنّا أي لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء الذين عبدوا العجل منا، فإنا برآء مما عملوا، و قال ابن عباس و مجاهد و قتادة و ابن جريج: إنما أخذتهم الرجفة، لأنهم لم ينهوا قومهم عن عبادة العجل، و قوله: إِنْ هِيَ إِلاّ فِتْنَتُكَ أي اختبارك و ابتلاؤك و امتحانك، قاله ابن عباس و سعيد بن جبير و أبو العالية و الربيع بن أنس و غير واحد من علماء السلف و الخلف، يعني أنت الذي قدرت هذا و خلقت ما كان من أمر العجل، اختبارا تختبرهم به كما قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ أي اختبرتم، و لهذا قال: تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَ تَهْدِي مَنْ تَشاءُ أي من شئت أضللته باختبارك إياه، و من شئت هديته، لك الحكم و المشيئة، و لا مانع و لا راد لما حكمت و قضيت أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155) * وَ اكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ إِنّا هُدْنا إِلَيْكَ أي تبنا إليك و رجعنا و أنبنا، قاله ابن عباس و مجاهد و سعيد بن جبير و أبو العالية و إبراهيم التيمي و الضحاك و السدي و قتادة و غير واحد و هو كذلك في اللغة قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ أي أنا أعذب من شئت بما أشاء من الأمور التي أخلقها و أقدرها وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ كما ثبت في الصحيحين عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أنه قال: (إن اللّه لما فرغ من خلق السماوات و الأرض، كتب كتابا فهو موضوع عنده فوق العرش، إن رحمتي تغلب غضبي). فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ أي فسأوحيها حتما لمن يتصف بهذه الصفات اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الآية، و هذا فيه تنويه بذكر محمد صلّى اللّه عليه و سلم و أمته من اللّه لموسى عليه السلام في جملة ما ناجاه به و أعلمه و أطلعه عليه، و قد تكلمنا على هذه الآية و ما بعدها في التفسير بما فيه كفاية و مقنع، و للّه الحمد و المنة.
و قال قتادة: قال موسى: يا رب، إني أجد في الألواح أمة خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر، رب اجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: رب إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون في الخلق السابقون في دخول الجنة، رب اجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: رب إني أجد في الألواح أمة أناجيلهم في صدورهم يقرءونها، و كان من قبلهم يقرءون كتابهم نظرا حتى إذا رفعوها لم يحفظوا شيئا، و لم يعرفوه و إن اللّه أعطاكم أيتها الأمة من الحفظ شيئا لم يعطه أحدا من الأمم، قال: رب اجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: رب إني أجد في الألواح أمة يؤمنون بالكتاب الأول و بالكتاب الآخر، و يقاتلون فصول الضلالة حتى يقاتلوا الأعور الكذاب، فاجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: رب إني أجد في الألواح أمة صدقاتهم يأكلونها في بطونهم، و يؤجرون عليها، و كان من قبلهم إذا تصدق بصدقة،
ص: 155
فقبلت منه بعث اللّه عليها نارا فأكلتها، و إن ردت عليه تركت فتأكلها السباع و الطير، و إن اللّه أخذ صدقاتكم من غنيكم لفقيركم، قال: رب فاجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: رب فإني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بحسنة، ثم لم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها، كتبت له عشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، قال: رب اجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: رب إني أجد في الألواح أمة هم المشفعون المشفوع لهم، فاجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد. قال قتادة: فذكر لنا أن موسى عليه السلام نبذ الألواح، و قال: اللهم اجعلني من أمة أحمد. و قد ذكر كثير من الناس ما كان من مناجاة موسى عليه السلام، و أوردوا أشياء كثيرة لا أصل لها، و نحن نذكر ما تيسر ذكره من الأحاديث و الآثار بعون اللّه و توفيقه و حسن هدايته و معونته و تأييده.
قال اللّه تعالى في سورة البقرة: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَ لا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النّاظِرِينَ (69) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَ إِنّا إِنْ شاءَ اللّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَ لا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّارَأْتُمْ فِيها وَ اللّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللّهُ الْمَوْتى وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)، قال ابن عباس و عبيدة السلماني و أبو العالية و مجاهد و السدي و غير واحد من السلف: كان رجل في بني إسرائيل كثير المال، و كان شيخا كبيرا و له بنو أخ، و كانوا يتمنون موته ليرثوه، فعمد أحدهم فقتله في الليل، و طرحه في مجمع الطرق، و يقال: على باب رجل منهم، فلما أصبح الناس اختصموا فيه، و جاء ابن أخيه فجعل يصرخ و يتظلم، فقالوا: ما لكم
ص: 156
تختصمون و لا تأتون نبي اللّه؟ فجاء ابن أخيه، فشكى أمر عمه إلى رسول اللّه موسى عليه السلام، فقال موسى عليه السلام: أنشد اللّه رجلا عنده علم من أمر هذا القتيل إلا أعلمنا به، فلم يكن عند أحد منهم علم منه، و سألوه أن يسأل في هذه القضية ربه عز و جل، فسأل ربه عز و جل في ذلك، فأمره اللّه أن يأمرهم بذبح بقرة فقال: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً يعنون نحن نسألك عن أمر هذا القتيل و أنت تقول هذا؟ قالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ أي أعوذ باللّه أن أقول عنه غير ما أوحي إليّ، و هذا هو الذي أجابني حين سألته عما سألتموني عنه أن أسأله فيه.
قال ابن عباس و عبيدة و مجاهد و عكرمة و السدي و أبو العالية و غير واحد: فلو أنهم عمدوا إلى أي بقرة فذبحوها لحصل المقصود منها، و لكنهم شددوا فشدد عليهم. و قد ورد فيه حديث مرفوع و في إسناده ضعف، فسألوا عن صفتها ثم عن لونها ثم عن سنها؟ فأجيبوا بما عز وجوده عليهم.
و المقصود: أنهم أمروا بذبح بقرة (عوان)، و هي الوسط النصف بين، (الفارض) و هي الكبيرة، (و البكر) و هي الصغيرة، قاله ابن عباس و مجاهد و أبو العالية و عكرمة و الحسن و قتادة و جماعة. ثم شددوا و ضيقوا على أنفسهم، فسألوا عن لونها؟ فأمروا ب صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها أي مشرب بحمرة تَسُرُّ النّاظِرِينَ ، و هذا اللون عزيز، ثم شددوا أيضا قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَ إِنّا إِنْ شاءَ اللّهُ لَمُهْتَدُونَ ففي الحديث المرفوع الذي رواه ابن أبي حاتم و ابن مردويه: (لو لا أن بني إسرائيل استثنوا لما أعطوا) و في صحته نظر، و اللّه أعلم قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَ لا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ و هذه الصفات أضيق مما تقدم، حيث أمروا بذبح بقرة (ليست بالذلول)، و هي المذللة بالحراثة، و سقي الأرض بالسانية، مسلمة و هي الصحيحة التي لا عيب فيها، قاله أبو العالية و قتادة. و قوله: لا شِيَةَ فِيها أي ليس فيها لون يخالف لونها بل هي مسلمة من العيوب و من مخالطة سائر الألوان غير
ص: 157
لونها، فلما حددها بهذه الصفات و حصرها بهذه النعوت و الأوصاف قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ و يقال: إنهم لم يجدوا هذه البقرة بهذه الصفة إلا عند رجل منهم كان بارا بأبيه، فطلبوها منه فأبى عليهم، فرغّبوه في ثمنها حتى أعطوه، فيما ذكر السدي، بوزنها ذهبا، فأبى عليهم، حتى أعطوه بوزنها عشر مرات، فباعها منهم، فأمرهم نبي اللّه موسى بذبحها فَذَبَحُوها وَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ أي و هم يترددون في أمرها، ثم أمرهم عن اللّه أن يضربوا ذلك القتيل ببعضها، قيل: بلحم فخذها، و قيل: بالعظم الذي يلي الغضروف، و قيل: بالبضعة التي بين الكتفين، فلما ضربوه ببعضها أحياه اللّه تعالى فقام و هو يشخب أوداجه، فسأله نبي اللّه من قتلك؟ قال: قتلني ابن أخي، ثم عاد ميتا كما كان، قال اللّه تعالى: كَذلِكَ يُحْيِ اللّهُ الْمَوْتى وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي كما شاهدتم إحياء هذا القتيل عن أمر اللّه له كذلك أمره في سائر الموتى، إذا شاء إحياءهم أحياهم في ساعة واحدة، كما قال: ما خَلْقُكُمْ وَ لا بَعْثُكُمْ إِلاّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ الآية.
قال اللّه تعالى في سورة الكهف: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) فَلَمّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (62) قالَ أَ رَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَ ما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَ اتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قالَ ذلِكَ ما كُنّا نَبْغِ فَارْتَدّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنّا عِلْماً (65) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَ كَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللّهُ صابِراً وَ لا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْ ءٍ حَتّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) فَانْطَلَقا حَتّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَ خَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قالَ أَ لَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَ لا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) فَانْطَلَقا حَتّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْ ءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) فَانْطَلَقا حَتّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَ بَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَ كانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) وَ أَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَ كُفْراً (80) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَ أَقْرَبَ رُحْماً (81) وَ أَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَ كانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَ كانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَ يَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَ ما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82).
ص: 158
قال اللّه تعالى في سورة الكهف: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) فَلَمّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (62) قالَ أَ رَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَ ما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَ اتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قالَ ذلِكَ ما كُنّا نَبْغِ فَارْتَدّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنّا عِلْماً (65) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَ كَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللّهُ صابِراً وَ لا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْ ءٍ حَتّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) فَانْطَلَقا حَتّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَ خَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قالَ أَ لَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَ لا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) فَانْطَلَقا حَتّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْ ءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) فَانْطَلَقا حَتّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَ بَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَ كانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) وَ أَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَ كُفْراً (80) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَ أَقْرَبَ رُحْماً (81) وَ أَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَ كانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَ كانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَ يَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَ ما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82).
قال بعض أهل الكتاب: إن موسى هذا الذي رحل إلى الخضر، هو موسى بن ميشا ابن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل، و تابعهم على ذلك بعض من يأخذ من صحفهم و ينقل عن كتبهم، منهم نوف بن فضالة الحميري الشامي البكالي، و يقال:
إنه دمشقي و كانت أمه زوجة كعب الأحبار، و الصحيح الذي دل عليه ظاهر سياق القرآن و نص الحديث الصحيح الصريح المتفق عليه، أنه موسى بن عمران صاحب بني إسرائيل.
قال البخاري: حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا عمرو بن دينار، أخبرني سعيد ابن جبير، قال: قلت لابن عباس: إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل، قال ابن عباس: كذب عدو اللّه، حدثنا أبي بن كعب أنه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يقول: (إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل،
ص: 159
فسئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا فعتب اللّه عليه، إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى اللّه إليه: إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال موسى: يا رب، و كيف لي به؟ قال: تأخذ معك حوتا فتجعله بمكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو ثم، فأخذ حوتا فجعله بمكتل، ثم انطلق و انطلق معه فتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رءوسهما فناما، و اضطرب الحوت في المكتل، فخرج منه فسقط في البحر، فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً ، و أمسك اللّه عن الحوت جرية الماء، فصار عليه مثل الطاق، فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما و ليلتهما، حتى إذا كان من الغد قال موسى لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً و لم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره اللّه به قالَ له فتاه أَ رَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَ ما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَ اتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً قال فكان للحوت سربا، و لموسى و لفتاه عجبا قالَ ذلِكَ ما كُنّا نَبْغِ فَارْتَدّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً قال: فرجعا يقصان أثرهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجى بثوب، فسلم عليه موسى، فقال الخضر: و أني بأرضك السلام، قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل، قال: نعم، أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا، قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً يا موسى إني على علم من علم اللّه، علمنيه اللّه، لا تعلمه أنت و أنت على علم من علم اللّه، علمكه اللّه لا أعلمه، فقال:
.. سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللّهُ صابِراً وَ لا أَعْصِي لَكَ أَمْراً قال له الخضر: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْ ءٍ حَتّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) فَانْطَلَقا... يمشيان على ساحل البحر، فمرت سفينة فكلمهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفاجأ إلاّ و الخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى: قوم حملونا بغير نول، عمدت إلى سفينتهم فخرقتها... لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قالَ أَ لَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَ لا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73)، قال: و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: (و كانت الأولى من موسى نسيانا، قال: و جاء عصفور فوقع على حرف السفينة، فنقر في البحر نقرة، فقال له الخضر: ما علمي و علمك في علم اللّه إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر، ثم خرجا من السفينة، فبينما هما يمشيان على الساحل إذ بصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده، فاقتلعه بيده، فقتله، فقال له موسى: أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً قال: أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قال و هذه أشد من الأولى: قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْ ءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) فَانْطَلَقا حَتّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ، قال: مائل، فقال:
ص: 160
.. سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللّهُ صابِراً وَ لا أَعْصِي لَكَ أَمْراً قال له الخضر: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْ ءٍ حَتّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) فَانْطَلَقا... يمشيان على ساحل البحر، فمرت سفينة فكلمهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفاجأ إلاّ و الخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى: قوم حملونا بغير نول، عمدت إلى سفينتهم فخرقتها... لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قالَ أَ لَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَ لا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73)، قال: و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: (و كانت الأولى من موسى نسيانا، قال: و جاء عصفور فوقع على حرف السفينة، فنقر في البحر نقرة، فقال له الخضر: ما علمي و علمك في علم اللّه إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر، ثم خرجا من السفينة، فبينما هما يمشيان على الساحل إذ بصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده، فاقتلعه بيده، فقتله، فقال له موسى: أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً قال: أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قال و هذه أشد من الأولى: قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْ ءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) فَانْطَلَقا حَتّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ، قال: مائل، فقال:
الخضر بيده فَأَقامَهُ فقال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا و لم يضيفونا لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَ بَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً )، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: (وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص اللّه علينا من خبرهما). قال سعيد بن جبير: فكان ابن عباس يقرأ: (و كان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا) و كان يقرأ: (و أما الغلام فكان كافرا و كان أبواه مؤمنين).
ثم رواه البخاري أيضا عن قتيبة، عن سفيان بن عيينة، بإسناده نحوه. و فيه:
(فخرج موسى و معه فتاه يوشع بن نون و معهما الحوت، حتى انتهيا إلى الصخرة، فنزلا عندها، قال: فوضع موسى رأسه فنام). قال سفيان: و في حديث غير عمرو قال:
(و في أصل الصخرة عين يقال لها: الحياة، لا يصيب من مائها شىء إلا حيى، فأصاب الحوت من ماء تلك العين، قال: فتحرك و انسل من المكتل، و دخل البحر، فلما استيقظ قالَ موسى لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا... و ساق الحديث). و قال: (و وقع عصفور على حرف السفينة، فغمس منقاره في البحر، فقال الخضر لموسى: ما علمي و علمك و علم الخلائق في علم اللّه إلا مقدار ما غمس هذا العصفور منقاره)، و ذكر تمام الحديث.
و قال البخاري: حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا هشام بن يوسف أن ابن جريج
ص: 161
أخبرهم، قال: أخبرني يعلى بن مسلم و عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير، يزيد أحدهما على صاحبه، و غيرهما قد سمعته يحدثه عن سعيد بن جبير، قال: إنا لعند ابن عباس في بيته إذ قال: سلوني، فقلت: أي أبا عباس، جعلني اللّه فداك، بالكوفة رجل قاص يقال له: نوف، يزعم أنه ليس بموسى بني إسرائيل، أما عمرو فقال لى:
قال: قد كذب عدو اللّه، و أما يعلى فقال لى: قال ابن عباس: حدثني أبي بن كعب، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: (موسى رسول اللّه، قال: ذكر الناس يوما، حتى إذا فاضت العيون، و رقت القلوب ولى، فأدركه رجل، فقال: أي رسول اللّه، هل في الأرض أحد أعلم منك؟ قال: لا، فعتب اللّه عليه إذ لم يرد العلم إلى اللّه، قيل: بلى، قال: أي رب، فأين؟ قال: بمجمع البحرين، قال: أي رب اجعل لي علما أعلم ذلك به. قال لي عمرو: قال: حيث يفارقك الحوت، و قال لي يعلى: قال خذ حوتا ميتا حيث ينفخ فيه الروح، فأخذ حوتا فجعله في مكتل، فقال لفتاه: لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت، قال: ما كلفت كبيرا فذلك قوله: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ
يوشع بن نون، ليست عن سعيد ابن جبير، قال: فبينما هو في ظل صخرة في مكان ثريان، إذ اضطرب الحوت و موسى نائم، فقال فتاه: لا أوقظه، حتى إذا استيقظ نسي أن يخبره، و اضطرب الحوت حتى دخل البحر، فأمسك اللّه عنه جرية البحر، حتى كأن أثره في حجر، قال لي عمرو: هكذا كأن أثره في حجر، و حلق بين إبهاميه، و اللتين تليانهما لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (62) قال: و قد قطع اللّه عنك النصب، ليست هذه عن سعيد، أخبره فرجعا، فوجدا خضرا. قال لي عثمان بن أبي سليمان: على طنفسة خضراء على كبد البحر، قال سعيد: مسجى بثوبه، قد جعل طرفه تحت رجليه، و طرفه تحت رأسه، فسلم عليه موسى، فكشف عن وجهه، و قال: هل بأرض من سلام؟ من أنت؟ قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل، قال: نعم، قال: فما شأنك؟ قال: جئتك لتعلمني مما علمت رشدا، قال: أما يكفيك أن التوراة بيديك، و أن الوحي يأتيك يا موسى، إن لي علما لا ينبغي لك أن تعلمه،
ص: 162
و إن لك علما لا ينبغي لي أن أعلمه، فأخذ طائر بمنقاره من البحر، فقال: و اللّه، ما علمي و علمك في جنب علم اللّه إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقاره من البحر حَتّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ وجدا معابر صغارا تحمل أهل هذا الساحل إلى أهل هذا الساحل الآخر، عرفوه، فقالوا: عبد اللّه الصالح، قال: فقلنا لسعيد: خضر؟ قال: نعم، لا نحمله بأجر ف خَرَقَها و وتد فيها وتدا قالَ موسى أَ خَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً قال مجاهد: منكرا قالَ أَ لَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً
كانت الأولى نسيانا، و الوسطى شرطا، و الثالثة عمدا قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَ لا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) فَانْطَلَقا حَتّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ ، قال يعلى: قال سعيد: وجد غلمانا يلعبون، فأخذ غلاما كافرا ظريفا فأضجعه، ثم ذبحه بالسكين قالَ أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً لم تعمل بالخبث، ابن عباس قرأها: (زكية زاكية مسلمة).
كقولك: غلاما زكيا، فانطلقا فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قال: بيده هكذا، و رفع يده فاستقام، قال يعلى: حسبت أن سعيدا قال: فمسحه بيده فاستقام قالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً قال سعيد: أجرا نأكله وَ كانَ وَراءَهُمْ و كان أمامهم، قرأها ابن عباس: (أمامهم)، ملك يزعمون، عن غير سعيد، أنه هدد بن بدد، و الغلام المقتول: يزعمون جيسور مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً فإذا هي مرت به يدعها بعيبها، فإذا جاوزوا أصلحوها فانتفعوا بها، منهم من يقول: سدوها بقارورة، و منهم من يقول: بالقار فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ و كان كافرا فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَ كُفْراً أي يحملهما حبه على أن يتابعاه على دينه فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً لقوله أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً وَ أَقْرَبَ رُحْماً هما به أرحم منهما بالأول الذي قتل خضر، و زعم سعيد بن جبير: أنه ابن لا جارية، و أما داود بن أبي عاصم، فقال عن غير واحد: إنها جارية.
و قد رواه عبد الرزاق عن معمر، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: خطب موسى بني إسرائيل، فقال: ما أحد أعلم باللّه و بأمره مني، فأمر
ص: 163
أن يلقى هذا الرجل، فذكر نحو ما تقدم. و هكذا رواه محمد بن إسحاق عن الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عيينة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم كنحو ما تقدم أيضا. و رواه العوفي عنه موقوفا. و قال الزهري عن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة، عن ابن عباس، أنه تمارى هو و الحر بن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى، فقال ابن عباس: هو خضر، فمر بهما أبي بن كعب، فدعاه ابن عباس، فقال: إني تماريت أنا و صاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل السبيل إلى لقيه، فهل سمعت من رسول اللّه فيه شيئا؟ قال: نعم، و ذكر الحديث. و قد تقصينا طرق هذا الحديث و ألفاظه، في تفسير سورة الكهف و للّه الحمد.
و قوله: وَ أَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ قال السهيلي: و هما أصرم و صريم ابنا كاشح وَ كانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قيل: كان ذهبا، قاله عكرمة.
و قيل: علما، قاله ابن عباس. و الأشبه أنه كان لوحا من ذهب، مكتوبا فيه علم. قال البزار: حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، حدثنا بشر بن المنذر، حدثنا الحرث بن عبد اللّه اليحصبي، عن عياش بن عباس الغساني، عن ابن حجيرة، عن أبي ذر رفعه، قال: إن الكنز الذي ذكر اللّه في كتابه لوح من الذهب مصمت: عجبت لمن أيقن بالقدر كيف نصب؟ و عجبت لمن ذكر النار لم ضحك؟ و عجبت لمن ذكر الموت كيف غفل؟ لا إله إلا اللّه. و هكذا روى عن الحسن البصري و عمر مولى عفرة و جعفر الصادق نحو هذا.
و قوله: وَ كانَ أَبُوهُما صالِحاً و قد قيل: إنه كان الأب السابع، و قيل: العاشر، و على كل تقدير فيه دلالة على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته، فاللّه المستعان.
و قوله: رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ دليل على أنه كان نبيا، و أنه ما فعل شيئا من تلقاء نفسه، بل بأمر ربه، فهو نبي، و قيل: رسول، و قيل: ولي، و أغرب من هذا من قال:
كان ملكا، قلت: و قد أغرب جدا من قال: هو ابن فرعون، و قيل: إنه ابن الضحاك الذي ملك الدنيا ألف سنة، قال ابن جرير: و الذي عليه جمهور أهل الكتاب: أنه كان في زمن أفريدون، و يقال: إنه كان على مقدمة ذي القرنين، الذي قيل إنه كان أفريدون، و ذو الفرس هو الذي كان في زمن الخليل، و زعموا: أنه شرب من ماء الحياة فخلد، و هو
ص: 164
باق إلى الآن، و قيل: إنه من ولد بعض من آمن بإبراهيم و هاجر معه من أرض بابل، و قيل: اسمه ملكان، و قيل: أرميا بن خلقيا، و قيل: كان نبيّا في زمن سباسب بن لهراسب، قال ابن جرير: و قد كان بين أفريدون و بين سباسب دهور طويلة لا يجهلها أحد من أهل العلم بالأنساب، قال ابن جرير: و الصحيح أنه كان في زمن أفريدون، و استمر حيا إلى أن أدركه موسى عليه السلام، و كانت نبوة موسى في زمن منوشهر، الذي هو من ولد أبرج بن أفريدون، أحد ملوك الفرس، و كان إليه الملك بعد جده أفريدون لعهده، و كان عادلا و هو أول من خندق الخنادق، و أول من جعل في كل قرية دهقانا، و كانت مدة ملكه قريبا من مائة و خمسين سنة، و يقال: إنه كان من سلالة إسحاق بن إبراهيم، و قد ذكر عنه من الخطب الحسان، و الكلم البليغ النافع الفصيح، ما يبهر العقل و يحير السامع، و هذا يدل على أنه من سلالة الخليل، و اللّه أعلم. و قد قال اللّه تعالى: وَ إِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ الآية.
فأخذ اللّه ميثاق كل نبي على أن يؤمن بمن يجيء بعده من الأنبياء و ينصره، و استلزم ذلك الإيمان و أخذ الميثاق لمحمد صلّى اللّه عليه و سلم لأنه خاتم الأنبياء فحق على كل نبي أدركه أن يؤمن به و ينصره فلو كان الخضر حيا في زمانه لما وسعه إلا اتباعه و الاجتماع به و القيام بنصره، و لكان من جملة من تحت لوائه يوم بدر كما كان تحتها جبريل و سادات من الملائكة، و قصارى الخضر عليه السلام أن يكون نبيا، و هو الحق، أو رسولا، كما قيل، أو ملكا، فيما ذكر، و أيا ما كان: فجبريل رئيس الملائكة، و موسى أشرف من الخضر، و لو كان حيا لوجب عليه الإيمان بمحمد و نصرته، فكيف إن كان الخضر وليا كما يقوله طوائف كثيرون، فأولى أن يدخل في عموم البعثة و أحرى، و لم ينقل في حديث حسن، بل و لا ضعيف، يعتمد أنه جاء يوما واحدا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و لا اجتمع به، و ما ذكر من حديث التغرية فيه، و إن كان الحاكم قد رواه فإسناده ضعيف، و اللّه أعلم.
ص: 165
قال الإمام أبو عبد الرحمن النسائي، في كتاب التفسير من سننه، عند قوله تعالى في سورة طه: وَ قَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَ فَتَنّاكَ فُتُوناً : حديث الفتون حدثنا عبد اللّه بن محمد، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا أصبغ بن زيد، حدثنا القاسم بن أبي أيوب، أخبرني سعيد بن جبير، قال: سألت عبد اللّه بن عباس عن قول اللّه تعالى:
وَ فَتَنّاكَ فُتُوناً فسأله عن الفتون ما هو؟ فقال: استأنف النهار يا ابن جبير، فإن لها حديثا طويلا، فلما أصبحت غدوت إلى ابن عباس لأنتجز منه ما وعدني من حديث الفتون، فقال: تذكّر فرعون و جلساؤه ما كان اللّه وعد إبراهيم عليه السلام أن يجعل في ذريته أنبياء و ملوكا، فقال بعضهم: إن بني إسرائيل ينتظرون ذلك، ما يشكون فيه، و كانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب، فلما هلك قالوا: ليس هكذا كان وعد إبراهيم، فقال فرعون: فكيف ترون؟ فأتمروا، و أجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالا معهم الشفار يطوفون في بني إسرائيل، فلا يجدون مولودا ذكرا إلا ذبحوه، ففعلوا ذلك، فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل، يموتون بآجالهم، و الصغار يذبحون، قالوا: توشكون أن تفنوا بني إسرائيل، فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال و الخدمة الذي كانوا يكفونكم، فاقتلوا عاما كل مولود ذكر فتقل أبناؤهم، و دعوا عاما فلا تقتلوا منهم أحدا، فيشب الصغار مكان من يموت من الكبار، فإنهم لن يكثروا بمن تستحيون منهم، فتخافوا مكاثرتهم إياكم، و لن تفتنوا بمن تقتلون، و تحتاجون إليهم، فأجمعوا أمرهم على ذلك، فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا تقتل فيه الغلمان، فولدته علانية آمنة، فلما كان من قابل، حملت بموسى عليه السلام، فوقع في قلبها الهم و الحزن، و ذلك من الفتون يا ابن جبير، ما دخل عليه في بطن أمه مما يراد، فأوحى اللّه إليها أن لا تخافي، و لا تحزني إِنّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فأمرها إذا ولدت أن تجعله في تابوت و تلقيه في اليم، فلما ولدت فعلت ذلك، فلما توارى عنها ابنها أتاها الشيطان، فقالت في نفسها: ما فعلت بابني لو ذبح عندي فواريته و كفنته، كان أحب إليّ من أن ألقيه إلى
ص: 166
دواب البحر و حيتانه، فانتهى الماء به حتى أوفي عند فرضة تستقي منها جواري امرأة فرعون، فلما رأينه أخذنه، فهممن أن يفتحن التابوت، فقال بعضهن: إن في هذا مالا، و إنا إن فتحناه لم تصدقنا امرأة الملك بما وجدنا فيه، فحملنه كهيئته لم يخرجن منه شيئا، حتى دفعنه إليها، فلما فتحته رأت فيه غلاما، فألقى عليه منها محبة لم تلق منها على أحد قط، وَ أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً : من ذكر كل شيء إلا من ذكر موسى، فلما سمع الذباحون بأمره أقبلوا بشفارهم إلى امرأة فرعون ليذبحوه، و ذلك من الفتون يا ابن جبير، فقالت لهم: أقروه، فإن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل، حتى آتى فرعون فأستوهبه منه، فإن وهبه مني كنتم قد أحسنتم و أجملتم، و إن أمر بذبحه لم ألمكم، فأتت فرعون فقالت: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ فقال فرعون: يكون لك، فأما لي فلا حاجة لي فيه: فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: (و الذي يحلف به، لو أقر فرعون أن يكون قرة عين له كما أقرت امرأته لهداه اللّه كما هداها، و لكن حرمه ذلك) فأرسلت إلى من حولها، إلى كل امرأة لها لأن تختار ظئرا، فجعل كلما أخذته امرأة منهن لترضعه لم يقبل على ثديها، حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت فأحزنها ذلك، فأمرت به فأخرج إلى السوق و مجمع الناس، ترجو أن تجد له ظئرا يأخذه منها، فلم يقبل، و أصبحت أم موسى والها، فقالت لأخته: قصي أثره و اطلبيه، هل تسمعين له ذكرا؟ أ حي ابني أم قد أكلته الدواب؟ و نسيت ما كان اللّه وعدها فيه، فَبَصُرَتْ بِهِ
أخته عَنْ جُنُبٍ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ ، و الجنب أن يسمو بصر الإنسان إلى شىء بعيد و هو إلى جنبه لا يشعر به، فقالت من الفرح حين أعياهم الظؤرات: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَ هُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12)، فقالوا: ما يدريك ما نصحهم؟ هل يعرفونه، حتى شكوا في ذلك، و ذلك من الفتون يا ابن جبير، فقالت: نصحهم له، و شفقتهم عليه، و رغبتهم في صهو الملك، و رجاء منفعة الملك، فأرسلوها، فانطلقت إلى أمها، فأخبرتها الخبر، فجاءت أمه، فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها فمصه، حتى امتلأ جنباه ريا، و انطلق البشير إلى امرأة فرعون يبشرها أن قد وجدنا لابنك ظئرا، فأرسلت إليها، فأتت بها و به، فلما رأت ما يصنع بها، قالت: امكثي ترضعي ابني
ص: 167
هذا، فإني لم أحب شيئا حبه قط، قالت أم موسى: لا أستطيع أن أترك بيتي و ولدي فيضيع، فإن طابت نفسك أن تعطينيه، فأذهب به إلى بيتي، فيكون معى، لا آلوه خيرا، فعلت، فإني غير تاركة بيتي و ولدي، و ذكرت أم موسى ما كان اللّه وعدها، فتعاسرت على امرأة فرعون، و أيقنت أن اللّه منجز موعوده، فرجعت إلى بيتها من يومها، و أنبته اللّه نباتا حسنا، و حفظ لما قد قضى فيه، فلم يزل بنو إسرائيل و هم في ناحية القرية ممتنعين من السخرة و الظلم ما كان فيهم، فلما ترعرع، قالت امرأة فرعون لأم موسى: أريني ابني، فوعدتها يوما تريها إياه فيه، و قالت امرأة فرعون لخازنها و ظئورها و قهارمتها: لا يبقين أحد منكم إلا استقبل ابني اليوم بهدية و كرامة، لأرى ذلك فيه، و أنا باعثة أمينا يحصي كل ما يصنع كل إنسان منكم، فلم تزل الهدايا و الكرامة و النحل تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل على امرأة فرعون، فلما دخل عليها نحلته و أكرمته، فرحت به، و نحلت أمه بحسن أثرها عليه، ثم قالت: لآتين به فرعون فلينحلنه و ليكرمنه، فلما دخلت به عليه، جعله في حجره، فتناول موسى لحية فرعون فمدها إلى الأرض، فقال الغواة من أعداء اللّه لفرعون: أ لا ترى ما وعد اللّه إبراهيم نبيه أنه زعم أنه يرثك و يعلوك و يصرعك؟ فأرسل إلى الذباحين ليذبحوه، و ذلك من الفتون يا ابن جبير بعد كل بلاء ابتلى به و أريد به، فجاءت امرأة فرعون تسعى إلى فرعون، فقالت: ما بدا لك في هذا الغلام الذي و هبته لي؟ فقال: أ لا ترينه يزعم أنه يصرعني و يعلوني؟ فقالت: اجعل بيني و بينك أمرا تعرف فيه الحق، ائت بجمرتين و لؤلؤتين فقربهن إليه، فإن بطش باللؤلؤتين و اجتنب الجمرتين عرفت أنه يعقل، و إن تناول الجمرتين و لم يرد اللؤلؤتين، علمت أن أحدا لا يؤثر الجمرتين على اللؤلؤتين و هو يعقل، فقرب إليه، فتناول الجمرتين، فانتزعهما منه مخافة أن يحرقا يده، فقالت المرأة: أ لا ترى؟ فصرفه اللّه عنه بعد ما كان هم به، و كان اللّه بالغا فيه أمره، فلما بلغ أشده و كان من الرجال، لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه بظلم و لا سخرة، حتى امتنعوا كل الامتناع، فبينما موسى عليه السلام يمشي في ناحية المدينة إذا هو برجلين يقتتلان، أحدهما فرعوني، و الآخر إسرائيلي،
ص: 168
فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني، فغضب موسى غضبا شديدا لأنه تناوله و هو يعلم منزلته من بني إسرائيل، و حفظه لهم ما لم يطلع عليه غيره، فوكز موسى الفرعوني فقتله، و ليس يراهما أحد إلا اللّه عز و جل و الإسرائيلي، فقال موسى حين قتل الرجل:
هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ثم قال: قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18)، (القصص)... الأخبار، فأتى فرعون، فقيل له: إن بني إسرائيل قتلوا رجلا من آل فرعون، فخذ لنا بحقنا، و لا ترخص لهم، فقال: ابغوني قاتله من يشهد عليه، فإن الملك و إن كان صفوة مع قومه لا ينبغي له أن يقتل بغير بينة و لا ثبت، فاطلبوا لي علم ذلك آخذ لكم بحقكم، فبينما هم يطوفون لا يجدون بينة، إذا موسى من الغد قد رأى ذلك الإسرائيلي يقاتل رجلا من آل فرعون آخر، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني، فصادف موسى قد ندم على ما كان منه، و كره الذي رأى، فغضب الإسرائيلي و هو يريد أن يبطش بالفرعوني، فقال للإسرائيلي لما فعل بالأمس و اليوم: إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ فنظر الإسرائيلي إلى موسى بعد ما قال له ما قال، فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس الذى قتل فيه الفرعوني، فخاف أن يكون بعد ما قال له: إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ أن يكون إياه أراده، و لم يكن أراده إنما أراد الفرعوني، فخاف الإسرائيلي، و قال لموسى: أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ ، و إنما قال له مخافة أن يكون إياه أراد موسى ليقتله فتتاركا، و انطلق الفرعوني فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي من الخبر حين يقول: أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ ، فأرسل فرعون الذباحين ليقتلوا موسى، فأخذ رسل فرعون الطريق الأعظم يمشون على هينتهم يطلبون موسى و هم لا يخافون أن يفوتهم، فجاء رجل من شيعة موسى من أقصى المدينة فاختصر طريقا حتى سبقهم إلى موسى فأخبره، و ذلك من الفتون يا ابن جبير، فخرج موسى متوجها نحو مدين لم يلق بلاء قبل ذلك،
ص: 169
و ليس له بالطريق علم إلا حسن ظنه بربه عز و جل، فإنه قال: عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22) وَ لَمّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النّاسِ يَسْقُونَ وَ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ يعني بذلك حابستين غنمهما، فقال لهما: ما خَطْبُكُما معتزلتين لا تسقيان مع الناس؟ قالتا: ليس لنا قوة تزاحم القوم، و إنما ننتظر فضول حياضهم، فسقى لهما، فجعل يغرف من الدلو ماء كثيرا حتى كان أول الرعاء، و انصرفتا بغنمهما إلى أبيهما، و انصرف موسى فاستظل بشجرة فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)، و استنكر أبوهما سرعة صدورهما بغنمهما حفلا بطانا، فقال: إن لكما اليوم لشأنا، فأخبرتاه بما صنع موسى، فأمر إحداهما أن تدعوه، فأتت موسى فدعته فلما كلمه قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ (25)، ليس لفرعون و لا قومه علينا من سلطان، و لسنا في مملكته ف قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) فاحتملته الغيرة على أن قال لها: ما يدريك ما قوته؟ و ما أمانته؟ فقالت: أما قوته: فما رأيت منه في الدلو حين سقى لنا، لم أر رجلا قط أقوى في ذلك السقي منه، و أما الأمانة: فإنه نظر إلى حين أقبلت إليه و شخصت له، فلما علم إني امرأة صوب رأسه فلم يرفعه حتى بلغته رسالتك، ثم قال لي: امشي خلفي، و انعتي لي الطريق، فلم يفعل هذا إلا و هو أمين، فسري عن أبيها، و صدقها، و ظن به الذي قالت، فقال له: هل لك إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَ ما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللّهُ مِنَ الصّالِحِينَ (27) ففعل، فكانت على نبي اللّه موسى ثمان سنين واجبة، و كانت السنتان عدة منه، فقضى اللّه عنه عدته فأتمها عشرا - قال سعيد، هو ابن جبير فلقينى: رجل من أهل النصرانية من علمائهم، قال: هل تدري أي الأجلين قضى موسى؟ قلت: لا، و أنا يومئذ لا أدري، فلقيت ابن عباس، فذكرت ذلك له، فقال: أما علمت أن ثمانية كانت على نبي اللّه واجبة لم يكن نبي اللّه لينقص منها شيئا، و تعلم أن اللّه كان قاضيا عن موسى عدته
ص: 170
التي وعده، فإنه قضى عشر سنين، فلقيت النصراني، فأخبرته ذلك، فقال: الذي سألته فأخبرك أعلم منك بذلك؟ قلت: أجل، و أولى - فلما سار موسى بأهله كان من أمر النار و العصى و يده ما قص اللّه عليك في القرآن، فشكا إلى اللّه تعالى ما يتخوف من آل فرعون في القتيل و عقدة لسانه، فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام، و سأل ربه أن يعينه بأخيه هارون و يكون له ردءا و يتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه، فآتاه اللّه عز و جل و حل عقدة من لسانه، و أوحى اللّه إلى هارون فأمره أن يلقاه، فاندفع موسى بعصاه حتى لقي هارون، فانطلقا جميعا إلى فرعون، فأقاما على بابه حينا لا يؤذن لهما، ثم أذن لهما بعد حجاب شديد، فقالا: إِنّا رَسُولا رَبِّكَ ، فقال:
فَمَنْ رَبُّكُما ؟ فأخبره بالذي قص اللّه عليك في القرآن، قال: فما تريدان؟ و ذكره القتيل، فاعتذر بما قد سمعت، قال: أريد أن تؤمن باللّه، و ترسل معي بني إسرائيل، فأبى عليه، و قال: "ائت بآية إن كنت من الصادقين" ،فألقى عصاه، فإذا هي ثعبان عظيمة فاغرة فاها، مسرعة إلى فرعون، فلما رآها فرعون قاصدة إليه خافها، و اقتحم عن سريره، و استغاث بموسى أن يكفها عنه، ففعل ثم أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء من غير سوء، يعني من غير برص ثم ردها فعادت إلى لونها الأول فاستشار الملأ حوله فيما رأى فقالوا له: هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَ يَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) يعني ملكهم الذي هم فيه و العيش، و أبوا على موسى أن يعطوه شيئا مما طلب، و قالوا له: اجمع السحرة فإنهم بأرضك كثير، حتى تغلب بسحرك سحرهما، فأرسل إلى المدائن، فحشر له كل ساحر متعالم، فلما أتوا فرعون قالوا بم يعمل السحر؟ قالوا: يعمل بالحيات، قالوا: فلا و اللّه ما أحد من الأرض يعمل السحر بالحيات، و الحبال و العصي الذي نعمل، و ما أجرنا إن نحن غلبنا؟ قال لهم: أنتم أقاربي و خاصتي، و أنا صانع إليكم كل شيء أحببتم، فتواعدوا يَوْمُ الزِّينَةِ وَ أَنْ يُحْشَرَ النّاسُ ضُحًى (59) قال سعيد: فحدثني ابن عباس: أن يوم الزينة: اليوم الذي أظهر اللّه فيه موسى على فرعون و السحرة، هو يوم عاشوراء، فلما اجتمعوا في صعيد، قال الناس بعضهم لبعض: انطلقوا فلنحضر هذا الأمر، لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40)، يعنون موسى و هارون استهزاء بهما، فقالوا: يا موسى، بعد تريثهم بسحرهم: إِمّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قال: بل ألقوا، فألقوا حبالهم و عصيهم، و قالوا: بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون، فرأى موسى من سحرهم ما أوجس في نفسه، خيفة فأوحى اللّه إليه: أَنْ أَلْقِ عَصاكَ ، فلما ألقاها صارت ثعبانا عظيمة فاغرة فاها، فجعلت العصي تلتبس بالحبال حتى صارت جرزا على الثعبان أن تدخل فيه، حتى ما أبقت عصا و لا حبلا إلا ابتلعته، فلما عرف السحرة ذلك، قالوا:
ص: 171
فَمَنْ رَبُّكُما ؟ فأخبره بالذي قص اللّه عليك في القرآن، قال: فما تريدان؟ و ذكره القتيل، فاعتذر بما قد سمعت، قال: أريد أن تؤمن باللّه، و ترسل معي بني إسرائيل، فأبى عليه، و قال: "ائت بآية إن كنت من الصادقين" ،فألقى عصاه، فإذا هي ثعبان عظيمة فاغرة فاها، مسرعة إلى فرعون، فلما رآها فرعون قاصدة إليه خافها، و اقتحم عن سريره، و استغاث بموسى أن يكفها عنه، ففعل ثم أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء من غير سوء، يعني من غير برص ثم ردها فعادت إلى لونها الأول فاستشار الملأ حوله فيما رأى فقالوا له: هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَ يَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) يعني ملكهم الذي هم فيه و العيش، و أبوا على موسى أن يعطوه شيئا مما طلب، و قالوا له: اجمع السحرة فإنهم بأرضك كثير، حتى تغلب بسحرك سحرهما، فأرسل إلى المدائن، فحشر له كل ساحر متعالم، فلما أتوا فرعون قالوا بم يعمل السحر؟ قالوا: يعمل بالحيات، قالوا: فلا و اللّه ما أحد من الأرض يعمل السحر بالحيات، و الحبال و العصي الذي نعمل، و ما أجرنا إن نحن غلبنا؟ قال لهم: أنتم أقاربي و خاصتي، و أنا صانع إليكم كل شيء أحببتم، فتواعدوا يَوْمُ الزِّينَةِ وَ أَنْ يُحْشَرَ النّاسُ ضُحًى (59) قال سعيد: فحدثني ابن عباس: أن يوم الزينة: اليوم الذي أظهر اللّه فيه موسى على فرعون و السحرة، هو يوم عاشوراء، فلما اجتمعوا في صعيد، قال الناس بعضهم لبعض: انطلقوا فلنحضر هذا الأمر، لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40)، يعنون موسى و هارون استهزاء بهما، فقالوا: يا موسى، بعد تريثهم بسحرهم: إِمّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قال: بل ألقوا، فألقوا حبالهم و عصيهم، و قالوا: بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون، فرأى موسى من سحرهم ما أوجس في نفسه، خيفة فأوحى اللّه إليه: أَنْ أَلْقِ عَصاكَ ، فلما ألقاها صارت ثعبانا عظيمة فاغرة فاها، فجعلت العصي تلتبس بالحبال حتى صارت جرزا على الثعبان أن تدخل فيه، حتى ما أبقت عصا و لا حبلا إلا ابتلعته، فلما عرف السحرة ذلك، قالوا:
لو كان هذا سحرا لم تبلغ من سحرنا كل هذا، و لكنه أمر من اللّه تعالى آمنا باللّه و بما جاء به موسى، و نتوب إلى اللّه مما كنا عليه، فكسر اللّه ظهر فرعون في ذلك الموطن و أشياعه، و ظهر الحق وَ بَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَ انْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119)، و امرأة فرعون بارزة مبتذلة تدعوا للّه بالنصر لموسى على فرعون و أشياعه، فمن رآها من آل فرعون ظن أنها إنما ابتذلت للشفقة على فرعون و أشياعه، و إنما كان حزنها و همها لموسى، فلما طال مكث موسى بمواعيد فرعون الكاذبة، كلما جاء بآية وعده عندها أن يرسل معه بني إسرائيل، فإذا مضت أخلف من غده، و قال:
هل يستطيع ربك أن يصنع غير هذا؟ فأرسل اللّه على قومه الطوفان و الجراد و القمل و الضفادع و الدم آيات مفصلات، كل ذلك يشكو إلى موسى، و يطلب إليه أن يكفها عنه، و يوافقه على أن يرسل معه بني إسرائيل، فإذا كف ذلك عنه أخلف بوعده و نكث عهده، حتى أمر موسى بالخروج بقومه، فخرج بهم ليلا، فلما أصبح فرعون و رأى أنهم قد مضوا، أرسل في المدائن حاشرين، فتبعه بجنود عظيمة كثيرة، و أوحى اللّه إلى البحر: إذا ضربك موسى عبدي بعصاه فانفلق اثنتي عشرة فرقة، حتى يجوز موسى و من معه، ثم التقى على من بقي بعد من فرعون و أشياعه، فنسي موسى أن يضرب البحر بالعصى، و انتهى إلى البحر و له قصيف، مخافة أن يضربه موسى بعصاه و هو غافل، فيصير عاصيا للّه عز و جل فَلَمّا تَراءَا الْجَمْعانِ و تقاربا قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنّا لَمُدْرَكُونَ (61) افعل ما أمرك به ربك، فإنه لم يكذب، و لم تكذب، قال: وعدني ربي إذا أتيت البحر انفرق اثنتي عشرة فرقة حتى أجاوزه، ثم ذكر بعد ذلك العصى، فضرب
ص: 172
البحر بعصاه حين دنا اوائل جند فرعون من أواخر جند موسى، فانفرق البحر كما أمره ربه، و كما وعد موسى، فلما جاوز موسى و أصحابه كلهم البحر، و دخل فرعون و أصحابه التقى عليهم البحر كما أمر، فلما جاوز موسى قال أصحابه: إنا نخاف أن لا يكون فرعون غرق، و لا نؤمن بهلاكه، فدعا ربه، فأخرجه له ببدنه حتى استيقنوا بهلاكه، ثم مروا بعد ذلك على قوم يعكفون على أصنام لهم قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَ باطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139) قد رأيتم من العبر و سمعتم ما يكفيكم، و مضى فأنزلهم موسى منزلا، و قال: أطيعوا هارون فإن اللّه قد استخلفه عليكم، فإني ذاهب إلى ربي، و أجلهم ثلاثين يوما أن يرجع إليهم فيها، فلما أتى ربه عز و جل و أراد أن يكلمه في ثلاثين يوما، و قد صامهن ليلهن و نهارهن و كره أن يكلم ربه و ريح فيه ريح فم الصائم، فتناول موسى شيئا من نبات الأرض فمضغة، فقال له ربه حين أتاه: لم أفطرت، و هو أعلم بالذي كان، قال: يا رب، إني كرهت أن أكلمك إلا و فمي طيب الريح، قال: أ و ما علمت يا موسى أن ريح فم الصائم أطيب من ريح المسك، ارجع فصم عشرا ثم ائتنى، ففعل موسى ما أمره به ربه، فلما رأى قوم موسى أنه لم يرجع إليهم في الأجل ساءهم ذلك، و كان هارون قد خطبهم، فقال: إنكم خرجتم من مصر و لقوم فرعون عندكم عواري و ودائع، و لكم فيها مثل ذلك، و أنا أرى أن تحتسبوا مالكم عندهم، و لا أحل لكم وديعة استودعتموها و لا عارية، و لسنا برادين إليهم شيئا من ذلك و لا ممسكيه لأنفسنا، فحفر حفيرا، و أمر كل قوم عندهم من ذلك متاع أو حلية أن يقذفوه في ذلك الحفير، ثم أوقد عليه النار فأحرقه، فقال: لا يكون لنا و لا لهم، و كان السامري من قوم يعبدون البقر جيران لبني إسرائيل، و لم يكن من بني إسرائيل، فاحتمل مع موسى و بني إسرائيل حين احتملوا، فقضى له أن رأى أثرا، فقبض منه قبضة، فمر بهارون، فقال له هارون:
يا سامري، إلا تلقي ما في يديك، و هو قابض عليه لا يراه أحد طوال ذلك، فقال: هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر، و لا ألقيها لشيء إلا أن تدعو اللّه إذا ألقيتها أن يكون ما أريد، فألقاها، و دعا له هارون، فقال: أريد أن تكون عجلا،
ص: 173
فاجتمع ما كان في الحفرة من متاع أو حلية أو نحاس أو حديد فصار عجلا أجوف، ليس فيه روح، له خوار. قال ابن عباس: لا و اللّه ما كان فيه صوت قط، إنما كانت الريح تدخل من دبره و تخرج من فيه، فكان ذلك الصوت من ذلك، فتفرق بنو إسرائيل فرقا، فقالت فرقة: يا سامري، ما هذا و أنت أعلم به؟ قال: هذا ربكم، و لكن موسى أضل الطريق، و قالت فرقة: لا نكذب بهذا حتى يرجع إلينا موسى، فإن كان ربنا لم نكن ضيعناه و عجزنا فيه حتى رأيناه، و إن لم يكن ربنا فإنا نتبع قول موسى، و قالت فرقة: هذا من عمل الشيطان، و ليس بربنا، و لا نؤمن به و لا نصدق، و أشرب فرقة في قلوبهم الصدق بما قال السامري في العجل، و أعلنوا التكذيب به، فقال لهم هارون عليه السلام: يا قوم، إنما فتنتم به، و إن ربكم الرحمن، ليس هذا، قالوا: فما بال موسى وعدنا ثلاثين يوما ثم أخلفنا، هذه أربعون يوما قد مضت؟ قال سفهاؤهم: أخطأ ربه فهو يطلبه و يبتغيه، فلما كلم اللّه موسى، و قال له ما قال، أخبره بما لقي قومه من بعده، فرجع إلى قومه غضبان أسفا، فقال لهم ما سمعتم ما في القرآن وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ و ألقى الألواح من الغضب، ثم إنه عذر أخاه بعذره، و استغفر له، فانصرف إلى السامري فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: قبضت قبضة من أثر الرسول، و فطنت لها و عميت عليكم فقذفتها قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَ كَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَ إِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَ انْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97)، (طه). و لو كان إلها لم يخلص إلى ذلك منه، فاستيقن بنو إسرائيل بالفتنة، و اغتبط الذين كان رأيهم فيه مثل رأي هارون، فقالوا لجماعتهم: يا موسى، سل لنا أن يفتح لنا باب توبة نصنعها فتكفر عنا ما عملنا، فاختار موسى قومه سبعين رجلا لذلك، لا يألوا الخير، خيار بني إسرائيل، و من لم يشرك في الحق، فانطلق بهم يسأل لهم التوبة، فرجفت بهم الأرض، فاستحيا نبي اللّه عليه السلام من قومه و من وفده حين فعل بهم ما فعل، فقال: لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيّايَ أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنّا و فيهم من كان اللّه اطلع منه على ما أشرب قلبه من حب العجل و إيمان به، فلذلك رجفت بهم الأرض، فقال: * وَ اكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ إِنّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156) اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)، (الأعراف). فقال: يا رب، سألتك التوبة لقومي، فقلت: إن رحمتي كتبتها لقوم غير قومي، فليتك أخرتني حتى تخرجني في أمة ذلك الرجل المرحوم، فقال له: إن توبتهم أن يقتل كل رجل من لقي من والد و ولد، فيقتله بالسيف لا يبالي من قتل في ذلك الموطن، و تاب أولئك الذين كان خفي على موسى و هارون، و اطلع اللّه من ذنوبهم فاعترفوا بها، و فعلوا ما أمروا، و غفر اللّه للقاتل و المقتول، ثم سار بهم موسى عليه السلام متوجها نحو الأرض المقدسة، و أخذ الألواح بعد ما سكت عنه الغضب، فأمرهم بالذي أمر به من الوظائف، فثقل ذلك عليهم، و أبوا أن يقروا بها و نتق اللّه عليهم الجبل كأنه ظلة، و دنا منهم، حتى خافوا أن يقع عليهم، و أخذوا الكتاب بأيمانهم و هم مصغون ينظرون إلى الجبل و الكتاب بأيديهم، و هم من وراء الجبل مخافة أن يقع عليهم، ثم مضوا حتى أتوا الأرض المقدسة، فوجدوا مدينة فيها قوم جبارون، خلقهم خلق منكر، و ذكر من ثمارهم أمرا عجبا من عظمها، فقالوا: يا موسى، إن فيها قوما جبارين لا طاقة لنا بهم، و لا ندخلها ما داموا فيها، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون، قال رجلان من الذين يخافون - قيل ليزيد: هكذا قرأه؟ قال: نعم من الجبارين - آمنا بموسى و خرجنا إليه، فقالوا: نحن أعلم بقومنا إن كنتم إنما تخافون ما رأيتم من أجسامهم و عددهم فإنهم لا قلوب لهم و لا منعة عندهم، فادخلوا عليهم الباب، فإذا
ص: 174
يا سامري، إلا تلقي ما في يديك، و هو قابض عليه لا يراه أحد طوال ذلك، فقال: هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر، و لا ألقيها لشيء إلا أن تدعو اللّه إذا ألقيتها أن يكون ما أريد، فألقاها، و دعا له هارون، فقال: أريد أن تكون عجلا،
ص: 175
دخلتموه فإنكم غالبون، و يقول أناس: إنهم من قوم موسى، فقال الذين يخافون من بني إسرائيل قالُوا يا مُوسى إِنّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ (24) فأغضبوا موسى، فدعا عليهم، و سماهم: فاسقين، و لم يدع عليهم قبل ذلك لما رأى منهم من المعصية و إساءتهم، حتى كان يومئذ فاستجاب اللّه له، و سماهم كما سماهم: فاسقين، فحرمها عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض، يصبحون كل يوم فيسيرون ليس لهم قرار، ثم ظلل عليهم الغمام في التيه، و أنزل عليهم المن و السلوى، و جعل لهم ثيابا لا تبلي و لا تتسخ، و جعل بين ظهرانيهم حجرا مربعا، و أمر موسى فضربه بعصاه، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، في كل ناحية ثلاثة أعين، و أعلم كل سبط عينهم التي يشربون منها، فلا يرتحلون من محلة إلا وجدوا ذلك الحجر بالمكان الذي كان فيه بالأمس.
رفع ابن عباس هذا الحديث إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلم، و صدق ذلك عندى: أن معاوية سمع من ابن عباس هذا الحديث، فأنكر عليه أن يكون الفرعوني الذي أفشى على موسى أمر القتيل الذي قتل، فقال: كيف يفشي عليه و لم يكن علم به، و لا ظهر عليه إلا الإسرائيلي الذي حضر ذلك، فغضب ابن عباس، فأخذ بيد معاوية، فانطلق به إلى سعد بن مالك الزهري، فقال له: يا أبا إسحاق، هل تذكر يوم حدثنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم عن قتيل موسى الذي قتل من آل فرعون، الإسرائيلي الذي أفشى عليه أم الفرعوني؟ قال: إنما أفشى عليه الفرعوني بما سمع الإسرائيلي الذي شهد ذلك و حضره. هكذا ساق هذا الحديث الإمام النسائي، و أخرجه ابن جرير و ابن أبي حاتم في تفسيرهما من حديث يزيد بن هارون، و الأشبه، و اللّه أعلم، أنه موقوف، و كونه مرفوعا فيه نظر، و غالبه متلقى من الإسرائيليات، و فيه شيء يسير مصرح برفعه في أثناء الكلام، و في بعض ما فيه نظر و نكارة، و الأغلب أنه كلام كعب الأحبار، و قد سمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول ذلك، و اللّه أعلم.
ص: 176
قال أهل الكتاب: و قد أمر اللّه موسى عليه السلام بعمل قبة من خشب الشمشاذ و جلود الانعام و شعر الأغنام، و أمر بزينتها بالحرير المصبغ و الذهب و الفضة، على كيفيات مفصلة عند أهل الكتاب، و لها عشر سرادقات، طول كل واحد ثمانية و عشرون ذراعا، و عرضه أربعة أذرع، و لها أربعة أبواب، و أطناب من حرير و دمقس مصبغ، و فيها رفوف و صفائح من ذهب و فضة، و لكل زاوية بابان، و أبواب أخر كبيرة، و ستور من حرير مصبغ، و غير ذلك مما يطول ذكره. و بعمل تابوت من خشب الشمشار يكون طوله ذراعين و نصفا، و عرضه ذراعين، و ارتفاعه ذراعا و نصفا، و يكون مضببا بذهب خالص من داخله و خارجه، و له أربع حلق في أربع زواياه، و يكون على حافتيه كروبيان من ذهب - يعنون صفة ملكين بأجنحة، و هما متقابلان، صفة رجل اسمه بصليال - و أمراه أن يعمل مائدة من خشب الشمشار، طولها ذراعا، و عرضها ذراع و نصف، لها ضباب ذهب، و إكليل ذهب بشفة مرتفعة بإكليل من ذهب، و أربع حلق من نواحيها من ذهب، معذرة في مثل الرمان، من خشب ملبس ذهبا و اعمل صحافا، و مصافي و قصاعا على المائدة، و اصنع منارة من الذهب، دلى فيها ست قصبات من ذهب من كل جانب ثلاثة، على كل قصبة ثلاث سرج، و ليكن في المنارة أربع قناديل، و لتكن هي و جميع هذه الآنية من قنطار من ذهب، صنع ذلك بصليال أيضا، و هو الذي عمل المذبح أيضا، و نصب هذه القبة أول يوم من سنتهم، و هو أول يوم من الربيع، و نصب تابوت الشهادة و هو، و اللّه أعلم، المذكور في قوله تعالى: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ بَقِيَّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَ آلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) و قد بسط هذا الفصل في كتابهم مطولا جدا، و فيه شرائع لهم و أحكام، و صفة قربانهم و كيفيته، و فيه: أن قبة الزمان كانت موجودة قبل عبادتهم العجل، الذي هو متقدم على مجيء بيت المقدس، و أنها كانت لهم كالكعبة يصلون فيها و إليها و يتقربون عندها، و أن موسى عليه السلام كان إذا دخلها يقفون عندها، و ينزل عمود الغمام على بابها، فيخرون عند ذلك سجدا للّه عز و جل، و يكلم
ص: 177
اللّه موسى عليه السلام من ذلك العمود الغمام الذي هو نور، و يخاطبه و يناجيه و يأمره و ينهاه، و هو واقف عند التابوت صامد إلى ما بين الكروبيين، فإذا فصل الخطاب يخبر بني إسرائيل بما أوحاه اللّه عز و جل إليه من الأوامر و النواهي، و إذا تحاكموا إليه في شيء ليس عنده من اللّه فيه شيء يجيء إلى قبة الزمان و يقف عند التابوت و يصمد لما بين ذينك الكروبيين، فيأتيه الخطاب بما فيه فصل تلك الحكومة، و قد كان هذا مشروعا لهم في زمانهم، أعني استعمال الذهب و الحرير المصبغ و اللئالئ في معبدهم و عند مصلاهم، فأما في شريعتنا فلا، بل قد نهينا عن زخرفة المساجد و تزيينها لئلا تشغل المصلين، كما قال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه لما وسع في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم للذي و كله على عمارته: ابن للناس ما يكنهم، و إياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس. و قال ابن عباس: لتزخرفنها كما زخرفت اليهود و النصارى كنائسهم. و هذا من باب التشريف و التكريم و التنزيه، فهذه الأمة غير مشابهة من كان قبلهم من الأمم، إذ جمع اللّه همهم في صلاتهم على التوجه إليه و الإقبال عليه، و صان أبصارهم و خواطرهم عن الاشتغال و التفكر في غير ما هم بصدده من العبادة العظيمة، فللّه الحمد و المنة.
و قد كانت قبة الزمان هذه مع بني إسرائيل في التيه يصلون إليها، و هي قبلتهم و كعبتهم، و إمامهم كليم اللّه موسى عليه السلام، و مقدم القربان أخوه هارون عليه السلام، فلما مات هارون ثم موسى عليهما السلام استمرت بنو هارون في الذي كان يليه أبوهم من أمر القربان، و هو فيهم إلى الآن، و قام بأعباء النبوة بعد موسى و تدبير الأمر بعده، فتاه يوشع بن نون عليه السلام، و هو الذي دخل بهم بيت المقدس، كما سيأتي بيانه، و المقصود هنا: أنه لما استقرت يده على البيت المقدس نصب هذه القبة على صخرة بيت المقدس، فكانوا يصلون إليها، فلما بادت صلوا إلى محلتها و هي الصخرة، فلهذا كانت قبلة الأنبياء بعده إلى زمان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و قد صلى إليها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قبل الهجرة، و كان يجعل الكعبة بين يديه، فلما هاجر أمر بالصلاة إلى بيت المقدس، فصلى إليها ستة عشر، و قيل: سبعة عشر شهرا، ثم حولت القبلة إلى الكعبة، و هي قبلة إبراهيم في شعبان سنة ثنتين في وقت صلاة العصر، و قيل: الظهر، كما بسطنا ذلك في التفسير عند قوله تعالى: * سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النّاسِ ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها إلى قوله: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الآيات.
ص: 178
و قد كانت قبة الزمان هذه مع بني إسرائيل في التيه يصلون إليها، و هي قبلتهم و كعبتهم، و إمامهم كليم اللّه موسى عليه السلام، و مقدم القربان أخوه هارون عليه السلام، فلما مات هارون ثم موسى عليهما السلام استمرت بنو هارون في الذي كان يليه أبوهم من أمر القربان، و هو فيهم إلى الآن، و قام بأعباء النبوة بعد موسى و تدبير الأمر بعده، فتاه يوشع بن نون عليه السلام، و هو الذي دخل بهم بيت المقدس، كما سيأتي بيانه، و المقصود هنا: أنه لما استقرت يده على البيت المقدس نصب هذه القبة على صخرة بيت المقدس، فكانوا يصلون إليها، فلما بادت صلوا إلى محلتها و هي الصخرة، فلهذا كانت قبلة الأنبياء بعده إلى زمان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و قد صلى إليها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قبل الهجرة، و كان يجعل الكعبة بين يديه، فلما هاجر أمر بالصلاة إلى بيت المقدس، فصلى إليها ستة عشر، و قيل: سبعة عشر شهرا، ثم حولت القبلة إلى الكعبة، و هي قبلة إبراهيم في شعبان سنة ثنتين في وقت صلاة العصر، و قيل: الظهر، كما بسطنا ذلك في التفسير عند قوله تعالى: * سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النّاسِ ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها إلى قوله: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الآيات.
قال اللّه تعالى في سورة القصص: * إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَ آتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَ ابْتَغِ فِيما آتاكَ اللّهُ الدّارَ الْآخِرَةَ وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَ أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللّهُ إِلَيْكَ وَ لا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَ وَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَ أَكْثَرُ جَمْعاً وَ لا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً وَ لا يُلَقّاها إِلاَّ الصّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنا بِهِ وَ بِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللّهِ وَ ما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81) وَ أَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82) تِلْكَ الدّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83).
قال الأعمش عن المنهال بن عمرو بن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان قارون ابن عم موسى، و كذا قال إبراهيم النخعي و عبد اللّه بن الحرث بن نوفل و سماك ابن حرب و قتادة و مالك بن دينار و ابن جريج، و زاد فقال: هو قارون بن يصهر بن قاهث.
و موسى بن عمران بن هافث، قال ابن جريح: و هذا قول أكثر أهل العلم أنه كان ابن عم موسى، ورد قول ابن إسحاق: إنه كان عم موسى. قال قتادة: و كان يسمى النور، لحسن صوته بالتوراة، و لكن عدو اللّه نافق كما نافق السامري، فأهلكه البغي لكثرة ماله. و قال شهر
ص: 179
ابن حوشب: زاد في ثيابه شبرا طولا ترفعا على قومه. و قد ذكر اللّه تعالى كثرة كنوزه، حتى أن مفاتيحه كان يثقل حملها على المئات من الرجال الشداد، و قد قيل: إنها كانت من الجلود، و إنها كانت تحمل على ستين بغلا، فاللّه أعلم.
و قد وعظه النصحاء من قومه قائلين: لا تَفْرَحْ أي لا تبطر، بما أعطيت و تفخر على غيرك إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَ ابْتَغِ فِيما آتاكَ اللّهُ الدّارَ الْآخِرَةَ
يقولون: لتكن همتك مصروفة لتحصيل ثواب اللّه في الدار الآخرة، فإنه خير و أبقى، و مع هذا: وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا أي و تناول منها بمالك ما أحل اللّه لك، فتمتع لنفسك بالملاذ الطيبة الحلال وَ أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللّهُ إِلَيْكَ أي و أحسن إلى خلق اللّه كما أحسن اللّه خالقهم و بارئهم إليك وَ لا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ أي و لا تسيء إليهم، و لا تفسد فيهم، فتقابلهم ضد ما أمرت فيهم، فيعاقبك و يسلبك ما وهبك إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ فما كان جواب قومه لهذه النصيحة الصحيحة الفصيحة إلا أن قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي يعني أنا لا أحتاج إلى استعمال ما ذكرتم، و لا إلى ما إليه أشرتم، فإن اللّه إنما أعطاني هذا لعلمه أني أستحقه، و أني أهل له، و لو لا أني حبيب إليه و حظي عنده لما أعطاني ما أعطاني، قال اللّه تعالى ردا عليه و ما ذهب إليه: أَ وَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَ أَكْثَرُ جَمْعاً وَ لا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ أي قد أهلكنا من الأمم الماضين بذنوبهم و خطاياهم من هو أشد من قارون قوة و أكثر أموالا و أولادا، فلو كان ما قال صحيحا، لم نعاقب أحدا ممن كان أكثر مالا منه، و لم يكن ماله دليلا على محبتنا له و اعتنائنا به، كما قال تعالى: وَ ما أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاّ مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ، و قال تعالى: أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56) و هذا الرد عليه يدل على صحة ما ذهبنا إليه من معنى قوله: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي و أما من زعم أن المراد من ذلك أنه كان يعرف صنعة الكيمياء، أو أنه كان يحفظ الاسم الأعظم فاستعمله في جمع
ص: 180
الأموال فليس بصحيح، لأن الكيمياء تخييل و صبغة لا تحيل الحقائق و لا تشابه صنعة الخالق، و الاسم الأعظم لا يصعد الدعاء به من كافر به، و قارون كان كافرا في الباطن منافقا في الظاهر، ثم لا يصح جوابه لهم بهذا على هذا التقدير، و لا يبقى بين الكلامين تلازم، و قد وضحنا هذا في كتابنا التفسير، و للّه الحمد.
قال اللّه تعالى: فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ذكر كثير من المفسرين أنه خرج في تجمل عظيم من ملابس و مراكب و خدم و حشم، فلما رآه من يعظم زهرة الحياة الدنيا تمنوا أن لو كانوا مثله، و غبطوه بما عليه و له، فلما سمع مقالتهم العلماء ذوو الفهم الصحيح الزهاد الألباء، قالوا لهم: وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً أي ثواب اللّه في الدار الآخرة خير و أبقى و أجل و أعلى، قال اللّه تعالى: وَ لا يُلَقّاها إِلاَّ الصّابِرُونَ أي و ما يلقي هذه النصيحة و هذه المقالة و هذه الهمة السامية إلى الدار الآخرة العلية عند النظر إلى زهرة هذه الدنيا الدنية إلا من هدى اللّه قلبه، و ثبت فؤاده و أيد لبه و حقق مراده، و ما أحسن ما قال بعض السلف: إن اللّه يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، و العقل الكامل عند حلول الشهوات، قال اللّه تعالى: فَخَسَفْنا بِهِ وَ بِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللّهِ وَ ما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81) لما ذكر تعالى خروجه في زينته و اختياله فيها و فخره على قومه بها قال:
فَخَسَفْنا بِهِ وَ بِدارِهِ الْأَرْضَ كما روى البخاري من حديث الزهري عن سالم، عن أبيه، عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال: (بينا رجل يجر إزاره إذ خسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة). ثم رواه البخاري من حديث جرير بن زيد عن سالم، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم نحوه. و قد ذكر ابن عباس و السدى: أن قارون أعطي امرأة بغيا مالا على أن تقول لموسى عليه السلام و هو في ملأ من الناس إنك فعلت بي كذا و كذا، فيقال: إنها قالت له ذلك، فأرعد من الفرق، و صلى ركعتين، ثم أقبل عليها فاستحلفها من ذلك على ذلك، و ما حملك عليه؟ فذكرت أن قارون هو الذي حملها على ذلك، و استغفرت اللّه و تابت إليه، فعند ذلك خر موسى للّه ساجدا، و دعا اللّه على قارون، فأوحى اللّه
ص: 181
إليه أني قد أمرت الأرض أن تطيعك فيه، فأمر موسى الأرض أن تبتلعه و داره، فكان ذلك، فاللّه أعلم، و قد قيل: إن قارون لما خرج على قومه في زينته مر بجحفله و بغاله و ملابسه على مجلس موسى عليه السلام، و هو يذكر قومه بأيام اللّه، فلما رآه الناس انصرفت وجوه كثير من الناس ينظرون إليه، فدعاه موسى عليه السلام، فقال له: ما حملك على هذا؟ فقال: يا موسى، أما لئن كنت فضلت عليّ بالنبوة فلقد فضلت عليك بالمال، و لئن شئت لتخرجن، فلتدعون علي و لأدعون عليك، فخرج، و خرج قارون في قومه، فقال له موسى: تدعو أو أدعو؟ قال: أدعو أنا، فدعى قارون، فلم يجب في موسى، فقال موسى: أدعو؟ قال: نعم، فقال موسى: اللهم مر الأرض فلتطعني اليوم، فأوحى اللّه إليه: إني قد فعلت، فقال موسى: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى أقدامهم، ثم قال: خذيهم، فأخذتهم إلى ركبهم، ثم إلى مناكبهم، ثم قال: أقبلي بكنوزهم و أموالهم، فأقبلت بها حتى نظروا إليها، ثم أشار موسى بيده فقال: اذهبوا بني لاوي، فاستوت بهم الأرض. و قد روى عن قتادة أنه قال: يخسف بهم كل يوم قامة إلى يوم القيامة. و عن ابن عباس أنه قال: خسف بهم إلى الأرض السابعة. و قد ذكر كثير من المفسرين هاهنا إسرائيليات كثيرة، أضربنا عنها صفحا، و تركناها قصدا.
و قوله تعالى: فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللّهِ وَ ما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ لم يكن له ناصر من نفسه و لا من غيره، كما قال: فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَ لا ناصِرٍ (10) و لما حل به ما حل من الخسف، و ذهاب الأموال، و خراب الدار، و إهلاك النفس و الأهل و العقار، ندم من كان تمنى مثل ما أوتي، و شكروا اللّه تعالى الذي يدبر عباده بما يشاء من حسن التدبير المخزون، و لهذا قالوا: لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82). و قد تكلم أهل العلم عن لفظ: (ويك) في تفاسيرهم.
و قد قال قتادة: ويكأن بمعنى: أ لم تر أن. و هذا قول حسن من حيث المعنى، و اللّه أعلم، ثم أخبر تعالى أن اَلدّارُ الْآخِرَةُ و هي دار القرار، و هي الدار التي يغبط من أعطيها، و يعزي من حرمها، إنما هي معدة للذين لا يريدون علوا في الأرض و لا فسادا، فالعلو هو:
التكبر و الفخر و الأشر و البطر، و الفساد هو: عمل المعاصي اللازمة و المتعدية من أخذ أموال
ص: 182
الناس و إفساد معايشهم و الإساءة إليهم، و عدم النصح لهم، ثم قال تعالى: وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) و قصة قارون هذه قد تكون قبل خروجهم من مصر، لقوله: فَخَسَفْنا بِهِ وَ بِدارِهِ الْأَرْضَ فإن الدار ظاهرة في البنيان، و قد تكون بعد ذلك في التيه، و تكون الدار عبارة عن المحلة التي تضرب فيها الخيام، كما قال عنترة:
يا دارا عبلة بالجواء تكلمي و عمي صباحا دار عبلة و اسلمي
و اللّه أعلم. و قد ذكر اللّه تعالى مذمة قارون في غير ما آية من القرآن قال اللّه:
وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ قارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذّابٌ (24)، و قال تعالى في سورة العنكبوت، بعد ذكر عاد و ثمود و قارون و فرعون و هامان: وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَ ما كانُوا سابِقِينَ (39) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَ مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَ مِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَ مِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَ ما كانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)، فالذي خسف به الأرض قارون، كما تقدم، و الذي أغرق فرعون و هامان و جنودهما إنهم كانوا خاطئين.
و قد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا سعيد، حدثنا كعب بن علقمة، عن عيسى بن هلال الصدفي، عن عبد اللّه بن عمرو، عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم أنه ذكر الصلاة يوما فقال: (من حافظ عليها كانت له نورا و برهانا و نجاة يوم القيامة، و من لم يحافظ عليها لم يكن له نور و لا برهان و لا نجاة، و كان يوم القيامة مع قارون و فرعون و هامان و أبي بن خلف). انفرد به أحمد رحمه اللّه.
قال اللّه تعالى في سورة مريم: وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَ كانَ رَسُولاً نَبِيًّا (51) وَ نادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَ قَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52) وَ وَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53).. و قال تعالى: قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النّاسِ بِرِسالاتِي وَ بِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَ كُنْ مِنَ الشّاكِرِينَ (144)، (الأعراف: 144).
ص: 183
و تقدم في الصحيحين عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أنه قال: (لا تفضلوني على موسى، فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فأجد موسى باطشا بقائمة العرش، فلا أدري أصعق فأفاق قبلى؟ أم جوزي بصعقة الطور؟). و قدمنا أنه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم من باب الهضم و التواضع، و إلا فهو صلوات اللّه و سلامه عليه خاتم الأنبياء، و سيد ولد آدم في الدنيا و الآخرة، قطعا جزما لا يحتمل النقيض، و قال تعالى: * إِنّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ إلى أن قال: وَ رُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ رُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَ كَلَّمَ اللّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164)، و قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللّهُ مِمّا قالُوا وَ كانَ عِنْدَ اللّهِ وَجِيهاً (69).
قال الإمام أبو عبد اللّه البخاري: حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن روح بن عبادة، عن عوف، عن الحسن و محمد و خلاس، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: (إن موسى كان رجلا حييا ستيرا، لا يرى جلده شيء استحياء منه، فأذاه من أذاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما يستتر هذا التستر إلا من عيب بجلده، إما برص أو أدرة، و إما آفة، و أن اللّه عز و جل أراد أن يبرأه مما قالوا لموسى، فخلا يوما وحده فوضع ثيابه على الحجر، ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل على ثيابه ليأخذها و أن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه و طلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل، فرأوه عريانا أحسن ما خلق اللّه، و برأه مما يقولون، و قام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه، و طفق بالحجر ضربا بعصاه، فو اللّه إن بالحجر لندبا من أثر ضربه ثلاثا أو أربعا أو خمسا، قال فذلك قوله عز و جل:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللّهُ مِمّا قالُوا وَ كانَ عِنْدَ اللّهِ وَجِيهاً (69)... و قد رواه الإمام أحمد من حديث عبد اللّه ابن شقيق و همام بن منبه، عن أبي هريرة به. و هو في الصحيحين من حديث عبد الرزاق عن معمر، عن همام عنه به.
و رواه مسلم من حديث عبد اللّه بن شقيق العقيلي عنه.
ص: 184
قال بعض السلف: كان من وجاهته أنه شفع في أخيه عند اللّه و طلب منه أن يكون معه وزيرا فأجابه اللّه إلى سؤاله، و أعطاه طلبته، و جعله نبيا، كما قال: وَ وَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53)، ثم قال البخاري: حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، حدثنا الأعمش سألت أبا وائل، قال: سمعت عبد اللّه، قال: قسم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قسما، فقال رجل: إن هذه قسمة ما أريد بها وجه اللّه، فأتيت النبي صلّى اللّه عليه و سلم فغضب، حتى رأيت الغضب في وجهه، ثم قال: (يرحم اللّه موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر).
و كذا رواه مسلم من غير وجه عن سليمان بن مهران الأعمش به. و قال الإمام أحمد:
حدثنا أحمد ابن حجاج سمعت إسرائيل بن يونس، عن الوليد بن أبي هاشم، مولى لهمدان، عن زيد ابن أبي زائد، عن عبد اللّه بن مسعود، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لأصحابه: (لا يبلغني أحد عن أحد شيئا، فإني أحب أن أخرج إليكم و أنا سليم الصدر). قال: و أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم مال، فقسمه، قال: فمررت برجلين، و أحدهما يقول لصاحبه: و اللّه ما أراد محمد بقسمته وجه اللّه، و لا الدار الآخرة، فثبت حتى سمعت ما قالا، ثم أتيت رسول اللّه، فقلت: يا رسول اللّه، إنك قلت: لنا لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئا، و إني مررت بفلان و فلان و هما يقولان كذا و كذا، فاحمر وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و شق عليه، ثم قال: (دعنا منك، فقد أوذي موسى أكثر من ذلك فصبر).
و هكذا رواه أبو داود و الترمذي من حديث إسرائيل عن الوليد بن أبي هاشم به. و في رواية للترمذي و لأبي داود من طريق ابن عبد، عن إسرائيل، عن السدي، عن الوليد به.
و قال الترمذي: غريب من هذا الوجه. و قد ثبت في الصحيحين في أحاديث الإسراء: (أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم مر بموسى و هو قائم يصلي في قبره). و رواه مسلم عن أنس. و في الصحيحين من رواية قتادة، عن أنس، عن مالك بن صعصعة، عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم: (أنه مر ليلة أسري به بموسى في السماء السادسة، فقال له جبريل: هذا موسى، فسلم عليه، قال:
فسلمت عليه، فقال: مرحبا بالنبي الصالح، و الأخ الصالح، فلما تجاوزت بكى، قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي)، و ذكر إبراهيم في السماء السابعة، و هذا هو المحفوظ. و ما وقع في
ص: 185
حديث شريك بن أبي نمر عن أنس: من أن إبراهيم في السادسة، و موسى في السابعة بتفضيل كلام اللّه، فقد ذكر غير واحد من الحفاظ: أن الذي عليه الجادة: أن موسى في السادسة، و إبراهيم في السابعة، و أنه مسند ظهره إلى البيت المعمور، الذي يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة، ثم لا يعودون إليه، آخر ما عليهم.
و اتفقت الروايات كلها على أن اللّه تعالى لما فرض على محمد صلّى اللّه عليه و سلم و أمته خمسين صلاة في اليوم و الليلة، فمر بموسى، قال: ارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، فإني قد عالجت بني إسرائيل قبلك أشد المعالجة، و أن أمتك أضعف أسماعا و أبصارا و أفئدة، فلم يزل يتردد بين موسى و بين اللّه عز و جل، و يخفف عنه في كل مرة، حتى صارت إلى خمس صلوات في اليوم و الليلة. و قال اللّه تعالى: هي خمس و هي خمسون، أي بالمضاعفة، فجزى اللّه عنا محمدا صلّى اللّه عليه و سلم خيرا، و جزى اللّه عنا موسى عليه السلام خيرا.
و قال البخاري: حدثنا مسدد، حدثنا حصين بن نمير، عن حصين بن عبد الرحمن، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: خرج علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يوما، فقال: (عرضت على الأمم، و رأيت سوادا كثيرا سد الأفق، فقيل: هذا موسى في قومه). هكذا روى البخاري هذا الحديث هاهنا مختصرا، و قد رواه الإمام أحمد مطولا، فقال: حدثنا شريح، حدثنا هشام، حدثنا حصين بن عبد الرحمن، قال: كنت عند سعيد بن جبير، فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ قلت: أنا، ثم قلت:
إني لم أكن في صلاة، و لكن لدغت، قال: و كيف فعلت؟ قلت: استرقيت، قال: و ما حملك على ذلك؟ قال: قلت: حديث حدثناه الشعبي عن بريدة الأسلمي، أنه قال: (لا رقية إلا من عين أو حمة). فقال سعيد، يعني ابن جبير: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ثم قال: حدثنا ابن عباس عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال: (عرضت على الأمم، فرأيت النبي و معه الرهط، و النبي معه الرجل و الرجلان، و النبي و ليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم، فقلت: هذه أمتي، فقيل: هذا موسى و قومه، و لكن انظر إلى الأفق فإذا سواد عظيم، ثم قيل: انظر إلى هذا الجانب، فإذا سواد عظيم، فقيل: هذه أمتك، و معهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب و لا عذاب)، ثم نهض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم
ص: 186
فدخل، فخاض القوم في ذلك، فقالوا: من هؤلاء الذين يدخلون الجنة بغير حساب و لا عذاب؟ فقال: بعضهم لعلهم الذين صحبوا النبي صلّى اللّه عليه و سلم، و قال بعضهم: لعلهم الذين ولدوا في الإسلام و لم يشركوا باللّه شيئا قط، و ذكروا أشياء، فخرج إليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فقال:
(ما هذا الذي كنتم تخوضون فيه؟) فأخبروه بمقالتهم، فقال: (هم الذين لا يكتوون، و لا يسترقون، و لا يتطيرون، و على ربهم يتوكلون)، فقام عكاشة بن محيصن الأسدي، فقال: أنا منهم يا رسول اللّه؟ قال: (أنت منهم)، ثم قام آخر، فقال: أنا منهم يا رسول اللّه؟ فقال: (سبقك بها عكاشة). و هذا الحديث له طرق كثيرة جدا و هو في الصحاح و الحسان و غيرها.
و قد ذكر اللّه تعالى موسى عليه السلام في القرآن كثيرا و أثنى عليه، و أورد قصته في كتابه العزيز مرارا، و كررها كثيرا، مطولة و مبسوطة و مختصرة، و أثنى عليه بليغا، و كثيرا ما يقرنه اللّه و يذكره، و يذكر كتابه مع محمد صلّى اللّه عليه و سلم و كتابه، كما قال في سورة البقرة: وَ لَمّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101)، و قال تعالى:
الم (1) اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ أَنْزَلَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنّاسِ وَ أَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ اللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4)، و قال تعالى في سورة الأنعام:
وَ ما قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْ ءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَ هُدىً لِلنّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَ تُخْفُونَ كَثِيراً وَ عُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَ لا آباؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَ هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92).. فأثنى تعالى على التوراة، ثم مدح القرآن العظيم مدحا عظيما، و قال تعالى في آخرها: ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَ هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَ اتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)، (الأنعام).
ص: 187
وَ ما قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْ ءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَ هُدىً لِلنّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَ تُخْفُونَ كَثِيراً وَ عُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَ لا آباؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَ هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92).. فأثنى تعالى على التوراة، ثم مدح القرآن العظيم مدحا عظيما، و قال تعالى في آخرها: ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَ هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَ اتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)، (الأنعام).
و قال تعالى في سورة المائدة: إِنّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَ الرَّبّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللّهِ وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النّاسَ وَ اخْشَوْنِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44)، إلى أن قال تعالى: وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فِيهِ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47) وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48).. فجعل القرآن حاكما على سائر الكتب غيره، و جعله مصدقا لها، و مبينا ما وقع فيها من التحريف و التبديل، فإن أهل الكتاب استحفظوا على ما بأيديهم من الكتب، فلم يقدروا على حفظها، و لا على ضبطها و صونها، فلهذا دخلها ما دخلها من تغييرهم و تبديلهم، لسوء فهومهم، و قصورهم في علومهم، و رداءة قصودهم، و خيانتهم لمعبودهم، عليهم لعائن اللّه المتتابعة إلى يوم القيامة، و لهذا يوجد في كتبهم من الخطأ البين على اللّه و على رسوله ما لا يحد و لا يوصف، و ما لا يوجد مثله و لا يعرف.
و قال تعالى في سورة الأنبياء: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَ هارُونَ الْفُرْقانَ وَ ضِياءً وَ ذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48) اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ هُمْ مِنَ السّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَ هذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَ فَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50).. و قال اللّه تعالى في سورة القصص: فَلَمّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَ وَ لَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَ قالُوا إِنّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49)، فأثنى اللّه على الكتابين، و على
ص: 188
الرسولين، عليهما السلام، و قالت الجن لقومهم: إِنّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى ، و قال ورقة بن نوفل، لما قص عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم خبر ما رأى من أول الوحى، و تلا عليه: اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اِقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) اَلَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5)، قال: سبوح سبوح هذا الناموس الذي أنزل على موسى بن عمران.
و بالجملة: فشريعة موسى عليه السلام كانت عظيمة، و أمته كانت أمة كثيرة، و وجد فيها أنبياء و علماء، و عباد و زهاد و ألباء، و ملوك و أمراء و سادات و كبراء، لكنهم كانوا فبادوا و تبدلوا كما بدلت شريعتهم، و مسخوا قردة و خنازير، ثم نسخت بعد كل حساب ملتهم، و جرت عليهم خطوب و أمور يطول ذكرها، و لكن سنورد ما فيه مقنع لمن أراد أن يبلغه خبرها، إن شاء اللّه و به الثقة و عليه التكلان.
قال الإمام أحمد: حدثنا هشام، حدثنا داود بن أبي هند، عن أبي العالية، عن ابن عباس، أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم مر بوادي الأزرق، فقال: (أي واد هذا؟) قالوا: وادي الأزرق، قال: (كأني أنظر إلى موسى و هو هابط من الثنية، و له جؤار إلى اللّه عز و جل بالتلبية)، حتى أني على ثنية هرشاء، فقال: (أي ثنية هذه؟) قالوا: هذه ثنية هرشاء، قال: (كأني انظر إلى يونس بن متى، على ناقة حمراء، عليه جبة من صوف، خطام ناقته خلبة - قال هشيم: يعني ليفا - و هو يلبي). أخرجه مسلم من حديث داود بن أبي هند به. و روى الطبراني عن ابن عباس مرفوعا: (إن موسى حج على ثور أحمر) و هذا غريب جدا.
و قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن أبي عدي، عن ابن عون، عن مجاهد، قال:
كنا عند ابن عباس، فذكروا الدجال، فقال: إنه مكتوب بين عينيه: (ك ف ر)، قال:
ما يقولون؟ قال: يقولون مكتوب بين عينيه ك ف ر، فقال ابن عباس: لم أسمعه قال ذلك، و لكن قال: (أمّا إبراهيم: فانظروا إلى صاحبكم، و أما موسى: فرجل آدم، جعد
ص: 189
الشعر، على جمل أحمر، مخطوم بخلبة، كأني أنظر إليه و قد انحدر من الوادي يلبي)، قال هشيم: الخلبة الليف، ثم رواه الإمام أحمد عن أسود، عن إسرائيل، عن عثمان بن المغيرة، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم (رأيت عيسى ابن مريم و موسى و إبراهيم، فأما عيسى فأبيض جعد عريض الصدر، و أما موسى:
فآدم جسيم)، قالوا: فإبراهيم؟ قال: (انظروا إلى صاحبكم).
و قال الإمام أحمد: حدثنا يونس، حدثنا شيبان، قال: حدث قتادة عن أبي العالية، حدثنا ابن عم نبيكم ابن عباس، قال: قال نبي اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: (رأيت ليلة أسري بي: موسى بن عمران رجلا طوالا جعدا، كأنه من رجال شنوءة، و رأيت عيسى ابن مريم مربوع الخلق إلى الحمرة و البياض، سبط الرأس)، و أخرجاه من حديث قتادة به.
و قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، قال الزهري: و أخبرني سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم (حين أسري بي لقيت موسى، فنعته، فقال رجل قال: حسبته قال: مضطرب، رجل الرأس، كأنه من رجال شنوءة - و لقيت عيسى فنعته رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، فقال: ربعة، أحمر، كأنما خرج من ديماس - يعني حماما - قال: و رأيت إبراهيم، و أنا أشبه ولده به). الحديث و قد تقدم غالب هذه الأحاديث في ترجمة الخليل.
قال البخاري في صحيحه: (وفاة موسى عليه السلام) حدثنا يحيى بن موسى، حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: أرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام، فلما جاءه صكه، فرجع إلى ربه عز و جل، فقال:
أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، قال: ارجع إليه، فقل له: يضع يده على متن ثور، فله بما غطت يده بكل شعرة سنة، قال: أي رب، ثم ما ذا؟ قال: ثم الموت، قال:
فالآن، قال: فسأل اللّه عز و جل أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر، قال أبو هريرة: فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: (فلو كنت ثمّ لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند
ص: 190
الكثيب الأحمر). قال: و أنبأنا معمر، عن همام، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم نحوه.
و قد روى مسلم الطريق الأول من حديث عبد الرزاق به. و رواه الإمام أحمد من حديث حماد بن سلمة عن عمار بن أبي هريرة مرفوعا.
و قال الإمام أحمد: حدثنا الحسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا أبو يونس، يعني سليم بن جبير، عن أبي هريرة، قال الإمام أحمد: لم يرفعه، قال: جاء ملك الموت إلى موسى عليه السلام، فقال: أجب ربك، فلطم موسى عين ملك الموت، ففقأها، فرجع الملك إلى اللّه، فقال: إنك بعثتني إلى عبد لك لا يريد الموت، قال: و قد فقأ عيني، قال:
فرد اللّه عينه، و قال: ارجع إلى عبدي، فقل له: الحياة تريد؟ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور، فما وارت يدك من شعره فإنك تعيش بها سنة، قال: ثم مه؟ قال: ثم الموت، قال: فالآن يا رب من قريب. تفرد به أحمد، و هو موقوف بهذا اللفظ.
و قد رواه ابن حبان في صحيحه من طريق معمر عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال معمر: و أخبرني من سمع الحسن، عن رسول اللّه فذكره. ثم استشكله ابن حبان، و أجاب عنه بما حاصله: أن ملك الموت لما قال له هذا لم يعرفه، لمجيئه له على غير صورة يعرفها موسى عليه السلام، كما جاء جبريل في صورة أعرابي، و كما وردت الملائكة على إبراهيم و لوط في صورة شباب، فلم يعرفهم إبراهيم و لا لوط أولا، و كذلك موسى لعله لم يعرفه لذلك، و لطمه ففقأ عينه لأنه دخل داره بغير إذنه، و هذا موافق لشريعتنا في جواز فقء عين من نظر إليك في دارك بغير إذن، ثم أورد الحديث من طريق عبد الرزاق عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة، قال، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم (جاء ملك الموت إلى موسى ليقبض روحه، قال له: أجب ربك، فلطم موسى عين ملك الموت، ففقأ عينه). و ذكر تمام الحديث، كما أشار إليه البخاري، ثم تأوله على أنه لما رفع يده ليلطمه قال له: أجب ربك. و هذا التأويل لا يتمشى على ما ورد به اللفظ من تعقيب قوله: أجب ربك، بلطمه، و لو استمر على الجواب الأول لتمشى له، و كأنه لم يعرفه في تلك الصورة، و لم يحمل قوله هذا على أنه مطابق، إذا لم يتحقق في الساعة الراهنة أنه ملك كريم، لأنه كان يرجو أمورا كثيرة، كان يحب وقوعها في حياته، من
ص: 191
خروجه من التيه و دخولهم الأرض المقدسة، و كان قد سبق في قدرة اللّه أنه عليه السلام يموت في التيه بعد هارون أخيه، كما سنبينه إن شاء اللّه تعالى.
و قد زعم بعضهم أن موسى عليه السلام هو الذي خرج بهم من التيه، و دخل بهم الأرض المقدسة، و هذا خلاف ما عليه أهل الكتاب و جمهور المسلمين، و مما يدل على ذلك قوله لما اختار الموت: (رب أدنني إلى الأرض المقدسة رمية حجر)، و لو كان قد دخلها لم يسأل ذلك، و لكن لما كان مع قومه بالتيه و حانت وفاته عليه السلام، أحب أن يتقرب إلى الأرض التي هاجر إليها و حث قومه عليها، و لكن حال بينهم و بينها القدر رمية بحجر، و لهذا قال سيد البشر، و رسول اللّه إلى أهل الوبر و المدر: (فلو كنت ثم لأريتكم قبره عند الكثيب الأحمر). و قال الإمام: حدثنا عفان، حدثنا حماد، حدثنا ثابت و سليمان التيمي، عن أنس بن مالك، أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: (لما أسري بي مررت بموسى و هو قائم يصلى في قبره عند الكثيب الأحمر). و رواه مسلم من حديث حماد بن سلمة به. و قال السدي عن أبي مالك و أبي صالح، عن ابن عباس و عن مرة، عن ابن مسعود و عن ناس من الصحابة، قالوا: ثم إن اللّه تعالى أوحى إلى موسى: إني متوف هارون، فائت به جبل كذا و كذا، فانطلق موسى و هارون نحو ذلك الجبل، فإذا هم بشجرة لم تر شجرة مثلها، و إذا هم ببيت مبني، و إذا هم بسرير عليه فرش، و إذا فيه ريح طيبة، فلما نظر هارون إلى ذلك الجبل، و البيت و ما فيه، أعجبه، قال: يا موسى، إني أحب أن أنام على هذا السرير، قال له موسى: فنم عليه، قال: إني أخاف أن يأتى رب هذا البيت فيغضب عليّ، قال له: لا ترهب، أنا أكفيك رب هذا البيت، فنم، قال: يا موسى، نم معى، فإن جاء رب هذا البيت غضب علىّ و عليك جميعا، فلما ناما، أخذ هارون الموت، فلما وجد حسه قال: يا موسى، خدعتني، فلما قبض، رفع ذلك البيت، و ذهبت تلك الشجرة، و رفع السرير به إلى السماء، فلما رجع موسى إلى قومه و ليس معه هارون، قالوا: فإن موسى قتل هارون، و حسده حب بني إسرائيل له، و كان هارون أكف عنهم و ألين لهم من موسى، و كان في موسى بعض الغلظة عليهم، فلما بلغه ذلك قال لهم: ويحكم، كان أخى، أ فتروني أقتله؟ فلما أكثروا عليه، قام
ص: 192
فصلى ركعتين، ثم دعا اللّه، فنزل السرير، حتى نظروا إليه بين السماء و الأرض، ثم إن موسى عليه السلام بينما هو يمشى و يوشع فتاه، إذ أقبلت ريح سوداء، فلما نظر إليها يوشع ظن أنها الساعة، فالتزم موسى، و قال: تقوم الساعة و أنا ملتزم موسى نبي اللّه، فاستل موسى عليه السلام من تحت القميص، و ترك القميص في يدي يوشع، فلما جاء يوشع بالقميص آخذته بنو إسرائيل، و قالوا: قتلت نبي اللّه، فقال: لا، و اللّه ما قتلته، و لكنه استل منى، فلم يصدقوه و أرادوا قتله، قال: فإذا لم تصدقوني فأخروني ثلاثة أيام، فدعا اللّه، فأتى كل رجل ممن كان يحرسه في المنام، فأخبر أن يوشع لم يقتل موسى، و إنا قد رفعناه إلينا فتركوه، و لم يبق أحد ممن أبى أن يدخل قرية الجبارين مع موسى إلا مات، و لم يشهد الفتح، و في بعض هذا السياق نكارة و غرابة، و اللّه أعلم. و قد قدمنا: أنه لم يخرج أحد من التيه ممن كان مع موسى، سوى يوشع بن نون، و كالب بن يوقنا، و هو زوج مريم أخت موسى و هارون، و هما الرجلان المذكوران فيما تقدم، اللذان أشارا على ملأ بني إسرائيل بالدخول عليهم. و ذكر وهب بن منبه: أن موسى عليه السلام مر بملإ من الملائكة يحفرون قبرا فلم ير أحسن منه و لا أنضر و لا أبهج، فقال: يا ملائكة اللّه، لمن تحفرون هذا القبر؟ فقالوا: لعبد من عباد اللّه كريم، فإن كنت تحب أن تكون هذا العبد، فادخل هذا القبر، و تمدّد فيه، و توجه إلى ربك، و تنفّس أسهل تنفّس، ففعل ذلك، فمات صلوات اللّه و سلامه عليه، فصلت عليه الملائكة، و دفنوه.
و ذكر أهل الكتاب و غيرهم: أنه مات و عمره مائة و عشرون سنة. و قد قال الإمام أحمد: حدثنا أمية بن خالد و يونس، قالا: حدثنا حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم - قال يونس: رفع هذا الحديث إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلم - قال: (كان ملك الموت يأتى الناس عيانا، قال: فأتى موسى عليه السلام فلطمه، ففقأ عينه، فأتى ربه، فقال: يا رب عبدك موسى فقأ عيني، و لو لا كرامته عليك لعتبت عليه - و قال يونس لشققت عليه - قال له: اذهب إلى عبدى، فقل له: فليضع يده على جلد، أو مسك، ثور، فله بكل شعرة وارت يده سنة، فأتاه، فقال له، فقال: ما بعد هذا؟ قال: الموت، قال: فالآن. قال: فشمه شمة، فقبض روحه.) قال يونس: فرد
ص: 193
اللّه عليه عينه، و كان يأتي الناس خفية. و كذا رواه ابن جرير عن أبي كريب عن مصعب بن المقدام عن حماد بن سلمة به، فرفعه أيضا.
هو: يوشع بن نون بن أفراثيم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم السلام، و أهل الكتاب يقولون: يوشع بن عم هود، و قد ذكره اللّه تعالى في القرآن غير مصرح باسمه في قصة الخضر، كما تقدم من قوله: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ فَلَمّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ و قدمنا ما ثبت في الصحيح من رواية أبي بن كعب رضي اللّه عنه عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم:
(من أنه يوشع بن نون). و هو متفق على نبوته عند أهل الكتاب، فإن طائفة منهم، و هم السامرة، لا يقرون بنبوة أحد بعد موسى إلا يوشع بن نون، لأنه مصرح به في التوراة، و يكفرون بما وراءه، و هو الحق من ربهم، فعليهم لعائن اللّه المتتابعة إلى يوم القيامة.
و أما ما حكاه ابن جرير و غيره من المفسرين، عن محمد بن إسحاق: من أن النبوة حولت من موسى إلى يوشع في آخر عمر موسى، فكان موسى يلقى يوشع فيسأله ما أحدث اللّه من الأوامر و النواهي؟ حتى قال له: يا كليم اللّه، إني كنت لا أسألك عما يوحى اللّه إليك حتى تخبرني أنت ابتداء من تلقاء نفسك، فعند ذلك كره موسى الحياة و أحب الموت. ففي هذا نظر لأن موسى عليه السلام لم يزل الأمر و الوحي و التشريع و الكلام من اللّه إليه من جميع أحواله حتى توفاه اللّه عز و جل، و لم يزل معززا مكرما مدللا وجيها عند اللّه كما قدمنا في الصحيح من قصة فقئه عين ملك الموت، ثم بعثه اللّه إليه إن كان يريد الحياة، فليضع يده على جلد ثور فله بكل شعرة وارت يده سنة يعيشها، قال: ثم ما ذا؟ قال: الموت، قال: فالآن يا رب، و سأل اللّه أن يدنيه إلى بيت المقدس رمية بحجر. و قد أجيب إلى ذلك صلوات اللّه و سلامه عليه، فهذا الذى ذكره محمد بن إسحاق إن كان إنما يقوله من كتب أهل الكتاب، ففي كتابهم الذى يسمونه التوراة: أن الوحي لم يزل ينزل على موسى في كل حين يحتاجون إليه إلى آخر مدة موسى، كما هو المعلوم من سياق كتابهم، عند تابوت الشهادة في قبة الزمان، و قد ذكروا
ص: 194
في السفر الثالث: أن اللّه أمر موسى و هارون أن يعدا بني إسرائيل على أسباطهم، و أن يجعلا على كل سبط من الاثني عشر أميرا، و هو النقيب، و ما ذاك إلا ليتأهبوا للقتال قتال الجبارين عند الخروج من التيه، و كان هذا عند اقتراب انقضاء الأربعين سنة.
و لهذا قال بعضهم: إنما فقأ موسى عليه السلام عين ملك الموت لأنه لم يعرفه في صورته تلك، و لأنه كان قد أمر بأمر كان يرتجى وقوعه في زمانه، و لم يكن في قدر اللّه أن يقع ذلك في زمانه، بل في زمان فتاه يوشع بن نون عليه السلام. كما أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم كان قد أراد غزو الروم بالشام فوصل إلى تبوك، ثم رجع عامه ذلك في سنة تسع ثم حج في سنة عشر، ثم رجع فجهز جيش أسامة إلى الشام طليعة بين يديه، ثم كان على عزم الخروج إليهم امتثالا لقوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ (29)، (التوبة: 29).
و لما جهز رسول اللّه جيش أسامة توفي عليه الصلاة و السلام، و أسامة مخيم بالجرف فنفذه صديقه و خليفته أبو بكر الصديق رضى اللّه عنه، ثم لما لم شعث جزيرة العرب و ما كان دهى من أمر أهلها و عاد الحق إلى نصابه، جهز الجيوش يمنة و يسرة إلى العراق أصحاب كسرى ملك الفرس، و إلى الشام أصحاب قيصر ملك الروم، ففتح اللّه لهم و مكن لهم و بهم و ملكهم نواصى أعدائهم.
و هكذا موسى عليه السلام كان اللّه قد أمره أن يجند بني إسرائيل و أن يجعل عليهم نقباء كما قال تعالى: * وَ لَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَ قالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَ آتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَ آمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَ عَزَّرْتُمُوهُمْ وَ أَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ لَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12)، (المائدة: 12).. يقول لهم: لئن قمتم بما أوجبت عليكم، و لم تنكلوا عن القتال كما نكلتم أول مرة، لأجعلن ثواب هذه مكفرا لما وقع عليكم من عقاب تلك، كما قال تعالى لمن
ص: 195
تخلف من الأعراب عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في غزوة الحديبية: قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللّهُ أَجْراً حَسَناً وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16)، و هكذا قال تعالى لبني إسرائيل: فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12) ثم ذمهم تعالى على سوء صنيعهم و نقضهم مواثيقهم، كما ذم من بعدهم من النصارى على اختلافهم في دينهم و أديانهم.
و المقصود: أن اللّه تعالى أمر موسى عليه السلام أن يكتب أسماء المقاتلة من بني إسرائيل ممن يحمل السلاح، و يقاتل ممن بلغ عشرين سنة فصاعدا، و أن يجعل على كل سبط نقيبا منهم (السبط الأول): سبط روبيل، لأنه بكر يعقوب كان عدة المقاتلة منهم ستة و أربعين ألفا و خمسمائة، و نقيبهم منهم و هو: اليصور بن شديئورا، (السبط الثاني):
سبط شمعون، و كانوا تسعة و خمسين ألفا و ثلاثمائة، و نقيبهم شلوميئيل بن هوريشداي، (السبط الثالث): سبط يهوذا، و كانوا أربعة و سبعين ألفا و ستمائة، و نقيبهم نحشون بن عمينا داب، (السبط الرابع): سبط إيساخر، و كانوا أربعة و خمسين ألفا و أربعمائة، و نقيبهم نشائيل بن صوغر، (السبط الخامس): سبط يوسف عليه السلام، و كانوا أربعين ألفا و خمسمائة، و نقيبهم: يوشع بن نون، (السبط السادس): سبط ميشا، و كانوا أحدا و ثلاثين ألفا و مائتين، و نقيبهم جمليئيل بن فدهصور، (السبط السابع): سبط بنيامين، و كانوا خمسة و ثلاثين ألفا و أربعمائة، و نقيبهم أبيدن بن جدعون، (السبط الثامن): سبط حاد، و كانوا خمسة و أربعين ألفا و ستمائة و خمسين رجلا، و نقيبهم إلياساف بن رعوئيل، (السبط التاسع): سبط أشير، و كانوا أحدا و أربعين ألفا و خمسمائة، و نقيبهم فجعيئيل بن عكرن، (السبط العاشر): سبط دان، و كانوا اثنين و ستين ألفا و سبعمائة، و نقيبهم أخيعزر ابن عمشداي، (السبط الحادي عشر): سبط نفتالى، و كانوا ثلاثة و خمسين ألفا و أربعمائة، و نقيبهم أخيرع بن عين، (السبط الثاني عشر): سبط زبولون، و كانوا سبعة و خمسين ألفا و أربعمائة، و نقيبهم الباب بن حيلون. هذا نص كتابهم الذى بأيديهم، و اللّه أعلم. و ليس منهم بنو لاوي، فأمر اللّه موسى أن لا يعدهم معهم، لأنهم موكلون بحمل قبة
ص: 196
الشهادة و ضربها و نصبها و حملها إذا ارتحلوا، و هم سبط موسى و هارون عليهما السلام، و كانوا اثنين و عشرين ألفا من ابن شهر فما فوق ذلك. و هم في أنفسهم قبائل إلى كل قبيلة طائفة من قبة الزمان يحرسونها و يحفظونها و يقومون بمصالحها و نصبها و حملها و هم كلهم حولها ينزلون و يرتحلون أمامها و يمنتها و شمالها و وراءها.
و جملة ما ذكر من المقاتلة غير بني لاوي: خمسمائة ألف و أحد و سبعون ألفا و ستمائة و ستة و خمسون، لكن قالوا: فكان عدد بني إسرائيل ممن عمره عشرون سنة فما فوق ذلك ممن حمل السلاح ستمائة ألف و ثلاثة آلاف و خمسمائة و خمسة و خمسين رجلا، سوى بني لاوي، و في هذا نظر، فإن جميع الجمل المتقدمة إن كانت كما وجدنا في كتابهم لا تطابق الجملة التى ذكروها، و اللّه أعلم، فكان بنو لاوي الموكلون بحفظ قبة الزمان يسيرون في وسط بني إسرائيل و هم القلب، و رأس الميمنة بنو روبيل، و رأس الميسرة بنو ران، و بنو نفتالى يكونون ساقه، و قرر موسى عليه السلام بأمر اللّه تعالى له الكهانة في بني هارون كما كانت لأبيهم من قبلهم، و هم ناداب و هو بكره، و أبيهو و العازر و يثمر.
و المقصود: أن بني إسرائيل لم يبق منهم أحد ممن كان نكل عن دخول مدينة الجبارين الذين قالوا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ (24) قاله الثوري عن أبي سعيد عن عكرمة عن ابن عباس، و قاله قتادة و عكرمة، و رواه السدي عن ابن عباس و ابن مسعود و ناس من الصحابة حتى قال ابن عباس و غيره من علماء السلف و الخلف: و مات موسى و هارون قبله كلاهما في التيه جميعا. و قد زعم ابن إسحاق: أن الذي فتح بيت المقدس هو موسى، و إنما كان يوشع على مقدمته و ذكر في مروره إليها قصة بلعام بن باعوراء الذى قال تعالى فيه: وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَ لَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَ اتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ أَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177)، (الأعراف).. و قد ذكرت
ص: 197
قصته في التفسير، و أنه كان فيما قاله ابن عباس و غيره يعلم الاسم الأعظم، و أن قومه سألوه أن يدعو على موسى و قومه، فامتنع عليهم و لما ألحوا عليه ركب حمارة له ثم سار نحو معسكر بني إسرائيل، فلما أشرف عليهم ربضت به حمارته، فضربها حتى قامت فسارت غير بعيد و ربضت، فضربها ضربا أشد من الأول، فقامت ثم ربضت، فضربها فقالت له: يا بلعام، أين تذهب؟ أما ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي هذا؟ أ تذهب إلى نبي اللّه و المؤمنين تدعو عليهم، فلم ينزع عنها فضربها حتى سارت به حتى أشرف عليهم من رأس جبل حسبان، و نظر إلى معسكر موسى و بني إسرائيل، فأخذ يدعو عليهم فجعل لسانه لا يطيعه إلا أن يدعو لموسى و قومه و يدعو على قوم نفسه فلاموه على ذلك، فاعتذر إليهم بأنه لا يجرى على لسانه إلا هذا، و اندلع لسانه حتى وقع على صدره، و قال لقومه: ذهبت مني الآن الدنيا و الآخرة و لم يبق إلا المكر و الحيلة، ثم أمر قومه أن يزينوا النساء و يبعثوهن بالأمتعة يبعن عليهم و يتعرضن لهم حتى لعلهم يقعون في الزنا، فإنه متى زنى رجل منهم كفيتموهم، ففعلوا و زينوا نساءهم و بعثوهن إلى المعسكر فمرت امرأة منهم اسمها كستى برجل من عظماء بني إسرائيل، و هو زمري بن شلوم، يقال إنه: كان رأس سبط بني شمعون بن يعقوب، فدخل بها قبته، فلما خلا بها أرسل اللّه الطاعون على بني إسرائيل، فجعل يجوس فيهم، فلما بلغ الخبر إلى فنحاص بن العزار بن هارون أخذ حربته و كانت من حديد، فدخل عليهما القبة فطعنهما جميعا فيها، ثم خرج بهما على الناس و الحربة في يده و قد اعتمد على خاصرته و أسندها إلى لحيته و رفعهما نحو السماء، و جعل يقول: اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك، و رفع الطاعون، فكان جملة من مات في تلك الساعة سبعين ألفا، و المقلل يقول: عشرين ألفا، و كان فنحاص بكر أبيه العزار بن هارون فلهذا يجعل بنو إسرائيل لولد فنحاص من الذبيحة اللية و الذراع و اللحى، و لهم البكر من كل أموالهم و أنفسهم.
و هذا الذى ذكره ابن إسحاق من قصة بلعام صحيح قد ذكره غير واحد من علماء السلف، لكن لعله لما أراد موسى دخول بيت المقدس أول مقدمه من الديار المصرية، و لعله مراد ابن إسحاق، و لكنه ما فهمه بعض الناقلين عنه. و قد قدمنا عن نص التوراة
ص: 198
ما يشهد لبعض هذا، و اللّه أعلم.
و لعل هذه قصة أخرى كانت في خلال سيرهم في التيه فإن في هذا السياق ذكر حسبان و هي بعيدة عن أرض بيت المقدس، أو لعله كان هذا لجيش موسى الذين عليهم يوشع بن نون حين خرج بهم من التيه قاصدا بيت المقدس كما صرح به السدي، و اللّه أعلم. و على كل تقدير فالذي عليه الجمهور: أن هارون توفي بالتيه قبل موسى أخيه بنحو من سنتين، و بعده موسى في التيه أيضا، كما قدمنا، و أنه سأل ربه أن يقرب إلى بيت المقدس فأجيب إلى ذلك، فكان الذى خرج بهم من التيه و قصد بهم بيت المقدس هو يوشع بن نون عليه السلام، فذكر أهل الكتاب و غيرهم من أهل التاريخ: أنه قطع بني إسرائيل نهر الأردن، و انتهى إلى أريحا، و كانت من أحصن المدائن سورا و أعلاها قصورا و أكثرها أهلا فحاصرها ستة أشهر، ثم إنهم أحاطوا بها يوما و ضربوا بالقرون، يعني الأبواق، و كبروا تكبيرة رجل واحد فتفسخ سورها و سقط وجبة واحدة، فدخلوها و أخذوا ما وجدوا فيها من الغنائم و قتلوا اثني عشر ألفا من الرجال و النساء، و حاربوا ملوكا كثيرة، و يقال: إن يوشع ظهر على أحد و ثلاثين ملكا من ملوك الشام، و ذكروا أنه انتهى محاصرته لها إلى يوم جمعة بعد العصر، فلما غربت الشمس أو كادت تغرب و يدخل عليهم السبت الذى جعل عليهم و شرع لهم ذلك الزمان، قال لها: إنك مأمورة و أنا مأمور، اللهم احبسها عليّ، فحبسها اللّه عليه، حتى تمكن من فتح البلد، و أمر القمر فوقف عن الطلوع. و هذا يقتضي أن هذه الليلة كانت الليلة الرابعة عشرة من الشهر، و الأول و هو قصة الشمس المذكورة في الحديث الذي سأذكره، و أما قصة القمر فمن عند أهل الكتاب، و لا ينافي الحديث بل فيه زيادة تستفاد فلا تصدق و لا تكذب، و لكن ذكرهم أن هذا في فتح أريحا فيه نظر، و الأشبه و اللّه أعلم، أن هذا كان في فتح بيت المقدس الذي هو المقصود الأعظم، و فتح أريحا كان وسيلة إليه، و اللّه أعلم.
قال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر، حدثنا أبو بكر، عن هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: (إن الشمس لم تحبس لبشر إلا ليوشع ليالى سار إلى بيت المقدس). انفرد به أحمد من هذا الوجه، و هو على شرط
ص: 199
البخاري، و فيه دلالة على أن الذى فتح بيت المقدس هو يوشع بن نون عليه السلام لا موسى، و أن حبس الشمس كان في فتح بيت المقدس لا أريحا، كما قلنا، و فيه: أن هذا كان من خصائص يوشع عليه السلام، فيدل على ضعف الحديث الذى رويناه أن الشمس رجعت حتى صلى علي بن أبي طالب صلاة العصر بعد ما فاتته بسبب نوم النبي صلّى اللّه عليه و سلم على ركبته، فسأل رسول اللّه أن يردها عليه حتى يصلي العصر، فرجعت.
و قد صححه على ابن صالح المصري، و لكنه منكر ليس في شيء من الصحاح و لا الحسان، و هو مما تتوفر الدواعي على نقله، و تفردت بنقله امرأة من أهل البيت مجهولة لا يعرف حالها، و اللّه أعلم.
و قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن همام، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: (غزا نبي من الأنبياء، فقال لقومه: لا يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة، و هو يريد أن يبني بها و لما يبن، و لا آخر قد بنى بنيانا و لم يرفع سقفها، و لا آخر قد اشترى غنما أو خلفات و هو ينتظر أولادها، فغزا فدنا من القرية حين صلى العصر، أو قريبا من ذلك، فقال الشمس: أنت مأمورة و أنا مأمور، اللهم احبسها عليّ شيئا، فحبست عليه، حتى فتح اللّه عليه، فجمعوا ما غنموا فأتت النار لتأكله، فأبت أن تطعمه، فقال: فيكم غلول، يعني من كل قبيلة رجل فبايعوه، فلصقت يد رجل بيده، فقال: فيكم الغلول، و لتبايعني قبيلتك فبايعته قبيلته، فلصق بيد رجلين أو ثلاثة، فقال: فيكم الغلول، أنتم غللتم فأخرجوا له مثل رأس بقرة من ذهب، قال: فوضعوه بالمال و هو بالصعيد، فأقبلت النار فأكلته، فلم تحل الغنائم لأحد من قبلنا، ذلك بأن اللّه رأى ضعفنا و عجزنا فطيبها لنا). انفرد به مسلم من هذا الوجه. و قد روى البزار من طريق مبارك بن فضالة، عن عبيد اللّه، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم نحوه. قال: و رواه محمد بن عجلان عن سعيد المقبري، قال: و رواه قتادة عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم.
و المقصود: أنه لما دخل بهم باب المدينة أمروا أن يدخلوها سجدا، أي ركعا متواضعين شاكرين للّه عز و جل، على ما من به عليهم من الفتح العظيم، الذى كان اللّه
ص: 200
وعدهم إياه، و أن يقولوا حال دخولهم حطة، أي حط عنا خطايانا التى سلفت من نكولنا الذى تقدم منا، و لهذا لما دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم مكة يوم فتحها دخلها و هو راكب ناقته و هو متواضع حامد شاكر، حتى أن عثنونه، و هو طرف لحيته، ليمس مورك رحله مما يطأطئ رأسه خضعانا للّه عز و جل، و معه الجنود و الجيوش ممن لا يرى منه إلا الحدق و لا سيما الكتيبة الخضراء التى فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، ثم لما دخلها اغتسل، و صلى ثماني ركعات، و هي صلاة الشكر على النصر على المنصور من قولى العلماء، و قيل: إنها صلاة الضحى، و ما حمل هذا القائل على قوله هذا إلا لأنها وقعت وقت الضحى، و أما بنو إسرائيل فإنهم خالفوا ما أمروا به قولا و فعلا دخلوا الباب يزحفون على استاههم، يقولون: حبة في شعرة، و في رواية: حنطة في شعرة، و حاصله: أنهم بدلوا ما أمروا به و استهزءوا به كما قال تعالى حاكيا عنهم في سورة الأعراف و هى مكية: وَ إِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَ كُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَ قُولُوا حِطَّةٌ وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162)، و قال في سورة البقرة و هى مدنية مخاطبا لهم: وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَ قُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59)، و قال الثوري عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً قال: ركعا من باب صغير.
رواه الحاكم و ابن جرير و ابن أبي حاتم، و كذا روى العوفي عن ابن عباس، و كذا روى الثوري عن ابن إسحاق، عن البراء، قال مجاهد و السدي و الضحاك: و الباب هو باب حطة من بيت إيلياء بيت المقدس. قال ابن مسعود: فدخلوا مقنعي رءوسهم ضد ما أمروا به، و هذا لا ينافي قول ابن عباس: أنهم دخلوا يزحفون على استاههم. و هكذا في الحديث الذى سنورده بعد، فإنهم دخلوا يزحفون و هم مقنعو رءوسهم و قوله: وَ قُولُوا حِطَّةٌ الواو هنا حالية لا عاطفة، أي ادخلوا سجدا في حال قولكم: حطة. قال ابن عباس و عطاء و الحسن و قتادة و الربيع: أمروا أن يستغفروا.
ص: 201
رواه الحاكم و ابن جرير و ابن أبي حاتم، و كذا روى العوفي عن ابن عباس، و كذا روى الثوري عن ابن إسحاق، عن البراء، قال مجاهد و السدي و الضحاك: و الباب هو باب حطة من بيت إيلياء بيت المقدس. قال ابن مسعود: فدخلوا مقنعي رءوسهم ضد ما أمروا به، و هذا لا ينافي قول ابن عباس: أنهم دخلوا يزحفون على استاههم. و هكذا في الحديث الذى سنورده بعد، فإنهم دخلوا يزحفون و هم مقنعو رءوسهم و قوله: وَ قُولُوا حِطَّةٌ الواو هنا حالية لا عاطفة، أي ادخلوا سجدا في حال قولكم: حطة. قال ابن عباس و عطاء و الحسن و قتادة و الربيع: أمروا أن يستغفروا.
قال البخاري: حدثنا محمد، حدثنا عبد الرحمن بن مهدى، عن ابن المبارك، عن معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال: (قيل لبني إسرائيل:
ادخلوا الباب سجدا، و قولوا: حطة، فدخلوا يزحفون على استاههم، فبدلوا، و قالوا:
حطة حبة في شعرة). و كذا رواه النسائي من حديث ابن المبارك ببعضه. و رواه عن محمد بن إسماعيل ابن إبراهيم عن ابن مهدي به، موقوفا. و قد قال عبد الرزاق: أنبأنا معمر، عن همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: (قال اللّه لبني إسرائيل: ادخلوا الباب سجدا، و قولوا حطة، نغفر لكم خطاياكم، فبدلوا، فدخلوا الباب يزحفون على استاههم، فقالوا: حبة في شعرة). و رواه البخاري و مسلم و الترمذي من حديث عبد الرزاق، و قال الترمذي: حسن صحيح.
و قال محمد بن إسحاق: كان تبديلهم كما حدثني صالح بن كيسان، عن صالح، مولى التوأمة، عن أبي هريرة، و عمن لا أتهم عن ابن عباس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال:
(دخلوا الباب الذى أمروا أن يدخلوا فيه سجدا يزحفون على استاههم، و هم يقولون:
حنطة في شعيرة). و قال أسباط عن السدي، عن مرة، عن ابن مسعود، قال في قوله:
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ قال: قالوا: (هطى سقاثا أزمة مزبا)، فهى في العربية: (حبة حنطة، حمراء، مثقوبة، فيها شعرة سوداء). و قد ذكر اللّه تعالى أنه عاقبهم على هذه المخالفة، بإرسال الرجز الذى أنزله عليهم، و هو الطاعون. كما ثبت في الصحيحين من حديث الزهري عن عامر بن سعد، و من حديث مالك عن محمد بن المنكدر، و سالم أبي النضر عن عامر بن سعد، عن أسامة بن زيد، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أنه قال: (إن هذا الوجع، أو السقم، رجز عذب به بعض الأمم قبلكم). و روى النسائي و ابن أبي حاتم و هذا لفظه من حديث الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه و أسامة بن زيد و خزيمة بن
ص: 202
ثابت، قالوا: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: (الطاعون رجز، عذاب عذّب به من كان قبلكم).
و قال الضحاك عن ابن عباس: الرجز العذاب. و كذا قال مجاهد و أبو مالك و السدي و الحسن و قتادة. و قال أبو العالية: هو الغضب. و قال الشعبي: الرجز إما الطاعون، و إما البرد. و قال سعيد بن جبير: هو الطاعون، و لما استقرت يد بني إسرائيل على بيت المقدس استمروا فيه و بين أظهرهم نبي اللّه يوشع، يحكم بينهم بكتاب اللّه التوراة، حتى قبضه اللّه إليه و هو ابن مائة و سبع و عشرين سنة، فكان مدة حياته بعد موسى سبعا و عشرين سنة.
ص: 203
1. كتاب (المنظار الهندسي للقرآن الكريم)، دار المسيرة، عمان - الأردن، ط/ 1، 1422 ه - 2001 م.
2. كتاب (المنظار الهندسي للقرآن الكريم)، دار المسيرة، عمان - الأردن، ط/ 2، 1425 ه - 2004 م.
3. كتاب (أنت و الأنترنت - جلّ ما تحتاجه من خدمات الشبكة العالمية -)، دار الرشد، ط/ 1، 1422 ه - 2001 م.
4. كتاب (القرآن منهل العلوم)، طبع الجامعة الإسلامية، بغداد، ط/ 1، 1423 ه - 2002 م.
5. كراس (مواصفات الفحوص المختبرية لأعمال الهندسة المدنية)، مع مجموعة من المختصين، 1423 ه - 2002 م.
6. كتاب (القوانين القرآنية للحضارات - النسخة المختصرة، 125 صفحة من القطع الصغير -)، طبع ببغداد عام 1424 ه - 2003 م.
7. سلسلة كتب (ومضات إعجازية من القرآن و السنة النبوية - 15 جزءا -)، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان.
أ. التأريخ و الآثار.
ب. المادة و الطاقة.
ت. الفلك.
ث. الأرض.
ج. الرياح و السحب.
ح. المياه و البحار.
خ. النبات و الإنبات.
د. الحيوانات و الحشرات.
ص: 204
ذ. الطب.
ر. الصيدلة و الأمراض.
ز. الوراثة و الاستنساخ.
س. الجملة العصبية و الطب النفسي.
ش. الأحلام و الباراسايكولوجي.
ص. الاقتصاد و الاجتماع.
ض. آخر الزمان.
8. كتاب (القوانين القرآنية للحضارات - النسخة المفصلة، 365 صفحة من القطع الكبير)، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان..
9. كتاب (تفصيل النحاس و الحديد في الكتاب المجيد)، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان.
10. عدة بحوث في مجال الهندسة المدنية منشورة في مجلات و مؤتمرات هندسية مرموقة داخل العراق و خارجه.
11. عدة بحوث و مقالات في مجال الإعجاز القرآني منشورة في صحف و مجلات و مؤتمرات مرموقة داخل العراق.
12. عدة أعمال مرئية تلفازية و حاسوبية في محطات محلية و أخرى فضائية عربية.
كتاب (استنباط الحلول من أسباب النزول)، قيد التأليف.
كتاب جامعي عن المواد الهندسية، قيد التأليف.
تصاميم شبكات الخدمات المائية و الصحية، قيد الإعداد.
ص: 205
ص: 206
مقدمة السلسلة/ 5
مقدمة كتاب الآثار و التاريخ/ 9
الفصل الأول: سفينة نوح (عليه السلام) / 11
الفصل الثاني: قوم لوط (عليه السلام) / 20
الفصل الثالث: جثة فرعون مصر/ 22
الفصل الرابع: قصة أصحاب الكهف/ 27
الفصل الخامس: دلائل تأريخية أخرى/ 33
الملحق (1): قصة نوح عليه السلام/ 51
الملحق (2): قصة لوط عليه السلام/ 69
الملحق (3): قصة موسى الكليم عليه السلام/ 81
هلاك فرعون و جنوده/ 128
أمر بني إسرائيل بعد هلاك فرعون/ 136
سؤال الرؤية/ 144
قصة عبادتهم العجل في غيبة موسى/ 148
قصة بقرة بني إسرائيل/ 156
قصة موسى و الخضر عليهما السلام/ 158
حديث الفتون المتضمن قصة موسى من أولها إلى آخرها/ 166
بناء قبة الزمان/ 177
ص: 207
قصة قارون مع موسى عليه السلام/ 179
حجته عليه السلام إلى البيت العتيق/ 189
ذكر وفاته عليه السلام/ 190
نبوة يوشع و قيامه بأعباء بني إسرائيل بعد موسى و هارون/ 194
أعمال للمؤلف/ 204
مشاريع كتب للمؤلف/ 205
فهرس المحتويات/ 207
ص: 208