إعجاز القرآن (الباقلاني)

اشارة

نام كتاب: إعجاز القرآن( الباقلاني)

نويسنده: ابو بكر محمد بن الطيب الباقلانى

موضوع: اعجاز

تاريخ وفات مؤلف: 403 ق

زبان: عربى

تعداد جلد: 1

ناشر: دارالكتب العلمية

مكان چاپ: بيروت

سال چاپ: 1421 / 2001

نوبت چاپ: اوّل

ص: 1

اشارة

ص: 2

ترجمة المؤلف

نسبه:

هو:محمد بن الطيب أبو بكر الباقلاني رأس المتكلمين على مذهب الشافعي،و هو من أكثر الناس كلاما و تصنيفا في الكلام.

شيوخه:

له شيوخ كثيرون منهم:أبو بكر الأبهري،و أبو بكر القطيعي،و أبو محمد بن ماسي، و أبو عبد اللّه الشيرازي و آخرون.

مؤلفاته:

له مؤلفات عديدة منها:إعجاز القرآن و هو هذا الكتاب،و التبصرة،و دقائق الحقائق،و التمهيد في أصول الفقه،و شرح الإبانة،و غير ذلك.

وفاته:

توفي سنة(403 ه)رحمه اللّه،و رضي عنه.

انظر ترجمته في:

1-البداية و النهاية 350/11-351.

2-وفيات الأعيان 481/1.

كتبه أبو عبد الرحمن صلاح بن محمد بن عويضة.

ص: 3

ص: 4

مقدمة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد للّه المنعم على عباده بما هداهم إليه من الإيمان،و المتمّم إحسانه بما أقام لهم من جليّ البرهان،الذي حمد نفسه بما أنزل من القرآن،ليكون بشيرا و نذيرا،و داعيا إلى اللّه بإذنه و سراجا منيرا،و هاديا إلى ما ارتضى لهم من دينه،و سلطانا أوضح تبيينه،و دليلا على وحدانيته،و مرشدا إلى معرفة عزته و جبروته،و مفصحا عن صفات جلاله،و علو شأنه، و عظيم سلطانه،و حجة لرسوله الذي أرسله به،و علما على صدقه،و بينة على أنه أمينه على وحيه،و صادع بأمره.

فما أشرفه من كتاب يتضمن صدق متحمّله،و رسالة تشتمل على تصحيح قول مؤدّيها،بيّن فيه سبحانه أن حجّته كافية هادية.لا يحتاج مع وضوحها إلى بينة تعدوها،أو حجة تتلوها،و إن الذهاب عنها كالذهاب عن الضروريات،و الشك في المشاهدات.

و لذلك قال عز ذكره: وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ (1).و قال عز و جل: وَ لَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (2).

فله الشكر على جزيل إحسانه،و عظم مننه،و الصلاة على سيدنا محمد المصطفى و آله و سلم.

و من أهم ما يجب على أهل الدين كشفه،و أولى ما يلزم بحثه،ما كان لأصل دينهم قواما،و لقاعدة توحيدهم عمادا و نظاما،و على صدق نبيهم صلّى اللّه عليه و سلّم برهانا،و لمعجزته ثبتا و حجة،لا سيما و الجهل ممدود الرواق،شديد النفاق،مستول على الآفاق.و العلم إلى عفاء و دروس،و على خفاء و طموس،و أهله في جفوة الزمن البهيم،يقاسون من عبوسه لقاء الأسد الشئيم،حتى صار ما يكابدونه قاطعا عن الواجب من سلوك مناهجه،و الأخذ في سبله.

فالناس بين رجلين:ذاهب عن الحق،ذاهل عن الرشد،و آخر مصدود عن نصرته،

ص: 5


1- آية(7)سورة الأنعام.
2- آية(14،15)سورة الحجر.

مكدود في صنعته.فقد أدى ذلك إلى خوض الملحدين في أصول الدين،و تشكيكهم أهل الضعف في كل يقين.و قد قل أنصاره،و اشتغل عنه أعوانه،و أسلمه أهله،فصار عرضة لمن شاء أن يتعرض فيه،حتى عاد مثل الأمر الأول على ما خاضوا فيه عند ظهور أمره، فمن قائل قال:إنه سحر.و قائل يقول:إنه شعر.و آخر يقول:إنه أساطير الأولين.

و قالوا:لو نشاء لقلنا مثل هذا،إلى الوجوه التي حكى اللّه عز و جل عنهم أنهم قالوا فيه و تكلموا به،فصرفوه إليه.

و ذكر لي عن بعض جهالهم أنه جعل يعدله ببعض الأشعار،و يوازن بينه و بين غيره من الكلام،و لا يرضى بذلك حتى يفضله عليه! و ليس هذا ببديع من ملحدة هذا العصر،و قد سبقهم إلى عظم ما يقولونه إخوانهم من ملحدة قريش و غيرهم.إلا أن أكثر من كان طعن فيه في أول أمره،استبان رشده،و أبصر قصده،فتاب و أناب،و عرف من نفسه الحق بغريزة طبعه،و قوة إتقانه،لا لتصرف لسانه، بل لهداية ربه و حسن توفيقه.و الجهل في هذا الوقت أغلب،و الملحدون فيه عن الرشد أبعد،و عن الواجب أذهب.

و قد كان يجوز أن يقع ممن عمل الكتب النافعة في معاني القرآن،و تكلم في فوائده من أهل صنعة العربية و غيرهم من أهل صناعة الكلام،أن يبسطوا القول في الإبانة عن وجه معجزته،و الدلالة على مكانه.فهو أحق بكثير مما صنفوا فيه من القول في الخبر،و دقيق الكلام في الأعراض،و كثير من بديع الإعراب،و غامض النحو.فالحاجة إلى هذا أمس، و الاشتغال به أوجب.

و قد قصر بعضهم في هذه المسألة،حتى أدى ذلك إلى تحول قوم منهم إلى مذاهب البراهمة فيها،و رأوا أن عجز أصحابهم عن نصرة هذه المعجزة يوجب أن لا يستنصر فيها، و لا وجه لها حين رأوهم قد برعوا في لطيف ما أبدعوا،و انتهوا إلى الغاية فيما أحدثوا و وضعوا.ثم رأوا ما صنفوه في هذا المعنى غير كامل في بابه،و لا مستوفى في وجهه،قد أخلّ بتهذيب طرقه،و أهمل ترتيب بيانه،و قد يعذر بعضهم في تفريط يقع منه فيه،و ذهاب عنه،لأن هذا الباب مما يمكن إحكامه بعد التقدم في أمور شريفة المحل،عظيمة المقدار، دقيقة المسلك،لطيفة المأخذ.

و إذا انتهينا إلى تفصيل القول فيها،استبان ما قلناه من الحاجة إلى هذه المقدمات، حتى يمكن بعدها إحكام القول في هذا الشأن.

و قد صنف«الجاحظ» (1)في نظم القرآن كتابا،لم يزد فيه على ما قاله المتكلموندة

ص: 6


1- الجاحظ هو:أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الكناني الليثي بالولاء.بلغ من الذكاء و جودة

قبله،و لم يكشف عما يلتبس في أكثر هذا المعنى.

و سألنا سائل أن نذكر جملة من القول جامعة،تسقط الشبهات،و تزيل الشكوك التي تعرض للجهّال،و تنتهي إلى ما يخطر لهم،و يعرض لأفهامهم من الطعن في وجه المعجزة.

فأجبناه إلى ذلك،متقربين إلى اللّه عز و جل،و متوكلين عليه و على حسن توفيقه و معونته.و نحن نبين ما سبق فيه البيان من غيرنا،و نشير إليه،و لا نبسط القول؛لئلا يكون ما ألّفناه مكررا و مقولا،بل يكون مستفادا من جهة هذا الكتاب خاصة.و نضيف إليه ما يجب وصفه من القول في تنزيل متصرّفات الخطاب،و ترتيب وجوه الكلام،و ما تختلف فيه طرق البلاغة،و تتفاوت من جهته سبل البراعة،و ما يشتبه له ظاهر الفصاحة،و يختلف فيه المختلفون من أهل صناعة العربية،و المعرفة بلسان العرب في أصل الوضع.

ثم ما اختلفت به مذاهب مستعمليه في فنون ما ينقسم إليه الكلام،من شعر و رسائل، و خطب و غير ذلك من مجاري الخطاب.

و إن كانت هذه الوجوه الثلاثة أصول ما يبين فيه التفاصح،و تقصد فيه البلاغة؛لأن هذه أمور يتعمّل لها في الأغلب،و لا يتجوز فيها.ثم من بعد هذا الكلام الدائر في محاوراتهم،و التفاوت فيه أكثر،لأن التعمل فيه أقل.إلا من غزارة طبع،أو فطانة تصنّع، و تكلّف.و نشير إلى ما يجب في كل واحد من هذه الطرق ليعرف عظم محل القرآن،و ليعلم ارتفاعه عن مواقع هذه الوجوه،و تجاوزه الحد الذي يصح أو يجوز أن يوازن بينه و بينها،أو يشتبه ذلك على متأمل.

و لسنا نزعم أنه يمكننا أن نبين ما رمنا بيانه،و أردنا شرحه و تفصيله لمن كان عن معرفة الأدب ذاهبا،و عن وجه اللسان غافلا،لأن ذلك مما لا سبيل إليه إلا أن يكون الناظر فيما تعرض عليه مما قصدنا إليه من أهل صناعة العربية قد وقف على جمل من محاسن الكلام و متصرفاته،و مذاهبه،و عرف جملة من طرق المتكلمين،و نظر في شيء من أصول الدين،و إنما ضمن اللّه عز و جل فيه البيان لمثل من وصفناه فقال: كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (1)و قال: إِنّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2).ف.

ص: 7


1- -القريحة ما جعله من كبار أئمة الأدب.مات سنة(255 ه)له ترجمة في:وفيات الأعيان 388/1، و طبقات الأدباء(254)،و تاريخ بغداد 214/12.
2- آية(3)سورة الزخرف.

ص: 8

فصل: في أن نبوة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم معجزتها القرآن

الذي يوجب الاهتمام التامّ بمعرفة إعجاز القرآن،أن نبوة نبينا عليه السّلام بنيت على هذه المعجزة.و إن كان قد أيّد بعد ذلك بمعجزات كثيرة،إلا أن تلك المعجزات قامت في أوقات خاصة،و أحوال خاصة،و على أشخاص خاصة،و نقل بعضها نقلا متواترا يقع به العلم وجودا.و بعضها مما نقل نقلا خاصا،إلا أنه حكى بمشهد من الجمع العظيم،أنهم شاهدوه.فلو كان الأمر على خلاف ما حكى،لأنكروه،أو لأنكره بعضهم،فحل محل المعنى الأول،و إن لم يتواتر أصل النقل فيه.و بعضها مما نقل من جهة الآحاد،و كان وقوعه بين يدي الآحاد.

فأما دلالة القرآن فهي عن معجزة عامة عمّت الثّقلين،و بقيت بقاء العصرين،و لزوم الحجة بها في أول وقت ورودها إلى يوم القيامة،على حدّ واحد،و إن كان قد يعلم بعجز أهل العصر الأول عن الإتيان بمثله،وجه دلالته،فيغني ذلك عن نظر مجدّد في عجز أهل هذا العصر عن الإتيان بمثله،و كذلك قد يغنى عجز أهل هذا العصر عن الإتيان بمثله،عن النظر في حال أهل العصر الأول.

و إنما ذكرنا هذا الفصل لما حكى عن بعضهم أنه زعم أنه و إن كان قد عجز عنه أهل العصر الأول،فليس أهل هذا العصر بعاجزين عنه.و يكفي عجز أهل العصر الأول في الدلالة أنهم خصّوا بالتحدّي،دون غيرهم.و نحن نبين خطأ هذا القول في موضعه.

فأما الذي يبين ما ذكرناه من أن اللّه تعالى،حين ابتعثه،جعل معجزته القرآن و بنى أمر نبوته عليه سور كثيرة،و آيات نذكر بعضها،و ننبه بالمذكور على غيره.فليس يخفى بعد التنبيه على طريقه،فمن ذلك قوله تعالى: الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)فأخبر أنه أنزله ليقع الاهتداء به،و لا يكون كذلك و إلا و هو حجة،و لا تكون حجة إن لم تكن معجزة.و قال عز و جل:

ص: 9


1- آية(1)سورة إبراهيم.

وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلامَ اللّهِ (1)آية(5)سورة غافر.(2) وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (3) و هذا بيّن جدا فيما قلناه من أنه جعله سببا لكونه منذرا.ثم أوضح ذلك بأن قال: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ .فلولا أن كونه بهذا اللسان حجة،لم يعقب كلامه الأول به.و ما من سورة افتتحت بذكر الحروف المقطعة،إلا و قد أشبع فيها بيان ما قلناه.و نحن نذكر بعضها لتستدل بذلك على ما بعده، و كثير من هذه السور إذا تأملته فهو من أوله إلى آخره مبني على لزوم حجة القرآن،و التنبيه على وجه معجزته.فمن ذلك سورة المؤمن قوله عز و جل: حم* تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (4)ثم وصف نفسه بما هو أهله من قوله: غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ (5)إلى أن قال: ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا (6)فدل على أن الجدال في تنزيله كفر و إلحاد.ثم أخبر بما وقع من تكذيب الأمم برسلهم،بقوله عز و جل:

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ الْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ (6) إلى آخر الآية.فتوعدهم بأنه آخذهم في الدنيا بذنبهم في تكذيب الأنبياء،ورد براهينهم،فقال: فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (7)ثم توعدهم بالنار فقال: وَ كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النّارِ (8)ثم عظم شأن المؤمنين بهذه الحجة،بما أخبر من استغفار الملائكة لهم،و ما وعدهم عليه من المغفرة،فقال: اَلَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَ اتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَ قِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (9).

فلولا أنه برهان قاهر،لم يذم الكفار على العدول عنه،و لم يحمد المؤمنين على المصير إليه.ثم ذكر تمام الآيات في دعاء الملائكة للمؤمنين،ثم عطف على وعيد الكافرين،فذكر آيات،ثم قال: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ (10)فأمر بالنظر في آياته و براهينه،ر.

ص: 10


1- آية
2- سورة التوبة.
3- آية(192،194)سورة الشعراء.
4- آية(1،2)سورة غافر.
5- آية(3)سورة غافر.
6- آية(4)سورة غافر.
7- الآية السابقة.
8- آية(6)سورة غافر.
9- آية(7)سورة غافر.
10- آية(13)سورة غافر.

إلى أن قال: رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (1)فجعل القرآن و الوحي به كالروح،لأنه يؤدي إلى حياة الأبد،و لأنه لا فائدة للجسد بدون الروح.فجعل هذا الروح سببا للإنذار،و علما عليه،و طريقا إليه،و لو لا أن ذلك برهان بنفسه،لم يصح أن يقع به الإنذار و الإخبار عما يقع عند مخالفته،و لم يكن الخبر عن الواقع في الآخرة عند ردّهم دلالته من الوعيد حجة،و لا معلوما صدقه،فكان لا يلزمهم قبوله.

فلما خلص من الآيات في ذكر الوعيد على ترك القبول،ضرب لهم المثل بمن خالف الآيات،و جحد الدلالات و المعجزات،فقال: أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ آثاراً فِي الْأَرْضِ،فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ، وَ ما كانَ لَهُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ واقٍ (2).

ثم بين أن عاقبتهم صارت إلى السوأى،بأن رسلهم كانت تأتيهم بالبينات و كانوا لا يقبلونها منهم.فعلم أن ما قدم ذكره في السورة بينه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.ثم ذكر قصة موسى و يوسف عليهما السلام،و مجيئهما بالبينات،و مخالفتهم حكمها،إلى أن قال: اَلَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللّهِ وَ عِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا،كَذلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبّارٍ (3).فأخبر أن جدالهم في هذه الآيات لا يقع بحجة،و إنما يقع عن جهل.و أن اللّه يطبع على قلوبهم،و يصرفهم عن تفهم وجه البرهان لجحودهم، و عنادهم،و استكبارهم.

ثم ذكر كثيرا من الاحتجاج على التوحيد.ثم قال تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللّهِ أَنّى يُصْرَفُونَ (4)ثم بين هذه الجملة،و أن من آياته الكتاب فقال: اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَ بِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (5)إلى أن قال: وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ (6)فدل على أن الآيات على ضربين:أحدهما كالمعجزات التي هي أدلة في دار التكليف،و الثاني الآيات التي ينقطع عندها العذر،و يقع عندها العلم الضروري،و أنها إذا جاءت،ارتفع التكليف و وجب الإهلاك.إلى أن قال: فَلَمْ يَكُد.

ص: 11


1- آية(15)سورة غافر.
2- آية(21)سورة غافر.
3- آية(35)سورة غافر.
4- آية(69)سورة غافر.
5- آية(70)سورة غافر.
6- آية(38)سورة الرعد.

يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمّا رَأَوْا بَأْسَنا (1) فأعلمنا أنه قادر على هذه الآيات،و لكنه إذا أقامها زال التكليف،و حقت العقوبة على الجاحدين.

كذلك ذكر في حم السجدة على هذا المنهاج الذي شرحناه،فقال عز و جل: حم.

تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. بَشِيراً وَ نَذِيراً (2) .

فلولا أنه جعله برهانا،لم يكن بشيرا و لا نذيرا،و لم يختلف بأن يكون عربيا مفصلا،أو بخلاف ذلك.ثم أخبر عن جحودهم و قلة قبولهم بقوله جلّ ذكره: فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (3)آية(4)سورة فصلت.(5)و لو لا أنه حجة لم يضرّهم الإعراض عنه،و ليس لقائل أن يقول:قد يكون حجة و يحتاج في كونه حجة إلى دلالة أخرى،كما أن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم حجة.و لكنه يحتاج إلى دلالة على صدقه و صحة نبوته،و ذلك أنه إنما احتجّ عليهم بنفس هذا التنزيل.و لم يذكر حجة غيره.

و يبين ذلك أنه قال عقيب هذا: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ (4)فأخبر أنه مثلهم لو لا الوحي،ثم عطف عليه بحمد المؤمنين به المصدقين له فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)آية(26)سورة فصلت(7)و معناه الذين آمنوا بهذا الوحي و التنزيل، و عرفوا هذه الحجة.

ثم تصرف في هذا الاحتجاج على الوحدانية،و القدرة إلى أن قال: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ (6)،فتوعدهم بما أصاب من قبلهم من المكذبين بآيات اللّه من قوم عاد و ثمود في الدنيا.ثم توعّدهم بأمر الآخرة فقال: وَ يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللّهِ إِلَى النّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (8)،إلى انتهاء ما ذكره فيه.ثم رجع إلى ذكر القرآن،فقال: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (8).

ثم أثنى بعد ذلك على من تلقاه بالقبول فقال: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوالت

ص: 12


1- آية(85)سورة غافر.
2- آية(1:4)سورة فصلت.
3- آية
4- آية(13)سورة فصلت.
5- سورة فصلت.
6- آية
7- سورة فصلت.
8- آية(19)سورة فصلت.

تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاّ تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا (1) ثم قال جلّ ذكره: وَ إِمّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (2)و هذا ينبه على أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يعرف إعجاز القرآن،و أنه دلالة له على جهة الاستدلال لأن الضروريات لا يقع فيها نزغ الشيطان.

و نحن نبين ما يتعلق بهذا الفصل في موضعه ثم قال: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا (3)إلى أن قال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمّا جاءَهُمْ وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ (4)و هذا و إن كان متأولا على أنه لا يوجد فيه غير الحق،مما يتضمنه من أقاصيص الأولين،و أخبار المرسلين،و كذلك لا يوجد خلاف فيما يتضمنه من الإخبار عن الغيوب،و عن الحوادث التي أنبأ أنها تقع في الآتي،فلا يخرج عن أن يكون متأولا على ما يقتضيه نظام الخطاب،من أنه لا يأتيه ما يبطله من شبهة سابقة تقدح في معجزته،أو تعارضه في طريقه.

و كذلك لا يأتيه من بعده قط أمر يشكك في وجه دلالته و إعجازه.و هذا أشبه بسياق الكلام و نظامه،ثم قال: وَ لَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَ عَرَبِيٌّ (5)فأخبر أنه لو كان أعجميا،لكانوا يحتجون في رده إما بأن ذلك خارج عن عرف خطابهم،و كانوا يعتذرون بذهابهم عن معرفة معناه،و بأنهم لا يبين لهم وجه الإعجاز فيه، لأنه ليس من شأنهم و لا من لسانهم.أو بغير ذلك من الأمور،و أنه إذا تحداهم إلى ما هو من لسانهم و شأنهم فعجزوا عنه،وجبت الحجة عليهم به،على ما نبينه في وجه هذا الفصل إلى أن قال: قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (6).

و الذي ذكرنا من نظم هاتين السورتين،ينبه على غيرهما من السور،فكرهنا سرد القول فيها.فليتأمل المتأمل ما دللناه عليه يجده كذلك.ثم مما يدل على هذا قوله عز و جل: وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللّهِ وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَ وَ لَمْت.

ص: 13


1- آية(30)سورة فصلت.
2- آية(36)سورة فصلت.
3- آية(40)سورة فصلت.
4- آية(41)سورة فصلت.
5- آية(44)سورة فصلت.
6- آية(52)سورة فصلت.

يَكْفِهِمْ أَنّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ (1) فأخبر أن الكتاب آية من آياته،و علم من أعلامه و أن ذلك يكفي في الدلالة،و يقوم مقام معجزات غيره،و آيات سواه من الأنبياء، صلوات اللّه عليهم.و يدل عليه قوله عز و جل: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً. اَلَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ (2)و قوله: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللّهِ كَذِباً،فَإِنْ يَشَإِ اللّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَ يَمْحُ اللّهُ الْباطِلَ وَ يُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ (3)فدل على أنه جعل قلبه مستودعا لوحيه،و مستنزلا لكتابه،و أنه لو شاء صرف ذلك إلى غيره.و كان له حكم دلالته على تحقيق الحق،و إبطال الباطل،مع صرفه عنه.و لذلك أشباه كثيرة تدل على نحو الدلالة التي وصفناها،فبان بهذا و نظائره ما قلناه من أن بناء نبوته(صلّى اللّه عليه و سلّم)على دلالة القرآن و معجزته،و صار له من الحكم في دلالته على نفسه،و صدقه،أنه يمكن أن يعلم أنه كلام اللّه تعالى،و فارق حكمه حكم غيره من الكتب المنزلة على الأنبياء،لأنها لا تدل على أنفسها إلا بأمر زائد،و وصف مضاف إليها،لأن نظمها ليس معجزا،و إن كان ما يتضمنه من الإخبار عن الغيوب معجزا.

و ليس كذلك القرآن؛لأنه يشاركها في هذه الدلالة و يزيد عليها في أن نظمه معجز فيمكن أن يستدل به عليه،و حل في هذا من وجه محل سماع الكلام من القديم سبحانه و تعالى،لأن موسى عليه السلام لما سمع كلامه علم أنه في الحقيقة كلامه.

و كذلك من يسمع القرآن يعلم أنه كلام اللّه،و إن اختلف الحال في ذلك من بعض الوجوه،لأن موسى عليه السلام سمعه من اللّه عز و جل،و أسمعه نفسه متكلما،و ليس كذلك الواحد منا.و كذلك قد يختلفان في غير هذا الوجه،و ليس ذلك قصدنا بالكلام في هذا الفصل.

و الذي نرومه الآن ما بيّنا من اتفاقهما في المعنى الذي وصفنا،و هو أنه عليه السلام يعلم أن ما يسمعه كلام اللّه من جهة الاستدلال.و كذلك نحن نعلم ما نقرؤه من هذا على جهة الاستدلال.ى.

ص: 14


1- آية(50-51)سورة العنكبوت.
2- آية(1،2)سورة الفرقان.
3- آية(24)سورة الشورى.

فصل: في الدلالة على أنّ القرآن معجزة

قد ثبت في الفصل الأول أن نبوة نبينا صلّى اللّه عليه و سلّم،مبنية على دلالة معجزة القرآن،فيجب أن نبين وجه الدلالة،من ذلك قد ذكر العلماء،أن الأصل في هذا هو أن تعلم أن القرآن الذي هو متلو محفوظ مرسوم في المصاحف،هو الذي جاء به النبي صلّى اللّه عليه و سلّم.و أنه هو الذي تلاه على من في عصره ثلاثا و عشرين سنة.

و الطريق إلى معرفة ذلك،هو النقل المتواتر (1)الذي يقع عنده العلم الضروري به.

و ذلك أنه قام به في الموقف،و كتب به إلى البلاد،و تحمله عنه إليها من تابعه،و أورده على غيره من لم يتابعه،حتى ظهر فيهم الظهور الذي لا يشتبه على أحد.و لا يحتمل أنه قد خرج من أتى بقرآن يتلوه،و يأخذه على غيره،و يأخذ غيره على الناس،حتى انتشر ذلك في أرض العرب كلها،و تعدى إلى الملوك المعاقبة لهم،كملك الروم و العجم و القبط و الحبش، و غيرهم من ملوك الأطراف.

و لما ورد ذلك مضادّا لأديان أهل ذلك العصر كلهم،و مخالفا لوجوه اعتقاداتهم المختلفة في الكفر،وقف جميع أهل الخلاف على جملته،و وقف جميع أهل دينه الذين أكرمهم اللّه بالإيمان على جملته و تفاصيله،و تظاهر بينهم،حتى حفظه الرجال،و تنقّلت به الرّحال،و تعلّمه الكبير و الصغير،إذ كان عمدة دينهم،و علما عليه،و المفروض تلاوته في صلواتهم،و الواجب استعماله في أحكامهم.

ثم تناقله خلف عن سلف.هم مثلهم في كثرتهم و توفر دواعيهم على نقله،حتى

ص: 15


1- قال البلقيني:«اعلم أنّ القراءات تنقسم إلى متواتر و شاذ. فالمتواتر:القراءات السبع المشهورة،و المراد بذلك:ما قرءوه من الحركات و الحروف دون ما كان من قبيل تأدية اللفظ من أنواع الإمالة و المدّ و التخفيف فليس بمتواتر.نعم أصل المدّ و الإمالة و التخفيف متواتر لاشتراك القراء فيه. و أما ما عدا السبعة من قراءة أبي جعفر يزيد بن القعقاع و يعقوب و اختيارات خلف التي هي تمام العشر فإنها ليست من المتواتر على الأرجح».التحبير ص(129).

انتهى إلينا على ما وصفناه من حاله.فلن يتشكّك أحد،و لا يجوز أن يتشكك،مع وجود هذه الأسباب،في أنه أتى بهذا القرآن من عند اللّه تعالى.فهذا أصل،و إذا ثبت هذا الأصل وجودا فإنا نقول:إنه تحدّاهم إلى أن يأتوا بمثله،و قرّعهم على ترك الإتيان به طول السنين التي وصفناها.فلم يأتوا بذلك.

و الذي يدل على هذا الأصل،أنا قد علمنا أن ذلك مذكور في القرآن في المواضع الكثيرة؛كقوله: وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النّاسُ وَ الْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (1).و كقوله: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللّهِ وَ أَنْ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (2).

فجعل عجزهم عن الإتيان بمثله،دليلا على أنه منه،و دليلا على وحدانيته.و ذلك يدل عندنا على بطلان قول من زعم أنه لا يمكن أن يعلم بالقرآن الوحدانية،و زعم أن ذلك مما لا سبيل إليه،إلا من جهة العقل.لأن القرآن كلام اللّه عز و جل،و لا يصح أن يعلم الكلام حتى يعلم المتكلم أولا.

فقلنا:إذا ثبت بما نبيّنه إعجازه،و أن الخلق لا يقدرون عليه،ثبت أن الذي أتى به غيرهم،و أنه إنما يختصّ بالقدرة عليه،من يختصّ بالقدرة عليهم،و أنه صدق،و إذا كان كذلك كان ما يتضمنه صدقا.و ليس إذا أمكن معرفته من جهة العقل،امتنع أن يعرف من الوجهين.و ليس الغرض تحقيق القول في هذا الفصل لأنه خارج عن مقصود كلامنا،و لكنّا ذكرناه من جهة دلالة الآية عليه.

و من ذلك قوله عز و جل: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (3)و قوله: أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ. فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (4)فقد ثبت بما بيناه أنه تحداهم إليه،و لم يأتوا بمثله.

و في هذا أمران:أحدهما التحدي إليه؛و الآخر أنهم لم يأتوا له بمثل.و الذي يدلر.

ص: 16


1- آية(23،24)سورة البقرة.
2- آية(13،14)سورة هود.
3- آية(88)سورة الإسراء.
4- آية(33،34)سورة الطور.

على ذلك النقل المتواتر الذي يقع به العلم الضروري،فلا يمكن جحود واحد من هذين الأمرين.

و إن قال قائل:لعله لم يقرأ عليهم الآيات التي فيها ذكر التحدي،و إنما قرأ عليهم ما سوى ذلك من القرآن،كان كذلك قولا باطلا،يعلم بطلانه مثل ما يعلم به بطلان قول من زعم أن القرآن أضعاف هذا!و هو يبلغ حمل جمل!و إنه كتم،و سيظهره المهدي!!أو يدّعى أن هذا القرآن ليس هو الذي جاء به النبي صلّى اللّه عليه و سلّم،و إنما هو شيء وضعه عمر (1)أو عثمان (2)رضي اللّه عنهما،حيث وضع المصحف.أو يدعى فيه زيادة أو نقصانا.

و قد ضمن اللّه حفظ كتابه أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه،و وعده الحق، و حكاية قولة من قال ذلك يغني عن الردّ عليه،لأن العدد الذين أخذوا القرآن في الأمصار، و في البوادي،و في الأسفار،و الحضر،و ضبطوه حفظا من بين صغير و كبير،و عرفوه حتى صار لا يشتبه على أحد منهم حرف،لا يجوز عليهم السهو و النسيان،و لا التخليط فيه و الكتمان.

و لو زادوا و نقصوا أو غيّروا لظهر.و قد علمت أن شعر امرئ القيس (3)و غيره لا يجوز أن يظهر ظهور القرآن،و لا أن يحفظ كحفظه،و لا أن يضبط كضبطه،و لا أن تمسّ الحاجة إليه مساسها إلى القرآن،لو زيد فيه بيت أو نقص منه بيت.لا بل لو غير فيه لفظ لتبرأ منه أصحابه.و أنكره أربابه.

فإذا كان ذلك مما لا يمكن في شعر امرئ القيس و نظرائه،مع أن الحاجة إليه تقطع لحفظ العربية،فكيف يجوز أو يمكن ما ذكروه في القرآن،مع شدة الحاجة إليه في أصل الدين،ثم في الأحكام و الشرائع،و اشتمال الهمم المختلفة على ضبطه.

فمنهم من يضبطه لإحكام قراءته،و معرفة وجوهها،و صحة أدائها.

و منهم من يحفظه للشرائع،و الفقه.).

ص: 17


1- عمر هو:ابن الخطاب بن نفيل بن رياح القرشي العدوي أمير المؤمنين.كان من قديمي الإسلام و الهجرة،و ممن صلى إلى القبلتين،و شهد المشاهد كلها،و أخباره في العلم و الحلم و الفهم أكثر من أن تحصر.له ترجمة في:أسد الغابة 145/4،و الإصابة 511/2،و النجوم الزاهرة 78/1.
2- عثمان هو:ابن عفان بن أبي العاص بن أمية القرشي الأموي المكي.كان من السابقين الأولين و ممن صلى إلى القبلتين،و هاجر الهجرتين،ثم إنه أحد العشرة المبشرين بالجنة.له ترجمة في:أسد الغابة 584/3،و الإصابة 455/2،و النجوم الزاهرة 92/1.
3- امرؤ القيس هو:ابن حجر الكندي.كان أشرف شعراء الجاهلية و أشهرهم،و أرفعهم منزلة.مات سنة (540 م).له ترجمة في:خزانة الأدب 532/3،و الشعر و الشعراء ص(37).

و منهم من يضبطه ليعرف تفسيره و معانيه.

و منهم من يقصد بحفظه الفصاحة و البلاغة.و من الملحدين من يحصّله لينظر في عجيب شأنه.

و كيف يجوز على أهل هذه الهمم المختلفة،و الآراء المتباينة على كثرة أعدادهم، و اختلاف بلادهم،و تفاوت أغراضهم،أن يجتمعوا على التغيير و التبديل و الكتمان؟ و يبين ذلك أنك إذا تأملت ما ذكر في أكثر السور مما بينا،و من نظائره في رد قومه عليه ورد غيرهم،و قولهم لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا (1)،و قول بعضهم: ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (2)،إلى الوجوه التي يصرف إليها قولهم في الطعن عليه.

فمنهم من يستهين بها و يجعل ذلك سببا لتركه الإتيان بمثله.

و منهم من يزعم أنه مفترى،فلذلك لا يأتي بمثله.

و منهم من يزعم أنه دارس،و أنه أساطير الأولين.و كرهنا أن نذكر كل آية تدل على تحديه لئلا يقع التطويل.و لو جاز أن يكون بعضه مكتوما،جاز على كله.و لو جاز أن يكون بعضه موضوعا،جاز ذلك في كله.فثبت بما بيناه،أنه تحدّاهم و أنهم لم يأتوا بمثله.

و هذا الفصل قد بينا أن الجميع قد ذكروه،و بنوا عليه،فإذا ثبت هذا،وجب أن يعلم بعده أن تركهم للإتيان بمثله،كان لعجزهم عنه.و الذي يدل على أنهم كانوا عاجزين عن الإتيان بمثل القرآن،أنه تحداهم إليه حتى طال التحدي.و جعله دلالة على صدقه،و نبوّته، و تضمّن أحكامه استباحة دمائهم و أموالهم،و سبى ذريتهم.فلو كانوا يقدرون على تكذيبه لفعلوا و توصلوا إلى تخليص أنفسهم و أهليهم و أموالهم من حكمه،بأمر قريب،هو عادتهم في لسانهم،و مألوف من خطابهم.و كان ذلك يغنيهم عن تكلف القتال و إكثار المراء و الجدال،و عن الجلاء عن الأوطان،و عن تسليم الأهل و الذرية للسبى.

فلما لم يحصل هناك معارضة منهم علم أنهم عاجزون عنها يبيّن ذلك أن العدو يقصد لدفع قول عدوه بكل ما قدر عليه،من المكايد،لا سيما مع استعظامه ما أبدعه بالمجيء من خلع آلهته،و تسفيه رأيه في ديانته،و تضليل آبائه،و التغريب عليه بما جاء به،و إظهار أمر يوجب الانقياد لطاعته،و التصرف على حكم إرادته،و العدول عن إلفه و عادته،و الانخراط في سلك الأتباع بعد أن كان متبوعا،و التشييع بعد أن كان مشيّعا،و تحكيم الغير في ماله و تسليطه إياه على جملة أحواله،و الدخول تحت تكاليف شاقة،و عبادات متعبة بقوله.و قدص.

ص: 18


1- آية(32)سورة الأنفال.
2- آية(7)سورة ص.

علم أن بعض هذه الأحوال مما يدعو إلى سلب النفوس دونه.

هذا و الحميّة حميتهم،و الهمم الكبيرة هممهم.و قد بذلوا له السيف و أخطروا بنفوسهم و أموالهم.فكيف يجوز أن لا يتوصلوا إلى الرد عليه،و إلى تكذيبه بأهون سعيهم، و مألوف أمرهم.و ما يمكن تناوله من غير أن يعرق فيه جبين،أو يشتغل به خاطر،و هو لسانهم الذي يتخاطبون به،مع بلوغهم في الفصاحة النهاية التي ليس وراءها مطلع و الرتبة التي ليس وراءها منزع،و معلوم أنهم لو عارضوه بما تحداهم إليه لكان فيه توهين أمره، و تكذيب قوله،و تفريق جمعه،و تشتيت أسبابه.و كان من صدق به يرجع على أعقابه، و يعود في مذهب أصحابه،فلما لم يفعلوا شيئا من ذلك مع طول المدة،و وقوع الفسحة، و كان أمره يتزايد حالا فحالا،و يعلو شيئا فشيئا،و هم على العجز عن القدح في آيته، و الطعن في دلالته،علم مما بينا أنهم كانوا لا يقدرون على معارضته،و لا على توهين حجته.

و قد أخبر اللّه تعالى عنهم أنهم قوم خصمون،و قال: وَ تُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (1)و قال:

خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (2)آية(36)سورة القصص.(3) و علم أيضا أن ما كانوا يقولونه من وجوه اعتراضهم على القرآن مما حكى اللّه عز و جل عنهم من قولهم: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (4)و قولهم: ما هذا إِلاّ سِحْرٌ مُفْتَرىً،وَ ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (4)و قالوا: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (5)آية(3)سورة الأنبياء.(6)و قالوا: أَ فَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (6)و قالوا: أَ إِنّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (7)و قال الذين كفروا: إِنْ هَذا إِلاّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَ أَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ (8)فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَ زُوراً.

وَ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً (9) و قوله سبحانه: وَ قالَ الظّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاّ رَجُلاً مَسْحُوراً (10)و قوله: اَلَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَن.

ص: 19


1- آية(97)سورة مريم.
2- آية
3- سورة النحل.
4- آية(31)سورة الأنفال.
5- آية
6- سورة الحجر.
7- آية(36)سورة الصافات.
8- آية(4)سورة الفرقان.
9- آية(5)سورة الفرقان.
10- آية(8)سورة الفرقان.

عِضِينَ (1) .

إلى آيات كثيرة في نحو هذا،تدل على أنهم كانوا متحيرين في أمرهم،متعجبين من عجزهم،يفزعون إلى نحو هذه الأمور من تعليل،و تعذير،و مدافعة،بما وقع التحدي إليه،و عرف الحث عليه.

و قد علم منهم أنهم ناصبوه الحرب،و جاهروه و نابذوه و قطعوا الأرحام،و أخطروا بأنفسهم،و طالبوه بالآيات،و الإتيان بغير ذلك من المعجزات،يريدون تعجيزه ليظهروا عليه بوجه من الوجوه.

فكيف يجوز أن يقدروا على معارضته القريبة السهلة عليهم،و ذلك يدحض حجّته و يفسد دلالته،و يبطل أمره،فيعدلون عن ذلك إلى سائر ما صاروا إليه من الأمور التي ليس عليها مزيد في المنابذة و المعاداة،و يتركون الأمر الخفيف؟ هذا مما يمتنع وقوعه في العادات،و لا يجوز إتقانه من العقلاء.و إلى هذا قد استقصى أهل العلم الكلام،و أكثروا في هذا المعنى و أحكموه.و يمكن أن يقال:إنهم لو كانوا قادرين على معارضته،و الإتيان بمثل ما أتى به،لم يجز أن يتفق منهم ترك المعارضة، و هم على ما هم عليه من الذرابة و السلاقة و المعرفة بوجوه الفصاحة.و هو يستطيل عليهم بأنهم عاجزون عن مباراته،و إنهم يضعفون عن مجاراته،و يكرر فيما جاء به ذكر عجزهم عن مثل ما يأتى به،و يقرعهم و يؤنبهم عليه،و يدرك آماله فيهم،و ينجح ما يسعى له بتركهم المعارضة.

و هو يذكر فيما يتلوه تعظيم شأنه و تفخيم أمره،حتى يتلو قوله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (2)و قوله: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا فَاتَّقُونِ (3)و قوله: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (4)و قوله:

إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ (5) و قوله: إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ وَ سَوْفَر.

ص: 20


1- آية(91)سورة الحجر.
2- آية(88)سورة الإسراء.
3- آية(2)سورة النحل.
4- آية(87)سورة الحجر.
5- آية(9)سورة الحجر.

تُسْئَلُونَ (1) و قوله: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2)و قوله: اَللّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللّهِ (3)إلى.

غير ذلك من الآيات التي تتضمن تعظيم شأن القرآن،فمنها ما يتكرر في السورة في مواضع منها،و منها ما ينفرد فيها.و ذلك مما يدعوهم إلى المباراة،و يحضّهم على المعارضة،و إن لم يكن متحديا إليه.

أ لا ترى أنهم قد كان ينافر شعراؤهم بعضهم بعضا و لهم في ذلك مواقف معروفة، و أخبار مشهورة،و أيام منقولة،و كانوا يتنافسون على الفصاحة و الخطابة و الذلاقة، و يتبجحون بذلك و يتفاخرون بينهم.فلن يجوز و الحالة هذه،أن يتغافلوا عن معارضته لو كانوا قادرين عليها،تحداهم إليها أو لم يتحداهم.

و لو كان هذا القبيل مما يقدر عليه البشر،لوجب في ذلك أمر آخر،و هو أنه لو كان مقدورا للعباد لكان قد اتفق إلى وقت مبعثه من هذا القبيل ما كان يمكنهم أن يعارضوه به.

و كانوا لا يفتقرون إلى تكلف وضعه،و تعمل نظمه في الحال.

فلما لم نرهم احتجوا عليه بكلام سابق،و خطبة متقدمة،و رسالة سالفة،و نظم بديع،و لا عارضوه به،فقالوا هذا أفصح مما جئت به،و أغرب منه،أو هو مثله،علم أنه لم يكن إلى ذلك سبيل،و أنه لم يوجد له نظير.و لو كان وجد له مثل لكان ينقل إلينا، و لعرفناه كما نقل إلينا أشعار أهل الجاهلية،و كلام الفصحاء و الحكماء من العرب،و أدى إلينا كلام الكهان و أهل الرجز و السجع و القصيد و غير ذلك من أنواع بلاغاتهم و صنوف فصاحاتهم.

فإن قيل الذي بنى عليه الأمر في تثبيت معجزة القرآن،أنه وقع التحدي إلى الإتيان بمثله،و أنهم عجزوا عنه بعد التحدي إليه.فإذا نظر الناظر و عرف وجه النقل المتواتر في هذا الباب،وجب له العلم بأنهم كانوا عاجزين عنه،و ما ذكرتم يوجب سقوط تأثير التحدي.و أن ما أتى به قد عرف العجز عنه بكل حال.

قيل:إنما احتيج إلى التحدّي لإقامة الحجة و إظهار وجه البرهان،لأن المعجزة إذا ظهرت فإنما تكون حجة،بأن يدعيها من ظهرت عليه،و لا تظهر على مدّع لها إلا و هي معلومة أنها من عند اللّه.فإذا كان يظهر وجه الإعجاز فيها للكافة،بالتحدي وجب فيهار.

ص: 21


1- آية(44)سورة الزخرف.
2- آية(2)سورة البقرة.
3- آية(23)سورة الزمر.

التحدي،لأنه تزول بذلك الشبهة عن الكل،و ينكشف للجميع أن العجز واقع عن المعارضة.

و إلا فإن مقتضى ما قدمناه من الفصل أن من كان يعرف وجوه الخطاب،و يتقن مصارف الكلام،و كان كاملا في فصاحته،جامعا للمعرفة بوجوه الصناعة،لو أنه احتج عليه بالقرآن،و قيل له إن الدلالة على النبوة و الآية على الرسالة ما أتلوه عليك منه،لكان ذلك بلاغا في إيجاب الحجة،و تماما في إلزامه فرض المصير إليه.

و مما يؤكد هذا،أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم،قد دعا الآحاد إلى الإسلام محتجا عليهم بالقرآن؛لأنّا نعلم أنه لم يلزمهم تصديقه تقليدا.و نعلم أن السابقين الأولين إلى الإسلام لم يقلدوه.

و إنما دخلوا على بصيرة.و لم نعلمه قال لهم ارجعوا إلى جميع الفصحاء،فإن عجزوا عن الإتيان بمثله فقد ثبتت حجتي.بل لما رآهم يعلمون إعجازه،ألزمهم حكمه،فقبلوه و تابعوا الحق،و بادروا إليه مستسلمين،و لم يشكوا في صدقه،و لم يرتابوا في وجه دلالته.فمن كانت بصيرته أقوى،و معرفته أبلغ كان إلى القبول منه أسبق.و من اشتبه عليه وجه الإعجاز،و اشتبه عليه بعض شروط المعجزات،و أدلة النبوات كان أبطأ إلى القبول،حتى تكاملت أسبابه،و اجتمعت له بصيرته،و ترادفت عليه موادّه.

و هذا فصل يجب أن يتمّم القول فيه بعد،فليس هذا بموضع له،و يبين ما قلناه أن هذه الآية علم يلزم الكل قبوله،و الانقياد له.و قد علمنا تفاوت الناس في إدراكه و معرفة وجه دلالته،لأن الأعجمي لا يعلم أنه معجز إلا بأن يعلم عجز العرب عنه.و هو يحتاج في معرفة ذلك إلى أمور لا يحتاج إليها من كان من أهل صنعة الفصاحة.فإذا عرف عجز أهل الصنعة حل محلهم،و جرى مجراهم،في توجه الحجة عليه.

و كذلك لا يعرف المتوسط من أهل اللسان من هذا الشأن،ما يعرفه العالي في هذه الصنعة.فربما حل في ذلك محل الأعجمى في أن لا يتوجه عليه الحجة.حتى يعرف عجز المتناهي في الصنعة عنه.و كذلك لا يعرف المتناهي في معرفة الشعر وحده،أو الغاية في معرفة الخطب،أو الرسائل وحدها غور هذا الشأن،ما يعرف من استكمل معرفة جميع تصاريف الخطاب،و وجوه الكلام و طرق البراعة،فلا تكون الحجة قائمة على المختص ببعض هذه العلوم بانفرادها،دون تحققه بعجز البارع في هذه العلوم كلها عنه.

فأما من كان متناهيا في معرفة وجوه الخطاب،و طرق البلاغة و الفنون التي يمكن فيها إظهار الفصاحة،فهو متى سمع القرآن عرف إعجازه،و إن لم نقل ذلك أدى هذا القول إلى أن يقال إن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم لم يعرف إعجاز القرآن حين أوحي إليه،حتى سبر الحال بعجز أهل

ص: 22

اللسان عنه،و هذا خطأ من القول.فصحّ من هذا الوجه،أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم،حين أوحى إليه القرآن عرف كونه معجزا،و بأن قيل له إنه دلالة و علم على نبوتك أنه كذلك،من قبل أن يقرأه على غيره أو يتحدى إليه سواه.

و لذلك قلنا:إن المتناهي في الفصاحة و العلم،بالأساليب التي يقع فيها التفاصح، متى سمع القرآن عرف أنه معجز،لأنه يعرف من حال نفسه أنه لا يقدر عليه،و يعرف من حال غيره،مثل ما يعرف من حال نفسه،فيعلم أن عجز غيره كعجزه هو،و إن كان يحتاج بعد هذا إلى استدلال آخر على أنه علم على نبوة،و دلالة على رسالة،بأن يقال له إن هذه آية لنبيه،و إنما ظهرت عليه و ادعاها معجزة له و برهانا على صدقه.

فإن قيل:فإن من الفصحاء من يعلم عجز نفسه عن قول الشعر،و لا يعلم مع ذلك عجز غيره عنه.فكذلك التبليغ.و إن علم عجز نفسه عن مثل القرآن فهو قد يخفى عليه عجز غيره.قيل هو مع مستقر العادة،و إن عجز عن قول الشعر و علم أنه معجز فإنه يعلم أن الناس لا ينفكون من وجود الشعراء فيهم.و متى علم البليغ المتناهي في صنوف البلاغات عجزه عن القرآن،علم عجز غيره لأنه كهو،لأنه يعلم أن حاله و حال غيره في هذا الباب سواء،إذ ليس في العادة مثل للقرآن يجوز أو يعلم قدرة أحد من البلغاء عليه.

فإذا لم يكن لذلك مثل في العادة،و عرف هذا الناظر جميع أساليب الكلام و أنواع الخطاب،و وجد القرآن مباينا لها،علم خروجه عن العادة،و جرى مجرى ما يعلم أن إخراج اليد البيضاء من الجيب خارج عن العادات،فهو لا يجوزه من نفسه،و كذلك لا يجوز وقوعه من غيره إلا على وجه نقض العادة.بل يرى وقوعه موقع المعجزة،و هذا و إن كان يفارق فلق البحر،و إخراج اليد البيضاء.و نحو ذلك من وجه.و هو أن يستوي الناس في معرفة عجزهم عنه،فكونه ناقضا للعادة من غير تأمل شديد،و لا نظر بعيد.

فإن النظر في معرفة إعجاز القرآن يحتاج إلى تأمل،و يفتقر إلى مراعاة مقدمات، و الكشف عن أمور نحن ذاكروها بعد هذا الموضع.فكل واحد منها يؤول إلى مثل حكم صاحبه في الجمع الذي قدمنا.و مما يبين ما قلناه من أن البليغ المتناهي في وجوه الفصاحة،يعرف إعجاز القرآن.و تكون معرفته حجة عليه إذا تحدى إليه و عجز عن مثله.

و إن لم ينتظر وقوع التحدي في غيره.و ما الذي يصنع ذلك الغير،و هو ما روي في الحديث:أن جبير (1)بن مطعم ورد على النبي صلّى اللّه عليه و سلّم،في معنى حليف له أراد أن يفاديه فدخلض-

ص: 23


1- جبير بن مطعم بن عدي القرشي النوفلي المكي ثم المدني.أسلم يوم الفتح،و قيل قبلها،و حسن إسلامه،و كان سيدا حكيما وقورا.مات بالمدينة سنة(58)أو(59).له ترجمة في:الرياض-

و النبي صلّى اللّه عليه و سلّم،يقرأ سورة: وَ الطُّورِ وَ كِتابٍ مَسْطُورٍ (1)في صلاة الفجر،قال:فلما انتهى إلى قوله: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (2)أبو سفيان بن حرب بن أمية القرشي الأموي المكي.ولد قبل الفيل بعشر سنين،و كان شيخ مكة، و رئيس قريش.مات بالمدينة سنة(31)أو(32).له ترجمة في:الرياض المستطابة ص (128-129).(3)قال:خشيت أن يدركني العذاب فأسلم.و في حديث آخر أن عمر (4)بن الخطاب رضي اللّه عنه سمع سورة طه فأسلم.

و قد روي أن قوله عز و جل في أول حم«السجدة»إلى قوله: فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (5)نزلت في شيبة و عتبة ابني ربيعة و أبي سفيان بن حرب و أبي جهل.و ذكر أنهم بعثوا هم و غيرهم من وجوه قريش بعتبة بن ربيعة إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم ليكلمه،و كان حسن الحديث،عجيب الشأن،بليغ الكلام،و أرادوا أن يأتيهم بما عنده،فقرأ النبي صلّى اللّه عليه و سلّم سورة حم السجدة من أولها حتى انتهى إلى قوله: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ (6)فوثب مخافة العذاب،فاستحكوه ما سمع،فذكر أنه لم يسمع منه كلمة واحدة، و لا اهتدى لجوابه،و لو كان ذلك من جنس كلامهم لم يخف عليه وجه الاحتجاج و الرد.

فقال عثمان (7)بن مظعون لتعلموا أنه من عند اللّه إذ لم يهتد لجوابه.

و أبين من ذلك قول اللّه عز و جل: وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلامَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ (8)فجعل سماعه حجة عليه بنفسه،فدل على أن فيهم من يكون سماعه إياه حجة عليه.

فإن قيل:لو كان ما قلتم لوجب أن يكون حال الفصحاء الذين كانوا في عصر النبي صلّى اللّه عليه و سلّم على طريقة واحدة في إسلامهم عند سماعه،قيل:لا يجب ذلك،لأن صوارفهم كانت كثيرة،منها أنهم كانوا يشكّون،منهم من يشك في إثبات الصانع،و فيهم من يشك في التوحيد،و فيهم من يشك في النبوة،أ لا ترى أن أبا سفيان (8)بن حرب لما جاء إلى رسول).

ص: 24


1- -المستطابة ص(48).
2- آية
3- سورة الطور.
4- سبقت ترجمته.
5- آية(4)سورة فصلت.
6- آية(13)سورة فصلت.
7- عثمان بن مظعون.قال ابن إسحاق:أسلم بعد ثلاثة عشر رجلا،و هاجر إلى الحبشة.له ترجمة في: الإصابة 464/2.
8- آية(6)سورة التوبة.

اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ليسلم عام الفتح،قال له النبي عليه السلام:أما آن لك أن تشهد أن لا إله إلا اللّه؟ قال:بلى،فشهد.قال:أما آن لك أن تشهد أني رسول اللّه؟قال:أما هذه ففي النفس منها شيء.فكانت وجوه شكوكهم مختلفة.و طرق شبههم متباينة،فمنهم من قلت شبهه، و تأمل الحجة حق تأملها و لم يستكبر فأسلم.و منهم من كبرت شبهه،و أعرض عن تأمل الحجة حق تأملها،أو لم يكن في البلاغة على حدود النهاية،فتطاول عليه الزمان إلى أن نظر و استبصر،و راعى و اعتبر،و احتاج إلى أن يتأمل عجز غيره عن الإتيان بمثله،فلذلك وقف أمره.

و لو كانوا في الفصاحة على مرتبة واحدة،و كانت صوارفهم و أسبابهم متفقة،لتوافقوا إلى القبول جملة واحدة.فإن قيل:فكيف يعرف البليغ الذي وصفتموه:إعجاز القرآن؟و ما الوجه الذي يتطرق به إليه؟و المنهاج الذي يسلكه حتى يقف به على جلية الأمر فيه؟قيل:

هذا سبيله أن يفرد له فصل،فإن قيل:فلم زعمتم أن البلغاء عاجزون عن الإتيان بمثله مع قدرتهم على صنوف البلاغات و تصرفهم في أجناس الفصاحات؟و هلا قلتم:إن من قدر على جميع هذه الوجوه البديعة،و توجه من هذه الطرق الغريبة،كان على مثل نظم القرآن قادرا،و إنما يصرفه اللّه عنه ضربا من الصرف،أو يمنعه من الإتيان بمثله،ضربا من المنع، أو تقصر دواعيه دونه مع قدرته عليه ليتكامل ما أراده اللّه من الدلالة،و يحصل ما قصده من إيجاب الحجة.لأن من قدر على نظم كلمتين بديعتين لم يعجز عن نظم مثلها.و إذا قدر على ذلك قدر على ضم الثانية إلى الأولى،و كذلك الثالثة حتى يتكامل قدر الآية و السورة.

فالجواب أنه لو صح ذلك،صح لكل من أمكنه نظم ربع بيت،أو مصراع من بيت،أن ينظم القصائد و يقول الأشعار.و صح لكل ناطق قد يتفق في كلامه الكلمة البديعة،نظم الخطب البليغة،و الرسائل العجيبة،و معلوم أن ذلك غير سائغ،و لا ممكن.

على أن ذلك لو لم يكن معجزا على ما وصفناه من جهة نظمه الممتنع،لكان مهما حط من رتبة البلاغة فيه،و وضع من مقدار الفصاحة في نظمه كان أبلغ في الأعجوبة،إذا صرفوا عن الإتيان بمثله،و منعوا عن معارضته و عدلت دواعيهم عنه.فكان يستغني عن إنزاله على النظم البديع،و إخراجه في المعرض الفصيح العجيب،على أنه لو كانوا صرفوا على ما ادعاه لم يكن من قبلهم من أهل الجاهلية مصروفين عما كان يعدل به في الفصاحة و البلاغة و حسن النظم و عجيب الرصف،لأنهم لم يتحدوا إليه و لم يلزمهم حجته.فلما لم يوجد في كلام من قبله مثله علم أن ما ادعاه القائل بالصرفة ظاهر البطلان.

و فيه معنى آخر،و هو:أن أهل الصنعة في هذا الشأن إذا سمعوا كلاما مطمعا لم يخف عليهم،و لم يشتبه لديهم.و من كان متناهيا في فصاحته،لم يجز أن يطمع في مثل هذا القرآن بحال.فإن قال صاحب السؤال إنه قد يطمع في ذلك.قيل له:أنت تزيد على هذا،

ص: 25

فتزعم أن كلام الآدمي قد يضارع القرآن،و قد يزيد عليه في الفصاحة و لا يتحاشاه.و يحسب أن ما ألفه في الجزء و الطفرة هو أبدع و أغرب من القرآن لفظا و معنى!و لكن ليس الكلام على ما يقدره مقدر في نفسه،و يحسبه ظان من أمره،و المرجوع في هذا إلى جملة الفصحاء دون الآحاد.و نحن نبين بعد هذا وجه امتناعه عن الفصيح البليغ،و نميزه في ذلك عن سائر أجناس الخطاب،ليعلم أن ما يقدره من مساواة كلام الناس به تقدير ظاهر الخطأ، بيّن الغلط،و أن هذا التقدير من جنس من حكى اللّه تعالى قوله في محكم كتابه: إِنَّهُ فَكَّرَ وَ قَدَّرَ. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَ بَسَرَ. ثُمَّ أَدْبَرَ وَ اسْتَكْبَرَ فَقالَ إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ. إِنْ هذا إِلاّ قَوْلُ الْبَشَرِ (1)فهم يعبرون عن دعواهم أنهم يمكنهم أن يقولوا مثله،بأن ذلك من قول البشر،لأن ما كان من قولهم فليس يقع فيه التفاضل إلى الحد الذي يتجاوز إمكان معارضته.

و مما يبطل ما ذكروه من القول بالصرفة أنه لو كانت المعارضة ممكنة،و إنما منع منها الصرفة لم يكن الكلام معجزا،و إنما يكون المنع معجزا،فلا يتضمن الكلام فضيلة على غيره في نفسه.و ليس هذا بأعجب مما ذهب إليه فريق منهم أن الكلّ قادرون على الإتيان بمثله،و إنما يتأخرون عنه لعدم العلم بوجه ترتيب لو تعلموه لوصلوا إليه به.و لا بأعجب من قول فريق منهم إنه لا فرق بين كلام البشر و كلام اللّه تعالى في هذا الباب،و إنه يصح من كل واحد منهما الإعجاز على حد واحد.

فإن قيل:فهل تقولون بأن غير القرآن من كلام اللّه عز و جل معجز كالتوراة و الإنجيل و الصحف،قيل:ليس شيء من ذلك بمعجز في النظم و التأليف.و إن كان معجزا كالقرآن، فيما يتضمن من الإخبار بالغيوب.و إنما لم يكن معجزا لأن اللّه تعالى لم يصفه بما وصف به القرآن،و لأنّا قد علمنا أنه لم يقع التحدي إليه كما وقع التحدي إلى القرآن.

و لمعنى آخر و هو أن ذلك اللسان لا يتأتى فيه من وجوه الفصاحة ما يقع به التفاضل الذي ينتهي إلى حد الإعجاز.و لكنه يتقارب،و قد رأيت أصحابنا يذكرون هذا في سائر الألسنة و يقولون:ليس يقع فيها من التفاوت ما يتضمن التقديم العجيب،و يمكن بيان ذلك بأنا لا نجد في القدر الذي نعرفه من الألسنة للشيء الواحد من الأسماء ما نعرف من اللغة.

و كذلك لا نعرف فيها الكلمة الواحدة تتناول المعاني الكثيرة على ما تتناول العربية.و كذلك التصرف في الاستعارات،و الإشارات،و وجوه الاستعمالات البديعة التي يجيء تفصيلها بعد.ر.

ص: 26


1- آية(18:25)سورة المدثر.

هذا و يشهد لذلك من القرآن أن اللّه تعالى وصفه بأنه بلسان عربي مبين.و كرر ذلك في مواضع كثيرة،و بين أنه رفعه عن أن يجعله أعجميا.فلو كان يمكن في لسان العجم إيراد مثل فصاحته،لم يكن ليرفعه عن هذه المنزلة.و أنه و إن كان يمكن أن يكون من فائدة قوله إنه عربي مبين،أنه مما يفهمونه و لا يفتقرون فيه إلى الرجوع إلى غيرهم،و لا يحتاجون في تفسيره إلى من سواهم،فلا يمتنع أن يفيد ما قلنا أيضا كما أفاد بظاهره ما قدمناه.

و يبين ذلك أن كثيرا من المسلمين قد عرفوا تلك الألسنة و هم من أهل البراعة فيها، و في العربية،فقد وقفوا على أنه ليس يقع فيها من التفاضل و الفصاحة ما يقع في العربية.

و معنى آخر و هو أنّا لم نجد أهل التوراة و الإنجيل ادعوا الإعجاز لكتابهم،و لا ادعى لهم المسلمون.فعلم أنّ الإعجاز مما يختص به القرآن.و يبين هذا أن الشعر لا يتأتى في تلك الألسنة على ما قد اتفق في العربية.و إن كان قد يتفق منها صنف أو أصناف ضيقة،لم يتفق فيها من البديع ما يمكن و يتأتى في العربية.و كذلك لا يتأتى في الفارسية جميع الوجوه التي يتبين فيها الفصاحة على ما يتأتى في العربية.

فإن قيل:فإن المجوس تزعم أن كتاب«زرادشت»و كتاب«ماني»معجزان،قيل:

الذي يتضمنه كتاب«ماني»من طريق النيرنجات و ضروب من الشعوذة ليس يقع فيها إعجاز.و يزعمون أن في الكتاب الحكم و هي حكم منقولة متداولة على الألسن لا يختص بها أمة دون أمة.و إن كان بعضهم أكثر اهتماما بها و تحصيلا لها و جمعا لأبوابها.

و قد ادعى قوم أن ابن المقفع عارض القرآن،و إنما فزعوا إلى الدّرة اليتيمة،و هما كتابان أحدهما يتضمن حكما منقولة،توجد عند حكماء كل أمة،مذكورة بالفضل،فليس فيها شيء بديع من لفظ،و لا معنى.و الآخر في شيء من الديانات و قد تهوس فيه مما لا يخفى على متأمل،و كتابه الذي بينّاه في الحكم منسوخ من كتاب«بزرجمهر»في الحكمة.

فأي صنع له في ذلك؟و أي فضيلة حازها فيما جاء به؟و بعد،فليس يوجد له كتاب يدعى مدع أنه عارض فيه القرآن،بل يزعمون أنه اشتغل بذلك مدة،ثم مزّق ما جمع و استحيا لنفسه من إظهاره.فإن كان كذلك فقد أصاب و أبصر القصد،و لا يمتنع أن يشتبه عليه الحال في الابتداء ثم يلوح له رشده،و يتبين له أمره،و ينكشف له عجزه.

و لو كان بقي على اشتباه الحال عليه لم يخف علينا موضع غفلته،و لم يشتبه لدينا وجه شبهته.و متى أمكن أن تدعى الفرس في شيء من كتبهم أنه معجز في حسن تأليفه و عجيب نظمه!

ص: 27

فصل: في جملة وجوه إعجاز القرآن

ذكر أصحابنا و غيرهم في ذلك ثلاثة أوجه من الإعجاز:

الوجه الأول:يتضمن الإخبار عن الغيوب،و ذلك مما لا يقدر عليه البشر.لا سبيل لهم إليه:فمن ذلك ما وعد اللّه تعالى نبيه عليه السلام أنه سيظهر دينه على الأديان بقوله عز و جل: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (1)ففعل ذلك و كان أبو بكر (2)الصديق رضي اللّه عنه إذا أغزى جيوشه،عرّفهم ما وعدهم اللّه من إظهار دينه،ليثقوا بالنصر،و يستيقنوا بالنجاح.و كان عمر (3)بن الخطاب رضي اللّه عنه يفعل كذلك في أيامه،حتى وقف أصحاب جيوشه عليه،فكان سعد بن أبي وقاص رحمه اللّه،و غيره من أمراء الجيوش من جهته يذكر ذلك لأصحابه،و يحرضهم به، و يوثق لهم.و كانوا يلقون الظفر في مواجهاتهم،حتى فتح إلى آخر أيام عمر رضي اللّه عنه إلى بلخ،و بلاد الهند و فتح في أيامه مرو الشاهجان و مرو الروذ و منعهم من العبور بجيحون.و كذلك فتح في أيامه فارس إلى اصطخر و كرمان،و مكران و سجستان و جميع ما كان من مملكة كسرى،و كل ما كان يملكه ملوك الفرس بين البحرين من الفرات إلى جيحون.

و أزال ملك ملوك الفرس فلم يعد إلى اليوم.و لا يعود أبدا إن شاء اللّه تعالى.ثم إلى حدود أرمينية و إلى باب الأبواب،و فتح أيضا ناحية الشام،و الأردن،و فلسطين،و فسطاط مصر.و أزال ملك قيصر عنها،و ذلك من الفرات إلى بحر مصر،و هو ملك قيصر.و غزت الخيول في أيامه إلى عمورية،فأخذ الضواحي كلها و لم يبق دونها إلا ما حجز دونه بحر،أو

ص: 28


1- آية(33)سورة التوبة.
2- أبو بكر الصديق هو:عبد اللّه بن عثمان بن عامر بن عمرو القرشي التيمي.كان أول من أسلم من الرجال،و لم يتردد حين عرض عليه الإسلام،و ثبت له أفضل الفضائل بصحبة الهجرة،و كانت بيعته إجماعا من الصحابة.مات سنة(13).له ترجمة في:أسد الغابة 309/3،و شذرات الذهب 27/1،و مروج الذهب 305/2.
3- سبقت ترجمته.

حال عنه جبل منيع،أو أرض خشنة،و أو بادية غير مسلوكة.

و قال اللّه عز و جل: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ الْمِهادُ (1)فصدق فيه و قال في أهل بدر: وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ (2)و وفى لهم بما وعد.و جميع الآيات التي يتضمنها القرآن،من الإخبار عن الغيوب،يكثر جدّا،و إنما أردنا أن ننبه بالبعض على الكل.

و الوجه الثاني:أنه كان معلوما من حال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم،أنه كان أميا لا يكتب و لا يحسن أن يقرأ.و كذلك كان معروفا من حاله أنه لم يكن يعرف شيئا من كتب المتقدمين، و أقاصيصهم،و أنبائهم،و سيرهم.

ثم أتى بجملة ما وقع و حدث من عظيمات الأمور،و مهمات السير،من حين خلق اللّه آدم عليه السلام،إلى حين مبعثه.فذكر في الكتاب الذي جاء به معجزة له:قصة آدم عليه السلام،و ابتداء خلقه،و ما صار إليه أمره من الخروج من الجنة،ثم جملا من أمر ولده و أحواله و توبته.

ثم ذكر قصه نوح عليه السلام،و ما كان بينه و بين قومه و ما انتهى إليه أمره.و كذلك أمر إبراهيم عليه السلام.إلى ذكر سائر الأنبياء المذكورين في القرآن،و الملوك و الفراعنة الذين كانوا في أيام الأنبياء صلوات اللّه عليهم.

و نحن نعلم ضرورة أن هذا مما لا سبيل إليه،إلا عن تعلم،و إذا كان معروفا أنه لم يكن ملابسا لأهل الآثار و حملة الأخبار،و لا مترددا إلى التعلم منهم.و لا كان ممن يقرأ فيجوز أن يقع إليه كتاب فيأخذ منه علم أنه لا يصل إلى علم ذلك إلا بتأييد من جهة الوحي.

و لذلك قال عز و جل: وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَرْتابَ الْمُبْطِلُونَ (3)و قال: وَ كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَ لِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَ لِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍت.

ص: 29


1- آية(12)سورة آل عمران.
2- آية(7)سورة الأنفال.
3- آية(48)سورة العنكبوت.

يَعْلَمُونَ (1) و قد بينا أن من كان يختلف إلى تعلم علم و يشتغل بملابسة أهل صنعة،لم يخف على الناس أمره.و لم يختلف عندهم مذهبه،و قد كان يعرف فيهم من يحسن هذا العلم و إن كان نادرا.و كذلك كان يعرف من يختلف إليه للتعليم،و ليس يخفى في العرف عالم كل صنعة و متعلمها فلو كان منهم لم يخف أمره.

و الوجه الثالث:أنه بديع النظم،عجيب التأليف،متناه في البلاغة،إلى الحد الذي يعلم عجز الخلق عنه.و الذي أطلقه العلماء هو على هذه الجملة.و نحن نفصل ذلك بعض التفصيل،و نكشف الجملة التي أطلقوها.

فالذي يشتمل عليه بديع نظمه المتضمن للإعجاز وجوه منها:ما يرجع إلى الجملة.

و ذلك أن نظم القرآن على تصرف وجوهه،و اختلاف مذاهبه،خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم و مباين للمألوف من ترتيب خطابهم،و له أسلوب يختص به و يتميز في تصرفه عن أساليب الكلام المعتاد.و ذلك أن الطرق التي يتقيد بها الكلام البديع المنظوم، تنقسم إلى أعاريض الشعر على اختلاف أنواعه،ثم إلى أنواع الكلام الموزون غير المقفى، ثم إلى أصناف الكلام المعدل المسجع،ثم إلى معدل موزون غير مسجع،ثم إلى ما يرسل إرسالا،فتطلب فيه الإصابة و الإفادة و إفهام المعاني المعترضة على وجه بديع،و ترتيب لطيف،و إن لم يكن معتدلا في وزنه.و ذلك شبيه بجملة الكلام الذي لا يتعمل و لا يتصنع له.

و قد علمنا أن القرآن خارج عن هذه الوجوه،و مباين لهذه الطرق،و يبقى علينا أن نبين أنه ليس من باب السجع،و لا فيه شيء منه.و كذلك ليس من قبيل الشعر لأن من الناس من زعم أنه كلام مسجع،و منهم من يدعى أن فيه شعرا كثيرا،و الكلام عليهم يذكر بعد هذا الموضع،فهذا إذا تأمله المتأمل تبين بخروجه عن أصناف كلامهم،و أساليب خطابهم،أنه خارج عن العادة،و أنه معجز،و هذه خصوصية ترجع إلى جملة القرآن.و تميّز حاصل في جميعه.و منها أنه ليس للعرب كلام مشتمل على هذه الفصاحة،و الغرابة و التصرف البديع و المعاني اللطيفة،و الفوائد الغزيرة،و الحكم الكثيرة،و التناسب في البلاغة،و التشابه في البراعة،على هذا الطول،و على هذا القدر.و إنما تنسب إلى حكيمهم كلمات معدودة، و ألفاظ قليلة،و إلى شاعرهم قصائد محصورة،يقع فيها ما نبينه بعد هذا من الاختلال، و يعترضها ما نكشفه من الاختلاف،و يقع فيها ما نبديه من التعمل و التكلف و التجوز و التعسف.م.

ص: 30


1- آية(105)سورة الأنعام.

و قد حصل القرآن على كثرته و طوله متناسبا في الفصاحة على ما وصفه اللّه تعالى به فقال عز من قائل: اَللّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ،ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللّهِ (1)وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (2)فأخبر أن كلام الآدمي إن امتد وقع فيه التفاوت،و بان عليه الاختلال.

و هذا المعنى هو غير المعنى الأول الذي بدأنا بذكره،فتأمله تعرف الفضل.

و في ذلك معنى ثابت و هو أن عجيب نظمه،و بديع تأليفه،لا يتفاوت و لا يتباين على ما يتصرف إليه من الوجوه التي يتصرف فيها من ذكر قصص،و مواعظ،و احتجاج و حكم، و أحكام و أعذار،و إنذار،و وعد و وعيد و تبشير،و تخويف و أوصاف،و تعليم أخلاق كريمة و شيم رفيعة،و سير مأثورة،و غير ذلك من الوجوه التي يشتمل عليها.و نجد كلام البليغ الكامل،و الشاعر المفلق،و الخطيب المصقع،يختلف على حسب اختلاف هذه الأمور.

فمن الشعراء من يجود في المدح دون الهجو.و منهم من يبرز في الهجو دون المدح.

و منهم يسبق في التقريظ دون التأبين.و منهم من يجود في التأبين دون التقريظ.و منهم من يغرب في وصف الإبل و الخيل،أو سير الليل،أو وصف الحرب،أو وصف الروض،أو وصف الخمر،أو الغزل أو غير ذلك،مما يشتمل عليه الشعراء و يتداوله الكلام.

و لذلك ضرب المثل بامرئ القيس إذا ركب،و النابغة إذا رهب،و بزهير إذا رغب.

و مثل ذلك يختلف في الخطب و الرسائل و سائر أجناس الكلام.و متى تأملت شعر الشاعر البليغ رأيت التفاوت في شعره على حسب الأحوال التي يتصرف فيها،فيأتي بالغاية في البراعة في معنى،فإذا جاء إلى غيره قصر عنه،و وقف دونه،و بان الاختلاف على شعره، و لذلك ضرب المثل بالذين سميتهم لأنه لا خلاف في تقدمهم في صنعة الشعر،و لا شك في تبريزهم في مذهب النظم،فإذا كان الاختلال بيّنا في شعرهم لاختلاف ما يتصرفون فيه، و استغنينا عن ذكر من هو دونهم.و كذلك يستغنى به عن تفصيل نحو هذا في الخطب و الرسائل و نحوها.

ثم نجد في الشعراء من يجوّد في الرجز،و لا يمكنه نظم القصيد أصلا.و منهم من ينظم القصيد،و لكن يقصّر فيه مهما تكلفه أو عمله.و من الناس من يجوّد في الكلام المرسل،فإذا أتى بالموزون قصر و نقص نقصانا عجيبا.و منهم من يوجد بضد ذلك.

و قد تأملنا نظم القرآن،فوجدنا جميع ما يتصرف فيه من الوجوه التي قدمنا ذكرها،ء.

ص: 31


1- آية(23)سورة الزمر.
2- آية(82)سورة النساء.

على حد واحد في حسن النظم،و بديع التأليف و الرصف،لا تفاوت فيه،و لا انحطاط عن المنزلة العليا،و لا إسفال فيه إلى الرتبة الدنيا.و كذلك قد تأملنا ما يتصرف إليه وجوه الخطاب من الآيات الطويلة و القصيرة،فرأينا الإعجاز في جميعها على حد واحد لا يختلف.و كذلك قد يتفاوت كلام الناس عند إعادة ذكر القصة الواحدة،فرأيناه غير مختلف و لا متفاوت،بل هو على نهاية البلاغة و غاية البراعة.فعلمنا بذلك أنه مما لا يقدر عليه البشر.لأن الذي يقدرون عليه قد بينا فيه التفاوت الكثير عند التكرار،و عند تباين الوجوه و اختلاف الأسباب التي يتضمن.

و معنى الرابع:و هو أن كلام الفصحاء يتفاوت تفاوتا بيّنا في الفصل و الوصل،و العلو و النزول،و التقريب و التبعيد،و غير ذلك مما ينقسم إليه الخطاب عند النظم،و يتصرف فيه القول عند الضم و الجمع،أ لا ترى أن كثيرا من الشعراء قد وصف بالنقص عند التنقل من معنى إلى غيره،و الخروج من باب إلى سواه،حتى أن أهل الصنعة قد اتفقوا على تقصير البحتري مع جودة نظمه و حسن وصفه في الخروج من النسيب إلى المديح.و أطبقوا على أنه لا يحسنه و لا يأتي فيه بشيء.و إنما اتفق له في مواضع معدودة خروج يرتضى و تنقل يستحسن.و كذلك يختلف سبيل غيره عند الخروج من شيء إلى شيء،و التحول من باب إلى باب.و نحن نفصل بعد هذا و نفسر هذه الجملة،و نبين على أن القرآن على اختلاف ما يتصرف فيه من الوجوه الكثيرة،و الطرق المختلفة،يجعل المختلف كالمؤتلف،و المتباين كالمتناسب،و المتنافر في الإفراد إلى حد الآحاد.و هذا أمر عجيب تتبين فيه الفصاحة، و تظهر به البلاغة،و يخرج به الكلام عن حد العادة،و يتجاوز العرف.

و معنى خامس:و هو أن نظم القرآن وقع موقعا في البلاغة يخرج عن عادة كلام الإنس و الجن.فهم يعجزون عن الإتيان بمثله كعجزنا،و يقصرون دونه كقصورنا.و قد قال اللّه عز و جل: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (1)فإن قيل:هذه دعوى منكم،و ذلك أنه لا سبيل لنا إلى أن نعلم عجز الجن عن مثله،و قد يجوز أن يكونوا قادرين على الإتيان بمثله،و إن كنا عاجزين كما أنهم قد يقدرون على أمور لطيفة و أسباب غامضة،دقيقة لا نقدر نحن عليها،و لا سبيل لنا للطفها إليها،و إذا كان كذلك لم يكن إلى علم ما ادعيتم سبيل.

قيل:قد يمكن أن تعرف ذلك بخبر اللّه عز و جل.و قد يمكن أن يقال إن هذا الكلام خرج على ما كانت العرب تعتقده من مخاطبة الجن،و ما يروون لهم من الشعر،و يحكونء.

ص: 32


1- آية(88)سورة الإسراء.

عنهم من الكلام.و قد علمنا أن ذلك محفوظ عندهم،منقول عنهم،و القدر الذي نقلوه قد تأملناه،فهو في الفصاحة لا يتجاوز حد فصاحة الإنس،و لعله يقصر عنها،و لا يمتنع أن يسمع الناس كلامهم،و يقع بينهم و بينهم محاورات في عهد الأنبياء صلوات اللّه عليهم.

و ذلك الزمان مما لا يمتنع فيه وجود ما ينقض العادات.على أن القوم إلى الآن يعتقدون مخاطبة الغيلان،و لهم أشعار محفوظة مروية في دواوينهم قال تأبط شرا (1):

و أدهم قد حبت جلبابه كما احتابت الكاعب الخيعلا

إلى أن حدا الصبح أثناءه و مزّق جلبابه الأليلا

على شيم نار تنوّرتها فبتّ لها مدبرا مقبلا

فأصبحت و الغول لي جارة فيا جارتا أنت ما أهولا

و طالبتها بضعها فالتوت بوجه تهول و استغولا

فمن سأل أين ثوب جارتي فإن لها باللوى منزلا

و كنت إذ ما هممت اعتزمت ت و أحر إذا قمت أن أفعلا

و قال آخر:

عشوا ناري فقلت منون أنتم؟ فقالوا:الجنّ،قلت:عموا ظلاما

فقمت إلى الطعام فقال منهم زعيم يحسد الإنس الطعاما

و يذكرون لامرئ القيس (2)قصيدة مع عمرو الجنى و أشعارا لهما كرهنا ذكرها لطولها و قال عبيد بن أيوب:

فلله درّ الغول أي رفيقة لصاحب قفر خائف متقفر

أرنّت بلحن بعد لحن و أوقدت حواليّ نيرانا تلوح و تزهر

و قال ذو الرمة (3)بعد قوله:

قد أعسف النازح المجهول معسفه في ظل أخضر يدعو هامه البوم1.

ص: 33


1- تأبط شرا هو:ثابت بن جابر،كان أسمع العرب و أبصرهم و أكيدهم،و كان أعدى رجل ينظر إلى الظباء فينتقي أسمنها،ثم يعدو خلفه فلا يفوته.مات سنة(530 م).له ترجمة في:الأغاني 209/18،و الشعر و الشعراء(174)،و خزانة الأدب 66/1.
2- سبقت ترجمته.
3- ذو الرمة هو:غيلان بن عقبة بن نهيس،يعد من الشعراء المتيمين،و صاحبته مية بنت مقاتل المنقري، و كانت جميلة،و كان هو دميما أسود،و سمعت تشبيبه بها،و لم تره ثم رأته،فقالت:«وا سوأتاه» فغضب،و هجاها.مات سنة(117).له ترجمة في:وفيات الأعيان 404/1،و خزانة الأدب 51/1.

للجنّ بالليل في حافاتها زجل كما تناوح يوم الرّيح عيثوم

دويّة و دجى ليل كأنهما يمّ تراطن في حافاته الروم

و قال أيضا:

و كم عرّست بعد النوى من معرّس لها من كلام الجن أصوات سامر

و قال:

و رمل عزيف الجن في عقباته هزيز كتضراب المغنّين بالطبل

و إذا كان القوم يعتقدون كلام الجن و مخاطباتهم،و يحكون عنهم،و ذلك القدر المحكي لا يزيد أمره على فصاحة العرب،صح ما وصف عندهم من عجزهم عنه،كعجز الإنس.و يبين ذلك من القرآن أن اللّه تعالى حكى عن الجن ما تفاوضوا فيه من القرآن، فقال: وَ إِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا،فَلَمّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (1)إلى آخر ما حكى عنهم فيما يتلوه.فإذا ثبت أنه وصف كلامهم،و وافق ما يعتقدونه من نقل خطابهم،صح أن يوصف الشيء المألوف بأنه ينحط عن درجة القرآن في الفصاحة.

و هذان الجوابان أسدّ عندي من جواب بعض المتكلمين عنه؛بأن عجز الإنس عن القرآن يثبت له حكم الإعجاز،فلا يعتبر غيره.أ لا ترى أنه لو عرفنا من طريق المشاهدة عجز الجن عنه،فقال لنا قائل:فدلوا على أن الملائكة تعجز عن الإتيان بمثله،لم يكن لنا في الجواب غير هذه الطريقة التي قد بيناها.و إنما ضعّفنا هذا الجواب؛لأن الذي حكى و ذكر عجز الجن و الإنس عن الإتيان بمثله،فيجب أن نعلم عجز الجن عنه كما علمنا عجز الإنس عنه.و لو كان وصف عجز الملائكة عنه لوجب أن نعرف ذلك أيضا بطريقه فإن قيل:

أنتم قد انتهيتم إلى ذكر الإعجاز في التفاصيل،و هذا الفصل إنما يدل على الإعجاز في الجملة.قيل هذا:كما أنه يدل على التفصيل أيضا.فصح أن يلحق هذا القبيل،كما كان يصح أن يلحق بباب الجمل.

و معنى سادس:و هو أن الذي ينقسم عليه الخطاب،من البسط و الاقتصار،و الجمع، و التفريق (2)،و الاستعارة و التصريح،و التجوز و التحقيق،و نحو ذلك من الوجوه التي توجدسك

ص: 34


1- آية(29)سورة الأحقاف.
2- قال السيوطي في«الاتقان»275/1،«هو أن تدخل شيئين في معنى،و تفرق بين جهتي الإدخال. و جعل منه الطيبي قوله:«اللّه يتوفى الأنفس حين موتها»الآية.جمع النفسين في حكم التوفي،ثم فرق بين جهتي التوفي بالحكم بالإمساك و الإرسال. أي:اللّه يتوفى بالإمساك و الإرسال.أي:اللّه يتوفى الأنفس التي تقبض و التي لم تقبض،فيمسك

في كلامهم،موجود في القرآن.و كل ذلك مما يتجاوز حدود كلامهم المعتاد بينهم في الفصاحة و الإبداع و البلاغة.و قد ضمّنا بيان ذلك بعد؛لأن الوجه هاهنا ذكر المقدمات دون البسط و التفصيل.

و معنى سابع:و هو أن المعاني التي تتضمن في أصل وضع الشريعة و الأحكام و الاحتجاجات في أصل الدين،و الرد على الملحدين على تلك الألفاظ البديعة،و موافقة بعضها بعضا في اللطف و البراعة،مما يتعذر على البشر،و يمنع ذلك أنه قد علم أن تخير الألفاظ للمعاني المتداولة المألوفة،و الأسباب الدائرة بين الناس،أسهل و أقرب من تخيّر الألفاظ لمعان مبتكرة،و أسباب مؤسسة مستحدثة.فلو أبرع اللفظ في المعنى البارع،كان ألطف و أعجب من أن يوجد اللفظ البارع في المعنى المتداول المتكرر،و الأمر المتقرر المتصور.ثم إن أضيف ذلك التصرف البديع في الوجوه التي تتضمن تأييد ما يبتدأ تأسيسه، و يراد تحقيقه،بان التفاضل في البراعة و الفصاحة.ثم إذا وجدت الألفاظ وفق المعنى، و المعاني وفقها،لا يفضل أحدهما على الآخر،فالبراعة أظهر،و الفصاحة أتم.

و معنى ثامن:و هو أن الكلام يبين فضله و رجحان فصاحته؛بأن نذكر منه الكلمة في تضاعيف كلام،أو نقذف ما بين شعر فتأخذه الأسماع،و تتشوف إليه النفوس و يرى وجه رونقه باديا غامرا سائر ما يقرن به،كالدرّة التي ترى في سلك من خرز،و كالياقوتة في واسطة العقد.

و أنت ترى الكلمة من القرآن يتمثل بها في تضاعيف كلام كثير.و هي غرة جميعه، و واسطة عقده،و المنادى على نفسه بتمييزه و تخصصه برونقه،و جماله و اعتراضه في جنسه و مائه.و هذا الفصل أيضا مما يحتاج فيه إلى تفصيل و شرح و نص ليتحقق ما ادعيناه منه.

و لو لا هذه الوجوه التي بينّاها لم يتحير فيه أهل الفصاحة،و لكانوا يفزعون إلى التعمل للمقابلة،و التصنع للمعارضة،و كانوا ينظرون في أمرهم،و يراجعون أنفسهم.أو كان يراجع بعضهم بعضا في معارضته،و يتوقفون لها.فلما لم نرهم اشتغلوا بذلك،علم أن أهل المعرفة منهم بالصنعة،إنما عدلوا عن هذه الأمور لعلمهم بعجزهم عنه،و قصور فصاحتهم دونه.و لا يمتنع أن يلتبس على من لم يكن بارعا فيهم و لا متقدما في الفصاحة منهم هذه الحال،حتى لا يعلم إلا بعد نظر و تأمل،و حتى يعرف حال عجز غيره.إلا أنا رأينا صناديدهم و أعيانهم و وجوههم سلموا و لم يشتغلوا بذلك تحققا بظهور العجز و تبينا له.».

ص: 35

و أما قوله تعالى حكاية عنهم: قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا (1)فقد يمكن أن يكونوا كاذبين فيما أخبروا به عن أنفسهم،و قد يمكن أن يكون هذا الكلام إنما خرج منهم و هو يدل على عجزهم.و لذلك أورده اللّه مورد تقريعهم،لأنه لو كانوا على ما وصفوا به أنفسهم لكانوا يتجاوزون الوعد إلى الإنجاز،و الضمان إلى الوفاء.

فلما لم يستعملوا ذلك مع استمرار التحدي،و تطاول زمان الفسحة في إقامة الحجة عليهم بعجزهم.إذ لو كانوا قادرين على ذلك،لم يقتصروا على الدعوى فقط.

و معلوم من حالهم و حميتهم أن الواحد منهم يقول في الحشرات،و الهوام، و الحيات.و في وصف الأزمة و الاتساع و الأمور التي لا يؤبه لها،و لا يحتاج إليها، و يتنافسون في ذلك أشد التنافس،و يتبجحون به أشد التبجح،فكيف يجوز أن تمكنهم معارضته في هذه المعاني الفسيحة،و العبارات الفصيحة،مع تضمن المعارضة تكذيبه و الذب عن أديانهم القديمة،و إخراجهم أنفسهم من تسفيهه رأيهم،و تضليله إياهم، و التخلص من منازعته،ثم من محاربته و مقارعته،ثم لا يفعلون شيئا من ذلك،و إنما يحيلون أنفسهم على التعاليل و يعللونها بالأباطيل.

و معنى تاسع:و هو أن الحروف التي بنى عليها كلام العرب تسعة و عشرون حرفا، و عدد السور التي افتتح فيها بذكر الحروف ثمان و عشرون سورة،و جملة ما ذكر من هذه الحروف في أوائل السور من حروف المعجم نصف الجملة،و هو أربعة عشر حرفا ليدل بالمذكور على غيره،و ليعرفوا أن هذا الكلام منتظم من الحروف التي ينظمون بها كلامهم، و الذي ينقسم إليه هذه الحروف على ما قسمه أهل العربية و بنوا عليها وجوهها أقسام نحن ذاكروها.فمن ذلك أنهم قسموها إلى حروف مهموسة و أخرى مجهورة،فالمهموسة منها عشرة،و هي الحاء،و الهاء،و الخاء،و الكاف،و الشين،و الثاء،و الفاء،و التاء،و الصاد، و السين.و ما سوى ذلك من الحروف فهي مجهورة.

و قد عرفنا أن نصف الحروف المهموسة مذكورة في جملة الحروف المذكورة في أوائل السور،و كذلك نصف الحروف المجهورة على السواء،لا زيادة و لا نقصان.

و المجهور معناه:أنه حرف أشبع الاعتماد في موضعه،و منع أن يجري معه،حتى ينقضي الاعتماد.و يجري الصوت و المهموس كل حرف ضعف الاعتماد في موضعه،حتى جرى معه النفس.و ذلك مما يحتاج إلى معرفته لتبتنى عليه أصول العربية.

و كذلك مما يقسمون إليه الحروف.يقولون إنها على ضربين:أحدهما حروفل.

ص: 36


1- آية(31)سورة الأنفال.

الحلق،و هي ستة أحرف:العين،و الحاء،و الهمزة،و الهاء،و الخاء،و الغين.و النصف من هذه الحروف مذكور في جملة الحروف التي تشتمل عليها الحروف المبينة في أوائل السور.و كذلك النصف من الحروف التي ليست بحروف الحلق.

و كذلك تنقسم هذه الحروف إلى قسمين آخرين:أحدهما حروف غير شديدة،و إلى الحروف الشديدة،و هي التي تمنع الصوت أن يجري فيه و هي:الهمزة،و القاف،و الكاف، و الجيم،و الظاء،و الذال،و الطاء،و الباء.و قد علمنا أن نصف هذه الحروف أيضا هي مذكورة في جملة تلك الحروف التي بنى عليها تلك السور،و من ذلك الحروف المطبقة، و هي أربعة أحرف،و ما سواها منفتحة فالمطبقة:الطاء،و الظاء،و الضاد،و الصاد.و قد علمنا أن نصف هذه في جملة الحروف المبدوء بها في أوائل السور.

و إذا كان القوم الذين قسموا في الحروف هذه الأقسام،لأغراض لهم في ترتيب العربية و تنزيلها بعد الزمان الطويل من عهد النبي صلّى اللّه عليه و سلّم،و رأوا مباني اللسان على هذه الجهة.

و قد نبه بما ذكر في أوائل السور على ما لم يذكر على حد التصنيف الذي وصفنا،دل على أن وقوعها الموقع الذي يقع التواضع عليه بعد العهد الطويل لا يجوز أن يقع إلا من اللّه عز و جل.لأن ذلك يجري مجرى علم الغيوب.و إن كان إنما نبهوا على ما بنى عليه اللسان في أصله،و لم يكن لهم في التقسيم شيء،و إنما التأثير لمن وضع أصل اللسان.فذلك أيضا من البديع الذي يدل على أن أصل وضعه وقع موقع الحكمة التي يقصر عنها اللسان.فإن كان أصل اللغة توقيفا فالأمر في ذلك أبين.و إن كان على سبيل التواضع،فهو عجيب أيضا؛لأنه لا يصح أن تجتمع هممهم المختلفة على نحو هذا إلا بأمر من عند اللّه تعالى.

و كل ذلك يوجب إثبات الحكمة في ذكر هذه الحروف على حد يتعلق به الإعجاز من وجه، و قد يمكن أن تعاد فاتحة كل سورة لفائدة تخصها في النظم إذا كانت حروفا كنحو(الم)لأن الألف المبدوء بها هي أقصاها مطلعا،و اللام متوسطة،و الميم متطرفة.لأنها تأخذ في الشفة،فنبه بذكرها على غيرها من الحروف.و بين أنه إنما أتاهم بكلام منظوم،بما يتعارفون من الحروف التي تردد بين هذين الطرفين.

و يشبه أن يكون التصنيف وقع في هذه الحروف دون الألف لأن الألف قد تلغى،و قد تقع الهمزة و هي موقعا واحدا.

و معنى عاشر:و هو أنه سهّل سبيله،فهو خارج عن الوحشيّ المستكره،و الغريب المستنكر،و عن الصنعة المتكلّفة.و جعله قريبا إلى الأفهام،يبادر معناه لفظه إلى القلب، و يسابق المغزى منه عبارته إلى النفس،و هو مع ذلك ممتنع المطلب،عسير المتناول،غير مطمع مع قربه في نفسه،و لا موهم مع دنوّه في موقعه،أن يقدر عليه،أو يظفر به.

ص: 37

فأما الانحطاط عن هذه الرتبة إلى رتبة الكلام المبتذل،و القول المسفسف،فليس يصحّ أن تقع فيه فصاحة أو بلاغة،فيطلب فيه التمنع،أو يوضع فيه الإعجاز.و لكن لو وضع في وحشي مستكره،أو غمر بوجوه الصنعة،و أطبق بأبواب التعسف و التكلف،لكان لقائل أن يقول فيه:و يعتذر و يعيب و يقرع.و لكنه أوضح مناره،و قرب منهاجه،و سهل سبيله،و جعله في ذلك متشابها متماثلا.و بين مع ذلك إعجازهم فيه.و قد علمت أن كلام فصحائهم،و شعر بلغائهم،لا ينفك من تصرف في غريب مستنكر،أو وحشي مستكره، و معان مستبعدة.

ثم عدولهم إلى كلام مبتذل وضيع،لا يوجد دونه في الرتبة.ثم تحولهم إلى كلام معتدل بين الأمرين،متصرف بين المنزلتين،فمن شاء أن يتحقق هذا نظر في قصيدة امرئ القيس (1):

«قفا نبك من ذكرى حبيب و منزل» (2).

و نحن نذكر بعد هذا على التفصيل،ما يتصرف إليه هذه القصيدة و نظائرها و منزلتها من البلاغة،و نذكر وجه فوت نظم القرآن محلها،على وجه يؤخذ باليد و يتناول من كتب، و يتصور في النفس كتصور الأشكال،ليبين ما ادعيناه من الفصاحة العجيبة للقرآن.

و اعلم أن من قال من أصحابنا إن الأحكام معللة بعلل موافقة مقتضى العقل،جعل هذا وجها من وجوه الإعجاز،و جعل هذه الطريقة دلالة فيه كنحو ما يعللون به الصلاة، و معظم الفروض و أصولها.و لهم في كثير من تلك العلل طرق قريبة،و وجوه تستحسن.

و أصحابنا من أهل خراسان يولعون بذلك.و لكن الأصل الذي يبنون عليه عندنا غير مستقيم،و في ذلك كلام يأتي في كتابنا في الأصول.

و قد يمكن في تفاصيل ما أوردنا من المعاني الزيادة و الإفراد،فإنا جمعنا بين أمور و ذكرنا المزية المتعلقة بها،و كل واحد من تلك الأمور مما قد يمكن اعتقاده في إظهار الإعجاز فيه.فإن قيل:فهل تزعمون أنه معجز لأنه حكاية لكلام القديم سبحانه،أو لأنه عبارة عنه،أو لأنه قديم في نفسه،قيل:لسنا نقول بأن الحروف قديمة،فكيف يصح التركيب على الفاسد؟ و لا نقول أيضا إن وجه الإعجاز في نظم القرآن أنه حكاية عن الكلام القديم.لأنه لوه.

ص: 38


1- سبقت ترجمته.
2- صدر البيت الأول من معلقته.

كان كذلك لكانت التوراة و الإنجيل،و غيرهما من كتب اللّه عز و جل،معجزات في النظم و التأليف.و قد بينا أن إعجازها في غير ذلك.و كذلك كان يجب أن تكون كل كلمة مفردة معجزة بنفسها،و متفردها،و قد ثبت خلاف ذلك.

ص: 39

فصل: في شرح ما بيّنا من وجوه إعجاز القرآن

فأما الفصل الذي بدأنا بذكره من الإخبار عن الغيوب،و الصدق،و الإصابة في ذلك كله،فهو كقوله تعالى: قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ (1)فأغزاهم أبو بكر (2)،و عمر (3)رضي اللّه عنهما،إلى قتال العرب و الفرس و الروم.

و كقوله: الم، غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ (4)،و راهن أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه في ذلك،و صدق اللّه وعده.

و كقوله في قصة أهل بدر: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ (5)و كقوله: لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ (6).

و كقوله: وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ (7)في قصة أهل بدر و كقوله:

وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً (8) و صدق اللّه تعالى وعده في كل ذلك،و قال في قصة المتخلفين عنه في غزوته: لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ

ص: 40


1- آية(16)سورة الفتح.
2- سبقت ترجمته.
3- سبقت ترجمته.
4- آية(1:4)سورة الروم.
5- آية(45)سورة القمر.
6- آية(27)سورة الفتح.
7- آية(5)سورة الأنفال.
8- آية(55)سورة النور.

أَبَداً وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا (1) فحق ذلك كله و صدق و لم يخرج من المخالفين الذين خوطبوا بذلك معه أحد.

و كقوله: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ (2)و كقوله: فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (3)فامتنعوا من المباهلة و لو أجابوا إليها اضطرمت عليهم الأودية نارا،على ما ذكر في الخبر.

و كقوله: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ (4)و لو تمنوه لوقع بهم هذا و ما أشبهه.

و أما الوجه الثاني:الذي ذكرناه من إخباره عن قصص الأولين،و سير المتقدمين، فمن العجيب الممتنع على من لم يقف على الأخبار،و لم يشتغل بدرس الآثار،و قد حكى في القرآن تلك الأمور حكاية من شهدها،و حضرها.

و لذلك قال اللّه تعالى: وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَرْتابَ الْمُبْطِلُونَ (5)آية(44)سورة القصص.(6)و قال: وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَ ما كُنْتَ مِنَ الشّاهِدِينَ (6)و قال: وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَ لكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ (7)فبين وجه دلالته من إخباره بهذه الأمور الغائبة السالفة.و قال:

تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا (8) الآية.

فأما الكلام في الوجه الثالث:و هو الذي بيناه من الإعجاز الواقع في النظم و التأليف و الرصف،فقد ذكرنا من هذا الوجه وجوها منها أنا قلنا:إنه نظم خارج عن جميع وجوه النظم المعتاد في كلامهم،و مباين لأساليب خطابهم.و من ادعى ذلك لم يكن له بد من أن يصحح أنه ليس من قبيل الشعر،و لا السجع،و لا الكلام الموزون غير المقفى،لأن قوماد.

ص: 41


1- آية(83)سورة التوبة.
2- آية(23)سورة التوبة.
3- آية(61)سورة آل عمران.
4- آية(94،95)سورة البقرة.
5- آية
6- سورة العنكبوت.
7- آية(46)سورة القصص.
8- آية(49)سورة هود.

من كفار قريش ادعوا أنه شعر،و من الملحدة من يزعم أن فيه شعرا،و من أهل الملة من يقول:إنه كلام مسجّع،إلا أنه أفصح مما قد اعتادوه من أسجاعهم،و منهم من يدعى أنه كلام موزون،فلا يخرج بذلك عن أصناف ما يتعارفونه من الخطاب.

ص: 42

فصل: في نفي الشعر من القرآن

قد علمنا أن اللّه تعالى نفى الشعر من القرآن،و عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فقال: وَ ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَ ما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ (1)و قال في ذم الشعراء: وَ الشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ. أَ لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (2)إلى آخر ما وصفهم به في هذه الآيات فقال:

وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ (3) و هذا يدل على أن ما حكاه عن الكفار،من قولهم إنه شاعر،و إن هذا شعر،لا بد من أن يكون محمولا على أنهم نسبوه في القرآن إلى أن الذي أتاهم به هو من قبيل الشعر الذي يتعارفونه على الأعاريض المحصورة المألوفة؛أو يكون محمولا على ما كان يطلق الفلاسفة على حكمائهم و أهل الفطنة منهم في وصفهم إياهم بالشعر،لدقة نظرهم في وجوه الكلام،و طرق لهم في المنطق.

و إن كان ذلك الباب خارجا عما هو عند العرب شعر على الحقيقة،أو يكون محمولا على أنه أطلق من بعض الضعفاء منهم في معرفة أوزان الشعر،و هذا أبعد الاحتمالات.فإن حمل على الوجهين الأولين كان ما أطلقوه صحيحا؛و ذلك أن الشاعر يفطن لما لا يفطن له غيره.

و إذا قدر على صنعة الشعر كان على ما دونه في رأيهم و عندهم أقدر فنسبوه إلى ذلك لهذا السبب.فإن زعم زاعم أنه قد وجد في القرآن شعرا كثيرا،فمن ذلك ما يزعمون أنه بيت تام،أو أبيات تامة،و منه ما يزعمون أنه مصراع كقول القائل:

«قد قلت لما حاولوا سلوتي هيهات هيهات لما توعدون»

و مما يزعمون أنه بيت قوله سبحانه:

وَ جِفانٍ كَالْجَوابِ وَ قُدُورٍ راسِياتٍ (4) .قالوا هو من الرمل من البحر الذي قيل فيه:

«ساكن الريح نطوف ال مزن منحلّ العزالى»

ص: 43


1- آية(69)سورة يس.
2- آية(224-225)سورة الشعراء.
3- آية(41)سورة الحاقة.
4- آية(13)سورة سبأ.

و كقوله: وَ مَنْ تَزَكّى فَإِنَّما يَتَزَكّى لِنَفْسِهِ (1)كقوله الشاعر من بحر الخفيف:

«كل يوم بشمسه و غد مثل أمسه»

و كقوله عز و جل: وَ مَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ (2).و كقوله: وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (3)و يشبعون حركة الميم فيزعمون أنه من الرجز،و ذكر عن أبي نواس (4)أنه ضمن ذلك شعرا و هو قوله:

و فتية في مجلس وجوههم ريحانهم قد عدموا التثقيلا

«دانية عليهم ظلالها و ذللت قطوفها تذليلا»

و قوله عز و جل: وَ يُخْزِهِمْ وَ يَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَ يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (5).زعموا أنه من الوافر كقوله الشاعر:

لنا غتم نسوّقها غزار كأنّ قرون جلّتها عصيّ

و كقوله عز و جل: أَ رَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ. فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (6)ضمنه أبو نواس في شعره ففصل و قال:فذاك الذي.و شعره:

و قرا معلنا ليصدع قلبي و الهوى يصدع الفؤاد السقيما

أ رأيت الذي يكذب بالدي ن فذاك الذي يدعّ اليتيما

و هذا من الخفيف كقول الشاعر:

و فؤادي كعهده بسليمى يهوى لم يحل و لم يتغيّر

و كما ضمنه في شعره من قوله:

«سبحان من سخر هذا لنا «حقا»و ما كنا له مقرنين»

فزاد فيه حتى انتظم له الشعر،و كما يقولونه في قوله عز و جل: وَ الْعادِياتِ ضَبْحاً* فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (7)و نحو ذلك في القرآن كثير كقوله: وَ الذّارِياتِ ذَرْواً فَالْحامِلاتِت.

ص: 44


1- آية(18)سورة فاطر.
2- آية(2،3)سورة الطلاق.
3- آية(14)سورة الإنسان.
4- أبو نواس هو:الحسن بن هانئ،ولد في«الأهواز»سنة(145)في خلافة أبي جعفر المنصور،و قبل أن يتجاوز السنة الثانية من عمره انتقل والداه إلى البصرة فنشأ فيها.مات سنة(198).له ترجمة في: الأغاني 18/2،و وفيات الأعيان 135/1،و الفهرست(160).
5- آية(14)سورة التوبة.
6- آية(14،15)سورة الماعون.
7- آية(1،2)سورة العاديات.

وِقْراً. فَالْجارِياتِ يُسْراً (1) و هو عندهم شعر من بحر البسيط.

و الجواب عن هذه الدعوى التي ادعوها من وجوه أولها أنّ الفصحاء منهم حين أورد عليهم القرآن،لو كانوا يعتقدونه شعرا،و لم يروه خارجا عن أساليب كلامهم،لبادروا إلى معارضته،لأن الشعر مسخر لهم،سهل عليهم،فيه ما قد علمت من التصرف العجيب و الاقتدار اللطيف.

فلما لم نرهم اشتغلوا بذلك و لا عولوا عليه،علم أنهم لم يعتقدوا فيه شيئا مما يقدره الضعفاء في الصنعة،و المرملون في هذا الشأن.و إن استدراك من يجيء الآن على فصحاء قريش،و شعراء العرب قاطبة في ذلك الزمان،و بلغائهم و خطبائهم و زعمه أنه قد ظفر بشعر في القرآن ذهب أولئك النفر عنه،و خفي عليهم شدة حاجاتهم إلى الطعن في القرآن و الغض عنه و التوصل إلى تكذيبه بكل ما قدروا عليه.فلن يجوز أن يخفى على أولئك و أن يجهلوه و يعرفه من جاء الآن و هو بالجهل حقيق.

و إذا كان كذلك علم أن الذي أجاب به العلماء عن هذا السؤال شديد،و هو أنهم قالوا:إن البيت الواحد و ما كان على وزنه لا يكون شعرا،و أقل الشعر بيتان فصاعدا.و إلى ذلك ذهب أكثر أهل صناعة العربية من أهل الإسلام.و قالوا أيضا:إن ما كان وزن بيتين، إلا أنه يختلف رويهما و قافيتهما،فليس بشعر.ثم منهم من قال:إن الرجز ليس بشعر أصلا،لا سيما إذا كان مشطورا،أو منهوكا.و كذلك ما كان يقارنه في قلة الأجزاء.و على هذا يسقط السؤال.

ثم يقولون:إن الشعر إنما يطلق متى قصد القاصد إليه على الطريق الذي يتعمد و يسلك،و لا يصح أن يتفق مثله إلا من الشعراء،دون ما يستوي فيه العاميّ و الجاهل، و العالم بالشعر و اللسان و تصرفه.و ما يتفق من كل واحد،فليس يكتسب اسم الشعر،و لا صاحبه اسم شاعر،لأنه لو صح أن يسمى كل من اعترض في كلامه ألفاظ تتزن بوزن الشعر،أو تنتظم انتظام بعض الأعاريض،كان الناس كلهم شعراء.لأن كل متكلم لا ينفك من أن يعرض في جملة كلام كثير يقوله ما قد يتزن بوزن الشعر،و ينتظم انتظامه،أ لا ترى أن العامي قد يقول لصاحبه:أغلق الباب و ائتني بالطعام،و يقول الرجل لأصحابه:أكرموا من لقيتم من تميم.و متى تتبع الإنسان هذا،عرف أنه يكثر في تضاعيف الكلام مثله،و أكثر منه.

و هذا القدر الذي يصح فيه التوارد ليس يعده أهل الصناعة سرقة،إذ لم تعلم فيه حقيقةت.

ص: 45


1- آية(1:3)سورة الذاريات.

الأخذ،كقول امرئ القيس (1):

وقوفا بها صحبي على مطيهم يقولون لا تهلك أسى و تجلد (2)

و مثل هذا كثير.فإذا صح مثل ذلك في بعض البيت،و لم يمتنع التوارد فيه،فكذلك لا يمتنع وقوعه في الكلام المنثور اتفاقا غير مقصود إليه.فإذا اتفق،لم يكن شعرا.و كذلك يمتنع التوارد على بيتين،و كذلك يمتنع في الكلام المنثور وقوع البيتين و نحوهما،فثبت بهذا أن ما وقع هذا الموقع لم يعد شعرا،و إنما يعد شعرا ما إذا قصده صاحبه،تأتي له و لم يمتنع عليه.

فإذا كان هو مع قصده،لا يتأتى له،و إنما يعرض في كلامه عن غير قصد إليه،لم يصح أن يقال إنه شعر،و لا أن صاحبه شاعر،و لا يصح أن يقال:إن هذا يوجب أن مثل هذا لو اتفق من شاعر،فيجب أن يكون شعرا؛لأنه لو قصده لكان يتأتى منه.

و إنما لم يصح ذلك؛لأن ما ليس بشعر،فلا يجوز أن يكون شعرا من أحد.و ما كان شعرا من أحد من الناس،كان شعرا من كل أحد.

أ لا ترى أن السوقيّ قد يقول أسقني الماء يا غلام سريعا؟قد يتفق ذلك مع الساهي، و من لا يقصد النظم.فأما الشعر إذا بلغ الحد الذي بينّا،فلا يصح أن يقع إلا من قاصد إليه.

فأما الرجز فإنه يعرض في كلام العوام كثيرا.فإذا كان بيتا واحدا فليس ذلك بشعر.

و قد قيل إنّ أقل ما يكون منه شعرا أربعة أبيات،بعد أن تتفق قوافيها.و لم يتفق ذلك في القرآن بحال.فأما دون أربعة أبيات منه،أو ما يجري مجراه في قلة الكلمات،فليس بشعر.

و ما اتفق في ذلك من القرآن مختلف الروى.و يقولون إنه متى اختلف الروى خرج من أن يكون شعرا.و هذه الطرق التي سلكوها في الجواب معتمدة،أو أكثرها.و لو كان ذلك شعرا،لكانت النفوس تتشوف إلى معارضته،لأن طريق الشعر غير مستصعب على أهل الزمان الواحد،و أهله يتقاربون فيه،أو يضربون فيه بسهم.

فإن قيل:في القرآن كلام موزون كوزن الشعر،و إن كان غير مقفى،بل هو مزاوج، متساوي الضروب،و ذلك آخر أقسام كلام العرب.قيل:من سبيل الموزون من كلام،أن يتساوى أجزاءه في الطول و القصر و السواكن و الحركات.فإن خرج عن ذلك لم يكن موزوناة.

ص: 46


1- سبقت ترجمته.
2- بيت من معلقته الشهيرة.

كقوله:

«رب أخ كنت به مغتبطا أشدّ كفّي بعرى صحبته

تمسكا مني بالود و لا أحسبه يزهد في ذي أمل

تمسكا مني بالود و لا أحسبه بغير العهد و لا

يحول عنه أبدا فخاب فيه أملي»

و قد علمنا أن هذا القرآن ليس من هذا القبيل،بل هذا قبيل غير ممدوح،و لا مقصود من جملة الفصيح.و ربما كان عندهم مستنكرا،بل أكثره على ذلك.و كذلك ليس في القرآن من الموزون الذي وصفناه أولا،و هو الذي شرطنا فيه التعادل و التساوي في الأجزاء،غير الاختلاف الواقع في التقفية،و يبين ذلك أن القرآن خارج عن الوزن الذي بيّنا، و تتم فائدته بالخروج منه.و أما الكلام الموزون فإن فائدته تتم بوزنه.

ص: 47

فصل: في نفي السجع من القرآن

ذهب أصحابنا كلهم إلى نفي السجع من القرآن.و ذكره أبو الحسن (1)الأشعري في غير موضع من كتبه.و ذهب كثير ممن يخالفهم إلى إثبات السجع في القرآن،و زعموا أن ذلك مما يبين به فضل الكلام.و أنه من الأجناس التي يقع بها التفاضل في البيان،و الفصاحة كالتجنيس،و الالتفات و ما أشبه ذلك من الوجوه التي تعرف بها الفصاحة.

و أقوى ما يستدلون به عليه اتفاق الكل على أن موسى أفضل من هارون عليهما السلام،و لمكان السجع قيل في موضع هارُونَ وَ مُوسى (2)و لما كانت الفواصل في موضع آخر بالواو و النون قبل مُوسى وَ هارُونَ (3)قالوا:هذا لا يفارق أمر الشعر؛لأنه لا يجوز أن يقع في الخطاب إلا مقصودا إليه.

و إذا وقع غير مقصود إليه،كان دون القدر الذي يسمى شعرا.و ذلك القدر ما يتفق وجوده من المفحم،كما يتفق وجوده من الشاعر.و أما ما في القرآن من السجع فهو كثير، لا يصح أن يتفق كله غير مقصود إليه.و يبنون الأمر في ذلك على تحديد معنى السجع.

قال أهل اللغة«هو موالاة الكلام على وزن واحد».قال ابن دريد (4):«سجعت الحمامة معناها رددت صوتها».و أنشد:

طربت فأبكتك الحمام السواجع تميل بها ضحوا غصون نوائع

النوائع الموائل،من قولهم جائع نائع أي متمايل ضعفا.و هذا الذي يزعمونه غير

ص: 48


1- أبو الحسن الأشعري هو:علي بن إسماعيل بن إسحاق الأشعري،من ولد أبي موسى الأشعري، صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.مات سنة(324).له ترجمة في:تاريخ بغداد 346/11،و وفيات الأعيان 284/3،و شذرات الذهب 303/2.
2- آية(70)سورة طه.
3- آية(122)سورة الأعراف.
4- ابن دريد هو:أبو بكر محمد بن الحسين بن دريد الأزدي،ولد بالبصرة،و نشأ و تعلم فيها،و قد نبغ في اللغة،و كان من أكابرها،مقدما فيها.مات سنة(321).له ترجمة في:تاريخ بغداد 195/2، و شذرات الذهب 289/2،و وفيات الأعيان 497/1.

صحيح.و لو كان القرآن سجعا،لكان غير خارج عن أساليب كلامهم،و لو كان داخلا فيها،لم يقع بذلك إعجازا.و لو جاز أن يقال هو سجع معجز لجاز لهم أن يقولوا شعر معجز.

و كيف و السجع مما كان يألفه الكهان من العرب،و نفيه من القرآن أجدر بأن يكون حجة من نفي الشعر،لأن الكهانة تنافي النبوات،و ليس كذلك الشعر.

و قد روي أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال للذين جاءوا و كلموه في شأن الجنين:كيف ندي من لا أكل و لا شرب و لا صاح.فاستهل:أ ليس دمه قد يطل؟فقال:«أ سجاعة كسجاعة الجاهلية؟ و في بعضها أ سجعا كسجع الكهان» (1)؟فرأى ذلك مذموما لم يصح أن يكون في دلالته، و الذي يقدرونه أنه سجع فهو و هم،لأنه قد يكون الكلام على مثال السجع،و إن لم يكن سجعا،لأن ما يكون به الكلام سجعا يختص ببعض الوجوه دون بعض،لأن السجع من الكلام يتبع المعنى فيه اللفظ الذي يؤدي السجع،و ليس كذلك ما اتفق مما هو في تقدير السجع من القرآن.لأن اللفظ يقع فيه تابعا للمعنى.و فصل بين أن ينتظم الكلام في نفسه بألفاظه التي تؤدي المعنى المقصود فيه،و بين أن يكون المعنى منتظما دون اللفظ.

و متى ارتبط المعنى بالسجع،كانت إفادة السجع كإفادة غيره.و متى ارتبط المعنى بنفسه دون السجع،كان مستجلبا لتجنيس الكلام دون تصحيح المعنى.

فإن قيل:فقد يتفق في القرآن ما يكون من القبيلين جميعا،فيجب أن تمسّوا أحدهما سجعا.قيل:الكلام في تفصيل هذا خارج عن عرض كتابنا،و إلا كنا نأتي على فصل فصل من أول القرآن إلى آخره،و نبين في الموضع الذي يدعون الاستغناء عن السجع من الفوائد ما لا يخفى.و لكنه خارج عن غرض كتابنا،و هذا القدر يحقق الفرق بين الموضعين.ثم إن سلم لهم مسلم موضعا أو مواضع معدودة،و زعم أن وقوع ذلك موقع الاستراحة في الخطاب إلى الفواصل لتحسين الكلام بها،و هي الطريقة التي يباين القرآن بها سائر الكلام.

و زعم أن الوجه في ذلك أنه من باب الفواصل.أو زعم أن ذلك وقع غير مقصود إليه،و أن ذلك إذا اعترض في الخطاب لم يعد سجعا،على ما قد بينا من القليل من الشعر كالبيت الواحد،و المصراع،و البيتين من الرجز.و نحو ذلك يعرض فيه فلا يقال إنه شعر؛لأنه لا يقع مقصودا إليه،و إنما يقع مغمورا في الخطاب.

فكذلك حال السجع،الذي يزعمونه و يقدرونه.و يقال لهم:لو كان الذي في القرآنف.

ص: 49


1- النسائي 52/8،و الطبراني 142/17،و المجمع 300/6،و عزاه إلى الأخير من طريق محمد بن سليمان بن مسمول،و هو ضعيف.

على ما تقدرونه سجعا،لكان مذموما مرذولا؛لأن السجع إذا تفاوتت أوزانه،و اختلفت طرقه،كان قبيحا من الكلام.

و للسجع منهج مرتب،محفوظ،و طريق مضبوط،متى أخل به المتكلم أوقع الخلل في كلامه،و نسب إلى الخروج عن الفصاحة.كما أن الشاعر إذا خرج عن الوزن المعهود، كان مخطئا،و كان شعره مرذولا،و ربما أخرجه عن كونه شعرا.و قد علمنا أن بعض ما يدعونه سجعا،متقارب الفواصل،متداني المقاطع،و بعضها مما يمتد حتى يتضاعف طوله عليه.و ترد الفاصلة على ذلك الوزن الأول بعد كلام كثير.و هذا في السجع غير مرضي، و لا محمود.فإن قيل:متى خرج السجع المعتدل إلى نحو ما ذكرتموه،خرج من أن يكون سجعا.و ليس على المتكلم أن يلتزم بأن يكون كلامه كله سجعا.بل يأتي به طورا،ثم يعدل عنه إلى غيره،ثم قد يرجع إليه.

قيل:متى وقع أحد مصراعي البيت مخالفا للآخر،كان تخليطا و خبطا.و كذلك متى اضطرب أحد مصراعي الكلام المسجع و تفاوت كان خبطا.

و علم أن فصاحة القرآن غير مذمومة في الأصل،فلا يجوز أن يقع فيها نحو هذا الوجه من الاضطراب.و لو كان الكلام الذي هو في صورة السجع منه،لما تحيروا فيه،و كانت الطباع تدعو إلى المعارضة؛لأن السجع غير ممتنع عليهم،بل هو عادتهم.فكيف تنقص العادة بما هو نفس العادة.و هو غير خارج عنها،و لا مميز منها.و قد يتفق في الشعر كلام على منهاج السجع و ليس بسجع عندهم.و ذلك نحو قول البحتري (1):

تشكّى الوجى و الليل ملتبس الدّجى عزيزية الأنساب مرت نقيعها

و قوله:

قريب المدى حتى يكون إلى النّدى عدو البنا حتى يكون معالي

و رأيت بعضهم يرتكب هذا،فيزعم أنه سجع مداخل،و نظيره من القرآن قوله تعالى:

ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَ يَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ (2) و قوله: أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها (3)و قوله: أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهادٍ فِيء.

ص: 50


1- البحتري هو:أبو عبادة الوليد بن عبيد الطائي،ولد بمنبج من أعمال الشام،و تخرج بها،و انتقل إلى العراق في خدمة المتوكل و وزيره الفتح بن خاقان،و له الحرمة التامة حتى قتلا،فرجع إلى منبج. مات سنة(284).له ترجمة في:شذرات الذهب 186/2،و وفيات الأعيان 175/2،و الفهرست (165).
2- آية(27)سورة النحل.
3- آية(16)سورة الإسراء.

سَبِيلِهِ (1) و قوله: وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ رَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ (2)و قوله: إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي (3)ابن ذي أصبح بن مالك بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع ابن العرنجج،و هو:حمير بن سبأ.(4)و لو كان ذلك عندهم سجعا لم يتحيروا فيه ذلك التحير،حتى سماه بعضهم سحرا،و تصرفوا فيما كانوا يسمونه به،و يصرفونه إليه،و يتوهمونه فيه.و هم في الجملة عارفون بعجزهم عن طريقه،و ليس القوم بعاجزين عن تلك الأساليب المعتادة عندهم، المألوفة لديهم،و الذي تكلمنا به في هذا الفصل كلام على جملة دون التفصيل.و نحن نذكر بعد هذا في التفصيل،ما يكشف عن مباينة ذلك وجوه السجع.و من جنس السجع المعتاد عندهم قول أبي طالب،لسيف بن ذي يزن (4):«انبتك منبتا طابت أرومته،و عزت جرثومته،و ثبت أصله،و بسق فرعه،و نبت زرعه،في أكرم موطن و أطيب معدن»و ما يجري هذا المجرى من الكلام.

و القرآن مخالف لنحو هذه الطريقة،مخالفته للشعر،و سائر أصناف كلامهم الدائر بينهم.و لا معنى لقولهم إن ذلك مشتق من ترديد الحمامة صوتها على نسق واحد،و روىّ غير مختلف.لأن ما جرى هذا المجرى لا يبنى على الاشتقاق وحده،و لو بني عليه لكان الشعر سجعا،لأن رويّه يتفق و لا يختلف،و تتردد القوافي على طريقة واحدة.و أما الأمور التي يستريح إليها الكلام،فإنها تختلف.فربما كان ذلك يسمى قافية،و ذلك إنما يكون في الشعر.و ربما كان ما ينفصل عنده الكلامان يسمى مقاطع السجع.و ربما سمي ذلك فواصل.و فواصل القرآن مما هو مختص بها،لا شركة بينه و بين سائر الكلام فيها،و لا تناسب.

و أما ما ذكروه من تقديم موسى على هارون عليهما السلام في موضع،و تأخيره عنه في موضع لمكان السجع،و لتساوي مقاطع الكلام،فليس بصحيح.لأن الفائدة عندنا غير ما ذكروه.و هي أن إعادة ذكر القصة الواحدة بألفاظ مختلفة تؤدي معنى واحدا من الأمر الصعب الذي تظهر فيه الفصاحة،و تتبين فيه البلاغة.و أعيد كثير من القصص في مواضع مختلفة على ترتيبات متفاوتة،و نبهوا بذلك على عجزهم عن الإتيان بمثله مبتدأ به و مكررا.

و لو كان فيهم تمكن من المعارضة لقصدوا تلك القصة فعبروا عنها بألفاظ لهم تؤدي معناها، و تحويها،و جعلوها بإزاء ما جاء به،و توصلوا بذلك إلى تكذيبه و إلى مساواته فيما جاء به.أ.

ص: 51


1- آية(24)سورة التوبة.
2- آية(48،49)سورة آل عمران.
3- آية
4- سورة مريم.

كيف و قد قال لهم: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (1)فعلى هذا يكون المقصد بتقديم بعض الكلمات،و تأخيرها إظهارا للإعجاز على الطريقين جميعا،دون التسجيع الذي توهموه.فإن قال قائل:القرآن مختلط من أول أوزان كلام العرب،ففيه من جنس خطبهم و رسائلهم و سجعهم و موزون كلامهم الذي هو غير مقفى.و لكنه أبدع فيه ضربا من الإبداع لبراعته و فصاحته،قيل:قد علمنا أن كلامهم ينقسم إلى نظم،و نثر، و كلام مقفى غير موزون،و نظم موزون،ليس بمقفى،كالخطب و السجع،و نظم مقفى موزون له روىّ،و من هذه الأقسام ما هو سجية الأغلب من الناس،فتناوله أقرب،و سلوكه لا يتعذر،و منه ما هو أصعب تناولا،كالموزون عند بعضهم،أو الشعر عند الآخرين،و كل هذه الوجوه لا تخرج عن أن يقع لهم بأحد أمرين:إما بتعمل،أو بتكلف و تعلم و تصنع،أو باتفاق من الطبع و قذف من النفس على اللسان للحاجة إليه.

و لو كان ذلك مما يجوز اتفاقه من الطبائع،لم ينفك العالم من قوم يتفق ذلك منهم و يتعرض على ألسنتهم،و تجيش به خواطرهم.و لا ينصرف عند الكل مع شدة الدواعي إليه.و لو كان طريقه التعلم لتصنعوه و لتعلموه فالمهلة لهم فسيحة،و الأمد واسع.

و قد اختلفوا في الشعر كيف اتفق لهم؟فقد قيل:إنه اتفاق في الأصل غير مقصود إليه على ما يعرض من أصناف النظام في تضاعيف الكلام،ثم لما استحسنوه و استطابوه و رأوا أنه تألفه الأسماع و تقبله النفوس،تتبعوه من بعد و تعلموه.

و حكى لي بعضهم عن أبي عمر (2)و غلام ثعلب،عن ثعلب (3):أن العرب تعلّم أولادها قول الشعر بوضع غير معقول يوضع على بعض أوزان الشعر كأنه على وزن:«قفا نبك من ذكرى حبيب و منزل»و يسمون ذلك الوضع الميتر،و اشتقاقه من المتر،و هو الجذب أو القطع،يقال مترت الحبل،بمعنى قطعته أو جذبته.و لم يذكر هذه الحكاية عنهم غيره فيحتمل ما قاله،و أما ما وقع السبق إليه فيشبه أن يكون على ما قدمنا ذكره أولا.

و قد يحتمل على قول من قال:بأن اللغة اصطلاح،أنهم تواضعوا على هذا الوجه من النظم.و قد يمكن أن يقال مثله على المذهب الآخر،و أنهم وقفوا على ما ينصرف إليه).

ص: 52


1- آية(34)سورة الطور.
2- اختلف في اسمه على أحد و عشرين قولا أصحها زبان.
3- ثعلب هو:أبو العباس ثعلب إمام الكوفيين في النحو و اللغة.و من مصنفاته:معاني القرآن،و معاني الشعر،و القراءات،و غريب القرآن.مات سنة(291).له ترجمة في:بغية الوعاة 396/1،و وفيات الأعيان 30/1،و معجم الأدباء 133/2،و الفهرست(74).

القول من وجوه التفاصح،أو توافقوا هم بينهم على ذلك،و يمكن أن يقال:إن التواضع وقع على أصل الباب،و كذلك التوقيف،و لم يقع على فنون تصرف الخطاب،و إن اللّه تعالى أجرى على لسان بعضهم من النظم ما أجرى،و فطنوا لحسنه فتتبعوه من بعد و بنوا عليه و طلبوه و رتبوا فيه المحاسن التي يقع الاضطراب بوزنها،و تهش النفوس إليها،و جمع دواعيهم و خواطرهم على استحسان وجوه من ترتيبها،و اختيار طرق من تنزيلها.

و عرفهم محاسن الكلام و دلهم على كل طريقة عجيبة،ثم أعلمهم عجزهم عن الإتيان بالقرآن،و القدر الذي يتناهى إليه قدرهم،هو ما لم يخرج عن لغتهم،و لم يشذ من جميع كلامهم.بل قد عرض في خطابهم و وجدوا أن هذا إنما تعذر عليهم مع التحدي و التقريع الشديد،و الحاجة الماسة إليه مع علمهم بطريق وضع النظم و النثر.

و تكامل أحوالهم فيه دل على أنه اختص به ليكون دلالة على النبوة و معجزة على الرسالة،و لو لا ذلك لكان القوم إذا اهتدوا في الابتداء إلى وضع هذه الوجوه التي يتصرف إليها الخطاب على براعته و حسن انتظامه،فلأن يقدروا بعد التنبيه على وجهه،و التحدي إليه أولى أن يبادروا إليه لو كان لهم إليه سبيل،فلو كان الأمر على ما ذكره السائل،لوجب أن لا يتحيروا في أمرهم،و لا تدخل عليهم شبهة فيما نابهم،و لكانوا يسرعون إلى الجواب،و يبادرون إلى المعارضة.

و معلوم من حالهم أن الواحد منهم يقصد إلى الأمور البعيدة عن الوهم و الأسباب التي لا يحتاج إليها،فيكثر فيها من شعر و رجز،و نجد من يعينه على نقله عنه على ما قدمنا ذكره من وصف الإبل و نتاجها.و كثير من أمرها لا فائدة في الاشتغال به في دين و لا دنيا.ثم كانوا يتفاخرون باللسن و الذلاقة و الفصاحة و الذرابة،و يتنافرون فيه.و تجري بينهم فيه الأسباب المنقولة في الآثار على ما لا يخفى على أهله.

فاستدللنا بتحيّرهم في أمر القرآن على خروجه عن عادة كلامهم،و وقوعه موقعا يخرق العادات،و هذه سبيل المعجزات،فبان بما قلنا إن الحروف التي وقعت في الفواصل متناسبة موقع النظائر التي تقع في الإسجاع،لا يخرجها عن حدها و لا يدخلها في باب السجع.

و قد بينا أنهم يذمون كل سجع خرج عن اعتدال الأجزاء،فكان بعض مصاريعه كلمتين،و بعضها تبلغ كلمات،و لا يرون في ذلك فصاحة؛بل يرونه عجزا.فلو رأوا أن ما تلي عليهم من القرآن سجعا،لقالوا:نحن نعارضه بسجع معتدل،فنزيد في الفصاحة على طريقة القرآن،و نتجاوز حده في البراعة و الحسن،و لا معنى لقول من قدر أنه ترك السجع

ص: 53

تارة إلى غيره ثم رجع إليه؛لأن ما تخلل بين الأمرين يؤذن بأن وضع الكلام غير ما قدروه من التسجيع لأنه لو كان من باب السجع،لكان أرفع نهاياته و أبعد غاياته،و لا بد لمن جوز السجع فيه و سلك ما سلكوه من أن يسلم ما ذهب إليه النظام،و عباد بن سلمان،و هشام القرظي،و يذهب مذهبهم في أنه ليس في نظم القرآن و تأليفه إعجاز،و أنه يمكن معارضته، و إنما صرفوا عنه ضربا من الصرف،و يتضمن كلامه تسليم الخبط في طريقة النظم،و أنه منتظم من فرق شتى،و من أنواع مختلفة ينقسم إليها خطابهم و لا يخرج عنها،و يستهين ببديع نظمه و عجيب تأليفه الذي وقع التحدي إليه،و كيف يعجزهم الخروج عن السجع و الرجوع إليه.و قد علمنا عادتهم في خطبهم و كلامهم،أنهم كانوا لا يلزمون أبدا طريقة السجع و الوزن،بل كانوا يتصرفون في أنواع مختلفة،فإذا ادّعوا على القرآن مثل ذلك،لم يجدوا فاصلة بين نظمي الكلامين.

ص: 54

فصل: في ذكر البديع من الكلام

إن سأل سائل فقال:«هل يمكن أن يعرف إعجاز القرآن من جهة ما يتضمنه من البديع؟».

و قيل:ذكر أهل الصنعة و من صنّف في هذا المعنى من صفة البديع ألفاظا نحن نذكرها،ثم نبين ما سألوا عنه،ليكون الكلام واردا على أمر مبيّن مقرر،و باب مصور.

ذكروا أن من البديع في القرآن قوله عز ذكره: وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ (1)و قوله: وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (2)آية(37)سورة يس.(3)و قوله: وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً (4)و قوله: وَ آيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (4)و قوله: أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (5)و قوله: نُورٌ عَلى نُورٍ (6).

و قد يكون البديع من الكلمات الجامعة الحكيمة كقوله: وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ (7)و في الألفاظ الفصيحة كقوله: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا (8)و في الألفاظ الإلهية كقوله: وَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ (9)و قوله: وَ ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ (10)و قوله: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلّهِ الْواحِدِ الْقَهّارِ (11).

و يذكرون من البديع قول النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:(خير الناس رجل ممسك عنان فرسه في سبيل

ص: 55


1- آية(24)سورة الإسراء.
2- آية
3- سورة الزخرف.
4- آية(4)سورة مريم.
5- آية(55)سورة الحج.
6- آية(35)سورة النور.
7- آية(179)سورة البقرة.
8- آية(80)سورة يوسف.
9- آية(91)سورة النمل.
10- آية(53)سورة النحل.
11- آية(16)سورة غافر.

اللّه،كلما سمع هيعة (1)طار إليها) (2).و قوله:(ربنا تقبل توبتي و اغسل حوبتي) (3)و قوله:

(غلب عليكم داء الأمم قبلكم؛الحسد و البغضاء،و هي الحالقة،حالقة الدين لا حالقة الشّعر) (4).

و كقوله:(الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة) (5).

و كقوله:(و هل يكب الناس على مناخرهم في نار جهنم إلا حصائد ألسنتهم) (6)سبقت ترجمته.(7).

و كقوله:(إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلمّ) (8).

و كقول أبي بكر الصديق (8)رضي اللّه عنه في كلام له قد نقلناه بعد هذا على وجهه، و قوله لخالد بن الوليد (9):«احرص على الموت توهب لك الحياة».

و قوله:(فر من الشرف يتبعك الشرف)و كقول علي بن أبي طالب (10)رضي اللّه عنه و كرم اللّه وجهه في كتابه إلى ابن عباس (11)و هو عامله على البصرة:«أرغب راغبهم،،-

ص: 56


1- قوله:«هيعة».قال ابن الأثير في«النهاية»288/5:«الهيعة:الصوت الذي تفزع منه و تخافه من عدو،و قد هاع يهيع هيوعا:إذا جبن».
2- أورده ابن الأثير في«النهاية»288/5.
3- أبو داود في:الوتر(25)،و الترمذي في:الدعوات(103)و قال:حسن صحيح،و ابن ماجة في: الدعاء(2)و أحمد 227/1.
4- الترمذي 83/2،و أحمد 165/1 و 167،و البيهقي 232/10،و شرح السنة 259/12،و الإرواء 238/3 و عزاه إلى«البزار»بسند جيد.
5- البخاري في:الرقاق(35)،و مسلم في:فضائل الصحابة(232)،و الترمذي في:الأدب(82)، و ابن ماجة في:الفتن(16)،و أحمد 7/2 و 55 و 70 و 88 و 109 و 121-123 و 139.
6- الترمذي في:الإيمان
7- ،و ابن ماجة في:الفتن(12)،و أحمد 231/5 و 236 و 237.
8- البخاري في:الجهاد(37)و الرقاق(7)،و مسلم في:الزكاة(121)،و ابن ماجة في:الفتن(18)، و أحمد 7/3 و 21 و 91.
9- خالد بن الوليد بن المغيرة أبو سليمان القرشي المخزومي.أسلم قبل غزوة مؤتة بشهرين،و كان له الأثر العظيم في قتال أهل الرّدة،و فتوح الشام و العراق.مات سنة(21)بحمص.له ترجمة في: الرياض المستطابة ص(62-64).
10- علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم القرشي الهاشمي المكي ثم المدني الكوفي.ابن عم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم،و أقرب العشرة نسبا إليه.كان أول من أسلم من الصبيان،و أول من هاجر بعد النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و أبي بكر،و أول من صلى من المسلمين.مات سنة(40).له ترجمة في:أسد الغابة 91/4. و الإصابة 105/2،و تاريخ بغداد 133/1.
11- ابن عباس هو:عبد اللّه بن عباس بن عبد المطلب القرشي الهاشمي المكي،و هو حبر الأمة، و ترجمان القرآن.توفي بالطائف سنة(70).له ترجمة في:أسد الغابة 290/3،و الإصابة 322/1،-

و احلل عقدة الخوف عنهم»و قوله حين سئل عن قول النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«إنما قال ذلك و الدين في قلّ،فأما و قد اتسع نطاق الإسلام فكل امرئ و ما اختار».

و سأل علي رضي اللّه عنه بعض كبراء فارس عن أحمد ملوكهم عندهم،فقال:

«لأردشير فضيلة السبق،غير أن أحمدهم أنو شروان»قال:«فأي أخلاقه كان أغلب عليه؟» قال:«الحلم و الإناءة».

فقال علي رضي اللّه عنه:«هما توأمان ينتجهما علوّ الهمة».و قال:«قيل كل امرئ ما يحسن»و قال:«العلم قفل و مفتاحه المسألة».

و كتب خالد بن الوليد إلى مرازبة فارس:«أما بعد،فالحمد للّه الذي فض خدمتكم، و فرق كلمتكم».و الخدمة الحلقة المستديرة؛و لذلك قيل للخلاخيل خدام.

و قال الحجاج«دلوني على رجل سمين الأمانة»و لما عقدت الرئاسة لعبد اللّه بن وهب الراسبي على الخوارج أرادوه على الكلام فقال:«لا خير في الرأي الفطير»و قال:

«دعوا الرأي يغب».

و قال أعرابي في شكر نعمة:«ذاك عنوان نعمة اللّه عز و جل».و وصف أعرابي قوما فقال:«إذا اصطفوا سفرت بينهم السهام،و إذا تصافحوا بالسيوف قعد الحمام»و سئل أعرابي عن رجل فقال:«صفرت عياب الود بيني و بينه بعد امتلائها و اكفهرت وجوه كانت بمائها».و قال آخر:«من ركب ظهر الباطل نزل دار الندامة».

و قيل لرؤبة:«كيف خلفت ما وراءك»؟فقال:«التراب يابس،و المال عابس».

و من البديع في الشعر طرق كثيرة قد نقلنا منها جملة لنستدل بها على ما بعدها،فمن ذلك قول امرئ القيس (1):

و قد أغتدي و الطير في وكناتها بمنجرد قيد الأوابد هيكل

قوله:«قيد الأوابد»عندهم من البديع،و من الاستعارة.و يرونه من الألفاظ الشريفة.

و عنى بذلك أنه إذا أرسل هذا الفرس على الصيد،صار قيدا لها،و كانت بحالة المقيد من جهة سرعة إحضاره.و اقتدى به الناس و اتبعه الشعراء،فقيل:قيد النواظر،و قيد الألحاظ، و قيد الكلام،و قيد الحديث،و قيد الرهان.و قال الأسود بن يعفر:

بمقلص عنز جهير شدة قيد الأوابد و الرهان جواده.

ص: 57


1- سبقت ترجمته.

و قال أبو تمام (1):

لها منظر قيد الأوابد لم يزل يروح و يغدو في خفارته الحب

و قال آخر:

ألحاظه قيد عيون الورى فليس طرف يتعداه

و قال آخر:«قيد الحسن عليه الحدقا».

و ذكر الأصمعي (2)و أبو عبيدة (3)و حماد و قبلهم أبو عمرو أنه أحسن في هذه اللفظة، و أنه أتبع فيها فلم يلحق،و ذكروه في باب الاستعارة البليغة،و سماها بعض أهل الصنعة باسم آخر،و جعلوها من باب الإرداف،و هو أن يريد الشاعر دلالة على معنى فلا يأتي باللفظ الدال على ذلك المعنى،بل بلفظ هو تابع له و ردف،قالوا و مثله قوله:«نئوم الضحى لم تنتطق عن تفضل»و إنما أراد و ترفهها بقوله:«نئوم الضحى»و من هذا الباب قول الشاعر:

بعيدة مهوى القرط إما لنوفل أبوها و إما عبد شمس و هاشم

و إنما أراد أن يصف طول جيدها فأتى بردفه،و من ذلك قول امرئ القيس (4):«و ليل كموج البحر أرخى سدوله»،و ذلك من الاستعارة المليحة،و يجعلون من هذا القبيل ما قدمنا ذكره من القرآن وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً (5)وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ (6)و مما يعدونه من البديع التشبيه الحسن كقول امرئ القيس:

كأن عيون الوحش حول خبائنا و أرحلنا الجزع الذي لم يثقبء.

ص: 58


1- أبو تمام هو:حبيب بن أوس الطائي،ولد في منبج في بلاد الشام،و جاء مصر صغيرا،و كان يسقي الماء في الجامع بالفسطاط،ثم جالس الأدباء،و أخذ عنهم و تعلم.مات سنة(232).له ترجمة في: تاريخ بغداد 248/8،و مروج الذهب 147/7،و وفيات الأعيان 121/1.
2- الأصمعي هو:عبد الملك بن قريب من قيس،و قد اشتهر بكنيته«الأصمعي»،و كان أتقن القوم و أعلمهم بالشعر،و أحضرهم حفظا.مات سنة(214).له ترجمة في:وفيات الأعيان 288/1، و الفهرست(55)،و تاريخ بغداد 410/10.
3- أبو عبيدة هو:معمر بن المثني التيمي،كان أجمع سائر الرواة لعلوم العرب و أخبارهم و أنسابهم. مات سنة(209).له ترجمة في:وفيات الأعيان 105/2،و الفهرست(53)،و تاريخ بغداد 252/13.
4- سبقت ترجمته.
5- آية(4)سورة مريم.
6- آية(24)سورة الإسراء.

و قوله:

كأن قلوب الطير رطبا و يابسا لدى و كرها العناب و الحشف البالي

و استبدعوا تشبيهه شيئين بشيئين على حسن تقسيم،و يزعمون أن أحسن ما وجد في هذا للمحدثين قول بشار (1):

كأن مثار النقع فوق رءوسنا و أسيافنا ليل تهاوى كواكبه

و قد سبق امرؤ القيس إلى صحة التقسيم في التشبيه،و لم يتمكن بشار إلا من تشبيه إحدى الجملتين بالأخرى دون صحة التقسيم و التفصيل.و كذلك عدّوا من البديع قول امرئ القيس في أذني الفرس:

و سامعتان يعرف العنق فيهما كسامعتي مذعورة وسط ديرب

و اتبعه طرفة (2)فقال فيه:

و سامعتان يعرف العنق فيهما كسامعتي شاة بحومل مفرد

و مثله قول امرئ القيس في وصف الفرس:

و عينان كالماويتين و محجر إلى سند مثل الصفيح المنصب

و قال طرفة في وصف عيني ناقته:

و عينان كالماويتين استكنتا بكهفي حجابي صخرة قلت مورد

و من البديع في التشبيه قول امرئ القيس:

له أيطلا ظبى و ساقا نعامة و إرخاء سرحان و تقريب تتفل

و ذلك في تشبيه أربعة أشياء بأربعة أشياء أحسن فيها.و من التشبيه الحسن في القرآن قوله تعالى: وَ لَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (3)و قوله تعالى: كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (4)و مواضع نذكرها بعد هذا.و من البديع في الاستعارة قول امرئ القيس:

و ليل كموج البحر أرخى سدوله عليّ بأنواع الهموم ليبتلي

فقلت له لما تمطى بصلبه و أردف إعجازا و ناء بكلكلت.

ص: 59


1- بشار هو:ابن برد الفارسي،نشأ في البصرة،ثم قدم بغداد بعد أن بناها المنصور،و ولد أعمى،و كان ضخما طويلا عظيم الخلق و الوجه مجدرا.و كان أطبع الشعراء على الشعر.مات سنة(117)له ترجمة في:وفيات الأعيان 88/1،و الفهرست(159)،و تاريخ بغداد 112/7.
2- طرفة هو:ابن العبد أبو عمرو.نبغ في الشعر منذ حداثته،حتى صار يعد من الطبقة الأولى،و توفي صغير السن سنة(500).له ترجمة في:خزانة الأدب 414/1.
3- آية(24)سورة الرحمن.
4- آية(49)سورة الصافات.

و هذه كلها استعارات أتى بها في ذكر طول الليل،و من ذلك قول النابغة (1):

و صدر أراح الليل عازب همه تضاعف فيه الحزن من كل جانب

فاستعاره من إراحة الراعي إبله إلى مواضعها التي تأوى إليها بالليل و أخذ منه ابن الدمينة فقال:

أقضي نهاري بالحديث و بالمنى و يجمعني و الهم و الليل جامع

و من ذلك قول زهير (2):

صحا القلب عن ليلي و أقصر باطله و عرى أفراس الصبا و رواحله

و من ذلك قول امرئ القيس:

سموت إليها بعد ما نام أهلها سمو حباب الماء حالا على حال

و أخذه أبو تمام فقال:«سمو عباب الماء جاشت غواربه»،و إنما أراد امرؤ القيس إخفاء شخصه،و من ذلك قوله:«كأني و أصحابي على قرن أعفرا»يريد أنهم غير مطمئنين.

و من ذلك ما كتب إلى الحسن بن عبد اللّه بن سعيد قال:أخبرني أبي،قال أخبرنا عسل بن ذكوان،أخبرنا أبو عثمان المازني،قال سمعت الأصمعي يقول:أجمع أصحابنا أنه لم يقل أحسن و لا أجمع من قول النابغة:

فإنك كالليل الذي هو مدركي و إن خلت أن المنتأى عنك واسع

قال الحسن بن عبد اللّه:و أخبرنا محمد بن يحيى،أخبرنا عون بن محمد الكندري، أخبرنا قعنب بن محرز قال:سمعت الأصمعي يقول:سمعت أبا عمرو يقول:كان زهير يمدح السوق،و لو ضرب على أسفل قدميه مائتا دقل،على أن يقول كقول النابغة:

فإنك كالليل الذي هو مدركي و إن خلت أن المنتأى عنك واسع

لما قال يريد أنه سلطانه كالليل يصل إلى كل مكان،و اتبعه الفرزدق (3)فقال:

لو حملتني الريح ثم طلبتني لكنت كشيء أدركتني مقادره2.

ص: 60


1- النابغة هو:زياد بن معاوية الذبياني،أحد الثلاثة المقدمين على سائر الشعراء،كان يفد هو و حسان بن ثابت على صاحب الحيرة فيمدحانه،لكن النابغة كان مقدما على الجميع.مات سنة (604 م).له ترجمة في:تاريخ ابن عساكر 424/5،و الأغاني 162/9.
2- زهير بن أبي سلمى،أحد الثلاثة المقدمين على سائر الشعراء.مات سنة(615 م).له ترجمة في الأغاني 48/9 و 146،و خزانة الأدب 375/1،و الشعر و الشعراء(57).
3- الفرزدق هو:همام بن غالب بن صعصعة.ولد بالبصرة،و أقام في باديتها مع أبيه،و ظهرت فيه ملكة الشعر و هو غلام،و لم يكن من مداح بني أمية لأنه كان يتشيع لعلي.مات سنة(110).له ترجمة في: خزانة الأدب 105/1،و وفيات الأعيان 196/2.

فلم يأت بالمعنى و لا اللفظ على ما سبق إليه النابغة،ثم أخذه الأخطل (1)فقال:

و إن أمير المؤمنين و فعله لكالدهر لا عار بما فعل الدهر

و قد روي نحو هذا عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:(نصرت بالرعب،و جعل رزقي تحت ظل رمحي، و ليدخلن هذا الدين على ما دخل عليه الليل) (2).و أخذه علي بن...فقال:

و ما لامرئ حاولته عنك مهرب و لو كان في جوف السماء المطالع

بل هارب لا يهتدي لمكانه ظلام و لا ضوء من الصبح طالع

و مثله قول سلم الخاسر (3):

فأنت كالدهر مبثوثا حبائله و الدهر لا ملجأ منه و لا هرب

و لو ملكت عنان الريح أصرفه في كل ناحية ما فاتك الطلب

فأخذه البحتري (4)فقال:

و لو أنهم ركبوا الكواكب لم يكن ينجيهم من خوف بأسك مهرب

و من بديع الاستعارة قول زهير (5):

فلما وردن الماء زرقا حمامه وضعن عصى الحاضر المتخيم

و قول الأعشى:

و إن عناق العيس سوف يزوركم ثناء على إعجازهن معلق

و منه أخذ نصيب فقال:

فعاجوا فاثنوا بالذي أنت أهله و لو سكتوا أثنت عليك الحقائب

و من ذلك قول تأبط شرا (6):

فخالط سهل الأرض لم يكدح الصفا به كدحة و الموت خزيان ينظره.

ص: 61


1- الأخطل هو:غياث بن غوث بن الصلت،و الأخطل لقب له.ظهرت الشاعرية في الأخطل منذ حداثته و كان يشرب الخمر،و لا يجيد النظم إلاّ إذا شرب.مات سنة(95).له ترجمة في:الأغاني 169/7،و خزانة الأدب 220/1.
2- البخاري 49/4،و أحمد 50/2 و 92،و ابن أبي شيبة 313/5 و 322.
3- سلم الخاسر هو:سلم بن عمرو،أحد موالي أبي بكر الصديق،نشأ بالبصرة،و كان شاعرا مطبوعا متصرفا في فنون الشعر،و كان متظاهرا بالخلاعة و الفسوق و المجون.مات سنة(186).له ترجمة في:الأغاني 110/21،و وفيات الأعيان 198/1،و تاريخ بغداد 136/9.
4- سبقت ترجمته.
5- سبقت ترجمته.
6- تقدمت ترجمته.

و من الاستعارة في القرآن كثير كقوله: وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ (1)يريد ما يكون الذكر عنه شرفا.و قوله: صِبْغَةَ اللّهِ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً (2)قيل دين اللّه أراد و قوله:

اِشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ (3) و من البديع عندهم الغلو كقول النمر بن تولب:

أبقى الحوادث و الأيام من نمر إسناد سيف قديم أثره بادي

تظل تحفر عنه إن ضربت به بعد الذراعين و القدين و الهادي

و كقول النابغة (4):

تقدّ السّلوقيّ المضاعف نسجه و يوقدن بالصّفاح نار الحباحب

و كقول عنترة (5):

فازورّ من وقع القنا بلبانه و شكا إليّ بعبرة و تحمحم

و كقول أبي تمام (6):

لو يعلم الركن من قد جاء يلثمه لخرّ يلثم منه موطئ القدم

و كقول البحتري (7):

و لو أن مشتاقا تكلف فوق ما في وسعه لمشى إليك المنبر

و من هذا الجنس في القرآن: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (8)و قوله: إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَ زَفِيراً (9)و قوله: تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ (10).

و مما يعدونه من البديع المماثلة و هو ضرب من الاستعارة،و ذلك أن يقصد الإشارة إلى معنى فيضع ألفاظا تدل عليه.و ذلك المعنى بألفاظه مثال للمعنى الذي قصد الإشارة إليهك.

ص: 62


1- آية(44)سورة الزخرف.
2- آية(88)سورة البقرة.
3- آية(16)سورة البقرة.
4- سبقت ترجمته.
5- عنترة هو:ابن شداد من قبيلة عبس،و هو من الشعراء الفرسان الشجعان،و عشق فهاجت شاعريته، و اتسع خياله.مات سنة(615 م).له ترجمة في:الأغاني 148/7،و خزانة الأدب 62/1.
6- سبقت ترجمته.
7- سبقت ترجمته.
8- آية(30)سورة ق.
9- آية(12)سورة الفرقان.
10- آية(8)سورة الملك.

نظيره من المنثور:أن يزيد (1)بن الوليد:بلغه أن مروان بن محمد يتلكأ عن بيعته فكتب إليه:«أما بعد،فإني أراك تقدم رجلا و تؤخر أخرى،فاعتمد على أيتهما شئت»و كنحو ما كتب به الحجاج إلى المهلّب:«فإن أنت فعلت ذاك و إلا أشرعت إليك الرمح»،فأجابه المهلّب:(فإن أشرع الأمير الرمح قلبت إليه ظهر المجنّ)و كقول زهير:

و من يعص أطراف الزّجاج فإنه يطيع العوالى ركّبت كلّ لهذم

و كقول امرئ القيس:

و ما ذرفت عيناك إلا لتضربي بسهميك في أعشار قلب مقتّل

و كقول عمر (2)بن معديكرب :

فلو أنّ قومي أنطقتني رماحهم نطقت و لكنّ الرماح أجرّت

و كقول القائل:

بني عمّنا لا تذكروا الشعر بعد ما دفنتم بصحراء الغمير القوافيا

و كقول الآخر:

أقول و قد شدوا لساني بنسعة أ معشر تيم أطلقوا عن لسانيا

و من هذا الباب في القرآن كقوله: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النّارِ (3)و كقوله وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4)قال الأصمعي (5):«أراد البدن».قال:و تقول العرب:«فدى لك ثوباي يريد نفسه».

و أنشد:

ألا أبلغ أبا حفص رسولا فدا لك من أخي ثقة إزاري

و يرون من البديع أيضا ما يسمونه المطابقة،و أكثرهم على أن معناها أن يذكر الشيء و ضده،كالليل و النهار،و السواد و البياض،و إليه ذهب الخليل (6)بن أحمد و الأصمعي،1.

ص: 63


1- له ترجمة في:تاريخ الخلفاء ص(250).
2- عمرو بن معدي كرب،أدرك الإسلام و أسلم،و جاهد حتى مات في آخر خلافة عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه.مات سنة(643 م).له ترجمة في:الأغاني 25/14،و خزانة الأدب 425/1.
3- آية(175)سورة البقرة.
4- آية(4)سورة المدثر.
5- سبقت ترجمته.
6- الخليل بن أحمد أبو عبيد الرحمن البصري الفراهيدي الأزدي،كان من تلامذة أبي عمرو العلاء، و عنه أخذ سيبويه،و هو أول من استخرج علم العروض.مات سنة(180 ه).له ترجمة في:وفيات الأعيان 172/1،و تاريخ ابن خلدون 482/1.

و من المتأخرين؛عبد اللّه بن المعتز.و ذكر ابن المعتز من نظائره من المنثور،ما قاله بعضهم:«أتيناك لتسلك بنا سبيل التوسع،فأدخلتنا في ضيق الضمان»و نظيره من القرآن:

وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ (1) و قوله: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ (2)و قوله: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ (3)و مثله كثير جدا.

و كقول النبي صلّى اللّه عليه و سلّم للأنصار:«إنكم تكثرون عند الفزع،و تقلون عند الطمع» و قال آخرون:بل المطابقة أن يشترك معنيان بلفظة واحدة،و إليه ذهب قدامة بن جعفر الكاتب،فمن ذلك قول الأفوه (4)الأودي:

و أقطع الهواجل مستأنسا بهوجل مستأنس عنتريس

عنى بالهوجل الأول الأرض و بالثاني الناقة.و مثله قول زياد (5)الأعجم:

و نبّئتهم يستنصرون بكاهل و للّؤم فيهم كاهل و سنام

و مثله قول أبي داود:

عهدت لها منزلا دائرا و آلا على الماء يحملن آلا

فالآل الأول:أعمدة الخيام تنصب على البئر للسقي،و الآل الثاني:السراب.و ليس عنده قول من قال المطابقة،إنما تكون باجتماع الشيء و ضده بشيء.و من المعنى الأول قول الشاعر:

أهين لهم نفسي لأكرمها بهم و لن تكرم النّفس التي لا تهينها

و مثله قول امرئ القيس:

و تردي على صمّ صلاب ملاطس شديدات عقد ليّنات متان

و كقول النابغة:

و لا يحسبون الخير لا شرّ بعده و لا يحسبون الشرّ ضربة لازب1.

ص: 64


1- آية(179)سورة البقرة.
2- آية(19)سورة الروم.
3- آية(61)سورة الحج.
4- الأفوه الأودي هو:صلاءة بن عمرو من أود و ينتهي نسبه إلى مذحج من قبائل اليمن،و كان سيد قومه و قائدهم،و كانوا يصدرون عن رأيه،و العرب تعده من حكمائها.مات سنة(570 م).له ترجمة في: الأغاني 44/11،و الشعر و الشعراء(110).
5- زياد الأعجم،كان ينزل اصطخر،فغلبت العجمة على لسانه،فسمي الأعجم،و كان شاعرا جزل الشعر،فصيح الألفاظ.مات سنة(100 ه).له ترجمة في:خزانة الأدب 193/4،و فوات الوفيات 164/1.

و كقول زهير و قد جمع فيه طباقين:

بعزمة مأمور مطيع و آمر مطاع فلا يلفى لحزمهم مثل

و كقول الفرزدق:

و الشيب ينهض في الشباب كأنه ليل يصيح بجانبيه نهار

و مما قيل فيه ثلاث تطبيقات قول جرير:

و باسط خير فيكم بيمينه و قابض شر عنكم بشماليا

و كقول رجل من بلعنبر:

يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة و من إساءة أهل السوء إحسانا

و روي عن الحسن (1)بن علي رضي اللّه عنهما أنه تمثل بقول القائل:

فلا الجود يفنى المال و الجدّ مقبل و لا البخل يبقى المال و الجدّ مدبر

و كقول الآخر:

فسرّي كإعلاني و تلك سجيّتي و ظلمة ليلي مثل ضوء نهاريا

و كقول قيس (2)بن الخطيم:

إذا أنت لم تنفع فضرّ؛فإنما يرجّى الفتى كيما يضرّ و ينفعا

و كقول السموأل:

و ما ضرنا أنا قليل و جارنا عزيز و جار الأكثرين ذليل

فهذا باب يرونه من البديع.

و باب آخر و هو«التجنيس»؛و معنى ذلك:أن تأتي بكلمتين متجانستين،فمنه ما تكون الكلمة في تجانس الأخرى في تأليف حروفها،و إليه ذهب الخليل.

و منهم من زعم أن المجانسة أن تشترك اللفظتان على جهة الاشتقاق كقوله عز و جل:

فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ (3) و كقوله: وَ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ (4)و كقوله: يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ (5)و كقوله: اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُف.

ص: 65


1- الحسن بن علي بن أبي طالب الهاشمي سبط رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،و ريحانته في الدنيا،و أحد سيدي شباب أهل الجنة.روى عن جده رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،و كان أشبه الناس به.له ترجمة في:تهذيب التهذيب 257/20-528/261.
2- قيس بن الخطيم،كان شاعرا فارسا من الأوس.مات سنة(612 م).له ترجمة في:الأغاني 159/2،و الجمهرة(123)،و خزانة الأدب 168/3.
3- آية(42)سورة الروم.
4- آية(44)سورة النمل.
5- آية(84)سورة يوسف.

اَلْأَمْنُ (1) و كقوله: وَ هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَ يَنْأَوْنَ عَنْهُ (2).

و كقول النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:(أسلم سالمها اللّه،و غفار غفر اللّه لها،و عصيّة عصت اللّه.

و رسوله) (3).و كقوله:(الظلم ظلمات يوم القيامة) (4)و قوله:(لا يكون ذو الوجهين وجيها عند اللّه).

*و كتب بعض الكتاب:(العذر مع التعذر واجب،فرأيك فيه)و قال معاوية (5)لابن عباس (6):«ما لكم يا بني هاشم تصابون في أبصاركم؟»فقال:«كما تصابون في بصائركم».

و قال عمر (7)بن الخطاب رضي اللّه عنه:«هاجروا و لا تهجروا»و من ذلك قول قيس ابن عاصم:

و نحن حفرنا الحوفزان بطعنة كسته نجيعا من دم الجوف أشكلا

و قال آخر:«أمل عليها بالبلى الملوان» (8).

و قال الآخر:

و ذاكم أن ذل الجار حالفكم و إن أنفكم لا تعرف الأنفا

و كتب إلى بعض مشايخنا قال:أنشدنا الأخفش عن المبرد (9)عن التوزي:3.

ص: 66


1- آية(82)سورة الأنعام.
2- آية(26)سورة الأنعام.
3- البخاري 33/2 و 220/4،و مسلم في:فضائل الصحابة(132،184،185،186،187)، و الترمذي(3941 و 3949)،و أحمد 20/2 و 50 و 107 و 117.
4- البخاري 169/3،و الترمذي(2030)،و أحمد 137/2 و 156 و 159،و البيهقي 93/6 و 134/10.
5- معاوية هو:ابن أبي سفيان صخر بن حرب القرشي الأموي،أسلم يوم الفتح،و كتب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بعد ذلك،و كان من الموصوفين بالدهاء و الحلم.مات بدمشق سنة(60).له ترجمة في:الرياض المستطابة ص(254-256).
6- سبقت ترجمته.
7- سبقت ترجمته.
8- الملوان:الليل و النهار.
9- المبرد هو:أبو العباس محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الثمالي،نسبة إلى ثمالة قبيلة من الأزد.كان شيخ أهل النحو و العربية،و إليه انتهى علمهما،و كان قوي الذاكرة،كثير الحفظ،و له مؤلفات منها: الكامل في الأدب و غير ذلك.مات سنة(285 ه).له ترجمة في:وفيات الأعيان 495/1، و الفهرست(59)،و انباه الرواة 241/3.

و قالوا:حمامات فحمّ لقاؤها و طلح فزيرت و المطىّ طلوح

عقاب بأعقاب من النأى بعد ما جرت نية تنسى المحبّ طروح

و قال صحابي:

هدهد فوق بانة هدى و بيان بالنجاح يلوح

و قالوا:دم دامت مواثيق عهده و دام لنا حسن الصفاء صريح

و قال آخر:«أقبلن من مصر يبارين البرى».

و قال القطامي:

و لما ردّها في الشّول شالت بذيّال يكون لها لفاعا

و قد يكون التجنيس بزيادة حرف؛أو ما يقارب ذلك،كقول البحتري:

هل لما فات من تلاف تلاف أم لشاك من الصبابة شاف؟

و قال ابن مقبل:

يمشين هيل النّقا مالت جوانبه ينهال حينا و ينهاه الثّرى حينا

و قال زهير:

هم يضربون حييك البيض إذ لحقوا لا ينكلون إذا ما استلحموا و حموا

و من ذلك قول أبي تمام:

يمدون من أيد عواص عواصم تصول بأسياف قواض قواضب

و أبو نواس يقصد في مصراعى مقدمات شعره هذا الباب كقوله:

ألا دارها بالماء حتى تلينها فلن تكرم الصهباء حتى تهينها

و كذلك قوله:

ديار نوار ما ديار نوار كسونك شجوا هنّ منه عوار

و كقول ابن المعتز (1):

سأثني على عهد المطيرة و القصر و أدعو لها بالساكنين و بالقطر

و كقوله أيضا:

هي الدار إلا أنها منهم قفر و أنّي بها ثاو و أنهم سفر

و كقوله:

للأمانيّ حديث[قد]يقر و يسوء الدهر من قد يسر2.

ص: 67


1- ابن المعتز هو:أبو العباس عبد اللّه بن المعتز بن المتوكل من أبناء الخلفاء العباسيين،كان شاعرا مطبوعا مقتدرا على الشعر،جيد القريحة.مات سنة(296 ه).له ترجمة في:وفيات الأعيان 258/1،و الأغاني 140/9،و شذرات الذهب 221/2.

و كقول المتنبي:

و قد أراني الشباب الرّوح في بدني و قد أراني المشيب الرّوح في بدلي

و قد قيل إن من هذا القبيل قوله عز و جل: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (1)و قوله تعالى: قُلِ اللّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي. فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ (2).

و يعدون من البديع المقابلة،و هي أن يوفق بين معان و نظائرها،و المضاد بضده، و ذلك مثل قول النابغة (3)الجعدي:

فتى تم فيه ما يسرّ صديقه على أنّ فيه ما يسوء الأعاديا

و قال تأبط شرا:

أهزّ به في ندوة الحي عطفه كما هزّ عطفي بالهجان الأوارك

و كقول الآخر:

و إذا حديث ساءني لم أكتئب و إذا حديث سرّني لم أشرز

و كقول الآخر:

و ذي إخوة قطّعت أرحام بينهم كما تركوني واحدا لا أخاليا

و نظيره من القرآن ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ. ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (4).

و يعدون من البديع«الموازنة»،و ذلك كقول بعضهم:«اصبر على حرّ اللقا و مضض النزال و شدة المصاع».

و كقول امرئ القيس:

سليم الشّطا عبل الشّوى شنج النّسا له حجبات مشرفات على الفال

و نظيره من القرآن: وَ السَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ. وَ الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ. وَ شاهِدٍ وَ مَشْهُودٍ (5).

و يعدون من البديع المساواة،و هي أن يكون اللفظ مساويا للمعنى،لا يزيد عليه و لاج.

ص: 68


1- آية(37)سورة الأنبياء.
2- آية(14،15)سورة الزمر.
3- النابغة الجعدي من«جعدة»قيس،مخضرم،قال الشعر في الجاهلية،و سكت دهرا،ثم نبغ في الإسلام.له ترجمة في:الأغاني 128/4،و خزانة الأدب 512/1.
4- آية(53،54)سورة النحل.
5- آية(1:3)سورة البروج.

ينقص عنه،و ذلك يعد من البلاغة،و ذلك كقول زهير:

و مهما تكن عند امرئ من خليقة و إن خالها تخفى على الناس تعلم

و كقول جرير (1):

فلو شاء قومي كان حلمي فيهم و كان على جهّال أعدائهم جهلي

و كقول الآخر:

إذا أنت لم تقصر عن الجهل و الخنا أصبت حليما أو أصابك جاهل

و كقول الهزلي:

فلا تجزعن من سنّة أنت سرتها و أوّل راض سنة من يسيرها

و كقول الآخر:

فإن هم طاوعوك فطاوعيهم و إن عاصوك فاعصي من عصاك

و نظير ذلك في القرآن كثير..و مما يعدّونه من البديع«الإشارة»؛و هو اشتمال اللفظ القليل على المعاني الكثيرة.و قال بعضهم في وصف البلاغة:لمحة دالة.و من ذلك قول طرفة (2):

فظل لنا يوم لذيذ بنعمة فقل في مقيل نحسه متغيّب

و كقول زيد الخيل (3):

فخيبة من يخيب على غنيّ و باهلة بن أعصر و الرّباب

و نظيره من القرآن وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى (4)و مواضع كثيرة.

و يعدون من البديع المبالغة و الغلو،و المبالغة تأكيد معاني القول و ذلك كقول الشاعر:

و نكرم جارنا ما كان فينا و نتبعه الكرامة حيث مالاد.

ص: 69


1- جرير هو:ابن عطية بن الخطفي،نشأ في البادية أيام معاوية،و كان واسع الخيال،قوي الشاعرية مع ميل إلى الهجاء.مات سنة(111 ه).له ترجمة في:وفيات الأعيان 102/1،و الشعر و الشعراء (283).و خزانة الأدب 397/3.
2- سبقت ترجمته.
3- زيد الخيل هو:ابن مهلهل من طي،و كان فارسا شجاعا بعيد الصيت في الجاهلية،و أدرك الإسلام و وفد على النبي،فسر به و لقبه،و سماه زيد الخيل.له ترجمة في:الأغاني 47/16،و خزانة الأدب 488/2.
4- آية(31)سورة الرعد.

و من ذلك قول الآخر:

و هم تركوكم أسلح من حبارى رأت صقرا و أشرد من نعام

فقوله:رأت صقرا مبالغة،و من الغلو قول أبي نواس:

توهّمتها في كأسها فكأنما توهمت شيئا ليس يدركه العقل

فما يرتقي التكييف فيها إلى مدى يحدّ به إلا و من قبله قبل

و قول زهير:

لو كان يقعد فوق الشمس من كرم قوم بأوّلهم أو مجدهم قعدوا

و كقول النابغة:

بلغنا السماء مجدنا و سناؤنا و إنا لنرجو فوق ذلك مظهرا

و كقول الخنساء (1):

و ما بلغت كفّ امرئ متناول بها المجد إلا حيثما نلت أطول

و ما بلغ المهدون في القول مدحة و إن أطنبوا إلا الذي فيك أفضل

و قول الآخر:

له همم لا منتهى لكبارها و همته الصغرى أجلّ من الدّهر

له راحة لو أن معشار جودها على البرّ صار البرّ أندى من البحر

و يرون من البديع«الإيغال»في الشعر خاصة،فلا يطلب مثله في القرآن إلا في الفواصل.كقول امرئ القيس (2):

كأن عيون الوحش حول خبائنا و أرحلنا الجزع الذي لم يثقّب

و قد أوغل بالقافية في الوصف فأكد التشبيه بها.و المعنى قد يستقبل دونها.

و من البديع عندهم«التوشيح»و هو أن يشيد أول البيت بقافيته،و أول الكلام بآخره، كقول البحتري (3):

فليس الذي حلّلته بمحلل و ليس الذي حرّمته بحرام

و مثله في القرآن: فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَ أَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ (4)و من ذلكة.

ص: 70


1- الخنساء هي:تماضر بنت عمرو بن الشريد،و قد أجمع رواة الشعر على أنه لم تقم امرأة في العرب قبلها و لا بعدها أشعر منها.ماتت سنة(646 م).لها ترجمة في:خزانة الأدب 208/1،و الشعر و الشعراء(197).
2- سبقت ترجمته.
3- سبقت ترجمته.
4- آية(39)سورة المائدة.

رد عجز الكلام على صدره،كقول اللّه عز و جل: اُنْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَ أَكْبَرُ تَفْضِيلاً (1)و كقوله: لا تَفْتَرُوا عَلَى اللّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ،وَ قَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (2)و من هذا الباب قول القائل:

و إن لم يكن إلاّ تعلّل ساعة قليلا فإني نافع لي قليلها

و كقول جرير (3):

سقى الرّمل جون مستهل غمامه و ما ذاك إلا حبّ من حلّ بالرمل

و كقول الآخر:

يود الفتى طول السلامة و الغنى فكيف يرى طول السّلامة يفعل

و كقول أبي صخر (4)الهذلي:

عجبت لسعي الدهر بيني و بينها فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر

و كقول الآخر:

أصد بأيدي العيس عن قصد أرضها و قلبي إليها بالمودّة قاصد

و كقول عمرو بن معدي كرب:

إذا لم تستطع شيئا فدعه و جاوزه إلى ما تستطيع

و من البديع«صحة التقسيم»،و من ذلك قول نصيب:

فقال فريق القوم:لا و فريقهم نعم،و فريق قال:ويحك ما ندري

و ليس في أقسام الجواب أكثر من هذا.و كقول الآخر:

فكأنما فيه نهار ساطع و كأنه ليل عليها مظلم

و قول المقفع الكندي:

و إن يأكلوا لحمي وفرت لحومهم و إن يهدموا مجدي بنيت لهم مجدا

و إن ضيّعوا غيبي حفظت غيوبهم و إن هم هووا غيّي هويت لهم رشدا

و إن زجروا طيرا بنحس تمرّ بي زجرت لهم طيرا تمر بهم سعدا

و كقول عروة بن حزام:

بمن لو رآه غائبا لفديته و من لو رآني غائبا لفداني1.

ص: 71


1- آية(21)سورة الإسراء.
2- آية(61)سورة طه.
3- سبقت ترجمته.
4- أبو صخر الهذلي هو:عبد اللّه بن سلم،كان متعصبا لآل مروان،هجا ابن الزبير فحبسه حتى مات. له ترجمة في:خزانة الأدب 555/1،و الأغاني 94/21.

و نحوه قول اللّه عز و جل: اَللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا،يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ (1)و نحوه صحة التفسير كقول القائل:

ولي فرس للحلم بالحلم ملجم ولي فرس للجهل بالجهل مسرج

و من البديع التكميل و التتميم كقول نافع بن خليفة:

رجال إذا لم يقبلوا الحق منهم و يعطوه عادوا بالسيوف القواطع

و إنما تم جودة المعنى بقوله:و يعطوه،و ذلك كقول اللّه عز و جل إِنَّ اللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ (2)إلى آخر الآية ثم قال إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (3).

و من البديع«الترصيع»و ذلك من ألوان منها:قول امرئ القيس:

مخشّ مجشّ مقبل مدبر معا كتيس ظباء الحلّب في العدوان

و من ذلك كثير من مقدمات أبي نواس:

يا منّة امتنّها السّكر ما ينقضي منّي لها الشكر

و كقوله،و قد ذكرناه قبل هذا:

ديار نوار ما ديار نوار كسونك شجوا هنّ منه عوار

و من ذلك:«الترصيع»مع التجنيس كقول ابن المعتز:

أ لم نجزع على الربع المحيل و أطلال و آثار محول

و نظيره من القرآن كقوله: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ. وَ إِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (4)و قوله: ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ. وَ إِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (5)و كقوله: وَ إِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ. وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (6)و كقوله: وَ الطُّورِ. وَ كِتابٍ مَسْطُورٍ (7)و قوله: وَ السّابِحاتِ سَبْحاً.

فَالسّابِقاتِ سَبْقاً (8) و قد أولع الشعراء بنحو هذا فأكثروا فيه،و منهم من اقتنع بالترصيع فيت.

ص: 72


1- آية(257)سورة البقرة.
2- آية(34)سورة لقمان.
3- آية(13)سورة الحجرات.
4- آية(1،2)سورة الأعراف.
5- آية(2،3)سورة القلم.
6- آية(7،8)سورة العاديات.
7- آية(1،2)سورة الطور.
8- آية(3،4)سورة النازعات.

بعض أطراف الكلام،و منهم من بنى كلامه عليه كقول ابن الرومي:

أبدانهن و ما لبس ن من الحرير معا حرير

أردانهنّ و ما مس ن من العبير معا عبير

و كقوله:

فلراهب أن لا يريب أمانه و لراغب أن لا يريث نجاحه

و مما يقارب الترصيع،ضرب يسمى«المضارعة»و ذلك كقول الخنساء:

حامي الحقيقة محمود الخليقة مه ديّ الطريقة نفّاع و ضرّار

جواب قاصية جزّاز ناصية عقّاد ألوية للخيل جرّار

و من البديع باب:«التكافؤ»و ذلك قريب من«المطابقة»كقول المنصور:«لا تخرجوا من عز الطاعة إلى ذل المعصية»و قول عمر بن ذر:

«إنا لم نجد لك إذا عصيت اللّه فينا خيرا من أن نطيع اللّه فيك».

و منه قول بشار:

إذا أيقظتك حروب العدا فنبه لها عمرا ثم نم

و من البديع باب«التعطف»كقول امرئ القيس:«عود على عود على عود خلق»، و قد تقدم مثاله.

و من البديع«السلب»و الإيجاب كقول القائل:

و ننكر إن شئنا على الناس قولهم و لا ينكرون القول حين نقول

و من البديع:«الكناية و التعريض»كقول القائل:

و أحمر كالديباج أما سماؤه فريّا،و أما أرضه فمحول

و من هذا الباب«لحن القول»:

و من ذلك«العكس و التبديل»كقول الحسن:«إن من خوّفك لتأمن،خير ممن أمنك لتخاف»،و كقوله:«اللهم أغنني بالفقر إليك و لا تفقرني بالاستغناء عنك».و كقوله:«بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعا و لا تبع آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعا»و كقول القائل:

و إذا الدّر زان حسن وجوه كان للدرّ حسن وجهك زينه

و قد يدخل في هذا الباب قوله تعالى: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ .

و من البديع«الالتفات»فمن ذلك ما كتب إلى الحسن بن عبد اللّه العسكري،أخبرنا محمد بن عبد اللّه الصولي،حدثني يحيى بن علي المنجم عن أبيه عن إسحاق بن إبراهيم

ص: 73

قال:قال لي الأصمعي أ تعرف التفاتات جرير؟قلت:لا.فما هي؟قال:

أ تنسى إذ تودعنا سليمى بفرع بشامة سقي البشام

و مثل ذلك لجرير (1):

متى كان الخيام بذي طلوح سقيت الغيث أيتها الخيام

و معنى الالتفاتات أنه اعترض في الكلام قوله:(سقيت الغيث)و لو لم يعترض لم يكن ذلك التفاتا،و كان الكلام منتظما،و كان يقول:متى كان الخيام بذي طلوح أيتها الخيام،متى خرج عن الكلام الأول ثم رجع إليه على وجه يلطف،كان ذلك التفاتا.

و مثله قول النابغة (2)الجعدي:

أ لا زعمت بني سعد بأنى ألا كذبوا كبير السن فاني

و مثله قول كثير (3):

لو أن الباذلين و أنت منهم رأوك تعلّموا منك المطالا

و مثله قول أبي تمام:

و أنجدتم من بعد اتهام داركم فيا دمع أنجدني على ساكني نجد

و كقول جرير:

طرب الحمام بذي الأراك فشاقني لا زلت في غلل و أيك ناضر

التفت إلى الحمام فدعا لها.

و مثله قول حسان (4):

إن التي ناولتني فرددتها قتلت قتلت فهاتها لم تقتل

و منه قول عبد اللّه بن معاوية بن عبد اللّه بن جعفر:

و أجمل إذا ما كنت لا بدّ مانعا و قد يمنع الشيء الفتى و هو مجمل

و كقول ابن ميادة:

فلا صرمه يبدو و في اليأس راحة و لا وصله يصفو لنا فنكارمه).

ص: 74


1- سبقت ترجمته.
2- سبقت ترجمته.
3- كثير هو:ابن عبد الرحمن،و يعرف بكثير عزة نسبة إلى حبيبته التي كان يشبب بها،و كان شيعيا، شديد التعصب لآل أبي طالب.مات سنة(105 ه).له ترجمة في:الأغاني 46/11،و خزانة الأدب 381/2.
4- حسان هو:ابن ثابت،عاصر الجاهلية و الإسلام فهو من المخضرمين،و اشتهر في الجاهلية بمدح ملوك غسان و ملوك الحيرة،و اختص بعد الإسلام بمدح النبي و الدفاع عنه.مات سنة(54 ه).له ترجمة في:خزانة الأدب 111/1،و الشعر و الشعراء(170).

و نظير ذلك من القرآن ما حكى اللّه تعالى عن إبراهيم الخليل من قوله: اُعْبُدُوا اللّهَ وَ اتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَوْثاناً وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً (1)إلى قوله: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ (2)و قوله عز و جل إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ.

وَ ما ذلِكَ عَلَى اللّهِ بِعَزِيزٍ. وَ بَرَزُوا لِلّهِ جَمِيعاً (3) و مثله قوله: حَتّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ (4)إلى آخر الآية.

و مثله قوله: وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها إلى قوله: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ (5)و مثله قوله تعالى: وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللّهِ وَ اللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ (6)و منهم من لا يعد الاعتراض و الرجوع من هذا الباب،و منهم من يفرده عنه كقول زهير:

قف بالديار التي لم يعفها القدم نعم و غيّرها الأرواح و الدّيم

و كقول الأعرابي:

أ ليس قليلا نظرة إن نظرتها إليك و كلاّ ليس منك قليل

و كقول ابن هرمة:

ليت حظى كلحظة العين منها و كثير منها القليل المهنّا

و من الرجوع قول القائل:

بكلّ تداوينا فلم يشف ما بنا على أنّ قرب الدار خير من البعد

و قال الأعشى:

صرمت و لم أصرمكم و كصارم أخ قد طوى كشحا و آب ليذهبا

و كقول بشار:

لي حيلة فيمن ينم م و ليس في الكذّاب حيلة

من كان يخلق ما يقو ل فحيلتي فيه قليله

و قال آخر:

و ما بي انتصار إن عدا الدهر ظالما عليّ،بلى إن كان من عندك النصرة.

ص: 75


1- آية(16،17)سورة العنكبوت.
2- آية(24)سورة العنكبوت.
3- آية(19:21)سورة إبراهيم.
4- آية(22)سورة يونس.
5- آية(175،176)سورة الأعراف.
6- آية(38،39)سورة المائدة.

و باب آخر من البديع،يسمى«التذييل»،و هو ضرب من«التأكيد»و هو ضد ما قدمنا ذكره من الإشارة كقول أبي داود:

إذا ما عقدنا له ذمّة شددنا العناج و عقد الكرب

و أخذه الحطيئة (1)فقال:

فدعوا نزال فكنت أول نازل و علام أركبه إذا لم أنزل

و كقول جرير:

لقد كنت فيها يا فرزدق تابعا و ريش الذّنابى تابع للقوادم

و مثله قوله عز و جل: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً إلى قوله: إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ. وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ .إلى قوله: خاطِئِينَ (2).

و باب من البديع يسمى الاستطراد،فمن ذلك ما كتب إلى الحسن بن عبد اللّه قال:

أنشدني أبو بكر بن دريد قال:أنشدنا أبو حاتم عن أبي عبيدة،لحسان بن ثابت رضي اللّه تعالى عنه:

إن كنت كاذبة التي حدّثتني فنجوت منجى الحرث بن هشام

ترك الأحبّة أن يقاتل دونهم و رمى برأس طمرّة و لجام

و كقول السموأل:

و إنا لقوم لا نرى القتل سبّة إذا ما رأته عامر و سلول

و كقول الآخر:

خليليّ من كعب أعينا أخاكما على دهره،إن الكريم معين

و لا تبخلا بخل ابن قزعة إنه مخافة أن يرجى تراه حزين

و كقول الآخر:

فما ذرّ قرن الشّمس حتّى كأننا من العيّ نحكي أحمد بن هشام

و كقول زهير:

إن البخيل ملوم حيث كان و ل كنّ الجواد على علاّته هرمص.

ص: 76


1- الحطيئة هو:جرول بن أوس من بني عبس،و من فحول الشعراء و مقدميهم و فصحائهم،متين الشعر، و كان إذا نزل في مدينة أو نجع دب الخوف في أهله،و أرصدوا له العطايا خوفا من لسانه.له ترجمة في:خزانة الأدب 409/1،و الجمهرة(153)،و الشعر و الشعراء(180).
2- آية(4:8)سورة القصص.

و فيما كتب إلى الحسن بن عبد اللّه قال:أخبرني محمد بن يحيى،حدثني محمد بن علي الأنباري قال:سمعت البحتري يقول:أنشدني أبو تمام لنفسه:

و سابح هطل التّعداء هتّان على الجراء أمين غير خوّان

أظمئ الفصوص و لم تظمأ قوائمه فجل عينك في ريان ظمئان

و لو تراه مشيحا و الحصى قلق بين السنابك من مثنى و وحدان

أيقنت إن لم تثبت أن حافره من صخر تدمر أو من وجه عثمان

و قال لي:ما هذا من الشعر؟قلت:لا أدري.قال:هذا المستطرد،أو قال:

الاستطراد قلت:و ما معنى ذلك،قال:يرى أنه يصف الفرس،و يريد هجاء عثمان،فقال:

و قال البحتري:

ما إن يعاف قذى و لو أوردته يوما خلائق حمدويه الأحول

قال:فقيل للبحتري:إنك أخذت هذا من أبي تمام،فقال:ما يعاب عليّ أن آخذ منه و اتبعه فيما يقول.

و من هذا الباب قول أبي تمام:

صبّ الفراق علينا صبّ من كثب عليه إسحاق يوم الرّوع منتقما

و منه قول السري الرفاء:

نزع الوشاة لنا بسهم قطيعة يرمى بسهم الحين من يرمي به

ليت الزمان أصاب حب قلوبهم بقنا ابن عبد اللّه أو بحرابه

و نظيره من القرآن: أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَ الشَّمائِلِ سُجَّداً لِلّهِ وَ هُمْ داخِرُونَ. وَ لِلّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَ الْمَلائِكَةُ وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (1)كأنه كان المراد أن يجري بالقول الأول إلى الإخبار عن أن كل شيء يسجد للّه عز و جل،و إن كان ابتداء الكلام في أمر خاص.و من البديع عندهم التكرار كقول الشاعر:

هلاّ سألت جموع كن دة يوم ولّوا أين أينا

و كقول الآخر:

و كانت فزارة تصلي بنا فأولى فزارة أولى لها

و نظيره من القرآن كثير كقوله: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِل.

ص: 77


1- آية(48،49)سورة النحل.

يُسْراً (1) ،و كالتكرار في قوله: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (2)و هذا فيه معنى زائد على التكرار؛لأنه يفيد الإخبار عن الغيب.

و من البديع عندهم ضرب من الاستثناء كقول النابغة (3):

و لا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب

و كقول النابغة الجعدي (4):

فتى كملت أخلاقه غير أنه جواد فلا يبقى من المال باقيا

فتى تم فيه ما يسر صديقه على أن فيه ما يسوء الأعاديا

و كقول الآخر:

حليم إذا ما الحلم زيّن أهله مع الحلم في عين العدو مهيب

كقول أبي تمام (5):

تنصّل ربّها من غير جرم إليك سوى النصيحة و الوداد

و وجوه البديع كثيرة جدا،فاقتصرنا على ذكر بعضها،و نبهنا بذلك على ما لم نذكر كراهة التطويل،فليس الغرض ذكر جميع أبواب البديع.

و قد قدر مقدرون أنه يمكن استفادة إعجاز القرآن من هذه الأبواب التي نقلناها،و إن ذلك مما يمكن الاستدلال به عليه،و ليس كذلك عندنا؛لأن هذه الوجوه إذا وقع التنبيه عليها أمكن التوصل إليها بالتدرب و التعود و التصنع لها،و ذلك كالشعر الذي إذا عرف الإنسان طريقه صح منه التعمل له،و أمكنه نظمه.

و الوجوه التي تقول إن إعجاز القرآن يمكن أن يعلم منها،فليس مما يقدر البشر على التصنع له و التوصل إليه بحال.

و يبين ما قلنا:أن كثيرا من المحدثين قد تصنّع لأبواب الصنعة،حتى حشى جميع شعره منها،و اجتهد أن لا يفوته بيت إلا و هو يملؤه من الصنعة،كما صنع أبو تمام في لاميته:

متى أنت عن ذهليّة الحي ذاهل و صدرك منها مدة الدهر آهله.

ص: 78


1- آية(5،6)سورة الانشراح.
2- آية(1)سورة الكافرون.
3- سبقت ترجمته.
4- سبقت ترجمته.
5- سبقت ترجمته.

تطل طلول الدمع في كلّ موقف و تمثل بالصبر الديار المواثل

دوارس لم يحف الربيع ربوعها و لا مرّ في أغفالها و هو غافل

فقد سحبت فيها السحاب ذيولها و قد اخملت بالنور تلك الخمائل

تعفين من زاد العفاة إذا انتحى على الحيّ صرف الأزمة المتماحل

لهم سلف سمر العوالي و سامر و فهم جمال لا يعيض و جامل

ليالي أضللت العزاء و خزّلت بعقلك آرام الخدور العقائل

من الهيف لو أن الخلاخيل صيّرت لها و شحا جالت عليه الخلاخل

مها الوحش إلا أن هاتا أو أنس قنا الخطّ إلا أن تلك ذوابل

هوى كان خلسا إن من أطيب الهوى هوى جلت في أفيائه و هو خامل

و من الأدباء من عاب عليه هذه الأبيات و نحوها على ما قد تكلف فيها البديع و تعمل من الصنعة،فقال:قد أذهب ماء هذا الشعر و رونقه و فائدته اشتغالا بطلب التطبيق و سائر ما جمع فيه.

و قد تعصب عليه أحمد بن عبد اللّه بن عمار،و أسرف حتى تجاوز إلى الغض من محاسنه،و لما قد أولع به من الصنعة ربما غطى على بصره حتى يبدع في الحسن كقوله في قصيدة له أولها:

سرت تستجير الدمع خوف نوى غد و عاد قتادا عندها كلّ مرقد

فقال لها:

لعمري لقد حرّرت يوم لقيته لو أن القضاء وحده لم يبرّد

و كقوله:

لو لم تدارك من المجد مذ زمن بالجود و البأس كان المجد قد خرفا

فهذا من الاستعارات القبيحة،و البديع المقيت كقوله:

تسعون ألفا كآساد الشّرى نضجت أعمارهم قبل نضج التين و العنب

و كقوله:

لو لم يمت بين أطراف الرماح إذا لمات إذ لم يمت من شدة الحزن

و كقوله:«خشنت عليه أخت بني خشين».و كقوله:

ألا لا يمد الدهر كفا بسيّئ إلى مجتدى نصر فتقطع من الزند

و قال في وصف المطايا:

لو كان كلّفها عبيد حاجة يوما لزنّى شدقما و جديلا

و كقوله:

فضربت الشتاء في أخدعيه ضربة غادرته عودا ركوبا

ص: 79

فهذا و ما أشبه إنما يحدث من غلوّه في محبة الصنعة،حتى يعميه عن وجه الصواب، و ربما أسرف في المطابق و المجانس و وجوه البديع من الاستعارة و غيرها،حتى استقلّ نظمه،و استوخم رصعه،و كان التكلف باردا،و التصرف جامدا،و ربما اتفق مع ذلك في كلامه النادر المليح،كما يتفق البارد القبيح.

فأما البحتري فإنه لا يرى في التجنيس ما يراه أبو تمام،و يقل التصنع له.فإذا وقع في كلامه،كان في الأكثر حسنا رشيقا،و ظريفا جميلا،و تصنعه للمطابق كثير حسن،و تعمقه في وجوه الصنعة على وجه طلب السلامة و الرغبة في السلاسة،فلذلك يخرج سليما من العيب في الأكثر.

و أما وقوف الألفاظ به عن تمام الحسنى،و قعود العبارات عن الغاية القصوى،فشيء لا بد منه،و أمر لا محيص عنه،و كيف و قد وقف على من هو أجل منه و أعظم قدرا في هذه الصنعة،و أكبر في الطبقة،كامرئ القيس،و زهير،و النابغة،و إلى يومه و نحن نبين تميز، كلامه و انحطاط درجة قولهم،و نزول طبقة نظمهم عن بديع نظم القرآن في باب مفرد، يتصور به ذو الصنعة ما يجب تصوره،و يتحقق وجه الإعجاز فيه بمشيئة اللّه و عونه.

ثم رجع الكلام بنا إلى ما قدمناه،من أنه لا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن من البديع الذي ادعوه في الشعر و وصفوه فيه.و ذلك أن هذا الفن ليس فيه ما يخرق العادة،و يخرج عن العرف،بل يمكن استدراكه بالتعلم و التدرب به و التصنع له،كقول الشعر،و وصف الخطب،و صناعة الرسالة،و الحذق في البلاغة.و له طريق يسلك،و وجه يقصد،و سلّم يرتقى فيه إليه،و مثال قد يقع طالبه عليه.فرب إنسان يتعود أن ينظم جميع كلامه شعرا،أو يتعود أن يكون جميع خطابه سجعا،أو صنعة متصلة،لا يسقط من كلامه حرف،و قد يبادئ به ما قد تعوده،و أنت ترى أدباء زماننا يضيفون المحاسن في جزء،و كذلك يؤلفون أنواع البارع،ثم ينظرون فيه إذا أرادوا إنشاء قصيدة،أو رسالة،أو خطبة،فيحشون به كلامهم.

و من كان قد تدرب و تقدم في حفظ ذلك،اشتغل عن هذا التصنيف و لم يحتج إلى تكلف هذا التأليف،و كان ما أشرف عليه من هذا الشأن باسطا من باع كلامه،و موشحا بأنواع البديع ما يحاوله من قوله،و هذا طريق لا يتعذر،و باب لا يمتنع،و كل يأخذ فيه مأخذا،و يقف فيه موقفا على قدر ما معه من المعرفة،و بحسب ما يمده من الطبع.

فأما شأو نظم القرآن،فليس له مثال يحتذي إليه،و لا إمام يقتدى به،و لا يصح وقوع مثله اتفاقا؛كما يتفق للشاعر البيت النادر،و الكلمة الشاردة،و المعنى الفذ الغريب،

ص: 80

و الشيء القليل العجيب.و كما يلحق بكلامه بالوحشيات،و يضاف من قوله إلى الأوابد؛ لأن ما جرى هذا المجرى،و وقع هذا الموقع،فإنما يتفق للشاعر في لمع من شعره، و للكاتب في قليل من رسائله،و للخطيب في يسير من خطبه،و لو كان كل شعره نادرا و مثلا سائرا،و معنى بديعا،و لفظا رشيقا،و كل كلامه مملوءا من رونقه،و مائه و مملأ ببهجته و حسن روائه،و لم يقع فيه المتوسط بين الكلامين،و المتردد بين الطرفين،و لا البارد المستثقل،و الغث المستنكر،لم يبن الإعجاز في الكلام،و لم يبن التفاوت العجيب بين النظام و النظام.

و هذه جملة تحتاج إلى تفصيل،و مبهم قد يحتاج في بعض إلى تفسير،و سنذكر ذلك بمشيئة اللّه و عونه،و لكن قد يمكن أن يقال في البديع الذي حكيناه،و أضفناه إليهم،أن ذلك باب من أبواب البراعة،و جنس من أجناس البلاغة،و أنه لا ينفك القرآن عن فن من فنون بلاغاتهم،و لا وجه من وجوه فصاحاتهم.و إذا أورد هذا المورد،و وضع هذا الموضع،كان جديرا.

و إنما لم نطلق القول إطلاقا،لأنّا لا نجعل الإعجاز متعلقا بهذه الوجوه الخاصة، و وقفا عليها.و مضافا إليها،و إن صح أن تكون هذه الوجوه مؤثرة في الجملة،آخذة بخطها من الحسن و البهجة متى وقعت في الكلام على غير وجه التكلف المستبشع،و التعمل المستبشع.

ص: 81

فصل: في كيفية الوقوف على إعجاز القرآن

اشارة

قد بينا أنه لا يتهيأ لمن كان لسانه غير العربية،من العجم و الترك و غيرهم،أن يعرفوا إعجاز القرآن إلا أن يعلموا أن العرب قد عجزوا عن ذلك.فإذا عرفوا هذا بأن علموا أنهم قد تحدّوا على أن يأتوا بمثله،و قرّعوا على ترك الإتيان بمثله،و لم يأتوا به،تبينوا أنهم عاجزون عنه.و إذا عجز أهل ذلك اللسان،فهم عنه أعجز.

و كذلك نقول إن من كان أهل اللسان العربي إلاّ أنه ليس يبلغ في الفصاحة الحد الذي يتناهى إلى معرفة أساليب الكلام،و وجوه تصرّف اللغة،و ما يعدّونه فصيحا بليغا بارعا من غيره،فهو كالأعجمي،في أنه لا يمكنه أن يعرف إعجاز القرآن،إلا بمثل ما بينا أن يعرف به الفارسي الذي بدأنا بذكره،و هو و من ليس من أهل اللسان سواء.

فأما من كان قد تناهى في معرفة اللسان العربي،و وقف على طرقها و مذاهبها،فهو يعرف القدر الذي ينتهي إليه وسع المتكلم من الفصاحة،و يعرف ما يخرج عن الوسع، و يتجاوز حدود القدرة،فليس يخفى عليه إعجاز القرآن،كما يميز بين جنس الخطب و الرسائل و الشعر،و كما يميز بين الشعر الجيد و الرديء،و الفصيح و البديع،و النادر و البارع و الغريب.

و هذا كما يميز أهل كل صناعة صنعتهم،فيعرف الصّيرفيّ من النقد ما يخفى على غيره،و يعرف البزاز من قيمة الثوب و جودته و رداءته ما يخفى على غيره،و إن كان يبقى مع معرفة هذا الشأن أمر آخر.و ربما اختلفوا فيه؛لأن من أهل الصنعة من يختار الكلام المتين و القول الرصين.

و منهم من يختار الكلام الذي يروق ماؤه،و تروع بهجته و رواؤه،و يسلس مأخذه، و يسلم وجهه و منفذه،و يكون قريب المتناول،غير عويص اللفظ و لا غامض المعنى.كما يختار قوم ما يغمض معناه و يغرب لفظه،و لا يختار ما سهل على اللسان و سبق إلى البيان.

و روي أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه وصف زهيرا فقال:«كان لا يمدح الرجل

ص: 82

إلا بما فيه»و قال لعبد بني الحسحاس حين أنشده:

«كفى الشيب و الإسلام للمرء ناهيا» أما إنه لو قلت مثل هذا لأجزتك عليه.

و روي أن جريرا سأل عن أحسن الشعر،فقال قوله:

إن الشقي الذي في النار منزله و الفوز فوز الذي ينجو من النار

كأنه فضله لصدق معناه.و منهم من يختار الغلو في قول الشعر و الإفراط فيه حتى ربما قالوا«أحسن الشعر أكذبه»كقول النابغة:

يقدّ السلوقيّ المضاعف نسجه و يوقدن بالصّفاح نار الحباحب

و أكثرهم على مدح المتوسط بين المذهبين في الغلو و الاقتصاد،و في المتانة و السلامة،و منهم من رأى أن أحسن الشعر ما كان أكثر صنعة،و ألطف تعملا،و أن يتخير الألفاظ الرشيقة للمعاني البديعة و القوافي الواقعة،كمذهب البحتري،و على ما وصفه عن بعض الكتاب:

في نظام من البلاغة ما شك ك امرؤ أنه نظام فريد

و بديع كأنه الزهر الضا حك في رونق الربيع الجديد

حزن مستعمل الكلام اختيارا و تجنبن ظلمة التعقيد

و ركبن اللفظ القريب فأدركن به غاية المراد البعيد

و يرون أن من تعدى هذا كان سالكا مسلكا عاميا و لم يروه شاعرا و لا مصيبا.و فيما كتب الحسن بن عبد اللّه أبو أحمد العسكري قال:أخبرني محمد بن يحيى،قال:أخبرني عبد اللّه بن الحسن،قال:قال لي البحتري:دعاني علي بن الجهم فمضيت إليه،فأفضنا في أشعار المحدثين إلى أن ذكرنا شعر أشجع،فقال لي:إنه يخلي،و أعادها مرات،و لم أفهمها؛و أنفت أن أسأله عن معناها،فلما انصرفت فكرت في الكلمة،و نظرت في شعره، فإذا هو ربما مرت له الأبيات مغسولة ليس فيها بيت رائع؛و إذا هو يريد هذا بعينه،أن يعمل الأبيات،فلا يصيب فيها ببيت نادر،كما أن الرامي إذا رمى برشقة فلم يصب بشيء قيل قد أخلى.قال:و كان علي بن الجهم أحسن الناس علما بالشعر.

و قوم من أهل اللغة يميلون إلى الرصين من الكلام،الذي يجمع الغريب و المعاني، مثل أبي عمرو بن العلاء،و خلف الأحمر،و الأصمعي.و منهم من يختار الوحشي من الشعر،كما اختار المفضل للمنصور من المفضليات.و قيل:إنه اختار ذلك لميله إلى ذلك الفن.

ص: 83

و ذكر الحسن بن عبد اللّه أنه أخبره بعض الكتاب عن علي بن العباس قال:«حضرت مع البحتري مجلس عبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر،و قد سئل البحتري عن أبي نواس و مسلم بن الوليد،أيهما أشعر؟فقال البحتري:أبو نواس أشعر،فقال عبيد اللّه:إن أبا العباس ثعلبا لا يطابقك على قولك،و يفضل مسلما،فقال البحتري:ليس هذا من عمل ثعلب و ذويه من المتعاطين لعلم الشعر دون عملهن،إنما يعلم ذلك من وقع في سلك الشعر إلى مضايقه،و انتهى إلى ضروراته.

فقال له عبيد اللّه:وريت بك زنادي يا أبا عبادة،و قد وافق حكمك حكم أخيك بشار ابن برد في جرير و الفرزدق أيهما أشعر؟ فقال:جرير أشعرهما،فقيل له:بما ذا؟ فقال:لأن جريرا يشتد إذا شاء،و ليس كذلك الفرزدق؛لأنه يشتد أبدا.

فقيل له:فإن يونس و أبا عبيدة يفضلان الفرزدق على جرير.

فقال:ليس هذا من عمل أولئك القوم.إنما يعرف الشعر من يضطر إلى أن يقول مثله.و في الشعر ضروب لم يحسنها الفرزدق،و لقد ماتت النّوار امرأته فناح عليها بقول جرير:

لو لا الحياء لعادني استعبار و لزرت قبرك و الحبيب يزار

و روي عن أبي عبيدة أنه قال للفرزدق:ما لك لا تنسب كما ينسب جرير؟فغاب حولا ثم جاء فأنشد:

يا أخت ناجية بن سامة إنني أخشى عليك بنيّ إن طلبوا دمي

و الأعدل في الاختيار ما سلكه أبو تمام من الجنس الذي جمعه في كتاب«الحماسة» و ما اختاره من«الوحشيات»و ذلك أنه تنكر المستنكر الوحشي،و المبتذل العامي،و أتى بالواسطة.و هذه الطريقة من ينصف في الاختيار،و لا يعدل به غرض يخص؛لأن الذين اختاروا الغريب فإنما اختاروه لغرض لهم في تفسير ما يشتبه على غيرهم،و إظهار التقدم في معرفته و عجز غيرهم عنه،و لم يكن قصدهم جيد الأشعار لشيء يرجع إليها في أنفسها، و يبين هذا أن الكلام موضوع للإبانة عن الأغراض التي في النفوس.

و إذا كان كذلك وجب أن يتخير من اللفظ ما كان أقرب إلى الدلالة على المراد، و أوضح في الإبانة عن المعنى المطلوب،و لم يكن مستكره المطلع على الأذن،و مستنكر المورد على النفس،حتى يتأبى بغرابته في اللفظ عن الإفهام،أو يمتنع بتعويض معناه عن الإبانة.و يجب أن يتنكب ما كان عليه اللفظ،مبتذل العبارة،ركيك المعنى،سفسافي

ص: 84

الوضع،مجتنب التأسيس على غير أصل ممهد،و لا طريق موطد،و إنما فضلت العربية على غيرها لاعتدالها في الوضع.

و لذلك وضع أصلها على أكثرها بالحروف المعتدلة،فقد أهملوا الألفاظ المستكرهة في نظمها،و أسقطوها من كلامهم،فجرى لسانهم على الأعدل،و لذلك صار أكثر كلامهم من الثلاثي لأنهم بدءوا بحرف و سكتوا على آخر،و جعلوا حرفا وصلة بين الحرفين ليتم الابتداء و الانتهاء على ذلك.

و الثنائي أقل،و كذلك الرباعي و الخماسي أقل.و لو كان كله ثنائيا لتكررت الحروف،و لو كان كله رباعيا أو خماسيا لكثرت الكلمات.و كذلك بنى أمر الحروف التي ابتدئ بها السور التي ابتدئت بذكر الحروف ذكر فيها ثلاثة أحرف،و ما هو أربعة أحرف سورتان،و ما ابتدئ بخمسة أحرف سورتان،فأما ما بدئ بحرف واحد فقد اختلفوا فيه، فمنهم من لم يجعل ذلك حرفا،و إنما جعله فعلا و اسما لشيء خاص.و من جعل ذلك حرفا قال:أراد أن يحقق الحروف مفردها و منظومها.

و لضيق ما سوى كلام العرب،أو لخروجه عن الاعتدال يتكرر في بعض الألسنة الحرف الواحد في الكلمة الواحدة.و الكلمات المختلفة كثيرا،كنحو تكرر الطاء و السين في لسان يونان،و كنحو الحروف الكثيرة التي هي اسم لشيء واحد في لسان الترك.و لذلك لا يمكن أن ينظم من الشعر في تلك الألسنة على الأعاريض التي تمكن في اللغة العربية.

و العربية أشدها تمكنا و أشرفها تصرفا و أعدلها،و لذلك جعلت حلية لنظم القرآن،و علق بها الإعجاز،و صارت دلالة في النبوة.

و إذا كان الكلام إنما يفيد الإبانة عن الأغراض القائمة في النفوس التي لا يمكن التوصل إليها بأنفسها،و هي محتاجة إلى ما يعبر عنها.

فما كان أقرب في تصويرها و أظهر في كشفها للفهم الغائب عنها،و كان مع ذلك أحكم في الإبانة عن المراد،و أشد تحقيقا في الإيضاح عن الطلب،و أعجب في وضعه، و أرشق في تصرفه،و أبرع في نظمه،كان أولى و أحق بأن يكون شريفا.

و قد شبهوا النطق بالخط،و الخط يحتاج مع بيانه إلى رشاقة و صحة و لطف،حتى يجوز الفضيلة و يجمع الكمال.و شبهوا الخط و النطق بالتصوير.و قد أجمعوا أن من أحذق المصورين من صوّر لك الباكي المتضاحك،و الباكي الحزين،و الضاحك المتباكي، و الضاحك المستبشر.و كما أنه يحتاج إلى لطف يد في تصوير هذه الأمثلة،فكذلك يحتاج إلى لطف في اللسان و الطبع في تصوير ما في النفس للغير،و في جملة الكلام إلى ما تقصر

ص: 85

عبارته و تفضل معانيه.و في ما تقصر المعاني و تفضل العبارات،و فيه ما يقع كل واحد منهما وفقا للآخر،ثم ينقسم ما يقع وفقا إلى أنه قد يفيدها على تفصيل.و كل واحد منهما قد ينقسم إلى ما يفيدها على أن يكون كل واحد منهما بديعا شريفا و غريبا لطيفا.و قد يكون كل واحد منهما مستجلبا متكلفا و مصنوعا متعسفا،و قد يكون كل واحد منهما حسنا رشيقا، و بهيجا نضيرا،و قد يتفق أحد الأمرين دون الآخر،و قد يتفق أن يسلم الكلام و المعنى من غير رشاقة و لا نضارة في واحد منهما.

إنما يميز من يميز،و يعرف من يعرف،و الحكم في ذلك صعب شديد،و الفضل فيه شأو بعيد.و قد قل من يميز أصناف الكلام؛فقد حكي عن طبقة أبي عبيدة،و خلف الأحمر و غيرهم،في زمانهم أنهم قالوا:ذهب من يعرف نقد الشعر.

و قد بينا قبل هذا اختلاف القوم في الاختيار،و ما يجب أن يجمعوا عليه و يرجعوا عند التحقيق إليه.و كلام المقتدر نمط،و كلام المتوسع باب،و كلام المطبوع له طريق،و كلام المتكلف له منهاج،و الكلام المصنوع المطبوع له باب.و متى تقدم الإنسان في هذه الصنعة لم تخف عليه هذه الوجوه،و لم تشتبه عنده هذه الطرق.فهو يميز قدر كل متكلم بكلامه، و قدر كل كلام في نفسه،و يحله محله،و يعتقد فيه ما هو عليه،و يحكم فيه بما يستحق من الحكم،و إن كان المتكلم يجود في شيء دون شيء عرف ذلك منه،و إن كان يعم إحسانه عرف،أ لا ترى أن منهم من يجود في المدح دون الهجو،و منهم من يجود في الهجو وحده،و منهم من يجود في المدح و السخف،و منهم من يجود في الأوصاف.

و العالم لا يشذ عنه مراتب هؤلاء،و لا يذهب عليه أقدارهم،حتى أنه إذا عرف له طريقة شاعر في قصائد معدودة فأنشد غيرها من شعر لم يشك أن ذلك من نسجه،و لم يرتب في أنه من نظمه.كما أنه إذا عرف خط رجل لم يشتبه عليه خطه،حيث رآه من بين الخطوط المختلفة،و حتى يميز بين رسائل كاتب و بين رسائل غيره.

و كذلك أمر الخطب فإن اشتبه البعض،فهو لاشتباه الطريقين و تماثل الصورتين.كما قد يشتبه شعر أبي تمام بشعر البحتري في القليل الذي يترك أبو تمام فيه التصنع،و يقصد فيه التسهل و يسلك الطريقة الكتابية،و يتوجه في تقريب الألفاظ و ترك تعويض المعاني،و يتفق له مثل بهجة أشعار البحتري و ألفاظه.

و لا يخفى على أحد يميز هذه الصنعة،سبك أبي نواس،و لا نسج ابن الرومي،من نسج البحتري،و ينبهه ديباجة شعر البحتري،و كثرة مائه،و بديع رونقه،و بهجة كلامه،إلا فيما يسترسل فيه،فيشتبه بشعر ابن الرومي،و يحركه ما لشعر أبي نواس من الحلاوة و الرقة

ص: 86

و الرشاقة و السلاسة،حتى يفرق بينه و بين شعر مسلم.و كذلك يميز بين شعر الأعشى،في التصرّف و بين شعر امرئ القيس،و بين شعر النابغة و زهير،و بين شعر جرير و الأخطل، و البعيث و الفرزدق.و كل له منهج معروف،و طريق مألوف.

و لا يخفى عليه في زماننا الفضل بين رسائل عبد الحميد و طبقته،و بين طبقة من بعده،حتى أنه لا يشتبه عليه ما بين رسائل ابن العميد و بين رسائل أهل عصره،و من بعده ممن برع في صنعة الرسائل،و تقدم في شأوها حتى جمع فيها بين طرق المتقدمين،و طريقة المتأخرين،حتى خلص لنفسه طريقة،و أنشأ لنفسه منهاجا،فسلك تارة طريقة الجاحظ، و تارة طريقة السجع،و تارة طريقة الأصل،و برع في ذلك باقتداره،و تقدم بحذقه،و لكنه لا يخفى مع ذلك على أهل الصنعة طريقه من طريق غيره.و إن كان قد يشتبه البعض و يدق القليل و تغمض الأطراف و تشذ النواحي.و قد يتقارب سبك نفر من شعراء عصره،و تتدانى رسائل كتاب دهر،حتى تشتبه اشتباها شديدا،و تتماثل تماثلا قريبا،فيغمض الفصل.

و قد يتشاكل الفرع و الأصل و ذلك فيما لا يتعذر إدراك أمده،و لا يتصعب طلاب شأوه،و لا يتمنع بلوغ غايته،و الوصول إلى نهايته،لأن الذي يتفق مع الفضل بين أهل الزمان إذا تفاضلوا و تفاوتوا في مضمار فصل قريب و أمر يسير.و كذلك لا يخفى عليهم معرفة سارق الألفاظ،و سارق المعاني،و لا من يخترعها،و لا من يسلم بها،و لا من يجاهر بالأخذ ممن يكاتم به،و لا من يخترع الكلام اختراعا،و يبتدهه ابتداها،ممن يروّى فيه، و يجيل الفكر في تنقيحه،و يصير عليه حتى يتخلص له ما يريد،و حتى يتكرر نظره فيه.

قال أبو عبيدة:سمعت أبا عمرو يقول:زهير و الحطيئة و اشباههما عبيد الشعر،لأنهم نقحوه و لم يذهبوا فيه مذهب المطبوعين؛و كان زهير يسمّي كبر شعره«الحوليات المنقحة».و قال عدي بن الرقاع:

و قصيدة قد بت أجمع بينها حتى أقوّم ميلها و سنادها

نظر المثقّف في كعوب قناته حتى يقيم ثقافة منادها

و كقول سويد بن كراع:

أبيت بأبواب القوافي كأنما أصادي بها سربا من الوحش نزّعا

و منهم من يعرف بالبديهة وحدة الخاطر،و نفاد الطبع و سرعة النظم،يرتجل القول ارتجالا،و يطبعه عفوا صفوا.فلا يقعد به عن قوم قد تعبوا و كدوا أنفسهم،و جاهدوا خواطرهم.

و كذلك لا يخفى عليهم الكلام العلوي و اللفظ الملوكي،كما لا يخفى عليهم الكلام

ص: 87

العامي و اللفظ السوقي ثم تراهم ينزلون الكلام تنزيلا،و يعطونه كيف تصرف حقوقه، و يعرفون مراتبه فلا يخفى عليهم ما يختص به كل فاضل تقدم في وجه من وجوه النظم،من الوجه الذي لا يشاركه فيه غيره،و لا يساهمه سواه.

أ لا تراهم وصفوا زهيرا بأنه أمدحهم،و أشدهم أثر شعر.قاله أبو عبيدة،و روي أن الفرزدق انتحل بيتا من شعر جرير،و قال:هذا يشبه شعري.فكان هؤلاء لا يخفى عليهم ما قد نسبناه إليهم من المعرفة بهذا الشأن،و هذا كما يعلم البزازون هذا الديباج عمل بتستر، و هذا لم يعمل بتستر،و أن هذا من صنعة فلان دون فلان،و من نسج فلان دون فلان،حتى لا يخفى عليه و إن كان قد يخفى على غيره.ثم إنهم يعلمون أيضا من له سمت بنفسه، و رفت برأسه،و من يقتدي في الألفاظ أو في المعاني أو فيهما بغيره،و يجعل سواه قدوة له.

و من يلم في الأحوال بمذهب غيره و يأتي في الأحيان بمخترعه.

و هذه أمور ممهدة عند العلماء،و أسباب معروفة عند الأدباء.و كما يقولون إن البحتري يغير على أبي تمام إغارة.و يأخذ منه صريحا و إشارة،و يستأنس بالأخذ منه، بخلاف ما يستأنس بالأخذ من غيره،و يألف اتباعه كما لا يألف اتباع سواه.

و كما كان أبو تمام يلم بأبي نواس و مسلم،و كما يعلم أن بعض الشعراء يأخذ من كل أحد لا يتحاشى،و يؤلف ما يقوله من فرق شتى.و ما الذي نفع المتنبي جحوده الأخذ، و إنكاره معرفة الطائيين.و أهل الصنعة يدلون على كل حرف أخذه منهما جهارا،أو ألم بهما فيه سرارا؟! و أما ما لم يأخذ عن الغير،و لكن سلك النمط،و راعى النهج،فهم يعرفونه، و يقولون هذا أشبه به من التمرة بالتمرة،و أقرب إليه من الماء إلى الماء،و ليس بينهما إلا كما بين الليلة و الليلة.فإذا تباينا و ذهب أحدهما في غير مذهب صاحبه،و سلك في غير جانبه،قيل بينهما ما بين السماء و الأرض،و ما بين النجم و النون،و ما بين المشرق و المغرب.

و إنما أطلت عليك و وضعت جميعه بين يديك،لتعلم أن أهل الصنعة يعرفون دقيق هذا الشأن و جليله،و غامضه و قريبه،و بعيده و معوجه و مستقيمه.فكيف يخفى عليهم الجنس الذي هو بين الناس متداول،و هو قريب متناول،من أمر يخرج عن أجناس كلامهم،و يبعد عما هو في عرفهم،و يفوت مواقع قدرهم؟ و إذا اشتبه ذلك،فإنما يشتبه على ناقص في الصنعة،أو قاصر عن معرفة طرق الكلام الذي يتصرفون فيه،و يديرونه بينهم،و لا يتجاوزنه،فكلامهم سبل مضبوطة،و طرق

ص: 88

معروفة محصورة.و هذا كما يشتبه على من يدّعي الشعر من أهل زماننا،و العلم بهذا الشأن،فيدّعي أنه أشعر من البحتري،و يتوهم أنه أدق مسلكا من أبي نواس و أحسن طريقا من مسلم.و أنت تعلم أنهما متباعدان،و تتحقق أنهما لا يجتمعان،و لعل أحدهما إنما يلحظ عبارة صاحبه،و يطالع ضياء نجمه،و يراعي حقوق جناحه،و هو راكد في موضعه، و لا يضر البحتري ظنه،و لا يلحقه بشأوه و همه.فإن اشتبه على متأدب أو متشاعر أو ناشئ أو مرمد فصاحة القرآن،و موقع بلاغته،و عجيب براعته،فما عليك منه،إنما يخبر عن نقصه و يدل على عجزه،و يبين عن جهله،و يصرح بسخافة فهمه،و ركاكة عقله.

و إنما قدمنا ما قدمناه في هذا الفصل لتعرف أن ما ادعيناه من معرفة البليغ بعلو شأن القرآن،و عجيب نظمه،و بديع تأليفه أمر لا يجوز غيره و لا يحتمل سواه،و لا يشتبه على ذي بصيرة و لا يخيل عند أخي معرفة كما يعرف الفضل بين طباع الشعراء من أهل الجاهلية، و بين المخضرمين و بين المحدثين و يميز بين من يجري على شاكلة طبعه و غريزة نفسه، و بين من يشتغل بالتكلف و التصنع،و بين ما يصير التكلف له كالمطبوع،و بين من كان مطبوعه كالتعمل المصنوع.هيهات هيهات،هذا أمر و إن دق فله قوم يقبلونه علما،و أهل يحيطون به فهما،و يعرفونه إليك إن شئت،و يصورونه لديك إن أردت،و يجلونه على خواطرك إن أحببت،و يعرضونه لفطنتك إن حاولت،و قد قال القائل:

للحرب و الضرب أقوام لها خلقوا و للدّواوين كتّاب و حسّاب

و لكل عمل رجال،و لكل صنعة ناس،و في كل فرقة الجاهل و العالم و المتوسط.

و لكن قد قلّ من يميز في هذا الفن خاصة،و ذهب من يحصل في هذا الشأن إلا قليلا،فإن كنت ممن هو بالصفة التي وصفناها من التناهي في معرفة الفصاحات،و التحقيق بمجاري البلاغات،فإنما يكفيك التأمل و يغنيك التصور،و إن كنت في الصنعة مرمدا،و في المعرفة بها متوسطا،فلا بد لك من التقليد،و لا غنى بك عن التسليم.إن الناقص في هذه الصنعة كالخارج عنها،و الشادي فيها كالبائن منها.فإن أراد أن يقرب عليه أمرا،و يفسح له طريقا، و يفتح له بابا،ليعرف به إعجاز القرآن.فإنا نضع بين يديه الأمثلة،و نعرض عليه الأساليب، و نصور له صورة كل قبيل من النظم و النثر،و نحضر له من كل فن من القول شيئا يتأمله حق تأمله و يراعيه حق مراعاته،فيستدل استدلال العالم،و يستدرك استدراك الناقد،و يقطع له الفرق بين الكلام الصادر عن الربوبية،الطالع عن الإلهية،الجامع بين الحكم و الحكم.

و الإخبار عن الغيوب و الغائبات،و المتضمن لمصالح الدنيا و الدين.و المستوعب لجلية اليقين و المعاني المخترعة في تأسيس أصل الشريعة و فروعها بالألفاظ الشريفة،على تفننها و تصرفها.و تعمد إلى شيء من الشعر المجمع عليه فتبين وجه النقص فيه،و تدل على

ص: 89

انحطاط رتبته،و وقوع أبواب الخلل فيه حتى إذا تأمل ذلك و تأمل ما نذكره من تفصيل إعجاز القرآن و فصاحته و عجيب براعته،انكشف له و اتضح،و ثبت ما وصفناه لديه و وضح.و ليعرف حدود البلاغة،و موقع البيان و البراعة،و وجه التقدم في الفصاحة و ذكر الجاحظ في كتاب البيان و التبيين أن الفارسي سئل فقيل له:ما البلاغة؟فقال:

معرفة الفصل من الوصل.

و سئل اليوناني عنها فقال:تصحيح الأقسام و اختيار الكلام.

و سئل الرومي عنها فقال:حسن الاقتضاب عند البداهة و الغزارة يوم الإطالة.

و سئل الهندي عنها فقال:وضوح الدلالة و انتهاز الفرصة و حسن الإشارة،و قال مرة:

التماس حسن الموقع و المعرفة بساحات القول،و قلة الخرق بما التبس من المعاني،أو غمض و شرد من اللفظ و تعذر.و زينته أن تكون الشمائل موزونة،و الألفاظ معدلة، و اللهجة نقية،و أن لا يكلم سيد الأمة بكلام الأمة،و يكون في قواه فضل التصرف في كل طبقة،و لا يدقق المعاني كل التدقيق،و لا ينقح الألفاظ كل التنقيح،و يصفيها كل التصفية، و يهذبها بغاية التهذيب.

و أما«البراعة»ففيما يذكر أهل اللغة،الحذق بطريقة الكلام و تجويده.و قد يوصف بذلك كل متقدم في قول أو صناعة.

و أما«الفصاحة»فقد اختلفوا فيها منهم من عبر عن معناها بأنه ما كان جزل اللفظ حسن المعنى،و قد قيل معناها الاقتدار على الإبانة عن المعاني الكامنة في النفوس،على عبارات جلية،و معان نقية بهية.

و الذي يصور عندك ما ضمنا تصويره،و يحصل عندك معرفته إذ كنت في صنعة الأدب متوسطا،و في علم العربية متبينا،أن تنظر أولا في نظم القرآن،ثم في شيء من كلام النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فتعرف الفصل بين النظمين،و الفرق بين الكلامين،فإن تبين لك الفصل و وقفت على جلية الأمور و حقيقة الفرق،فقد أدركت الغرض،و صادفت المقصد.

و إن لم تفهم الفرق و لم تقع على الفصل،فلا بد لك من التقليد،و علمت أنك من جملة العامة،و أن سبيلك سبيل من هو خارج عن أهل اللسان.

خطبة للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم:روى طلحة بن عبيد اللّه،قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يخطب على منبره يقول:«ألا أيها الناس توبوا إلى ربكم قبل أن تموتوا،و بادروا الأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا،و صلوا الذي بينكم و بين ربكم بكثرة ذكركم له،و كثرة الصدقة في السّر و العلانية ترزقوا و تؤجروا و تنصروا.و اعلموا أن اللّه عز و جل قد افترض عليكم الجمعة في

ص: 90

مقامي هذا،في عامي هذا،في شهري هذا،إلى يوم القيامة،حياتي و من بعد موتي.فمن تركها و له إمام،فلا جمع اللّه له شمله،و لا بارك اللّه في أمره،ألا و لا حجّ له.ألا و لا صوم له.ألا و لا صدقة له.ألا و لا برّ له.ألا و لا يؤم أعرابي مهاجرا.ألا و لا يؤم فاجر مؤمنا.

إلا أن يقهره سلطان يخاف سيفه أو سوطه» (1).

خطبة له صلّى اللّه عليه و سلّم:«أيها الناس،إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم.و إن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم.إن المؤمن بين مخافتين؛بين أجل قد مضى لا يدري ما اللّه صانع فيه،و بين أجل قد بقي لا يدري ما اللّه تعالى قاض عليه فيه.فليأخذ العبد لنفسه من نفسه،و من دنياه لآخرته،و من الشبيبة قبل الكبر،و من الحياة قبل الموت،و الذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب،و لا بعد الدنيا دار إلا الجنة أو النار» (2).

خطبة له صلّى اللّه عليه و سلّم:«إن الحمد للّه أحمد و أستعينه.نعوذ باللّه من شرور أنفسنا،و سيئات أعمالنا.من يهد اللّه فلا مضل له.و من يضلل فلا هادي له.و أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له.إن أحسن الحديث كتاب اللّه،قد أفلح من زينه اللّه في قلبه،و أدخله في الإسلام بعد الكفر،و اختاره على ما سواه من أحاديث الناس إنه أصدق الحديث و أبلغه.أحبوا من أحب اللّه و أحبّوا اللّه من كل قلوبكم.و لا تملوا كلام اللّه و ذكره.و لا تقسوا عليه قلوبكم.

اعبدوا اللّه و لا تشركوا به شيئا،اتقوا اللّه حق تقاته و صدقوا صالح ما تعملون بأفواهكم، و تحابوا بروح اللّه بينكم.و السلام عليكم و رحمة اللّه» (3).

ليبلّغ الشاهد الغائب..

خطبة له صلّى اللّه عليه و سلّم في أيام التشريق:قال بعد حمد اللّه:«أيها الناس،هل تدرون في أي شهر أنتم،و في أي يوم أنتم،و في أي بلد أنتم،قالوا:في يوم حرام،و شهر حرام،و بلد حرام (4).

قال:ألا فإن دماءكم و أموالكم و أعراضكم عليكم حرام،كحرمة يومكم هذا،في شهركم هذا،في بلدكم هذا،إلى يوم تلقونه» (5).

ص: 91


1- الطبراني 279/1،و الجوامع(9589)،و الكنز(10170).
2- القرطبي 116/18.
3- مسلم في:الجمعة(46)،و القرطبي 218/11،و دلائل النبوة 247/2 و 524.
4- الدرّ 234/3.
5- أحمد 337/4 و 37/5،و 72 و الطبراني 312/18،و إرواء الغليل 43/1،و قال حفظه اللّه: صحيح.

ثم قال:«اسمعوا مني تعيشوا (1).ألا لا تظالموا ثلاثا.ألا إنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه (2).ألا إن كل دم و مال و مأثرة كانت في الجاهلية تحت قدمي هذه (3).

ألا و إن أول دم وضع دم ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب كان مسترضعا في بني ليث فقتلته هذيل (4).ألا و إن كل ربا كان في الجاهلية موضوع (5).ألا و إن اللّه تعالى قضى أن أول ربا يوضع ربا عمي العباس (6). فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ (7).ألا و إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السموات و الأرض (8)،منها أربعة حرم. ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ،فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ (9)،ألا لا ترجعوا بعدي كفارا،يضرب بعضكم رقاب بعض (10).ألا و إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلّون..و لكن في التحريش بينكم (11).

اتقوا اللّه في النساء فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا،و إن لهن عليكم حقا.و لكم عليهن حق (12).ألا لا يوطئن فرشكم أحد غيركم.فإن خفتم نشوزهن فَعِظُوهُنَّ وَ اهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ (13)،و اضربوهن ضربا غير مبرح.و لهن رزقهن و كسوتهن بالمعروف.فإنما أخذتموهن بأمانة اللّه تعالى.و استحللتم فروجهن بكلمة اللّه (14).ألا و من7.

ص: 92


1- أحمد 72/5،و الدرّ 234/3،و البداية 201/5.
2- أحمد 72/5.
3- أحمد 73/5.
4- الدر المنثور 234/3.
5- أحمد 73/5،و الدرّ 234/3،و الطبري 72/3.
6- أحمد 73/5،و الدرّ 235/3.
7- آية(279)سورة البقرة.
8- البخاري 83/6 و 129/7،و مسلم في:القيامة(129)و أبو داود(1947)،و أحمد 37/5 و 73.
9- آية(36)سورة التوبة.
10- البخاري 41/1،و 216/2 و 223/5 و 224 و 130/7 و 48/8 و 198 و 3/9 و 63 و 64 و 163، و مسلم في:الإيمان(119 و 120)،و أبو داود(4686)،و الترمذي(2193)،و النسائي 126/7 و 127،و ابن ماجة(3942 و 3943)،و أحمد 230/1 و 402 و 104/2.
11- أحمد 354/3،و الاتحاف 282/7.
12- مشكل الآثار 212/3.
13- آية(34)سورة النساء.
14- مسلم في:الحج(147)،و الترمذي(1163)،و أبو داود(1905)،و ابن ماجة(3074)،و أحمد 73/5،و الدارمي 48/2،و الأرواء 227/7.

كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها» (1).ثم بسط يده فقال:«ألا هل بلغت.ألا هل بلغت.ليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أبلغ من سامع» (2).

خطبته صلّى اللّه عليه و سلّم يوم فتح مكة:وقف على باب الكعبة ثم قال:«لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له.صدق اللّه وعده.و نصر عبده.و هزم الأحزاب وحده (3).ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين،إلا سدانة البيت،و سقاية الحاج (4).ألا و قتل الخطأ العمد بالسوط و العصا فيه الدية مغلظة.منها أربعة خلفة في بطونها أولادها.يا معشر قريش،إن اللّه قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية و تعظمها بالآباء (5).الناس من آدم،و آدم خلق من تراب.ثم تلا هذه الآية يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى (6)الآية.يا معشر قريش.أو يا أهل مكة.ما ترون أني فاعل بكم؟قالوا:خيرا،أخ كريم و ابن أخ كريم.

قال:فاذهبوا فأنتم الطلقاء».

من كان همه الآخرة جمع اللّه له شمله..

خطبته صلّى اللّه عليه و سلّم بالخيف:روى زيد بن ثابت أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم خطب بالخيف من منى،فقال:

«نضّر اللّه عبدا سمع مقالتي فوعاها.ثم أداها إلى من لم يسمعها.فرب حامل فقه لا فقه له.

و رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه (7).ثلاث لا يغل عليهن قلب المؤمن؛إخلاص العمل للّه،و النصيحة لأولي الأمر،و لزوم الجماعة.إن دعوتهم تكون من ورائه (8).و من كان همه الآخرة،جمع اللّه له شمله،و جعل غناه في قلبه.و أتته الدنيا و هي راغمة (9).و من كان همه الدنيا فرق اللّه أمره،و جعل فقره بين عينيه،و لم يأته من الدنيا إلا ما كتب له».

خطبة له صلّى اللّه عليه و سلّم:رواها أبو سعيد الخدري،رضي اللّه عنه.خطب بعد العصر فقال:«ألا إن الدنيا خضرة حلوة.إلا و إن اللّه مستخلفكم فيها،فناظر كيف تعملون،فاتقوا الدنيا

ص: 93


1- أحمد 73/5،و الدرّ المنثور 235/3.
2- البخاري 26/1 و 37،و مسلم في الحج(446)،و الترمذي(809)،و النسائي في:الحج(110)، و ابن ماجة(233 و 234)،و أحمد 45/5،و الدارمي 68/2.
3- أحمد 410/3.
4- سبق تخريجه.
5- الاتحاف 419/8،و الدرّ المنثور 98/6.
6- آية(13)سورة الحجرات.
7- ابن ماجة(230،231)،و أحمد 80/4.
8- أحمد 225/3 و 80/4 و 82،و الدارمي 75/1.
9- الترمذي(2465)،و الصحيحة(949).

و اتقوا النساء (1).ألا لا يمنعن رجلا مخافة الناس أن يقول الحق إذ علمه» (2).قال:و لم يزل يخطب حتى لم تبق من الشمس إلا حمرة على أطراف السعف،فقال:«إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى إلا كما بقي من يومكم هذا».

كتاب النبي صلّى اللّه عليه و سلّم إلى ملك فارس:«من محمد رسول اللّه إلى كسرى عظيم فارس.

سلام على من اتبع الهدى،و آمن باللّه و رسوله،و شهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، و أن محمدا عبده و رسوله.و أدعوك بدعاء اللّه،فإني أنا رسول اللّه إلى الناس كافة،لأنذر من كان حيا،و يحق القول على الكافرين فأسلم تسلم».

كتاب له صلّى اللّه عليه و سلّم إلى النجاشي:«من محمد رسول اللّه إلى النجاشي ملك الحبشة؛سلم أنت.فإني أحمد إليك اللّه الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن.و أشهد أن عيسى ابن مريم روح اللّه و كلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة.فحملت بعيسى فحملته من روحه، و نفخه كما خلق آدم من طين بيده و نفخه.و إني أدعوك إلى اللّه وحده لا شريك له، و الموالاة على طاعته.و أن تتبعني و تؤمن بالذي جاءني:و إني أدعوكم و جنودك إلى اللّه تعالى.فقد بلغت و نصحت،فاقبلوا نصحي،و السلام على من اتبع الهدى» (3).

**فلا تدخلها بغير هذا.! نسخة عهد الصلح مع قريش عام الحديبية:«هذا ما صالح عليه محمد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،سهيل بن عمرو:اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين،يأمن فيهن الناس،و يكفّ بعضهم عن بعض.على أنه من أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بغير إذن وليّه ردّه عليهم.و من جاء قريشا ممن مع رسول اللّه لم يردّوه عليه.و أن بيننا عيبة مكفوفة و أنه لا إسلال و لا إغلال.و أنه من أحبّ أن يدخل في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و عقده دخل فيه.و من أحب أن يدخل في عهد قريش و عقدهم دخل فيه.و أنك ترجع عنّا عامك هذا،فلا تدخل علينا مكة،فإذا كان عاما قابلا،خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك،فأقمت بها ثلاثا.و أنّ معك سلاح الراكب،و السيوف في الركب،فلا تدخلها بغير هذا».

و لا أطوّل عليك.و أقتصر على ما ألقيته إليك،فإن كان لك في الصنعة حظ،أو كان لك في هذا المعنى حس.أو كنت تضرب في الأدب بسهم،أو في العربية بقسط،و إن قل ذلك السهم أو نقص ذلك النصيب،فما أحسب أنه يشتبه عليك الفرق بين براعة القرآن،1.

ص: 94


1- مسلم ص(2098)،و الترمذي(2191)،و ابن ماجة(4000)،و أحمد 364/6.
2- أحمد 47/3،و البيهقي 90/10،و ابن حبان(1842)،و ابن عساكر 111/6.
3- سيرة ابن هشام 317/1.

و بين ما نسخناه لك من كلام الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم في خطبه و رسائله،و ما عساك تسمعه من كلامه، و يتساقط إليك من ألفاظه.و أقدر أنك ترى بين الكلامين بونا بعيدا،أو أمدا مديدا،و ميدانا واسعا،و مكانا شاسعا،فإن قلت:لعله أن يكون تعمل للقرآن،و تصنع لنظمه،و شبه عليه الشيطان ذلك من خبثه،فتثبت في نفسك،و ارجع إلى عقلك،و اجمع لبك،و تيقن أن الخطب يحتشد لها في المواقف العظام،و المحافل الكبار،و المواسم الضخام،و لا يتجوز فيها و لا يستهان بها.و الرسائل إلى الملوك مما يجمع لها الكاتب جراميزه،و يشمر لها عن جد و اجتهاد،فكيف يقع بها الإخلال،و كيف يتعرض للتفريط،فستعلم لا محالة أن نظم القرآن من الأمر الإلهي،و أن كلام النبي صلّى اللّه عليه و سلّم من الأمر النبوي.فإذا أردت زيادة في التبيّن، و تقدما في التعرف،و إشرافا على الجلية،و فوزا بمحكم القضية،فتأمل-هداك اللّه-ما ننسخه لك من خطب الصحابة و البلغاء،لتعلم أن نسجها و نسج ما نقلنا من خطب النبي صلّى اللّه عليه و سلّم واحد،و سبكها سبك غير مختلف.و إنما يقع بين كلامه و كلام غيره ما يقع من التفاوت بين كلام الفصيحين،و بين شعر الشاعرين.و ذلك أمر له مقدار معروف،و حدّ ينتهي إليه مضبوط.

فإذا عرفت أن جميع كلام الآدمي منهاج،و لجملته طريق،و تبينت ما يمكن فيه التفاوت،نظرت أخرى،و تأملته مرة ثانية،فتراعى بعد موقعه،و عالي محله و موضعه، و حكمت بواجب من اليقين،و ثلج الصدر بأصل الدين.

خطبة لأبي بكر الصديق رضي اللّه عنه:قام خطيبا فحمد اللّه و أثنى عليه،ثم قال:«أما بعد فإني وليت أمركم،و لست بخيركم.و لكن نزل القرآن و سن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم،و علّمنا فعلمنا.

و اعلموا أن أكيس الكيس التقى.و أن أحمق الحمق الفجور.و أن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بحقه.و أن أضعفكم عندي القويّ حتى آخذ منه الحق (1).

إيها الناس،إنما أنا متبع،و لست بمبتدع،فإن أحسنت فأعينوني.و إن زغت فقوموني».

عهد أبي بكر الصديق إلى عمر رضي اللّه عنه:«بسم اللّه الرحمن الرحيم هذا ما عهد أبو بكر،خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،آخر عهده بالدنيا،و أول عهده بالآخرة،ساعة يؤمن فيها الكافر،و يتّقي فيها الفاجر (2).

إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب،فإن برّ و عدل،فذاك ظني به،و رأيي فيه.).

ص: 95


1- تاريخ الخلفاء ص(69).
2- تاريخ الخلفاء ص(82).

و إن جار و بدّل،فلا علم لي بالغيب.و الخير أردت لكم،و لكل امرئ ما اكتسب من الإثم وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ » (1).

و في حديث عبد الرحمن بن عوف-رحمة اللّه عليه-قال:دخلت على أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه،في علته التي مات فيها،فقلت:أراك بارئا يا خليفة رسول اللّه، فقال:أما إني على ذلك لشديد الوجع،و ما لقيت منكم يا معشر المهاجرين أشد عليّ من وجعي.

إني وليت أموركم خيركم في نفسي،فكلكم ورم أنفه أن يكون له الأمر من دونه.

و اللّه لتتخذن نضائد الديباج،و ستور الحرير.و لتألمنّ النوم على الصوف الأذربي،كما يألم أحدكم النوم على حسك السعدان.و الذي نفسي بيده لأن يقدّم أحدكم فتضرب رقبته في غير حد،خير له من أن يخوض غمرات الدنيا.

يا هادي الطريق جرت إنما هو و اللّه الفجر أو البحر.

قال:فقلت:خفّض عليك يا خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فإن هذا يهيضك إلى ما بك.فو اللّه ما زلت صالحا مصلحا،لا تأسى على شيء فاتك من أمر الدنيا؛و لقد تخليت بالأمر وحدك،فما رأيت إلا خيرا.

و له خطب و مقامات مشهورة اقتصرنا منها على ما نقلنا منها قصة السقيفة:

نسخة كتاب:كتب أبو عبيدة بن الجراح.و معاذ بن جبل إلى عمر بن الخطاب رضي اللّه عنهم؛سلام عليك فإنا نحمد إليك اللّه الذي لا إله إلا هو.أما بعد:فإنا عهدناك و أمر نفسك لك مهم،فأصبحت و قد وليت أمر هذه الأمة،أحمرها و أسودها.يجلس بين يديك الصديق و العدو،و الشريف و الوضيع،و لكل حصته من العدل.فانظر كيف أنت يا عمر عند ذلك،فإنا نحذرك يوما تعنو فيه الوجوه،و تحب فيه القلوب،و إنا كنا نتحدث أن هذه الأمة ترجع في آخر زمانها أن يكون إخوان العلانية أعداء السريرة و إنا نعوذ باللّه أن تنزل كتابنا سوى المنزل الذي نزل من قلوبنا.فإنا إنما كتبنا إليك نصيحة و السلام.

فكتب إليهما:«من عمر بن الخطاب إلى عبيدة بن الجراح،و معاذ بن جبل.سلام عليكما،فإني أحمد إليكما اللّه الذي لا إله إلا هو.أما بعد:فقد جاءني كتابكما تزعمان أنه بلغكما أني وليت أمر هذه الأمة،أحمرها و أسودها،يجلس بين يدي الصديق و العدو، و الشريف و الوضيع.و كتبتما أن انظر كيف أنت يا عمر عند ذلك و أنه لا حول و لا قوة لعمرء.

ص: 96


1- آية(227)سورة الشعراء.

عند ذلك إلا باللّه.و كتبتما تحذراني ما حذرت به الأمم قبلنا.و قديما كان اختلاف الليل و النهار بآجال الناس،يقربان كل بعيد،و يبليان كل جديد،و يأتيان بكل موعود،حتى يصير الناس إلى منازلهم من الجنة أو النار.ثم توفّى كل نفس بما كسبت.إن اللّه سريع الحساب.

و كتبتما تزعمان أن أمر هذه الأمة يرجع في آخر زمانها،أن يكون إخوان العلانية أعداء السريرة،و لستم بذاك.و ليس هذا ذلك الزمان،و لكن زمان ذلك حين تظهر الرغبة و الرهبة،فتكون رغبة بعض الناس إلى إصلاح دينهم،و رهبة بعض الناس إصلاح دنياهم!! و كتبتما تعوذانني باللّه أن أنزل كتابكما مني سوى المنزل الذي نزل من قلوبكما.و إنما كتبتما نصيحة لي،و قد صدقتكما فتعهداني منكما بكتاب و لا غنى بي عنكما».

عهد من عهود عمر رضي اللّه عنه:«بسم اللّه الرحمن الرحيم:من عبد اللّه،عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى عبد اللّه بن قيس.سلام عليك.

أما بعد:فإن القضاء فريضة محكمة،و سنة متبعة،فافهم إذا أدلى إليك،فإنه لا ينفع تكلّم بحق لا نفاذ له.

آس بين الناس في وجهك و عدلك و مجلسك،حتى لا يطمع شريف في حيفك،و لا ييأس ضعيف من عدلك.

البينة على من ادعى،و اليمين على من أنكر،و الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما،أو حرم حلالا.و لا يمنعنّك قضاء قضيته بالأمس فراجعت فيه عقلك،و هديت لرشدك،أن ترجع إلى الحق،فإن الحق قديم،و مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل.

الفهم،الفهم،فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب و لا سنة.

ثم اعرف الأشباه و الأمثال،و قس الأمور عند ذلك.و اعمد إلى أشبهها بالحق لمن ادعى حقا غائبا،أو بينة أمرا ينتهي إليه.فإن أحضر بينة أخذت له بحقه،و لا استحللت عليه القضية فإنه أنفى للشك،و أجلى للعمى.المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد أو مجربا عليه شهادة زور،أو ظنينا في ولاء أو نسب.فإن اللّه تولى منكم السرائر، و درأ بالإيمان و البينات.و إياك و الغلق و الضجر و التأذي بالخصوم،و التنكر عند الخصومات،فإن الحق في مواطن الحق يعظم اللّه به الأجر،و يحسن به الذخر.فمن صحت نيته و أقبل على نفسه كفاه اللّه ما بينه و بين الناس.و من تخلق للناس بما يعلم اللّه أنه ليس من نفسه،شانه اللّه،فما ظنك بثواب اللّه عز و جل في عاجل رزقه،و خزائن رحمته، و السلام».

و من كلام عثمان بن عفان رضي اللّه عنه؛خطبة له رضي اللّه عنه قال:«إن لكل شيء

ص: 97

آفة،و إن لكل نعمة عاهة.في هذا الدين عيابون،ظنانون،يظهرون لكم ما تحبون، و يسرون ما تكرهون.يقولون لكم،و تقولون،طغام مثل النعام،يتبعون أول ناعق أحب مواردهم إليهم النازح.لقد أقررتم لابن الخطاب بأكثر مما نقمتم عليّ،و لكنه و قمكم و قمعكم و زجركم زجر النعام المخزمة.و اللّه إني لأقرب ناصرا،و أعز نفرا،و أقمن إن قلتم هلم أن تجاب دعوتي من عمر.هل تفقدون من حقوقكم شيئا؛فما بالى لا أفعل في الحق ما أشاء.إذا فلم كنت إماما»! كتابه إلى علي حين حضر رضي اللّه عنهما:«أما بعد:فقد بلغ السيل الزبى،و جاوز الحزام الطبين،و طمع فيّ من لا يدفع عن نفسه.فإذا أتاك كتابي هذا،فأقبل إليّ؛عليّ كنت أم لي.

فإن كنت مأكولا فكن خير آكل و إلا فأدركني و لما أمزّق»

و من كلام علي رضي اللّه عنه؛قال:لما قبض أبو بكر رضي اللّه عنه،ارتجت المدينة بالبكاء كيوم قبض النبي صلّى اللّه عليه و سلّم.«و جاء علي باكيا مسترجعا و هو يقول:اليوم انقطعت خلافة النبوة.حتى وقف على باب البيت الذي فيه أبو بكر فقال:رحمك اللّه أبا بكر كنت إلف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،و أنسه،و ثقته،و موضع سره،كنت أول القوم إسلاما و أخلصهم إيمانا و أشهدهم يقينا و أخوفهم للّه و أعظمهم غناء في دين اللّه،و أحوطهم على رسوله.و آمنهم على الإسلام،و آمنهم على أصحابه،أحسنهم صحبة،و أكثرهم مناقب،و أفضلهم سوابق و أرفعهم درجة،و أقربهم وسيلة،و أقربهم برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم سننا و هديا و رحمة و فضلا.

و أشرفهم منزلة،و أكرمهم عليه و أوثقهم عنده.جزاك اللّه عن الإسلام و عن رسول خيرا.

كنت عنده بمنزلة السمع و البصر.صدقت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،حين كذبه الناس،فسمّاك اللّه في تنزيله صديقا.فقال: وَ الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَ صَدَّقَ بِهِ (1)واسيته حين بخلوا، و قمت معه عند المكاره حين عنه قعدوا،و صحبته في الشدة أكرم الصّحبة،ثاني اثنين، و صاحبه في الغار،و المنزل عليه السّكينة و الوقار.و رفيقه في الهجرة،و خليفته في دين اللّه و في أمته أحسن الخلافة حين ارتدّ الناس فنهضت حين وهن أصحابك،و برزت حين استكانوا،و قويت حين ضعفوا و قمت بالأمر حين فشلوا،و نطقت حين تتعتعوا.و مضيت بنوره إذ وقفوا،و اتبعوك فهدوا و كنت أصوبهم منطقا،و أطولهم صمتا،و أبلغهم قولا، و أكثرهم رأيا و أشجعهم نفسا،و أعرفهم بالأمور و أشرفهم عملا.

كنت للدين يعسوبا أولا،حين نفر عنه الناس،و آخرا حين أقبلوا،و كنت للمؤمنين أبار.

ص: 98


1- آية(32)سورة الزمر.

رحيما إذ صاروا عليك عيالا،فحملت أثقال ما ضعفوا،و رعيت ما أهملوا.و حفظت ما أضاعوا،شمرت إذ خنعوا،و علوت إذ هلعوا،و صبرت إذ جزعوا.و أدركت أوتار ما طلبوا،و راجعوا رشدهم برأيك،فظفروا و نالوا بك ما لم يحتسبوا،و كنت كما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:أمنّ الناس عليه في صحبتك،و ذات يدك.و كنت كما قال:ضعيفا في بدنك،قويا في أمر اللّه،متواضعا في نفسك،عظيما عند اللّه،جليلا في أعين الناس،كبيرا في أنفسهم.

لم يكن لأحد فيك مغمز،و لا لأحد مطمع،و لا لمخلوق عندك هوادة.الضعيف الذليل عندك قوي عزيز،حتى تأخذ له بحقه.و القوي العزيز عندك ضعيف ذليل حتى تأخذ منه الحق.

القريب و البعيد عندك سواء.أقرب الناس إليك أطوعهم للّه شأنك الحق و الصدق و الرفق.قولك حكم.و أمرك حزم،و رأيك علم و عزم.فأبلغت و قد نهج السبيل،و سهل العسير،و أطفأت النيران،و اعتدل بك الدين،و قوي الإيمان،و ظهر أمر اللّه و لو كره الكافرون.

و اتعبت من بعدك إتعابا شديدا.و فزت بالجد فوزا مبينا.فجللت عن البكاء، و عظمت رزيتك في السماء،و هدت مصيبتك الأنام.فإنا للّه و إنا إليه راجعون.رضينا عن اللّه قضاءه.و سلمنا له أمره.فو اللّه لن يصاب المسلمون بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بمثلك أبدا.

فالحقك اللّه بنبيه،و لا حرمنا أجرك،و لا أضلنا بعدك».

و سكت الناس حتى انقضى كلامه،ثم بكوا حتى علت أصواتهم.

خطبة أخرى لعلي رضي اللّه عنه:«أما بعد:فإن الدنيا قد أدبرت و أذنت بوداع،و إن الآخرة قد أقبلت و أشرفت باطلاع،و إن المضمار اليوم و غدا السباق.ألا و إنكم في أيام مهل،و من ورائه أجل.

فمن أخلص في أيام أمله فقد فاز.و من قصر في أيام أمله قبل حضور أجله فقد خسر عمله،و ضره أمله.

ألا فاعملوا للّه في الرغبة،كما تعملون له في الرهبة.ألا و إني لم أر كالجنة،نام طالبها،و لا كالنار،نام هاربها.ألا و إنه من لم ينفعه الحق يضره الباطل.و من لم يستقم به الهدى يجر به الضلال.ألا و إنكم قد أمرتم بالظّعن،و دللتم على الزاد.ألا و إنّ أخوف ما أخاف عليكم الهوى و طول الأمل».

و خطب فقال بعد حمد اللّه:«أيها الناس؛اتقوا اللّه،فما خلق امرؤ عبثا،فيلهو.و لا أهمل سدى،فيلغو.ما دنياه التي خسّست إليه بخلف من الآخرة التي قبحها سوء النظر

ص: 99

إليه.و ما الخسيس الذي ظفر به من الدنيا بأعلى همته،كالآخر الذي ظفر به من الآخرة من سهمته».

و كتب علي رضي اللّه عنه إلى عبد اللّه بن عباس رحمه اللّه و هو بالبصرة:«أما بعد:

فإن المرء يسرّ بدرك ما لم يكن ليحرمه.و يسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه.فليكن سرورك بما قدمت:من أجر أو منطق.و ليكن أسفك فيما فرطت فيه من ذلك.

و انظر ما فاتك من الدنيا،فلا تكثر عليه جزعا،و ما نلته،فلا تنعم به فرحا.و ليكن همّك لما بعد الموت».

كلام لابن عباس رضي اللّه عنهما:قال عتبة بن أبي سفيان لابن عباس:ما منع أمير المؤمنين أن يبعثك مكان أبي موسى،يوم الحكمين؟ قال:«منعه و اللّه من ذلك حاجز القدر،و قصر المدّة،و محنة الابتلاء.

أما و اللّه لو بعثني مكانه لاعترضت له في مدارج نفسه،ناقضا لما أبرم،و مبرما لما نقض.أسف إذا طار،و أطير إذا أسفّ.و لكن مضى قدر،و بقي أسف.و مع يومنا غد.

و الآخرة خير لأمير المؤمن من الأولى».

خطبة لعبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه:«أصدق الحديث كتاب اللّه.و أوثق العرا كلمة التقوى.خير الملل ملّة إبراهيم.و أحسن السنن سنة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم.

خير الأمور أوساطها.و شر الأمور محدثاتها.ما قل و كفى،خير مما كثر و ألهى.

خير الغنى غنى النفس.و خير ما ألقى في القلب اليقين.

الخمر جماع الإثم.النساء حبالة الشيطان.الشباب شعبة من الجنون.حب الكفاية مفتاح العجزة.

من الناس من لا يأتي الجماعة إلا دبرا.و لا يذكر اللّه إلا هجرا،أعظم الخطايا اللسان الكذوب.سباب المؤمن فسق.و قتاله كفر.و أكل لحمه معصية.من يتألّ على اللّه يكذبه من يغفر يغفر له.

مكتوب في ديوان المحسنين:من عفا عفي عنه.الشقي من شقى في بطن أمه و السعيد من وعظ بغيره.الأمور بعواقبها.ملاك العمل خواتيمه.أشرف الموت الشهادة.

من يعرف البلاء يصبر عليه.و من لا يعرف البلاء ينكره».

خطبة لمعاوية بن أبي سفيان رضي اللّه عنه:قال الراوي لما حضرته الوفاة قال لمولى له:من بالباب؟ فقال:نفر من قريش يتباشرون بموتك.فقال:ويحك،و لم؟ثم أذن للناس فحمد

ص: 100

اللّه فأوجز ثم قال:

«أيها الناس،إنا قد أصبحنا في دهر عنود،و زمن شديد.يعدّ فيه المحسن مسيئا.

و يزداد الظالم فيه عتوا.لا ننتفع بما علمنا.و لا نسأل عما جهلنا.و لا نتخوف من قارعة حتى تحل بنا.فالناس على أربعة أصناف:

منهم:من لا يمنعه الفساد في الأرض إلا مهانة نفسه؛و كلال حدّه،و نضيض وفره.

و منهم:المسلط لسيفه،و المجلب برجله،و المعلن بشره،قد أشرط نفسه،و أوبق دينه،لحطام ينتهزه،أو مقنب يقوده،أو منبر يقرعه و بئس المتجر أن تراها لنفسك ثمنا، و ممّا لك عند اللّه عوضا.

و منهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة،و لا يطلب الآخرة بعمل الدنيا،قد طامن من شخصه،و قارب من خطوه،و شمّر من ثوبه،و زخرف نفسه للأمانة،و اتخذ ستر اللّه ذريعة إلى المعصية،و منهم من أقعده عن الملك ضئولة في نفسه،و انقطاع سببه،فقصرته الحال، فتحلى باسم القناعة،و تزين بلباس الزهاد،و ليس من ذلك في مراح و لا مغذى.

و بقي رجال أغض أبصارهم ذكر المرجع،و أراق دموعهم خوف المحشر.فهم بين شديد ناد،و خائف منقاد،و ساكت مكعوم،وداع مخلص،و موجع ثكلان،قد أخملتهم التّقيّة،و شملتهم الذلة.فهم في بحر أجاج.أفواههم دامية،و قلوبهم قريحة،قد وعظوا حتى ملوا،و قهروا حتى ذلوا،و قتلوا حتى قلوا.

فلتكن الدنيا في عيونكم أقل من متانة القرظ،و قراضة الجلم،و اتعظوا بمن كان قبلكم أن يتعظ بكم من بعدكم.فارفضوها ذميمة،فإنها قد رفضت من كان أشغف بها منكم».

خطبة لعمر بن عبد العزيز رضي اللّه عنه:«أيها الناس،إنكم ميتون،ثم إنكم مبعوثون.ثم إنكم محاسبين.فلعمري لئن كنتم صادقين لقد قصرتم.و لئن كنتم كاذبين لقد هلكتم.يا أيها الناس،إنه من يقدر له رزق برأس جبل،أو بحضيض أرض يأته،فاجملوا في الطلب».

خطبة للحجاج بن يوسف:حمد اللّه و أثنى عليه ثم قال:«يا أهل العراق،و يا أهل الشقاق و النفاق،و مساوئ الأخلاق،و بني اللّكيعة،و عبيد العصا.و أولاد الإماء،و الفقع بالقرقر.إني سمعت تكبيرا لا يراد به اللّه.و إنما يراد به الشيطان.و إنما مثلي و مثلكم ما قاله ابن براقة الهمداني:

و كنت إذا قوم غزني غزوتهم فهل أنا في ذا بالهمذان ظالم

ص: 101

متى تجمع القلب الذكي و صارما و أنفا حميّا تجتنبك المظالم

أما و اللّه لا تقرع عصا إلا جعلتها كأمس الدابر».

خطبة لقس بن ساعدة الأيادي:أخبرني محمد بن علي الأنصاري بن محمد بن عامر قال:حدثنا علي بن إبراهيم،حدثنا عبد اللّه بن داود بن عبد الرحمن العمري قال:حدثنا الأنصاري علي بن محمد الحنظلي من ولد حنظلة الغسيل،حدثنا جعفر بن محمد،عن محمد بن حسان،عن محمد بن حجاج اللخمي،عن مجالد،عن الشعبي،عن ابن عباس قال:

و لما وفد وفد عبد القيس على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:أيكم يعرف قس بن ساعدة؟ قالوا:كلنا نعرفه يا رسول اللّه.قال:لست أنساه بعكاظ إذ وقف على بعير لهن أحمر فقال:

«أيها الناس اجتمعوا،و إذا اجتمعتم فاسمعوا،و إذا سمعتم فعوا،و إذا وعيتم فقولوا، و إذا قلتم فاصدقوا.من عاش مات،و من مات فات.و كل ما هو آت آت.

أما بعد:فإن في السماء لخبرا،و إن في الأرض لعبرا.مهاد موضوع،و سقف مرفوع،و نجوم تمور،و بحار لا تغور.أقسم باللّه قس قسما حقا لا كاذبا فيه،و لا آثما.لئن كان في الأرض رضا ليكونن سخط.إن اللّه تعالى دينا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه.و قد أتاكم أوانه و لحقتكم مدته.ما لي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون.أرضوا بالمقام فأقاموا،أم تركوا فناموا»؟ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:أيكم يروي شعره؟فأنشدوه:

في الذاهبين الأوّلي ن من القرون لنا بصائر

لما رأيت مواردا للموت ليس لها مصادر

و رأيت قومي نحوها يسعى الأصاغر و الأكابر

لا يرجع الماضي إل ي و لا من الباقين غابر

أيقنت أني لا محا لة حيث صار القوم صائر (1)

أخبرني الحسن بن عبد اللّه بن سعيد،حدثنا علي بن الحسين بن إسماعيل،حدثنا محمد بن زكريا،حدثنا عبد اللّه بن الضحاك،عن هشام عن أبيه،أن وفدا من إياد قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فسألهم عن حال قس بن ساعدة،فقالوا:قال قس:

يا ناعي الموت و الأموات في جدث عليهم من بقايا بزّهم حرق

دعهم فإن لهم يوما يصاح بهم كما ينبّه من نوماته الصّعق2.

ص: 102


1- دلائل النبوة 28/1،و البداية و النهاية 231/2 و الطبراني 88/12.

منهم عراة و منهم في ثيابهم منها الجديد و منها الأورق الخلق

مطر و نبات،و آباء و أمهات و ذاهب و آت،و آيات في إثر آيات،و أموات بعد أموات، ضوء و ظلام،و ليال و أيام،و غني و فقير.و شقي و سعيد،و محسن و مسيء.أين الأرباب الفعلة..؟ليصلحن كل عامل عمله.كلا،بل هو اللّه واحد،ليس بمولود و لا والد،أعاد و أبدى.و إليه المآب غدا.

أما بعد يا معشر أياد أين ثمود و عاد..؟و أين الآباء؟و الأجداد؟أين الحسن الذي لم يشكر؟أين الظلم الذي لم ينقم؟كلا و رب الكعبة ليعودن ما بدا.و لئن ذهب يوم ليعودن يوم.قال:و هو قس بن ساعدة بن حذاق بن ذهل بن أياد بن نزار أول من آمن بالبعث من أهل الجاهلية،و أول من توكأ على عصا،و أول من تكلم بأما بعد.

خطبة لأبي طالب:«الحمد للّه الذي جعلنا من ذرية إبراهيم،و زرع إسماعيل،و جعل لنا بلدا حراما،و بيتا محجوجا.و جعلنا الحكام على الناس،و أن محمدا بن عبد اللّه،ابن أخي،لا يوازن به فتى من قريش إلا رجح به،بركة،و فضلا،و عدلا،و مجدا،و نبلا.

و إن كان في المال مقلا،فإن المال عارية مسترجعة،و ظل زائل.و له في خديجة بنت خويلد رغبة.و لها فيه مثل ذلك.و ما أردتم من الصداق فعليّ».

قد نسخت لك جملا من كلام الصدر الأول و محاورتهم و خطبهم.و أحيلك فيما لم أنسخ على التواريخ و الكتب المصنفة في هذا الشأن فتأمل ذلك،و سائر ما هو مسطر من الأخبار المأثورة،عن السلف و أهل البيان و اللسان،و الفصاحة و الفطن،و الألفاظ المنثورة،و الأمثال المنقولة عنهم.

ثم انظر بسكون طائر،و خفض جناح،و تفريغ لب،و جمع عقل في ذلك،فسيقع لك الفضل بين كلام الناس،و بين كلام رب العالمين.و تعلم أن نظم القرآن يخالف نظم كلام الآدميين.و تعلم الحد الذي يتفاوت بين كلام البليغ و البليغ،و الخطيب و الخطيب، و الشاعر و الشاعر،و بين نظم القرآن جملة.

فإن خيل إليك أو شبه عليك،و ظننت أنه يحتاج أن يوازن بين نظم الشعر و القرآن؛ لأن الشعر أفصح من الخطب،و أبرع من الرسائل،و أدق مسلكا من جميع أصناف المحاورات،و لذلك قالوا له صلّى اللّه عليه و سلّم:هو شاعر،أو ساحر،و سوّل إليك الشيطان أن الشعر أبلغ و أعجب،و أرق و أبرع،و أحسن الكلام و أبدع،فهذا فصل فيه نظر بين المتكلمين، و كلام بين المحققين.

ص: 103

باب:أيهما أبلغ..الشعر أم النثر؟!

أسمعت أفضل من رأيت من أهل العلم بالأدب و الحذق بهذه الصناعة،مع تقدمه في الكلام،يقول:إن الكلام المنثور يتأتى فيه من الفصاحة و البلاغة ما لا يتأتى في الشعر،لأن الشعر يضيّق نطاق الكلام،و يمنع القول من انتهائه،و يصده عن تصرفه على سننه.

و حضره من يتقدم في صنعة الكلام،فراجعه في ذلك،و ذكر أنه لا يمتنع أن يكون الشعر أبلغ إذا صادف شروط الفصاحة.و أبدع إذا تضمن أسباب البلاغة.و يشهد عندي للقول الأخير أن معظم براعة كلام العرب في الشعر.و لا تجد في منثور قولهم ما تجد في منظومه.و إن كان قد أحدثت البراعة في الرسائل على حد لم يعهد في سالف أيام العرب.

و لم ينقل من دواوينهم و أخبارهم.و هو و إن ضيق نطاق القول،فهو يجمع حواشيه،و يضم أطرافه و نواحيه.فهو إذا تهذب في بابه و وفى له جميع أسبابه،لم يقاربه من كلام الآدميين كلام.و لم يعارضه من خطابهم خطاب.

و قد حكي عن المتنبي أنه كان ينظر في المصحف فدخل إليه بعض أصحابه فأنكر نظره فيه لما كان رآه عليه من سوء اعتقاده،فقال له:هذا المكي على فصاحته كان مفحما.

فإذا صحت هذه الحكاية عنه في إلحاده،عرف بها أنه كان يعتقد أن الفصاحة في قول الشعر أبلغ،و إذا كانت الفصاحة في قول الشعر أو لم تكن،و بينا أن نظم القرآن يزيد في فصاحته على كل نظم،و يتقدم في بلاغته على كل قول،بما يتضح به الأمر اتضاح الشمس،و يتبين به بيان الصبح،وقفت على جلية هذا الشأن.فانظر فيما نعرضه عليك،ما نعرضه.و نصور بفهمك ما نصوره.ليقع لك موقع عظيم شأن القرآن.و تأمل ما نرتبه،ينكشف لك الحق، و إذا أردنا تحقيق ما ضمناه لك،فمن سبيلنا أن نعمد إلى قصيدة متفق على كبر محلها، و صحة نظمها،و جودة بلاغتها و معانيها،و إجماعهم على إبداع صاحبها فيها،مع كونه من الموصوفين بالتقدم في الصناعة،و المعروفين بالحذق في البراعة،فنوقفك على مواضع خللها،و على تفاوت نظمها،و على اختلاف فصولها،و على كثرة فضولها،و على شدة تعسفها،و بعض تكلفها،و ما نجمع من كلام رفيع،يقرن بينه و بين كلام وضيع،و بين لفظ سوقي يقرن بلفظ ملوكي،و غير ذلك من الوجوه التي يجيء تفصيلها،و نبيّن ترتيبها و تنزيلها.

فأما كلام مسيلمة الكذاب و ما زعم أنه قرآن،فهو أخس من أن نشتغل به،و أسخف من أن نفكر فيه.و إنما نقلنا منه طرفا ليتعجب القارئ و ليتبصر الناظر.فإنه على سخافته قد أضل،و على ركاكته قد أذل.و ميدان الجهل واسع،و ممن نظر فيما نقلناه عنه،و فهم

ص: 104

موضع جهله،كان جديرا أن يحمد اللّه على ما رزقه من فهم،و آتاه من علم.

فمما كان يزعم أنه نزل عليه من السماء(و الليل الأطخم،و الذئب الأدلم،و الجذع الأزلم،ما انتهكت أسيد من محرم)و ذلك قد ذكر في خلاف وقع بين قوم أتوه من أصحابه.

و قال أيضا:(و الليل الدامس و الذئب الهامس ما قطعت أسيد من رطب و لا يابس).

و كان يقول:(و الشاة و ألوانها و أعجبها السوداء،و ألبانها و الشاة السوداء،و اللبن الأبيض إنه لعجب محض،و قد حرم المذق فما لكم لا تجتمعون).

و كان يقول:(ضفدع بنت ضفدعين،نقي ما تنقين أعلاك في الماء و أسفلك في الطين،و لا الشارب تمنعين،و لا الماء تكدرين،لنا نصف الأرض،و لقريش نصفها،و لكن قريشا قوم يعتدون).

و كان يقول:(و المبتديات زرعا،و الحاصدات حصدا،و الذاريات قمحا، و الطاحنات طحنا،و الخابزات خبزا،و الثاردات ثردا،و اللاقمات لقما،أهالة و سمنا.لقد فضلتم على أهل الوبر.و ما سبقكم أهل المدر.ريفكم فامنعوه،و المعتر فآووه،و الباغي فناوئوه).

و قالت سجاح بنت الحارث بن عقبان و كانت تتنبأ،فاجتمع مسيلمة معها فقالت له:

ما أوحي إليك؟فقال:(أ لم تر كيف فعل ربك بالحبلى،أخرج منها نسمة تسعى.من بين صفاق وحشا).

و قالت:فما بعد ذلك..؟قال:أوحي إلي(أن اللّه خلق النساء أفواجا،و جعل الرجال لهن أزواجا،فتولج فيهن قعسا إيلاجا،ثم نخرجها إذا شئنا إخراجا،فينتجن لنا سخالا نتاجا).فقالت:أشهد أنك نبي.

و لم ننقل كل ما ذكر من سخفه كراهة التثقيل.و روي أنه سأل أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه أقواما قدموا عليه من بني حنيفة عن هذه الألفاظ فحكوا بعض ما نقلناه.

فقال أبو بكر:«سبحان اللّه و يحكم إن هذا الكلام لم يخرج عن آل.فأين كان يذهب بكم؟!»و معنى قوله:لم يخرج عن آل،أي عن ربوبية.و من كان له عقل لم يشتبه عليه سخف هذا الكلام.

فنرجع الآن إلى ما ضمناه من الكلام على الأشعار المتفق على جودتها و تقدم أصحابها في صناعتهم،ليتبين لك تفاوت أنواع الخطاب،و تباعد مواقع البلاغة.و تستدل على مواضع البراعة.

ص: 105

و أنت لا تشك في جودة شعر امرئ القيس،و لا ترتاب في براعته،و لا تتوقف في فصاحته.و تعلم أنه قد أبدع في طرق الشعر أمورا اتبع فيها من ذكر الديار،و الوقوف عليها، إلى ما يتصل بذلك من البديع الذي أبدعه،و التشبيه الذي أحدثه،و التلميح الذي يوجد في شعره،و التصرف الكثير الذي يصادفه في قوله،و الوجوه التي ينقسم إليها كلامه،من صناعة و طبع،و سلاسة و علو،و متانة ورقة،و أسباب تحمد،و أمور تؤثر و تمدح.

و قد ترى الأدباء أولا يوازنون بشعره فلانا و فلانا.و يضمون أشعارهم إلى شعره، حتى ربما وازنوا بين شعر من لقبناه،و بين شعره في أشياء لطيفة و أمور بديعة.و ربما فضلوهم،عليه أو سووا بينهم و بينه،أو قربوا موضع تقدمهم عليه،و برزوه بين أيديهم.

و لما اختاروا قصيدته في السبعيات أضافوا إليها أمثالها،و قرنوا بها نظائرها.ثم تراهم يقولون لفلان لامية مثلها.ثم ترى أنفس الشعراء تتشوق إلى معارضته و تساويه في طريقته.و ربما عثرت في وجهه على أشياء كثيرة و تقدمت عليه في أسباب عجيبة.

و إذا جاءوا إلى تعداد محاسن شعره،كان أمرا محصورا و شيئا معروفا،أنت تجد من ذلك البديع،أو أحسن منه في شعر غيره،و تشاهد مثل ذلك البارع في كلام سواه،و تنظر إلى المحدثين كيف توغلوا إلى حيازة المحاسن منهم من جمع رصانة الكلام إلى سلاسته، و متانته إلى عذوبته،و الإصابة في معناه إلى تحسين بهجته،حتى أن منهم من إن قصر عنه في بعض،تقدم عليه في بعض،لأن الجنس الذي يرمون إليه و الغرض الذي يتواردون عليه،مما للآدمي فيه مجال،و للبشرى فيه مثال.فكل يضرب فيه بسهم،و يفوز بقدح.ثم قد تتفاوت السهام تفاوتا،و تتباين تباينا.و قد تتقارب تقاربا على حسب مشاركتهم في الصنائع،و مساهمتهم في الحرف.

و نظم القرآن جنس مميز و أسلوب متخصص و قبيل عن النظير متخلص.فإذا شئت أن تعرف عظم شأنه،فتأمل ما نقوله في هذا الفصل لامرئ القيس في أجود أشعاره.و ما نبين لك من عواره على التفصيل و ذلك قوله:

قفا نبك من ذكرى حبيب و منزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل

فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها لما نسجتها من جنوب و شمأل

الذين يتعصبون له،أو يدعون محاسن الشعر،يقولون:هذا من البديع لأنه وقف، و استوقف و بكى و استبكى،و ذكر العهد و المنزل و الحبيب.و توجع و استوجع،كله في بيت و نحو ذلك.

و إنما بيّنا هذا لئلا يقع لك ذهابنا عن مواضع المحاسن،إن كانت.و لا غفلتنا عن

ص: 106

مواضع الصناعة،إن وجدت.تأمل-أرشدك اللّه-و انظر هداك اللّه:أنت تعلم أنه ليس في البيتين شيء قد سبق في ميدانه شاعرا،و لا تقدّم به صانعا.و في لفظه و معناه خلل.

فأول ذلك:أنه استوقف من يبكي لذكر الحبيب،و ذكراه لا يقتضي بكاء الخليّ.

و إنما يصحّ طلب الإسعاد في مثل هذا على أن يبكي لبكائه،و يرق لصديقه في شدة برحائه.

فأما أن يبكي على حبيب صديقه،و عشيق رفيقه،فأمر محال.

فإن كان المطلوب وقوفه و بكاءه أيضا عاشقا،صح الكلام،و فسد المعنى.من وجه آخر؛لأنه من السخف أن لا يغار على حبيبه،و أن يدعو غيره إلى التغازل عليه،و التواجد معه فيه.

ثم إن في البيتين ما لا يفيد من ذكر هذه المواضع،و تسمية هذه الأماكن من «الدّخول»و«حومل»،«و توضح»و«المقراة»،و«سقط اللّوى».و قد كان يكفيه أن يذكر في التعريف بعض هذا.و هذا التطويل إذا لم يفد،كان ضربا من العي.

ثم إن قوله:«لم يعف رسمها»،ذكر الأصمعي من محاسنه أنه باق،فنحن نحزن على مشاهدته،فلو عفا لاسترحنا.

و هذا بأن يكون من مساويه أولى؛لأنه إن كان صادق الود فلا يزيده عفاء الرسوم إلا جدة عهد،و شدة وجد.و إنما فزع الأصمعي إلى إفادته هذه الفائدة،خشية أن يعاب عليه،فيقال:أيّ فائدة لأن يعرّفنا أنه لم يعف رسم منازل حبيبه؟و أي معنى لهذا الحشو؟ فذكر ما يمكن أن يذكر،و لكن لم يخلصه بانتصاره له من الخلل.ثم في هذه الكلمة خلل آخر لأنه عقّب البيت بأن قال:

«فهل عند رسم دارس من معول».

فذكر أبو عبيدة أنه رجع فأكذب نفسه،كما قال زهير:

قف بالديار التي لم يعفها القدم نعم و غيّرها الأرواح و الدّيم

و قال غيره:أراد بالبيت الأول أنه لم ينطمس أثره كله،و بالثاني أنه ذهب بعضه حتى لا يتناقض الكلامان.و ليس في هذا انتصار؛لأن معنى عفا و درس واحد،فإذا قال لم يعف رسمها ثم قال قد عفا،فهو تناقض لا محالة.و اعتذار أبي عبيدة أقرب لو صح.و لكن لم يرد هذا القول مورد الاستدراك،كما قاله زهير فهو إلى الخلل أقرب،و قوله:لما نسجتها، كان ينبغي أن يقول لما نسجها،و لكنه تعسف فجعل ما في تأويل التأنيث لأنها في معنى الريح،و الأولى التذكير دون التأنيث.و ضرورة الشعر قد دلته على هذا التعسف،و قوله لم يعف رسمها كان الأولى أن يقول لم يعف رسمه،لأنه ذكر المنزل.

ص: 107

فإن كان رد ذلك إلى هذه البقاع،و الأماكن التي المنزل واقع بينها،فذلك خلل؛لأنه إنما يريد صفة المنزل الذي نزله حبيبه بعفائه،أو بأنه لم يعف دون ما جاوره.و إن أراد بالمنزل الدار حتى أنث،فذلك أيضا خلل.و لو سلم من هذا كله،و مما نكره ذكره كراهية التطويل،لم يشك في أن شعر أهل زماننا لا يقصر عن البيتين بل يزيد عليهما و يفضلهما.ثم قال:

وقوفا بها صحبي عليّ مطيّهم يقولون لا تهلك أسى و تحمّل

و إن شفائي عبرة مهراقة فهل عند رسم دارس من معوّل

و ليس في البيتين أيضا معنى بديع،و لا لفظ حسن كالأولين.

و البيت الأول منهما متعلق بقوله:«قفا نبك»فكأنه قال:قفا وقوف صحبي بها على مطيهم.أوقفا حال وقوف صحبي.و قوله بها متأخر في المعنى و إن تقدم في اللفظ.ففي ذلك تكلف و خروج عن اعتدال الكلام.

و البيت الثاني مختل من جهة أنه قد جعل الدمع في اعتقاده شافيا كافيا.فما حاجته بعد ذلك إلى طلب حيلة أخرى،و تحمّل و معوّل عند الرسوم؟و لو أراد أن يحسن الكلام، لوجب أن يدلّ على أن الدمع لا يشفيه لشدة ما به من الحزن.ثم يسائل هل عند الربع من حيلة أخرى؟و قوله:

كدأبك من أم الحويرث قبلها و جارتها أمّ الرّباب بمأسل

إذ قامتا تضوّع المسك منهما نسيم الصبا يأتي بريّا القرنفل

أنت لا تشك في أن البيت الأول قليل الفائدة،ليس له مع ذلك بهجة،فقد يكون الكلام مصنوع اللفظ،و إن كان منزوع المعنى.و أما البيت الثاني فوجه التكلف فيه قوله:

إذا قامتا تضوع المسك منهما.و لو أراد أن يجود أفاد أن بهما طيبا على كل حال.

فأما في حال القيام فقط فذلك تقصير،ثم فيه خلل آخر لأنه بعد أن شبه عرفها بالمسك،شبه ذلك بنسيم القرنفل،و ذكر ذلك بعد ذكر المسك نقص.و قوله نسيم الصبا في تقدير المنقطع عن المصراع الأول لم يصله به وصل مثله.و قوله:

ففاضت دموع العين مني صبابة على النحر حتى بلّ دمعي محملي

ألا رب يوم لك منهن صالح و لا سيما يوم بدارة جلجل

قوله:ففاضت دموع العين،ثم استعانته بقوله مني،استعانة ضعيفة عند المتأخرين في الصنعة.و هو حشو غير مليح،و لا بديع.و قوله:على النحر،حشو آخر،لأن قوله:بلّ دمعي محملي يغني عنه،و يدل عليه.و ليس بحشو حسن.ثم قوله:حتى بلّ دمعي محملي

ص: 108

إعادة ذكره الدمع حشو آخر.و كان يكفيه أن يقول:حتى بلّت محملي،فاحتاج لإقامة الوزن إلى هذا كله.

ثم تقديره أنه قد أفرط في إفاضة الدمع حتى بلّ محمله،تفريط منه و تقصير.و لو كان أبدع لكان يقول:حتى بلّ دمعي مغانيهم و عراصهم.و يشبه أن يكون غرضه إقامة الوزن و القافية،لأن الدمع يبعد أن يبلّ المحمل.و إنما يقطر من الواقف و القاعد على الأرض أو على الذيل.و إن بله فلقلته و أنه لا يقطر.و أنت تجد في شعر الخبزرزيّ ما هو أحسن من هذا البيت و أمتن و أعجب منه.

و البيت الثاني خال من المحاسن و البديع،خال من المعنى.و ليس له لفظ يروق و لا معنى يروع.من طبائع السوقة،فلا يرعك تهويله،باسم موضع غريب،و قال:

و يوم عقرت للعذارى مطيّتي فيا عجبا من رحلها المتحمّل

فظلّ العذارى يرتمين بلحمها و شحم كهدّاب الدّمقس المفتّل

تقديره:أذكر يوم عقرت مطيتي.أو يرده على قوله:يوم بدارة جلجل و ليس في المصراع الأول من هذا البيت إلا سفاهته.

قال بعض الأدباء قوله:يا«عجبا»،يعجبهم من سفهه في شبابه من نحره ناقته لهم.

و إنما أراد أن لا يكون الكلام من هذا المصراع منقطعا عن الأول.و أراد أن يكون الكلام ملائما له.

و هذا الذي ذكره بعيد.و هو منقطع عن الأول.و ظاهره أنه يتعجب من تحمل العذارى رحله،و ليس في هذا تعجب كبير.و لا في نحر الناقة لهن تعجب،و إن كان يعني به أنهن حملن رحله،و أن بعضهن حملته،فعبر عن نفسه برحله،فهذا قليلا يشبه أن يكون عجبا.لكن الكلام لا يدل عليه.و يتجافى عنه.و لو سلم البيت من العيب لم يكن فيه شيء غريب و لا معنى بديع،أكثر من سفاهته،مع قلة معناه،و تقارب أمره،و مشاكلته طبع المتأخرين من أهل زماننا.و إلى هذا الوضع لم يمر له بيت رائع،و كلام رائق.

و أما البيت الثاني فيعدونه حسنا،و يعدون التشبيه مليحا واقعا،و فيه شيء:و ذلك أنه عرّف اللحم،و نكّر الشّحم،فلا يعلم أنه وصف شحمها،و ذكر تشبيه أحدهما بشيء واقع، و عجز عن تشبيه القسمة الأولى،فمرّت مرسلة،و هذا نقص في الصنعة،و عجز عن إعطاء الكلام حقّه،و فيه شيء آخر من جهة المعنى:و هو أنه وصف طعامه الذي أطعم من أضاف بالجودة،و هذا قد يعاب،و قد يقال إن العرب تفتخر بذلك،و لا يرونه عيبا.و إنما الفرس هم الذين يرون هذا عيبا شنيعا.

ص: 109

و أما تشبيه الشحم بالدّمقس،فشيء يقع للعامة،و يجري على ألسنتهم،فليس بشيء قد سبق إليه،و إنما زاد المفتّل للقافية،و هذا مفيد.و مع ذلك،فلست أعلم العامة تذكر هذه الزيادة،و لم يعدّ أهل الصنعة ذلك من البديع،و رأوه قريبا.

و فيه شيء آخر،و هو:أن تبجحه بما أطعم للأحباب مذموم و إن سوّغ التبجيح بما أطعم للأضياف إلا أن يورد الكلام مورد المجون،و على طريق أبي نواس في المزاح و المداعبة.و قوله:

و يوم دخلت الخدر خدر عنيزة فقالت لك الويلات إنك مرجلي

تقول و قد مال الغبيط بنا معا عقرت بعيري يا امرأ القيس فأنزل

قوله:دخلت الخدر خدر عنيزة،ذكره تكريرا لإقامة الوزن لا فائدة فيه.غيره،و لا ملاحة و لا رونق.و قوله في المصراع الأخير من هذا البيت:فقالت لك الويلات إنك مرجلى كلام مؤنث من كلام النساء،نقله من جهته إلى شعره،و ليس فيه غير هذا.و تكريره بعد ذلك«تقول و قد مال الغبيط»يعني قتب الهودج بعد قوله:«فقالت لك الويلات إنك مرجلي»لا فائدة فيه غير تقدير الوزن،و إلا فحكاية قولها الأول كاف،و هو في النظم قبيح، لأنه ذكر مرة«فقالت»،و مرة«تقول»في معنى واحد و فصل خفيف.

و في مصراع الثاني أيضا تأنيث من كلامهن،و ذكر أبو عبيدة أنه قال:عقرت بعيري، و لم يقل ناقتي؛لأنهم يحملون النساء على ذكور الإبل لأنها أقوى،و فيه نظر؛لأن الأظهر أن البعير اسم للذكر و الأنثى،و احتاج إلى ذكر البعير لإقامة الوزن،و قوله:

فقلت لها سيري و أرخى زمامه و لا تبعديني من جناك المعلّل

فمثلك حبلى قد طرقت و مرضع فألهيتها عن ذي تمائم مغيل

البيت الأول قريب النسج،ليس له معنى بديع،و لا لفظ شريف،كأنه من عبارات المنحطين في الصنعة.و قوله فمثلك حبلى قد طرقت،عابه عليه أهل العربية.و معناه عندهم حتى يستقيم الكلام(فرب مثلك حبلى قد طرقت)و تقديره أنه زير نساء،و أنه يفسدهن و يلهيهن عن حبلهن و رضاعهن؛لأن الحبلى و المرضعة أبعد من الغزل،و طلب الرجال.

و البيت الثاني في الاعتذار و الاستهتار و التهيام و غير منتظم مع المعنى الذي قدمه في البيت الأول.لأن تقديره لا تبعديني عن نفسك،فإني أغلب النساء و أخدعهن عن رأيهن و أفسدهن بالتغازل.و كونه مفسدة لهن لا يوجب له وصلهن و ترك إبعادهن إياه.بل يوجب هجره و الاستخفاف به،لسخفه و دخوله كل مدخل فاحش،و ركوبه كل مركب فاسد،و فيه

ص: 110

من الفحش و التفحش ما يستنكف من مثله و يأنف من ذكره،و كقوله:

إذا ما بكى من خلفها انصرفت له بشقّ،و تحتي شقّها لم يحوّل

و يوما على ظهر الكثيب تعذّرت عليّ و آلت حلفة لم تحلّل

فالبيت الأول غاية في الفحش،و نهاية في السخف.و أي فائدة لذكره لعشيقته،كيف كان يركب هذه القبائح،و يذهب هذه المذاهب،و يرد هذه الموارد؟!إن هذا ليبغضه إلى كل من سمع كلامه.و يوجب له المقت.و هو لو صدق لكان قبيحا،فكيف و يجوز أن يكون كاذبا.ثم ليس في البيت لفظ بديع،و لا معنى حسن.و هذا البيت متصل بالبيت الذي قبله، من ذكر المرضع التي لها ولد محول.فأما البيت الثاني و هو قوله و يوما يتعجب منه،و إنما تشددت و تعسرت عليه،و حلفت عليه،فهو كلام رديء النسج،لا فائدة لذكره لنا،أن حبيبته تمنعت عليه يوما بموضع يسميه و يصفه.و أنت تجد في شعر المحدثين من هذا الجنس في التغزل ما يذوب معه اللب و تطرب عليه النفس،و هذا مما تستنكره النفس و يشمئز منه القلب،و ليس فيه شيء من الإحسان و الحسن.و قوله:

أ فاطم مهلا بعض هذا التدلّل و إن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

أغرّك مني أن حبّك قاتلي و أنك مهما تأمري القلب يفعل

فالبيت الأول فيه ركاكة جدا،و تأنيث ورقة.و لكن فيهما تخنيث!و لعل قائلا يقول:

إن كلام النساء بما يلائمهن من الطبع أوقع و أغزل؟و ليس كذلك،لأنك تجد الشعراء في الشعر المؤنث لم يعدلوا عن رصانة قولهم.

و المصراع الثاني منقطع عن الأول لا يلائمه و لا يوافقه،و هذا يبين لك إذا اعترضت معه البيت الذي تقدمه،و كيف ينكر عليها تدللها،و المتغزل يطرب على دلال الحبيب و تدلّله؟ و البيت الثاني:قد عيب عليه لأنه قد أخبر أن من سبيلها أن لا تغتر بما يريها من أن حبها يقتله.و أنها تملك قلبه،فما أمرته فعله.و المحب إذا أخبر عن مثل هذا صدق،و إن كان المعنى غير هذا الذي عيب عليه،و إنما ذهب مذهبا آخر و هو أنه أراد أن يظهر التجلد، فهذا خلاف ما أظهر من نفسه فيما تقدم من الأبيات،من الحب و البكاء على الأحبة.فقد دخل في وجه آخر من المناقضة و الإحاطة في الكلام،ثم قوله:تأمري القلب يفعل معناه:

تأمريني.و القلب لا يؤمر،و الاستعارة في ذلك غير واقعة و لا حسنة.و قوله:

فإن كنت قد ساءتك مني خليقة فسلّي ثيابي عن ثيابك تنسل

و ما ذرفت عيناك إلا لتضربي بسهميك في أعشار قلب مقتّل

ص: 111

البيت الأول قد قيل في تأويله:إنه ذكر الثوب و أراد البدن،مثل قول اللّه تعالى وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ (1)و قال أبو عبيدة:هذا مثل للهجر،و تنسل:تبين.

و هو بيت قليل المعنى،ركيكة و وضيعه.و كل ما أضاف إلى نفسه،و وصف به نفسه سقوط و سفه و سخف يوجب قطعه.فلم يحكم على نفسه بذلك،و لكن يورده مورد أن ليست له خليقة توجب هجرانه.و التقصّي من وصله،و أنه مهذب الأخلاق،شريف الشمائل،فذلك يوجب أن لا ينفك من وصاله.

و الاستعارة في المصراع الثاني فيها تواضع و تقارب،و إن كانت غريبة.و أما البيت الثاني فمعدود من محاسن القصيدة و بدائعها،و معناه ما بكيت إلا لتجرحي قلبا معشّرا،أي مكسرا،من قولهم:برمة أعشار،إذا كانت قطعا هذا تأويل ذكره الأصمعي رضي اللّه عنه، و هو أشبه عند أكثرهم.

و قال غيره:و هذا مثل للأعشار التي تقسم الجزور عليها.و يعني بسهميك،المعلى و له سبعة أنصباء،و الرقيب و له ثلاثة أنصباء.فأراد أنك ذهبت بقلبي أجمع.و يعني بقوله:

مقتل مذلل.و أنت تعلم أنه على ما يعني به فهو غير موافق للأبيات المتقدمة،لما فيها من التناقض الذي بيّنا.

و يشبه أن يكون من قال بالتأويل الثاني فزع إليه لأنه رأى اللفظ مستكرها على المعنى الأول،لأن القائل إذا قال:ضرب فلان بسهمه في الهدف،بمعنى أصابه،كان كلاما ساقطا مرذولا.و هو يرى أن معنى الكلمة أن عينيها كالسهمين النافذين في إصابة قلبه المجروح، فلما بكتا و ذرفتا بالدموع كانتا ضاربتين في قلبه.

و لكن من حمل على التأويل الثاني سلم من الخلل الواقع في اللفظ،و لكنه إذا حمل على الثاني فسد المعنى و اختل،لأنه إن كان محتاجا على ما وصف به نفسه من الصبابة، فقلبه كله لها.فكيف يكون بكاؤه هو الذي يخلص قلبه لها؟ و اعلم بعد هذا أن البيت غير ملائم للبيت الأول،و لا متصل به في المعنى،و هو منقطع عنه،لأنه لم يسبق كلام يقتضي بكاءها،و لا سبب يوجب ذلك.فتركيبة هذا الكلام على ما قبله فيه اختلال،ثم لو سلم له بيت من عشرين بيتا و كان بديعا و لا عيب فيه،فليس بعجيب لأنه لا يدعي على مثله أن كلامه كله متناقض،و نظمه كله متباين.

و إنما يكفي أن نبين أن ما سبق من كلامه إلى هذا البيت مما لا يمكن أن يقال إنه يتقدمر.

ص: 112


1- آية(4)سورة المدثر.

فيه أحدا من المتأخرين،فضلا عن المتقدمين،و إنما قدم في شعره لأبيات قد برع فيها و بان حذقه بها.و إنما أنكرنا أن يكون شعره متناسبا في الجودة و متشابها في صحة المعنى و اللفظ،و قلنا إنه يتصرف بين وحشي غريب مستنكر و عربية كالمهل مستنكرة،و بين كلام سليم متوسط،و بين عامي سوقي في اللفظ و المعنى،و بين حكمة حسنة،و بين سخف مستشنع.

و لهذا قال اللّه عز اسمه: وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (1)فأما قوله:

و بيضة خدر لا يرام خباؤها تمتعت من لهوبها غير معجل

تجاوزت أحراسا و أهوال معشر عليّ حراص لو يسرّون مقتلي

فقد قالوا:عنى بذلك أنها كبيضة خدر في صفائها و رقتها.و هذه كلمة حسنة،و لكن لم يسبق إليها،بل هي دائرة في أفواه العرب و تشبيه سائر.

و يعني بقوله:غير معجل،أنه ليس ذلك مما يتفق قليلا و أحيانا،بل يتكرر له الاستمتاع بها.و قد يحمله غيره على أنه رابط الجأش فلا يستعجل إذا دخلها خوف حصانتها و منعتها.

و ليس في البيت كبير فائدة،لأنه الذي حكى في سائر أبياته،فلا تتضمن مطاولته في المغازلة،و اشتغاله بها.فتكريره في هذا البيت مثل ذلك قليل المعنى،إلا الزيادة التي ذكر من منعتها.و هو مع ذلك بيت سليم اللفظ في المصراع الأول،دون الثاني.و البيت الثاني ضعيف و قوله:لو يسرون مقتلي،أراد أن يقول لو أسروا فإذا نقله إلى هذا ضعف و وقع في مضمار الضرورة.و الاختلال على نظمه بيّن حتى أن المحترز يحترز من مثله و قوله:

إذا ما الثريا في السماء تعرضت تعرض أثناء الوشاح المفصّل

و قد أنكر عليه قوم قوله:«إذا ما الثريا في السماء تعرضت»،و قالوا:الثريا لا تتعرض،حتى قال بعضهم:سمي الثريا،و إنما أراد الجوزاء لأنها تعرض و العرب تفعل ذلك كما قال زهير:«كأحمر عاد»و إنما هو أحمر ثمود،و قال بعضهم في تصحيح قوله:

تعرض له أول ما تطلع كما أن الوشاح إذا طرح يلقاك بعرضه،و هو ناحيته،و هذا كقول الشاعر:

تعرّضت لي بمجان خلّ تعرّض المهرة في الطولء.

ص: 113


1- آية(82)سورة النساء.

يقول:تريك عرضها و هي في الرّسن،و قال أبو عمرو:يعني إذا أخذت الثريا في وسط السماء كما يأخذ الوشاح وسط المرأة،و الأشبه عندنا أن البيت غير معيب من حيث عابوه به،و أنه من محاسن هذه القصيدة،و لو لا أبيات عدة فيه لقابله ما شئت من شعر غيره.و لكن لم يأت فيه بما يفوت الشأو و يستولي على الأمد.

أنت تعلم أنه ليس للمتقدمين و لا للمتأخرين في وصف شيء من النجوم،مثل ما في وصف الثريا.و كلّ قد أبدع فيه و أحسن،فإما أن يكون قد عارضه أو زاد عليه،فمن ذلك قول ذي الرمة (1):

وردت اعتسافا و الثريا كأنها على قمة الرأس ابن ماء محلّق

و من ذلك قول ابن المعتز (2):

و ترى الثريا في السماء كأنها بيضات أدحيّ يلحن بفدفد

و كقوله:

كأن الثريا في أواخر ليلها تفتّح نور أو لجام مفضّض

و قوله أيضا:

فناولنيها و الثريا كأنها جنى نرجس حيا الندامى به السّاقي

و قول الأشهب بن رميلة:

و لاحت لساريها الثريا كأنها لدى الأفق الغربي قرط مسلسل

و لابن المعتز:

و قد هوى النجم و الجوزاء تتبعه كذات قرط أرادته و قد سقطا

أخذه من ابن الرومي في قوله:

طيّب ريقه إذ ذقت فاه و الثّريا بجانب الغرب قرط

و لابن المعتز:

قد سقاني المدام و الص بح بالليل مؤتزر

و الثّريّا كنور غص ن على الأرض قد نثر

و قوله:

و نروم الثريّا في السماء مراما

كانكباب طمر كاد يلقي لجاماه.

ص: 114


1- سبقت ترجمته.
2- سبقت ترجمته.

و لابن الطثرية:

إذا ما الثريا في السماء كأنها جمان و هي من سلكه فتبدّدا

و لو نسخت لك كل ما قالوا من البديع في وصف الثريا لطال عليك الكتاب،و خرج عن الغرض.و إنما نريد أن نبين لك أن الإبداع في نحو هذا أمر قريب،و ليس فيه شيء غريب.

و في جملة ما نقلناه،ما يزيد على تشبيهه في الحسن،أو يساويه أو يقاربه.فقد علمت أن ما حلّق فيه،و قدر المتعصب له أنه بلغ النهاية فيه أمر مشترك،و شريعة مورودة، و باب واسع،و طريق مسلوك.و إذا كان هذا بيت القصيدة،و درة القلادة،و واسطة العقد، و هذا محله فكيف بما تعداه؟ ثم فيه ضرب من التكلف لأنه قال:«إذا ما الثريا في السماء تعرضت»،تعرض أثناء الوشاح فقوله:تعرضت من الكلام الذي يستغنى عنه،لأنه يشبّه أثناء الوشاح،سواء كان في وسط السماء،أو عند الطلوع و المغيب.

فالتهويل بالتعرض و التطويل بهذه الألفاظ لا معنى له،و فيه أن الثريا كقطعة من الوشاح المفصّل،فلا معنى لقوله:تعرض أثناء الوشاح و إنما أراد أن يقول تعرض قطعة من أثناء الوشاح،فلم يستقم له اللفظ حتى شبه ما هو كالشيء الواحد بالجمع و قوله:

فجئت و قد نضت لنوم ثيابها لدى السّتر إلا لبسة المتفضّل

فقالت:يمين اللّه ما لك حيلة و ما إن أرى عنك المعاوية تنجلي

انظر إلى البيت الأول،و الأبيات التي قبله،كيف خلّط في النظم،و فرّط في التأليف! فذكر التمتع بها،و ذكر الوقت و الحال و الحرّاس.ثم يذكر كيف كان صفتها لما دخل عليها، و وصل إليها من نزعها ثيابها إلا ثوبا واحدا،و المتفضّل:الذي في ثوب واحد،و هو الفضل،فما كان من سبيله أن يقدّمه إنما ذكره مؤخرا.

و قوله لدى الستر حشو،و ليس بحسن و لا بديع،و ليس في البيت حسن و لا شيء يفضّل لأجله.

و أما البيت الثاني ففيه تعليق و اختلال.ذكر الأصمعي أن معنى قوله:ما لك حيلة، أي ليست لك جهة تجيء فيها و الناس حوالي.و الكلام في المصراع الثاني منقطع عن الأول،و نظمه إليه فيه ضرب من التفاوت،و قوله:

فقمت بها أمشي تجرّ وراءنا على إثرنا أذيال مرط مرجّل

ص: 115

فلما أجزنا ساحة الحي و انتحى بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل

البيت الأول من مساعدتها إياه،حتى قامت معه ليخلوا،و إنما كانت تجر على الأثر أذيال مرط مرجّل،و المرجّل:ضرب من البرود،يقال:لو شبه الترجيل و فيه تكلف لأنه قال:وراءنا على إثرنا.و لو قال على إثرنا،كان كافيا.و الذيل إنما يجر وراء الماشي،فلا فائدة لذكره وراءنا.و تقدير القول:فقمت أمشي بها،و هذا أيضا ضرب من التكلف.و قوله أذيال مرط،كان من سبيله أن يقول:ذيل مرط،على أنه لو سلم من ذلك كان قريبا،ليس مما يفوت بمثله غيره،و لا يتقدم به سواه،و قول ابن المعتز أحسن منه:

فبت أفرش خدي في الطريق له ذلا و اسحب أكمامي على الأثر

و أما البيت الثاني فقوله:أجزنا بمعنى قطعنا،و الخبت بطن من الأرض،و الحقف رمل منعرج،و العقنقل:المنعقد من الرمل الداخل بعضه في بعض.

و هذا بيت متقارب مع الأبيات المتقدمة،لأن فيها ما هو سلس قريب يشبه كلام المولدين،و كلام البذلة.و هذا قد أغرب فيه و أتى بهذه اللفظة الوحشية،المتعقدة،و ليس في ذكرها و التفضيل بإلحاقها بكلامها فائدة.

و الكلام الغريب،و اللفظة الشديدة المباينة لنسج الكلام قد تحمد إذا وقعت موقع الحاجة في وصف ما يلائمها،كقوله عز و جل في وصف يوم القيامة: يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (1)فأما إذا وقعت في غير هذا الموقع فهي مكروهة مذمومة،بحسب ما تحمد في موضعها.

و روي أن جريرا أنشد بعض خلفاء بني أمية قصيدته:

بان الخليط برامتين فودعوا أو كلما جدوا لبين تجزع؟

كيف العزاء و لم أجد مذ بنتم قلبا يقر و لا شرابا ينقع

قال:و كان يزحف من حسن هذا الشعر حتى بلغ قوله:

و تقول بوزع:قد دببت على العصا هلاّ هزئت بغيرنا يا بوزع

فقال:أفسدت شعرك بهذا الاسم،و أما قوله:

هصرت بغصني دوحة فتمايلت عليّ هضيم الكشح ريّا المخلخل

مهفهفة بيضاء غير مفاضة ترائبها مصقولة كالسّجنجل

فمعنى قوله:هصرت:جذبت و ثنيت.ن.

ص: 116


1- آية(10)سورة الإنسان.

و قوله:«بغصني دوحة»تعسّف،و لم يكن من سبيله أن يجعلهما اثنين.

و المصراع الثاني أصح،و ليس فيه شيء إلا ما يتكرر على ألسنة الناس من هاتين الصفتين.و أنت تجد ذلك في وصف كل شاعر،و لكنه مع تكرره على الألسن صالح.

و أما معنى قوله:مهفهفة أنها مخففة ليست مثقلة،و المفاضة التي اضطرب طولها، و البيت مع مخالفته في الطبع الأبيات المتقدمة و نزوعه فيه إلى الألفاظ المستكرهة،و ما فيه من الخلل من تخصيص الترائب بالضوء بعد ذكر جميعها بالبياض،فليس بطائل؛و لكنه قريب متوسط،و قوله:

تصدّ و تبدي عن أسيل و تتّقي بناظرة من وحش وجرة مطفل

و جيد كجيد الرّيم ليس بفاحش إذا هي نضته و لا بمعطّل

معنى قوله:عن أسيل،أي بأسيل،و إنما يريد خدا ليس بكرا.

و قوله:تتقي يقال اتقاه بترسه أي جعله بينه و بينه،و قوله:تصد و تبدي عن أسيل متفاوت لأن الكشف عن الوجه مع الوصل دون الصد.

و قوله:تتقي بناظرة،لفظة مليحة،و لكن أضافها إلى ما نظم به كلامه و هو مختل، و هو قوله:من وحش وجرة،و كان يجب أن تكون العبارة بخلاف هذا.كان من سبيله أن يضيف إلى عيون الظبا أو المها دون إطلاق الوحش،ففيهن ما تستنكر عيونها.

و قوله:«مطفل»فسروه على أنها ليست بصبية و أنها قد استحكمت،و هذا اعتذار متعسف.و قوله مطفل زيادة لا فائدة فيها على هذا التفسير الذي ذكره الأصمعي.و لكن قد يحتمل عندي أن يفيد غير هذه الفائدة.فيقال:إنها إذا كانت مطفلا لحظت أطفالها بعين رقة،ففي نظر هذه رقة نظر المودة،و يقع الكلام معلقا تعليقا متوسطا.

و أما البيت الثاني فمعنى قوله:ليس بفاحش،أي ليس بفاحش الطول،و معنى قوله:

نضته،رفعته،و معنى قوله:ليس بفاحش في مدح الأعناق،كلام فاحش موضوع منه.و إذا نظرت في أشعار العرب رأيت في وصف الأعناق ما يشبه السحر.فكيف وقع على هذه الكلمة و دفع إلى هذه اللفظة..؟و هلا قال كقول أبي نواس؟ مثل الظباء سمت إلى روض صوادر عن غدير

و لست أطول عليك،فتستثقل،و لا أكثر القول في ذمه،فتستوحش.و أكلك الآن إلى جملة من القول،فإن كنت من أهل الصنعة،فطنت و اكتفيت و عرفت ما رمينا إليه و استغنيت.

ص: 117

و إن كنت عن الطبقة خارجا،و عن الإتقان بهذا الشأن خاليا،فلا يكفيك البيان،و إن استقرينا جميع شعره،و تتبعنا عامة ألفاظه،و دللنا على ما في كل حرف منه.اعلم أن هذه القصيدة قد ترددت بين أبيات سوقية مبتذلة،و أبيات متوسطة،و أبيات ضعيفة مرذولة، و أبيات وحشية غامضة مستكرهة،و أبيات معدودة بديعة.

و قد دللنا على المبتذل منها،و لا يشتبه عليك الوحشي المستنكر الذي يروع السمع، و يهول القلب،و يكدّ اللسان،و يعبس معناه في وجه كل خاطر،و يكفهر مطلعه على كل متأمل و ناظر،و لا يقع بمثله التمدح و التفاصح و هو مجانب لما وضع له أصل الإفهام، و مخالف لما بنى عليه التفاهم الكلام.فيجب أن يسقط عن الغرض المقصود،و يلحق باللغز و الإشارة المستبهمة.فأما الذي زعموا أنه من بديع هذا الشعر،فهو قوله:

و يصحى فتيت المسك فوق فراشها تؤم الضّحى لم تنتطق عن تفضّل

و المصراع الأخير عندهم بديع،و معنى ذلك:أنها مترفة متنعمة،لها من يكفيها.

و معنى قوله:لم تنتطق عن تفضل،يقول:لم تنتطق و هو فضل.و«عن»هي بمعنى «بعد».قال أبو عبيدة:لم تنتطق فتعمل،و لكنها تتفضل.و مما يعدونه من محاسنها:

و ليل كموج البحر أرخى سدوله عليّ بأنواع الهموم ليبتلى

فقلت له لما تمطى بصلبه و أردف أعجازا و ناء بكلكل

ألا أيها الليل الطويل أ لا انجلي بصبح،و ما الإصباح منك بأمثل

و كان بعضهم يعارض هذا بقول النابغة:

كليني لهم يا أميمة ناصب و ليل أقاسيه بطيء الكواكب

و صدر أراح الليل عازب همّه تضاعف فيه الحزن من كلّ جانب

تقاعس حتى قلت ليس بمنقض و ليس الذي يتلو النجوم بآئب

و قد جرى ذلك بين يدي بعض الخلفاء،فقدمت أبيات امرئ القيس،و استحسن استعارتها،و قد جعل لليل صدرا يثقل تنحيه،و يبطئ تقضيه.و جعل له أردافا كثيرة، و جعل له صلبا يمتد و يتطاول.و رأوا هذا بخلاف ما يستعيره أبو تمام من الاستعارات الوحشية البعيدة المستنكرة.و رأوا أن الألفاظ جميلة.

و اعلم أن هذا صالح جميل،و ليس من الباب الذي يقال إنه متناه عجيب و فيه إلمام بالتكلف.و دخول في التعمل.و قد خرجوا له في البديع من القصيدة قوله:

و قد اغتدي و الطير في وكناتها بمنجرد قيد الأوابد هيكل

مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا كجلمود صخر حطّه السيل من عل

ص: 118

و قوله أيضا:

به أيطلا ظبي و ساقا نعامة و إرخاء سرحان و تقريب تنفل

فأما قوله:قيد الأوابد،فهو مليح،و مثله في كلام الشعراء و أهل الفصاحة كثير.

و التعمل بمثله ممكن.

و أهل زماننا الآن يصنفون نحو هذا تصنيفا،و يؤلفون المحاسن تأليفا،ثم يوشحون به كلامهم.و الذين كانوا من قبل لغزارتهم و تمكّنهم لم يكونوا يتصنّعون لذلك،إنما كان يتفق لهم اتفاقا،و يطّرد في كلامهم اطرادا.

و أما قوله في وصفه:«مكرّ مفرّ»فقد جمع فيه طباقا و تشبيها،و في سرعة جري الفرس للشعراء ما هو أحسن من هذا و ألطف.و كذلك في جمعه بين أربعة وجوه من التشبيه في بيت واحد صنعة.و لكن قد عورض فيه و زوحم،و التوصل إليه يسير،و تطلبه سهل قريب.

و قد بيّنا لك أن هذه القصيدة و نظائرها تتفاوت في أبياتها تفاوتا بيّنا في الجودة و الرداءة،و السلاسة و الانعقاد،و السلامة و الانحلال،و التمكن و التسهيل،و الاسترسال، و التوحش و الاستكراه.و له شركاء في نظائرها و منازعون في محاسنها،و معارضون في بدائعها.و لا سواء كلام ينحت عن الصخر تارة،و يذوب تارة،و يتلوّن تلوّن الحرباء، و يختلف اختلاف الأهواء،و يكثر في تصرفه اضطرابه،و تتقاذف به أسبابه و بين قول يجري في سبكه على نظام،و في رصفه على منهاج،و في وضعه على حدّ،و في صفائه على باب، و في بهجته و رونقه على طريق،مختلفه مؤتلف،و مؤتلفه متّحد،و متباعده متقارب، و شارده مطيع،و مطيعه شارد.و هو على متصرّفاته واحد،لا يستصعب في حال،و لا يتعقد في شأن.

و كنا أردنا أن نتصرّف في قصائد مشهورة،فنتكلم عليها،و ندلّ على معانيها و محاسنها،و نذكر لك من فضائلها و نقائصها،و نبسط لك القول في هذا الجنس،و نفتح عليك في هذا النهج.

ثم رأينا هذا خارجا عن غرض كتابنا،و الكلام فيه يتصل بنقد الشعر و عياره،و وزنه بميزانه و معياره؛و لذلك كتب و إن لم تكن مستوفاة،و تصانيف و إن لم تكن مستقصاة.

و هذا القدر يكفي في كتابنا.و لم نحب أن ننسخ لك ما سطره الأدباء في خطأ امرئ القيس في العروض و النحو و المعاني،و ما عابوه عليه في أشعاره،و تكلموا به على ديوانه، لأن ذلك أيضا خارج عن غرض كتابنا،و مجانب لمقصوده.

ص: 119

و إنما أردنا أن نبين الجملة التي بيّناها،لتعرف أن طريقة الشعر شريعة مورودة، و منزلة مشهودة،يأخذ منها أصحابها على مقادير أسبابهم،و يتناول منها ذووها على حسب أحوالهم.و أنت تجد للمتقدم معنى قد طمسه المتأخر بما أبرّ عليه فيه.و تجد للمتأخر معنى قد أغفله المتقدم.و تجد معنى قد توافدا عليه،و توافيا إليه.فهما فيه شريكا عنان،و كأنهما فيه رضيعا لبان.و اللّه يؤتي فضله من يشاء.

فأما نهج القرآن و نظمه و تأليفه و رصفه؛فإن العقول تتيه في جهته،و تحار في بحره، و تضل دون وصفه.و نحن نذكر لك في تفصيل هذا ما تستدل به على الغرض،و تستولي به على الأمد.و تصل به إلى المقصد.و تتصور إعجازه كما تتصور الشمس،و تتيقن تناهي بلاغته كما تتيقن الفجر.و أقرّب عليك الغامض،و أسهّل لك العسير.

و اعلم أن هذا علم شريف المحل.عظيم المكان.قليل الطلاب.ضعيف الأصحاب ليست له عشيرة تحميه،و لا أهل عصمة تفطن لما فيه.و هو أدق من السحر،و أهول من البحر،و أعجب من الشعر.

و كيف لا يكون كذلك،و أنت تحسب أن وضع الصبح في موضع الفجر يحسن في كل كلام،إلا أن يكون شعرا أو سجعا،و ليس كذلك.فإن إحدى اللفظتين قد تنفر في وضع و تزل عن مكان لا تزل عنه اللفظة الأخرى.بل تتمكن فيه و تضرب بجرانها،و تراها في مظانها،و تجدها فيه غير منازعة إلى أوطانها.و تجد الأخرى لو وضعت موضعها في محل نفار،و مرمى شراد،و نابية عن استقرار.

و لا أكثر عليك المثال،و لا أضرب لك فيه الأمثال،و أرجع بك إلى ما وعدتك من الدلالة.و ضمنت لك من تقريب المقالة.فإن كنت لا تعرف الفصل الذي بيّنا بين اللفظتين على اختلاف مواقع الكلام،و مصرفات مجاري النظام،لم تستفد مما نقر به عليك شيئا، و كان التقليد أولى بك،و الاتباع موجب عليك.و لكل شيء سبب،و لكل علم طريق،و لا سبيل إلى الوصول إلى الشيء من غير طريقه.و لا بلوغ غايته من غير سبيله.خذ الآن، هداك اللّه،في تفريغ الفكر و تخلية البال،و انظر فيما نعرض عليك و نهديه إليك،متوكلا على اللّه،و معتصما به،و مستعيذا به من الشيطان الرجيم،حتى تقف على إعجاز القرآن العظيم،سماه اللّه،عز ذكره،حكيما و عظيما و مجيدا.

و قال: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (1)و قال:ت.

ص: 120


1- آية(42)سورة فصلت.

لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (1) و قال: وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً (2)و قال: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (3).

و أخبرنا أحمد بن محمد بن الحسين القزوينيّ،حدثنا أبو عبد الرحمن أحمد بن عثمان،حدثنا أبو يوسف الصيدلانيّ،حدثنا محمد بن سلمة عن أبي سنان،عن عمرو بن مرّة،عن أبي البحتري الطائي،عن الحارث الأعور،عن علي رضي اللّه عنه قال:«قيل يا رسول اللّه إن أمتك ستفتتن من بعدك،فسأل أو سئل ما المخرج من ذلك؟ فقال:عليكم بكتاب اللّه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه،تنزيل من حكيم حميد،من ابتغى العلم في غيره أضله اللّه،و من ولى هذا من جبار فحكم بغيره قصمه اللّه،و هو الذكر الحكيم،و النور المبين،و الصراط المستقيم،فيه خبر من قبلكم، و تبيان من بعدكم،و هو فصل ليس بالهزل،و هو الذي سمعته الجن فقالوا: إِنّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنّا بِهِ (4)،لا يخلق على طول الرد،و لا تنقضي عبره،و لا تفنى عجائبه».

و أخبرني أحمد بن علي بن الحسن،أخبرنا أبي،أخبرنا بشر بن عبد الوهاب،أخبرنا هشام بن عبيد اللّه،حدثنا المسيّب بن شريك،عن عبيدة عن أسامة بن أبي عطاء،قال:

«أرسل النبي صلّى اللّه عليه و سلّم إلى علي رضي اللّه عنه في ليلة فذكر نحو ذلك في المعنى،و في بعض ألفاظه اختلاف».

و أخبرنا أحمد بن علي بن الحسن،أخبرنا أبي،أخبرنا بشر بن عبد الوهاب،أخبرنا هشام بن عبيد اللّه،حدثنا المسيّب بن شريك،عن بشر بن نمير،عن القاسم،عن أبي أمامة،قال:

«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم من قرأ ثلث القرآن أعطي ثلث النبوة،و من قرأ نصف القرآن،أعطي نصف النبوة،و من قرأ القرآن كله أعطي النبوة كلها،غير أنه لا يوحى إليه» (5)و ذكر الحديث.1.

ص: 121


1- آية(21)سورة الحشر.
2- آية(31)سورة الرعد.
3- آية(88)سورة الإسراء.
4- آية(2)سورة الجن.
5- الاتحاف 466/4،و الكنز(2348)،و الدرّ المنثور 348/1،و ابن عدي 440/2،و الموضوعات 252/1.

و لو لم يكن من عظم شأنه إلا أنه طبّق الأرض أنواره،و جلل الآفاق ضياؤه،و نفذ في العالم حكمه،و قبل في الدنيا رسمه،و طمس ظلام الكفر بعد أن كان مضروب الرّواق.

ممدود الأطناب،مبسوط الباع،مرفوع العماد،ليس على الأرض من يعرف اللّه حق معرفته،أو يعبده حق عبادته،أو يدين بعظمته،أو يعلم علوّ جلالته،أو يتفكّر في حكمته، فكان كما وصفه اللّه تعالى جل ذكره من أنه نور فقال: وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لاَ الْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (1)فانظر إن شئت إلى شريف هذا النظم،و بديع هذا التأليف، و عظيم هذا الرصف،كل كلمة من هذه الآية تامة،و كل لفظ بديع واقع قوله: وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا (2)يدل على صدوره من الربوبية،و يبين عن وروده عن الإلهية،و هذه الكلمة بمنفردها،و أخواتها،كل واحدة منها لو وقعت بين كلام كثير تميز عن جميعه،و كان واسطة عقده،و فاتحة عقده،و غرة شهره،و عين دهره،و كذلك قوله:

وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا (3) فجعله روحا لأنه يحيي الخلق،فله فضل الأرواح في الأجساد.و جعله نورا لأنه يضيء ضياء الشمس في الآفاق.ثم أضاف وقوع الهداية به إلى مشيئته.و وقف وقوف الاسترشاد به على إرادته،و بيّن أنه لم يكن ليهتدي إليه لو لا توفيقه.و لم يكن ليعلم ما في الكتاب و لا الإيمان لو لا تعليمه.و أنه لم يكن ليهتدي،فكيف كان يهدى لولاه؟فقد صار يهدي و لم يكن من قبل ذلك ليهتدي.

فقال وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. صِراطِ اللّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (4)فانظر إلى هذه الكلمات الثلاث:فالكلمتان الأولتان مؤتلفتان،و قوله: أَلا إِلَى اللّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ كلمة منفصلة مباينة للأولى قد صيرهما شريف النظم أشد ائتلافا من الكلام المؤلف،و ألطف انتظاما من الحديث الملائم.

و بهذا يبين فضل الكلام،و تظهر فصاحته و بلاغته.الأمر أظهر،و الحمد للّه،و الحال أبين من أن يحتاج إلى كشف.

تأمل قوله: فالِقُ الْإِصْباحِ وَ جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (5)انظر إلى هذه الكلمات الأربع التي ألف بينها،و احتج بها على ظهورم.

ص: 122


1- آية(52)سورة الشورى.
2- الآية السابقة.
3- الآية السابقة.
4- آية(53)سورة الشورى.
5- آية(96)سورة الأنعام.

قدرته و نفاذ أمره.

أ ليس كل كلمة منها في نفسها غرة،و بمنفردها درة؟و هو مع ذلك يبين أنه يصدر عن علو الأمر،و نفاذ القهر،و يتجلى في بهجة القدرة،و يتحلى بخالصة العزة،و يجمع السلاسة إلى الرصانة،و السلامة إلى المتانة،و الرونق الصافي و البهاء الضافي.

و لست أقول إنه شمل الإطباق المليح،و الإيجاز اللطيف،و التعديل و التمثيل، و التقريب و التشكيل،و إن كان قد جمع ذلك و أكثر منه،لأن العجيب ما بيّنا من انفراد كل كلمة بنفسها حتى تصلح أن تكون عين رسالة،أو خطبة،أو وجه قصيدة،أو فقرة.فإذا ألفت ازدادت حسنا و زادتك إذا تأملت معرفة و إيمانا.

ثم تأمل قوله: وَ آيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ. وَ الشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَ الْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (1)هل تجد كل لفظة و هل تعلم كل كلمة تستقل بالاشتمال على نهاية البديع،و تتضمن شرط القول البليغ؟فإذا كانت الآية تنتظم من البديع،و تتألف من البلاغات،فكيف لا تفوت حد المعهود،و لا تجوز شأو المألوف؟و كيف لا تجوز قصب السبق،و لا تتعالى عن كلام الخلق؟ ثم اقصد إلى سورة تامة فتصرّف في معرفة قصصها،و راع ما فيها من براهينها و قصصها.تأمل السورة التي يذكر فيها النمل و انظر في كل كلمة كلمة،و فصل فصل بدأ بذكر السورة،إلى أن بيّن أن القرآن من عنده،فقال: وَ إِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (2)آية(34)سورة الطور.(3)ثم وصل بذلك قصة موسى عليه السّلام و أنه رأى نارا إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (4).

و قال في سورة طه في هذه القصة: لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النّارِ هُدىً (5)و في موضع: لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (6)قد تصرف في وجوه،و أتى بذكر القصة على ضروب ليعلمهم عجزهم عن جميع طرق ذلك.

و لهذا قال فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ (6)ليكون أبلغ في تعجيزهم و أظهر للحجة عليهم.و كلر.

ص: 123


1- آية(37:39)سورة يس.
2- آية
3- سورة النمل.
4- آية(8)سورة النمل.
5- آية(10)سورة طه.
6- آية(29)سورة القصص.

كلمة من هذه الكلمات و إن أنبأت عن قصة فهي بليغة بنفسها،تامة في معناها.

ثم قال: فَلَمّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النّارِ وَ مَنْ حَوْلَها وَ سُبْحانَ اللّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (1)فانظر إلى ما أجرى له الكلام من علو أمر هذا النداء،و عظم شأن هذا الثناء، و كيف انتظم مع الكلام الأول،و كيف اتصل بتلك المقدمة،و كيف وصل بها ما بعدها من الإخبار عن الربوبية،و ما دل به عليها؛من قلب العصا حية،و جعلها دليلا يدله عليه، و معجزة تهديه إليه.

و انظر إلى الكلمات المفردة القائمة بأنفسها في الحسن،و فيما تتضمنه من المعاني الشريفة،ثم ما شفع به هذه الآية،و قرن به هذه الدلالة من اليد البيضاء عن نور البرهان من غير سوء.

ثم انظر في آية آية،و كلمة كلمة،هل تجدها كما وصفنا من عجيب النظم و بديع الرصف؟فكل كلمة لو أفردت كانت في الجمال غاية،و في الدلالة آية.فكيف إذا قارنتها أخواتها و ضامّتها ذواتها،تجري في الحسن مجراها،و تأخذ في معناها؟ ثم من قصة إلى قصة،و من باب إلى باب،من غير خلل يقع في نظم الفصل إلى الفصل،و حتى يصوّر لك الفصل وصلا،ببديع التأليف،و بليغ التنزيل.

و إن أردت أن تتبين ما قلناه فضل تبيّن،و تتحقق بما ادعيناه زيادة تحقّق،فإن كنت من أهل الصنعة،فاعمد إلى قصة من هذه القصص،و حديث من هذه الأحاديث،فعبّر عنهن بعبارة من جهتك،و أخبر عنه بألفاظ من عندك.حتى ترى فيما جئت به النقص الظاهر،و تتبين في نظم القرآن الدليل الباهر.و لذلك أعاد قصة موسى في سور،و على طرق شتى،و فواصل مختلفة،مع اتفاق المعنى.

فعلك ترجع إلى عقلك،و تستر ما عندك،إن غلطت في أمرك،أو ذهبت في مذاهب وهمك ،أو سلّطت على نفسك وجه ظنك.متى تهيأ البليغ أن يتصرف في قدر آية في أشياء مختلفة،فيجعلها مؤتلفة من غير أن يبين على كلامه إعياء الخروج و التنقل.أو يظهر على خطابه آثار التكلف و التعمّل.

و أحسب أنه لا يسلم من هذا،و محال أن يسلم منه حتى يظفر بمثل تلك الكلمات، الأفراد،و الألفاظ الأعلام،حتى يجمع بينها،فيجلو فيها فقرة من كلامه،و قطعة من قوله.و لو اتفق له في أحرف معدودة،و أسطر قليلة،فمتى يتّفق له في قدر ما نقول:إنه من القرآن معجز؟ل.

ص: 124


1- آية(8)سورة النمل.

هيهات هيهات!!إن الصبح يطمس النجوم و إن كانت زاهرة،و البحر يغمر الأنهار و إن كانت زاخرة.

متى تهيأ للآدمي أن يقول في وصف كتاب سليمان عليه السّلام،بعد ذكر العنوان و التسمية،هذه الكلمة الشريفة العالية: أَلاّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَ أْتُونِي مُسْلِمِينَ (1)و الخلوص من ذلك إلى ما صارت إليه من التدبير،و اشتغلت به من المشورة،و من تعظيمها أمر المستشار،و من تعظيمهم أمرها،و طاعتها بتلك الألفاظ البديعة،و الكلمات العجيبة البليغة.

ثم كلامها بعد ذلك لتعلم تمكن قولها: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتّى تَشْهَدُونِ (2)و ذكر قولهم:قالوا: نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَ أُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَ الْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ (3)لا تجد في صفتهم أنفسهم أبدع مما وصفهم به.

و قوله: وَ الْأَمْرُ إِلَيْكِ تعلم براعته بنفسه،و عجيب معناه،و موضع اتفاقه في هذا الكلام،و تمكن الفاصلة،و ملاءمته لما قبله،و ذلك قوله: فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ (4)ثم إلى هذا الاختصار،و إلى البيان مع الإيجاز،فإن الكلام قد يفسد الاختصار و يعميه التخفيف منه و الإيجاز.و هذا مما يزيده الاختصار بسطا لتمكنه و وقوعه موقعه.و يتضمن الإيجاز منه تصرفا يتجاوز محله و موضعه.

و كم جئت إلى كلام مبسوط يضيق عن الإفهام،و وقعت على حديث طويل يقصر عما يراد به من التمام،ثم لو وقع على الإفهام و التمام،أخلّ بما يجب فيه من شروط الإحكام، أو بمعاني القصة و ما تقتضي من الإعظام ثم لو ظفرت بذلك كله رأيته ناقصا في وجه الحكمة،أو مدخولا في باب السياسة،أو مصفوفا في طريق السيادة،أو مشترك العبارات إن كان مستجود المعنى،أو جيد البلاغة،مستجلب المعنى،أو مستجلب البلاغة،جيد المعنى،أو مستنكر اللفظ،وحشي العبارة،أو مستبهم الجانب،مستكره الوضع.

و أنت لا تجد في جميع ما تلونا عليك إلا ما إذا بسط أفاد.و إذا اختصر كمل في بابه و جاد.و إذا سرّح الحكيم في جوانبه طرف خاطبه،و بعث العليم في أطرافه عيون مباحثه، لم يقع إلا على محاسن تتوالى،و بدائع تترى،ثم فكر بعد ذلك في آية آية،أو كلمة كلمة،ت.

ص: 125


1- آية(31)سورة النمل.
2- آية(32)سورة النمل.
3- آية(34)سورة النمل.
4- سبقت.

في قوله: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَ كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (1).

هذه الكلمات الثلاث؛كل واحدة منها كالنجم في علوه و نوره،و كالياقوت يتلألأ بين شذوره.ثم تأمل تمكن الفاصلة،و هي الكلمة الثالثة،و حسن موقعها،و عجيب حكمها، و بارع معناها.

و إن شرحت لك ما في كل آية طال عليك الأمر،و لكني قد بينت بما فسرت،و قررت بما فصلت الوجه الذي سلكت،و النحو الذي قصدت،و الغرض الذي إليه رميت،و السمت الذي إليه دعوت.

ثم فكر بعد ذلك في شيء أدلك عليه،و هو تعادل هذا النظم في الإعجاز في مواقع الآيات القصيرة و الطويلة و المتوسطة.فأجل الرأي في سورة سورة،و آية آية،و فاصلة فاصلة،و تدبر الخواتم و الفواتح،و البوادي و المقاطع،و مواضع الفصل و الوصل، و مواضع التنقل و التحول،ثم اقض ما أنت قاض.و إن طال عليك تأمل الجميع،فاقتصر على سورة واحدة،أو على بعض سور.

ما رأيك في قوله: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً.يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَ يَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (2)هذه تشتمل على ست كلمات،سناؤها و ضياؤها على ما ترى،و سلاستها و ماؤها على ما تشاهد،و رونقها على ما تعاين،و فصاحتها على ما تعرف.و هي تشتمل على جملة و تفصيل،و تفسير ذكر العلو في الأرض باستضعاف الخلق،بذبح الولدان،و سبي النساء.و إذا تحكّم في هذين الأمرين، فما ظنك بما دونهما؟لأن النفوس لا تطمئن على هذا الظلم،و القلوب لا تقرّ على هذا الجور.

ثم ذكر الفاصلة التي أوغلت في التأكيد،و كفت في التظليم،وردت آخر الكلام على أوله،و عطفت عجزه على صدره.

ثم ذكر وعده تخليصهم بقوله: وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (3)و هذا من التأليف بين المؤتلف،و الجمع بين المستأنس،كما أن قوله: وَ ابْتَغِ فِيما آتاكَ اللّهُ الدّارَ الْآخِرَةَ وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيال.

ص: 126


1- آية(34)سورة النمل.
2- آية(5)سورة القصص.
3- آية(5)سورة النمل.

وَ أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللّهُ إِلَيْكَ وَ لا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (1) و هي خمس كلمات متباعدة في المواقع،نائية المطارح،قد جعلها النظم البديع أشد من الشيء المؤتلف في الأصل.و أحسن توافقا من المتطابق في أول الوضع.

و مثل هذه الآية قوله: وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللّهِ وَ تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ (2)و مثلها: وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاّ قَلِيلاً وَ كُنّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (3)و من المؤتلف قوله: فَخَسَفْنا بِهِ وَ بِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللّهِ وَ ما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (4)و هذه الثلاث كلمات كل كلمة منها أعز من الكبريت الأحمر.

و من الباب الآخر قوله تعالى: وَ لا تَدْعُ مَعَ اللّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (5)كل سورة من هذه السور تتضمن من القصص ما لو تكلفت العبارة عنها بأضعاف كلماتها لم تستوف ما استوفته.

ثم تجد فيما تنظم ثقل النظم،و نفور الطبع،و شراد الكلام،و تهافت القول،و تمنّع جانبه،و قصورك في الإيضاح عن واجبه.ثم لا تقدر على أن تنتقل من قصة إلى قصة،و من فصل إلى فصل حتى تتبين عليك مواضع الوصل،و يستصعب عليك أماكن الفصل.ثم لا يمكنك أن تصل بالقصص مواعظ زاجرة،و أمثالا سائرة و حكما جليلة،و أدلة على التوحيد بينة،و كلمات في التنزيه و التحميد شريفة.

و إن أردت أن تتحقق ما وصفت لك فتأمل شعر من شئت من الشعراء المفلقين،هل تجد كلامه في المديح و الغزل و الفخر و الهجو يجري مجرى كلامه في ذكر القصص؟إنك لتراه إذا جاء إلى وصف واقعة،أو نقل خبر عامي الكلام،سوقي الخطاب،مسترسلا في أمره،متساهلا في كلامه،عادلا عن المألوف من طبعه،و ناكبا عن المعهود من سجيته.

فإن اتفق له في قصة كلام جيد،كان قدر ثنتين أو ثلاثة.و كان ما زاد عليها حشوا،و ما تجاوزها لغوا،و لا أقول إنها تخرج من عادته عفوا،لأنه يقصر عن العفو،و يقف دون العرف،و يتعرض للركاكة.ص.

ص: 127


1- آية(77)سورة القصص.
2- آية(68)سورة القصص.
3- آية(58)سورة القصص.
4- آية(81)سورة القصص.
5- آية(88)سورة القصص.

فإن لم تقنع بما قلت لك من الأبيات فتأمل غير ذلك من السور.هل تجد الجميع على ما وصفت لك.لو لم تكن إلا سورة واحدة لكفت في الإعجاز.فكيف بالقرآن العظيم؟و لو لم يكن إلا حديث من سورة لكفى،و أقنع،و شفى.

و لو عرفت قدر قصة موسى وحدها من سورة الشعراء،لما طلبت بينة سواها.بل قصة من قصصه و هي قوله: وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (1)إلى قوله: فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنّاتٍ وَ عُيُونٍ. وَ كُنُوزٍ وَ مَقامٍ كَرِيمٍ. كَذلِكَ وَ أَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ.

فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (2) حتى قال: فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (3)ثم قصة إبراهيم عليه السلام.

ثم لو لم تكن إلا الآيات التي انتهى إليها القول في ذكر القرآن،و هي قوله: وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (4)و هذه كلمات مفردة بفواصلها؛منها ما يتضمن فاتحة و فاصلة،و منها ما هي فاتحة و واصلة،و فاصلة.و منها كلمة بفاصلتها تامة،دل على أنه نزله على قلبه ليكون نذيرا.و بيّن أنه آية لكونه نبينا.ثم وصل بذلك كيفية النذارة فقال: وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ. وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (5).

فتأمل آية آية،لتعرف الإعجاز،و تتبين التصرف البديع،و التنقل في الفصول إلى آخر السورة.ثم راع المقطع العجيب و هو قوله: وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (6)هل يحسن أن تأتي بمثل هذا الوعيد و أن تنظم مثل هذا النظم،و أن تجد مثل هذه النظائر السابقة،و تصادف مثل هذه الكلمات المتقدمة؟ و لو لا كراهة الإملال،لجئت إلى كل فصل فاستقريت على الترتيب كلماته،و بينت لك ما في كل واحدة منها من البراعة،و من عجيب البلاغة.و لعلك تستدل بما قلنا على ما بعده،و تستضيء بنوره و تهتدي بهداه.و نحن نذكر آيات أخر،لتزداد استبصارا و تتقدم تيقنا.ء.

ص: 128


1- آية(52)سورة الشعراء.
2- آية(57-60)سورة الشعراء.
3- آية(63)سورة الشعراء.
4- آية(192-195)سورة الشعراء.
5- آية(214-215)سورة الشعراء.
6- آية(227)سورة الشعراء.

تأمل من الكلام المؤتلف قوله: حم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (1).

أنت قد تدربت الآن بحفظ أسماء اللّه تعالى،و صفاته،فانظر متى وجدت في كلام البشر و خطبهم مثل هذا النظم في هذا القدر،و ما يجمع ما تجمع هذه الآية من شريف المعاني و حسن الفاتحة و الخاتمة.

ثم اتل ما بعدها من الآي،و اعرف وجه الخلوص من شيء إلى شيء؛من احتجاج إلى وعيد،و من إعذار إلى إنذار،و من فنون من الأمر شتى،مختلفة تأتلف بشريف النظم، و متباعدة تتقارب بعليّ الضم.

ثم جاء إلى قوله: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ الْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَ هَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَ جادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ وَ كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النّارِ (2)الآية الأولى أربعة فصول، و الثانية فصلان،وجه الوقوف على شرف الكلام:أن تتأمل موقع قوله: وَ هَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ (3)و هل تقع في الحسن موقع قوله: لِيَأْخُذُوهُ (4)كلمة؟و هل تقوم مقامه في الجزالة لفظة؟و هل يسد مسده في الأصالة نكتة؟لو وضع موضع ذلك«ليقتلوه» أو«ليرجموه»أو«لينفوه»أو«ليطردوه»أو«ليهلكوه»أو«ليذلوه».؟و نحو هذا ما كان ذلك بعيدا،و لا بارعا،و لا عجيبا،و لا بالغا.

فانقد موضع هذه الكلمة،و تعلم بها ما تذهب إليه من تخير الكلام،و جميل الألفاظ،و الاهتداء للمعاني.فإن كنت تقدر أن شيئا من هذه الكلمات التي عددناها عليك أو غيرها لا تقف بك على غرضنا من هذا الكتاب،فلا سبيل لك إلى الوقوف على تصاريف الخطاب،فافزع إلى التقليد،و أكف نفسك مئونة التفكير.و إن فطنت فانظر إلى ما قال من رد عجز الخطاب إلى صدره بقوله: فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5)ثم ذكر عقيبها العذاب في الآخرة،و اتلاها تلو العذاب في الدنيا،على الإحكام الذي رأيت.

ثم ذكر المؤمنين بالقرآن،بعد ذكر المكذبين بالآيات و الرسل،فقال: اَلَّذِينَت.

ص: 129


1- آية(1:3)سورة غافر.
2- آية(5،6)سورة غافر.
3- سبقت.
4- سبقت.
5- سبقت.

يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ (1) إلى أن ذكر ثلاث آيات، و هذا كلام مفصول،تعلم عجيب اتصاله بما سبق و مضى،و انتسابه إلى ما تقدم و تقضى، و عظم موضعه في معناه،و رفيع ما يتضمن من تحميدهم و تسبيحهم.و حكاية كيفية دعاء الملائكة بقوله: رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً (2).

هل تعرف شرف هذه الكلمة لفظا و معنى؟و لطيف هذه الحكاية،و تلاؤم هذا الكلام، و تشاكل هذا النظام.و كيف يهتدي إلى وضع هذه المعاني بشري؟و إلى تركيب ما يلائمها من الألفاظ إنسي،ثم ذكر ثلاث آيات في أمر الكافرين على ما ترى،ثم نبه على أمر القرآن و أنه من آياته بقوله: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَ يُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَ ما يَتَذَكَّرُ إِلاّ مَنْ يُنِيبُ (3).

و إنما ذكر هذين الأمرين اللذين يختص بالقدرة عليهما،لتناسبهما في أنهما من تنزيله من السماء،و لأن الرزّاق الذي لو لم يرزق لم يكن بقاء النفس،تجب طاعته،و النظر في آياته.

ثم قال: فَادْعُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ. رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ. يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلّهِ الْواحِدِ الْقَهّارِ (4)،قف على هذه الدلالة و فكر فيها، و راجع نفسك في مراعاة معاني هذه الصفات العالية و الكلمات السامية،و الحكم البالغة، و المعاني الشريفة،تعلم ورودها عن الإلهية،و دلالتها على الربوبية،و تتحقق أن الخطب المنقولة عنهم،و الأخبار المأثورة في كلماتهم الفصيحة،من الكلام الذي تعلق به الهمم البشرية،و ما تحوم عليه الأفكار الآدمية،و تعرف مباينتها لهذا الضرب من القول.

أي خاطر يتشوف إلى أن يقول: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ. يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ (5)و أي لفظ يدرك هذا المضمار،و أي حكيم يهتدي إلى ما لهذا من الغور،و أي فصيح يهتدي إلى هذا النظم؟ثم استقرئ الآية إلى آخرها،و اعتبر كلماتها،و راع بعدها قوله: اَلْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُت.

ص: 130


1- آية(7)سورة غافر.
2- نفس الآية.
3- آية(13)سورة غافر.
4- آية(14:16)سورة غافر.
5- سبقت.

اَلْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (1) .

من يقدر على تأليف هذه الكلمات الثلاث على قربها،و على خفتها في النظم و موقعها من القلب؟ ثم تأمل قوله: وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ،ما لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لا شَفِيعٍ يُطاعُ. يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَ ما تُخْفِي الصُّدُورُ. وَ اللّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (2).

كل كلمة من ذلك ما قد وصفتها من أنه إذا رآها الإنسان في رسالة كانت عينها،أو في خطبة كانت وجهها،أو قصيدة كانت غرة غرتها،و بيت قصيدتها،كالياقوتة التي تكون فريدة العقد،و عين القلادة و درة الشذر.إذا وقع بين كلام وشّحه،و إذا ضمّن في نظام زيّنه،و إذا اعترض في خطاب تميز عنه،و بان بحسنه منه.

و لست أقول هذا لك في آية دون آية،و سورة دون سورة،و فصل دون فصل،و قصة دون قصة،و معنى دون معنى؛لأني قد شرحت لك أن الكلام في حكاية القصص و الأخبار، و في الشرائع و الأحكام،و في الديانة و التوحيد،و في الحجج و التثبيت،هو خلاف الكلام فيما عدا هذه الأمور.

أ لا ترى أن الشاعر المفلق إذا جاء إلى الزهد قصّر.و الأديب إذا تكلم في بيان الأحكام و ذكر الحلال و الحرام لم يكن كلامه على حسب كلامه في غيره..؟و نظم القرآن لا يتفاوت في شيء،و لا يتباين في أمر،و لا يختل في حال.بل له المثل الأعلى،و الفضل الأسنى.و فيما شرحناه لك كفاية و فيما بيناه بلاغ.

و نذكر في الأحكاميات و غيرها آيات أخر منها قوله: يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَ اذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ وَ اتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (3).

أنت تجد في هذه الآية من الحكمة و التصرف العجيب و النظم البارع ما يدل لك إن شئت على الإعجاز مع هذا الاختيار،و الإيجاز.فكيف إذا بلغ ذلك آيات و كانت سورة شئت على الإعجاز مع هذا الاختيار،و الإيجاز.فكيف إذا بلغ ذلك آيات و كانت سورة و نحو هذه الآية قوله: اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُة.

ص: 131


1- آية(7)سورة غافر.
2- آية(18:20)سورة غافر.
3- آية(4)سورة المائدة.

اَلْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ،فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ،أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (1) و كالآية التي بعدها في التوحيد و إثبات النبوة كالآيات الثلاث في المواريث.أي بارع يقدر على جمع أحكام الفرائض في قدرها من الكلام؟ثم كيف يقدر على ما فيها من بديع النظم؟ و إن جئت إلى آيات الاحتجاج كقوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ. لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ (2).

و كالآيات في التوحيد كقوله: هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (3)و كقوله: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً. اَلَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (4)و كقوله: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (5)إلى آخرها،و كقوله: وَ الصَّافّاتِ صَفًّا. فَالزّاجِراتِ زَجْراً. فَالتّالِياتِ ذِكْراً. إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ. رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ رَبُّ الْمَشارِقِ. إِنّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ. وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ. لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَ يُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ. دُحُوراً وَ لَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ. إِلاّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (6)هذه من الآيات التي قال فيها اللّه تعالى ذكره: اَللّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللّهِ ذلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (7).

و انظر بعين عقلك،و راجع جليّة بصيرتك،إذا تفكرت في كل كلمة مما نقلناه إليك، و عرضناه عليك،ثم فيما ينتظم من الكلمات،ثم إلى أن يتكامل فصلا و قصة،أو يتم حديثا و سورة.لا،بل فكر في جميع القرآن على هذا الترتيب،و تدبّره على نحو هذا التنزيل،فلم ندّع ما ادعيناه لبعضه،و لم نصف ما وصفناه إلا في كلّه،و إن كانت الدلالة في البعض أبين و أظهر،و الآية أكشف و أبهر.ر.

ص: 132


1- آية(157)سورة الأعراف.
2- آية(22،23)سورة الأنبياء.
3- آية(65)سورة غافر.
4- آية(1،2)سورة الفرقان.
5- آية(1)سورة الملك.
6- آية(1:10)سورة الصافات.
7- آية(8)سورة الزمر.

و إذا تأملت على ما هديناك إليه،و وقفناك عليه،فانظر هل ترى وقع هذا النور في قلبك و اشتماله على لبّك،و سريانه في حسك،و نفوذه في عروقك،و امتلاءك به إيقانا و إحاطة،و اهتداءك به إيمانا و بصيرة؟أم هل تجد العرب يأخذ منك مأخذه من وجه.و الهزة تعمل في جوانبك من لون،و الأريحيّة تستولي عليك من باب؟و هل تجد الطرب يستفزّك للطيف ما فطنت له،و السرور يحركك من عجيب ما وقفت عليه،و تجد في نفسك من المعرفة التي حدثت لك عزّة،و في أعطافك ارتياحا و هزّة.و ترى لك في الفضل تقدما و تبريزا،و في اليقين سبقا و تحقيقا،و ترى مطارح الجهال تحت أقدام الغفلة،و مهاويهم في ظلال القلة و الذلة،و أقدارهم بالعين التي يجب أن تلحظ بها مراتبهم،بحيث يجب أن ترتبها؟هذا كله في تأمل الكلام،و نظامه،و عجيب معانيه و أحكامه.

فإن جئت إلى ما انبسط في العالم من بركته و أنواره،و تمكن في الآفاق من يمنه و أضوائه،و ثبت في القلوب من إكباره و إعظامه،و تقرر في النفوس من حتم أمره و نهيه.

و مضى في الدماء من مفروض حكمه،و إلى أنه جعل عماد الصلاة التي هي تلو الإيمان في التأكيد،و ثانية التوحيد في الوجوب،و فرض حفظه،و وكل الصغار و الكبار بتلاوته،و أمر عند افتتاحه بما أمر به لتعظيمه من قوله: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (1)لم يؤمر بالتعوذ لافتتاح أمر كما أمر به لافتتاحه،فهل يدلك هذا على عظيم شأنه،و راجح ميزانه،و عالي مكانه..؟و جملة الأمر أنّ نقد الكلام شديد،و تمييزه صعب.

و مما كتب إلى الحسن بن عبد اللّه العسكري أخبرني أبو بكر بن دريد،قال:

سمعت أبا حاتم يقول:سمعت الأصمعي يقول:فرسان الشعراء أقل من فرسان الحرب.

و قال:سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول:العلماء بالشعر أعز من الكبريت الأحمر.

و إذا كان الكلام المتعارف المتداول بين الناس يشق تمييزه،و يصعب نقده،و يذهب عن محاسنه الكثير،و ينظرون إلى كثير من قبيحه بعين الحسن،و كثير من حسنه بعين القبح.ثم يختلفون في الأحسن منه اختلافا كثيرا،و تتباين آراؤهم في تفضيل ما يفضل منه.فكيف لا يتحيرون فيما لا يحيط به علمهم،و لا يتأتى في مقدورهم،و لا يمثل بخواطرهم؟و قد حيّر القوم الذين لم يكن أحد أفصح منهم،و لا أتم بلاغة،و لا أحسن براعة،حتى دهشوا حين ورد عليهم،و ولهت عقولهم.و لم يكن عندهم فيه جواب غير ضرب الأمثال،و التحرّض عليه،و التوهم فيه،و تقسيمه أقساما،و جعله عضين.ل.

ص: 133


1- آية(98)سورة النحل.

و كيف لا يكون أحسن الكلام،و قد قال اللّه تعالى: اَللّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللّهِ، ذلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (1)استغنم فهم هذه الآية، و كفاك.استفد علم هذه الكلمات،و قد أغناك،فليس يوقف على حسن الكلام بطوله،و لا تعرف براعته بكثرة فصوله.إن القليل يدل على الكثير،و القريب قد يهجم بك على البعيد.

ثم إنه سبحانه و تعالى لما علم من عظم شأن هذه المعرفة،و كبر محلها،و ذهابها على أقوام،ذكر في آخر هذه الآية ما ذكر،و بيّن ما بيّن،فقال: ذلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ (2)فلا يعلم ما وصفنا لك إلا بداية من العزيز الحميد،و قال: وَ مَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (3)و قال: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً (4)و قد بسطنا لك القول،رجاء إفهامك.و هذا المنهاج الذي رأيته إن سلكته يأخذ بيدك،و يدلك على رشدك،و يغنيك عن ذكر براعته،آية،آية لك.

و اعلم أنا لم نقصد فيما سطرناه من الآيات،و سميناه من السور و الدلالات،ذكر الأحسن و الأكشف و الأظهر؛لأنا نعتقد في كل سورة ذكرناها،أو أضربنا عن ذكرها، اعتقادا واحدا في الدلالة على الإعجاز،و الكفاية في التمنع و البرهان.و لكن لم يكن بدّ من ذكر بعض،فذكرنا ما تيسر،و قلنا فيما اتجه في الحال و خطر.و إن كنا نعتقد أن الإعجاز في بعض القرآن أظهر،و في بعض أدق و أغمض.و الكلام في هذا الفصل يجيء بعد هذا.

فاحفظ عنا في الجملة ما كررنا،و السير بعد ذلك في التفصيل إليك.و حصل ما أعطيناك من العلامة،ثم النظر عليك.

قد اعتمدنا على أن الآيات تنقسم إلى قسمين:أحدهما ما يتم بنفسه،أو بنفسه و فاصلته.فينير في الكلام إنارة النجم في الظلام،و الثاني:ما يشتمل على كلمتين أو كلمات إذا تأملتها وجدت كل كلمة منها في نهاية البراعة،و غاية البلاغة.

و إنما يبين ذلك بأن تتصور هذه الكلمة مضمّنة بين أضعاف كلام كثير،أو خطاب طويل،فتراها ما بينها تدل على نفسها،و تعلو على ما قد قرن منها لعلو جنسها.فإذا ضمت إلى أخواتها،و جاءت في ذواتها،أرتك القلائد منظومة،كما كانت تريك عند تأمل الأفرادة.

ص: 134


1- آية(23)سورة الزمر.
2- سبقت.
3- سبقت.
4- آية(26)سورة البقرة.

منها اليواقيت منثورة،و الجواهر مبثوثة.

و لو لا ما أكره من تضمين القرآن في الشعر لأنشدتك ألفاظا وقعت مضمّنة لتعلم كيف تلوح عليه،و كيف ترى بهجتها في أثنائه،و كيف تمتاز منه،حتى أنه لو تأمله من لم يقرأ القرآن،لتبين أنه أجنبي من الكلام الذي تضمنه،و الباب الذي توسطه،و أنكر مكانه، و استكبر موضعه.ثم تناسبها في البلاغة و الإبداع،و تماثلها في السلاسة و الإغراب.ثم انفرادها بذلك الأسلوب،و تخصصها بذلك الترتيب.ثم سائر ما قدمنا ذكره مما نكره إعادته.

و أنت ترى غيره من الكلام يضطرب في مجاريه،و يختل تصرفه في معانيه،و يتفاوت التفاوت الكثير في طرقه،و يضيق به النطاق في مذاهبه،و يرتبك في أطرافه و جوانبه، و يسلمه للتكلف الوحشي كثرة تصرفه،و يحيله على التصنع الظاهر موارد تنقله و تخلصه.

و نظم القرآن في مؤتلفه و مختلفه،و في فصله و وصله،و افتتاحه و اختتامه،و في كل نهج يسلكه،و طريق يأخذ فيه،و باب يتهجم عليه،و وجه يؤمه على ما وصفه تعالى به،لا يتفاوت،كما قال: وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (1)و لا يخرج عن تشابهه و تماثله كما قال: قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ (2)و كما قال: كِتاباً مُتَشابِهاً (3)و لا يخرج عن إبانته كما قال: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (4)و غيره من الكلام كثير التلون،دائم التغير،يقف بك على بديع مستحسن،و يعقبه قبيح مستهجن،و يطلع عليك بوجه الحسناء، ثم يعرض للهجر بخد القبيحة الشوهاء،و يأتيك باللفظة المستنكرة بين الكلمات التي هي كاللآلئ الزّهر.

و قد يأتيك باللفظة الحسنة بين الكلمات البهم.قد يقع إليك منه الكلام المثبج و النظم المشوّش،و الحديث المشوّه.و قد تجد منه ما لا يتناسب و لا يتشابه،و لا يتآلف و لا يتماثل.

و قد قيل في وصف ما جرى هذا المجرى:

و شعر كبعر الكبش فرّق بينه لسان دعيّ في القريض دخيل

و قال آخر:ء.

ص: 135


1- آية(82)سورة النساء.
2- آية(28)سورة الزمر.
3- آية(23)سورة الزمر.
4- آية(195)سورة الشعراء.

و بعض قريض القوم أولاد علّة يكدّ لسان الناطق المتحفّظ

فإن قال قائل:فقد نجد في آيات القرآن ما يكون نظمه بخلاف ما وصفت،و لا تتميز الكلمات بوجه البراعة،و إنما تكون البراعة عندك منه في مقدار يزيد على الكلمات المفردة،و حدّ يتجاوز حدّ الألفاظ المستندة.و إن كان الأكثر على ما وصفته به؟قيل له:

نحن نعلم أن قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ (1)إلى آخر الآية ليس من القبيل الذي يمكن إظهار البراعة فيه و إبانة الفصاحة،و ذاك يجري عندنا مجرى ما يحتاج إلى ذكره من الأسماء و الألقاب،فلا يمكن إظهار البلاغة فيه.فطلبها في نحو هذا ضرب من الجهالة،بل الذي يعتبر في نحو ذلك تنزيل الخطاب،و ظهور الحكمة في الترتيب و المعنى.و ذلك حاصل في هذه الآية إن تأملت.

أ لا ترى أنه بدأ بذكر الأم،لعظم حرمتها،و إدلائها بنفسها،و مكان بعضيّتها،فهي أصل لكل من يدلي بنفسه منهن،لأنه ليس في ذوات الأنساب أقرب منها.

و لما جاء إلى ذوات الأسباب ألحق بها حكم الأم من الرضاع،لأن الرحم ينشره اللبن بما يغذوه.فيحصل بذلك أيضا لها حكم البعضية،فنشر الحرمة بهذا المعنى،و ألحقها بالوالدة.و ذكر الأخوات من الرضاعة،فنبه بها على كل من يدلي بغيرها و جعلها تلو الأم من الرضاع.

و الكلام في إظهار حكم هذه الآية و فوائدها يطول،و لم نضع كتابنا لهذا.و سبيل هذا أن نذكره في كتاب معاني القرآن إن سهل اللّه لنا إملاءه و جمعه،فلم تنفك هذه الآية من الحكم التي تخلف حكمة الإعجاز في النظم و التأليف.

و الفائدة التي تنوب مناب العدول عن البراعة في وجه الترصيف.فقد علم السائل أنه لم يأت بشيء،و لم يهتد للأغراض في دلالات الكلام،و فوائده و متصرفاته و فنونه و متوجهاته.و قد يتفق في الشعر ذكر الأسامي فيحسن موقعه،كقول أبي داود الأسدي:

إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم بعتبة بن الحارث بن شهاب

بأشدهم كلبا على أعدائه و أعزّهم فقدا على الأصحاب

و قد يتفق ذكر الأسامي فيفسد النظم،و يقبح الوزن.و الآيات الأحكاميات التي لا بد فيها من أمر البلاغة،يعتبر فيها من الألفاظ ما يعتبر في غيرها.و قد يمكن فيها،و كل موضع أمكن ذلك،فقد وجد في القرآن في بابه ما ليس عليه مزيد في البلاغة و عجيب النظم.ء.

ص: 136


1- آية(23)سورة النساء.

ثم في جملة الآيات ما إن لم تراع البديع البليغ في الكلمات الأفراد و الألفاظ الآحاد، فقد تجد ذلك مع تركب الكلمتين و الثلاث.و يطرد ذلك في الابتداء و الخروج،و الفواصل، و ما يقع بين الفاتحة و الخاتمة من الواسطة،أو باجتماع ذلك أو في بعض ذلك ما يخلف الإبداع في أفراد الكلمات.و إن كانت الجملة و المعظم على ما سبق الوصف فيه.

و إذا عرف ما يجري إليه الكلام،و ينهى إليه الخطاب،و يقف عليه الأسلوب، و يختص به القبيل بان عند أهل الصنعة تميّز بابه،و انفراد سبيله.و لم يشك البليغ في انتمائه إلى الجهة التي ينتمي إليها،و لم يرتب الأديب البارع في انتسابه إلى ما عرف من نهجه.

و هذا كما يعرف طريقه مترسّل في رسالته،فهو لا يخفى عليه بناء قاعدته و أساسه، فكأنه يرى أنه يعد عليه مجارى حركاته و أنفاسه.و كذلك في الشعر و اختلاف ضروبه، يعرف المتحقق به طبع كل أحد،و سبيل كل شاعر.

و في نظم القرآن أبواب كثيرة لم نستوفها،و تقصيها يطول،و عجائبها لا تنقضي.

فمنها اللفظ و الإشارات.و إذا بلغ الكلام من هذا القبيل مبلغا ربما زاد الإفهام به على الإيضاح،أو ساوى مواقع التفسير و الشرح مع استيفائه شروطه،كان النهاية في معناه، و ذلك كقوله: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)فصول هذه الآية و كلماتها على ما شرحناه من قبل البلاغة و اللطف في التقدم،و في تضمن هذا الأمر العظيم،و المقام الكريم.

و يتلو هذه قوله: وَ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ جَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (2)هذا خروج، لو كان في غير هذا الكلام،لتصور في صورة المنقطع.و قد تمثل في هذا النظم لبراعته، و عجيب أمره،و موقع ما لا ينفك منه القول.

و قد يتبرأ الكلام المتصل بعضه من بعض،و يظهر عليه التثبيج و التباين للخلل الواقع في النظم.و قد تصوّر هذا الفصل للطفه وصلا،و لم يبن عليه تميز الخروج.ثم انظر كيف أجرى هذا الخطاب إلى ذكر نوح،و كيف أثنى عليه،و كيف يليق صفته بالفاصلة،و يتم النظم بها،مع خروجها مخرج البروز من الكلام الأول إلى ذكره،و إجرائه إلى مدحه بشكره،و كونهم من ذريته يوجب عليهم أن يسيروا بسيرته،و أن يستنوا بسنته في أن يشكرواء.

ص: 137


1- آية(1)سورة الإسراء.
2- آية(2)سورة الإسراء.

كشكره،و لا يتخذوا من دون اللّه وكيلا،و أن يعتقدوا تعظيم تخليصه إياهم من الطوفان لمّا حملهم عليه،و نجاهم فيه،حين أهلك من عداهم به.و قد عرفهم أنه إنما مؤاخذهم بذنوبهم و فسادهم فيما سلط عليهم من قبلهم و عاقبهم.

ثم عاد عليهم بالإفضال و الإحسان حتى يتذكروا و يعرفوا قدر نعمة اللّه عليهم،و على نوح الذي ولدهم،و هم من ذريته.فلما عادوا إلى جهالتهم و تمردوا في طغيانهم،عاد عليهم بالتعذيب.ثم ذكر اللّه عز و جل في ثلاث آيات بعد ذلك معنى هذه القصة،التي كانت لهم بكلمات قليلة في العدد،كثيرة الفوائد،لا يمكن شرحها إلا بالتفصيل الكثير و الكلام الطويل.

ثم لم يخل تضاعف الكلام مما ترى من الموعظة على أعجب تدرج،و أبدع تاريخ بقوله إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها (1)و لم ينقطع بذلك الكلام.و أنت ترى الكلام يتبدد مع اتصاله،و ينتشر مع انتظامه.فكيف بإلقاء ما ليس منه في أثنائه،و طرح ما بعده في أدراجه إلى أن خرج إلى قوله: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَ إِنْ عُدْتُمْ عُدْنا (2)يعني إن عدتم إلى الطاعة عدنا إلى العفو،ثم خرج خروجا آخر إلى ذكر القرآن.و على هذا فقس بحثك عن شرف الكلام،و ما له من علو الشأن،لا يطلب مطلبا إلا انفتح،و لا يسلك قلبا إلا انشرح،و لا يذهب مذهبا إلا استنار و أضاء،و لا يضرب مضربا إلا بلغ فيه السماء.

لا تقع منه على فائدة،فقدّرت أنها أقصى فوائدها إلا قصّرت.و لا تظفر بحكمة فظننت أنها زبدة حكمها إلا و قد أخللت.

إن الذي عارض القرآن بشعر امرئ القيس (3)لأضل من حمار أهله،و أحمق من هبنّقة،لو كان شعره كله كالأبيات المختارة التي قدمناها،لأوجب البراءة من قوله:

و سنّ كسنّيق سناء و سنّم ذعرت بمدلاج الهجير نهوض

قال الأصمعي (4):لا أدري ما السنّ،و لا السنيق،و لا التسنم؟!و قال بعضهم:السنق أكمة،و قال فيها له قصريا عنز،و ساقا نعامة كفحل الهجان القيصري العضوض و قوله:

عصافير و ذبان و دود و أجرأ من مجلّحة الذّئابه.

ص: 138


1- آية(7)سورة الإسراء.
2- آية(8)سورة الإسراء.
3- سبقت ترجمته.
4- سبقت ترجمته.

و زاد في تقبيح ذلك وقوعه في أبيات فيها:

فقد طوّفت في الآفاق حتّى رضيت من الغنيمة بالإياب

و كل مكارم الأخلاق صارت إليه همّتي و به اكتسابي

و كقوله في قصيدة قالها في نهاية السقوط:

أزمان فوها كلما نبهتها كالمسك فاح و ظل في القدّام

أ فلا ترى أظعانهنّ بواكرا كالنّخل من شوكان حين صرام

و كأن شاربها أصاب لسانه موم يخالط جسمه بسقام

و كقوله:

لم يفعلوا فعل آل حنظلة إنهم جير بئسما ائتمروا

لا حميريّ و فى و لا عدس و لا اس ت غير يحكّها الثّفر

إن بنى عوف ابتنوا حسبا ضيّعه الداخلون إذ غدروا

و كقوله:

أبلغ شهابا و أبلغ هل أتاك الحيز مال

إنا تركنا منكم قتلى بخوعي و سبيا كالسعالي

يمشين بين رحالنا معترفات بجوع و هزال

و لم يقع مثل ذلك له وحده فقد قال الأعشى (1):

فأدخلك اللّه برد الجنان جذلان في مدخل طيب

و قال أيضا:

فرميت غفلة عينه عن شأنه فأصبت حبة قلبها و طحالها

و قال في فرسه:

و يأمر لليحموم كل عشيّة بقتّ و تعليق فقد كاد يسنق

و قال:«شاو مشلّ شلول شلشل شول».

و هذه الألفاظ في معنى واحد و قد وقع لزهير (2)نحوه كقوله:

فأقسمت جهدا بالمنازل من منى و ما سحفت فيه المقاديم و القمل

كيف يقال هذا في قصيدة يقول فيها:

و هل ينبت الخطى إلا وشيجه و تغرس إلا في منابتها النّخله.

ص: 139


1- سبقت ترجمته.
2- سبقت ترجمته.

و كقول الطرماح (1):

سوف تدنيك من لميس سبنتا ة أمارت بالبول ماء الكراض

السبنتاة:الناقة الصلبة.و الكراض:ماء الفحل.أسالت ماء الفحل مع البول فلم تعقد عليه،و لم تحمل فتضعف.و المائر:السائل.

فإن قال قائل:أجدك تحاملت على امرئ القيس،و رأيت أن شعره يتفاوت بين اللين و الشراسة،و بين اللطف و الشكاسة،و بين التوحش و الاستئناس،و التقارب و التباعد.

و رأيت الكلام الأعدل أفضل،و النظام المستوثق أكمل،و أنت تجد البحتري (2)يسبق في هذا الميدان،و يفوت الغاية في هذا الشأن.و أنت ترى الكتاب يفضلون كلامه على كل كلام،و يقدمون رأيه في البلاغة على كل رأي.

و كذلك تجد لأبي نواس من بهجة اللفظ،و دقيق المعنى ما يتحير فيه أهل اللفظ، و يقدمه الشطار و الظرف على كل شاعر،و يرون لنظمه روعة لا يرون لنظم غيره،و زبرجا لا يتّفق لسواه.فكيف يعرف فضل ما سواه عليه؟ فالجواب أن الكلام في أن الشعر لا يجوز أن يوازن به القرآن و قد تقدم.و إذ كنا قد بينا أن شعر امرئ القيس و هو كبيرهم الذي يقرون بتقدمه،و شيخهم الذي يعترفون بفضله، و قائدهم الذي يأتمون به،و إمامهم الذي يرجعون إليه.كيف سبيله؟و كيف طريق منزلته عن منزلة نظم القرآن؟و إنه لا يخلط بشعره غبار ذلك النظم.و هو إذا لحظ ذلك كان كما قال:

فأصبحت من ليلى الغداة كناظر مع الصبح في إعجاز نجم مغرّب

و كما قال أيضا:

راحت مشرقة و رحت مغرّبا فمتى التقاء مشرق و مغرّب

و إذا كنا قد أبّنّا في القاعدة ما علمت،و فصلنا لك في شعره ما عرفت،لم نحتج إلى أن نتكلم على شعر شاعر،و كلام كل بليغ.و القليل يدل على الكثير.

و قد بيّنا في الجملة مباينة أسلوب نظم القرآن جميع الأساليب،و مزيته عليها في النظم و الترتيب،و تقدمه عليها في كل حكمة و براعة.ثم تكلمنا على التفصيل على ما شهدت،و لا يبقى علينا بعد ذلك سؤال.ه.

ص: 140


1- الطرماح هو:ابن حكيم من طي،كان من فحول الشعراء الإسلاميين و فصحائهم،نشأ في الشام، و انتقل إلى الكوفة بعد ذلك،و اعتقد مذهب الشراة و الأزارقة.مات سنة(100 ه).له ترجمة في: خزانة الأدب 418/3.و الأغاني 156/10،و الجمهرة(190).
2- سبقت ترجمته.

ثم نقول أنت تعلم أن من يقول بتقدم البحتري في الصنعة،به من الشغل في تفضيله على ابن الرّومي،أو تسوية ما بينهما ما لا يطمع معه في تقديمه على امرئ القيس و من في طبقته.

و كذلك أبو نواس إنما يعدل شعره بشعر أشكاله،و يقابل كلامه بكلام أضرابه من أهل عصره.و إنما يقع بينهم التباين اليسير و التفاوت القليل.فأما يظنّ ظانّ أو يتوهم متوهم أن جنس الشعر معارض لنظم القرآن فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (1)و إنما هي خواطر يغير بعضها على بعض،و يقتدى فيها بعض ببعض، و الغرض الذي يرمي إليه و يصح التوافي عليه،في الجملة،فهو قبيل متداول،و جنس متنازع،و شريعة مورودة،و طريقة مسلوكة.

أ لا ترى إلى ما روي عن الحسين (2)بن الضحاك قال:أنشدت أبا نواس (3)قصيدتي التي فيها:

و شاطريّ اللسان مختلق التّك ريه زان المجون بالنّسك

كأنه نصب كأنه قمر يكرع في بعض أنجم الفلك

قال:فأنشدني أبو نواس بعد أيام قصيدته التي يقول فيها:

أعاذل أعتبت الإمام و اعتبا و أعربت عما في الضمير و أعربا

و قلت لساقيها أجزها فلم أكد ليأبى أمير المؤمنين و أشربا

فجوّزها عني عقارا ترى لها إلى الشّرف الأعلى شعاعا مطنبا

إذا عبّ فيها شارب القوم خلّته يقبّل في داج من الليل كوكبا

قال:فقلت له:يا أبا علي هذه مقالتي،فقال:أ تظن أنه يروى لك معنى و أنا حي..؟ فتأمل هذا الأخذ،و هذا الوضع،و هذا الاتباع.أما الخليع فقد رأى الإبداع في المعنى.فأما العبارات فإنها ليست على ما ظنّه؛لأن قوله:يكرع ليس بصحيح،و فيه ثقل بيّن و تفاوت، و فيه إحالة؛لأن القمر لا يصح تصوّرا أن يكرع في نجم.

و أما قول أبي نواس:إذا عب فيها،فكلمة قد قصد فيها المتانة،و كان سبيله أن يختاره.

ص: 141


1- آية(21)سورة الحج.
2- الحسين بن الضحاك،ولد في البصرة،و نشأ فيها،و نادم الخلفاء من بني العباس،و كان خليعا فاسدا،و هو أول من نادم الأمين،و له فيه مدائح كثيرة.مات سنة(250 ه).له ترجمة في:الأغاني 170/6،و وفيات الأعيان 154/1،و شذرات الذهب 123/2.
3- سبقت ترجمته.

سواها من ألفاظ الشرب،و لو فعل ذلك كان أملح.و قوله شارب القوم فيه ضرب من التكلف الذي لا بد له منه،أو من مثله،لإقامة الوزن.

ثم قوله:«خلته يقبل في داج من الليل كوكبا»تشبيه بحالة واحدة من أحواله،و هي أن يشرب حيث لا ضوء هناك،و إنما يتناوله ليلا فليس بتشبيه مستوفي على ما فيه من الوقوع و الملاحة.و قد قال ابن الرومي (1)ما هو أوقع منه و أملح و أبدع:

و مهفهف تمّت محاسنه حتى تجاوز منية النّفس

تصبو الكئوس إلى مراشفه و نحن في يده إلى الحبس

أبصرته و الكأس بين فم منه و بين أنامل خمس

و كأنها و كأن شاربها قمر يقبّل عارض الشمس

و لا شك في أن تشبيه ابن الرومي أحسن و أعجب،إلا أنه تمكن من إيراده في بيتين و هما مع سبقهما إلى المعنى أتيا به في بيت واحد.

و إنما أردت بهذا أن أعرفك أن هذه أمور متقاربة،يقع فيها التنافس و التعارض و الأطماع،متعلقة بها،و الهمم تسمو إليها.و هي ألف طباعنا،و طوع مداركنا،و مجانس لكلامنا.

و إعجاب قوم بنحو هذا و ما يجري مجراها،و إيثار أقوام لشعر البحتري على أبي تمام،و عبد الصمد،و ابن الرومي،و تقديم قوم كل هؤلاء أو بعضهم عليه،و ذهاب قوم عند التفرقة ليس بأمر يضرّ بنا،و لا سبب يعترض على أفهامنا.

و نحن نعمد إلى بعض قصائد البحتري فنتكلم عليها كما تكلمنا على قصيدة امرئ القيس،ليزداد الناظر في كتابنا بصيرة،و يستخلص من سر المعرفة سريرة،و يعلم كيف تكون الموازنة،و كيف تقع المشابهة و المقاربة،و نجعل تلك القصيدة التي نذكرها أجود شعره.

سمعت الصّاحب إسماعيل بن عباد يقول:سمعت أبا الفضل بن العميد يقول:

سمعت أبا مسلم الرّستمي يقول:سمعت البحتري يذكر أن أجود شعر قاله:

«أهلا بذلكم الخيال المقبل».

قال:و سمعت أبا الفضل بن العميد يقول:أجود شعره هو قوله:

«في الشيب زجر له لو كان ينزجر».ه.

ص: 142


1- سبقت ترجمته.

قال:و سئلت عن ذلك فقلت:البحتري أعرف بشعر نفسه من غيره.فنحن الآن نقول في هذه القصيدة ما يصلح في مثل هذا قوله:

أهلا بذلكم الخيال المقبل فعل الذي نهواه أو لم يفعل

برق سرى في بطن وجرة فاهتدت بسناه أعناق الرّكاب الضّلّل

البيت الأول في قوله:ذلكم الخيال،ثقل روح،و تطويل و حشو،و غيره أصلح له، و أخف منه قول الصّنوبري:

أهلا بذاك الزّور من زور شمس بدت في فلك الدّور

و عذوبة الشعر تذهب بزيادة حرف أو نقصان حرف،فيصير إلى الكزازة،و تعود ملاحته بذلك ملوحة،و فصاحته عيا،و براعته تكلفا،و سلاسته تعسفا،و ملامسته تلويا و تعقدا.فهذا فصل و فيه شيء آخر،و هو:أن هذا الخطاب إنما يستقيم مهما خوطب به الخيال،حال إقباله.فأما أن يحكى الحال التي كانت و سلفت على هذه العيادة،ففيه عهدة.و في تركيب الكلام عن هذا المعنى عقدة،و هو لبراعته و حذقه في هذه الصنعة يعلق نحو هذا الكلام،و لا ينظر في عواقبه،لأن ملاحة قوله تغطي على عيون الناظرين فيه نحو هذه الأمور.

ثم قوله:«فعل الذي نهواه أو لم يفعل»ليست بكلمة رشيقة،و لا لفظة ظريفة،و إن كانت كسائر الكلام.

فأما بيته الثاني فهو عظيم الموقع في البهجة و بديع المأخذ،حسن الرواء،أنيق المنظر و المسمع،يملأ القلب و الفهم و يفرح الخاطر.و ترى بشاشته في العروق،و كان البحتري يسمي نحو هذه الأبيات:«عروق الذهب».و في نحوه ما يدل على براعته في الصناعة، و حذقه في البلاغة.

و مع هذا كله فيه ما نشرحه من الخلل،مع الديباجة الحسنة،و الرونق المليح.و ذلك أنه جعل الخيال كالبرق لإشراقه في مسراه،كما يقال:إنه يسري كنسيم الصبا فيطيب ما مر به.كذلك يضيء ما مر حوله و ينور ما مر به.و هذا غلوّ في الصنعة،إلا أن ذكره:«بطن و جرة»حشو،و في ذكره خلل؛لأن النور القليل يؤثر في بطون الأرض و ما اطمأن منها، بخلاف ما يؤثر في غيرها.فلم يكن من سبيله أن يربط ذلك ببطن وجرة،و تحديده المكان على الحشو أحمد من تحديد امرئ القيس من ذكر:«سقط اللوى بين الدخول فحومل، فتوضح فالمقراة»لم يقنع بذكر حد حتى حده بأربع حدود.كأنه يريد بيع المنزل،فيخشى إن أخل بحد أن يكون بيعه فاسدا أو شرطه باطلا.فهذا باب.

ص: 143

ثم إنما يذكر الخيال بخفاء الأثر و دقة المطلب و لطف المسلك.و هذا الذي ذكر يضاد هذا الوجه،و يخالف ما يوضع عليه أصل الباب.

و لا يجوز أن يقدر مقدر أن البحتري قطع الكلام الأول و ابتدأ بذكر برق لمع من ناحية حبيبه،من جهة بطن و جرة،لأن هذا القطع إن كان فعله كان خارجا به عن النظم المحمود، و لم يكن مبدعا.ثم كان لا تكون فيه فائدة،لأن كل برق شعل و تكرر وقع الاهتداء به في الظلام.و كان لا يكون بما نظمه مفيدا،و لا متقدما،و هو على ما كان من مقصده،فهو ذو لفظ محمود،و معنى مستحب غير مقصود.و يعلم بمثله أنه طلب العبارات،و تعليق القول بالإشارات.

و هذا من الشعر الحسن الذي يحلو لفظه و تقل فوائده كقول القائل:

و لما قضينا من منى كل حاجة و مسّح بالأركان من هو ماسح

و شدّت على حدب المهارى رحالنا و لا ينظر الغادي الذي هو رائح

أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا و سالت بأعناق المطيّ الأباطح

هذه ألفاظ بعيدة المطالع و المقاطع،حلوة المجاني و المواقع،قليلة المعاني و الفوائد.فأما قول البحتري بعد ذلك:

من غادة منعت و تمنع نيلها فلو أنها بذلت لنا لم تبذل

كالبدر غير مخيل و الغصن غ ير مميل و الدّعص غير مهيّل

فالبيت الأول على ما تكلف فيه من المطابقة و تجشم الصنعة ألفاظه أوفر من معانيه، و كلماته أكثر من فوائده.و تعلم أن القصد وضع العبارات في مثله.و لو قال:هي ممنوعة مانعة،كان ينوب عن تطويله،و تكثيره الكلام و تهويله ثم هو معنى متداول مكرر على كل لسان.

و أما البيت الثاني فأنت تعلم أن التشبيه بالبدر و الغصن و الدعص أمر منقول متداول و لا فضيلة في التشبيه بنحو ذلك.و إنما يبقى تشبيهة ثلاثة أشياء في البيت،و هذا أيضا قريب لأن المعنى مكرر و يبقى له بعد ذلك شيء آخر،و هو تعلمه للترصيع في البيت كله.

إلا أن هذه الاستثناءات فيها ضرب من التكلف،لأن التشبيه بالغصن كاف.فإذا زاد فقال كالغصن غير معوج،كان ذلك من باب التكلف خللا.و كان ذلك زيادة يستغنى عنها.

و كذلك قوله:كالدعص غير مهيل،لأنه إذا انهال خرج عن أن يكون مطلق التشبيه مصروفا إليه.فلا يكون لتقييده معنى و أما قوله:

ما الحسن عندك يا سعاد بمحسن فيما أتاه و لا الجمال بمجمل

ص: 144

عذل المشوق و إن من سيما الهوى في حيث يجهله لجاج العذّل

قوله في البيت الأول:عندك حشو.و ليس بواقع و لا بديع،و فيه كلفة.و المعنى الذي قصده أنت تعلم أنه متكرر على لسان الشعراء.

و فيه شيء آخر لأنه يذكر أن حسنا لم يحسن في تهييج وجده،و تهييم قلبه.و ضد هذا المعنى هو الذي يميل إليه أهل الهوى و الحب.و بيت كشاجم أسلم من هذا و أبعد من الخلل و هو قوله:

بحياة حسنك أحسنى،و بحق من جعل الجمال عليك وقفا أجملي

و أما البيت الثاني فإن قوله:في حيث حشا بقوله:في،و وقع ذلك مستنكرا وحشيا نافرا عن طبعه،جافيا في وضعه،فهو كرقعة من جلد في ديباج حسن.فهو يمحو حسنه، و يأتي على جماله.

ثم في المعنى شيء،لأن لجاج العذل لا يدل على هوى مجهول و لو كان مجهولا لم يهتد.و العذل عليه،فعلم أن المقصد استجلاب العبارات دون المعاني.ثم لو سلم من هذا الخلل،لم يكن في البيت معنى بديع و لا شيء يفوت قول الشعراء في العذل،فإن ذلك جملهم الذلول،و قولهم المكرر،و أما قوله:

ما ذا عليك من انتظار متيّم؟ بل ما يضرّك وقفة في منزل؟

إن سيل عيّ عن الجواب فلم يطق رجعا فكيف يكون إن لم يسأل؟

لست أنكر حسن البيتين و ظرفهما،و رشاقتهما و لطفهما و ماءهما و بهجتهما،إلا أن البيت الأول منقطع عن الكلام المتقدم ضربا من الانقطاع،لأنه لم يجر لمشافهة العاذل ذكر،و إنما جرى ذكر العذّال على وجه لا يتصل هذا البيت به و لا يلائمه.

ثم الذي ذكره من الانتظار و إن كان مليحا في اللفظ فهو في المعنى متكلف،لأن الواقف في الدار لا ينتظر أمرا،و إنما يقف تحسرا و تذللا و تحيرا.

و الشطر الأخير من البيت واقع،و الأول مستجلب،و فيه تعليق على أمر لم يجر له ذكر.لأن وضع البيت يقتضي تقدم عذل على الوقوف،و لم يحصل ذلك مذكورا في شعره من قبل.

و أما البيت الثاني:فإنه معلق بالأول لا يستقل إلا به.و هم يعيبون وقوف البيت على غيره،و يرون أن البيت التام هو المحمود،و المصراع التام بنفسه بحيث لا يقف على المصراع الآخر أفضل و أتم و أحسن.

ص: 145

و قوله:فكيف يكون إن لم يسأل،مليح جدا،و لا تستمر ملاحة ما قبله عليه،و لا يطرد فيه الماء اطراده فيه.

و فيه شيء آخر،لأنه لا يصلح أن يكون السؤال سببا لأن يعيا عن الجواب.و ظاهر القول يقتضيه،فأما قوله:

لا تكلفنّ لي الدموع فإن لي دمعا ينمّ عليه إن لم يفضل

و لقد سكنت إلى الصدود من النوى و الشّري أري عند طعم الحنظل

و كذاك طرفه حين أوجس ضربة في الرأس هان عليه فصد الأكحل

فالبيت الأول مخالف لما عليه مذهبهم في طلب الإسعاد بالدموع و الإسعاف بالبكاء.

و مخالف لأول كلامه لأنه يفيد مخاطبة العذل.و هذا يفيد مخاطبة الرفيق.و قد بينت لك أن القوم يسلكون حفظ الألفاظ و تصنيعها دون ضبط المعاني و ترتيبها.

و لذلك قال اللّه عز و جل: وَ الشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ. أَ لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ. وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (1)فأخبر أنهم يتبعون القول حيث توجه بهم،و اللفظ كيف أطاعهم،و المعاني كيف تتبع ألفاظهم.و ذلك خلاف ما وضع عليه الإبانة عن المقاصد بالخطاب.و لذلك كان طلب الفصاحة فيه أسهل و أمكن،فصار بهذا أبلغ خطابهم.ثم لو أن هذا البيت و ما يتلوه من البيتين سلم من نحو هذا،لم يكن في ذلك شيء يفوت شعر شاعر،أو كلام متكلم.

و أما قوله:و الشرى أرى،فإنه و إن كان قد تصنع له من جهة الطباق،و من جهة التجنيس المقارب،فهي كلمة ثقيلة على اللسان،و هم يذمون نحو هذا.كما عابوا على أبي تمام قوله:

كريم متى أمدحه أمدحه و الورى معي و متى ما لمته لمته وحدي

ذكر لي الصاحب بن عباد:أنه جارى أبا الفضل بن العميد في محاسن القصيدة،حتى انتهى إلى هذا البيت،فذكر له أن قوله:أمدحه،أمدحه،معيب لثقله من جهة تدارك حروف الحلق.

ثم رأيت بعد ذلك المتقدمين قد تكلموا في هذه النكتة،فعلمت أن ذلك شيء عند أهل الصنعة معروف.ثم إن قوله:عند أكل الحنظل ليس بحسن و لا واقع.ء.

ص: 146


1- آية(224:226)سورة الشعراء.

و أما البيت الثالث فهو أجنبي من كلامه،غريب في طباعه،نافر من جملة شعره، و فيه كزازة و فجاجة،و إن كان المعنى صالحا.فأما قوله:

و أغرّ في الزمن البهيم محجّل قد رحت منه على أغرّ محجّل

كالهيكل المبنيّ إلا أنه في الحسن جاء كصورة في هيكل

فالبيت الأول لم يتفق له فيه خروج حسن،بل هو مقطوع عما سلف من الكلام.

و عامّة خروجه نحو هذا،و هو غير بارع في هذا الباب،و هذا مذموم معيب منه،لأن من كان صناعته الشعر و هو يأكل به،و تغافل عما يدفع إليه في كل قصيدة،و استهان بأحكامه و تجويده مع تتبعه لأن يكون عامة ما يصدر به أشعاره من النسيب عشرة أبيات،و تتبعه للصنعة الكثيرة،و تركيب العبارات و تنقيح الألفاظ و تزويرها،كان ذلك أدخل في عيبه، و أدل على تقصيره أو قصوره،و إنه لا يقع له الخروج منه.

و أما قوله:«و أغرّ في الزمن البهيم محجل»فإن ذكر التحجيل في الممدوح قريب، و ليس بجيد.و قد يمكن أن يقال:بأنه إذا قرن بالأغر حسن و جرى مجراه،و انخرط في سلكه،و أهوى إلى مضماره،و لم ينكر لمكانه من جواره.فهذا عذر،و العدول عنه أحسن.

و إنما أراد أن يرد العجز على الصدر،و يأتي بوجه في التجنيس.و فيه شيء؛لأن ظاهر كلامه يوهم أنه قد صار ممتطي الأغر الأول،و رائحا عليه.و لو سلم من ذلك لم يكن فيه ما يفوت حدود الشعراء و أقاويل الناس.فأما ذكر الهيكل في البيت الثاني و رده عجز البيت عليه،و ظنه أنه قد ظفر بهذه اللفظة،و عمل شيئا حتى كررها،فهي كلمة فيها ثقل، و نحن نجدهم إذا أرادوا أن يصنعوا نحو هذا قالوا:ما هو إلا صورة،و ما هو إلا تمثال،و ما هو إلا دمية،و ما هو إلا ظبية،و نحو ذلك من الكلمات الخفيفة على القلب و اللسان.

و قد استدرك هو أيضا على نفسه فذكر أنه كصورة في هيكل،و لو اقتصر على ذكر الصورة و حذف الهيكل كان أولى و أجمل.و لو أن هذه الكلمة كررها أصحاب العزائم على الشياطين لراعوهم بها و أفزعوهم بذكرها و ذلك من كلامهم،و شبيه بصناعتهم،و أما قوله:

وافي الضّلوع يشدّ عقد حزامه يوم اللقاء على معمّ مخول

أخواله للرّستمين بفارس و جدوده للتّبّعين بموكل

نبل المحزم مما يمدح به الخيل،فهو لم يأت فيه ببديع.و قوله:يشد عقد حزامه داخل في التكلف،و التعسف لا يقبل من مثله.و إن قبلناه من غيره لأنه يتتبع الألفاظ و ينقدها نقدا شديدا.فهلا قال:يشد حزامه،أو يأتي بحشو آخر سوى العقد.فقد عقد هذا

ص: 147

البيت بذكر العقد.ثم قوله:«يوم اللقاء»حشو آخر لا يحتاج إليه.و أما البيت الثاني:

فمعناه أصلح من ألفاظه،لأنها غير مجانسة لطباعه،و فيها غلظ و نفار و أما قوله:

يهوى كما تهوى العقاب و قد رأت صيدا و ينقض انقضاض الأجدل

متوجس برقيقتين كأنما تريان من ورق عليه موصل

ما إن يعاف قذى و لو أوردته يوما خلائق حمدويه الأحول

البيت الأول صالح و قد قاله الناس،و لم يسبق إليه،و لم يقل ما لم يقولوه،بل هو منقول.و في سرعة عدو الفرس تشبيهات ليس هذا بأبدعها،و قد يقولون:يفوت الطرف و يسبق الريح،و يجاري الوهم،و يكدّ النظر،و لو لا أن الإتيان على محاسن ما قالوه في ذلك يخرج الكلام عن غرض الكتاب،نقلت لك جملة مما ذهبوا إليه في هذا المعنى،فتتّبع تعلم أنه لم يأت فيها بما يجل عن الوصف،أو يفوت منتهى الحد.

على أن الهوىّ يذكر عند الانقضاض خاصة،و ليس للفرس هذه الصفة في الحقيقة إلا أن يشبه جده في العدو بحالة انقضاض البازي و العقاب.و ليست تلك الحالة بأسرع أحوال طيرانها.

و أما البيت الثاني فقوله:إن الأذنين كأنهما من ورق موصل،و إنما أراد بذلك حدتهما،و سرعة حركتهما،و إحساسهما بالصوت،كما يحس الورق بحفيف الريح.

و ظاهر التشبيه غير واقع،و إذا ضمن ما ذكرنا من المعنى كان المعنى حسنا.و لكن لا يدل عليه اللفظ،و إنما يجري مجرى المضمن.و ليس هذا البيت برائق اللفظ،و لا مشاكل فيه لطيفة غير قوله:متوجس برقيقتين.فإن هذا القدر هو حسن.

و أما البيت الثالث:فقد ذكرنا فيما مضى من الكتاب أنه من باب الاستطراد،و نقلنا نظائر ذلك من قول أبي تمام و غيره.و قطعة أبي تمام في نهاية الحسن في هذا المعنى.

و الذي وقع للبحتري في هذا البيت عندي ليس يجيد في لفظ و لا معنى.و هو بيت وحش جدا،قد صار قذى في عين هذه القصيدة،بل وخزا فيها و وبالا عليها،قد كدر صفاءها، و أذهب بهاءها و ماءها،و طمس بظلمته سناها.

و ما وجه مدح الفرس بأنه لا يعاف قذى من المياه إذا وردها؟كأنه أراد أن يسلك مسلك بشار في قوله:«و لا يشرب الماء إلا بدم»و إذا كان لهذا الباب مجانبا،و عن هذا السمت بعيدا،فهلا وصفها بعزة الشرب كما وصفها المتنبي في قوله:

وصول إلى المستصعبات بخيله فلو كان قرن الشمس ماء لأوردا

ص: 148

و هلا سلك فيه مسلك القائل:

و إني للماء الذي شابه القذى إذا كثرت ورّاده لعيوف

ثم قوله:«و لو أردته يوما حشو بارد»ثم قوله:«حمدويه الأحول»وحش جدا فما أمقت هذا البيت و أبغضه و ما أثقله و أسخفه.و إنما غطى على عينه عيبه،و زين له إيراده طمعه في الاستطراد.و هلا طمع فيه على وجه لا يفض من بهجة كلامه،و لا معنى ألفاظه.

فقد كان يمكن ذلك و لا يتعذر.فأما قوله:

ذنب كما سحب الرداء يذبّ عن عرف و عرف كالقناع المسبل

تتوهم الجوزاء في أرساغه و البدر فوق جبينه المتهلل

فالبيت الأول:وحش الابتداء،منقطع عما سبق من الكلام.و قد ذكرنا أنه لا يهتدي لوصل الكلام و نظام بعضه إلى بعض.و إنما يتصنع لغير هذا الوجه،و كان يحتاج أن يقول:

ذنب كالرداء،فقد حذف الوصل غير متسق و لا مليح،و كان من سبيله أن لا يخفى عليه، و لا يذهب عن مثله.ثم قوله:«كما سحب الرداء»قبيح في تحقيق التشبيه،و ليس بواقع و لا مستقيم في العبارة إلا على إضمار أنه ذنب يسحبه كما يسحب الرداء.و قوله:«يذب عن عرف»ليس بحسن و لا صادق،و المحمود ما ذكره امرؤ القيس و هو قوله:«فويق الأرض ليس بأعزل»و أن قوله:«تتوهم الجوزاء في أرساغه»فهو تشبيه مليح،و لكنه لم يسبق إليه و لا انفرد به.

و لو نسخت لك ما قاله الشعراء في تشبيه الغرة بالهلال،و البدر و النجم،و غير ذلك من الأمور،و تشبيه الحجول،لتعجبت من بدائع قد وقعوا عليها،و أمور مليحة قد ذهبوا إليها.و ليس ذلك موضع كلامنا،فتتبع ذلك في أشعارهم تعلم ما وصفت لك.

و اعلم أنا تركنا بقية كلامه في وصف الفرس،لأنه ذكر عشرين بيتا في ذلك.و الذي ذكرناه في هذا المعنى يدل على ما بعده،و لا يعدو ما تركناه أن يكون متوسطا إلى حد لا يفوت طريقة الشعراء.

و لو تتبعت أقاويل الشعراء في وصف الخيل علمت أنه و إن جمع فأوعى و حشر فنادى،ففيهم من سبقه في ميدانه،و منهم من ساواه في شأوه،و منهم من داناه.فالقبيل واحد،و النسيج متشاكل،و لو لا كراهة التطويل،لنقلت جملة من أشعارهم في ذلك لتقف على ما قلت.فتجاوزنا إلى الكلام على ما قاله في المدح في هذه القصيدة قال:

لمحمد بن عليّ الشرف الذي لا يلحظ الجوزاء إلا من عل

و سحابة لو لا تتابع مزنها فينا لراح المزن غير مبخّل

ص: 149

و الجود يعذله عليه حاتم سرفا و لا جود لمن لم يعذل

البيت الأول منقطع عما قبله،على ما وصفنا به شعره:من قطعه المعاني،و فصله بينها،و قلة تأنيه لتجويد الخروج و الوصل.و ذلك نقصان في الصناعة،و تخلف في البراعة،و هذا إذا وقع في مواضع قليلة عذر فيها.و أما إذا كان بناء الغالب من كلامه على هذا فلا عذر له.

و أما المعنى الذي ذكره فليس بشيء مما سبق إليه.و هو شيء مشترك فيه.و قد قالوا في نحوه و إن مجده سماء المساء،و قالوا في نحوه الكثير الذي يصعب نقل جميعه،و كما قال المتنبي:

و عزمة بعثتها همّة زحل من تحتها بمكان الترب من زحل

و حدثني إسماعيل بن عباد أنه رأى أبا الفضل بن العميد قام لرجل قال لمن حضره:

أ تدري من هذا؟هو الذي قال فيه أبيه البحتري:

«لمحمد بن القاسم الشرف الذي».

فذلك يدل على استعظامه للميت بما مدح به من البيت.

و البيت الثاني في تشبيه جوده بالسحاب قريب.و هو حديث مكرر ليس ينفك مديح شاعر منه.و كان من سبيله أن يبدع فيه زيادة إبداع كما قد يقع لهم في نحو هذا.و لكنه لم يتصنع له و أرسله إرسالا.

و قد وقع في المصراع الثاني ضرب من الخلل،و ذلك أن المزن إنما يبخل إذا منع نيله.فذلك موجود في كل نيل ممنوع،و كلاهما محمود مع الإسعاف.فإن أسعف أحدهما و منع الآخر لم يمكن التشبيه.و إن كان إنما شبه غالب أحدهما بالآخر.و ذكر قصور أحدهما عن صاحبه،حتى أنه قد يبخل في وقت و الآخر لا يبخل بحال،فهذا جيد و ليس في حمل الألفاظ على الإشارة إلى هذا شيء.

و البيت الثالث:و إن كان معناه مكررا فلفظه مضطرب بالتأخير و التقديم.يشبه ألفاظ المبتدئين و أما قوله:

فضل و إفضال و ما أخذ المدى بعد المدى كالفاضل المتفضّل

سار إذا ادّلج العفاة إلى الندى لا يصنع المعروف غير معجّل

فالبيت الأول منقطع عما قبله،و ليس فيه شيء غير التجنيس،الذي ليس ببديع لتكرره على كل لسان.و قوله:ما أخذ المدى فإنه لفظ مليح و هو كقول القائل:

«قد أركب الآلة بعد الآلة»،و روي:«الحالة بعد الحالة».

ص: 150

و كقول امرئ القيس:«سموّ حباب الماء حالا على حال»و لكنها طريقة مذلّلة.فهو فيها تابع.و أما البيت الثاني فقريب في اللفظ و المعنى.و قوله:«لا يصنع المعروف»ليس بلفظ محمود،و أما قوله:

عال على نظر الحسود كأنما جذبته أفراد النجوم بأحبل

أو ما رأيت المجد ألقى رحله في آل طلحة ثمّ لم يتحوّل

فالبيت الأول منكر جدا في جر النجوم بالأرسان موضعه إلى العلو.و التكلف فيه واقع.

و البيت الثاني أجنبي عنه،بعيد منه.و افتتاحه رديء،و ما وجه الاستفهام و التقرير و الاستبانة و التوقيف؟و البيتان أجنبيان من كلامه،غريبان في قصيدته،و لم يقع له في المدح في هذه القصيدة شيء جيد.أ لا ترى أنه قال بعد ذلك:

نفسي فداؤك يا محمد من فتى يوفى على ظلم الخطوب فتنجلي

إني أريد أبا سعيد و العدا بيني و بين سحابه المتهلّل

كأن هذا ليس من طبعه و لا من سبكه و قوله:

مضر الجزيرة كلّها و ربيعة ال خابور توعدني و أزد الموصل

قد جدت بالطرف الجواد فثنه لأخيك من أدد أبيك بمنصل

البيت الأول حسن المعنى،و إن كانت ألفاظه بذكر الأماكن لا يتأتى فيه التحسين.

و هذا المعنى قد يمكن إيراده بأحسن من هذا اللفظ و أبدع منه و أرق منه كقوله:

إذا أغصبت عليك بنو تميم رأيت الناس كلّهم غضابا

و البيت الثاني قد تعذر عليه وصله بما سبق من الكلام على وجه يلطف،و هو قبيح اللفظ،حيث يقول فيه:فثنّه لأخيك من أدد أبيك.و من آخذه بهذا التعرض لهذا السجع و ذكر هذا النسب حتى أفسد به شعره.

و أما قوله بعد ذلك في وصف السيف يقول:

يتناول الروح البعيد مثالها عفوا و يفتح في القضاء المقفل

بإبانة في كل حتف مظلم و هداية في كل نفس مجهل

ماض و إن لم تمضه يد فارس بطل و مصقول و إن لم يصقل

ليس لفظ البيت الأول بمضاه لديباجة شعره،و لا له بهجة نظمه،لظهور أثر التكلف عليه،و تبين ثقل فيه.

ص: 151

و أما«القضاء المقفل»و فتحه،فكلام غير محمود و لا مرضي!و استعارة لو لم يستعرها كانت أولى به!و هلاّ عيب عليه كما عيب على أبي تمام قوله:

فضربت في أخدعيه ضربة غادرته عودا ركوبا

و قالوا:يستحق بهذه الاستعارة أن يصفع في أخدعيه!و قد اتبعه البحتري في استعارة الأخدع ولوعا باتباعه،فقال في الفتح:

و إني و قد بلغتني الشرف العلى و أعتقت من ذلّ المطامع أخدعي

إن شيطانه،حيث زين له هذه الكلمة،تابعه حين حسن عنده هذه اللفظة،لخبيث مارد و رديء معاند،أراد أن يطلق أعنة الذم فيه،و يسرّح جيوش العتب إليه.و لم يقع بقفل القضاء،حتى جعل للحتف ظلمة تجلى بالسيف،و جعل السيف هاديا في النفس المجهل الذي لا يهتدي إليه!و ليس في هذا مع تحسين اللفظ و تنميقه شيء.لأن السلاح و إن كان معيبا فإنه يهتدي إلى النفس.و كان يجب أن يبدع في هذا إبداع المتنبي في قوله:

كأنّ إلهام في الهيجا عيون و قد طبعت سيوفك من رقاد

و قد صغت الأسنة من هموم فما يخطرن إلا في فؤاد

فالاهتداء على هذا الوجه في التشبيه بديع حسن،و في البيت الأول شيء آخر،و ذلك أن قوله:«و يفتح في القضاء»في هذا الموضع حشو رديء يلحق بصاحبه اللكنة،و يلزمه الهجنة.

أما البيت الثالث:فإنه أصلح هذه الأبيات.و إن كان ذكر الفارس حشوا و تكلفا و لغوا.لأن هذا لا يتغير بالفارس و الراجل.على أنه ليس فيه بديع،و أما قوله:

يغشى الوغى و التّرس بجنة من حدّه و الدّرع ليس بمعقل

مصغ إلى حكم الردى فإذا مضى لم يلتفت،و إذا قضى لم يعدل

متوقد يبري بأوّل ضربة ما أدركت،و لو أنها في يذبل

البيتان الأولان من الجنس الذي يكثر كلامه عليه،و هي طريقه الذي يجتنبها،و ذلك من السبك الكتابي،و الكلام المعتدل.إلا أنه لم يبدع فيها بشيء،و قد زيد عليه فيها و من قصد إلى أن يكمل عشرة أبيات في وصف السيف فليس من حكمه أن يأتي بأشياء منقولة، و أمور مذكورة.و سبيله أن يغرب و يبدع كما أبدع المتنبي في قوله:

سلّه و الركض بعد وهن بنجد فتصدّى للغيث أهل الحجاز

ص: 152

هذا في باب صقاله،و أضوائه و كثرة مائه،و كقوله:

ريان لو قذف الذي أسقيته لجرى من المهجات بحر مزبد

و قوله:«مصغ إلى حكم الردى إن تأملته»مقلوب كان ينبغي أن يقول يصغي الردى إلى حكمه كما قال الآخر:«فالسيف يأمر و الأقدار تنتظر».و قوله:«و إذا قضى لم يعدل» متكرر على ألسنتهم في الشعر خاصة في نفس هذا المعنى.و البيت الثالث سليم،و هو كالأولين في خلوه عن البديع،فأما قوله:

فإذا أصاب فكلّ شيء مقتل و إذا أصيب فما له من مقتل

و كأنما سود النمال و حمرها دبّت بأيد في قراه و أرجل

البيت الأول يقصد به صنيعة اللفظ،و هو في المعنى متفاوت،لأن المضرب قد لا يكون مقتلا.و قد يطلق الشعراء ذلك،و يرون أن هذا أبدع من قول المتنبي،و إنه بضده:

يقتل السيف في جشم القتيل به و للسّيوف كما للنّاس آجال

و هذه طريقة لهم يتمدحون بها في قصف الرمح طعنا،و تقطيع السيف ضربا،و في قوله:«و إذا أصيب فما له من مقتل»،تعسف لأنه يريد بذلك أنه لا يتكسر.فالتعبير بما عبر به عن المعنى الذي ذكرناه يتضمن ضربا من التكلف،و ضربا من المحال.و ليس بالنادر، و الذي عليه الجملة ما حكيناه عن غيره و نحوه.قال بعض أهل الزمان:

يقصّف في الفارس السّمهريّ و صدر الحسام فريقا فريقا

البيت الثاني أيضا:هو معنى مكرر على ألسنة الشعراء،و أما تصنيعه بسود النمال و حمرها،فليس بشيء؛و لعله أراد بالحمر الذّرّ.و التفصيل بارد!و الإعراب به منكر!و هو كما حكى عن بعضهم أنه قال:كان كذا حين كانت الثريا بحذاء رأسي على سواء،أو منحرفا قدر شبر أو نصف شبر،أو إصبع أو ما يقارب ذلك.فقيل له:هذا من الورع الذي يبغضه اللّه،و يمقته الناس،و رب زيادة كانت نقصانا.وصفه النمل بالسواد و الحمرة في هذا من ذلك الجنس،و عليه خرج بقية البيت في قوله:«دبّت بأيد في قراه و أرجل».

و كان يكفي ذكره الأرجل عن ذكر الأيدي،و وصف الفرند بمدبّ النمل شيء لا يشذّ عن أحد منهم،و أما قوله:

و كأن شاهره إذا استضوي به الزّ حفان يعصى بالسّماك الأعزل

حملت حمائله القديمة بقلة من عهد عاد غضّة لم تذبل

البيت الأول منهما فيه ضرب من التكلف،و هو منقول من أشعارهم و ألفاظهم،و إنما

ص: 153

يقول:«قمر يشد على الرجال بكوكب»فجعل ذلك الكوكب السماك و احتاج إلى أن يجعله أعزل للقافية.

و لو لم يحتج إلى ذلك كان خيرا له؛لأن هذه الصفة في هذا الموضع تفضه من الموضع.و موضع التكلف الذي ادعيناه الحشو الذي ذكره من قوله:«إذا استضوى به الزحفان».و كان يكفي أن يقول كان صاحبه يعصي بالسماك،و هذا و إن كان قد تعمل فيه للفظ،فهو لغو على ما بينا.

و أما البيت الثاني.ففيه لغو من جهة قوله:حمائله قديمة،و لا فضيلة له في ذلك.ثم تشبيه السيف بالبقلة من تشبيهات العامة،و الكلام الرّذل النّذل؛لأن العامة قد يتفق منها تشبيه واقع حسن.

ثم انظر إلى هذا المقطع الذي هو بالعيّ أشبه منه بالفصاحة،و إلى اللكنة أقرب منه إلى البراعة.و قد بينا أن مراعاة الفواتح،و الخواتم،و المطالع،و المقاطع،و الفصل، و الوصل بعد صحة الكلام،و وجود الفصاحة فيه،مما لا بد منه.و أن الإخلال بذلك يخل بالنظم،و يذهب رونقه،و يحيل بهجته،و يأخذ ماءه و بهاءه.

و قد اطلعت عليك فيما نقلت،و تكلفت ما سطرت،لأن هذا القبيل،قبيل موضوع متعمل مصنوع.و أصل الباب في الشعر على أن ينظر إلى جملة القصة،ثم يتأمل الألفاظ و لا ينظر بعد ذلك إلى مواقعها و لا يتأمل مطارحها،و قد يقصد تارة إلى تحقيق الأغراض و تصوير المعاني التي في النفوس.و لكنه يلحق بأصل بابه،و يميل بك إلى موضعه، و يحسب الاهتمام بالصنعة يقع فيها التفاضل.

و إن أردت أن تعرف أوصاف الفرس فقد ذكرت لك أن الشعراء قد تصرفوا في ذلك بما يقع إليك إن كنت من أهل الصنعة،مما يطول على نقله،و كذلك في السيف.و ذكر لي بعض أهل الأدب أن أحسن قطعة في السيف قول أبي الهول الحميري:

حاز صمصامة الزّبيدي من بي ن جميع الأنام موسى الأمين

سيف عمرو و كان فيما سمعنا خير ما أطبقت عليه الجفون

أخضر اللّون بين برديه حدّ من ذعاف تميس فيه المنون

أوقدت فوقه الصواعق نارا ثمّ شابت له الذّعاف القيون

فإذا ما شهرته بهر الشّم س ضياء فلم تكد تستبين

يستطير الأبصار كالقبس المش عل لا تستقيم فيه العيون

و كأنّ الفرند و الرّونق الجا ري في صحفتيه ماء معين

ص: 154

نعم مخراق ذي الحفيظة في الهي جاء يعصي به و نعم القرين

ما يبالي إذا انتحاه بضرب أ شمال سطت به أم يمين

و إنما يوازن شعر البحتري بشعر شاعر من طبقته،و من أهل عصره،و من هو في مضماره،أو في منزلته،و معرفته أجناس الكلام،و الوقوف على أسراره،و الوقوع على مقداره شيء.و إن كان عزيزا،و أمر و إن كان بعيدا فهو سهل على أهله،مستجيب لأصحابه،مطيع لأربابه،ينقدون الحروف،و يعرفون الصروف،و إنما يتقي الشبهة في ترتيب الحال بين البحتري و أبي تمام و ابن الرومي و غيره.

و نحن و إن كنا نفضل البحتري بديباجة شعره على ابن الرومي و غيره من أهل زمانه، و نقدمه بحسن عبارته و سلاسة كلامه،و عذوبة ألفاظه،و قلة تعقد قوله.

و الشعر قبيل ملتمس مستدرك،و أمر ممكن منطبع.و نظم القرآن عال عن أن يعلق به الوهم،أو يسمو إليه الفكر،أو يطمع فيه طامع،أو يطلبه طالب. لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (1)و كنت قد ذكرت لك قبل هذا أنك إن كنت بصنعة علم اللسان متدربا،و فيه متوجها متقدما،أمكنك الوقوف على ما ذكرنا،و النفوذ فيما وصفنا.و إلا فاجلس في مجلس المقلدين،و ارض بمواقف المتحيرين.

و نصحت لك حيث قلت؛انظر،هل تعرف عروق الذهب،و محاسن الجوهر، و بدائع الياقوت،و دقائق السحر،من غير معرفة بأسباب هذه الأمور و مقدماتها؟و هل يقطع سمت البلاد من غير اهتداء فيها؟ و لكل شيء طريق يتوصل إليه به،و باب يؤخذ نحوه فيه،و وجه يؤتى منه.و معرفة الكلام أشد من المعرفة بجميع ما وصفت لك،و أغمض و أدق و ألطف.و تصوير ما في النفس و تشكيل ما في القلب حتى تعلمه و كأنك مشاهده و إن كان قد يقع بالإشارة و يحصل بالدلالة و الإمارة،كما يحصل بالنطق الصريح،و القول الفصيح.فللإشارة أيضا مراتب، و للسان منازل.رب وصف يصور لك الموصوف كما هو على جهته،لا خلف فيه.و رب وصف يربو عليه و يتعداه و رب وصف يقصر عنه.

ثم إذا صدق الوصف انقسم إلى صحة و إتقان،و حسن و إحسان،و إلى إجمال و شرح،و إلى استيفاء و تقريب،و إلى غير ذلك من الوجوه.

و كل مذهب و طريق له باب و سبيل،فوصف الجملة الواقعة كقوله تعالى:ت.

ص: 155


1- آية(42)سورة فصلت.

لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَ لَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (1) و التفسير كقوله: وَ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَ تَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (2)إلى آخر الآيات في هذا المعنى.

و كنحو قوله: يا أَيُّهَا النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمّا أَرْضَعَتْ وَ تَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها،وَ تَرَى النّاسَ سُكارى وَ ما هُمْ بِسُكارى وَ لكِنَّ عَذابَ اللّهِ شَدِيدٌ (3)هذا مما يصور الشيء على جهته و يمثل أهوال ذلك اليوم،و مما يصور لك الكلام الواقع في الصفة كقوله حكاية عن السحرة،لما توعدهم فرعون بما توعدهم به حين آمنوا قالوا: إِنّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ. إِنّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (4).

و قال في موضع آخر: إِنّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ. وَ ما تَنْقِمُ مِنّا إِلاّ أَنْ آمَنّا بِآياتِ رَبِّنا لَمّا جاءَتْنا،رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَ تَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (5)و هذا ينبئ عن كلام الحزين لما ناله، الجازع لما مسه.

و من باب التسخير و التكوين قوله تعالى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (6)و قوله: فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (7)و كقوله: فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (8)و تقصي أقسام ذلك مما يطول،و لم أقصد استيفاء ذلك،و إنما ضربت لك المثل بما ذكرت لتستدل،و أشرت إليك بما أشرت لتتأمل.

و إنما اقتصرنا على ذكر قصيدة البحتري لأن الكتاب يفضلونه على أهل دهره، و يقدمونه على من في عصره.و منهم من يدّعى له الإعجاز غلوا،و يزعم أنه يناجي النجم في قوله علوا.و الملحدة تستظهر بشعره،و تتكثر بقوله،و تدّعى كلامه من شبهاتهم، و عباراته مضافا إلى ما عندهم من ترهاتهم.فبيّنا قدر درجته،و موضع رتبته،و حد كلامه.ء.

ص: 156


1- آية(18)سورة الكهف.
2- آية(47)سورة الكهف.
3- آية(1،2)سورة الحج.
4- آية(51،52)سورة الشعراء.
5- آية(125،126)سورة الأعراف.
6- آية(82)سورة يس.
7- آية(65)سورة البقرة.
8- آية(63)سورة الشعراء.

و هيهات أن يكون المطموع فيه كالميئوس منه.و أن يكون الليل كالنهار،و الباطل كالحق،و كلام رب العالمين ككلام البشر.

فإن قال قائل:فقد قدح الملحد في نظم القرآن،و ادّعى عليه الخلل في البيان، و أضاف إليه الخطأ في المعنى و اللفظ،و قال ما قال فهل من فصل؟ قيل:الكلام على مطاعن الملحدة في القرآن،مما قد سبقنا إليه،و صنّف أهل الأدب في بعضه فكفوا.و أتى المتكلمون على ما وقع إليهم فشفوا،و لو لا ذلك لاستقصينا القول فيه في كتابنا.

و أما الغرض الذي صنفنا فيه في التفصيل و الكشف عن إعجاز القرآن،فلم نجده على التقريب الذي قصدنا،و قد رجونا أن يكون ذلك مغنيا و وافيا،و إن سهّل اللّه لنا ما نويناه من إملاء معاني القرآن،ذكرنا في ذلك ما يشتبه من الجنس الذي ذكروه،لأن أكثر ما يقع من الطعن عليه،فإنما يقع على جهل القوم بالمعاني أو بطريقة كلام العرب.

و ليس ذلك من مقصود كتابنا هذا،و قد قال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:(فضل كلام اللّه على سائر الكلام كفضل اللّه على خلقه) (1)و قد قصدنا فيما أمليناه الاختصار،و مهدنا الطريق،فمن كمل طبعه للوقوف على فصل أجناس الكلام استدرك ما بينا،و من تعذر عليه الحكم بين شعر جرير و الفرزدق و الأخطل،و الحكم بين فضل زهير و النابغة أو الفضل بين البحتري و أصحابه،و لم يعرف سخف مسيلمة في نظمه،و لم يعلم أنه من الباب الذي يهزأ به و يسخر منه كشعر أبي العيس في جملة الشعر،و شعر علي بن صلاة فكيف يمكنه النظر فيما وصفنا، و الحكم على ما بينا؟ فإن قال قائل:فاذكر لنا من هؤلاء الشعراء الذين سميتهم الأشعر،و الأبلغ،قيل له:

هذا أيضا خارج عن غرض هذا الكتاب،و قد تكلم فيه الأدباء و يحتاج أن يجدد لنحو هذا كتاب،و يفرد له باب،و ليس من قبيل ما نحن فيه بسبيل.

و ليس لقائل أن يقول:قد يسلم بعض الكلام من العوارض و العيوب،و يبلغ أمده في الفصاحة و النظم العجيب،و لا يبلغ عندكم حد المعجز،فلم قضيتم بما قضيتم به في القرآن دون غيره من الكلام؟ و إنما لم يصح هذا السؤال،و ما نذكر فيه من أشعار في نهاية الحسن،و خطب1.

ص: 157


1- الترمذي(2926)،و الترغيب 435/2،و الأسماء و الصفات(238)،و فتح الباري 66/9، و القرطبي 4/1.

و رسائل في غاية الفضل،لأنا قد بينا أن هذه الأجناس قد وقع النزاع فيها،و المساماة عليها، و التنافس في طرقها،و التنافر في بابها.و كان البون بين البعض و البعض في الطبقة الواحدة قريبا،و التفاوت خفيفا،و ذلك القدر من السبق إن ذهب عند الواحد لم ييأس منه الباقون، و لم ينقطع الطمع في مثله.

و ليس كذلك سمت القرآن،لأنه قد عرف أن الوهم ينقطع دون مجاراته،و الطمع يرتفع عن مباراته و مساماته،و أن الكل في العجز عنه على حد واحد.و كذلك قد يزعم زاعمون أن كلام الجاحظ من السمت الذي لا يأخذ فيه،و الباب الذي لا يذهب عنه.و أنت تجد قوما يرون كلامه قريبا و منهاجه معيبا،و نطاق قوله ضيقا حتى يستعين بكلام غيره، و يفرغ إلى ما يوشح به كلامه من بيت سائر،و مثل نادر،و حكمة ممهدة منقولة،و قصة عجيبة مأثورة.

و أما كلامه في أثناء ذلك فسطور قليلة و ألفاظ يسيرة،فإذا أحوج إلى تطويل الكلام خاليا عن شيء يستعين به فيخلطه بقوله من قول غيره كان كلاما ككلام غيره.

فإن أردت أن تحقق هذا،فانظر في كتبه في نظم القرآن،و في الرد على النصارى، و في خبر الواحد،و غير ذلك مما يجري هذا المجرى.هل تجد في ذلك كله ورقة تشتمل على نظم بديع؟أو كلام مليح؟على أن متأخري الكتاب قد نازعوه في طريقته.و جاذبوه على منهجه.فمنهم من ساواه حين ساماه،و منهم من أبر عليه إذا باراه.هذا أبو الفضل بن العميد قد سلك مسلكه،و أخذ طريقه،فلم يقصر عنه،و لعله قد بان تقدمه عليه لأنه يأخذ في الرسالة الطويلة فيستوفيها على حدود مذهبه،و يكملها على شروط صنعته،و لا يقتصر على أن يأتي بالأسطر من نحو كلامه،كما ترى الجاحظ يفعله في كتبه،متى ذكر من كلامه سطرا اتبعه من كلام الناس أوراقا.و إذا ذكر منه صفحة بني عليه من قول غيره كتابا.

و هذا يدلك على أن الشيء إذا استحسن اتبع،و إذا استملح قصد له و تعمّد،و هذا الشيء يرجع إلى الأخذ بالفضل و التنافس في التقدم.

فلو كان في مقدور البشر معارضة القرآن لهذا الغرض وحده،لكثرت المعارضات، و دامت المنافسات.

فكيف و هناك دواع لا انتهاء لها،و جوالب لا حد لكثرتها؛لأنهم لو كانوا عارضوه لتوصلوا إلى تكذيبه،ثم إلى قطع المحامين دونه عنه،أو تنفيرهم عليه،و إدخال الشبهات على قلوبهم.و كان القوم يكتفون بذلك عن بذل النفوس،و نصب الأرواح،و الأخطار بالأموال و الذراري في وجه عدواته.و يستغنون بكلام هو طبعهم و عادتهم و صناعتهم عن

ص: 158

محاربته،و طول منافسته و مجاذبته.و هذا الذي عرضناه على قلبك يكفي إن هديت لرشدك.و يشفي إن دللت على قصدك،و نسأل اللّه حسن التوفيق و العصمة و التسديد،إنه لا معرفة إلا بهدايته،و لا عصمة إلا بكفايته،و هو على ما يشاء قدير،و حسبنا اللّه و نعم الوكيل.

ص: 159

فصل: في جوانب إعجاز القرآن

اشارة

فإن قال قائل:قد يجوز أن يكون أهل عصر النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قد عجزوا عن الإتيان بمثل القرآن،و إن كان من بعدهم من أهل الأعصار لم يعجزوا،قيل:هذا سؤال معروف،و قد أجيب عنه بوجوه،منها ما هو صواب،و منها ما فيه خلل.

لأن من كان يجيب عنه بأنهم لا يقدرون على معارضته في الإخبار عن الغيوب،إن قدروا على مثل نظمه،فقد سلّم المسألة.لأنا ذكرنا أن نظمه معجز لا يقدر عليه.فإذا أجاب بما قدمناه فقد وافق السائل عن مراده،و الوجه أن يقال:فيه طرق،منها أنا إذا علمنا أن أهل ذلك العصر كانوا عاجزين عن الإتيان بمثله،فمن بعدهم أعجز؛لأن فصاحة أولئك في وجوه ما كانوا يتفننون فيه من القول،مما لا يزيد عليه فصاحة من بعدهم،و أحسن أحوالهم أن يقاربوهم أو يساووهم.فأمّا أن يتقدموهم أو يسبقوهم فلا.

و منها أنا قد علمنا عجز أهل سائر الأعصار كعلمنا بعجز أهل العصر الأول.و الطريق في العلم بكل واحد من الأمرين طريق واحد،لأن التحدي في الكل على جهة واحدة، و التنافر في الطباع على حد.و التكلف على منهاج لا يختلف.و لذلك قال اللّه تبارك و تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (1)

التحدي

يجب أن تعلم أنّ من حكم المعجزات إذا ظهرت على الأنبياء أن يدّعوا فيها أنها من دلالتهم و آياتهم،لأنه لا يصح بعثة النبي من غير أن يؤتى دلالة،و يؤيّد بآية.لأن النبي لا يتميز من الكاذب بصورته،و لا بقول نفسه،و لا بشيء آخر سوى البرهان الذي يظهر عليه، فيستدل به على صدقه.

فإذا ذكر لهم أن هذه آيتي،و كانوا عاجزين عنها،صح له ما ادعاه.و لو كانوا غير عاجزين عنها،لم يصح أن يكون برهانا له.

ص: 160


1- آية(88)سورة الإسراء.

و ليس يكون ذلك معجزا إلا بأن يتحداهم إلى أن يأتوا.فإذا تحداهم و بان عجزهم صار ذلك معجزا.و إنما احتيج في باب القرآن إلى التحدي؛لأن من الناس من لا يعرف كونه معجزا،فإنما يعرف أولا إعجازه بطريقه،لأن الكلام المعجز لا يتميز من غيره بحروفه و صورته.و إنما يحتاج إلى علم و طريق يتوصل به إلى معرفة كونه معجزا.فإن كان لا يعرف بعضهم إعجازه فيجب أن يعرف هذا،حتى يمكنه أن يستدل به.و متى رأى أهل ذلك اللسان قد عجزوا عنه بأجمعهم مع التحدي إليه و التقريع به،و التمكين منه،صار حينئذ بمنزلة من رأى اليد البيضاء،و انقلاب العصا ثعبانا تتلقف ما يأفكون.

و أما ما كان من أهل صنعة العربية،و التقدم في البلاغة،و معرفة فنون القول،و وجوه المنطق،فإنه يعرف حين يسمعه عجزه عن الإتيان بمثله.و يعرف أيضا أهل عصره ممن هو في طبقته،أو يدانيه في صناعته عجزهم عنه.فلا يحتاج إلى التحدي حتى يعلم به كونه معجزا.

و لو كان أهل الصنعة الذين صفتهم ما بينا لا يعرفون كونه معجزا حتى يعرفوا عجز غيرهم عنه،لم يجز أن يعرف النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أن القرآن معجز،حتى يرى عجز قريش عنه بعد التحدي إليه.و إذا عرف عجز قريش لم يعرف عجز سائر العرب عنه حتى ينتهي إلى التحدي إلى أقصاهم،و حتى يعرف عجز مسيلمة الكذاب عنه.ثم يعرف حينئذ كونه معجزا.

و هذا القول إن قيل أفحش ما يكون من الخطأ.فيجب أن تكون منزلة أهل الصنعة في معرفة إعجاز القرآن بأنفسهم منزلة من رأى اليد البيضاء،و فلق البحر،بأن ذلك معجز.

و أما من لم يكن من أهل الصنعة،فلا بد له من مرتبة قبل هذه المرتبة،يعرف بها كونه معجزا،فيساوي حينئذ أهل الصنعة،فيكون استدلالها في تلك الحالة به على صدق من ظهر ذلك عليه سواه،إذا ادعاه،دلالة على نبوته،و برهانا على صدقه.

فأما من قدّر أن القرآن لا يصير معجزا إلا بالتحدي إليه،فهو كتقدير من ظن أن جميع آيات موسى و عيسى عليهما السلام،ليست بآيات حتى يقع التحدي إليها و الحض عليها،ثم يقع العجز عنها فيعلم حينئذ أنها معجزات.و قد سلف من كلامنا في هذا المعنى ما يغني عن الإعادة.

و يبين ما ذكرناه في غير البليغ أن الأعجمي الآن لا يعرف إعجاز القرآن إلا بأمور زائدة على الأعجمي الذي كان في ذلك الزمان مشاهدا له.لأن من هو من أهل العصر يحتاج أن يعرف أولا أن العرب عجزوا عنه.و إنما يعلم عجزهم عنه بنقل الناقلة إليه،أنّ النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قد تحدى العرب إليه،فعجزوا عنه.و يحتاج في النقل إلى شروط و ليس يصير القرآن بهذا

ص: 161

النقل معجزا.كذلك لا يصير معجزا بأن يعلم العربي الذي ليس ببليغ أنهم قد عجزوا عنه بأبلغهم،بل هو معجز في نفسه.و إنما طريق معرفة هذا وقوعهم على العلم بعجزهم عنه.

قدر المعجز من القرآن

الذي ذهب إليه عامة أصحابنا،و هو قول أبي الحسن الأشعري في كتبه،أن أقل ما يعجز عنه من القرآن السورة قصيرة كانت أو طويلة،أو ما كان بقدرها.قال:فإذا كانت الآية بقدر حروف سورة،و إن كانت سورة الكوثر فذلك معجز.

قال:و لم يقم دليل على عجزهم عن المعارضة في أقل من هذا القدر.و ذهبت المعتزلة إلى أن كل سورة برأسها فهي معجزة.و قد حكى عنهم نحو قولنا،إلا أن منهم من لم يشترط كون الآية بقدر السورة بل شرط الآيات الكثيرة.و قد علمنا أنه تحداهم تحديا إلى السور كلها،و لم يخصّ.و لم يأتوا الشيء منها بمثل.فعلم أن جميع ذلك معجز.

و أما قوله عز و جل: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ (1)فليس بمخالف لهذا.لأن الحديث التام لا تتحصل حكايته في أقل من كلمات سورة قصيرة.و هذا يؤكد ما ذهب إليه أصحابنا، و يؤيده.و إن كان قد يتأول قوله: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ (2)على أن يكون راجعا إلى القبيل دون التفصيل.

و كذلك يحمل قوله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ (3)على القبيل.لأنه لم يجعل الحجة عليهم عجزهم عن الإتيان بجميعه من أوله إلى آخره.

فإن قيل:هل تعرفون إعجاز السور القصار،بما تعرفون به إعجاز السور الطوال؟ و هل تعرفون إعجاز كل قدر من القرآن بلغ الحد الذي قدرتموه بمثل ما تعرفوه إعجاز سورة البقرة و نحوها؟ فالجواب:أن أبا الحسن (4)الأشعري-رحمه اللّه-أجاب عن ذلك:بأن كل سورة قد علم كونها معجزة بعجز العرب عنها.و سمعت بعض الكبراء من أهل هذا الشأن يقول:إنّ ذلك يصح أن يكون علم ذلك توقيفا.

ص: 162


1- آية(52)سورة الطور.
2- سبقت.
3- آية(88)سورة الإسراء.
4- سبقت ترجمته.

و الطريقة الأولى أسدّ.و ليس هذا الذي ذكرناه أخيرا بمناف له،لأنه لا يمتنع أن يعلم إعجازه بطرق مختلفة تتوافى عليه،و تجتمع فيه.

و اعلم أن تحت اختلاف هذه الأجوبة ضربا من الفائدة،لأن الطريقة الأولى تبين أن ما علم به كون جميع القرآن معجزا.موجود في كل سورة صغرت أو كبرت.فيجب أن يكون الحكم في الكل واحدا.

و الطريقة الأخيرة تتضمن تعذر معرفة إعجاز القرآن بالطريقة التي سلكناها في بناء من التفصيل الذي بينا،فيما تعرف به في الكلام الفصاحة،و تتبين به البلاغة،حتى يعلم ذلك بوجه آخر،فيستوي في هذا القدر البليغ و غيره في أن لا يعلمه معجزا،حتى يستدلّ به من وجه آخر،سوى ما يعلمه البلغاء من التقدم في الصنعة،و هذا غير ممتنع.

أ لا ترى أن الإعجاز في بعض السور و الآيات أظهر،و في بعضها أغمض و أدق،فلا يفتقر البليغ في النظر في حال بعضها إلى تأمّل كثير،و لا بحث شديد،حتى يتبين له الإعجاز،و يفتقر في بعضها إلى نظر دقيق،و بحث لطيف،حتى يقع على الجليّة،و يصل إلى المطلب.و لا يمتنع أن يذهب عليه الوجه في بعض السور،فيحتاج أن يفزع فيه إلى إجماع أو توقيف،أو ما علمه من عجز العرب قاطبة عنه.فإن ادّعى ملحد،أو زعم زنديق أنه لا يقع العجز عن الإتيان بمثل السور القصار أو الآيات بهذا المقدار،قلنا له:إن الإعجاز قد حصل بما بيناه،و عرف بما وقفنا عليه من عجز العرب عنه.

ثم فيه شيء آخر،و هو:أن هذا سؤال لا يستقيم للملحد،لأنه يزعم أنه ليس في القرآن كله إعجاز.فكيف يجوز أن يناظره؟!على تفصيله،و إذا ثبت لنا معه إعجازه في السور الطوال،قامت الحجة عليه،و ثبتت المعجزة.و لا معنى لطلبه لكثرة الأدلة و المعجزات.و نحن نعلم أن إعجاز البعض بما بيناه،و البعض الآخر بأنه إذا ثبت الأصل، لم يبق بعد ذلك إلا قولنا،لأنا عرفنا في البعض الإعجاز بما بينا.ثم عرفنا في الباقي بالتّوقيف و نحو ذلك،و ليس بممتنع اختلاف حال الكلام حتى يكون الإعجاز على بعضه أظهر،و في بعضه أغمض،و من آمن ببعض دون بعض،كان مذموما على ما قال اللّه تعالى:

أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ (1) و قال: وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (2)فظاهره عند بعض أهل التأويل كالدليل على أن الشفاء ببعضه أوقع، و إن كنا نقول إنه يدل على أن الشفاء في جميعه.و اعلم أن الكلام يقع فيه الأبلغء.

ص: 163


1- آية(85)سورة البقرة.
2- آية(82)سورة الإسراء.

و البليغ،و لذلك كانوا يسمون الكلمة يتيمة،و يسمون البيت الواحد يتيما.

سمعت إسماعيل بن عباد يقول:سمعت أبا بكر بن مقسم يقول:سمعت ثعلبا (1)يقول:سمعت الفراء (2)يقول:العرب تسمي البيت الواحد يتيما،و كذلك يقال:الدرة اليتيمة لانفرادها.فإذا بلغ البيتين و الثلاثة فهي نتفة،و إلى العشرة تسمى قطعة،و إذا بلغ العشرين استحق أن يسمى قصيدا.و ذلك مأخوذ من المخ القصيد،و هو المتراكم بعضه على بعض.و هو ضد الرار و مثله الرثيد.انتهت الحكاية.ثم استشهد بقول لبيد:

فتذكرا ثقلا رثيدا بعد ما ألقت ذكاء يمينها في كافر

يريد بيض النعام لأنه ينضد بعضه على بعض،و كذلك يقع في الكلام البيت الوحشي و النادر،و المثل السائر،و المعنى الغريب،و الشيء الذي لو اجتهد له لم يقع عليه فيتفق له و يصادفه.قال لي بعض علماء هذه الصنعة و جاريته في ذلك:إن هذا مما لا سبب له يخصه،و إنما سببه القرارة في أصل الصنعة،و التقدم في عيون المعرفة.فإذا وجد ذلك وقع له من الباب ما يطرد عن حساب و ما يشذ عن تفصيل الحساب،فأما ما قلنا من أن ما بلغ قدر السورة معجز فإن ذلك صحيح.0.

ص: 164


1- سبقت ترجمته.
2- الفراء هو:أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء الديلمي،كان إماما ثقة له شأن عظيم في اللغة.قال ثعلب: لو لا الفراء لما كانت لغة،و لو لا الفراء لسقطت العربية،مات سنة(207 ه).له ترجمة في:وفيات الأعيان 228/2،و طبقات الأدباء(126)،و معجم الأدباء 9/20.

فصل: في أنه هل العلم بإعجاز القرآن ضرورة؟

ذهب أبو الحسن الأشعري إلى أن ظهور ذلك على النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يعلم ضرورة.و كونه معجزا يعلم باستدلال.و هذا المذهب محكي عن المخالفين.و الذي نقوله في هذا:إن الأعجمي لا يمكنه أن يعلم إعجازه إلا استدلالا.و كذلك من لم يكن بليغا.فأما البليغ الذي قد أحاط بمذاهب العربية و غرائب الصنعة،فإنه يعلم من نفسه ضرورة عجزه عن الإتيان بمثله.و يعلم عجز غيره بمثل ما يعرف عجز نفسه.كما أنه إذا علم الواحد منا أنه لا يقدر على ذلك فهو يعلم عجز غيره استدلالا.

ص: 165

فصل: فيما يتعلق به الإعجاز

إن قال قائل:بيّنوا لنا ما الذي وقع التحدي إليه؟أ هو الحروف المنظومة؟أو الكلام القائم بالذات أو غير ذلك؟قيل:الذي تحداهم به:أن يأتوا بمثل الحروف التي هي نظم القرآن،منظومة كنظمها،متتابعة كتتابعها،مطّردة كاطّرادها،و لم يتحدهم إلى أن يأتوا بمثل الكلام القديم الذي لا مثل له.

و إن كان كذلك فالتحدي واقع إلى أن يأتوا بمثل الحروف المنظومة،التي هي عبارة عن كلام اللّه تعالى في نظمها و تأليفها.و هي حكاية لكلامه و دلالات عليه،و أمارات له، على أن يكونوا مستأنفين لذلك،لا حاكين بما أتى به النبي صلّى اللّه عليه و سلّم.

و لا يجب أن يقدّر مقدر،أو يظن ظانّ أنا حين قلنا:إن القرآن معجز،و إنّه تحداهم إلى أن يأتوا بمثله،أردنا غير ما فسرناه من العبارات عن الكلام القديم القائم بالذات.

و قد بينا قبل هذا أنه لم يكن ذلك معجزا،لكونه عبارة عن الكلام القديم؛لأن التوراة و الإنجيل عبارة عن الكلام القديم،و ليس ذلك بمعجز في النظم و التأليف.و كذلك ما دون الآية،كاللفظة عبارة عن كلامه،و ليست بمنفردها بمعجزة.

و قد جوز بعض أصحابنا أن يتحداهم إلى مثل كلامه القديم القائم بنفسه،و الذي عول عليه مشايخنا ما قدمنا ذكره.و على ذلك أكثر مذاهب الناس.و لم يجب أن نفسر و نذكر موجب هذا المذهب الذي حكيناه و ما يتصل به؛لأنه خارج عن غرض كتابنا،لأن الإعجاز وقع في نظم الحروف التي هي دلالات و عبارات عن كلامه.و إلى مثل هذا النظم وقع التحدي،فبيّنا وجه ذلك،و كيفية ما يتصور القول فيه،و أزلنا توهم من يتوهم أن الكلام القديم حروف منظومة،أو حروف غير منظومة،أو شيء مؤلّف أو غير ذلك مما يصح أن يتوهّم على ما سبق من إطلاق القول فيما مضى.

ص: 166

فصل: في وصف وجوه من البلاغة

ذكر بعض أهل الأدب و الكلام:أن البلاغة على عشرة أقسام:الإيجاز،و التشبيه، و الاستعارة،و التلاؤم،و الفواصل،و التجانس،و التصريف،و التضمين،و المبالغة، و حسن البيان.

فأما الإيجاز فإنما يسن مع ترك الإخلال باللفظ و المعنى.فيأتي باللفظ القليل الشامل لأمور كثيرة.و ذلك ينقسم إلى حذف و قصر.فالحذف:الإسقاط للتخفيف كقوله:

وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ (1) و قوله: طاعَةٌ وَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ (2)و حذف الجواب كقوله: وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى (3)كأنه قيل:لكان هذا القرآن،و الحذف أبلغ من الذكر،لأن النفس تذهب كل مذهب في القصد من الجواب.

و الإيجاز بالقصد كقوله: وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ (4)و قوله: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ (5)و قوله: إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ (6)و قوله: وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاّ بِأَهْلِهِ (7).

و الإطناب فيه بلاغة،فأما التطويل ففيه عيّ.

و أما التشبيه بالعقد على أن أحد الشيئين يسد مسد الآخر في حس أو عقل،كقوله:

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً (8) و قوله: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ (9)

ص: 167


1- آية(82)سورة يوسف.
2- آية(21)سورة محمد.
3- آية(31)سورة الرعد.
4- آية(179)سورة البقرة.
5- آية(4)سورة المنافقون.
6- آية(23)سورة يونس.
7- آية(43)سورة فاطر.
8- آية(39)سورة النور.
9- آية(18)سورة إبراهيم.

و قوله: وَ إِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ (1)و قوله: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمّا يَأْكُلُ النّاسُ وَ الْأَنْعامُ حَتّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَ ازَّيَّنَتْ وَ ظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ (2)و قوله: إِنّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ، تَنْزِعُ النّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (3)و قوله: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (4)و قوله: أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ تَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً (5)و قوله: وَ جَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ (6)و قوله: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً (7)و قوله تعالى: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ (8)و قوله: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (9)و قوله: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَ إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ (10)و قوله: وَ لَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (11)و قوله: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخّارِ (12)آية(94)سورة الحجر.(13)و نحو ذلك.

و من ذلك باب الاستعارة:و هو بيان التشبيه كقوله تعالى: وَ قَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (14)و كقوله: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (14)و كقوله: إِنّا لَمّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (15)و قوله: وَ لَمّا سَكَتَ عَنْ مُوسَىة.

ص: 168


1- آية(171)سورة الأعراف.
2- آية(24)سورة يونس.
3- آية(19،20)سورة القمر.
4- آية(37)سورة الرحمن.
5- آية(20)سورة الحديد.
6- آية(21)سورة الحديد.
7- آية(4)سورة الجمعة.
8- آية(176)سورة الأعراف.
9- آية(7)سورة الحاقة.
10- آية(41)سورة العنكبوت.
11- آية(24)سورة الرحمن.
12- آية
13- سورة الرحمن.
14- آية(23)سورة الفرقان.
15- آية(11)سورة الحاقة.

اَلْغَضَبُ (1) و كقوله: فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً (2)آية(24)سورة يونس.(3)و قوله: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ (4)آية(5)سورة الأنبياء.(6)فالدمغ و القذف مستعار،و قوله: وَ آيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ (7)و قوله: وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ (8)آية(4)سورة محمد.(9)و قوله:

فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (10) و قوله: حَتّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها (7)و قوله: وَ الصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (11)آية(149)سورة الأعراف.(12)و قوله: مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَ الضَّرّاءُ (13)و قوله: فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ (14)و قوله: أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً (11)و قوله: حَصِيداً خامِدِينَ (12)و قوله: أَ لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (15)و قوله: وَ داعِياً إِلَى اللّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِراجاً مُنِيراً (16)و قوله: وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ (15)و قوله: وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ (17)و قوله: فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ (18)يريد أن لا إحساس بآذانهم من غير صمم.و قوله: وَ لَمّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ (18).

و هذا أوقع من اللفظ الظاهر،و أبلغ من الكلام الموضوع.

و أما التلاؤم فهو تعديل الحروف في التأليف،و هو نقيض التنافر.كقول الشاعر:

و قبر حرب بمكان قفر و ليس قرب قبر حرب قبرف.

ص: 169


1- آية(154)سورة الأعراف.
2- آية
3- سورة الإسراء.
4- آية
5- آية(29)سورة الإسراء.
6- سورة الأنبياء.
7- آية(37)سورة يس.
8- آية
9- سورة الأنفال.
10- آية(51)سورة فصلت.
11- آية
12- سورة التكوير.
13- آية(214)سورة البقرة.
14- آية(178)سورة آل عمران.
15- آية(225)سورة الشعراء.
16- آية(46)سورة الأحزاب.
17- آية(21)سورة السجدة.
18- آية(11)سورة الكهف.

قالوا:هو من شعر الجن،حروفه متنافرة،لا يمكن إنشاده إلا بتتعتع فيه.و التلاؤم على ضربين أحدهما:في الطبقة الوسطى،كقوله:

رمتني و ستر اللّه بيني و بينها عشية آرام الكناس رميم

رميم التي قالت لجارات بيتها ضمنت لكم أن لا يزال يهيم

ألا ربّ يوم لو رمتني رميتها و لكن عهدي بالنضال قديم

قالوا:و المتلائم في الطبقة العليا القرآن كله،و إن كان بعض الناس أحسن إحساسا من بعض،كما أن بعضهم يفطن للموزون بخلاف بعض.

و التلاؤم حسن الكلام في السمع،و سهولته في اللفظ،و وقع المعنى في القلب.

و ذلك كالخط الحسن،و البيان الشافي،و المتنافر كالخط القبيح.فإذا انضاف إلى التلاؤم حسن البيان،و صحة البرهان في أعلى الطبقات،ظهر الإعجاز لمن كان جيد الطبع، و بصيرا بجودة الكلام،كما يظهر له أعلى طبقة الشعر.

«و المتنافر»:ذهب الخليل إلى أنه من بعد شديد،أو قرب شديد،فإذا بعد فهو كالظّفر.و إذا قرب جدا كان بمنزلة مشي المقيد.و يبين ذلك بقرب مخارج الحروف و تباعدها.

و أما الفواصل فهي حروف متشاكلة في المقاطع يقع بها إفهام المعاني،و فيها بلاغة، و الإسجاع عيب؛لأن السجع يتبع المعنى.و الفواصل تابعة للمعاني.و السجع كقول مسيلمة.

ثم الفواصل قد تقع على حروف متجانسة،كما قد تقع على حروف متقاربة.و لا تحتمل القوافي ما تحتمل الفواصل؛لأنها ليست في الطبقة العليا في البلاغة.لأن الكلام يحسن فيها بمجانسة القوافي،و إقامة الوزن.

و أما التجانس فإنه بيان بأنواع الكلام الذي يجمعه أصل واحد.و هو على وجهين مزاوجة و مناسبة.فالمزاوجة كقوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ (1)و قوله: وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللّهُ (2)و كقول عمرو بن كلثوم (3):).

ص: 170


1- آية(194)سورة البقرة.
2- آية(54)سورة آل عمران.
3- عمرو بن كلثوم التغلبي،كان شاعرا مطبوعا،و كان أعز الناس نفسا،و أكثرهم امتناعا و أنفة و لقد ساد قومه و هو في الخامسة عشرة.مات سنة(600 م).له ترجمة في:الأغاني 181/9،و الشعر و الشعراء(117)،و الجمهرة(74).

ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا

و أما المناسبة فهي كقوله تعالى: ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ (1)و قوله:

يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَ الْأَبْصارُ (2) .

و أما«التصريف»فهو تصريف الكلام في المعاني،كتصريفه في الدلالات المختلفة، كتصريف«الملك»في معاني الصفات،فصرّف في معنى«مالك»،و«ملك»،و«ذي الملكوت»،و«المليك».و في معنى:«التمليك»و«التملك»،و«الإملاك».و تصريف المعنى في الدلالات المختلفة.كما كرر من قصة موسى في مواضع.

و أما التضمين فهو حصول معنى فيه،من غير ذكره له باسم أو صفة هي عبارة عنه.

و ذلك على وجهين:تضمين توجيه البنية.كقولنا:معلوم يوجب أنه لا بد من عالم.

و تضمين يوجبه معنى العبارة من حيث لا يصح إلا به؛كالصفة بضارب يدل على مضروب.

و التضمين كله إنجاز.و التضمين الذي تدل عليه دلالات القياس أيضا إنجاز و ذكر أن: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ من باب التضمين لأنه تضمن تعليم الاستفتاح في الأمور باسمه على جهة التعظيم للّه تبارك و تعالى،أو التبرك باسمه.

و أما«المبالغة»فهي الدلالة على كثرة المعنى،و ذلك على وجوه منها مبالغة في الصفة المبينة.لذلك كقولك:«رحمن»عدل عن ذلك للمبالغة،و كقوله: لَغَفّارٌ و كذلك فعّال و فعول كقولهم«شكور و غفور»و فعيل كقوله: اَلرَّحِيمِ و قَدِيرٌ و من ذلك أن يبالغ باللفظة التي هي صفة عامة كقوله: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ (3)و كقوله: فَأَتَى اللّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ (4)و كقوله: وَ لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ (5)و كقوله:

إِنّا أَوْ إِيّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (6) و قد يدخل فيه الحذف الذي تقدم ذكره للمبالغة،و أما حسن البيان فالبيان على أربعة أقسام:كلام،و حال،و إشارة،و علامة.

و يقع التفاضل في البيان،و لذلك قال عز من قائل: اَلرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَأ.

ص: 171


1- آية(127)سورة التوبة.
2- آية(37)سورة النور.
3- آية(62)سورة الزمر.
4- آية(26)سورة النحل.
5- آية(40)سورة الأعراف.
6- آية(24)سورة سبأ.

اَلْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ (1) و قيل:«أعيا من باقل»سئل عن ظبية في يده،بكم اشتراها فأراد أن يقول:بأحد عشر،فأشار بيديه مادا أصابعه العشر،ثم أدلع لسانه و أفلت الظبي من يده.

ثم البيان على مراتب:قلنا قد كنا حكينا أن من الناس من يريد أن يأخذ إعجاز القرآن من وجوه البلاغة التي ذكرنا أنها تسمى البديع في أول الكتاب مما مضت أمثلته في الشعر.

و من الناس من زعم:أنه يأخذ ذلك من هذه الوجوه التي عددناها في الفضل.و اعلم أن الذي بيناه قبل هذا،و ذهبنا إليه هو سديد.و هو أن هذه الأمور تنقسم.فمنها ما يمكن الوقوع عليه و التعمل له،و يدرك بالتعلم.فما كان كذلك فلا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن به.

و أما ما لا سبيل إليه بالتعلم و التعمل من البلاغات،فذلك هو الذي يدل على إعجازه،و نحن نضرب لذلك أمثلة لتقف على ما ذهبنا إليه.

و ذكرنا في هذا الفصل عن هذا القائل:إن التشبيه تعرف به البلاغة.و ذلك مسلّم، و لكن إن قلنا ما وقع من التشبيه في القرآن معجز،عرض علينا من التشبيهات الجارية في الأشعار ما لا يخفى عليك.و أنت تجد في شعر ابن المعتز من التشبيه البديع الذي يشبه السحر،و قد تتبّع في هذا ما لم يتتبع غيره،و اتفق له ما لم يتفق لغيره من الشعراء.و كذلك كثير من وجوه البلاغة قد بيّنا أن تعلمها يمكن،و ليس تقع البلاغة بوجه واحد منها دون غيره.

فإن كان إنما يعني هذا القائل أنه إذا أتى في كل معنى يتفق في كلامه بالطبقة العالية.

ثم كان ما يصل به كلامه بعضه ببعض،و ينتهي منه إلى متصرفاته على أتم البلاغة،و أبدع البراعة.فهذا مما لا نأباه بل نقول به.

و إنما ننكر أن يقول قائل:إن بعض هذه الوجوه بانفرادها قد حصل فيه الإعجاز من غير أن يقارنه ما يتصل به الكلام،و يفضي إليه.مثل ما يقول:إن ما أقسم به وحده بنفسه معجز،و إن التشبيه معجز،و إن التجنيس معجز،و المطابقة بنفسها معجزة.

فأما الآية التي فيها ذكر للتشبيه،فإن ادعى إعجازها لألفاظها و نظمها و تأليفها،فإني لا أدفع ذلك و أصححه،و لكن لا أدعي إعجازها لموضع التشبيه.

و صاحب«المقالة»التي حكيناها،أضاف ذلك إلى موضع التشبيه،و ما قرن به من الوجوه.و من تلك الوجوه ما قد بيّنا أن الإعجاز يتعلق به كالبيان.و ذلك لا يختص بجنسن.

ص: 172


1- آية(1:4)سورة الرحمن.

من المبيّن دون جنس.و لذلك قال: هذا بَيانٌ لِلنّاسِ (1)و قال: تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ (2)و قال: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (3)فكرر في مواضع ذكره أنه مبين.

فالقرآن أعلى منازل البيان،و أعلى مراتبه ما جمع وجوه الحسن و أسبابه و طرقه و أبوابه،من تعديل النظم و سلامته،و حسنه و بهجته،و حسن موقعه في السمع،و سهولته على اللسان،و وقوعه في النفس موقع القبول،و تصوره تصور المشاهد،و تشكله على جهته حتى يحل محل البرهان و دلالة التأليف،مما لا ينحصر حسنا و بهجة و سناء و رفعة.

و إذا علا الكلام في نفسه كان له من الوقع في القلوب و التمكن في النفوس،ما يذهل و يبهج،و يقلق و يؤنس،و يطمع و يؤيس،و يضحك و يبكي،و يحزن و يفرح،و يسكن و يزعج،و يشجي و يطرب،و يهز الأعطاف،و يستميل نحوه الأسماع،و يورث الأريحيّة و العزّة.و قد يبعث على بذل المهج و الأموال شجاعة وجودا،و يرمي السامع من وراء رأيه مرمى بعيدا.و له مسالك في النفوس لطيفة،و مداخل إلى القلوب دقيقة.

و بحسب ما يترتب في نظمه،و يتنزل في موقعه،و يجري على سمت مطلعه و مقطعه يكون عجيب تأثيراته،و بديع مقتضياته.و كذلك على حسب مصادره،يتصور وجوه موارده.

و قد ينبئ الكلام عن محل صاحبه،و يدل على مكان متكلمه،و ينبه على عظيم شأن أهله،و على علو محله.

أ لا ترى أن الشعر في الغزل،إذا صدر عن محب كان أرق و أحسن،و إذا صدر عن متغزل و حصل من متصنع نادى على نفسه بالمداجاة،و أخبر عن خبيئه في المراءاة.و كذلك قد يصدر الشعر في وصف الحرب عن الشجاع،فيعلم وجه صدوره،و يدل على كنهه و حقيقته.

و قد يصدر عن المتشبه،و يخرج عن المتصنع،فيعرف من حاله ما ظن أنه يخفيه، و يظهر من أمره خلاف ما يبديه،و أنت تعرف قول المتنبي (4):

فالخيل و الليل و البيداء تعرفني و الحرب و الطّعن و القرطاس و القلمه.

ص: 173


1- آية(138)سورة آل عمران.
2- آية(89)سورة النحل.
3- آية(195)سورة الشعراء.
4- سبقت ترجمته.

من الواقع في القلب لما يعلم أنه من أهل الشجاعة ما لا تجده للبحتري (1)في قوله:

و أنا الشجاع و قد بدا لك موقفي بعقرقس و المشرفية مشهدي

و تجد لابن المعتز (2)في موقع شعره من القلب في الفخر و غيره ما لا تجده لغيره لأنه إذا قال:

إذا شئت أوقرت البلاد حوافرا و سارت ورائي هاشم و نزار

و عمّ سماء النّقع حتى كأنه دخان و أطراف الرماح شرار

و قال:

قد تردّيت بالمكارم دهرا و كفتني نفسي من الافتخار

أنا جيش إذا غزوت وحيدا و وحيد في الجحفل الجرّار

و قال:

أيها السائلي عن الحسب الأط يب ما فوقه لخلق مزيد

نحن آل الرسول و العترة الح ق و أهل القربى فما ذا تريد..؟

و لنا ما أضاء صبح عليه و أتته رايات ليل سود

و كما أنشدني الحسن بن عبد اللّه قال:أنشدنا محمد بن يحيى لابن المعتز قصيدته التي يقول فيها:

أنا ابن الذي سادهم في الحيا ة و سادهم بي تحت الثّرى

و ما لي في أحد مرغب بلى فيّ يرغب كلّ الورى

و اسهر للمجد و المكرمات إذا اكتحلت أعين بالكرى

فانظر في القصيدة كلّها،ثم في جميع شعره،تعلم أنه ملك الشعر،و أنه يليق به من الفخر خاصة.ثم مما يتبعه مما يتعاطاه مما لا يليق بغيره.بل ينفر عن سواه.و لم أحب أن أكثر عليك فأطول الكتاب بما يخرج عن غرضه.و كما ترى من قول أبي فراس الحمداني في نفسك إذا قال:

و لا أصبح الحيّ الخلوف بغارة و لا الجيش ما لم يأته قبلي النّذر

و يا رب دار لم تخفني منيعة طلعت عليها بالرديء أنا و الفجر

و ساحبة الأذيال نحوي لقيتها فلم يلقها جافي اللقاء و لا وعر

وهبت لها ما حازه الجيش كله و أبت و لم يكشف لأبياتها ستره.

ص: 174


1- سبقت ترجمته.
2- سبقت ترجمته.

و ما راح يطغيني بأثوابه الغنى و لا بات يثنيني عن الكرم الفقر

و ما حاجتي في المال أبغي وفوره إذا لم أفر وفري فلا وفر الوفر

و الشيء إذا صدر من أهله،و بدا من أصله،و انتسب إلى ذويه سلم في نفسه،و بانت فخامته،و شواهد أثر الاستحقاق فيه.

و إذا صدر من مكلف و بدا من متصنع بان أثر الغرابة عليه،و ظهرت مخايل الاستنحاس فيه،و عرف شمائل التخير منه.

إنا نعرف في شعر أبي نواس أثر الشطارة،و تمكن البطالة،و موقع كلامه في وصف ما هو بسبيله من أمر العبارة،و وصف الخمر و الخمار.كما نعرف موقع كلام ذي الرّمّة في وصف المهامة و البوادي،و الجمال و الاتساع و الأزمّة.

و عيب أبي نواس التصرف في وصف الطلول و الرّباع و الوحش.ففكر في قوله:

ودع الأطلال تسقيها الجنوب و تبلي عهد جدّتها الخطوب

و خلّ لراكب الوجناء أرضا تخبّ به النّجيبة و النجيب

بلاد نبتها عشر و طلح و أكثر صيدها ضبع و ذيب

و لا تأخذ عن الأعراف لهوا و لا عيشا،فعيشهم جديب

دع الألبان يشربها رجال رقيق العيش عندهم غريب

إذا راب الحليب فبل عليه و لا تحرج فما في ذاك حوب

فأطيب منه صافية شمول يطوف بكأسها ساق أديب

كأنّ هديرها في الدّنّ يحكي قراءة القس قابله الصّليب

أعاذل أقصري عن طول لومي فراجى توبتي عندي يخيب

تعيبين الذنوب و أي حرّ من الفتيان ليس له ذنوب؟!

و قوله:

صفة الطلول بلاغة القدم فاجعل صفاتك لابنة الكرم

و سمعت الصاحب إسماعيل بن عباد يقول:سمعت براكويه الزنجاني يقول:أنشد بعض الشعراء هلال بن يزيد قصيدة على وزن قصيدة الأعشى (1):

ودّع هريرة إن الركب مرتحل و هل تطيق وداعا أيها الرجل..؟ه.

ص: 175


1- سبقت ترجمته.

و كان وصف فيها الطلل،قال براكويه:فقال لي هلال:فقلت بديها:

إذا سمعت فتى يبكي على طلل من أهل زنجان فاعلم أنه طلل

و إنما ذكرت لك هذه الأمور،لتعلم أن الشيء في معدنه أعز،و في مظانه أحسن، و إلى أصله أنزع،و بأسبابه أليق.و هو يدل على ما صدر منه،و ينبه ما أنتج عنه،و يكون قراره على موجب صورته و أنواره على حسب محله.و لكل شيء حد و مذهب.و لكل كلام سبيل و منهج.

و قد ذكر أبو بكر (1)الصديق رضي اللّه عنه في كلام مسيلمة ما أخبرتك به،فقال:(إن هذا كلام لم يخرج من إله)فدل على أن الكلام الصادر عن عزة الربوبية و رفعة الإلهية يتميز عما لم يكن كذلك.

ثم رجع الكلام بنا إلى ما ابتدأنا به من عظيم شأن البيان.و لو لم يكن فيه إلا ما منّ به اللّه على خلقه بقوله: خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ (2)فأما بيان القرآن فهو أشرف بيان، و أهداه و أكمله..و أعلاه و أبلغه و أسناه.

تأمل قوله تعالى: أَ فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (3)آية(28)سورة الأنعام.(4)في شدة التنبيه على تركهم الحق،و الإعراض عنه.و موضع امتنانه بالذكر و التحذير.

و قوله: وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (5)و هذا بليغ في التحسير و قوله: وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ (5)و هذا يدل على كونهم مجبولين على الشر،معوّدين لمخالفة النهي و الأمر،و قوله: اَلْأَخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (6)هو في نهاية الوضع من الخلة الأعلى التقوى.

و قوله: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللّهِ (7)و هذا نهاية في التحذير من التفريط.

و قوله: أَ فَمَنْ يُلْقى فِي النّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمار.

ص: 176


1- سبقت ترجمته.
2- آية(3،4)سورة الرحمن.
3- آية
4- سورة الزخرف.
5- آية(39)سورة الزخرف.
6- آية(67)سورة الزخرف.
7- آية(56)سورة الزمر.

تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (1) هو النهاية في الوعيد و التهديد.

و قوله: وَ تَرَى الظّالِمِينَ لَمّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ وَ تَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ (2)نهاية في الوعيد.و قوله:

وَ فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَ أَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (3) نهاية في الترغيب.

و قوله: مَا اتَّخَذَ اللّهُ مِنْ وَلَدٍ وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ (4)و كذلك قوله: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا (5)نهاية في الحجاج،و قوله: وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ، أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (6)نهاية في الدلالة على علمه بالخفيات.

و لا وجه للتطويل،فإن بيان الجميع في الرفعة و كبر المنزلة على سواء.و قد ذكرنا من قبل:أن البيان يصح أن يتعلق به الإعجاز،و هو معجز من القرآن.

و ما حكينا عن صاحب الكلام من المبالغة في اللفظ.فليس ذلك بطريق الإعجاز، لأن الوجوه التي ذكرها قد تتفق في كلام غيره،و ليس ذلك بمعجز.بل قد يصح أن يقع في المبالغة في المعنى و الصفة،وجوه من اللفظ يثمر الإعجاز.

و«تضمين المعاني»أيضا،قد يتعلق به الإعجاز إذا حصلت للعبارة طريق البلاغة في أعلى درجاتها.

و أما«الفواصل»فقد بيّنا أنه يصح أن يتعلق بها الإعجاز،و كذلك قد بيّنا في المقاطع و المطالع نحو هذا.و بيّنا في تلاؤم الكلام ما سبق من صحة تعلق الإعجاز به.

و التصرّف في«الاستعارة»البديعة يصح أن يتعلق به الإعجاز،كما يصح مثل ذلك في حقائق الكلام،لأن البلاغة في كل واحد من البابين تجري مجرى واحدا،و تأخذ مأخذا مفردا.

و أما«الإيجاز و البسط»فيصح أن يتعلق بهما الإعجاز كما يتعلق بالحقائق.

و«الاستعارة»و«البيان»في كل واحد منهما ما لا يضبط حدّه،و لا يقدّر قدره،و لا يمكنك.

ص: 177


1- آية(40)سورة فصلت.
2- آية(44،45)سورة الشورى.
3- آية(71)سورة الزخرف.
4- آية(91)سورة المؤمنون.
5- آية(21)سورة الأنبياء.
6- آية(13،14)سورة الملك.

التوصل إلى ساحل بحره بالتعلم،و لا يتطرّق إلى غوره بالتسبّب.و كلّ ما يمكن تعلمه، و يتهيأ تلقنه،و يمكن تخليصه،و يستدرك أخذه فلا يجب أن يطلب وقوع الإعجاز به.

و لذلك قلنا:«السجع»مما ليس يلتمس فيه الإعجاز؛لأن ذلك أمر محدود و سبيل مورود.و متى تدرب الإنسان به و اعتاده لم يستصعب عليه أن يجعل جميع كلامه منه.

و كذلك«التجنيس»و«التطبيق»متى أخذ أحدهما و طلب وجههما استوفى ما شاء، و لم يتعذر عليه أن يملأ خطابه منه،كما أولع بذلك أبو تمام و البحتري.و إن كان البحتري أشغف بالمطابق،و أقل طلبا للمجانس.

فإن قال قائل:هلا قلت:إن هذين البابين يقع فيهما مرتبة عالية،لا يوصل إليها بالتعلّم،و لا تملك بالتعمّل؛كما ذكرتم في البيان و غير ذلك؟ قلنا:لو عمد إلى كتاب«الأجناس»،و نظر في كتاب«العين»،لم يتعذر عليه التجنيس الكثير.

فأما«الإطباق»فهو أقرب منه،و ليس كذلك البيان.و الوجوه التي رأينا الإعجاز فيها؛لأنها لا تستوفي بالتعلم.فإن قيل:فالبيان قد يتعلم؟قيل:إن الذي يمكن أن يتوصل إليه بالتعلم يتفاوت فيه الناس،و تتناهى فيه العادات.و هو كما يعلم من مقادير القوى في حمل الثقيل.و أن الناس يتقاربون في ذلك فيرمون فيه إلى حد،فإذا تجاوزوه وقفوا بعده و لم يمكنهم التخطي،و لم يقدروا على التعدي إلا أن يحصل ما يخرق العادة و ينقض العرف.و لن يكون ذلك إلا للدلالة على النبوات على شروط في ذلك.

و القدر الذي يفوت الحد في البيان،و يتجاوز الوهم،و يشذ عن الصنعة،و يقذفه الطبع في النادر القليل،كالبيت البديع،و القطعة الشريفة التي تتفق في ديوان شاعر،و الفقرة تتفق في رسالة كاتب.حتى يكون الشاعر ابن بيت أو بيتين أو قطعة أو قطعتين،و الأديب شهيد كلمة أو كلمتين.و ذلك أمر قليل.

و لو كان كلامه كله يطرد على ذلك المسلك،و يستمر على ذلك المنهج،أمكن أن يدّعى فيه الإعجاز.

و لكنك إن كنت من أهل الصنعة تعلم قلة الأبيات الشوارد،و الكلمات الفرائد، و أمهات القلائد.

فإن أردت أن تجد قصيدة كلها وحشية،و أردت أن تراها مثل بيت من أبياتها مرضية، لم تجد ذلك في الدواوين،و لم تظفر بذلك إلى يوم الدين.

ص: 178

و نحن لم ننكر أن يستدرك البشر كلمة شريفة،و لفظة بديعة،و إنما أنكرنا أن يقدروا على مثل نظم سورة أو نحوها.و أحلنا أن يتمكنوا من حد في البلاغة و مقدار في الخطابة.

و هذا كما قلناه من أن صورة الشعر قد تتفق في القرآن و إن لم يكن له حكم الشعر.

فأما قدر المعجز فقد بيّنا أنها السورة طالت أو قصرت.و بعد ذلك خلاف من الناس، من قال مقدار كل سورة أو أطول آية فهو معجز.و عندنا كل واحد من الأمرين معجز، و الدلالة عليه ما تقدم،و البلاغة لا تتبين بأقل من ذلك.فلذلك لم نحكم بإعجازه،و ما صح أن تتبين فيه البلاغة،و محصولها الإبانة في الإبلاغ عن ذات النفس على أحسن معنى، و أجزل لفظ،و بلوغ الغاية في المقصود بالكلام.

فإذا بلغ الكلام غايته في هذا المعنى،كان بالغا و بليغا.فإذا تجاوز حد البلاغة إلى حيث لا يقدر عليه أهل الصناعة،و انتهى إلى أمر يعجز عنه الكامل في البراعة،صح أن يكون له حكم المعجزات،و جاز أن يقع موقع الدلالات.

و قد ذكرنا أنه بجنسه و أسلوبه مباين لسائر كلامهم.ثم بما يتضمن من تجاوزه في البلاغة الحد الذي يقدر عليه البشر.

فإن قيل:فإذا كان يجوز عندكم أن يتفق في شعر الشاعر قطعة عجيبة شاردة،تباين جميع ديوانه في البلاغة،و يقع في ديوانه بيت واحد يخالف مألوف طبعه،و لا يكون سبب ذلك البيت،و لا تلك القطعة في التفصيل،و لو أراد أن يأتي بمثل ذلك و يجعل جميع كلامه من ذلك النمط،لم يجد إلى ذلك سبيلا.و له سبب في الجملة و هو التقدم في الصنعة،لأنه يتفق من المتأخر فيها.فهلاّ قلتم:إنه إذا بلغ في العلم بالصناعة مبالغة القصوى،كان جميع كلامه من نمط ذلك البيت و سمت تلك القطعة؟و هلا قلتم:إن القرآن من هذا الباب؟ فالجواب:إنا لم نجد أحدا بلغ الحد الذي وصفتم في العادة،و هؤلاء الناس أهل البلاغة أشعارهم عندنا محفوظة،و خطبهم منقولة،و رسائلهم مأثورة،و بلاغاتهم مروية، و حكمهم مشهورة.و كذلك أهل الكهانة و البلاغة مثل قسّ بن ساعدة،و سحبان وائل، و مثل:شقّ و سطيح و غيرهم.كلامهم معروف عندنا،و موضوع بين أيدينا،لا يخفى علينا في الجملة بلاغة بليغ،و لا خطابة خطيب،و لا براعة شاعر مفلق،و لا كتابة كاتب مدقق.

فلما لم نجد في شيء من ذلك ما يداني القرآن في البلاغة،أو يشاكله في الإعجاز مع ما وقع من التحدي إليه المدة الطويلة.و تقدّم من التقريع و المجازاة الأمد المديد،و ثبت له وحده خاصة قصب السبق،و الاستيلاء على الأمر،و عجز الكل عنه،و وقفوا دونه حيارى، يعرفون عجزهم و إن جهل قوم سببه،و يعلمون نقصهم و إن أغفل قوم وجهه.

ص: 179

رأينا أنه ناقض للعادة،و رأينا أنه خارق للمعروف في الجبلّة.و خرق العادة إنما تقع بالمعجزات على وجه إقامة البرهان على النبوات،و على أن من ظهرت عليه،و وقعت موقع الهداية إليه.صادق فيما يدعيه من نبوته،و محق في قوله،و مصيب في هديه،قد سادت له الحجة البالغة،و الكلمة التامة،و البرهان النير،و الدليل البين.

ص: 180

فصل: في حقيقة المعجز

معنى قولنا:«إن القرآن معجز»على أصولنا أنه لا يقدر العباد عليه.و قد ثبت أن المعجز الدال على صدق النبي صلّى اللّه عليه و سلّم،لا يصح دخوله تحت قدرة العباد.و إنما ينفرد اللّه تعالى بالقدرة عليه،و لا يجوز أن يعجز العباد عما تستحيل قدرتهم عليه،كما يستحيل عجزهم عن فعل الأجسام.فنحن لا نقدر على ذلك و إن لم يصح وصفنا بأنا عاجزون عن ذلك حقيقة.و كذلك معجزات سائر الأنبياء على هذا.

فلما لم يقدر عليه أحد،شبه بما يعجز عنه العاجز.و إنما لا يقدر العباد على الإتيان بمثله؛لأنه لو صح أن يقدروا عليه بطلت دلالة المعجز.و قد أجرى اللّه العادة بأن يتعذر فعل ذلك منهم،و أن لا يقدروا عليه.و لو كان غير خارج عن العادة لأتوا بمثله،أو عرضوا عليه من كلام فصحائهم و بلغائهم ما يعارضه.

فلما لم يشتغلوا بذلك،علم أنهم فطنوا إلى خروج ذلك عن أوزان كلامهم،و أساليب نظامهم،و زالت أطماعهم عنه.

و قد كنا بيّنا أن التواضع ليس يجب أن يقع على قول الشعر،و وجوه النظم المستحسنة في الأوزان المطربة للسمع.و لا يحتاج في مثله إلى توقيف،و أنه يتبين أن مثل ذلك يجري في الخطاب،فلما جرى فيه فطنوا له و اختاروه و طلبوا أنواع الأوزان و القوافي.

ثم وقفوا على حسن ذلك،و قدروا عليه بتوفيق اللّه عز و جل.و هو الذي جمع خواطرهم عليه،و هداهم له،و هيّأ دواعيهم إليه.و لكنه أقدرهم على حد محدود،و غاية في العرف مضروبة،لعلمه بأنه سيجعل القرآن معجزا.و دل على عظم شأنه،بأنهم قدروا على ما بيّنا من التأليف،و على ما وصفناه من النظم من غير توقيف و لا اقتضاء أثر،و لا تحدّ إليه،و لا تقريع.

فلو كان هذا من ذلك القبيل،أو من الجنس الذي عرفوه و ألفوه،لم تزل أطماعهم عنه.و لم يدهشوا عند وروده عليهم،فكيف و قد أمهلهم و فسح لهم الوقت،و كان يدعو إليه سنين كثيرة.

ص: 181

و قال عز من قائل: أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَ جاءَكُمُ النَّذِيرُ (1)و بظهور العجز عنه بعد طول التقريع و التحدي،بان أنّه خارج عن عادتهم، و أنهم لا يقدرون عليه.

و قد ذكرنا أن العرب كانت تعرف ما يباين عاداتها من الكلام البليغ،لأن ذلك طبعهم و لغتهم،فلم يحتاجوا إلى تجربة عند سماع القرآن.و هذا في البلغاء منهم دون المتأخرين في الصنعة.

و الذي ذكرناه بذلك على أنه لا كلام أزيد في قدر البلاغة من القرآن.و كل من جوز أن يكون للبشر قدرة على أن يأتوا بمثله في البلاغة لم يمكنه أن يعرف أن القرآن معجز بحال.

و لو لم يكن جرى في المعلوم أنه سيجعل القرآن معجزا،لكان يجوز أن تجري عادات البشر بقدر زائد على ما ألفوه من البلاغة،و أمر يفوق ما عرفوه من الفصاحة.

و أما«نظم القرآن»فقد قال أصحابنا فيه:إن اللّه تعالى يقدر على نظم القرآن في الرتبة التي لا مزيد عليها،فقد قال مخالفونا:إن هذا غير ممتنع لأن فيه من الكلمات الشريفة الجامعة للمعاني البديعة،و انضاف إلى ذلك حسن الموقع،فيجب أن يكون قد بلغ النهاية لأنه عندهم،و إن زاد على ما في العادة،فإن الزائد عليها و إن تفاوت،فلا بد من أن ينتهي إلى حد لا مزيد عليه.و الذي نقوله إنه لا يمتنع أن يقال:يقدر اللّه تعالى على أن يأتي بنظم أبلغ و أبدع من القرآن كله.

و أما قدرة العباد فهي متناهية في كل ما يقدرون عليه مما تصح قدرتهم عليه.ر.

ص: 182


1- آية(45)سورة فاطر.

فصل: في كلام النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و أمور تتصل بالإعجاز

إن قال قائل:إذا كان النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أفصح العرب،و قد قال هذا في حديث مشهور،و هو صادق في قوله،فهلا قلتم:إن القرآن من نظمه لقدرته في الفصاحة على مقدار لا يبلغه غيره؟قيل:قد علمنا أنه لم يتحداهم إلى مثل قوله و فصاحته،و القدر الذي بينه و بين كلام غيره من الفصحاء،كقدر ما بين شعر الشاعرين،و كلام الخطيبين في الفصاحة؛و ذلك مما لا يقع به الإعجاز.

و قد بينا قبل هذا:أنا إذا وازنّا بين خطبه،و رسائله،و كلامه المنثور،و بين نظم القرآن،تبين من البون بينهما،مثل ما بين كلام اللّه عز و جل،و كلام الناس.و لا معنى لقول من ادعى أن كلام النبي صلّى اللّه عليه و سلّم معجز،و إن كان دون القرآن في الإعجاز.

فإن قيل:لو لا أن كلامه معجز لم يشتبه على ابن مسعود الفصل بين المعوذتين و بين غيرهما من القرآن.و كذلك لم يشتبه دعاء القنوت في أنه هل هو من القرآن أم لا؟و لا يجوز أن يخفى عليهم القرآن من غيره،و عدد السور عندهم محفوظ مضبوط.

و قد يجوز أن يكون شذّ عن مصحفه،لا لأنه نفاه من القرآن،بل عوّل على حفظ الكل إياه.

على أن الذي يروونه خبر واحد لا يسكن إليه في مثل هذا،و لا يعمل عليه.

و يجوز أن يكتب على ظهر مصحفه دعاء القنوت لئلا ينساه كما يكتب الواحد منا بعض الأدعية على ظهر مصحفه.

و هذا نحو ما يذكره الجهال من اختلاف كثير بين مصحف ابن مسعود و بين مصحف عثمان رضوان اللّه عليهما.

و نحن لا ننكر أن يغلط في حروف معدودة،كما يغلط الحافظ في حروف،و ينسى، ما لا نجيزه على الحفاظ مما لم نجزه عليه.

و لو كان قد أنكر السورتين على ما ادعوا لكانت الصحابة تناظره على ذلك.و كان يظهر و ينتشر.فقد تناظروا في أقل من هذا،و هذا أمر يوجب التكفير و التضليل.فكيف

ص: 183

يجوز أن يقع التخفيف فيه؟!و قد علمنا إجماعهم على ما جمعوه في المصحف،فكيف يقدح بمثل هذه الحكايات الشاذة المولّدة بالإجماع المتقرر،و الاتفاق المعروف؟ و يجوز أن يكون الناقل اشتبه عليه،لأنه خالف في النظم و الترتيب،فلم يثبتهما في آخر القرآن.و الاختلاف بينهم في موضع الاثبات غير الكلام في الأصل.أ لا ترى أنهم قد اختلفوا في أول ما نزل من القرآن.

فمنهم من قال قوله: اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ (1)،و منهم من قال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (2)و منهم من قال:فاتحة الكتاب.

و اختلفوا أيضا في آخر ما أنزل فقال ابن عباس (3): إِذا جاءَ نَصْرُ اللّهِ (4)و قالت عائشة:سورة المائدة.و قال البراء (5)بن عازب آخر ما نزل سورة براءة،و قال سعيد (6)بن جبير آخر ما أنزل قوله تعالى: وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ (7)و قال السّدّيّ آخر ما أنزل: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ (8)و يجوز أن يكون في مثل هذا خلاف،و أن يكون كل واحد ذكر آخر ما سمع.و لو كان القرآن من كلامه،لكان البون بين كلامه و بينه،مثل ما بين خطبة و خطبة ينشئها رجل واحد، و كانوا يعارضونه لأنا قد علمنا أن القدر الذي بين كلامهم،و بين كلام النبي صلّى اللّه عليه و سلّم لا يخرج إلى حد الإعجاز،و لا يتفاوت التفاوت الكثير.و لا يخفى كلام من جنس أوزان كلامهم.و ليس كذلك نظم القرآن.لأنه خارج من جميع ذلك.

فإن قيل:لو كان غير ما ادعيتم لعرفنا بالضرورة أنه معجز دون غيره،قبل معرفة الفصل من وزن الشعر و وزنه،و الفرق بينه و بين غيره من الأوزان إلى نظر و تأمل،و فكر و رويةة.

ص: 184


1- آية(1)سورة العلق.
2- آية(1)سورة المدثر.
3- سبقت ترجمته.
4- آية(1)سورة النصر.
5- البراء بن عازب أبو عمارة الأنصاري الأوسي الحارثي،استصغر يوم بدر فلم يشهدها،و شهد أحدا و ما بعدها،و شهد بيعة الرضوان.مات بعد سنة(70).له ترجمة في:الرياض المستطابة ص(37).
6- سعيد بن جبير بن هشام الأسدي.كان ابن عباس إذا أتاه أهل الكوفة يستفتونه،يقول:أ ليس فيكم ابن أم الدهماء؟يعنيه.قتله الحجاج سنة(92).له ترجمة في:شذرات الذهب 108/1،و وفيات الأعيان204/1،و تذكرة الحفاظ 76/1.
7- آية(281)سورة البقرة.
8- آية(129)سورة التوبة.

و اكتساب..و إن كان النظم المختلف الشديد التباين إذا وجد أدرك اختلافه بالحاسة،إلا أن كل وزن و قبيل إذا أردنا تمييزه من غيره احتجنا فيه إلى الفكرة و التأمل.

فإن قيل:لو كان معجزا لم يختلف أهل الملة في وجه إعجازه؟قيل:قد يثبت الشيء دليلا و إن اختلفوا في وجه دلالة البرهان،كما قد يختلفون في الاستدلال على حدوث العالم من الحركة و السكون،و الاجتماع و الافتراق.

فأما المخالفون،فإنه يتعذر عليهم أن يعرفوا أن القرآن كلام اللّه؛لأن مذهبهم أنه لا فرق بين أن يكون القرآن من قبل الرسول أو من قبل اللّه عز و جل في كونه معجزا؛لأنه إن خصه بقدر من العلم لم تجر العادة بمثله،أمكنه أن يأتي بما له هذه الرتبة.و كان متعذرا على غيره لفقد علمه بكيفية النظم.

و ليس القوم بعاجزين عن الكلام،و لا عن النظم و التأليف.و المعنى المؤثر عندهم في تعذر مثل نظم القرآن علينا:فقد العلم بكيفية النظم.و قد بيّنا قبل هذا أن المانع هو أنهم لا يقدرون عليه.و المفحم قد يعلم كيفية الأوزان و اختلافها،و كيفية التركيب.و هو لا يقدر على نظم الشعر.

و قد يعلم الشاعر وجوه الفصاحة.و إذا قالا الشعر جاء شعر أحدهما في الطبقة العالية و شعر الآخر في الطبقة الوضيعة.

و قد يطّرد في شعر المبتدى و المتأخر في الحذق القطعة الشريفة و البيت النادر،و مما لا يتفق للشاعر المتقدم.

و العلم بهذا الشأن في التفصيل لا يغني،و يحتاج معه إلى مادة من الطبع،و توفيق من الأصل.

و قد يتساوى العالمان بكيفية الصناعة و النّساجة،ثم يتفق لأحدهما من اللطف في الصنعة،ما لا يتفق في الآخر.

و كذلك أهل نظم الكلام يتفاضلون مع العلم بكيفية النظم.و كذلك أهل الرمي يتفاضلون في الإصابة،مع العلم بكيفية الإصابة.

و إذا وجدت للشاعر بيتا أو قطعة أحسن من شعر امرئ القيس،لم يدل ذلك على أنه أعلم بالنظم منه.لأنه لو كان كذلك كان يجب أن يكون جميع شعره على ذلك الحد.

و يحسب ذلك البيت في الشرف و الحسن و البراعة،و لا يجوز أن يعلم نظم قطعة و يجهل نظم مثلها.و إن كان كذلك علم أن هذا لا يرجع إلى ما قدروه من العلم.أو لسنا نقول إنه يستغني عن العلم في النظم،بل يكفي علم به في الجملة،ثم يقف الأمر على القدرة.

ص: 185

و هذا يبين لك بأنه قد يعلم الخط فيكتب سطرا،فلو أراد أن يأتي بمثله بحيث لا يغادر منه شيئا لتعذّر.و العلم حاصل.

و كذلك قد يحسن كيفية الخط،و الجيد منه من الردىء.و لا يمكنه أن يأتي بأرفع درجات الجيد.

و قد يعلم قوم كيفية إدارة الأقلام،و كيفية تصور الخطّ.ثم يتفاوتون في التفصيل، و يختلفون في التصوير.

و ألزمهم أصحابنا أن يقولوا بقدرتنا على إحداث الأجسام،و إنما يتعذر وقوع ذلك منا لأنا لا نعلم الأسباب التي إذا عرفنا إيقاعها على وجوه اتفق لنا فعل الأجسام.

و قد ذهب بعض المخالفين إلى أن العادة انتقضت بأن أنزله جبريل،فصار القرآن معجزا لنزوله على هذا الوجه.و من قبله لم يكن معجزا.

و هذا قول أبي هاشم،و هو الظاهر الخطأ،لأنه يلزم أن يكونوا قادرين على مثل القرآن،و إن لم يتعذر عليهم فعل مثله.و إنما تعذر بإنزاله،و لو كانوا قادرين على مثل ذلك،كان قد اتفق مع بعضهم مثله.

و إن كانوا في الحقيقة غير قادرين قبل نزوله و لا بعده على مثله فهو قولنا.

و أما قول كثير من المخالفين فهو على ما بيّنا،لأن معنى المعجز عندهم تعذر فعل مثله.و كان ذلك متعذرا قبل نزوله و بعده.فأما الكلام في أن التأليف،هل له نهاية؟فقد اختلف المخالفون من المتكلمين فيه.فمنهم من قال:ليس لذلك نهاية،كالعدد،فلا يمكن أن يقال:إنه لا يتأتى قول قصيدة إلا و قد قيلت من قبل.

و منهم من قال:إن ما جرت به العادة فله نهاية،و ما لم تجر به العادة فلا يمكن أن نعلم نهاية الرتبة فيه.و قد بيّنا أن على أصولنا قد تقرر لكلامنا حد في العادة،و لا سبيل إلى تجاوزه،و لا يقدر.فإن القرآن خرق العادة فزاد عليها.

فصل:إن قيل هل من شرط المعجز أن يعلم أنه أتى به من ظهر عليه؟قيل:لا بد من ذلك.لأنا لو نعلم أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم هو الذي أتى بالقرآن و ظهر ذلك من جهته،لم يمكن أن يستدل به على نبوته.و على هذا،لو تلقى رجل منه سورة،فأتى بها بلدا و ادعى ظهورها عليه،و أنها معجزة له،لم تقم الحجة عليهم،حتى يبحثوا أو يتبينوا أنها ظهرت عليه.و قد تحققنا أن القرآن أتى به النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و ظهر من جهته،و جعله علما على نبوته،و علمنا ذلك ضرورة فصار حجة علينا.

ص: 186

خاتمة

قد ذكرنا في الإبانة عن معجز القرآن وجيزا من القول،رجونا أن يكفي،و أمّلنا أن يقنع.و الكلام في أوصافه إن استقصي بعيد الأطراف،واسع الأكناف،لعلو شأنه،و شريف مكانه.

و الذي سطرناه في الكتاب،و إن كان موجزا،و أمليناه فيه،و إن كان خفيفا،فإنه ينبه على الطريقة،و يدل على الوجه،و يهدي إلى الحجة.

و متى عظم محل لشيء فقد يكون الإسهاب فيه عيّا،و الإكثار في وصفه تقصيرا.

و قد قال الحكيم،و قد سئل عن البليغ،متى يكون عيبا؟فقال:متى وصف هوى أو حبيبا.

و ضلّ أعرابي في سفر له ليلا و طلع القمر فاهتدى به،فقال:ما أقول لك؟أقول:

رفعك اللّه؟و قد رفعك،أم أقول:نورك اللّه؟و قد نورك،أم أقول:أجملك اللّه؟و قد جملك! و لو لا أن العقول تختلف،و الأفهام تتباين،و المعارف تتفاضل،لم نحتج إلى ما تكلفنا.و لكن الناس يتفاوتون في المعرفة،و لو اتفقوا فيها،لم يجز أن يتفقوا في معرفة هذا الفن،أو يجتمعوا في الهداية إلى هذا العلم لاتصاله بأسباب،و تعلقه بعلوم غامضة الغور، عميقة القعر،كثيرة المذاهب،قليلة الطلاب،ضعيفة الأصحاب،و بحسب تأتّي مواقعه، يقع الإفهام دونه.و على قدر لطف مسالكه،يكون القصور عنه.

أنشدني أبو القاسم الزعفراني قال:أنشدني المتنبي لنفسه،القطعة التي يقول فيها:

و كم من عائب قولا صحيحا و آفته من الفهم السقيم

و لكن تأخذ الآذان منه على قدر القرائح و العلوم

و أنشدني الحسن بن عبد اللّه قال:أنشدنا بعض مشايخنا للبحتري:

أهزّ بالشعر أقواما ذوي سنة لو أنهم ضربوا بالسيف ما شعروا

عليّ نحت القوافي من مقاطعها و ما عليّ لهم أن تفهم البقر

فإذا كان نقد الكلام كله صعبا،و تمييزه شديدا،و الوقوع على اختلاف فنونه متعذرا، و هذا في كلام الآدمي.فما ظنك بكلام رب العالمين؟

ص: 187

قد أبنّا لك أن من قدّر أن البلاغة في عشرة أوجه من الكلام،لا يعرف من البلاغة إلا القليل،و لا يفطن منها إلا اليسير.

و من زعم أن البديع يقتصر على ما ذكرناه من قبل عنهم في الشعر،فهو متطرّف.

بلى إن كانوا يقولون إن هذه من وجوه البلاغة و غرر البديع،و أصول اللطيف.و إن ما يجري مجرى ذلك و يشاكله ملحق بالأصل و مردود على القاعدة.فهذا قريب.

و قد بيّنا في نظم القرآن أن الجملة تشتمل على بلاغة منفردة،و الأسلوب يختص بمعنى آخر من الشرف.

ثم الفواتح و الخواتم،و المبادي و المثاني،و الطوالع و المقاطع،و الوسائط و الفواصل.

ثم الكلام في نظم السور و الآيات،ثم في تفاصيل التفاصيل.ثم في الكثير و القليل، ثم الكلام الموشح و المرصع،و المفصّل و المصرّع،و المجنس و الموشى،و المحلى و المكلل،و المطوق و المتوج،و الموزون و الخارج عن الوزن،و المعتدل في النظم و المتشابه فيه.

ثم الخروج من فصل إلى فصل،و وصل إلى وصل،و معنى إلى معنى،و معنى في معنى،و الجمع بين المؤتلف و المختلف،و المتفق و المتسق،و كثرة التصرف،و سلامة القول في ذلك كله من التعسف،و خروجه عن التعمق و التشدق،و بعده عن التعمل و التكلف.و الألفاظ المفردة و الإبداع في الحروف و الأدوات،كالإبداع في المعاني و الكلمات.و البسط و القبض،و البناء و النقض،و الاختصار و الشرح،و التشبيه و الوصف، و تميز الإبداع من الاتباع؛كتميز المطبوع عن المصنوع.

و القول الواقع عن غير تكلف،و لا تعمّل.و أنت تتبينه في كل ما تصرف فيه من الأنواع أنه على سمت شريف،و مرقب منيف،يبهر إذا أخذ في النوع الربي،و الأمر الشرعي،و الكلام الإلهي الدال على أنه يصدر عن عزة الملكوت،و شرف الجبروت،و ما لا يبلغ الوهم مواقعه من حكمة و أحكام،و احتجاج و تقرير و استشهاد،و تقريع و إعذار و إنذار،و تبشير و تحذير و تنبيه،و تلويح و إشباع و تصريح،و إشارة و دلالة،و تعلم أخلاق زكية،و أسباب رضية،و سياسات جامعة،و مواعظ نافعة،و أوامر صادعة،و قصص مفيدة، و ثناء على اللّه عز و جل بما هو أهله،و أوصاف كما يستحقه،و تحميد كما يستوجبه،و أخبار عن كائنات في التأني صدقت،و أحاديث عن المؤتنف تحققت،و نواه زاجرة عن القبائح و الفواحش،و إباحة الطيبات و تحريم المضار و الخبائث،و حث على الجميل و الإحسان.

ص: 188

تجد فيه الحكمة و فصل الخطاب،مجلوة عليك في منظر بهيج،و نظم أنيق، و معرض رشيق،غير متعاص على الأسماع،و لا متلو على الأفهام،و لا مستكره في اللفظ و لا متوحش في المنظر غريب في الجنس،غير غريب في القبيل،ممتلئ ماء و نضارة و لطفا و غضارة،يسري في القلب كما يسري السرور،يمر إلى مواقعه كما يمر السهم،و يضيء كما يضيء الفجر،و يزخر كما يزخر البحر،طموح العباب،جموح على المتناول المنتاب، كالروح في البدن،و النور المستطير في الأفق،و الغيث الشامل،و الضياء الباهر. لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ،تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (1).

من توهم أن الشعر يلحق شأوه بان ضلاله.و صح جهله.إذ الشعر سمت قد تناولته الألسن،و تداولته القلوب،و انثالت عليه الهواجس،و ضرب الشيطان فيه بسهمه،و أخذ منه بحظه.و ما دونه من كلامهم،فهو أدنى محلا،و أقرب مأخذا،و أسهل مطلبا.و لذلك قالوا:فلان مفحم،فأخرجوه مخرج العيب.كما قالوا:فلان عيي،فأوردوه مورد النقص.

و القرآن كتاب دل على صدق متحمله،و رسالة دلت على صحة قول المرسل بها، و برهان شهد له برهان الأنبياء المتقدمين.و بينة على طريقة من سلف من الأولين،حيرهم به إذا كان من جنس القول الذي زعموا أنهم أدركوا فيه النهاية.و بلغوا فيه الغاية.فعرفوا عجزهم،كما عرف قوم عيسى نقصانهم.فيما قدروا من بلوغ أقصى الممكن في العلاج، و الوصول إلى أعلى مراتب الطب.فجاءهم بما بهرهم من إحياء الموتى،و إبراء الأكمه و الأبرص.و كما أتى موسى بالعصا التي تلقفت ما دققوا فيه من سحرهم،و أتت على ما أجمعوا عليه من أمرهم.و كما سخّر لسليمان من الرياح و الطير و الجن حين كانوا يولعون بدقائق الحكمة،و بدائع من اللطف.ثم كانت هذه المعجزة مما يقف عليه الأول و الآخر وقوفا واحدا.و بقى حكمها إلى يوم القيامة.

انظر وفقك اللّه لما هديناك إليه،و فكر في الذي دللناك عليه،فالحق منهج واضح، و الدين ميزان راجح،و الجهل لا يزيد إلا غما،و لا يورث إلا ندما.قال اللّه عز و جل: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (2)و قال: وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لاَ الْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا (3)و قال: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِى.

ص: 189


1- آية(42)فصلت.
2- آية(9)سورة الزمر.
3- آية(52)سورة الشورى.

كَثِيراً (1) على حسب ما آتى من الفضل،و أعطى من الكمال و العقل،تقع الهداية و التبيين.فإن الأمور تتم بأسبابها،و تحصل بآلتها،و من سلبه التوفيق و حرمه الإرشاد و التسديد فكأنما: خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (2)لا يستطيعون حيلة و لا يهتدون سبيلا فاحمد اللّه على ما رزقك من الفهم إن فهمت.و قل:

رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (3) و قل: رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (4)و إن ارتبت فيما بيناه فازدد في تعلم الصنعة،و تقدم في المعرفة الأرشد،و يقف بك على الوجه الأحمد.فإنك إذا فعلت ذلك أحطت علما،و تيقنت فهما.

و لا يوسوس إليك الشيطان بأنه قد كان من هو أعلم منك بالعربية،و أرجح منك في الفصاحة أقوام و أقوام،و رجال و رجال،فكذبوا و ارتابوا لأن القوم لم يذهبوا عن الإعجاز.

و لكن اختلفت أحوالهم،فكانوا بين جاهل و جاحد.و بين كافر نعمة و حاسد،و بين ذاهب عن طريق الاستدلال بالمعجزات،و حائد عن النظر في الدلالات،و ناقص في باب البحث، و مختل الآلة في وجه الفحص،و مستهين بأمر الأديان،و غاو تحت حبالة الشيطان، و مقذوف بخذلان الرحمن.و أسباب الخذلان و الجهالة كثيرة،و درجات الحرمان مختلفة.

و هلا جعلت بإزاء الكفرة مثل:«لبيد (5)بن ربيعة العامري»في حسن إسلامه، و«كعب (6)بن زهير»في صدق إيمانه،و«حسان (7)بن ثابت»و غيرهم من الشعراء و الخطباء الذين أسلموا؟ على أن الصدر الأول ما فيهم إلا نجم زاهر،أو بحر زاخر.و قد بينا أن لا اعتصام إلا بهداية اللّه،و لا توفيق إلا بنعمة اللّه، ذلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ (8)،فتأمّل ما عرّفناك في كتابنا،و فرغ له قلبك،و اجمع له لبك،ثم اعتصم باللّه يهدك،و توكل عليه يغنك و يجرك،و استرشده يرشدك،و هو حسبي و حسبك و نعم الوكيل.ة.

ص: 190


1- آية(26)سورة البقرة.
2- آية(31)سورة الحج.
3- آية(114)سورة طه.
4- آية(97)سورة المؤمنون.
5- سبقت ترجمته.
6- كعب بن زهير،كان من المخضرمين،و كان هجا الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم،ثم أسلم و مدحه.مات سنة (24 ه).له ترجمة في:الأغاني 147/15.و الجمهرة(148)،و الشعر و الشعراء(58،67).
7- سبقت ترجمته.
8- آية(4)سورة الجمعة.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.